عبدُالله لما انتهى من العمرِ إلى الكبرِ الذي كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد أخبره (1) به بقولهِ: «إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّهُ يَطُولُ بِكَ عُمْرُ (2) »قال: فصرتُ للذي قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - . قال: فلما كَبِرْتُ وَدِدتُ أني كنتُ قبلتُ رخصةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - . وهذا (3) من عبدِالله يدلُّ على أنه كان قد التزم الأفضلَ مما نقله إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والأكثرَ؛ إما بحكمِ التزامهِ الأولِ؛ إذ قال: «لأصومنَّ الدهرَ، ولأقومنَّ الليلَ، ما عشتُ (4) »، وإما بحكمِ أنه هو الحالُ الذي فارق النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عليه، فكَرِه (5) أن ينقصَ من عملٍ فارق النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عليه، فلم ير (6) أن يرجعَ عنه وإن كان قد ضَعُفَ عنه. والله تعالى أعلم (7) .
وقوله: «اقْرَأِ (8) القُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ»، ثم قال بعد ذلك: «فَاقْرَأْهُ في كلِّ عِشْرِينَ»، ثم قالَ: «فاقرأْه في (9) سبعٍ»؛ هكذا في أكثرِ رواياتِ مسلمٍ. ووقع في كتابِ ابن أبي جعفر، وابن عيسى، زيادةٌ: «قال: فاقرأه في عشرٍ»، وبعد ذلك قال له (10) : «اقرأْه في سبعٍ» (11) .
ومقصودُ هذه الروايةِ بيانُ تجزئةِ القرآنِ على ليالي الشهرِ =(3/228)=@
__________
(1) في (أ): ((أخبر)).
(2) الرواية: ((إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر)).
(3) في (ي): ((هذا)).
(4) تقدم أن الرواية: ((لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت)).
(5) في (ز): ((وكره)).
(6) قوله: «فلم ير» في(ح): ((فكرة)).
(7) قوله: ((والله تعالى أعلم)) زيادة من (ح).
(8) الرواية: ((واقرأ)).
(9) في (أ)، (ي): «كل سبع».
(10) سقط من (ح) و(ي).
(11) وكذا قال القاضي في "الإكمال" (4/128) لكن فيه: ((كذا لعامة شيوخنا وكثير من شيوخ مسلم)). والروايتان اللتان ذكرهما القاضي والشارح موجودتان في المطبوع من الصحيح، برقم (182/1159)، (184/1159). والتي فيها الزيادة ذكرها الشارح في "التلخيص". [تراجع](3/228)
بالنسبةِ إلى التخفيفِ والتثقيلِ؛ فالمخفِّفُ (1) يقرؤه (2) في كلِّ شهرٍ؛ لا أقلَّ من ذلك، والمثقِّلُ لا يزيدُ على سبعٍ؛ كما قد نهاه عنه. ولم يتعرَّضِ الراوي في هذه الروايةِ لبيانِ مقدارِ زمانِ القيامِ من الليلِ، وقد بينه راو آخرُ في الرواية التي قال فيها: «أَحَبُّ الصَّلاةِ إلى الله تعالى صَلَاةُ دَاوُدَ؛ كَانَ (3) يَرْقُدُ شَطْرَ اللَّيْلِ (4) ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ».
وقولُه: «فاقرأْه في سبعٍ ولا تَزِدْ» ذهب إلى منعِ الزيادِة على السبعِ كثيٌر من العلماءِ. واختار بعضُهم قراءتَه في ثمانٍ، وكان بعضُهم يختمُ في خمسٍ، وآخرُ في ستٍّ، وبعضُهم يختمُ في كلِّ ليلةٍ. وكأنَّ من لم يمنعِ الزيادةَ على السبعِ حَمَلَ قولَه: «ولا (5) تزدْ» على أنه من باب الرفقِ، وخوفِ الانقطاعِ، فإن (6) أمن ذلك جاز؛ بناءً على أنَّ ما كثر من العبادةِ (7) والخيرِ فهو أحبُّ إلى الله تعالى.
والأولى تركُ الزيادةِ؛ أخذًا بظاهرِ المنعِ، واقتداءً برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فلم يُرْوَ عنه أنه ختم القرآنَ كلَّه في =(3/229)=@
__________
(1) في (أ): ((فالتخفيف)).
(2) في (ح): ((يقرأ)).
(3) في (ح): ((وكان)).
(4) الرواية: ((وأحب الصلاة... كان ينام نصف الليل...)) وفي رواية: ((كان يرقد شطر الليل ثم يقوم ثم يرقد آخره يقوم ثلث الليل بعد شطره)).
(5) في (ح) و(ز) و(ي): ((لا)).
(6) في (ي): ((فبان)).
(7) في (ح) و(ي): «العبادات».(3/229)
ليلةٍ، ولا في أقلَّ من سبعٍ، وهو أعلمُ بالمصالحِ، والأجرُ (1) فضلُ الله يؤتيه من يشاء، فقد يُعطي على القليلِ ما لا يعطي على الكثير، لاسيما وقد تبَيَنَّتْ (2) مصلحةُ القلةِ والمداومةِ، وآفةُ (3) الكثرةِ والانقطاعِ (4) .
وقولُه: «صُمْ يومًا ولك أجرُ ما بقي»، قال بعضُهم: يعني: لك أجرُ ما بقي من العشرِ، كما تقدَّم من قولِهِ: «صُمْ مِنْ كُلِّ عَشَرِةٍ يَوْمًا (5) ، وَلَكَ أَجْرُ تِسْعَةٍ»، وكذلك قال في قولِه: «صُمْ يَوْمَيْنِ وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ» من العشرين وكذلك (6) : ((صم ثلاثة أيام ولك أجرُ ما بقي))؛ أي: من الشهرِ (7) .
قلت (8) : وهذا الاعتبارُ حسنٌ، جَارٍ على قياسِ تضعيفِ الحسنةِ بعشرِ أمثالِها، غير أنه يَفْرُغُ تضعيفُ الشهرِ عندَ صومِ الثلاثةِ؛ فيبقى قولُه: «صُمْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ»، لم يبقَ له (9) من الشهرِ شيءٌ؛ فيضافُ له عشرٌ من الشهرِ الآخرِ؛ فكأنَّ قولَه: «ولك (10) أجرُ ما بَقِي (11) »؛ يعني: من أربعين. والله تعالى أعلمُ.
وقد قال (12) بعضُ المتأخرين: إنه يعني بذلك: من الشهرِ (13) . وعلى هذا يكونُ صومُ الرابعِ لا أجرَ فيه! وهو مخالفٌ لقياسِ تضعيفِ الحسنةِ بعشرِ أمثالِها، وما ذكرناه أولى. =(3/230)=@
__________
(1) زاد بعده في حاشية (ح): ((وذلك)) ظنه يريد الآية!.
(2) في (أ): «ثبتت».
(3) في (ز): ((وآية)).
(4) قوله: ((وآفة الكثرة والانقطاع)) في (ز) و(س): ((وآية الكثرة الانقطاع)).
(5) تقدم أن الرواية: ((وصم من كل عشرة أيام يومًا...)).
(6) في (ز): ((كذا)).
(7) حكاه القاضي عياض في "الإكمال" (4/129) عن الخطابي في "غريب الحديث" (1/512- 513) قال الخطابي: ((ولا يجوز أن ينقص من الأجر إذا زاد في العمل)).
(8) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(9) سقط من (ح).
(10) في (ز): ((ذلك)) .
(11) من قوله: ((لم يبق له من الشهر شيء...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(12) قوله: ((وقد قال)) في (ح): «وقال».
(13) هو القاضي عياض في "الإكمال" (4/129) قال: مضعفا ما حكاه عن الخطابي من القياس على تضعيف الحسنة بعشر أمثالها: قال والذي يحتمل عندي في الحديث أن يكون على ظاهره، أي: أن الأجر ما بقي من الشهر في جميعها؛ لأن نيته كانت صوم جميعه فمنعه منه ما خصه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإبقاء على نفسه وحقوق زوره وأهله فبقى أجر نيته في صومه سواء صام منه يوما أو اثنين أو ثلاثًا كما تأولوه في قوله عليه السلام: ((نية المؤمن خير من عمله)) أي أن أجره في نيته أكثر من أجر عمله؛ لامتداد نيته بما لا يقدر على عمله.اهـ.(3/230)
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - في فطرِ يومين وصومِ يومين: «وَدِدتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ» (1) ؛ أَي: أُقِدرْتُ عليه؛ وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - (2) كانت عليه حقوقٌ كثيرةٌ لأهلِه مع كثرتِهم، ولضِيفانِه، وأصحابِه، وللناسِ خاصَّةً وعامَّةً؛ فكان يَتوقَّعُ - إن التزم ذلك - أن يَضْعُفَ عن تلك الوظائفِ أو بعضِها؛ فيقعَ خللٌ في تلك الحقوقِ؛ فتمنى أن يَقدرَ على ذلك مع الوفاءِ بتلك الحقوقِ. والله تعالى أعلمُ.
لا يقالُ: فقد كان قادرًا على الوصال، وهو أشقُّ، ولم يضعفْ عن القيامِ بشيءٍ من تلك الحقوقِ!.
لأنا نقولُ: لم يكن وصالهُ دائمًا، وإنما كان في وقتٍ من الأوقاتِ، بخلاف ما تمنى؛ فإنه تمنَّاه (3) دائمًا.
ويحتملُ أن هذا كان منه في أوقاتٍ مختلفةٍ؛ ففي وقتٍ كان يُطيقُ فيواصلُ، وفي وقت يخافُ الضعفَ فيتمنَّى حتى يحصلَ له الحظُّ الأوفرُ من قولِه: «نِيَّةُ المُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» (4) . والله تعالى أعلم. =(3/231)=@
__________
(1) لم يورده الشارح في "التلخيص" في هذا الباب، وقد تقدم في باب فضل صوم يوم عرفة، وهو عند مسلم برقم (1162) (196).
(2) من قوله: «في فطر يومين وصوم يومين....» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح) و(ي): ((تمنى)).
(4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (6/185-186 رقم5942) من طريق حاتم بن عباد، عن يحيى بن قيس الكندي، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نية المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته، وكلٌّ يعمل على نيته، فإذا عمل المؤمن عملاً نار في قلبه نور».
ومن طريق الطبراني أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/255)، وقال: «هذا حديث غريب من حديث أبي حازم، لم نكتبه إلا من هذا الوجه».اهـ.
وقال الهيثمي في "المجمع" (1/61): «ورجاله موثقون إلا حاتم بن عباد بن دينار الجرشي، لم أر من ذكر له ترجمة».اهـ.
ويحيى بن قيس الكندي: أورده البخاري في "تاريخه" (8/299)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9/182) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً. وفي "التقريب" (7627)" مستور، والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (5977).
وأخرجه القضاعي (1/119 رقم147) من طريق محمد بن حنيفة الواسطي، عن عبدالله بن محمد الحلبي، عن يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس، مرفوعًا.
وإسناده ضعيف جدًّا؛ يوسف بن عطية:متروك؛ كما في "التقريب" (7930).
وله طريق أخرى عند البيهقي في "شعب الإيمان" (5/343 رقم6860) بسند ضعيف كما قال البيهقي.
وأخرجه القضاعي (1/119 رقم148) من طريق عثمان بن عبدالله الشامي، عن بقية، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن النواس بن سمعان، فذكره مرفوعًا.
وفي سنده: عثمان بن عبدالله الشامي؛ قال ابن عدي في "الكامل" (5/176): «حدث في كل موضع بالمناكير عن الثقات».اهـ. وبقية بن الوليد كثير التدليس عن الضعفاء، كما في "التقريب" (734).
والحديث قال عنه العراقي في "تخريج الإحياء" (6/2392 رقم3811)، كما في استخراج الحداد: «رواه الطبراني من حديث سهل بن سعد، ومن حديث النواس بن سمعان، وكلاهما ضعيف».اهـ.
وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص450): «وهي إن كانت ضعيفة فبمجموعها يتقوى الحديث».اهـ.(3/231)
ومن باب فضل صوم ثلاثة أيام
قولُ عائشةَ رضي الله عنها: «لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ (1) يَصُومُ»؛ تعني: أنه لم يكن يُعيِّنُ لصومِ الثلاثةِ زمانًا مخصوصًا من الشهرِ يدومُ عليه، وإنما كان يصومُها مرَّةً في أولِه، ومرَّةً في آخرِه، ومرَّةً في وسطِه؛ وهذا – والله تعالى أعلم- لئلا يتخيَّلَ متخيِّلٌ وجوبَها لو لُوزمت في وقتٍ بعينِه،، أو ليبينَ فَرْقَ ما بين الواجبِ والتطوُّعِ، فإن الواجباتِ في الغالبِ معيَّنةٌ بأوقاتٍ، أو ذلك بحسَبِ تمكُّنِه. والله تعالى أعلمُ.
غيرَ أنه قد جاء في حديثٍ صحيحٍ - ذكره النَّسائيُّ (2) من حديثِ جريرِ ابنِ عبدِالله: تخصيصُ أيامِ البيض بالذكرِ المعيَّنِ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : «صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ؛ أَيَّامُ الْبِيضِ: صَبِيحَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ =(3/232)=@
__________
(1) الرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((من أيام الشهر بصوم)).
(2) تقدم في باب فضل صيام يوم عرفة.(3/232)
عَشْرَةَ»، رُوِّينا هذا اللفظَ عن متقني مشايِخنا؛ برفعِ «أيام» و«صبيحة (1) ؛»على إضمارِ المبتدأ؛ كأنه قال: هي أيامُ البيضِ، عائدًا على ((ثلاثةِ أيامٍ))، و«صبيحة» ترتفع (2) على البدلِ من «أيام». وأما الْخُفّض (3) فيهما فعلى البدلِ من «أيام» المتقدمِة. هذا أولى ما يُوجَّهُ (4) في إعرابِها.
وعلى التقديرين، فهذا (5) الحديثُ مُقَيِّدٌ (6) لمطلَقِ الثلاثةِ الأيامِ التي صومُها كصومِ الدهرِ. على أنه يحتملُ أن يكونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَيَّنَ هذه الأيامَ لأنَّها وسطُ الشهرِ وأعدلُه؛ كما قال: «خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» (7) ؛ وعلى هذا يدلُّ قولُه - صلى الله عليه وسلم - : «هلْ صُمْتَ مِنْ سُرَّة ِهذا الشهرِ شَيْئًا؟!»؛ على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقد اختُلف في أيِّ أيامِ الشهرِ أفضلُ للصومِ؛ فقالت جماعةٌ من الصحابةِ والتابعين؛ منهم عمُر (8) ، وابنُ مسعودٍ، وأبو ذرٍّ (9) : إنّ صومَ أيامِ (10) البيضِ أفضلُ؛ تمسُّكًا بالحديثِ المتقدمِ. وقال آخرون؛ منهم النخعيُّ: آخرُ الشهرِ أفضلُ. وقالت فرقةٌ ثالثةٌ: أولُ الشهرِ أفضلُ؛ منهم: الحسنُ. وذهب آخرون: إلى أن الأفضل صيامُ (11) أولِ يومٍ من السبتِ والأحدِ والإثنينِ في شهرٍ، ثم الثلاثاءُ والأربعاءُ والخميسُ؛ منهم عائشة (12) . واختار آخرون الإثنينِ والخميسِ (13) ، وفي حديثِ ابن عمرَ (14) : أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصومُ ثلاثةً من كل شهرٍ: أولَ اثنين، والخميسَ الذي بعدهَ، والخميسَ الذي يليه. وعن أمِّ سلمة (15) – رضي الله عنها: أولَ خميسٍ، والإثنينِ، والإثنينِ. واختار بعضُهم: صيامَ (16) أولِ يومٍ من الشهرِ، ويومَ العاشرِ، ويومَ العشرين؛ وبه قال أبو الدرداء (17) ، ويُروى أنه كان صيامَ مالكٍ، واختاره ابنُ شعبانَ.
وقد رُوي عن مالكٍ كراهةُ تعمُّدِ صيامِ أيامِ (18) البيضِ، وقال: ما هذا ببلِدنا (19) . والمعروفُ من مذهبهِ كراهةُ (20) =(3/233)=@
__________
(1) قوله: «وصبيحة» سقط من (أ).
(2) في (أ): ((ترفع)) وفي (ز) و(س): ((يرتفع)).
(3) في (أ): ((ومن خفض))، وفي (ز) و(س): ((وما انخفض)).
(4) في (ي): ((توجه)).
(5) في (ي): ((وهذا)).
(6) في (ز) و(س): ((مفيد)).
(7) قال العراقي في "تخريج الإحياء" (4/1584 رقم2447/كما في استخراج الحداد): «رواه البيهقي في شعب الإيمان" من رواية مطرف بن عبدالله معضلاً، ورواه الحافظ أبو بكر محمد بن علي بن ياسر الجياني في "الأربعين العلوية" من طريق أهل البيت من حديث علي ولا يصح».اهـ.
(8) في (س): ((ابن عمر)).
(9) انظر "مصنف عبدالرزاق" (4/298)، و"سنن البيهقي" (4/294).
(10) في (ح) و(ز) و(ي): ((الأيام)).
(11) قوله: ((صيام أو يوم السبت...)) كذا فى جميع النسخ، والأولى عبارة "الإكمال" (4/136): ((صيام السبت والأحد والاثنين فى شهر...)). وينظر "شرح النووي" (8/52). والمراد أن يصوم الثلاثة الأيام من أولِ سبت في الشهر، والأحد والاثنين بعده، ثم في الشهر التالي يبدأ من أول ثلاثاء.
قال في "الفتح" (4/227): ((كان الغرض به أن يستوعب غالب أيام الأسبوع بالصيام)). وانظر التخريج الآتي.
(12) أخرجه الترمذي في "السنن"(3/122 رقم746/دار الكتب) باب ما جاء في صوم يوم الإثنين والخميس: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو أحمد ومعاوية بن هشام، قالا: حدثنا سفيان، عن منصور، عن خيثمة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم: السبت، والأحد، والإثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء، والخميس. قال الترمذي: «هذا حديث حسن، وروى عبدالرحمن بن مهدي هذا الحديث عن سفيان، ولم يرفعه».
قال محققه عبدالباقي: «ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي».
(13) قوله: ((الإثنين والخميس)) كذا في النسخ، و"الإكمال" (4/36)، و"شرح النووي" (8/52). والأولى تكرار ((الخميس)) أو التعبير بالتثنية: ((والخميسين)). وانظر التخريج الآتي. و"شرح النووي" (8/72).
(14) أخرجه أحمد (2/90)، والنسائي (4/219-220 رقم2413 و2414) في الصوم، باب ذكر الاختلاف على أبي عثمان...، وباب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. كلاهما من طريق شريك، عن الحر بن الصياح، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: يوم الإثنين من أول الشهر، والخميس الذي يليه، ثم الخميس الذي يليه. وفي لفظ: الخميس من أول الشهر، والإثنين الذي يليه، والاثنين الذي يليه. وفي لفظ: يصوم ثلاثة أيام من كل شهر.
ولعل هذا الاختلاف في لفظ الحديث من شريك بن عبدالله النخعي؛ فإنه صدوق يخطيء كثيرًا، وتغير حفظه؛ كما في "التقريب" (2787).
(15) أخرجه أحمد (6/289 و310)، وأبو داود (2/822-823 رقم2452) كتاب الصوم، باب من قال: الاثنين والخميس، عن زهير بن حرب، والنسائي (4/221 رقم2419) كتاب الصوم، باب كيف يصوم ثلاثة أيام (من كل شهر)، عن إبراهيم بن سعيد الجوهري،، ثلاثتهم - أحمد بن حنبل، وزهير بن حرب، وإبراهيم بن سعيد -، عن محمد بن فضيل، عن الحسن بن عبيدالله، عن هنيدة الخزاعي، عن أمه قالت: دخلت على أم سلمة فسألتها عن الصيام؟ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر: أولها الإثنين، والجمعة، والخميس. هذا لفظ أحمد.
ولفظ رواية أبي داود: أولها الإثنين والخميس. ولفظ رواية النسائي: يأمر بصيام ثلاثة أيام: أول خميس، والإثنين، والإثنين.
واختلف فيه على هنيدة: أخرجه أحمد (5/271) عن سريج وعفان، و(6/288 و423) عن عفان، وأبو داود (2/815 رقم2437) كتاب الصوم، باب في صوم العشر، عن مسدد، والنسائي (4/205 رقم2372) كتاب الصوم، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم، من طريق شيبان، و(4/220 و221 رقم2417 و2418) كتاب الصوم، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، من طريق أبي نعيم، وعبدالرحمن بن مهدي،، ستتهم - سريج، وعفان، ومسدد، وشيبان، وأبو نعيم، وابن مهدي - عن أبي عوانة، عن الحر بن الصياح، عن هنيدة، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر، وخميسين.
وفي لفظ: أول اثنين من الشهر والخميس. وفي لفظ: وثلاثة أيام من كل شهر: الاثنين والخميس.
وأخرجه النسائي (4/220 رقم 2415) كتاب الصوم باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، من طريق زهير، عن الحر بن الصياح، عن هنيدة، قال: دخلت على أم المؤمنين سمعتها تقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: أول إثنين من الشهر، ثم الخميس، ثم الخميس الذي يليه.
وأخرجه أحمد (6/287)، والنسائي (4/220 رقم2416) في الموضع السابق، كلاهما من طريق هاشم بن القاسم، عن أبي إسحاق الأشجعي، عن عمر وبن قيس الملائي، عن الحر بن الصياح، عن هنيدة، عن حفصة قالت: أربع لم يكن يدعهن النبي صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الغداة.
وقد حكى الدارقطني في "العلل" (5/167/أ،ب) الاختلاف في هذا الحديث، ولم يرجح شيئًا.
(16) سقط من (ح) و(ي).
(17) لم أجده.
(18) في (ح) و(ي): ((الأيام)).
(19) ذكره الباجي في "المنتقى" (2/77) وزاد: وقال (أي: مالك): ((الأيام كلها لله)).
(20) في (ح): ((كراهية)).(3/233)
تعيينِ أيامٍ مخصوصةٍ للنفلِ، وأن يجعلَ الرجلُ لنفسِه يومًا أو شهرًا يلتزمُه (1) .
والحاصلُ: أن ثلاثَة أيامٍ من كلِّ شهرٍ صيامُ الدَّهرِ، حيث صامها، وفي أيِّ وقتٍ (2) أوقعها. واختلافُ الأحاديثِ في هذا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يدلُّ على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يَرْتُبُ (3) على زمانٍ بعينه من الشهرِ؛ كما قالته عائشةُ، وأنَّ كلَّ ذلك قد فعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - . ويَرْحمُ (4) الله مالكًا لقد فَهِمَ وَغَنِمَ.
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - للرجلِ: «هَلْ صُمْتَ مِنْ سَرَرِ (5) شَعْبَانَ شَيْئًا (6) ؟» المعروفُ عند اللُّغويِّين وغيرِهم (7) : أن سَرَارَ الشهرِ: آخرُه. يقالُ (8) : سَرَارُه، وسَرَرُه، وسِرُّه (9) ؛ وهو حين يستسرُّ الهلالُ. وقال أبو داود عن الأوزاعيِّ (10) : سِرُّه: أولُه (11) . وقيل: وسطُه.
قال ابنُ السِّكيتِ (12) : سَرارُ الأرضِ: أكرمُها وأوسطُها. وسَرارُ (13) كلِّ شيءٍ: وَسَطُه وأفضلُه.
قال القاضي عياض: وقد يكونُ سَرَرُ الشهرِ من هذا؛ أي: أفضلُ أيامِه، كما جاء في حديثِ جريرٍ (14) في ذكرِ أيامِ (15) البيض كما تقدم (16) .
قلت (17) : فإن حملنا السرارَ في هذا الحديثِ على أولِ الشهرِ أو وسطِه لم يكن فيه إشكالٌ،، وإن حملناه على آخرِ الشهرِ عارضَه قولُه - صلى الله عليه وسلم - : «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، وَلَا يَوْمَيْنِ» (18) . ويرتفعُ ما يتوهَّمُ من المعارضةِ بأن يحملَ النهيُ على مَنْ لم تكنْ له عادةٌ بصومِ شيءٍ من شعبان فيصومُه لأجلِ رمضانَ، وأما من كانت له عادةٌ (19) أن يصومَ، فليستمرَّ (20) على عادتِه (21) . وقد جاء هذا أيضًا في بقيةِ الخبرِ؛ فإنَّه قال: «إِلَّا أَنْ يَكُوَنَ أَحَدُكُمْ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْه (22) »، كما تقدَّم (23) . =(3/234)=@
__________
(1) في (ز): ((يلزمه)).
(2) في (ي): ((وقعت)).
(3) رَتَبَ يَرْتُبُ رُتُوبًا: ثَبَت واستقر ودام. "المصباح" (ص115).
(4) في (أ): ((ورحم)).
(5) قال القاضي عياض في "المشارق (2/212): ((سر هذا الشهر)) بفتح السين والراء الأولى، كذا للكافة، وعند العذري وبعضهم: بضم السين.اهـ. وقال في "الإكمال" (4/135): ((وعند شيخنا القاضي الشهيد...: ((سُرره)) بالضم... والسُّرر جمع ((سُرَّة)).اهـ.
(6) الرواية في "الصحيح" و"التلخيص": ((هل صمت من سرر شعبان؟)) ورواية أخرى: ((هل صمت من سرر هذا الشر شيئًا؟)). فأدخلهما الشارح إحداهما في الأخرى.
(7) ينظر: "تهذيب اللغة" (12/285)، و"غريب الحديث" لأبي عبيد (4/24)، و"غريب الخطابي" (1/129 – 132)، و"النهاية" (2/359).
(8) في (ح): ((فيه يقال)).
(9) سقط من (أ) و(ح) و(ي).
(10) في (أ): «أبو داود والأوزاعي».
(11) انظر "سنن أبي داود" (2/747 رقم2330). قال الخطابي في "معالم السنن" (2/747): «وأنا أنكر هذا التفسير وأراه غلطًا في النقل، ولا أعرف له وجهًا في اللغة، والصحيح أن سره: آخره، هكذا حدثنا أصحابنا عن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل، حدثنا محمود بن خالد الدمشقي، عن الوليد، عن الأوزاعي قال: سره: آخره. وهذا هو الصواب».اهـ.
(12) لم أجده عند ابن السكيت، ونقله القاضي عياض في "الإكمال" (4/135)، وفي "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص21): ويقال فلان في سرقومه: إذا كان في أفضلهم. وسر الوادي أفضل موضع فيه، وهي السرارة أيضًا. وفي (ص104): ((ويقال سَرار الشهر وسِرار الشهر، والفتح أجود)) ونقل هذا القول الثاني عنه القاضي عياض في "المشارق" (2/212). وفي "تهذيب اللغة" للأزهري (12/285): قال الأصمعي: سرار الروضة: أوسطه وأكرمه، وأرض سراء؛ أي: طيبة.
(13) في (ي): ((سرار)).
(14) ينظر: "الإكمال" (4/135). وقد نقل النووي كلام القاضي ونقْلَه عن ابن السكيت لكنه أدخل هذه العبارة أعني قوله: ((وقد يكون سرر الشهر من هذا)) في كلام ابن السكيت ثم قال: ((قال القاضي)) واستأنف النقل عن القاضي عياض!.
(15) في (ح) و(ز) و(ي): «الأيام».
(16) قوله: «كما تقدم» سقط من (أ) وتقدم حديث جرير في هذا الباب وفي باب فضل صيام يوم عرفة من كتاب الصيام هذا.
(17) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(18) تقدم في باب لأهل كل بلد رؤيتهم.
(19) قوله: ((عادة)) في (ح) و(ي): ((عادته)). وقوله: ((بصوم شيء من شعبان...)) إلى هنا، سقط من (ز).
(20) قوله: ((أمره أن يصوم)) في (ز): ((أمره يصوم)) وفي (ي): ((أمر بأن)).
(21) ونحوه قال الخطابي في "غريب الحديث" (1/132) والمازري في "المعلم" (2/43) وقال أبو عبيد في "غريبه" (4/25): ((فوجد الحديث عندي – والله أعلم – أن هذا من نذر كان على ذلك الرجل في ذلك الوقت أو تطوع قد كان ألزمه نفسه فلما، فاته أمره بقضائه، لا أعرف للحديث وبها غيره. وفيه أيضًا أنه لم ير بأسًا أن يصل رمضان بشعبان إذا كان لا يراد به رمضان إنما يراد به التطوع أو النذر يكون في ذلك الوقت)).
(22) في (أ): ((فليصم)).
(23) تقدم في باب لكل بلد رؤيتهم.(3/234)
وقولُه: «فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ» هذا منه - صلى الله عليه وسلم - حملٌ (1) على ملازمةِ عادةِ الخيرِ حتى لا تقطعَ، وحضٌّ على يمضيَ على المكلَّفِ مثلُ شعبانَ ولم (2) يصم منه شيئًا، فلما فاته صومُه، أمره أن (3) يصومَ من شوَّالٍ يومينٍ؛ ليحصلَ له أجرٌ (4) من الجنسِ الذي فوَّته على نفسِه.
قلتُ (5) : ويظهرُ لي أنه إنما أمره بصومِ يومين للمزية التي يختصُّ بها شعبانُ، فلا بُعْد في أن يقالَ: إن صومَ يومٍ منه كصومِ يومين من (6) غيره؛ ويشهدُ لهذا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصومُ منه أكثرَ مما (7) كان يصومُ من غيرِه، اغتنامًا لمزيةِ فضيلتِه. والله تعالى أعلمُ.
وقولُه: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ الله المحرَّمِ» هذا إنما كان - والله أعلمُ- من أجلِ أن المحرَّمَ أولُ السنةِ المستأنفَةِ التي لم (8) يجئْ (9) بعدُ رمضانُها، فكان استفتاحُها: بالصومِ الذي هو من أفضلِ الأعمالِ، والذي أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - : بأنه ضياءٌ (10) ، فإذا استفتح سنتَهُ بالضياءِ مشى فيه بقيتَها، والله تعالى أعلمُ. =(3/235)=@
__________
(1) قوله: «حمل» سقط من (ح).
(2) في (ز) ((فلم)).
(3) قوله: ((أمره أن يصوم)) في (ز): ((أمره يصوم)) وفي (ي): ((أمر بأن)).
(4) في (ز): ((أخر)).
(5) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(6) في (أ): ((من)).
(7) في (ح): ((ما)).
(8) سقط من (ح) و(ي).
(9) في (ي): ((تجيء)).
(10) تقدم في أول كتاب الطهارة حديث أبي مالك الأشعري، وفيه: «الصبر ضياء». قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(185): «في أكثر نسخ مسلم: «والصبر ضياء»، وفي بعضها: «والصيام ضياء».(3/235)
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ (1) سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»؛ هذا الحديثُ خرَّجه النسائيُّ (2) من حديثِ ثوبان، وقال فيه: قال - صلى الله عليه وسلم - : «صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةٍ بِشَهْرَيْنِ، فَذَلِكَ صيَامُ سَنَةٍ»، وفي (3) روايةٍ أخرى: «الحسنُة بِعَشْر (4) ؛ فَشَهْرُ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُر، وَسِتَّةٌ بَعْدَ الْفِطْرِ تَمَامُ السَّنَةِ (5) ». ذكره (6) أيضًا أبو عمر بن عبد البر هكذا (7) .
فمن (8) هنا، فإن (9) قيل: فيلزمُ على هذا مساواةُ الفرضِ النفلَ في تضعيفِ الثوابِ، وهو خلافُ المعلومِ من الشرعِ؛ إذ قد تقرَّر فيه: أنَّ أفضلَ ما تقرَّبَ به المتقرِّبون إلى اللهِ تعالى أداءُ ما افترض عليهم؛ وبيانُ ذلك أنه قد تقدَّم: أنَّ صيامَ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ صيامُ الدَّهرِ؛ أي: السَّنةِ، وهذه الثلاثةُ تطوُّعٌ بالاتفاقِ؛ فقد لزم مساواةُ الفرضِ للنفلِ في الثوابِ.
والجوابُ: على تسليمِ ما ذُكر- من أنَّ ثوابَ الفرضِ أكثرُ - أن نقولَ: إنَّ صيامَ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ إنما صار بمنزلةِ صيامِ سنةٍ بالتضعيفِ؛ لأنَّ المباشَرَ من أيامِها بالصومِ ثلاثةُ أعشارِها، ثمَّ لما جُعِلَ كلُّ يومٍ بمنزلِة عشرٍ، كملتِ السنةُ بالتضعيفِ. وأمَّا صومُ رمضان مع الستةِ: فيصحُّ أن يقالَ فيه: إنه بمنزلِة سنة، فَبُوشرتْ بالصَّومِ أيامُها، ثم ضُوعفت؛ كلُّ يومٍ من أيامِ السَّنةِ بعشرةٍ، فتضاعف العددُ، فصارتْ هذه السنةُ بمنزلِة =(3/236)=@
__________
(1) في (أ): «وأتبعه».
(2) أخرجه أحمد (5/280)، والدارمي (2/21) في الصيام، باب صيام الستة من شوال، والنسائي في "الكبرى" (2/162-163 و163 رقم2860 و2861)، وابن خزيمة (3/298 رقم2115).
جميعهم من طريق يحيى بن الحارث الذِّمَاري، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام الستة أيام بشهرين، فذلك صيام السنة». وسنده صحيح.
(3) في (ح): ((ومن)).
(4) الرواية في النسائي و"الاستذكار": ((جعل الله الحسنة بعشر أمثالها)).
(5) قوله: ((تمام السنة)) بدله في (ح): ((كصيام شهرين السنة)).
(6) في (أ): ((ذكره)).
(7) سقط من (ز) و(س). وينظر "الاستذكار" (10/258- 259).
(8) في (أ) و(ح) و(ز) و(س) و(ي): ((من)).
(9) من هنا بداية سقط طويل في (ح) و(ز) و(س) و(ي) إلى قوله: ((إلى أضعاف كثيرة والله تعالى أعلم)) وأثبتناه من (أ).(3/236)
ثنتي عشرةَ سنةً بالتضعيفِ؛ وذلك أن السنةَ ثلاثُمائةٍ وستون يومًا، فإذا ضَرَبْتَ ثلاثَمائةٍ وستين في عشرةٍ، صارت ثلاثةَ آلافٍ وستَّمائةٍ.
وإنما صرنا إلى هذا التأويلِ؛ للحديثِ الصحيحِ المتقدِّم في تفضيلِ الفرضِ على غيرِه، ولما عُلم من الشرعِ: من (1) الثوابِ على العملِ على القُرَب محدودٌ بعشرٍ، وأما أكثرُه فليسَ بمحدودٍ؛ لقوله تعالى: {والله يضاعف لمن يشاء} (2) ، بعد ذكرِ مراتبِ التضعيفِ المذكورِ في الآيةِ؛ التي هي: عشرٌ، وسبعون، وسبعمائة، والمضاعفةُ المطلقةُ (3) ؛ وكذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابنُ عباسٍ (4) رضي الله عنهما: «من (5) الحسنة بعشر أمثالِها إلى سبعمائِة ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ (6) ».
وقد أخذ بظاهرِ هذا الحديثِ - أعني: حديثَ أبي أيوبَ (7) - جماعةٌ من العلماءِ؛ فصاموا هذه الستةَ إثْرَ (8) يومِ (9) الفطرِ؛ منهم: الشافعيُّ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، رضي الله عنهما.
وكره مالكٌ وغيرُه ذلك، وقال في "موطَّئه": لم أر أحدًا من أهلِ العلمِ والفقهِ يصومُها، ولم يبلغْني ذلك عن أحدٍ من السَّلفِ، وأهلُ العلمِ يكرهون ذلك، ويخافون بدعتَه، وأن يُلحِقَ برمضان ما ليس منه (10) أهلُ الجهالةِ والجفاءِ (11) .
قلتُ (12) : ويظهرُ من كلامِ مالكٍ هذا: أن الذي كرهه هو وأهلُ العلمِ، الذين (13) أشار إليهم - إنما هو أن توصلَ تلك الأيامُ الستةُ بيومِ الفطرِ؛ لئلا يظنَّ أهلُ الجهالِة والجفاءِ أنها بقيةٌ من صوِم رمضان. فأما (14) إذا باعد بينها وبين يومِ الفطرِ فيبعدُ (15) ذلك التوهُّمُ، وينقطعُ ذلك التخيُّلُ (16) .
ومما يدل على اعتبارِ هذا المعنى: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد (17) =(3/237)=@
__________
(1) بعدها في النسخة (أ): «اجرا» غير منقوطة الراء، لكنه ضرب عليها، ولعله أراد تصويبها إلى ((أن)) فتكون العبارة: ((من أن ؟؟؟)). وهذا الكلام ضمن الستة المشار إليه في باقي النسخ!
(2) سورة البقرة؛ الآية: 261. وتمامها: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء}.
(3) التضعيف بعشر يؤخذ من آية أخرى هي قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] وعليه فإن الجنة بعشر، أنبتت سبع سنابل بسبعين، في كل سنبلة مائة حبة؛ بسبعمائة، والله يضاعف لمن يشاء.
(4) أخرجه البخاري (11/323 رقم6491) في الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، ومسلم (1/118 رقم207/131) في الإيمان، باب إذا همّ العبد بحسنة كتبت، وإذا همّ بسيئة لم تكتب.
(5) . [يوسع في التخريج، ويذكر ألفاظ الحديث فلعل في النسخ سقط، وانظر التعليق].
(6) هنا آخر السقط المشار إليه في النسخ: (ح) و(ز) و(س) و(ي)، وقد أثبتناه من (أ).
(7) قوله: «أعني حديث أبي أيوب» سقط من (ح)، (ي). في (ز): ((أعني حديث أبيّ)).
(8) في (ح): ((بإثر)).
(9) قوله: «يوم» سقط من (أ).
(10) في (ي): ((فيه)).
(11) ينظر "الموطأ" (1/311) فؤاد عبد الباقي: قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (3/380): لم يبلغ مالكًا حديث أبي أيوب على أنه حديث مدني، والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه، والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه، وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان، وأن يستبين ذلك إلى العامة، وكان – رحمه الله- متحفظًا كثير الاحتياط للدين.وأما صيام الستة الأيام من شوال على طلب الفضل وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان – رضي الله عنه – فإن مالكا لا يكره ذلك إن شاء الله؛ لأن الصوم جنة وفضله معلوم... ومالك لا يجهل شيئًا من هذا... وما أظن مالكًا جهل الحديث، والله أعلم؛ لأنه حديث مدني انفرد به عمر بن ثابت، وقد قيل: إنه روى عنه مالك، ولولا علمه به ما أنكره، وأظن الشيخ عمر بن ثابت لم يكن عنده ممن يعتمد عليه، وقد ترك مالك الاحتجاج ببعض ما رواه عن بعض شيوخه إذا لم يثق بحفظه ببعض ما رواه. وقد يمكن أن يكون جهل الحديث، ولو عمله لقال به. والله أعلم.
(12) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(13) في (أ): «الذي».
(14) في (ز): ((وأما)).
(15) في (ي): ((فيتعذر)).
(16) نحو هذا كلام القاضي في "الإكمال" (4/140).
(17) قوله: «كان يصومها» سقط من (أ).(3/237)
حمى حمايةَ الزيادةِ في رمضانَ من أولهِ؛ بقولِه: «إِذَا دَخَلَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبِانَ فَأَمْسِكُوا عن الصَّوْمِ» (1) ، وبقولِه: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ» (2) ، وإذا كان هذا في أوله فينبغي أن تُحمى الذريعةُ أيضًا من آخرِه، فإنَّ توهُّمَ الزيادةِ فيه أيضًا (3) متوقَّعٌ، فأما صومُها متباعدةً عن يومِ الفطرِ، بحيثُ يؤمَنُ ذلك المتوقَّعُ، فلا يَكرهُه مالكٌ ولا غيرُه. وقد رَوى مُطَرِّفٌ عن مالكٍ: أنه كان يصومُها في خاصَّةِ نفسِه. قال مُطَرِّفٌ: وإنما كره صيامَها لئلا يُلحقَ أهلُ الجهالةِ ذلك برمضان، فأما مَنْ رغِبَ في ذلك لِمَا جاء فيه فلم يَنْهَهُ.
وقال بعضُ علمائنا:لو صام هذه الستةَ في غيرِ شوالٍ لكانت إذا ضُمَّتْ إلى صومِ (4) رمضان كصيام الدَّهرِ؛ لأن الحسنةَ بعشرِ أمثالِها، كما ذكره (5) في الحديثِ، وإنما خُصَّ شوالٌ بالذِّكْرِ لسهولِة الصومِ فيه (6) ؛ إذ كانوا قد تعوَّدوه في رمضان (7) .
وقوله: «ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ»؛ ليس فيه دليلٌ على أنها تكونُ متصلةً بيومِ الفطرِ، بل لو أوقعها في وسطِ شوالٍ أو آخرِه، لصلَح تناوُلُ هذا اللفظِ له؛ لأن «ثم» للتَّراخي، وكلُّ صومٍ يقعُ في شوَّالٍ (8) فهو مُتْبِعٌ لرمضان، وإن كان هنالك مهلةٌ. وقد دلَّ على صحةِ هذا قولُه في حديثِ النَّسائيِّ (9) : «وَسِتَّةٌ بَعْدَ الْفِطْرِ»؛ ولذلك نقولُ: إنَّ (10) الأجرَ المذكورَ حاصلٌ لصائمِها؛ مجموعةً أوقعها أو مفترقةً؛ لأنَّ كلَّ يومٍ بعشرةٍ (11) مطلقًا والله تعالى أعلم.
قلتُ (12) : وحديثُ أبي أيوبَ المتقدمُ، وإن كان قد خرَّجه مسلمٌ - ليس بصحيحٍ، =(3/238)=@
__________
(1) تقدم في باب لأهل كل بلد رؤيتهم.
(2) تقدم في باب فضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر.
(3) في (ح) و(ز) و(ي): «فيه أيضًا».
(4) من هنا بداية خرم في نسخة (ح) ينتهي في أثناء باب الهدي للمتمتع من كتاب الحج. [بلغ مقابلة سلطان وحيدر]
(5) في (ز): «ذكر».
(6) في (ي): ((عليهم)).
(7) قريب من هذا المعنى عند ابن العربي في "القبس" (2/126) قال: ((... ولكن يصومها من كان، ... فأفضلها أن يكون في عشر ذي الحجة؛ إذ الصوم فيه أفضل من شوال، فإن قال: لعلي أموت، قيل له: فصمها في شعبان)).اهـ. وقال القرافي في "الذخيرة" (2/530): "واستحب مالك صيامها في غيره (غير شوال) خوفًا من إلحاقها برمضان عند الجهال، وإنما عينها الشرع في شوال للخفة على المكلف بسبب قربه من الصوم، وإلا فالمقصود حاصل في غيره؛ فيشرع التأخير جمعا بين مصلحتين.اهـ.
(8) قوله: ((في شوال)) سقط من (ي).
(9) تقدم تخريجه.
(10) قوله: «نقول إن» من (أ): «يقول».
(11) في (أ) و(ح): «بعشر».
(12) في (ز): «قال المؤلف رضي الله عنه».(3/238)
وهو من جملةِ الأحاديثِ الضعيفةِ الواقعةِ في كتابِه؛ وذلك لأن في إسنادِه: سعدَ بنَ سعيدِ بنِ قيسٍ؛ قال فيه النسائيُّ: ليس بالقويِّ (1) . وغيرُه يضعِّفُه؛ كما ذكره الترمذي (2) . وقد انفرد به عن عمرَ بنِ ثابتٍ؛ قال أبو عمرَ ابنُ عبدِ البرِّ: أظنُّ أن الشيخَ عمرَ بنَ ثابتٍ لم يكنْ عند مالكٍ ممن يُعتمدُ عليه (3) (4) .
وإنما أنَّت «ستًّا» وكان حقُّها أن تذكَّرَ - من حيث إن الصومَ إنما يوقعُ في الأيامِ، واليومُ مذكَّرٌ - لأنه غلَّبَ على الأيامِ الليالي، كما تفعلُه العربُ في التأريخِ؛ لأن أولَ الشهِر ليلُهُ، وكذلك الصومُ إنما يُعْزَمُ عليه غالبًا بالليلِ. وفيه حجَّةٌ للمالكيةِ في اشتراطِ نيةِ التبييتِ في صومِ النفلِ (5) . والله تعالى أعلمُ. =(3/239)=@
__________
(1) في (أ) و(ي): ((بقوي)).
(2) ينظر: "الضعفاء والمتروكين" (1/311)، و"الكامل" (3/352)، و"سنن الترمذي" رقم (759). [يراجع أهل الحديث]
(3) ينظر: "الاستذكار" (10/256، 259)، وفيه: ((انفرد به عمر بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري)). [يراجع هل في عبارة الشارح انفرد به].
(4) أما سعد بن سعيد فقد توبع على روايته عن عمر بن ثابت، كما ذكر ذلك الطحاوي بأسانيده في "شرح مشكل الآثار" (6/121) فزال ما يخشى من سوء حفظه. [يوثق هذه النقول في "الجرح والتعديل" يراجع المحدثون].
وأما عمر بن ثابت فقد قال الحافظ في "التقريب" (4904): «ثقة من الثالثة». كما أن للحديث شواهد يتقوى بها. انظر "إرواء الغليل" (4/106).
(5) قوله: ((اشتراط نية التبييت في صوم النفل)) في (ي): ((اشتراط النية في صوم الليل)). وصوب العبارة: ((اشتراط تبييت النية في صوم النفل)) وانظر كلام الشارح في هذه المسألة في باب صوم يوم عاشوراء.(3/239)
لاحظ أن هذا الملف ليس فيه كلام التلخيص فيوضع قبل تسليمه
أبوابُ الاعتكافِ وليلةِ القدرِ
الاعتكافُ في اللغةِ: هو ملازمةُ الشيءِ والإقامةُ فيه. ولمَّا كان المعتكفُ ملازمًا للعملِ بطاعةِ الله تعالى مدةَ اعتكافهِ؛ لزمَه هذا الاسمُ.
وهو في عرفِ الشرعِ: ملازمةُ طاعةٍ مخصوصةٍ، على شرطٍ مخصوصٍ، في موضعٍ مخصوصٍ، على ما يأتي تفصيلُه.
وأُجمع على أنه ليس بواجبٍ، وهو قربةٌ من القربِ، ونافلةٌ من النوافلِ، عَمِل بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهُ وأزواجُه. وُيَكرهُ الدخولُ فيه لمن يُخافُ عليه العجزُ عن الوفاءِ بحقوقِهِ.
واختُلفَ منه في مسائلَ:
المسألةُ الأولى: هل من شرطِه الصومُ، أم لا؟ فذهب مالكٌ وجمهورُ العلماء إلى أنه شرطٌ فيه؛ لقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} (1) ؛ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكفْ قطُّ إلا وهو صائمٌ. قال مالكٌ: وعلى ذلك، الأمرُ عندنا (2) . قال أبو إسحاق التونُسيُّ: ودليلُنا على ذلك: ما رواه سفيانُ بنُ حسينٍ، عن الزهريِّ، عن عروةَ، عن عائشة؛ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا =(3/240)=@
__________
(1) سورة البقرة؛ الآية: 187.
(2) في "الموطأ" (1/315) وعبارته: ((وعلى ذلك الأمر عندنا؛ أنه لا اعتكفا إلا بصيام)).(3/240)
بِصَوْمٍ» (1) . قال:
ومثلُه عن عليٍّ (2) ، وابنِ عبَّاسٍ (3) ، وابنِ عمرَ (4) .
قال أبو عمر بنُ عبدِالبرِّ: وبه قال عروةُ بنُ الزبيرِ، والشعبيُّ، والزهريُّ، والثوريُّ، والأوزاعيُّ، والحسنُ بن حَيٍّ (5) ، وأبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ، وأحمدُ (6) ، رضي الله عنهم.
وقال الشافعيُّ – رحمه الله -: الاعتكافُ جائزٌ بغيرِ صيامٍ. وهو قولُ عليٍّ، وابنِ مسعودٍ (7) ، والحسنِ البصريِّ، وعطاءِ بنِ أبي رباحٍ، وعمرَ بنِ عبدِالعزيزِ، وابن أبي عَبْلَة (8) ، وداودَ، رضي الله عنهم.
واخُتلف فيه عنِ ابنِ عباسٍ (9) ، وأحمدَ، وإسحاقَ.
قلتُ (10) : والصحيحُ: الاشتراطُ؛ لأنه إن صحَّ حديثُ عائشةَ فهو نصٌّ فيه، وإن لم يصحَّ وإلا فالأصلُ في العباداتِ والقُرَبِ أنها إنما تُفعلُ على نحوِ ما قررَّها الشارعُ، وعلى ما فعلها، وقد تقرَّرتْ مشروعيةُ الاعتكافِ مع الصومِ في قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} (11) ، ولأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكفْ قطُّ إلا صائمًا (12) ، فمنِ ادَّعى جوازَه من غيرِ صومٍ دُفِعَ إلى إقامِة دليلٍ على ذلك.
المسألةُ الثانيةُ: اشتراطُ المسجد، وهو شرُطُ في الجملةِ للرجالِ والنساءِ عندَ الجمهورِ. وقد شذَّ ابنُ لُبَابةَ (13) من متأخِّري أصحابِنا، فجوَّزه بغيرِ صومٍ ولا مسجدٍ. وقال الكوفيون: لا يعتكفُ النساءُ إلا في بيوتهنَّ. وذهب بعضُ السَّلفِ: إلى أنه =(3/241)=@
__________
(1) أخرجه الدارقطني (2/199-200)، والحاكم (1/440)، وعنه البيهقي (4/317)، كلاهما من طريق سويد بن عبدالعزيز، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عائشة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا اعتكاف إلا بصوم».
قال الدارقطني: «تفرد به سويد، عن سفيان بن حسين».اهـ.
وقال الحاكم: «لم يحتج الشيخان بسفيان بن حسين». وقال البيهقي: «هذا وهم من سفيان بن حسين، أو من سويد بن عبدالعزيز، وسويد بن عبدالعزيز الدمشقي ضعيف بمرة لا يقبل منه ما تفرد به». اهـ.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (2/334 رقم9620) في الصيام، باب من قال: لا اعتكاف إلا بصوم، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر عن أبيه، عن علي قال: لا اعتكاف إلا بصوم. وسنده ضعيف.
قال ابن المديني، عن حاتم: «روى عن جعفر، عن أبيه أحاديث مراسيل أسندها».
ووالد جعفر، هو: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لم يدرك جدَّه عليًّا.
(3) أخرجه عبدالرزاق (4/353-354 رقم8035)، وابن أبي شيبة (2/334 رقم9619) في الصيام، باب من قال: لا اعتكاف إلا بصوم، والبيهقي (4/317 و317-318)، ثلاثتهم من طريق عمر وبن دينار، عن أبي فاختة، عن ابن عباس، قال: المعتكف عليه صوم. وفي لفظ: يصوم المجاور. وسنده صحيح. وانظر أيضًا "الفتح" (4/275).
(4) أخرجه عبدالرزاق (4/353 رقم8033)، والبيهقي (4/318)، كلاهما من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عمر، وابن عباس، قالا: لا جوار إلا بصيام. وسنده ضعيف، ابن جريج يرسل ويدلس، ولم يصرح بالسماع.
(5) في (ز) و(س): «حُيي». هكذا بالضبط، وهو الحسن بن صالح بن حيَّ، واسم حيّ حيان. انظر: "سير أعلام النبلاء" (7/361) وما بعدها.
(6) قوله: ((وأحمد))ك ذا في جميع النسخ، وفي "الاستذكار" (10/291): ((ومحمد))، وهو محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، وقول في المسألة كقول أبي حنيفة. وسيأتي للشارح – نقلاً عن ابن عبد البر أيضًا – أن عن أحمد في المسألة قولين قلت: وأشهرهما في مذهب خلاف هذا القولِ؛ كما في "المغني" لابن قدامة. ينظر: "الحجة" لمحمد بن الحسن (1/420)، "الموطأ" (رواية محمد بن الحسن) (ص131- 132)، "المبسوط" للسرخسي (3/115- 116)، "المغني" لابن قدامة (4/459).
(7) أخرجه ابن أبي شيبة (2/334 رقم9624) كتاب الصيام، باب من قال: لا اعتكاف إلا بصوم، عن ابن علية، عن ليث، عن الحكم، عن علي وعبدالله قالا: المعتكف ليس عليه صوم إلا أن يشترط ذلك على نفسه.
وسنده ضعيف؛ ليث هو ابن أبي سليم، صدوق اختلط جدًّا ولم يتميز حديثه فترك. "التقريب" (5685).
(8) قوله: ((وابن عبلة)) في "الاستذكار" (10/292)، و"التمهيد" (11/200): و((ابن علية)). ولا يزال الشارح ينقل عن ابن عبدالبر.
(9) أخرجه البيهقي (4/318-319) من طريق عبدالله بن محمد بن نصر الرملي، عن محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، ثنا عبدالعزيز بن محمد، عن أبي سهيل عم مالك، عن طاوس، عن ابن عباس؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس على المعتكف صيام، إلا أن يجعله على نفسه». تفرد به عبدالله بن محمد بن نصر الرملي هذا، وقد رواه أبو بكر الحميدي، عن عبد العزيز بن محمد، عن أبي سهيل بن مالك، قال: اجتمعت أنا ومحمد بن شهاب عند عمر بن عبدالعزيز، وكان على امرأتي اعتكاف ثلاث في المسجد الحرام، فقال ابن شهاب: لا يكون اعتكاف إلا بصوم، فقال عمر بن عبدالعزيز: أمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: لا، قال: فمن أبي بكر؟ قال: لا، قال: فمن عمر؟ قال: لا، قال: فمن عثمان؟ قال: لا. قال أبو سهيل: فانصرفت فوجدت طاوسًا وعطاء فسألتهما عن ذلك؟ فقال طاوس: كان ابن عباس لا يرى على المعتكف صيامًا، إلا أن يجعله على نفسه، وقال عطاء: ذلك رأي. هذا هو الصحيح موقوف، ورفعه وهم. وكذلك رواه عمر وبن زرارة، عن عبد العزيز موقوفًا، وهو فيما أنبأني أبو عبدالله إجازة: أن أبا الوليد أخبرهم، ثنا عبدالله بن محمد بن شيرويه، ثنا عمر وبن زرارة، ثنا عبد العزيز، فذكره موقوفًا مختصرًا. قال: فقال: كان ابن عباس لا يرى على المعتكف صومًا، وقال عطاء: ذلك رأي».اهـ. [والأثر عند ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/293) وفيه: وقال عطاء: ذلك رأيي].
وقال ابن التركماني معلقًا: «تفرد به عبدالله بن محمد بن نصر الرملي. قلت: ذكر ابن القطان أنه مجهول الحال، ثم ذكره البيهقي عن طاوس عن ابن عباس كان لا يرى على المعتكف صيامًا ثم قال: هو الصحيح موقوف، ورفعه وهم. قلت: تقدم أن أبا فاختة ومقسمًا روياه عن ابن عباس خلاف ذلك، وتقدم أيضًا أن عطاء رواه عنه خلاف ذلك، ورواية عطاء ذكرها البيهقي في السابق، ورواية ثلاثة أولى من رواية واحد، على أن طاوسًا أيضًا اختلف عليه، فروي عنه عن ابن عباس وجوب الصوم عليه كما قدمنا في الباب السابق». اهـ.
(10) في (ز) و(س): ((قال الشيخ)).
(11) سورة البقرة، الآية: 187.
(12) وبنحو هذا احتج القاضي عياض في "الإكمال" (4/150) قال الحافظ في "الفتح" (4/275): «واحتج عياض بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا بصوم، وفيه نظر؛ لما في الباب الذي بعده أنه اعتكف في شوال كما سنذكره».اهـ.
ثم قال (4/276) بعد أن ذكر حديث اعتكافه في شوال: «قال الإسماعيلي: فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم».اهـ.
(13) في (ي): ((لبانة)) وينظر: "الإكمال" (4/150)، "الفتح" (4/272). وهو محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة، أبو عبد الله القرطبي شيخ المالكية. (ت314هـ). "سير أعلام النبلاء" (14/495).(3/241)
لا يُعتكفُ إلا في أحدِ المساجدِ الثلاثةِ، وذُكر عن حذيفةَ (1) .
وذهب بعضُهم: إلى أنه لا يعتكفُ إلا في مسجدٍ تُجَمَّعُ فيه الجمعةُ. ورُوي عن مالكٍ من مذهبه: أن ذلك إنَّما يشترطُ فيمن أراد أن يعتكفَ أيامًا تتخللَّها الجمعةُ؛ لأنه إن خرج إلى الجمعةِ بطلَ اعتكافُه.
والصحيحُ: اشتراطُ المسجدِ للرِّجالِ والنساءِ؛ لقوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} (2) ، ولأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه لم يعتكفوا إلا في المسجدِ، رجالُهم ونساؤُهم، وهو عملُ أهلِ المدينةِ المنقولُ (3) .
المسألةُ الثالثةُ: قال أئمتنا: الاعتكافُ الشرعيُّ هو: ملازمةُ المسجدِ ليتفرَّغَ (4) لعبادةِ الله تعالى مع صومٍ، إما له وإما لغيرِه، في مدةٍ أقلُّ واجبِها يومٌ وليلةٌ، وأقلُّ مستحبِّها عشرةُ أيامٍ بلياليها (5) .
وقد خُولفَ أئمتُنا في كثيرٍ من هذه القيودِ على ما يأتي في تضاعِيفِ الكلامِ على (6) الأحاديثِ إن شاء الله تعالى.
وقولُه (7) : «فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتهَا حَصيرٌ»، القبةُ التركيةُ: التي لها بابٌ واحدٌ (8) . والسُّدة: الباب الذي يُسدُّ (9) . وهذه القبةُ هي المعبَّرُ عنها في الحديثِ الآخرِ: بالبناءِ. وفي الآخرِ: بالخيمةِ. =(3/242)=@
__________
(1) هذا الحديث يرويه سفيان بن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل، واختلف عليه في رفعه ووقفه:
فأخرجه عبدالرزاق (4/348 رقم8016)، والفاكهي في "أخبار مكة" (2/149 رقم1334) عن سعيد بن عبدالرحمن، ومحمد بن أبي عمر؛ ثلاثتهم - عبدالرزاق، وسعيد بن عبدالرحمن، ومحمد بن أبي عمر- عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل قال: قال حذيفة لعبدالله: قوم عكوف بين دارك ودار أبي موسى لا تنهاهم! فقال له عبدالله: فلعلهم أصابوا وأخطأت، وحفظوا ونسيت، فقال حذيفة: لا اعتكاف إلا في هذه المساجد الثلاثة: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد إيلياء. هكذا موقوفًا.
وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (7/201 رقم2771) من طريق هشام بن عمار، والبيهقي (4/316) من طريق محمود بن آدم المروزي، والإسماعيلي في "معجمه" (2/112) من طريق محمد بن الفرج، وابن حزم في "المحلى" (5/195) من طريق سعيد بن منصور؛ أربعتهم - هشام بن عمار، ومحمود بن آدم، ومحمد بن الفرج، وسعيد بن منصور- عن سفيان، به، مرفوعًا. إلا أن في رواية سعيد بن منصور، قال: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، أو قال: مسجد جماعة» على الشك. وعند بعضهم: قال عبد الله: «لعلك نسيت وحفظوا، وأخطأت وأصابوا».
قال الذهبي في "السير" (15/81): «صحيح غريب عال».
قال الطحاوي: «فتأملنا هذا الحديث، فوجدنا فيه إخبار حذيفة بن مسعودٍ أنه قد علم ما ذكره له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتَرْكَ ابن مسعود إنكارَ ذلك عليه وجوابه إيَّاه بما أجابه به في ذلك من قوله: «لعلهم حفظوا، نسخ ما قد ذكرته في ذلك، وأصابوا فيما قد فعلوا» وكان ظاهر القرآن يدل على ذلك، وهو قوله عز وجل: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} - فعم المساجد كلها بذلك، وكان المسلمون عليه من الاعتكاف في مساجد بلدانهم، إما مساجد الجماعات التي تقام فيها الجمعات، وإما هي وما سواها من المساجد التي لها الأئمة والمؤذنون على ما قاله أهل العلم في ذلك، والله عز وجل نسأله التوفيق».اهـ.
وقد روي من وجه آخر موقوفًا:
أخرجه عبدالرزاق (4/347 - 348 رقم8014)، وابن أبي شيبة (2/337 رقم 9669) في الصيام، باب من قال: لا اعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه، عن وكيع. والطبراني في "الكبير" (9/301-302 رقم9510) من طريق أبي نعيم؛ ثلاثتهم - عبدالرزاق، ووكيع، وأبو نعيم - عن سفيان الثوري، عن واصل الأحدب، عن إبراهيم قال: جاء حذيفة إلى عبدالله... الحديث، فذكره موقوفًا.
وأخرجه الطبراني أيضًا (9509) من طريق مغيرة، عن إبراهيم، به موقوفًا.
قال الهيثمي في "المجمع" (3/404): «وإبراهيم لم يدرك حذيفة».اهـ.
وهذا سند صحيح، رجاله ثقات، فقد صحح الأئمة مراسيل إبراهيم النخعي، عن ابن مسعود. انظر "سنن سعيد بن منصور" (1/16-17) بتحقيقي. وقد أخرج عبدالرزاق (4/348 رقم8015)، وابن أبي شيبة (2/337 رقم 9671) في الموضع السابق، والطبراني في "الكبير" (9/302 رقم9512) من طريق عبدالرزاق، كلاهما من طريق الثوري، عن علي بن الأقمر، عن شداد بن الأزمع، قال: اعتكف رجل في المسجد الأعظم وضرب خيمة، فحصبه الناس، فبلغ ذلك ابن مسعود، فأرسل إليه رجلاً فكف الناس عنه وحسن ذلك.
وهذا سند رجاله ثقات، غير شداد بن الأزمع، فقد ذكره ابن حبان في "ثقاته" (4/358)، وقال: «يروي عن ابن مسعود، روى عنه علي بن الأقمر، مات في ولاية بشر بن مروان على العراق».
وأورده البخاري في "تاريخه" (4/225 رقم2597)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/329 رقم1440)، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً.
أبي نعيم. خبن مسعود فقال له ألا أعجبك من ناس عكوف بين دارك ودار الأشعري فقال له عبد الله فلعلهم أصابوا وأخطأت فقال له حذيفة ما أبالي أفيه أعتكف أو في سوقكم هذه إنما الاعتكاف في هذه المساجد الثلاثة مسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى [حذف هذا الجزء وقال: لا توجد هذه الزيادة في الأصل].
(2) سورة البقرة؛ الآية: 187.
(3) قوله: «وهو عمل أهل المدينة المنقول» سقط من (ز).
(4) في (ي): ((ليفرغ)).
(5) في (أ) و(ز): ((وليالها)).
(6) قوله: «على» سقط من (أ).
(7) في (ز) و(ي): «قوله».
(8) في "شرح النووي" (8/63): ((قبة تركية أي: قبة صغيرة من لبود)).اهـ. و اللُّبُود جمع لِبْد، وهو الشعر المتراكب. وفي "المصباح" (ص252) القبة من البنيان معروف، وتطلق على البيت المدور، وهو معروف عند التركمان والأكراد. وتسمى ((الخرقاهة)).اهـ. وفي "بدائع الصنائع" (8/262): «ولو أوصى بقبة تركية وهي ما يقال لها؛ لعجيمة ((خركاه))، فله القبة مع الكسوة وهي اللبود؛ لأنه يقال لها قبة تركية إلا بلبودها، بخلاف القبة البلدية».اهـ.
(9) ينظر: "الإكمال" (4/148)، و"المشارق" (2/211)، وفي "المصباح المنير" (ص142) والسدة – بالضم- في كلام العرب: الفناء لبيت الشَّعر وما أشبهه... والسدة: الباب.(3/242)
و«وَكَفَ المَسْجِدُ»: قَطَرَ (1) .
و«الرَّوْثَةُ»: طَرَفُ الأرنبةِ (2) . و«يَلْتَمِسُ»: يطلبُ.
و«تقويضُ البناءِ»: هَدْمُه.
و«أُبينتْ (3) »: روايتنا فيه من البيان. قال أبو الفرج: وضبطَه المحققون «أُثْبِتَت» من الإثباتِ.
«يحتقَّان»: يطالبُ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه بحقِّه. وقد تقدَّم الكلامُ في تسميةِ ليلةِ القدرِ في صلاةِ الليلِ من كتابِ الصلاةِ (4) .
وقولُ الرجلِ لأبي سعيدٍ: «إنَّكُم أَعْلَمُ بالعددِ منَّا»؛ أي: بهذا العددِ الذي ذكره (5) ؛ وذلك لأنه محتملٌ لأن يُعتبرَ بكمالِ الشهرِ أو بنقصِه، وقد اعتبرَه أبو سعيدٍ هنا بالباقي على كمالِ الشهر. والله أعلم (6) . =(3/243)=@
__________
(1) أي: قطر منه ماء المطر. "الإكمال" (2/286)، وينظر "المصباح" (ص345).
(2) "الصحاح" (1/284). وفي (1/140): ((والأرنبة: طرف الأنف)) وفي "اللسان" (2/57).
الروثة: مقدم الأنف أجمع، وقيل: طرف الأنف حيث يقطر الرعاف.
وفي "الإكمال" (4/148): ((وروثة الأنف: طرفه، وهو أرنبته... والروثة الأرنبة وما يليها)).
(3) في (أ) و(ي): «وأثبتت». وفي (ز) وضع جميع النقط!. وهما روايتان كما سيذكر الشارح، والمثبت من (س)، وهو موافق للرواية المذكورة في "صحيح مسلم" و"التلخيص"! وينظر "مشارق الأنوار" (1/109).
(4) في (أ): «الصلاة الليل» وضرب على ((أل)) في ((الصلاة))، وهناك ما يشبه الضرب على كلمة الليل!.
وتقدم كلام الشارح في معنى القدر الذي أضيفت إليه الليلة في باب الترغيب في قيام رمضان من كتاب الصلاة.
(5) في (أ) و(ز): ((ذكر)).
(6) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/243)
ومن بابِ للمعتكفِ أن يَختصَّ بموضعٍ من المسجدِ
قولُ عائشة رضي الله عنها: «كَان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكفَ صلَّى الفجرَ، ثم دخل في معتكفِه» أخذ بظاهرِه الأوزاعيُّ، والثوريُّ، والليثُ في أحدِ قوليه. وقال أبو ثورٍ: يفعلُ هذا مَنْ نذرَ عشرةَ أيامٍ، فإن زاد عليها فقبلَ غروبِ الشمسِ من الليلةِ (1) . وقال مالكٌ: لا يدخلُ اعتكافَه إلا قبل (2) غروبِ الشمسِ، وقاله أحمدُ، ووافقهما الشافعيُّ وأبو حنيفةُ، وأبو ثورٍ؛ في الشهر (3) . واختلفوا في الأيامِ (4) : فقال الشافعيُّ: يدخلُ فيها قبلَ طلوع الفجر (5) ، وبه قال القاضي أبو محمد عبدُ الوهابِ في الأيامِ وفي الشهرِ (6) ، وقال عبدُ الملكِ: لا يعتدُّ بذلك اليومِ.
وسببُ هذا الخلافِ هو: هل أولُ ليلةِ أيامِ الاعتكافِ داخلةٌ فيها؟ أم لا تدخلُ (7) ، وأن اليومَ هو المقصودُ بالاعتكافِ، والليلُ تابعٌ؟ قولان، ومن قال بالأولِ تأولَ الحديثَ المتقدِّمَ، على أنَّ معناه: أنه كان إذا صلَّى الصبحَ في الليلةِ التي دخل من أولِها في اعتكافِه (8) ، دخل قُبَّةَ (9) =(3/244)=@
__________
(1) قوله: ((فإن زاد عليها...)) كذا في النسخ. والعبارة في"الإكمال" (4/154)، و"الاستذكار" (10/311): ((فإن أراد عشر ليالٍ فقبل غروب الشمس)) ومثله في "الاستذكار" (10/311). وقوله: ((من الليلة)) أي: من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها من الغد. "شرح السنة" (6/393).
(2) في (ي): ((بعد)).
(3) أي: اتفقوا على أنه إن نذر اعتكاف شهرٍ دخل المسجد قبل الغروب. "الاستذكار" (10/311)، و"الإكمال" (4/154).
(4) الأولى هنا تعبير صاحب "الإكمال" (4/154) – وعنه ينقل الشارح -: ((وخالفوه – أي: مالكًا – في الأيام)) فإنه قال قبل: غنهم وافقوه في الشهر.
(5) لم يذكر الشارح بقية المخالفين لمالك في الأيام، وذكرهم ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/311) والقاضي عياض في "الإكمال" (4/154) قال في "الإكمال": ((وقال الليث في أحد قوليه وزفر وأبو يوسف: يدخل في الجميع قبل طلوع الفجر)).اهـ. قال ابن عبد البر: إن والشهر واليوم عندهم سواء؛ أي عند الليث وزفر وأبي يوسف!.
(6) قوله: ((وبه قال القاضي...)) عبارة الإكمال: وقد قال القاضي أبو محمد: من فعل هذا أجزأه. وفي "المنتقى" (2/80): فإن دخل بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر وقت يجوز له فيه أن ينوي الصوم أجزأه كما حكى ذلك القاضي أبو محمد، وفي كتاب سحنون عن أبيه لا يجزئه، وبه قال ابن الماجشون)).
(7) في (ي): ((يدخل)).
(8) في (ز): «اعتكافها».
(9) في (ز): «فيها» وفي (أ): ((فيه)).(3/244)
اعتكافِه التي ينزوِي فيها نهارَه، لا أنَّ وقتَ دخولِه قُبَّتَهُ كان أولَ اعتكافِه. والله تعالى أعلمُ.
قولها: «وإِنه أمر بخبائِه فَضُرِبَ»؛ هذا إنما كان قبلَ أن يَشْرَعَ في الاعتكافِ؛ بدليلِ قولِها: «أراد الاعتكافَ في العشرِ الأواخرِ»؛ ففي كلامِها هذا (1) تقديمٌ وتأخيرٌ، فإنَّ أولَ ما فُعِلَ لما أراد الاعتكافَ: ضرب له الخباء (2) ، ثم إنَّ أزواجَه لما رأيْنَ عزمَه على الاعتكافِ وأَخْذَه فيه؛ شَرَعْنَ فيه رغبةً منهنَّ في الاقتداءِ به (3) ، وفي تحصيلِ الأجرِ، غيرَ أنهنَّ لم يستأذِنَّهُ، فلذلك أنكر عليهنَّ.
ويحتملُ أن يكونَ إنكارُه لأوجهٍ أُخَرَ: منها: أن يكونَ خافَ أن يكون (4) الحاملَ لهنَّ على الاعتكافِ غَيْرَتُهُنَّ عليه، وحرصُهنَّ على القربِ منه. ومنها: أن يكونَ كَرهَ لهنَّ ملازمتَهنَّ المسجدَ مع الرِّجالِ، أو يكنَّ ضيَّقنَ المسجدَ على الناسِ بأخبيتِهنَّ أو يؤدِّي مكثُهنَّ في المسجدِ إلى أن يَطَّلعَ عليهنَّ المنافقون لكثرةِ خروجِهنَّ لحاجتِهنَّ، أو يؤدِّي ذلك إلى أن تَنكشِفَ منهنَّ عورةٌ، أو يؤدِّي إلى تضييع حقوقِ (5) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وحوائجِه في بيوتهنَّ.
وكلُّ هذه الاحتمالاتِ مناسبةٌ، وبعضُها أقربُ من بعضٍ، ولا يبعدُ أن يكونَ مجموعُها هو المراعَى عندَه، أو شيءٌ آخرُ لم يُطَّلعْ عليه. والله تعالى أعلمُ.
وأما استئذانُ المرأةِ زوجَها في الاعتكافِ المتطوَّعِ به، فلا بدَّ منه عندَ العلماءِ للذي تقدَّم في استئذانِها إيَّاه في الصومِ، وللزَّوجِ أن يمنعَها منه ما لم يكن نذرًا معينًا. فل وكان مطلقًا، فله أن يمنَعها من وقتٍ إلى وقتٍ ما لم تخفِ الفوتَ. وكذلك العبدُ والأمةُ. =(3/245)=@
__________
(1) سقط من (ي).
(2) قوله: ((فإن أولَ ما فعل لما أراد الاعتكاف ضرب له الخباء)) لعل الأولى أن يقال: ((...ضَرْبُ الخباءِ له)).
(3) في (أ): «في اقتدائه».
(4) قوله: ((خاف أن يكون)) سقط من (ي).
(5) في (أ): ((حصوق)).(3/245)
وقولُه: «آلبِرَّ تُرِدْنَ؟» بهمزةِ الاستفهامِ، ومدِّه، على جهةِ الإنكارِ. ونُصِبَ «البرّ» على أنه مفعولُ «تُرِدْنَ» مقدَّمًا.
وأمرُه - صلى الله عليه وسلم - بتقويضِ بنائِهِ، وتركُه الاعتكافَ؛ إنما كان ذلك (1) - والله تعالى أعلمُ- قبلَ أن يدخلَ في الاعتكافِ، وهو الظاهرُ من مساقِ الحديثِ؛ فلا يكونُ فيه حجةٌ لمن يقولُ: إن مَنْ دخل في تطوُّعٍ جاز له أن يخرجَ منه، فإنه (2) إنما كان عزم عليه وأراده، لا أنه دَخَلَ فيه.
وتركُه - صلى الله عليه وسلم - الاعتكاف في ذلك العشرِ الذي كان قد (3) عزم على اعتكافِه: إنما كان مواساةً لأزواجِه، وتطييبًا لقلوبهِنَّ، وتحسينًا لعشرتهِنَّ، أو لعلَّه تَوقَّعَ من تمادِيهِ على الاعتكافِ ظَنَّ (4) أنه هو المخصوصُ بالاعتكافِ دونَهُنَّ.
وكونُه (5) اعتكف في شوالٍ يدلُّ على أن الاعتكافَ ليس مخصوصًا برمضان. ولا يقال: فيه ما يدلُّ على قضاءِ التطوُّعِ؛ لأنا لا نُسلِّمُ أنه قضاءٌ، بل هو ابتداءٌ؛ إذ لم يجبْ عليه؛ لا بالأصلِ، ولا بالنذرِ، ولا بالدخولِ فيه؛ إذ لم يكنْ دخلَ فيه بعدُ. كيف ومعقوليةُ القضاءِ إنما تَتَحقَّقُ (6) فيما اشتغلتِ الذمةُ به، فإذا لم يكن شغلُ ذمةٍ، فأيَّ شيءٍ يقضي؟! غايةُ ما في البابِ أنه ابتدأ عبادةً هي من نوعِ ما فاته. =(3/246)=@
__________
(1) قوله: «إنما كان ذلك» سقط من (غ).
(2) في (غ): «وإنه».
(3) قوله: ((كان قد)) في (أ) «قد كان».
(4) قوله: ((ظن)) مفعولٌ به لـ((توقع)) مضافًا إلى المصَّر المؤول من ((أنَّ)) ومعموليها.
(5) في (ي): ((وكونهن)).
(6) في (ي): ((تحقق)).(3/246)
وقولُ نافعٍ: «وقد أراني عبدُالله المكانَ الذي كان يعتكفُ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) »؛ يعني: الموضعَ الذي كان اختصَّه لنفسِه؛ الذي كانت (2) عليه القبةُ التركيةُ، ومع أنه اختصَّ بموضعٍ من المسجدِ فهو كان (3) الإمامَ في حالِ اعتكافِه، فكان يصلِّي بهم في موضعِه المعتادِ، ثم يرجعُ إلى مُعْتَكَفِه بعدَ انقضاءِ صلاتِه.
ويحصلُ منه: جوازُ (4) إمامةِ المعتكِفِ، وقد منعها سحنونٌ في أحدِ قوليه في الفرضِ والنفلِ. والجمهورُ على جوازِ ذلك.
واختُلف من هذا البابِ في مسائلَ:
منها: أذانُ المعتكفِ، منعه مالكٌ مرةً، وأجازه أخرى. والكافُة على جوازِه، وهذا في المنارِ (5) ، أما في غيرِه فلا خلافَ في جوازِه، فيما أعلمُ.
فأما (6) خروجُه لعيادةِ المرضى، أو لصلاةٍ (7) على جنازةٍ: فمنع ذلك مالكٌ وكافتُهم، وأجازه الحسنُ والنخعيُّ وغيرهما. وأجاز إسحاقُ، والشافعيُّ اشتراطَ ذلك عندَ دخولِه في التطوعِ لا النذرِ. واختلف فيه قولُ أحمدَ، ومنع ذلك مالكٌ وغيره. =(3/247)=@
__________
(1) في (ز): «الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيه».
(2) في (ز) و(ي): «كان».
(3) قوله: «كان» سقط من (ز).
(4) في (ز): ((جوان)).
(5) كذا في (ز) و(س) و(ي). وفي (أ): «المنار»، والظاهر أن المراد الشارح «المنار» حيث إنه أعاد الضمير بالتذكير فقال: ((وأما في غيره فلا خلاف)) وفي "الإكمال" (4/156): ((وكذلك أذانه في غير المنار، واختلف في أذانه في المنار)) والصواب ما في (أ): «المنارة» فإن المنارة، هي المئذنة، وتجمع على «مناور» و«منائر» الأول مقيس، والثاني غير مقيس. أما «المنار» "فتح اللسان": المنار جمع منارة وهي العلامة تجعل بين الحدين. وفيه وفي "تاج العروس": ((والمنار علم الطريق)) وفي "التهذيب" المنارة: الشمعة ذات السراج. والمنارة أيضًا التي يوضع عليها السراج... والمنار: العلم الحد بين الأرضين. ومنار الحرم: أعلامه... المنار: العلم يجعل للطريق... ويقال للمنارة التي يؤذن عليها المئذنة. ينظر: "تهذيب اللغة" (15/230- 231)، و"لسان العرب" (5/241).
(6) في (ز): ((وأما)).
(7) في (أ): «والصلاة» وعبارة "الإكمال" (4/156): «والصلاة على الجنازة».(3/247)
ومنع مالكٌ اشتغالَه في المسجِد بسماعِ علمٍ وكتابتِه (1) ، وبالأمورِ (2) المباحةِ؛ كالعملِ في الخياطةِ وشبهِ ذلك، إلا فيما خفَّ من هذا كلِّه.
وأباح له الشافعيُّ وأبو حنيفة الشغلَ في المسجدِ بما يباحُ له من ذلك كله، أو يرغبُ (3) فيه (4) من طلبِ العلمِ (5) ونحوه (6) .
وأما خروجُ المعتكفِ من المسجدِ فلا يجوزُ إلا لقضاءِ حاجتهِ، أو شراءِ طعامٍ، أو شرابٍ مما يحتاجُ إليه ولم يجدْ من يكفيه ذلك؛ لقول عائشةَ: «كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف لا يدخلُ البيتَ إلا لحاجةِ الإنسانِ»؛ تعني به (7) : الحدثَ (8) . ويلحقُ به ما يكونُ محتاجًا إليه؛ كشراءِ طعامٍ وشرابٍ على ما تقدَّم.
وإدامتُه - صلى الله عليه وسلم - الإعتكاف في العشرِ الأواخرِ من رمضان (9) ؛ إنما كان لما أُبين له من (10) أن ليلةَ القدرِ فيه، وإلا فقد اعتكف (11) في العشرِ الأُوَلِ وفي الوُسَطِ (12) على ما تقدَّم من حديثِ أبي سعيدٍ.
ثم مَنِ اعتكف في العشرِ الأواخرِ من رمضان، فهل (13) يبيتُ ليلةَ الفطرِ في معتكَفِه ولا يخرجُ منه إلا إذا خرج لصلاةِ العيدِ؛ فيصلِّي، وحينئذٍ يرجعُ إلى منزلِه؟ أو يجوزُ له أن يخرجَ عندَ غروبِ الشمسِ من آخرِ يومِ من (14) رمضانَ؟ قولان للعلماءِ والأولُ هو (15) قولُ مالكٍ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، وغيرٍهما، وهو محكيٌّ عن السَّلفِ. واختلف أصحابُ مالكٍ إذا لم يفعل؛ هل يبطلُ اعتكافُه؟ أم لا يبطُل؟ قولان.
وذهب الشافعىُّ، والليثُ، والأوزاعيُّ، والزهريُّ، في آخرين: إلى أنه يجوزُ خروجُه ليلةَ الفطرِ، ولا يلزمُه شيءٌ مما قاله مالكٌ.
وظاهرُ مذهبِ مالكٍ: أنَّ ذلك على وجهِ الاستحبابِ؛ لأن بعضَ السَّلفِ فعلَه، ولأنه قد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (16) .
وكونُ أزواجِه اعتكفْنَ بعدَه حجَّةٌ على مَنْ منع اعتكافَ النساءِ في المسجدِ؛ فإنهنَّ إنما اعتكفن (17) على نحوِ (18) ما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعتكفُ؛ لأن الراويَ عنهنَّ =(3/248)=@
__________
(1) في (أ) و(ز): ((وكتبته)).
(2) في (ز) و(ي): «أو بالأمور».
(3) قوله: ((أو يرغب)) في (ي): ((ويرغب)).
(4) قوله: «فيه» سقط من (أ).
(5) في (أ): ((علم)).
(6) سقط من (ز).
(7) سقط من (أ).
(8) تقدم في الباب قبله.
(9) قوله: «من رمضان» سقط من (أ).
(10) في (ز): «إن».
(11) من قوله: ((في العشر الأواخر...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(12) قال في "المصباح المنير" (ص213): ((والشهر ثلاث عشرات فالعشر الأُوَل؛ جمع أُولي، والعشر الوُسَط؛ جمع وُسْطى، والعشر الأُخَر؛ جمع أخرى، والعشر الأواخر أيضا؛ جمع آخرة)).
وقال في (ص20): ((والعشر الأول والأوائل أيضًا؛ لأنه جمع مؤنث)). وقول العامة: العشر الأَوَّل بفتح الهمزة وتشديد الواو. خطأ. وفي (ص339): ((وإذا أريد الليالي قيل: العشر الوُسَط، وإن أريد الأيام قيل: ((العشرة الأواسط)).
(13) في (أ): «هل».
(14) قوله: «من» سقط من (ز).
(15) في (ز): «وهو».
(16) انظر هذه الرواية وتوجيهها والخلاف فيها "الفتح" (4/258). [ليس في "الفتح" في هذا الموضع شيء، يراجع المحدثون، المقصود: مسالة خروجه ليلة العيد وبياته في معتكفه.]
(17) قوله: ((نما اعتكفن)) مطموس في (ز).
(18) قوله: «نحو» سقط من (أ).(3/248)
ساق اعتكافَ النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتكافَهنَّ مساقًا واحدًا، ول وخالفْنَه في (1) المسجدِ لذكره، وكان يقولُ: غيرَ أنَّ ذلك في بيوتهِنَّ.
وقولُ عائشةَ رضي الله عنها: «كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (2) إذا دخل العشرُ أحيا الليلَ»؛ أي (3) : بالصلاةِ، و«أيقظ أهلَه» لذلك.
وفيه: حثُّ الأهلِ على القيامِ للنوافلِ، وحملُهم (4) على تحصيلِ الخيرِ والثوابِ. ويفُهمُ منه تأكيدُ القيامِ في هذا العشرِ على غيرِه.
و«جدَّ»؛ أي: اجتهد. و«شدَّ الْمِئْزَر»؛ أي: امتنع عن النساءِ. وهذا أولى من قولِ من قال: إنه كنايةٌ عن الجدِّ والاجتهادِ؛ لأنه قد ذَكر ذلك، فحملُ هذا على فائدةٍ مستجدَّةٍ أولى.
وقد ذهبُ بعض أئمتِنا: إلى أنه عبارةٌ عن الاعتكافِ. وفيه (5) بُعدٌ؛ لقولِها: ((أيقظ أهلَه))، وهذا يدلُّ على أنه كان معهم في البيتِ، وهو كان في حالِ اعتكافِه في المسجدِ، وما كان يخرجُ منه إلا لحاجةِ الإنسانِ. على أنه يصحُّ أن يوقظَهنَّ من موضعِه من بابِ الخَوْخَةِ (6) التي كانت له إلى بيتهِ في المسجدِ. والله أعلم.
فإن حملناه على الاعتكافِ فُهمَ منه: أن المعتكفَ لا يجوزُ له أن يقربَ النساءَ بمباشرةٍ، ولا استمتاعٍ فما فوقها، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} (7) ، فإن وقع منه الجماعُ فسدَ اعتكافُه، ليلاً كان أو نهارًا، بالإجماعِ.
ثم: هل عليه كفارةٌ؛ فالجمهور: على أَنْ لا. =(3/249)=@
__________
(1) قوله: «في» لم يتضح في (غ).
(2) قوله: «النبي - صلى الله عليه وسلم - » ليس في (ز).
(3) قوله: «أي» سقط من (أ).
(4) في (ي): ((حملهم)).
(5) في (ز): «وفيها».
(6) الخوخة – بفتح الخاءين - هي الكوة المخترقة بين دارين أو بين بين بيتين، مثل النافذة الكبيرة، ينصب عليها باب يخترق بينهما. "مشارق الأنوار" (1/247)، "لسان العرب" (3/14).
(7) سورة البقرة؛ الآية: 187.(3/249)
وذهب الحسنُ والزهريُّ إلى أن عليه ما على الْمُواقِعِ أهلَه (1) في نهارِ رمضانَ. ورأى مجاهدٌ: أن يتصدَّقَ بدينارينِ (2) . وأجرى مالكٌ، والشافعيُّ في أحدِ قوليه، الجماعَ فيما دون الفرجِ، وجميعَ التلذذُّات (3) ؛ من القبلةِ، والمباشرةِ - مجرى الجماعِ في الإفسادِ؛ لعمومِ قولِه تعالى (4) : {ولا تباشروهن}، ورأى أبو حنيفة وصاحباه (5) : إفساده بالإنزالِ كيفما كان. والله أعلم (6) .
ومن بابِ الأمرِ بالْتماسِ ليلةِ القدرِ
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «الْتَمِسُوهَا»؛ هو أمرٌ على جهةِ الإرشادِ إلى وقتِها، وترغيبٌ في اغتنامِها؛ فإنها ليلةٌ عظيمةٌ، تُغفرُ فيها الذنوبُ، ويُطْلِعُ الله تعالى فيها (7) مَنْ شاء مِنْ ملائكتِه على ما شاء من مقاديرِ خليقتِه، على ما سبق به علمُه؛ ولذلك عظَّمها سبحانه وتعالى بقولِه تعالى: {وما أدراك ما ليلة القدر...} (8) ، إلى آخر السورةِ، وبقولِه =(3/250)=@
__________
(1) قوله: «أهله» سقط من (أ).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3/68 رقم12448) كتاب الصيام، باب ما قالوا في المعتكف يجامع ما عليه في ذلك. بسنده عن مجاهد في المعتكف إذا جامع يتصدق بدينارين. [المحدثون يراجع هناك اختلاف في ابن أبي شيبة ((بدينار)) و((بدينارين))].
(3) في (ي): ((التلذذ)).
(4) موضع قوله: ((قوله تعالى)) بياض في (ز).
(5) في (ز): «وأصحابه» وفي "الإكمال": ((وقاله صاحباه)).
(6) قوله: «والله أعلم» زيادة من (ز).
(7) سقط من (ي).
(8) سورة القدر؛ الآية: 2.(3/250)
تعالى: {حم - والكتاب المبين - إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين - فيها يفرق كل أمر حكيم - أمرًا من عندنا إنا كنا مرسلين - رحمة من ربك إنه هو السميع العليم} (1) .
معنى «يُفْرَقُ»: يُفَصَّل ويُبيَّن. و«حكيم» مُحْكَمٌ؛ أي: مُتْقَنٌ (2) . و«أمرًا»: منصوبٌ على القطع، ويصحُّ بنزعِ الخافضِ (3) ؛ أي: يُفْرّقُ بأمرٍ، فلما أسقط الخافضَ تعدَّى الفعلُ فَنَصبَ (4) .
واختلف الناسُ اختلافًا كثيرًا في ليلةِ القدرِ: هل كانت مخصوصةً بزمنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو لا؟ فالجمهورُ: على أنها ليستْ مخصوصةً. ثم اختلفوا: هل هي منتقلةٌ في الأعوامِ، أو ليست منتقلةً؟ ثم الذين قالوا: إنها ليست (5) منتقلةً اختلفوا في تعيينِها، فمن معينٍ ليلةَ النصفِ من شعبان، ومن قائلٍ: هي ليلةُ النصفِ من رمضانَ، ومن قائلٍ: هي ليلةُ سبع عشرةَ (6) . ومن قائلٍ: هي ليلةُ تسع عشرة. ثم ما من ليلةٍ من ليالي العشرِ إلا وقد قال قائلٌ بأنها ليلةُ القدرِ، وقيل: هي آخرُ ليلةٍ منه. وقيل: هي معينةٌ عند الله تعالى غيرُ معينةٍ عندنا. وهذه الأقوال كلُّها للسَّلف وللعلماءِ (7) . وسببُ اختلافِهم اختلافُ الأحاديثِ كما ترى.
قلت (8) : والحاصلُ من مجموعِ الأحاديثِ، ومما استقرَّ عليه أمرُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبِها: أنها في العشرِ الأواخرِ من رمضان (9) ، وأنها منتقلةٌ فيه، وبهذا يجتمعُ شتاتُ الأحاديثِ المختلفِة الواردةِ في تعيينِها. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ (10) ، والثوريِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وأبي ثورٍ، وغيرِهم، رضي الله عنهم (11) - على ما حكاه أبو الفضل عياض - فاعْتَمِدْ عليه، وتَمَسَّكْ به.
وقولُه: «أرى رُؤْيَاكُمْ قد (12) تواطَأَتْ»؛ أي: توافقت، والمواطأة: الموافقةُ. وقولُه: «فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا»؛ أي: طالبَها مجتهدًا فيها. =(3/251)=@
__________
(1) سورة الدخان؛ الآيات: 1-6.
(2) في (ي): ((منفق)) غير منقوطة الفاء.
(3) في (أ): ((الخافظ)).
(4) ذكر السمين الحلبي في "الدر المصون" (9/616) في ناصب {أمرًا} ثلاثة عشر وجها، ترجع إلى أربعة أشياء المفعول به، والمفعول له، والمصدرية، والحالية:
فإما أن يكون مفعولاً به لـ((منذرين)) ويقدر المفعول الأول؛ أي منذرين الناس أمرًا. أو مفعولًا به لفعل محذوف تقديره ((أعني)) أو أخص، وهو النصب على الاختصاص، أو يكون مفعولاً له، وعامله: إما ((أنزلناه)) أو ((منذرين)) أو ((يفرق))، أو يكون مصدرًا منصوبًا على المفعولية المطلقة: إما صراحة الفعل محذوف؛ أي: أمرنا أمرًا. أو نيابةً وعامله ((يفرق)) بتأويل ((يفرق)) بمعنى ((يؤمر))، أو ((أمرًا)) بمعنى ((فرقًا)) أو مصدرًا ((لأنزل))؛ أي: أنزلناه إنزالاً من عندنا. أو يكون حالاً من فاعل ((أنزلناه)) أي: آمرين، أو من مفعوله؛ أي: مأمورًا به، أو من ((كل)) أو من ((أمر)) أو من ضمير ((حكيم)). وينظر: "البحر المحيط" (8/33- 34)، و"مشكل إعراب القرآن" (2/654)، و"إعراب القرآن" للنحاس (4/126)، و"الكشاف" (5/465).
وقول الشارح: ((على القطع)) يصلح على اعتبار ((أمرًا)) صفة لا ((أمرٍ)) الأولى، وقطعها عنها ونصبها على الاختصاص، أو بتقدير ((أمرنا)). وقوله: ((بنزع الخافض)) متجهٌ.
[يراجع كلام الشارح في إعرابها والاعتراض عليه]
(5) قوله: «ليست» سقط من (أ).
(6) من قوله: «ومن قائل هي ليلة النصف من رمضان....» إلى هنا سقط من (أ).
(7) في (ز): «والعلماء».
(8) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(9) قوله: «من رمضان» سقط من (أ) و(ي).
(10) في حاشية (أ) ما نصه: ((بل مذهب الشافعي أنها لازمة غير منتقلة)).اهـ. وما ذكره المحشي صواب؛ ففي "المجموع" للنووي (6/489): ((ومذهب الشافعي وجمهور أصحابنا أنها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان مبهمة علينا، ولكنها في ليلة معينة في نفس الأمر لا تنتقل عنها ولا تزال في تلك الليلة إلى يوم القيامة)).اهـ. ثم ذكر أن المزني وابن خزيمة من أصحابهم قالا بانتقالها في ليالي العشر. وما ذكره الشارح تابع فيه ما في "الإكمال" (4/143) حيث قال القاضي: ((ونحو هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وغيرهم)).اهـ.
وقد نقل النووي في "المجمموع" العبارة ذاتها من القاضي عياض دون ذكر الشافعي؛ ولم يشر إلى أن القاضي نسب هذا المذهب إلى الشافعي!
(11) قوله: ((رضي الله عنهم)) زيادة من (ز).
(12) قوله: «قد» سقط من (أ).(3/251)
وقولُه: «أُنسِيتُها»؛ أي: أُنسيتُ تعيينَها في تلك السنةِ. ومثلُ هذا النسيان جائزٌ عليه؛ إذ ليس بتبليغِ حكمٍ يجبُ العملُ به (1) . ولعلَّ عدمَ تعيينها (2) أبلغُ في الحكمةِ، وأكملُ في تحصيلِ المصلحةِ، كما قال (3) : {وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ} (4) .
ووجْهُ ذلك أنها إذا لم تعيَّن، أو كانت منتقلةً في العشرِ (5) ، حَرَصَ الناسُ على طِلبها طولَ ليالي العشرِ؛ فحصل لهم أجرُها، وأجرُ قيامِ العشر كلِّه. وهذا نحوٌ مما جرى في تعيينِ الصلاةِ الوسُطى (6) ، وساعةِ الجمعةِ، وساعةِ الليلِ. والله تعالى أعلم. وقد تقدمَ الكلامُ على علاماتِ (7) ليلة القدرِ في كتابِ الصلاةِ (8) . =(3/252)=@
__________
(1) قوله: ((العمل به و)) مطموس في (ي).
(2) قوله: ((ولعل عدم تعيينها)) مطموس في (ز).
(3) في (أ): ((قال تعالى)) ظنها الناسخ آية فزاد ((تعالى)).
(4) هذا جزء من حديث، أخرجه البخاري (1/113 رقم49) كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، و(4/267 رقم2023) كتاب فضل ليلة القدر، باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس، و(10/465 رقم6049) كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السب واللعن، من حديث عبادة بن الصامت قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: ((خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)).
(5) قوله: ((في العشر)) سقط من (ز).
(6) في (ز): «صلاة الوسطى».
(7) في (ي): ((علامة)).
(8) في (أ): «في كتاب الله» وتقدم ذلك في باب الترغيب في قيام رمضان من كتاب الصلاة.(3/252)
باب
وقولُ عائشة رضي الله عنها: «ما رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صائمًا في العشرِ قطُّ (1) »؛ تعني به: عشرَ ذي الحجةِ. ولا يُفهَمُ منه (2) : أنَّ صيامَه (3) مكروهٌ، بل أعمالُ الطاعاتِ فيه أفضلُ منها في غيرِه؛ بدليل ما رواه الترمذيُّ (4) من حديثِ ابنِ عباسٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : «مَا مِنْ أيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ العُشْرِ»، قَالوا: يا رسولَ الله! ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟ قال: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيِل الله، إِلَّا رَجُلُ =(3/259)=@
__________
(1) في (أ): «قضاء».
(2) سقط من (ي).
(3) قوله: «أن صيامه» سقط من (ز).
(4) كتب في هامش (أ) حاشية نصها: ((الحديث المذكور رواه البخاري في صحيحه)). وما قاله المحشي صحيح، فالحديث عند البخاري (2/457 رقم969) كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق. وقد أخرجه الترمذي (3/130) رقم (757) في الصوم، باب ما جاء في العمل في الأيام الشعر واللفظ الذي ذكره الشارح هو لفظ الترمذي. وقال بعده: حديث حسن صحيح غريب!(3/253)
خَرَجَ (1) بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ (2) ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ»، قال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وتركُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صومَه إنما كان - والله أعلمُ- لما قالتْه عائشةُ - رضي الله عنها - في صلاة ِالضحى: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعُ العملَ وهو يحبُّ أن يعملَ به خشيةَ أن يَعْملَ به الناسُ فيفرضَ عليهم» (3) .
ويحتملُ أنَ يكونَ - صلى الله عليه وسلم - لم يوافقْ عشرًا خاليًا عن مانعٍ يمنعُه من الصيامِ فيه. والله تعالى أعلمُ. =(3/254)=@
__________
(1) في (ي): ((يخرج)).
(2) في (ز): «وبماله».
(3) تقدم في كتاب الصلاة، باب في صلاة الضحى.(3/254)
كتابُ الحجِّ (1)
قد تقدَّم الكلامُ على الحجِّ من حيثُ اللغةُ والعُرفُ في أولِ كتابِ الإيمانِ (2) .
واختُلفَ في زمانِ (3) فرضِ الحجِّ؛ فقيل: سنةَ خمسٍ من الهجرةِ. وقيل: سنةَ تسعٍ، وهو الصحيحُ؛ لأن فتحَ مكةَ كان في التاسعَ عشرَ من رمضانَ سنةَ ثماني سنين من الهجرةِ (4) ، وحجَّ بالناسِ في تلك السنةِ عَتَّابُ بن أَسِيدٍ (5) ، ووقفَ بالمسلمين، ووقف المشركون على ما كانوا يفعلون في الجاهليةِ. فلما كانت سنةُ تسعٍ فُرضَ الحجُّ، ثم إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر فحجَّ (6) بالناسِ تلك السنةَ (7) ، ثم أتبعه عليَّ بنَ أبي طالبٍ بسورةِ ((براءة))، فقرأها على الناسِ في الموسِمِ، ونبذ للناسِ عهدَهم، ونادى في الناس: ((ألاَّ يحجَّ بعدَ العامِ مشركٌ، ولا يطوفَ بالبيتِ عُريانٌ)). ووافقتْ حجةُ أبي بكرٍ - رضي الله عنه - في تلك السنةِ أن كانت في (8) شهرِ ذي القعدةِ (9) ؛ على ما كانوا يُديرون الحجَّ في (10) كلِّ شهرٍ من شُهورِ السنةِ (11) . فلما كانت سنةُ عشرٍ (12) حجَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حجَّته المسماةَ بـ((ـحجَّةِ الوداعِ))، على ما يأتي في حديثِ جابرٍ وغيرِه (13) . ووافق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تلك السنةَ أن وقع الحجُّ في ذي (14) الحجةِ، في زمانهِ ووقتِه الأصليِّ الذي فرضَه الله =(3/255)=@
__________
(1) قوله: ((كتاب الحج)) قبله في (ز): ((بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله)).
(2) في باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان.
(3) في (ي): ((زمن)).
(4) قوله: ((سنة ثماني سنين من الهجرة)) كذا في النسخ، والصواب: ((سنة ثمان من الهجرة)).
(5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/145) عن ابن جريج مرسلاً، وابن إسحاق في "السيرة" (4/500) بدون إسناد، وذكره خليفة بن خياط في "تاريخه" (92) نقلاً عن ابن إسحاق، وكذا البيهقي في "دلائل النبوة" (5/203).
(6) في (ي): ((حج)).
(7) خرَّجه البخاري في الصلاة (1/477-478 رقم369) باب ما يستر من العورة، وفي الحج (3/483 رقم1622) باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك، وفي الجزية والموادعة (6/279 رقم3177) باب كيف ينبذ إلى أهل العهد، وفي المغازي (8/82 رقم4363) باب حج أبي بكر بالناس في سنة تسع، وفي التفسير (8/317-320 رقم 4656 و4657) باب {وأذان من الله ورسوله إلى الناس...}، وباب {إلا الذين عاهدتم من المشركين}.
(8) في (ي): ((من)).
(9) كتب على هامش (ز) حاشية نصها: ((هذا غير ظاهر، يرده قوله تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر}والأذان وقع في ذي الحجة، وما يلزم عليه من وقوع الأحكام الشرعية في غير أوقاتها... النبي - صلى الله عليه وسلم - ...)).اهـ.
ومضمونها نفي أن تكون حجة أبي بكر وافقت ذي القعدة؛ لوقوع الأذان في الناس في حجة أبي بكر وسماه الله يوم الحج الأكبر، ولما يلزم عليه من وقوع الأحكام الشرعية غير أوقاتها. وقد ذكر مثل هذا الاعتراض ابن كثير في تفسيره، اعترض به على ما روي عن مجاهد وغيره من وقوع حجة أبي بكر في ذي القعدة قائلاً: وهذا الذي قال مجاهد فيه نظر... وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة، وأنى هذا وقد قال الله تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر...} وإنما نودي به في حجة أبي بكر فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى: {يوم الحج الأكبر} ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره من دوران السنة عليهم وحجهم في كل شهر عامين، فإن النسيء حاصل بدون هذا.اهـ. "تفسير ابن كثير" (4/93).
(10) في (ي): ((من)).
(11) ينظر: "تفسير الطبري" (4/148) في تفسير قوله تعالى: {ولا جدال في الحج} [البقرة: 197]. وفيه: عن مجاهد قال: ((إنهم كانوا يحجون في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، ثم وافقت حجة أبي بكر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي الحجة...)). وهذا التفسير اعترض عليه ابن كثير في تفسيره كما مر.
(12) قوله: ((سنة عشر)) موضعه في (ي) بياض بمقدار كلمة!.
(13) سيأتي في باب: في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(14) في (ز): ((ذ)).(3/255)
تعالى فيه؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السَّمواتِ والأَرْضَ»، وسيأتي لهذا مزيد بيان (1) .
وأجمع المسلمون على وجوب الحجِّ في الجملةِ، وأنه مرَّةٌ في العمرِ. ولوجوبِه شروطٌ؛ وهي: العقلُ، والبلوغُ، والاستطاعةُ، على ما يأتي تفصيلُها. وهذه الشروطُ هي (2) المتفقُ عليها، فأما الإسلامُ فقدِ اختَلفَ العلماءُ فيه: هل هو من شروطِ الوجوبِ؟ أو من شروطِ الأداءِ؟ وأما الحريةُ: فالجمهورُ على اشتراطِها في الوجوبِ، وفيها خلافٌ.
واختلف أصحابُ مالكٍ والشافعيِّ في وجوبِ الحجِّ: هل هو على الفورِ، أو على التراخي؟ فذهب العراقيون من أصحابِنا إلى أنه على الفورِ، وهو قولُ المزنيِّ، وأبي يوسفَ. وذهب أكثرُ المغاربةِ وبعضُ العراقيين إلى أنه على التراخي، وهو قولُ محمدِ بنِ الحسنِ. وكلُّهم قد (3) اتفقوا على أنه يجوزُ تأخيرُه السنةَ والسنتين.
وسببُ الخلافِ اختلافهُم في مطلقِ الأمرِ؛ هل يقتضي الفورَ، أو لا يقتضيه؟ وهذا الأصلُ يَنْكشف تحقيقُه (4) في علمِ الأصولِ. وأيضًا: فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أخَّر الحجَّ سنة ًبعدَ إيجابِه؛ كما قدمنا. والله أعلم (5) (6) .
ومن بابِ ما يجتنبُه المحرِمُ من اللِّباسِ
قولُه - صلى الله عليه وسلم - (7) - وقد سُئل عما يَلْبسُه الْمُحْرِمُ من الثيابِ-: «لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ...» الحديثَ؛ إنما أجاب - صلى الله عليه وسلم - بما (8) لا يُلْبَسُ، وإن كان قد سُئل عما يُلْبسُ؛ لأنَّ ما لا يَلْبَسُ الْمُحرِمُ منحصِرٌ، وما يَلْبَسُه غيرُ منحصرٍ، فعدل إلى المنحصرٍ فأجاب به، وقد أجمع المسلمون على أنَّ (9) ما ذكره في هذا الحديثِ لا يَلْبَسُه المحرمُ مع الرفاهةِ (10) والإمكانِ، وقد نبَّه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ بالقميصِ والسراويلِ على كلِّ مخيطٍ، وبالعمائمِ والبَرَانِس على كل ما يغطِّي الرأس؛ مخيطًا كان أو غيرَه (11) ، وبالخفافِ =(3/256)=@
__________
(1) في باب تحريم الدماء والأموال والأعراض، من كتاب القسامة.
(2) قوله: ((سنة عشر)) موضع في (ي) بياض بمقدار كلمة!.
(3) قوله: «قد» سقط من (ز).
(4) في (أ): ((حقيقه)) وفي (ز): ((حقيقته)).
(5) قوله: «والله أعلم» زيادة من (ز).
(6) يوثق ويعلق أصول فقه.
وكتب بجانبها "التمهيد" (16/163)، البزدوي (1/48)، السرخسي (1/26)، الشوكاني (1/178).
(7) (( - صلى الله عليه وسلم - )) ليس في (ز).
(8) في (أ): «لما».
(9) سقط من (أ).
(10) في (أ): ((الرفاهية)) وكلاهما صواب؛ الرفاهة من العيش، والرفاهية، والرُّفَهْنِيَةُ: السعة. "مختار الصحاح" (ص230).
(11) قوله: ((غيره)) في (ي): ((غير مخيط)).(3/256)
على كلِّ ما يَسترُ الرِّجْلَ مما (1) يلبسُ عليها، وأنَّ لباسَ هذه الأمورِ جائزٌ في غيرِ الإحرامِ.
وقولُه: «إلَا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيِلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» هذا الحديثُ ردٌّ على من قال: إن المحرمَ لا يقطعُ الخفَّين لأنه إضاعةُ مالٍ. وهذا مِنْ هذا (2) القائلِ حكمٌ بالعمومِ على الخصوصِ، وهو عكسُ ما يجبُ؛ إذ هو: إعمالُ المرجوحِ وإسقاطُ الرَّاجحِ، وهو فاسدٌ بالإجماعِ.
ثم مَنْ قال بإباحةِ قطعِ الْخُفِّ، فإذا لبسه مقطوعًا (3) فهل يلزمه الفديةُ، أم لا تلزمه (4) ؟ قولان: الأول لأبي حنيفةَ، والثاني: لمالكٍ، وهو الأولى؛ لأنه لو لزمته لبيَّنها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للسَّائلِ حين سأله؛ إذ ذاك محلُّ البيانِ ووقتُه، ولا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ بالإجماعِ، وأيضًا فحينئذٍ يكونُ قطعُ الْخُفِّ لا معنَى له؛ إذ الفديةُ ملازمةٌ بلباسِه غيرَ مقطوعٍ، فأما لو لبس الْخُفَّين المقطوعين مع وجودِ النعلِ لَلَزمَتْه (5) الفديةُ بلُبْسِهِمَا، فإنه إنما أباح الشارعُ له لباسَهما مقطوعين بشرطِ عدمِ النعلينِ، فلُبْسُهُما كذلك (6) غيرُ جائزٍ، هذا قولُ مالكٍ، واختلف فيه قولُ الشافعيِّ.
وقوله: «ولا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الوَرْسُ»؛ هذا مما (7) أجمعتِ (8) الأمَّةُ عليه؛ لأن الزَّعْفَرانَ والوَرْسَ من الطيبِ، واستعمالهُما ينافي َبَذاذةَ الحاجِّ، وشَعْثَهُ المطلوبَ منه، وأيضًا فإنهما من مقدِّماتِ الوطْءِ ومهيِّجاتِهِ، والمحرِمُ ممنوعٌ من الوطءِ ومقدِّماتِه. ويستوي في المنعِ منهما (9) الرِّجالُ والنِّساءُ. =(3/257)=@
__________
(1) في (ي): ((ما)).
(2) سقط من (ي).
(3) سقط من (أ) و(ز).
(4) في (ز): ((يلزمه)).
(5) في (ز): «للزمه».
(6) في (أ): «بذلك».
(7) في (ي): ((ما)).
(8) في (ز): «اجتمعت».
(9) في (ز): «منها».(3/257)
وعلى لابسِ ذلك الفديةُ عندَ مالكٍ وأبي حنيفة، ولم يرها (1) الثوريُّ، ولا الشافعيُّ، وإسحاق، وأحمد، إذا لبس ذلك ناسيًا. فأما المُعَصْفَرُ فرآه الثوريُّ وأبو حنيفة طيبًا كالمزعفرِ (2) ، ولم يره مالكٌ، ولا الشافعيُّ طيبًا. وكره مالكٌ المُفْدَمَ (3) منه، واختلف عنه: هل على لابسِهِ فديةٌ، أم لا؟ وأجاز مالكٌ سائرَ الثيابِ المصبَّغةِ (4) بغيرِ هذه المذكوراتِ، وكرهها بعضُهم لمن يُقتدى (5) به.
وقوله: «السَّراويلُ لمن لم يجدِ الإزارَ، والخُفَّانِ (6) لمن لم يجدِ (7) النعلين» قال بظاهرِه أحمدُ بنُ حنبل، فأباح لباسَ الْخُفِّ والسَّراويلِ لمن لم يجدِ النعلين والإزارَ، غيرَ مقطوعين (8) . والجمهورُ على أنه لا يَلْبَسُهما حتى يقطعَ الْخُفَّ، ويَفْتُقَ السَّراويلَ ويُصيِّره (9) كالإزارِ، فأما لو لبسهما (10) كذلك للزمتْه الفديةُ؛ ودليلُ صحةِ هذا التأويلِ: قولُه فيما تقدَّم في الْخُفِّ: «وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ»، والأصلُ المقرَّرُ: حملُ المطلَقِ على المقيَّدِ، ولا سيَّما إذا اتَّحدتِ القضيةُ. وحكمُ السَّراويلِ في (11) الفَتْقِ مُلْحَقٌ بالْخُفِّ في القطعِ؛ لمساقِهما مقترنين في الحديثِ، ولاستوائِهما في الشرطِ، ولشهادة ِالمعنى لذلك.
وقد تقدَّم في كتابِ الصلاةِ: أن الورسَ: نباتٌ أصفرُ يُصْبَغُ به (12) . =(3/258)=@
__________
(1) في (أ): «يراها».
(2) في (أ): «كالمعصفر».
(3) في (ز) و(ي): ((المقدم)) و"المُفْدَمُ" من الثياب: المشبَعُ حمرةً. "النهاية في غريب الحديث" (3/421)، و"اللسان" (12/450). وانظر: "المنتقى" (2/197)، و"التمهيد" (16/123).
(4) في (ي): ((المصبوغة)) ولعلها صوبها ((المصبغة)).
(5) مطموس في (ز).
(6) في (أ) و(ي): «والخفاف». والمثبت موافق لرواية "صحيح مسلم" و"التلخيص".
(7) في (أ): «لمن لا يجد» والمثبت في الموضعين موافق لما في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((لمن لا يجد)).
(8) في (أ): «غير المقطوعين».
(9) في (ز): «ويصره».
(10) في (ز): «لبسها».
(11) في (ي): ((من)).
(12) يوثق تقدمه.(3/258)
و«الجِعرَّانةُ»: ميقاتٌ من مواقيتِ العمرةِ، وفيه لغتان: التشديدُ في الراءِ، والكسرُ في العينِ، والتخفيفُ في الراءِ والإسكانُ في العينِ.
و«المتضمِّخُ»: المتدهِّنُ بالطِّيبِ. و«الخَلُوقُ»: - بفتحِ الخاءِ - أخلاطٌ من الطيبِ تُجمَعُ بالزَّعفرانِ. و«الغَطُّ» و«الغَطِيطُ»: هو صوتُ النَّفَسِ المتردِّدِ الذي يخرجُ من النائمِ، وهو البُهْرُ (1) الذي كان يغشاه - صلى الله عليه وسلم - عندَ معاينةِ الْمَلَكِ، وكانت تلك الحالةُ أشدَّ الوحْي عليه. و«سُرِّيَ عنه»: كُشِفَ عنه. و«آنفًا»؛ أي: الساعةَ. و«يُلْتَمَسُ (2) »: يُطْلَبُ.
وقولُه: «أَمَّا الطِّيبُ فَاغْسِلْهُ (3) » دليل على منع الْمُحْرِمِ من استعمالِ الطيبِ في جسدِه. ووجْهُ هذا المنعِ أن الطيبَ داعيةٌ من دواعي النكاحِ على ما قدمناه.
ولا خلافَ في منعِه من الطيب بعدَ تلبسُّهِ بالإحرامِ. واختُلفَ في استعمالِه قبلَ الإحرامِ، واستدامتهِ بعدَ الإحرامِ: فمنعَه مالكٌ تمسُّكًا (4) بهذا الحديثِ، وأجاز ذلك الشافعيُّ تمسُّكًا بحديثِ عائشةَ؛ قالت: كنتُ أُطيِّبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامِه قبلَ أن يحرمَ (5) . وفي أخرى: كأنِّي أنظرُ إلى وبيصِ (6) الطِّيبِ في مَفْرَقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم، واعتذر عن الحديثِ الأولِ بأن قال: إنما أَمَره بغسلِ ما عليه منه؛ =(3/259)=@
__________
(1) البُهْر: ما يعتري الإنسان عند السعي الشديد والعَدْو، من النهيج وتتابع النفس. "مشارق الأنوار" (1/165).
(2) يريد قوله في الحديث: ((فالْتُمِس الر جلُ)).
(3) الرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((أما الطيب الذي بك فاغسله)).
(4) في (ي): ((متمسكًا)).
(5) سيأتي في باب تطيب المحرم قبل الإحرام.
(6) الوبيص مثل البريق وزنًا ومعنًى؛ وهو اللمعان. "المصباح المنير" (ص333).(3/259)
لأنَّ ذلك الطيبَ كان زعفرانًا، وقد نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّجلَ عن التَّزَعْفُرِ (1) وإن لم يكن مُحْرِمًا. وهذا التأويلُ يأباه مساقُ الحديثِ، فتأمَّلْه.
وقد تأوَّل أصحابنُا حديثَ عائشةَ تأويلاتٍ؛ أقربهُا تأويلان:
أحدُهما: أن ذلك الوبيصَ الذي أبصرتْه عائشةُ - رضي الله عنها - إنما كان بقايا دهنِ ذلك الطيبِ، تعذَّر قلعُها، فبقيتْ بعدَ أن غُسِلت (2) .
وثانيهما: ما (3) قاله أبو الفرج من أصحابِنا: أن ذلك من خواصه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن المحرمَ إنما مُنِع من الطيبِ لئلَّا يدعوَهُ إلى الجماعِ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أملكُ الناسِ لإِرْبِه ؛ كما قالت عائشة - رضي الله عنها - (4) ، وقد ظهرتْ خصائصُه في بابِ النكاحِ كثيرًا (5) .
وقولُه: «فاغسلْه ثلاثَ مراتٍ» دليلٌ على المبالغِة في غسلِه، حتى يذهبَ ريحهُ وأثرُه، لا أَنَّ ((ثلاثًا)) حدٌّ في هذا البابِ. ويحتملُ: أنَّ ((ثلاثًا)) راجعٌ إلى تَكْرارِ قولِه: «فاغسلْه (6) »، فكأنه قال: اغسلْه، اغسلْه، اغسلْه (7) . يدلُّ على صحتِه ما قد رُوي من عادتهِ - صلى الله عليه وسلم - في كلامِه، فإنه كان إذا تكلَّم بكلمةٍ أعادها ثلاثًا (8) .
وقولُه: «وأما الجبةُ فانزِعْها» ردٌّ على الشَّعْبيِّ، والنَّخَعيِّ، حيث قالا: إن ذلك الثوبَ يُشَقُّ؛ لأنه إذا خلعه من رأسِه فقد (9) غطَّى رأسَه، والمحرِمُ ممنوعٌ من تغطيةِ رأسهِ. وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنا لا نسلِّمُ أن َّهذه التغطيةَ منهيٌّ عنها؛ لأنه (10) لا يَنْفَكُّ عن المنهيِّ إلا بها، فصار هذا الْخَلْعُ مأمورًا به، فلا يكونُ هو الذي نُهي عنه المحرمُ. ويَجْري هذا مَجْرى من حَلَفَ ألا يلبسَ ثوبًا هو لابسُه، ولا يركبَ دابةً هو راكبها (11) . وأيضًا: فإن هذه التغطيةَ لا يَنتفعُ بها؛ فلا تكونُ هي المنهيَّ عنها للمحرِمِ، فإنه إنما نُهي عن تغطيةٍ يَنتفعُ بها، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقولُه: «ثم اصنْع في عمرتِكَ ما تصنعُ في حَجِّكَ (12) »؛ هذا اللفظُ جاء في أكثرِ =(3/260)=@
__________
(1) في (ز): «المزعفر» وسيأتي في اللباس، باب ما جاء في صبغ الشعر والنهي عن تسويده والتزعفر.
(2) ذكر هذا التأويل الحافظ في "الفتح" (3/399) ولم ينسبه، وتعقبه قائلاً: ويرده قول عائشة: ((ينضخ طيبًا)) وسيأتي للشارح تأويل آخر نقله عن القاضي عياض في باب التطيب قبل الإحرام.
(3) قوله: «ما» سقط من (ز).
(4) تقدم في الصوم، باب ما جاء في القبلة للصائم.
(5) ذكر هذا التأويل عن أبي الفرج المالكي القاضي عياض في "الإكمال" (4/166) وذكره ابن العربي في "القبس" (2/205) غير منسوب، واستحسنه قائلاً: وهذا قول حسن قوي في النظر، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عنه من الآثار، وقامت عليه الأدلة من سائر الأخبار: ((حبب إليَّ من دنياكم ثلاث...)) الحديث، فلما أدخل الله عز وجل حبها في قلبه خصه بكل واحدة منها بفرضه... وخصه بالطيب بأن يتطيب وهو محرم...إلخ. قال الحافظ في "الفتح" (3/399) متعقبًا هذا التأويل: ((وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس)).
(6) في (ز): ((فاغسلوا)) ومن قوله: «حتى يذهب ريحه...» إلى هنا، سقط من (أ).
(7) سقط من (أ).
(8) أخرجه البخاري (94 و65 و6244)، وأحمد (13221)، والترمذي (2723)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " (ص92)، كلهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(9) سقط من (ز).
(10) من (ي): ((لأنك)).
(11) قوله: ((هو راكبها)) في (ي): ((هو عليها راكبها)).
(12) في (أ) و(ز): ((حجتك)) والمثبت موافق لرواية "صحيح مسلم" و"التلخيص".(3/260)
الرواياتِ (1) غيرَ مبيَّنِ المرادِ، ناقصًا، مقلوبًا. وقد تَخَبَّط فيه كثيرٌ مِمَّن تأوَّلَه على انفرادِه.
والذي يوضِّحُ المرادَ منه على غايتِه روايةُ ابنِ أبي عمرَ في "الأمِّ" (2) ؛ وفيها: أنَّ الرجلَ السَّائلَ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : إنِّي أَحْرمتُ بالعمرةِ وعليَّ هذا، وأنا مُتَضَمِّخٌ بالخلوُقِ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : «مَا كُنْتَ صَانِعًا في حَجِّكَ؟» قال: أَنزِعُ عنِّي هذه الثيابَ، وأغسلُ عنِّي هذا الخلوقَ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : «مَا كُنْتَ صَانِعًا في حَجِّكَ، فَاصْنَعْهُ في عُمْرَتِكَ» (3) . وهذا سياقٌ حسنٌ، ومعنًى واضحٌ، تلخيصه: أن الرجلَ كان يَعْرفُ: أن المحرمَ بالحجِّ يجتنبُ المخيطَ، والطيبَ، وظنَّ أنَّ حكمَ المحرمِ بالعمرةِ ليس كذلك، فَلَبِسَ، وتَطيَّب، ثم أحرم وهو كذلك، ثم وقع في نفسِه من ذلك شيءٌ، فسأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؛ فقال له: «مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ»؛ يعني: منِ اجتنابِ ما كنتَ تَجْتَنِبُه فيه (4) . وهذا معنًى واضحٌ، ومساقٌ حسنٌ للحديثِ، فَلْيُغْتَبَطْ به.
وقد يستدلُّ به للشافعيِّ (5) على قولِهِ: إنه لا فديةَ على المتضمِّخِ المحرمِ، ولا على اللابسِ (6) ؛ إذ لم يَرِدْ (7) في طريقٍ من طرقِ هذا الحديثِ أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بفديةٍ.
وقد اعتذر من يُلْزِمُه (8) الفديةَ على ذلك عن هذا الحديث (9) - وهو أبو حنيفة؛ فإنه يُلزمُها إيَّاه مطلقًا، ومالكٌ؛ وهو يلزمُها إيَّاه إذا انتفع بذلك =(3/261)=@
__________
(1) في (ي): ((الأوقات)).
(2) المقصود بالأم هنا: أصل "صحيح مسلم".
(3) "صحيح مسلم" (2/837 رقم1180).
(4) في (أ): «ما كنت فيه تجتنبه».
(5) في (أ): «الشافعي».
(6) قوله: ((على المتضمخ المحرم ولا على اللابس)) في (ي): ((على المتضمخ ولا على المحرم)).
(7) في (أ) و(ي): ((لم يرو)).
(8) في (أ) و(ي): «يلزم».
(9) قوله: ((عن هذا الحديث)) سقط من (ي).(3/261)
- فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أُوحيَ إليه في ذلك (1) ، ولا تقدَّم له (2) فيه بشيءٌ (3) ،، ولمالكٍ: بأنه لم يَطُلْ ذلك عليه ولم يَنتفعْ به. والله تعالى أعلم.
وَمِن بابِ المواقيتِ
قولُه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقَّتَ لأهلِ المدينةِ ذا الحليفةِ، ولأهلِ الشامِ الجحفةَ، ولأهلِ نجدٍ قَرْنَ المنازلِ، ولأهلِ اليمنِ يَلَمْلَمَ»، وفي حديثِ أبي (4) الزبيرِ: «ومُهَلُّ أهلِ العراقِ من ذاتِ عِرْقٍ» (5) .
معنى (6) ((وَقّت)): حدَّد وعيَّن، وظاهرهُ (7) يدلُّ على أن هذه الحدود لا يتعدَّاها مَنْ يريدُ (8) الإحرامَ حتى يُحرمَ عندَها، وقد أجمع المسلمون على أنَّ المواقيتَ مواضعُ معروفةٌ في الجهاتِ التي يُدْخَلُ منها إلى مكةَ:
فـ«ذ والحليفةِ»: ماءٌ من مياه بني جُشَمٍ، على ستةِ أميالٍ أو سبعةٍ من المدينةِ.
و«الجحفةُ»: بين مكةَ والمدينة، سُمِّي بذلك لأنَّ السُّيولَ أَجْحَفَتْ بما (9) حولَه، وهو على (10) ثمانيةِ مراحلَ (11) من المدينةِ. وسُمِّي (12) أيضًا: «مَهْيعَة» بسكونِ الهاءِ، وقال (13) بعضُهم: بكسرِها.
و«قَرْنُ المنازلِ» بسكونِ الراءِ، وقد فتحَها بعضُهم، والأولُ أَعْرفُ. وقال القابسيُّ: من قاله بالإسكانِ أراد الجَبَل، ومن فتح أراد الطريقَ الذي يقربُ (14) منه؛ فإنه موضعٌ فيه طرقٌ مختلفةٌ. ويُقالُ له أيضًا: قَرْنُ الثعالبِ. وهو جُبيلٌ مستطيلٌ (15) تلقاءَ مكةَ، بينه وبينها (16) أربعون ميلاً.
و«يَلَمْلَمُ»: جُبيلٌ (17) من جبالِ تِهَامةَ على ليلتين من مكةَ. ويقال فيه: « أَلَمْلَمُ» بالهمزِ.
وأما: «ذاتُ عِرْقٍ»: فثِنَيَّةٌ، أو =(3/262)=@
__________
(1) قوله: «في ذلك» سقط من (ز).
(2) سقط من (ي).
(3) في (أ) و(ي): «بشيء».
(4) في (ي): ((ابن)).
(5) سيأتي في هذا الباب.
(6) في (أ): «ومعنى».
(7) في (أ): «فظاهره».
(8) في (ز): «مريد».
(9) في (أ): «بها».
(10) في (ز): «عن».
(11) في (ي): ((أميال)). وانظر: "مشارق الأنوار" (1/168)، و"الإكمال" (4/169).
(12) كذا في (ي). وفي (أ) و(ز): ((وتسمي))، غير أنها لم تنقط في (أ). وقد قال القاضي عياض في "مشارق الأنوار" (1/168) و"الإكمال" (4/170) عن الجحفة: ((وهي قرية جامعة...)) فتعبير الشارح عنها بالمذكر، على إرادة ((الموضع)) أو ((المكان)).
(13) في (ي): ((وقاله)).
(14) كذا في جميع النسخ، والصواب ((يفترق))؛ كما في "الإكمال" (4/170)، و"مشارق الأنوار" (2/199). وما ذكره الشارح نص عبارة "الإكمال". وفي "المشارق": ((فإنه موضع فيه طرق مفترقة)) وفي "الإكمال" و"المشارق": ((من قاله بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع)).
(15) قوله: ((وهو جبيل مستطيل)) عبارة "الإكمال" و"المشارق": ((وأصله الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير)).
(16) في (أ): «وبينها وبينه».
(17) في (ي): ((جبل)).(3/262)
هَضْبَةٌ بينها وبين مكةَ يومان وبعضُ يومٍ.
فهذه مواقيتُ الحجِّ من المكانِ، لم يُخْتلفْ في شيءٍ منها إلا في ذاتِ عِرْقٍ، والجمهورُ على أنه ميقاتٌ لأهلِ العراقِ، وقد استحبَّ الشافعيُّ لأهلِ العراقِ أن يُهِلُّوا من العقيقِ (1) ، معتمدًا في ذلك على ما رواه (2) ابنُ عباسٍ قال: وَقَّتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأهلِ المشرقِ العقيقَ. خرَّجَه أبو داود (3) ، وفي (4) إسنادِه يزيدُ بن أبي زيادٍ، وهو ضعيفٌ عندهم. وروي عن بعضِ السَّلفِ: أنه الرَّبَذَةُ (5) .
واختُلف أيضًا فيمن وَقَّت ذاتَ عِرْقٍ؛ ففي البخاريِّ: أن عمرَ بنَ الخطابِ – رضي الله عنه - حَدَّ لأهلِ العراقِ ذاتَ عِرْقٍ (6) ، وقاله مالكٌ. وحديثُ أبي الزبيرِ عن جابرٍ يدلُّ على أنه بتوقيتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (7) ، غيرَ أنَّ فيه: «أَحْسَبُه» (8) فلم يَجْزِمْ بالروايِة (9) . وقد روى النَّسائيُّ (10) من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها - حديثَ المواقيتِ على نحوِ (11) ما جاء (12) في حديثِ ابنِ عمرَ المتقدِّمِ وقال: «وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» فجَزَم في الروايةِ، وهو صحيحٌ، ولا يُستبعدُ هذا بأنْ يقال: أن العراقَ إذ ذاك لم يكن فُتحَ؛ فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علم أنها ستُفتحُ، وسيُحَجُّ منها، فأَعْلم بذلك الميقاتِ (13) . وقد أَقْطَع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مواضعَ لقومٍ من المسلمين وملَّكهم إيَّاها، مع علمِه بأنها في (14) أيدي الكفارِ؛ بناءً منه على علمِه بأنها تُفتحُ، كما أقطع تميمًا الداريَّ بلدَ الخليلِ (15) ، وكتب له بذلك، وأشهد على نفسِه أصحابَه، على ما هو معروفٌ مرويٌّ، وبعضُ تلك المواضعِ لم تَزَلْ بأيدي عَقِبِه حتى الآن.
وقولُه: «هنَّ لهم (16) ولكلِّ آتٍ أتى عليهنَّ من غيرِ أهلهنَّ (17) » ((هنَّ)): ضميرُ جماعةِ المؤنثِ العاقلِ في الأصلِ، وقد يعادُ على ما لا يعقل، وأكثرُ ذلك في العشرةِ فدونَ، فإذا جاوزوها (18) قالوه بهاءِ المؤنثِ، كما قال تعالى: {إن عدة الشهور عند =(3/263)=@
__________
(1) العقيق: الوادي الذي شقه السيل قديمًا، وهو في بلاد العرب عدة مواضع، المقصود منها هنا: الذي يجري ماؤه من غَوْرَيْ تهامة، وأوسطه بحذاء ذات عرق. انظر: "المصباح المنير" (ص218)، و"الإكمال" (4/173)، "مشارق الأنوار" (2/108).
(2) في (غ): «روى».
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3/255 رقم14066) في الحج، باب في مواقيت الحج، وأحمد (1/344)، وأبو داود (2/355 رقم1740) في المناسك، باب المواقيت من طريق أحمد، والترمذي (3/194 رقم832) في الحج، باب ما جاء في مواقيت الإحرام لأهل الآفاق، والبيهقي (5/28) من طريق أبي داود،، جميعهم من طريق وكيع، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن ابن عباس قال: وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المشرق العقيق.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن».
وقد أعلَّه ابن القطان بالانقطاع، فقال في "بيان الوهم والإيهام" (2/559): «فه وكما ترى إنما عُهِدَ يَرْوي عن أبيه، عن جده، ولا أعلمه يروي عن جده إلا هذا الحديث، وأخاف أن يكون منقطعًا، ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم أنه يروي عن جده، وقد ذكرا أنه يروي عن أبيه. وقال مسلم في كتاب "التمييز": لا يعلم له سماع من جده، ولا أنه لقيه، فاعلم ذلك».اهـ.
وله علّة أخرى؛ قال الحافظ في "الفتح" (3/390): «تفرد به يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف». وقال الألباني في "الإرواء" (4/181): «والحديث عندي منكر؛ لمخالفته للأحاديث المتقدمة قريبًا عن عائشة، وجابر، وابن عمر في أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق».اهـ.
وأما الشيخ أحمد شاكر فقد ذهب إلى تصحيح الحديث في تعليقه على "المسند" (5/74-75 رقم3205) اعتمادًا منه على توثيق يزيد بن أبي زياد، والاتصال بين محمد بن علي وابن عباس.
(4) في (أ): ((في)).
(5) الرَّبَذة: موضع قريب من ذات عرق بينها وبين المدينة ثلاث مراحل. ينظر: "مشارق الأنوار" (1/305)، و"الإكمال" (4/173).
(6) البخاري (3/389 رقم1531) في الحج، باب ذات عرق لأهل العراق.
(7) قال الحافظ في "الفتح" (3/390): «وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم، إلا أنه مشكوك في رفعه، أخرجه من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا يسأل عن المهل، فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره. وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" بلفظ: فقال سمعت، أحسبه يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة، وابن ماجة من رواية إبراهيم بن يزيد؛ كلاهما عن أبي الزبير، فلما يشكَّا في رفعه، ووقع في حديث عائشة، وفي حديث الحارث بن عمر والسهمي، كلاهما عند أحمد وأبي داود والنسائي، وهذا يدل على أن للحديث أصلاً، فلعل من قال: إنه غير منصوص، لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخل وعن مقال؛ ولهذا قال ابن خزيمة: رويت في ذات عرق أخبار لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث. وقال ابن المنذر: لم نجد في ذات عرق حديثًا ثابتًا. انتهى. لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى كما ذكرنا».اهـ.
(8) في (أ): «حسبه».
(9) ؟؟؟.
(10) أخرجه أبو داود (2/354 رقم1739) في المناسك، باب في المواقيت، والنسائي (5/123 و125 رقم2653 و2656) في مناسك الحج، باب ميقات أهل مصر، وميقات أهل العراق، وابن عدي (1/417)، والدارقطني (2/236)، والبيهقي (5/28)،، جميعهم من طريق المعافى بن عمران، عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل اليمن يلملم.
قال ابن عدي: «قال لنا ابن صاعد: كان أحمد بن حنبل ينكر هذا الحديث مع غيره علي أفلح بن حميد، فقيل له: يروي عنه غير المعافى؟ فقال: المعافى بن عمران ثقة. قال ابن عدي: «وأفلح بن حميد أشهر من ذاك، وقد حدث عنه ثقات الناس؛ مثل ابن أبي زائدة، ووكيع، وابن وهب وآخرهم القعنبي، وهو عندي صالح، وأحاديثه أرج وأن تكون مستقيمة كلها، وهذا الحديث يتفرد به معافى عنه. وإنكار أحمد على أفلح في هذا الحديث قوله: ((ولأهل العراق ذات عرق))، ولم ينكر الباقي من إسناده ومتنه شيئًا».اهـ.
قال الألباني في "الإرواء" (4/177): «ولا وجه عندي لهذا الإنكار أصلاً، فإن أفلح بن حميد ثقة إتفاقًا، واحتج به الشيخان جميعًا، فل وروى ما لم يروه غيره من الثقات لم يكن حديثه منكرًا ولا شاذًّا، فقد قال الإمام الشافعي في الحديث الشاذ: وهو أن يروي الثقة حديثًا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم ير وغيره. فهذا الحديث عن عائشة تفرد به القاسم بن محمد عنها فلم يكن شاذًّا؛ لأنه لم يخالف فيه الناس، وتفرد به أفلح بن حميد عنه فلم يكن شاذًّا كذلك، ولا فرق، فكيف والحديث له شواهد تدل على حفظ أفلح وضبطه؟!».اهـ.
والحديث قال عنه الذهبي في "الميزان" (1/274): «صحيح غريب».
(11) قوله: «نحو» سقط من (ز).
(12) قوله: «جاء» سقط من (ي). ولم يتضح من لحق في حاشية (أ).
(13) قال القاضي في الإكمال (4/169): ((وهذا يعد من معجزاته عليه السلام؛ فإنه أخبر أنه سيكون لهم مهل، ويسلمون ويحجون)).
(14) قوله: ((في أيدي)) في (ي): ((قرابة أيدي)).
(15) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/720-721 رقم330) الطبقة الرابعة من الصحابة وأورده دون إسناد أبو يوسف في "الخراج" (414)، وأورده البلاذري (ص153) قريبًا منه، وابن زنجويه في "الأموال" (2/617) مثله عن الهيثم بن عدي، وهو متروك، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (3/536)، وأورده أبو عبيد في "الأموال" (ص288) بنحوه؛ أخبرنا إسماعيل بن عبدالله بن أبي أويس، قال: حدثني إسماعيل بن عبدالله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم مولى ابن جدعان - وهو ابن بنت محمد بن هلال بن أبي هلال المحدث - عن أبيه، عن جده؛ أن كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتميم بن أوس الداري: «أن عينون، قريتها كلها، سهلها وجبلها وماءها وحرثها وكرومها وأنباطها وثمرها، له ولعقبه من بعده، لا يحاقه فيها أحد، ولا يدخله عليهم بظلم، فمن أراد ظلمهم أو أخذه منهم، فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وكتب علي». وهذا لفظ ابن سعد، وإسناده ضعيف؛ فيه إسماعيل بن عبدالله بن خالد بن سعيد مولى ابن جدعان؛ قال أبو حاتم: أرى في حديثه ضعفًا، وهو مجهول.
وأخرج بمعناه الطبراني في "المعجم الكبير" (2/58 رقم1279) وزاد: فجعل عمر رضي الله عنه ثلثها لابن السبيل، وثلثًا لعمارتها، وثلثًا لنا.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/626): «ورجاله ثقات».
(16) في (أ): «لهن»، وهي رواية في "صحيح مسلم"، والأول (1181) (11) قال القاضي في "الإكمال" (4/172): كذا جاءت به الرواية في الصحيحين وغيرهما عند أكثر الرواة... وقد تخرج ((لهن)) على المواضع والأقطار المذكورة، قبل. والمثبت رواية مسلم (1181) (12) وهي التي أوردها الشارح في "التلخيص". وانظر: "أعلام الحديث" للخطابي (2/834- 835).
(17) الرواية في "الصحيح" و"التلخيص": ((هن لهم ولكل آتٍ أتى عليهن من غيرهن وفي رواية: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)).
(18) في (ز): «جاوزها».(3/263)
الله اثنا عشر شهرًا} (1) ، ثم قال: {منها أربعة حرم}، ثم قال: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم}.
ومعنى ذلك الكلام: أنها محدودة؛ لا (2) يتعداها أحد يريد الإحرام بأحد النُّسُكَين.
واختُلف فيمَنْ مرَّ على واحدٍ من هذه المواقيتِ مريدًا للإحرامِ فجاوزه؛ فعن مالكٍ: يرجعُ ما لم يُحرمْ أو يشارفْ مكةَ، فإذا رجع لم يلزمْه دمٌ، فلو أحرم لم يرجعْ ولزمه الدمُ، وبه قال ابنُ المباركِ، والثوريُّ على خلافٍ عنه. وجماعةٌ من الفقهاء، منهم أبو حنيفةَ، يأمرونه بالرجوعِ؛ فإن رجع سقط عنه الدم (3) .
فأما مَن جاوز الميقاتَ غيرَ مريدٍ للإحرامِ، ثم بدا له في النسكِ، فجمهورُ العلماءِ على أنه يُحرمُ من مكانِه، ولا شيءَ عليه. وقال أحمدُ، وإسحاقُ: يرجعُ إلى الميقاتِ.
فأما مَن مرَّ على الميقاتِ قاصدًا دخولَ مكةَ من غيرِ نسكٍ، وكان ممَّن لا يتكرَّرُ دخولُه إلى مكةَ، فهل يلزمُه الإحرامُ منه (4) ؟ أو لا يلزمُه؟ وإذا لم يلزمْه، فهو على الاستحبابِ، ثم إذا لم يفعلْه، فهل يلزمُه دمٌ أو (5) لا يلزمُه؟ اختلف فيه أصحابُنا.
وظاهرُ الحديثِ: أنه إنما يلزمُ الإحرامُ مَنْ أراد مكةَ لأحدِ النُّسكين خاصةً، وهو مذهبُ الزهريِّ، وأبي مصعبٍ، وجماعةٍ من أهلِ العلمِ.
وقولُه: «فَمَنْ (6) كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ»؛ أي: مَنْ كان منزلُه دونَ المواقيتِ إلى مكةَ فيُحرمُ من منزلِه، فخفَّف عنه الخروجَ إلى الميقاتِ، وحينئذٍ (7) يصيرُ منزلُه ميقاتًا خاصًّا به؛ إذا ابتدأ الإحرامَ منه. فلو مرَّ مَنْ مَنْزلُهُ بعدَ المواقيتِ بميقاتٍ من المواقيتِ المعينةِ العامةِ، وهو يريدُ الإحرامَ، وجب عليه أن يحرمَ منه، =(3/264)=@
__________
(1) سورة التوبة؛ الآية: 36.
(2) في (ز): ((فلا)).
(3) اشترط أبو حنيفة أن يلبي في رجوعه إلى الميقات، فإن لبى سقط عنه الدم، وإن لم يلبِّ لم يسقط. وانظر: "الإكمال" (4/174)، و"الاستذكار" (11/84)، و"بدائع الصنائع" (2/265).
(4) سقط من (ي).
(5) في (ز): «أم».
(6) في "الصحيح" و"التلخيص": ((ومن)).
(7) في (ز): «فحينئذ».(3/264)
ولا يؤخرَ الإحرامَ إلى بيتهِ؛ لقولِه - صلى الله عليه وسلم - : «هُنَّ لَهُمْ (1) ، ولكلِّ آتٍ أَتَي عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ»، ويخالفُ هذا من كان ميقاتُه الجحفةَ ومرَّ بذي الحليفةِ؛ فإنَّ له أن يؤخرَ الإحرامَ إلى الجحفةِ؛ لأن الجحفةَ ميقاتٌ منصوبٌ نصبًا عامًّا، لا يتبدَّل، بخلافِ المنزلِ، فإنه إضافيٌّ (2) ، يتبدلُ بتبدُّلِ (3) الساكنِ؛ فانفصلا. والله تعالى أعلم.
وقوله: «حتَّى أهلُ مكةَ من مكةَ»؛ يعني: أنهم يُهِلُّون (4) منها، ولا يَخرجون إلى ميقاتٍ من المواقيتِ المذكورةِ.
فأما الإحرامُ بالحجِّ فيصحُّ من البلدِ (5) نفسهِ، ومن أيِّ موضعٍ كان من الحلِّ أو الحرم (6) . وأما العمرةُ فلا بدَّ فيها من الجمعِ بين الحلِّ والحرمِ والله أعلم (7) . =(3/265)=@
__________
(1) في (ز): «لكم» وفي (أ): ((لهن)) ومر أن ((هن لهن)) رواية أكثر رواة الصحيحين، و((هن لهن)) رواية عند مسلم وغيره.
(2) سقط من (ز).
(3) قوله: «بتبدل» سقط من (أ).
(4) في (ز): ((مهلون)).
(5) في (ي): ((المدينة)).
(6) قوله: ((أو الحرم)) في (ز): ((والحرم)).
(7) قوله: «والله أعلم» زيادة من (أ).(3/265)
ومن بابِ الإحرامِ والتلبيةِ
قولُه: «يُهِل مُلَبِّدًا (1) »؛ أي: يرفعُ صوتَه بالتلبيةِ. وأصلُ الإهلالِ: رفعُ الصوتِ عندَ رؤيةِ الهلالِ، ثم يُقالُ لكلِّ من رفع صوتَه: أَهَلَّ. والتلبيدُ: هو ضَفْرُ (2) الرأسِ بالخَطْمِيِّ، أو الصَّمْغِ (3) وشِبْهِهِ مما يَضُمُّ الشعرَ ويُلزِقُ بعضَه ببعضٍ؛ ليصيرَه (4) كاللِّبْدِ، يمنعُه بذلك من التَّمَعُّطِ (5) والتقمُّلِ، وفعلُه جائزٌ، وهو مستحبٌّ لمن يريدُ الحج أو العمرةَ (6) ؛ قاله عياضٌ (7) .
و«الإحرامُ» هو: اعتقادُ دخولِه في أحدِ النسكينِ، ويقارنه (8) أقوالٌ: وهي: التلبيةُ، وأفعالٌ؛ منها: انبعاثُ الراحلِة، على ما يأتي.
فأما (9) التلبيةُ: فاختُلف في حكمِها؛ فالجمهورُ على أنها ليست بركنٍ من أركانِ الحجِّ، ولا شَرطًا (10) من شروطِه، لكنها سنةٌ مؤكَّدةٌ يلزمُ بتركِها الدَّمُ. ومن أصحابِنا من عبَّر عنها بأنها واجبةٌ، ومرادُه ما ذكرناه (11) . وأبو حنيفةَ يعتقدُها ركنًا وشرطًا في صحةِ الحجِّ كالتكبيرِ في إحرامِ الصلاةِ، وقالَه ابنُ حبيبٍ من أصحابِنا، إلا أنَّ أبا حنيفةَ على أصلِه في أنه: يجزئُ منها (12) ما في معناها من التسبيحِ والتهليلِ وذكرِ الله تعالى؛ كما قاله في التكبيرِ.
وحكمةُ مشروعيِة التلبيةِ: إجابةُ الدَّاعي الذي دعا إلى الحجِّ؛ وهو إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ قال الله تعالى له (13) : {وأذن في الناس بالحج} (14) ، فصَعِدَ عرفةَ، فنادى: «أَلَا إِنَّ لله بَيْتًا فَحُجُّوهُ» (15) ، فبلَّغ الله تعالى دعوتَهُ كيف شاء، وعلى لسانِ نبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وأوجبَه على المستطيعين.
فأما «لبيك»: فسيبويهِ وأكثرُ النحويين على أنَّه مثنًّى =(3/266)=@
__________
(1) في (ز): «ملبيًا».
(2) في النسخ: ((ظِفر))، والصواب المثبت.
(3) قوله: ((أو الصمغ)) في (أ): «الصبغ». والخطمي: ضرب من النبات يغسل به الرأس. والصمغ: شيء ينضحه الشجر ويسيل منها وصمَّغ رأسه بالصمغ تصميغًا، مثل: لبَّده به ينظر "لسان العرب" (12/188)، (8/441)، و"المصباح" (ص181).
(4) في (ز): «ليصير».
(5) في (ز): ((التمغط)) والتمعط: تساقط الشعر. "المصباح المنير" (ص297).
(6) قوله: في (أ): «والعمرة».
(7) "الإكمال" (4/180).
(8) في (ي): ((وتقارنه)).
(9) في (ي): ((وأما)).
(10) في (ز): ((شرط)). وكلاهما صواب؛ فـ((شرطًا)) عطف على محل ((ركن)) و((شرط)) عطف على لفظها.
(11) في (ز): «ذكرنا».
(12) سقط من (أ).
(13) سقط من (أ).
(14) سورة الحج؛ الآية: 27.
(15) أخرجه ابن أبي شيبة (6/334 رقم31809)، وابن جرير في تفسيره (18/ 605)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/2486-2487) إلا أنه قال: عن ابن عباس، ولم يذكر من قبله، والحاكم (2/388-389)، والبيهقي (5/176)؛ جميعهم - ما عدا ابن أبي حاتم - من طريق قابوس؛ وهو ابن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت العتيق، قيل له: أذن في الناس بالحج، قال: رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعليّ البلاغ. قال: فقال إبراهيم عليه السلام: يأيها الناس ! كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، قال: فسمعه ما بين السماء إلى الأرض، ألا ترى أن الناس يجيئون من أقاصي الأرض يلبون. وهذا لفظ ابن أبي شيبة.
قال الحاكم عقب الحديث: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».اهـ.
وقد جاء معناه عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف.
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/409): «والأسانيد إليهم قوية، وأقوى ما فيه: عن ابن عباس ما أخرجه أحمد بن منيع في "مسنده"، وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عنه»، وذكر الحديث.اهـ.(3/266)
للتكثيرِ والمبالغِة، ومعناه: إجابةً بعدَ إجابةٍ، وليس على حقيقةِ التثنيةِ. وذهب يونسُ بنُ حبيبٍ (1) إلى أنها اسمٌ مفردٌ (2) ، وليس بمثنًّى، وأَن أَلِفَهُ انقلبتْ ياءً لاتصالِها بالضميرِ على حدِّ: ((لدى)) (3) .
واختلفوا في اشتقاقها، فقيل: هي مأخوذةٌ من قولِهم: ((داري تَلُبُّ دَارَكَ)))؛ أي: تُواجُهها؛ فكأن (4) الملبِّي قد تَوجَّه لمن دعاه وقصدَه. وقيل من قولهم: امرأةٌ لَبَّةٌ: إذا كانت محبةً لولدِها (5) عاطفةً عليه. وقيل: من لُبِّ الشيء؛ وهو خالصًه. وقيل: من لَبَّ بالمكانِ، وَأَلبَّ؛ أي: أقام ولزم. قال ابنُ الأنباريِّ: وإلى هذا كان يذهبُ الخليلُ (6) . وقيل: من الإلباب، وهو: القربُ؛ قاله الحربي. وقيل: من قولِهم: أنا مُلبٌّ (7) بين يديك؛ أي: خاضعٌ (8) .
وتكرارُها ثلاثًا: توكيدٌ.
وقولُه: «إِنَّ الحمدَ والنعمةَ لك»؛ رويناها (9) بكسر «إن» وفتحِها، وهما روايتان مشهورتان عند أهلِ التقييدِ واللسانِ. قال الخطابيُّ: الفتحُ روايةُ العامةِ. قال ثعلبٌ: من فَتَحَ خَصَّ، ومن كَسَرَ عَمَّ (10) . والاختيارُ: الكسر؛ لأن الذي يكسِرُ يذهبُ إلى أنَّ المعنى: إن الحمدَ لله (11) على كلِّ حالٍ. والذي يفتحُ يذهب (12) إلى أنَّ المعنى (13) : لبيك لهذا السبب؛ يعني: أنَّ ((لبيك)) عَمِلَ فيها بواسطةِ لامِ الجرِّ السببيةِ، ثم حُذفَ حرفُ (14) الجرِّ لدلالةِ الكلامِ (15) .
والكلامُ على ((سَعْدَيْكَ)) مثلُه على ((لبيك)) إلا في الاشتقاقِ. ومعناها: سَاعَدْتُ يا ربِّ طاعتَكَ مساعدةً بعدَ مساعدةٍ. وقال ابنُ الأنباريِّ: معناه (16) : أَسْعدكَ اللهُ إسعادًا بعدَ إسعادٍ (17) .
وقوله: «والخير بيديكَ (18) »؛ قد تقدم الكلامُ عليه (19) . و«الرَّغْبَاءُ» بفتحِ الراءِ والمدِّ، وبضمِّ الراءِ والقصرِ هي الرغبةُ. ونظيرُها: العَلْياء، والعُلْيا. والنُّعمى والنَّعماءِ، ويعني بـ «العملِ»: أعمالَ الطاعاتِ (20) . أي: لا نعملُ إلا للهِ وحدَه. =(3/267)=@
__________
(1) قوله: «بن حبيب» سقط من (ز).
(2) في (ي): ((معرف)) ويبدو أنه صوبها.
(3) "الكتاب" (1/352- 354)، و"الزاهر" (1/99)، "سر صناعة الإعراب" (2/744- 748).
(4) في (ي): ((وكأن)).
(5) في (أ): «محبة ولدها».
(6) ينظر: "الزاهر" (1/99- 100).
(7) يراجع، نقلها عن القاضي (4/177)، والنووي في شرحه (8/87)، و"المجموع" (7/219)، وذكره القاضي في "المشارق" (1/353)، وابن القيم في "الحاشية" (5/178)، والزيلعي في "تبيين الحقائق" (2/10).
(8) انظر هذه المعاني والأقوال في اشتقاق ((لبيك)) في "الزاهر" (1/99- 101)، "تهذيب اللغة" (15/336- 337) "تاج العروس" (2/393- 392)، و"اللسان" (1/731- 732).
(9) في (ز): «ورويناها».
(10) ينظر: "معالم السنن" للخطابي (2/235).
(11) قوله: «لله» ليس في (ز).
(12) سقط من (ز).
(13) في (ي): ((معنى)).
(14) سقط من (ز).
(15) هذا بقية كلام ثعلب، نقله ابن الأنباري في "الزاهر" (1/101- 102)، وابن عبد البر في "الاستذكار" (11/93- 94).
(16) في (غ): «ومعناه». [هذه الحاشية شطبت من الحاشية وبقى الرقم في أعلى الصفحة كما هو]
(17) ينظر: "الزاهر" (1/103) ونقله الأزهري عنه في "تهذيب اللغة" (2/70) وذكر قبله قول ابن السكيت: إن معناه: ((إسعادًا لأمرك بعد إسعاد)). وقول ثعلب: ((أي: مساعدة لك ثم مساعدة وإسعادًا لأمرك بعد إسعاد)).
وقال الأزهري: ((وأصل الإسعاد والمساعدة متابعة العبد أمر به. ثم قال: والقول ما قال أ[و العباس (ثعلب) وابن السكيت؛ لأن العبد يخاطب ربه ويذكر طاعته له ولزومه أمره، فيقول: ((سعديك)) كما يقول ((لبيك)) أي: مساعدة لأمرك بعد مساعدة.
(18) الرواية في مسلم والتي ذكرها الشارح في "التلخيص": ((والخير في يديك)) و((الخير بيديك)) رواية أخرى في "صحيح مسلم" برقم (1184) (19).
(19) تقدم في كتاب الإيمان، باب: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شطر الجنة.
(20) قوله: ((أعمال الطاعات)) في (ي): ((أعمال الصالحات)).(3/267)
وقولُه: «كان رسولُ الله (1) - صلى الله عليه وسلم - يركعُ بذي الحليفةِ ركعتين» هاتان الركعتان للإحرامِ؛ ولذلك قلنا: إنَّ من مشروعيِة الإحرامِ أن يكونَ بعدَ صلاةٍ، فإن كانتْ للإحرامِ فهو أفضلُ، وإن أحرم بعدَ فريضةٍ جاز. واستحبَّ الحسنُ أن يحرمَ بعدَ فريضةٍ؛ لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاةَ الصبحِ (2) . والأولُ أظهرُ. وإحرامُه بعدَ صلاةِ الفرضِ أفضلُ منه بغيرِ صلاةٍ جملةً (3) ، ولا دمَ على من أحرمَ بغيرِ صلاةٍ عندَ مالكٍ.
وقوله: «ثم استوتْ (4) به الناقةُ قائمةً عندَ مسجدِ ذي الحُليفةِ، أهلَّ بهؤلاءِ الكلماتِ»؛ إشارةٌ إلى التلبيةِ المتقدِّمةِ، وهذه الحالةُ هي التي عبَّر عنها في الرواياتِ الأُخَرِ (5) بانبعاثِ الراحلةِ، لا أنها (6) أخذت في المشيِ. وبذلك أخذَ مالكٌ وأكثرُ العلماء؛ أنه يُهِلُّ إذا استوت به راحلتُه إن كان راكبًا، ويتوجَّهُ بعد ذلك، وإن كان راجلاً فحين يأخذُ في المشيِ. وقال الشافعيُّ كذلك في الراكبِ إلا أنه ينتظرُها (7) =(3/268)=@
__________
(1) قوله: «رسول الله» ليس في (ز).
(2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (1546) من حديث أنس: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة، فلما ركب راحلته واستوت به أهل. فظاهر أنه بعد صلاة الفجر.
(3) سقط من (ز).
(4) قوله: ((ثم استوت)) كذا في النسخ، والصواب: ((ثم إذا استوت))؛ كما هو في "صحيح مسلم" و"التلخيص".
(5) سيأتي في باب بيان المحل الذي أهلَّ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(6) في (ز): «لأنها».
(7) في (ي): ((ينتظر)).(3/268)
حتى تنبعثَ. وقال أبو حنيفةَ: إذا سلَّم من الصلاةِ أهلَّ. على ما جاء في حديثِ ابنِ عباسٍ؛ أنه أحرم من المسجدِ بعدَ أن صلَّى فيه (1) ، وأوجبَه في مجلسِه (2) .
ولا شكَّ في أنَّ الأحسنَ في لفظِ التلبيةِ تلبيةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتجوزُ الزيادةُ عليها، كما زاد ابنُ عمرَ، ول ولبَّى ملبٍّ بغيرِ تلبيةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُنكَرْ عليه، وقد كان أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يلبِّي منهم الملبِّي، فلا يُنْكَرُ عليه، ويُهِلُّ المهلُّ، فلا يُنْكَرُ عليه، على ما يأتي في حديثِ جابرٍ (3) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمشركين عند تلبيتِهم بالتوحيدِ: «قد، قد»؛ أي: حسبُكم التوحيدُ، ينهاهم عن الشِّركِ (4) . ويقال: ((قَطْ، قَطْ))، ((وقَدْ، قَدْ)) بالسكونِ، وهي اسمٌ من أسماءِ الأفعالِ، بمعنى: حَسْبُ (5) . والله أعلم (6) . =(3/269)=@
__________
(1) سقط من (ي).
(2) قوله: ((في مجلسه)) سقط من (ي) وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (1/260)، وأبو داود في "سننه" (2/372 رقم1770) كتاب المناسك، باب في وقت الإحرام ،والحاكم في "المستدرك" (1/451)، والبيهقي في "الكبرى" (5/37).
كلهم من طريق ابن إسحاق قال: حدثني خصيف بن عبدالرحمن الجزري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به مطولاً، وفيه: «فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه».
تنبيه: قال الحافظ في"النكت الظراف" (4/412): «أخرجه أبو محمد بن الجارود، عن عبيدالله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، عن عمه، وهو يعقوب بن إبراهيم بن سعد، الذي في سند أبي داود، فزاد في السند رجلاً؛ قال: عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح؛ أنه حدثه عن خصيف - رجل من أهل الجزيرة من صالحي الناس - حدثنا عن سعيد بن جبير انتهى. وقد أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن ابن إسحاق قال: حدثني خصيف، وكذا أخرجه دعلج من رواية عباد بن العوام، ثنا ابن إسحاق، ثنا خصيف، فلعل ابن إسحاق سمعه من خصيف بعد أن سمعه من ابن أبي نجيح عنه.انتهى. وهو كلام الحافظ، ولم أقف على رواية ابن الجارود في "المنتقى".
وخرَّجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/128 رقم12743) كتاب الحج، باب من كان يستحب أن يحرم في دبر الصلاة، والإمام أحمد أيضًا (1/285)، والدارمي في "سننه" (2/33-34) كتاب المناسك، في أي وقت يستحب الإحرام، والترمذي (5/182 رقم819) كتاب الحج، باب ما جاء متى أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والنسائي (5/162 رقم2754) كتاب مناسك الحج، العمل في الإهلال، والبيهقي في "الكبرى" (5/37). كلهم من طريق عبدالسلام بن حرب، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به، مختصرًا؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل في دبر الصلاة.
وخرَّجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/123 رقم3550) من طريق عبدالسلام به مطولاً.
وقد خالف معمرٌ ابنَ إسحاق وعبدالسلام، فرواه عن خصيف، عن سعيد بن جبير مرسلاً؛ أخرجه عبدالرزاق عنه، قال الحافظ في "النكت الظراف" (4/413): «وقد تابع خصيفًا الواقديُّ كما أشار إلى ذلك البيهقي في "سننه" - (5/37) -**** فقال: خصيف الجزري غير قوي، وقدر رواه الواقدي بإسناده له عن ابن عباس إلا أنه لا تنفع متابعة الواقدي».اهـ. ولم أقف على رواية معمر ولا رواية الواقدي مسندة.
والحديث قال الترمذي عقب روايته: «هذا حديث حسن غريب؛ لا نعرف أحدًا رواه غير عبدالسلام بن حرب».اهـ. وقال الحاكم في "المستدرك": «هذا حديث صحيح على شرط مسلم مفسر في الباب، ولم يخرجاه». ولم يتعقبه الذهبي بشيء.
وقال المنذري في "مختصر السنن" (2/298 رقم1696): «في إسناده خصيف بن عبدالرحمن الحراني؛ وهو ضعيف، وفي إسناده أيضًا محمد بن إسحاق».اهـ.
وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" معقبًا على كلام البيهقي السابق: هذا الحديث أخرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: على شرط مسلم. وأخرجه أبو داود في "سننه" وسكت عنه. وفي "شرح المهذب" للنووي: قد خالف البيهقي في خصيف كثيرون من الحفاظ والأئمة المتقدمين في هذا الشأن فوثقه يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل وأبو حاتم وأبو زرعة ومحمد بن سعد، وقال النسائي: صالح.اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/118): ((في إسناده ضعف)). وقال في موضع آخر (5/120): فهذه الطرق عن ابن عباس من أنه - صلى الله عليه وسلم - أهل حين استوت به راحلته أصح وأثبت من رواية خصيف عن سعد بن جبير والله أعلم.اهـ.
وقال الشيخ أحمد شاكر في "حاشيته على المسند" (رقم2358): ((إسناده صحيح... وخصيف ثقة كما رجحنا في (1831).اهـ. وجاء للحديث شاهد من حديث أنس خرجه الدارمي في "سننه" (2/34) كتاب المناسك، في أي وقت يستحب الإحرام من طريق النضر بن شميل عن أشعث عن الحسن، عن أنس به.
ورواه البزار في "مسنده" كما في "كشف الأستار" (2/12) من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أنس به.
وقال البزار عقبه: ((لم نسمعه من أحد يحدث به عن معاذ إلا عبد الله بن محمد وهو ختن معاذ بن هشام وإنما يروى هذا عن قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس.اهـ.
قلت: وحديث قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (1/254، 280، 339، 347) قال: صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنته فأشعر صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها وقلّدها النعلين ثم دعا براحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج.
وفي المعنى أيضًا ما أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/128 – رقم12744) كتاب الحج، من كان يستحب أن يحرم في دبر الصلاة من حديث حفص عن عمرو، عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم في دبر صلاة الظهر.
(3) سيأتي في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(4) في (ز) و(ي): «الشريك».
(5) قوله: ((اسم من أسماء الأفعال بمعنى حَسْبُ)) فيه نظر؛ فإن ((حسب)) اسم، وإنما يفسر اسم الفعل بفعلٍ. والتحقيق أن ((قَدْ)) المخففة قسمان حرفية واسمية، والاسمية على وجهين اسم فعل، مرادفة ((ليكفي)) وهي بمنزلة الفعل الذي تنوب عنه، فتلحقها نون الوقاية تقول: قَدْ زيدًا درهمٌ. وقَدْنِي درهمٌ)).
والوجه الثاني: اسمٌ مرادفٌ لـ((حسب)) وتستعمل مبنية على السكون عند البصريين؛ تقول: قَدْ زيدٍ درهمٌ، وقَدي درهمٌ. وهي معربة عند الكوفيين، تقولوا: قُدُ زيدٍ درهمٌ.انتهى. مخلصًا من "تاج العروس" و((قط)) نحوها. ينظر: "تاج العروس" (5/181)، (10/384).
(6) قوله: «والله أعلم» زيادة من (ز).(3/269)
ومن (1) بابِ بيانِ المحلِّ الذي أَهلَّ منه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
قولُه: «بيداؤكم هذه التي تَكذبون فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » البيداءُ: القَفْرُ (2) الخالي عن العامرِ، وتُسمَّى (3) ((مفازةٍ)) على جهةِ التفاؤلِ، وهي مُهْلَكَةٌ (4) . وكلُّ مفازةٍ بيداءُ، والجمعُ: بِيدٌ. وهي هنا: عبارةٌ عن المفازةِ التي (5) بين مكةَ والمدينةِ، أولهَا شَرَفٌ مرتفعٌ قريبٌ من مسجِد ذي الحليفةِ، والشجرةُ هناك. وهذه المواضعُ كلُّها =(3/270)=@
__________
(1) سقط من (ي).
(2) قوله: ((البيداء القفر)) في (ز): ((البيد الفقر)).
(3) في (ز): ((ويسمى)).
(4) وفي "المصباح المنير" (ص250): والمفازة: الموضع المهلك، مأخوذة من ((فَوَّز)) بالتشديد: فإذا مات؛ لأنها مظنة الموت. وقيل: من ((فاز)): إذا نجا وسلم، وسميت به تفاؤلا بالسلامة.
(5) سقط من (ز).(3/270)
متقاربةً.
و«تكذبون (1) » هنا: تخطئون (2) . والكذبُ: الإخبارُ عن الشيءِ على خلافِ ما هو عليه: فإن كانَ مع العمدِ (3) فهو الكذبُ المذمومُ، وإن كان مع السَّهو والغلطِ فهو الخطأُ. وقصدُ ابنِ عمرَ بإطلاقِ الكذبِ على هذا؛ ليتثبتَ (4) الناقلُ أو المفتي (5) ، حتى لا يقولَ أحدٌ إلا ما يتحقَّقُ (6) صحتَه، ووجهَهُ.
وقد اختلفَ النقلَةُ في مُهَلِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال قائلٌ: إنه أهلَّ من المسجدِ بعدَ أن صلَّى ركعتين (7) ، وابنُ عمرَ يقولُ: من الشجرةِ، وغيرُه يقولُ: من البيداءِ. وقد صار الناسُ في الأخذِ بهذِه الأحاديث على طريقين (8) ؛ فمنهم من رجَّح بعضَ هذه الرواياتِ، ومنهم من جمع؛ بأن قال: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أهلَّ في هذه المواضعِ كلِّها، فأخبر كلٌّ منهم بما سمعه، على ما يأتي من حديث ابن عباس.
وقولُ ابن جريجٍ لابنِ عمرَ: «رأيتُكَ تصنعُ أربعًا، لم أر أحدًا من أصحابِكَ يصنُعها»؛ أي: يجمعُها في فعلِه كما كان يجمعُها ابنُ عمرَ (9) ، وإن كان يصنعُ بعضُهم بعضَها (10) .
واقتصارُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على استلامِ الركنين اليمانِيَيْنِ (11) ؛ لأن الركنين الآخرينِ، وهما اللذانِ يَلِيَان الحجرَ - ليسا على تأسيسِ إبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم - ، ولما رَدَّها (12) ابنُ الزبيرِ على قواعدِ إبراهيمَ استلم، الأركانَ كلَّها (13) ؛ قاله القابسيُّ (14) .
قال عياضٌ: ولو بُني الآن على ما بناه ابنُ الزبيرِ لاستُلِمَتْ كلُّها، كما فعل ابنُ الزبيرِ. والجمهورُ على مَسِّ الركنينِ اليمانيين، وأن ذلك ليسَ بركنٍ (15) .
و((النعالُ السِّبتية)) - بكسرِ السينِ؛ منسوبة إلى السِّبْتِ بالكسر- هي (16) التى أزال الدِّباغُ شعرَها. قال الشيبانيُّ: السِّبْتُ: كلُّ جلدٍ مدبوغٍ. وقيل: السِّبتُ: دباغٌ يقَلعُ الشعر. وهذا القولُ أحسنُ مِنْ قول مَنْ قال: إنها منسوبةٌ إلى ((السَّبْتِ)) بفتح السين؛ وهو: الحَلْق؛ لأنه (17) يلزمُ على القياسِ أن يقالَ: ((السَّبتية)) – بالفتح، ولم يُسمعْ مَنْ يقولُه هنا، ولا مَنْ يرويه (18) .
وكانت عادةُ العربِ لباسَ النعالِ بشعرِها غيرَ مدبوغةٍ، وإنما كان يَلْبَسُ المدبوغةَ - مما كانتْ تصنع (19) بالطائفِ وغيرِه - أهلُ الرفاهيةِ والسَّعِة؛ كما قال شاعرُهم :
............................... ... يُحْذَى (20) نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْأَمِ (21) =(3/271)=@
__________
(1) في (أ) و(ز): ((ويكذبون)).
(2) في (أ): ((ويحيطون)) غير منقوطة.
(3) في (غ): «العهد». [شطب من الهامش ولم يشطب من المتن].
(4) في (أ) و(ي): ((ليثبت)).
(5) قوله: ((أو المفتي)) في (ي): ((والمفتي)).
(6) في (ي): ((تحقق)).
(7) تقدم تخريجه قريبًا من حديث ابن عباس.
(8) في (ز): «طريقتين».
(9) في (ز): «كما كان ابن عمر يجمعها».
(10) في (ز): «بعضا».
(11) الركنان اليمانِيَان: هما الركن الذي به الحجر الأسود – ويسمى الركى العراقي لكونه إلى جهة العراق – والركنُ اليمانيْ؛ بتخفيف الياء نسبةً إلى ((اليمن))؛ لأنه إلى جهة اليمن، والأصل في النسبة إليه: ((يمنيٌّ)) فحذفوا إحدى الياءين وعوضوا عنها ألفًا؛ فلهذا تخفف الياء في ((اليمانِي)) وهي اللغة الفصيحة المشهورة. وحكى سيبويه وغيره التشديد، وفي التشديد جمع بين العوض والمعوض عنه. وسموهما ((اليمانين)) تغليبًا لأحد الاسمين؛ كما قالوا: ((الأبوان)) و((القمران)) و((العُمَرَان))، للأب والأم، والشمس والقمر، وأبي بكر وعمر. ينظر "شرح النووي" (8/94).
(12) في (أ): «ركزها» وفي (ي): ((رده)).
(13) سيأتي في باب: في نقض الكعبة وبنائها. وانظر "البخاري" (3/473 رقم1608) في الحج، باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين.
(14) ينظر: "الاستذكار" (11/105)، و"المعلم" (2/49)، و"الفتح" (/473- 474).
(15) "الإكمال" (4/183) والكلام نقله الشارح بالمعنى! وليس في المطبوع منه ذكر لابن الزبير. [يراجع]
(16) في (أ): «وهي».
(17) في (ي): ((لأنه كان)).
(18) هذا كلام القاضي عياض في "الإكمال" (4/185- 186) وعبارته: والأصح عندي أن يكون اشتقاقها وإضافتها إلى السِّبت الذي هو الجلد المدبوغ، أو الدباغة، بكسر السين في نسبتها، ولو كانت من السَّبت الذي هو الحَلْق – كما قال الأزهري وغيره – كان ((سَبْتية)) بالفتح، ولم يروها أحد في هذا الحديث ولا غيره، ولا في الشعر فيما علمته إلا بالكسر.اهـ.
ينظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/360- 361)، و"تهذيب اللغة" (12/387- 388)، و"اللسان" (2/36- 37)، و"تاج العروس" (3/59). وعند أبي عبيد عن أبي عمرو (الشيباني): أنها المدبوغة بالقرظ. وعن الأصمعي أنها المدبوغة؛ أي أن أبا عمر يخصها بالمدبوغة بالقرظ، والأصميعي يطلق. قال أبو عبيد: وقد زعم بعض الناس أن نعال السبت هذه هي المحلوقة الشعر، والأمر عندي على ما قال الأصمعي وأبو عمرو.اهـ. وفي "التهذيب" عن ابن الأعرابي، أنها سميت بذلك؛ لأنها انسبتت بالدباغ؛ أي: لانت. والقول بأنها سميت كذلك من الخلق؛ ذكره الأزهري في "التهذيب" أيضًا واستدل بقول ابن عمر: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال التي ليس عليها شعر...)). قال الأزهري: قلت كأنها سميت سبتية لأن شعرها سبت عنها؛ أي حلق وأزيل بعلاجٍ من الدباغ معلومٍ عند دباغيها، يقال: سبت شعره: إذا حلقه. واعترض القاضي عياض في "الإكمال" (4/186) ما قاله الأزهري، بما ذكره الشارح هنا من لزوم كسر السين في النسب على القياس؛ لأن السَّبت – بالفتح-: الحلق، وأنه لم ترد رواية بالفتح في هذه اللفظة.
(19) في (ي): ((يصنع)).
(20) في (ي): ((نحذي)).
(21) هذا عجز بيت لعنترة من "ديوانه"(177)، وصدره:
بَطَل كَأنَّ ثيابه في سَرْحَةٍ ... .........................(3/271)
وأما صباغُه بالصفرةِ، فقيل: المرادُ به: صباغُ الشعرِ. وقيل: صباغُ الثيابِ.
قلت (1) : وقد رَوى أبو داوَد (2) من طرقٍ صحاحٍ (3) ما يدلُّ على أن ابنَ عمرَ كان يَصْبُغُ لحيتَه وثيابَه بالصفرةِ؛ وذلك أنه رُوي عن زيدِ بنِ أسلمَ؛ أن ابنَ عمرَ كان يَصْبُغُ لحيتَه بالصفرةِ حتى تَملأَ (4) ثيابَه، فقيل له: لم تَصْبُغُ (5) بها؟ فقال: إني رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغُ بها، ولم يكن شيءٌ أحبَّ إليه منها؛ كان يَصْبُغُ ثيابَه كلَّها، حتى عمامتَه. قال أبو عمرَ بنُ عبدِالبرِّ: لم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغُ بالصفرةِ إلا ثيابَه (6) ، وأما الخضابُ: فلم يكن رسول الله (7) - صلى الله عليه وسلم - يَخْضِبُ (8) .
قلتُ (9) : وقد روى أبو داود (10) عن أبي رِمثَةَ ما يدلُّ على خلافِ ما قال (11) أبوعمرَ؛ قال أبو رِمْثَةَ: انطلقتُ مع أبي نحوَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا هو ذو وَفْرةٍ بها (12) رَدْعُ (13) من حِنَّاءٍ، وعليه بُردانِ أخضرانِ.
وأما اعتذارُ ابنِ عمرَ عن تأخيرِه الإهلالَ إلى يومِ الترويِة فأنه (14) لم يرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُهِلُّ حتى تنبعثَ به (15) راحلتُه، فوجهُه: أنه لما رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يحرمُ إلا إذا أخذ في أولِ عملِ الحجِّ، وهو المشيُ إليه إذا انبعثتْ به الراحلةُ - أخَّر =(3/272)=@
__________
(1) هو من معلقته المشهورة التي مطلعها:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ ... أَمْ هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهم
والبيت في قطعة منها يقول فيها:
وَمِشَكِّ سَابِغَة ٍ هَتَكْتُ فُرُوجَهَا ... بالسَّيْفِ عَنْ حَامِي الْحَقِيقَةِ مُعْلِمِ
رَبِذٍ يَدَاهُ بالْقِدَاحِ إِذَا شَتَا ... هَتَّاكِ غَايَاتِ التَّجَارِ مُلَوَّمِ
بَطَلٍ كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْأَمِ
لَمَّا رَآنِي قَدْ نَزَلْتُ أُرِيدُهُ ... أَبْدَى نَوَاجِذْهُ لِغَيْرِ تَبَسُّمِ
فَطَعَنْتُهُ بِالرُّمْحِ ثُمَّ عَلَوْتُهُ ... بِمُهنَّدٍ صَافيِ الْحَدِيدَةِ مِخْذَمِ
عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهارِ كَأََنَّمَا ... خُضِبَ اللَّبَانُ وَرَأْسُهُ بِالْعِظْلِمِ
يصف عنترة شجعاة، وقد بارز بطلاً قد أحكم على نفسه درعًا سابغة، واتخذ له علامة يعلن بها عن شجاعة ويطلب المبارزة. وهذا البطل سريع اليدين باللعب بالقداح كما أنه يفشي حانات الخمور ينفق فيها طارفه وتليده حتى يلومه الناس لفساده، وهو طويل القامة كالشجرة (السرحة) كما أنه من عليه القوم؛ إذ يلبس النعال السبتية (وهذا موضع الشاهد) وهو تام الخَلْق؛ إذ لم يشركه توأم يضعف من بنيته!
لكن ماذا فعل عنترة بهذا البطل الشريف؟! لقد هتك درعه السابغة بسيفه، وطعنه برمحه ثم علاه بالسيف المهند، فتركه صريعًا قد تخضب بدمائه!.
في "ديوانه" ( ... )، و"شرح ديوانه" للشنتري (ص272)، و"العين" (7/239)، "معجم مقاييس اللغة" (3/157)، "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/151)، (4/259)، "تهذيب اللغة" (12/388)، "جمرة اللغة" (1/512)، و"جمهرة أشعار العرب" (1/488)، "خزانة الأدب" (9/486)، و"اللسان" (2/39 سبت، 480 سرخ، 12/62 تأم، 15/167 فيا)، و"تاج العروس" (3/59 سبت)، وبلا نسبة في "الخصائص" (2/312).
( ) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(2) في "سننه" (4/334-335 رقم 4064) في اللباس، باب في المصبوغ بالصفرة، والنسائي (8/140 رقم5085) في الزينة، باب الخضاب بالصفرة.
وأخرجه أحمد (2/97 و126)، والنسائي (8/150 رقم5115) في الزينة، باب الزعفران، من طريق زيد بن أسلم: أن ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة، فقيل له: لم تصبغ بالصفرة؟ فقال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، ولم يكن شيء أحب إليه منها، وقد كان يصبغ ثيابه كلها حتى عمامته.
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (8/71 رقم5717): «إسناده صحيح».
(3) في (ز): «من طريق حجاج».
(4) في (ز): ((يملأ)).
(5) في (ز): «تصنع».
(6) في "التمهيد" (21/82).
(7) قوله: ((رسول الله)) ليس في (ز) و(ي) .
(8) في "التمهيد" (21/82، 86)، و"الاستذكار" (1/113 – 115). وهذا رأي لبعض العلماء، احتج له أبو عمر بعد ذلك وأيده.
(9) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(10) أخرجه الحميدي (2/382-383 رقم866)، والدارمي (2/198-199) في الديات، باب لا يؤاخذ أحد بجناية غيره، وأحمد (2/226 و227 و228)، و(4/163)، وأبو داود (4/334 و416 و416-417 و417 رقم4065 و420) في اللباس، باب في الخضرة، وفي الترجل، باب في الخضاب، والترمذي (5/110 رقم2812) في .الأدب [باب ما جاء في الثوب الأخضر في "الشمائل" (ص58- 59 و60 و73 – 74) وباب ما جاء]، باب ما جاء في خضاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وباب ما جاء في لباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعبدالله بن أحمد في "زوائد المسند" (2/226-227 و227 و227-228 و228)، (4/163)،والنسائي (3/185 رقم1572) في صلاة العيدين، باب الزينة للخطبة للعيدين [و(8/140 و204) رقم 5083 و5084 و5319) في الزينة، باب: الخطاب بالحناء والكتم]، وباب لبس الخضر من الثياب، والحاكم (2/607)، ميعهم من طريق إياد بن لقيط، عن أبي رمثة، قال: انطلقت مع أبي نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو ذو وفرة بها ردع من حِنَّاء، وعليه بُردان أخضران.
قال الترمذي: حسن غريب. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.
ونقل ابن المنذري في "تهذيب السنن" (6/105) عن أبي موسى الأصبهاني قوله: «وهذا حديث ثابت رواه الثوري وغير واحد عن إياد».
وصححه الألباني في "مختصر الشمائل" (ص40 رقم36).
(11) في (ي): ((قاله)).
(12) في (أ) و(ي): ((وبها)).
(13) في (أ): (وباب ردغ)) و((بها درع من حناء))، أي: بها لطخ لم يعمها. ينظر: "النهاية" (2/215).
(14) كذا بالفاء في جميع النسخ، والصواب: ((بأنه))؛ أي اعتذر بأنه لم ير رسول الله...إلخ. وينظر "الإكمال" (4/184).
(15) قوله: «به» مطموس في (غ).(3/272)
هو الإحرامَ إلى يومِ الترويةِ، حتى يكونَ مشيُه في عملِ الحجِ عقيبَ (1) إحرامِه. وقد أبعدَ من قال: إن هذا من بابِ القياسِ (2) ،، بل هو تمسُّكٌ بنوعِ الفعل الذي رآه يفعلُه، على ما قررناه.
وقد اختلف اختيارُ العلماءِ والسلفِ في ذلك على قولين، وهما عندَ مالكٍ. واستحبَّ بعضُ شيوخِنا: أن يُهِلَّ يومَ الترويِة مَنْ كان خارجًا عن مكةَ، ولمن كان داخلَ مكةَ أن يهلَّ من أولِ الشهرِ، وهو قولُ كثيرٍ من الصحابةِ والعلماءِ، وهو قولُ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه (3) ؛ قاله عياضٌ (4) .
و((يومُ الترويةِ)): هو اليومُ الثامنُ، وسُمِّي بذلك لأن الناسَ يُرَوُّونِّ فيه الخروج (5) إلى منى. وقيل: لأنهم كانوا يحمِلون معهم الرَّوَايا بالماءِ إلى منى، فَيَرْوُون مَنْ فيها.
و((الغَرْزُ)) للناقِة كـ((الركاب)) للفرسِ؛ وهو ما تُوضعُ فيه الرِّجْلُ للركوبِ.
وقولُه: «بات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفةِ مَبْدَأَه، وصلَّى في مسجدِها»؛ مَنْ فعلَ هذا فقد أحسن، وإن لم يكن عندَهم من السُّننِ.
و«مبدأه (6) » بضمِّ الميمِ وفتحِها؛ أي: ابتداءَ حجِّه. والله أعلم (7) . =(3/273)=@
__________
(1) في (ز) و(ي): «عقب».
(2) قال بذلك المازري في "المعلم" (2/49) قال: فإنه أجابه بضرب من القياس، لمَّا لم يتمكن له من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الشيء بعينه ما تمكن له في غيره مما سماه له...)) إلخ.
(3) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/339) باب إهلال أهل مكة ومن بها من غيرهم، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: يأهل بمكة. ما شأن الناس يأتون شعثًا وأنتم مدّهنون؟ أهلوا إذا رأيتم الهلال. وانظر "الاستذكار" (11/165).
(4) في "الإكمال" (4/185) لكنه لم يذكر ((وهو قول عمر بن الخطاب)).
(5) قوله: ((يروون الخروج)) في (أ) و(ز): ((يرون الخروج)). والصواب: ((يُرَوُّونَ للخروج)). وروَّي ترويةً: تزوَّدَ للماء، كـ((تَرَوَّي))، وفي "التهذيب" (15/313- 314): ((لأن الحجاج يتروون فيه من الماء، وينهضون إلى منى ولا ماء بها، فيتزودون ريَّهم من الماء. وفي "القاموس" (ص1290): أو لأن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كان يتردَّى ويتفكر في رؤياه فيه. وينظر "تاج العروس" (19/481، 483)، و"النهاية" (2/280). وسيذكر الشارح في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن سبب تسميته أن قريشًا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم فيروون منه.
(6) في (ز) و(ي): ((مبدأ)).
(7) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/273)
ومن باب التطيب قبلَ الإحرامِ
قولُ عائشة - رضي الله عنها -: «كنتُ أطيِّبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامِه»، أي: عندَ إحرامِه. واللامُ (1) للتوقيتِ؛ كقولِه: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (2) ؛ أي: عندَ دلوكِ الشمسِ (3) . وكذلك قولُها: «ولحلِّه». وليستْ للتعليلِ ههنا (4) بالاتفاقِ؛ لأنهما كانا يكونانِ علةً للتَّطْيبِ (5) ؛ أعني: الإحرامَ والحلَّ، بل هو نقيضُ مقصودِ الشرعِ من المحرِمِ قطعًا.
وهذه الروايةُ - أعني: ((لإحرامِه)) - مفسِّرةٌ للروايةِ الأخرى التي قال فيها: ((لِحِرْمِهِ)) (6) . ويقال: ((حُرْمٌ))، و((حِرْمٌ)). بالضمِّ والكسر، وأنكر ثابتٌ الضمَّ، وقال: إنما يقالُ: ((حِرْمُه)) – بالكسرِ (7) - كما يقالُ: ((حِلٌّ))، وكما قرئ: {وحِرْمٌ} (8) - بالكسر-. وقد ذكرنا الخلافَ في استدامِة المحرمِ للطيبِ.
و«وبيصُ الطِّيبِ»: بريقه وأثره.
وهذا الطيبُ الذي ذكرتْه عائشةُ كان دهنًا له أثرٌ فيه مسك.ٌ وبهذا يجتمع اختلافُ الرواياتِ في ذلك؛ وإنما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تطيَّبَ للطوافِ على نسائِه في بيوتِهنَّ بالمدينةِ، في ليلةِ اليومِ الذي خرج في بقيتِه (9) إلى ذي الحليفةِ، فإنه بات بها، وأصبح محرمًا من صبيحِة ليلتهِا، كما قد (10) ذكرنا آنفًا، وأحرم (11) بعدَ أن صلَّى الظهرَ، كما ظهرَ من حديثِ ابنِ عباسٍ الآتي (12) ، ((فاغتسلَ وغَسَل (13) ما كان عليه من الطيبِ، غيرَ أنه بقيَ عليه ما يتعذَّرُ (14) إزالتُه بعدَ الغسلِ من الرائحةِ، وعن هذا عبَّرتْ عائشةُ - رضي الله عنها - بقولِها: «ثم أَصبح ينضَخُ طيبًا». ومعنى «ينضخ»: تعمُّ رائحتُه وتُدركُ (15) إدراكًا كثيرًا (16) ، وأصلُه من: نَضْخِ العينِ، وهو عبارةٌ عن كثرةِ مَائها وفورانِه؛ ومنه: {فيهما عينان نضاختان} (17) . =(3/274)=@
__________
(1) في (أ): «واللام».
(2) سورة الإسراء؛ الآية: 78.
(3) قوله: «دلوك الشمس» سقط من (أ) و(ي) في الكلام في هذه الآية وجهان: الأول: أنها للتوقيت بمعنى ((بعد))، وليس كما قال الشارح بمعنى ((عند)).
والوجه الثاني: أنها للتعليل على بابها؛ قال الواحدي: لأنها إنما تجب بزوال الشمس.اهـ.
واللام بمعنى ((عند)) وبمعنى ((بعد)) مذكوران في كتب حروف المعاني لكن لم يمثل أحد للام بمعنى ((عند)) بهذه الآية، بل مثلوا له بقولهم: كتبته لخمسٍ خلون، أي: عند خمسٍ. وبعضهم يجلعها في قولهم هذا بمعنى ((بعد)).
وينظر: "البحر المحيط" (6/66)، و"الدر المصون" (7/395- 396)، و"الجنى الداني" (ص101)، و"المغني" (ص216).
أما اللام في قول عائشة رضي الله عنها، فيمكن أن تكون بمعنى ((عند))، ولا مانع من أن تكون للتعليل، بل قال الحافظ في "الفتح" (4/398): قوله: ((لإحرامه)) أي: لأجل إحرامه وقال في (3/399): ((قوله: ((وكله...)) أي: لأجل إحلاله من إحرامه)).اهـ. ولم يذكر خلافًا أو قولاً آخر. فانظر إلى قوله: ((بالاتفاق)). وإنما ذهب الشارح إلى ما ذهب إليه طردًا لمذهبهم في المنع من الطيب قبل الإحرام كما تأولوا هذا الحديث بما سيذكره الشارح، وسنذكر عنده تعقب النووي والشارح لهذه التأويلات! أما مذهب الجمهور من العلماء فهو استحباب الطيب للإحرام!
(4) في (ز) و(ي): «هنا».
(5) في (ز): ((للتطيب)).
(6) أخرجه مسلم في "الصحيح" (2/846 رقم1189) في الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام.
(7) ينظر: "الإكمال" (4/188)، و"مشارق الأنوار" (1/188)، وقال الخطابي في "غريبه" (3/245): ((والحُرْم: الإحرام. فأما الحِرْم – بكسر الحاء – فهو بمعنى الحرام؛ يقال: حرم وحرام؛ كما قيل: حِل وحلال.
(8) سورة الأنبياء؛ الآية: 95. المتواترة قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص بن عاصم: ((وحَرَام)) بالألف وقرأ حمزة والكسائي وشعبة عن عاصم: ((وَحِرْم)) بكسر الحاء بغير ألف، ورويت عن أبي عمرٍو، ينظر: "السبعة" (ص431)، و"المبسوط في القراءات العشر" (ص303)، "النشر" (2/243)، "الحجة" لأبي علي (5/261)، "الكشف عن وجوه القراءات السبعة" (2/114)، "البحر المحيط" (6/313)، "الدر المصون" (8/198).
(9) في (ي): ((بقية)).
(10) قوله: «قد» سقط من (أ).
(11) في (ي): ((أو أحرم)).
(12) سيأتي في باب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام.
(13) في (ي): ((غسل)).
(14) في (ز): «تعذّر».
(15) في (ز): ((ويدرك)).
(16) هذا تأويل من الشارح لـ((ينضخ)) ليوافق مذهبه في المنع من الطيب. وأصل الكلمة في اللغة ما سيذكره. ((نضخ الماء: اشتد فورانه في جيشانه وانفجاره من ينبوعه)) وفي "التاج" (4/319).
(17) سورة الرحمن؛ الآية: 66.
ذكر هذا التأويل القاضي عياض في "الإكمال" (4/189) وتأول قولها: ((ثم أصبح ينضخ طيبًا)) أي: قبل غسله وإحرامه قال: وقد جاء في رواية شعبة في هذا: ((ثم يصبح محرمًا ينضخ طيبًا)) أي: يصبح بنية الإحرام، أو يكون فيه تقديم وتأخير؛ أي: فطاف على نسائه ينضخ طيبًا ثم يصبح محرمًا.اهـ.
قال النووي في "شرح مسلم" (8/98- 99) بعد أن نقل كلام القاضي: هذا كلام القاضي ولا يوافق عليه بل الصواب ما قاله الجمهور أن الطيب مستحب للإحرام لقولها: ((طيبته لحرمه)) وهذا ظاهر في أن الطيب للإحرام لا للنساء، ويعضد، قولها: ((كأني أنظر إلى وبيض الطيب)) والتأويل الذي قاله القاضي غير مقبول لمخالفته الظاهر بلا دليل يحملنا عليه.اهـ. وقد تقدم للشارح – في باب ما يجتنبه المحرم من اللباس – ذكر تأويلين لهذا الحديث، ذكرنا عندهما تعقب الحافظ عليهما.
وقد ذكر الحافظ في "غريبه" (3/399) رواية عن عائشة عند أبي داود قالت كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهانا)) قال الحافظ: فهذا صريح في بقاء عين الطيب.(3/274)
وقولُها: «ولحلِّه قبلَ أن يطوفَ بالبيتِ»؛ أي: عندَ حلِّه، كما تقدم، وقد نصَّت على أن ذلك قبلَ طوافِ الإفاضةِ، وذلك إنما كان بعدَ رميِ (1) جمرةِ العقبةِ.
وبظاهرِ هذه الأحاديثِ أخذ عامَّةُ العلماءِ، فأجازوا (2) الطيبَ بعد التحلُّلِ الأصغرِ وقبلَ الطوافِ، وكرهه مالكٌ؛ لأنه لما لم يحلَّ له وطءُ النساءِ بعدُ - بالاتفاقِ - فينبغي أن تُمنعَ مقدمتُه التي هي الطيبُ. واعتذر بعضُ أصحابِنا عن حديثِ عائشةَ هذا بادعاءِ خصوصيةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك (3) . ولم يَرَ مالكٌ على مَنْ تطيَّبَ حينئذٍ دمًا؛ لأنه أوقعَه بعدَ تحلُّلٍ.
و«مَفْرِقَ الرأسِ»: مَوضعُ فَرْقِ الشَّعَرِ.
وقولُ ابنِ عمرَ: «لأَنْ أصبِحَ مطليًّا بقطرانٍ أحبُّ إليَّ مِنْ أن أصبحَ محرمًا أنضخُ طيبًا»؛ موافقٌ لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للمتطيِّبِ المحرِمِ: «اغْسِلْ عَنْكَ الطِّيبَ» (4) كما تقدم، والتمسُّكُ به أولى من حديثِ عائشةَ؛ لأن الأول مُقَعِّد للقاعدةِ، وحديثُ عائشةَ قضيةٌ عينيةٌ، محتملةٌ للخصوصية (5) ، فالأول أولى (6) . =(3/275)=@
__________
(1) قوله: «رمي» سقط من (ز) و(ي).
(2) في (أ) و(ي): «وأجازوا».
(3) [كتب في المتن بجانب هذا الهامش: التعليق بنفس برقم واحد هامشان].
(4) تقدم في باب ما يجتنبه المحرم من اللباس والطيب.
(5) في (أ) و(ز): «للخصوص».
(6) تقدم نقل الحافظ في "الفتح" (3/399) ادعاء خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا، في باب ما يجتنب المحرم.(3/275)
وقولُها: «فطاف في نسائِه»؛ هو كنايةٌ عنِ الجماعِ، ويكونُ هذا مثلَ قولِ أبي رافعٍ: طاف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على نسائهِ ذاتَ يومٍ، فجعل يَغتسلُ عندَ هذه وعندَ هذه، فقلتُ: يا رسول الله، لو جعلتَهُ غُسْلاً واحدًا؟ قال: «هَذَا أَزْكَى وَأَطْيَبُ وَأَطْهَرُ» خرَّجه النَّسائُّي (1) .
ويقالُ على هذا: كيف دارَ عليهنَّ في يومٍ واحدٍ، واليومُ لواحدةٍ منهن؟ والجوابُ من وجهين :
أحِدُهما: أن العدلَ لم يكن عليه لهنَّ واجبًا؛ بدليلِ قولِه تعالى: {تُرجي من تشاء منهن وتؤي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} (2) .
والثاني (3) : أنه (4) يحتملُ أنَّ التي كان في يومِها أذنت له في ذلك. وهذا على تسليمِ أن ذلك كان عليه واجبًا،، أو أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ نفسَه بذلك مجاملةً، ومحاسنةً. والله تعالى أعلمُ.
ويحتملُ أن يكونَ قولُها: «طاف في نسائه»، بمعنى: تَفقَّدهنَّ في منازلِهن لينظرَ فيما (5) يحتجْنَ إليه، لاسيما وكان في أُهْبَةِ الخروجِ لسفرِه ذلك. والله أعلم (6) . =(3/276)=@
__________
(1) تقدم في الطهارة، باب وضوء الجنب إذا أراد النوم.
(2) سورة الأحزاب؛ الآية: 51. وقد تقدم للشارح كلام على القَسْم في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في باب نسخ الفدية، عن الكلام على تأخير قضاء رمضان.
(3) في (ز) و(ي): «الثاني» بلا واو.
(4) قوله: «أنه» سقط من (ز).
(5) في (ز): «إليهن».
(6) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/276)
ومن باب ما جاء في الصيد ولحمه للمحرم
«الأبواءُ»- بفتح الهمزةِ، والمدِّ -: بَرِّيَّةٌ (1) من عملِ الفُرْع، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينةَ ثلاثةٌ وعشرون ميلاً. و«وَدَّانُ» بفتحِ الواوِ (2) ، كذلك بينهما (3) نحو ثمانيةِ أميالٍ بقربٍ من (4) الجحفةِ (5) .
و«السُّقيا» قريةٌ جامعةٌ هناك، بينها وبين الفُرْعِ مما يلي الجحفةَ سبعة عشرَ ميلاً. و«تَعْهِن» بفتحِ التاءِ وكسرها، وسكونِ العينِ (6) ، وقد سُمعَ من العربِ من يقولُ: «بتُعَهِن» فيضمُّ التاءَ ويفتحُ العينَ (7) ، ويكسِرُ الهاءَ، وروايتُنا التقييدُ الأولُ (8) . وهي عينُ ماءٍ على ميلٍ من «السقيا» (9) ، وهو (10) بالقافِ لا بالفاءِ، وهو وادي العباديدِ (11) ، على ثلاثةِ مراحلَ من المدينةِ.
و«غَيْقَة» بالغين معجمةً (12) مفتوحةً، وبالقافِ، بينهما ياءٌ باثنتين من تحتِها: موضعٌ من بلادِ بني غِفَارٍ، بين مكةَ والمدينةَ. وقيل: هو قليبُ ماءٍ لبني ثعلبة (13) .
وقوله (14) : «إنا لم نَرُدُّهُ (15) عليك»، المحدِّثون يُقَيِّدُونَه (16) «لم نَردَّهُ (17) » بفتحِ الدالِ المضاعفةِ المجزومةِ، وإن كان متصلاً بهاء المذكَّرِ المضمومِة. وقيده المحقِّقون: بضمِّ الدالِ مراعاةً للواوِ المتولِّدةِ عن ضمةِ الهاءِ، ولم يَحْفِلُوا بالهاءِ لخفائِها، وكأنهم قالوا: «رُدُّوا»؛ كما فتحوها مع هاءِ المؤنثِ مراعاةً للألفِ، فكأنهم =(3/277)=@
__________
(1) قوله: ((برّية)) كذا في جميع النسخ، مضبوطة بتشديد الراء في نسختين والصواب: ((قرية))؛ كما في "الإكمال" (4/199)، و"المشارق" (1/57) ونص "المشارق": ((قرية من عمل الفرع)). والأبواء: اسم لجبل سمِّي به الموضع. وينظر: "النهاية في غريب الحديث" (1/20)، و"اللسان" (14/14). أما البرية فهي الصحراء. "المصباح" (ص28).
(2) تشديد الدَّال. "المشارق" (2/302).
(3) أي بين ودَّان والأبواء. "المشارق" (2/302).
(4) سقط من (أ).
(5) في (غ): «يقرب من الجحفة».
(6) لم يذكر ضبط الهاء، وهي بالكسر. قال في "النهاية" (1/190): قال أبو موسى: هو بضم التاء والعين وتشديد الهاء، موضع فيما بين مكة والمدينة. قال ومنهم من يكسر التاء. قال: وأصحاب الحديث يقولونه بكسر التاء وسكون العين.اهـ.
(7) من قوله: ((وقد سمع...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(8) قوله: ((وروايتنا التقييد الأول)) عبارة القاضي في "الإكمال" (4/199): ((وتعهن بفتح التاء وكسرها وسكون العين، وروايتنا عن أكثرهم بالكسر وكذا قيدها البكري في معجمة، وبلغني عن أبي ذر أنه قال: سمعت العرب تقول فيه: ((تعهن)) بضم التاء وفتح العين وكسر الهاء)).
(9) قوله: ((وهي عين ماءٍ على ميل من السقيا)) كذا في جميع النسخ، وفي الكلام سقط، لعله: ((عين ماء [ثلاثة أميالٍ من السقيا. و((القاحة)) وادٍ على] ميل من السقيا)) ويدل عليه قوله: ((وهو بالقاف لا بالفاء)) وهذا في ضبط ((القاحة))، وقد مضى ضبط ((السقيا)) والكلام عليه. وقال القاضي في "الإكمال" (4/199): في ضبط ((تعهن)) و((القاحة)): ((... وهي عين ماء على ثلاثة أميال من السقيا... و((القاحة)) بالقاف والحاء المهملة مخففة، ودا على ميل من السقيا... على ثلاث مراحل من المدينة. كذا قيدها الناس بالقاف ورواها بعض الرواة عن البخاري بالفاء، ولعله وهم، والصواب القاف. والقاحة في الأصل: وسط الدار، مثل ساحتها وباحتها وينظر: "مشارق الأنوار" (2/198)، و"النهاية" (4/119)، و"اللسان" (2/568).
(10) قوله: «وهو» سقط من (ز).
(11) في القاموس: ((العباديد)) موضع)). وفي "الفتح" (4/27) في تفسير ((القاحة)): ويقال لواديها وادي العباديد، وقد تحرفت في "الإكمال" (4/199) إلى ((القباديد)) وفي "مشارق الأنوار" (2/198) إلى ((العبادير)).
(12) في (أ): «المعجمة».
(13) ينظر "مشارق الأنوار" (2/143)، "الإكمال" (4/199- 200).
(14) في (ز) و(ي): ((قوله)).
(15) في (ي): ((نردده)). والمثبت موافق لرواية "صحيح مسلم".
(16) في (ز): «يقيدون».
(17) في (ي): ((نرد)).(3/277)
قالوا: «رُدَّا»، وهذا مذهبُ سيبويهِ، وأبي عليٍّ الفارسيِّ، وأهل التحقيقِ من أهلِ اللسانِ (1) .
وقولُه: «إلا أنَّا حُرُمٌ» بفتح «أنَّا» على أنه تعدَّى إليه الفعلُ بحرفِ التعليلِ، فكأنه قال: «لأنا».
ولا خلاف في تحريمِ الصيدِ على المحرمِ، وفي تحريمِ ما صِيدَ من أجلِه (2) عليه (3) ؛ وعلى ذلك دلَّ قولُه تعالى: {وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمت حُرُمًا} (4) ، وقولُه: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (5) ، وردُّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على الصَّعبِ هذا الصيدَ إنما كان لأنه خافَ أن يكونَ صادهَ من أجلِه؛ ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - كيف قَبِل حمارَ البَهْزِيِّ حين قال: هو لكم يا رسولَ الله. فأمر به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقُسِّم بين الرفاقِ (6) . قال أبو محمدٍ الأُصَيْليُّ: إنما قَبِل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حمارَ البهزيِّ (7) ؛ لأنه كان مكتسِبًا بالصيدِ، فحمله على عادتِه، وردَّ حمارَ الصَّعبِ لظنِّه أنه صاده من أجله (8) .
فإن قيل: فهذا يُشْكِلُ على مذهب مالكٍ؛ إذ يحكمُ بأنًّ ما صِيدَ لأجلِ (9) محرمٍ لا يحلُّ أكلُه، وهو ميتةٌ عندَه، ولم ينهَهُم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنه (10) ، بل سوَّغه لهم بتركِه في أيديهم =(3/278)=@
__________
(1) ينظر: "الكتاب" (3/532). [يراجع النقل عن أبي علي]
(2) في (ز): «لأجله».
(3) سقط من (ي).
(4) سورة المائدة؛ الآية: 96.
(5) سورة المائدة؛ الآية: 95.
(6) صحيح لغيره، انظر "مختصر المستدرك" (5/2353 رقم807) بتحقيقي.
(7) من قوله: ((حين قال: هو لكم...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(8) ينظر: "الإكمال" (4/196).
(9) في (ي): ((من أجل)).
(10) قوله: «عنه» سقط من (ز).(3/278)
وإقرارِهم عليه! فالجوابُ: أنَّ ذلك الحكمَ إنما يلزمُ على مذهبِه فيما تحقَّق أنه صِيدَ لأجلِ المحرِمِ، وليس في هذا (1) الحديثِ ما يدلُّ على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قطع بذلك، ولا ظنَّه، وإنما امتنعَ من ذلك فيما يظهرُ وَرَعًا؛ كما قال في التمرةِ: «لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُون (2) مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُها» (3) . والله تعالى أعلم.
وقد أجاز غيرُ واحدٍ من العلماءِ أكلَ ما صاده حلالٌ لمحرِمٍ لغيرِ ذلك المحرمِ؛ منهم: عثمان (4) رضي الله عنه.
واختلفوا في حمارِ الصَّعْبِ: هل أهداه للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيًّا أم ميتًا؟ وقد بوَّب البخاريُّ على هذا الحديثِ ما يدلُّ على أنه فَهِمَ من الحديثِ أنه كان حيًّا (5) . وعلى هذا الفهم يُستدلُّ به على أنَّ المحرمَ يُرسلُ ما بيدِه من صيدٍ؛ لأنه لم يسوِّغْ لنفسِه مِلَكه لأجلِ الإحرامِ. وفيه أبوابٌ من أحكامِ الهباتِ لا تخفى على متأمِّلٍ (6) .
قلتُ (7) : والرواياتُ الأخرُ تدلُّ على أنه كان ميتًا، وأنه أتاه بعضوٍ منه. ويصحُّ الجمعُ بين هذه الرواياتِ (8) المختلفةِ:
أَمَّا على القولِ بأنه ميتٌ، فإنه جاء بالحمارِ ميتًا فوضعه بقربِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قطع منه ذلك العضوَ، فأتاه به (9) ، فصدق اللفظانِ. أو يكونُ أطلقَ اسم الحمارِ، وهو يريدُ بعضَه، وهذا سائغٌ، وهو من (10) بابِ التوسُّعِ والتجوُّزِ.
وأما إن تنزلْنَا على أنَّ الحمارَ كان حيًّا، فيكونُ قد أتاه به، فلما ردَّه عليه وأقرَّه =(3/279)=@
__________
(1) «هذا» سقط من (ز).
(2) في (ز): ((يكون)).
(3) تقدم في الزكاة، باب لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد.
(4) أخرجه ابن ابي شيبة (3/295 رقم14477)، والطبري في "تفسيره" (11/74 و75 – 76 رقم12740 و12741و12742)، والبيهقي (5/194) من طريق الحارث بن نوفل، قال: حج عثمان بن عفان بن عفان، فحج علي معه، قال: فأتي عثمان بلحم صيد صاده حلال فأكل منه، ولم يأكل علي، فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا، فقال علي: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا}.
هذا لفظ الطبري، ونحوه عند الآخرين، وألفاظهم متقاربة.
(5) (4/31 رقم 1825) باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا حيًّا لم يقبل.
(6) قال في "الإكمال" (4/194): ((وفيه أيضًا أن الهبة لا تدخل في ملك الموهوب [له] إلا بالقبول لها، وإنه قدرته على ملكها لا تصيِّره مالكًا لها)).
(7) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(8) من قوله: ((الأخر تدل على أنه...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(9) سقط من (ي).
(10) في (أ): «سائغ ومن».(3/279)
بيدِه، ذَكَّاه، ثم أتاه منه بالعضوِ المذكورِ، ولعلَّ الصعبَ ظنَّ أنه إنما ردَّه عليه لمعنًى يخصُّ الحمارَ بجملتِه، فلما جاءَه بجزئِه أعلمَه بامتناعِه أنَّ حكمَ الجزءِ من الصيدِ كحكمِ الصيدِ؛ لا يحلُّ للمحرمِ قَبُولُه، ولا تملُّكُه (1) .
وإنما احتجنا إلى هذهِ التكلفاتِ لنرفعَ (2) الاضطرابَ اللازمَ من (3) تلك الرواياتِ المختلفةِ، على طريقِتنا في رَوْمِ (4) الجمعِ بين الرواياتِ المختلفِة، فإنه الأحسنُ إذا أمكن. والله تعالى أعلم (5) .
وقولُه في حديثِ أبي قتادةَ: «إنَّ أصحابَه أحرموا، ولم يحرمْ هو»، قيل في سببِ بقاءِ أبي قتادةَ غيرَ محرمٍ أقوالٌ:
أحدها: أنه لم تكن (6) وُقِّتتِ المواقيتُ. وفيه (7) بعد.
وثانيها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه في أصحابِه لكَشْفِ عدوٍّ لهم بجهةِ السَّاحلِ، على ما ذكره مسلمٌ (8) .
وثالثها: أنَّ أهلَ المدينةِ أرسلوه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليُعِلْمَه أن بعضَ العربِ عزم على غزوِ المدينةِ (9) .
وقولُه: «فاستعنتهُم، فأبوا أن يعينوني (10) » دليلٌ على أبي حنيفةَ؛ إذ يرى أن المعونَة لا تؤثِّرُ إلا أن يكونَ الصيدُ لا يصحُّ دونَها، وامتناعُهم من المعونةِ مطلقًا، ومن مناولةِ السَّوطِ، يردُّ (11) عليه، بل في الروايةِ الآتيةِ قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ =(3/280)=@
__________
(1) في (ز): «ولا يملكه».
(2) في (ي): ((لنرجع)).
(3) في (أ): ((في)).
(4) في (أ): «لزوم».
(5) نقل الحافظ في "الفتح" (4/32- 33) جمع الشارح بين هذه الروايات.
(6) في (أ): ((يكن)).
(7) قوله: «وفيه» سقط من (أ).
والعبارة في "المنتقى" (2/240)، و"الإكمال" (4/198)، و"شرح النووي" (8/109): ((أن المواقيت لم تكن وقتت بَعْدُ)). وكذلك ذكره الحافظ في "الفتح" (4/23) قال: وقيل كانت هذه القصة قبل أن يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - المواقيت)). ولعل الشارح يستبعد هذا القول!
(8) مسلم (2/853-854 رقم1196/59-60) في الحج، باب تحريم الصيد للمحرم.وهذا القول اقتصر عليه ابن عبد البر في "التمهيد" (21/150)، "الاستذكار" (11/271)، وذكره القاضي في "الإكمال" (4/198- 199).
(9) قال الحافظ في "الفتح" (4/23): «وأما قول عياض ومن تبعه: أن أبا قتادة لم يكن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، وإنما بعثه أهل المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمونه أن بعض العرب قصدوا الإغارة على المدينة، فه وضعيف مخالف لما ثبت في هذه الطريق الصحيحة؛ طريق عثمان بن موهب الآتية بعد بابين».اهـ.
ويعني به حديث أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجًّا فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة، فقال: «خذوا ساحل البحر حتى نلتقي»، فأخذوا ساحل البحر... "الفتح" (4/28).
وهذا القول الثاني الذي ذكره الشارح، وقد ذكر القاضي عياض في "الإكمال" (4/199) قولاً رابعًا واستبعده؛ وهو أنه: لعله لم ينو معهم حجًّا. كما ذكر الحافظ في "الفتح" (4/23) سببًا آخر؛ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه على الصدقة. قال: والذي يظهر أن أبا قتادة إنما أخر الإحرام لأنه لم يتحقق أنه يدخل مكة فساغ له التأخير.اهـ. وفي "المنتقى" للباجي (2/241) نحو هذا؛ قال: ويحتمل أنه لم ينو الوصول إلى مكة وإنما أراد أن يصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إلى بعض الطريق ليكثر أصحابه وجماعته إلى موضع ماءٍ لكنه لما أتى وهو من المدينة على ثلاث ليال تخلف مع أصحاب له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ....
(10) في (ي): ((يعينونا)).
(11) في (ز): «ترد».(3/280)
يَحِمْل عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟» قالوا: لا. قال: «فَكُلُوا»، ظاهرُه أنه لو أعانه أحدٌ لمنعهم من أكلِها.
وقد اخُتلف في وجوبِ الجزاءِ على المحرمِ الدَّالِّ للحلالِ: فقال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثورٍ: لا شيء عليه. وقال الكوفيون، وأحمدُ، وإسحاقُ، وجماعةٌ من الصحابة والتابعين: عليه الجزاءُ.
وكذلك اختلفوا في المحرمِ إذا دلَّ محرمًا آخرَ؛ فذهب الكوفيون، وأشهبُ من أصحابِنا: إلى أنَّ على كلِّ واحدِ منهم جزاءً. وقال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثورٍ: الجزاءُ على المحرم القاتِلِ.
وكذلك الخلافُ فيما لو أعانه بالرمحِ، أو بالسَّوطِ، أو بأي (1) معونةٍ كانتْ. وقال بعضُ شيوخِنا: ولو (2) أشار إليه ليصيدَ؛ لكان دالاًّ (3) ، ويجري فيه الخلافُ المتقدِّمُ.
وقولُه: «أُرَفِّعُ (4) فرسي شأوًا، وأسيُر شأوًا»؛ أي: أُرَفِّعُ في سيرِه وأُجريه. و«الشَّأْوُ»: الطَّلْقُ (5) .
وقولُه: «خشينا أن نُقْتَطَع»؛ أي: خِفْنا أن يُحَالَ بيننا وبينهم، ويُقْطَعَ بنا عنهم.
وقولُه: «آصَّدْتُ»؛ أصلُه: اصطدت، فأدغمتِ الطاءُ (6) في الصادِ لتقاربِهما.
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - للقومِ: «كُلوا» وهم محرمون، وأكلُه منه وهو محرمٌ؛ دليلٌ على مَنْ (7) منع المحرمَ من أكلِ لحمِ الصيدِ؛ وهو مرويٌّ عن عطاءٍ، وابنِ عبَّاسٍ (8) ، وجماعةٍ من السَّلفِ، وهو قولُ سفيانَ الثوريِّ، وإسحاقَ. وذُكر نحوهُ عن مالكٍ (9) والليثِ.
وقولُه: «فجعل بعضُهم يضحكُ إلى بعضٍ»؛ لم يكنْ ضَحِكُهم لينبِّهوه على =(3/281)=@
__________
(1) قوله: ((أو بأي)) في (ز): ((وبأي)).
(2) في (ز): ((لو)).
(3) قال القاضي في "الإكمال" (4/202): وفسر شيوخنا هذه الإشارة والدلالة أن يكون ليصطاد للمشير والدال.
(4) ((أُرَفِّعُ)) بضم الهمزة وفتح الراء وتشديد الفاء المكسورة، وفي هامش الطبعة العامرة من "صحيح مسلم" (4/15) أن في نسخة: ((أَرْفَع)) بفتح الهمزة وسكون الراء وتخفيف الفاء مفتوحة وفي "تاج العروس" (11/169): رفع البعير بنفسه في سيره: إذا بالغ... ويقال: رفعتُه أنا: إذا سار كذلك؛ لازم ومتعد. وفي "اللسان" (8/130) نحوه، قال: ((وكذلك رفعته ترفيعًا)).
(5) قال في "اللسان" (10/230): يقال: تطلقت الخيل إذا مضت طلقاء لم تحتبس إلى الغاية والطلق الشوط الواحد في جري الخيل. وانظر: (14/417) (شأى).
(6) قوله: ((أصله ((اصطدت)) فأدغمت الطاء في الصاد...))إلخ.
في (ز): ((أصله: ((اصتدت)) فأدغمت التاء في الصاد...))إلخ. وكلاهما صواب؛ قال سيبويه في "الكتاب" (4/467): ((وأراد بعضهم الإدغام حيث اجتمعت الصاد والطاء، فلما امتنعت الصاد أن تدخل في الطاء قلبوا الطاء صادًا؛ فقالوا: مصَّبر)).اهـ. وقال ابن جني في "سر صناعة الإعراب" (1/218): ((ومنهم من يقلب التاء (تاء الافتعال) إلى لفظ ما قبلها ويقول: اصَّبر ومصَّبر،... وقرأ بعضهم {أن يصَّلحا}يريد: يصطلحا.اهـ. والآية هي 128 من سورة النساء، وقد ذكرها سيبويه أيضًا في الموضع المنقول عنه هنا. وقد مرت هذه الكلمة – على قول سيبويه – بثلاث مراحل؛ إذا أصلها: ((اصتدت)) افتعلت من الصيد، فقلبت التاء طاءً، ثم قلبت الطاء صادًا، ثم أدغمت الصاد في الصاد. وعلى ما ذكر ابن جني قلبت التاء مباشرة إلى الصاد ثم أدغمت الصادان. وفي نسخ صحيح مسلم اختلاف في هذه اللفظة؛ ففي بعضها: ((أَصَدْت)) وفي بعضها: ((اصَّدْتُ)) وفي بعضها: ((اصطدت)) وفي بعضها: (صِدْت))؛ قاله النووي في "شرح مسلم" (8/112). وينظر "المشارق" (2/52)، "النهاية" (3/65).
(7) سقط من (أ).
(8) أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/77 رقم12748) عن محمد بن عبدالله بن بزيع، عن بشر بن المفضل، عن سعيد بن أبي عروبة، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يكرهه على كل حال ما دام محرمًا. وقد تقدم في (ص32).
وهذا سند رجاله ثقات، إلا أن سعيد بن أبي عروبة كثير التدليس، ولم يصرح بالسماع.
وله طريق أخرى: فأخرجه الطبري (11/83 رقم12766 و12767) من طريق سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، بمعناه.
(9) رسم في (ي) ميم ((مالك)) عينًا، ولم يرسم الألف كباقي النسخ.(3/281)
الصيدِ، وإنما كان - والله أعلمُ- تعجبًا من إتيانِ هذا الصيدِ، وتأتِّي صائِده الحلالِ له ولم يَفْطِنْ له (1) . فأما (2) لو ضَحِكَ منبهًا له (3) ؛ فقال الداوُديُّ: لم يمنعْ من أكْلِهِ (4) .
قلت (5) : ولا بُعدَ في أن يقالَ: إن ذلك كالإشارةِ؛ إذ قد حصلَ منه ما يحصلُ من المشيرِ من التنبيهِ.
وقوله: «تركتُه بِتِعْهِنَ وهو (6) قائلٌ السُّقيا (7) ». «قائل»: اسم فاعلٍ من القولِ، ومن القائلِة (8) أيضًا، والأولُ هو المرادُ هنا، و((السقيا)) (9) : مفعولٌ بفعلٍ مضمرٍ، كأنه قال: اقْصِدُوا السُّقْيَا (10) . =(3/282)=@
__________
(1) سقط من (ز).
(2) في (ز): «وأما».
(3) قوله: «له» سقط من (أ) و(ي).
(4) هذه الفقرة من كلام القاضي في "الإكمال" (4/202) وعبارته: ((وقال الداودي في هذا الحديث: إن المحرم إذا ضحك ليفطن الحلال بالصيد لم يمنع من أكله، وهو نحو مما تقدم، وليس في الحديث أنهم ضحكوا لينبهوه، ولعلهم إنهما ضحكوا إعجابًا بتأتي هذا الصيد، وتأتي صائده الحلال ولم يفطن له)).
(5) في (ز): ((قال الشيخ)).
(6) سقط من (ز).
(7) في (ز): «السقى».
(8) في (أ): «المقايلة».
(9) في (ز): «السقى».
(10) قال في "مشارق الأنوار" (2/197)، قوله: ((وهو قال السقيا)) أي: ينزل للقائلة بالسقيا.اهـ. وفي "النهاية" (4/133): ((أي أنه يكون بالسقيا وقت القائلة، أو هو من القول؛ أي يذكر انه يكون بالسقيا)).اهـ. وفي "اللسان" (11/578) نحوه. قال النووي في "شرح مسلم" (8/112): وقوله: ((قائل)) روي بوجهين أصحهما وأشهرهما: ((قائل)) بهمزة بين الألف واللام من القيلولة، ومعناه: تركته ((بتعهن)) وفي عزمه أن يقيل بالسقيا، ومعنى ((قائل)): سيقيل، ولم يذكر القاضي في "شرح مسلم" وصاحب "المطالع" غيره هذا معناه. والوجه الثاني أنه ((قابل)) بالباء الموحدة، وهو ضعيف وغريب وكأنه تصحيف، وإن صح فمعناه: تعهن موضع مقابل السقيا.اهـ. وقال الحافظ في "الفتح" (4/25): وأغرب القرطبي فقال: ((... ثم ذكر؛ أي: تفسير الشارح له على أنه من القول، وأنه المراد)). ووقع عند الإسماعيلي...: ((وهو قائم بالسقيا)) فأبدل اللام في ((قائل)) باللام. قلت: - أي الحافظ -: وزيادة الباء توهي الاحتمال الأخير المذكور.اهـ. يعني أنه من القول، وأنه أراد: اقصدوا السقيا.(3/282)
وقوله: «هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ» وأكلُه لما أعطوه منه؛ كلٌّ ذلك تطييبٌ لقلوبِهم، وتسكينٌ لنفرةِ مَنْ نَفَرَ منهم، وإبانةٌ لحلِّيتِه (1) بأقصى (2) الممكنِ.
وقولُ عبدِالرحمنِ التيميِّ: «فمنَّا مَنْ تَورَّعَ»؛ أي: كفَّ ورعًا؛ أي: لم يتوقَّفْ جازمًا بالمنع (3) ، ولكنه تردَّد وتخوَّفَ، فتورَّع (4) . والورعُ، والرِّعَةُ: الانكفافُ عما يَرُيبُ (5) .
وقولُه: «فلمَّا استيقظَ طلحُةَ وَفَّقَ مَنْ أكلَه»؛ أيْ: صَوَّبَه (6) ، وقال: «هو موفَّقٌ مسُدَّدٌ».
وقولُه: «أكلناه مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - »؛ أي: ونحنُ محرمون. =(3/283)=@
__________
(1) في (ز): ((لجليته)).
(2) في (ي): ((بكل)) وكتب في الهامش: ((بأقصى خ))؛ أي في نسخة: ((بأقصى)).
(3) سقط من (أ) و(ز).
(4) في (ز): ((فيتورع)).
(5) وفي "اللسان" (8/388)، و"تاج العروس" (11/505): الورع في الأصل: الكفُّ عن المحارم والتخرج منه، ثم استعير للكف عن الحلال والمباح!.
(6) قوله: ((أي صوبه)) سقط من (أ).(3/283)
ومن بابِ ما يقَتلُ المحرِمُ من الدَّوابِّ
قوله: «خمسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» قد (1) تقدم أن الفسقَ لغةً هو الخروجُ مطلقًا. وهو في لسانِ الشرعِ: اسمُ ذمٍّ؛ إذ هو خروجٌ عن الطاعةِ، أو عنِ (2) الحرمةِ.
وتسميتُه - صلى الله عليه وسلم - هذه الخمسَ بـ((فواسق)): لأنهنَّ خرجْنَ عن الحرمةِ التي لغيرِهنَّ من الحيواناتِ، لاسيَّما على المحرِمِ، وفي الحرمِ، وفي الصلاةِ (3) . ويحتملُ أن يقالَ: سميتْ ((فواسقَ))؛ لخروجهنَّ من (4) جِحَرَتِهنَ (5) لإضرارِ بني آدمَ وأذاهم (6) .
وهذا الحديثُ روي من طرقٍ متعددةٍ؛ فذكرَ في بعضِها لفظَ: «خمس»، ولم يذكرْه في بعضِها؛ فالألفاظُ التي ذكر فيها: «خمس» لم تزدْ، غيرَ أنَّه ذكر في بعضِها: ((الحيةَ))، وفي بعضِها ((العقرب)) بدل «الحية». وهي في كلِّ ذلك خمسٌ (7) . وأما الَّتي لم يذكرْ فيها لفظُ «الخمس»، فجمع فيها بين العقربِ والحيةِ؛ فصارت ستًّا (8) ، وفي غيرِ كتابِ مسلمٍ ذكر الأفعى؛ فعدَّدها لذلك بعضُهم سبعًا، وليس كذلك؛ لأن الحيةَ تناولتِ الأفعى (9) وغيَرها من جنسِها، وإنما هو خلافٌ لفظيٌّ (10) .
والصحيحُ أنها ستٌّ، كما جاء في الطريقِ التي لا حَصْرَ (11) فيها.
قال القاضي أبو الفضل: لا خلافَ بين العلماءِ في استعمالِ الحديثِ، وجوازِ قتلِ ما ذكر فيه للمحرِمِ، إلا شذوذًا رُوي عن عليٍّ (12) رضي الله عنه أنه قال (13) : لا يُقتلُ الغرابُ، لكن يرمى. ولا يصحُّ عنه. وحُكي عن النَّخَعيِّ: أنه لا يَقتُلُ المحرِمُ الفأرةَ، فإن قتلها فَدَاها. وهذا خلافُ النصِّ (14) .
واختلفَ العلماءُ: هل المرادُ بما سُمِّي في الحديثِ أعيانُها، أمِ التنبيهُ على المعاني المتأذَّى بها منها؟ قال الإمامُ أبو عبدِالله (15) : فمالكٌ، والشافعيُّ يريان أنَّ (16) الحكمَ يتعلَّقُ بمعاني هذه الخمسِ دونَ أسمائِها، وأنها إنما ذُكَرت لينبِّهَ بها على ما شَرِكَها في =(3/284)=@
__________
(1) في (أ): «قد».
(2) قوله: ((أو عن)) في (ي): ((وعن)).
(3) قوله: ((وفي الصلاة)) سقط من (ي).
(4) في (أ): «عن».
(5) جِحَرَة – كـ((عِنَية)) -: جمع حُجْرٍ. "المصباح المنير" (ص52).
(6) قاله الفراء؛ حكاه عنه في تهذيب اللغة (8/414)؛ قال: وقال الفراء...: والعرب تقول: فسقت الرطبة من قشرها؛ لخروجها منه؛ وكأن الفأرة سميت فويسقة لخروجها من جحرها على الناس.
(7) وقدوره أيضًا بلفظ ((أربع)) فعند مسلم (1198) (66) عن عائشة تقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أربع كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم: الحدأة والغراب، والفأرة والكلب العقور)) قال: (أي: الراوي عن القاسم بن محمد عن عائشة): فقلت للقاسم: أفرأيت الحية؟ قال: تقتل بصغر لها. وينظر "الإكمال" (4/204)، و"الفتح" (4/36).
(8) كما في آخر روايات الباب من رواية ابن عمر عن إحدى نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(9) نم قوله: ((فعددها لذلك...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(10) عدها سبعًا لذلك؛ القاضي عياض في "الإكمال" (4/204). قال الحافظ في "الفتح" (4/36): «وأغرب عياض فقال: وفي غير كتاب مسلم ذكر الأفعى فصارت سبعًا. وتعقب بأن الأفعى داخلةٌ في مسمى الحية، والحديث الذي ذكرت فيه أخرجه أبو عوانة في "المستخرج" من طريق ابن عون، عن نافع في آخر حديث الباب، قال: قلت لنافع فالأفعى؟ قال: ومن يشك في الأفعى».
ورواية أبي عوانة التي أشار إليها الحافظ في "مستخرجه" (3/415) في باب بيان الإباحة للمحرم قتل الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور والحية.
(11) في (أ): «لا خمس».
(12) قال الحافظ في "الفتح" (4/38): «وأما غراب الزرع فلا، وكذا استثناه ابن قدامة، وما أظن فيه خلافًا، وعليه يحمل ما جاء في حديث أبي سعيد عند أبي داود؛ إن صح، حيث قال فيه: ويرمى الغراب ولا يقتله، وروى ابن المنذر وغيره نحوه عن عليّ ومجاهد».
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (3/420 رقم15734): أخبرنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، عن علي قال: يقتل المحرم الغراب. كذا وقع في "المصنف".
وأثر مجاهد في "مصنف ابن أبي شيبة" (3/420 رقم15738).
(13) قوله: «قال» سقط من (ز).
(14) "الإكمال" (4/205).
(15) هو أبو عبدالله المازري في المعلم" (2/51).
(16) قوله: «أن» سقط من (ز).(3/284)
العلَّةِ؛ فقال الشافعيُّ (1) : العلَّةُ أن لحومَها لا تؤكلُ، وكذلك كلُّ ما لا يؤكلُ لحمُه من الصيدِ (2) . ورأى مالكٌ: أنَّ (3) العلَّةَ كونُها مُضِرِّةً، وأنه إنما ذَكَر الكلبَ العقورَ ليُنبِّهَ به (4) على ما يضرُّ بالأجسامِ على جهةِ الاختلاسِ، وذكرَ الحِدَأةَ والغرابَ للتنبيهِ على ما يضرُّ بالأموالِ اختفاءً (5) .
وقد اختُلفَ في المرادِ بالكلبِ العقورِ؛ فقيل: هو الكلبُ المألوفُ. وقيل: المرادُ به كلُّ ما يفترِسُ؛ لأنه يُسَمَّى في اللغةِ: كَلْبًا. ومذهبُ مالكٍ أنَّ ما لا يَبْتدِئُ جنسُه بالأذى؛ كسباعِ الطيرِ، لا يُقتلُ إلا أن يخافَه (6) المرءُ على نفسِه، فتؤدِّي مدافعتُه إلى قتلِه (7) ، فلا شيءَ عليه. وأما قتلُ صغارِ ما يجوزُ قتلُ كبارِه؛ فلا يجوزُ على قولٍ، وعلى هذا لو قتلها؛ فهل عليه جزاءٌ أم لا؟ قولانِ (8) .
وقوله: «الغرابُ الأبقُع»؛ تقييدٌ لمطلَقِ الرواياتِ الأخرِ التي ليس فيها ((الأبقعُ))، وبذلك قالت طائفةٌ؛ فلا يجيزون إلا قتلَ الأبقعِ، وهو الذي في بطنهِ وظهرِه بياضٌ. وغيُر هذه الطائفةِ رأوا (9) جوازَ قتلِ الأبقعِ وغيرِه من الغِرْبانِ، ورأوا أن ذِكْرَ الأبقعِ إنما جرى لأنه الأغلبُ عندَهم.
و« الحِدَأة» - بكسر الحاءِ -، مهموزٌ، =(3/285)=@
__________
(1) عبارة "المعلم" (2/51): ((لكنهما اختلفا في العلة ما هي؟ فقال الشافعي...إلخ. وكذلك نقله في "الإكمال" (4/204).
وهو الصواب؛ فإن قوله: ((فقال الشافعي)) تفريع على اختلافهما في العلة التي اتفقا (مالك والشافعي) على أن ذكره هذه الأسماء تنبيهٌ على ما شاركها فيها.
(2) عبارة "المعلم": ((وكذلك كل ما لا يؤكل لحمه من الصيد مثلها)). وانظر: "الإكمال" (4/204).
(3) قوله: «أن» سقط من (أ).
(4) قوله: «به» سقط من (أ).
(5) قوله: ((... على ما يضرب الأجسام على جهة الاختلاس...)) إلى نهاية الفقرة كذا في النسخ، وفي الكلام سقط يظهر من عبارة المعلم وهي: ((وأنه إنما ذكر الكلب العقور لينبه به على ما يضر [بالأبدان على جهة المواجهة والمغالبة، وذكر العقرب لينبه بها على ما يضر] بالأجسام على جهة الاختلاس، وكذلك ذكر الحدأة والغراب للتنبيه على ما يضر بالأموال [مجاهرة، وذكر الفأرة للتنبيه على ما يضر بالأموال] اختفاءً)).اهـ. والسقط هو ما بين المعقوفين، وانظر: "الإكمال" (4/204).
(6) في (ز): «يخاف».
(7) في (ي): ((فتنة)).
(8) في (ز): ((فقولان)). وهنا نهاية نقل الشارح عن صاحب "المعلم". لكنه تصرف في صياغة مسألة قتل صغار ما يجوز قتل كباره. وعبارة المازري (2/52): وأما صغار ما يجوز قتله، فهل يقتل أم لا؟ فيه قولان؛ فعلى القول بأنها لا تقتل: إن قتلت، هل على قاتلها جزاء أم لا؟ فيه قولان.اهـ.
(9) في (أ): ((رأى))، وفي (ز): ((رأو)).(3/285)
والجمع: حِداءٌ: مقصورٌ مهموزٌ، وكذا في بعضِ الرواياتِ. وأما روايةُ: «الحُدَيَّا»؛ فقال ثابتٌ (1) : صوابهُ: الهمزُ على معنى التذكيرِ (2) ، وإلا فحقيقتُه (3) : الحُدَيْئَةُ، وكذا قيده في "صحيحِ البخاريِّ" (4) . أو (5) : «الحُدَيَّةُ» على التسهيلِ (6) .
وقول القاسمِ في "الأم": ((تقتل بصُغْرٍ (7) لها)) (8) ؛ أي: بمذلةٍ وقهرٍ؛ كما قال تعالى: {وهم صاغرون} (9) .
و«العقورُ» في وصفِ الكلبِ: هو (10) الذي يَعْقِرُ كثيرًا؛ أي: يَجْرَحُ (11) . يقالُ: سَرْجٌ مِعْقَرٌ: إذا كان يَجْرَحُ الدَّابةَ (12) ؛ قال الشاعرُ:
...............فَتَنَفَّسَتْ ... كَتَنَفُّسِ الظَّبْيِ الْعَقِيرِ (13)
أي: المجروحِ. وقيل: الدَّهِش.
وقد استدل مالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُهما – رضي الله عنهم - بإباحِة قتلِ هذه الفواسقِ في الحرمِ؛ على أنَّ الحرمَ لا يُعيذُ عاصيًا ولا فارًّ (14) بحدٍّ. وذهب أبو حنيفةَ إلى الفرقِ بين ما اجترحَه فيه مما يوجبُ القتلَ؛ فيقامُ فيه، وبين ما اجترحَه خارجًا؛ فيلجأ إلى الخروج، بأن يضَّيقَ عليه حتى يخرجَ، فيقامَ عليه خارجَه (15) . وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ إن شاء الله تعالى (16) .
وقولُه: «وفي الصلاة أيضًا»؛ يعني: أنه يجوزُ لمن كان في الصلاةِ أن يقتلَ هذه (17) الدوابَّ في الصلاةِ، ولا يخرجُ عن الصلاةِ بقتلِها؛ اللهمَّ إلا أن يحتاجَ في محاولةِ ذلك إلى عملٍ كثير يَخْرجُ به عن سنةِ الصلاةِ وهيئتِها، فإن فعل ذلك استأنفَ صلاتَه. =(3/286)=@
__________
(1) هو ثابت السرقسطي الأندلسي لابنه قاسم "كتاب الدلائل في شرح ما أغفله أبو عبيد وابن قتيبة من غريب الحديث"، أتمه ثابت بعد وفاة ابنه قاسم. "الديباج المذهب" (2/147-148). [تقدم عند الكلام على ((؟؟؟ رسول الله ؟؟؟ وحله))].
(2) يريد أن الصواب: ((الحُدَيْء)) وقد رسمت في "المشارق" وغيره هكذا: ((الحديا)). قال في "المشارق" (1/184): ((وقد جاء في بعض طرقه في الصحيحين الحدأ)) مقصور مهموز بغير تاء، وهو جمع حدأة، أو على قصد التذكير... قال: (أي ثابت): وإن شئت التذكير فقتل: ((الحديْءُ والحديُّ؛ مثل غزي)).
(3) قوله: «فحقيقته الحديئة» في (أ) ((فحقيقته الحدية)) وفي (ز) و(ي): ((فحقيقة الحديئة)) والمثبت ملفق منهما.
(4) الحديث رقم (3314). وقوله: ((وكذا قيده في "صحيح البخاري")) من كلام القاضي في "المشارق" (1/184)، و"الإكمال" (4/207) وعبارته في "الإكمال": ((وكذا قيده الأصيلي في "صحيح البخاري" في موضع)).
(5) في (أ): «و».
(6) أي: والإدغام. وهذا آخر كلام ثابت السرقسطي نقله عنه القاضي في "المشارق" (1/184- 185)، "الإكمال" (4/270)، والحافظ في "الفتح" (6/355). قال القاضي في "المشارق": قال ثابت: وصوابه – يريد في التصغير – الحديئة على وزن ((فعيلة)) ريد: مثل ((تميرة))... وإن شئت ألغيت الهمزة وشددت الياء فقلت الحدية؛ يريد: مثل علية.
(7) في (أ): «تصغير» قال في "المشارق" (2/48): بضم الصاد وسكون الغين.
(8) مسلم (2/856 رقم 1198/66) في الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحلِّ والحرم.
(9) سورة التوبة؛ الآية: 29.
(10) في (أ): ((وهو)).
(11) في (ز): ((يخرج)).
(12) ينظر: "تهذيب اللغة" (1/217)، و"اللسان" (4/594)، وفيه: سرج مِعْقار، ومِعْقَر، ومُعْقِر، وعُقَرة، وعُقَر، وعاقور: يعقر ظهر الدابة، أي: يخره. وينظر "مشارق الأنوار" (2/65).
(13) البيت من مجزوء الكامل المرمَّل، وتمامه:
وَلَثِمْتُها فَتَنَفَّسَتْ ... كَتَنَفُّسِ الظَّبْيِ الْعَقِيرِ
(14) هو للمُنَخَّلِ اليَشْكُريِّ، من بني يَشْكُرَ، اختُلف في اسم أبيه، فقيل: المنخل بن عمرو، وقيل: ابن مسعود، وقيل: ابن الحارث.
والبيت له في "الأغاني" (21/3، 7)، (11/14)، (20/423)، و"الأصمعيات" (ص60) وفيهما: ((الظبي البهير))، وفي "المحكم" (1/106)، و"اللسان" (4/598) (عقر) و"تاج العروس" (7/255) (عقر) وروايتهم كرواية الشارح، وفي الشعر والشعراء (1/404) وفيه: ((الظبي الغرير)). وليس في البيت شاهد على رواية "الأغاني" و "الأصمعيات" و"الشعر والشعراء".
أما على رواية "المحكم" و"اللسان" و"التاج"، فكلهم قالوا فيه إن معنى ((عقير)) هنا: دَهِشٌ – وهو الوجه الثاني الذي سيذكره الشارح بَعْدُ -؛ قال في "المحكم": عَقِر الرجلُ عَقَرًا: فَجِئَهُ الرَّوْع فلم يقدر أن يتقدم أو يتأخر. وقيل: عَقِرَ: دَهِشَ، ومنه قولُ عمر فَعَقِرْتُ حتى ما أقدر على الكلام. ثم أنشد ابن سيده بيت المنتحل هذا.
ونحوه في "اللسان" و"التاج"! ومعنى "دهش" – كما في "التاج" (9/118) تحيَّر أو ذهب عقله من ذَهَلٍ أو وَلَهٍ، وقيل: من الفزع ونَحوِه. ويقرب من هذا المعنى رواية "الأغاني" و"الأصمعيات": ((البهير))؛ فهي من البُهْر، وهو الكرب المعتري للبعير عند الركض أو للإنسان إذا كلف قومه الجهد، وما يعتريه عند ذلك من تتابع النفس والنهيج. ولعل هذه أولى الروايات وأدقها وألصقها بمعنى البيت.
وعليه فليس في البيت أيضًا شاهدٌ أيضا على رواية المحكم واللسان والتاج! لأن المعنى الذي ذكروه تفسير العقر بمعنى الجرح؛ فالظبي إذا بصر بالصائد ففزع منه؛ قيل عنه ((عقير)) بمعنى ((دهش))، فإذا ركض أصابه البهر وتتابع النفس، وإن أدركه الصائد فعقره بمعنى جرحه ثم أفلت منه الظبي وركض، أصابته تلك الحالة.
( ) في (ز): «ولا حبارًا».
(15) ينظر "الإكمال" (4/208- 209).
(16) في باب تحريم مكة.
(17) قوله: «هذه» سقط من (أ).(3/286)
ومن باب الفدية للمحرم
قوله: «أَيُؤْذِيكَ (1) هَوَامُّ رَأْسِكَ»؛ سؤالٌ عن تحقيقِ العلَّةِ التي يترتَّبُ عليها الحكُم. و«يُؤذيك»: يُؤلمك. فلما أخبره بالمشقَّةِ التي هو فيها خفَّف عنه، وقد تبيَّن بمجموعِ رواياتِ هذا الحديثِ: أنه كان مُحرِمًا، وأنه لما أباح له الحلقَ أعلمَه بما يترتَّبُ على ذلك من الفديةِ، وأنها ثلاثةُ أنواعٍ مخيَّرٌ بينها، وأنَّ الصيامَ ثلاثةُ أيامٍ، والإطعامَ لستةِ مساكين؛ مُدَّينِ مُدَّينِ لكلِّ مسكينٍ، وأن النُّسُكَ شاةٌ؛ فصار هذا الحديثُ مفسِّرًا لما في قولِه تعالى: {فمن كان منكم مريضًا...} الآيةَ (2) ، مِنْ مُجْمَلٍ. وصار هذا الحديثُ مع الآيةِ أصلاً في أنَّ المحرِمَ إذا استباح شيئًا من ممنوعاتِ الإحرامِ التي لا تُفْسدُه، فانتفع بذلك - لزمتْه الفديَةُ. قال أحمدُ بن صالحٍ: حديثُ كعبِ بن عُجْرةَ معمولٌ به عندَ الجميعِ (3) .
قال القاضِي أبو الفضلِ: ولم يقع في شيءٍ منه خلافٌ إلا في الإطعامِ؛ فروي عن أبي حنيفة والثوريِّ: أن الصاعَ إنما هو في التَّمْرِ والشعيرِ، وأما البُرُّ: فنصفُ صاعٍ. وعن أحمد رواية: مُدٌّ من البرِّ، ونصفُ صاعٍ من غيرِه. وكذلك رُوي عن الحسنِ وعن بعض السَّلفِ: أن الإطعامَ لعشرةِ مساكينَ، والصيامَ عشرةُ أيامٍ، ولم يُتَابَعُوا عليه. واتفق غيرُ هؤلاءِ وكلُّ مَنْ جاء بعدَهم على إطعامِ ستةِ مساكينَ، وصيامِ ثلاثةِ أيامٍ. =(3/287)=@
__________
(1) في (ز) و(ي): «أتؤذيك».
(2) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(3) حكاه ابن عبد البر "الاستذكار" (13/304- 305) بسنده إلى أحمد بن صالح، ولفظه: ((حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها عند جماعة العلماء، ولم يروها أحد من الصحابة غير كعب، ولا رواها عن كعب إلا رجلان ثقتان من أهل الكوفة: عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن معقل، وهي سنة أخذها أهل المدينة وغيرهم من أهل الكوفة.اهـ.(3/287)
قلت (1) : وتلك الأقوالُ كلُّها مخالفةٌ لنصِّ الحديثِ المتقدِّمِ (2) ، وهو حجَّةٌ على كلِّ (3) مَنْ خالفه.
ويستوي عندنا لزومُ الفديةِ في حقِّ العامدِ والناسِي والمخطئِ. وخالف في الناسِي الشافعيُّ - في أحدِ قولَيْهِ - وداودُ وإسحاقُ؛ فقالوا (4) : لا دمَ عليه.
وقوله: «أَو انْسُكْ نَسِيِكَةً»، وفي الأخرى: «ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا» - دليلٌ على أنها ليستْ بِهَديٍ؛ وإذا كان كذلك، فيجوزُ أن يذبَحَها حيث شاء، وكذلك (5) الإطعامُ يُخرجُه حيث شاء؛ وهو قولُ مالكٍ وغيرٍه. ولم يختلفْ قولُ الشافعيِّ؛ في أن =(3/288)=@
__________
(1) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(2) يعني: غير من اتفقوا على إطعام ستة مساكين وصيام ثلاثة أيام.
(3) سقط من (ي).
(4) في (ز): «فقالا».
(5) قوله: ((شاء وكذلك)) رسمت في (ي): ((شاوا كذلك)).(3/288)
الدم والإطعامَ لا يكونُ إلا بمكةَ. واختلفَ فيه قولُ أبي حنيفةَ، فقال مرةً بقولِ الشافعيِّ، ومرة قال بذلك في الدمِ دون الإطعامِ. ولم يُخْتَلَفْ في الصيامِ أنه يفعلُه حيثُ شاء (1) .
ومن بابِ جوازِ مُداواةِ المحرِمِ بما ليس فيه طيبٌ
قوله: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي وَسَطِ رَأْسِهِ (2) »؛ لا خلافَ بين العلماءِ في جوازِ الحجامةِ للمحرِمِ حيثُ كانت؛ من رأسٍ أو جسدٍ للضرورةِ، =(3/289)=@
__________
(1) أي: لم يختلف الفقهاء في مكان الصوم أنه حيث شاء. "الاستذكار" (13/308).
(2) الرواية في "صحيح مسلم" ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه)).(3/289)
وأما لغيرِ الضرورةِ في جسده، حيثُ لا يحلقُ شَعَرًا: فجمهورُهم على جوازِه، ومالكٌ يمنعه. واتفقوا: على أنه إذا احتجم برأسِه، فَحَلَقَ لها شَعَرًا: أنه يَفْتدِي (1) . وجمهورُهم على أنَّ حكمَ شَعَرِ الجسدِ كذلك، إلا داودَ فإنَّه لا يرى في حَلْقِ شَعِرِ الجسدِ لضرورةِ الحجامةِ دمًا. والحسنُ يُوجبُ عليه الدمَ في الحجامةِ.
و«وَسَطُ الرأسِ»- بفتح السين-: متوسِّطُه (2) ، وهو ما فوقَ اليَافوخِ منه وما بين القرنين. وقد رُوي في حديثٍ مرفوعٍ (3) : «فِي حِجَامَةِ وَسَطِ الرَّأْسِ شِفَاءٌ مِنَ النُّعَاسِ، والصُّدَاعِ وَالْأَضْرَاسِ». قال الليثُ (4) : وليسَ في (5) وسطِه، ولكن (6) في فأسِ الرأسِ، وهو مُؤْخِرُه, وأما في وَسَطِ الرأسِ فقد يُعْمِي.
وقولُه: «رَمَدَتْ عَيْنُهُ»؛ أي: أصابها الرَّمدُ، وهو مرضٌ خاصٌّ بالعينِ. وَنَهْيُ أبانَ بنِ عثمانَ للسائلِ أن يَكْحَلَ عينَهُ ليسَ على إطلاقهِ، وكأنه إنما (7) نهاه عن أن يكحَلَها بما فيه طيبٌ. وتضميدُ العينِ: هو لَطْخُها، و«الصَّبِرُ» ليس بطيبٍ.
ولا خلافَ في جوازِ مثلِ هذا مما ليس فيه طيبٌ ولا زينةٌ. فلو اكتحل المحرمُ أو المحرمةُ بما فيه طيبٌ، افتديا (8) . وكذلك المرأةُ إذا اكتحلتْ للزينةِ وإن لم يكن فيه طيبٌ. فلو اكتحل الرجلُ للزينةِ (9) : فأباحه قوم، وكرهه آخرون؛ وهم: أحمدُ، وإسحاقُ، والثوريُّ. وعلى القولِ بالمنعِ (10) ؛ فهل تجبُ الفديةُ أم لا؟ قولان. وبالثاني قال الشافعيُّ، رجلاً كان أو امرأةً. والله أعلم (11) . =(3/290)=@
__________
(1) في (ي): «يقتدي».
(2) في (ز): «متوسط».
(3) ومنها حديث ابن عمر مرفوعًا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الحجامة في الرأس دواء من الجنون والجذام والبرص والنعاس والضرس» أخرجه الطبراني في "الأوسط"(4547)، وفيه مسلمة بن سالم الجهني، ويقال: مسلم بن سالم، وهو ضعيف، قاله الهيثمي (5/93).
وأخرج الطبراني في "الأوسط" أيضًا (7817) عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحتجم في مقدم رأسه، ويسميه أم مغيث. قال الهيثمي (5/93): «رجاله ثقات».
ومنها حديث ابن عباس: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الحجامة في الرأس شفاء من سبع أدواء لصاحبها: من الجنون والصداع والجذام والبرص والنعاس ووجع الأضراس، وظلمة يجدها في عينيه» أخرجه الطبراني، وفيه عمر بن رباح العبدي، وهو متروك. "مجمع الزوائد" (5/93).
ورواه الطبراني في "الكبير" (11446) من طريق آخر عن ابن عباس مقتصرًا على النعاس ووجع الأضراس.
ومنها حديث صهيب نحوه أخرجه الطبراني في "الكبير"(7306)، كما في "مجمع الزوائد" (5/94)، وقال: «رجاله ثقات». قلت: فيه عبد الحميد بن زياد؛ ضعيف.
(4) نقله في "الإكمال" و"الفتح" يوثق ويراجع.
(5) سقط من (أ) و(ي).
(6) في (ز) و(ي): ((لكن)).
(7) مطموس في (ز).
(8) في (ز): ((افتدتا)).
(9) قوله: «للزينة» سقط من (ز).
(10) في هذا الكلام سقط، وقد نقله الشارح عن القاضي عياض، في "الإكمال" (4/218) لكنه قدم وأخر في كلام القاضي، وعبارة القاضي: ((وأما من اكتحل فأباحه قوم وكره آخرون، [وفي مذهبنا في ذلك قولان: المنع، والكراهة]، وعلى القول بالمنع في إيجاب فدية عليه قولان، وبكراهة ذلك للزينية قال أحمد وإسحاق والثوري، وقال الشافعي: لا أرى عليه دما رجلا كان أو امرأة.اهـ. وانظر: "المدونة" (1/461).
(11) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/290)
ومن بابِ غَسْل المحرِمِ رأسَهُ
اختلافُ ابنِ عباسٍ والمِسْوَرِ لم يكنْ في جوازِ أصلِ غَسْلِ الرأسِ؛ لأنه من المعلومِ عندَهما وعند غيرِهما: أنه يَغتسلُ من الجنابِة إن أصابتْه، ويغتسلُ لدخولِ مكَة، وللوقوفِ بعرفةَ. وإنما كان الاختلافُ بينهما في كيفيتهِ: فهل يَدْلُكُه، أو لا يَدْلُكُه (1) ؛ لأنه يُخافُ منه قَتلُ الهوامِّ، أو لقاؤها (2) عن رأسهِ وجسدهِ وإزالةِ الشعثِ. ولإمكانِ هذه الأمورِ منع منه المسورُ، ولم يلتفتِ ابنُ عباسٍ إلى إمكانِ تلك الأمورِ؛ لأنه إذا ترفَّقَ في ذلك (3) سلم مما يَتقى من تلك الأمورِ. وقد كان ابنُ عباسٍ عَلم ذلك من حديثِ أبي أيوبَ؛ ولذلك أحال عليه وأرسل إليه. والله تعالى أعلم.
و«القرنان»: هما الخشبتان القائمتان على رأسِ البئرِ، أو شبههما (4) من البناءِ، تُمدُّ بينهما خشبةٌ يجرُّ عليها الحبلُ؛ ليستقى عليه، أو لِتُعَلَّقَ عليه البَكْرَةُ.
وقولُه: «ثم قال لإنسانٍ يصبُّ: صُبَّ (5) فَصَبَّ»؛ دليلٌ على جواز =(3/291)=@
__________
(1) دَلَكَ الشيْءَ، يَدْلُكُهُ: مَرَسَه بيده. وتَدَلَّك الرجل: دَلَكَ جَسَدَه عند الاغتسالِ. ينظر: "مختار الصحاح" (194)، و"المصباح" (105).
(2) في (ز): «إبقائها» غير منقوطة الباء.
(3) قوله: ((في ذلك)) في (ي): ((في شيءٍ من ذلك)).
(4) قوله: ((أو شبههما)) في (أ): ((أو شبهها)).
(5) كذا في (ز)، وموضعها في (ي): ((عليه))، وهو سقط من (أ). وصواب الرواية كما في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((ثم قال لإنسان يصب: اصبب، فصب)).(3/291)
الاستعانة بالصاحب والخادم في الطهارة.
وقولُه: «ثُمَّ حَرَّكَ رَأسَهُ بيديه (1) ، فأَقْبل بهما وأَدْبر» يدل (2) لابن عباسٍ على صحةِ ما ذهب إليه؛ من أنَّ المحرم يغتسلُ، ويغسلُ رأسهَ وَيَدْلُكُه، وعليه الجمهورَ. وقد رُوي عن مالكٍ كراهيةُ ذلك لغيرِ الجنابةِ، وذلك لما ذكر آنفًا. وفيه دليلٌ لمالكٍ على اشتراطِ التَّدلُّكِ في الغسلِ؛ لأنه لو جاز الغسلُ بغيرِ تَدَلكٍ (3) لكان المحرمُ أحقَّ بأن (4) يُجَازَ له تركُ التَّدلُّكِ، ولَمْ فَلا. وفيه دليلٌ: على أنَّ حقيقةَ الغُسْلِ لغةً لا يكفِي فيها (5) صبُّ الماءِ فقط، بل لا بدَّ من الدَّلْكِ (6) ، أو ما يتنزلُ (7) منزلتَه، فتأملْه (8) .
وقولُه: «لا أُماريكَ أبدًا»؛ أي: لا أجادلَكَ، ولا أخاصمُك. والله أعلم (9) . =(3/292)=@
__________
(1) في (أ): «بيده».
(2) قوله: ((وأدبر يدل)) في (ي): ((وأدبر يريد يدل)).
(3) في (ي): ((دلك)).
(4) في (ي): ((من أن)).
(5) في (ز): ((فيه)).
(6) في (ي): ((التدلك)).
(7) في (ي): ((ينزل)).
(8) قوله: «فتأمله» سقط من (ز). وأما أن حقيقة الغسل لغة لابد فيها من الدلك، فقد قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (3/60): ((واعلم أن حقيقة الغسل في الجنابة وغسل أعضاء الوضوء وجميع الاغتسال هو جريان الماء على العضو فلابد من جريانه؛ فإنه أمسه الماء ولم يجر لم يجزه بلا خلاف...و إذا أجرى كفاه ولا يشترط الدلك وإمرار اليد على العضو هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال مالك والمزني: يشترط إمرار اليد.
(9) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/292)
ومن بابِ المحرِمِ يموتُ، ما يفعلُ به؟
قولُه: «فوقصته راحلته»؛ أي: أوقعتْه فاندقَّتْ عُنُقُه؛ يقال لمنِ اندقَّتْ عُنُقُه: وُقِص، فهو مَوْقُوصٌ،على بناءِ ما لم يُسَمِّ فاعلُه. ويروى: «فأوقَصَتْه » (1) - رباعيًّا - وهما لغتانِ، والثلاثيُّ أفصحُ. وروي (2) : «فقعصته» (3) ، بمعنى: قتلتْه لِحِيِنِهِ، ومنه قُعَاصُ الغنمِ، وهو: موتُها بداءٍ يأخذُها فلا يُلْبِثُها.
وقولُه: «فَاغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكفِّنِوُهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُمِسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخمِّرُوا رَأْسَهُ»؛ أي: لا تُغطُّوه.
قال بمقتضى ظاهر هذا الحديثِ الشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ؛ فقالوا: إذا مات المحرمُ لا يُحَنَّطُ، ولا يغطَّى رأسُه. وقال مالكٌ، والكوفيون، والحسنُ، والأوزاعيُّ: إِنه يُفعلُ به ما يُفعلُ بالحلالِ. وكأنهم رأوا: أنَّ (4) هذا الحكمَ مخصوصٌ بذلكَ الرجلِ؛ واستُدِلَّ لهم بوجهين:
أحدُهما: أنَّ التكاليفَ إنما تلزمُ الأحياءَ، لا الأمواتَ.
وثانيهما: أن قولَهُ - صلى الله عليه وسلم - : «فإنه يُبْعَثُ يومَ القيامةِ ملَبِّيًا»؛ تصريحٌ بالمقتضِى لذلك، ولا (5) يعلمُ ذلك غيرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فهو إذن تعليلٌ قاصرٌ على ذلك الرجلِ. =(3/293)=@
__________
(1) مسلم (2/865 رقم1206/94) في الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات.
(2) في (ز): «ويروى».
(3) كذا في النسخ، وليس في مسلم رواية بهذا اللفظ ((فقعصته))، إنما فيه: ((فأقعصته)) رباعيًّا (مسلم: (1206) (94، 97)، وعند البخاري (1268): ((فأقصعته)) بتقديم الصاد، وذكر الحافظ في "الفتح" (4/137) أن رواية الكشمهيني في هذه اللفظة بتقديم العين؛ أي: كما عند مسلم. وكذلك ذكر الاختلاف فيها القاضي في "المشارق" (2/189، 191) ولم يذكر من الروايات فيه ((فقعصته)) أو ((فقصعته)). غير أن ((فقصعته)) و((فأقعصته)) بمعنًى؛ قال في "النهاية" (4/88): يقال: قعصتُه وأقعصته: إذا قتلتَه سريعًا.. القُعَاصُ - بالضم -: داءٌ يأخذ الغنم لا يُلبتُها أن تموت؛ كما سيذكره الشارح.
أما ((أقصعته)) بتقديم الصاد، فهو من القَصْعِ؛ وهو ذلك الشيء بالظفر، وقَصعت الرحى الحبَّ قصعًا: فضخته، وأقصع القملة بين الظفرين:قتلها. قال الحافظ في "الفتح" (4/137): أقصعته، أي: هشمته، قال: أقصع القملة: إذا هشمها، وقيل: هو خاص بكسر العظم، ولو سلم فلا مانع من أن يستعار لكسر الرقبة.اهـ. وينظر "تاج العروس" (9/340، 341)، (11/376- 377).
قلت: ولعل ما ذكره الشارح توهمه من عبارة القاضي في "الإكمال" (4/222) فإنه قال: ((ويروى ((فأقعصته)) كذا جاء رباعيًّا ووجهه: ((فقعصته)) ثلاثي أو ((فقصعته))، ومعناه: شدخته وفضخته.اهـ.
(4) قوله: «أن» سقط من (أ).
(5) في (ي): ((لا)).(3/293)
وقد أُجيب عن الأول: بأنَّ الميتَ وإن كان غيرَ مكلَّفٍ؛ فالحيُّ هو المكلَّفُ بأن يفعلَ به ذلك.
وعن الثاني: أنه وإن لم يعلمْ ذلك غيرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، لكنه يُرْجَى من فضلِ الله تعالى أن يفعلُ ذلك بكلِّ من اتَّفق له من المُحْرِمين مثلُ ذلك.
وهذا كما قد (1) قال - صلى الله عليه وسلم - في الشَّهيدِ: «إنه يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامِةَ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، والريحُ رِيحُ مِسْكٍ» (2) .
وقد سوَّى أبو حنيفةَ بين الشهيدِ والمحرمِ؛ فقال: إنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُغَسَّلُ، ويُكَفَّنُ، ويُصَلَّى عليه، على أصلِ المشروعيةِ في الموتى. وسوَّى الشافعيُّ في كونِهما يُدْفنان في ثيابِهما، غيرَ أنَّ المحرمَ يُغسَّلُ، ولا يصلَّى عليه (3) . وقال مالكٌ في المحرِمِ بقولِ أبي حنيفةَ، وفي الشهيدِ بقولِ الشافعيِّ، رحمهم الله تعالى.
وقولُه: «ولا تُخَمِّروا رأسه» أو «اكشفوا (4) وجهه»؛ حجَّةٌ لمالكٍ وأبي حنيفة على قولِهما: إن إحرامَ الرجلِ في رأسِه ووجهِه. والجمهورُ على أَنْ لا إحرامَ (5) على الرجلِ في وجهِه.
وقولًه: «اغسلوه (6) بماءٍ وسدرٍ» يدلُّ: على أنَّ حكمَ الإحرامِ ساقطٌ عنه؛ إذ لا يجوز أن يغتسلَ المحرِمُ بالسِّدرِ والخِطْمِيِّ (7) وشبهِهِمَا؛ لأن ذلك يُزيل الشَّعَثَ، والدَّرنَ. وقد منعه مالكٌ من الخِطْمِيِّ والتَّدَلُّكِ الشديدِ، وقال: عليه الفديةُ إن فعل. ونحوهُ عن الشافعيِّ، وأبي حنيفة، وأبي ثورٍ. وقال محمدٌ، وأبو يوسفَ - صاحبا أبي حنيفة -: عليه صدقةٌ. وقال أبو ثورٍ: لا شيءَ عليه (8) . ورخَّص =(3/294)=@
__________
(1) قوله: «قد» سقط من (أ).
(2) سيأتي تخريجه في كتاب الجهاد والسير، باب الترغيب في الجهاد وفضله. وقد ذكر الشارح هنا بالمعنى، واللفظ هناك ((لا يُكُلَمُ أحدٌ في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب، اللون لون دمٍ، والريح ريح مسلكٍ))، ووقع في (أ) و(ز): ((والعرف عرف مسك)) وهي رواية.
(3) قال الحافظ في "الفتح" (3/138): «وأغرب القرطبي فحكى عن الشافعي أن المحرم لا يصلى عليه، وليس ذلك بمعروف عنه».
(4) قوله: ((أو اكشفوا)) في (ي): ((واكشفوا)). والرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((وأن يكشفوا)).
(5) في (ز): «على أن الإحرام».
(6) في (ي): ((فاغسلوه)).
(7) السِّدْر: شجر النَّبِقِ، الواحدة: سِدْرة. والجمع: سِدْرات وسِدَرات، وسِدِرات، وسِدَر، وسُدُر، وسُدُور.
وفي "المصباح" (ص142): وإذا أطلق السدْر في الغسل فالمراد: الورق المطحون. وينظر "القاموس" (ص405).
والخِطْمي – بالكسر ، ويفتح -: نبات يغسل به الرأس. "تاج العروس" (16/222).
(8) قول الشارح: ((ونحوه عن الشافعي...، إلخ – نقله عن القاضي عياض في "الإكمال" (4/222) إلا أنه غير في العبارة بما يجعلها مضطربة، وعبارة "الإكمال": ((ونحوه للشافعي وأبي حنيفة وصاحبيه وأبي ثور (أي: في موضع المحرم من استعمال الخطمي والتدليل الشديد)، إلا أن محمدًا وأبا يوسف قالا: إن فعل فعليه صدقة. وقال أبو ثورٍ لا شيء عليه)).اهـ.
ووجه اضطراب عبارة الشارح، ذكره أبا ثورٍ في سياق يوهم قوله بالفدية، ثم يذكر عنه أنه يقول: ((لا شيء عليه)).(3/294)
طاوسٌ، وعطاءٌ، ومجاهدٌ، وابنُ المنذرِ للمحرم في غسلِ رأسهِ بالخِطْمِيِّ.
وقولُه: «في ثوبيه»، كذا في أكثر الرِّوايات، وفي بعضِها: «في (1) ثوبين» (2) ، فعلى الروايةِ الأولى: يحتجُّ به الشافعيُّ (3) في بقاءِ حكمِ (4) الإحرامِ عليه؛ لأنه أمَرَ أن يكفَّنَ في ثيابِه التي كانت عليه (5) . ومن رواه: «ثوبين»، فيحتملُ أن يريدَ بهما: ثوبيه، ويحتمل أن يُريدَ: زِيدوا على ثوبِه الذي أحرم فيه ثوبينِ؛ ليكونَ كفنُه وترًا. والأولُ أولى؛ لأن إحدى الروايتين مفسِّرةٌ للأخرى (6) .
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - : «حُجِّي واشترطي، وقُولي: اللهَّم مَحِلِّي حيثُ حَبَسْتَنِي»؛ معناه: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما استفهمها عن إرادةِ الحجِّ اعتلَّتْ بأنها مريضةٌ، وأنها خافت إن اشتدَّ مرضُها أن يتعذَّرَ عليها الإحلالُ، بناءً منها على أن المحصَرَ بالمرضِ لا يتحلَّلُ إلا بالطوافِ بالبيتِ، وإن طال مرضُه، كما هو مذهبُ مالكٍ وغيرِه - وسيأتي إن شاء الله تعالى - فلما خافت هذا أقرَّها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ثم رخَّصَ لها في أن تشترطَ (7) أنَّ لها التحلُّلَ حيثُ حبَسَها مرضُها. وبظاهرِ هذا الحديثِ (8) قال جماعةٌ من العلماءِ من الصحابةِ والتابعين وغيرِهم؛ منهم: عمرُ (9) ، وعليٌّ (10) ، وابنُ مسعودٍ (11) ، وهو قولُ أحمدَ، وإسحاقَ، وأبي ثورٍ - وللشافعيِّ قولان - فقال كلُّ هؤلاء: بجواز (12) الاشتراطِ في الحجِّ، وأنَّ (13) له الفسخَ إذا وقع شرطُه.
ومنع ذلك جماعةٌ أخرى، وقالوا: إنه لا ينفعُ؛ منهم: ابنُ عمرَ (14) ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، وأبو حنيفة؛ متمسِّكين بقولِه تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (15) ، =(3/295)=@
__________
(1) قوله: «في» سقط من (أ).
(2) مسلم (2/865 رقم1206/94) في الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات.
(3) في (ي): ((للشافعي)).
(4) سقط من (ز).
(5) قال القاضي في "الإكمال" (4/222): وهو عندنا على الخصوص لذلك الشخص؛ لأنها قضية في عين وإخبار عن شخص معين.اهـ.
(6) في (ز): «بالأخرى».
(7) قوله: ((أن تشترط)) في (ي): ((اشتراط)).
(8) قوله: «الحديث» سقط من (أ).
(9) أخرجه البيهقي في "السنن" (5/222)، وفي "المعرفة" (7/499 رقم10832) بسنده عن سويد بن غفلة قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبا أمية حج واشترط، فإن لك ما اشترطت، ولله عليك ما اشترطت. وصححه الحافظ في"الفتح" (4/9).
(10) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/324 رقم14725) بسنده عن علي أنه كان يقول: اللهم حجة إن تيسرت (أو عمرةَ إن أراد العمرة) وإلا فلا حرج.اهـ.
وقال ابن حزم في "المحلى" (7/113): «ومن طرق جمة عن محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب، عن ميسرة، أن علي بن أبي طالب...» فذكره. وصححه الحافظ في"الفتح" (4/9).
(11) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/325 رقم14742) بسنده عن عبدالله قال إذا حججت فاشترطه.اهـ. وأخرجه البيهقي في "سننه" (5/222). وصححه الحافظ في"الفتح" (4/9)، وقال: «وصح القول بالاشتراط عن عمر وعثمان وعلي وعمار وابن مسعود وعائشة وأم سلمة وغيرهم من الصحابة، ولم يصح إنكاره عن أحد من الصحابة إلا عن ابن عمر ووافقه جماعة من التابعين».اهـ.
(12) في (ي): ((يجوز)).
(13) في (ز): ((وأنه)).
(14) سيأتي في باب الهدي للمتمتع والقارن.
وفي رواية ابن المبارك عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: التصريح بإنكار ابن عمر للاشتراط، وهي عند الترمذي (3/279 رقم942) في كتاب الحج، ولفظها: «أنه كان ينكر الاشتراط في الحج يقول: أليس حسبكم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ». وقال الترمذي: حسن صحيح.
وهذه الرواية ساق إسنادها البخاري في "صحيحه" (4/8 رقم1810) كتاب المحصر، باب الإحصار في الحج، ولكنه لم يسق لفظها.
وأيضًا خرَّج النسائي في "سننه" (5/169 رقم2770) كتاب مناسك الحج، باب ما يفعل من حبس عن الحج ولم يكن اشترط، من رواية معمر من طريق عبدالرزاق به، وفيها التصريح بإنكار ابن عمر للاشتراط.
وخرَّجه النسائي أيضًا (5/169 رقم2769) كتاب مناسك الحج، باب ما يفعل من حبس عن الحج ولم يكن اشترط، من رواية الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم قال: كان ابن عمر ينكر الاشتراط في الحج...إلخ.
(15) سورة البقرة؛ الآية: 196.(3/295)
وبقوله: {ولا تبطلوا أعمالكم} (1) . واعتذروا عن هذا الحديث بوجهين:
أحدهما: ادعاءُ (2) الخصوصِ بهذه المرأةِ.
وثانيهما: أنهم حملوه على التحلُّل بالعمرةِ؛ فإنها أرادتْ أن تحجَّ؛ كما جاء مفسَّرًا من روايةِ ابنِ المسيِّبِ (3) ، وهو أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرِ ضُبَاعَةَ أن تشترطَ وتقولَ: «اللَّهُمَّ الحَجَّ أَرَدتُّ، فَإِنْ تَيَسَّرَ، وإِلَّا فَعُمْرَةً». ورُوي عن عائشة– رضي الله عنها -: أنها كانت تقولُ: «للحجِّ خرجتُ، وله قصدتُ، فإن قضيتُه فهو الحجُّ، وإن حال دونه شيءٌ فهو العمرةُ» (4) . والله أعلم (5) .
ومن بابِ: يَغتسلُ المحرِمُ وإن كَانَ امرأةً حائضًا
قوله: «نُفِسَتْ أَسْمَاءُ»؛ أي: ولدت. وقد تقدَّم؛ أنه يقالُ: ((نفست المرأةُ)) في الحيضِ والولادةِ، بالضمِّ والفتحِ (6) ؛ كما حكاهما (7) صاحبُ "الأفعالِ (8) "، غيرَ أنَّ الضمَّ في =(3/296)=@
__________
(1) سورة محمد؛ الآية: 33.
(2) في (ز): «ادّ».
(3) أخرجه البيهقي في"سننه" (5/222) من طريق يحيى بن سعيد، عن سعيد ابن المسيب، عن ضباعة بنت الزبير، قال: قالت: يا رسول الله ! إني أريد الحج، فكيف أهل بالحج؟ قال: «قولي: اللهم إني أهل بالحج، إن أذنت لي به وأعنتني عليه ويسرته لي، وإن حبستني فعمرة، وإن حبستني عنهما جميعًا، فمحلي حيث حبستني». اهـ. ولم أقف على اللفظ الذي ساقه المؤلف هنا.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/324 رقم14727) فقال: حدثنا ابن فضيل، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: إذا حججت فاشترط؛ قل: «اللهم الحج عمدت، وإياه أردت، فإن تيسر الحج فهو الحج، فإن حبست فعمرة».
وخرَّجه البيهقي في "سننه" (5/223)، وفي "المعرفة" (7/497 رقم10823) من طريق ابن عيينة، عن هشام بن، عروة عن أبيه، قال: قالت لي عائشة رضي الله عنها: هل تستثني إذا حججت؟ فقلت لها: ماذا أقول؟ فقالت: قل: اللهم الحج أردت وله عمدت، فإن يسرته فهو الحج، وإن حبسني حابس فهو عمرة.
(5) قوله: ((والله أعلم)) ليس في (ي).
(6) تقدم الكلام على هذه اللفظة في كتاب الطهارة، باب ما يحل من الحائض، وذكر الشارح هناك ما حكاه القاضي عياض في "الإكمال" (2/127 – 128)، و"المشارق" (2/21).
(7) في (ي): ((حكاها)).
(8) عبارة "الأفعال" لابن القوطية (ص14): نَفِست...ا لمرأة نفاسًا: ولدت، ونُفِست أيضا. ونَفِست: حاضت وولدت.اهـ. فلم يذكر في الحيض إلا "الفتح". ونحوه في "الأفعال" للسرقسطي ( )، و"الأفعال" لابن القطاع (3/223). وينظر التعليق على اللفظة في كتاب الطهارة، باب ما يحل من الحائض.(3/296)
الولادِة أكثرُ، والفتحَ في الحيضِ أكثرُ. وقيل: إنه لا يقالُ في الحيضِ إلا بالفتحِ؛ حكاه الحربيُّ (1) .
و«الشَّجرةُ»: شجرةٌ كانت هناك بذي الحليفةِ، و«البيداءُ» طرفٌ منها، وكأنها إنما نزلت هناك لتبعدَ عن الناس لأجلِ الولادةِ (2) .
وأَمرهُ - صلى الله عليه وسلم - لها بأن تغتسلَ إنما كان للإهلالِ، وهو الإحرامُ. وفي الحجِّ أغسالٌ هذا أوكدُها، وهو سنةٌ عند الجمهورِ. وقال بوجوبهِ عطاءٌ، والحسنُ في أحدِ قوليه، وأهلُ الظاهرِ.
والغُسْلُ الثانيِّ لدخولِ مكةَ، ومن أصحابِنا مَنِ اكتفى بهذا الغُسْلِ عن غُسْلِ الطوافِ، وقال: إنه شُرعَ لأجلِ الطوافِ؛ لأنه أولُ مبدوءٍ به عندَ الدخولِ، ومنهم من لم يكتفِ به، وقال: لابدَّ من غُسْلٍ للطوافِ (3) ، وإنما ذلك للدخولِ فقطْ. والغُسْلُ الثالثُ: للوقوفِ بعرفةَ.
وهذه الأغسالُ كلُّها سننٌ مؤكَّدةٌ. وقد أطلق مالكٌ على جميعِها الاستحبابَ، وأوكدُها غسلُ الإحرامِ.
وقولُ عائشةَ: «خرجْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ حجةِ الوداعِ»؛ سميت بذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الناسَ ودَّعهم فيها وقال: «لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا»، وَقَال: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» فقالوا (4) : نَعَمْ. فقال: «اللَّهُمَّ! اشْهَدْ» (5) ، وكذلك كان؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - وجازاه عنا خيرًا - تُوفِّي في ربيعِ الأولِ، في الثاني عشرَ منه (6) - على أَوْلى الأقوالِ وأشهرِها - على رأسِ ثلاثةِ أشهرٍ ونيفٍ من مَوقفِه ذلكَ، ولم يحجَّ في الإسلامِ غيرَ تلكَ الحجةِ (7) ، وحجَّ فيها بجميعِ أزواجِه (8) . =(3/297)=@
__________
(1) حكاه عنه القاضي في "الإكمال" (4/228).
(2) هذا احتمال ذكره القاضي عياض في "الإكمال" (4/339).
وقد تقدم الكلام على ((البيداء)) و((الشجرة)) في باب بيان المحل الذي أهل منه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(3) في (أ) و(ز): ((الطواف)).
(4) في (ي): ((قالوا)).
(5) سيأتي في القسامة، باب تحريم الدماء والأموال والأعراض.
(6) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/272) من طريق الواقدي عن عائشة وابن عباس؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي يوم الإثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول.
وفي إسناده الواقدي وهو متروك. وانظر تفصيل الخلاف في ذلك في "الفتح" (8/129). وقد رجح الحافظ أنه توفي في ثاني ربيع الأول.
(7) سيأتي في باب: كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(8) سيأتي في باب: تفعل الحائض والنفساء جميع المناسك إلا الطواف بالبيت.(3/297)
وَقولُها في الروايةِ الأخرى: «خَرجْنا مُوَافيِن لهلالِ ذي الحجَّةِ»؛ أي: مطلِّين عليه ومُشْرِفين. يقالُ: أَوفَى على ثَنِيَّة كذا؛ أي: شَارَفَها وأطلَّ عليها (1) ، ولا يلزمُ منه أن يكونَ دخلَ فيها؛ وقد دلَّ على صحَّةِ هذا: قولُها في الروايةِ الأخرى: «خرجْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لخمسٍ بقين من ذي القعدةِ (2) »، وكذلك كان قدومُ (3) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ لأربعٍ أو خمسٍ من ذي الحجة (4) ، أقام (5) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في طريقِه إلى مكةَ تسعةَ أيامٍ أو عَشَرَةً. والله تعالى أعلم.
وقولها: «فأهلَلْنَا بعمرةٍ»؛ تعني (6) : أنها هي أهلَّتْ بعمرةٍ مع غيرِها من أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أو تكونُ نونَ العظمةِ، وفيه بُعدٌ (7) ، وقد أخبرت عن نفسِها وحدَها؛ إذ قالت: «فأهللتُ بعمرةٍ»، «وكنتُ فيمن أهلَّ بعمرةٍ». وهذا يعارضُه قولُها في الروايةِ الأخرى: «خرجْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مهلِّين بالحجِّ» (8) ، وفي أخرى: «لا نرى إلا الحجَّ» (9) .
فاختلف العلماءُ في تأويلِ هذه الألفاظِ المختلفةِ المضطربةِ: فمنهم من رجَّح الرواياتِ التي فيها أنها أهلَّت بالحجِّ، وغلَّط مَنْ روى أنها (10) أهلَّت بعمرةٍ، وإليه ذهب إسماعيلُ، أَظنُّه ابنَ عليةَ (11) . ومنهم من ذهبَ مذهب الجمِعِ بين هذه الرِّواياتِ، وهو الأولى (12) ؛ إذ الرواةُ لتلكَ الألفاظِ المختلفةِ أئمةٌ ثقاتٌ مشاهيُر، ولا سبيلَ إلى إطلاقِ لفظِ الغلطِ على بعضِهم بالوهمِ؛ فالجمعُ (13) أولى من الترجيحِ إذا أمكنَ (14) .
فممَّا ذُكر في ذلك: أنها كانتْ أحرمتْ بالحجِّ ولم تَسُقِ الهديَ، فلما أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لم يسقِ الهديَ بفسخِ الحجِّ في العمرةِ (15) ، فسخت (16) فيمَنْ فَسخ، وجعلتْه عمرةً، وأهلَّت بها، وهي التي حاضتْ فيها. ثم إنها لم تحلَّ منها حتى حاضت، فأمرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن تحرمَ بالحجِّ، وتكونَ (17) حينئذٍ مُرْدِفَةً (18) ، فأحرمتْ بالحجِّ، ووقفت بعرفةَ وهي حائضٌ (19) ، ثم إنها طَهَرَتْ يومَ النحرِ، فأفاضتْ، فلما كَمَّلتْ مناسكَ حجِّها اعتمرتْ عمرةً أخرى مع أخيها من التنعيمِ. قال: فعن تلك العمرةِ التي دخلت فيها بعدَ الفسخِ (20) عبَّر بعضُ الرواةِ: بأنها أحرمت بعمرةٍ، وعلى ذلك يحملُ =(3/298)=@
__________
(1) فسر الشارح ((موافين)) على أنها من ((أوفى)) بناءً على ما ذُكر من أن مقصد عائشة رضي الله عنها المقاربة وليس المقارنة. والصواب أنها من ((وافى)) ومعناها في كتب اللغة: أتى في الميعاد، وهو معنى من معاني ((أوفى)) أيضا. أما معنى المقاربة الذي حُمل عليه كلام عائشة فأخذ من قولها في الرواية الأخرى التي سيذكرها الشارح! قال القاضي "الإكمال" (4/246) وقولها: ((خرجنا موافين لهلال ذي الحجة)) على معنى المقاربة... وليس معناه: موافقين للهلال)).اهـ. وكذلك ذكر النووي في "شرح مسلم" (8/144). وزاد الحافظ في "الفتح" (3/609) ما يفيد، حيث قال: ((أي: قرب طلوعه وقد تقدم أنها قالت: ((خرجنا لخمس بقين من ذي القعدة)) والخمس قريبة من آخر الشهر، فوافاهم الهلال وهم في الطريق؛ لأنهم دخلوا مكة في الرابع من ذي الحجة.اهـ. وينظر: "مشارق الأنوار" (2/292)، و"تاج العروس".
(2) مسلم (876 رقم125-1211) في الحج، باب وجوه الإحرام.
(3) قوله: ((كان قدوم)) في (أ) و(ز): ((كان وقدم)).
(4) سيأتي في باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة.
(5) في (أ): ((وأقام)).
(6) في (ز): «يعني».
(7) وقال في "المنتقى" (2/57): ((يحتمل أن تريد بذلك أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويحتمل أن تريد من كان معها، أو طائفة أشارت إليهم، ولا يصح أن تريد جماعة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنها قد ذكرت أن فهم من أهل بهرة ونمهم من جمع بين العمرة والحج)) .
(8) سيأتي في باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة.
(9) سيأتي أيضا في باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة.
(10) في (ز): «بأنها».
(11) بل هو القاضي إسماعيل بن إسحاق؛ قال ابن عبد البر في "التمهيد" (8/218): قال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمع هؤلاء – يعني: القاسم وعمرة والأسود – على الرواية التي ذكرنا (أي: أنها أهلت بحج)؛ فعلمنا بذلك أن الرواية التي رويت عن عروة (أنها أهلت بعمرة) غلط)).اهـ.
وكذلك ذكر القاضي عياض في "الإكمال" (4/231) والنووي في "شرح مسلم" (8/138) نقلاً عن القاضي والحافظ في "الفتح" (3/423)؛ أنه القاضي إسماعيل)).
وهو: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي مولاهم، المالكي، قاضي بغداد، صاحب التصانيف توفي (282هـ). "سير أعلام النبلاء" (2/57). أما إسماعيل بن علية، فهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، المشهور بابن علية وهي أمه، من أئمة الحديث، وكان فقيهًا مفتيا. توفي (193هـ). "سير أعلام النبلاء" (9/107- 120).
(12) قوله: «وهو الأولى» سقط من (أ).
(13) في (أ) و(ي): ((والجمع)).
(14) قال الحافظ في "الفتح" (3/423): ((وادعى إسماعيل القاضي وغيره أن هذا غلط من عروة، وأن الصواب رواية الأسود والقاسم وعروة «في "الإكمال" (4/231)، و"شرح النووي" (8/138): عمرة، وهوا لصواب، ينظر "التمهيد" (9/217)» عنها أنها أهلت بالحج مفردًا. وتعقب بأن قول عروة عنها أنها أهلت بعمرة، صرح، وأما قول الأسود وغيره عنها: ((لا نرى إلا الحج)) فليس صريحًا في إهلالها بحج مفرد، فالجمع بينهما ما تقدم من غير تغليط عروة وهو أعلم الناس بحديثها. وقد وافقه جابر بن عبد الله الصحابي كما أخرجه مسلم عنه، وكذا رواه طاوس ومجاهد عن عائشة.اهـ.
(15) قوله: ((في العمرة)) في (أ): «والعمرة».
(16) في (أ): ((ففسخت)).
(17) في (أ): «ويكون».
(18) أي: أردفت الحج على العمرة فصارت قارنة.
(19) سيأتي في باب يجزئ القارن بحجه وعمرته طواف واحد.
(20) في (ز): «الفتح».(3/298)
قولُها: ((أهللْتُ بعمرةٍ))؛ تعني (1) : بعد فسخِها الحجَّ، فلما كان منها الأمران صَدَقَ كلُّ قولٍ (2) من أقوالِها، وكلُّ راوٍ روى شيئًا من تلك الألفاظِ.
قلتُ (3) : ويعتضدُ هذا التأويلُ بقولِها في بعض رواياتِه: فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لم يكنْ ساق الهديَ أن يحلَّ (4) ، قالت: فحلَّ من لم يسقِ الهديَ، ونساؤه لم يَسُقْنَ الهديَ؛ فأحلَلْن. وهذا فيما يبد وتأويلٌ حسنٌ، غير أنه يُبْعدُه (5) مساقُ قولِها أيضًا في روايةٍ أخرى قالت: خرجْنَا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعَمْرَةٍ فَلْيُّهَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ» (6) ؛ قالت: فأهلَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (7) بحجٍّ، وكنتُ فيمن أهلَّ بعمرةٍ. وظاهرهُ الإخبارُ عن مبدأِ الإحرامِ للكلِّ.
وعلى هذا فيمكنُ التأويلُ على وجهٍ آخر؛ وهو أن يَبْقى هذا الحديثُ على ظاهرِه، ويُتَأَوَّلُ قولُها: «لَبَّينا بالحجِّ» على أن ذلك كان إحرامَ أكثرِ الناسِ؛ لأنه لما أحرم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالحجِّ اقتدى به أكثُر الناسِ في ذلك، وأما هي فإنما (8) أحرمتْ بعمرةٍ كما نصَّت عليه، وناهيك من قولِها: «ولم أهلَّ إلا بعمرةٍ» (9) .
وقولُها: «خَرَجْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نرى إلا أنه الحجُّ» يمكنُ أن يقالَ: كان ذلك منها ومنهم قبل أن يُخَيِّرَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أنواعِ الإحرامِ، ويبينها (10) لهم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من كان معه هديٌ فليهلَّ بالحجِّ مع العمرةِ»؛ ظاهرُه أنه أمرَهم بالقِرانِ، فيكونُ قالَه (11) لهم عندَ إحرامِهم، ويحتملُ أن يكونَ قال ذلك لمن قد كان أحرم بالعمرةِ، فيكونُ ذلك أمرًا بالإردافِ.
وقولُه: «ثم لا يحلَّ حتى يحلَّ منهما جميعًا» هذا بيانُ حكمِ القارنِ؛ فإنه لا يحلُّ إلا بفراغِه من طوافِ الإفاضِة، ويجزئُه لهما عملٌ واحدٌ عندَ الجمهورِ، خلافًا لأبي حنيفةَ؛ إذ يقول: يعملُ لهما (12) عملين. وسيأتي قولُه - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ – رضي الله عنها -: «يَسَعُكِ =(3/299)=@
__________
(1) في (أ): ((يعني)).
(2) قوله: «قول» سقط من (ز).
(3) في (ز): ((قال الشيخ)).
(4) سيأتي في باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة.
(5) في (أ): «يبعد».
(6) سيأتي في باب أنواع الإحرام ثلاثة. والرواية فيه في "صحيح مسلم" وفي "التلخيص": ((...ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل)).
(7) من قوله: ((فقال من أراد...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(8) في (ي): ((فلما)).
(9) وقال ابن القيم في "زاد المعاد" (2/174): «وللناس في هذه العمرة التي أتت بها عائشة من التنعيم أربعة مسالك:
أحدها: أنها كانت زيادة تطييبًا لقلبها وجبرًا لها، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حجها وعمرتها، وكانت متمتعة، ثم أدخلت الحج على العمرة فصارت قارنة. وهذا أصح الأقوال، والأحاديث لا تدل على غيره. وهذا مسلك الشافعي وأحمد وغيرهما. [وهو الذي رجحه الشارح هنا]
المسلك الثاني: أنها لما حاضت أمرها أن ترفض عمرتها وتنتقل عنها إلى حج مفرد فلما حلت من الحج أمرها أن تعتمر قضاءً لعمرتها التي أحرمت بها أولاً. وهذا مسلك أبي حنيفة ومن تبعه. وعلى هذا القول فهذه العمرة كانت في حقها واجبة ولا بد منها، وعلى القول الأول كانت جائزة، وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف، فهي على هذين القولين: إما أن تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة، وإما أن تنتقل عن العمرة إلى الحج وتصير مفردة وتقضي العمرة.
المسلك الثالث: أنها لما قرنت لم يكن بد من أن تأتي بعمرة مفردة؛ لأن عمرة القارن لا تجزئ عن عمرة الإسلام. وهذا أحد الروايتين عن أحمد.
المسلك الرابع: أنها كانت مفردة، وإنما امتنعت من طواف القدوم لأجل الحيض، واستمرت على الإفراد حتى طهرت، وقضت الحج، وهذه العمرة هي عمرة الإسلام. وهذا مسلك القاضي إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية، ولا يخفى ما في هذا المسلك من الضعف، بل هو أضعف المسالك في الحديث».اهـ.
(10) في (أ) و(ي): ((وبينها)).
(11) في (ز): «قال».
(12) في (ي): ((لها)).(3/299)
طَوَافُكِ لِحَجِّكِ (1) وَعُمْرَتِكِ» (2) ، وهو نصٌّ في الردِّ عليه، وكذلك قولُها: فأما الذين كانوا جمعوا الحجَّ والعمرةَ؛ فإنما طافوا طوافًا واحدًا (3) .
وقولُها: «فقدمتُ مكةَ وأنا حائضٌ»؛ كانت حاضت بـ((سَرِف)) (4) ، كما قالت في الروايةِ الأخرى، وتمادى الحيضُ بها إلى يوم النحرِ (5) ، كما تقدَّم. وكونُها لم تطفْ بالبيتِ؛ لاشتراطِ الطهارةِ في الطوافِ، ولا بالصفا والمروةِ؛ لأن مشروعيتَه (6) أن يكونَ على إِثرِ طوافٍ، وإنما امتنعتْ من ذلك؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الروايةِ الأخرى: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» (7) .
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - لها: «انْقُضي رأسَكِ، وامتشطي، ودعي العمرةَ (8) »؛ ظاهُر هذا أنه أمرها بأن ترفضَ عمرتَها، وتخرجَ (9) منها قبلَ تمامِها. وبهذا الظاهرِ قال الكوفيون في المرأةِ تحيضُ قبلَ الطوافِ وتخشى فوتَ الحجِّ؛ أنها ترفضُ العمرةَ. وقال الجمهورُ: إنها تُرْدِفُ الحجَّ، وتكونُ قارنةً. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفة، وأبو ثورٍ.
وقد (10) حمل هذا أصحابُنا: على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالإردافِ، لا بنقضِ (11) العمرةِ؛ لأن الحجَّ والعمرةَ لا يتأتَّى الخروجُ منهما شرعًا إلا بإتمامِهما؛ لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (12) ، واعتذروا عن هذه الألفاظ بتأويلاتٍ:
أحدُها: أنها كانت مضطرَّةً إلى ذلك، فرخَّص لها فيه كما رخَّص لكعبِ بنِ عُجْرةَ (13) . =(3/300)=@
__________
(1) في (ز): ((بحجك)).
(2) سيأتي في باب يجزئ القارن بحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد.
(3) سيأتي في الباب المشار إليه آنفًا.
(4) سَرِف: موضع من مكة على عشرة أميال، قرب التنعيم. يصرف ولا يصرف. وينظر "النهاية" (2/362)، و"تاج العروس" (12/268- 269).
(5) سيأتي في باب: تفعل الحائض والنفساء جميع المناسك إلا الطواف بالبيت.
(6) في (ي): ((مشروعية)).
(7) سيأتي في الباب القادم.
(8) الرواية في "الصحيح" و"التلخيص": ((... وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة)).
(9) في (ي: ((وأن تخرج)).
(10) سقط من (ي).
(11) في (ز): ((ينقض)).
(12) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(13) رخص له في الحلق لما آذاه هوام رأسه، وقد تقدم في باب الفدية للمحرم.(3/300)
وثانيها: أن ذلك خاصٌّ بها؛ ولذلك قال مالكٌ: حديثُ عروةَ عن عائشةَ ليس عليه العملُ عندنا، قديمًا ولا حديثًا (1) .
وثالثهُا: أن المرادَ بالنقضِ والامتشاطِ: تسريحُ الشَّعَرِ لغُسْلِ الإهلالِ بالحجِّ، ولعلَّها كانت لبَّدتْ، ولا يتأتَّى إيصالُ الماءِ إلى البَشرَةِ مع التلبيدِ إلا بحلِّ الضَّفْرِ (2) وتسريحِ الشَّعَرِ؛ ويتأيدُ بما في حديثِ جابرٍ: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «فاغتسلي، ثم أهلَّي بالحجِّ» (3) . وقد تركْنا من التأويلاتِ ما فيه بُعدٌ، واكتفينا بما ذكرناه؛ لأنه أوفقُها (4) . والله تعالى أعلمُ.
فأما قولُه: «ودعي العمرةَ»؛ فمحمولٌ على تركِ عملِها، لا على رفضِها، والخروجِ منها؛ بدليلِ قولِه في الروايةِ الأخرى: «وأَمْسِكِي (5) » مكان «ودعي»، وهو ظاهرٌ في استدامتها حكمَ العمرةِ التي أحرمتْ بها، وبدليلِ قولِه - صلى الله عليه وسلم - لها (6) : «يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ (7) »، وهذا نصٌّ على أن حكمَ عمرتِها باقٍ عليها.
وقولُها: «فلما قضينا الحجَّ أرسلني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبدِالرحمنِ إلى التنعيمِ فاعتمرتُ (8) »؛ هذا إنما كان بعدَ أن رغبتْ في أن تحرمَ بعمرةٍ مفردةٍ بعدَ فراغِها من حجتها وعمرتِها المقرونتينِ (9) ؛ بدليلِ قولِها في الروايةِ الأخرى: «يرجعُ الناسُ بحجةٍ (10) وعمرةٍ وأرجعُ بِحجَّةٍ (11) »؛ تعني: المتمتعين من الناسِ، وكما قالت في الروايةِ الأخرى: «فأهللتُ منها بعمرةٍ جزاءً بعمرةِ الناسِ التي اعتمروا (12) ».
وقولُه عندَ فراغِ هذه العمرةِ: «هذه مكانُ عُمْرَتِكَ»؛ إنما قال لها هذا لأنها =(3/301)=@
__________
(1) ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" (8/227) عن ابن وهب عن مالك قال في حديث عروة، عن عائشة في الحج ليس عليه العمل عندنا قديمًا ولا حديثًا ولا ندري أذلك كان ممن حدثه أو من غيره، غير أنا لم نجد أحدًا من الناس أفتى بهذا. قال أبو عمر: يريد مالك أنه ليس عليه العمل في رفض العمرة؛ لأن العمل عليه عنده في أشياء كثيرة منها: أنه جائز للإنسان أن يهل بعمرة ويتمتع بها، ومنها أن القارن يطوف طوافًا واحدًا. وغير ذلك.اهـ.
(2) في (ز): «الضفرة».
(3) مسلم (2/881 رقم1213) في الحج، باب بيان وجوه الإحرام.
(4) قوله: ((لأنه أوفقها)) وفي (أ): «لأنها أوقعها»، وفي (ي): ((لأنها أرفعها)).
(5) أي: ((وأمسكي عن العمرة)).
(6) قوله: «لها» سقط من (ز).
(7) سيأتي في باب يجزئ القارن بحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد.
(8) في (ز): «فاعتمر».
(9) في (أ): ((المقرونين)).
(10) في (أ) و(ي): ((بحج)).
(11) ستأتي في الباب القادم.
(12) ستأتي في الباب القادم.(3/301)
لم تَطِبْ نفسُها (1) بالعمرةِ التي أردفتْ عليها؛ لأنها طافتْ طوافًا واحدًا، وسعتْ سعيًا واحدًا؛ كما جاء عنها من حديثِ جابرٍ، أنها قالت: يا رسولَ الله، إني أجدُ في نفسِي أني لم أطفْ بالبيتِ حتى حججْتُ، فقال لعبدِالرحمنِ: «أَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ» (2) ، فلما فرغتْ منها قال لها هذه المقالةَ تطييبًا لقلبِها؛ ألا ترى أنه قد حكم بصحةِ العمرةِ المردَفِ (3) عليها؟! وعلى هذا فلا يكونُ فيه حجةٌ لمن يقولُ: إنها رفضتِ العمرةَ المتقدمةَ، وهذه (4) قضاءٌ لتلك المرفوضةِ، لما قرَّرناه (5) . فتدبرَّهُ.
وأنصُّ ما يدلُّ على صحةِ ما قلناه (6) قولُها: «وأمرني أن أعتمرَ من التنعيمِ مكانَ عُمرتي التي أدركني الحجُّ ولم أَحْلِلْ منها» (7) .
وقوله: «وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ»؛ يعني: أنه لا يحلِقُ حتى ينحر الهدي؛ كما قال تعالى: {ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله} (8) ، وكذلك فَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حجتِه: نحر، ثم حلق (9) ، وقال: «أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَنْحَرَ، ثُمَّ نَحْلِقَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتنًا» (10) ، وستأتي الرخصةُ في تقديمِ بعضِ هذه الأشياءِ على بعضٍ.
وقولُه: «ومن أهلَّ بحجٍّ فليتمَّ حجَّه» هذا- والله أعلم- قالَه لهم قبل أن =(3/302)=@
__________
(1) في (ي): ((نفسًا)).
(2) سيأتي في باب يجزئ القارن بحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد.
(3) في (ز): «المردفة».
(4) في (ز): «وهذه».
(5) في باب من حلق قبل النحر، ونحر قبل الرمي.
(6) في (ز): «قررنا».
(7) جزء من حديثها في هذا الباب.
(8) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(9) سيأتي في باب الحلاق والتقصير.
(10) لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن جاء من حديث البؤاء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا».
وحديث البراء يأتي في كتاب الضاحي، باب في التسمية على الأضحية رقم (1954).(3/302)
يرخِّص (1) لمن لم يَسُقِ الهديَ في التحلُّلِ، ثم بعدَ ذلك رَخَّص فيه على ما يأتي، أو يكونُ هذا الخطابُ متوجِّهًا لمن ساق الهدي.
وقولُها: «فحضتُ، فلم أزل حائضًا حتى كان (2) يومُ عرفةَ»؛ مخالفٌ لقولِها في الروايةِ الأخرى: «فلما كان يومُ النحرِ طَهَرْتُ» (3) . ووجه التلفيقِ: أن يحملَ على أنه (4) تقارَبَ انقطاعُ الدمِ عنها يومَ عرفةَ، ورأتِ علامةَ الطهرِ يومَ النحرِ. والله تعالى أعلم.
وقولها: «فقضى الله حَجَّنَا وعمرتَنا، ولم يكنْ في ذلك هديٌ، ولا صدقةٌ، ولا صومٌ»؛ هذا الكلامُ مُشْكِلٌ على من يقولُ: إنها كانتْ معتمرةً (5) ، أو قارنةً؛ لأنها إن كانت معتمرةً فقد استباحت مَشْطَ رأسِها، وإلقاءَ القملِ؛ إن تنزَّلْنا على تأويلِ من قال: إنها كان بها أَذًى، وإنها رُخِّص لها كما رُخِّص لكعبِ بنِ عجرةَ (6) ، فكانت تلزمُ (7) الفديةُ كما نصَّ الله تعالى على ذلك. وأما إن كانت قارنةً فيلزمُها الهديُ للقرانِ عندَ جماعةِ العلماءِ، إلا داودَ، فإنه لا يرى في القِرانِ هَدْيًا.
وقد أشكلَ هذا على أصحابِنا حتى قال القاضي أبو الفضلِ عياضٌ (8) : لم تكنْ معتمرةً ولا قارنةً، وإنما كانت أحرمتْ بالحجِّ، ثم نوت فَسْخَه في عمرةٍ، فلما حاضتْ ولم يتمَّ لها ذلك رجعتْ =(3/303)=@
__________
(1) في (ي): ((رخص)).
(2) سقط من (ز).
(3) سيأتي في باب: تفعل الحائض والنفساء جميع المناسك إلا الطواف بالبيت.
(4) في (أ): «أنها».
(5) أي: متمتعة.
(6) تقدم في باب الفدية للمحرم.
(7) قوله: ((كانت تلزم)) في (ز): «فكان يلزم».
(8) في "الإكمال" (4/242).(3/303)
إلى حجِّها، فلما أكملتْ حجَّها اعتمرتْ عمرةً مُبتدَأَةً، فلم تكن متمتعةً (1) ، فلم يجب عليها هدي.
قلتُ (2) : وكأنَّ القاضيَ - رحمه الله - لم يسمعْ قولَها: «وكنتُ فيمن أهلَّ بعمرةٍ» (3) ، وقولَها: «ولم أُهِلَّ إلا بعمرةٍ» (4) . ولا قولَه - صلى الله عليه وسلم - لها: «يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» (5) .
قلتُ (6) : وهذا الكلامُ المشكِلُ يُهَوِّنُ إشكالَهُ أنه قد رواه وكيعٌ موقوفًا على هشامِ بنِ عروةَ وأبيه، فقال: قال عروةُ: إنه قضى الله حجَّها وعمرتَها (7) . قال هشامٌ: ولم يكنْ في ذلك هديٌ، ولا صيامٌ، ولا صدقةٌ. وإذا كان الأمُر كذلك سَهُلَ الانفصالُ؛ بأن يقالَ: إن عروةَ وهشامًا لما لم يبلغْهُما في ذلك شيءٌ، أخبرَا عن نفيِ ذلك في علمِهما، ولا يلزمُ من ذلك انتفاءُ ذلك الأمرِ في نفسهِ، فلعلَّ (8) النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَهْدى عنها ولم يبلغْهما (9) ذلك. وهذا التأويلُ أيضًا منقِدحٌ على تقديرِ أن يكونَ هذا الكلامُ مِنْ قولِ عائشةَ؛ ويؤيدُه قولُ جابرٍ: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أهدى عن عائشةَ بقرةً على ما يأتي إن شاء الله تعالى (10) .
ويحتملُ أن يكونَ معنى قولِهم: «لم يكنْ في ذلك هديٌ، ولا صومٌ، ولا صدقةٌ (11) »؛ أي: لم يأمرْها (12) بذلك، ولم يكلِّفْها شيئًا من ذلك؛ لأنه نوى أن يقومَ به عنها، كما قد فعل، على ما رواه جابر (13) وغيرُه (14) . والله تعالى أعلمُ. =(3/304)=@
__________
(1) في (أ) و(ز): ((متعة)). وفي "الإكمال" «فلم تكن على هذا متمتعة ولا قارنة».
(2) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(3) سيأتي في باب أنواع الإحرام ثلاثة.
(4) سيأتي بعد قليل في هذا الباب.
(5) سيأتي في باب، يجزئ القارن بحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد.
(6) في (ز): ((قال الشيخ)).
(7) مسلم (2/872 رقم1211) في الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران وجواز إدخال الحج على العمرة ومتى يحل القارن من نسكه؟
(8) في (ي): ((ولعل)).
(9) في (ز): «يبلغها».
(10) في باب التصدق بلحوم الهدايا.
وقد تأول النووي في "شرح مسلم" (/144- 145) كلام عائشة على أنها تعني أنها لم يجب عليها دم ارتكاب شيء من المحظورات كالطيب وستر الوجه وقتل الصيد. قال: أي: لم أرتكب محظورًا فيجب بسببه هدي أو صدقة أو صوم، هذا هو المختار في تأويله.اهـ. ثم ذكر كلام القاضي، ثم قال: ((وهذا اللفظ أي قوله: ((ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم)) ظاهره في الرواية التي بعدها بأنه من كلام هشام بن عروة (كما ذكر الشارح) فيحمل الأول عليه، ويكون الأول في معنى المدرج.اهـ.
(11) قوله: ((ولا صدقة)) سقط من (ي).
(12) في (ز): «يأمر».
(13) مسلم (1319/356 و357)، وسيأتي في باب التصدق بلحوم الهدايا.
(14) قوله: ((ولا غيره)) سقط من (ي).(3/304)
ومن بابِ: تفعلُ الحائضُ المناسكَ كلَّها إلا الطوافَ
قولها: «لا نذكر إلا الحجَّ»، و: «لبينا بالحج»، قد تقدَّم (1) أن هذا إخبارٌ منها عن غالبِ أحوالِ الناسِ، أو عن أحوالِ (2) أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأما هي فقد قالت: إنها لم تهلَّ إلا بعمرةٍ.
و«طَمِثَتْ»: حاضتْ، ويقالُ بفتحِ الميمِ وكسرِها.
وقولُه: «هذا شيءٌ كتبه الله تعالى على بناتِ آدَمَ»؛ يعني: الحيضَ. وكتبه (3) عليهنَّ؛ أي: جَبَلَهَنَّ عليه، وثبتَّه عليهنَّ. وهو تأنيسٌ لها وتسليةٌ، وهو دليلٌ على ميلِه لها وحُنُوِّهِ عليها، وكم بين مَنْ يؤنَّسُ ويُستَرْضَى، وبين من يَقال له: «عَقْرَى حَلْقَى» (4) ؟!
وقولُه: «غير أَنْ لا تَطْوَفي بالبيتِ حَتَّى تَطْهُري» هذا (5) يدلُّ على اشتراطِ =(3/305)=@
__________
(1) في الباب السابق.
(2) في (ز): «حال».
(3) في (ي): ((وكتب)).
(4) التي قيل لها: ((عقري حلقي)) هي صفية بنت حيي، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأم المؤمنين رضي الله عنها، قاله - صلى الله عليه وسلم - لها عندما تأهبوا للنفر، وسيأتي الكلام على معنى ((عقري حلقي)) في باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة. وفي كلام الشارح ما يفهم منه التعريض بهوان أمر صفية على رسول الله وأنه - صلى الله عليه وسلم - عاملها بطريقة غير تلك التي تعامل بها مع عائشة، وقد صدر منهما الشيء بعينه وهو الحيض! غير أن الأمر ليس كذلك، فإن مقام الكلام لعائشة يختلف عن مقام الكلام لصفية؛ أما عائشة فكانت حديثة السن، فبكت وتأثرت نفسها لما أصابها؛ فناسب هذا تطيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخاطرها وتأنيسها، ثم إنها لم تكن قد طافت طواف الإفاضة، ستحبسهم عن النفر وتؤخرهم، وهذا كله على تسليم أن ((عقري حلقي)) يراد به الذم غير أنه يحمل ما يجري على ألسنة العرب مما ظاهره الدعاء بالمكروه، ولا يقصدونه، كما ذكر الشارح نفسه غير مرة، أقر بها ما يأتي في تفسير لهاتين الكلمتين في باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة.
وقد قال الحافظ في "الفتح" (3/589) بعد أن ذكر قول الشارح هذا: قلت: وليس فيه دليل على اتضاع قدر صفية عنده لكن اختلف الكلام باختلاف المقام؛ فعائشة دخل عليها وهي تبك آسفًا على ما فاتها من النسك فسلاها بذلك، وصفية أراد منها ما يريد الرجل من أهله فأبدت المانع، فناسب كلا منهما ما خاطبها به في تلك الحالة.
(5) في (ي): ((وهذا)).(3/305)
الطهارةِ في الطوافِ، وهو مذهبُ الجمهورِ؛ فلا يجوزُ عندَهم طوافُ المحدِثِ.
وصححه أبو حنيفة، وأحمدُ رضي الله عنهما في أحدِ قوليه، ورأيا عليه الدَّمَ، واعتذَرا (1) عن الحديثِ: بأنه إنما أمرها باجتنابِ الطوافِ لأجلِ المسجِد.
وليسَ بصحيحٍ؛ لأنه لو أراد ذلك لقال لها: لا تدخلي المسجدَ، ولمَّا قال لها: ((لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ))، كان ذلك دليلاً على منعِ الطوافِ لنفسِه. ويدلُّ على ذلك أيضًا: ما خرَّجه النَّسائيُّ (2) ، والتِّرمذيُّ (3) عن ابنِ عباسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ».
وإذا جعله الشَّرعُ صلاةً اشتَرطَ فيه (4) الطهارةَ؛ كما اشْتَرَطَ فيها؛ إذ قد قال - صلى الله عليه وسلم - : «لَا تُقْبَلُ (5) صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ» (6) . والله تعالى أعلم.
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابِه: «اجعلوها عمرةً» إنما قال هذا لمن أحرم بالحجِّ ولم يَسُقِ الهديَ على ما يأتي.
وقولُها: «فَحَلَّ الناسُ»؛ أي: من لم يكن معه هديٌ.
وقولُها: «ثم أهَلُّوا =(3/306)=@
__________
(1) في (أ): «واعتذر».
(2) يخرج.
(3) يخرج.
(4) في (ي): ((فيها)).
(5) في (ز): ((يقبل)) وفي (ي): ((يقبل الله)). والمثبت من (أ) وهو رواية مسلم، وتقدم الحديث في كتاب الطهارة، باب فضل الطهارة وشرطها في الصلاة.
(6) تقدم في الطهارة، باب فضل الطهارة وشرطها في الصلاة.(3/306)
حين راحوا»؛ تعني (1) : مَنْ حلَّ منهم عندَ فراغِهِ من العمرةِ أهلَّ عندَ خروجِه إلى منًى بالحِّج.
وقولُها: «أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر»؛ يدلُّ على أن البقرَ مما يُهْدى، وعلى أنه يجوزُ أن يُهِديَ الرَّجُلَ عن غيرِه وإن لم يُعْلِمْهُ، ولا أَذِنَ له. وكان هذا (2) الهديُ – والله تعالى أعلم- عنهن تطوُّعًا عمَّن لم يجبْ عليها (3) هديٌ، وقيامًا بالواجبِ عمَّن وجب عليها منهنَّ هديٌ؛ كما قررناه في حديثِ عائشةَ. والله تعالى أعلمُ.
وقولُها: «فلما كانت ليلةُ الحَصْبةِ»- بسكون الصادِ -، وهي الليلةُ التي ينزلُ الناسُ فيها المحصَّبَ عند انصرافِهم من منًى إلى مكةَ. والتحصيبُ: إقامتُهم بالمحصَّبِ، وهو الشِّعْبُ الذي مخرجُه إلى الأبطحِ، وهو منزلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيثُ انصرف من حجَّتِه (4) ، وهو خَيْفُ بني كنانةَ؛ الذي تقاسمتْ (5) فيه في (6) الصحيفةِ التي كتبوها بمقاطعةِ (7) بني هاشمٍ، وهو (8) بين مكةَ ومنًى، وربما يُسمَّى: الأبطحَ، والبطحاءَ؛ لقربِه منه.
ونزولُه بعدَ النَّفْرِ من منًى، والإقامةُ به إلى أن يصلِّي الظهرَ والعصرَ والعشاءين ويخرجَ منه ليلاً - سُنَّة عندَ مالكٍ والشافعي وبعضِ السَّلف؛ اقتداءً بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يره بعضُهم - وسيأتي إن شاء الله تعالى (9) .
وأَمْرُه - صلى الله عليه وسلم - لعبدِ الرحمن أن يُعْمِرَ عائشةَ من التنعيمِ، دليلٌ على أن العمرةَ فيها الجمعُ بين الحلِّ والحرمِ، وهو قولُ الجمهورِ. وقال قومٌ: إنه يتعيَّنُ الإحرامُ بها من التنعيمِ خاصَّةً، وإنَّه (10) ميقاتُ المعتمرين من مكةَ أخذًا بظاهرِ هذا الحديثِ.
واختلف الجمهورُ فيمن أحرم بالعمرةِ من مكةِ، ولم يخرجْ إلى الحلِّ: فقال عطاءٌ: لا شيءَ عليه. وقال أصحابُ الرأيِ، وأبو ثورٍ، والشافعيُّ في أحدِ قوليه: عليه =(3/307)=@
__________
(1) في (ز): ((يعني)).
(2) سقط من (ي).
(3) في (ز): ((عليه)).
(4) سيأتي في طواف الإفاضة يوم النحر، ونزول المحصَّب يوم النفر.
(5) يريد: قريشَا، تقاسمت (من القَسَمَ) وتحالفت على بني هاشم وبني المطلب، وبني عبد مناف. ينظر: "الإكمال" (4/243)، و"الفتح" (3/453). وينظر: "زاد المعاد" (2/271)، (3/26- 28).
(6) سقط من (أ).
(7) في (أ): «بمقاطعته».
(8) في (أ): ((وهي)).
(9) سيأتي في طواف الإفاضة يوم النحر، ونزول المحصَّب يوم النفر.
(10) في (ز): ((وهو)).(3/307)
الدَّمُ. وكأنه جاوزَ الميقاتَ. وقال مالكٌ والشافعيُّ أيضًا: لا (1) يجزئه، ويخرجُ إلى الحلِّ. والله أعلم (2) .
ومن بابِ أنواعِ الإحرامِ
قولُه - صلى الله عليه وسلم - : «من أراد أن يُهِلَّ بحجٍّ وعمرةٍ فليفعلْ، ومن أراد أن يُهِلِّ بحجٍّ فلْيُهِلَّ، ومن أراد أن يُهِلَّ بعمرةٍ فَلْيُهِلَّ»؛ هذا يقضي بأن أنواعَ الإحرامِ ثلاثةٌ، وأن المكلَّفَ مخيَّرٌ في أيِّها أَحَبَّ؛ وإنما خلافُ العلماءِ في الأفضلِ من تلك الأنواعِ: فذهب مالكٌ وأبو ثورٍ: إلى أنَّ إفرادَ الحجِّ أفضلُ، وهو أحدُ قولَي الشافعيِّ، رحمهم الله. وقال أبو حنيفة، والثوريُّ: القِرَانُ أفضلُ. =(3/308)=@
__________
(1) قوله: «لا» سقط من (أ).
(2) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/308)
وقال أحمدُ، وإسحاقُ، والشافعيُّ - في القولِ الآخرِ-، وأهلُ الظاهرِ: إن التمتعَ أفضلُ.
وسببُ اختلافهِم: اختلافُ الرواياتِ في إحرامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : فروتْ عائشةُ (1) ، وجابرُ بنُ عبدِالله (2) ، وأبو موسى (3) ، وابنُ عمر (4) : أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحجِّ. وروى أنسٌ(4)، وعمرانُ بنُ حُصينٍ (5) ، والبراءُ بنُ عازبٍ (6) ، وعمرُ بنُ الخطابِ (7) : أنه قَرَنَ بين (8) الحجِّ والعمرةِ. وروى ابنُ عمرَ (9) : أنه تمتَّعَ.
فلما تعارضت هذه الرواياتُ الصحيحةُ؛ صار كلُّ فريقٍ إلى ما هو الأرجحُ عندَه:
فمما اعتُضِدَ به لمالكٍ: أن عائشةَ أعلمُ بدُخْلَةِ (10) أمرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من غيرِها؛ لملازمتِها له (11) ، ولبحثِها وجِدَّها في طلبِ ذلك،، وكذلك جابرٌ هو أحفظُ الناسِ لحديثِ حجَّتِه - صلى الله عليه وسلم - ،، ولأنَّ الإفرادَ سليمٌ عما يُجبَرُ بالدمِ؛ بخلافِ التمتُّعِ والقِرانِ؛ إذ كلُّ واحدٍ منهما يُجبَرُ ما وقع فيهما من النقصِ بالدمِ.
ومما اعتُضِدَ به لمن قال: إن القرانَ أفضلُ -: أن أنسًا خادمَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عندَه من تحقيقِ ذلك ما ليس عندَ غيرِه؛ إذ قد نقل لفظَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» (12) ،، وفي حديثِ البراءِ الذي خرَّجه النسائيُّ (13) : أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعليٍّ =(3/309)=@
__________
(1) سيأتي في باب الاختلاف فيما به أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) سيأتي في باب في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(3) سيأتي في باب الإهلال بما أهل به الإمام.
(4) سيأتي في باب الاختلاف فيما به أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(5) سيأتي في باب الاختلاف في أي أنواع الإحرام أفضل؟
(6) أخرجه أبو داود (2/392-393 رقم1797) في المناسك، باب في القران، والنسائي (5/148-149 و157 -158 رقم2725 و2745) في مناسك الحج، باب القران، وباب الحج بغير نية يقصده المحرم.
كلاهما من طريق يحيى بن معين، عن حجاج، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: كنت مع علي حين أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اليمن، قال: فأصبت معه أواقي، فلما قدم علي من اليمن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد فاطمة رضي الله عنها قد لبست ثيابًا صبيغًا، وقد نضحت البيت بنضوح...، الحديث.
والحديث سوف يذكره الشارح (ص359) مرة أخرى ويصححه.
وساق البيهقي في "المعرفة" (7/77 رقم9349) أثرًا عن علي أنه كان يأمر بنيه وغيرهم بإفراد الحج ويقول: إنه أفضل، ثم قال: «وهذا يدل على أن الذي روي في حديث البراء بن عازب في إهلال علي بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأ [وضع بجانبها نجمة وكتب أسفل الصفحة. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((إني قد سقت الهدي، وقرنت)) خطأ]. وقد روى قصة علي جابر وأنس، ولم يذكرا فيها قوله: وقرنت».اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/130): «وهو على شرط الشيخين، وعلله الحافظ البيهقي بأنه لم يذكر هذا اللفظ في سياق حديث جابر الطويل، وهذا التعليل فيه نظر؛ لأنه قد روي القران من حديث جابر بن عبدالله...؛ وروى ابن حبان في "صحيحه" عن علي بن أبي طالب قال: خرج رسول الله من المدينة، وخرجت أنا من اليمن، وقلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «فإني أهللت بالحج والعمرة جميعًا».اهـ.
ورواية ابن حبان خرَّجها في "صحيحه" (9/89 رقم3777) – (الإحسان)، قال: أخبرنا أبو عروبة، حدثنا محمد بن وهب بن أبي كريمة، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبدالرحيم، حدثنا زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، قال حدثنا علي بن أبي طالب... فذكره.
(7) أخرجه البخاري (3/392 رقم1534) في الحج، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : العقيق واد مبارك، و(5/20 رقم2337) كتب بجانب القوس علامة حاشية وكتب في أسفل الصفحة [باب و(13/305 رقم7343) في الاعتصام] في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض على اتفاق أهل العلم....
(8) سقط من (أ) و(ز).
(9) سيأتي في باب الهدي للمتمتع والقارن.
(10) في "اللسان" (11/240: ((وداخلة الرجل: باطن أمره، وكذلك الدُّخلَة بالضم، ويقال: هو عالم بدُخْلَتِه. ودَخْلة الرجلِ ودِخْلته ودَخِيلته ودُخْلُلُه ودُخْلَلُه ودخيلاؤه: نيته ومذهبه وخلده وبطانته؛ لأن ذلك كله يداخله. عرفتُ داخلته ودِخْلته ودُخْلته ودَخيله ودَخيلته؛ أي: باطنته الداخلة، وقد يضاف كل ذلك إلى الأمر؛ كقولك: دُخْلة أمره ودِخْلة أمره، ومعنى كل ذلك: عرفت جميع أمره)).
(11) في (ز): ((لها)).
(12) سيأتي في باب الاختلاف فيما به أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(13) تقدم تخريجه قبل قليل.(3/309)
حين سأله عن إحرامِه، فقال له: «كَيْفَ صَنَعْتَ؟» فقال: أَهْللتُ بإهلالِكَ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : «إِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ»؛ وهذا نصٌّ رافعٌ للإِشكالِ،، وفي البخاريِّ عن عمرَ بنِ الخطابِ – رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيقِ يقولُ: «أَتَانِي الليْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ في هذا الوَادِي المْبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةً في حَجَّةٍ» (1) .
فأما (2) روايةُ ابنِ عمرَ في التمتعُّ ِفلا يُعَوَّلُ عليها؛ لوجهين:
أحدُهما: أنه قد اضطربَ قولُه؛ فروى بكرُ بنُ عبدِالله عنه؛ أنه قال: لبى (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج وحده (4) .
وثانيهما: أن الرواية التي قال فيها ابنُ عمرَ: تمتَّعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرةِ إلى الحجِّ (5) ، قال في أثنائِها ما يدلُّ على أنه سمَّى الإِردافَ تمتعًا (6) ، وسيأتي تحقيقُ ذلك.
والذي يظهرُ لي: أنَّ رواياتِ القِرانِ أرجحُ؛ لأن رواتَها نقلوا ألفاظَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإخبارَه عن نفسِه وعن نيتِه، وغيرُهم ليس كذلك،، ولأنَّ روايةَ القِرانِ يتأتَّى الجمعُ بينها وبين روايةِ الإفرادِ بأن يقالَ: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان مُرْدِفًا، فيمكنُ أن يقال: إن مَنْ (7) روى: أنه أفرد؛ إنما (8) سمع إردافَه بالحج، ولم يسمع إحرامَه بالعمرة. ومن روى: أنه قرن، حقق الأمرين فنقلهما. والله أعلم (9) .
وقد استهولَ (10) بعضُ القاصرين هذا الخلافَ الواقعَ في إحرامِه - صلى الله عليه وسلم - ، وقَدَّرَه =(3/310)=@
__________
(1) تقدم قبل قليل.
(2) في (ز): ((وأما)).
(3) في (ز): ((لنا)) بالنون، وكتب بعدها ((يا)) ثم ضرب عليها.
(4) أي: مع ما روي عنه من القول بالمتعة، فتتعارض الروايتان. وينظر "الاستذكار" (11/135 – 136) وستأتي رواته هذه في باب الاختلاف فيما به أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(5) لأنه قال فيها: ((وبد أ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج)) وستأتي روايته هذه في باب الهدي للمتمع والقارن. ***كتب في الورق المطبوع قبل كلمة لأنه فصلة منقوطة***
(6) وضع هامشًا بنفس الرقم ولم يكتب لها حاشية.
(7) قوله: ((فيمكن أن يقال إن من)) في (أ): ((فيمكن أن يقال من)) وفي (ي): ((فيمكن أن من)).
(8) في (ز): ((إنه)).
(9) نحو هذا الذي ذكره الشارح في ترجيح روايات القران، ذكره المازري في "المعلم" (2/53) في الجواب الثالث عن مطعم الملاحدة الذي سيذكره الشارح في الفقرة التالية ولفظه:
والجواب الثالث: أنه يصح أن يكون عليه السلام قارنًا وفَرَّق بين زمان إحرامه بالعمرة وإحرامه بالحج، فسمعت طائفة قوله أولاً: ((لبيك بعمرة)) فقالوا: كان معتمرًا، وسمعت طائفة قوله آخرًا: ((لبيك بحج)) فاقلوا: كان مفردًا، وسمعت طائفة القولين جميعًا فقالوا: كان قارنًا. وهذا التأويل يكون فيه حجةٌ لأبي حنيفة في قول: إن القِران أفضل، إذا كان هو الذي فعله، عليه السلام.اهـ.
وسيأتي للشارح زيادة تحقيق في تصحيح رواية، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا، في باب الاختلاف فيما به أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(10) في (أ): «استوهل». وكلاهما يصلح ((استهول)) من ((هالتي الأمرُ يهولني: أفزعني)) و((استوهل)) من ((وَهِلَ الرجلُ ويَوْهَلُ: فزع)). والمراد: استبشعوا الأمر واستعظموا وروده.(3/310)
مَطْعَنًا على (1) الشَّريعةِ زاعمًا: أن العادةَ قاضيةٌ بتواتُرِهِ، فلا يُخْتَلَفُ فيه، ولم يوجدْ ذلك إلا بالآحادِ، فيقطعُ بكذبها. وهذا لا يلتفتُ إليه؛ فإن ما تقْتَضي (2) العادةُ تواترَه تَوَاتَرَ وعُلم (3) ؛ وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - حجَّ وأحرم من ذي الحليفةِ (4) ، وأنه تمادى في إحرامِه في إلى أَنْ أَكْملَ مناسكَ حجِّه، وحلَّ من إحرامِه عندَ طوافِ الإفاضةِ، وهذا كلُّه معلومٌ بالنقلِ المتواترِ الذي اشترك الجَفَلَى (5) فيه؛ لأنه هو المحسوسُ لهم،، وأما إحرامُه فليس من الأمورِ التي يجبُ تواتُرها؛ لأنه راجعٌ إلى نيتِه، ولا يُطَّلَعُ عليها إلا بالإخبار عنها، أو بالنظر في الأحوال التي تدلُّ عليها،، ولما كان ذلك (6) ، فمنهم من نقلَ (7) لفظَه؛ لأنه سمعه منه في وقتٍ ما، ومنهم من حَدَسَ وسَبَرَ؛ فأخبر عمَّا وقع له وحصل في ظنِّه؛ ولذلك قلنا: إن روايةَ من روى القِرانَ أولى. والله تعالى أعلم (8) .
ومن باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة
قولُ عائشةَ رضي الله عنها: «خرجْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في أشهرِ الحجِّ، وفي (9) حُرُمِ الحجِ، وليالي الحجِّ». لم يُختلفْ في أنَّ أول أشهرِ الحجِّ: شوالٌ، واخُتلف =(3/311)=@
__________
(1) في (ي): ((في)). ويقال: طَعَنْت فيه بالقول وطَعَنْت عليه: قدحت وعبت. "المصباح المنير" (ص193- 194).
(2) في (ز): « تقضي».
(3) قوله: ((تواتره تواتر وعلم)) في (ي): ((تواتره علم)).
(4) تقدم في بيان المحل الذي أهل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(5) في (أ): «الحملي». والجفلى: عامة الناس.
(6) في (ز): ((كذلك)).
(7) في (ي): ((تفل)).
(8) ذكر هذا المطعن الإمام المازري في "المعلم" (2/530) – كما سبقت الإشارة إليه – وقال في الجواب عنه:
وعن هذا الذي قالوه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الكذب إنما يدخل فيما طريقه النقل، ولم يقولوا: إنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: إني فعلت كذا، بل إنما استدلوا على معتقده بما ظهر من أفعاله – عليه السلام – وهو موضع تأويل، والتأويل يقع فيه الغلط، فإنما وقع لهم فيما طريقه الاستدلال لا النقل.
والجواب الثاني: أنه يصح أن يكون - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أمر بعض أصحابه بالإفراد وبعضهم بالقِران وبعضَهم بالتمتع، أضاف النقلة إليه - صلى الله عليه وسلم - ذلك فعلاً، وإن كان إنما وقع ذلك منه – عليه السلام – قولاً؛ فقالوا: فعل - صلى الله عليه وسلم - كذا، كما يقال: ((رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا))، و((قتل السلطان اللص)) أي: أمر - صلى الله عليه وسلم - برجمه، وأمر السلطان بقتله. وقد نقلنا الجواب الثالث آنفًا.
(9) في (أ): «أ وفي».(3/311)
في آخرِها: فقال مالكٌ: آخرُها آخرُ ذي الحجَّةِ، وبه قال ابنُ عباسٍ (1) ، وابنُ عمرَ (2) . وذهب عامةُ العلماءِ إلى أن آخرها عاشرُ ذي الحجَّةِ، وبه قال مالكٌ أيضًا، ورُوي عنِ ابنِ عباسٍ (3) وابنِ عمرَ (4) مثله. وقال الشافعيُّ – رضي الله عنه -: شهران وتسعةُ أيامٍ من ذي الحجَّةِ (5) . ورُوي عن مالكٍ: آخرُ ذلك أيامُ التشريقِ (6) .
وسببُ الخلافِ: هل يُعتبرُ مسمَّى الأشهرِ؛ وهي ثلاثةٌ،، أو يعتبرُ الزمانُ الذي يَفْرُغُ فيه عملُ الحجِّ؛ وهو (7) أيامُ التشريقِ،، أو معظمُ أركانِ الحجِّ؛ وهو يومُ عرفَة، أو يومُ النحرِ؛ وهو اليومُ الذي يتأتَّى فيه إيقاعُ طوافِ الإفاضةِ؟ وأبعدها قول مَنْ قال: بالتاسعِ (8) .
وفائدةُ هذا الخلافِ تعلُّقُ الدَّمِ بمن أخَّرَ طوافَ الإفاضةِ عن الزمانِ الذي هو عندهَ آخرُ الأشهرِ. وبسْطُ الفروعِ في كتبِ الفقهِ.
و«حُرُمُ الحجِّ (9) »: أزمانُ شهورِه، و«ليالي الحج»: ليالي أيامِ شهورِه (10) . وكررَّتْ ذلك تفخيمًا وتعظيمًا؛ ولذلك أتت بالظاهرِ مكانَ المضمرِ؛ وصار هذا كقولِهم:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى والْفَقِيَرا (11)
وقولُه: «فمن أحبَّ أن يجعلَها عمرةً فليفعلْ (12) » ظاهرُه التخييرُ؛ ولذلك كان منهم الآخذُ، ومنهم التاركُ. لكن بعدَ هذا ظهرَ منه - صلى الله عليه وسلم - عَزْمٌ على الأخذِ بفسخِ الحجِّ في (13) العمرةِ، لما غَضِبَ ودخل على عائشةَ (14) ، فقالت له: مَنْ أغضبَكَ؟! أغضبَه الله (15) ! فقال: «أَوَمَا شعرتِ أنِّي أمرتُ الناسَ بأمرِ فإذا هم يتردَّدون». وعندَ هذا أخذ في ذلك كلُّ من أحرم بالحجِّ ولم يكن ساق هديًا، وقالوا: فَحَلَلْنَا، وسمعنا وأطعنا (16) . =(3/312)=@
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/214 رقم13629) في الحج، باب قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات}، وسنده ضعيف.
(2) صحيح، وهو مخرَّج في "سنن سعيد بن منصور" (3/784-787 و787-790 رقم329 و331).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3/214-215 رقم13637) في الحج، باب قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات}، وابن جرير (4/115 رقم3519 و3520 و3521 و3523 و3524)، والدارقطني (2/226)، والبيهقي (4/342). من طرق متعددة، ولا تخل ومن مقال.
وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (2/525)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي.
(4) صحيح لغيره، وهو مخرَّج في "سنن سعيد بن منصور" (3/787-790 رقم331).
(5) بعده في "الإكمال" (4/246): ((وليلة النحر دون يومه)). وينظر "شرح النووي" (8/149)، و"الفتح" (3/420).
(6) ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/186).
(7) في (أ) و(ي): «وهي».
(8) أي: يوم عرفة وقال ابن العربي في "الأحكام" (1/186): فمن قال: إنه ذو الحجة كله، أخذ بظاهر الآية والتعديد للثلاثة،، ومن قال: إنه عشرة أيام، قال: إن الطواف والرمي في العقبة ركنان يفعلان في اليوم العاشر،، ومن قال: عشر ليال، قال: إن الحج يكمل بطلوع الفجر يوم النحر لصحة الوقوف بعرفة، وهو الحج كله،، ومن قال: آخر أيام التشريق، رأى أن الرمي من أفعال الحج وشعائره، وبعض الشهر يسمى شهرًا لغة.
(9) حرم الحج: بضم الحاء والراء، كذا ضبطه القاضي عياض عن جمهور الرواة، وذكر أن الأصيلي ضبطه بضم الحاء وفتح الراء؛ فعلى الضم كأنها تريد الأوقات والمواضع والأشياء والحالات؛ جمع ((حرام)). وأما بالفتح فجمع ((حُرْمة)) أي: ممنوعات الحج ومحرماته. انظر: "مشارق الأنوار" (1/187- 188)، "شرح النووي" (8/149)
(10) في (ي): ((التشريق)).
(11) البيت من بحر الخفيف، وهو لعدي بن زيد بن حماد بن أيوب، العبادي (ترجمته وأخباره في "الأغاني") (2/97- 154)، و"الشعراء" (1/225)، وشرح أبيات "المغني" (4/48- 52).
وهو من قصيدة مطلعها:
طال ليلى أراقب التنويرا ... أرقب الليل بالصباح بصيرا
ومنها:
قد يبات الفتى صحيحا فيردى ... ولقد بات آمنا مسرورا
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغني والفقيرا
يُدرك لاآبدَ الغرورَ ويُرْ ... دي الطيرَ في النِّيق يبتنين الوكورَا
للمنايا مع الغدو رواح كل ... كل يوم ترى لهن عقيرا
كم ترى اليوم من صحيح تمنى ... وغدا حشو ريطةٍ مقبورا
أين أين الفرار مما سيأتي ... لا أرى طائرًا نجا أن يطيرا
وبيت الشاهد تعظيم وتفخيم لأمر الموت، وأنه أقرب إلى الإنسان من أي شيء، فهو لا يسبقه شيء، كما أنه تغص عيش الغني والفقير؛ فالغني خوفه من الموت ينغص عليه الالتذاذ بغناه وسروره به، وخوف الفقير من الموت ينغص عليه السعي في التماس الغنى لأنه لا يعلم إذا وصل إليهالغنى هل يبقى حتى ينتفع به، أو يقتطعه الموت من الانتفاع به. (من "الخزانه" بتصرف).
وموضع الشاهد قوله: ((لا أرى الموت يسبق الموت شيء)) والشاهد فيه إعادة الاسم المظهر موضع الضمير؛ إذ الأصل: ((لا أرى الموت يسبقه شيء)) فأعاد المظهر تفخيمًا له! ويكثر هذا التكرير والإعادة في أسماء الأجناس والبيت من شواهد سيبويه على ذلك؛ كان الأعلام: استشهد بهذا البيت سيبويه على إعادة الظاهر موضع المضمر، وفيه قبح إذا كان تكريره في جملة واحدة؛ لأنه يستغنى بعضها عن بعض فلا يكاد ما يجوز إلا في ضرورة... فإن كان إعادته في جملتين حَسُنَ؛ كقولك: زبير رأيته وزيد كلمته، فلو قيل: زيد رأيته وهو كلته، توهم أن الضمير لغير ((زيد))، فلما أعيد مظهرا زال التوهم. وإعادته مضمرًا في الجملة الواحدة لا تحدث توهمًا؛ نحو: زيد كلته؛ لأنك لا تقول: زيد كلتُ عمرًا. أما إذا كان اسم جنس فالإظهار حسن لأنه لا يتوهم أنه اسم بشيء آخر؛ كـ((الموت)) في موضع الشاهد. (انتهى نقلا عن "الخزانة" بتصرف).
ومناسبة الشاهد قول عائشة رضي الله عنها: ((... في أشهر الحج، وفي حرم الحج وليالي الحج)) حيث كررت ((الحج)) ثلاثًا تفخيمًا لشأنه وتعظيمًا، والأصل الإضمار في التاليين؛ فتقول: ((في أشهر الحج، وفي حرمه، ولياليه)). وبيت الشاهد، لعدي بن زيد في "ديوانه" (ص65)، "شرح ديوان الحماسة" (1/36، 118)، و"الأشباه والنظائر" (8/30)، و"شرح أبيات المغني" (7/77)، ولسواد بن عدي في "الكتاب" (1/62)، و"شرح شواهد المغني" (2/176)، ولعدي أو لسوادة (سواد) بن زيد بن عدي في "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي (1/214)، "خزانة الأدب" (1/378)، (6/90)، (11/366)، و"اللسان" (7/99)، ولسوادة بن عدي أو لعدي بن زيد، أو لسوادة بن زيد بن عدي بن زيد في "التاج" (9/372).
وبلا نسبة في "أمالي ابن الحاجب" (1/153، 286)، (2/89)، "الخصائص" (3/53)، و"مغني اللبيب" (ص473)، و"البيان" (1/68، 134)، و"التبيان" (1/152)، و"الصحاح" (3/1059)، و"شرح الر ضي" (1/212).
(12) الرواية في "الصحيح" و"التلخيص": ((من لم يكن معه منكم هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل)).
(13) في (ي): ((إلى)).
(14) سيأتي في هذا الباب. [يراجع المحدثون هذا هو الباب المشار إليه].
(15) الرواية: ((من أغضبك: يا رسول الله، أدخله الله النار...)). وسيذكرها الشارح كذا فيما سيأتي.
(16) ورد ذلك في حديث جابر عند مسلم (1216) (141). [يراجع المحدثون].(3/312)
وكان هذا الترددُ منهم؛ لأنهم ما كانوا يرونَ العمرةَ جائزةً في أشهرِ الحجِّ، وكانوا يقولون: إن العمرةَ في أشهرِ الحجِّ من أفجرِ الفجورِ (1) ، فبيَّن جواز ذلك لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقولِه عندَ الإحرامِ بلفظِ الإباحةِ،، ثم إنه لما رأى أكثرَ الناسِ قد أحرم بالحجِّ مجتنبًا للعمرةِ، أمرَهم بالتحلُّلِ بالعمرةِ عندَ قدومهِم (2) مكةَ، تأنيسًا لهم، فلما رأى استمرارَهم على ذلك عَزَمَ عليهم في ذلك، فامتثلوا، فَبَيَّنَ (3) بقولِه، وبحملِهم على ذلك الفعلِ: أن الإحرامَ بالعمرةِ في أشهرِ الحجِّ جائزٌ،، ولما كان ذلك التحلل لذلك المعنى فهم (4) الصحابُة – رضوان الله عليهم أجمعين - أن ذلك مخصوصٌ بهم، ولا يجوزُ لغيرِهم ممن أحرم بالحجِّ أن يحلَّ بعملِ العمرةِ، ولقولِ الله تعالى (5) : {وأتموا الحج والعمرة لله} (6) ، كما قال عمرُ: إن القرآن نزل منازلَه؛ فأتموا الحجَّ والعمرةَ كما أمركم الله (7) ؛ ولذلك قال أبو ذرٍّ: كانت المتعةُ في الحجِّ لأصحابِ محمدٍ خاصَّةً(5)؛ يعني (8) بذلك: تمتعَهم بتحلِلُّهم من (9) حجِّهم بعملِ العمرةِ،، وقد ذهب بعضُ أهلِ الظاهرِ: إلى أن ذلك يجوزُ لآخرِ الدَّهرِ، والصحيحُ الأولُ؛ لما سبق.
وقولُها: «فسمعتُ (10) بالعمرةِ»؛ كذا لجمهورِ رُواةِ مسلمٍ (11) . وفي كتابِ ابنِ سعيدٍ (12) : «فَمُنِعْتُ العُمْرَةَ» (13) ، وهو الصوابُ.
وقولُه: «فعسى الله أن يرزقكيها (14) »؛ أي: العمرةَ التي أردفتْ عليها الحجةَ، ولم تفرُغْ (15) من عملِها، فَرَجَا لها (16) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يحرزَ اللهُ تعالى لها (17) أجرَ عمرتِها وإن لم تعملْ لها عملاً خاصًّا، كما قال لها: «يَسُعُكِ طَوَافُكِ لَحِجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» (18) . =(3/313)=@
__________
(1) سيأتي في باب إباحة العمرة في أشهر الحج.
(2) في (ي): ((وقوعهم)).
(3) في (ز): «فتبين».
(4) في (ي): ((فهمت)).
(5) قوله: ((ولقول الله تعالى)) في (ي): ((ولقوله تعالى)).
(6) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(7) سيأتي في هذا الباب. [يراجع المحدثون هنا الباب المشار إليه].
(8) في (ز): «تعني».
(9) سقط من (ز).
(10) في (ز): «فتمتعت».
(11) في (ز): «كذا الجمهورُ رَوَاه مسلم»، كذا في النسخة بهذا الضبط.
(12) هو أحد رواة "صحيح مسلم".
(13) في (أ) و(ز): ((فتمتعت بالعمرة))، وفي (ي): ((فمنعت بالعمرة))، والمثبت ملفقًا من النسخ، موافق لما جاء في نسخة من "صحيح مسلم" (من هامش الطبعة العامرة) (4/31)، وهي رواية البخاري (3/419 رقم1560) في الحج، باب: قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات}. وينظر: "مشارق الأنوار" (1/385)، و"الإكمال" للقاضي عياض (4/247)، و"شرح النووي" (8/150).
(14) في (ي): ((يرزقكها)) وهي رواية في البخاري (1788) في الحج باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع. والمثبت رواية مسلم، وهي أيضا عند البخاري (1560) في الحج، باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات}. وهما لغتان؛ حكى سيبويه عن ناسٍ من العرب أنهم يلحقون الكاف ضمير الخطاب إذا رفعت بعدها الهاء ضمير الغائب، ألفًا في حالة التذكير، وياء في التأنيث، وذلك لتبيين كل منهما من الآخر؛ ولأنهما (الكاف والهاء) مهموستان، سووا بينهما في إلحاق حرف المد فقالوا: ((أُعطيكيها)) و((أعطيكيه)) في المؤنث، و((أعطيكاهُ))، و((أعطيكاها)) في المذكر. قال سيبويه: وحدثني الخليل أن ناسًا يقولون: ((ضربتيه)) فيلحقون الياء، وهذه قليلة، وأجود اللغتين ألا تلحق حرف المد في الكاف. "الكتاب" (4/200).
(15) في (أ): «يفرغ».
(16) سقط من (ز)، وفي (أ): «فرجا له».
(17) قوله: «لها» سقط من (أ).
(18) سيأتي في باب يجزئ القارن بحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد.(3/313)
وقولُها: «حتى نَزَلتُ منًى، فتطهرتُ))؛ يومَ النَّحر؛ كما قالت فيما تقدَّم (1) .
وقولُها: «ثم طفْنا (2) بالبيتِ»؛ تعني (3) : طوافَ الإفاضةِ.
وقولُها: «فخرجَ فمرَّ بالبيتِ فطاف به قبلَ صلاةِ الصبحِ، ثم خرج إلى المدينةِ»؛ تعني به طوافَ الوداعِ.
ولا خلافَ في أنه مستحبٌّ مرغَّبٌ فيه مأمورٌ به، غيرَ أن أبا حنيفةَ يوجبُه. ومن سننهِ (4) : أن يكونَ آخرَ عملِ الحجِّ، ويكونَ سفرُه باثَرِهِ؛ حتى يكونَ آخُر عهِده بالبيتِ؛ وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ.
لكن رخَّص مالكٌ في شراءِ بعضِ جهازِه وطعامِه بعدَ طوافِه، وقاله الشافعيُّ إذا اشترى ذلك في طريقه.
وإقامُة (5) يومٍ وليلةٍ بعدَه: طُولٌ عندَ مالكٍ،، وقيل: ليسَ بطولٍ. وأجاز أبو حنيفة إقامتَه بعده (6) ما شاء. وغيرهم (7) لا يُجيزُ الإقامةَ بعده لا قليلاً ولا كثيرًا.
وقولُها: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نُرَى إلا أنه الحجُّ»؛ أي: نظنُّ، وكان هذا قبلَ أن يُعلِمَهم بأحكامِ الإحرامِ وأنواعِه.
وقولُها: «فلما قدمنا مكة تطَّوفْنَا بالبيتِ»؛ تعني بذلك: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والناسَ =(3/314)=@
__________
(1) يعني قولها: ((فلما كان يوم النحر طهرت)) تقدم في باب تفعل الحائض والنفساء المناسك كلها إلا الطواف. وذكر الشارح في باب يغتسل المحرم على كل حال، مخالفة قولها هذا لقولها في رواية أخرى: ((فلم أزل حائضًا حتى كان يوم عرفة))، وجمع بينهما الشارح هناك!.
(2) قوله: ((ثم طفنا)) في (ز): «فطفنا».
(3) في (أ) و(ز): ((يعني)).
(4) في (ز) و(ي): ((سنته)).
(5) في (ز): «بإقامة».
(6) في (ي): ((بعد)).
(7) في (ي): ((وغيره)).(3/314)
غيرَها؛ لأنها لم تطفْ بالبيتِ ذلك الوقتَ لأجلِ حيضتِها. وعلى هذا المعنى يُحملُ قولُها: «لَبَّينا بالحجِّ» (1) ، فإنها تريدُ به غيرَها، وأما هي فلبَّتْ بعمرةٍ كما تقدَّم قولُها (2) (3) .
وقولُ (4) صفيةَ: «ما أُراني إلا حابستَكُم»؛ ظنَّتْ أنها لا بدَّ لها من طوافِ الوداعِ، وأنها لا تطوفُ حتى تطهرَ، ومن ضرورةِ ذلك أن تحتبسَ عليها، فلما سمعها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ظنَّ أنها لم تَطُفْ طوافَ الإفاضةِ، فأجابَها بما يدلُّ على استثقالِه احتباسَه بسببِها (5) ، فقال: «عَقْرَى، حَلْقَى» الروايةُ (6) فيه بغيرِ تنوينٍ، بألفِ التأنيثِ المقصورةِ.
قال القاضي: يُقالُ للمرأةِ: «عَقْرَى حَلْقَى»؛ أي: مشؤومة (7) مُؤْذِيةٌ. وقيلَ: تَعْقِرهُم وتَحْلِقُهم. وقيل: عَقْرَى: ذاتُ عَقْر. و«حلقى»: أصابها وَجَعُ الحلقِ؛ أي: أصابها ذلك وقيل: هي كلمةٌ تقولُها اليهودُ للحائضِ. وقال أبو عبيدٍ: صوابُه: ((عَقْرًا، حَلْقًا)) بالتنوين؛ لأن معناه: عَقَرَها (8) الله عَقْرًا،، وهذا على مذهبِهم- أعني: العربَ - فيما يَجْرِي على ألسنتِهم؛ مما ظاهرُه الدعاءُ بالمكروهِ،، ولا يقصدونه (9) ، على ما تقدَّم في الطَّهارةِ (10) .
وقولُه: «لا بأسَ، انْفِرِي»؛ دليلٌ على أنَّ طوافَ الوداعِ ليس بواجبٍ، ولا يجبُ بتركِه دمٌ. =(3/315)=@
__________
(1) تقدم في باب تفعل الحائض والنفساء جميع المناسك إلا الطواف بالبيت. [وقد شطب عليه في الهامش ولم يشطب الهامش من الأصل].
(2) قوله: «قولها» سقط من (ز). ويعني قولها: ((وكنت فيمن أهل بعمرة)) وقولها: ((ولم أهل إلا بعمرة)) وقد تقدم في باب يغتسل المحرم على كل حال.
(3) تقدم في باب يغتسل المحرم على كل حال.
(4) في (ز): «وأما قول».
(5) قال الحافظ في "الفتح" (3/587) في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((أحابستنا هي)): أي مانعتنا من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه؛ ظنا منه - صلى الله عليه وسلم - أنها ما طافت طواف إفاضة، وإنما قال ذلك لأنه كان لا يتركها ويتوجه، ولا يأمرها بالتوجه معه وهي باقية على إحرامها؛ فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثاني... وفي رواية... عن عائشة...: حججنا فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله، إنها حائض،،، الحديث وهذا مشكل؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول: ((أحابستنا هي)) وإن كان ما علم فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثاني؟ ويجاب عنه بأنه - صلى الله عليه وسلم - ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة، فأذن لهن، فكان بانيا على أنها قد حلت، فلما قيل له: إنها حائض، جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة؛ فاستفهم عن ذلك، فأعلمته عائشة أنها طافت معهن؛ فزال عنه ما خشيته من ذلك. والله أعلم. وقد سبق في كتاب الحيض، من طريق عمرة عن عائشة، أنه قال لهم: ((لعلها تحبسنا، ألم تكن طافت معكن)).قالوا: بلى. انتهى كلام الحافظ.
ولا يخفى ما في كلام الشارح هنا من التأكيد على ما ذهب إليه من اتضاع مكانة صفية عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ يستثقل أمرها واحتباسه بسببها!.
(6) قوله: ((فقال: عقري حلقي الرواية فيه...)) إلخ. كذا في النسخ، والعبارة تحتاج إلى ما يفيد بداية كلام على الرواية في ((عقرى حلقى)) ومعناهما، وانفصاله عما قبله، وأيسر ما يقدر هنا الواو قبل ((الرواية)) فيكون هكذا: ((والرواية فيه...))إلخ: ويحمل على التخلص والانتقال من غرض إلى غرض!.
(7) في (أ) و(ز): ((مشوهة)).
(8) في (أ): ((عقره)).
(9) "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/44) وأورده أبو عبيد عند الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - : ))تربت يدالك)) وقال فيرون والله أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتعمد الدعاء عليه بالفقر، ولكن هذه كلمة جارية على ألسنة العرب يقولونها وهم لا يريدون وقوع الأمر، وهذا كله له - صلى الله عليه وسلم - لصفية...إلخ.
وفي "النهاية" (3/272): ((قال الزمخشري: هما صفتان للمرأة المشئومة؛ أي: إنها تعقر قولها وتحلقهم؛ أي: تستأصلهم من شؤمها عليهم، ومحلهما الرفع على الخبرية؛ أي: هي عقرى وحلقى. ويحتمل أن يكونا مصدرين على ((فعلى)) بمعنى العقر والحلق؛ كالشكوى للشكو – وحكم مثله القاضي في ((غضبى)) و((سكرى)).اهـ. وفي "شمارق الأنوار" (1/197): وقيل: عقرى أي: عاقر لا تلد. وقال الأصمعي: هي كلمة تقال للأمر يعجب منه... وقيل: هي كلمة تقولها اليهود للحائض وفيها جاء الحديث... وفي البخاري أنها لغة لقرش. وينظر: "تهذيب اللغة" (1/215)، "الإكمال" (4/239- 240)، "لسان العرب" (4/594- 595)، "تاج العروس" (7/250).
(10) قوله: «في الطهارة» سقط من (أ). وقد تقدم في كتاب الإيمان أيضا، باب... وفي كتاب الطهارة...(3/315)
وقولُها: «خَرجْنَا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لا نَذْكرُ حجًّا ولا عمرةً» يحتملُ أن يكونَ معناه: لا نسمي (1) واحدًا منهما؛ ويستفادُ منه: أنَّ الإحرامَ بالنيةِ، لا بالقولِ. ويحتملُ أن يكونَ معناه: أنَّ ذلك كان عندَ خروجِهم من المدينةِ قبلَ أن يُبَيِّن لهم أنواعَ الإحرامِ ويأمَرهُم بها (2) ، كما تقدَّم (3) .
وقولُها: «مَنْ أَغْضَبَكَ؟! أدخلَه اللهُ النَّارَ!»؛ كأنها سبقَ لها أنَّ الذي يُغضبُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما هو منافقٌ، فَدَعَتْ عليه بذلك (4) .
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - : «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما سقتُ الهديَ، ولجعلُتها عمرةً»؛ هذا يدلُّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ ما (5) أحرم به متحتِّمًا متعيِّنًا عليه، وأنه كان مخيَّرًا (6) بين أنواع الإحرامِ، فأحرم بأحدِها، ثم إنه لما قلَّد الهديَ لم يمكنْه أن يتحلَّلَ حتَّى ينحرَه يومَ النحرِ بَمحِلِّه؛ فمعنى الكلامِ:لو ظهر لي قبلَ الإحرامِ ما ظهر لي (7) عندَ دخولِ مكةَ من توقُّفِ الناسِ عن التحلُّلِ بالعمرةِ، لأحرمتُ بعمرةٍ، وَلَمَا سقتُ الهديَ،، وإنما قال ذلك تطييبًا لنفوسِهم، وتسكينًا لهم.
وقولُه: «حتى (8) أَشتريَه»؛ يعني بمكةَ (9) ، أو ببعضِ جهاتِها. =(3/316)=@
__________
(1) في (ز): ((يسمي)).
(2) في (ي): ((به)).
(3) ذكر ذلك المازري في "المعلم" (2/55) وعبارته: يحتمل أن يكون قولها ((لا نذكر)) أي: لا ننطق بذلك. وهذا كمذهب مالك؛ أن النية تجزئ في ذلك دون النطق. ويحتمل أن يكون أرادات: عقدت إحراما مبهمًا وهذا أحد التأويلات أيضا في إحرامه - صلى الله عليه وسلم - في حجته أنه كان أولا مبهما حتى أوحى إليه بتعيين ذلك على الخلاف المذكور فيه، والأظهر من التأويلين الأول، وأنها أرادت النطق لأنها ذكرت فيما تقدم أنها كانت أهلت بعمرة فيبعد تأويل الإيهام مع هذا.اهـ.
قال القاضي في "الإكمال" (4/241) تعليقًا على كلام المازري السابق: هذا هو الصحيح الذي لا يجب أن يقال سواه.
(4) في (أ) و(ي): ((لذلك)).
(5) قوله: ((لم يكن ما)) في (أ): ((لم يكن)) وفي (ز): ((ما)).
(6) في (ز): ((مجيزا)).
(7) سقط من (ز).
(8) سقط من (أ).
(9) قوله: ((أشتريه يعني بمكة)) في (ي): ((اشتريته يعني حتى اشترى الهدي بمكة)).(3/316)
وقولُه: «كان ابنُ عباسٍ يأمرُ بالمتعةِ، وكان ابنُ الزبيرِ ينهى عنها» هذه المتعةُ التي اختلفا فيها: هي فسخُ الحجِّ في العمرةِ التي أمرَهم بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ فكان ابنُ عباسٍ يرى أن ذلك جائزٌ لغيرِ الصحابةِ، وكان ابنُ الزبيرِ يرى أن ذلك خاصٌّ بهم،، وهي التي قال فيها جابرُ بنُ عبدِالله: على يَدِي دارَ الحديثُ، تَمَتَّعْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي التي منعها عمرُ واستدلَّ على منعِها بقولهِ تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (1) ،، ولا معنى لقولِ مَن قال: إن اختلافهما إنما كان في الأفضلِ من (2) المتعِة التي هي الجمعُ بين الحجِّ والعمرةِ في عامٍ واحدٍ وسفرٍ واحدٍ، ومن (3) غيرِها من الإفرادِ والقِرانِ؛ لأنه لو كان اختلافُهما في ذلك لكان استدلالُ عمرَ ضائعًا؛ إذ كان يكونُ استدلالاً في غيرِ مَحِلِّه، غيرَ أنه لما كان لفظُ المتعةِ يقالُ عليهما بالاشتراكِ (4) ، خَفِيَ على كثيرٍ من الناسِ، وكذلك يصلُحُ هذا اللفظُ لمتعةِ النكاحِ، ولذلك ذكرَهما جابٌر عن عمرَ في نسقٍ واحدٍ،، وكان ابنُ عباسٍ أيضًا خالف في متعةِ النكاحِ، ولم يبلغْه ناسخُها، على ما يأتي في النكاحِ، إن شاء الله (5) .
وقولُ جابرٍ: «فعلناهُما (6) مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نهى عنهما عمرُ، فلم نعدْ لهما» هذا يدلُّ على أن إجماعَ الصحابةِ انعقدَ على تركِ العملِ بِتَيْنِك المتعتينِ، وأن تَيْنِكَ خاصَّتان بهم، ممنوعتان في حقِّ غيرِهم، كما قال أبو ذرٍّ.
وقولُ عمرَ: «إن القُرآنَ قد نزل منازلَه»؛ أي: استقرتْ أحكامُه وثبتت معالمُه، فلا يقبلُ النسخَ ولا التبديلَ، بعدَ أن تُوفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، =(3/317)=@
__________
(1) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(2) ؟؟؟.
(3) ؟؟؟.
(4) قال أبو عمر بن عبد البر في "الاستذكار" (11/208- 219) والتمتع على أربعة أوجه ومعانٍ: أحدها: التمتع المعروف عند عامة العلماء؛ (وهو أن يعتمر في أشهر الحج، ثم يحج من عامه). والثاني: القران عند جماعة الفقهاء لأن القارن يتمتع بسقوط سفره الثاني من بلده كما صنع الذي يحج ويعتمر في أشهر الحج ثم يحج من عامه ولم ينصرف إلى بلده. والوجه الثالث: هو فسخ الحج في عمرة، وجمهور العلماء يكرهونه. والوجه الرابع: تمتع المحصر، وهو ما ذهب إليه ابن الزبير (.اهـ. بتصرف). ثم ذكر نهي عمر عن المتعة، قال أبو عمر: والصحيح عندي أن عمر بن الخطاب لم ينه عن التمتع المذكور في هذا الباب؛ لأنه كان أعلم بالله ورسوله من أن ينهى عما أباحه الله في كتابه وأباحه رسول الله وأمر به وأذن فيه، وإنما نهى عمر عند أكثر العلماء عن نسخ الحج في العمرة.اهـ. وينظر "الإكمال" (4/263- 264).
(5) يأتي في كتاب النكاح، باب...
(6) في (ز): «فعلناها».(3/317)
ويعني بذلك: أن متعةَ الحجِّ قد رُفعتْ لما أمر اللهُ تعالى بإتمامِ الحجِّ والعمرةِ، ومتعةُ النكاحِ أيضًا كذلك؛ لما ذكر الله شرائطَ النكاحِ في كتابِه، وبين أحكامَه؛ فلا يُزادُ فيها، ولا يُنْقَصُ منها شيْءٌ، ولا يُغَيَّرُ.
وقولُه: «وَأَبِتُّوا (1) نكاحَ هذه النساءِ»؛ يعني: اللاتي عُقد عليهن نكاحُ المتعةِ؛ أي: اقطعوا نكاحَهن،، وهذا منه أمرٌ وتهديدٌ، ووعيدٌ شديدٌ، لمن استمرَّ على ذلك بعدَ التقدمِة (2) .
وقولُه: «إلا رجمتُه بالحجارةِ» على جهةِ التغليظِ، وظاهرُه: أنه كان يرجُمه لأنه قد كان حصل عندَه على القطعِ والبتاتِ نسخُ (3) نكاحِ المتعِة، ثم إنه تقدَّم بهذا البيانِ الواضحِ والتغليظِ الشديدِ؛ فكأنه لو أُتِيَ بمن فعل ذلك بعدَ تلك الأمورِ لحكم له بحكمِ الزاني المحصَنِ، ولم يقبلْ له اعتذارًا بجهلٍ ولا غيرِه.
قال أبو عمرَ ابنُ عبدِ البرِّ (4) : لا خلاف بين العلماءِ في أن التمتعَ المرادَ بقولِه تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} (5) : أنه الاعتمارُ في أشهرِ الحجِّ، =(3/318)=@
__________
(1) في (ز): «وابتدا».
(2) في (ي): ((التقدم)).
(3) في (ي): ((ينسخ)).
(4) "التمهيد" (8/342).
(5) سورة البقرة؛ الآية: 196.(3/318)
قبلَ الحجِّ (1) ، في عامٍ واحدٍ، وسفرٍ (2) واحدٍ، من غيرِ المكِّيِّ (3) .
قال غيرُه (4) : عليه كافةُ فقهاءِ الأمصارِ،، ورُوي عن الحسنِ إسقاطُ شرطِ الحجِّ من عامِه، ورأى أنَّ على المعتمِرِ في أشهرِ الحجِّ هديًا حجَّ أو لم يحجَّ،، ورُوي عنه إسقاطُ شرطِ العمرةِ في أشهر الحجِّ، وقال (5) : إن اعتمرَ في غيرِ أشهرِ الحجِّ ثم حجَّ من عامِه، فعليه الهديُ. وهذان القولانِ شاذانِ، لم يقلْ بهما أحدٌ من العلماءِ غيرُه (6) . =(3/319)=@
__________
(1) لفظ ابن عبد البر في "التمهيد" (8/342): ((فأما الوجه المجتمع على أنه التمتع المراد بقول الله عز وجل: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} فهو: الرجل يحرم بعمرة في أشهر الحج)).اهـ. ثم ذكر شروطه، وصفته، مفصلة مع اختلاف العلماء فيها، وقد أجملها الشارح.
ولفظه في "الاستذكار" (11/؟؟؟) – وهو أقرب إلى عبارة ما نقله الشارح - بعد ذكر حديث ابن عمر في معنى التمتع، وأنه من اعتمر في أشهر الحج... ثم أقام بمكة حتى أدرك الحج فهو متمتع إن حج... قال أبو عمر: ما ذكره مالك في هذا الحديث... لا اختلاف بين العلماء أنه التمتع المراد بقوله عز وجل فمن تمتع بالعمرة إلى الحج.اهـ. ثم ذكر شروط التمتع.
وقد نقل الشارح لفظ ما نقله القاضي في "الإكمال" (4/264) عن ابن عبد البر، ولم يذكر القاضي أيضًا الشروط في هذا الموضع!
(2) في (ي): ((وشهر)).
(3) هذه هي شروط المتعة الموجبة للهدي، وقد ذكر المازري في "المعلم" (2/57) أنها ستة شروط: أن يعتمر ويحج في عام واحدٍ، في سفر واحد (وهو شرط الإقامة)، ويقدم العمرة عل الحج، ويفرغ منها، وينشئ الحج، ويوقع العمرة أو بعضها في أشهر الحج، ويكون غير مكي.اهـ. وقد ذكرها الشارح غير الفراغ من العمرة وإنشاء الحج!.
(4) هو القاضي في "الإكمال" (4/264) وعبارته: وعلى ما ذكر من شروط التمتع الموجب للهدي الذي ذكر الله، كافة فقهاء الأمصار.اهـ. وما يأتي من كلام هنا، فهو أيضًا عن القاضي.
(5) في (ي): ((فقال)).
(6) هذا آخر كلام القاضي في "الإكمال"، وبعده: وروي عنه (أي: عن الحسن) أيضا إسقاط شرط الإقامة وإلزام الهدي إن حج من عامه بعد أن رجع بعد العمرة إلى بلده.(3/319)
وقولُ جابرٍ (1) : «خرجْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مهلِّين بالحجِّ معنا النساءُ والوِلدان» دليلٌ على جوازِ (2) حجِّ الصبيِّ وأنه ينتفعُ به، وأنَّ حكمَه في ذلك حكمُ الكبيرِ فيما يفعلُه ويلزمُه.
وقولُهم لما أمرَهم بالتحلُّلِ من الحجِّ بالعمرةِ: «أيُّ الْحِلِّ»؛ سؤالُ (3) من جوَّز أنه يحلُّ من بعضِ الأشياءِ دونَ بعضِها، فقال لهم النبيُّ (4) - صلى الله عليه وسلم - : «الحلُّ كلُّه»؛ أي: هو الحلُّ؛ أي: لا يبقى شيءٌ من ممنوعاتِ الإحرامِ بعد التحلُّلِ المأمورِ به. =(3/320)=@
__________
(1) هنا شرح الشارح في الحديث على ما ذكره في "التلخيص" من أحاديث. ((باب يجزئ القارن بحجة وعمرته طواف واحد وسعي واحد)). ولم يأت للباب ترجمة في الشرح في جميع النسخ، ولعله لم يترجم له لأن جل ألفاظه وأحكامه قد سبق كلامه عليه فيما مضى من أبواب.
(2) في (ز): ((جران)).
(3) في (أ): «بسؤال».
(4) قوله: ((النبي)) ليس في (ز) و(ي).(3/320)
وقولُه: «أُمرنا أن نشتركَ في الإبلِ والبقرِ، كلُّ سبعةٍ منَّا في بَدَنةٍ» يحتجُّ به مَن يَرى جوازَ (1) الاشتراكِ في الهدايا، وهم الجمهورُ. وسيأتي إن شاء الله تعالى (2) .
ومن باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -
حديثُ جابرٍ هذا فيه أحكامٌ كثيرةٌ، وأبوابٌ من الفقهِ عديدةٍ (3) ، قد (4) استخرجَها الأئمةُ – رضي الله عنهم -، وصنَّفوها، وعدَّدوها حتى بلَّغوها إلى نَيِّفٍ (5) على مائةٍ وخمسين حُكْمًا، وإذا تُتُبِّع وُجد فيه أكثرُ من ذلك، لكنَّ أكثرَها لا يَخْفى على فَطِنٍ، فلنَعْمِدْ (6) إلى بيان ما يُشْكِلُ.
فمن ذلك: سؤالُ جابرٍ عن القومِ حين دخلوا عليه؛ إنما كان ذلك لأنه كان قد عَمِيَ. وفعلُ جابرٍ ذلك الفعلَ به إنما كان تأنيسًا له ومبالغةً في إكرامِه على ما يُفعلُ بالصغارِ، وعلى ذلك نَبَّهَ بقولِهِ: «وأنا يَومْئذٍ غلامٌ شابٌ». =(3/321)=@
__________
(1) في (ز): ((جوان)).
(2) قوله: ((إن شاء الله تعالى)) زيادة من (ز) فقط. وسيأتي ذلك في باب...
(3) في (ز): «مديدة».
(4) ؟؟؟.
(5) النَّيِّفُ والنِّيفُ: الزيادة. والتثقيل أفصح. وهو من واحدٍ إلى ثلاثٍ، ولا يقال إلا بعد عقد؛ كعشرة، ومائة، وألف. ينظر "المصباح" (ص324).
(6) في (ز): «فليعمد».(3/321)
وقوله: «مَرْحَبًا بك»؛ كلمةُ ترحيب ٍوإكرامٍ، وقد تقدَّم تفسيرُها (1) .
وقولُه: «وقام (2) في سَاجَةٍ (3) مُلْتَحِفًا بها»؛ السَّاجةُ (4) : ثوبٌ كالطَّيلَسانِ (5) ،، والمِشْجَبُ: أعوادٌ تُوضَعُ عليها الثيابُ ومتاعُ البيتِ (6) .
وقوله: «مكث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تسعَ سنينَ لم يحجَّ»؛ يعني: في المدينةِ،، وأما بمكةَ فحجَّ واحدةً باتفاقٍ، واخُتلفَ في ثانيةٍ: هل حجَّها أم لا؟
وقولُه لأسماءَ: «استثفري»؛ أي: اجعلي لنفسِك كثَفَرِ الدَّابةِ، ليمتنعَ سيلانُ الدَّمِ (7) .
و«القصواء»: اسمُ ناقتِه - صلى الله عليه وسلم - ، بالمدِّ والهمزِ،، ووقع عند العُذْريِّ: ((الُقْصوى)) بضمِّ القافِ والقصر، وهو خطأٌ في هذا الموضعِ، قال ابنُ قتيبةَ: ((كانت للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نوقٌ؛ منها: القَصْواءُ، والجَدْعاءُ (8) ، والعَضْباءُ (9) ))قال غيرُه: وَالخرماء، ومُخَضْرَمةُ، وقال: هي كلُّها أسماءٌ لناقةٍ واحدةٍ (10) . قال الحربىُّ: ((القصواءُ: التي قُطع طرفُ (11) أذنِها،، والجدْعُ، والخرْم (12) ، والقَصْو، والخضرمة (13) : مُثْلَةٌ في الأُذنٍ (14) . قال ابنُ الأعرابيِّ: القصواءُ: التي قُطِعَ طرفُ أذنِها، والجدْعُ أكثرُ منه. قال =(3/322)=@
__________
(1) في كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الإيمان على ما جعله في حديث جبريل إسلاما.
(2) في (ي): ((قام)) والرواية في "الصحيح" و"التلخيص": ((فقام)).
(3) قوله: ((ساجة)) هذه هي الرواية التي ذكرها الشارح في "التلخيص"، وفي المطبوع من "صحيح مسلم": ((نساجة)) وكتب في حاشية الطبعة العامرة (4/39) ما يفيد أنها في نسخة من الصحيح: ((ساجة)) بدل ((نساجة)). قال القاضي في "الإكمال" (4/266) كذا (أي: ساجة) في رواية الجمهور وهو الصواب، وعند الفارسي: ((نساجة))...
قال بعضهم: وهو خطأ وتصحيف.اهـ. وقال في "النهاية" (2/432): ((فقام في ساجة)) هكذا جاء في رواية، والمعروف: ((نساجة)) وهي ضرب من الملاحف منسوجة.اهـ. وانظر: "مشارق الأنوار" (2/27 – 28)، "شرح النووي" (8/171)، و"التلخيص" (؟؟؟).
(4) في (ي): ((والساجة)).
(5) الطيلسان: فارسي معرب، جمعه: طيالسة، وهي شبه الأردية توضع على الكتفين والظهر. "المعرب" (ص446)، و"مشارق الأنوار" (1/324).
(6) ينظر: "الإكمال" (4/226)، "مشارق الأنوار" (1/27- 28)، (2/224)، و"شرح النووي" (8/171).
(7) قال النووي في "شرح مسلم" (8/172) الاستثفار: أن تشد في وسطها شيئًا، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشد ود في وسطها وهو شبيه يثفر الدابة بفتح الفاء.اهـ. والثَّفَر: السير الذي في مؤخر السرج، يوضع تحت الذنب. قال القاضي في "المشارق" (1/134) ويحتمل أن يكون مشتقًا من الثُّفْر بالسكون، وهو الفرج، وأصله للسباع فاستعير لغيرها.اهـ. وينظر "التاج" (6/148).
(8) في (ز): ((والجذعاء)).
(9) نقله عنه القاضي في "الإكمال" (4/268) [يراجع].
(10) ال القاضي في "الإكمال" (4/268): جاء هنا أنه ركب القصواء، وفي آخر الحديث أنه خطب على القصواء، وفي غير مسلم: أنه خطب على ناقته الجدعاء، وفي حديث آخر على ناقة خرماء، وفي آخر مخضرمة، وفي الحديث: أنه كانت له ناقة لا تسبق تسمى القصواء، وفي حديث آخر تسمى: العضباء، (فيدل) هذا كله أنها ناقة واحدة خلاف ما قال ابن قتيبة، وأن ذلك كان اسمها أو وصفها لهذا الذي بها، خلاف ما قال أبو عبيد (يعني قول أبي عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث" (1/437): الأعضب: مكسور القرن... والأنثى عضباء، وأما ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كانت تسمى العضباء، فليس من هذا، إنما ذاك اسم لها سميت به).
(11) في (أ): ((ذنب)).
(12) في (ز): ((والحزم)).
(13) في (أ): ((والمخضرمة)).
(14) هذا النقل عن الحربي نقله القاضي في "الإكمال" (4/268)، وعنه النووي في "شرح مسلم" (8/173)، لكن ليس فيه قوله: ((القصواء التي قطع طرف أنفها)) لكنه مذكور من قول ابن الأعرابي كما سيذكره الشارح. [يراجع كتاب الحربي].(3/322)
الأصمعيُّ: كلُّ قطعٍ في الأذنِ جدعٌ (1) ، فإن جاوزَ الربعَ؛ فهي عضباءُ. والمخضرَمُ: المقطوعُ الأذنينِ، فإذا اصطلمتا؛ فهي صَلْمَاءُ. وقال أبو عبيدة (2) : القصواءُ: المقطوعةُ الأذنِ عَرْضًا، والمخضرمةُ: المستأصَلةُ، والعَضْباءُ: النصفُ فما فوقه.
وقوله: «فنظرتُ إلى مدِّ بصري من راكبٍ وماشٍ» لا خلافَ في جوازِ (3) الركوبِ والمشيِ في الحجِّ،، واختلف في الأفضلِ منهما: فذهب مالكٌ، والشافعيُّ في آخرين: إلى أن الركوبَ أفضل؛ اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكثرةِ النفقةِ، ولتعظيمِ شعائر الحجِّ بأبَّهةِ (4) الركوبِ،، وذهب غيرُهم: إلى أن المشيَ أفضلُ؛ لما فيه من المشقةِ على النفسِ.
ولا خلافَ في أن الركوبَ في الوقوفِ بعرفةَ أفضلُ، واختلفوا في الطوافِ والسَّعيِ.
والركوبُ عندَ مالكٍ في المناسكِ كلِّها أفضلُ؛ للاقتداءِ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وقد تقدَّم الكلامُ على التلبيةِ (5) .
وقولُ جابرٍ: «لسنا نَنْوي إلا الحجَّ، لسنا نعرفُ العمرة» هذا يحتملُ أن يخبرَ به عن حالِهم الأولِ قبلَ الإحرامِ؛ فإنهم كانوا يرون العمرةَ في أشهر الحجِّ من أفجرِ الفجورِ، كما تقدَّم (6) ، فلما كان عندَ الإحرامِ بيَّن لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ =(3/323)=@
__________
(1) في (ي): ((جذع)).
(2) كذا في (أ)، وفي (ز): ((أبو عبيد)) وفي "الإكمال" (4/268): ((أبو عبيدة)) ولم أجد هذا الكلام بلفظه عند أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، ولا أبي عبيد أحمد بن محمد الهروي صاحب الأزهري، وقد نقله النووي في "شرح مسلم" (8/173)عن القاضي، وفيه: ((أبو عبيد)). وانظر: "لسان العرب" (1/609) (عضب)، (8/41) (جدع)، (21/170) (خرم) (12/182) (خضرم) (15/185) (قصو)، و"غريب الخطابي" (3/241). [يراجع].
(3) في (ز): ((جوان)).
(4) الأُبَّهةُ – بضم الهمزة وتشديد الباء -: العظمة والبهاء. "النهاية" (1/18).
(5) في باب الإحرام والتلبية.
(6) في باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة.(3/323)
يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بُعَمرَةٍ (1) فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بَحجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ»، فارتفع ذلك الوهمُ الواقعُ لهم (2) ، سيأتي هذا (3) إن شاء الله تعالى.
و«يستلمُ الركنَ»؛ أي: يلمسُ الحجرَ الأسودَ بفيه (4) ،، وسُمِّي الحجرُ ((رُكنًا))؛ لأنه في الركنِ. و«الرَّمَلُ»: تقريبٌ بين المشيِ والسيرِ. وبفعِله - صلى الله عليه وسلم - هذا تقرَّر أن الرَّملَ في الأشواطِ الثلاثِة (5) سنَّةٌ راتبةٌ، وإن كان أصلُ مشروعيتهِ في عمرةِ القضاءِ ليرى أهلُ مكةَ قوَّتَهم، وَجَلَدَهم، كما في حديثِ ابنِ عباسٍ، على ما يأتي (6) لكن لمَّا فعله في حجَّةِ الوداعِ مع زوالِ ذلك المعنىَ تحقَّق أنه تَعَبُّدٌ، وأنه سُنَّةٌ.
وهذا الطوافُ المذكورُ هنا؛ هو المسمَّى بطوافِ القدومِ، وهو سنَّةٌ مؤكدةٌ، يجبُ بتركِه دمٌ على غيرِ المراهَقِ (7) . وهذا (8) قولُ أبي ثورٍ، وأحدُ قولَيْ مالكٍ،، وقيل: لا يجبُ بتركِه دمٌ، ويجزئُ منه (9) طوافُ الإفاضةِ، وهو قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرأيِ. ولا يخاطَبُ بطوافِ القدومِ مَكِّيٌّ.
والأطوافُ ثلاثةٌ: هذا،، وطوافُ الإفاضةِ، ويسمَّى: طَوافَ الزيارةِ؛ لأن الطائفَ يزورُ البيتَ من مِنى، فيطوفُه (10) . وقد أجاز الحنفيُّ وغيرُه هذه التسميةَ، وكره مالكٌ أن يقالَ: ((طوافُ الزيارةِ))،، وطوافُ الوداعِ، وهو الذي يُفعلُ عند الصَّدَرِ من مكةَ (11) ، ولا دمَ على تاركِهِ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقولُه: «وعليه ينزلُ (12) القرآنُ، وهو يعرفُ تأويلَه»؛ يعني: أنه إنما كان يفعلُ الفعلَ (13) من أفعالِ الحجِّ بحسَبِ ما ينزلُ عليه به (14) الوحيُ، فيفهمُه هو ويُبيِّنُه للناسِ بفعلهِ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» (15) ، فكانوا (16) كما قال جابرٌ: إذا عمل شيئًا =(3/324)=@
__________
(1) قوله: «من أراد أن يهل بعمرة فليفعل» سقط من (أ).
(2) في (أ): «بهم».
(3) سقط من (ي). وسيأتي في باب إباحة العمرة في أشهر الحج.
(4) قال النووي في "شرح مسلم" (8/175) (9/8- 9): وأما الاستلام فهو المسح باليد عليه وهو مأخوذ من ((السِّلام)) بكسر السين، وهي الحجارة، وقيل: من السَّلام بفتح السين، الذي هو التحية.اهـ.
وقال الحافظ في "الفتح" (3/443) والمراد: لمس الركن بالقبلة أو باليد.
(5) في (أ) و(ي): « الثلاثة الأشواط ».
(6) في باب الرمل في الطواف والسعي.
(7) المراهَق في الحج – بفتح الباء وكسرها - هو الذي ضاق عليه الزمن عن أن يطوف طواف الورود قبل الوقوف بعرفة، فيخاف إن طاف فواته. "مشارق الأنوار" (1/301)، "النهاية" (2/284).
(8) في (أ): «وهو».
(9) في (ز): «فيه».
(10) في (ي): ((فيطوف)).
(11) في (ز): ((ملكة)).
(12) في (أ): «ينزك»، ورسم الكاف ثعبانية: ((كـ))
(13) قوله: « كان يفعل الفعل» في (ز): ((كان يفعل))، وفي (ي): ((كان)).
(14) سقط من (ز).
(15) سيأتي في باب رمي جمرة العقبة.
(16) في (أ): «وكانوا».(3/324)
اقتدَوْا به فيه، وعملوه (1) على نحوِ ما عملَه (2) .
وقولُه: «فأهلَّ بالتوحيدِ»؛ يعني: بقولِه: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ (3) لَا شَرِيكَ لَكَ)). بخلافِ ما كانت تُلبِّي الجاهليةُ؛ إذ كانت تُشركُ باللهِ، فتقولُ فى تلبيتِها: إلاَّ شريكًا هو لك، تَملكُه وما مَلَكَ. وقد تقدَّم القولُ على التلبيةِ (4) .
وقولُه: «وأهلَّ الناسُ بهذا الذي يُهلُّون به»؛ يعني: أنهم لم يلتزموا هذه التلبيةَ الخاصَّةَ التي لبَّى بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ فهموا أنها ليست مُتعيِّنَةً، فإنه قد ترك - صلى الله عليه وسلم - كلَّ أحدٍ على ما تيسَّر له من ألفاظِها، ومع هذا فلا بدَّ أن يأتي الملبِّي بما يقالُ عليه تلبيةٌ لسانًا، ولا يجزئُ منها التحميدُ، ولا التكبيرُ، ولا غيرهُ، عند مالكٍ.
وقوله: «ثم نفذ إلى مقامِ إبراهيمَ»؛ يعني: أنه صار إليه (5) بعد أن فرغ من طوافه.
والرواية هنا: {واتخِذوا} (6) ، بكسر الخاء، على الأمرِ، وهي قراءةُ الكوفيين، وأبي عمرو، وهي أمرٌ. وعلى قراءةِ الفتحِ، وهي قراءةُ الباقين - هو خبرٌ عن الملتزمين لاستقبالِ الكعبةِ (7) .
واختُلفَ في مقامِ إبراهيمَ – عليه السلام - ما هو؟ فقال ابنُ عباسٍ (8) : هو مواقِفُه كلُّها،، وقال الشعبىُّ وعطاءٌ: هو عَرَفةُ، والمزدلفةُ، والجمارُ،، وقال مجاهدٌ: الحَرَمُ. وقالَ جابرٌ (9) وقتادةُ: الحجرُ الذي قام عليه للبناءِ، فكان يرتفعُ به (10) كلَّما ارتفع البناءُ (11) .
ويرفعُ هذا الخلافَ، ويبيِّنُ المرادَ بالمقام، قولُه: ((فجعلَ المقامَ =(3/325)=@
__________
(1) في (ي): ((وعملوا)).
(2) في (ز): ((عمل)).
(3) قوله: «لبيك» الثانية سقط من (ز) و(ي). والمثبت من (أ) موافق لما في "صحيح مسلم".
(4) تقدم في باب الإحرام والتلبية.
(5) ؟؟؟.
(6) سورة البقرة؛ الآية: 125.
(7) في (أ): «للكعبة».
وقرأ: ((واتخِذوا)) على الأمر: من السبعة: ابن كثير المكي، والكوفيون: عاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو عمرو البصري. وقد اقتصر الشارح على الكوفيين وأبي عمرو. وقرأ كذلك أيضًا الثلاثة متممو العشرة: أبو جعفر المدني ويعقوب الحضرمي وخلف ا لعاشر.
وقرأ ((واتخَذوا)) نافع المدني، وابن عامر الدمشقي، من العشرة، ويظهر ما في قول الشارح ((قراءة الكوفيين وأبي عمرو)) مع قوله بعدُ على قراءة الفتح: ((وهي قراءة الباقين)) – من القصور؛ فظاهر عبارته على هذا أن من لم يذكرهم مع ((الكوفيين وأبي عمرو)) جميعًا قرءوا بالفتح، وهو خلاف ما في كتب القراءات، واللافت أن جل المصادر التي بين أيدينا – إن لم يكن كلها – ذكر الخلاف في هذه الكلمة على عكس ما أورده الشارح، فقالوا: ((قرأ نافع وابن عامر بالفتح، والباقون بالكسر)). ينظر: السبعة (ص170)، "المبسوط" (ص135)، "غاية الاختصار" (2/416)، "النشر" (2/167)، "الدر المصون" (2/105).
(8) أخرجه ابن جرير (3/33 رقم1990)، وابن أبي حاتم، كما في تفسير ابن كثير (1/243)؛ كلاهما من طريق ابن جريج، قال: سألت عطاء عن: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلَّى}؟ فقال: سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر ههنا: فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد، ثم قال: ((ومقامُ إبراهيمَ)) يَعُدُّ كثيرٌ مقامَ إبراهيم الحجَّ كلَّه. [وأشير لها بسهم وقيل يضبط مهم ووضع تحت الجملة المراد ضبطها خط]
(9) يخرج.
(10) سقط من (ي).
(11) ينظر: "المشارق" (1/393)، و"الفتح" (1/499).(3/325)
بينه وبين الكعبة))؛ وهذا يدلُّ على أنه هو الموضعُ المعروفُ هناك؛ الذي يستقبلُ بابَ البيتِ.
و{ مصلًّى}؛ أي: موضعَ صلاةٍ ودعاءٍ،، وهاتان الركعتان هما المسنونتان (1) للطَّوَافِ،، وهما سنتان مؤكدَّتان، يجبُ بتركِهما دمٌ عندَ مالكٍ، ويُدركُهما ما لم يخرجْ من الحرمِ،، فإن خرج ولم يركعْ؛ فهل يعيدُ الطوافَ لهما، أم لا؟ قولان؛ فإذا قلنا: لا يعيدُ الطوافَ لهما، فقد وجب الدَّمُ، وكذلك إذا رجع إلى بلادِه وجب الدَّمُ،، وغيرُ مالكٍ لا يرى فيهما دمًا، ويركُعهما متى ذكرهما (2) .
وقولُه: «ثم رجع إلى الركنِ واستلمه»؛ يعني: بعدَ الصلاةِ،، وهذا يدلُّ على شدةِ العنايةِ والتهمُّمِ باستلامِ الحجرِ.
وقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} (3) ، والصفا: جمع ((صَفَاةٍ))؛ قال:
لها كَفلٌ كَصَفاةِ الْمَسِيلِ (4)
أَو واحدٌ، والجمعُ: صُفِىٌّ؛ قال:
مَوَاقِعُ الطَّيرِ مِنَ الصُّفِيِّ (5) =(3/326)=@
__________
(1) في (ز): ((المنسوبتان)).
(2) "الاستذكار" (12/170).
(3) سورة البقرة؛ الآية: 158.
(4) هذا صدر بيت من بحر المتقارب، لامرئ القيس بن حُجْر يصف ناقته، والبيت بتمامه:
لَهَا كَفَلٌ كَصَفَاةِ الْمَسِيد ... بلِ أَبْرَزَ عَنْهَا جُحَافٌ مُضِرّْ
وقبله:
وَأَرْكَبُ فِي الرَّوْعِ خَيْفَانَةً ... كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ
لَهَا حَافِرٌ مِثْلُ قَعْبِ الْوَليـ ... ـدِ رُكِّبَ فِيهِ وَظِيفٌ عَجِرْ
والكفل: العجز. والصفاة: الصخرة الملساء، وهو موضع الشاهد وجمعها: صَفَوات، وصَفًا.
والمسيل: مجرى السيل. والجحاف: السيل الشديد. والمضر: الذي يضر بكل شيء ويهدمه.
شبه عجزها في ملاسته بصخرة ملساء أبرزها السيل الشديد، وكشف ما كان عليها من التراب.
والبيت له في "ديوانه" (ص164)، و"الحماسة البصرية" (3/1487)، و"الحماسة المغربية" (25/115)، "أشعار الشعراء الستة الجاهليين" (1/117)، والرواية فيها جميعًا: ((لها عجز... جحاف مضر)). وله أيضًا في "غريب الحديث" للخطابي (1/571) وروايته: ((لها عجز... الجحاف المضر))، وله أيضًا في "مجمل اللغة" (1/177)، و"الخزانة" (9/176)، و"لسان العرب" (89/21)، و"تاج العروس" (12/106).
وروايتها: ((لها كفل... جحاف مضر)). وبلا نسبة في "مقاييس اللغة" (1/428)، والشطر الأول وحده بلا نسبة في أدب الكاتب (ص117)، والشطر الثاني وحدة بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (4/161) والرواية فيهن: ((لها كفل... جحاف مضر)). وقد ذكر صاحب "الحماسة البصرية" أن هذه الأبيات تروى لربيعة بن جشم، عن النمر بن قاسط.
(5) البيت من مشطور الرجز، وهو للأخيل الطائي، ويروى لرؤبة، وقبله:
كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ
مِنْ طُولِ إِشْرَافٍ عَلَى الطَّويِّ
(مواقعُ الطيرِ على الصُّفِيِّ)
ويروى: ((متنَبيَّ))، و((لطول إشرافٍ)) و((من طولِ إشرافي)) و((لطول إشراقي))، و((مهايصُ الطير)) و((مهايضُ الطير)).
وهو يصف ساقيًّا يستقي ماءً ملحًا، والنفيُّ: ما يتطاير من الرشاء على ظهر الساقي عند الاستقاء. والطويُّ: البئر المطوية بالحجارة.
ومواقع الطير: مواضع وقوعها التي اعتادت إتيانها. ومهايص ومهايض: ذرق الطير وسلحه.
والصفي: جمع ((صفًا))، و((صفا)) جمع صفاة، وهي الحجر الصلد الأملس.
والمعنى: أن بقع الماء الملح المتطايرة الواقعة على ظهر هذا الساقي - وقد كان أسود – تشبه ذرق الطير على الصخور الملسا؛ لأن هذه البقع تبيضّ لملوحة الماء، وتظهر هذه البقع البيضاء لسواد ظهر الساقي.
وموضع الشاهد: قوله: ((الصفي)) على وزن ((فعول)) جمعًا لـ((صفًا)) وصفًا جمع لـ((صفاه)). قال في "الدرر المصون" (2/188): ويفرق بين واحدة تاء التأنيث، نحو: صفا كثير، وصفاه واحدة.اهـ.
وقال في "الفتح" (8/176): وقيل مفرد يجمع على فعول وأفعال.اهـ.
وانظر المعاجم في مصادر التخريج الآتية، و"تفسير الطبري" (2/43)، و"الرجز" للأخيل الطائي في "الاشتقاق" لابن دريد (ص128)، و"اللسان" (14/464) (صفد) (15/3379 (نفي)، و"التاج" (9/385) (هيص)، (11/523) (وقع)، (20/257) (نفي)،وله وللعجاج في "اللسان" (7/104) (هيص)، وللعجاج في "تهذيب اللغة" (6/365) ولرؤبة في "ملحقات ديوانه" (ص190)، و"التاج" (19/602) (صفو)، وبلا نسبة في "جمهرة اللغة" (2/945، 972)، "العين" (4/70)، "المحكم" (4/265)، "المخصص" (4/41)، (10/90)، "شرح القصائد السبع" (ص227)، "الأمالي" (2/8، 34)، "تهذيب اللغة" (15/475)، (3/36)، "شرح المفصل" (5/22)، "مجالس ثعلب" (1/207)، "سر صناعة الإعراب" (1/2509، "الخصائص" (2/112)، "الصحاح" (6/2401)، "اللسان" (7/249) (هيض)، (8/404) (وقع)، "التاج" (10/181) (هيض)، و"تفسير الطبري" (2/43) (3/65) (6/219).(3/326)
وهو حجرٌ أملسُ، وهو الصَّفْوانُ (1) .
و«المروةُ» من الحجارةِ ما لان وصَغُرَ (2) ؛ قال:
كَأَنَّ صَلِيلَ الْمَرْوِ حِينَ تُشِذُّهُ ... صَلِيلُ زُيُوفٍ يُنْتَقَدْنَ بِعَبْقَرَا (3)
وقال آخرُ:
وَيُوالي الأَرْضَ خُفًّا (4) ذَابِلاً (5) ... فَإِذَا مَا صَادَفَ (6) الْمَرْ ورَضَحْ (7)
وهما هنا اسمان لصَّفْحَيْن (8) معلومين. وقيل: سُمِّيا (9) بذلك لجلوس الصفيِّ (10) وامرأتِه عليهما.
و«الشعائرُ»: المعالُم التي للحجِّ، جمعُ ((شعيرةٍ))، سميت بذلك لما تُشْعِرُ به تلك المواضعُ من أعمالِ الحجِّ؛ أي: تُعْلِمُ (11) ،، أو لما يُسْتَشَعَرُ هناك من تعظيمِ الله تعالى، والقيامِ بوظائِفِه (12) .
والطوافُ بين الصفا والمروةِ ركنٌ من أركانِ الحجِّ والعمرةِ عندَ جمهورِ العلماءِ، ما خلا أبا حنيفةَ؛ فإنه لم يَرَه فيهما واجبًا في الحجِّ (13) ، وسيأتي استيفاءُ الكلامِ عليهما إن شاء الله تعالى.
وقولُه: «أَبدأُ بما بدأ الله به (14) ،، فبدأ بالصَّفا فَرَقِىَ عليه (15) ، حتى رأى البيتَ فاستقبله»، هكذا المشروعيةُ المستحبَّةُ مهما أمكنتْ؛ ولذلك يُمنعُ الابتداءُ بالمروةِ، فإن فعل (16) أُلغي ذلك الشَّوطُ عندَ الجمهورِ،، وقال عطاءٌ: إن جَهِلَ ذلك أجزأه. =(3/327)=@
__________
(1) والصفواء و"اللسان" (14/464).
(2) في "اللسان" (15/275- 276): ((المرو: حجارة بيض براقة تكون فيها النار وتقدح منها النار... والمرو: حجر أبيض رقيق... المروة: الحجر الأبيض الهش يكون فيه النار. أبو حنيفة: المرو أصل الحجارة)).
(3) البيت من بحر الطويل من قصيدة لامرئ القيس، رائية، في أبيات يصف فيها ناقته؛ يقول:
فَدَعْ ذاَ وَسَلِّ الْهَمِّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ ... ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجّرَا
تُقَطَّعُ غِيطَاناً كَأنّ مُتُونَهَا ... إِذَا أَظْهَرتْ تُكْسَي مُلَاءً مُنَشَّرَا
بَعِيدَةِ بَيْنَ المَنْكِبَيْنِ كَأنّهَا ... تَرَى عِنْدَ مَجْرَى الضَّفْرِ هِرًّا مُشَجَّرَا
تُطَايَرُ ظِرَّانَ الحَصَى بِمَنَاسِمٍ ... صِلَابِ الْعُجَى مَثْلُومُهَا غَيْرُ أَمْعَرَا
كَأَنّ الْحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا ... إِذَا نَجَلَتْهُ رِجْلُهَا حَذْفُ أعْسَرَا
(كَأَنّ صَلِيلَ الْمَرْوِحِيَنَ تُشِذُّهُ ... صَلِيلُ زُيُوفٍ يُنْتَقَدْنَ بِعَبْقَرَا)
عَلَيْهَا فَتًى لَمْ تَحْمِلِ الْأَرْضُ مِثْلَهُ ... أَبَرَّ بِمِيْثَاقٍ وَأَوْفَى وَأَصْبَرَا
والجسرة الذمول: الناقة السريعة.
ورواية الديوان في بيت الشاهد: ((؟؟؟)) ويروى: ((؟؟؟)).
والصليل: الصوت المضاعف. والمرو: الحجارة البيضاء لابراقة التي تكون منها النار. والزيوف: الدراهم الرديئة التي لافضة فيها. وينتقدن: يُنْقَرْنَ بالإصبع لتعرف جودتها وزيفها من صوتها. وعبقر: موضع بالبادية تزعم العرب أنه من أرض الجن، ثم نسبوا إليه كل شيء وتعجبوا من حذقة أو جودة صنعة فقالوا: ((عبقري)). والمعنى: أن صوت الحجارة عندما تطيرها حوافر الناقة في جريها السريع، يشبه أصواب الدراهم الزائفة عندما تختبر بنقرها بالإصبع.
والبيت لامرئ القيس في "ديوانه" (ص64)، و"شرح ديوانه" (ص105)، و"أشعار العرب الستة الجاهليين" (1/66)، و"الكامل" للمبرد (2/1009)، و"المحكم" (9/79)، و"لسان العرب" (4/534) (عبقر) و(9/142) (زيف)، و"تاج العروس" (5/374) (شذذ) و(12/261) (زيف)، و"معجم البلدان" (4/79). وقد وقع في موضعي "اللسان" والموضع الثاني من "التاج" ((تشده)) وبالدال، وهو تصحيف.
(4) في (أ): «جفا».
(5) في (ز): «ذايلاً».
(6) قوله: ((فإذا ما صادق)) في (ز): «فإذا صدف».
(7) في (ز) و(ي): «رضخ»، وكلاهما بمعنًى – وسيأتي تفسيرها – غير أن القافية قافية الحاء المهملة:
والبيت من بحر الرمل، للأعشى الكبير ميمون بن قيس، في "ديوانه" (ص88) ورواية الشرط الأول في الديوان:
((وتُولِّي الأرض خفًّا مجمرًا ....))
والقصيدة يمدح فيها إياس بن قبيصة الطائي مطلعها:
مَا تَعَافُ الْيَوْمَ فِي الطَّيْرِ الرَّوحْ ... مِنْ غُرَابِ الْبَيْنِ أَوْ تَيْسٍ بَرَحْ
والبيت في أبيات يصف فيها ناقته، يقول:
وَلَقَدْ أَجْذِمُ حَبْلِى عَامِدًا ... بِعَفَرْنَاةٍ إِذَا الْآلُ مَصَحْ
تَقْطَعُ الْخَرْقَ إِذَا مَا هُجِّرَتْ ... بِهِبَابٍ وَإِرَانٍ وَمَرَحْ
وَتُوَلِّى الأَرْضَ خُفًّا مُجْمَرًا ... فَإِذَا مَا صَادَفَ الْمَرْوَ رَضَحْ
فَثَدَاهُ رَيَمَانُ خُفِّهَا ... ذَا رَنِينٍ صَحِلَ الصَّوْتِ أَبَحّْ
والعفرناة: الناقة الشديدة. والخف المجمر: الصلب. والمرو: الحجارة الصلبة البيضاء.
قال في "اللسان": و((رضخ)) – بالخاء – لغة ضعيفة.
والبيت للأعشى عند الطبري في "تفسيره" (3/226)، و"تهذيب الآثار (مسند عمر بن الخطاب) " (2/868). ووقع في التفسير: ((وترى بالأرض خفا زائلاً)) وفي "التهذيب": ((وتولى الأرض خفا ذا بلا)).
وفي نسخ "المفهم": ((ويوالى))، وفي (أ): ((ذا بلا)) ، وفي (ز): ((ذا يلا)) - وقد سبق الإشارة إلى هذا في فروق النسخ – وهي غير منقوطة في (ي). والصواب في هذه الألفاظ: ((وتولي)).
لأنه يتحدث عن الناقة، وتأنيث الفعل هنا واجب؛ لأن الفاعل هو ضمير الناقة، والمعنى: جعلت خفها يلي الأرض. وأما ((ذابلا)) فلا يناسب وصف الخف به مع كونه يكسر الحجارة من شدته؛ قال محقق "التهذيب" الشيخ محمود محمد شاكر: ولا أجد معنى لصفة الخف بأنه ((خف ذابل)). وأما ((ذايلا)) فلا مدخل لمعناها أصلاً؛ إذ هي من ذال يزيل، وذالت الناقة بذنبها: إذا نشرته على فخذيها.
(8) الصَّفْحُ – من الجبل – مضطجعة. "القاموس" (ص229) وفي "مشارق الأنوار" (2/50): ((صفح الجبل: جانبه)).اهـ.
وفي "تهذيب الأسماء واللغات" (3/181): ((الصفا... وهو مكان مرتفع عند باب المسجد الحرام وهو أنف من جبل بني قبيس.اهـ.
(9) في (ز): ((سميتا)).
(10) لعله يعني: إسماعيل عليه السلام، فإنه يقال له: ((الصفي)) كما يقال لأبيه: ((الخليل، وليعقوب: الكظيم، وليوسف: الصِّدِّيق)). (1/60) "السيرة"و"الحلية". [يراجع تاريخ الطبري]
(11) في (ز): «يعلم».
(12) ينظر: "مشارق الأنوار" (2/255).
(13) الصواب أن أبا حنيفة لم يره ركنًا، بل هو عقده واجب يجبره الدم.
انظر: "المبسوط" للسرخسي (4/50)، و"الإكمال" (4/352- 353)، وما سيأتي عند الشارح في باب قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله}.
(14) سقط من (ي).
(15) في (ز): «فرقًا عليها».
(16) في (ز): ((فعله)).(3/327)
ويُكرهُ الجلوسُ على الصفا والمروةِ، والدعاءُ عليهما كذلك (1) .
ويؤخذُ من قولهِ - صلى الله عليه وسلم - : «أبدأ بما بدأ الله به (2) »: أنَّ الذي يُقدَّمُ ليُعْطَفَ عليه أَوْكَدُ من المعطوفِ في مقصودِ المقدَّمِ (3) بوجهٍ ما؛ كما (4) يُفهمُ من قولِهِ تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} الآية (5) ، ومن قولِهِ: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا} (6) ، فإن المعطوفَ عليه في هذه المواضعِ مقدَّمٌ لمزيةٍ له على المعطوفِ، ومثلُ هذا كثيرٌ، وله موضعٌ (7) آخرُ يُعْرفُ فيه (8) .
ولا يُفْهَم منه أن الواوَ ترتِّبُ؛ لأنه إنما أخذه بالابتداءِ لا بالترتيبِ (9) .
وقد تقدمَ القولُ على تحلُّلِهم بعمل (10) العمرةِ.
وقولُ سراقةَ بن جُعْشمُ: «أَلِعَامِنا هذا أم لأبدٍ (11) ؟ فقال: دخلت العمرةُ في الحجِّ، بل لأبدٍ أبدٍ»؛ ظاهرُ هذا السؤالِ والجوابِ أنهما (12) في فسخِ الحجِّ في العمرةِ، فيقتضي (13) أن ذلك جائزٌ مطلقًا مُؤبَّدًا، وليس مخصوصًا بالصحابةِ. وبهذا استدلَّ من قال بجوازِ ذلك مطلقًا، وهم أهلُ الظاهرِ. وقد صرف هذا الظاهرَ الجمهورُ إلى أن السؤالَ إنما كان عن فِعْلِ العمرةِ في أشهرِ الحجِّ، فأجاب بذلك. وعلى هذا فيكونُ معنى «دخلتِ العمرةُ في الحجِّ»؛ أي: في أشهرِ الحجِّ. وقيل: =(3/328)=@
__________
(1) في (أ): «لذلك». ويريد الشارح الوقوف يناسب كراهة الدعاء عليهما من قعودٍ؛ لأن الدعاء التضرع.
(2) قوله: ((بدأ الله به)) في (ز): ((بد الله)).
(3) في (ي): ((التقدم)).
(4) في (أ): «كان».
(5) سورة الأحزاب؛ الآية: 35.
(6) سورة طه؛ الآية: 82.
(7) في (أ): «مواضع».
(8) في (ز): «به».
(9) تقدم للشارح كلام على عدم إفادة الواو الترتيب في كتاب الإيمان باب...
(10) في (ي): ((بعد)).
(11) في (ز): «للأبد».
(12) في (ي): ((أنها)).
(13) في (ز): ((فيقضي)).(3/328)
دخلتِ العمرةُ في الحجِّ؛ أي: في حقِّ القارنِ. والذي حملهم على هذه التأويلاتِ ما تقدَّم من أنَّ الأصلَ وجوبُ الإتمامِ لما دخل فيه من الحجِّ والعمرةِ (1) ، وأن الصحابةَ رضي الله عنهم قد قالوا: إن ذلك كان مخصوصًا بهم كما تقدَّم (2) . والله تعالى أعلم.
وقولُه: «حتى انصبَّتْ قدماه في (3) بطنِ الوادي»؛ هكذا صحَّت روايتي فيه،، وقال القاضي عياضٌ (4) : ((حتى إذا انصبَّت قدماه في بطنِ الوادي (5) ))، بـ«إذا»، وقال: هكذا في جميعِ النسخِ الواصلةِ إلينا من ((مسلمٍ))، ليس في أصولِ شيوخِنا فيها اختلافٌ، وفيه وَهْمٌ، وإسقاطُ لفظةِ «رَمَلَ»، وبها يتمُّ الكلامُ، وكذا جاء في غيرِ مسلمٍ: «حتى إذا انصبَّتْ (6) قدماه في بطنِ الوادي رَمَل (7) ».
قلتُ: هذا الوهمُ الذي أبداه لازمٌ على روايتِه هو؛ إذ رواه بـ«إذا» فيحتاجُ إلى الجوابِ، فأبداه. وأما على ما رُوِّيتُه أنا مِنْ إسقاطِ: «إذا»، فلا يحتاجُ إلى تقديرِ ذلك؛ إذ ليسَ في الكلامِ ما يستلزمُه. فتأمَّلْهُ (8) .
و«الرَّمَل»: سنَّةٌ في السعيِ في بطنِ الوادي، واختُلف فيمَنْ تركَه؛ هل يلزمُه دمٌ أم لا؟ واختلُف في تعليلِ الرَّملِ، وفي سببِ اختصاصِه بذلك المحلِّ؛ فقيل: فَعَلَه - صلى الله عليه وسلم - هناك ليَرَى المشركون (9) جَلَدَه وجَلَدَ أصحابِه (10) .
قلتُ (11) : وهذا إنما كان في عمرةِ القضاءِ، غيرَ أنه دام على فعلِه في حجتِه؛ فدلَّ (12) على أنه سُنَّةٌ راتبةٌ.
وقيل: بل اقتدى فيه (13) بهَاجَرَ في سعيِها لطلبِ الماءِ لولدِها، على ما جاء في الحديث (14) .
ويقالُ للطوافِ بينهما: طوافٌ، وسعيٌ، ولا يقال: شوطٌ، ولا دَوْرٌ، وقد كرهه جماعةٌ من السلفِ والشافعيُّ.
وقولُه: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، لم أسقِ الهديَ، ولجعلتُها عمرةً» هذا يردُّ على مَنْ قال: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أحرم متمتعًا، ويدلُّ على أنه إنما =(3/329)=@
__________
(1) قوله: ((من الحج والعمرة) في (ز): ((من العمرة والحج)).
(2) في باب ما جاء في فسخ العمرة في الحج. وانظر: "الإكمال" (4/260- 261).
(3) في (أ) و(ز): ((من)).
(4) هذا لفظ القاضي في "الإكمال" (4/272- 273)، وبعده: وفي "الموطأ": ((حتى إذا انصبت قدماه من بطن الوادي سعى حتى يخرج منه)) وهو بمعنى ((رمل)).اهـ. ولفظه في "المشارق" (2/402): ((وفي حديث جابر الطويل في الحج: ((ثم نزل المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي حتى صعد مشى)) كذا في جميع النسخ وفيه نقص، وتمامه: ((حتى إذا انتصبت (كذا) قدما في بطن الوادي رمل، حتى إذ (كذا) صعد مشى)) وكذا ذكره الحميدي في اختصاره)).اهـ.
(5) من قوله: ((هكذا صحت روايتي...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(6) في (أ): «انتصب».
(7) قوله: ((رمل)) في (ي): ((وصل)) وهذا اللفظ أخرجه أبو داود (2/455-464 رقم1905) في المناسك، باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والنسائي في "الكبرى" (2/413 رقم3968) في الحج، باب الدعاء على الصفا، وابن ماجه (2/1022-1027 رقم3074) في المناسك، باب حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ثلاثتهم من طريق حاتم بن إسماعيل: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه به، ولفظ أبي داود وابن ماجه: «حتى إذا انصبت قدماه، رمل في بطن الوادي...»، وقال النسائي: « تصوبت» بدل «انصبت»، وأخرجه أحمد (3/320-321)، والنسائي (5/243) في مناسك الحج، باب موضع الرمل. كلاهما من طريق يحيى بن سعيد، عن جعفر، عن أبيه، به مطولاً عند أحمد، ومختصرًا عند النسائي مثل لفظ أبي داود المتقدم.
وأخرجه النسائي - فيما سبق رقم 2982- عن سفيان، عن جعفر، عن أبيه به، وقال: «لما تصوبت قدما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بطن الوادي رمل حتى خرج منه»، هكذا مختصرًا. [أشير بسهم لها وكتب يضاف (رواية مالك في "الموطأ" (1/374) باب جامع السعي)]
(8) الرواية التي ذكرها الشارح في "التلخيص" هي: ((حتى انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى)).
وفي المطبوع "صحيح مسلم": ((حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى)).
والكلام يستلزم ما ذكره القاضي عياض؛ لأن المقصود أنه - صلى الله عليه وسلم - رمل عندما وصل إلى بطن الوادي وانصبت قدماه فيه، ثم إذا بدأ يرتفع عنه و تصعد قدماه مشى، وقد ذكر النووي في "شرح مسلم" (8/177- 178) كلام القاضي عياض مقرا له، ثم ذكر أن في بعض نسخ مسلم نحو ما وقع في "الموطأ"، وهو ما ذكرنا أنه موجود في المطبوع من "صحيح مسلم".
(9) في (ي): ((المشركين))، وعليه يقرأ ما قبلها ((ليُري)).
(10) قاله ابن عباس، خرجه مسلم في "صحيحه" (2/923 رقم1266) كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة، وفي الطواف الأول من الحج، من طريق عمرو بن دينار، عن عطاء عن ابن عباس قال: إنما سعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورمل بالبيت ليري المشركين قوته .
وأصل حديث ابن عباس في "التلخيص" برقم (1121، 1122)، ولم أقف عليه عنده بهذا اللفظ.
(11) في (ز): ((قال الشيخ)).
(12) في (ز): «يدل».
(13) قوله: «فيه» سقط من (أ).
(14) أخرجه البخاري (6/396-399 رقم3364 و3365) في الأنبياء، باب يزفون.(3/329)
أحرمَ بما أحرم (1) به مختارًا له، وأنه خُيِّر في أنواعِ الإحرامِ الثلاثِة، ولم يُعَيَّنْ له واحدٌ منها (2) فأمر به، لكنه (3) اختارِ القِرانَ على ما تقدَّم،، ثم (4) إنه لما أمر أصحابه بالتحلُّلِ بعملِ العمرةِ، فتوقَّفوا لأجلِ أنه لم يتحلَّلْ هو - أخبرهم (5) بسببِ امتناعِه؛ وهو سوقُه الهديَ، ثم أخبرهم أنه ظهر له في ذلك الوقتِ ما لم يظهْر له قبلَ ذلك من المصلحِة التي اقتضتْ أن أباح لهم فسخَ الحجِّ، وأنه لو ظهر له من ذلك قبلَ إحرامِه (6) ما ظهرَ له بعدَه (7) ؛ لأحرم بعمرةٍ؛ حتى تطيبَ قلوبُهم، وتسكنَ نفرتُهم من إيقاعِ العمرة ِفي أشهرِ الحجِّ.
وإنكارُ عليٍّ على فاطمةَ تحلُّلهَا - رضي الله عنهما - إنما كان لأنه عَلِم أنها أحرمت بالحجِّ، وأنها تحللتْ منه قبلَ إتمامِه، وإنما أمرها (8) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالتحلُّلِ؛ لأنها لم تسقِ الهديَ، كما أمر غيرَها ممن لم يسقِ الهديَ.
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ رضي الله عنه: «بم أهللتَ» يدلُّ على أنه لم يكنْ عنده خبرٌ بما يُحرم به النبي - صلى الله عليه وسلم - (9) ، ولم يتقدَّم له فيه عهدٌ منه (10) ، وأنَّ عليًّا عنه هو الذي ابتدأَ إحرامَه مُحَالاً به على إحرامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ تعيينٍ حجٍّ ولا عمرةٍ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أقرَّه على ذلك، فكان ذلك حُجَّةً على جوازِ (11) الحَوَالةِ على إحرامِ الغيرِ مطلقًا إذا تحقَّق أنه أحرم ولا بدَّ، وبه قال الشافعيُّ، وأخذ منه جوازَ الإحرامِ من غيرِ تعيينٍ، ثم بعدَ ذلك يُعيِّنُ (12) ، وسيأتي (13) .
وقولُه: «فلما كان يومُ الترويةِ توجَّهوا إلى منى، فأهلُّوا بالحجِّ» يومُ الترويةِ: هو اليومُ (14) الثامنُ من ذي الحجةِ، سُمِّي بذلك لأن قريشًا كانت تحملُ الماءَ من مكةَ إلى منى للحاجِّ (15) تسقيهم، فَيُرَوُّونَ منه (16) .
و«توجَّهوا»: قصدوا وأخذوا في الأُهْبة =(3/330)=@
__________
(1) قوله: ((بما أحرم)) سقط من (ز).
(2) في (أ) و(ي): «منهما».
(3) في (أ): «ولكنه».
(4) سقط من (ي).
(5) في (ز): «وأخبرهم».
(6) من قوله: ((من المصلحة التي...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(7) في (ز): «بعد».
(8) قوله: ((وإنما أمرها)) في (ي)ك ((فأمرها)).
(9) قوله: «بما يحرم به النبي - صلى الله عليه وسلم - » في (أ): ((مما يحرم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ))، وفي (ز): ((مما به يحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - ))، وفي (ي): ((بما به النبي - صلى الله عليه وسلم - محرم)) والمثبت ملفق من النسخ!
(10) سقط من (ي).
(11) في (ز): ((جوان)).
(12) في (ز): «تعين».
(13) سقط من (ي)، وينظر: "الإكمال" (4/259- 260).
(14) سقط من (ي).
(15) في (ي): ((للحجاج)).
(16) تقدم الكلام على يوم التروية في باب بيان المحل الذي أهل منه النبي - صلى الله عليه وسلم - .(3/330)
إلى منى، لا أنَّهم توجَّهوا بمشيِهم إلى منى فأحرموا منها؛ فإن ذلك باطلٌ بإجماعِ العلماءِ على أنَّهم أحرموا من مكةَ.
والمستحبُّ عندَ أكثرِ العلماءِ فيمن أحرم من مكةَ بالحجِّ: أن يكونَ إحرامُه من مكةَ متصلاً بسيرِه إلى منى يومَ الترويةِ؛ أخذًا (1) بظاهرِ هذا الحديثِ. واستحبَّ بعضُهم أن يكونَ ذلك أولُ هلالِ ذي الحجِة ليلحقَهم من الشَّعثِ إلى وقتِ الحجِّ ما لَحِقَ (2) غيرَهم،، والقولان عن مالكٍ، وقد تقدَّم في حديثِ ابن عمرِ (3) .
وقولُه: ((وركب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى منى، فصلَّى (4) بها الظهرَ، والعصرَ، والمغربَ، والعشاءَ، والفجرَ))، يعني: أنه صلَّى كلَّ صلاةٍ في وقتِها، غيرَ مجموعةٍ، كما قد (5) توهَّمه بعضُهم ممن لا يَعرِفُ. وإنما ذكر عددَ الصلواتِ الخمسِ هنا ليعلمَ الوقتَ الذي وصل (6) فيه إلى منى، والوقتَ الذي خرج فيه منها إلى عرفة؛ ولذلك قال مالكٌ باستحبابِ دخولِه إلى منى وخروجِه منها، في ذينكَ الوقتين المذكورين. وقد استحبَّ جميعُ العلماءِ الخروجَ إلى منى يوم الترويةِ، والمبيتَ بها، والغدوَّ منها إلى عرفةَ، ولا حرجَ في تركِ ذلك والخروجِ من مكةَ إلى عرفةَ، ولا دمَ.
و«نَمِرَة» هذا هو موضعٌ بعرفةَ، وهو الجبلُ الذي عليه أنصابُ الحرمِ، على يمينِ الخارجِ من مَأْزِمَيْ منى (7) إلى الموقفِ. و«نمرةُ» أيضًا: موضعٌ آخرُ بقُدَيْدٍ.
وفيه دليلٌ: على جوازِ استظلالِ المحرمِ في القِبابِ والأَخْبيِة، ولا خلافَ فيه. واختُلف في استظلالِ الراكبِ في حالِ وقوفِه: فكرهه مالكٌ وأهلُ المدينةِ وأحمدُ بن حنبل، وأجاز ذلك غيرُهم،، وعليه عندَ مالكٍ الفديةُ إذا انتفع به، وكذلك استظلالهُ عندَه في حالِ سيرِه، وكذلك لو كان نازلاً بالأرضِ أو راجلاً (8) فاستظلَّ بما يَقْرُبُ من رأسِه، وسيأتي الكلامُ عليه (9) . =(3/331)=@
__________
(1) في (أ): «أخذ»، وفي (ز): «آخذًا».
(2) في (أ): «يلحق».
(3) تقدم في باب: بيان المحل الذي أهل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(4) في (أ): «فصلوا».
(5) سقط من (أ) و(ز).
(6) من قوله: ((وصل)) بداية خرم طويل في النسخة (ي) إلى قوله: ((وسقط للفارسي والعذري: عليه))، في باب فضل العمرة في رمضان.
(7) قوله: ((مأزمي منى)) كذا في النسختين، و"الإكمال" (4/275)، وفي "المشارق" (2/34): ((مأزمي عرفة)) نقله عن الأزرقي، وكذلك في "تهذيب الأسماء واللغات" (3/177): ((مأزمي عرفة)) وقال النووي في "شرح مسلم" (8/181). نمرة: ((بفتح النون وكسر الميم هذا أصلها ويجوز إسكان الميم مع فتح النون وكسرها وهي موضع بجنب عرفات وليست من عرفات.اهـ.
والمأزمان: مثنى ((المأزم)) بفتح الميم وسكون الهمزة وكسر الزاي قال النووي في "شرح مسلم" (9/147): وهو الجبل، وقيل: المضيق بين الجبلين ونحوه.اهـ. وقال في "تهذيب الأسماء واللغات" (3/148): وهما جبلان بين عرفات والمزدلفة.اهـ.
(8) قوله: ((أو راجلا)) في (ز): «وراجلاً».
(9) في باب رمي جمرة العقبة.(3/331)
وقولُه: «ولا تَشُكُّ (1) قريشٌ إلا أنَّه واقفٌ عند المشْعَرِ الحرامِ»؛ يعني: كما كانتْ قريشٌ تصنُع في الجاهليةِ؛ فإنها كانت تقفُ بالمشعرِ الحرامِ بدلَ وقوفِ الناسِ بعرفةَ (2) ، وتقولُ: نحنُ أهلُ الحرمِ، لا نخرجُ منه إلى الحلِّ. وكان هذا من جملةِ ما ابتدعتْ وغيَّرتْ من شريعِة إبراهيمَ وسنتِه في الحجِّ (3) .
وقولُه: «فَرُحِلَتْ له القَصْواء»؛ أي: وُضع عليها الرَّحْلُ (4) .
و«القصواء»: ناقتُه، وقد تقدَّم ذكرها (5) .
و«زاغت الشمسُ»: مالت. و«بطنُ الوادي»: المنخفِضُ منه؛ ويعني به: وادي عَرَفَة (6) المعروفُ هناك، وهو موضعٌ متَّسعٌ جامعٌ؛ ولذلك خصَّه بخطبِته. والله أعلم.
وقولُه: «فخطب الناسَ»؛ دليلٌ لمالكٍ وجميعِ المدنيين والمغاربةِ؛ إذ قالوا: ليومِ عرفةَ خطبةٌ قبلَ الصلاةِ، يُذكِّرُ الناسَ فيها، ويُعَلِّمُهم ما يستقبلون من الوقوفِ وغيرِه من المناسكِ. وهو أيضًا حُجَّةٌ على الشافعيِّ وأبي حنيفة؛ إذ قالا: ليس عرفةُ بموضعِ خطبةٍ وهو قولُ العراقيين من أصحابِنا.
وخُطَبُ الحجِّ عندنا ثلاثةٌ (7) :
يومَ الترويةِ (8) بعدَ صلاةِ (9) الظهرِ في المسجدِ الحرامِ، يُذكِّرُ الناسَ، ويعلمُهم أحكامَ إحرامِهم، ويحضُّهم على الخروجِ إلى منى.
والثانيةُ: بعرفَة قبلَ الصلاةِ بإجماعٍ من القائلِ بها،، وأجمعوا على أنه لو صلَّى ولم يخطبْ فصلاتُه جائزةٌ.
والثالثةُ: بعدَ (10) يومِ النحرِ (11) ، يُعلِّمُهم فيها أحكامَ الرمْيِ والتعجيلِ. =(3/332)=@
__________
(1) في (ز): «ولا يشك».
(2) سيأتي في باب: في قوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}. وانظر أيضًا "الفتح" (3/516).
(3) سيكرر الشارح الكلام على هذا في ؟؟؟ هذا الباب.
ما ذكره الشارح هنا من أن مذهب الشافعي وأبي حنيفة - أن لا خطبة يوم عرفة – تابع عليه القاضي عياضًا في "الإكمال" (4/275). "المنتقى" (6/36): أصحابنا العراقيون يطلقون أنه لا يخطب الإمام يوم عرفة، ومعنى ذلك أنه ليس لما يأتي به من الخطبة تعلُّقٌ بالصلاةِ كخطبة الجمعة، ولا يغير حكم الصلاة فينقلها إلى القصر والجهر؛ وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يخطب الإمام يوم عرفة. وكذلك يقوم جميع أصحابِنا، المغاربة والمدنيون؛ يقولون: يخطب الإمام. إلا أنهم لا يجعلون للخطبة حكم الخطبة للصلاة، وإنما يجعلون لها حكم التعليم.... وقد قال مالكٌ: كل صلاة يخطب لها فإنه يجهر فيها بالقراءة. فقيل له: فعرفة يخطب فيها ولا يجهر لها بالقراءة؟ فقال: إنما تلك للتعليم.
وقال السرخسي في "المبسوط" (2/130): فإن صلى الظهر والعصر بعرفات ولم يخطب، أجزأه؛ لأن هذه خطبة وعظ وتذكير وتعليم لبعض ما يحتاج إليه في ذلك الوقت، فتركه لا يمنع جواز الصلاة؛ كالخطبة في صلاة العيد... ثم ينبغي للإمام أن يخطب في الحج ثلاث خطب: خطبة قبل يوم التروية بيوم يخطبها بمكة بعد الظهر، وخطبة بعرفات بعد زوال الشمس يوم عرفة قبل صلاة الظهر، وخطبة في اليوم الثاني من أيام النحر.
وقال النووي في "المجموع" (8/109):الخطب المشروعة في الحج أربعة إحداهن: يوم السابع من ذي الحجة بمكة عند الكعبة... الثانية: يوم عرفة بقرب عرفات، الثالثة: بمنى، الرابعة: يوم النفر الأول بمنى أيضًا، وهو الثاني من أيام التشريق قال في "شرح مسلم" (8/182):
وقوله: ((فخطب الناس)) فيه استحبابُ الخطبةللإمام بالحجيج يوم عرفة في هذا الموضع، وهو سنة باتفاق جماهير العلماء، وخالف فيها المالكية.اهـ. وانظر "الفتح" (3/513).
[تعليق]
(4) قال النووي في "شرح مسلم" (8/181): ((فرحلت: بتخفيف الحاء)).
(5) في أول هذا الباب.
(6) كذا في النسختين، والصواب ((عرنة)) قال النووي في "شرح مسلم" (8/181) هو وادي عرنة، بضم العين وفتح الراء وبعدها نون، وليس عرنة من أرض عرفات عند الشافعي والعلماء كافة إلا مالكا، فقال: هي من عرفات.اهـ.
(7) كذا في النسختين، وإذا حذف المعدود جاز التذكير والتأنيث، وهنا لعله أراد: ((في ثلاثة مواضع، أو أيام)).
(8) قوله: ((يوم التروية)) كذا في النسختين، والصواب: ((قبل يوم التروية بيوم)) والمراد به يوم السابع؛ كما في "الإكمال" (4/275)، وانظر: "المنتقى" (3/369)، و"المجموع" للنووي (8/118)، و"الفتح" (3/577).
(9) قوله: «صلاة» سقط من (ز).
(10) قوله: «بعد يوم النحر» كذا في (أ)، وفي (ز): ((يوم النحر)) والصواب: ((بعد يوم النحر بيوم)) وهو أول أيام الرمي وهو يوم النحر الثاني.
وانظر: "المنتقى" (3/36)، "الإكمال" (4/275)، و"المجموع" (8/118) (تحرفت فيه: «يوم النحر الثاني» إلى: «يوم النفر الثاني»)، و"الفتح" (3/577).
(11) ؟؟؟.(3/332)
وقولُه: «ألا كلُّ شيءٍ من أمرِ الجاهليةِ تحتَ قدميَّ موضوعٌ»؛ يعني به: الأمورَ التي أحدثوها، والشرائعَ التي كانوا شرعوها في الحجِّ وغيرِه،، وهذا كقولهِ - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ أَحْدَثَ فَي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (1) .
وقوله: «وربا الجاهليةِ موضوعٌ (2) »؛ الرِّبا: الزيادةُ، والكثرةُ؛ لغةً،، ثم إنهم كانت لهم بيوعاتٌ يسمُّونها: بيعَ الربا؛ منها: أنهم كانوا إذا حلَّ أجلُ الدَّيْنِ يقولُ الغريمُ لربِّ الدَّينِ: ((أنظرني وأزيدُك)). فينُظِرُه إلى وقتٍ آخرَ على زيادةٍ مقرَّرةٍ، فإذا حلَّ ذلك الوقتُ الآخرُ قال له أيضًا كذلك، وربما يؤدِّي ذلك إلى استئصالِ مالِ الغريمِ بنزرٍ (3) يسيرٍ كان أخذه أوَّل مرةٍ،، فأبطل الله تعالى ذلك وحرَّمه، وتوعَّد عليه بقولِه تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ...} الآيات (4) ، وردَّهم فيه إلى رؤوسِ أموالِهم، وبلَّغَ ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قرآنًا وسنَّةً،، ووعظ الناسَ، وذكرَّهم بذلك في ذلك (5) الموطنِ مبالغةً في التبليغِ،، وبدأ - صلى الله عليه وسلم - بربا العباسِ؛ لخصوصيتِه بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ ليقتديَ الناسُ به قولاً وفعلاً؛ فيضعون عن غرمائِهم ما كان من ذلك.
وقولُه: «فاتقوا الله في النَّساء، فإنكم أخذتموهنَّ بأمانةِ الله»؛ أي: بأن الله تعالى ائتمنكم عليهنَّ، فيجبُ حفظُ الأمانةِ وصيانتُها؛ بمراعاةِ حقوقِها، والقيامِ بمصالِحها =(3/333)=@
__________
(1) سيأتي في كتاب الأقضية، باب لا يقضي القاضي وهو على حال تشوش عليه فكره، وردّ المحدثات... إلخ.
(2) في (أ): «موضوعة».
(3) في (ز): «في نزر».
(4) سورة البقرة، الآيات: 275-281.
(5) قوله: «ذلك» سقط من (ز).(3/333)
الدينيةِ والدنيويةِ،، وجاء في حديثٍ آخرَ: «فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ» (1) ، جمعُ: عانيةٍ؛ وهي الأسيرةُ، والعاني: الأسيرُ؛ وذلك أنها محبوسةٌ لحقِّ الزوجِ، وله التصرُّفُ فيها، والسَّلطنةُ عليها.
وقولُه: «واستحللْتم فروجَهُنَّ بكلمةِ الله» قيل: إن كلمةَ الله كلمةُ: ((لا إله إلا الله))، ومعنى هذا عندَ هذا القائل: أنه لولا الإسلامُ للزوجِ لما حلَّت له،، وقيل: هي كلمةُ النكاحِ التي يُستحَلُّ بها الفرجُ؛ وهي الصيغُ التي (2) ينعقدُ بها النكاحُ، وأشبه من هذه الأقوالِ: أنها عبارةٌ عن حكمه تعالى (3) بحليَّةِ النكاحِ وجوازِه، وبيانِ شروطِه (4) ؛ فإن حكمَ اللهِ كلامُه المتوجِّهُ للمحكومِ عليه على جهة الاقتضاءِ أو التخييرِ، على ما قد بيناه في أصولِ الفقهِ (5) .
وقولُه: «ولكم عليهنَّ ألا يوطئْنَ فرُشُكُم أحدًا تكرهونه»؛ معنى هذا: ألا (6) يُدْخِلْنَ منازَلكم أحدًا ممن تكرهونه، وَيْدخلُ في ذلك الرجالُ والنساءُ، الأقرباءُ (7) والأجانبُ،، وقد بينا هذا المعنى فيما تقدم،، ولا يُفهمُ من هذا الكلامِ أنه النهيُ عن الزِّنى؛ فإن ذلك محرَّمٌ مع من يكرهُه الزوجُ ومع من لا يَكرهُه،، وقد قال: «أحدًا (8) تكرهونه» ثم إنها كانت تكونُ استعارةً بعيدةً، وأيضًا فإن الزنى يترتَّبُ عليه الحدُّ.
وقولُه: «فاضربوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّحٍ»؛ ليسَ بالحدِّ، وإنما هو تأديبٌ،، والمبرِّحُ: الشديدُ الشاقُّ. والبَرْحُ: المشقةُ الشديدةُ. وفيه إباحةُ تأديبِ الرجلِ زوجتَه على وجهِ الرِّفْقِ.
وقولُه: «ولهنَّ عليكم رزقُهن وكسوتُهن بالمعروفِ»؛ أي: بما يُعرفُ من =( 3/334)=@
__________
(1) يخرج...
(2) قوله: « الصيغ التي» سقط ((التي)) من (أ)، و((الصيغ)) في (ز): ((البضع)).
(3) قوله: ((حكمه تعالى))) في (أ): ((حكمه الله تعالى)).
(4) ذكره نحوه المازري في "المعلم" (2/57) قال: ويحتمل أن يكون: ((بكلمة الله)) أي: بإباحة الله تعالى المنزلة في كتابه.اهـ. وقد قال قبله: ((قيل: المراد بالكلمة قوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]. وذكر القاضي في "الإكمال" (4/277) عن مجاهد في قوله: ((وأخذ منكم ميثاقًا غليظًا)): هي كلمة النكاح التي تستحل بها الفروج.
(5) قوله: في ((في أصول الفقه)) في (ز): «في الأصول» ويعني: كتابه (( الجامع في أصول الفقه)) وينظر في تعريف الحكم: "البحر المحيط" (1/91، "المحصول" للرازي (1/89)، "إرشاد الفحول" (1/71- 72).
(6) في (ز): «لا».
(7) في (ز): ((والأقرباء)).
(8) ؟؟؟.(3/334)
حالِه وحالِها،، وهو حجَّة لمالكٍ؛ حيث يقولُ: إن النفقاتِ على الزوجاتِ غيرُ مقدراتٍ، وإنما ذلك بالنظرِ إلى أحوالِهم وأحوالِهنَّ.
وقولُه: «فقال بأُصبِعه السَّبابةِ يرفعُها إلى السَّماءِ، إلى (1) الناسِ»؛ هذه الإشارةُ منه - صلى الله عليه وسلم - إمَّا إلى السماءِ؛ لأنها قبلةُ الدعاءِ، وإما لعلوِّ الله تعالى المعنويِّ؛ لأن الله تعالى لا يَحويه مكانٌ، ولا يختصُّ بجهةٍ؛ وقد بين ذلك قولُه تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} (2) .
و«ينكُبُها (3) »: روايتي في هذه اللفظةِ وتقييدي (4) على من أعتمدُه من الأئمةِ المقيّدين (5) : بضمِّ الياءِ، وفتحِ النونِ، وكسرِ الكافِ مشدَّدةً، وضمِّ الباءِ (6) بواحدةٍ؛ أي: يُعَدِّلها إلى الناسِ،، وقد رُويَتْ: «يَنْكُبها (7) » مفتوحةَ الياءِ، ساكنةَ النون، وبضمِّ الكافِ؛ ومعناه: يَقْلبُها، وهو قريبٌ من الأولِ،، وقد رُويت (8) : «ينكُتُها (9) » بتاءٍ باثنتين (10) ، وهي أبعدُها.
وقولُه بعدَ الفراغِ من الخطبةِ: «ثم أذَّنَ، ثم أقام» دليلٌ على تقديمِ الخطبةِ على الصلاةِ، وعلى أنَّ الأذانَ بعدَ الخطبةِ، وبه أخذ مالكٌ في أحدِ أقوالهِ؛ فإنه رُوي عنه: أنه يؤذَّنُ بُعدَ تمامِ الخطبةِ، فيجلسُ الإمامُ على المنبرِ، ويؤذِّنُ المؤذنُ، ورُوي عنه أيضًا: أنَّه يؤذنُ في آخرِ خطبةِ الإمامِ حتى يكونَ فراغُ الإمامِ من الخطبةِ مع فراغِ المؤذنِ من الأذانِ، وهو قولُ الشافعيِّ، وروي عنه (11) : أنه يؤذَّنُ لها إذا جلسَ بين الخطبتينِ،، وقال أبو ثورٍ: يؤذِّنُ المؤذِّنُ (12) والإمامُ على المنبرِ قبلَ الخطبةِ؛ كالجمعةِ،، وروي أيضًا مثلُه عن مالكٍ.
وقولُه: «فصلَّى الظهرَ، ثم أقام فصلَّى العصرَ»؛ فيه دليلٌ على أن الجمعَ بين =(3/335)=@
__________
(1) قوله: ((ينكبها إلى)) في (ز): «ينكبها على» ونقط الناسخ الباء بنقطة من أسفل ونقطتين من أعلى.
(2) سورة الحديد؛ الآية: 4.
وقد سبق التنبيه على أن السماء ليست قبلة الدعاء، وأن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، وأما رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصبعه إلى السماء فهو إشارة إلى علو الله عز وجل على خلقه علوًّا حقيقيًّا، وأما قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم}، فالمراد معكم بعلمه واطلاعه لا بذاته بدليل أول الآية حيث قال تعالى: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم}. وانظر ما تقدم في كتاب الصلاة باب النهي عن رفع الرأس قبل الإمام وعن رفع البصر إلى السماء في الصلاة.
(3) رسمها في (ز) بالباء والتاء؛ بالنقطتين معًا؛ كسابقتها.
(4) في (ز): «وتفسيري».
(5) في (ز): «المفسرين».
(6) في (أ): ((البناء)).
(7) في (أ): «تنكبها».
(8) من قوله: ((ينكبها مفتوحة الياء...)) إلى هنا، سقط من (أ). وقد نقل هذه الفقرة السيوطي في "الديباج" (3/326) دون هذا السقط أيضًا.
(9) رسمها في (ز) بالنقطتين، كسابقتيها، وفي (أ): ((تنكبها)).
(10) كذا بالتاء في "صحيح مسلم" (4/41 الطبعة التركية) في الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قوله: ((فرفع إصبعه إلى السماء ونكتها إلى الناس)) قال القاضي عياض في "المشارق" (2/13): ((كذا روايتنا بتاء باثنتين: فوقها قال بعض المتقنين: صوابه: ((فنكبها)) بباءٍ موحدة ومعناه: يردها ويقلبها إلى الناس مشيرا لهم؛ لأنه كان عليه السلام راكبًا.اهـ.
وقال في "الإكمال" (4/277- 278): ((كذا الرواية بالتاء باثنتين من فوقها، وهو بعيد المعنى، قيل: صوابه: ((ينكبها)) بباء (بواحدة)) وكذا رويناه عن شيخنا أبي الوليد هشام بن أحمد من طريق ابن الأعرابي عن أبي داود عن تصنيعه بالباء بواحدة، وبالتاء باثنتين من طريق أبي بكر (التمِار) عنه، ومعناه: يردها ويقلبها إلى الناس مشيرًا إليهم، ومنه: (نكب كنانته): إذا قلبها)).اهـ. ونقل كلام النووي كلام القاضي هنا في "شرح النووي" (8/148)، ورواية أبي داود في "سننه" (2/483- 490 رقم1900) بتحقيق محمد عرامة، وأشار المحقق إلى اختلاف في النسخ و أن في بعضها التاء وفي بعضها بالباء.
تنبيه: النص المنقول هنا عن "الإكمال"، فيه في المطبوع تحريفات صوبناها من "شرح النووي".
(11) أي مالك.
(12) في (ز) و"الإكمال" (4/278): «المؤذنون».(3/335)
الصلاتين يُكتفَى فيه بأذانٍ واحدٍ للصلاتينَ، وعلى أنَّ كلَّ صلاةٍ منهما لا بدَّ لها من إقامةٍ، وهذا قولُ أحمد (1) ، وأبي ثورٍ، وابنِ الماجِشُونَ، والطحاويِّ (2) ،، وقال مالكٌ: يؤذِّنُ ويقيُم لكلِّ صلاةٍ؛ قياسًا على سائرِ الصلواتِ، وهو مذهبُ عمرَ (3) ، وابنِ مسعودٍ (4) ،، وذهب أبو حنيفةَ وأبو يوسفَ إلى أذانٍ واحدٍ، وإقامةٍ واحدةٍ،، وقال الشافعيُّ في أحدِ قوليه (5) بإقامتين دون أذانٍ، وروي مثله عن القاسمِ، وسالمٍ، ومثله في كتابِ ابن الجلاَّبِ،، وقال الثوريُّ: تُجزئ إقامةٌ واحدةٌ لا أذانَ معها.
قلتُ (6) : والصحيحُ الأولُ؛ حَسَبَ ما دلَّ عليه الحديثُ،، والجمعُ بعرفةَ والمزدلفةِ في ذلك سواءٌ.
وقولُه: «ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا»؛ أي: لم يُدْخِل بينهما صلاةً أخرى، لا نفلاً ولا غيرَه، وبهذا قال مالكٌ وغيره، وقال ابنُ حبيبٍ: يجوزُ أن يتنفلَ بينهما، وليس بالبيِّنِ.
ولا خلافَ في جوازِ الجمعِ بين الصلاتين بعرفةَ ومزدلفةً، وإنما اختلفوا فيمَنْ فاته الجمعُ مع الإمامِ بعرفةَ (7) : فالجمهورُ على أنه يجمعُ بينهما؛ اتباعًا لفعله - صلى الله عليه وسلم - ،، وقال الكوفيون: يصليهما مَنْ فاتتاه لوقتهما، ولا يجوزُ الجمعُ إلا مع الإمامِ،، ولم يختلفْ أن من صلاهما في وقتِهما أن صلاتَه جائزةٌ إذا لم يكن إمامًا.
واختلفوا فيمن صلَّى قبل أن يأتي المزدلفةَ: فذهب الكوفيون إلى أنهما لا تُجْزئانِه، ويعيدُهما، وإن صلاهما بعدَ مغيبِ الشفقِ، وقاله ابنُ حبيبٍ،، وقال مالكٌ: لا يصلِّيهما قبلَ المزدلفةِ إلا مِنْ عُذْرٍ به، أو بدابتِه،، ولا يجمعُ هذا (8) بينهما حتى يغيبَ الشفقُ. وقال مالكٌ: يُصلِّيهما لوقتِهما (9) ، وقيل: تجزئُه صلاتُهما في وقتِهما قبلَ المزدلفةِ؛ كان إمامَ الحاجِّ أو غيرَه، وهو مرويٌّ عن جماعةٍ من الصحابةِ (10) والتابعين، وقاله الشافعيُّ، والأوزاعيُّ، وأبو يوسفَ، وأشهبُ من أصحابِنا. =(3/336)=@
__________
(1) وعن أحمد قول: بإقامتين دون أذان. وانظر: ما يأتي قريبًا.
(2) وهو القول الصحيح من مذهب الشافعي، كما قال النووي في "شرح مسلم" (8/188)، (9/131). وانظر ما يأتي قريبًا.
(3) أخرجه الطحاوي (2/211)، والبيهقي (1/402) وصححه.
وصححه الحافظ في "الفتح" (3/525)، وابن حزم في "المحلى" (7/127).
(4) أخرجه البخاري (3/524 و530 رقم1675 و1683) في الحج، باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما، وباب متى يصلى الفجر بجمع.
(5) قوله: ((وقال الشافعي في أحد قوليه..,.))إلخ، في "الإكمال" (4/278): ((وقال الشافعي وأحمد في قوليه...))إلخ، وفي "االتمهيد" (9/269): ((وذهب الشافعي إلى أن كل واحدة منهما تصح بإقامة إقامة، ولا يؤذن لواحدة منهما، وبه قال إسحاق، وهو أحد قولي أحمد)).اهـ. قال النووي في "شرح مسلم" (8/184 – 185) في جمع عرفة: ((والجامع بين الصلاتين يصلي الأولى أولا وأنه يؤذن للأولى وأنه يقيم لكل واحدة منهما... وهذا كله متفق عليه عندنا.اهـ.
وقال في (8/188) في جمع مزدلفة: ((يصلي الصلاتين في وقت الثانية بأذان للأولى وإقامتين لكل واحدة إقامة، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وبه قال أحمد.. وللشافعي وأحمد قول: أنه يصلي كل واحدة بإقامتها بلا أذان)).اهـ. وانظر: "المجموع" (3/91- 92)، (8/121، 150- 151، 162)، و"المغني " (5/262- 263، 278- 280). وقول مالك في "المدونة" (1/159- 160، 429) .
(6) في(ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(7) من قوله: «ومزدلفة....» إلى هنا سقط من (أ).
(8) أي: المعذور.
(9) قوله: ((وقال مالك: يصليهما لوقتهما)) كذا في النسختين! وفيه إشكال مع ما حكاه سابقًا عن مالك،، وعبارة "الإكمال" (4/279): ((وقال محمد: يصليهما كل صلاة لوقتها)). وهو مشكل أيضا، فقد قال محمد بن الحسن في روايته "لموطأ مالك" (ص165): لا يصلي الرجل المغرب حتى يأتي المزدلفة وإن ذهب نصب الليل)).اهـ. وقال في "المبسوط" له (2/421): فإن صلى رجل المغرب بعرفات حين غربت الشمس أو صلاها قبل أن يبلغ المزدلفة قبل أن يغيب الشفق أو بعد ما غاب قال: عليه أن يعيدها في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يعيدها)).اهـ. ونحوه في "المبسوط" للسرخسي (1/244)، (4/62). أما مالك فقال في "المدونة" (1/416) ما ذكره الشارح هنا، ولفظه: قلت: (أي: سحنون): ما قول مالك فيمن صلى المغرب والعشاء قبل أن يأتي المزدلفة؟ قال: قال مالك: أما من لم يكن به علة ولا بدابته وهو يسير بسير الناس فلا يصلي إلا بالمزدلفة. قال ابن القاسم: فإن صلى قبل ذلك فعليه أن يعيد إذا أتى المزدلفة. قال ابن القاسم: إن صلى قبل ذلك فعليه أن يعيد إذا أتى المزدلفة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصلاة أمامك)) قال: ومن كان به علة أو بدابته... أمهل حتى إذا غاب الشفق صلى المغرب ثم صلى العشاء ويجمع بينهما حيث كان وأجزأه.أهـ. وانظر: "المنتقى" (3/39)، "التمهيد" (9/270)، "الاستذكار" (13/159- 161)، و"شرح النووي" (8/178)، و"المجموع" (8/162)، و"المغني" (5/281- 282).
(10) صح ذلك عن عبدالله بن الزبير، كما عند الحاكم (1/461)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
وروي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، كما عند ابن أبي شيبة (3/251 رقم14020 و14021) في الحج، باب في صلاة المغرب دون الجمع. ولا تخلو أسانيدها من مقال.(3/336)
وسمِّيت المزدلفةُ بذلك؛ لاقترابِ الناسِ بها إلى منى للإفاضة من عرفاتٍ، والازدلافُ: القربُ؛ يقال: ازدلف القومُ: إذا اقتربوا (1) ،، وقال ثعلبٌ: لأنها منزلةُ قربةٍ لله تَعَالى (2) ،، وقال الهرويُّ: سُمِّيت بذلك لازدلافِ الناسِ بها، والازدلافُ: الاجتماعُ (3) ،، وقيل سُمِّيت بذلك للنزولِ بها بالليلِ، وزُلَفُ الليلِ: ساعاتُه (4) .
وتسمَّى أيضًا المزدلفةُ: بـ((المشْعَرِ))؛ لأنها من المشاعرِ، وهي المعالمُ،، والصوابُ: أن المشعرَ موضعٌ مخصوصٌ من المزدلفةِ (5) ، وهو الذي كانت الْحُمْسُ (6) تقفُ فيه، ولا تتعدَّاه (7) ، وتَكْتَفِي (8) بالوقوفِ فيه عن عرفةَ.
وسُمِّيت ((منى)) بذلك؛ لما يُمنى فيها من الدماءِ؛ أي: يراقُ (9) ،، وقيل: لأن آدم – عليه السلام - تَمَنَّى الاجتماعَ مع حواءَ فيها.
وسُمِّيت عرفةُ بذلك (10) : لأن جبريل – عليه السلام - عرَّف بها (11) آدمَ، فقال: عرفتُ عرفتُ (12) ،، وقيل: لأن آدم عليه السلام تعرَّفَ فيه بحواءَ بعدَ إنزالِهما إلى الأرضِ، وهي المعرَّفُ، والتعريفُ: الوقوفُ بها (13) .
وقولُه: «وجعل حَبْل (14) المشاةِ بين يديه»؛ يريدُ: صفَّهم ومجتمعَهم. وحَبْلَ الرَّمْلِ: ما طال منه،، وقيل: حبلُ المشاةِ: طريقُ الرَّجَّالةِ، حيثُ يسلكون (15) .
وقولُه: «وجعل بطنَ ناقتهِ إلى الصَّخَراتِ»؛ يعني - والله أعلم- أنه علا على الصخراتِ ناحيةً منها، حتى كانتِ الصخراتُ تحاذي بطنَ ناقتِه.
وقولُه: «فلم يزلْ واقفًا بعرفةَ حتى غربتِ الشمسُ، وذهبت الصُّفرةُ قليلاً» لا خلاف في أن الوقوفَ بعرفَة ركنٌ من أركانِ الحجِّ، وأنه من بعدِ الزوالِ، وأنه لا يُجزئُ قبلَه، وأن وقوف الليل يُجزئُ،، وأكثرُ العلماءِ على أن وقوفَ النهارِ يُجزئُ إلا مالكًا؛ فإنه في معروفِ مذهبِه كمن لم يقفْ،، ولا خلافَ في أفضليةَ =(3/337)=@
__________
(1) في (ز): «قربوا» وهذا قول الخطابي في "غريب الحديث" (2/24) نقله عنه القاضي في "الإكمال" (4/279)، و"المشارق" (1/393)، وزاد الشارح في كلامه هنا: ((والازدلاف: القرب)) والأولى: ((والازدلاف: الاقتراب)).
(2) نقله عنه ابن الأنباري في "الزاهر" (2/263)، وقال محققه: وهو قو أبي عبيدة في "المجاز" (1/300) الخطابي في "غريب الحديث" (2/24)، وعنه القاضي في "الإكمال" (4/279)، و"المشارق" (1/393).
(3) في "الغريبين" (3/827)، وعبارته في تفسير قوله تعالى: {وأزلفنا ثم الآخرين}[ص: 40]: ((قال ابن عرفة: أي: جمعناهم، وسميت المزدلفة؛ أي: ليلة الاجتماع)).
(4) ينظر: "المشارق" (1/393)، و"الإكمال" (4/279- 280)، و"تاج العروس" (12/257).
(5) سيذكر الشارح في باب الإفاضة من عرفة والصلاة بمزدلفة أن المزدلفة وجمع والمشعر الحرام وقزح، وأسماء لموضع واحد، وسيفرق بين المشعر الحرام والمزدلفة في حكاية الخلاف الفقهي في حكم الوقوف بهما في باب التغليس بصلاة الصبح بالمزدلفة، وانظر تعليقنا هناك في الموضعين.
(6) سيأتي تفسيرها في الباب التالي.
(7) في (ز): «يتعداه».
(8) في (ز): «ويكفي».
(9) في (ز): «تراق».
(10) انظر ما تقدم في الصيام، باب فضل صيام يوم عرفة.
(11) قوله: «بها» سقط من (ز).
(12) قوله: «عرفت» الثانية سقط من (أ).
(13) ينظر: "تفسير الطبري" (2/286)، و"المشارق" (2/107)، "الإكمال" (4/280)، "تهذيب الأسماء واللغات" (3/55- 56). لكن في الطبري و"الإكمال" و"التهذيب": ((إبراهيم)) بدل ((آدم)).
(14) لفظة ((بل)) في هذا الموضع وفي الموضعين التاليين، في (أ): ((جبل)) وانظر التعليق الآتي.
(15) قال في "المشارق" (1/176) في تفسير قوله: ((كلما أتى حبلاً من الحبال)): بفتح الحاء وسكون الباء؛ وهو ما طال من الرمل وضخم، وقيل: الحبال دون الجبال. وفيه: ((وجعل حبل المشاة بين يديه)) يعني: صفهم ومجتمعهم؛ تشبيهًا بالأول. وقيل: حبل المشاة: حيث يسلك الرجالة، والأولى أولى، وقد يحتمل أ، يريد به كثرة المشاة، والحبل: الخلق)).اهـ. ونحوه في "الإكمال" (4/281) وقال النووي في "شرح مسلم" (8/186): ((وأما قوله: ((وجعل حبل المشاة بين يديه)) فروي بالحاء المهملة وإسكان الباء، وروي بالجيم وفتح الباء، قال القاضي عياض رحمه الله: والأول أشبه بالحديث. وحبل المشاة، أي: مجتمعهم، وحبل الرمل: ما طال منه وضخم، وأما بالجيم فمعناه: طريقهم وحيث تسلك الرجالة)).اهـ.
وقد نقل هذا الكلام عن النووي في "الديباج" (3/326)، و"عون المعبود" (5/264).
أما ابن الأثير في "النهاية" فذكره في حرف الحاء (1/333) وقال: أي طريقهم الذي يسلكونه في الرمل، وقيل: أراد صفهم ومجتمعهم، وهذا كما قال تشبيه بحبل الرمل، وإن كان لم يظهر وجه الشبه في تفسيره لـ((حبل الرمل)) بأنه: ما طال وضخم، ويظهر وجه الشبه فيما فسر به أبو عبيد ي "غريبه" حبل الرمل، قال (5/19): والحبل أيضًا من الرمل: المجتمع منه الكثير العالي.اهـ. لكن في كلام القاضي ما يوحي بإرادته حرف الجيم في قوله في "المشارق": ((وقد يحتمل أن يريد به كثرة المشاة، والحبل الخلق)) فقوله ((والحبل الخلق)) وإن وقع في المطبوع بالحاء المهملة؛ فإن ((الخلق)) من معاني مادة الجيم والباء واللام وليس من معاني ((الحاء المهملة والباء واللام))، والأمر يحتاج إلى مراجعة نسخ "الإكمال"، والنووي محقق، ولعله وقع على نسخة فيها بالجيم.(3/337)
الجمعِ بين الوقوفين ليلاً ونهارًا.
وفيه دليلٌ على الاحتياطِ بأخذِ جزءٍ من الليلِ زائدٍ (1) على مغيبِ الشمسِ.
قلتُ (2) : وقد رَوى الترمذيُّ (3) حديثًا صحيحًا يرفعُ الخلافَ في هذه المسألِة: عن عروةَ بن مُضرَّسٍ قال: أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفةِ حين خرجَ إلى الصَّلاةِ، فقلت: يا رسول الله، إني جئتُ من جبلَيْ طَيِّىءٍ، أَكْلَلْتُ راحلتي، وأتعبتُ نفسي، والله ما تركتُ من جبلٍ (4) إلا وقفتُ عليه، فهل لي من حجٍّ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ (5) قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا - فَقَدْ تَمَّ (6) حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ». قال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ،، وزاد النسائيُّ (7) : «وَمَنْ لَمْ يُدْرِكَ مَعَ الإِمَامِ وَالنَّاسِ، فَلَمْ يُدْرِكْ»؛ فظاهرُ (8) هذا أنه لا يلزمُ الجمعُ بين وقوفِ الليلِ والنهارِ، بل أيَّهما فعل أجزأ؛ لأن الروايةَ فيه بـ «أو» التي هي لأحدِ الشيئين،، غيرَ أنه قد جاء في كتابِ النسائيِّ (9) من حديثِ عبد الرحمنِ بن يَعْمُرَ قال: شهدتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعرفةَ وأتاه ناسٌ من نجدٍ، فأمروا رجلاً فسأله عن الحجِّ، فقال: «الحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَقَدْ أَدْرَكَ حَجَّهُ» وقال الترمذيُّ (10) : «مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ». قال وكيعٌ: هذا الحديثُ أُمُّ المناسكِ، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
و«شَنَقَ الزمامَ»: ضمَّه وضيَّقه على ناقتِه (11) ، وقد فسَّره بقولِه: ((حتى إنَّ رَأْسَها لَيُصِيب مَوْرَكَ رَحْلِهِ)) وهو قطعةٌ من أَدَمٍ يتورَّكُ عليها الراكبُ، تُجعلُ في مقدمة الرَّحْلِ، شِبْهُ الْمِخَدَّةِ،، قال القاضي عياضٌ: ((مَوْرَك))؛ بفتحِ الراءِ (12) . =(3/338)=@
__________
(1) في (أ): ((زائدا)).
(2) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(3) أخرجه الطيالسي (ص181 رقم1282).
والحميدي (2/400 و400- 401 رقم900و901).
وأحمد (4/15 و261 و261 – 262و262).
وأبو داود (2/486 – 487 رقم1950) في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة.
والترمذي (3/238- 239 رقم891) في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج.
والنسائي (5/263 – 264 رقم 039و3040و3041و3042و3043) في مناسك الحج، باب فيمن لم يدرك الصبح مع الإمام بالمزدلفة.
وابن ماجه (2/1004 رقم3016) في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع.
وابن خزيمة (4/255- 256 و256 رقم2820و2821).
وابن حبان (9/161و162 رقم3850و3851 – الإحسان).
والحاكم (1/463).
جميعهم من طريق الشعبي، عن عروة بن مضرس، فذكره.
قال الترمذي: حسن صحيح.
وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.
والألباني في "الإرواء" (4/258 رقم1066).
***وهذا تخريج آخر للحديث***
خرجه أبو داود (2/486- 487 رقم1950) في المناسك، باب من لم يدرك عرفة.
والترمذي (3/238- 239 رقم891) في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج.
والنسائي (5/263-264- الأرقام 3039، 3040، 3041، 3042، 3043) في مناسك الحج، فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة.
وابن ماجه (2/1004- رقم3016) في المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع.
والإمام أحمد (4/15، 261، 261- 262، 262)، والطيالسي (181- رقم1282)، والحميدي (2/400- 400- 401 رقمي 900، 901)، والدارمي (2/59) في المناسك، باب: بما يتم الحج.
وابن خزيمة (4/255- 256و256- رقمي 2820، 2821).
وابن حبان (إحسان – 9/161، 162- رقمي 3850، 3851)، وابن الجارود (/92- رقم467)، والحاكم (/463) وغيرهم كثير كلهم من طريق الشعبي عن عروة به. – طح (2/207 و208و208)، قط (2/239- 240و241).
وقال الترمذي عقب الحديث: حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة وابن حبان كما سبق وقد ألزم الدارقطني الشيخين بإخراج هذا الحديث كما في "الإلزامات" (ص84).
وقال الحاكم في "المستدرك": هذا حديث صحيح على شرط كافة أئمة الحديث وهي قاعدة من قواعد الإسلام وقد أمسك عن إخراجه الشيخان محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج على أصلهما أن عروة بن مضرس لم يحدث عنه غير عامر الشعبي وقد وجدنا عروة بن الزبير بن العوم حدث عنه.اهـ. وقال أبو نعيم في "الحلية" (7/189): (هذا حديث صحيح).اهـ. وقال ابن الملقن في "خلاصة البدر" (2/17): (وقال الحافظ أبو بكر المعافري: هو من لوازم الصحيحين).اهـ. وقال الحافظ في "التلخيص" (2/489): (وصحح هذا الحديث الدارقطني والحاكم والقاضي أبو بكر بن العربي على شرطهما).اهـ. وصححه الشيخ الألباني في "الإرواء" (4/258 – رقم 1066).
(تنبيه): خرج الحاكم في "مستدركه" (1/463) الحديث من طريق يوسف بن خالد السمتي البصري عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عروة بن مضرس الطائي به.
ولكن قال الدارقطني في "الإلزامات" (ص85): (وقد روى عن عروة بن مضرس حميد بن منهب وعروة بن الزبير ، في روايتهما نظر).اهـ.
وقال الذهبي في "تلخيص المستدرك" متعقبًا الذهبي: (قلت: السمتي ليس بثقة).اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (6/418): (إسناده ضعيف).اهـ.
(4) كذا في النسختين، وفي مصادر التخريج ((حبل))، وقد مضى تفسيره، وفي "النهاية" (1/333): ((وفي حديث عروة بن مضرس: أتيتك من جبلي طيِّء ما تركت من حبل إلا وقعت (كذا) عليه)) الحبل: المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه، وجمعه: حبال. وقيل: الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل.اهـ.
(5) في (أ): «بعرفات».
(6) في الترمذي: ((أتم حجَّه)).
(7) ...........
(8) في (ز): «وظاهر».
(9) تقدم تخريجه في كتاب الطهارة، باب الغرة والتحجيل من الإسباغ.
(10) ..........
(11) في "المشارق" (2/254): يقال: شنقت الناقة وأشنقتها: إذا كففتها وعطفت رأسها بالزمام حتى يقارب قفاها قادمة الرحل. ونحوه في "الإكمال" (4/281)، و"النهاية" (2/506).
(12) "الإكمال" (4/281)، وما سبق من تفسير ((شنق)) إلى هنا، كل عن القاضي في "الإكمال"، وفيه: مورك الرحل – بفتح الراء – ومورَكته أيضًا: قطعة من أدم...إلخ. حتى قول الشارح: ((وقد فسره بقوله...)) إلخ، عن القاضي؛ وعبارته: وشنق: ضم وضيق، وما جاء في الحديث من ضم رأسها يفسر ذلك.(3/338)
وقولُه: «ثم اضطجع حتى طلع الفجرُ، فصلَّى حين تبيَّن له الصبحُ»؛ فيه سُنَّةُ المبيتِ بالمزدلفةِ، وصلاةُ الصبحِ بها بغلسٍ،، وسيأتي أنه أرخص لبعضِ نسائهِ في النَّفرِ منها إلى منى قبلَ طلوعِ الفجرِ (1) ،، وفيه: الأذانُ في السفرِ؛ خلافًا لمن قال: يقَتصرُ المسافُر على الإقامِة (2) .
وقولُه: «ثم ركب (3) حتى أتى المشعرَ الحرامَ» فيه: أن الوقوفَ بالمشعرِ الحرامِ (4) إلى الإسفارِ: من المناسكِ، وقد ذكره اللهُ تعالى في قولِه: {فاذكروا الله عند المشعرِ الحرامِ} (5) .
وقد اختُلف في وجوبِ الوقوفِ فيه: فذهب أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلاَّمٍ إلى وجوبه، والجمهورُ على أنه مُستحبٌّ.
و«الظُّعُن»: النساءُ في الهوادجِ (6) . و«يُجْرين» بضمِّ الياءِ وفتحِها، وكلاهما واضحُ المعنى. و«طَفِقَ»: أَخذ، وَجَعَلَ.
وَوَضْعُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يدَه (7) على وجهِ الفضلِ، إنما كان خوفًا من الفتنةِ عليه،، وكونُه - صلى الله عليه وسلم - لم يَنْهَهُ عن ذلك ولم يزجُرْه؛ دليلٌ على أنه لم يفعلْ محرمًا،، وقال بعضُ مشايخِنا. ستُر الوجهِ عن النساءِ سُنَّةٌ، وكان الحجابُ على أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - واجبًا (8) . =(3/339)=@
__________
(1) سيأتي في باب التغليس بصلاة الصبح بالمزدلفة، والإفاضة منها، وتقديم الظعن والضعفة.
(2) لقوله فيه: ((وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة)).
(3) في "التلخيص" و"صحيح مسلم": ((ثم ركب القصواء)).
(4) سقط من (ز).
(5) سورة البقرة؛ الآية: 198.
(6) الظعن: بضم الظاء، وبسكون العين وضمها؛ جمع ((ظعينة)) وهي المرأة وهي ((فعيلة)) بمعنى ((مفعولة))؛ لأن زوجها يرتحل بها، وَظَعَنَ: ارتحل، وأصله: الهودج التي تكون فيه المرتحلة، ثم سميت المرأة بذلك، ينظر: "مشارق الأنوار" (1/329)، و"المصباح" (ص199).
(7) في (ز): «ووضع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
(8) قوله: (وقال بعض مشايخنا)) هو القاضي أبو عبيد الله بن المرابط كما في "الإكمال" (4/283)، وهو محمد بن خلف بن سعيد بن وهب، ابن المربط، صاحب "شرح صحيح البخاري"، من كبار المالكية. توفي 485هـ. "سير أعلام النبلاء" (19/66- 67).
قال القاضي: قال بعضهم: وهذا يدل على أن هذا ليس بواجب؛ إذ لم ينهه.اهـ.
ثم ذكر قول ابن المرابط، ثم قال: وعندي أن فعل في ذلك أبلغ في النهي من القول، ولعل الفضل لم ينظر إليهن نظرًا ينكر، النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما خشي فتنة بعضهم لبعض، أو كان هذا قبل نزول الآية بإدناء الجلابيب عليهن)).اهـ. وقال الحافظ في "الفتح" (4/70): ((وفيه منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر، ثم نقل كلام القاضي. وانظر: "التمهيد" (9/122)، و"الاستذكار" (12/57- 58).
[يضاف تعليق من "إعلام الموقعين" 2/391- 394، يراجع](3/339)
وقولُه: «حتى أتى بطنَ مُحَسِّرٍ فحرَّك قليلاً»؛ محسِّر: وادٍ معروفٌ هناك، يُستحبُّ للحاجِّ أن يحركَ دابتَه هنالك؛ كما فعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - .
وقولُه: «كل حصاةٍ منها حصى الخَذْفِ (1) »هكذا صحَّتِ الروايةُ فيه (2) في كتابِ مسلمٍ (3) ، وكان في كتاب القاضي ابن عيسى: «كلُّ حصاةٍ منها مثلُ حصى الخَذْفِ»، وهذا هو الصوابُ، وكذا رواه غيرُ مسلمٍ (4) .
والخَذْفُ: رميُكَ حصاة أو نواةً تأخذُها بين سبابتيك، أو تجعلُ مِخْذَفَةً من خشبٍ ترمي بها بين إبهامكَ (5) والسَّبابةِ (6) .
وقوله: «رَمَى من بطنِ الوادي»؛ يعني: من أسفلها (7) ، كما يأتي من حديث ابن مسعود (8) ، وهو المستحبُّ،، ولو رَمَى من أيِّ مكانٍ كان صحَّ رميه، إذا رَمَى في موضعِ الرَّمِي (9) .
وقولُه: «ثم انصرف إلى المنحرِ»؛ أي: إلى (10) الموضعِ الذي نحر هو (11) فيه، وموضعُ نحرِه أولى من غيرِه، على أن كلَّ منى منحرٌ،؛ كما قاله - صلى الله عليه وسلم - ،، قال مالكٌ: إلا ما خَلْفَ العقبةِ وقُدَيْدٍ (12) ،، والنحرُ بمنًى عنَد مالكٍ له ثلاثُة شروطٍ:
أحدها: أن يوقف بالهديِ بعرفةَ.
الثاني: أن (13) يكونَ النَّحْرُ في أيامِ منى.
الثالث: أن يكونَ النَّحرُ في حجٍّ لا في عمرةٍ.
فإذا اجتمعتْ هذه الشروطُ؛ فلا يجوزُ النَّحرُ إلا بمنى، لا بغيرِها.
وقال =(3/340)=@
__________
(1) لفظ الرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كلِّ حصاة منها، حصى الخذف)). وما ذكره الشارح تابع فيه القاضي عياضا في "الإكمال" (4/283)، و"المشارق" (1/206) ونقله عنه من الإكمال، مع تغيير في صياغة عبارة القاضي. قال النووي في "شرح مسلم" (8/191) بعد أن نقل كلام القاضي: قلتُ: والذي في النسخ من غير لفظة ((مثل)) هو الصواب، بل لا يتجه غيره، ولا يتم الكلام إلا كذلك، ويكون قوله: ((حصن الخذف)) متعلقًا بـ((حصيات)) واعترض بينهما: ((يكبر مع كل حصاة)) وهذا هو الصواب والله أعلم.اهـ.
(2) سقط من (أ).
(3) برقم (1299) في باب استحباب كون حصى الجمار بقدر حصى الخذف. [ثم أشير بسهم إلى أسفل وكتب بجانبه اللفظ موجود في التلخيص، فهو مخرج!! يراجع المحدثون].
(4) أخرجه أبو داود (2/455-464 رقم1905) في المناسك، باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وابن ماجه (2/1022- 1027 رقم3074) في المناسك، باب: حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلاهما من طريق حاتم بن إسماعيل، ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، به. قال: مع كل حصاة منها بمثل حصى الخذف...، وذكر الحديث بطوله.
وأخرجه الدارمي (2/62) في المناسك، باب في الرمي بمثل حصى الخذف من طريق سفيان، عن أبي الزبير، به، فقال: أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرموا بمثل حصى الخذف، ذكره مختصرًا. [هذا اللفظ غير مراد يراجع المحدثون]
(5) في (أ): «إبهاميك».
(6) ينظر: "المعلم" (2/58)، و"المشارق" (1/91، 23)، و"النهاية" (2/16).
(7) يعني: من أسفل جمرة العقبة، فالكلام في الحديث عنها، وانظر: "الإكمال" (4/284).
(8) سيأتي في باب رمي جمرة العقبة.
(9) في (ز): «المر».
(10) سقط من (ز).
(11) سقط من (أ).
(12) قوله: ((وقديد)) كذا في النسختين. وعبارة "الإكمال" (4/284): ((قال: مالك: إلا ما خلف العقبة، وقد قال ابن الأنباري: إنما سميت منى من منيت الدم: إذا صببته...))إلخ.
ويبدو أنه تصحف على القرطبي - رحمه الله- لفظة ((وقد قال)) فقرأها ((وقديد قال))!. وقد سبق أن نقل كلام ابن الأنباري الذي ذكره القاضي غير مسمٍّ للمنقول عنه، والمذكور عن مالك في المسألة: أنه ما خلف العقبة فقط؛ قال في "المنتقى" (3/24): منى كلها منحر إلا ما خلف العقبة، رواه محمد عن مالك، ووجه ذلك أن ما وقع عليه اسم منى إنما هو ما دون العقبة الذي هو منتهى منى، ... فكل حكم يختص بمنى لا تعلق له بما دون العقبة؛ كالمبيت والنحر وغير ذلك من الأحكام والله أعلم)).اهـ. وقال أبو عمر ابن عبد البر في "التمهيد" (24/424): قال ابن وهب: منى كلها منحر إلى العقبة، وما وراء العقبة فليس بمنحر.اهـ.
أما ((قديد)) فهو موضع بين مكة والمدينة، بينه وبين الكديد 16 ميلاً، وبين مكة والكديد 42 ميلاً والكديد أقرب إلى مكة. "مشارق الأنوار" (1/351) (2/198).
وقد جاء في حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل عرفة موقف وارتفعوا عن بطن عرنة، وكل المزدلفة موقف وارتفعوا عن بطن محسر، وكل منى منحر إلا ما وراء العقبة)) عند ابن ماجه برقم (3012) وسيأتي في أثناء كلام الشارح، وسيأتي تخريجه.
(13) قوله: «أن» سقط من (أ).(3/340)
القاضي إسماعيل: إنه يجوزُ أن ينحرَ بمكةَ أيامَ منى،، وقد حُكي أنه مذهبُ مالكٍ (1) .
فأما في العمرةِ فالنحرُ فيها (2) بمكةَ، في بيوتِها، وطرقِها، وفِجاجِها. ويُجزئ عندَ مالكٍ النحرُ في العمرةِ بمنى، فإن نحر بغيرِ منى ومكةَ في الحجِّ والعمرةِ لم يجزْ عندَه،، وجاز عندَ أبي حنيفةَ والشافعيِّ بأيِّ موضعٍ كان من الحرم؛ قالا: والمقصودُ: مساكينُ الحرمِ، لا الموضعُ (3) منه.
وأجمعوا على (4) أنه لا يجوزُ فيما عدا الحرمَِ، ولا يجوزُ في البيتِ والمسجدِ نحرٌ ولا ذبحٌ.
وقولُه: «فنحر ثلاثًا وستين بيدِه» هكذا روايةُ الجماعةِ، وعندَ ابن ماهانَ: «بدنةً» مكانَ «بيده»، وكلٌّ صوابٌ (5) . وفيه ما يدلُّ على أنَّ الأولى للمُهْدي أو للمُضحِّي (6) أن يتولَّى ذلك بيدِه.
وإعطاؤه (7) ما بقي لعليٍّ لينحرها، دليلٌ على صحةِ النيابةِ في ذلك، غيرَ أنه روُي في غيرِ كتابِ مسلمٍ (8) : أنه إنّما أعطاه إياها ليُهديَها عن نفسِه؛ ويدلُّ عليه قولُه: ((وأَشْركَه في هديِه)). وعلى هذا فلا يكونُ فيه حُجَّةٌ على الاستنابةِ (9) .
وقيل: إنما نحر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا وستين بدنة (10) ؛ لأنها هي التي أتى بها من المدينةِ؛ كما ذكره الترمذيُّ (11) . وقيل: إنما خصَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك العددَ؛ لأنه منتهى عمرِه (12) ؛ على ما هو الأصحُّ في ذلك، فكأنَّه أهدى عن كلِّ سنةٍ من عمرِه بدنةً.
وقولُه: «ثم أمر من كلِّ بدنةٍ ببضعةٍ، فجعلت في قِدرٍ، فطبختْ، فأَكلَا من لحمِها، وشربا من مرقِها»؛ إنما فعل هذا ليمَتثلَ قولَه تعالى: {فكلوا منها} (13) ، وهما وإن لم يأكلا من كلِّ بضعةٍ، فقد شربا من مرقِ كلِّ ذلك،، وخصوصيةُ عليٍّ رضي الله عنه بالمؤاكلةِ، دليلٌ على أنه أَشْرَكه في الهديِ (14) ،، وفيه دليلٌ على أن من حَلَف ((لا (15) يأكلُ لحمًا)) فشربَ مرقُه؛ أنه يحنَثُ.
وفيه دليلٌ على استحبابِ أكلِ =(3/341)=@
__________
(1) ينظر: "المنتقى" (4/24)، و"الإكمال" (4/285)، وعبارة "الإكمال": ((... وحكى غيره (غير القاضي إسماعيل) أنه مذهب مالك)).اهـ.
(2) في (غ): «بها».
(3) في (أ): ((المواضع)).
(4) سقط من (ز).
(5) ينظر: "الإكمال" (4/285) وقال القاضي بعدها: لكن نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده هو المروي وهو أصوب هنا إن شاء الله؛ لقوله: ((ثم أعطى عليا فنحر ما غبر)) وكانت عدتها مائة على ما جاء في الحديث.اهـ.
(6) في (أ): ((المضحي)).
(7) في (ز): «وإعطاء».
(8) لم أقف عليه.
(9) ينظر: "الإكمال" (4/285). وقال القاضي في (4/399): ((جاء مفسرًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نحر بدنه بيده، وولَّى الباقي عليًّا، وظاهره أن عليًا إنما تولَّى، جعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وسوغه أن يهديه)).
(10) قوله: «بدنة» سقط من (ز).
(11) في "سننه" (2/168)، "زاد المعاد" (2/199). والبخاري (3/539 رقم1691) و(542-543 رقم 1694-1696).
(12) قاله ابن حبان تفقهًا، كما في "الإحسان" (9/252).
(13) سورة الحج؛ الآية: 28.
(14) وأخذ من قوله: ((وأشركه معه في هديه)) جواز الاشتراك في الهدي، قال القاضي في "الإكمال" (4/285- 286): وعندي أنه يضعف الاستدلال بكل حالٍ لما قدمناه من رواية من روى أنه لم يكن تشريك إشاعةٍ، وإنما أعطاه منها عددًا... قال القاضي والذي يظهر لي أن النبي نحره بدن نفسه بيده وهي كانت عدة ما جاء به من المدينة... ثلاثًا وستين وأن البقية هي التي أتى بها علي هي التي أعطاها له النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تكن بها حجة في الاستنابة ولا في التشريك.اهـ.
(15) في (ز): «ألا».(3/341)
الأقلِِّ من الهدايا والضحايا، والتصدُّقِ بالأكثرِ.
وفيه دليلٌ على جوازِ (1) أكلِ المُهْدِي من هديِ القِران. وقد قدَّمنا أنه كان قارنًا، وسيأتي حكمُ لأكلِ من الهدايا.
وقولُه: «ثم ركب فأفاض إلى البيتِ» هذا هو طوافُ الإفاضةِ، وَيُسُمِّي: ((طوافَ الزيارة))، وهو واجبٌ بإجماعٍ، وهو الذي تناولَه قولُه تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وَلْيُوفُوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} (2) ، ولا خلاف أن إيقاعَه يومَ النحِر أولى وأفضلُ،، فلو أوقعه بعدَ يومِ النحرِ، فهل يلزمُ الدمُ بتأخيرِه أم لا يلزُم؟ واختُلف (3) فيه، وسيأتي (4) . والجمهورُ على أن مَنْ ترك طوافَ الإفاضةِ؛ أن طوافَ الوداِع لا يجزئُ عنه إلا مالكًا، فإنه قال: يجزئ عنه إذا رجع إلى بلدِه (5) ،، قال القاضي عياضٌ: وكذلك طوافُ التطوُّعِ (6) .
وقولُه: «لولا أن يغلبَكم النَّاسُ على سقايتِكم لنزعتُ معكم»؛ يعني: أنه لو استقى هو بيدِه لاقتدى الناسُ به في ذلك، فاستقوا بأيدِيهم، فتزولُ خصوصيةُ بني عبدِالمطلَّبِ، وهى ثابتةٌ لهم، كوِلايةِ الحجابةِ لبني شيبةَ، كما يأتي إن شاء الله تعالى (7) .
ويقالُ: ((نَزَعَ))، بفتحِ الزاي (8) ، ((يَنْزِعُ)) بكسرِها، لا غيُر وإن كان الأصلُ فيها الفتحَ في المضارعِ؛ لأن ما كان على: ((فَعَل))، وعينُه أو لامُه حرفُ حلقٍ، فالأصلُ في مضارعِه (9) أن يأتي على يَفْعَلُ، بفتحِ العينِ أو بضمِّها (10) ،، والنزعُ: الاستقاءُ بالرِّشاءِ، والنَّزحُ - بالحاء -: الاستقاءُ بالدَّلْو .
و«أبو سَيَّارةَ» هو عُمَيْلَةُ بنُ الأَعْزَلِ (11) . =(3/342)=@
__________
(1) في (ز): ((جوان)).
(2) سورة الحج؛ الآية: 29.
(3) في (أ): «واختلف».
(4) في باب الطواف عند القدوم.
(5) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (17/267) عن طواف الإفاضة: وهو واجب فرضًا عند الجميع... إلا أن مذهب مالك في هذا الطواف أنه ينوب عنه غيره مع وجوبه عنده. وقال في (15/220) عن حديث ابن عمر الآتي في باب الهدي للمتمتع والقارن: فيه حجة لمالك في قوله بأن طواف الدخول إذا وصل بالسعي يجزئ عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلاً أو نسيِّه ولم يذكره حتى رجع إلى بلد وعليه الهدي. ولا أعلم أحدًا قاله غيره وغير أصحابه والله أعلم)).اهـ. وسيأتي للشارح في الباب المشار إليه آنفًا أن الطواف في حديث ابن عمر المراد به: السعي بين الصفا والمروة، وأن طواف الإفاضة لا يجزئ عنه طواف القدوم. قال: ولا قائل بأن طواف القدوم يجزئ عن طواف الإفاضة بوجه.اهـ.
(6) "الإكمال" (4/287).
(7) ؟؟؟.
(8) في (ز): ((الزا)).
(9) في (ز): ((المضارع)).
(10) نَزَع يَنْزِع؛ بفتح عين الفعل في الماضي وكسرها في المضارع، هذا هو الأصل فيه؛ لأن الأصل المخالفة بين الحركتين في الماضي والمضارع؛ وإنما فتحت مع حرف الحلق في المضارع كانفتاحها في الماضي؛ لأن حروف الحلق ((سلفت في الحلق فكرهوا أن يتناولوا حركة ما قبلها بحركة ما ارتفع من الحروف؛ فجعلوا حركتها من الحرف الذي في حيزها وهو الألف)) وهذا إذا كانت حروف الحلق لامًا، ((وكذلك حركوهن إذا كنَّ عينات)) قال سيبويه (4/101- 102): وقد جاءوا بأشياء من هذا الباب على الأصل (أي: المخالفة بين الحركتين) قالوا: بَرَا يبرُءُ... وهَنَأَ يهيئُ... وقالوا: نَزَع ينزِع ورجع يرجع...إلخ.
ويتبين أن قول الشارح ((بفتح العين وبضمها)) غير متجه، ونشير إلى عبارة القاضي في "الإكمال" (4/288)، فإنه لم يذكر الضم، بل قال: ((وإلا فكل ما جاء على فعل مما عينه أو لامه حرف حلق فمستقبله ((يفعل)) بالفتح أيضًا)).
(11) وقع هنا خلط في الاسم بين أبي سيارة عُمَيْلة بن خالد الذي كان يفيض بالناس من عرفات في الجاهلية، وأبي سيارة الْمُتَعِيّ الصحابي، والصواب هنا: عميلة بن خالد، قال الحافظ في "الإصابة" (11/185) في ترجمة أبي سيارة المتعي: وقد ظن بعض الناس أنه أبو سيارة الذي كان يفيض بالناس من عرفات في الجاهلية، وليس كذلك؛ فقد ذكر الفاكهي أن أبا سيارة كان قبل أن يغلب قصي على مكة، فهذا يدل على تقدم عصره عن زمن البعثة. ويؤيد التفرقة بينهما أن هذا متعي وذاك عَدْواني ويقال: عامري من بني عامر بن لؤي، واسم هذا عمر أو عمير أو عامر، واسم ذاك عميلة - مصغرا - ابن خالد بن سعد...».الخ. وقد ذكر المزي في "تهذيب الإكمال" (33/398) أن اسم الصحابي: عميرة بن الأعلم وقيل: عمير بن الأعلم. قال: وقال أبو القاسم النبوي: بلقي عن يحيى بن معين أن اسمه عميرة بن الأعزل.اهـ.(3/342)
وقولُه: «فلما أجاز رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمشعرِ الحرامِ لم تَشُكَّ قريشٌ أنَّه سيقتصرُ عليه، ويكونُ منزلُه ثَمَّ»؛ يعني: أنهم توهَّموا أنه (1) يفعلُ كما كانت هي تفعلُ في الجاهليةِ؛ فإنهم كانوا يرون لأنفسِهم أنهم لا يقفون بعرفةَ، ولا يخرجون من الحرمِ، ويقفون بالمشعرِ الحرامِ بدلَ وقوفِ الناسِ بعرفةَ، وهذا مما كانوا ابتدعوه في الحجِّ، فلما حجَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحكم الله الحجَّ، وأزال ما ابتدعتْه (2) الجاهليةُ، وأنزل الله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (3) ، يخاطبُ قريشًا، ويأمرُهم بأن يقفوا بعرفَة حيثُ يقفُ غيرُهم من الناسِ، وكذلك فعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فعدل عن المشعرِ الحرامِ إلى عرفةَ، فوقف بها، وهي سُنَّةُ إبراهيمَ المعروفةُ عندَ العربِ وغيرِهم.
وقولُه: «نحرتُ ههنا، ومنى كلُّها منحرٌ»؛ يعني: أنه وإن كان قد نحر في ذلك الموضع المخصوص من منى، فالنحرُ واسعٌ في كلِّ مواضعِها (4) ، وهو متفقٌ عليه، وكذلك عرفةُ ومزدلفةُ، غيرَ أن توخِّي موقفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ومنحرِه أولى؛ تبرُّكًا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبآثارِه، وفي حديث مالكٍ (5) : «عرفةُ كلُّها موقفٌ، وارتَفِعُوا عن بطنِ عُرَنَةَ»، وهو وَادٍ في عرفةَ (6) . قال ابنُ حبيبٍ: وفيه مسجدُ عرفةَ، وهو من الحرمِ،، واتفق العلماءُ: على أنه لا مُوْقِفَ (7) فيه،، واختلفوا فيمن وقف في عُرَنَة: فقال أبو مصعبٍ: هو كمن لم يقفْ، وحُكي عن الشافعيِّ،، وقال مالكٌ: حَجُّه صحيحٌ وعليه دمٌ؛ حكاه عنه (8) ابنُ المنذرِ.
ومن وقف في المسجدِ أجزأه عندَ مالكٍ، وقال =(3/343)=@
__________
(1) قوله: «كان» سقط من (غ).
(2) في (ز): «ابتدعوه».
(3) سورة البقرة؛ الآية: 199.
(4) في (ز): «موضعها».
(5) في "الموطأ" (1/388 رقم166) في الحج، باب الوقوف بعرفة والمزدلفة بلاغًا وهذا اللفظ جاء من حديث جابر، وجبير بن مطعم، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة:
أما حديث جابر: فأخرجه ابن ماجه (3012) من طريق القاسم بن عبدالله العمري، ثنا محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كل عرفة موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة،، وكل المزدلفة موقف، وارتفعوا عن بطن محسر،، وكل منى منحر، إلا ما وراء العقبة». والقاسم العمري هذا متروك.
وأما حديث جبير بن مطعم: فأخرجه أحمد (16751) من طريق سليمان بن موسى الأموي الأشدق، عن جبير بن مطعم به مرفوعًا، وسليمان بن موسى هذا ضعيف، وقد اضطرب فيه اضطرابًا كثيرًا، فيرويه مرة عن جبير كما مضى، ومرة عن عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير، وعبد الرحمن هذا مجهول، ومرة يرويه عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه.انظر حاشية "المسند" حديث (16751)، و"نصب الراية" (3/61).
وأما حديث ابن عباس: فأخرجه ابن خزيمة (2816)، والحاكم (1/462)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1194)، والبيهقي (5/115)، والطبراني في "الكبير" (11001) [يراجع المحدثون أي جزء] من طريق ابن عيينة، عن زياد بن سعيد، عن أبي الزبير، عن أبي معبد، عن ابن عباس به. وصححه ابن خزيمة والحاكم، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/251): «رواه البزار ورجاله ثقات».
وأما حديث ابن عمر: فأخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/278) من طريق عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر، عن عبيدالله وعبدالله ابني عمر، عن نافع، عن ابن عمر به مرفوعًا. وعبدالرحمن بن عبدالله بن عمر، قال عنه ابن عدي: «عامة ما يرويه مناكير، إما إسنادًا أو متنًا».اهـ. وأخرجه ابن أبي شيبة (13881) عن عبدالأعلى، عن هشام بن حسان، عن نافع، عن ابن عمر من قوله، موقوفًا عليه.
تنبيه: قال الزيلعي في "نصب الراية" (2/19): «أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر»، ولم أقف عليه عند ابن ماجه في حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن عدي في "الكامل" (7/261)، وفي إسناده: يزيد بن عبدالملك بن المغيرة، وهو ضعيف.
(6) في (أ): «وادي عرفة». وقد تقدم النقل عن النووي في "شرح مسلم" (8/181) أنه ليس من أرض عرفات عند العلماء كافة إلا مالكًا. وانظر: "المنتقى" (3/17).
(7) في (أ): «موقف».
(8) سقط من (ز) وفي "الإكمال" (4/289): ((عنهما)) أي: عن الشافعي ومالك.(3/343)
أصبغُ: لا يجزئُه (1) .
و«عُرنة» بضمِّ العينِ والراء، وذكرَه ابنُ دريدٍ بفتحِ الراءِ (2) ، وهو الصوابُ.
وقولُه: «وجَمْعٌ كلُّها موقفٌ» في رواية مالكٍ: «وارتَفِعُوا عن بطنِ مُحَسِّرٍ». اتفق العلماءُ على الأخذِ بهذا الحديثِ، وتَرْك ِالوقوفِ به، واستحبُّوا الوقوفَ حيثُ المنارةُ، وحيثُ تقفُ الأئمةُ بين الجبلين، ومُحَسِّرٌ ليسَ من المزدلفةِ. والله أعلم (3) .
من (4) بِابِ قولِه تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (5)
أي: تفرَّقوا، والإفاضةُ: التفرُّقُ في كثرةٍ؛ من إفاضةِ الماءِ؛ قال :
فأَفَضْن (6) بَعْدَ كُضُومِهِنَّ (7) بحرة (8) ... مِنْ ذِي الأَبارِقِ إِذْ رَعَيْنَ جَفِيلا (9)
=(3/344)=@
__________
(1) في (ز): «لا يجزئ».
(2) "الجمهرة" (2/774)، و"الاشتقاق" (ص226).
(3) ينظر: "المنتقى" (3/17)، و"الإكمال" (4/289- 290).
(4) في (ز): ((ونم)).
(5) سورة البقرة؛ الآية: 199.
(6) في (أ): «فأفض».
(7) كذا في (أ)، وفي (ز): «كظوظهن». وكلاهما تحريفُ: ((كظومهن)) وانظر تخريج البيت في تعليق الآتي.
(8) كذا في النسختين، والصواب: ((بِجِرَّةٍ)). وانظر التعليق التالي.
(9) كذا في النسختين، والصواب: ((حقيلا))، وصواب إنشاد البيت كله هكذا:
وَأَفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنّ بِجِرَّةٍ ... مِنْ ذِي الْأَبَارِقِ إِذْ رَعَيْنَ حَقِيلَا
مع اختلافات في روايته تذكراه إن شاء الله.
والبيت من الكامل، للراعي النميري عبيد بن الحصين بن جندل، من قصيدة مطلعها:
مَا بَالُ دَفِّكَ بِالْفِرَاشِ مَذِيلاَ ... أَقَذًى بِعَيْنِكَ أَمْ أَرَدْتَ رَحِيلاَ؟
لَمَّا رَأَتْ أَرَقِي وَطُولَ تَلَدُيِ ... ذَاتَ الْعِشَاءِ وَلَيْلِيَ الْمَوْصُولَا
قَالَتْ خُلَيْدَةُ مَا عَرَاكََ؟ وَلَمْ تَكُنْ ... يَوْمًأ إِذَا عَرَتِ الشُّئُونُ سَئُولَا
أَخُلَيْدُ، إِنَّ أبَاكِ ضَافَ وِسَادَهُ ... هَمَّانِ بَاتَا جَنْبَةً وَدَخِيلَا
طَرَقَا، َفتِلْكَ هَمَا هِمِي أَقْرِيهِمَا ... قُلُصًا لَوَاقِحَ كَالْقِسِيِّ وَحُولَا
إلى أن قال:
حَتّى إِذَا بَرَدَ السِّجَالُ لُهَابَهَا ... وَجَعَلْنَ خَلْفَ غُرُوضِهِنَّ ثَمِيلَا
وَأَفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةٍ ... مِنْ ذِي الْأَبَارِقِ إِذْ رَعَيْنَ حَقِيلَا
جَلَسُوا عَلَى أكْوَارِهَا فَتَرَادَفَتْ ... َصخِبَ الصَّدَى جَرَعَ الرِّعَانِ رَحِيلَا
أفضن: دفعن. كظومهن: إمساكهن عن الجِرَّة. والجِرَّة: ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه. وذو الأبارق: موضع ويوري البيت: ((ذي الأباطح)) ((وذي الأباطل)).
وحقيل: اسم موضع وهو ذو الأبارق نفسه، أو موضع بذي الأبارق، وقيل: حقيل: نبت. والأول أصح، قال ثعلب: ذو الأبارق وحقيل موضع واحد، فأراد: من ذي الأبارق إذ رعيته "مجالس العلماء" (ص80).
ومعنى البيت: أن هذه الإبل كانت ممسكة عن الاجترار، ثم دفعت ما في بطونها إلى فمها لتمضغه.
والشاهد في البيت قوله: ((وأفضن)) بمعنى: ((دفعن)). واستشهاد الشارح بالبيت فيه اضطراب؛ حيث كان الأولى أن يذكره بعد تفسير الأصمعي الآتي - للإفاضة بالدفعة، لا بعد ما ذكره؛ نم أن الإفاضة التفرق والانتشار في كثرة، وراجع مصادر التخريج الآتية:
والبيت للراعي النميري في "ديوانه" (شعر الراعي النميري) (ص52)، "جمهرة أشعار العرب" (2/926)، و"مجالس العلماء" للزجاجي (ص39، 80)، و"مقاييس اللغة" (1/226)، و"المجمل" (1/245) (الشطر الثاني فقط)، "تهذيب اللغة" (10/160)، (12/78)، "الصحاح" (4/1669) (الشطر الثاني)، و"اللسان" (7/212) (فيض)، (11/162) (حقل، وفيه: ((بحرة)) تحريف) و(12/520) (كظم)، و"التاج" (10/130) (فيض) و(14/157) (حقل، وفيه: ((الحرة)) تحريف) و(17/620) (كظم)، و"معجم البلدان" (2/279)، "معجم ما استعجم" (1/460) وفيهما: ((بحرة))، و"تفسير القرطبي" (4/203)، (8/319)، وبلا نسبة في "مقاييس اللغة" (2/88) (الشطر الثاني)، (4/465)، و"الصحاح" (3/1100)، و"المجمل" (2/709) (الشطر الثاني)، و"جمهرة اللغة" (1/558)، و"تفسير القرطبي" (16/184).(3/344)
وقال الأصمعيُّ: الإفاضةُ: الدَّفْعَةُ، ومنه: فيضُ الدَّمْعِ. وقال الخطابيُّ: أصلُ الفيضِ: السَّيَلانُ (1) .
واختلف المفسِّرون فيمن المرادُ: بـ«الناسِ (2) »؛ فقيل المراد: آدم (3) ، وقيل: إبراهيمُ عليهما السلام (4) ، وقيل: سائرُ الناسِ غيرَ الْحُمْسِ، وهم (5) قريشٌ ومن وَلَدَتْ، وكِنانةُ وجَدِيلةُ،، وسُمُّوا ((حُمْسًا))؛ لأنهم تحمَّسوا في دينِهم؛ أي: تشدَّدوا، ولذلك كانوا إذا (6) ابتدَعوا أمرًا دانت (7) لهم العربُ به.
وقال الحربُّي: سُمُّوا ((حمسًا)) بالكعبة؛ لأنها حَمْسَاءُ (8) ؛ حجرُها أبيضُ يضربُ إلى السَّوادِ (9) .
وكان مِمَّا ابتدعتْه الْحُمْسُ: أنه لا يطوفُ أحدٌ بالبيتِ وعليه أثوابُه إلا الْحُمْسَ؛ فكان (10) الناسُ يطوفونَ عراةً إلا الْحُمْسَ، أو مَنْ يُعطيه أحمسيٌّ ثوبًا، فإن طاف أحدٌ في ثوبِه ألقاه بالأرضِ، ولم يَعُدْ له، ولا يأخذُه أحدٌ، لا هو ولا غيرُه، ولا ينتفعُ به. وكانت تُسمَّى تلك الثيابُ ((اللَّقَى)) (11) لإلقائها بالأرضِ، فأنزل الله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} (12) ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» (13) . وكذلك كانوا يُفيضون من مزدلفةَ، =(3/345)=@
__________
(1) نقله عن "الإكمال" (4/293) وعبارة الخطابي في "غريب الحديث" (2/219) في تفسير تسمية طلحة بالفياض: والفياض الجواد الواسع العطاء... وأصله من قولك: فاض الماء؛ إذا سال،، وحديث مستفيض؛ أي: واسع منتشر.اهـ.
وقال في أعلام الحديث (3/1810): الإفاضة معناها التفرق والانتشار، ولا تكون إلا عن اجتماع في مكان.اهـ. بتصرف يسير.
(2) ينظر "تفسير الطبري" (4/184- 191).
(3) ذكره ابن جني في تفسير قراءة سعيد بن جبير: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسِي)؛ لقوله تعالى عن آدم: {فنسي ولم نجد له عزما} [طه: 115] فصارت صفة غالبة له. وذكره البغوي في تفسيره عن الزهري واستدل بقراءة سعيد، وكذلك ذكره العكبري والقرطبي. ينظر: "المحتسب" (1/119)، والبغوي (1/186)، و"التبيان" (1/164)، والقرطبي (1/424).
(4) قوله: «فقيل المراد آدم وقيل: إبراهيم عليهما السلام»، في (ز): ((فقيل: آدم عليه السلام، وقيل: إبراهيم عليه السلام)).
(5) أي: الحمس.
(6) قوله: «إذا» سقط من (ز).
(7) في (أ): «أدانت».
(8) في (ز): ((حمسًا)).
(9) ينظر: "مشارق الأنوار" (1/201)، "الإكمال" (/291- 292)، "النهاية" (1/440).
(10) في (أ): «وكان».
(11) اللَّقى - وزان ((العصا))-: الشيء الملقى المطروح. "المصباح" (ص287).
(12) سورة الأعراف؛ الآية: 31.
(13) سيأتي في باب في فضل يوم عرفة ويوم الحج الأكبر.(3/345)
والناسُ من عرفةَ، فأنزل الله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (1) ، فأحكم الله آياتهِ. والله أعلم (2) .
ومن باب الإهلال بما أهل به الإمام
قولُه: «وهو مُنِبطحٌ (3) بالبطحاء»؛ أي: مضطجعٌ ببطحاءِ مكةَ، وهي المسمَّاةُ بالأبطحِ والمحصَّبِ.
وقولُه: «لبيتُ (4) بإهلالٍ كإهلالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - »؛ وهذا كما تقدَّم من إهلالِ عليٍّ (5) رضي الله عنه، وظاهُره: أنه يجوزُ أن يُهلَّ من غيرِ تعيينِ حجٍّ ولا عمرةٍ، ويحيلَ في التعيينِ على إحرامِ فلانٍ إذا تحقَّق أنه أحرمَ بأحدِهما،، وقد اختُلف في هذا؛ فقال بمنعِه مالكٌ، وأجازه الشافعيُّ، كما تقدَّم.
قلتُ (6) : ولا تتمُّ حجَّةُ الشافعيِّ - رضي الله عنه - بهذا الحديثِ، ولا بحديثِ عليٍّ، حتى يتبينَ أنهما حين (7) ابتدأا الإحرامَ لم يعلما عينَ ما أحرم به (8) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ يجوزُ أن يكون كلُّ واحدٍ منهما نُقِل إليه عينُ ما أحرم به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولفظُهما محتملٌ. والله أعلم (9). =(3/346)=@
__________
(1) سورة البقرة؛ الآية: 199.
(2) قوله: «والله أعلم» زيادة من (ز).
(3) كذا في النسختين، وهو محرف عن ((منيخ)) الواردة في متن الحديث في "التلخيص" و"صحيح مسلم". وهي من أناخ الإبل: إذا أبركها ونزل في منزل ليستريح ويقيل، وما ذكره الشارح من تفسيرها بـ((مضطجع)) جوز؛ والاضطجاع في أنواع الاستراحة المطلوبة للنزول. وأولى منه تفسير الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/417): ((أي: نازل بها)).
(4) كذا في النسختين، وفي "التلخيص" و"صحيح مسلم": ((لبيك)).
(5) تقدم في باب في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(6) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(7) في (ز): «حيث».
(8) في (أ): «ما به أحرم».
(9) قوله: «والله أعلم» زيادة من (ز).(3/346)
وقولُه: «وكنتُ أفتي الناسَ به»؛ يعني: بالتحلُّل لمن (1) أحرمَ بالحجِّ بعملِ العمرةِ، وكأنَّ أبا موسى اعتقد عمومَ مشروعيةِ ما أمر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من التحلُّلِ، وتعدِّيَهُ لغيرِ الصحابةِ، ولم يرَ أنَّ ذلك خاصٌّ بالصحابةِ، كما اعتقدَ غيُره منهم.
و«رُويدَكَ»؛ أي (2) : ارْفُقْ رِفْقَكَ (3) ، أو كُفَّ بعضَ فتياكَ؛ فيصحُّ أن يكونَ مصدرًا ومفعولاً (4) ، فيكونُ مثلَ قولِ امرئِ القيسِ:
َفَاطمَ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدَلُّلِ (5)
و«فليتئد»: فليرفُقْ.
وقولُ عمر: «إن نأخذُ بكتابِ الله فإنَّ كتابَ الله يأمرُ بالتمامِ»؛ يعني في قوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} (6) .
وقولُه: «وإن نأخذ بسُنَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحلَّ حتى (7) نحر الهدْيَ»؛ يعني: أن (8) حجَّةَ الوداعِ لم يحلَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منها حتى رمى جمرةَ العقبةِ، ولم يحلَّ بعمرةِ، كما فعلَ أصحابُه، رضي الله عنهم أجمعين. =(3/347)=@
__________
(1) في (ز): «فمن».
(2) سقط من (أ).
(3) في (ز): «رفقتك».
(4) يعني الشارح بالذي يصح أن يكون مصدرًا أو مفعولاً؛ فهي اسم فعل من أسماء الأفعال المنقولة عن المصادر المستعملة الأفعال، ولا محل له من الإعراب. وأصله ((إرواد)) ثم صغر تصغير ترخيم؛ فـ((رويدًا زيدًا)) أصله: أرود زيدًا إروادًا؛ بمعنى: أمهله إمهالاً، ويستعمل كما مضى منونا ناصبًا لمفعولِه، وتارة مضافًا إلى مفعول،: ((رويدَ زيدٍ))، ثم نقل فسمِّي به الفعلُ؛ فصار: ((رويدَ زيدًا)) مبنيًّا. والكاف التي تلحقه في نحو: ((رويدك زيدًا)) حرف خطاب وليست اسمًا، تدل على المخاطب المخصوص. أما ((رويد)) في ((رويدًا زيدًا)) و((رويدَ زيدٍ)) فهي في موضع نصب على المصدر (المفعول المطلق)، وقد تستخدم صفة: ((ساروا سيرًا رويدًا)) أو حالاً ((ساروا رويدًا)) ويمكن أن تكون هنا وصفا لمحذوف يقدر كالأول.
وأما ((بعض فتياك)) في الحديث، ففي موضع نصب على المفعول به لـ((رويد))، أو لفعلٍ محذوفٍ؛ كما قدره الشارح، أو يكون منصوبًا على المصدر؛ أي يكون نائبًا عن المصدر في باب المفعول المطلق؛ أي: أفتِ بعض فتياك، والمعنى: أفت فيما لا يخالفك فيه عمر فحسب. غير أن تقدير الشارح فيه نقض، والأولى أن يقول: أمهل بضع فتياك، أو: ارفق وأفت بعض فتياك، أو: ارفق وكف بعض فتياك. والله أعلم.
وانظر: كتاب سيبويه (1/243- 245)، و"شرح الأشموني" (3/372 - 373)، و"التصريح على التوضيح" (2/288- 289)، و"النهاية" (2/276).
(5) والبيت من بحر الطويل، وهو من معلقة امرئ القيس الشهيرة: ... ............................
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
وهذا صدره، وعجزه:
................................ ... وإن كنت قد أزمعت صَرْمِي فأجملِي
و((أفاطمَ)) نداء ترخيم، يريد: يا فاطمةُ، فأسقط الهاء وترك الميم مفتوحة، ويجوز: ((أفاطمُ)) على أن يجعل اسمًا فيرفع آخره. و((مهلا)): تمهَّلقي، ((بعض)) منصوب بفعلٍ مضمر؛ كأنه قال: مهلاً أبقي بعض هذا التدلل)) فحذف الفعل لأن ((مهلاً)) يدل عليه. ويروى ((أفاطم أبقي بعض هذا التدلل)).
ويمن هنا أن تكون ((بعض)) نائبًا من المصدر في باب المفعول المطلق، والتقدير: ((تدلَّلي بعضَ هذا التدلُّل))، وهذا هو موضع الشاهد، حيث إن ((بعض)) نصبت على ((المصدر)) أو على ((المفعول به)).
والبيت في معلقة امرئ القيس في "ديونه" (ص169)، و"شرح القصائد السبع الطوال" (ص42)، "شرح المعلقات السبع" للزوزني (ص45)، و"الجنى الداني" (ص35)، و"خزانة الأدب" (11/222)، و"رصف المباني" (ص141)، و"شرح التصريح على التوضيح" (2/264)، و"مغني اللبيب" (ص21)، و"أوضح المسالك" (4/62)، و"تاج العروس" (8/113) (عنز)، (11/194) (زمع) (14/240) (دلل).
(6) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(7) قوله: «لم يحل حتى» سقط من (ز). [فليراجع المخطوطات].
(8) سقط من (ز).(3/347)
وقولُه: «قد فعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه»؛ يعني به: فسخَ الحجِّ في العمرةِ. ونسبةُ الفسخِ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأنه أمر بفعلِه. واعتلالُه بقولِه: «كرهتُ أن يظلُّوا بهنَّ مُعْرِسِين في الأراك»؛ يعني: أنه كره أن يحلُّوا من حجِّهم بالفسخِ المذكورِ، فيطَؤون نساءَهم قبلَ تمامِ الحجِّ الذي كانوا أحرموا به،، ولا يُظنُّ بمثلِ عمرَ رضي الله عنه - الذي جعل الله تعالى الحقَّ على لسانه وقلبِه - أنه منع ما جوَّزه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، بالرأيِ والمصلحةِ؛ فإن ذلك ظنُّ مَنْ لم يعرفْ عمر رضي الله عنه، ولا فهم استدلالَه المذكورَ في الحديثِ، وإنما تمسَّك - رضي الله عنه - بقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (1) ؛ ففهم أن من تلبَّسَ بشيءٍ منهما وجب عليه إتمامُه، ثم ظهر له أن ما أمر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه قضيةٌ معينةٌ مخصوصةٌ، على ما ذكرناه فيما تقدَّم، فقضى بخصوصية ذلك لأولئك (2) . ثم إنه (3) أطلق الكراهيةَ وهو يريدُ بها التحريمَ، وتجنبَ لفظَ التحريمِ؛ لأنه مما أدَّاه إليه اجتهادُه، وهذه طريقةُ كبراءِ الأئمةِ؛ كمالكٍ، والشافعيِّ، وكثيرًا ما يقولون: ((أكرهُ كذا)). وهم يريدون التحريمَ، وهذا منهم تحرُّزٌ، وحَذَرٌ من قولِه تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرام} (4) .
«مُعْرِسِين»: جمع مُعْرِس، وهو الذي يخل وبِعِرْسِهِ؛ أي: بزوجته. ولا يصحُّ =(3/348)=@
__________
(1) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(2) في (أ): «بأولئك».
(3) سقط من (أ).
(4) سورة النحل؛ الآية: 116.(3/348)
أن يكون من التعريس؛ لأن الروايةَ بتخفيفِ العينِ والراءِ؛ ولأن التعريسَ إنما هو النزولُ من آخرِ الليلِ، كما تقدَّم، ويناقضُه قولُه: «يظلُّون ويروحُون»، فإنهما إنما يقالان على عملِ النهارِ. والله أعلمُ (1) .
ومن بابِ الاختلافِ في أيِّ أنواعِ الإحرامِ أفضلُ
قد تقدَّم أنَّ أنواعَ الإحرامِ ثلاثةٌ: إفرادٌ، وقرانٌ، وتمتعٌ (1) ، وأنها مجمعٌ عليها، وإنما الخلافُ في الأفضلِ منها. واختلف المتأوِّلون في هذه المتعةِ التي اختلف فيها عثمانُ وعليٌّ رضي الله عنهما: هل هي فسخُ الحجِّ في العمرةِ، أو هي (2) التي يجمَعُ فيها بينَ حجٍّ وعمرةٍ (3) في عامٍ (4) واحدٍ وسفرٍ واحدٍ؟
فمن قال بالأولِ صرف خلافَهما إلى: أن عثمان - رضي الله عنه - كان يراها خاصَّةً بمن كان مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حجِة الوداعِ، وكان عليٌّ - رضي الله عنه - لا يرى خصوصيتَهم بذلك؛ ويستدلُّ على هذا بقولِ عثمانَ: ((أجل؛ ولكنا كنا خائفين))؛ أي: من فسخِ الحجِّ في العمرةِ؛ فإنه على خلاف الإتمام الذي =(3/349)=@
__________
(1) قوله: «والله أعلم» زيادة من (أ).
(2) تقدم في باب أنواع الإحرام.
(3) في (ز): ((وهي)).
(4) في (أ): ((الحج والعمرة)).
(5) في (ز): ((عمل)).(3/349)
أمر الله تعالى به، وفيه بُعدٌ.
والأظهرُ: القولُ الثاني؛ وعليه: فخلافُهما إنما كان في الأفضلِ؛ فعثمانُ رضي الله عنه كان يعتقدُ أن (1) إفرادَ الحجِّ أفضلُ، وعليٌّ رضي الله عنه كان يعتقدُ أن التمتعَ أفضلُ؛ إذ الأمةُ مجمعةٌ على أنَّ كلَّ واحدٍ منهما جائزٌ؛ وعليه فقولُه: ((ولكنَّا كنَّا خائفين))؛ أي: من أن يكون أجرُ من أفردَ أعظمَ من أجرِ من تمتعَ منهم؛ فالخوفُ (2) من التمتع (3) ،، ولما ظنَّ عليٌّ أن ذلك يُتلقَّى من عثمانَ، ويُقتدَى به؛ فيؤدِّي ذلك إلى تركِ التمتعِ والقِرانِ؛ أَهَلَّ بالقرانِ ليبينَ أنَّ كلَّ واحدٍ منهما مَشْروُعُ (4) ، أو لأنهما عندَه أفضلُ من الإفراد؛ من حيث أن كلَّ واحدٍ منهما في عملين، والمفردُ في عملٍ واحدٍ، والله أعلم.
وهذا الذي ظهر لعثمانَ هو الذي كان ظهرَ لعمرَ - رضي الله عنهما - من قبلِه، كما قال عمرانُ بنُ حصينٍ، فإنه ظهر من استدلالِ عمرَ - بأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جَمَع بين حجٍّ وعُمْرةٍ - أنَّ الذي منعه عمرُ هو ما عدا الإفرادَ، وهذا منه محمولٌ على أنَّه كان يعتقدُ أن الإفرادَ أفضلُ من التمتعِ والقِرَانِ، وكان عمرانُ يعتقدُ أن الإفرادَ (5) أفضلُ؛ ولذلك قال (6) : ((قال رجلٌ برأيه ما شاء)) - يعني به: عمرَ - بعدَ أن روى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ. وليست هذه المتعة التي منعها عمر هنا هي التي منعها هو في حديثِ ابنِ الزبيرِ، بل تلك فَسخُ الحجِّ في العمرةِ، كما تقدَّم (7) .
وعلى الجملة فأحاديثُ هذا البابِ كثيرةُ الاختلافِ والاضطرابْ، وما ذكرناه أشبهُ بالصوابْ. والله الموفقُ الملهمُ.
وقولُ عمران (8) : ((إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد أعمر طائفةً من أهلِه في العشر))؛ أي: =(3/350)=@
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): ((والخوف)).
(3) قال الحافظ في "الفتح" (3/425) عن قوله: ((ولكنا كنا خائفين)):
قلت: هي وراية شاذة، فقد روى الحديثَ مروان بن الحكم وسعيد بن المسيب، وهما أعلم من عبد الله بن شقيق، فلم يقولا ذلك، والتمتع إنما كان في حجة الوداع، وقد قال ابن مسعود؛ كما ثبت عنه في الصحيحين: كنا آمن ما يكون الناس. وقال القرطبي: قوله: ((خائفين)) أي: من أن يكون أجر من أفرد أعظم من أجر من تمتع. كذا قال، وهو جمع حسن، ولكن لا يخفى بعده. ويحتمل أن يكون عثمان أشار إلى أن الأصل في اختياره - صلى الله عليه وسلم - فسخ إلى العمرة في حجة الوداع: دَفْعَ اعتقِاد قريش منعَ العمرة في أشهر الحج، وكان ابتداء ذلك بالحديبية؛ لأن إحرامهم بالعمرة كان في ذي القعدة وهو من أشهر الحج، وهناك يصح إطلاق كونهم خائفين؛ أي: من وقوع القتال بينهم وبين المشتركين، وكان المشركون صدوهم عن الوصول إلى البيت، فتحللوا من عمرتهم، وكانت أول عمرة وقعت في أشهر الحج، ثم جاءت عمرة القضية في ذي القعدة أيضًا، ثم أراد - صلى الله عليه وسلم - تأكيد ذلك بالمبالغة فيه حتى أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة.
(4) في (ز): ((مسوغ)).
(5) كذا في النسختين، وكتب في حاشية (أ): ((لعله القران)). وهو الصواب؛ يدل عليه أنه قاوله بعد أن روى عن النبي أنه قرن؛ كما سيذكره الشارح. وانظر: "الاستذكار" (13/90).
(6) سقط من (ز).
(7) تقدم في باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة .
(8) في (أ): ((عمر)).(3/350)
أباح لهم أن يُحرموا بالعمرةِ حين أحرموا من ذي الحليفةِ؛ فيعني بالعشرِ: عشرَ ذي القعدةِ الأخيرَ (1) ، فإنهم أحرموا لستٍّ بقينَ منه،، ويحتمل أن يريدَ به: عشرَ ذي الحجةِ؛ فإنهم حلُّوا بفراغِهم من عملِ العمرةِ في الخامِس منه، على ما تقدَّم في حديثِ عائشة (2) . والله أعلمُ.
وقولُه: ((قال عثمانُ لعليِّ - رضي الله عنهما - كلمةً))؛ يعني: كلمةً أغلظ له فيها، ولعلَّها التي قال في الرواية الأخرى:((دعنا عنك))؛ فإن فيها غِلَظًا وجفاءً بالنسبِة إلى أمثالِهما (3) . والله أعلم.
وقول عمران: ((وقد كان يسلم عليَّ حتى اكتويت)) يعني (4) : أنَّ الملائكَة كانت تسلِّم عليه؛ إكرامًا له واحترامًا، إلى أن اكتوى، فتركت السَّلامَ عليه؛ ففيه: إثباتُ كراماتِ الأولياءِ، وأن الكيَّ ليس بمحرمٍ كما؛ قدَّمناه (5) في كتابِ (6) الإيمانِ (7) ، ولكنَّ تركَهُ أولى. =(3/351)=@
__________
(1) كذا في النسختين، والصواب ((الأُخر)) جمع ((أُخْرى)) قال في "المصباح" (ص213) والعامة تذكر "العشر" على معنى أنه جمع الأيام فيقولون: ((العشرة الأوَّل والعشر الأخير)) وهو خطأ؛ فإنه تغيير المسموع، ولأن اللفظ العربي تناقلته الألسنُ اللُّكْنُ وتلاعبت به أفواه النَّبَط فحرفوا بعضه وبدلوه، فلا يتمسَّك بما خالف ما ضبطه الأئمة الثقات ونطعن به الكتاب العزيز والسنة الصحيحة.
(2) تقدم في باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة .
(3) في (أ): ((أمثالها)) وألفها الأخيرة غير واضحة في (ز).
(4) في (ز): ((معنى)).
(5) في (ز): ((قدمنا)).
(6) سقط من (ز).
(7) باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب.(3/351)
ومن بابِ الهديِ للمتمتعِ والقارنِ
قولُ (1) ابنِ عمر: ((تمتع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حجةِ الوداعِ بالعمرةِ إلى الحجِّ))؛ هذا الذي روي هنا عن ابنِ عمر: من أنه صلى الله عليه وسلم تمتع، مخالفٌ لما جاء عنه في الروايةِ الأخرى (2) من أنه أفرد، واضطرابُ قوليه يدلُّ على أنه لم يكن عندَه من تحقيقِ الأمرِ ما كان عند مَنْ جزم بالأمرِ، كما فعل أنسٌ على ما تقدَّم (3) ؛ حيث قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ)).
ثم اعلم أن كلَّ الرواةِ الذين رووا (4) إحرامَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليس منهم من قال: إنه صلى الله عليه وسلم حَلَّ من إحرامِه ذلك حتى فرغ من عملِ الحجِّ، وإن كان قد أطلق عليه لفظَ التمتُّعِ، بل قد قال ابنُ عمر في هذا الحديثِ: إنَّه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرةِ، ثم أهلَّ بالحجِّ، ولم يقل: إنه حَلَّ من عمرتِه، بل قد قال في آخرِ الحديثِ بعد أن فرغ من طوافِ القدومِ: إنه صلى الله عليه وسلم: ((لم يَحْلِل من شيءٍ حَرُمَ عليه حتى قضى حجَّه)). وهذا نصٌّ في أنه لم يكنْ متمتعًا؛ فتعيَّنَ تأويلُ قولِه: ((تمتع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم)) فيحتملُ أن يكونَ معناه: قَرَنَ؛ لأن القارنَ يترفَّه بإسقاطِ أحدِ العملين، وهو الذي يدلُّ عليه قولُه بعدَ هذا: ((فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحجِّ)) ويحتملُ أن يكونَ معناه: أنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا أذن في التمتعِ أضافَه إليه، وفيه بُعْدٌ (5) .
وقولُه: ((فأهلَّ بالعمرةِ، ثم أهلَّ بالحجِّ))؛ ظاهرُه: أنه أردفَ، وظاهرُ حديثِ =(3/352)=@
__________
(1) في (أ): ((وقول)).
(2) سيأتي في باب الاختلاف فيما به أحرم النبي صلى الله عليه وسلم .
(3) في باب أنواع الإحرام. وقد تكلم فيه الشارح على رواية ابن عمر واضطرابها.
(4) في (ز): ((ووا)).
(5) وتقدم أن المتعة لفظ مشترك يراد به أكثر من معنى، راجع التعليق على كلام الشارح في باب ما جاء في فسخ العمرة في الحج، "الاستذكار" (11/208).(3/352)
أنسٍ: أنه قرنَهما معًا؛ فإنه حكى (1) فيه لفظَه فقال: سمعتُه يقولُ: ((لبيكَ عمرةً وحجًّا))، وقد استحبَّ مالكٌ للقارنِ أن يقدِّمَ العمرةَ في لفظِه؛ اقتداءً بهذِه الأخبارِ.
وقولُه للمتمتعين: ((فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ)) هذا نصُّ ما تضمنته آيةُ المتعةِ (2) ، وقد اختُلفَ في مواضعَ منها:
أوَّلُها: قولُه: {فما استيسر من الهدي} (3) ، ذهب جماعةٌ من (4) السَّلفِ إلى أنه شاةٌ، وهو قولُ مالكٍ،، وقالت جماعةٌ أخرى: هو بقرةٌ دونَ بقرةٍ، وبَدَنةٌ دونَ بَدَنةٍ (5) ،، وقيل: المرادُ بدنةٌ، أو بقرةٌ (6) ، أو شاةٌ، أو شِرْكٌ في دمٍ (7) .
وقوله: ((فليصم (8) ثلاثةَ أيامٍ في (9) الحجِّ)) ذهبَ مالكٌ والشافعيُّ إلى أن ذلك لا يكونُ إلا بعدَ الإحرامِ بالحجِّ، وهو مقتضى الآيةِ والحديثِ،، وقال أبو حنيفةَ والثوريُّ: يصحُّ صومُ الثلاثةِ الأيامِ بعدَ الإحرامِ بالعمرةِ، وقبلَ الإحرامِ بالحجِّ، ولا يصومُها بعدَ أيامِ الحجِّ (10) ، وهو مخالفٌ لنصِّ الكتابِ والسُّنةِ (11) .
والاختيارُ عندَنا: تقديُم صومِها (12) في أوَّلِ الإحِرامِ، وآخرُ وقتِها: آخرُ أيامِ التشريقِ عندَنا وعندَ الشافعيِّ، فمن فاته صومُها في هذه الأيامِ صامَها عندنا بَعْدُ. وقال أبو حنيفةَ: آخرُ وقتِها يومُ عرفةَ، فمن لم يصمْها إلى يومِ عرفةَ فلا صيامَ عليه، ووجبَ عليه الهديُ،، وقال مثلَه الثوريُّ إذا ترك صيامَها أيامَ الحجِّ،، وللشافعيِّ (13) قولٌ كقولِ أبي حنيفة. =(3/353)=@
__________
(1) في (أ): ((حل)).
(2) يعني: قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196].
(3) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(4) إلى هنا ينتهي الخرم الواقع في النسخة (ح)، وقد أشرنا إلى بدايته في باب فضل صوم ثلاثة أيام، من كتاب الصيام.
(5) روي عن عبد الله بن عمر وعائشة، والمراد: سن دون سن، من الإبل والبقر، رواه عنهما ابن جرير الطبري في "تفسيره" (4/30- 33) (3270- 3284)، وانظر: "التمهيد" (15/190، 229- 230)، و"الاستذكار" (12/87، 249، 313- 314).
(6) من قوله : ((دون بقرة وبدنة ....)) إلى هنا سقط من (ح).
(7) روي عن ابن عباس، عن ابن جرير في "تفسيره" (4/29) (3256).
(8) كذا في النسخ، وكذا رواية الحديث، لكن الشارح أشار إلى أنه سيتكلم عن مواضع من آية المتعة اختلف فيها، وبدأ بقوله تعالى: {فما استيسر من الهدي} فالأولى هنا أن تكون هذه اللفظة: ((فصيام)) كما هي في الآية الكريمة، وهذا هو الموضع الثاني المختلف فيه في الآية.
(9) سقط من (أ).
(10) قوله : ((ولا يصومها بعد أيام الحج)) سقط من (ح).
(11) وقال القاضي عياض في "الإكمال"(4/303): ((وهذا تناقض بيِّنٌ)).
(12) في (أ): ((صومها)).
(13) في (ح): ((والشافعي)).(3/353)
وقولُه: ((وسبعة إذا رجعتم (1) )) حَمَله مالكٌ والشافعيُّ - في أحد قوليهما - على الرجوعِ من منى، وأنه يصومُها إن شاء بمكةَ أو ببلدِه، وهو قولُ أبي حنيفة،، وللشافعيِّ ومالكٍ قولٌ آخرُ: أنه الرجوعُ إلى بلدِه، ولا يصومُها حتى يرجعَ إلى أهلِه (2) .
وقولُ حفصة: ((إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر أزواجَه أن يحلِلْنَ عامَ حجَّة الوداعِ))؛ إنما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم ليسوِّيَ بينهنَّ وبين من لم يَسُقِ الهديَ من الناسِ الذين أهلُّوا بالحجِّ؛ لأن أزواجَه صلى الله عليه وسلم لم يَسُقْنَ الهديَ.
وقولُها: ((ما يمنعُك أن تحلَّ؟)) كذا في روايةِ ابن جريجٍ عن نافعٍ، عن =(3/354)=@
__________
(1) قوله: ((وسبعة إذا رجعتم)) في (أ): ((وسبعة إذا رجع))، وفي (ح): ((سبعة إذا رجعتم))، وفي (ز): ((وسبعة أيام إذا رجع)). وما في (أ) موافق لمتن الحديث في مسلم، إلا أنا لفقنا بين النسخ؛ ليوافق لفظ آية المتعة؛ حديث إن الشارح يتحدث عن مواضع الخلاف في الآية، كما سبق أن أوضحناه، وهذا هو الموضع الثالث.
(2) صحَّح النووي هذا القول الثاني؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - الحديث: ((إذا رجع إلى أهله)). "شرح النووي" (4/211).(3/354)
ابن عمرَ، عنها، ولم يذكرْ فيها: ((من عمرتِكَ))، وذكره (1) مالكٌ وغيرُه عن نافعٍ، ويظهرُ من قولِها هذا: أنه صلى الله عليه وسلم أحرمَ بعمرةٍ وحدَها، كما سيأتي في حديثِ ابنِ عباسٍ (2) : أنه – عليه السلام - أحرمَ بعمرةٍ (3) ، وظاهرُ هذه الرواياتِ حجَّةٌ لمن قال: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا، وقد بينَّا صحيحَ ما أحرمَ به (4) .
وقد تأوَّلَ من قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، هذه الرواياتِ: بأن (5) حفصةَ وابنَ عبَّاسٍ عبَّرا بالإحرامِ بالعمرةِ عن القِرَانِ؛ لأنها السَّابقةُ في إحرامِ القارنِ، قولاً ونيةً (6) ، أو نيةً، ولا (7) سيَّما على ما ظهر من حديثِ ابنِ عمرَ: أنه صلى الله عليه وسلم كان مردفًا، وهذا واضحٌ.
وأما من رأى (8) أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردًا بالحج، فتأوَّل ذلك تأويلاتٍ بعيدةً، أقربُها: أنَّ معنى قولِها: ((من عمرتِكَ))؛ أي: بعمرتِكَ. كما قال تعالى: {يحفظونه من أمر الله} (9) ؛ أي: بأمر الله، وكقولِه: {من كل أمر} (10) ؛ أي: بكلِّ أمرٍ؛ فكأنها قالت: ما يمنعكَ أن تحلَّ بعمرةٍ تصنعُها؟ فأخبرَها بسبِب منعِه (11) من ذلك.، وقد ذكرنا ذلك المعنى مِرارًا. وقال محمدُ بن أبي صفرةَ: مالكٌ يقولُ في هذا الحديثِ: ((من عمرتِكَ))، وغيرهُ يقول: ((من حجِّكَ)) (12) .
وقوله: ((إنَّ ابنَ عمَر أرادَ الحجَّ عام نزل الحَجَّاجُ بابنِ (13) الزبيرِ))، كان (14) من شأنِ ابنِ الزبيرِ: أنَّه لما مات معاويةُ بنُ يزيدَ بنِ معاويةَ، ولم يستخلفْ، بقي الناسُ =(3/355)=@
__________
(1) في (ح): ((وذكر)).
(2) في باب الاختلاف فيما أحرم النبي صلى الله عليه وسلم .
(3) من قوله : ((وحدها كما سيأتي ....)) إلى هنا سقط من (ح).
(4) في باب أنواع الإحرام.
(5) في (ز): ((فإن)).
(6) سقط من (أ). وقد تقدم أن مالكًا يستحب تقديم لفظ العمرة في القران؛ اقتداء بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال في حديث أنس: ((لبيك عمرة وحجا)).
(7) في (ز): ((إلا)).
(8) في (ز): ((روى)).
(9) سورة الرعد؛ الآية: 11.
(10) سورة القدر؛ الآية: 4. وزاد في (أ) و(ز): ((سلام هي)).
(11) في (ز): ((منعها)).
(12) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (15/298- 299):
وزعم بعض الناس أنه لم يقل أحد في هذا الحديث عن نافع: ((ولم تحل أنت من عمرتك)) غلا مالك وحده، وجعل هذا القولَ جوابًا لسائله عن معنى هذا الحديث... وهذه اللفظةُ قد قالها عن نافع جماعة، منهم: مالك، وعبيد الله بن عمر، وأيوب السختياني، وهؤلاء حفاظ أصحاب نافع، والحجة فيه على من خالفهم، ورواه ابن جريج عن نافع فلم يقل: ((من عمرتك...)).
قال أبو عمر: قد علم كل ذي علم بالحديث أن مالكًا في نافع وغيره زيادته مقبولة؛ لموضعه من الحفظ والإتقان والتثبت، ولو زاد هذه الفظة مالك وحده لكانت زيادته مقبولة؛ لفقهه وفهمه وحفظه وإتقانه، وكذلك كل عدل حافظ، فكيف وقد تابعه من ذكرنا؟!
(13) أي: لقتال ابن الزبير؛ كما في الرواية الأخرى عند مسلم (1230/181).
(14) في (ز): ((وكان)).(3/355)
لا خليفةَ لهم جماديَيْنِ وأيامًا من رجبٍ، من سنةِ أربعٍ وستين، فاجتمع مَنْ كان بمكةَ من أهل الحلِّ والعقدِ، فبايعوا عبدَالله بنَ الزبيرِ لتسعِ ليالٍ بقين من رجبٍ من السنةِ المذكورةِ، واستوسق (1) له سلطانُ الحجازِ، والعراقِ، وخراسانَ، وأعمالِ المشرقِ،، وبايع أهلُ الشامِ ومصرَ مروان (2) بنَ الحكِم في شهرِ رجبٍ المذكورِ،، ثم لم يزلْ أمرهُما كذلك إلى أن تُوفي مروانُ وولي ابنهُ عبدُ الملكِ، فمنع الناسَ من الحجِّ؛ لئلَّا يُبايعوا ابنَ الزبيرِ،، ثم إنه جيَّش الجيوشَ إلى الحجازِ، وأمَّرَ عليهم الحَجَّاجَ، فقاتل أهلَ مكةَ وحاصَرهم إلى أن تغلَّبَ عليهم، وقُتلَ (3) ابنُ الزبيرِ، وصلبَه الحَجَّاجُ، وذلك يومُ الثلاثاءِ لثلاثِ ليالٍ - وقيل: لثلاث عشرة - بقيتْ من جمادى الأولى (4) في (5) سنةِ ثلاثٍ وسبعينَ.
و((الأُسوة (6) )): القُدوة؛ يقال بضمِّ الهمزة وكسرها، وقد قرئ بهما ؟؟؟ قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (7) .
و((الصدُّ)): المنعُ.
وقوله: ((أصنعُ كما صنعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم))؛ يعني: أنه إن صُدَّ عن البيتِ حلَّ من إحرامِه؛ كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبيةِ؛ إذ صدَّه كفارُ قريشٍ (8) .
وقولُه: ((إني قد (9) أوجبتُ عُمْرةً)) إنما أخبرهم بذلك ليقتدوا به في ذلك. و((أوجبتُ)): التزمتُ (10) وأهلَلْتُ. =(3/356)=@
__________
(1) استوسق: استجمع وانضمَّ. والمراد: اجتمعت هذه الأقطار على طاعته، واستقر سلطانه فيها. ينظر: "النهاية" (5/184).
(2) في (ح): ((لمروان)).
(3) .
(4) في (أ): ((الآخرة))، وفي (ح): ((الأخرى))، والصواب المثبت من (ز)، وانظر "البداية والنهاية" (8/329)، في إحداث ستة ثلاث وسبعين.
(5) قوله : ((في)) سقط من (ز).
(6) في (أ) و(ح): ((الأسوة)) دون الواو .
(7) سورة الأحزاب؛ الآية: 21.
وقرأ عاصم وحده بضم همزة ((أسوة)) حيث وقعت في القرآن، وقرأ باقي العشرة ((إسوة)) بكسرها، وهما لغتان. "السبعة" (ص520- 521)، و"المبسوط" (ص357)، "غاية الاختصار" (2/619)، "النشر" (2/261)، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" (2/196)، "حجة القراءات" (ص575)، "الحجة للقراء السبعة" (5/472).
(8) ذكر النووي في "شرح مسلم" (8/213) أن هذا هو الصواب في معناه، قال: و قال القاضي: يحتمل أنه أراد أهل بعمرة كما أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهرة في العام الذي أحصر. قال: (أي: القاضي) ويحتمل أنه أراد الأمرين، قال (القاضي): وهو الأظهر. قال النووي: وليس هو بظاهر كما ادعاه، بل الصحيح الذي يقتضيه سياق كلامه ما قدمناه.اهـ. وانظر كلام القاضي في "الإكمال" (4/306).
(9) سقط من (أ) و (ز).
(10) في (ز): ((التزمت)).(3/356)
وقولُه: ((ما شأنُ الحجِّ والعمرةِ إلا واحدٌ))؛ أي: في حكمِ الصَّدِّ؛ يعني: أنه من صُدَّ عن البيتِ بعدوٍّ، فله أن يحلَّ من إحرامِه، سواءٌ كان محرمًا بحجٍّ، أو عمرةٍ، وإن كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إنما صُدَّ عن عمرةٍ؛ لكن لما كان الإحرامُ بالحجِّ مساويًا للإحرامِ بالعمرةِ في الحكم، حمله عليه.
وقولُه: ((أُشهدكم أني قد أوجبتُ حجًّا مع عمرتي))؛ يعني (1) : أنه أردف الحجَّ على عمرتِه المتقدَّمةَ، فصار قارنًا، وفيه حجةٌ على جوازِ الإردافِ، وهو مذهبُ الجمهورِ.
وقولُه: ((وأَهدى هديًا اشتراه بقُديدٍ))؛ يعني: أنه قلَّده هناك وأشعره (2) ، ويعني به: الهديَ الذي وجب عليه لأجلِ قِرانِه.
وقولُه: ((حتى قدم مكَة، فطاف بالبيت))؛ يعني: طوافَ القدومِ، وحصل منه (3) : أنه لم يقعْ له ما توهَّمه من الصَّدِّ. وفيه دليلٌ على جوازِ إحرامِ من توقَّع الصدَّ، وتوهَّمه، بخلافِ من تحقَّقه، فإنه لا يكونُ له حكمُ المصدودِ، على ما يأتي.
وقولُه: ((ورأى أن قد قضى (4) طوافَ الحجِّ والعمرةِ بطوافِه الأولِ))؛ يعني: الطوافَ بين الصفا والمروةِ، وأما الطوافُ بالبيتِ فلا يصحُّ أن يُقال فيه: إنه اكتفى =(3/357)=@
__________
(1) في (ز): ((يعتي)).
(2) في (ح): ((وأشعر)).
(3) سقط من (ز).
(4) في (ز): ((مضى)).(3/357)
بطوافِ القدومِ عن طوافِ الإفاضةِ؛ لأنه هو الركنُ الذي لابدَّ منه للمفرِدِ والقارنِ، ولا قائلَ بأنَّ طوافَ القدومِ يجزئُ عن طوافِ الإفاضةِ بوجهٍ (1) .
وقوله: ((وكذلك (2) فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم))؛ يعني: أنه اكتفى بالطوافِ بين الصَّفا والمروةِ حين (3) طاف للقدومِ، ولم يُعِدِ السعيَ، وفيه حجةٌ على أبي حنيفة؛ إذ قال: إن القارنَ لا يكتفي بعملٍ واحدٍ، بل لابدَّ من عملِ كلِّ واحدٍ من الحجِّ والعمرةِ. والله أعلمُ (4) .
ومن بابِ الاختلافِ فيما به أحرم النبي صلى الله عليه وسلم
قد قدمنا ذكر الاختلاف فيما به أحرم النبيُّ صلى الله عليه وسلم (5) ، وذكرنا ما يردُ عليه، والمختارَ في ذلك، وحديثَ أنسٍ هذا في أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أحرم قارنًا،، ولا يلتفتُ لقولِ من قال: إن أنسًا لعلَّه لم يضبطِ القضيةَ لصغرٍه حينئذٍ؛ لأنه قد أنكر ذلك بقولِه: ((ما تعدُّونا إلا صبيانًا))، ولأنه وإن كان صغيرًا حال التحمُّلِ؛ فقد حدَّث به (6) ، وأدَّاه كبيرًا (7) متثبتًا ناقلاً للفظِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم نقلَ الجازمِ المحقِّق، المنكِرِ على مَن يظنُّ به شيئًا من ذلك؛ فلا يحلَّ (8) أن يقالَ شيءٌ من ذلك،، ولأنه قد وافقه البراءُ بن عازبٍ على =(3/358)=@
__________
(1) انظر ما تقدم في باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، عند الكلام على قوله: ((ثم ركب فأفاض إلى البيت)).
(2) في (ح) و(ز): ((كذلك)).
(3) في (ح): ((من)).
(4) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).
(5) تقدم في باب أنواع الإحرام ثلاثة .
(6) قوله : ((به)) سقط من (ح).
(7) في (ح): ((كثيرًا)).
(8) في (أ): ((فلا يحل له)).(3/358)
نقلِ لفظِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الدَّالِّ على قِرانِه؛ إذ قال لعليٍّ: ((إني سقتُ الهديَ، وقرنتُ))؛ على ما خرَّجه النسائيُّ (1) ، وهو صحيحٌ،، ووافقهما حديثُ عمرَ بنِ الخطابِ الذي قال (2) فيه: ((إِنَّ المَلَكَ أَتَاهُ فَقَالَ: صلِّ ِفي هَذَا الوْادِي الْمُبارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ)) (3) ،، وفي معنى ذلك حديثُ ابنِ عمرَ المتقدِّمُ (4) الذي قال فيه: ((إنه صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالعمرةِ، ثم أهلَّ بالحجِّ)). وقد قدَّمنا: أن معنى قولِ ابنِ عباسٍ: ((إنه صلى الله عليه وسلم أحرم بعمرة)): أنه أردفَ؛ كما قال ابنُ عمرَ،، وبدليلِ الإجماعِ من النقلةِ على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يحلَّ من إحرامِه ذلك حتى قضى حجَّه،، ويمكنُ أن تحملَ روايةُ من روى أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج؛ على أن الراويَ سمع إردافَه بالحجِّ على العمرةِ المتقدِّمةِ، فسمعه (5) يقول: ((لبيك بحجَّةٍ))، ولم يكن عندَه علمٌ من إحرامِه المتقدِّمِ =(3/359)=@
__________
(1) في "سننه" (5/148-149 رقم2725) في مناسك الحج ، باب القران من طريق يونس ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كنت مع عليّ بن أبي طالب ...، فذكر الحديث.
(2) سقط من (ح) و(ز).
(3) أخرجه البخاري (3/392 رقم1534) في الحج، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( العتيق واد مبارك)). وانظر رقم (2337 و7343).
(4) في باب الهدي للمتمتع والقارن .
(5) في (ح): ((فيسمعه)).(3/359)
بالعمرةِ.
وقد استدلَّ من قال بتفضيلِ الإفرادِ بأن أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ - رضي الله عنهم - رأوا ذلك (1) ، وأحرموا به مدَّةَ ولايتِهم.
والجوابُ: بأن (2) ذلك رأيُهم لا روايتُهم، ومن نصَّ وحكى حُجَّةٌ على من ظنََّ ورأى. وقد تقدَّم ذكرُ من قال بتفضيلِ القِران على الإفرادِ، وعمل به من الصحابة ِ رضي الله عنهم (3) .
ومن بابِ الطوافِ عندَ القدومِ
سؤالُ السَّائلِ لابنِ عمرَ إنما كان عن طوافِ القدومِ؛ وهل (4) يؤخِّرُ إلى أن يوقفَ بعرفة؟ فأجابه بمنع ذلك،، وهو الصحيحُ الذي لا نعلمُ (5) من مذاهبِ العلماءِ غيرهُ. وما حكاه هذا الرجلُ عن ابنِ عبَّاسٍ لا يُعرفُ من مذهبِه؛ وكيف وهو أحدُ =(3/360)=@
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/278)، والبيهقي (5/5) كلاهما من طريق أبي حصين ، عن عبدالرحمن بن الأسود ، عن أبيه قال : حججت مع أبي بكر رضي الله عنه فجرد ، ومع عمر رضي الله عنه فجرد ، ومع عثمان رضي الله عنه فجرد..، بمعناه ، وهذا لفظ البيهقي ، وهو أتم سياق ابن أبي شيبة .
(2) في (ز): ((فإن)).
(3) في باب أنواع الإحرام.
(4) في (أ)، (ز): ((هل)).
(5) في (ز): ((يعلم)).(3/360)
الرُّواةِ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بدأ بالطوافِ عندَ قدومِه مكة َ (1) . وقد حملَ بعضُ متأخِّري (2) العلماءِ هذا السؤالَ: على أنه فيمن أحرم بالحجِّ من مكةَ؛ هل يطوفُ طوافَ القدومِ قبلَ أن يخرجَ إلى عرفاتٍ؟ قال: فمذهبُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ: أنه يطوفُ حينَ يحرمُ، كما قال ابنُ عمرَ. قال: والمتصور من مذهبِ أحمدَ: أنه لا يطوفُ حتى يخرجَ إلى منى وعرفاتٍ، ثم يرجعُ ويطوفُ، كما قال ابنُ عباسٍ،، وعن أحمدَ روايةٌ كمذهبِ ابنِ عمرَ.
وقولُه: ((إن كنت صادقًا))؛ ورعٌ منه لئلا يذكرَ ابن عباسٍ بشيءٍ ما ثبت عنه. ويمكنُ أن يحملَ إطلاقُ فتيا ابنِ عباسٍ على المراهَقِ (3) ، فإنه لا يخاطَبُ بطوافِ القدومِ، أو يكونَ ابنُ عباسٍ سُئل عن طوافِ الإفاضةِ فأجاب: بأنه لا يُفعلُ إلا بعدَ الوقوفِ. وهو الحقُّ. والله أعلمُ.
وقد تقدَّم ذكرُ حكمِ طوافِ القدومِ وغيره (4) .
وقولُه: ((ثم لم يكن غيره))؛ في المواضعِ كلِّها، كذا وقع في جميعِ نسخِ مسلمٍ عندَ جميعِ رواتِه، قال القاضي عياضٌ: وهو تغييرٌ، وصوابهُ: ((ثم لم تكن عُمرةٌ))، =(3/361)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/405 و485 و567 رقم1545 و1625 و1731) في الحج ، باب ما يلبس المحرم من الثياب ، والأردية والأزر، باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة...، وباب تقصير المتمتع بعد العمرة .
(2) قوله : ((متأخري)) سقط من (ح).
(3) تقدم تفسير ((المراهَقِ)) – بفتح الهاء وكسرها - وأنه الذي ضاق عليه الوقت بحيث يخاف فوات الوقوف بعرفة. "النهاية" (4/184)، "المشارق" (1/301).
(4) في باب: في حجة النبي صلى الله عليه وسلم.(3/361)
وهكذا رواه البخاريُّ (1) ، وبه يستقيمُ الكلامُ؛ قال: ويدلُّ على صحَّةِ هذا قولُه في الحديثِ نفسهِ: ((وآخرُ من فعل ذلك ابنُ عمرَ، ولم يَنْقُضْها بعمرةٍ)) (2) .
قلتُ (3) : ويحتملُ أن يَحملَ لفظُ مسلمٍ على معنًى صحيحِ من غيرِ احتياجٍ إلى تقديرِ تغييرٍ وتوهيمٍ للرُّواةِ (4) الحفاظِ؛ بأن يقال: إن قولَه: ثم لم يكن غيره. يعني: إنه لم يكن تحلل بعمرة؛ أي: لم يحدث غير الإحرام الأول. وأفاد ذلك: أن طوافهم الأول (5) لم يكن للعمرة بل للقدوم (6) . وعلى هذا الذي ذكرناه تكون رواية من رواه (7) :((ثم لم يكن عمرةٌ))؛ مقيِّدةً (8) لهذه الروايِة (9) : ((ثم لم يكن غيرُه))، ولا تكون هذه (10) تصحيفًا (11) .
وقولُه: ((فلمَّا مسحوا الرُّكن حلُّوا))؛ يعني بذلك: لمسَ الحجرِ في آخرِ الطوَّافِ، ولم يذكر السعيَ بين الصفا والمروةِ؛ لأنه قد صار من المعلومِ ملازمةُ السعيِ للطوافِ، فاكتفى بذكرِه عنه. وأيضًا: فقد وردتْ أخبارٌ عن هؤلاء المذكورين: بأنهم سعوا بعدَ طوافِهم؛ فتكملُ الروايةُ الناقصةُ، ويرتفعُ الإشكالُ. والله أعلم (12) . =(3/362)=@
__________
(1) أين؟ يشارك إلى الباب، يخرج.
(2) "الإكمال" (4/313- 314)، و"مشارق الأنوار" (2/88).
(3) في (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(4) في (ز): ((وتوهم الرواة)).
(5) في (ح): ((ذلك)) بدل (( الأول)).
(6) في (ح): ((القدوم)).
(7) في (ح): ((روى)).
(8) سقط من (ح). وفي حاشية (أ): ((مفسرة)) وفوقها علامة أنها كذلك في نسخة. [(خـ) أي:]
(9) قوله : ((لهذه الرواية)) سقط من (أ).
(10) قوله : ((هذه)) سقط من (ح).
(11) قال النووي في "شرح مسلم" (8/221) بعد أن نقل كلام القاضي: ((هذا الذي قاله من أن قول ((غيره) تصحيف، ليس كما قال؛ بل هو صحيح في الرواية وصحيح في المعنى؛ لأن قوله: ((غيره)) يتناول العمرة وغيرها، ويكون تقدير الكلام: ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره؛ أي: لم يغير الحج ولم ينقله ويفسخه إلى غيره لا عمرة ولا قران والله أعلم.اهـ.
قال الحافظ (3/479) بعد أن نقل كلام القاضي، وتوجيه النووي: ((وكذا وجهه القرطبي)). وقد ذكر الحافظ أن قوله: ((عمرة)) يمكن أن تكون خبر ((كان)) منصوبة؛ أي لم تكن الفعلة عمرةً، أو تكون مرفوعة فاعلاً لـ((كان)) التامة؛ أي: لم تحصل عمرةٌ.
(12) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/362)
ومن باب إباحة العمرة في أشهر الحج
قولُه: ((كانوا يَرون أن (1) العمرةَ في أشهرِ الحجِّ من أفجرِ الفجورِ))؛ أي: من أفحشِ الفواحشِ، ويعني: أهلَ الجاهليِة، وكان ذلك من تحكماتِهم المبتدعَةِ.
وقولُه: ((ويجعلون الْمُحرَّم صفرًا (2) ))؛ أي: يسمونه به، ويَنْسئُون (3) تحريمَه إليه؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثةُ أشهرٍ حرمٌ، فتضيقَ عليهم بذلك أحوالُهم. وحاصلُه: أنهم كانوا يحلُّون من الأشهرِ الحرمِ ما احتاجوا إليه، ويحرمون مكانَ ذلك غيرَه، وكان الذين يفعلون ذلك يسمَّون: النَّسَأَة، وكانوا أشرافَهم؛ وفي ذلك قال شاعرُهم:
أَلَسْنا (4) النَّاسِئِين عَلَى معَدٍّ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرامَا (5)
فردَّ الله تعالى كلَّ (6) ذلك بقولِه تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر...}الآية (7) .
وقولُه: ((ويقولون: إذا بَرَأَ الدَّبَرُ، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر))؛ فـ((بَرَأَ)): أفاق. و((الدَّبَرُ)) يعني به: دَبَرَ ظهور ِالإبلِ (8) عندَ انصرافِها من الحجِّ. و((عفا الأثرُ)): امَّحى ودَرَسَ؛ الخطابيُّ: يعني: أثرَ الدبرِ (9) . وفيه بُعْدٌ. وقال غيرُه: يعني: أثرَ الحاجِّ من الطرقِ (10) .و((عفا)) من الأضدادِ. يقالُ:
عفا الشيءُ: كثر (11) وقل، وظهر و((خَفَى))، مثلُه (12) . =(3/363)=@
__________
(1) سقط من (ز).
(2) في (أ)، و(ح): ((صفر)). والمثبت كما في "صحيح مسلم" الطبعة العامة (4/56) وكذا في "التلخيص"، لكن قال النووي في "شرح مسلم" (8/225): ((قوله: ((ويجعلون المحرم صفر. هكذا هو في النسخ ((صفر من غير ألف بعد الراء، وهو منصوب مصروف بلا خلاف، وكان ينبغي أن يكتب بالألف، وسواء كتب بالألف أم بحذفها لابد من قراءته هنا منصوبًا؛ لأنه مصروف.اهـ.
قلت: لعله هكذا في النسخ التي وصلت الإمام النووي وفي غيرها ((صفرًا)) على الصواب.
(3) في (أ) و(ز): ((ينسبون)) وهو تصحيف، والمراد: يؤخرون تحريم ((المحرم)) إلى ((صفر)). وانظر: "الإكمال" (4/318)، و"شرح النووي" (8/225)، و"القاموس" (ص53) (نسأ).
(4) في (أ): ((النسا)).
(5) البيت من بحر الوافر، والعمير بن قيس، يعرف بجذل الطعان، أحدِ بني فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة، وكان متهم أول من نسأ، وهو القلمَّس حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة...إلخ.
قاله في أبيات يفخر فيها بأن لهم النسيء في العرب، قال:
لقد علمت معد أن قومي ... كرام الناس أن لهم كراما
فأيُّ الناس فاتونا بوتر ... وأي الناس لم نعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما
والبيت لعمير بن قيس في "تهذيب اللغة" (13/83)، "اللسان" (/167) (نسأ)، و"التاج" (1/261) (نسأ)، و"سيرة ابن هشام" (1/45)، و"تفسير ابن كثير" (4/91)، "البداية والنهاية" (4/236)، وللكميت في "تفسير القرطبي" (8/127)، وللقلمس في "الإكمال" لابن ماكولا (6/246، وبلا نسبة في "العين" (7/306)، و"غريب الحديث" للخطابي (1/409)، و"الأمالي" للقالي (1/4)، و"التاج" (8/426) (قلمس).
(6) قوله : ((كل)) سقط من (أ).
(7) سورة التوبة؛ الآية: 37.
(8) الدَّبَر – بالتحريك -: الجرح الذي يكون في ظهر البعير؛ يقال: دَبَرَ يَدْبَرُ دَبَرًا. وقيل: هو أن يَقْرَح خف البعير. "النهاية" (2/97).
(9) في "أعلام الحديث" (2/857). وقال الخطابي: إلا أن المعروف من هذا في عامة الروايات: ((عفا الوبر)) ومعناه: طرَّ الوبر وكثر. ثم ذكر أن ((عفا)) من الأضداد. وقال في "المشارق" (1/18): ((وعفا الأثر؛ أي: درس أثر الحجاج في الأرض، وقيل: أثر الدبر من ظهور الإبل، وقيل: أثر الشعث عن الحاج ونصب سفرهم.اهـ. وقال النووي (8/225): والمراد أثر الإبل وغيرها في سفرها؛ لطول مرور الأيام، هذا هو المشهور وقال الخطابي: المراد: أثر الدبر. والله أعلم.
(10) في (ح): ((الطواق)).
(11) في (ز): ((كثير)).
(12) قوله : ((مثله)) سقط من (أ) و(ح). ينظر ((عفا)) بمعنى كثر وقل في: "أضداد ابن السكيت" (ص63)، "أضداد ابن الأنباري" (ص86ت)، "أضداد أبي حاتم" (ص160)، و"أضداد التوزي" (ص83)، "أضداد المنشيء" (ص90). وظاهر عبارة الشارح أن ((ظهر)) و((خفر)) فعلا من الأضداد، أما ((ظهر)) فالذي من الأضداد من مشتقاته هو ((ظَهْر)) بمعنى ((الظهر)) و((البطن))، وبمعنى ((الظهر)) و((الوجه))، ومنه الظهارة والبطانة بمعنى. "أضداد أبي حاتم" (ص237)، "أضداد ابن الأنباري" (ص255، 342). أما ((خَفى)) على وزن ((فَعَل)) فيستعمل بمعنى أظهر، وبمعنى كتم، وكذلك ((أَخْفى))، يقال: خَفَيْتُ الشيء وأخفيت: أظهرته، وكتمته. وفيه تفصيل انظره في "أضداد أبي عبيد" والتوزي، والمنسي (58، 90- 91، 160)، "أضداد أبي حاتم" (ص237)، "أضداد ابن الأنباري" (ص76، 95)، "أضداد ابن السكيت" (ص83)، و"أضداد التوزي" (ص90، 91)، "أضداد المنشي" (ص160).(3/363)
و((الإشعارُ)) (1) : الإعلامُ، إشعارُ الهدي: هو أن يَفعلَ فيه علامةً يُعْلَمُ بها أنه (2) هديٌ. و((شعائر الحج)): معالُمه، وهي مواضعُ أفعالِه. ومنه سُمِّي ((المشعرُ الحرامُ)). و((صفحةُ السَّنامِ)): جانبُه. و((السَّنامُ)): أعلى ظهرِ البعيرِ.
وحديثُ ابنِ عباس ٍهذا يدلُّ على أنَّ الإشعارَ يكونُ في الجانبِ الأيمنِ، وبه أخذ الشافعيُّ، وأحمدُ، وأبو ثورٍ، ورُوي عن ابنِ عمرَ (3) .
وقالت طائفةٌ: يُشْعَرُ (4) في (5) الجانبِ الأيسرِ، وبه قال مالكٌ،، وقال أيضًا: لا بأس به في الأيمنِ. وقال مجاهدٌ: من أيِّ الجانبين شاء (6) ، وبه قال أحمدُ في أحد قوليه. وفيه ردٌّ على أبي حنيفةَ؛ حيثُ لا يرى الإشعارَ، ويقولُ: إنه مُثْلَةٌ. ولا حجةَ لمن قال: إن الإشعارَ تعذيبٌ للحيوان، فإنَّ ذلك يجري مَجْرى =(3/364)=@
__________
(1) هذا أول شرح باب ((تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام)) ولم يترجم له الشارح في الشرح، وترجم له في "التلخيص".
(2) في (ح): ((أنها)).
(3) أخرجه البيهقي (5/232) من طريق مالك وعبدالله بن عمر ، عن نافع : أن عبدالله بن عمر كان يشعر بدنه من الشق الأيسر إلا أن تكون صعابًا تنفر به ، فإذا لم يستطع أن يدخل بينهما أشعر من الشق الأيمن ... .
وأورده ابن عبدالبر في "الاستذكار" (12/269) معلقًا ، فقال : ورواه معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر : أنه كان يشعر في الشق الأيمن حين يريد أن يحرم .
(4) من قوله : ((في الجانب الأيمن ....)) إلى هنا سقط من (ح).
(5) في (ح): ((من)).
(6) قوله : ((وقال مجاهد من أي الجانبين شاء)) سقط من (ح).(3/364)
الوَسْمِ الذي به يُعرفُ الملك (1) وغيرُه مما في معناه،، ثم هو أمرٌ معمولٌ به من كافةِ المسلمين وجماهيرِهم من الصحابةِ وغيرِهم.
وهذا في البُدْنِ واضحٌ،، فأما البقرُ: فإن كانت لها أسنمةٌ أُشعرتْ كالبدنِ؛ قاله ابنُ عمر (2) ، وبه قال مالكٌ،، وقال الشافعيُّ (3) ، وأبو ثورٍ: تُقلَّدُ، وتُشْعَرُ مطلقًا، ولم يفرِّقوا. وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: تُقلَّدُ البقرُ ولا تُشْعَرُ.
فأما الغنمُ: فلا تُشْعَرُ،، وهل تقلَّدُ أم لا؟ قولان؛ فممن صار إلى تقليدِها جماعةٌ من السلفِ، وبه قال الشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ، وابن حبيبٍ،، وأنكره مالكٌ، وأصحابُ الرأيِ؛ وكأنَّ هؤلاء لم يبلغْهم حديثُ عائشةَ في تقليدِ الغنمِ، أو بلغ لكنهم تركوه (4) لانفرادِ الأسودِ به عن عائشة رضي الله عنهم (5) ، ولم يَرْوِ ذلك غيرُه عنها.
وقولُه: ((وقلَّدها نعلين))؛ النعلانِ أفضلُ عندهم،، وأجاز مالكٌ والشافعيُّ نعلاً واحدةً (6) . وأجاز الثوريُّ فمَ القِرْبةِ وشبهِها.
ومقصودُ التقليدِ والإشعارِ: أن يجبَ الهديُ ويُعرفَ (7) ، فلا (8) يتعرضَ له أحدٌ، وإنْ ضلَّ نُحر (9) ، ولا يُنحرُ دون مَحِلِّه. والله أعلم (10) . =(3/365)=@
__________
(1) قوله: ((الذي به يعرف الملك)) في (ح): ((الذي يعرف به الموسوم)).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (15487) عن وكيع ، عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يقلد البقر ويشعرها في أسنمتها ، فإن لم يكن لها سنام فموضعه .
(3) في (أ): ((مالك والشافعي)).
قوله: ((قاله ابن عمر، وبه قال مالك وقال الشافعي...)) في (أ): ((قاله ابن عمر قال مالك والشافعي...)) . وانظر: "الإكمال" (4/322)، و"شرح النووي" (8/228).
ففي "الإكمال": ((والبقر تقلد، ويشعر منها ما كان له سنام... واختلف أصحابنا في إشعار ما لا سنام له من الإبل والبقر)).اهـ. وفي "شرح النووي": وأما البقرة فيستحب عند الشافعي وموافقيه الجمع فيها بين الإشعار والتقليد كالإبل.
(4) في (ح): ((مردود)).
قوله: ((لكنهم تركوه)) في (أ): ((لكنه تركوه)) وفي (ح): ((لكن مردود)).
(5) قال الحافظ في "الفتح" (3/548): ((وأعلّ بعض المخالفين حديث الباب بأن الأسود تفرد عن عائشة بتقليد الغنم دون بقية الرواة عنها من أهل بيتها وغيرهم، قال المنذري وغيره : ((وليست هذه بعلّة؛ لأنه حافظ ثقة لا يضره التفرد)).اهـ.
(6) في (ز): ((واحدًا)). و((النعل) مؤنثة. وربما جاز وصفها بالمذكر؛ لأن تأنيثها غير حقيقي. "اللسان" (11/667)، و"التاج" (15/74).
(7) قوله: ((أين يجب الهدي)) غير ظاهر المعنى؛ ولعل صواب العبارة: ((أن يجب للهدي)) أي: يتعين كون ذلك الحيوان المقلد أو المشعر ((هديًّا)). والله أعلم.
(8) في (أ): ((ولا)).
(9) المراد: إن ضل، وطُلب صاحبُها فلم يوجد، نُحر عنه. ينظر "الإكمال" (4/322).
(10) قوله: ((والله أعلم))زيادة من (ز).(3/365)
ومن بابِ: كمِ اعتمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم
قولُه: ((عمرةً من الحديبيةِ))؛ يعني: التي صدَّه فيها المشركون عن البيت، فحلَّ فيها من الحديبيةِ، وحلق، ونحر، ورجع إلى المدينةِ؛ كما صالحَهم (1) عليه،، ثم إنه (2) اعتمر في السَّنةِ الثانيةِ عمرةَ القضاءِ، وسُمِّيت بذلك، وبـ((عمرةِ القضيةِ)) أيضًا؛ لأنه إنما اعتمرَها في السَّنةِ الثانيةِ (3) على ما كان قَاضَاهم عليه؛ أي: صالَحهم؛ وذلك: أنهم كانوا شرطوا عليه ألا يدخلَ عليهم مكةَ في سنتِهم تلك، بل في السَّنةِ الثانيةِ، ولا يدخلهَا عليهم بشيءٍ من السِّلاحِ إلا بالسيفِ وقرابِه، وأنه لا يمكثُ فيها أكثرَ من ثلاثةِ أيامٍ -،،، إلى غيرِ ذلك من الشروطِ التي هي مذكورةٌ في كتب السِّيرِ (4) - فوفَّى لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك.
وأما عمرتُه من ((الجِعْرَانةِ)) (5) فكانت بعد مُنْصَرَفِهِ من حنينٍ، ومن الطائفِ، وبعدَ قَسْمِ غنائمِ حنينٍ (6) بجعرانةَ. وأما عمرتُه مع حجتِه فهي التي قرنَها مع حجتِه على رواية أنسٍ (7) ، أو أردفَها (8) على ما ذكرناه (9) عنِ ابنِ عمرَ (10) .
واعتمدَ مالكٌ في "موطئه" (11) : على أنه صلى الله عليه وسلم اعتمرَ ثلاثَ عُمَرٍت؛ إحداها (12) في (13) شوالٍ، فأسقط التي مع حجتِه، بناءً منه (14) =(3/366)=@
__________
(1) في رسمها في (ز): ((صالحم)).
(2) قوله : ((إنه)) سقط من (ز).
(3) من قوله : ((عمرة القضاء...)) إلى هنا سقط من (ز).
(4) سيأتي في باب صلح الحديبية في الجهاد والسير .
(5) في (ز) و(ح): ((جعرانة)).
(6) في (ح): ((خيبر)).
(7) تقدم في باب الاختلاف فيما به أحرم النبي صلى الله عليه وسلم.
(8) في (ح): ((أفردها)).
(9) في (ح): ((ما ذكرنا)).
(10) تقدم في باب الهدي للمتمتع والقارن .
(11) "الموطأ" (1/342 رقم56) في الحج ، باب العمرة في أشهر الحج ، من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا ثلاثًا : إحداهن في شوال ، واثنتين في ذي القعدة.
قال ابن عبد البرفي "التمهيد" (22/289): ((وهذا حديث مرسل أيضًا عند جميع الرواة عن مالك)) وقد ورد مسندًا. [يخرج، يراجع المحدثون].
(12) في (أ): ((أحدها)).
(13) في (ح): ((من)).
(14) قوله : ((منه)) سقط من (ز).(3/366)
على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان (1) مفرِدًا بالحجِّ. وأما هذه العُمرةُ المنسوبةُ إلى شوالٍ، فهي- والله أعلمُ -: عمرةُ الجعرانةِ، أحرم بها في أخرياتِ (2) شوالٍ، وكمَّلَها في ذي القعدةِ، فصدقتْ عليها النِّسبتان (3) .والله أعلم.
ولا يُعلمُ (4) للنبيِّ صلى الله عليه وسلم عُمرةٌ غيرُ ما ذكرناه مما اتفق عليه، واختلف فيه. وقد ذكرَ الدارقطنيُّ (5) : أنه صلى الله عليه وسلم خرج معتمِرًا في رمضان، وليس بالمعروفِ.
وأما قولُ =(3/367)=@
__________
(1) سقط من (ح).
(2) في (ز): ((آخر)).
(3) وقد حمل القاضي عياض في "الإكمال" (4/331) رواية الدارقطني التي سيذكرها الشارح؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رمضان – على أنها هي التي في شوال، خرج لها في رمضان. وبنحو ما قبلِ الشارح قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/600).
(4) في (ز): ((ولا تعلم)).
(5) في "سننه" (2/188)، وهو حديث ضعيف ، تقدم تخريجه في الصلاة ، باب ما جاء في حكم قصر الصلاة في السفر (2/325).
والعجب من القرطبي حيث قال عن الحديث : وليس بالمعروف ، مع أنه قال في الموضع السابق : وهو صحيح . [ينظر في هذا التعليق!!](3/367)
ابن عمرَ: إِنه (1) اعتمر في رجبٍ؛ فقد غلَّطَتْهُ في ذلك عائشةُ، ولم يُنْكِرْ عليها، ولم ينتصرْ؛ فظهر (2) : أنه كان (3) على وَهْمٍ، وأنه رجع عن ذلك.
وأما حَجُّهُ صلى الله عليه وسلم: فلم يختلفْ أنه إنما حجَّ في الإسلام حجَّةً واحدةً، وهي المعروفةُ بـ((حجَّةِ الوداعِ)). وأما قبلَ هجرتِه (4) : فاختلف هل حجَّ واحدةً؛ كما قال أبو إسحاقَ السَّبيعيُّ، أو حجَّتين؛ كما قال غيرُه، وسيأتي عددُ غزواتِه في الجهادِ، إن شاء الله تعالى (5) .
وقد تقدم قولُه في صلاةِ الضحى: إنها بدعةٌ، في باب صلاة الضحى، من كتاب الصلاة (6) .
ومن بابِ فضلِ العُمْرةِ في رمضان
قولُه صلى الله عليه وسلم للمرأةِ الأنصاريةِ: ((ما منعكِ أن تحجِّي معنا؟)) كان هذا منه بعدَ رجوعِه من حجَّتِه، وكان هذا السؤالُ منه (7) لينبِّهَ على المانعِ؛ إذ كان (8) قد أذَّن في =(3/368)=@
__________
(1) قوله : ((أنه)) سقط من (ح).
(2) في (ح): ((وظهر)).
(3) قوله : ((كان)) سقط من (أ).
(4) انظر التعليق في باب في صيام يوم عاشوراء وفضله من كتاب الصيام .
(5) قوله: ((إن شاء الله تعالى)) زيادة من (ز)، وزاد في (ح).
(6) من قوله: ((وقد تقدم قوله...)) إلى هنا، سقط من (أ) و(ز).
(7) قوله : ((منه)) سقط من (أ) و(ح).
(8) قوله : ((إذ كان)) في (أ): ((إذ)) وفي (ز): ((إذا كان)).(3/368)
النَّاسِ بالحجِّ أذانًا يعمُّ الرجالَ والنساءَ، وأيضًا فإنه قد (1) كان حجَّ بأزواجِه، فأخبرتْه بما اقتضى تعذرَ (2) ذلك؛ من أنها لم تكنْ لها (3) راحلة،، فلما تحقَّق عذرَها، وعلم أنها (4) متحسِّرةٌ لما فاتها من ثوابِ الحجِّ معه، حضَّها على العُمْرةِ في رمضانَ، وأخبرها أنها تعدلُ لها حجَّةً معه. ووجهُ ذلك: أنها لما صحَّتْ نيتُها في الحجِّ معه جُعلَ ثوابُ ذلك في العُمرةِ في رمضان؛ جَبْرًا (5) لها ومُجازاةً بنيَّتها.
فإن قيل: فيلزمُ من هذا أن يكونَ ذلك الثوابُ خاصًّا بتلكَ المرأةِ.
قلنا: لا يلزمُ ذلك؛ لأن مَنْ يساويها في تلك النيَّةِ والحالِ، ويعتمرُ في رمضانَ، كان له مثلُ ذلك الثوابِ (6) .والله أعلمُ.
و((الناضحُ)): البعيرُ الذي يُستقى عليه الماءُ.
وقولُها: ((يسقي عليه غلامُنا))؛ كذا رواه ابنُ ماهان وغيرُه، وسقط للعذريِّ (7) والفارسيِّ ((عليه))، قال القاضي أبو الفضلِ: وأرى هذا كلَّه تغييرًا، وأن صوابَه: ((نسقي عليه نخلاً لنا)).
فتصحَّف منه:((غلامنا)). وكذا جاء في البخاري (8) : ((نسقي عليه نخلاً)).
وقد خرَّج النسائيُّ (9) معنى حديثِ ابنِ عباسٍ، من حديثِ مَعْقِل (10) ، وأنه هو الذي جاء إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمَّ مَعْقِلٍ جعلتْ عليها حجَّةً معك، فلم يتيسَّرْ لها (11) ذلك، فما يجزئُ عنها؟ قال: ((عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ)). قال: فإنَّ عندي جملاً جعلتُه في سبيلِ الله حبيسًا، فَأُعْطيهِ إيَّاها (12) فتركبُه؟ قال: ((نَعَمْ)). وهذا يدلُّ على صحة، =(3/369)=@
__________
(1) قوله : ((قد)) سقط من (ز).
(2) في (ز): ((بعذر)).
(3) قوله : ((لها)) سقط من (ح).
(4) قوله : ((وعلم أنها)) في (ز): ((وأنها)).
(5) في (ز): ((خيرًا)).
(6) ذكر الحافظ في "الفتح" (3/605) أن القول بخصوصية ذلك بتلك المرأة روي عن سعيد بن جبير، وقال ابن حجر: والظاهر حمله على العموم.
(7) هنا انتهى الخرم الواقع في النسخة (ي) وكانت بدايته في أثناء باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، عند شرح قوله: ((وركب النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى فصلى بها الظهر...)).
(8) هذا آخر كلام القاضي في "الإكمال" (4/333- 334)، وقول الشارح: ((كذا رواه ابن ماهان...)) من كلام القاضي أيضًا. وقال القاضي في "المشارق" (2/7).
قوله: ((و الآخر يسقي عليه نخلاً لنا)) كذا ذكره البخاري، وذكره مسلم: ((نسقي عليه)) من رواية الهوزني في طريق ابن ماهان، وعند كافة رواته: ((يسقي عليه غلامنا))، وعند السجزي: ((يستقي عليه غلامنا))، وفي كتاب القاضي التميمي: ((يسقي غلامنا))، والذي في البخاري الصواب، و((غلامنا)) يوشك أن يكون مغيرا من ((نخلا لنا))، وقد ذكره البخاري في موضع آخر: ((يسقي عليه أرضا لنا)) وهو حجة لما قلناه وتفسير له.
ملاحظة: تخريج رواية البخاري التي ذكرها الشارح.
(9) في "الكبرى" (4228)، والروياني في "مسنده" (1289) من طريق الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبي معقل به .
وأخرجه ابن أبي شيبة (13025) عن وكيع ، عن الأعمش ، به مختصرًا .
وأصل الحديث في "صحيح مسلم" كما تقدم .
(10) قوله: ((من حديث معقل)) كذا في النسخ، والصواب – كما في النسائي – ((من حديث أبي معقل))، وانظر تخريج الحديث.
(11) في (ز): ((لنا)).
(12) قوله: ((فأعطيه إياها)) في (ح)، (ز) و(ي): ((أفأعطيه إياها))، وفي "سنن النسائي": ((فأعطيها إياه)).(3/369)
وما ذهبنا إليه من معنى الحديث، وإنما عَظُمَ أجرُ العمرةِ في رمضانَ لحرمةِ الشهرِ، ولشدةِ النَّصَبِ، والمشقةِ اللاحقةِ من عملِ العُمْرةِ في الصومِ، وقد أشار إلى هذا قولُه صلى الله عليه وسلم لعائشةَ - وقد أمرها بالعُمْرةِ-: ((إِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ - أو قال -: نَفَقِتَكِ)) (1) . والله أعلمُ.
وقولُه: ((جعلتْ عليها حجَّةً معك))؛ يعني: أنها همَّتْ بذلك، وعزمتْ عليه، لا أنها أوجبتْ ذلك عليها بالنَّذرِ؛ إذ لو كان ذلك لما أجزأَها عن ذلكِ العُمْرةُ. والله تعالى أعلم (2) .
ومن بابِ: من أين دخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ والمدينةَ؟
ومن أين خرج؟
قولُه: ((كان يخرجُ من طريقِ الشجرةِ))؛ يعني - والله تعالى أعلم -: الشجرة (3) التي =(3/370)=@
__________
(1) في (ز): ((ونفقتك)).والحديث عند مسلم (2/876-877 رقم1211/126) في الحج، باب بيان وجوه الإحرام.
(2) من قوله: ((وقوله: جعلت عليها...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(3) قوله : ((يعني: والله أعلم الشجرة)) سقط من (ح).(3/370)
بذي الحليفة؛ التي أحرم منها؛ كما قال ابنُ عمَر في الحديثِ المتقدِّمِ (1) ،، ولعلَّها (2) هي الشجرةُ التي وَلَدَتْ تحتهَا أسماءُ بنتُ عميسٍ كما تقدم (3) . و((الْمُعرَّسُ)): موضعُ التعريسِ؛ وهو موضعٌ معروفٌ على ستةِ أميالٍ من المدينةِ هناك، والتعريسُ: النزولُ من آخرِ الليلِ.
و((الثنيةُ)) هي: الهضبة، وهي: الكَوْم الصغير (4) ،، وهذه الثنية هي التي بأعلى مكة، وتسمى (5) : ((كَدَاءً))، وبأسفلِ مكةَ ثينةٌ أخرى تُسمَّى: ((كَدًا)) (6) . وقد اختلف أهلُ التقييدِ (7) في ضبطِ هاتين الكلمتينِ: فالأكثر (8) منهم على أن التي بأعلى مكةَ: بفتحِ الكافِ والمدِّ، والسُّفلى: بضمِّ الكافِ والقصرِ، وقيل: عكس ذلك (9) . وأما اللغويون: فقال أبو علي القالي: ((كَدَاءُ)) ممدودٌ: جبلٌ بمكةَ (10) ؛قال الشاعر:
أَقْفَرَتْ مِن عُبَيدِ شَمْسٍ كَدَاءُ ... وَكُدَيٌّ والرُّكْنُ وَالْبَطْحَاءُ (11)
وقال غيره: ((كُدًا)): جبلٌ قريبٌ من ((كَدَاءَ)) (12) . وقال الخليلُ: ((كَدَاءُ)) ((وكُدَىٌّ)) - بالضم وتشديد الياء-: جبلان بمكة، الأعلى منهما بالمد (13) . وقال غيره: ((كُدًا)) - مضمومٌ، مقصورٌ-: بأسفلِ مكةَ، والمشدَّدُ لمن خرج إلى اليمنِ، وليسَ من طريق النبيِّ صلى الله عليه وسلم (14) .
ثم اختلف المتأولون في المعنى الذي لأجلِه خالف النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين طريقيه؛ فقيل: ليتبركَ به كلُّ منْ في طريقيه (15) ، ويدعوَ لأهلِ تَينِكَ الطريقين،، وقيل: =(3/371)=@
__________
(1) في باب بيان المحل الذي أهل منه النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) في (ح) و(ي): ((لعلها)).
(3) في باب يغتسل المحرم على كل حال ولو كان امرأة حائضًا.
(4) الثنية في الجبل: كالعقبة فيه، وقيل: هي الطريق العالي فيه، وقيل أعلى المسيل في رأسه والهَضْبة: الصخرة الراسية العظيمة، وقيل: هي كل جبل خلق من صخرة واحدة ، وقيل: هي الجبل ينبسط على الأرض. و((الكَوْم)) بفتح الكاف: اسم المكان المرتفع من الأرض. ينظر: "مشارق الأنوار" (1/349) (كوم)، (2/272) (هضب)، "النهاية" (4/211) (كوم)، و"اللسان" (14/124) (ثني).
(5) في (ي): ((وسمى)).
(6) قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (3/124): الثلاثي إذا كان من ذوا الواو تعين كتابه بالألف سواء مد أو قصر... وهذا – والله تعالى أعلم – من ((كددت)).
(7) في (ح): ((التفسير))، وفي (ي): ((العلم)).
(8) في (ي): ((والأكثر)).
(9) قال النووي في "تهذيب الأسماء والصفات" (3/124): وهو ((غلط وتصحيف ظاهر)).
(10) وعبارته في المقصود والممدود (ص332): ((وكداء: جبل بمكة غير مصروف)) ثم أنشد البيت، ونقله عنه "معجم البلدان" (4/441) قال: ((قال القالي: كداء ممدود غير مصروف)) وكذا نقله عنه القاضي عياض في "الإكمال" (4/335- 336).
(11) لعبيدالله بن قيس الرقيات، يمدح فيها مصعب بن الزبير، ويفتخر بقريش. وصواب إنشاد البيت:
أَقْفَرَتْ مِن عُبَيدِ شَمْسٍ كَدَاءُ ... وَكُدَيٌّ والرُّكْنُ وَالْبَطْحَاءُ( )
كما في "ديوانه" ومصادر تخريجه، وبعده:
فَمِنًى فَالْجِمَارُ مَنْ عَبْدِ شَمْسٍ ... مُقْفِرَاتٌ فَبَلْدَحٌ فَحِرَاءُ
فَالْخِيَامُ الَّتِي بِعُسْفَانَ فَالْجُحْـ ... ـفَةِ مِنْهمُ فَالْقَاعُ فَالْأَبْوَاءُ
مُوحِشَاتٌ إِلَى تَعَاهِنَ فَالسُّقْـ ... ـيَا قِفَارٌ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ خَلَاءُ
قَدْ أَرَاهُمْ وَفِي الَمَوَاسِمِ إِذْ يَغْـ ... ـدُونَ حِلْمٌ وَنَائِلٌ وَبَهَاءُ
لكن وقع في جميع النسخ: ((من عبيد شمس))، وفي "الإكمال" (4/336): ((من عبد شمس)) وعنه نقل الشارح، وقد نقله القاضي عياض عن القالي، لكنه عند القالي على الصواب: ((بعد عبد شمس))، ولما كان ((من عبد شمس)) غير موافق لبحر الخفيف، وإنما يتفق مع بحر المديد، فلعل الشارح اجتهد وغير ((عبد)) إلى ((عبيد))؛ إذ بها يستقيم الوزن على بحر الخفيف، غير أنه لو راجع ديوان الشاعر، أو كتاب أبي علي لوجده على الصواب ((بعد عبد شمس)) ولم يحتج إلى التغيير. وموضع الشاهد قوله: ((كداء، فكديٌّ)) الأولى بفتح الكاف والمد، والثانية بضم الكاف وتشديد الياء مصغرًا، موضعان مختلفان.
والبيت في "ديوان الشاعر" (ص87)، و"جمهرة اللغة" (2/681، 1060)، "المطلع على أبواب المقنع" (ص224)، و"معجم ما استعجم" (4/1117)، "معجم البلدان" (2/33- 34)، (4/439)، "لسان العرب" (15/217) (كدا)، و"تاج العروس" (20/119) (كدا)، "وبلا نسبة في المقصور والممدود" لأبي علي القالي (ص332)، و"المصباح المنير" (ص272) (كدا)، و"الإكمال" (4/336).
(12) القائل أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري في "معجم ما استعجم" (4/1117).
(13) عبارة الخليل في "العين" (5/396): ((وكُديٌّ وكداء: جبلان، وهما ثنيتان يهبط منهما إلى مكة)).اهـ.
وما ذكره الشارح حكاه من الخليل القاضي عياض في "الإكمال" (4/336)، و"المشارق" (1/350)، وقوله: ((بالضم وتشديد الياء)) هو من كلام القاضي عياض مفسرًا نقله عن الخليل!
(14) نقل هذا القول عن ابن حزم، صاحبُ كتاب "معجم ما استعجم" (4/1118)، و ياقوت في "معجم البلدان" (4/441).
وعبارته: ((كداء الممدود هو بأعلى مكة.. وكُدًىَ بضم الكاف وتنوين الدال – بأسفل مكة عند ذي طوى بقرب شعب الشافعيين... وأما ((كُدَيٌّ)) – مصغر – فإنما هو لمن خرج من مكة إلى اليمن، وليس من هذين الطريقين في شيء.اهـ. يعني: طريق كَداء، وكُدًى.
(15) في (ح) و(ي): ((طريقه)).(3/371)
ليغيظَ المنافقين وَمَنْ في ذينكَ الطريقين منهم، بإظهارِ الدِّينِ وإعزازِ الإسلامِ،، وقيل: ليُري السَّعةَ في ذلك.
و((ذو طَوًى (1) ))- بفتحِ الطاءِ والقصرِ- هو وادٍ بمكةَ، قاله الأصمعيُّ، قال: والذي بطريقِ الطائفِ ممدودٌ (2) . وحكى بعضُ اللغويين: ((ذُو طُوًى)) - بضمِّ الطاءِ والقصرِ- للذي (3) بمكةَ (4) ، و((ذو طَوَاء)) - بالفتح والمدِّ- حكاه ابنُ بطَّالٍ، وكذا (5) ذكره =(3/372)=@
__________
(1) هذا بداية شرح باب المبيت بذي طوى والاغتسال قبل دخوله مكة.
(2) وينظر "معجم ما استعجم" (3/897).
(3) في (ح) و(ز): ((الذي)).
(4) قال في "النهاية" (3/147): وقد تكرر في الحديث ذكر ((طوى)) وهو يضم الطاء وفتح الواو المخففة: موضع عند باب مكة، يستحب لمن دخل مكة أن يغتسل به.
(5) في (ز): ((كذا)).(3/372)
ثابتٌ، وضبطَه الأصيليُّ بكسرِ الطاءِ (1) .
ولا خلافَ في أن المبيتَ بذي طُوىَ، ودخولُ مكةَ نهارًا، ليس من المناسكِ، لكن إن فعل ذلك اقتداءً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وتتبُّعًا لمواضعِه، كان له في ذلك ثوابٌ كثيرٌ، وخيرٌ جزيلٌ.
وقد تقدَّم الكلامُ على أفعالِ الحجِّ وأحكامِها.
و((الأكمةُ)): الكَوْمُ الغليظُ الضَّخْمُ. و((ثَمَّ))- بفتحِ الثاءِ المثلثةِ (2) : إشارةٌ إلى موضعٍ مخصوصٍ معروفٍ، وهو مبنيٌّ على الفتحِ، ويوقَفُ (3) عليه بالهاءِ؛ فيقالُ: ((ثَمَّهْ)). و((فُرْضَتَا الجبل)): موضعان منخفضان منه، وكأنهما نَقْبان أو طريقان (4) ؛ و((الفُرْضة)): الحَزُّ الذي يدخلُ فيه الوَتَرُ، وأصلُ الفَرْضِ: القَطْع (5) .
وهذا التحديدُ والتحقيق الذي صَدَر من ابن عمرَ في تعيينِ مواضعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، دليلٌ على شدةِ عنايتهِ وتهمُّمِه بآثارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعلى أنه مَن قصد تلك المواضعَ متبرِّكًا بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وَبِالصَّلاةِ (6) فيها حَصَل (7) على حظٍّ عظيمٍ وثوابٍ جزيلٍ (8) . =(3/373)=@
__________
(1) ينظر: "المشارق" (1/276)، وفي "شرح النووي" (8/227): هو بفتح الطاء وضمها وكسرها؛ ثلاث لغات حكاهن القاضي وغيره، الأصح الأشهر بالفتح. وقال في (9/6): ويصرف ولا يصرف.اهـ.
(2) في (ز): ((المثلة)).
(3) في (أ) و(ز): ((يوقف)).
(4) عبارة القاضي في "المشارق" (2/152) عن الداودي: الفرضتان من الجبل الثنيتان المرتفعتان كالشرافتين إلا أنهما كبيران. ونحوه عند النووي في "شرح مسلم" (9/6)، وفي "النهاية" (3/433): فرضة الجبل ما انحدر نم وسطه.اهـ. وفي "الفتح" (1/570): مدخل الطريق إلى الجبل، وقيل: الشق المرتفع كالشرافة.
(5) ينظر: "المصباح" (ص243)، و"تاج العروس" (/) (فرض)، و"المشارق" (2/152).
(6) في (ي): ((والصلاة)).
(7) قوله : ((حصل)) سقط من (ز).
(8) ونحو هذا قال ابن حجر في "الفتح" (1/571)؛ قال: ((عرف من صنيع ابن عمر استحباب تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم والترك بها)).اهـ. قال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/750- 757): فأما مقامات الأنبياء والصالحين، وهي الأمكنة التي قاموا فيها، أو أقاموا، أو عبدوا الله سبحانه، لكنهم لم يتخذوها مساجد - فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين:
أحدهما: النهي عن ذلك وكراهته، وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة، إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع، مثل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدها للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم...
والقول الثاني: أنه لا بأس باليسير من ذلك، كما نقل عن ابن عمر: أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان النبي قد سلكها اتفاقًا لا قصدًا.
وفصل أبو عبد الله رحمه الله (الإمام أحمد) في المشاهد، وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين، من غير أن تكون مساجد لهم، كمواضع بالمدينة – بين القليل الذي لا يتخذونه عيدًا، والكثير الذي يتخذونه عيدًا... وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة، فإنه قد روى البخاري في "صحيحه"، عن موسى بن عقبة قال: ((رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق، ويصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في تلك الأمكنة)) قال موسى: ((وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة)) فهذا كما رخص فيه أحمد رضي الله عنه.
وأما ما كرهه فروى سعيد بن منصور في "سننه"، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن معرور بن سويد، عن عمر رضي الله عنه قال: خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر بـ{ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} و{لإيلاف قريش} في الثانية، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال: ((ما هذا؟)) قالوا مسجدد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم: اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له الصلاة فليمض)) فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدًا، وبين أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا.
وفي روايته عنه: ((أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهم يصلون فيه فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعًا، فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها)).
وروى محمد بن وضاح وغيره: ((أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الناس كانوا يذهبون تحتها. فخاف عمر الفتنة عليهم)).
وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان المشاهد – فقال محمد بن وضاح: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة، ما عدا قباء وأحدا. ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار، ولا الصلاة فيها. فهؤلاء كرهوها مطلقًا، لحديث عمر رضي الله عنه هذا، ولأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعيادًا، وإلى التشبه بأهل الكتاب، ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا غيرهم، من المهاجرين والأنصار، أنه كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله، بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له، كقصد المشاعر والمساجد. وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول، أو غير ذلك، مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له؛ فإن الأعمال بالنيات.
واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها، وذكر طائفة من المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك، استحباب زيارة هذه المساجد وعدوا منها مواضع وسموها. وأما أحمد فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيدًا، مثل أن تنتاب لذلك، ويجتمع عندها في وقت معلوم كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات، وإن كانت بيوتهن خيرًا لهن، إلا إذا تبرجن وجمع بذلك بين الآثار، واحتج بحديث ابن أم مكتةوم...
فأما الأمكنة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد الصلاة أو الدعاء عندها، فقصد الصلاة فيها أو الدعاء سنة، اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباعًا له، كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات؛ فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته، وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب...
وقد تنازع علماء فيها إذا فعل فعلاً من المباحات لسبب، وفعلناه نحن تشبهًا به، مع انتفاء ذلك السبب، فمنهم من يستحب ذلك ومنهم من لا يستحبه. وعلى هذا يخرج فعل ابن عمر رضي الله عنهما، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في تلك البقاع التي في طريقه؛ لأنها كانت منزله، لم يتحر الصلاة فيها لمعنى في البقعة. فنظير هذا: أن يصلي المسافر في منزله، وهذا سنة. فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي صلى فيها اتفاقًا، فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجًا وعمارًا ومسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي - صلى الله عليه وسلم - . ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبًا لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)).
وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، فإذا كان قد نهى عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان، سدا للذريعة. فكيف يستحب قصد الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه، أو صلاتهم فيه، من غير أن يكونوا قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه؟ ولو ساغ هذا لاستحب قصد جبل حراء والصلاة فيه، وقصد جبل ثور والصلاة فيه، وقصد الأماكن التي يقال إن الأنبياء قاموا فيها، كالمقامين الذين بطريق جبل قاسيون بدمشق، اللذثين يقال إنها مقام إبراهيم وعيسى، والمقام الذي يقال إنه مغارة دم قابيل، وأمثال ذلك، من البقاع التي بالحجاز والشام وغيرهما.اهـ. بتصرف.(3/373)
ومن باب الرَّمل في الطواف
((الرَّمَل)): بتحريكِ الميمِ، وفتحِها (1) ، و((الخَبَبُ)): شدةُ الحركةِ في المشيِ؛ ومنه: الرملُ في الأعاريضِ، وهو القصيرُ منها (2) ؛ قال الجوهريُّ: هو كالوثبِ الخفيفِ (3) ،، وهو السَّعيُ أيضًا.
وقد بينَ في الحديثِ سَببَ مشروعيتهِ،، وتبيَّن (4) أيضًا من مداومةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه ثابتٌ دائمًا (5) ، وإن ارتفع سببُ أصلِ (6) مشروعيِته.
وهو سنةٌ عندَ الفقهاءِ أجمعين،، وروي في ذلك خلافٌ عن بعضِ الصحابةِ رضي الله عنهم، وأن المشيَ أفضلُ، وهم (7) محجوبون بفعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حجةِ الوداعِ.
وهو في ثلاثِة أشواطٍ، يبدأُ من الحجرِ، ويختمُ به؛ كما جاء في حديثِ ابنِ عمرَ، وغيرِه.
وقولُ ابنِ عمرَ: ((كان إذا طاف الطوافَ الأوَّلَ خبَّ ثلاثًا)) دليلٌ على أن مشروعيةَ الرَّملِ إنما هو عندَ القدومِ؛ حاجًّا كان أو معتمرًا (8) ،، وأن غيَر ذلك من الأطوافِ لا يشُرعُ فيها الرَّملُ.
ويُخاطَبُ به المكيُّون وغيرهُم، إلا شيئًا رُوي عن ابنِ عمَر (9) ؛ أنه لا يخاطبُ به مكيٌّ، ولا يِخاطَبُ به النساءُ اتفاقًا فيما علمتُه؛ لمشقتِه (10) عليهنَّ؛ ولأنه يُظهِرُ منهن ما يجبُ سَترهُ؛ كالرِّدفِ والنَّهدِ، وغيرِ ذلك. =(3/374)=@
__________
(1) قول الشارح: ((بتحريك الميم وفتحها)) لعله من العطف التفسيري، فـ((التحريك)) ضد التسكين، ويقصد به الفتح، ولم يذكر أحد غير الفتح والتسكين في ميم ((الرمل))؛ قال القاضي في "المشارق" (1/291): بفتح الراء والميم في الاسم والفعل الماضي... وجاءت في رواية بعضهم ساكنة الميم على المصدر قال: والرمل: وثب في المشي ليس بالشديد مع همز المنكبين.
(2) في "العين" (8/267): والرمل: ضرب من الشعر يجري على فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن.اهـ. وقال الدماميني في "العيون الغامزة" (ص190): الرمل أقول: قال الخليل: سمي بذلك تشبيهًا برمل الحصير، أي: نسجه. وقال الزجاج: بالرَّمل وهو سرعة السير.اهـ.
وفي "اللسان" (11/296) عن ابن سيده في "المحكم": الرمَل من الشعر: كل شعر مهزول غير مؤتلف البناء... نحو قوله:
أقفر من أهل ملحوب ... فالقطيبات فالذنوب
(3) نقله عنه القاضي في "الإكمال" (4/336) وليس في "الصحاح".
(4) في (ح): ((وبين)).
(5) في (أ): ((دائم)).
(6) في (ح) و(ز): ((أصل سبب)).
(7) في (ي): (((وهو)).
(8) ؟؟؟.
(9) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/365 رقم111) في الحج ، باب الرمل في الطواف ، عن نافع ، عن ابن عمر .
(10) قوله: ((فيما علمته لمشقته)) في (ز): ((لما علمته في مشقته)).(3/374)
وقولُ ابنِ عباسٍ: ((صدقوا وكذبوا))؛ يعني: أنهم أصابوا من وجه، وغَلِطوا من وجهٍ؛ فأصابوا من حيثُ إنهم نسبوه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وغلطوا (1) من حيثُ ظنوا أن تلك أمورٌ (2) راتبةٌ، لازمةٌ؛ وإنما كان ذلك لأسبابٍ (3) نبَّه عليها فيما ذكرَ من الحديثِ،، ويظهرُ من مساقِ كلامِ ابنِ عباسٍ أنها ليست بسننٍ (4) راتبةٍ عندَه، فارتفعتْ لارتفاعِ (5) أسبابِها، وهذا لا يمكنُ أن يُقالَ في الرَّملِ في الطوافِ والسَّعيِ؛ إذ قد فعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مع فَقْدِ تلك الأسبابِ؛ فينبغي أن يُقالَ: هو سُنةٌ مطلقًا؛ كما هو مذهبُ الجماهيرِ. =()=@
__________
(1) من قوله: ((من وجه فأصابوا...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(2) في (ح) و(أ): ((الأمور)).
(3) في (ح): ((وإذا كان للأسباب)).
(4) في (ي): ((سنن)).
(5) في (ز): ((بارتفاع)).(3/375)
3/375
وقولُهم: ((وهَنَتْهُم حُمَّى يثربَ))؛ أي: أضعفتْهم، وهو ثلاثيٌّ، وقد يقالُ: رباعيًّا؛ قال الفراءُ: يُقال (1) : وَهَنَهُ الله، وأَوْهَنَهُ الله.
و((يثربُ)): اسمُ المدينةِ في الجاهليةِ، واستجد لها في الإسلام: المدينةُ، وطيبةُ، وسيأتي لذلك مزيدُ بيانٍ (2) . و((الجلَد)) التَّجَلُّدُ: القوةُ (3) .
و((الأشواطُ)): الأطوافُ؛ وقد تقدم ذكرُ مَنْ كرهَ لفظَ ((الشوطِ))، و((الأشواطِ)) (4) .
وقوله: ((فلم يمنعْه أن يأمرهم (5) أن يرملوا الأشواطَ إلا الإبقاءُ عليهم))؛ روايتنا: ((الإبقاءُ)) - بالرفعِ - على أنه فاعلُ ((يمنعهم))، ويجوزُ نصبُه على أن يكونَ مفعولاً من أجلِه، ويكون في: ((يمنعهم (6) )) ضميرٌ عائدٌ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو (7) فاعلُه؛ فتأمَّله. والله أعلم (8) . =(3/376)=@
__________
(1) قوله : ((يقال)) سقط من (ح) و(ي). وهذا القول حكاه عنه القاضي في "الإكمال" (4/342). وانظر: "تهذيب اللغة" (9/444)، "لسان العرب" (13/453).
(2) في باب المدينة لا يدخلها الطاعون.
(3) قوله: ((والجلد والتجلد: القوة)) في (أ) و(ز): ((والجلد التجلد والقوة)) وفي (ح): ((والجلد والتجلد والقوة)) والتجلد: إظهار القوة وتكلفها. ينظر "المشارق" (1/149)، "اللسان" (3/126).
(4) في باب...
(5) قوله: ((أن يأمرهم)) سقط من (ي)، وانظر التعليق آخر الفقرة.
(6) قوله: ((فيكون في يمنعهم)) سقط من (ي)، وفي (ز): ((ويكون في منهم)).
(7) في (ز) و(أ) و(ح): ((هو)). *** راجع الورقة***
(8) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).
لفظ ما ورد في الحديث: ((فلم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط إلا الإبقاء عليهم)) وقد تغيرَّت- لفظة ((يمنعه)) من الحديث، إلى ((يمنعهم)) في النسخ وخرج عليهم الشارح جواز نصب ((الإبقاء)) على المفعول لأجله.
وإعراب ((الإبقاء)) فاعلاً ل((يمنعه)) على ما جاء في لفظ الحديث واضح، وضمير النصب فيه يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والاستثناء في الجملة مفرغ، والتقدير: مَنَع الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - الإبقاءُ عليهم من أمرهم بالرمل في الأشواط كلها.
أما نصب ((الإبقاء)) على أنه مفعول لأجله على ما جاء ي لفظ الحديث، فيتأتى على أن الضمير البارز المتصل بـ((ينعه)) ضمير المصدر، مفعول مطلق؛ كما في قوله تعالى: {فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين}. ويكون مفعول ((منع)) المصدر المؤول ((أن يأمرهم)) ويكون متعديًا إلى مفعول واحد.
وأما على ما توهمه الشارح من لفظة ((يمنعهم)) فرفع ((الإبقاء)) على أنه فاعل مستقيم على ما وقع في نسخة (ي) من سقوط ((أن يأمرهم))،، ويستقيم أيضًا مع عدم سقوطها، والاستثناء أيضًا هنا مفرغ، والتقدير في الأول: منعهم الإبقاءُ عليهم من الرمل في الأشواط...، وعلى الثاني: منهم الإبقاءُ عليهم من أن يأمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرمل في الأشواط. أما نصبه على أنه مفعول لأجله، فمستقيم أيضًا ويكون الفاعل لـ((يمنعهم)) ضمير مستتر يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والتقدير: فلم يمنعهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الرمل إلا إبقاءً عليهم. وهذا على إسقاط ((أن يأمرهم)) أما على إثباتها فكذلك إلا أن ((أن يأمرهم)) تكون مصدرًا مؤولا بدل اشتمال من الضمير ((هم)) في ((يمنعهم))، والتقدير: فلم يمنع الرسولُ أمرَهم بالرمل إلا إبقاءً عليهم)).
واللافت للنظر أن الحافظ في "الفتح" (7/509) نقل كلام الشارح هنا، لكنه جعل النصب في ((الإبقاء)) روايةً وليس مجرد تخريج من الشارح، وورد قول الشارح: ((يمنعهم)) عند الحافظ: ((يمنعه))؛ قال الحافظ: قال القرطبي: روينا قوله: ((الإبقاء عليهم)) بالرفع على أنه فاعل ((يمنعه))، وبالنصب على أنه مفعول من أجله، ويكون في ((يمنعه)) ضمير عائد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ((فاعله)).اهـ.
أما العيني في "عمدة القارئ" (9/249) فنقل كلام الشارح كما هو إلا أنه لم يذكر عدد الضمير، قال: ((وقال القرطبي: رويناه بالرفع على أنه فاعل ((يمنعهم))، ويجوز النصب على أن يكون مفعولاً من أجله)).اهـ. ولم يزد.(3/376)
ومن بابِ استلامِ الركنين (1) اليمانِيَيْنِ
قد تقدم القولُ على حكمِ مسِّ الأركانِ. وقد بيَّن في هذا الحديثِ أن الركنينِ اليمانيينِ أحدُهما: الحجرُ الأسودُ، والثاني: الذي يليه من نحوِ دُورِ بني جُمَحٍ، وكلاهما من جهةِ اليمنِ، ولذلك نُسِبا إليه (2) .
وقولُ عبدِالله بنِ سَرْجِسَ: ((رأيتُ الأصيلعَ))؛ يعني: عمرَ بنَ الخطابِ (3) رضي الله عنه، وكان أصلع،، وتصغيرُه في هذا الموضعِ كما قالوا:
.............................. ... دُوَيْهِيِّةٌ تَصْفَرُّ مِنْها الأَنَامِلُ (4) =(3/377)=@
__________
(1) في (ت) و(ك): ((الركنين)).
(2) قول الشارح: ((وكلاهما من جهة اليمن.. إلخ فيه نظر، فإنهما متقابلان، وقد قال النووي في "شرح مسلم" (8/94): ((والمراد بالركنين اليمانيين: الركن اليماني، والركن الذي فيه الحجر الأسود، ويقال له: ((العراقي)) لكونه إلى جهة العراق، وقيل للذي قبله: ((اليماني)) لأنه إلى جهة اليمن. ويقال لهما: ((اليمانيان)) تغليبا لأحد الاسمين؛ كما قالوا: الأبوان، للأب والأم، والقمران لهما: للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهام.اهـ.
وقال قبله: ((اليمانيان)) هما بتخفيف الياء، هذه اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى سيبويه وغيره من الأئمة تشديدها في لغة قليلة، والصحيح التخفيف، قالوا: لأن نسبةُ إلى اليمن فحقه أن يقال: ((اليمنيّ)) وهو جائز، فلما قالوا: ((اليماني)) أبدلوا من إحدى ياءي النسب ألفًا، فلو قالوا: ((اليمانيِّ)) بالتشديد لزم منه الجمع بين البدل والمبدل منه، والذين شددوها قالوا: هذه الألف زائدة، وقد تزاد في النسب؛ كما قالوا: في النسب إلى صنعا: صنعاني، فزادوا النون الثانية وإلى الري: رازي فزادوا الزاي.اهـ.
(3) قوله: ((بن الخطاب)) زيادة من (أ) فقط.
(4) هذا عجز بيت من بحر الطويل، وصدره:
وُكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ ... ............................
ويروي الشطر الثاني: ((خُوَيْخِيَّةٌ...))؛ وهي الداهية.
والبيت للبيد بن ربيعة الصحابي، في قصيدة يرثي فيها – قبل إسلامه - النعمان بن المنذر، ويذكر الموت ويذم الدنيا، ومطلعها:
أَلَا تَسْأَلَانِ الْمَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ ... أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلَالٌ وَبَاطِلُ
حَبَائِلُهُ مَبْثُوثَةٌ بِسَبِيلِهِ ... وَيْفَنى إِذَا مَا أَخْطَأَتْهُ الْحَبَائِلُ
وهي التي قال فيها:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطلُ ... وَكُلُّ نَعِيِمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ نَدْخُلُ بَيْنَهُمْ ... دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ
وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا سَيَعْلَمُ سَعْيَهُ ... إِذَا كُشِفَتْ عِنْدَ الْإِلَهِ المَحَاصِلُ
و((الدويهية)): تصغير الداهية؛ وهي المصيبة والأمر العظيم، ويريد بها هنا الموت؛ واصفرار الأنامل يكون عند الموت، أي: أن كل قوم ستحل بهم مصيبة ينكرونها، وهي في عظمها يتغير لها الحال وتصفر منها أناملهم وهي الموت!
وموضع الشاهد قوله: ((دويهية)) تصغير ((داهية)) مريدًا بها الموت، والموت أعظم مصيبة، فالتصغير هنا يراد به التعظيم.
ومجيءا لتصغير للتعظيم هو رأي الكوفيين، ويرى البصريون أن لتصغير أربعة معان فقط هي: تحقير الشأن، وتقليل الذات، وتقليل العدد، وتقريب البعيد زمنًا أو محلاً أو قدرًا. يؤولون شواهد الكوفيين على مجيئه للتعظيم ويردونها إلى التحقير، ومنها هذا الشاهد؛ يقولون: أراد تحقيرها في أعينهم؛ أي يجيئهم ما يحتقرونه وهو في واقع الأمر تصغر منه الأنامل.
والبيت للشاعر في "ديوانه" (ص132)، و"جمهرة اللغة" (1/232)، و"الصحاح" (1/420) (خوخ)، و"المحكم" (5/139) (خوخ)، و"اللسان" (3/14) (خوخ)، و"تاج العروس" (4/226) (خوخ)، و"مغني اللبيب" (ص143، 202)، و"شرح أبيات المغني" (1/274)، (3/156، 185)، (7/312)، و"خزانة الأدب" (6/155، 159، 160، 161)، و"العقد الفريد" (4/186)، و"المستطرف" (1/27)، و"مجمع الأمثال" (1/126)، وبلا نسبة في "مقاييس اللغة" (2/53) (خوخ)، و"الفرق اللغوية" (ص101)، "شرح المفصل" (5/114)، و"شرح الأشموني" (4/281)، و"الإنصاف في مسائل الخلاف" (1/139)، و"اللباب" (12/158)، و"مغني اللبيب" (ص60، 589)، و"شرح كافية ابن الحاجب" (3/153)، و"شرح الشافية" (1/191)، و"خزانة الأدب" (1/946)، و"الصناعتين" (ص351).(3/377)
وكما قالوا للجبلِ العظيمِ: جُبيلٌ،، ونَعَتَهُ بالصَّلَعِ؛ لأنه نَعْتُه في الكتبِ القديمةِ؛ يقالُ: إنهم كانوا يقولون - أعني: نصارى الشامِ -: إنَّ الذي يفتحُ بيتَ المقدسِ الأصيلعُ. والله تعالى أعلمُ (1) .
وقولُه: ((إني لأعلم أنكَ حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفعُ))؛ دَفْعٌ لتوهُّمِ من وقع له من الجهَّالِ: أن للحجرِ الأسودِ خاصيةً ترجعُ إلى ذاتِه، كما توهمَه بعضُ الباطنيةِ،، وبيانٌ (2) : أنه ليس في تقبيلِه إلا الاقتداءُ المحضُ، ولو كان هناك (3) شيءٌ مما يُفترى (4) لكان عمرُ رضي الله عنه أحقُّ الناسِ بعلمهِ (5) .
وفي هذا الحديثِ ما يدلُّ على أن تقبيلَ الحجرِ من سُنَنِ الطوافِ، والجمهورُ على ذلك، لمن قدر عليه، فإن لم يَقدِرْ وَضَع (6) يدَه عليه (7) ، ثم رفعها إلى فِيهِ بغيرِ تقبيلٍ على إحدى الرِّوايتين عن مالكٍ، وبه قال القاسمُ بنُ محمدٍ، والجمهورُ على أنه يُقبِّلُ يدَه، فإن لم يفعلْ فلا شيءَ عليه عندَهم. قال مالكٌ رحمه الله: ((والسجودُ عليه بدعةٌ))،، والجمهورُ على جوازه (8) .
وأما الركنُ اليمانِي فيسُتلمُ باليدِ، ولا يُقَبَّلُ. وهل تقبلُ (9) اليدُ أو (10) لا؟ قولان،، ولا يخاطبُ النساء بذلك عند الجميع، ويفعل ذلك في آخر كل شوط، وهو في أوَّل الطواف أوكد منه في سائرها. واستحب بعض السَّلف أن يكون لمس الركنين في وترٍ من الطواف. وبه قال الشافعي رحمه الله. =(3/378)=@
__________
(1) قوله : ((والله تعالى أعلم)) سقط من (أ).
(2) في (ح) و(ي): ((وبين)).
(3) في (أ): ((هنا)).
(4) في (ز): ((يقتدى)).
(5) قال الخطابي في "معالم السنن" (2/373): فيه من العلم أن متابعة السنن واجبة وإن لم يوقف لها على علل معلومة وأسباب معقولة، وأن أعيانها حجة على من بلغته، وإن لم يفقه معانيها، إلا أن معلومًا في الجملة أن تقبيله الحجر إنما هو إكرام له وإعظام لحقه وتبرك به، وقد فضل الله بعض الأحجار على بعض، كما فضل بعض البقاع والبلدان، وكما فضل بعض الليالي والأيام والشهور، وهذا كله من باب التسليم، وهو أمر سائغ في العقول جائز فيها غير ممتنع ولا مستنكر.اهـ.
وقال النووي في"شرح مسلم" (9/16): ((وإنما قال: وإنك لا تضر ولا تنفع)) لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها ورجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها وكان العهد قريبًا بذلك فخاف عمر رضي الله عنه أن يراه بعضهم يقبله ويعتني به فيشتبه عليه فبين أنه لا يضره ولا ينفع بذاته وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب، فمعناه أنه لا قدرة له على نفع ولا أشاع عمر هذا في الموسم ليشهد في البلدان ويحفظه عنه أهل الموسم أن دخلوا المسجد وانتهبوا الحجيج واستباحوا دماءهم ودفنوهم في بئر زمزم ونزعوا كسوة الكعبة وقلعوا الحجر الأسود من مكانه وأخذوه إلى بلادهم، وكان ذلك في سنة سبع عشرة وثلاثمائة ولم يزل عندهم حتى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ثنتين وعشرين سنة. وانظر تفصيل أخبار هذه الوقعة في "البداية والنهاية" (15/37- 43).
(6) ).
(7) .
(8) .
(9) في (ت) و(ك): ((يقبل)).
(10) .(3/378)
وقوله: ((رأيت عمر قبَّل الحجر، والتزمه))؛ يعني: عانقه. والحفيُّ بالشيء: المعتني به، البارّ (1) . ومنه قوله تعالى: {إنه كان بي حفيًّا} (2) ، والله أعلم (3) .
ومن باب الطواف على الراحلة
لا خلاف في جواز طواف المريض راكبًا للعذر. واختلف في طواف من لا عذر له راكبًا. فأجازه قوم؛ منهم ابن المنذر؛ أخذًا بطوافه صلى الله عليه وسلم راكبًا. والجمهوز على كراهة ذلك ومنعه، متمسكين بظاهر قول تعالى: {وليطَّوَّفوا بالبيت العتيق} (4) ، وظاهره: أن يطوف الطائف بنفسه. ومن طاف راكبًا إنما عن طيف به، ولم يطف هو بنفسه. وبأن الصحابة رضي الله عنهم اعتذروا عن =(3/379)=@
__________
(1) قوله : ((البار)) سقط من (ح).
(2) ؛ الآية: 47 مريم .
(3) قوله : ((والله أعلم)) سقط من (أ) و(ح).
(4) ؛ الآية: 29 الحج .(3/379)
طوافه صلى الله عليه وسلم راكبًا، وبيَّنوا عذره في ذلك، فكان دليلاً على أن أصل مشروعية الطواف عندهم ألا يكون راكبًا. وأما (1) الأعذار التي ذكروا في ذلك فثلاثة:
أحدها: ما (2) في حديث جابر، وهو: أن يراه الناس إذا أشرف عليهم؛ ليسألوه، ويقتدوا به (3) .
وثانيها: ما ذكرته عائشة رضي الله عنها؛ وهو: أنه صلى الله عليه وسلم لو كان ماشيًا لطرق بين يديه، ولصرفوا عنه، وكان يكرهُ ذلك. على أن قولها: كراهة أن يصرف (4) عنه الناس؛ يحتمل أن يكون الضمير في ((عنه)) راجعًا إلى الركن، فتأمله.
وثالثها: ما ذكره أبو داود (5) : من أنه صلى الله عليه وسلم كان في طوافه هذا مريضًا. وإلى هذا المعنى أشار البخاري بما ترجم على هذا الحديث، فقال: باب المريض يطوف راكبًا.
وقوله: ((فإن الناس غشوه))؛ الرواية الصحيحة: بضم الشين، وهو الصحيح؛ لأن أصله: غشيُوه، استثقلوا الضمة على الياء، فنقلوها إلى الشين، فسكنت الياء (6) ، فلما اجتمعت مع الواو الساكنة حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وفيه تعليل آخر، وما ذكرناه أولى. وكونه صلى الله عليه وسلم يُقبِّل المحجن دليل على صحة أحد القولين السَّابقين.
والمِحْجَنُ: عصًا معقَّفةُ الطرَفِ (7) ، تكونُ عند الراكبِ على البعيرِ ليأخذ بهاَ ما سقط له (8) ، ويحركَ بها بعيرَه. =(3/380)=@
__________
(1) في (ح) و(غ): ((فأما)).
(2) قوله : ((ما)) سقط من (ح).
(3) قوله : ((به)) سقط من (ح).
(4) في (ح): ((ينصرف)).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (3/165 رقم13137) في الحج ، باب في الطواف على الراحلة من رخص فيه ، وأحمد (1/304)، وأبو داود (2/443 رقم1818) في الحج ، باب الطواف الواجب ، والبيهقي (5/100).
جميعهم من طريق يزيد بن أبي زياد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي ، فطاف على راحلته ، كلما أتى على الركن استلم الركن بمحجن ، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين .
قال البيهقي : (( كذا قال يزيد بن أبي زياد ، وهذه زيادة تفرد بها ، والله أعلم ، وقد بيَّن جابر بن عبدالله الأنصاري ، وابن عباس في رواية أخرى عنه ، وعائشة بنت الصديق المعنى طوافه راكبًا)).اهـ.
وقال الحافظ في "تلخيص الحبير" (2/245): ((وإسناده ضعيف ، وقد أنكره الشافعي)).
(6) في (ح): ((الواو)).
(7) أي: معوجة. ينظر: "مشارق الأنوار" (1/182)، و"الإكمال" (4/349)، و"النهاية" (10/347).
(8) قوله : ((له)) سقط من (ح).(3/380)
وقولُه: ((طوفي من وراءِ الناسِ وأنتِ راكبةٌ)) دليلٌ على جوازِ ذلك للعذر.ِ
واختلف قولُ من كرهه معَ عدمِ العذرِ: فذهب مالكٌ، وأبو حنيفة: إلى أنه يعيدُ ما دام قريبًا من ذلك، فإن بَعُدَ إلى مثلِ الكوفِة ففيه دمٌ، ولم يَرَ الشافعيُّ فيه شيئًا.
وإنما أمرها أن تطوفَ من وراءِ الناس؛ لأن ذلك سنةُ طوافِ النِّساءِ؛ لئلا يختلطْنَ بالرِّجالِ، ولئلا يعثر (1) مَرْكبُها بالطائفين فيؤذِّيَهم. وعلى هذه العلَّة؛ فكذلك يكونُ حكمُ الرجلِ إذا طاف راكبًا.
وفي هذه الأحاديثِ حُجَّة لمالكٍ على قولِه بطهارةِ بولِ (2) ما يؤكلُ لحمهُ (3) .
و((الطورُ)): الجبلُ؛ بالسِّريانيةِ، وقال ابنُ عبَّاسٍ (4) : كلُّ جبلٍ يُنبِتُ فهو طُورٌ. و((الكتابُ)): المكتوبُ. و((الرَّق المنشور)): هو الجِلْدُ المهيَّأ ليكتبَ فيه، وأحسنُ ما قيل فيه: إنه القرآنُ المكتوبُ في المصاحفِ. وهذه أقسامٌ أقسمَ الله تعالى بها (5) تشريفًا لها. والله أعلم (6) . =(3/381)=@
__________
(1) كذا في النسخ، وفي "الإكمال" (4/348): ((يضر))، وهو أجود.
(2) سقط من (ي).
(3) قال في "الإكمال" (4/348): إذا كان نجسًا لم يدخل المسجد؛ إذ لا يؤمن من ذلك منه فيه.
(4) أخرجه ابن جرير (1/326)، وابن أبي حاتم (1/129 رقم651) من طريق بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس .
وإسناده ضعيف لأجل بشر بن عمارة ، والضحاك لم يلق ابن عباس .
والأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/148)، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه .
(5) قوله: ((أقسم الله تعالى بها)) في (أ): ((أقسم بها الله تعالى)).
(6) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/381)
ومن بابِ قولِه تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} (1)
قد تقدم القولُ (2) في قولِه تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} في حديثِ جابرٍ (3) . واختلف العلماءُ في حكمِ الطوافِ بين الصفا والمروة؛ هل (4) هو ركنٌ في الحجِّ والعمرةِ؛ كما ذهب إليه الجمهورُ، أو ليس بركنٍ، كما ذهب إليه جماعةٌ من السَّلفِ وغيرِهم؟ ثم مِنْ هؤلاء مَنْ قال: إنه تطوعٌ لا يُجبرُ بالدمِ (5) ؛ وهم: أنسٌ (6) ، وعبدُالله بنُ الزبيرِ (7) ، وابنُ سيرين،، ومنهم من قال: يُجبُر بالدمِ (8) ؛ وهم: الحسنُ البصريُّ، وقتادةُ، وسفيانُ الثوريُّ، وأبو حنيفة،، وربما أطلق عليه بعضُهم لفظَ الواجبِ (9) ،، وقال أصحابُ الرأيِ: إن تركه أو أربعةً منه، فعليه دمٌ، وإن ترك من الثلاثةِ شيئًا؛ فعليه لكلِّ شوطٍ إطعامُ مسكينٍ نصفَ صاعٍ من حنطةٍ (10) ،، والصحيحُ مذهبُ الجمهورِ على ما يأتي (11) .
وقولُ (12) عروة: ((ما أرى على أحدٍ لم يطفْ بين الصفا والمروةِ شيئًا، وما أبالي =(3/382)=@
__________
(1) سورة البقرة؛ الآية: 158.
(2) في (ز): ((الكلام)).
(3) تقدم في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(4) في (ح): ((وهل)).
(5) أي: لا شيء على من تركه؛ فلا يحتاج إلى جبره بالدم، وقد ذكر ابن عبد البر في "الاستذكار" (12/205- 206) إيجاب الدم عن بعض من روى عنهم أنه تطوع، منهم الحسن وسفيان والكوفيون، وروي عن الحسن أيضًا أنه لا شيء عليه، وروي عن عطاء أنه ليس عليه شيء وروي عنه أن عليه دمًا.
(6) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (3/242 و243 رقم2358 و2359 و2364) من طرق عن عاصم الأحول قال : قال أنس بن مالك : هما تطوع .
(7) أخرجه ابن جرير (3/242 رقم2362) عن المثنى ، عن حجاج ، عن أحمد ، عن عيسى بن قيس، عن عطاء ، عن عبدالله بن الزبير ، قال : هما تطوع. وانظر تعليق محمود شاكر .
(8) قوله: ((يجبر بالدم)) في (أ): (يجبره الدم)).
(9) هو أبو حنيفة، انظر: "الإكمال" (4/352)، و"شرح النووي" (9/20)، و"المبسوط" (4/50).
(10) ينظر: "المبسوط" (2/407)، وعبارته فيه ((... وإن ترك ثلاثة أشواط...)) يعني: إن جاء بأربعة أشواط وترك ثلاثًا، وعبارة الشارح توهم غير ذلك.
(11) في باب...
(12) في (ت) و(ك): ((وقوله)).(3/382)
ألاّ أطوفَ بهما (1) ))؛ إنما فهم هذا عروةُ من ظاهرِ قولِه تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوَّف بهما} (2) ، ووجهُ فهمِه أنَّ رفعَ الحرجِ عن الفعلِ إنما يُشعرُ بإباحتِه، لا بوجوبِه، وهو مُقتضى ظاهرها؛ إذا لم يُعتبر سببُ نزولِها،، فإذا وُقف على سببِ نزولِها تحقَّق الواقفُ عليه أنها إنما أتت رافعةً لحرجِ من تحرَّجَ من الطوافِ بينهما على ما يأتي (3) .
وقد اختلف فيه (4) قولُ عائشةَ، واختلف الرواةُ عنها في ذلك؛ ففي بعضِ الرواياتِ عنها: أن أهلَ المدينةِ كان من أَهلَّ منهم لِمَناةَ؛ لم يطفْ بينهما، وكأن هؤلاء بَقُوا بعدَ الإسلامِ على ذلك الامتناعِ حتى أنزلت الآيِة، وفي بعضِها: أن من أهلَّ لإسافٍ ونائلةَ جاء فطاف بينهما، وكأن هؤلاء لما انقطع الإهلالُ لإسافٍ ونائلةَ بالإسلامِ (5) ، خافوا ألا يكونَ مشروعًا لمن لم يهلَّ لهما؛ فرفع الله تعالى تلك التوهماتِ كلَّها بقوله: {فلا جناح عليه}، وقد ذكر أبو بكر بنُ عبدِالرحمن عندَ سماعِه قول عائشةَ - رضي الله عنها - ما يدلُّ على سببينِ (6) آخرينِ، نصَّ عليهما في متنِ (7) الحديثِ.
ويرتفعُ الإشكالُ، ويصحُّ الجمعُ بين هذه الرواياتِ المختلفةِ بالطريقِ الذي سلكه أبو بكر بنُ عبدالرحمن؛ حيثُ قال: ((فأراها نزلت في هؤلاء =(3/383)=@
__________
(1) في (ت) و(ك): ((لهما)).
(2) سورة البقرة؛ الآية: 158.
(3) في باب...
(4) أي: في سبب نزول الآية، وانظر سبب نزولها في "تفسير الطبري" (3/230، 240).
(5) في (ح): ((جاء الإسلام)).
(6) في (أ): ((شيئين)).
(7) في (ز): ((معنى)).(3/383)
وهؤلاء))؛. فنقولُ (1) : نزلت الآيةُ جوابًا لجميعِ هؤلاء الذين ذُكرت أسبابُهم، ورافعةً للحرجِ عنهم (2) . والله أعلم.
و((مناةُ)): صنمٌ كان نصبَه عمرُو بن لُحّيٍّ بجهةِ البحرِ بالمُشَلَّلِ، وهو موضعٌ مما يلي قُدَيْدًا،، وقال ابنُ الكلبيِّ: مناةُ: صخرةٌ لهذيلٍ (3) بقديدٍ.
وقوله في الرواية الأخرى: ((إن الأنصارَ كانوا يهلُّون في الجاهليةِ لصنمين على شطِّ البحرِ؛ يقال لهما: إسافٌ ونائلةُ)) هكذا روايةُ أبي معاويةَ عندَ الكافِة من الرواةِ، وعندَ ابنِ الحذَّاء:((في الجاهلية لمناةَ، وكانت صنمين على شط البحر))، وهذا هو الصحيحُ، كما تقدَّم من قولِ الكلبيِّ وغيرِه (4) . قالوا: وأما إسافٌ ونائلةُ فلم يكونا قطُّ بجهةِ البحرِ، وإنما كانا - فيما يقال – رَجُلً (5) اسمه: إساف ُبنُ بقاءٍ، ويقال: ابنُ عمرو، وامرأةً اسمُها: نائلةُ ابنةُ ذئبٍ، ويقال: ديكٍ، ويقال: بنتُ سهلٍ (6) - كانا من جُرهمٍ زنيا في (7) داخلِ الكعبةِ؛ فمسخهما الله تعالى حجرين، فَنُصبا عندَ الكعبِة - وقيل: بل على الصفا والمروةِ - لِيُعتبرَ بهما ويُتَّعظُ، ثم حوَّلهما قصيٌّ؛ فجعل أحدَهما لَصْقَ الكعبةِ، والآخرَ بزمزم، وقيل: بل جعلهما بزمزم، ونحر عندَهما، وأمر بعبادتِهما، فلما فتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ كسرهما. والله أعلم. =(3/384)=@
__________
(1) في (ز): ((فيقول)).
(2) وكذلك قال الطبري في "تفسيره" (3/239).
(3) في (أ): (لهذيد)). وانظر: "الأصنام" لابن الكلبي (ص13- 14)، وفيه أنها لهذيل وخزاعة. وقوله: ((صخرة)) كذا في النسخ، و"الإكمال" (4/353) وليس هو في ((الأسنام))، ولعل: الصواب: ((صنم)). وعبارة بـ((الأجسام)): وكان منصوبًا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد بين المدينة ومكة.
(4) هذا الذي صححه الشارح خطأه القاضي كما خطأ الرواية الأولى، وصوب الرواية التي فيها: ((يهلون لمناة)) والتي فيها ((لمناة الطاغية التي بالمشلَّل)) قال القاضي: ((وهذا هو المعروف)، ثم ذكر ما نقله الشارح عنه من أن ((مناة)) صنم نصبه عمرو بن لحلي... إلخ. قال: ((وكذا جاء مفسرًا في هذا الحديث في "الموطأ"، وله كانت الأزد وغسان تهل لحجها)) ثم ذكر قول ابن الكلبي: ((إن مناة صخرة لهذيل بقديد)).
وقول الشارح: ((كما ذكر الكلبي وغيره)) يقصد: ابن الكلبي، وهو يروي عن أبيه وغيره، ويقصد بـ((غيره)) القاضي عياض حيث نقل الشارح عنه.
قوله: ((مناة صنم...)) إلخ. أما تصحيح الشارح لهذه الرواية بناء على ما ذكره ابن الكلبي وغيره فلا يستقيم؛ لأن ما ذكره ابن الكلبي وغيره أن ((مناة)) صخرة أو صنم واحدًا، والصواب فقط في هذه الرواية أنها ((مناة)) وأنها عند ساحل البحر، أما كونها ((صنمين)) فقد خطأه القاضي عياض كما سبق، أما الرواية الأولى التي فيها أن الصنمين اللذين عند شط البحر هما ((إساف ونائلة)) فخطؤها من حيث إن إسافًا ونائلة ليسا عند شط البحر، كما سيذكره الشارح ناقلاً عن القاضي عياض.
(5) كذا في النسخ و"الإكمال" المخطوط، بدون ألف، ووقع في المطبوع من "الإكمال" (4/353): ((كان... رجلاً...)). ويمكن تخريجه على لغة ربيعة؛ حيث يحذفون ألف المنون المنصوب، وعليه لابد من قرارته منونًا ولو لم ترسم الألف. والأولى ((...كانا... رجلاً...)). انظر: على "؟؟؟ تسهيل الفوائد" (4/302- 303، و"شرح الأشموني" (4/351)، و"شرح قطر الندى" (ص356).
(6) وقع اسم الرجل في النسخ: ((بقاء)) وفي "الإكمال" المخطوط: ((بقا)) ولم ينقط الباء، وكذلك نقله عنه النووي في "شرح مسلم" (9/22)، ووقع في المطبوع من "الإكمال" (4/353): ((نقاد))، وفي "الأصنام" (ص9): ((إساف بن يعلى)) بلا خلاف أما اسم المرأة ففي "الإكمال" المخطوط (بنت ذئب)) ويقال ديك، ويقال بنت سهيل. وسقط من المطبوع ((فيقال: ديك)) ووقع فيه: ((سهل))، ووقع في "شرح النووي" ناقلاً عن القاضي كما في المطبوع من "الإكمال" ، وفي "الأصنام": ((نائلة بنت زيد)) بلا خلاف في اسمها، وفي "السيرة" ( / ): ((بنت ديك)) بلا خلاف أيضًا.
(7) قوله : ((في)) سقط من (أ) و(ح).(3/384)
وقولُها: ((لو كانت كما قلت؛ لكانت: فلا جناح عليه (1) ألا يطوف بهما))؛ هذا يدلُّ: على أن الذي رُوي أنه في مصحفِ أُبيٍّ (2) : ((ألا يطوفَ بهما)) بإثبات ((ألا)) ليسَ بصحيحٍ؛ إذ لو كان كذلك لكانت عائشةُ رضي الله عنها أعرفَ الناسِ به، ولَمَا خفي عليها ولا على غيرِها ممَّن له عنايةٌ بالقرآنِ (3) .
وقولُها: ((قد سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الطوافَ بينهما))؛ سن: بمعنى شرع وبيَّن.
وهو ركنٌ واجبٌ (4) من أركانِ الحجِّ والعمرةِ عندَ جمهورِ السلفِ، وفقهاءِ الخلفِ، كما تقدم، ولا (5) ينجبرُ بالدَّمِ،، ومن تركه أو شوطًا منه عاد إليه ما لم يُصِب النساءَ؛ فإن (6) أصاب أعاد قابلاً حجةً أو عمرةً.
واستدل الجمهورُ (7) : بأن الله تعالى قد جعله من الشعائِر، وفعلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: ((خذوا عني مناسككم)) (8) ، وبحديثِ أمِّ حبيبة (9) بنتِ أَبي تَجْرَاةَ (10) الشيبيةِ (11) ؛ قالت: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوفُ بين الصفا والمروةِ، وهو يقولُ: ((اسْعَوْا فَإِنَّ الله كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ))، غيرَ أن هذا الحديثَ تفرَّد به عبدُ الله بنُ المؤمِّلِ، وهو سِّيءُ الحفظِ، واستيفاءُ الاستدلالِ في مسائلِ الخلافِ. والله أعلم (12) . =(3/385)=@
__________
(1) قوله : ((كما قلت لكانت : فلا جناح عليه)) سقط من (ح).
(2) أخرجه ابن أبي داود في "المصاحف" (ص63) عن إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، عن حجاج، عن حماد قال: وجدت في مصحف أُبي: (( فلا جناح عليه ألا يطوف بهما)).
وكذلك هي في مصحف ابن مسعود، وقرأ بها ابن عباس وابن سيرين وشهر بن حوشب؛ كما في "البحر المحيط" (1/631)، و"تفسير الطبري" (3/242).
وقد جمع الطبري بينها وبين قراءة الجمهور على زيادة ((لا)) بعد أن أنكرها وأسند إلى عائشة رضي الله عنها إنكارها لها. وكذلك خرجها أبو حيان في "البحر المحيط"؛ نحو قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12]، فيتحد معنى القراءتين. ولأبي حيان بحث في إثبات القراءتين وأن ((لا)) على بابها للنفي، وأن القراءتين نصًّا على نفي الحرج عن الفاعل والتارك؛ فدل على التخيير.
(3) ؟؟؟.
(4) قوله : ((واجب)) سقط من (أ).
(5) في (أ) و(ح): ((لا)).
(6) في (ح): ((وإن)).
(7) في (ز): ((للجمهور)).
(8) سيأتي في باب رمي جمرة العقبة برقم (1148).
(9) صحيح بمجموع طرقه. انظر "مختصر استدراك الذهبي" (5/2435-2445 رقم834 و835).
(10) في (ز): ((بجراة)).
(11) في (ز): ((الشبيبة)).
(12) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/385)
ومن باب متى يقطع الحاج التلبية؟
((الشَّعِبُ)): الطريقُ في الجبلِ. ويعني بـ ((دونَ المزدلفةِ)): قربَها (1) ، وناحيةً منها.
وقولُه: ((قلتُ: الصلاةَ، يا رسول الله!))؛ قيدناه (2) : ((الصلاة)) بالنصبِ على أنه مفعولٌ بفعلٍ مضمرٍ؛ تقديرُه: أَجِبِ الصلاة،، ويجوزُ الرفعُ على الابتداءِ وإضمارِ الخبرِ؛ أي: الصلاةُ حضرتْ. فأما: ((الصلاةُ أمامَك)) فليسَ إلا الرفعُ على الابتداءِ، والخبرُ في: ((أمامَك)).
وقولُه: ((لم يزل يلبِّي حتى بلغ الجمرةَ))؛ أخذ بهذا جماعةٌ من السلفِ، وجمهورُ فقهاءِ الأمصارِ: الشافعيُّ، والثوريُّ، وأصحابُ الرأيِ، وروي عن مالك (3) .
ثم هل يقطعُها إذا رمى أوَّلَ حصاةٍ، أو حتى يُتِمَّ السبعَ؟ قولان عنهم (4) ،، =(3/386)=@
__________
(1) في (ز): ((قرنها)).
(2) في (أ): ((قيدنا)).
(3) ؟؟؟.
(4) في (ي): ((عندهم)) .(3/386)
ومشهورُ مذهبِ مالكٍ: أنه (1) يقطعُها بعدَ الزوالِ من يومِ عرفَة، ورواه عن عليٍّ (2) وابنِ عمرَ (3) ، وعائشةَ (4) ، وهو مذهبُ أكثرِ أهلِ المدينةِ،، ثم هل يقطعهُا بعدَ الزوالِ، أو بعدَ الصلاةِ، أو عندَ الرَّواحِ إلى الموقفِ؟ ثلاثةُ أقوالٍ في مذهبِه،، وقال (5) ابنُ الجلابِ: مَنْ أحرم مِن عرفةَ لبَّى حتى يرميَ الجمرةَ. وقال الحسن بن حيٍّ (6) : حتى يصلِّيَ الغداةَ يومَ عرفةَ (7) .
وإنكارُ الناسِ على ابنِ مسعودٍ التلبيةَ بعدَ الإفاضةِ من عرفة (8) ؛ دليلٌ على أن عملَهم كان على قطعِها قبلَ ذلك، وهو متمسَّكٌ لمالكٍ على أصلِه في ترجيحِ العملِ على الخبرِ، وهذا نحوٌ مِمَّا تقدم من إنكارِ النَّاسِ على عائشةَ إدخالَ الجنازةِ في (9) المسجدِ.
و((الخذفُ)): رميُ الحجرِ بين أَصبعين؛ قال امرُؤُ القيسِ:
كأنَّ الْحَصَا مِنْ خَلْفِها وَأَمَامِهَا (10) ... إِذَا نجلته رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرا (11)
ويعني بـ ((حصا الخَذْفِ)): صغارُ الحصا. وهذا يدلُّ على أن الجمارَ يُجاءُ =(3/387)=@
__________
(1) في (ح): ((أن)).
(2) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/338 رقم44) في الحج ، باب قطع التلبية ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : أن علي بن أبي طالب كان يلبي في الحج ، حتى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية .
(3) أخرجه مالك في الموضع السابق رقم (46) عن نافع : أن عبدالله بن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة ، فإذا غدا ترك التلبية ، وكان يترك التلبية في العمرة إذا دخل الحرم .
(4) أخرجه مالك في الموضع السابق رقم (45) عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنها كانت تترك التلبية إذا رجعت إلى الموقف .
وقال الحافظ في "الفتح" (3/533): ((رواه ابن المنذر ، وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة، وسعد بن أبي وقاص ، وعلي)).اهـ.
(5) في (ح): ((فقال)).
(6) في (ز) و(ي): ((حيي))، وهو الحسن بن صالح بن صالح بن حي. "سير أعلام النبلاء" (7/361)، وقد تقدم كثيرًا. [تراجع النسخ]
(7) كذا في النسخ؛ حكاية هذا القول عن الحسن بن حي، وفي "الإكمال" (4/357): ((وقال الحسن: يلبي حتى يصلي الغداة يوم عرفة ثم يقطع)). وظاهره أنه الحسن البصري، وكذلك هو في "التمهيد" (13/76)، و"الاستذكار" (11/158)؛ قال ابن عبد البر: ((وبما روي عن ابن عمر في هذا الباب كان الحسن البصري وغيره يقولون؛ ذكر إسماعيل القاضي، قال: حدثنا علي بن المديني؛ قال حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا هشام، عن الحسن، في الذي يهل بالحج من مكة، قال: يلبي حتى يغدو الناس من منى إلى عرفات)).اهـ. وذكره النووي في "شرح مسلم" (9/27) بأصرح من ذلك؛ قال: ((وقال الحسن البصري: يلبي حتى يصلي الصبح يوم عرفة ثم يقطع)).اهـ. وهناك قولٌ آخر في المسألة؛ وهو أنه يلبي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة؛ ذكره النووي عن أحمد وإسحاق وبعض السلف.
(8) قوله : ((عرفة)) في (أ): ((يوم عرفة)).
(9) في (ي): ((من)).
(10) رواية صدر البيت في (ز) وحاشية (أ): ((كأن صليل المرو حين تشذه))، وفي (ز): ((ضليل)). وانظر: تخريج البيت في التعليق الآتي.
(11) البيت من بحر الطويل، في أبيات من قصيدة لامرئ القيس يصف فيها ناقته، وقد تقدم تخريج أحدُ أبياتها، وسقنا هناك بعض هذه الأبيات، في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
و((نجلته)) أي: رمته، وخذف أعسر: رمي الرجل الأعسر الذي يرمي بيده اليسرى، يريد أن سرعتها تجعل رجليها ترمي الحصى في كل مكان رميا غير مستقيم كأنما هي رجل أعسر يخذف الحصى بيده اليسرى!
والبيت لامرئ القيس في "ديوانه" (ص64)، و"شرح ديوانه" (ص105)، و"أشعار الشعراء الستة الجاهليين" (1/66)، و"جمهرة اللغة" (1/582)، و"المحكم" (7/297)، و"لسان العرب" (9/61) (حذف) و(11/647) نجل (وفيه: ((أنجلته)) تصحيف)، و"تاج العروس" (15/7017) (نجل) (وفيه: ((أنجلته)) تصحيف))، و"الكامل" للمبرد (2/1009)، و"الشعر والشعراء" (1/129- 130).
وبلا نسبة في "مقاييس اللغة" (1605)، و"الصحاح" (4/1347- 1348)، وذكر منه فقط ((حذف أعسرا)).(3/387)
بُها إلى موضعِ الرميِ من (1) غيرِ موضعِ الرمي؛ لئلا يُرمى بما (2) قد رُمِي به (3) ، وذلك لا يجوزُ،، واستحبَّ مالكٌ لَقْطَها (4) على كَسْرِها، وغيرُه يستحبُّ (5) كسرَها، وكلٌّ جائزٌ.
وتخصيصُ عبدِالله سورةَ (6) البقرةِ بالذكرِ؛ لأن معظمَ أحكامِ الحجِّ فيها مذكورٌ. والله تعالى أعلم (7) .
ومن باب ما يقال في الغدوِّ من منى إلى عرفات
ظاهرُ هذا الحديثِ؛ بل وأحاديثِ هذا البابِ: جوازُ التلبيةِ، والتكبيرِ، =(3/388)=@
__________
(1) في (ح): ((في)).
(2) في (أ): ((ما)).
(3) سقط من (ز).
(4) في (ز): ((لفظها))، وفي (ح): ((لفطها)). [وقد شطبت هذه الحاشية من الهامش وبقيت في المتن]
(5) في (ي): (فيستحب)).
(6) في (ي): ((بسورة))، وفي (ز): ((لسورة)).
(7) قوله: ((والله تعالى أعلم)) ليس في (ز).(3/388)
والتهليلِ في الغدوِّ إلى عرفاتٍ، والإفاضةِ منها، وبذلك قال مالكٌ وغيُره، بل ولا نعلم خلافًا في جوازِ ذلك؛ مع أن التلبيةَ أفضلُ في الحجِّ والعمرةِ إلى وقتِ قطعِها (1) ، وقد ذكرنا متى يقطعُها الحاجُّ. فأما المعتمرُ (2) : فعند مالكٍ إن أحرم من التنعيم فيقطعُها إذا رأى الحرم. وعنه: أنه إن أحرم من الجعرانِة قطع (3) إذا دخل مكة (4) . وعند أبي حنيفة، والشافعيِّ: يقطعُها المعتمرُ (5) إذا ابتدأ الطوافَ؛ ولم يفرقا بين القُربِ والبعدِ. =(3/389)=@
__________
(1) في (ح) و(ي): ((قطعهما)).
(2) في (ز): ((المعتمرون)).
(3) في (ح): ((وقطع)).
(4) في (ح) و(ز) و(ي): ((منه)).
(5) في (أ): ((المحرم)).(3/389)
وقولُه (1) في حديثِ أسامةَ بن زيدٍ: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - نزل فبال، ثم توضأ، ولم يسبغِ الوضوءَ))؛ أي: لم يكملْه. وهل اقتصر على بعضِ الأعضاءِ؛ فيكونَ وضوءًا لغويًّا؟ أو اقتصر على بعضِ الأعدادِ؛ وهو (2) الواحدةُ مع استيفاءِ الأعضاءِ؛ فيكونَ وضوءًا شرعيًّا؟ قولان لأهلِ الشرحِ؛ وكلاهما محتملٌ. وقد عضد من قال بالشرعيِّ قولَه بقولِ الراوي: ((وضوءًا خفيفًا))؛ فإنه لا يقالُ في النَّاقصِ من الأصلِ: خفيفٌ؛ وإنما يقال: ((خفيفٌ))؛ في ناقصِ الكيفيةِ، ولا خلافَ في أن قولَهُ: ((فأسبغ الوضوء)): أنه الشرعيُّ (3) .
وقولُه: ((ثم أقيمتِ الصلاةُ، فصلَّى المغربَ، ثم أقيمتِ العشاءَ))؛ دليلٌ على جوازِ الاقتصارِ على الإقامةِ في الجمعِ من غيرِ أذانٍ، وقد تقدم الخلافُ في ذلك في حديثِ جابرٍ (4) ، وأنه ذكر فيه الأذانَ للأولى (5) . ويحتملُ قولُه: ((أقيمت الصلاةُ (6) )) ههنا: شُرع فيها، ففعُلتْ بأحكامِها - كما يقالُ: أقيمتِ السُّوقُ: إذا حُرك فيها ما يليقُ بها من البيعِ والشراءِ - ولم يقصدِ الإخبارَ عن الإقامةِ، بل عن الشروعِ (7) . =(3/390)=@
__________
(1) هذا أول شرح باب الإفاضة من عرفة والصلاة بالمزدلفة، ولم يترجم له الشارح في الشرح.
(2) في (ح): ((أوهو)).
(3) في (ز): ((شرعي)).
ممن ذهب إلى ترجيح الوضوء اللغوي وعبر عنه بـ((الاستنجاء)) أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد" (13/158- 159)، و"الاستذكار" (13/162)؛ قال: وذلك (أي: الاستنجاء) يسمى وضوءًا في كلام العرب؛ لأنه من الوضاءة التي هي النظافة. ومعنى قوله: ((لم يسبع الوضوء)) أي: لم يكمل وضوء الصلاة، والإسباغ الإكمال، فكأنه قال: لم يتوضأ وضوءه للصلاة، ولكنه توضأ من البول. هذا وجه هذا الحديث عندي والله أعلم.اهـ.
ومنع أن يكون توضأ وضوءًا خفيفًا أو على بعض أعضاء وضوئه أو توضأ مرتين؛ قال: ألا ترى أنه لما حانت تلك الصلاة في موضعها نزل فأسبغ الوضوء لها؛ أي: توضأ لها كما يجب؛ فالوضوء الأول عندي: الاستنجاء بالماء لا غير؛ لأنه لم يحفظ عنه قط أنه توضأ لصلاة واحدة مرتين وإن كان يتوضأ لكل صلاة. ويحتمل قوله: ((الصلاة)) أي: توضأ لها؛ إذ رآه اقتصر على الاستنجاء ويحتمل غير ذلك.اهـ.
وممن رجح الوضوء الشرعي القاضي عياض في "الإكمال" (4/356)؛ قال: ((تُوهم لفظة ((لم يسبغ)) أن الأول لم يكن وضوءًا للصلاة، وكذلك تأوله بعضهم، وقيل: بل وضأ بعض أعضاء وضوئه. وليس كذلك، بل كان وضوءه الأول للصلاة، ثم توضأ آخر بالمزدلفة لعذر طرأ عليه، وليس يقال للاستنجاء: ((وضوءًا خفيفًا)) ولا: ((ليس بالبالغ)). ومعنى ((لم يسبغ)) أي: لم يكرره، وقد يكون ضوءه بالمزدلفة لتمام الفضيلة بتكراره وتمام عدده ثلاثًا، والله أعلم. ويدل على أنه وضوء للصلاة قوله: ((ذهب إلى الغائط فلما رجع صببت عليه من الإداوة فتوضأ وخففه)) ليكون على طهارة أو لاستعجاله، فلما أتى المزدلفة أتم فضيلته بالتكرار أو ابتدأ فرضه لحدث اعتراه. والله أعلم. ولا وجه لقول من قال: إنه توضأ وضوءين ليخص كل صلاة – من الصلاتين التي (اللتين) جمع بعد المزدلفة – بوضوء، على عادته من الوضوء لكل صلاة ؛ إذ تكرار الوضوء قبل أ داء فريضة به ممنوع، ومن السرف المنهي عنه، إنما الفضيلة في تكراره بعد صلاة فرض به.اهـ.
وقريبًا منه قال النووي في "شرح مسلم" (9/25).
وقال الحافظ في "الفتح" (3/521):
قال القرطبي: اختلف الشراح في قوله: ((ولم يسبغ الوضوء)) هل المراد به: اقتصر به على بعض الأعضاء؛ فيكون وضوءًا لغويًّا؟ أو: اقتصر على بعد العدد؛ فيكون ضوءًا شرعيًّا؟ قال: وكلاهما محتمل، كن يعضد من قال بالثاني قولُه في الرواية الأخرى: وضوءًا خفيفًا))؛ لأنه لا يقال في الناقص: خفيف. ومن موضحات ذلك أيضا قول أسامة ومن موضحات ذلك أيضا قول أسامة له الصلاة فإنه يدل على أنه رآه يتوضأ وضوءه للصلاة ولذلك قال له أتصلي كذا قال بن بطال وفيه نظر لأنه لا مانع أن يقول له ذلك لاحتمال أن يكون مراده أتريد الصلاة فلم لم تتوضأ وضوءها وجوابه بأن الصلاة أمامك معناه أن المغرب لا تصلى هنا فلا تحتاج إلى وضوء الصلاة وكأن أسامة ظن أنه صلى الله عليه و سلم نسي صلاة المغرب ورأى وقتها قد كاد أن يخرج أو خرج فأعلمه النبي صلى الله عليه و سلم أنها في تلك الليلة يشرع تأخيرها لتجمع مع العشاء بالمزدلفة ولم يكن أسامة يعرف تلك السنة قبل ذلك وأما اعتلال بن عبد البر بأن الوضوء لا يشرع مرتين لصلاة واحدة فليس بلازم لاحتمال أنه توضأ ثانيا عن حدث طارئ وليس الشرط بأنه لا يشرع تجديد الوضوء إلا لمن أدى به صلاة فرضا أو نفلا متفق عليه بل ذهب جماعة إلى جوازه وإن كان الأصح خلافه وإنما توضأ أولا ليستديم الطهارة ولا سيما في تلك الحالة لكثرة الاحتياج إلى ذكر الله حينئذ وخفف الوضوء لقلة الماء حينئذ وقد تقدم شيء من هذا في أوائل الطهارة وقال الخطابي إنما ترك إسباغه حين نزل الشعب ليكون مستصحبا للطهارة في طريقه وتجوز فيه لأنه لم يرد أن يصلي به فلما نزل وأرادها أسبغه
(4) في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(5) في (ز): ((للأول))، وفي (ي): ((الأولى.
(6) ((الصلاة)) سقط من (أ) و(ز) و(ح).
(7) القول بالاقتصار على الإقامتين دون الأذان، أحد قولي الشافعي وأحد قولي أحمد، وغليه ذهب القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر، وصحح الشارح في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - القول: بالأذان الأولى، والإقامة لكل صلاة، وهو القول الآخر للشافعي وأحمد، وبه قال أبو ثور وابن الماجشون والطحاوي، قال النووي (8/188)، (9/31): ((وهذا هو الصحيح من مذهبنا)). وانظر ما تقدم في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وتأويل الشارح لـ((أقيمت)) بمعنى: شُرع فيها، يريد: أن هذه الرواية تحتمل أنها لم تتعرض لذكر الأذان ولا الإقامة؛ فلا يكون فيها دليل على الاقتصار على الإقامتين دون الأذان.(3/390)
وقولُه: ((ثم أناخ كلُّ إنسانٍ بعيرَه في منزلِه))؛ يعني: أنهم بادروا بالمغربِ عندَ وصولهِم إلى المزدلفةِ، فصلَّوهَا قبل أن يُنَوِّخوا (1) إبلَهم، ثم لما فرغوا من صلاةِ المغربِ نوَّخوها (2) ولم يحلُّوا رحالَهم مِنْ عليها، كما قال في الروايةِ الأخرى؛ وكأنها شوَّشت عليهم بقيامِها، فأزالوا ما شوَّش عليهم. ويُستدل به على جواز العملِ اليسيرِ بين الصلاتين المجموعتين.
وقولُه: ((ولم يصلِّ بينهما شيئًا)) حجَّةٌ على من أجاز التنفلَ بين الصلاتين المجموعتين، وهو قولُ ابنِ حبيبٍ من أصحابِنا، وخالفه بقيةُ أصحابِنا (3) ، فمنعوه.
وقولُه: ((ولم يَحْلُّوا))- بضمِّ الحاءِ - يعني: أنهم لم يَحلُّوا رحالَهم، ولا سبيلَ إلى كسرِ الحاءِ، كما توهَّمه مَنْ جَهِل (4) .
وقوله: ((كيف فعلتمُ حين أصبحتُم؟ قال: رَدِفَه الفضلُ بنُ عباسٍ، وانطلقتُ أنا في سُبَّاقِ (5) قريشٍ على رجليَّ (6) )) يظهرُ (7) منه أن هذا الجوابَ غيرُ مطابقٍ لما سأله عنه، فإنه سأله عن كيفيةِ صنعهِم في النسك، فأجابه بإردافِه الفضلَ بنَ العباسِ (8) ، وسبقِه (9) على رجليه، وليس كذلك، بل هو مُطابقٌ؛ لأنه أخبره بما يتضمنُ نَفْرَهم من المزدلفةِ إلى منى، فكأنه قال: نَفَرْنا إلى منى. =(3/391)=@
__________
(1) أنا في البعير فاستناخ البعيرُ، ونَوَّخه فتنوَّخ: أبركه فبرك. "اللسان" (3/65)، "تاج العروس" (4/322).
(2) في (ز): ((نوخوا)).
(3) في (ح) و(ي): ((أصحابه)).
(4) قال في "مشارق الأنوار" (1/199): ((قوله: ((ولم يحلوا)) بالكسر، كذا ضبطته بخطي في سماعي على أبي بحر وضبطه آخرون: ((يحلوا)) بالضم، وهو الوجه؛ لأنه بمعنى: ((لم ينزلوا)) وقد قال بعد فصل: ((ثم حلوا)).اهـ.
قلت: ذكر صاحب "المصباح" (ص79- 80): حَل الشيء يحِلُّ: خلاف ((حَرُم))، وحل الدين يحِل: انتهى أجله، وحل الحق يحِل: وجب، وحل المحرم يحِل: خرج من إحرامه، وحل الحق يحِل: وجب، وحل المحرم يحِل: خرج من إحارمه، وحل الهدي يحِل: وصل الموضع الذي ينحر فيه، وحلت اليمِين تحِل: برت، وحل العذاب يحل ويحل؛ هذه وحدها بالضم مع الكسر والباقي بالكسر فقط، قال: وحللتُ بالبلد من باب ((قعد)): إذا نزلتَ به،.. وحللتُ العقدة من باب ((قتل))، ... ومنه قيل: حللتُ اليمين.
وفي "تاج العروس" (14/158): حل المكان وحل به يحُل ويحِل من حدَّيْ نصر وضرب، وهو مما جاء بالوجهين كما ذكره الشيخ ابن مالك.اهـ. وذكر نحو ما ذكره صاحب "المصباح" .
ويظهر مما سبق أن ((يحل)) التي بمعنى ((ينزل)): تقال بالضم والكسر، وأن التي بمعنى يَفُكُّ العقدة ونحوها بالضم فقط، والباقي بالكسر فقط. وقد اختار القاضي في الرواية ((يحُل)) بالضم بمعنى ((ينزل))، والأولى أن تكون بمعنى ((يفك)) أي لم يفكوا رحالهم من على الإبل؛ لأن نزولهم استفيد من إناختهم فهم قد نزلوا لكنهم لم يفكوا رحالهم؛ وحتى يتناسب مع المراد منه؛ وهو أنهم بعد نزولهم بادروا بالصلاة ولم يشتغلوا بفك أمتعتهم ورحالهم، يمكن أن تكون بمعنى ((نزل)) هنا مع إرادة أنهم لم ينزلوا النزول التام، وعندها يجوز أن يقال بالكسر والضم. كما مر.
وهذا ظاهر ما يريدُه الشارح؛ فإنه ذكر أنه يعني: أنهم لم يحُلوا رحالهم، وقال: ((لا سبيل إلى الله)). وعلى ما ذكره القاضي.
(5) في (ز): ((مساق)). قال في "مشارق الأنوار" (2/206): ((سباق قريش: جمع سَابِقٍ، وسَابَقَ بين الخيل: أجراها ليرى أيهم يسبق)).اهـ. والمراد: فيمن سبق منهم إلى منى.
(6) في (ز) و(ح): ((رجل)).
(7) في (ح): ((فظهر)).
(8) قوله : (( بن العباس)) سقط من (ز)، وفي (أ) و(ي): ((بن عباس)).
(9) في (ز): ((وبسبقه)).(3/391)
و((العَنَق)): سيرٌ فيه رفقٌ. و((الفجوةُ)):المتسعُ من الأرضِ. و((النصُّ)): أرفعُ السيرَ؛ ويعني: أنه كان إذا زاحمه الناسَ سار برفقِ لأجلِهم، وإذا زال الزحامُ أسرع، وهذا يدلُّ على أن أصلَ (1) المشروعيةِ في ذلك الموضعِ: الإسراعُ.
وقوله: ((ليس بينهما سجدةٌ))؛ يعني به: الركعةَ، وقد تقدم أن ذلك كلامُ أهل الحجازِ، ويسمون الركعةَ: سجدةً (2) وقد قدَّمنا (3) أن الجمعَ بين الصلاتين بعرفةَ والمزدلفةِ مجمعٌ عليه (4) ، وأنه اختلف (5) فيما سوى ذلك في كتابِ الصلاةِ (6) .
وقوله: ((بإقامةٍ واحدةٍ))؛ ظاهرُه للصلاتين، وهو خلافُ ما تقدم،، ويحتملُ أن يريدَ به إقامةً واحدةً (7) لكلِّ صلاةٍ، ويتحرَّزُ بذلك من الأذانِ (8) . وقد تقدم: أن جمعًا، والمزدلفةَ، والمشعرَ الحرامَ، وقزحَ، أسماءٌ لموضعٍ واحدٍ (9) . =(3/392)=@
__________
(1) قوله : ((أصل)) سقط من (ح) و(ي).
(2) من قوله : ((يعني به ....)) إلى هنا سقط من (ح). وانظر ما تقدم في كتاب الصلاة، باب: من أدرك ركعة من فعل الصلاة.
(3) قوله : ((قد قدمنا)) في (ح) و(ز) و(ي): ((وقدمنا)).
(4) في (ح) و(ي): ((عليهما)).
(5) في (ي): ((مختلف)).
(6) في كتاب الصلاة باب الجمع بين الصلاتين، وأنظر أيضًا ما تقدم في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(7) من قوله: ((ظاهره للصلاتين...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(8) قال النووي في "شرح مسلم" (9/31) بعد أن ذكر هذه الرواية والرواية السابقة: وقد سبق في حديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، وهذه الرواية مقدمة على الروايتين الأوليين؛ لأن مع جابر زيادة علم وزيادة الثقة مقبولة؛ ولأن جابر اعتنى الحديث ونقل حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقصاة فهو أولى بالاعتماد.اهـ.
(9) صوب الشارح فيما سبق في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ((المشعر الحرام)) موضع مخصوص في المزدلفة، وهو الجبل الذي هناك، ويقال له: ((قزح)) ويقول جماهير المفسرين وأهل السير والحديث: المشعر الحرام: جميع المزدلفة. ذكر ذلك الطبري في "تفسيره" (2/287- 290) عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد وعطاء والسدي، وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (9/260): والمزدلفة هي المشعر الحرام وهي جمع، ثلاثة أسماء لموضع واحد.اهـ. وقا القاضي في "المشارق" (1/168): جمع هي المزدلفة قال ابن حبيب: هي جمع والمزدلفة وقزح والمشعر الحرام.اهـ. وقال في (1/393، 394) إن مزدلفة هي المشعر الحرام. وقال النووي في "المجموع" (8/164): المشعر الحرام المذكور في القرآن الذي يؤمر بالوقوف عليه هو قزح؛ جبل معروف بالمزدلفة، هذا مذهبنا، وقال جمهور المفسرين وأصحاب الحديث والسير: المشعر الحرام جميع المزدلفة، هذا مذهبنا، وقال جمهور المفسرين وأصحاب الحديث والسير: المشعر الحرام جميع المزدلفة.اهـ. وهذا الخلاف – والله أعلم – خلاف لفظي، إذ إن من أخذ حكم المبيت بمزدلفة من قوله تعالى: ((فاذكروا الله عند المشعر الحرام)) فهم من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : عندما وقف عند الجبل: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} فهم من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : عندما وقف عند الجب: ((وقفت ههنا وجمع كلها موقف)) أن المراد بالمشعر الحرام في الآية: مزدلفة كلها. والرسول - صلى الله عليه وسلم - مبين للقرآن بقوله وفعله. ومن أخذ حكم المبيت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله، وفرق بين المشعر الحرام وبين مزدلفة، لم يذهب إلى أن المشعر الحرام بمعنى الجبل له حكم مخصوص في الوقوف؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((وقفت ههنا وجمع كلها موقف))، وإنما يستحب الوقوف عند الجبل لوقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده، وكذلك من لم يفرق بينهما يستحب ذلك، كما يستحبون الوقوف عند الصخرات بعرفة، والنحر في موضع نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى، مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((وقفت ههنا وعرفة كلها موقف))، و((ونحرت ههنا ومنى كلها منحر)). والنووي الذي صرح بأن مذهبهم أن المشعر الحرام موضع مخصوص بمزدلفة وهو الجبل، ذكر في "المجموع" (8/157، 163) بعد حكاية الخلاف في المبيت بمزدلفة، أنه الوقوف عند الجبل بعد الفجر من ((السنة)) ولم يذكر فيه خلافًا إلا عن مالك وأنه كان يرى أن يدفع منه قبل الإسفار.
اعلم أن المشعر الحرام في الأصل اسم للمزدلفة كلها وهو المراد؛ لأن عرفة هي المشعر الحلال وسمى جمعًا... ويبين ذلك أن الله أمر بذكره عند المشعر الحرام فلابد من أن يشرع امتثال هذا الأمر وإنما شرع من الذكر صلاة المغرب والعشاء والفجر والوقوف للدعاء غداة النحر وهذا الذكر كله يجوز في مزدلفة كلها لقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((هذا الموقف ومزدلفة كلها موقف)) فعلم أنها جميعًا تدخل في مسمى المشعر الحرام، ثم إنه خص بهذا الاسم قزح؛ لأنه أخص تلك البقعة بالوقوف عنده والذكر وغلب هذا الاستعمال في عرف الناس حتى إنهم لا يكادون يعنون بهذا الاسم إلا نفس قزح وإياه عني جابر بقوله في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام)) وكثيرًا ما يجيء في الحديث المشعر الحرام يعني به نفس قزح. وأما في عرف الفقهاء فهو غالب عليه ونسبة هذا الجبل إلى مزدلفة كنسبة جبل الرحمة إلى عرفة.اهـ.
إلا أن الشارح في الباب الذي بعد هذا، سينقل من كلام القاضي عياض متصِّرفًا فيه، ما يقطع بالفرق بينهما في الحكم، وحكى خلافًا بين العلماء في الوقوف بالمشعر الحرام بين قائل بركنيته، وقائل بوجوبه فقط، وقائل باستحبابه، وذلك بعد أن ذكر الخلاف في الوقوف بالمزدلفة! وسنذكر ما فيه هناك إن شاء الله تعالى.(3/392)
والله أعلم (1) .
ومن باب التغليس بصلاة الصبح بالمزدلفة
قولُ ابنِ مسعودٍ – رضي الله عنه -: ((إنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الفجرَ يومئذٍ قبلَ ميقاتِها)) لا يُفهمُ من ذلك: أنه يعني بذلك: أنه أوقعَ صلاةَ الصبحِ (2) قبلَ طلوعِ الفجرِ؛ فإن ذلك باطلٌ بالأدلةِ القاطعِة؛ وإنما يعني بذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - أوقعَ الصبحَ يومئذٍ قبلَ الوقتِ الذي كان يُوقعُها فيه في غير ذلك اليومِ؛ وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - (3) كان إذا أتاه المؤذنُ بالفجرِ، صلَّى ركعتي (4) الفجرِ في بيتِه (5) ، وربما تأخرَ قليلاً ليجتمعوا (6) ، ثم يخرجُ فيصلِّي، ومع ذلك فكان يصلِّيها بغلسٍ؛ كما قال ابنُ عباسٍ، وعائشةُ (7) ، وغيرُهما،، وأما في هذا اليومِ (8) : فكانَ الناسُ مجتمعين والفجرُ نصبَ أعينهِم، فبأولِ طلوعِ الفجرِ ركع ركعتي الفجرِ، وشَرع في صلاةِ الصبحِ، ولم يتربَّصْ لاجتماعِ الناسِ، وليتفرَّغوا للدعاءِ؛ فصار فعلُ هذه الصلاةِ في هذا اليومِ قبلَ وقِتها المعتاد ِ.
و((حطم (9) الناس)): زحمتُهم؛ لأن بعضَهم يَحْطِمُ بعضًا من أجلِ الزحامِ، وأصلُ الحَطْمِ: كسرُ الحُطَامِ، =(3/393)=@
__________
(1) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).
(2) في (ز): ((الفجر)).
(3) من قوله: ((أوقع الصبح...)) إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ي): ((ركعتين)).
(5) تقدم في باب كيف صلاة الليل وكم عددها ؟
(6) البخاري (2/41 و47 رقم560 و565) في مواقيت الصلاة ، باب وقت صلاة المغرب ، وباب وقت صلاة العشاء وإذا اجتمع الناس أو تأخروا .
(7) تقدم في باب التغليس بصلاة الصبح في كتاب الصلاة .
(8) في (أ): ((الوقت اليوم)).
(9) اللفظة في "الصحيح" و"التلخيص" ، و"الإكمال" (4/367): ((حطمة)) قال في "المشارق" (1/192): ((حطمة الناس)) بفتح الحاء وسكون الطاء؛ أي: زحمتهم.اهـ.(3/393)
وهو اليابسُ من الزرعِ وغيره.
و((الثَّبِطَة)): الثَّقيلةُ؛ كأنها تَتثَبَّطَ (1) بالأرضِ؛ أي: تَتَشبَّثُ (2) ، وتَتَحبس (3) .
و((الْمَفْرُوحُ به)): هو (4) كلُّ شيءٍ مُعجِبٍ، له بالٌ، بحيث يُفْرحُ به؛ كما قد جاء في غيرِ موضعٍ: ((هو أحب إليَّ من حُمْرِ النَّعَمِ)) (5) .
و((الظُّعُنُ)): جمعُ ظعينةٍ، وهنَّ النساء في الهوادجِ. و((هنتاه)): منادى: ((هنة))؛ التي هي (6) مؤنثُ ((هَنٍ))؛ الذي هو كنايةٌ عن نكرةٍ؛ كشيءٍ، ونحوِه (7) . ولا يستعملُ ((هناه))، ولا ((هنتاه)) (8) إلا في النداءِ خاصةً. ونونُ ((هنتاه)) ساكنةٌ، وأصلُ هائه أن تكونَ ساكنةً؛ لأنها للسكتِ، لكنهم قد شبَّهوها بالضمائرِ فأثبتوها في الوصلِ، وضمُّوها (9) ؛ كما قال امرؤُ القيسِ:
وَقَدْ رابَنِي قَوْلُهَا يَا هَنَا ... هُ وَيْحَكَ ألْحَقْتَ شَرًّا بِشَرّْ (10)
فقولُهم: ((يا هناه (11) )) كقولك: ((يا رجلُ))، و: ((يا هنتاه))؛ كـ: ((يا مَرْأَةُ (12) )). =(3/394)=@
__________
(1) في (ح) و(ي): ((تثبط)).
(2) في (ز): ((تتثبت)).
(3) قال في "المشارق" (1/128): فسره في الحديث؛ أي: ثقيلة.اهـ. يعني ما ذكره مسلم: ((يقول القاسم: والثبطة الثقيلة)). وقد ذكر الشارح الحديث في "التلخيص"، ولم يذكر فيه قول القاسم)). وقال القاضي: وهو صحيح، ضبطناه فيها بكسر الباء، وقيده الجياني عن أبي مروان بن سراج بكسرها وسكونها.اهـ.
(4) قوله : ((هو)) سقط من (ز).
(5) تخريج... ... ***[يوجد ورقة مرفقة مكتوب عليها رقم 351 برقم الصفحة المطبوعة وليس لها موضع هنا بين الهوامش المكتوبة]***.
(6) في (ي): ((هو)).
(7) في (ي): ((ومحموله)).
(8) قوله : ((ولا هنتاه)) سقط من (أ).
(9) ذكر الجوهري في "الصحاح" (6/2536):
((هَنٌ)) على وزن ((أخٍ)): كلمةُ كنايةٍ، ومعناه ((شيء))، وأصلُه: ((هَنَوٌ)). تقول: هذا هنُه، أي شيئًه... وهما: هَنَوانٍ، والجمع: هَنُونَ. وتقول للمرأة: ((هَنْة)) و((هنْت)) أيضًا بالتاء ساكنةَ النونِ، كما قالوا: ((بنت)) و((أخت). وتصغيرُها: ((هُنيَّة)) تردها إلى الأصل وتأتي بالهاء، كما تقول: ((أُخية)) و((بنية)). وقد تبدل من الياء الثانية هاء فيقال: ((هنيهة)). ومنهم من يجعلُها بدلا من التاء الثانية هاء فيقال: ((هنيهة)). ومنهم من يجعلُها بدلاً من التاء التي في ((هنت)). والجمع: هنات، ومن رد قال: هنوات... وتقولُ: جاءني هنوه، ورأيت هناه، ومررت بهنيه. وتقول في النداء: يا هنُ أقبل، ويا هنان أقبلا، ويا هنونَ أقبلوا. ولك أن تدخل فيه الهاء لبيان الحركة فتقولُ: يا هَنَاهُ أقبل. وهذه اللفظةُ تختصُّ بالنداءِ، كما يختص به قولهم: ((يا فُلُ)) و((يا نومان)). ولك أن تقول: ((يا هَنَاهُ أقبل)) بهاءٍ مضمومة، ويا هنانِيةِ أقبلا، ويا هنُونَاهُ أقبلوا، وحركةُ الهاءِ فيهن منكرَةٌ، ولكن هكذا رواه الأخفشُ.
وقد ذكر في الهاء في قوله: ((يا هناه)) ونحوه، أقوال:
أحدها: أناه بدل من الواو التي هي لام الكلمة ووزنها: (فَعال))؛ كأنه قال: ((يا هناو)) فأبدلت الواو هاءً؛ لاجتماعهما في الخفاء، وقرب الهاء من الألف التي هي من حروف المد وهي أخت الواو في ذلك.
الثاني: أبدلت الواو ألفًا لوقوعها طرفًا بعد ألف زائدة، ثم أبدلت الألف هاءً؛ لمشابهتها إياها في الخفاء، وقربها منها في المخرج.
الثالث: أبدلت الواو همزة، ثم الهمزة هاءً.
الرابع: الهاء لمد الصوت كما ألحقت في الندبة، أو للوقف، كما ذهب إليه الشارح، والألف قبلها لام الكلمة. وضعف هذا القول؛ لأن ألفها تثبت في النصب مع الإضافة، ولا إضافة هنا. ولأن هاء السكت تلحق في الوقف فقط فإذا وصلت حذفت.
الخامس: أن الهاء أصلية، وهي لام الكلمة كـ((عضة)) و((شفة)). وهو قول ضعيف أيضًا. وانظر: "شرح المفصل" (10/43- 44)، و"اللباب" (2/344- 345)، "سر الصناعة" (1/66)، (2/560، 561)، و"مشارق الأنوار" (2/271)، و"النهاية" (5/278- 279)، و"شرح النووي" (9/39- 40) (17/107)، و"فتح الباري" (3/241)، و"اللسان" (15/368- 369)، و"تاج العروس" (20/433).
(10) البيت من المتقارب، من رائية لامرئ القيس: يشبب فيها بـ((هر بنت سلامة بن علند، وهي ابنة العامري))، ومطلع القصيدة:
أَحَارِ بْنَ عَمْرٍو كَأَنِّي خَمِرْ ... وَيَعْدُو عَلَى الْمَرْءِ مَا يَأْتَمِرْ
فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِ ... يِ لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرّْ
ومنها:
وَهِرٌّ تَصِيدُ قُلُوبَ الرِّجَالِ ... وَأَفْلَتَ مِنْها ابْنُ عَمْرو حُجُرْ
رَمَتْنِي بِسَهْمٍ أصَابَ الْفُؤَادَ ... غَدَاةَ الرَّحِيلِ فَلَمْ أنْتَصِرْ
فَأسْبَلَ دَمْعِي كَفَضِّ الْجُمَانِ ... أَوِ الدُّرِّ رَقْرَاقُهُ الْمُنْحَدِرْ
ثم وصفها ووصف مغامرته في الوصول إليها رغم قِبائها ثم قال:
وَلَمْ يَرَنَا كَاِلىءٌ ٌ كَاشِحٌ ... وَلَمْ يُفْشَ مِنَّا لَدَى الْبَيْتِ سِرّْ
وَقَدْ رَابَنِي قَوْلُهَا يَا هَنَا ... هُ، وَيْحَكَ أَلْحَقْتَ شَرًّا بِشَرّْ
ثم يذكر خروج للصيد وقد تقدم استشهاد الشارح بصدر بيت من هذه القصيدة في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقعني بيت الشاهد: أنه أوقعه في الريبة قولُه له: يا رجل، لقد كنت متهمًا بنا فلما صرت إلينا حققت الأمر وألحقت تهمة بتهمته. وقد سبق تخريج بيت من هذه القصيدة في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - . والشاهد فيه: ((يا هناهُ)) حيث ضم هذه الهاء. وانظر: التعليق عليها فيما سبق.
والبيت في "ديوان امرئ القيس" (ص160)، "شرح ديوانه" (ص114). وله في "أشعار العرب الستة الجاهليين" (1/115)، و"المحكم" (4/77)، (4/308)، "الصحاح" (6/2562)، "لسان العرب" (13/438) (هنن)، (15/366- 369 (هنو) متكررًا)، "غريب الحديث" للحربي (1/325)، "تاج العروس" (20/433)، "شرح المفصل" (10/43)، و"سر صناعة الإعراب" (1/66)، (2/560)، "اللباب" (2/106، 344)، "خزانة الأدب" (1/375)، (7/275)، وبلا نسبة في "الصحاح" (6/2537)، "شرح المفصل" (1/48)، "المنصف" (3/139)، "رصف المباني" (ص464).
(11) في (ي): ((يا هنتاه)) غير منقوطة النون.
(12) في (ز): ((امرأة)).
في (ز): ((امرأة)) والمثبت من باقي النسخ، وفي المرأة لغات: ((المَرْأة))، وتخفف بنقل حركة الهمزة إلى الراء: ((مَرَاة))، وتخفف ثانيًا بحذف الألف: ((مَرَة))، وتدخل ألف الوصل على ((امَرْأة)) فتصير: ((امْرَأة)) فإذا عرفوا هذا قالوا: ((المرْأة)) ردوها إلى الأصل، وقد يدخل التعريف على المقرونة بألف الوصل: ((الامْرَأة)). "تاج العروس" (1/248 – 249)(3/394)
وفي هذه الأحاديثُ ما يدلُّ على أن الكونَ بمزدلفةَ (1) بعدَ الوقوفِ بعرفةَ، من شعائرِ الحجِّ ومناسكهِ، ولا خلافَ في ذلك؛ إلا خلافًا شاذًّا روي عن عطاءٍ، والأوزاعيِّ: أن جمعًا منزلٌ (2) كسائرِ منازلِ السَّفرِ، من شاء طواه، ومن شاء نزل به، ورحل متى شاء.
ثم اختلف القائلون بأنه مشروعٌ: فمنهم من ذهب إلى أنه ركنٌ يبطلُ الحجُّ لفواتِه (3) ؛ وإليه ذهب أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلَّامٍ. وقال علقمةُ، والشعبيُّ، والنخعيُّ: من فاته جمعٌ ولم يقف به، فقد فاته الحجُّ (4) . والجمهورُ على أنه يلزمُه (5) بفواتِه دمٌ، والحجُّ صحيحٌ.
ثم اختلف في القدرِ الذي يجزئُ من ذلك. فقال الشافعيُّ: إن خرج منها بعدَ نصفِ الليلِ فلا شيءَ عليه،، وإن كان قبلُ ولم يعدْ إليها، افتدى بشاةٍ. وقال مالكٌ: من نزل بها فلا دمَ عليه في أيِّ وقتٍ دفع منها، وإن مرَّ ولم ينزل فعليه الدمُ.
وأما الوقوفُ بالمشعرِ الحرامِ (6) : فقد صار الشافعيُّ، والنخعيُّ، والأوزاعيُّ: إلى أنه إن فاته الوقوفُ (7) به؛ فقد فاته الحجُّ. واختلف فيه عن الثوريِّ. والجمهورُ على أنه ليسَ بواجبٍ. ثم اختلفوا: فقال الكوفيون، وفقهاءُ أصحابِ الحديثِ: على تاركِه دمٌ، وذهب مالكٌ: إلى أنه مستحبٌّ، ولا يجبُ بتركِه دمٌ.
وسببُ هذا الخلافِ معارضةُ ظاهرِ (8) قولِه تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} (9) لما ثبت من السُّنة في إذنِه - صلى الله عليه وسلم - لضَعَفَةِ أهلِه في الدفعِ من المزدلفِة قبلَ طلوعِ الفجرِ إلى منى، ولم يأمرْهم بالوقوفِ، ولا بالدمِ على التركِ (10) ، فدلَّ ذلك على أنه ليس بواجبٍ، ولا في تركِه (11) دمٌ،، وما أمر به عبدُالله بنُ عمرَ مَنْ قدَّمه مِنْ ضعفةِ أهلِه من الوقوفِ عندَ المشعرِ الحرامِ، فذلك على جهةِ الاستحسانِ منه، وهو حَسنٌ لمن فعله،، وهذه =(3/395)=@
__________
(1) في (ز): ((بالمزدلفة)).
(2) في (أ): ((تنزل)).
(3) في (ز): ((بفواته)).
(4) ظاهر هذا أن هذا قولٌ آخر غير الذي حكاه الشارح عن أبي عبيد القاسم بن سلام، وهما قولٌ واحد؛ أن المبيت بمزدلفة ركن من أركان الحج يبطل الحج بفواته. وانظر التعليق الآتي عند الكلام على المشعر الحرام.
(5) في (أ) و(ز): ((يلزم)).
(6) تخصيص الشارح المشعر الحرام بخلافٍ حكم الوقوف، بعد أن ذكر الخلاف في المبيت بمزدلفة، يشعر بأمرين: أحدهما أن المشعر الحرام شيء، والمزدلفة شيء آخر، وقد قدمنا الكلام على الخلاف في ذلك ونقلنا عن القاضي نفسه وابن عبد البر أن المشعر الحرام: المزدلفة كلها وأوضحنا أن الخلاف فيه لفظي، وأن من قال: إن المشعر الحرام هو الجبل الذي يسمى أيضًا ((قزح)) لا يخصه إلا باستحباب الوقوف عنده؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((وقفت ههنا وجمع كلها موقف)).
الأمر الثاني: وهو متفرع عن الأول: أن للجبل حكمًا خاصًّا في الوقوف به وأنه اختلف فيه؛ بين قائل بركنيته، وقائل بوجوبه وجبرانه بالدم، وقائل باستحبابه فقط.
والذي يوقع الشارح في مثل هذا تصرفه أحيانًا كثيرة في عبارة القاضي عياض عندما ينقل عنه، ونحن نورد هنا كلام الإمام المازري في "المعلم"، ونتبعه بعبارة القاضي عياض في "الإكمال"، ثم نورد كلام أهل العلم في المسألة تحقيق الأمر حول الخلاف في الوقوف عند الجبل، وما نسبه الشارح إلى من حكى عنهم الخلاف:
قال الإمام في "المعلم" (2/63): عندنا أن من ترك المبيت بمزدلفة والوقوف بالمشعر الحرام، حجه تام وعليه الدم. وعند المخالف: يبطل حجه؛ لقوله تعالى: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} والأمر على الوجوب.اهـ.
وقال القاضي عياض في "الإكمال" (4/368- 369) بعد نقل كلام الإمام: لا خلاف أنه مشروع من المناسك والسنن المذكورة، إلا شيئًا روي عن عطاء والأوزاعي: أن جمعًا منزل كسائر منازل السفر من شاء طواه، ومن نزل رحل منه متى شاء، وفي إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل لسودة وظعنه وضعفة أهله، وأن وقوفه هو بعد صلاة الصبح دونهم ولم يأمرهم بالوقوف يدل على أنه ليس بواجب، خلافًا للشافعي والنخعي وغيرهما القائلين إن من فاته الوقوف به بعد (فقد) فاته الحج. وذكر عن الأوزاعي. واختلف عن الثوري، واختلف من لم يوجبه وهم الجمهور هل على تاركه دم فأوجب ذلك عليه الكوفيون وفقهاء أصحاب الحديث. وقال الشافعي: إن خرج فاته الوقوف به بعد (فقد) فاته الحج. وذكر عن الأوزاعي. واختلف عن الثوري، واختلف من لم يوجبه وهم الجمهور هل على تاركه م فأوجب ذلك عليه الكوفيون وفقهاء أصحاب الحديث. وقال الشافعي: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن كان قبل ولم يعد إليها افتدى بشاة، وقال مالك: من نزل بها فلا دم عليه وإن مر ولم ينزل فعليه دم، وقد جاء عن ابن عمر في تقديم ضعفة أهله أنهم كانوا يقفون قبل أن يدفعوا قبل وقوف الإمام، فجعل الرخصة في تعجيل الوقوف لا في إسقاطه. واختلف عن مالك في القدر المستحق من الزمان بمزدلفة، هل هو الليل كله أو جله أو أقل زمان؟ حكى ذلك ابن خيز منداد)).اهـ. كلام القاضي.
وإن كان كلام القاضي مشعرًا بما ذهب إليه الشارح، وما فعله الشارح إنما هو مجرد تنظيم لكلام القاضي وفصل المسألتين في مسألة الوقوف عند (المشعر الحرام) (جبل قزح): فإن المنقول من أصحهما: أنه واجب، والثاني: سنة، وذُكر أن في المسألة ثلاثة طرق: الأول: القولان السابقان، والثاني: القطع بالوجوب، والثالث: القطع بالاستحباب. قال النووي: وعلى القولين ليس بركن، فلو تركه صح حجه. أما الوقوف عند جبل قزح فأنقل ما ذكره النووي في ذلك بالتفصيل؛ قال السنة أن يرتحلوا بعد صلاة الصبح من موضع مبيتهم متوجهين إلى المشعر الحرام وهو قزح (فالنووي من القائلين بالتفريق بين مزدلفة والمشعر الحرام، وأنه موضع مخصوص بها وهو قزح؛ كما مر) فإذا وصله صعده إن أمكنه وإلا وقف عنده وتحته... قال: وقد استبدل الناس بالوقوف على قزح الوقوف على بناء مستحدث في وسط المزدلفة، وفي حصول أصل هذه السنة بالوقوف في ذلك المستحدث وغيره من مزدلفة مما سوى قزح، وجهان: أحدهما: لا تحصل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على قزح وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((لتأخذوا عني مناسككم)) والثاني، وهو الصحيح بل الصواب: أنها تحصل، وبه جزم القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والرافعي وغيره؛ لحديث جابر... ((وقفت ههنا وجمع كلها موقف)) والمراد: وقفت على قزح وجميع المزدلفة موقف، لكن أفضلها قزح؛ كما أن عرفات كلها موقف وأفضلها موقف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الصخرات.اهـ. "المجموع" (8/152، 158)، وانظر: "الحاوي" (4/177) وتأمل هذا مع ما ذكره الشارح من أن الشافعي ذهب إلى أن من فاته الوقوف عند المشعر الحراخم (جبل قزح) فاته الحج!
أما النخعي ومذهبه في المبيت في مزدلفة، فقد قال ابن عبد البر في "التمهيد" (9/271- 272): وقال... وإبراهيم النخعي ... من لم ينزل بالمزدلفة وفاته الوقوف بها فقد فاته الحج ويجعلها عمرة وهو قول عبد الله بن الزبير، وبه قال الأوزاعي أن الوقوف بمزدلفة فرض واجب يفوت الحج بفواته.اهـ.
ولم يذكر عنه في تخصيص المشعر الحرام (الجبل) بشيء من الأحكام، شيئًا، ونحو ذلك في "المجموع" و"الحاوي"، وانظر: "الاستذكار" (13/37- 39)، و"المغني" (4/284)، و"فتح الباري" (3/527 – 529).
وأما الأوزاعي فكذلك لم يذكر عنه في تخصيص المشعر الحرام شيء، وإنما روي عنه روايتان في المبيت بمزدلفة، فروى عنه: أنه لا دم مطلقًا وأن المزدلفة كسائر منازل السفر، كما ذكر القاضي والشارح وروي عنه أنه واجب يفوت به الحج، كما سبق الإشارة إليه عن ابن عبد البر.
وأما الثوري فالذي اختلف عنه فيه، إنما هو المبيت بمزدلفة أيضًا فليس الوقوف عند جب المشعر الحرام، قال ابن عبد البر وقال الثوري: من لم يقف بجمع ولم يقف بها ليلة النحر فعليه دم. وقال في موضع آخر بعد أن ذكر عن بعض السلف القول بأن الوقوف بها فرض يفوت الحج بفواته: وروي عن الثوري مثل ذلك، ولا يصح عنه، والأصح عنه إن شاء الله ما قدمنا ذكره. "التمهيد" (9/271- 272)، (13/35، 37).
وأما ما ذكره الشارح عن الكوفيين وفقهاء أصحاب الحديث، فهو رأي الجمهور في الوقوف بمزدلفة وأنه ليس بركن ويلزم بفواته دم؛ قال ابن عبد البر: وقال الثوري: من لم يقف بجمع ولم يقف بها ليلة النحر فعليه دم، وهو قول عطاء في رواية وقول الزهري وقتادة وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، ثم حكى مثله عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، والشافعي، مع خلاف في القدر اللازم من الزمن في المبيت.
وأما مذهب الإمام مالك، فقد قال ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/195): قال علماؤنا: ليس المبيت بالمزدلفة ركنا في الحج. وقال الشعبي والنخعي: هو ركن. وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (13/37): وقد قال مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وإسحاق: الوقوف بالمزدلفة من سنن الحج المؤكدة، وليس من فروضها (يعني: أنه ليس بركن) وتفصيل أقوالهم في ذلك أن مالكًا قال: من لم ينخ بها ودفع منها في أول الليل أو وسطه أو آخره وترك الوقوف مع الإمام فقد أجزأ ولا دم عليه.اهـ. وفي "المنتقى" (3/18): وقال ابن المواز: كان الناس يستحبون الوقوف على الجبل الذي يقف عليه ما بين جبل المزدلفة، ويقال لها أيضًا جمع. قال ابن حبيب: ما بين الجبلين موقف.اهـ.
ويظهر مما سبق أنه لم يصرح أحد بالخلاف في حكم الوقوف عند جبل قزح خاصة على النحو الذي ذكره الشارح تبعًا لما فهم من عبارة القاضي وأن الوقوف عنده مستحب، وأن الوقوف في أي موضع غيره من مزدلفة مجزئ وكاف. والله أعلم.
وانظر إلى جانب المصادر التي ذكرت في أثناء التعليق "شرح العمدة" (3/607- 622) فقيه بحث نقيس حول الوقوف بمزدلفة. وقد سبق النقل عنه في الباب السابق عند التعليق على كون ((المزدلفة)) و((المشعر الحرام)) واحد أو لا.
(7) من قوله : ((بالمشعر الحرام ....)) إلى هنا سقط من (ز).
(8) قوله : ((ظاهر)) سقط من (ز).
(9) سورة البقرة؛ الآية: 198.
(10) قوله : ((على الترك)) سقط من (ز).
(11) ما ذكره الشارح هنا من سبب الخلاف والتعارض الظاهر، مبني على اختصاص المشعر الحرام بحكم في الوقوف عنده، وأن هناك خلافًا فيه، والتحقيق أن هذا التعارض الظاهر بين الآية والحديث سبب في الخلاف في مسألة الوقوف والمبيت بمزدلفة والقدر الملازم من الزمن في ذلك وانظر: "الاستذكار" (13/35- 39). قال ابن عبد البر بعد أن ذكر قول من قال بركنية المبيت بمزدلفة : وحجة من قال بهذا ظاهر قول الله عز وجل: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من أدرك جمعًا وكان قد أدرك قبل ذلك عرفات فقد أدرك)). ثم ذكر من قال بعدم ركنيته ثم قال: لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عروة بن مضرس: ((من أدرك معنى هذه الصلاة – يعني صلاة الصبح – بجمع))، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قدم ضعفة الصبح – بجمع))، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قدم ضعفة أهله ليلاً ولم يشهدوا معه تلك الصلاة – دل على أنه موضع الاختيار.اهـ.(3/395)
الأحاديثُ تدلُّ على أن الدفعَ للضَّعفةِ من المزدلفةِ قبل طلوعِ الفجرِ، رخصةٌ،، ولا خلافَ في أنَّ الأَوْلى والأفضلُ المكثُ بالمزدلفةِ (1) إلى أن يُصلِّي الفجرَ بها، ثم يقفَ بالمشعرِ الحرامِ، ثم يدفعَ منها بعدَ ذلك، كما فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
ثم هل تلك الرخصةُ تختصُّ (2) بالإمامِ، أو تتعدى (3) إلى غيرِه ممن احتاج إلى ذلك؟ قولان عندنا، وابنُ عمرَ راوي الحديثِ فهم التعدِّيَ، وأن من احتاج إلى ذلك فعله، وهو الصحيحُ.
وقولُه: ((فارتحلت حتى رمتِ (4) الجمرةَ، ثم صلتْ في منزلها))؛ يعني: صلاةَ الصبحِ؛ وظاهرُه أن أسماء رمتِ الجمرةَ قبلَ طلوعِ الفجرِ (5) ، وهو متمسَّكُ الشافعيِّ على قولِه بجوازِ رمي الجمرةِ من نصفِ الليلِ. وذهب الثوريُّ، والنخعيُّ إلى أنها لا تُرمى إلا بعدَ طلوعِ الشمسِ؛ متمسِّكين بما في كتابِ النسائيِّ (6) من حديثِ ابنِ عباسٍ: أنه - صلى الله عليه وسلم - قدَّم ضعفةَ أهلِه، وأمرهم أَلَّا يرموا حتى تطلُعَ الشمسُ، وهو صحيحٌ. ومذهبُ مالكٍ: أن الرميَ يحلُّ بطلوعِ الفجرِ؛ متمسِّكًا بقولِ عائشةَ: =(3/396)=@
__________
(1) من قوله : ((قبل طلوع الفجر ....)) إلى هنا سقط من (ز).
(2) في (ح): ((تخيص)). [شطبت هذه الحاشية في وبقيت في المتن].
(3) في (ز): ((يتعدى)).
(4) في (أ): ((رميت)).
(5) المراد هنا رمي الجمرة الكبرى يوم النحر.
(6) رُوي عن ابن عباس، وله عنه طرق :
1 - أخرجه الحميدي (1/221 رقم465)، وأحمد (1/234 و311 و343)، وأبو داود (2/480 رقم1940) في المناسك ، باب التعجيل من جمع ، وابن ماجه (2/1007 رقم3025) في المناسك ، باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار ، والنسائي (5/270-272 رقم3064) في مناسك الحج ، باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس، والطحاوي (2/217)، وابن حبان (9/181 رقم3869/ الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (12/108-109 رقم12699 و12701 و12702)، والبيهقي (5/131-132 و132) - جميعهم من طريق سلمة بن كهيل ، عن الحسن العرني ، عن ابن عباس قال : قدَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبدالمطلب على حُمُرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول : ((أبَيْنيَّ! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)). قال الألباني في "الإرواء" (4/376): ((وهذا إسناد رجاله ثقات رجال مسلم غير أن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس كما قال أحمد)).اهـ.
2 - وأخرجه أبو داود (2/481 رقم1941) في الموضع السابق ، والنسائي (5/ 272 رقم3065) في الموضع السابق، كلاهما من طريق حبيب بن أبي ثابت ، عن عطاء ، عن ابن عباس ؛ بمعناه . قال الألباني في "الإرواء" (4/374): ((وإسناده صحيح، إن كان ابن أبي ثابت سمعه من عطاء ، فإنه مدلس)).اهـ.
3 - وأخرجه الطيالسي (ص352 رقم2703)، وأحمد (1/277 و326 و344 و371)، والترمذي (3/340 رقم893) في الحج ، باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل ، والطحاوي (2/217)، والطبراني في "الكبير" (11/305 و306 رقم 12073 و12078)، والبيهقي (5/132)، جميعهم من طريق الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، بمعناه . قال الترمذي : ((حسن صحيح)). وصححه الألباني في "الإرواء" (4/275).
4 - وأخرجه الطحاوي (2/216)، والبيهقي (5/132). كلاهما من طريق محمد ابن أبي بكر المقدمي ، عن فضيل بن سليمان ، عن موسى بن عقبة ، عن كريب ، عن ابن عباس ، بمعناه . قال الألباني في "الإرواء" (4/275): ((بسند جيد)) !
وفي سنده فضيل بن سليمان النيري ، قال النسائي : ليس بالقوي ، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ، ليس بالقوي ، وقال ابن معين : ليس بثقة ،وقال مرّة : ليس بشيء . "تهذيب الكمال" (23/274).
وفي "التقريب" (ص785 رقم5462): ((صدوق له خطأ كثير)).
قال الحافظ في "الفتح" (3/528): ((واحتج إسحاق بحديث ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغلمان بني عبد المطلب : لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ، وهو حديث حسن أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي وابن حبان من طرق عن الحكم ، عن مقسم عنه . وأخرجه أبو داود من طريق حبيب ، عن عطاء ، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا ، ومن ثم صححه الترمذي وابن حبان)).اهـ.(3/396)
فأصلي الصبح بمنًى، وأرمي الجمرة. وبحديث ابن عمر، وإليه ذهب أحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
وقولُ ابنِ عباس: ((بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من جمْعِ في ثَقَلِه سَحَرُ))؛ بغير صرف (1) ، وهو الصواب؛ لأنه سحر معينٌ. و((ثَقل)): بفتح الثاء والقاف؛ وهو الشيءُ الذي يُثْقِلُ حامله. والله أعلم (2) . =(3/397)=@
__________
(1) في (ح): (( يعني سرف)).
(2) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/397)
ومن بابِ رميِ جمرةِ العقبةِ (1)
الجمهورُ على أنَّ رميَ جمرةِ العقبةِ سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ، يجب بتركِها دمٌ، وذهب عبدُالملكِ إلى أنها ركنٌ من أركان الحجِّ؛ وعليه (2) : فإن تَرَكَها بَطلَ حجُّه كسائرِ الأركانِ.
ولا خلافَ في (3) أنها تُرمى بسبعٍ يومَ النحرِ قبلَ الزوالِ (4) .
ولا خلافَ في استحبابِ رميِها - على ما في حديثِ ابنِ مسعودٍ، رضي الله عنه - من بطنِ الوادي، والبيتُ عن يساره، ومنى عن يمينه،،، وأن رميَها من غيرِ ذلك جائزٌ إذا رمى في موضعِ الرَّميِ،، وقد رُوي أن عمرَ رضي الله عنه جاء فوجد الزحامَ فرماها من فوقِها (5) .
ولا خلافَ في استحبابِ التكبيرِ مع كل حصاةٍ، غير أنه حَكى الطبريُّ عن بعضِ (6) الناسِ أنه قال: إنما جُعل الرميُ حفظًا (7) للتكبيرِ، فلو ترك الرميَ تاركٌ وكبَّر أجزأه، وروي نحوهُ عن عائشةَ (8) رضي الله عنها، وهو خلافٌ شاذٌّ. وكان ابنُ عمر (9) ، وابن مسعودٍ (10) - رضي الله عنهم - يقولان عندَ رمي الجمارِ: ((اللهمَّ اجعلَّه حجًّا مبرورًا (11) ، وذنبًا مغفورًا)).
وتُرمى سائرُ الجمارِ ما عدا جمرةَ العقبةِ من فِوقها، وكلُّ جمرةٍ ترمي بسبعٍ،، فمن رماها بأقَّل وفاته جَبْرُ (12) ذلك =(3/398)=@
__________
(1) من هنا تبدأ المقابلة في نسخة (ب)، ثبت فيها قبل ترجمة الباب: ((بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على ما أنعم وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)).
وأيضًا من أول هذا الباب قوبلت ورقة من النسخة (م) المغربية، وقد أصابت أول الباب رطوبة أخفت بعض الكلمات.
وتنتهي الورقة في أثناء هذا الباب، ثم تستأنف النسخة في أثناء باب الحج عن المعضوب.
(2) سقط من ي (م)، وفي (أ): ((وعليه دم)).
(3) سقط من (ب).
(4) من قوله : ((ولا خلاف ....)) إلى هنا سقط من (ح).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (3/192 (4/13414) في الحج ، باب من رخص فيها أن يرميها من فوقها، عن حفص بن غياث ، عن حجاج ، عن وبرة ، عن الأسود قال: رأيت عمر بن الخطاب يرمي جمرة العقبة من فوقها .
وفي سنده : حجاج ، وهو ابن أرطاة ، صدوق كثير الخطأ والتدليس ، كما في "التقريب" (ص222 رقم1127). وبرة : هو ابن عبدالرحمن الْمُسْلي .
(6) قوله: ((الطبري عن بعض)) لم يتضح في (ب).
(7) في (ب): ((حفظ)).
(8) عزاه الحافظ في الفتح" (3/579) إلى ابن جرير .
(9) أخرجه ابن أبي شيبة (3/250 رقم 14014) في الحج ، باب ما يقول إذا رمى جمرة العقبة ، عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن الهيثم بن حنش قال : سمعت ابن عمر حين رمى الجمار يقول : اللهم اجعله حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا .
وفي سنده : الهيثم بن حنش ، لم يرو عنه غير أبي إسحاق وسلمة بن كهيل، ذكره ابن حبان في الثقات (5/507)، وأورده البخاري في "تاريخه" (8/213 رقم2757)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(9/79رقم320) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً .
(10) أخرجه ابن أبي شيبة (3/250 رقم14013) في الموضع السابق ، عن إدريس عن ليث ، عن مجاهد ، عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد ، عن أبيه قال : أفضت مع عبد الله فرمى سبع حصيات استبطن الوادي ، حتى إذا فرغ قال : اللهم اجعله حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا.
وفي سنده : ليث ، وهو ابن أبي سليم ، صدوق اختلط ولم يتميز حديثه فتُرك . كما في "التقريب" (ص817-818 رقم5721).
وضعّف هذين الأثرين - عن ابن عمر ، وابن مسعود - الحافظ في "تلخيص الحبير" (2/250).
(11) في (ب): ((مبرور)).
(12) في (م) : ((غير)).(3/398)
كان عليه دمٌ عندَ مالكٍ، والأوزاعيِّ (1) ،، وذهب الشافعيُّ وأبو ثورٍ إلى أن على تاركِ حصاةٍ مدًّا من طعامٍ، وفي اثنتين (2) مُدَّان، وفي ثلاثٍ فأكثرَ (3) دمٌ (4) . وقال أبو حنيفةَ وصاحباه: لو ترك أقلَّ من نصفِ الجمراتِ الثلاثِ ففي كلِّ حصاةٍ نصفُ صاعٍ، وإن كان أكثرَ من نصفِها فعليه دمٌ. وقال مالكٌ: إن نسي جمرةً تامةً أو الجمار كلَّها فعليه بدنةٌ، فإن لم يجدْ فبقرةً، فإن لم يجدْ فشاةً. وقال عطاءٌ فيمن رمى بخمسٍ، ومجاهدٌ فيمن رمى بستٍّ: لا (5) شيءَ عليه.
واتفقوا على أنه بخروجِ أيامِ التشريقِ يفوتُ الرَّميُ إلا ما قاله أبو مصعبٍ: أنه يرمي متى ما (6) ذَكَر، كمن نسي صلاةً؛ يصليها (7) متى ما (8) ذكرها.
وقولُه: ((لِتَأْخُذُوا مناسككم)) صحيحُ روايتِنا فيه: ((لنا)) بلام الجرِّ المفتوحةِ والنونِ (9) ، وهو الأفصحُ،، وقد روي: ((لتأخذُوا)) (10) بكسرِ اللامِ للأمرِ، وبالتاءِ باثنتين من فوقِها، وهي لغةٌ شاذةٌ، وقد قرأ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {فبذلك فلتفرحوا} (11) .
وهو أمرٌ بالاقتداءِ به، وحَوالةٌ على فعلِه الذي وقع به البيانُ لمجملاتِ الحجِّ في كتابِ الله تعالى؛ وهذا كقولِه لما صلَّى (12) : ((صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)) (13) . ويلزمُ من هذين الأمرين: أن يكونَ الأصلُ في أفعالِ الصلاةِ والحجِّ: =(3/399)=@
__________
(1) في (ز): ((والأوزاعي)).
(2) في (م): ((اثنين)).
(3) في (ي): ((وأكثر)).
(4) في (م): ((دما)).
(5) في (ز): ((فلا)).
(6) قوله: ((متى ما)) في في (ح) و(ز): ((كما)).
(7) في (ب): ((صلاها)).
(8) قوله : ((ما)) سقط من (أ) و(ن) و(ز).
(9) في (ي): ((والهون)).
(10) مسلم (2/943 رقم1297) في الحج ، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا.
(11) سورة يونس؛ الآية: 58.
قرأ بالتاء رويس عن يعقوب من العشرة، ورويت عن ابن عامر من السبعة نقلها عنه ابن عطية وصفها بعضهم، وجزم ابن مجاهد في السبعة أن رواية هشام وابن ذكوان عن ابن عامر لم يذكر فيهما عن ((فليفرحوا)) شيء. ورويت بالتاء عن عثمان وأبي الحسن وأبي رجاء وابن سيرين والأعرج وأبي جعفر والسلمي وقتادة والجحدري وهلال بن يساف والأعمش: بخلاف وعباس بن الفضل وعمرو بن فائد وغيرهم.
قال ابن زنجلة في حجة القراءات: عن أبي بن كعب قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أمرت أن أقرأ عليك))، قال: قلت: وقد سماني ربك؟ قال: ((نعم)) قال: فقرأ علي (يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - ): ((قل بفضل الله {وبرحتمه فبذلك فلتفرحوا هو خير مما تجمعون}.اهـ.
وذلك قيل: إنها قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كانت كل القراءات عنه - صلى الله عليه وسلم - والقراءة بالتاء على الأصل في أمر المخاطب والغائب أن يكون: ((لتفعل)) و((ليفعل))، لكن لما كثر أمر المخاطب، استثقلوا اللام فحذفوها مع حرف المضارعة، فبقي الحرف الأول ساكنًا فجاءوا بألف الوصل. ليقع الابتداء بها. وقال الزمخشري عن هذه القراءة: وهي الأصل والقياس. وقال في البحر: إنها لغة قليلة. وعلى أنها لغة قليلة يحمل قول الشارح: ((وهي لغة شاذة))؛ لثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القراءة وفي الحديث. وانظر: "المبسوط في القراءات العشر" (ص234)، و"السبعة" (ص327- 328)، و"النشر" (2/214)، و"الحجة" لأبي علي (4/282)، و"المحتسب" (1/313- 314)، و"حجة القراءات" لابن زنجلة (ص333)، و"البحر المحيط" (5/170)، و"الدر المصون" (6/224- 225)، و"الإنصاف في مسائل الخلاف" (2/542- 549)، "معجم القراءات" لعبد اللطيف الخطيب (3/573- 576).
(12) قوله : ((لما صلى)) سقط من (ز).
(13) تقدم تخريجه في باب صلاة الخوف من كتاب الصلاة .(3/399)
الوجوبَ، إلا ما خرج بدليلٍ؛ كما ذهب إليه أهلُ الظاهرِ، وحُكي عن الشافعيِّ.
وكونُه - صلى الله عليه وسلم - رمى راكبًا: لِيُظهرَ للناسِ فعلَه، كما (1) قررناه في طوافِه، وسعيِه في حديثِ جابرٍ، رضي الله عنه (2) .
وقولُه: ((والآخرُ يرفعُ ثوبَه على رأس رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من الشمسِ))؛ تعلَّق (3) بهذا من جوَّز استظلالَ المحرمِ راكبًا (4) ، وقد (5) تقدَّم، وكره مالكٌ ذلك، وأجاب بعضُ أصحابِه (6) عن هذا الحديثِ: بأن هذا القدرَ لا يكادُ يدومُ.
كما أجاز مالكٌ للمحرمِ أن يستظلَّ بيدِه. وقال: ما أيسرَ ما يذهبُ ذلك، وقد روي أن عمرَ (7) رضي الله عنه رأى رجلاً جعل ظلًّا على مَحمَلِهِ؛ فقال: اِضْحَ لمن أحرمتَ له؛ أي: ابْرُزْ إلى الضحاء (8) ؛ قال (9) الرياشيُّ: رأيتُ أحمدَ بن المعدَّلِ (10) في يومٍ (11) شديدِ الحرِّ، فقلت له: يا أبا الفضلِ! هلا استظلَلْتَ! فإن في (12) ذلك توسعةً للاختلافِ فيه، فأنشد:
ضَحِيتُ لَهُ كَيْ أسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ إِذَا الظِّلُّ أَضْحَى فِي القِيَامَةِ قَالِصَا
فَوَا أَسَفَا إِنْ كَانَ سَعْيُكَ ضَائِعًا وَوَاحَسْرَتا إِنْ كَانَ أَجْرُكَ نَاقِصَا (13)
قال صاحبُ "الأفعال": يقال: ضَحيِتُ، وضَحَوْتُ، ضَحْيًا، وَضَحْوًا: بَرَزْتُ للشمسِ. وضحيت، ضحًا: أصابتني الشمس (14) ؛ قال الله تعالى: {وأَنَّك لا تظمؤُ فيها ولا تضحى} (15) . =(3/400)=@
__________
(1) في (ح) و(ي): ((على ما)).
(2) في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(3) في (أ): ((تعالق)).
(4) قوله: ((راكبًا)) سقط من (أ) و(ز)، وهي موجودة في "الإكمال" (4/374)، وانظر ما تقدم في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(5) قوله: ((وقد)) في (ي): ((كما)).
(6) في (ي): ((أصحابنا)).
(7) أخرج ابن أبي شيبة (3/274 رقم14250) في الحج ، باب في المحرم يستظل، والبيهقي (5/70). كلاهما من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع قال: أبصر ابن عمر رجلاً على بعيره، وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس،فقال له: اضح لمن أحرمت له.
هكذا ورد عن ابن عمر ، لا عن عمر ، كما قال المصنف . وصححه الألباني في "الإرواء" (4/200-202 رقم1016).
لكن أخرج ابن أبي شيبة (3/274 رقم14251) في الموضع السابق ، من طريق عبدة بن سليمان ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبدالله بن عامر قال : خرجت مع عمر فما رأيته مضربًا فسطاطًا حتى رجع ، قلت له : أو قيل : بأي شيء كان يستظل ؟ قال: يطرح النطع على الشجرة فيستظل به .
وأخرجه البيهقي (5/70) من طريق الشافعي، عن عبدالوهاب الثقفي، عن يحيى بن سعيد ، عن عبدالله بن عياش بن ربيعة قال : صحبت عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم في الحج ، فما رأيته مضطربًا فسطاطًا حتى رجع .
(8) في (أ): ((الضحى)). قال في "المشارق" (2/55- 56) في ((الضحى)) و((الضحاء)): قيل هما بمعنَى، واضحا النهار: ضوءه. وقيل: المقصود المضموم هو أول ارتفاعها والممدود إذا ارتفعت.اهـ. وفي "المصباح" (ص186).
أن الضحاء مفرد، وجمعه: ((الضحى)) قال: ثم استعملت ((الضحى)) استعمال المفرد وسمي بها.اهـ.
(9) في (أ) و(ح) و(ي): ((وقال)).
(10) كذا بالدال في النسخ، وفي "المعلم" (2/64): ((أحمد بن أبي المعزل))، وفي "الإكمال" (4/374): ((أحمد بن المعذل)) بالذال المعجمة، وهو الصواب، وهو أحمد بن المعذَّل بن غيلان بن حكم، أبو الفضل، شيخ المالكية من أصحاب عبد الملك بن الماجشون تفقه به القاضي إسماعيل. قال القاضي له في ترتيب المدارك: وأبوه المعذل بن غيلان بذال معجمة مفتوحة مشددة)). ترجمته في "ترتيب المدارك" (4/4- 14)، و"الديباج" (1/141- 143)، "سير أعلام النبلاء" (11/519- 521)، "المشتبه" (ص600)، و "توضيح المشتبه" (8/210).
(11) قوله : ((في يوم)) سقط من (ح).
(12) قوله : ((في)) سقط من (أ) و(ح) و(ي).
(13) البيتان من بحر الطويل، ذكرهما مع هذه القصة القاضي عياض في ترتيب المدارك (4/4- 14) في ترجمة أحمد بن المعذل، مرة عن المبرد قال: رأيت أحمد بعرفات مضحيا للشمس لا يستظل. فقلت: ما هذا يا أبا الفضل؟ فقال:
ضحيت لكيما أستظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا
فيا أسفا إن كان أجرك حابطا ... ويا حزنا إن كان حجك ناقصا.
ومرة عن الدينوري قال: كان أحمد بن المعذل إذا حج لا يستظل، فلقيه بعض أصحابه بين مكة والمدينة وهو في يوم صاف شديد الحر ليس له مظلة، وقد أحرقته الشمس، فقال له: لو سترت نفسك من الحر! فأنشأ يقول:
ضَحِيتُ لهَ ُكَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ ... إَذَا الظِّلُّ أَضْحَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصَا
وَعَادَتْ نُفُوسُ النَّاسِ عِنْدَ خُلُوقِهم ... يُرِيقُونَ رِيقًا غَائِرَا الْمَاءِ شَاخِصَا
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يَنَالَكَ حَرُّهَا ... وَقَدْ كُنْتَ مِنْ حَرِّ الظَّهِيَرةِ حَائِصَا
لَعَمْرِي لَقَدْ ضَاعَتْ أُمُورٌ لِأَهْلِهَا ... لَيَغْتَبِطَنْ بِالسَّبْقِ مَنْ كَانَ خَالِصَا
وقد ذكر له القاضي شعرًا غير قليل، وذكر البيتين مع القصة أيضًا ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (43/18)، والمازري في "المعلم" (2/46)، والقاضي في "الإكمال" (4/374- 375)، وابن قدامة في "المغني" (5/131)، و "الفراخ في الذخيرة" (3/305- 306)، مع اختلاف في إنشاء البيت الثاني.
(14) عبارة ((الأفعال)): ضَحِيَ ضَحَاءً: أصابه حرُّ الشمس، وضَحَا ضَحْوًا وضَحْيًا وضُحِيًّا: برز للشمس، والطريق ضُحُوًّا: ظهر، وأضحى يفعل ذلك: فعله من أول النهار، وأضحينا: صرْنا في الضحاء. وبصلاة النافلة: صليناها في ذلك الوقت.اهـ.
ينظر "الأفعال" لابن القوطية (ص909، و"الأفعال" للسرقسطي (2/221- 222)، و"الأفعال" لابن القطاع (2/285).
(15) سورة طه؛ الآية: 119.(3/400)
وقولُه: ((وإن استُعمل عليكم عبدٌ مجدَّعٌ (1) ))؛ أي: مقطوعُ الأنفِ والأطرافِ (2) . والجَدْع (3) : القطعُ. والعبدُ الذي يكونُ على (4) هذه الصفةِ هو في نهايةِ الضَّعَةِ (5) والخِسَّةِ. ويُفهمُ منه وجوبُ الطاعةِ لمن ولي شيئًا من أمورِ المسلمين إذا عدل فيهم، ولا تُنزعُ (6) يد من طاعتِه، ولا ينظرُ إلى نسبِه ومنصبِه، فيما عدا الإمامةَ الكبرى.
وقولُه: ((رمى الجمرةَ بمثلِ حصى الخذْفِ))؛ قد تقدَّم أن معنى الخذفِ: رميُ الحصى الصغارِ، واختلف في مقدارِها، وكلُّهم يكرهون الكبارَ؛ لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال في هذا: ((إيَّاكُمْ والْغُلُوَّ في الدِّينِ)) (7) . وأكبر (8) ما قيل (9) في ذلك: ما روُي عن ابنِ عباسٍ – رضي الله عنهما - (10) : أن حصاه كان (11) مثل البندقة، وقال عطاءٌ: مثلُ طرفِ الإصبعِ، وقال الشافعيُّ: أصغرُ من الأنملةِ (12) طولاً وعرضًا. وروي عن ابنِ عمرَ (13) – رضي الله عنهما -: بمثلِ (14) بعرِ الغنمِ، وروي عن مالكٍ: أكبرُ من ذلك أعجبُ إليَّ.
وقولُه: ((رمى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرةَ يومَ النحرِ ضحًى)) لا خلافَ في أن هذا =(3/401)=@
__________
(1) في (ب): ((مجذع)).
(2) في (ز): ((أو الأطراف)).
(3) في (ب): ((والجذع)).
(4) في (ح) و(ي): ((في)).
(5) في (أ) و(ز): ((الضعف)).
(6) في (ز): ((ينزع)).
(7) أخرجه ابن سعد (2/180-181)، وأحمد (1/215 و347)، وابن ماجه (2/1008 رقم3029) في المناسك ، باب قدر حصى الرمي ، والنسائي (5/268 رقم3057) في مناسك الحج، باب التقاط الحصى ، وابن الجارود (2/98 رقم473)، وأبو يعلى (4/316 و357 رقم2427 و2472)، وابن بخزيمة (4/274 رقم2867 و2868)، وابن حبان (9/183-184 رقم3871/الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (12/121 رقم12747)، والحاكم (1/466) - جميعهم من طريق عوف بن أبي جميلة، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة وهو على ناقته: ((القط لي الحصى))، فلقطت له سبع حصيات، هن حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول: ((أمثال هؤلاء فارموا))، ثم قال: ((يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)).
لكن في إحدى روايتي أحمد (1/347)، وابن خزيمة (2868) قال يحيى بن سعيد - الراوي عن عوف -: لا يدري عوف : عبدالله أو الفضل .
وقد أخرج الطبراني في "الكبير" (18/289 رقم742)، والبيهقي (5/127). كلاهما من طريق عبدالرزاق، عن جعفر بن سليمان ، عن عوف ، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية ، عن ابن عباس ، عن أخيه الفضل بن عباس ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ، فذكره .
قال الطبراني: ((وروى هذا الحديث جماعة عن عوف ، منهم سفيان الثوري ، فلم يقل أحد: ((عن ابن عباس، عن أخيه)) إلا جعفر بن سليمان، ولا رواه عن جعفر إلا عبدالرزاق)).اهـ. قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (2/363-364)- بعد أن ساق كلام الطبراني -: ((وروايته في نفس الأمر هي الصواب ، فإن الفضل هو الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ)).اهـ. وصححه الألباني في رسالته "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - " (ص81).
(8) في (أ) و(ب) و(ز): ((وأكثر)).
(9) سقط من (ي).
(10) أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/271): قال حدثنا يحيى بن سليم الطائفي ، عن عبدالله بن عثمان ، قال : سمعت مجاهدًا وسعيد بن جبير يقولان : كنا نرى عبدالله إذا رمى الجمرة يرفع يديه حتى يساوي رأسه ويُرى بياض إبطيه ، وكان حصاه مثل بندقة الحادرة .
(11) في (ي): ((كانت)).
(12) في (ب): ((الأنملة)).
(13) أخرجه البيهقي (5/128) من طريق جميل بن زيد قال : رأيت ابن عمر يرمي الجمار مثل بعر الغنم .
وفي سنده جميل بن زيد الطائي؛ قال ابن معين : ليس بثقة ، وقال البخاري : لم يصح حديثه. وروى أبو بكر بن عياش ، عن جميل ، قال : هذه أحاديث ابن عمر ، ما سمعت من ابن عمر شيئًا ، إنما قالوا لي : اكتب أحاديث ابن عمر ، فقدمت المدينة ، فكتبتها . "ميزان الاعتدال" (1/423 رقم1556).
(14) في (ز): ((مثل)).(3/401)
هو الوقتُ الأحسنُ لرميها. واختلف فيمن رماها قبلَ طلوعِ الفجرِ، وقد تقدم أن (1) مذهبَ الشافعيِّ – رحمه الله - جوازُ ذلك، وبه قال عطاءُ بنُ أبي رباحِ، وابنُ أبي مليكةَ، وعكرمةُ بنُ خالدٍ. وقال مالكٌ وجماعةٌ معه: إن ذلك لا يجزئُ، وإن فعلَه أعادَ الرميَ. فأمَّا بعدَ طلوعِ الفجرِ وقبلَ طلوعِ الشمسِ (2) فقد تقدَّم مَن قال بجوازِ ذلك، وذكرنا حديثَ (3) ابنِ عباسٍ (4) في المنعِ من ذلك، غيرَ أن أبا بكِر بنَ المنذرِ قال: من رماها بعدَ طلوعِ الفجرِ، وقبلَ طلوعِ الشمسِ، فلا إعادةَ عليه، ولا أعلمُ أحدًا قال: لا يجزئُه. فيلزمُ (5) من هذا: أن الاتفاقَ قد حصل على أن ذلك إن وقع أجزأ، فيكونُ محملُ النهيِ عن ذلك في حديثِ ابنِ عباسٍ على كراهةِ الإقدامِ عليه في ذلك الوقتِ (6) .
وقولُه: ((وأما بعدُ فإذا زالت الشمس))؛ يعني: بعدَ جمرة العقبةِ. وهذا قولُ (7) كافةِ العلماءِ والسلفِ، غير أن عطاءً وطاووسًا (8) قالا(7): يجزئه في الثلاثةِ الأيامِ قبلَ الزوالِ. وقال أبو حنيفة وإسحاقُ: يجوز (9) في اليومِ الثالثِ الرميُ قبلَ الزوالِ، وهذا الحديثُ حجةٌ عليهم (10) .
وقولُه: ((الاستجمارُ توٌّ (11) ))؛ قد (12) تقدَّم في كتاب الطهارةِ: أن الاستجمارَ يُقالُ على استعمالِ الحجارةِ في محلِّ الغائطِ والبولِ، ويقال على استعمالِ مجمرةِ =(3/402)=@
__________
(1) في (ح): ((من)). وتقدم هذا في الباب السابق.
(2) سقط من (ي).
(3) في (ح): ((في حديث)).
(4) تقدم تخريجه في الباب السابق، وذكر الشارح هناك من قال بجوازه.
(5) في (ب) و(ز): ((فلزم)).
(6) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (7/270): وأما اختلافهم في رمي جمرة العقبة بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس؛ فإن أكثر الفقهاء يجيزون ذلك، وممن أجازها مالك والشافعي وأبو حنيفة ومن قال بقولهم. وقال أبو ثور: إن اختلفوا في رميها قبل طلوع الشمس لم تجزئ من رماها، وكان عليه الإعادة، وإن أجمعوا سلمنا للإجماع، وحجته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رماها بعد طلوع الشمس، ومن رماها قبل طلوع الشمس كان مخالفًا للسنة، ولزمه إعادتها في وقتها. ثم ذكر كلام ابن المنذر الذي نقله الشارح هنا، وفيه أن ابن المنذر قال: ولو علمت في ذلك خلافًا لأوجبت على فاعل ذلك الإعادة. قال ابن عبد البر: ولم يعرف قول أبي ثور الذي حكيناه وقد ذكر الطحاوي عن الثوري وذكره ابن خواز منداد أيضًا.اهـ.
(7) في (ح) و(ي): ((كقول)). ...
(7) في (ح): ((قالا لا)). وانظر: "الإكمال" (4/378)، و"فتح الباري" (3/580).
(8) قوله: ((عطاء وطاوسًا)) في (ز): ((طاوسا وعطاء)).
(9) المثبت من (ي) فقط، وفي سائر النسخ: ((يجوز)) وانظر التعليق الآتي.
(10) عبارة "الإكمال" (4/378): ((إلا أن أبا حنيفة قال: يستحسن أن يكون في اليوم الثالث قبل الزوال قال: والقياس أنه لا يجوز إلا بعد الزوال، وخالفه صاحباه،. وقال إسحاق: يجزئه في اليوم الثالث قبل الزوال.اهـ.
(11) قوله: ((الاستجمار تو)) في (ز): ((الاستجمار))، وفي (ي): ((والاستجمار تو)).
(12) قوله : ((قد)) سقط من (ب).(3/402)
البخورِ،، وقد (1) ذكرنا هناك اختيارَ مالكٍ فيها (2) . وقد (3) ذكر في هذا الحديث الاستجمارَ مرتين، فيحسنُ في هذا الحديث (4) أن يحملَ أحدُهما (5) على استعمالِ الحجارةِ في المخرجين، والآخرُ على استعمالِ البخورِ، كما صار إليه مالكٌ (6) . ويجوزُ حملُ الثاني على التأكيدِ، وفيه بُعدٌ.
و((التوُّ)): الوتر ُوالفردُ. وفي الحديثِ: ((فَمَا (7) مَضَتْ إِلَّا تَوَّةٌ وَاحِدَةٌ))؛ أي: ساعةٌ واحدةٌ (8) . ويقالُ في غيرِ هذا: جاء فلانٌ توًّا؛ أي: قاصدًا (9) لا يَعرِّجُ (10) على شيءٍ (11) .
ولا خلافَ في وجوبِ الوترِ في السعيِ، والطواف، ورمي الجمار. واختلف في الاستنجاء على ما مضى. والله أعلم (12) .
ومن بابِ الحلاقِ (13) والتقصيِر
أحاديثُ هذا البابِ تدلُّ (14) على أن الحِلاقَ نُسكٌ يثابُ فاعلُه، وهو مذهبُ =(3/403)=@
__________
(1) قوله : ((قد)) من (ب) فقط .
(2) في باب صفة الوضوء، من كتاب الطهارة، عند الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ومناستجمرفليوتر)). وانظر التعليق الآتي آخر.
(3) قوله : ((قد)) سقط من (ح).
(4) قوله: ((هذا الحديث)) في (أ) و(ز): ((هذين الحديثين))، وفي (ب): ((هذين الجوبثين)).
(5) زاد بعدها في (ز): ((على الآخر أو يحمل أحدهما)).
(6) وقال القاضي في "الإكمال" (4/380): فتكراره (أي: الاستجمار) إما أن يكون المراد أولاً: الفعل، والثاني: عدد الأحجار، أو يكون أحدهما: الاستطابة، والثاني: البخور، والأول أظهر)).اهـ. وكذلك رجح الشارح كما سبق أن تفسير الاستجمار بالاستنجاء من مالك هو الأظهر، لكن ظاهر قوله هنا أن مالكًا اختار تفسيره بالبخور؛ وقد اختلف عن مالك في تفسير الاستجمار؛ قال الباجي في "المنتقى" (1/40- 41):
قوله: ((ومن استجمر فليوتر)) اختلف مالك وأصحابه في الاستجمار؛ فروى سحنون في التفسير قال: قال لنا علي بن زياد: قلت لمالك: كيف الوتر في الاستجمار؟ فقال: أما أنا فآخذ العود فأكسره ثلاث كسر، وأستجمر بكل كسرة منهن؛ فإن كل العود مدقوقًا أخذت منه ثلاث مرات. قال علي: فكلمه في ذلك رجل من قريش وأنا شاهد، فقال: إن العرب تسمي الاستنجاء بالحجارة من الغائط "استجمار". فرجع إلى ذلك مالك قال علي: وقوله الأول أحب إلي. قال سحنون: القول ما رجع إليه مالك.اهـ. قال الباجي: إذا ثبت أن الاستجمار هو الاستنجاء فقد اختلف أصحابنا في معناه؛ فمنهم من قال: سمي بذلك؛ لأنه يتعلق بالأحجار وهي الجمار؛ قال أبو بكر الأنباري: استجمر الرجل: إذا تمسح بالجمار، والجمار: الحجارة الصغار؛ وبه سميت جمار مكة. وقال القاضي أبو الحسن: يجوز أن يقال: إنه أخذ من الاستجمار بالبخور الذي تطيب به الرائحة، وهذا يزيل الرائحة القبيحة.اهـ.
(7) قوله : ((فما مضت)) في (ح): ((مضت))، وفي (ي): ((فمضت)).
(8) في (ب): ((واحدة)). وهذا اللفظ: ((فما مضت إلا توة واحدة)) ليس من كلام النبي كما قد يتوهم من عبارة الشارح: ((وفي الحديث))، لكنها من كلام الشعبي؛ ذكرها عنه الخطابي في "غريبه"، عند تفسيره ((التو)) في الحديث، وعبارته: وقال عمر بن شبة قال الشعبي: دخلت البصرة فرأيت حلقة عظيم ة في الجامع، وإذا هي حلقة الأحنف، فسلمت وجلست، قال: فما مضت إلا توة حتى قام الأحنف. في قصة ذكرها، يريد بالتوة: الساعة الواحدة.اهـ.
(9) في (ز): ((قاعدًا)).
(10) في (ب): ((تعزج)).
(11) ينظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/101)، و"النهاية" (1/201).
(12) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ب) و(ز).
(13) في (ز): ((الخلاق)).
(14) في (ب): ((يدل)).(3/403)
الجمهورِ. وذهب الشافعيُّ في أحدِ قوليه، وأبو ثورٍ (1) ، وأبو يوسفَ، وعطاءٌ: إلى أنه ليس بنسكٍ (2) ، بل هو مباحٌ. قال الشافعيُّ – رحمه الله -: لأنه (3) ورد بعدَ الحظْرِ، فحُمِل على الإباحِة؛ كاللباسِ، والطيبِ (4) . وهذه الأحاديثُ تردُّ عليهم من وجهين:
أحدهُما: أنها تضمنتْ أنَّ كلَّ واحدٍ من الحِلاقِ والتقصيرِ فيه ثوابُ، ولو كان مباحًا لاستوى فعلُه وتركُه.
وثانيهما: تفضيلُ الحِلاقِ على التقصيرِ، ولو كانا مباحين لما كان لأحدِهما مزيةٌ على الآخرِ (5) في نظرِ الشرعِ.
واختلف القائلون بكونِهما نسكين (6) في الموجِبِ لأفضليةِ الحِلاقِ على التقصيرِ: فقيل: لِمَا ذُكَر عن ابنِ عباسٍ (7) – رضي الله عنهما - قال: حلقَ رجالٌ يومَ الحديبيةِ، وقّصَّر آخرون، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ((اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ)) ثلاثًا، قيل: يا رسولَ الله! لِمَ ظاهرتَ لهم بالترحُّمِ؟ قال: ((لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا)). وحاصلُه: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم يومَ الحديبيةِ بالحِلاقِ، فما قام منهم أحدٌ (8) ؛ لِمَا وقع في أنفسِهم من أمرِ الصلحِ، فلمَّا حلق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ودعا (9) للمحلِّقين (10) ، أو استغفر لهم، ثلاثًا، وللمقصِّرين (11) واحدةً - تبادروا (12) إلى ذلك. قال أبو عمرَ ابنُ عبدِ البرِّ: ((وكونُ ذلك يومَ الحديبيةِ هو المحفوظُ)) (13) . وقيل: بل كان ذلك في حجةِ الوداعِ؛ كما روتْه أمُّ الحصينِ من طريقِ قتادةَ (14) ، وهو إمامٌ ثقةٌ.
وإنما كان (15) الحِلاقُ أفضلَ لأنه أبلغُ في العبادِة، وأدلُّ على صدقِ النيةِ في =(3/404)=@
__________
(1) كتب في (ز): ((وأبو ثور يوسف)) وضرب على ((ثور)).
(2) في (ب): ((نسك)).
(3) في (ح): ((في لأنه)).
(4) قال النووي في "شرح مسلم" (9/50) عن هذا القول للشافعي: ((وللشافعي قول شاذ ضعيف؛ أنه استباحة محظور كالطيب واللباس، والصواب الأول)) يعني: مذهب الجمهور.
(5) في (ي): ((الأخرى)).
(6) في (ب) و(ز): ((بأنهما نسكان)).
(7) أخرجه ابن هشام في "السيرة" (3/319)، وابن أبي شيبة (7/390 رقم36850) في المغازي ، باب غزوة الحديبية ، وأحمد (1/353)، وابن ماجه (2/1012 رقم3045) في المناسك ، باب الحلق ، وأبو يعلى (5/106 رقم2718)، والطحاوي (2/255-256 و256)، وفي "مشكل الآثار" (3/391 و392 رقم1364 و1365 و1366)، والطبراني في "الكبير" (11/76 رقم11150). جميعهم من طريق محمد بن إسحاق ، قال : حدثني ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : حلق رجال يوم الحديبية ، وقصَّر آخرون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يرحم الله المحلقين...)) الحديث . وإسناده حسن.
(8) قوله: ((منهم أحد)) في (ح): ((أحد منهم)).
(9) في (أ): ((دعا)).
(10) زاد بعدها في (ب): ((ثلاثًا)).
(11) في (ح): ((والمقصرين)).
(12) في (ح) و(ز): ((فبادروا)).
(13) في "التمهيد" (15/233- 234)، و"الاستذكار" (13/140)، وسيذكر الشارح أن هناك رأيا آخر: أن ذلك كان في حجة الوداع وعبارة ابن عبد البر في "التمهيد": هكذا هذا الحديث عندهم جميعا عن مالك عن نافع عن ابن عمر وكذلك رواه سائر أصحاب نافع لم يذكر واحد من رواته فيه أنه كان يوم الحديبية وهو تقصير وحذف والمحفوظ في هذا الحديث أن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة إنما جرى يوم الحديبية حين صد عن البيت فنحر وحلق ودعا للمحلقين وهذا معروف مشهور محفوظ من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وحبشي بن جنادة وغيرهم... ثم ذكر أحاديثهم بأسانيده إليهم.
قال الحافظ بعد أن ذكر كلام ابن عبد البر السابق، في "الفتح" (3/563- 564): ((ولم يسق بن عبد البر عن بن عمر في هذا شيئا ولم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطرق عنه وقد قدمت في صدر الباب أنه مخرج من مجموع الأحاديث عنه أن ذلك كان في حجة الوداع كما يومئ إليه صنيع البخاري وحديث أبي سعيد الذي أخرجه بن عبد البر أخرجه أيضا الطحاوي من طريق الأوزاعي وأحمد وبن أبي شيبة وأبو داود الطيالسي من طريق هشام الدستوائي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم الأنصاري عن أبي سعيد وزاد فيه أبو داود أن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة وأما حديث بن عباس فأخرجه بن ماجة من طريق بن إسحاق حدثني بن أبي نجيح عن مجاهد عنه وهو عند بن إسحاق في المغازي بهذا الإسناد وأن ذلك كان بالحديبية وكذلك أخرجه أحمد وغيره من طريقه وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه بن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عنه ولم يعين المكان وأخرجه أحمد من هذا الوجه وزاد في سياقه عن حبشي وكان ممن شهد حجة الوداع فذكر هذا الحديث وهذا يشعر بأنه كان في حجة الوداع وأما قول بن عبد البر فوهم فقد ورد تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في السنن ومن طريق الطبراني في الأوسط ومن حديث المسور بن مخرمة عند بن إسحاق في المغازي وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وبن أبي شيبة ومن حديث أم الحصين عند مسلم ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وبن أبي شيبة ومن حديث أم عمارة عند الحارث فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا وأصح إسنادا ولهذا قال النووي عقب أحاديث بن عمر وأبي هريرة وأم الحصين الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي صلى الله عليه و سلم وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل والقصة مشهورة كما ستأتي في مكانها فلما أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بالإحلال توقفوا فأشارت أم سلمة أن يحل هو صلى الله عليه و سلم قبلهم ففعل فتبعوه فحلق بعضهم وقصر بعض وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث بن عباس المشار إليه قبل فإن في آخره عند بن ماجة وغيره أنهم قالوا يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة قال لأنهم لم يشكوا وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال بن الأثير في النهاية كان أكثر من حج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يسق الهدي فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤوسهم شق عليهم ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق ففعله أكثرهم فرجح النبي صلى الله عليه و سلم فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر انتهى وفيما قاله نظر وإن تابعه عليه غير واحد لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا وقد كان ذلك في حقهم كذلك والأولى ما قاله الخطابي وغيره إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به وكان الحلق فيهم قليلا وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن زى الأعاجم فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير...
وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال بن الأثير في النهاية كان أكثر من حج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يسق الهدي فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤوسهم شق عليهم ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق ففعله أكثرهم فرجح النبي صلى الله عليه و سلم فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر انتهى وفيما قاله نظر وإن تابعه عليه غير واحد لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا وقد كان ذلك في حقهم كذلك والأولى ما قاله الخطابي وغيره إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به وكان الحلق فيهم قليلا وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن زى الأعاجم فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير)).، انتهى كلام الحافظ، وانظر ما نقله عن الخطابي عياض في "الإكمال" (4/383- 384)، وعن ابن الأثير في "النهاية" (1/427)، وعن النووي في "شرح مسلم" (9/50- 51)، وعن ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" (ص494).
(14) الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" (1303)، والطيالسي (1760)، وابن أبي شيبة (3/220)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3290)، وأحمد في "المسند" (1698 و23280 و27302 و27305 و27308)، والنسائي في "الكبرى" (4117)، وغيرهم من طرق عن شعبة ، عن يحيى بن الحصين ، عن جدته أم الحصين به. وليس في طرق الحديث السالفة ذكر لقتادة ، فلا أدري ما وجه قول المؤلف : من طريق قتادة .
(15) سقط من (ي).(3/404)
التذلُّلِ لله تعالى؛ لأن المقصِّرَ مبقٍ على نفسِه بعضَ الزينةِ التي ينبغي للحاجِّ أن يكونَ مُجانبًا لها (1) . والله تعالى أعلم.
والْمُحْصَرُ في الحِلاقِ والتقصيرِ كغيره في كونِ ذلك نُسُكًا له، وقال أبو حنيفة، وصاحباه: ليس على الْمُحْصرِ شيءٌ من ذلك (2) ، ويردُّه حِلاقُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ الحديبيةِ.
ولا خلافَ في أن حكمَ النساءِ التقصيرُ، وأن الحلاقَ غيرُ لازمٍ لهنَّ عندنا،، وعندَ كثيرٍ من العلماء على أن (3) الحِلاقَ لهن غيرُ جائزٍ؛ لأنه مُثْلَةٌ فيهنَّ،، ويدلُّ على أنه ليس بمشروعٍ لهنَّ: ما (4) رواه أبو داودَ عنِ ابنِ عباسٍ (5) قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ الْحَلْقُ، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ)).
وجمهورُهم على أن مَن لبَّد، أو عَقَص، أو ضَفَّرَ (6) ، لزمه أن يحلقَ، ولا يقصرَ؛ =(3/405)=@
__________
(1) ذكر هذا التعليل لأفضلية الحلق على التقصير القاضي في "الإكمال" (4/384)، ونحه النووي في "شرح مسلم" (9/51)، وذكره الحافظ في "الفتح" (3/564).
التعليل بإبقاء بعض الزنية في التقصير؛ قال: وأما قول النووي تبعًا لغيره بأن المَقصِر يبقى على نفسه الشعر الذي هو زينة والحاج مأمور تحرك الزينة، بل هو أشعث أغبر، ففيه نظر؛ لأن الحلق إنما يقع بعد انقضاء زمن الأمر بالتقشف؛ فإنه يحل له عقبه كل شيء إلا النساء في الحج خاصة.اهـ.
(2) عبارة "الإكمال" (4/386) – بعد أن ذكر قول أبي حنيفة -: وقاله صاحباه، واختلف عن أبي يوسف فأوجبه مرة. وانظر: "الاستذكار" (13/108).
(3) قوله: ((عندنا وعند كثير من العلماء على أن...)) إلخ، عبارة "الإكمال" (4/386): ((ولا خلاف أن الحلاق أفضل من التقصير، وأن التقصير يجزئ، وأن الحلاق لا يلزم النساء، وأن شأنهن التقصير، وعند الكثير منهم أن الحلاق لا يباح لهن إلا من عذر؛ لأنه مثله ((فيهن)).اهـ. وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (15/238): ((والحلاق أفضل إلا أن النساء لا يجوز لهن غير التقصير وحلاقهن معصية عنده (أي: عند مالك) إن لم يكن لضرورة)).
(4) في (ح): ((كما))، وفي (ي): ((بما)).
(5) أخرجه الدارمي (2/64) في الحج ، باب من قال : ليس على النساء حلق ، والبيهقي (5/104) كلاهما عن ابن المديني . وأخرجه البخاري في "تاريخه" (6/46) عن إبراهيم بن يوسف، وأخرجه أبو زرعة في "تاريخه" (1/516) رقم (1373) عن يحيى ابن معين، وأخرجه أبو داود (2/502 رقم1985) في الحج ، باب الحلق والتقصير، والدارقطني (2/271) كلاهما من طريق أبي يعقوب إسحاق بن أبي إسرائيل. جميعهم - ابن المديني ، وإبراهيم بن يوسف ، وابن معين ، وإسحاق -، عن هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن عبدالحميد بن جبير بن شيبة ، عن صفية بنت شيبة ، قالت : أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ليس على النساء حلق ، إنما على النساء التقصير)).
وقد صرح ابن جريج بالتحديث عند الدارمي ، والبيهقي ، والبخاري، والدارقطني، قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (2/261): ((وإسناده حسن ، وقوّاه أبو حاتم في "العلل"، والبخاري في "التاريخ"، وأعلَّه ابن القطان، وردَّه عليه ابن المواق فأصاب)).اهـ.
وصححه الألباني في "الصحيحة" (2/157-158 رقم605)
(6) .في (ز) و(ي): ((ظفر)).(3/405)
للسُّنَّةِ الواردةِ بذلك؛ ولأن التقصيرَ في ذلك (1) لا يعمُّ الشعرَ، ومن سُنِته عمومُ التقصيرِ. وخالف في هذا أصحابُ الثوريِّ (2) ، وقالوا: إن الملبِّدَ والمضفرَ (3) كغيرِه يجزئه التقصيرُ.
وقول أنس – رضي الله عنه -: ((إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أتى الجمرةَ فرماها، ثم أتى منزلَه بمنى، ونحر، وحلق)) هذا يدلُّ على أن مَن رمى جمرةَ العقبةِ حصل له تحلُّلٌ؛ لأنه بعدَ أن رَمَى حَلَقَ، وهذا لا خلافَ فيه في الجملةِ، لكن اختلفوا فيماذا يستحلُّ من محظوراتِ الإحرامِ: فقال أبو ثورٍ: يتمُّ تحللُ الحاجِّ من كلِّ شيءٍ إلا النساءَ برميِ جمرة العقبةِ. وقال الشافعيُّ وأصحابُ الرأي وجماعةٌ من العلماءِ: بل حتى يحلقَ. وذهب مالكٌ إلى أن الذي يُحِلُّ (4) له رميُ جمرةِ العقبةِ: كلُّ شيءٍ إلا النساءَ، والطيبَ، والصيدَ. واختلف قولُه إذا تطيبَ بعد الجمرةِ، وقبل الإفاضِة؛ هل يجبُ عليه دم أو لا (5) ؟ وروي عن عمرَ (6) – رضي الله عنه -: أنه يحلُّ له كلُّ شيءٍ إلا النساءَ والطيبَ. وعن عطاءٍ: إلا النساءَ والصيدَ. ولا خلافَ في (7) أنه لا يحلُّ (8) النساءُ ولا الصيدُ بعدَ الجمرةِ، وأنه يحلُّ (9) له جميعُ محظوراتِ الإحرامِ بعدَ الإفاضةِ. وتعديدُ ما يحرمُ على المحرمِ مُفصَّلٌ في كتبِ الفقهِ (10) .
وقولُه للحلاَّقِ: ((خذ)) وأشار إلى جانبهِ الأيمنِ؛ هذا على عادتِه - صلى الله عليه وسلم - في =(3/406)=@
__________
(1) قوله: ((في ذلك)) سقط من (ز)، وفي (ي): ((بذلك)).
(2) قوله: ((أصحاب الثوري)) كذا في النسخ، وفي "الإكمال" (4/386): ((أصحاب الرأي)) وهو الصواب؛ قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (13/120): وقال ابن عمر: من عقص رأسه أو ضفر أو لبد، فقد وجب عليه الحلاق. ثم قال ابن عبد البر: وبه قال مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. ثم قال: وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن قصر الملبد لرأسه بالمقراض أو بالمقص، أجزأه)).
(3) في (ح): ((المقصر)) وفي (ز) و(ي): ((المظفر)).
(4) في (ز): ((تحل)).
(5) تبعًا للخلاف فيه، فيما روي عن عمر وعطاء، كما سيذكره الشارح. وانظر: "الإكمال" (4/380).
(6) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/410 رقم221) في الحج ، باب الإفاضة ، عن نافع وعبدالله بن دينار ، عن عبدالله بن عمر : أن عمر بن الخطاب خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج ، وقال لهم فيما قال : إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب ، لا يمس أحد نساء ولا طيبًا حتى يطوف بالبيت .
(7) سقط من (أ).
(8) في (ب) و(ز): ((تحل)).
(9) في (ح): ((تحل)).
(10) ذكرها القاضي في "الإكمال" (4/380- 381) فقال: وموانع الإحرام عندنا ضربان: أحدهما: فعل ما لا يباح استحلاله؛ وهو الصيد والرفث، والرفث: الجماع وكل ما في معناه من الاستمتاع بالنساء، وما يدعو إلى ذلك من الطيب، والعقود المختصة به كالنكاح. والثاني: إزالة ما لا يباح له اجتنابه، وهو التفث وهو الشعر، وترك حلق شعره وإزالته ومشطه وغسله بالغسول، وترك التنظيف، وقص الأظفار، والتطيب، ولبس المخيط، والخفاف، وما يستر الرأس والوجه والأطراف. فهذا الفصل وهو التفث يقع التحلل منه عندنا بالحلاق، والفصل الأول لا يقع التحلل منه إلا بالطواف، وهو آخر التحللين وغايته عند الجميع.(3/406)
الابتداءِ باليمينِ في أفعالِه؛ فإنه كان يحبُّ التيمُّنَ في شأنِه كلِّه. وتوزيعُه شعرهَ على الناسِ حرصٌ منه - صلى الله عليه وسلم - على تشريكِهم في التبركِ به، وفي ثوابِه.
وقولُه: ((فوزَّعه الشعرةَ والشعرتين بين الناس)) ليس بمخالفٍ لقولِه في الروايِة الأخرى لأبي طلحةَ: ((اقْسِمْهُ بين الناس))؛ فإنه لما أمر بتوزيعِه أبا طلحةَ صحَّ أن يُضافَ التوزيعُ له (1) ؛ كما يقال: إنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا (2) ، وقطع يدَ السارق في مجِنٍّ (3) ؛ أي: أمر بذلك.
وقولُه: ((لما حلق شقَّ (4) رأسهِ الأيمنَ أعطاه أبا طلحةَ)) ليس مناقضًا لما في الروايةِ الثانية (5) : أنه قسم شعرَ الجانبِ الأيمنِ بين الناسِ، وشعرُ الأيسرِ أعطاه أمَّ سُليمٍ - وهي امرأةُ أبي طلحةَ، وهي أمُّ أنسٍ- ويحصلُ من مجموعِ هذه الرواياتِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما حلق الشقَّ الأيمن ناوله أبا طلحةَ ليقسمَه بين الناسِ، ففعل أبو طلحةَ، وناوله (6) شعرَ الشقِّ الأيسرِ ليكون عندَ أبي طلحةَ، فصحتْ نسبةُ كلِّ (7) ذلك إلى من نُسبت (8) إليه على ما قررناه. والله تعالى أعلم. وهذا أولى من (9) أن نُقدِّرَ تناقضًا واضطرابًا. والحمدُ لله (10) . =(3/407)=@
__________
(1) في (ب): ((إليه)).
(2) سيأتي برقم (1782 و1783 و1785 و1786) في الحدود ، باب إقامة الحد على من اعترف على نفسه بالزنى ، وباب يُحفر للمرجوم حفرة إلى صدره وتشد عليه ثيابه ، وباب من روى أن ماعزًا لم يُحفر له ولا شُد ولا استُغفر له .
(3) سيأتي برقم (1776) في الحدود ، باب حد السرقة وما يقطع فيه .
(4) في (ز): ((شعر)).
(5) في (ح) و(ي): ((الثالثة)).
(6) في (أ) و(ز): ((وناول)).
(7) قوله : ((كل)) سقط من (ح).
(8) في (ب) : ((نسبه))، وفي (أ) : ((نسبت)).
(9) قوله : ((من)) سقط من (أ).
(10) وقال الحافظ في "الفتح" (1/274) بعد أن ذكر روايات الحديث -: ولا تناقض بين هذه الروايات، بل طريق الجمع بينهما: أنه ناول أبا طلحة كلاًّ من الشقين؛ فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره، وأما الأيسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره - صلى الله عليه وسلم - أيضًا.(3/407)
ومن بابِ مَنْ حلقَ قبلَ النحرِ أو نحر قبلَ الرميِ
أحاديثُ هذا البابِ تدلُّ على أن من قدَّم شيئًا أو أخره: من الحِلاقِ، والرميِ، والنحرِ، والطوافِ بالبيتِ - فلا شيءَ عليه. وبهذا قال الشافعيُّ، وفقهاءُ أصحابِ الحديثِ في جملةٍ (1) من السَّلفِ؛ تمسُّكًا بهذه الأحاديثِ.
وحُكي عن ابنِ عباسٍ (2) – رضي الله عنهما - فيمن قدَّم شيئًا من النُّسكِ المذكورِ (3) عليه الدمُ، وليس بالثَّابتِ عنه،، وروي نحوهُ عنِ ابنِ جبيرٍ، وقتادةَ، والحسنِ، والنخعي (4) ،،وكأن هؤلاء حملوا قولَه - صلى الله عليه وسلم - : ((لا حرج))؛ أي: لا إثم، وبَقَوُا (5) الحكمَ المقرَّرَ على من أخلَّ بشيءٍ من سُننِ الحجِّ على =(3/408)=@
__________
(1) في (ب): ((جماعة)).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3/345 رقم14954) في الحج ، باب في الرجل يحلق قبل أن يذبح ، عن سلام ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : من قدم شيئًا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دمًا .
وفي سنده إبراهيم بن مهاجر بن جابر ، صدوق ليّن الحفظ . كما في "التقريب" (ص116 رقم256).
(3) في (ب): ((المذكورة)).
(4) نقل هذه العبارة الحافظ في "الفتح" (3/571) هكذا:
وقال القرطبي: روي عن ابن عباس ولم يثبت عنه أن من قدم شيئا على شيء فعليه دم وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي انتهى وفي نسبة ذلك إلى النخعي وأصحاب الرأي نظر؛ فإنهم لا يقولون بذلك إلا في بعض المواضع. ولم يقع في شيء من النسخ التي بين أيدينا ذكر ((أصحاب الرأي)). أما النخعي فقد ذكر عنه ابن عبد البر في "التمهيد" (7/278)، و"الاستذكار" (13/322) أنه قال: ((من حلق قبل أن يذبح أهراق دمًا)) وأنه أوجب الفدية على من حلق قبل أن يرمي فصح كلام الحافظ، وقد نقل الشارح عبارته هذه عن القاضي في "الإكمال" (4/388). وأما سعيد بن جبير وقتادة والحسن. فذكر ابن عبد البر في "التمهيد" (7/277- 278)، و و"الاستذكار" (13/323- 324) أنه روي عنهم أنه من قدم نسكًا على نسك فلا حرج!
وذكر في و"الاستذكار" (13/325) أنه روي عن سعيد بن جبير وقتادة مثل ما روي عن ابن عباس، أن من قدم أو أخر نسكًا، فليهرق دمًا. ولم يذكر الحسن!
(5) في (ز): ((وبنوا)).(3/408)
أصلِه: من وجوب جَبره بالدمِ.
ولم يختلفوا فيمن (1) نحر قبل الرَّمي؛ أنه لا شيء عليه (2) .
وقال أبو حنيفة: على من حلق قبلَ الرَّميِ، أو نحر (3) ، دمٌ. وقال (4) مالكٌ: إنما يجبُ الدمُ على من حلق قبلَ الرميِ؛ لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رءُوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (5) ؛ ومحلُّ الهديِ من (6) الزمانِ هو بعدَ رميِ جمرةِ العقبةِ (7) .
واختلف قولُ مالكٍ فيما إذا قدَّم الإفاضةَ على الرميِ؛ فقيل: يجزئُه، وعليه الهديُ، وقيل: لا يجزئُه، وهو كمن لم يُفِضْ. وقال: يعيدُه بعدَ الرميِ والنحرِ (8) .
وسببُ هذا الخلافِ: معارضةُ قولِه تعالى: {ولا تحلقوا رءُوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (9) لهذه الأحاديثِ، وتأويلُ قوله (10) : ((لا حرج)) هل أراد به رفعُ الإثمِ فقط، أو رفعُ الإثمِ والحكمِ؟ والمفرِّقُ تأكد عندَه بعضُ تلك الأفعالِ ما لم يتأكدْ غيرُه، فأوجب الدمَ في المتأكِّدِ، ولم يوجبْه في غيرِه. والظاهرُ من الأحاديثِ مذهبُ الشافعيِّ وأصحابِ الحديثِ. والله أعلم (11) . =(3/409)=@
__________
(1) في (ب): ((بمن)). [شطب هذا الهامش من الحاشية ولم يشطب من المتن].
(2) قوله : ((عليه)) سقط من (ح).
(3) قوله: ((أو نحر)) كذا في النسخ، وظاهره أن من نحر قبل الرمي عليه دم في قول أبي حنيفة، وقد سبق أن قال الشارح: ((ولم يختلفوا فيمن نحر قبل الرمي أنه لا شيء عليه)). فصواب العبارة كما في "الإكمال" (4/389): ((قبل الرمي أو النحر)) ولفظ القاضي: ((وقال أبو حنيفة: على من حلق قبل أن يرمي أو ينحر دم)).
(4) في (أ) و(ح) و(ي): ((قال)).
(5) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(6) سقط من (ز).
(7) قال الحافظ في "الفتح" (3/571- 572): احتجاج النخعي ومن تبعه في تقديم الحلق على غيره بقوله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله}... فقد أجيب بأن المراد ببلوغ محله: وصوله إلى الموضع الذي يحل ذبحه فيه، وقد حصل. وإنما يتم ما أراد لو قال: ((ولا تحلقوا رءوسكم حتى تنحروا)).اهـ.
(8) سقط من (ز).
(9) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(10) قوله: ((وتأويل قوله)) في (ي): ((وقوله)).
(11) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز). وقال النووي في الرد على من خالف الشافعي في هذه المسألة، وتأول ((لا حرج)): أي: لا إثم: ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا حرج)) أنه لا شيء عليه، وقد صرح بعضها بتقديم الحلق على الرمي.
قال الحافظ في "الفتح" (3/571): وقال الطبري: ((لم يسقط النبي صلى الله عليه و سلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل إذ لو لم يجزئ لأمره بالإعادة لأن الجهل والنسيان لا يضعان عن المرء الحكم الذي يلزمه في الحج كما لو ترك الرمي ونحوه فإنه لا يأثم بتركه جاهلا أو ناسيا لكن يجب عليه الإعادة والعجب ممن يحمل قوله ولا حرج على نفي الإثم فقط ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض فإن كان الترتيب واجبا يجب بتركه دم فليكن في الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج))(3/409)
ومن بابِ طوافِ الإفاضةِ
لم يُختلفْ في أنَّ طوافَ الإفاضِة ركنٌ من أركانِ الحجِّ، وأن سنتَه يومَ النحرِ. وإنما اختُلف فيمن أخَّره عن يومِ النحرِ على ما قد (1) تقدَّم،، فإن تركَه حتى رجعَ إلى بلدهِ، فكافَّتُهم على أنه يرجعُ فيطوفُ، ولا يجزئُه إلا ذلك. وروي عن عطاءٍ، والحسنِ: يحجُّ من قابلٍ، قال عطاءٌ: ويعتمرُ. وقد تقدم قولُ مالكٍ: أن طوافَ الوداعِ يُجزئُه (2) .
وقولُ ابنِ عمرَ – رضي الله عنها -: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - أَفاض يومَ النحرِ، ثم رجع فصلَّى الظهرَ بمنى)) =(3/410)=@
__________
(1) قوله : ((قد)) ليس في (أ) و(ب) و(ز).
(2) من قوله : ((وقد تقدم ....)) إلى هنا سقط من (ح)، و(ي): ((وتقدم هذا في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عند الحديث على قوله: ((ثم ربك فأخذها إلى البيت)).(3/410)
مخالفٌ لما تقدَّم من حديثِ جابرٍ – رضي الله عنه - (1) : أنه أفاض إلى مكةَ، ثم صلَّى (2) بمكةَ الظهرَ،، وهذا هو الأصحُّ، ويَعْضُدُه حديثُ أنسٍ؛ قال فيه: إنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى العصرَ يومَ النحرِ بالأبطحِ، وإنما صلى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الظهرَ بمني يومَ الترويِة، كما قال أنسٌ،، وما في حديثِ ابنِ عمرَ (3) وَهْمٌ من بعضِ الرواةِ (4) . وقد تقدم أن التحصيبَ: نزولُ ((المحصَّبِ))؛ وهو ((الأبطحُ))، و((البطحاءُ))، و((خيفُ بني كنانةَ)) (5) . والخيفُ: ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيلِ (6) .
وقد أخذ مالكٌ بحديثِ ابنِ عمرَ – رضي الله عنها-، ورأى أنه (7) ينزلُ به عندَ رجوعِه من منى، فيصلِّي (8) به الظهرَ، والعصرَ، والمغربَ، والعشاءَ، ثم يدخلُ مكةَ أولَ الليلِ؛ لا (9) سيما للأئمةِ، وهو واسعٌ لغيرِهم.
قال عياضٌ: وهو مستحبٌّ عندَ جميعِ العلماءِ، وهو عندَ الحجازيين أوكدُ منه عندَ الكوفيين،، وكلُّهم مُجمعٌ على (10) أنه ليس من المناسكِ التي تلزمُ، وإنما فيه اقتداءٌ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وتبرُّكٌ (11) بمنازلِه (12) . وعلى هذا: فقولُ عائشةَ – رضي الله عنها -: ((ليس نزولُ الأبطحِ سنة))، وقولُ ابنِ عباسٍ: ((ليس التحصيبُ بشيءٍ))، - إنما يعنيان أنه ليس من المناسكِ التي يلزم بتركِها دمٌ ولا غيرُه.
ونزولُه - صلى الله عليه وسلم - بخيفِ بني كنانةَ إنما كان شكرًا لله تعالى على ما أظهره على عدوِّه =(3/411)=@
__________
(1) تقدم في باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) في (ب): ((فصلى)).
(3) وهو حديث الباب .
(4) توهيم الشارح رواة الحديث عن ابن عمر، ليس على عادته في الجمع بين الروايات إذا ظهر أنها متعارضة، وقد جمع بين الروايتين النووي في "شرح مسلم" (8/193)، فقال: ((ووجه الجمع بينهما أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف للإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بالظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك؛ فيكون متنفلاً بالظهر الثانية التي بمنى)). [يراجع].
(5) ينظر: "مشارق الأنوار" (1/57، 205، 50) وقال القاضي: وقال الذهري: الخيف الوايد وأصله ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيل، وهي بطحاء مكة والأبطح. والحقيقة أن الخيف هو مبتدأ الأبطح.
(6) ؟؟؟.
(7) في (ب) و(ز): ((أن)).
(8) في (ب): ((فصلى)).
(9) سقط من (أ).
(10) سقط من (ح).
(11) في (ب): ((تبريك)).
(12) في "الإكمال" (4/393).(3/411)
المتاكدِ (1) له في ذلك الموضعِ، وإظهارًا لما صَدَقَهُ الله تعالى مِنْ وَعْدِه في قولِه تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين...} الآية (2) .
وقضيةُ قريشٍ في الصحيفةِ ونقضِها منقولٌ في كتب السِّيرِ والأحاديثِ (3) .
وقولُه (4) : ((أسمح لخروجه))؛ أي: أسهلُ، والسَّماحُ في البيعِ هو التسهيلُ فيه؛ ومنه: ((السماحُ رباحٌ)) (5) .
وقد تقدَّم (6) أن الثَّقَل - بفتح الثاءِ والقافِ (7) - هو: اسمُ ما يحملُه الحاملُ مما يُثقلُه؛ ومنه قوله تعالى: {وتحمل أثقالكم إلى بلد (8) } (9) .
وظاهرُ (10) هذه الروايةِ، وهي روايةُ أبي (11) سلمةَ بنِ عبدِالرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه- (12) : أن ذلك كان في حجةِ الوداعِ،، وقد جاء من روايةِ الأعرجِ عن أبي هريرةَ (13) ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَنْزِلُنَا - إِنْ شَاءَ الله تعَالَى- إذا فتح الله الخيف))؛ وظاهرُ هذا أن ذلك كان يوم الفتحِ،، قال عياضٌ: فكان على هذا منزلَه في السنتين؛ وكذلك جاء مفسرًا في حديثِ أم هانئ ٍ (14) . =(3/412)=@
__________
(1) في (أ): ((المتاكد)).
(2) سورة الفتح؛ الآية: 27.
(3) انظر قضية الصحيفة ونقضها في "دلائل النبوة" للأصبهاني (1/200)، "تاريخ الطبري" (1/552)، وابن حبان (11/225)، "سيرة ابن هشام" (2/219)، البيهقي (6/385)، و"فتح الباري" (7/192).
(4) في (ز): ((وقول)).
(5) لفظ حديث منسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: ((السماح رباح والعسر شؤم)) عن ابن عمر، وعن أبي هريرة، "الشهاب" (1/48)، "الفردوس" (2/347)، "فيض القدير" (4/145)، "تكشف الخفا" )1/553). [يراجع المحدثون]
(6) في باب التغليس بصلاة الصبح بالمزدلفة.
(7) قوله: ((الثاء والقاف)) كذا في (ز)، وفي سائر النسخ: ((القاف والثاء)).
(8) قوله : ((إلى بلد)) سقط من (ب) و(ز).
(9) سورة النحل؛ الآية: 7.
(10) في (ح) و(ي): ((ظاهر)).
(11) قوله : ((أبي)) سقط من (ح) و(ز) و(ي).
(12) وهي المذكورة في الباب.
(13) مسلم (2/952-953 رقم1314/345) الحج، باب: استحباب النزول بالمحصب.
(14) تقدم حديث أم هانئ وتخريجه، في كتاب الصلاة باب صلاة الفجر. وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيتها يوم فتح مكة فصلى ثمان ركعات، وبيتها بالأبطح، وينظر "الإكمال" (3/57)، (4/395)، وذكر الحافظ في "الفتح" (7/193)، (8/15) ثلاثة روايات: ((قال حين أراد قدوم مكة))، ((وحين أراد حنينا)) و((من الغد يوم النحر وهو بمنى)).
وحمل أولا زاوية قدوم مكة على ((فتح مكة)) وجمع بينها وبين ((حين أراد حنينا)) بأنه في قدومه - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة غزا حنينا.
ثم ذكر الرواية الثالثة التي فيها ((وهو بمنى)) وأنها تدل على أنه في حجة الوداع، وجمع بينها وبين ((حين أراد قدوم مكة)) بأن قدومه هذا لطواف الوادع. ثم قال: ويحتمل التعدد.اهـ.
وحمله على التعدد يرفع إشكال الجمع بين الرواية التي ذكر فيها غزوة حنين وبين غيرها.(3/412)
قلتُ (1) : ويمكنُ أن تردَّ هذه الروايةُ إلى الأولى؛ بأن يقالَ: إن (2) قولَه: ((إذا فتح الله))، لم يذكرِ المفتوحَ ما هو (3) ؟،، و((الخيفُ)) إنما هو مرفوعٌ على أنه خبرُ للمبتدأِ (4) الذي هو((منزلُنا))، فعلى هذا يكونُ مفعول ُ ((فَتَحَ)) محذوفًا، فيكون تقديرُه: إذا فتح الله في السَّيرِ إلى مكةَ؛ بمعنى: سَهَّلَهُ، ويسَّر فيه. والله تعالى أعلم (5) . =(3/413)=@
__________
(1) في (ز): ((قال الشيخ))، وفي (ب): ((قال الشيخ رحمه الله)).
(2) سقط من (ح) و(ي).
(3) قوله: ((لم يذكر المفتوح ما هو)) في (ي): ((لم يذكر اليوم المفتوح ما هو)).
(4) في (أ): ((للمبتدأ)).
(5) قوله: ((والله تعالى أعلم)) ليس في (ز).(3/413)
ومن بابِ الرخصةِ في تركِ البيتوتةِ بمنى لأهلِ السقايةِ
المبيتُ بمنى لياليَ أيامِ التشريقِ من سنن الحجِّ بلا خلافٍ، إلا لذوي السِّقايةِ (1) أو للرُّعاةِ (2) ، ومن تعجَّل بالنفرِ (3) ،، فمن ترك ذلك ليلةً واحدةً أو جميعَ الليالي، كان عليه دمٌ عندَ مالكٍ،ن وقال الشافعيُّ بالدمِ في الجميعِ، وبصدقةٍ درهمٍ في ليلةٍ واحدةٍ (4) ، ودرهمين في ليلتين،، وقال مرةً: يطعمُ مسكينًا،، ونحوُه لأحمدَ (5) ،، وقال أصحابُ الرأيِ: لا شيء على تاركِ ذلك، وقد أساء (6) ،، وروي نحوه (7) عن ابنِ عباسٍ (8) والحسنِ. قال مالكٌ: فأما تركُ المبيتِ بها ليلَة عرفةَ فلا شيءَ فيه (9) .
وفي هذا الحديثِ (10) من الفقه ما يدلُّ على أن سقايةَ الحجِّ ولايةٌ ثابتةٌ لولدِ العباسِ لا يُنازَعُون فيها.
وقال (11) بعضُ أهلِ الفهمِ: وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الخلافةَ تكونَ في ولدِ العباس، وأنه لا ينبغي أن يُنَازَعُوا فيها، وأن ذلك يدومُ لهم. وفيه أبوابٌ من الفقهِ لا تخفى (12) على متأملٍ. ومشروعيةُ هذه السقايةِ من بابِ إكرامِ الضيفِ، واصطناعِ المعروفِ. =(3/414)=@
__________
(1) من قوله: ((المبيت بمنى ليالي...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(2) في (ح) و(ي): ((للرعاء)).
(3) أي: في ترك الليلة الثالثة فقط.
(4) قوله : ((واحدة)) سقط من (ب) و(غ).
(5) من هذا الموضع سقطت عدة لوحات من نسخة (ح).
(6) رسمها في (أ) و(ي): ((أسى)).
(7) قوله: ((وروي نحوه)) في (أ): ((ونحوه)).
(8) علّقه ابن عبدالبر في "الاستذكار" (13/190 رقم18537) عن عبدالزراق ، قال : اخبرنا ابن عيينة ، عن ابن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لا بأي أن يبيت الرجل بمكة ليالي منى ، ويظل إلى رمي الجمار . ثم قال : وعن ابن عيينة ، ع ن ابن جريج ، أو غيره ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، مثله .
وعلّقه ابن حزم في "المحلى" (7/185) من طريق سعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : لا بأس لمن كان له متاع بمكة أن يبيت بها ليالي منى .
وعلّقه أيضًا من طريق ابن أبي شيبة ، عن يزيد بن الحباب ، عن إبراهيم بن نافع ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : إذا رميت الجمار فبت حيث شئت .
(9) في (أ): ((عليه))، وفي "الإكمال" (4/396).
(10) قوله : ((الحديث)) سقط من (أ).
(11) قوله : ((وقال)) مكرر في (ب). [شطبت هذه الحاشية من الهامش وبقيت في المتن]
(12) في (ب): ((لا يخفى)).، في (ز): ((لا تختفى على على)).(3/414)
وقولُه: ((كذا فاصنعوا)) إشارةٌ إلى السِّقايةِ بالنبيذِ، وكأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قصدَ التيسيرَ عليهم، وتقليلَ الكلفِ، فإن الانتباذَ يسيرٌ (1) ، قليلُ المؤنةِ؛ لكثرةِ التمرِ عندهم (2) ، وليس كذلك العسلُ، فإن في إحضارهِ كُلْفَةً، وفي ثمنِه كثرةً. والله أعلمُ.
ومن باب التصدق بلحومِ الهدايا وجلودِها وأَجِلَّتِها
البُدْنُ: جمعُ ((بدَنَةٍ))، وهي العظيمةُ الجسمِ؛ ومنه: بَدُن الرجلُ، بدانةً؛ أي: كَثُرَ لحمُه. وقد تقدَّم ذلك. =(3/415)=@
__________
(1) في (أ): ((يستر)).
(2) قوله: ((عندهم)) في (ي): ((الذي عندهم)).(3/415)
وأَمرُه - صلى الله عليه وسلم - بالتصدقِ بلحومِ البدنِ، وجلودِها، وأجلتِها (1) ؛ دليلٌ على أن جلودَ الهديِ وجلالَها لا تباعُ؛ لأنه (2) عطفَها على اللحمِ وحَكَمَ لها (3) بحكمِهِ، وقد اتُّفِقَ على أن لحمَها لا يُباعُ؛ فكذلك الجلودُ والجِلالُ. وكان ابنُ عمر – رضي الله عنهما - يكسو جلالها (4) الكعبةَ (5) ، فلما كُسيتِ الكعبةُ تصدَّق بها؛ أخذًا منه (6) بهذا الحديثِ.
وممن صار إلى منعِ بيعِ جلودِها عطاءٌ، والنخعيُّ، ومالكٌ، وأحمدُ، وإسحاقُ - رضي الله عنهم - وقالوا: يتصدَّقُ وينتفعُ بها.
ورُوي عن ابنِ عمر (7) أنه قال: لا بأسَ أن يبيعَ جلدَ هديِه (8) ويتصدقَ بثمنِه،، وروي هذا عن أحمدَ، وإسحاقَ، وكان أبو ثور يرخِّصُ في بيعِه. وقال النخعيُّ، والحكمُ: لا بأسَ أن يشتريَ (9) به المُنْخُلَ (10) وشبهَهُ.
وقولُه: ((ولا أعطي الجازرَ منها))؛ يدلُّ على أنه لا تجوزُ المعاوضةُ على شيءٍ منها؛ لأن الجزارَ إذا عمل (11) عملَه استحقَّ الأجرةَ على عملِه، فإن دُفع له شيءٌ منها كان ذلك عوضًا على فعلِه، وهو بيعُ ذلك الجزءِ منها بالمنفعةِ التي عملَها، وهي الجزْرُ. والجمهورُ على أنه لا يُعطى الجازرُ منها شيئًا؛ تمسُّكًا بالحديث. وكان الحسنُ البصريُّ، وعبدالله بن عبيد بن عمير لا يريان بأسًا أن يُعْطى الجزارُ (12) الجلدَ.
وقولُه: ((نحنُ نعطيه من عندِنا)) مبالغةٌ في سدِّ الذريعةِ، وتحقيقٌ للجهةِ (13) التي تجبُ عليها أجرةُ الجازرِ (14) ؛ لأنه لما كان الهديُ منفعتُه له تعينتْ أجرةُ الذي (15) تتمُّ به تلك المنفعةُ عليه.
وفيه أبوابٌ من الإجارةِ وأحكامِها. =(3/416)=@
__________
(1) الأجلة جمع ((جلال)) والجلال جمع ((جُلٍّ))؛ وهو ثوب يلبس للدابة لتصان به ويجمع الجل أيضًا على ((أجلال)). "الصحاح" (4/1658)، و"اللسان" (11/118- 119)، و"المصباح" (ص59).
(2) في (ز): ((لأنها)).
(3) في (ز): ((لهما)).
(4) في (ب): ((أجلالها))، وهو جمع ((جُلٍّ))؛ كما سبق.
(5) أخرجه مالك في "الموطأ" (849)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في "الكبرى" (5/233)، وأخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (5/232) نقلاً عن "فتح الباري" (3/459). وقال الحافظ : إسناده صحيح . وذكره البخاري معلقًا في "صحيحه" (3/549) كتاب الحج ، باب الجلال للبدن .
(6) قوله : ((منه)) سقط من (ز).
(7) ....
(8) في (ز): ((هديته)).
(9) في (ز): ((يشتَهي)).
(10) ((المنخل)) بضم الميم والخاء، وهو من النوادر التي جاءت بالضم من ((مفعل)) والقياس الكثير؛ لأنه اسم آلة.
(11) في (ب): ((يحمل)).
(12) في (ز): ((الجازر)).
(13) في (ب): ((الجهة))، وفي (ز): ((الحرمة)).
(14) في (ز): ((الجزار)).
(15) في (ي): ((التي)).(3/416)
وفيه دليلٌ على تجليلِ البدنِ؛ وهو مما مضى عليه عملُ السلفِ، ورآه أئمةُ العلماءِ: مالكٌ، والشافعيُّ، وغيرُهما،، وذلك بعدَ إشعارِ الهديِ؛ لئلا يتلطَّخ الجلالُ.
وهي على قدرِ سَعةِ المهُدِي؛ لأنها تطوعٌ غيرُ لازمٍ، ولا محدودٍ؛ قال ابنُ حبيبٍ: منهم من كان يُجلِّلُ الوَشْيَ (1) ، ومنهم من كان (2) يُجلِّلُ الحِبَرَ (3) ، والقَبَاطِيَّ (4) ، والملاحفَ، والأُزُرَ. وتجليلُها ترفيهٌ لها وصيانةٌ، وتعظيمٌ لحرماتِ الله، ومباهاةٌ على الأعداءِ من المخالفين والمنافقين.
قال (5) مالكٌ: وتشقُّ (6) على الأسنمةِ إن كانت قليلةَ الثمنِ لئلا تسقطَ (7) ، وما علمتُ مَنْ ترك ذلك إلا ابنَ عمرَ – رضي الله عنهما - استبقاءً للثيابِ (8) ؛ لأنه كان يُجلِّلُ الجلالَ المرتفعةَ (9) من الأنماطِ (10) ، والبُرودِ، والحِبَر (11) . قال مالكٌ: أما الجلالُ (12) فتنزعُ لئلَّا يخرقَها الشوكُ. قال: وأحبُّ (13) إليَّ إن كانتَ الجلالُ مرتفعةً (14) أن يتركَ (15) شقُّها، ولا يجللها حتى تغدوَ من عرفاتٍ (16) ، ولو كانت بالثمنِ اليسيرِ فتشقُّ (17) من حيثُ يُحْرمُ (18) . وهذا في الإبلِ والبقرِ دونَ الغنمِ.
وقولُ جابرٍ – رضي الله عنه -: ((اشتركنْا مع رسولِ الله (19) - صلى الله عليه وسلم - في الحجِّ والعمرةِ، كلُّ سبعةٍ في بدنةٍ)): ((مع)) هذه متعلقةٌ بمحذوفٍ، تقديرُه: كائنين معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يصحُّ أن يكونَ متعلقًا به بـ((اشتركنا)؛ لأنه كان يلزمُ منه أن يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - واحدًا من سبعةٍ =(3/417)=@
__________
(1) الوَشْيُ: نوع من الثياب المنقوشة؛ تسمية لها بالمصدر، من وَشَى الثوب يَشِيه: رقمه ونقشه، فهو مَوْشِيٌّ. ينظر: "المصباح" (ص341).
(2) سقط من (ي).
(3) في (ز): ((الخز)) الحِبَرُ: جمع ((حِبَرَة)) وهي ثوب يماني من قطن أو كتاب مخطط. "المصباح المنير" (ص65).
(4) القَبَاطِيّ: جمع ((قُبْطِيّ)) وهو ثوب من الكتان الرقيق يعمل بمصر، نسبة إلى ((القبط)) على غير قياس؛ فرقا بينه وبين الإنسان. "المصباح" (ص252)، و"مشارق الأنوار" (2/170).
(5) في (أ): ((وقال)).
(6) في (ب): ((ويشق)).
(7) في (ب): ((يسقط)). وذكر القاضي في "الإكمال" (4/398) فائدة أخرى لشق الجلال على الأسنمة؛ وهي أن يظهر الإشعار ولا يستتر من تحتها. ونقلها عنه النووي في "شرح مسلم" (9/66).
(8) أخرجه ابن أبي شيبة (3/210 رقم13589) في الحج ، باب في البدنة إذا أراد أن ينحرها ينزع الجلال عنها أم لا؟ عن أبي خالد، عن عبدالله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان لا ينحرها وعليها جلالها . وسنده حسن . أبو خالد: هو سليمان بن حيان. عبدالله: هو ابن عون .
ورواه البيهقي (5/233) من طريق مالك ، عن نافع : أن عبدالله بن عمر كان لا يشق جلال بدنه ، وكان لا يجللها حتى يغدو بها من منى إلى عرفة ، ثم قال : زاد فيه غيره : إلا موضع السنام ، فإذا نحرها نزع جلالها مخافة أن يفسدها الدم ، ثم يتصدق بها . وهو في "الموطأ" (1/380 رقم147) في الحج ، باب العمل في الهدى حين يساق، بدون الزيادة.
(9) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/379 رقم146) في الحج ، باب العمل في الهدى حين يساق ، عن نافع : أن عبدالله بن عمر كان يجلل بدنه القباطي والأنماط والحلل ، ثم يبعث بها إلى الكعبة ، فيكسوها إياها .
(10) الأَنْمَاط: ضرب من البسط له خمل رقيق، واحدها ((نَمَط))؛ مثل سبب وأسباب. "الإكمال" (5/118)، و"اللسان" (7/418).
(11) في (ز) كأنها: ((الجبو)).
(12) في (ز): ((الجلل)) وفي (ي): ((الحلل)).
(13) في (ي): ((فأحب)).
(14) في (ب): ((مرتفة))، وفي (ز): ((المرتفعة)).
(15) في (ب): ((تترك)).
(16) قوله: ((حتى تغدو من عرفات)) كذا في النسخ، وفي "الإكمال" (4/398): ((حتى تغدو إلى عرفة)) وهو الصواب وانظر ما مضى من تخريج ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ فإنه كان ((لا يجللها حتى يغدو بها من منى إلى عرفة)).
(17) في (ز): ((فيشق)) غير منقوطة الشين.
(18) في (ب): ((يخرج)).
(19) قوله: ((رسولا لله)) في (ب): ((النبي)).(3/417)
يشتركون في بَدَنَةٍ، وأنهم شاركُوه في هديه. والنقلُ الصحيحُ بخلافِ ذلك؛ كما تقدم في حديثِ جابرٍ (1) وغيرِه، وإنما أمرهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يجتمعَ السبعةَ في الهديةِ (2) من بُدْنِهم. وأحاديثُ جابرٍ مُصرِّحةٌ بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بذلك في الحديبيةِ، وفي حجةِ الوداعِ (3) .
وبهذه (4) الأحاديثِ تمسَّكَ الجمهورُ من السلفِ وغيرهم على جوازِ الاشتراكِ في الهديِ، وممن قال بهذا ابنُ عمرَ (5) ، وأنسٌ (6) ، وعطاءُ بنُ أبي رباحٍ، والحسنُ البصريُّ، وطاووسٌ، وسالمٌ، وعمرُو بنُ دينارٍ، والثوريُّ، والأوزاعيُّ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ، وأصحابُ الرأيِ، حكاه ابنُ المنذرِ؛ قال: وقد روينا عنِ ابنِ عباسٍ (7) أنه قال: ((البدنةُ عن سبعةٍ، وإن تمتعوا)). وبه قال عطاءٌ، وطاوسٌ، وعمرُو بن دينارٍ، والثوريُّ، والشافعيُّ. قال: وقد روينا عن سعيدٍ بنِ المسيِّبِ أنه قال: ((تجزئُ)) (8) الجزَورُ عن عَشَرةٍ، وبه قال إسحاقُ.
قلتُ (9) : وظاهرُ ما حكاه ابنُ المنذرِ: أنهم اشتركوا في الثمنِ، وأنهم سوَّوا في ذلك بين الهديِ الواجبِ والتطوُّعِ، من غيرِ تقييدٍ، ولا تفصيلٍ،، وقد فصَّل غيرُه الخلافَ فقال: إن الشافعيَّ يجيزُه في الواجبِ، وإن كان بعضُهم يريدُ اللحمَ، وبعضُهم يريدُ القُرْبةَ (10) . وأبو حنيفةَ يجيزُه (11) إذا أراد جميُعهم الفديةَ (12) ؛ حكاه الإمامُ أبو عبدِالله (13) ، وقال: عندنا في التطوُّعِ قولانِ.
قال ابن المنذر: وقال مالكٌ: لا يُشْتَركُ في شيءٍ من الهديِ، ولا (14) البدنِ، ولا النسكِ في الفديةِ ولا في شيءٍ مما ذكرناه (15) .
قلت (16) : وكأن هذا الذي صار إليه مالكٌ مستندُه قولُ الله تعالى: {فما استيسر من الهدي} (17) ، وأقلُّ ما يُطلَقُ عليه اسم ((الهدي)): شاةٌ، ولم يقلْ فيه أحدٌ إنه جزءٌ مُسمًّى من اللحمِ،، وقولُه تعالى (18) : {ففدية من صيام أو صدقة أونسك} (19) =(3/418)=@
__________
(1) في باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) في (ب): ((البدنة)). والهَدْيَةُ: واحدة الهدْي، والهَدِيَّةُ: واحدة الهَدِيِّ، وهما بمعنى ((البدنة)). أهل الحجاز يخففون وتميم تثقله؛ قاله ثعلب في "مجالسه" (2/578)، وانظر: "اللسان" (15/358- 359).
(3) مسلم (2/955 رقم1318) في الحج ، باب الاشتراك في الهدي ، وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة .
(4) في (أ): ((وفي هذه)).
(5) أخرجه أحمد (5/409) من طريق عبدالواحد بن زياد ، ثنا مجالد بن سعيد ، حدثني [تراجع] الشعبي قال: سألت ابن عمر قلت: الجزور والبقرة تجزئ عن سبعة؟ قال: يا شعبى! ولها سبعة أنفس؟! قال: قلت: إن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن الجزور والبقرة عن سبعة، فقال ابن عمر لرجل: أكذاك يا فلان ؟ قال : نعم. قال: ما شعرت بهذا.
قال الهيثمي (3/226): ((رجاله رجال الصحيح)). قلت: ((مجالد بن سعيد فيه كلام)).
(6) علّقه ابن حزم في "المحلى" (7/151).
(7) ...
(8) في (ب): ((يجزئ)).
(9) في (ب) و(ز): ((قال الشيخ رحمه الله)).
(10) كذا في (أ) وفي سائر النسخ، وفي "الإكمال" (4/400): ((الفدية)). وكذلك عبر النووي في "شرح مسلم" (9/67).
(11) في (ز): ((وابن حبيب خيره)).
(12) ؟؟؟.
(13) في "المعلم" (2/67).
(14) زاد في (ز) و(ي): ((من)).
(15) قول مالك في "المدونة" (2/468).
(16) في (ب) و(ز): ((قال الشيخ رحمه الله)).
(17) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(18) في (ب): ((وقد قال تعالى)).
(19) سورة البقرة؛ الآية: 196.(3/418)
وقد فسَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - النسكَ بشاةٍ (1) في حديثِ كعبِ بنِ عجرةَ (2) ، فكان (3) ذلك أقلَّ ما ينطلقُ عليه الاسمُ، فكان هو المعتبرَ (4) ، ولأنهم قد اتفقوا على أنه لا يجوزُ في الهدايا: المريضُ البيِّنُ المرضِ، ولا المعيبُ (5) بنقصِ عضوٍ، وإذا كان كذلك (6) مع صدقِ الاسمِ عليه، فأَحرى وأَوْلى ألا يجوزَ جزءٌ من اللحمِ (7) .
واعتذر عن حديثِ جابرٍ: بأن ذلك كانَ في التطوُّعِ، وهو مستندُ أحدِ القولينِ المتقدمين (8) ، وليسَ بالمشهور عن مالكٍ،، وبأن (9) تلك الأحاديثَ ليس فيها تصريحٌ بالاشتراكِ في الثمنِ، فلعلَّه قصدَ التشريكَ في الثوابِ، أو التشريكَ في قسمةِ الجزورِ، حتى تقسمَ (10) البدنُة أو الجزورُ سبع (11) قِسَمٍ بين سبعةِ نَفَرٍ (12) . والله تعالى أعلم.
وقد أشار إلى هذا جابرٌ فقال: ((أمرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أحللنا أن نُهديَ، ويجتمعَ النفرُ منا في الهديةِ)) فإنه مشعرٌ بأن التشريكَ إنما وقع بعدَ انفرادِ المُهْدِي بالهديِ، فتأملْهُ.
وهذا الخلافُ إنما هو في الإبلِ والبقرِ. وأما الغنمُ: فلا يجوزُ الاشتراكُ فيها اتفاقًا.
وقد قدمنا أن اسم ((البدنِة)) مأخوذٌ من البدانةِ؛ وهي عِظَمُ الجسمِ، وأن ((الجزورَ)) من الجَزْرِ؛ وهو: القَطْعُ، وأن الجزورَ من الإبلِ، والجزرة من الغنمِ (13) .
وقد فرق في حديثِ جابرٍ بين البدنِ والجزورِ؛ لأنه أراد بالبدنِة: ما ابتُدِئ هديهُ عندَ الإحرامِ، وبالجزور: ما اشتُري بعدَ ذلك للنحرِ، فكأنه ظهر للسائلِ: أن شأنَ هذه أخفُّ في أمرِ الاشتراكِ مما (14) أُهدي من البدن؛ فأجابه (15) بما (16) معناه: أن الجزورَ لما اشتُريتْ للنسكِ صار حكمُها حكمَ (17) البدنِ.
قلتُ (18) : وقد سمعتُ من بعضِ مشايخنِا: أن البدنةَ في هذا الحديثِ من الإبلِ، =(3/419)=@
__________
(1) في (أ): ((بالشاة)).
(2) تقدم في باب الفدية للمحرم .
(3) في (أ): ((وكان)).
(4) المثبت من (أ)، وفي سائر النسخ: ((المتعين)).
(5) ؟؟؟.
(6) في (ب): ((ذلك)).
(7) هذا التحرير لمستند مالكٍ، المازري قبله في "المعلم" (2/67) وها هي عبارته: واحتج أصحابنا بأن الواجب على مقتضى ظاهر القرآن: هديٌ كامل؛ لقوله تعالى: {فما استيسر من الهدي}، والجماعة إذا اشتركوا لم يتقرب كل واحد منهم إلا ببعض هدي؛ ولأن المعيب من الهدايا لا يجزئ لنصه مع كون مهديه أراق دمًا كاملاً، فالمريق بعض الدم أحرى ألا يجزئه)).اهـ.
(8) يعني القول بجواز الاشتراك في هدي التطوع. والقول الثاني بعدمِه، وقد نقلها الشارح قريبًا عن المازري مصرحًا بالنقل!.
(9) في (ز): ((وقال)). بدل (( وبأن)).
(10) في (ب): ((يقسم)).
(11) في (ز): ((بسبع)).
(12) وعبارة المازري في "الإكمال" (2/67): ((وأصحابنا يحملون قوله: ((فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر)) على أنه هدي تُطوِّع به ولم يكن هديا واجباً. ومن منع من أصحابنا الاشتراك في هدي التطوع، يحمله على أن الثمن من عند رجل واحد، وإنما قصد أن يشركهم في أجره)).اهـ. وانظر: "التمهيد" (12/157).
(13) الجزور ما ينحر ويذبح من الإبل خاصة، وتجمع على ((جزائر)) و((جُزُر)) ويجمع ((جُزُر)) على ((جُزُرات)). والجزور تقع على الذكر والأنثى، لكن لفظها مؤنث فتقول: ((هذه جزور)) ولو أردت ذكرًا. و((الجزرة)) تقع على غبر الإبل من الأنعام، وقيل: تختص بالضأن والمعز. "مشارق الأنوار" (1/147)، و"النهاية" (1/266)، "اللسان" (4/134).
(14) في (ب): ((فيما)).
(15) في (ي): ((أجابه)).
(16) بعدها في (أ): ((في)).
(17) قوله : ((حكم)) سقط من (ز).
(18) في (ب) و(ز): ((قال الشيخ رحمه الله)).(3/419)
والجزورَ فيه من البقرِ،، وكأن (1) السائلَ سأله عن البقرةِ (2) ؛ هل يشتركُ فيها سبعةٌ؛ كما يشتركُ في البدنةِ؟ فقال: هي منها في حكمِ (3) المسؤولِ عنه. وكأن هذا السائلَ لم يسمعْ في هذا (4) ذكرَ البقرِ، فسأل عنها. والله تعالى أعلم.
وقوله: ((ذبح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشةَ بقرةً)) هذا لأنها أردفت، كما قدَّمنا. والله أعلم. ويحتملُ أن يكونَ تطوَّع بها (5) عنها.
وقولُه في الروايةِ الأخرى: ((نحر عن أزواجِه بقرةً)) أي: بقرةً بقرةً، عن كلِّ واحدةٍ؛ بدليلِ الروايةِ المتقدمةِ عن عائشةَ.
وقولُه في الروايتين: ((نحر)) و((ذبح)) دليلٌ على جوازِ كلِّ واحدٍ (6) منهما في البقرِ، وسيأتي.
وقولُه: ((ابعثْها قائمةً مقيدةً، سنةَ نبيِّكم)) أخذ به كافةُ العلماءِ في استحبابِ ذلك، وبه فُسِّر قولُه تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} (7) ، إلا أبا حنيفةَ، والثوريَّ؛ فإنهما أجازا أن ينحرَها باركةً وقيامًا،، وشذ عطاءٌ، فخالف؛ واستحبَّ نحرها باركةً معقولةً، والحديثُ حجةٌ عليهم (8) . والله أعلمُ (9) . =(3/420)=@
__________
(1) في (ب) و(ز): ((فكأن)).
(2) في (ز): ((البقر)).
(3) في (ب) و(ز) و(ي): ((الحكم)).
(4) قوله: ((في هذا)) في (ز): ((فيها)).
(5) في (ز): ((نهى)). وكُتب فوقها: ((لعله بها)).
(6) سقط من (ب) و(ز).
(7) سورة الحج؛ الآية: 36.
(8) في (أ): ((عليه)).
(9) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/420)
ومن بابِ مَنْ بعث بهديٍ لا يجتنبُ شيئًا مما يجتنبُه المحرمُ
قولُه: ((عن عمْرةَ بنتِ عبدِ الرحمنِ أن زيادًا كتب إلى عائشة، رضي الله عنها))؛ كذا هو الصوابُ؛ وهو زيادُ بنُ أبي سفيان، وكذا هو في جميعِ "الموطآتِ"، وفي "البخاريِّ". وروايةُ من رواه: ((أن ابن زياد)) خطأ (1) . وما حكاه زيادٌ عنِ ابنِ عباسٍ هو مذهبهُ ومذهبُ ابنِ عمرَ (2) ، وعطاءٍ، ومجاهدٍ، وسعيدِ بنِ جبيرٍ، وحكاه (3) الخطابيُّ عن أصحابِ الرأيِ (4) . وما أسندتْه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي عمل به جمهور العلماءِ، ما خلا مَنْ ذُكِرَ.
و((القلائدُ)): جمع قلادةٍ، وهو ما يُجعلُ في العنقِ (5) من خيطٍ أو سيرٍ.
و((العِهْن)): الصوفُ المصبوغُ ألوانًا؛ قاله الخليلُ،، وقال غيرُه: كلُّ صوفٍ عِهْنٌ (6) .
وقولُها: ((أنا فتلتُ قلائدَ هديِ رسولِ الله (7) - صلى الله عليه وسلم - ثم قلَّدها)) يدلُّ (8) على =(3/421)=@
__________
(1) ذكر الشارح الرواية في حديث الباب في "التلخيص" وهنا على الصواب قال المازري في "المعلم" عن قولها: ((أن ابن زياد)): كذا روي في كتاب مسلم من جميع الطرق، والمحفوظ فيه: ((أن زياد بن أبي سفيان)) وكذا في جميع الموطآت: ((أن زيادًا كتب)).اهـ. قال القاضي في "الإكمال" (4/409): وكذا خرجه البخاري على الصواب.اهـ. وقال النووي في "شرح مسلم" (9/72- 73): هكذا وقع في جميع نسخ "صحيح مسلم" ((أن ابن زياد)) قال أبو علي الغساني والمازري والقاضي وجميع المتكلمين على "صحيح مسلم": هذا غلط، وصوابه ((أن زياد بن أبي سفيان)) وهو المعروف بزياد بن أبيه، وهكذا وقع على الصواب في "صحيح البخاري" و"الموطأ" و"سنن أبي داود"، وغيرها من الكتب المعتمدة، ولأن ابن زياد لم يدرك عائشة والله أعلم.اهـ. وينظر: "الفتح" (3/545).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3/126 رقم12718) في الحج ، باب من كان يمسك عما يمسك عنه المحرم ، عن ابن علية ، عن أيوب ، عن نافع : أن ابن عمر كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم ، غير أن لا يلبي .
(3) في (ز): ((حكاه)).
(4) في "معالم السنن" (3/293). وقد نقله الشارح عن القاضي عياض في "الإكمال" (4/408) عن الخطابي، وقد ذكر هذا المذهب أيضًا الخطابي عن ابن عمر وعطاء.
(5) في (ز): ((العتق)).
(6) القولان ذكرهما الخليل في "العين" (1/108) وعبارته: ((... ويقال: كل صوف عهن)).
(7) قوله: ((رسول الله)) في (ي): ((النبي))، وبعدها في "الصحيح" والتلخيص: ((بيدي)).
(8) في (أ): ((تدل)) بالتاء والياء معًا .(3/421)
تجويدِها (1) لتلك الروايةِ، وأنها اعتنت ْبالقصةِ وحققتْها،، وفيه ما يدلُّ على أن من بَعث بهديِه قلَّده وأشعره من موضعه بخلاف من حَمَله معه، فإنه يُقلِّده من موضعِ إحرامهِ.
وقولُها: ((ثم (2) بعث بها مع أبي))؛ كان هذا - والله أعلمُ- حين بعثه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الحجِّ أميرًا (3) ، ثم أردفه بعليٍّ (4) – رضي الله عنهما - لينبذ للناسِ عهدَهم، كما تقدم. وقد مضى الكلامُ في الإشعارِ والتقليدِ (5) .
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - لسائقِ البدنةِ: ((اركبْها)) فَادِحٍ أَخذُ بظاهرِه أحمد،ُ وإسحاقُ، وأهلُ الظاهرِ. وروى ابنُ نافعٍ عن مالكٍ: لا بأس بركوبِ الرجلِ بدنتَه ركوبًا غيرَ فَادِحٍ (6) . وأوجب ركوبَها بعضُهم؛ لهذا الأمرِ (7) . وذهب مالكٌ في المشهورِ عنه (8) إلى (9) أنه لا يركبهُا إلا إن اضطرَّ إليها، محتجًّا بقولِه - صلى الله عليه وسلم - : ((اركبْها إذا أُلجئت إليها بالمعروفِ (10) )) وهذا المقيَّدُ يقضي (11) على ذلك المطلقِ، على ما يُعرفُ (12) في الأصولِ. وبنحو ذلك (13) قال الشافعيُّ، وأبو حنيفة.
ثم إذا ركبها عند الحاجةِ فاستراح، نزل. قال إسماعيلُ القاضي: وهو الذي يدل عليه مذهبُ مالكٍ، وهو خلافُ ما ذكره ابنُ القاسمِ؛ أنه لا يلزمهُ النزولُ؛ وحجتُه إباحةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له الركوبَ، فجاز له استصحابُهُ. وقال أبو حنيفة، والشافعيُّ: إن نقَصَها الركوبُ المباحُ فعليه قيمةُ ذلك، ويتصدَّقُ به. =(3/422)=@
__________
(1) في (ب): ((تجويذها)).
(2) سقط من (أ).
(3) سيأتي في باب فضل يوم عرفة ، ويوم الحج الأكبر .
(4) البخاري (1/477-478 رقم369) في الصلاة ، باب، ما يستر من العورة ، و(8/317 و317-318 رقم4655 و4656) في التفسير ، باب :{فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ...}، وباب: {وأذان من الله ورسول ...}.
(5) في باب تقليد الهدي إشعاره عند الإحرام.
(6) في (أ) "الإكمال" (4/410،418): ((قادح))، وهي غير منقوطة في (ي). والمثبت من سائر النسخ. والمراد ((غير مثقلٍ)) من ((فَدَحَهُ الدينُ، كـ((منع)): أثقله. وعبارة مالك في "الموطأ" (؟؟؟/؟؟؟) عن هشام بن عروة أن أباه قال: إذا اضطررت إلى بدنتك فاركبها ركوبًا غير فادح...))إلخ. قال الزرقاني في "شرح الموطأ" (2/433) ((... غير فادح)) بالفاء والدال والحاء المهملتين؛ أي: ثقيل صعب عليها)).اهـ.
(7) عبارة "الإكمال" (4/410): ((لمطلق الأمر)).
(8) قوله : ((عنه)) سقط من (ب) و(ز) و(ي).
(9) قوله : ((إلى)) سقط من (أ).
(10) إلى هنا انتهى السقط من نسخة (ح).
(11) ؟؟؟.
(12) قوله: ((على ما يعرف)) في (ي): ((كما يعلم)).
(13) وله: ((وبنحو ذلك)) في (ز): ((وبذلك)).(3/422)
وقولُه: ((اركبْها ويلك!)) تأديبٌ له لأجلِ مراجعتِه (1) ، وقولِ الرجلِ (2) : ((إنها بدنةٌ))، وقد كان حالُها غيرَ خافٍ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنها كانتَ (3) مقلَّدةً. ويحتملُ أن يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فهم عن الرجل أنه لا يرى ركوبَها بحالٍ؛ على عادةِ الجاهليةِ في البحيرةِ والسائبةِ والوصيلةِ، فزجره عن ذلك (4) . وقيل: إنما قال له ذلك؛ لأن هذا الرجلَ قد كان تجهد من المشي، ووصل إلى حدِّ الهلكةِ.
و((الويلُ)): الهلكةُ (5) . فقولُه: ((ويلك))؛ أي: أشرفتَ على الهلاكِ؛ لما رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليه (6) من الشدَّةِ. وقيل: إن هذه الكلمةَ مما تَدْعَمُ بها (7) العربُ كلامَها؛ كقولهم: ((لا أمَّ له)) و((لا أب)) (8) ، و((تربت يمينك)). ومن ذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ((وَيْلُ أمِّهِ، مِسعَرُ حُرب)) (9) . وقد تقدم هذا النحوُ في الطهارةِ (10) .
وقولُه: ((ارك]بها بالمعروف))؛ يعني: بالرفقِ في الركوبِ، والسيرِ على الوجِه المعروف، من (11) غير عُنْفٍ، ولا إفحاشٍ.
وقولُه: ((إذا أُلجئت إليها، حتى تجد ظهرًا))؛ يبدلُّ على صحةِ ما قاله =(3/433)=@
__________
(1) ذكره القاضي عياض في "الإكمال" (4/411)، وقال: وعلى رواية قديم ((ويلك)) لا تنفق هذا.اهـ. ثم ذكر ما سيذكره الشارح من أنها كلمة تقال لمن وقع في هلكة، أو أنها كلمة تستعمل ولا يراد معناها. وذكر أيضًا قولاً آخر فياه؛ قال: وقد قيل: إن ((ويلك)) هنا، قد تكون إغرارً بما أمره به من ركوبها إذ رآه قد تحرج منه.
(2) قول الشارح: ((تأديب له لأجل مراجعته وقول الرجل)) موهم؛ فإن الضمير قبل في ((له)) عائد على ((لرجل)) والكلامُ عنه، وقولُه هذا الذي سيذكره الشارح تفسير لمراجعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلو عبر بـ(قولِهِ)) لكان أولى.والله أعلم
(3) قوله : ((كانت)) سقط من (ح) و(ح).
(4) هذا الكلام ذكره القاضي تعليلاً لقول من أوجب ركوب البدن قال: ((واجب ركوبها بعضهم لمطلق الأمر، وقد علل عضهم جواز ذلك لمخالفة ام كانت عليه الجاهلية في البحيرة والوصيلة والسائبة والحامي، من الحرج من الانتفاع بها)) ثم قال: ((والعلة التي في الحديث (أي قوله: ((إذا ألجئت إليها)) تقضي عليهم لجمهور العلماء.
(5) في (ح) و(ي): ((الهلك)).
(6) قوله : ((عليه)) سقط من (أ) و(ح) و(ي).
قوله: ((رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه من الشدة)) في (أ) و(ي): ((رأى - صلى الله عليه وسلم - من الشدة))، وفي (ب) و(ز): ((رأى عليه))، وفي (ح): ((رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشدة)).والمثبت ملفق من النسخ!.
(7) قوله: ((تدعم بها)) في (ز): ((تدغم فيها))، وعبارة "الإكمال" (4/411): ((وهي من الكلمات التي تدعم بها العرب كلامها)).
(8) قوله: ((لا أم ولا أب)) في (أ) و(ي).
((لا أم لك ولا أب)) وفي "الإكمال" (4/411): ((لا أم له ولا أب له)).
(9) البخاري (5/329-333 رقم2731 و2732 و2733) في الشروط ، باب الشرط في الجهاد ، والمصالحة مع أهل الحرب ، وكتابة الشروط .
(10) في باب: وجوب الغسل على المرأة إذا رأت في المنام مثل ما يرى الرجل. وتقدم نحوه أيضًا عند قوله - صلى الله عليه وسلم - لصفية: ((عقرى حلقي)) في باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة.
(11) في (ح): ((في)).(3/423)
الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وما حكاه إسماعيلُ عن مذهبِ مالكٍ، وقد روُي في غيرِ كتاب مسلم (1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوقُ بدنةً وقد جَهِدَ، فقال: ((اركبها)). والله أعلم (2) .
ومن بابِ ما عَطِبَ من (3) هديِ (4) التطوعِ قبلَ محلِّهِ
قولُه: ((كيف أصنعُ بما أُبْدِع عليَّ منها))؛ أي: بما كَلَّ منها وعَيِيَ (5) ، فوقف (6) . وقد يقال: على ما عطب منها. قال الهروي: يقال للرجل إذا كلَّت ركابه، أو عَطِبَتْ وبقي منقَطَعًا به: أُبْدِعَ به)) (7) . وهو مبنيٌّ لما لم يسمَّ فاعلُه. وفي "الأم" (8) قال: ((وَانْطَلَقَ سِنَانٌ مَعَهُ بِبَدَنَةٍ يَسُوقُهَا فَأَزَحَفَتْ (9) عَلَيْهِ، فَعِيِيَ بِشَأْنِهَا إِنْ هِيَ أُبْدِعَتْ)). الرواية: ((أَزْحَفَتْ)) رباعيًّا، مفتوحَ الحاءِ؛ قال الخطابيُّ: ((كذا يقولُه المحدِّثون، =(3/424)=@
__________
(1) أخرجه أحمد (3/106-107)، والنسائي (5/176 رقم2801) في مناسك الحج ، باب ركوب البدنة لمن جهده المشي ، والطحاوي (2/161).
ثلاثتهم من طريق حميد ، عن ثابت ، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة وقد جهده المشي ؛ قال: (( اركبها))، قال : إنها بدنة، قال: (( اركبها وإن كانت بدنة)).
وأخرجه الطحاوي (2/161) من طريق حميد ، عن أنس ، بنحوه .
(2) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).
(3) سقط من (ز).
(4) في (ي): ((الهدي)).
(5) قوله: ((بما كل منها وعيي))، في (ز): ((بما كان قد عيي)).
(6) في (ح): ((توقف)).
(7) في "غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (1/126) نقلاً عن أبي عبيدة، والعبارة، بلفظها في "الغريبين" لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي (1/155).
(8) مسلم (2/692 رقم1325) في الحج ، باب ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق .
(9) في (أ) و(ز): ((فأرجفت)).(3/424)
والأجودُ: ((فأُزحْفِت (1) )) بضمِّ الألفِ؛ يقالُ: زَحَفَ البعيرُ: إذا قام (2) من الإعياء، وأزحفه السيرُ (3) . وقال أبو عبيدٍ الهرويُّ: ((أزحف البعيرُ، وأزحفه (4) السيَرُ (5) . و((إن هي)) تُروى (6) بكسرِ الهمزةِ (7) على الشرطِ، وبفتحِها (8) وعليهما على أنها معمولةٌ (9) لحرفِ (10) جرٍّ (11) حُذِفَ، فتعدَّى (12) الفعلُ إليها (13) الذي هو: ((عيَّ)) (14) ، أو ((عَيِيَ)) (15) - مشدَّدًا ومُفكَّكًا (16) ، وهما لغتانِ معروفتان، وعليهما (17) قرئ: {مَنْ حَيَّ عن بينة} (18) بالوجهين (19) .
وفي "الأم" (20) : ((لَأَسْتَحْفِيَنَّ عَنْ ذَلِكَ))؛ أي: لَأُكْثِرَنَّ السؤالَ عنه (21) ؛ يقالُ: أحفى في المسألةِ، وألَحَّ، وألحفَ:إذا بالغَ فيها؛ ومنه قولُه تعالى: {كأنَك حفيٌّ عنها} (22) ؛ أي: كأنه كثر (23) سؤاله عنها (24) حتى أخبر عنها، ومنه قول الأعشى (25) :
فَإنْ تَسْأَلِي عَنَّا (26) فَيَا رُبَّ سائلٍ ... حَفِيٍّ عَنِ الأَعْشَى به حَيْثُ أَصْعَدا (27)
وقوله: ((ثم اصبُغ نَعْلَيْهَا (28) في دمِها، ثم اجعلْها (29) على صفحتِها))؛ يعني: النَّعلَ التي (30) قلَّدَها بِهَا (31) يجعلْه (32) على صفحةِ عنقِها، وإنما أمره بذلكَ ليكونَ (33) ذلك علامةً على أنه هديٌ، فيمتنعُ منه كلَّ من لا يحلُّ له أكلُه على ما يأتي.
وقولُه: ((ولا تأكل منها (34) أنت ولا أحدٌ من رفقتِك))؛ يعني برفقته: الموافقين له في سَوْقِ الهديِ ومن يتعلَّقُ به (35) .إنما منعه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ورُفَاقتَه (36) من أكلِها سدًّا للذريعةِ؛ لأنه لو لم يمنعْهم من ذلك لأمكن أن يبادروا إلى نحرِها، أو يتسبَّبوا إلى ذلك ليأكلُوها، فلما منعهم من المحذورِ المتوقَّعِ انسدَّ ذلك البابُ. وهذا (37) - وأشباهُه من المواضعِ الواقعةِ في الشريعةِ حَمَلَ مالكًا على القولِ بسدِّ الذرائعِ (38) ، وهو أصلٌ عظيمٌ لم يظفرْ به إلا مالكٌ بدقةِ نظرِه، وجودةِ قريحتِه.
وبظاهرِ هذا النهيِ قال =(3/425)=@
__________
(1) في (ب): ((أزحفت))، وفي (ز): ((فأرجفت)).
(2) في (ب): ((أي أقام)).
(3) في (ح): ((المسير)). وفي "غريب الحديث" للخطابي (2/40): ((وأصل الزحف: أن يجر البعير فرسنه من الإعياء. قال: يقال: زحف البعير وهو زَاحِفٌ، وأَزْحفه السير فهو مُزْحفٌ. ونحو هذه العبارة في "معالم السنن" (3/395)، وما نقله الشارح عن نقله عنه القاضي في "الإكمال" (4/413). [يراجع]
(4) في (ز): ((وأرجفه)).
(5) في الغريبين (3/816) وعبارته: ((أزحفت؛ أي: قامت من الإعياء يقال: أزحف البعيرُ، وأزحفه السير)).
(6) في (ز): ((يروى)).
(7) في (ي): ((الهمزة)).
(8) في (ب) و(غز): ((ويفتحها)).
(9) في (ب): ((معمول)).
(10) في (ب) و(ح): ((بحرف)).
(11) في (ب): ((يجر))، وفي (ح): ((واحد)).
(12) في (ب): ((فيعدى)).
(13) سقط من (ب).
(14) في (ح): ((رعي)).
(15) في (أ): ((وأعيي)).
(16) في (ح): ((أو مفكا)).
(17) في (أ) و(ح) و(ي): ((وعليه)).
(18) سورة الأنفال؛ الآية: 42.
قرأ ((حيَّ)) بياء واحدة مشددة: حفص عن عاصم، وقنبل عن ابن كثير، وأبو عمر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وقرأ:{حَيِيَ} بفك الإدغام: شعبة عن عاصم، والبزي عن ابن كثير، ونافع، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف العاشر. السبعة لابن مجاهد (ص306- 307)، "غاية الاختصار" (2/504)، و"النشر" (2/207- 208)، و"الدر المصون" (5/613- 614).
(19) قوله: ((بالوجهين)) في (ز): ((في الوجهين)).
(20) "صحيح مسلم" (2/962 رقم1325) في الموضع السابق.
(21) سقط من (ي).
(22) سورة الأعراف؛ الآية: 187.
(23) في (ز): ((كثير)).
(24) قوله : ((عنها)) من (ح) فقط .
(25) ...
(26) في (أ) و(ي): ((عنها)).
(27) في (ي): ((أصغرا)).
والبيت من بحر الطويل، وهو للأعشى ميمون بن قيس من قصيدة يمدح بها النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلعها:
أَلَمْ تَغتَمِضْ عَيناكَ لَيلَة َ أرْمَدَا ... وَعَادَكَ مَا عَادَ السَّليْمُ الْمُسَهَّدَا
وَمَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النِّسَاءِ ... وَإِنّمَا تَناسَيْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ خُلَّةَ مَهْدَدَا
ومنها:
وَمَازِلْتُ أَبْغِي الْمَالَ مُدْ أَنَا يَافِعٌ ... وَلِيدًا وَكَهْلاً حِينَ شِبْتُ وَأَمْرَدَا
وَأبْتَذِلُ الْعِيسَ الْمَرَاقَيلَ تَقْتَلِي ... مَسَافةَ َ مَا بَيْنَ الْنُجَيْرِ فَصَرْخَدَا
(فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سَائِلٍ ... حَفِيٍّ عَنِ الْأَعشى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا
أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ ... فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْربَ مَوْعِدَا
ثم خاطب ناقته قائلاً:
مَتَى مَا تُنَاخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ ... وَلِيدًا وَكَهْلاً حِينَ شِبْتُ وَأَمْرَدَا
نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ ... أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا
لَهُ صَدَقَاتٌ مَا تُغِبُّ وَنَائِلٌ ... وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمَ يَمْنَعُهُ غَدَا
أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ ... نَبِيِّ الْإِلَهِ حِينَ أَوْصَى وَأَشْهَدَا
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... وَلَا قَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدا
نَدِمْتَ عَلَى أَلَّا تَكُونَ كَمِثِلهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ لَمَا كَانَ أَرْصَدَا
....إلخ.
ومعنى بيت الشاهد: إن تسألي عني فما أكثر من يسأل عني ملحًّا في سؤاله، مظهرًا العناية بي والاهتمام حين أمضي وأسير وأجوب البلاد.
والشاهد قوله: ((حفي)) بمعنى المكثر في السؤال المحلّ فيه. وحفي بكذا؛ معنىٌّ به ومهتم.
والبيت له في "ديوانه" (ص134)، "مقاييس اللغة" (2/83)، (3/288)، و"المجمل" (2/243)، و"الصحاح" (6/2316)، و"اللسان" (3/253) (صعد)، (14/188) (حفو)، و"تاج العروس" (5/58) (صعد)، (19/331) (حفو)، و"تفسير القرطبي" (7/294)، "البداية والنهاية" (4/250- 254) (مع أخبار الأعشى)، بلا نسبة في "العين" (3/306) (وفيه وحده: ((تسألي عنا)) كما ذكره الشارح، وفي "الديوان وسائر المصادر" ((عني)) وبلا نسبة أيضًا في "تهذيب اللغة" (5/259).
(28) في (أ): ((نعلها)).
(29) كذا في النسخ، وفي "صحيح مسلم" وفي "التلخيص": ((اجعله)).
(30) في (ز): ((الذي)).
(31) في (ز): ((به)).
(32) كذا في النسخ، وإن كان مراده: ((يجعل الفعل)) فالأولى أن يقول: ((يجعلها)) لأنها مؤنثة؛ وقد قال قبل: ((التي قلدها بها)). وقد وقع في (ز) – كما قدمنا -: ((الذي قلدها به)).
والمراد: أنه يغمس النعل في دمها، ثم يضرب به صفحة سنامها؛ كما عبر النووي في "شرح مسلم" كما عبر النووي في "شرح مسلم" (9/77).
(33) في (ب): ((لتكون)).
(34) في (ب): ((منه)).
(35) من قوله : ((يعني برفقته...)) إلى هنا سقط من (ز).
(36) الرُّفَاقة والرِّفقة والرُّفقة، واحدٌ؛ وهم الجماعة المترافقون في السفر. "اللسان" (10/120).
(37) في (ح): ((ولهذا)).
(38) في (ز): ((لسد الذريعة)).(3/425)
سابنُ عباسٍ (1) ، واختاره ابنُ المنذرِ؛ فقالا (2) : لا يأكلُ منها سائقُها، ولا أحدٌ من أهل رفقتِه. وقال مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ، وأصحابُ الرأي، ومن تبعهم: لا يأكلُ منها سائقُها شيئًا، ويخلِّي بينها وبين الناسِ يأكلونَها. ورُوي عن ابنِ عمرَ (3) – رضي الله عنهما -: أنه كان يرى الأكلَ منها. وعلى قولِ المانعين: فإن (4) أكلَ منها، ضَمِنها عندَ مالكٍ وغيره.
وكونُه - صلى الله عليه وسلم - لم يُلزمْ صاحبَ الهديِ المعطوبِ بدلاً، دليلٌ للجمهورِ على أنه لا بَدَلَ عليه في (5) هدي التطوُّعِ؛ إذ لو (6) كان لبيَّنه له؛ لأنه لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ.
فأما الواجبُ منه فعليه بدلُه (7) ؛ لأنه مُتعلِّقٌ بذمتِه، وله الأكلُ منه، والإطعامُ للأغنياءِ وغيرِهم عندَ جمهورِ العلماءِ غيرَ مالكٍ. واختلفوا: هل له بيعُه؛ فمنعَه مالكٌ، وأجازه الآخرون، وعبد (8) الملكِ.
وأمَّا إذا بلغ الهديُ محلَّه، فاختلف العلماءُ فيما يأكلُ منه صاحبُه: فمشهورُ مذهبِ مالكٍ: أنه لا يأكلُ من ثلاثةٍ: من جزاءِ الصيدِ، ونذرِ المساكينِ، وفديةِ الأذى، ويأكلُ مما سوى ذلك إذا بلغ محلَّه، واجبًا كان أو تطوُّعًا،، ووافقه علي ذلك جماعةٌ من السلفِ وفقهاءِ الأمصارِ. ثم إذا أكلَ مما مُنع منه؛ فهلْ يَغْرَمُ قدرَ ما أكلَ منه؟ أو يغرمُ هديًا كاملاً؟ قولان في مذهبنا.
وقال الشافعيُّ، وأبو ثورٍ: ما كان أصلُه واجبًا فلا يأكلُ منه، وما كان تطوُّعًا ونُسكًا (9) أكل منه، وأهدى، وادَّخر، وتصدَّق،، والمتعةُ والقِرانُ عندَه نسكٌ،، ونحوُه مذهبُ الأوزاعيِّ.
وقال أبو حنيفةَ، وأصحابُ الرأي: يأكلُ من هدي المتعةِ، والتطوُّعِ، ولا يأكلُ مما سوى ذلك.
وحُكي عن مالك: أنه لا يأكلُ من دمِ الفسادِ. وعلى قياسِ (10) هذا: لا يأكلُ من دمِ الجبرِ؛ كقولِ الشافعيِّ والأوزاعيِّ. والله أعلم (11) . =(3/426)=@
__________
(1) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/381 رقم149) في الحج، باب العمل في الهدي إذا عطب أو ضل، عن ثور بن زيد الديلي، عن عبدالله بن عباس، ولم يسق لفظه. [يراجع التخريج]
(2) زاد بعدها في (ح) و(ي): ((هذا النهي قال)).
(3) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/381 رقم150) الموضع السابق ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أنه قال : من أهدى بدنة ثم ضلت أو ماتت ، فإنها إن كانت نذرًا أبدلها، وإن كانت تطوعًا ، فإن شاء أبدلها ، وإن شاء تركها . [هذا التخريج غير مناسب، يوجد أثر مناسب في "المحلى" (5/310)] كتب بجانب التخريج هذه الكلمات.
(4) في (ي): ((وإن)).
(5) في (ي): ((من)).
(6) قوله: ((إذ لو)) في (ز): ((ولو)).
(7) في (أ): ((بدنه)).
(8) قوله: ((وعبد)) في (ي): ((عبد))، وفي (ب): ((وغير)).
(9) كذا في النسخ، وفي "الإكمال" (4/415): ((أو نسكًا)) وهو الأولى.
(10) قوله : ((قياس)) سقط من (ح).
(11) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/426)
ومن بابِ طوافِ الوداعِ
قولُه: ((كان الناسُ ينصرفون في كلِّ وجهٍ))؛ أي: يتفرقون من غيرِ أن يودِّعوا البيتَ، فنهاهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بقولِه: ((لَا يَنْفِرَنَّ أحدُكم (1) حتى يكونَ آخرُ عهدِه بالبيتِ))؛ فظاهر ُهذا أن طوافَ الوداعِ واجبٌ على كلِّ حاجٍّ أو معتمرٍ غيرِ مكيِّ، وإليه ذهب أبو حنيفة. لكن أزال هذا الظاهرَ حديثُ صفيةَ - رضي الله عنها - حيث رخَّص لها في تركِه لَمَّا حاضتْ؛ فَفُهِمَ منه أنه ليس على جهةِ الوجوبِ؛ وهو (2) مذهبُ الجمهورِ.
ثم من تركه فهلْ يلزمُه دمٌ أو (3) لا يلزمه شيءٌ (4) ؟ فقال أبو حنيفة، والشافعيُّ- في أحدِ قوليه -: إنه يلزمه دمٌ. وقال مالكٌ: لا يلزمُه دمٌ، وهو الصحيحُ؛ لأن صفية لم يأمرْها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ من ذلك. ولو كان ذلك لازمًا؛ لما جاز السكوتُ عنه؛ لأنه لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجة. والله تعالى أعلم.
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - لصفيةَ – رضي الله عنها - لَمَّا أعلمتْه بأنها أفاضتْ (5) -: ((انفري)) دليلٌ على أن الحائضَ يُجزئُها طوافُ الإفاضةِ عن طوافِ الوداعِ، وعلى هذا جماعةُ الفقهاءِ إلا خلافًا شاذًّا رُوي عن بعضِ السلفِ: أنها (6) لا تنفرُ حتى تودعَ، والحديثُ حجةٌ عليهم. =(3/427)=@
__________
(1) في (ح): ((أحد منكم)).
(2) في (ب): ((وهذا)).
(3) في (أ): ((أم)).
(4) في (ح): ((دم))، وكتب فوقها : ((شيء)).
(5) كذا في (ب)، وهو الصواب، وفي سائر النسخ: ((حاضت))، وانظر: "الإكمال" (4/416).
(6) في (ي): ((أنه)).(3/427)
وقولُه: ((أحابستنا هي)) دليلٌ على أن الكَرِيَّ (1) يُحبسُ على التي حاضتْ ولم تَطُفْ طوافَ الإفاضةِ حتى تطهرَ، وهو قولُ مالكٍ. وقال (2) الشافعيُّ: لا يُحبسُ عليها الكري (3) ، ولتُكْرِ (4) جملَها، أو تحملَ (5) مكانَها غيرَها. وهذا كلُّه في الأمنِ (6) ووجودِ ذي المحرمِ. وأما مع الخوفِ، أو عدمِ ذي (7) المحرمِ؛ فلا (8) يُحبسُ (9) باتفاقٍ؛ إذ لا (10) يمكنُ أن يسيرَ بها وحدَه (11) ، ويفسخُ الكراءَ، ولا تُحبسُ عليها الرفقةُ إلا أن يبقى لطهرِها كاليومِ. وقد تقدَّم القولُ في: ((عقرى حلقى (12) ))، وفي: ((طمثتْ)) (13) . والله أعلمُ (14) . =(3/428)=@
__________
(1) في (ز): ((المكري)). وهما بمعنى الذي يُكري دابته أي: يؤجرها. قال في "النهاية" (4/170): ((الكري)) بوزن ((الصبي))، فعيل بمعنى ((مُفْعِل))، وقد يقع على المكتري، فعيل بمعنى ((مفتِعل)).
(2) ((وقال الشافعي)) في (ز): ((والشافعي)).
(3) في (ب) و(ح) و(ز): ((كري)).
(4) في (ز): ((وليكر)).
(5) في (ب): ((يحمل)).
(6) في (ز): ((الأمر)).
(7) قوله : ((ذي)) سقط من (ح).
(8) في (ب): ((بلا)).
(9) في (ز): ((تحبس)).
(10) في (أ): ((إذا لم)).
(11) قوله: ((يسير بها وحده)) في (ي): ((تسير بها وحدها)).
(12) في (ب): ((وحلقى)).
(13) تقدم ((عقري حلقي)) في باب ما جاء في فسخ الحج في العمرة، و((طمثت)) في باب تفعل الحائض والنفساء جميع المناسك إلا الطواف بالبيت.
(14) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز). وفي تعقيبة (أ) كتب: ((يليه باب دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه الكعبة، بل مقابلة)).(3/428)
ومن (1) بابِ دخولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الكعبةَ
هذا إنما كان عامَ الفتحِ، كما قد (2) جاء منصوصًا في الروايةِ الأخرى، ولم يكنِ النبيُّ (3) - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتحِ مُحْرِمًا، فلا يستدلُّ به على أن دخولَ البيتِ نُسُكٌ في الحجِّ والعمرةِ؛ كما ذهب إليه بعضُهم (4) . وأما أحاديثُ (5) حجةِ الوداعِ فليس في شيءٍ منها تحقيقُ (6) أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل أو (7) لا غيرَ أن أبا داودَ روى من حديثِ عائشةَ (8) رضي الله عنها؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - (9) خرج من عندِها مسرورًا، ثم رجع إليها وهو كئيبٌ، فقال: ((إنِّي دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا دَخَلْتُهَا؛ إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ (10) شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِي))؛ وظاهرُه أن ذلك كان في حجةِ الوداعِ، غيرَ أنَّ هذا الحديثَ في إسنادِه إسماعيلُ بنُ عبدِ الملكِ بنِ أبي الصغيرِ، وهو ضعيفٌ. وقد رواه البزارُ (11) بإسَنادٍ (12) آخرَ، ولا (13) يثبتُ أيضًا.
وقولُه: ((فأغلقها (14) عليه)) فيه دليلٌ على اختصاصِ السابقِ للمنفعةِ المشتركةِ بها (15) ، ومنعِها ممن يخافُ تشويشَها عليه.
وقال الشافعيُّ: فائدةُ أمرِه - صلى الله عليه وسلم - بإغلاقهِا (16) وجوبُ الصلاة إلى جدارٍ من جُدُرِها (17) ، وأنه لو صلى إلى البابِ وهو مفتوحٌ، لم يُجْزِهِ (18) ؛ لأنه لم يستقبلْ منها شيئًا. وأُلزم من مذهبِه إبطالَ هذا؛ لأنه يجيزُ الصلاةَ في =(3/429)=@
__________
(1) قوله: ((ومن)) سقط من (ز)، وهنا بداية الجزء الثاني من النسخة (أ). وقد كتب قبل ترجمة هذا الباب: ((بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليما)).
(2) قوله : ((قد)) سقط من (ب) و(ز).
(3) قوله: ((النبي)) ليس في (ز).
(4) بعده في (ب) و(ح) و(ز) و(ي): ((وهو)) ثم بياض بمقدار كلمة أو كلمتين في (ب) و(ح)، وسطر في (ز)، وكتب فوقها في (ي): ((ينظر)). وقد نقل الحافظ في "الفتح" (3/496) هذا الكلام عن الشارح قائلاً: وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخول البيت من مناسك الحج، ورده بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخله عام الفتح ولم يكن حينئذ محرمًا)). ولم يذكر الحافظ أيضًا من هو هذا المحكي عنه!. [يراجع]
(5) في (ي): ((حديث)).
(6) في (أ) و(ي): ((تحقق)).
(7) في (أ) و(ح) و(ي): ((أم)).
(8) أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" (3/652 رقم1241)،وأحمد (6/137)،وأبو داود (2/526 رقم2029) في الحج ، باب في دخول الكعبة ، وابن ماجه (2/1018-1019 رقم3064) في المناسك ، باب دخول الكعبة ، والترمذي (3/223 رقم873) في الحج ، باب ما جاء في دخول الكعبة ، وابن خزيمة (4/333 رقم3014)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (14/502 رقم5790)، والحاكم (1/479)، والبيهقي (5/159) من طريق الحاكم وغيره - جميعهم من طريق إسماعيل بن عبدالملك ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة ، فذَكَرَته.
قال الترمذي: ((حسن صحيح)). وقال الحاكم: ((صحيح الإسناد))، ووافقه الذهبي .
وفي سنده: إسماعيل بن عبدالملك بن أبي الصغير، قال ابن معين ، والنسائي : ((ليس بالقوي)). وقال أبو حاتم : (( ليس بقوي في الحديث ، وليس حده الترك)). وقال ابن مهدي: ((اضرب على حديثه)). وقال البخاري : ((يكتب حديثه)). "تهذيب الكمال" (3/142-143). وفي "التقريب"(ص141-142 رقم469): ((صدوق كثير الوهم)).
والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (رقم2085).
وله طريق أخرى:
أخرجه أحمد (6/153) عن عبد الرزاق، عن معمر، عن جابر، عن عرفجة بن عبد الله الثقفي، عن عائشة بمعناه.
وسنده ضعيف ، جابر : هو ابن يزيد الجعفي ، ضعيف . كما في "التقريب" (ص192 رقم886)، وعرفجة بن عبدالله : قال ابن القطان: ((مجهول))، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجلي: ((ثقة)). "تهذيب التهذيب"(3/91)، "ثقات العجلي" (2/133 رقم1228)، وفي "التقريب" (ص674 رقم4588): ((مقبول)).
(9) قوله: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - )) سقط من (ي).
(10) قوله : ((قد)) سقط من (ح).
(11) ....
(12) من قوله: ((إسماعيل بن عبد الملك...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(13) في (أ): ((لا)).
(14) في (أ): ((فأغلقنا)).
(15) سقط من (أ).
(16) في (ح): ((لمغلاقها)). *** تراجع***
(17) في (أ): ((جدرانها)).
(18) في (ب): ((تجزه))، وفي (ح) و(ي): ((يجز)).(3/429)
أرضِها لو تهدَّمتِ الجدرُ؛ لاستقبالِه أرضَها (1) . وقيل: إنما أغلقَها دونَهم لئلا يتأذَّى بزحامِهم. وقيلَ: لئلا يُصلَّى بصلاتِه ، فَتُتخذَ الصلاةُ (2) فيها سنةً.
ولا يلتفتُ لقولِ من قال: إنما (3) فعل ذلك (4) لئلا يستدبرَ شيئًا من البيتِ؛ كما وقع في (5) زيادةِ البخاريِّ عن بعضِ الرواةِ؛ لأن البابَ إذا أغلق صار كأنه جدارُ البيتِ (6) .
وقولُه: ((جعل عمودين عن يسارِه، وعمودًا عن يمينِه، وثلاثةَ أعمدةٍ وراءَه)) هكذا رواه مسلمٌ عن يحيى بنِ يحيى التميميِّ، عن مالكٍ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ،، ورواه يحيى بنُ يحيى الأندلسيُّ وغيرُه في "الموطأ" (7) عن مالكٍ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمر - رضي الله عنهما - قال: ((جعل عمودًا عن يسارِه، وعمودين (8) عن يمينِه، وثلاثةَ أعمدةٍ وراءهَ))، وفي مسلمٍ (9) من حديثِ ابنِ شهابٍ، عن سالمٍ، عن أبيه؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بين العمودين اليمانيين.
وظاهرُ هذا الاختلافِ اضطرابُ، ويمكنُ أن يقالَ: إنه - صلى الله عليه وسلم - تكررتْ صلاتُه في تلك المواضعِ، وإن كانت (10) القضيةُ واحدةً؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - مكث في الكعبةِ طويلاً. =(3/430)=@
__________
(1) في "الإكمال" (4/422): ((بعض أرضها)). وأن الذي ألزم الشافعي بذلك أبو الحسن القصار وغيره.
(2) في (أ): ((للصلاة)).
(3) سقط من (أ).
(4) سقط نم (ح) و(ي).
(5) في (ح): ((من)).
(6) عبارة "الإكمال" (4/422): ((لأنا إن قلنا بأن الأرض قبلة، لم نلتفت إلى غيرها. وإن راعينا جدارها فالباب إذا أغلق: كالجدار، كما لو كانت جدرها كلها جنسًا من جنس الباب.اهـ. وقد وقع في المطبوع منه تصحيفات صوبناها من النسخة الخطية!.
(7) في "الموطأ" برواية محمد بن الحسن الشيباني، (ص162 رقم480) كتاب: الحج، باب: الصلاة في الكعبة ودخولها.
(8) في (أ) و(ي): ((وعمودًا)).
(9) (2/967 رقم1329/394) في الحج ، باب استحباب دخول الكعبة ....
(10) في (ح): ((كادت)).(3/430)
وحديثُ ابنِ عمرَ هذا، وروايتهُ عن بلالٍ يدلُّ (1) على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في البيتِ الصلاةَ المعهودةَ الشرعيةَ، وبهذا أخذ الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، والثوريُّ، وجماعةٌ من السلفِ، وبعض الظاهريةِ؛ فقالوا: يُصلَّى في الكعبةِ التطوعُ والفرضُ.
وقد خالف بلالاً (2) أُسامةُ – رضي الله عنهما - ، فقال: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يصلِّ في الكعبةِ، وإنما دعا فيها، وبهذا أخذ ابنُ عباسٍ (3) - رضي الله عنهما - وبعضُ الظاهريةِ؛ فلم يجيزوا فيها فرضًا ولا تطوُّعًا.
وقال مالكٌ: لا يُصلَّى فيها الفروضُ (4) ولا السننُ، ويُصلَّى فيها (5) التطوعُ، غيرَ أنه إن صلَّى فيه الفرضَ أعاده (6) في الوقتِ. وقال أصبغُ: يعيدُ أبدًا (7) .
ويمكنُ أن يجمعَ بين حديثِ أسامةَ وبلالٍ على مقتضى مذهبِ مالكٍ؛ فيقالَ: إن قولَ بلالٍ: أنه (8) ((صلى فيها)) يعني به: التطوعَ، وقولَ أسامةَ: إنه ((لم يصل فيها)) يعني به: الفرضَ. وقد جمع بينهما بعضُ أئمتِنا بوجهٍ آخرَ؛ فقال: إن أسامةَ تَغيَّبَ في الحينِ الذي صلَّى فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يشاهدْه، فاستصحبَ النفيَ لسرعِة رجعتِه، فأَخبَر عنه،، وشاهد ذلك بلالٌ فأخبرَ عمَّا شاهد (9) ؛ وعَضَدَ هذا بما رواه ابنُ المنذرِ عن أسامةَ (10) قال: رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صورًا في الكعبِة، فكنتُ آتيه بماءٍ في الدَّلوِ يضربُ به تلك الصورَ (11) ؛ فيحتملُ أن يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى (12) في حالةِ (13) مضيِّ أسامةَ في طلبِ الماءِ (14) . والله أعلم.
وعلى الجملةِ: فحديثُ من أثبت أولى أن يؤخذَ به؛ لأنه أخبر عن مشاهدةٍ؛ فكان أولى من النَّافي (15) .
وفي هذا الحديثِ ما يدلُّ على أن سدانةَ البيتِ ولايةٌ باقيةٌ لعثمانَ بنِ طلحةَ =(3/431)=@
__________
(1) في (ب): ((تدل)).
وفي "التمهيد" (15/313/314): مالك، عن نافع، عن عبدالله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة الحجبي وبلال فأغلقها عليه ومكث فيها، قال عبدالله بن عمر: فسألت بلالًا حين خرج: ماذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال جعل عمودا عن يمينه وعمودين عن يساره وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى.
هكذا رواه جماعة من رواة "الموطأ" عن مالك قالوا فيه ((عمودا عن يمينه وعمودين عن يساره)) منهم: يحيى بن يحيى النيسابوري، وبشر بن عمر الزهراني، وكذلك رواه الربيع عن الشافعي، عن مالك،، رواه عثمان بن عمر. عن مالك فقال فيه: ((جعل عمودين عن يمينه وعمودين عن يساره))، وروى أبو قلابة عن بشر بن عمر، عن مالك ((عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره))، وكذلك رواه إسحاق بن الطباع عن مالك، وقد روي ذلك عن ابن مهدي عن مالك في هذا الحديث ((وجعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره)) كذلك رواه بندار عنه، وكذلك رواه الزعفراني عن الشافعي عن مالك، وكذلك رواه القعنبي وأبو مصعب وابن بكير وابن القاسم ومحمد بن الحسن الفقيه عن مالك.
(2) سقط من (ز).
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (18/270 رقم679) من طريق ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس . وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/293)، وقال فيه : ابن إسحاق .
(4) قولها: ((فيها الفروق)) في (ب) و(ي): ((فيها الفرض))، وفي (أ) و(ز): ((فيه الفرض)).
(5) في (أ) و(ح) و(ز): ((فيه)).
(6) المثبت من (ز)، وفي سائر النسخ: ((أعاد)).
(7) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (15/319- 321) بعد أن حكى الخلاف في المسألة:
إما أن يكون من صلى في الكعبة صلاته تامة فريضة كانت أو نافلة لأنه قد استقبل بعضها وليس عليه إلا ذلك.
أو تكون صلاته فاسدة فريضة كانت أو نافلة من أجل أنه لم يحصل له استقبال بعضها إذا صلى داخلها إلا باستدبار بعضها، ولا يجوز ذلك عند من ذهب إلى أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده في كل باب.
والصواب من القول في هذا الباب عندي قول من أجاز الصلاة كلها في الكعبة إذا استقبل شيئا منها لأنه قد فعل ما أمر به ولم يأت ما نهى عنه لأن استدبارها ههنا ليس بضد استقبالها لأنه ثابت معه في بعضها والضد لا ثبت مع ضده ومعلوم أن المأمور باستقبال الكعبة لم يؤمر باستقبال جميعها وإنما توجه الخطاب إليه باستقبال بعضها والمصلي في جوفها قد استقبل جهة منها وقطعة وناحية فهو مستقبل لها بذلك وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى فيها ركعتين وهو المبين عن الله مراده وكل موضع يجوز فيه صلاة النافلة جازت فيه صلاة الفريضة قياسا ونظرا إلا أن ينمنع من ذلك ما يجب التسليم له.
على أنه لا يجب لأحد أن يتعمد صلاة الفريضة فيها ولو صلى فيها ركعتين نافلة لم يكن بذلك بأس فإن صلى أحد فيها فريضة فلا حرج ولا إعادة.
ثم قال: وما تنازع فيه لعلماء من هذا الباب فالواجب أن لا يفرق فيه بين صلاة النافلة والفريضة كما أنها لا تفترق في الطهارة واستقبال القبلة وقراءة القرآن والسهو وسائر الأحكام وبالله التوفيق.
وقال الحافظ في "فتح الباري" (3/466):
((وفيه استحباب الصلاة في الكعبة، وهو ظاهر في النفل، ويلتحق به الفرض؛ إذ لا فرق بينهما في مسألة الاستقبال للمقيم، وهو قول الجمهور)).
(8) قوله : ((أنه)) سقط من (ب) و(ز).
(9) في (ب): ((شاهده)).
(10) أخرجه الطيالسي (ص87 رقم623)، وابن أبي شيبة (5/200 رقم5203) في الأدب ، باب في المصورين وما جاء فيهم ، و(7/404 رقم36899) في المغازي ، باب حديث فتح مكة، والطحاوي (4/283)، والطبراني في "الكبير" (1/166-167 رقم407)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5/190 رقم6316)، والضياء المقدسي في "المختارة" (4/125 رقم1336) - جميعهم من طريق ابن أبي ذئب ، عن عبدالرحمن بن مهران ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن أسامة بن زيد قال : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة فرأى صورًا ، قال : فدعا بدلو من ماء فأتيته به، فجعل يمحوها ، ويقول: (( قاتل الله قومًا يصورون ما لا يخلقون)).
وفي سنده : عبدالرحمن بن مهران ، لم يرو عنه غير محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب ، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/93). وفي "التقريب" (ص601 رقم4046): (( مجهول)). والحديث قال عنه الحافظ في"الفتح" (3/468): ((إسناده جيد)).
ولشطره الأخير شواهد في "الصحيحين" وغيرهما؛ ولذا قال الألباني في "الصحيحة" (2/696) بعد أن نقل حكم الحافظ : ((فلعل ذلك للأحاديث المشار إليها آنفًا)).
(11) في (ح) و(ز): ((الصورة)).
(12) قوله : ((صلى)) سقط من (ح) و(ز) و(ي).
(13) في (ب): ((حال)).
(14) وقد جمع النووي في "شرح مسلم" (9/82) بينهما، بطريق أخرى فقال: وأما نفي أسامة فسببه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو، ثم اشتغل أسامة بالدعاء في ناحية من نواحي البيت والنبي - صلى الله عليه وسلم - فرآه بلال لقربه، ولم يره أسامة لبعده واشتغاله، وكانت صرة خفيفة فلم يرها أسامة؛ لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء وجاز له نقبها عملا بظنه، وأما بلال فحققها فأخبر عنها.
(15) وانظر: "التمهيد" (15/316- 317).(3/431)
وذويه، فلا تُنْزَعُ (1) منهم بحالٍ؛ كالسقايِة في بني العباسِ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ((كُلُّ مأثرةٍ كانت في الجاهليةِ فهي (2) تحتَ قَدَمَيَّ (3) إلا سقايةَ الحاجِّ، وسدانةَ البيتِ)) (4) . وقال (5) : يا بنيِ عبدِالدارِ (6) خذوها خالدةً، تالدةً)) (7) . وبذلك قال جميعُ العلماءِ. وأَعْظَمَ مالكٌ أن يشتركَ (8) غيرُهم فيها معهم.
وهذه العُمرةُ التي سُئل عنها ابنُ أبي أوفى هي عمرةُ القضاءِ، ولم يختلفْ أنه لم يدخلْ فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - البيتَ؛ لما كان فيه من الصورِ، والأصنامِ، ولم يكن يقدرُ على تغييرِها إذ ذاك؛ لأجلِ مشركي أهلِ مكةَ، فلما فتحها الله تعالى عليه دخل البيتَ، وصلَّى فيه، على ما تقدَّم. وسائرُ عُمَرِه لم يثبتْ فيها (9) عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم دخولُه البيتَ، ولانفيُه.
وقولُه: ((فلما خرج ركع في قُبُلِ البيتِ ركعتين، وقال: هذه القبلةُ))؛ أي: فيما يقابلُه منها إذا استقبل البابَ. وفي هذه الإشارةِ قولان: =(3/432)=@
__________
(1) في (ب): (ينتزع))، و(ز): ((ينتزع)).
(2) قوله : ((فهي)) سقط من (ح).
(3) زاد بعدها في (ح): ((هذا)) والقدم مؤنثة. وأكثر الروايات: ((قدميّ هاتين))، وفي بعضها: ((قدميّ)) فقط.
(4) الحديث أخرجه ابن الجارود (773)، وأبو داود (4547)، وابن ماجه (2627)، وابن حبان في "صحيحه" (6011) من طريق حماد بن زيد ، عن خالد الحذاء ، عن القاسم بن ربيعة ، عن عقبة بن أوس ، عن عبدالله بن عمرو به مرفوعًا.
وقد اختلف فيه فرواه وهيب بن خالد كرواية حماد ، عن خالد الحذاء؛ أخرجه أبو داود (4548). ورواه أيوب السختياني ، عن القاسم بن ربيعة ، عن عبدالله بن عمر به فأسقط ذكر عتبة بن أوس ؛ أخرجه أحمد (6533)، والنسائي (8/4)، وابن ماجه (2627)، والدارمي (2/118) ولا يضر ذلك حيث سمعه القاسم من عتبة بن أوس ومن عبدالله بن عمرو ، فرواه على الوجهين.
وفيه اختلاف آخر لا يضره ، وأظنه تقدَّم في الديات .
(5) في (ز): ((قال)).
(6) قوله: ((يا بني عبد الدار)) في (أ) و(ح) و(ي): ((يا بني عبد الدار)). وعبارة "الإكمال" (4/422): ((وقال لبني عبد الدار: خذوها...))إلخ. ولفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض الروايات: ((خذوها يا بني طلحة)) وفي بعضها: ((خذوها يا بني أبي طلحة))، وفي بعضها: ((خذوها يا بني شيبة)). وبنو طلحة هم بنو أبي طلحة، هم بنو عبد الدار؛ فإن عثمان هو: عثمان بن طلحة بن أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ا بن قصي العبدري الحجبي. وبنو شيبة: هم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، ابن عمر عثمان بن طلحة، وشيبة أيضًا صحابي، دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة إليهما وقال: ((خذوها يا بني طلحة...))إلخ.
(7) أخرجه الطبراني فـ"الكبير" (11/98 رقم11234)، وفي "الأوسط" (1/155-156 رقم488) من طريق معن بن عيسى القزاز، عن عبدالله بن المؤمل ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم)). يعني : حجابة الكعبة .
قال الطبراني : ((لم يرو هذا الحديث عن ابن أبي مليكة إلا عبدالله بن المؤمل؛ تفرد به معن بن عيسى)).اهـ. قال الهيثمي في "المجمع" (3/620 رقم5707): ((رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه : عبدالله بن المؤمل؛ وثقه ابن حبان ، وقال : يخطئ ، ووثقه ابن معين في رواية ، وضعفه جماعة)).اهـ. وعبدالله بن المؤمل ، قال عنه الحافظ في "التقريب" (ص550 رقم3673): ((ضعيف الحديث)).
وأخرجه الأزرقي في "أخبار مكة" (1/265) عن جده ، عن مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ...، فذكره بمعناه ، وهذا مرسل . وعن جده، عن سعيد بن سالم ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله:{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} قال : نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة ، ودخل به الكعبة يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه الآية ، فدعا عثمان ، فدفع إليه المفتاح وقال : ((خذوها يابني طلحة بأمانة الله سبحانه ، لا ينزعها منكم إلا ظالم)). قال: وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة: خرج وهو يتلو هذه الآية ، فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك.
وأخرجه أيضًا (1/265-266) عن محمد بن يحيى، عن سليم بن مسلم، عن غالب بن عبيدالله ، أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول... فذكره مرسلاً.
وأخرجه أيضًا (1/267-268) عن جده ، عن ابن إدريس ، عن الواقدي قال : حدثني علي بن محمد بن عبدالله العمري ، عن منصور الحجبي ، عن أمه صفية ابنة شيبة، عن برة بنت أبي تجراة، قالت... فذكرت.
(8) في (أ): ((يشرك)).
(9) سقط من (ح) و(ي)، وفي (ب) و(ز): ((فيه)).(3/432)
أحدُهما: أنها إلى الكعبةِ، ثم في المعنى قولان:
الأولُ (1) : أن الإشارةَ تقريرٌ لحكمِ الانتقالِ (2) عن بيتِ المقدسِ.
الثاني: أنها إلى وجهِ البيتِ في حقِّ حاضرِه بخلافِ الغائبِ.
وثانيهما (3) : أن الإشارةَ إلى وجِه الكعبةِ، فيكونُ التعليمُ للإمام أن يستقبلَ البيتَ من وجهِه، وإن كانتِ الصلاةُ إلى جميعِه جائزةً (4) . والله أعلمُ (5) .
ومن بابِ نقضِ الكعبةِ وبنائِها
قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ((لولا حداثةُ عهدِ قومِكِ بالكفرِ لنقضتُ الكعبةَ))؛ فيه حجةٌ لمالكٍ على القولِ بسدِّ الذرائعِ.
وقولُه: ((ولجعلتُها على أساسِ إبراهيمِ، عليه السلام))؛ يدلُّ على أن جُدُرَ البيتِ منه، =(3/433)=@
__________
(1) في (ز): ((الأولى)).
(2) في (ب) و(ح): ((الاستقبال)).
(3) في (ح): ((وثانيها)).
(4) ذكر هذاين القولين في قول النبي: ((هذه القبلة)) الخطابي في "أعلام الحديث" (1/380- 381). ونقلهما عن النووي في "شرح مسلم" (9/87) وزاد معنى ثالث؛ قال: ((هو أن معناه هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم باستقباله لا كل الحرم ولا مكة ولا كل المسجد الذي حول الكعبة، بل هي الكعبة نفسها والله أعلم.اهـ. وذكر الحافظ في "الفتح" (1/501- 502).
هذه الأقوال جميعًا، ولم يعرزها إلى أحد!
ويظهر من كلامه ترجيحه للقول بأنه إشارة إلى موقف إلى الإمام، وأنه من جهة باب الكعبة.
(5) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/433)
كما سيأتي. و((استقصرتْ))؛ أي: قصرتْ عن إتمامِ بنائِها، واقتصرتْ على هذا القدرِ منها؛ إذ لم يجدوا نفقةً.
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - : ((ولجعلتُ لها خَلْفًا)): هو بفتحِ الخاءِ وسكونِ اللامِ، وفي "البخاريِّ": ((قال هشامُ بنُ عروةَ: يعني: بابًا)). وقد جاءَ مفسَّرًا في الحديثِ بعد هذا. وفي "البخاريِّ" أيضًا: ((لجعلتُ لها خَلْفين)) الروايةُ الصحيحة فيه (1) : بفتحِ الخاءِ، كما قلناه، وهما: البابان؛ وقال ابنُ الأعرابيِّ: الخَلْفُ: الظَّهْرُ (2) . وذكر الحربيُّ هذا الحديثَ، وضبطَه: ((خِلْفين)) (3) ، بكسر الخاء، وقال: الخالفة (4) : عمودٌ في مُؤْخَرِ البيتِ؛ يقالُ: وراءهَ خِلفٌ (5) جيدٌ. والأولُ أصحُّ.
وقولُه: ((لأنفقتُ كنزَ الكعبةِ في سبيل الله)) هذا الكنزُ هو المالُ الذي كان يجتمعُ مما كان يُهدى إلى الكعبةِ، وأقرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك المالَ في الكعبةِ للعلَّةِ التي ذَكَرَ؛ وهي: مخافةُ التنفيرِ، وأقرَّه أبو بكرٍ رضي الله عنه ولم يعرضْ له، ثم إنَّ عمر – رضي الله عنه - همَّ بقسمتهِ، فخالفه في ذلك بعضُ الصحابةِ - رضي الله عنهم - واحتجَّ عليه بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ – رضي الله عنه - (6) لم يفعلا ذلك؛ فتوقَّف.
قلت (7) : ولا يُظنُّ أن هذا الكنزَ الذي جرى فيه ما ذُكر (8) ، أنه يدخلُ فيه حُلِيُ الكعبةِ الذي (9) حُلِّيتْ به من الذهبِ والفضةِ، كما قد ظنَّه بعضُهم؛ فإن ذلك ليس =(3/434)=@
__________
(1) في (ح): ((فيها)).
(2) ذكره عن ابن الأعرابي الأزهري في "التهذيب" (7/397)، والهروي صاحب الأزهري عن ثعلب عنه ابن الأعرابي في "غريب الحديث" (2/587)، وعن الهروي القاضي في "الإكمال" (4/428)، و"المشارق" (1/237).
(3) في (ب) كأنها: ((خلقين)).
(4) في (ب) و(ز): ((الخالقة)).
(5) ما ذكره الشارح عن الحربي ذكره القاضي في "الإكمال" (4/428)، وعنه النووي في "شرح مسلم" (9/89)، ثم الحافظ في "الفتح" (3/444)، وقوله: ((وراءه خلف جيد)) في "الإكمال": ((وراء بيته خلف جيد)) وقد تحرفت في المطبوع إلى: ((ورأيته خلف جمد))! وصوبناه من المخطوط. وجمع ((الخالفة)) بمعنى العمود: الخوالف. وانظر "تاج العروس" (خلف).
(6) أخرجه البخاري (3/456 رقم1594) في الحج، باب كسوة الكعبة، و(13/ 249 رقم7275) في الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(7) في (ب): ((قال الشيخ رحمه الله)) وفي (ز): ((قال الشيخ)).
(8) في (ح): ((ذكر)).
(9) في (ب): ((التي)).(3/434)
بصحيحٍ؛ لأن حليتَها محتبسةٌ (1) عليها، كحُصُرِها، وقناديلِها، وسائرِ ما يحبسُ عليها، لا يجوزُ صرفُها في غيرِها، ويكونُ حكمُ حليها حكمَ حليةِ سيفٍ (2) أو مصحفٍ حُبِسَا (3) في سبيلِ الله تعالى؛ فإنه لا يجوزُ تغييرُه عن الوجِه الذي حُبس له،، وإنما ذلك (4) الكنزُ كما ذكرناه، وكأنه فضلةُ ما كان (5) يُهدى إليها (6) عما كانت تحتاجُ إليه مما ينفقُ فيها، فلما افتتح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ (7) خاف من نفرةِ قلوبِ قريشٍ إِنْ هو أنفقه في سبيلِ الله تعالى، كما قال؛ وذلك أنهم كانت عادتُهم في ذلك ألا يتعرضوا له. فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لما ذكرناه (8) ، ثم إنه بقي على ذلك في إمارة أبي بكر وعمر، ولا أدري ما صنع به بعد ذلك. وينبغي أن يبحث عنه. وسبيل الله هنا: الجهاد. وهو الظاهر من عرف الشرع، كما قررناه في كتاب الزكاة.
و((من)) في قوله: ((من الحجر)) للتبعيض، بدليل قوله في الرواية الأخرى: ((أدخلت (9) من الحجر خمسة (10) أذرع)).
وقول عبدالله بنِ عمرَ: ((لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) ليس شكًّا منه في سماعِها، ولا في سماعِ الراوي عنها، وإنما هذا على طريقةِ وضعِ الشَّرطيِّ المتصلِ الذي يوضعُ شرطهُ تقديرًا (11) ليتبيَّن مشروطُه تحقيقًا؛ وله في كلامِ الله تعالى وكلامِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - نظائرُ؛ منها: قولُه تعالى: {قل إن كان للرحمن ولدٌ فأنا أول العابدين} (12) ، وقوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (13) ، ومثلُه كثيرٌ، ولبَسْطِ (14) هذا وتحقيقهِ علمٌ آخرُ،، وقد يأتي هذا النحوُ في الكلامِ على طريقِ تبيينِ (15) الحالِ على وجهٍ يأنس به المخاطَبُ، =(3/435)=@
__________
(1) في (ز): ((محبسة)) وحَبَسْتْ الشيء فهو حبيس ومحبوس، وحبَّسته فهو محبَّس، وأحبسته فهو مُحبَس، واحتَبْستُه فاحتبس فهو محتَبَسٌ ومحتبِسٌ: وَقَفْتُه فهو موقوف. "المصباح" (ص65)، و"القاموس" (ص537).
(2) في (ح): ((السيف)).
(3) ضبطها في (ز): ((حَبْسًا)).
(4) في (ي): ((اذلك)).
(5) قوله: ((فضلة ما كان)) في (ح): (فضلة على ما))، وفي (ي): ((فضلة ما)).
(6) في (ب): ((إليه)).
(7) قوله : ((مكة)) سقط من (ح) و(ز) و(ي).
(8) في (ح) و(ي): ((ذكره)).
(9) في (ي): ((اذ حلف)).
(10) في (ز): ((خمسة)) و((ذارع)) القياس تؤنث وتذكر، والتأنيث أفصح، بل قال ابن الأنباري: ولم يعرف الأصمعي التذكير، وقال الزجاج: (التذكير شاذ غير مختار)). "المصباح" (ص110).
(11) في (ب): ((تقريرًا)).
(12) سورة الزخرف ؛ الآية: 81.
وذكر ابن القيم في "بدائع الفوائد" (1/82) أن الشرط قد يتعلق بفعل محال ممتنع الوجود، وأن الشرطية هنا صدقت دون شرطها وجوابها، قال: أما صدقها فلاسلتزام المحال المحال، وأما كذب مفرديها (الشرط والجواب) فلاستحالتهما الآيتين اللتين ذكرهما الشراح. ثم قال: وفائدة الربط بالشرط في مثل هذا: أمران:
أحدهما: بيان استلزام إحدى القضيتين للأخرى.
والثاني: أن اللازم منتف فالملزوم كذلك.
وذكر أيضًا في (1/78): تعلق الشرط بمتحقق الثبوت ومعلوم الوقوع قطعًا؛ وذكر لذلك أمثلة من كتاب الله عز وجل ومن أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - . [يراجع وليوسع ويعاد ؟؟؟]
(13) سورة الأنبياء؛ الآية: 22.
(14) في (ز): ((وبسط)).
(15) في (أ) و(ب): ((تبين)).(3/435)
وإظهارِ التناصُفِ (1) في الكلامِ؛ كقولِه تعالى: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب} (2) ، وعلى الجملةِ فالشرطُ يأتي في الكلامِ على غيرِ وجهِ الشكِّ، وهو كثيرٌ (3) .
وقولُه: ((ما ترك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - استلامَ الركنين اللذين – يليان الحِجر (4) - إلا أن البيتَ لم يتممْ (5) على قواعدِ إبراهيم))؛ يعني: أن الركنين اللذين يليان الْحَجَرَ ليسا بركنين، وإنما هما بعضُ الجدارِ الذي بنتْه قريشٌ؛ فلذلك (6) لم يستلمْهما (7) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (8) . وقد تقدَّم القولُ على هذا.
وقولُه: ((يريدُ أن يُجرِّئهم، أو يُحزِّبهم (9) ))؛ الأولُ من الجرأةِ؛ وهي الشجاعةِ، والثاني من التحزيبِ؛ وهو التجميعُ (10) ، هكذا لابنِ سعيدٍ، والفارسيِّ، وغيرِهما (11) . ومعنى ذلك: أنه أراد أن يشجِّعَهم أو يُجمِّعَهم (12) على أهلِ الشامِ؛ بإظهارِ قبحِ (13) أفعالِهم في الكعبةِ. وروى العذريُّ الحرفَ الأولَ: ((يجرِّبهم)) بالباءِ بواحدةٍ؛ من التجربةِ؛ أي: يختبرُ ما عندَهم من الغضبِ لله تعالى، ولبيتِهِ (14) . وقيد كافتُهم الحرفَ الثاني: ((يحرِّبهم (15) )) بالحاءِ والراءِ المهملتين، والباء بواحدةٍ؛ من التحريب؛ وهو: التغضيبُ؛ يقال: حَرَّبْتُ الأسدَ، وأسدٌ مُحرَّبٌ؛ أي: أغضبتُه، فهو مُغضَبٌ. =(3/436)=@
__________
(1) في (ب) و(ز): ((وإظهارًا للتناصف)).
(2) سورة سبأ؛ الآية: 50.
ووردت الآية في (أ) و(ح) و(ي) دون قوله: ((إنه سميع قريب)).
(3) والحاصل: أن ((إن)) في الأصل للشك في وقوع شيء مستقبل، وقد تخرج عن هذا الأصل فستخدم في المجزوم به نفيا أو إثباتا؛ لأغراض بلاغية؛ فن هذه الأغراض؛ التجاهل؛ كقول العبد لمن يطلب سيده: ((إن كان في الدار أخبرتك)) يوهمه أنه غير جازم وهو عالم بكونه فيها. ومنها: إجزاء الكلام على اعتقاد المخاطب؛ كقولك لمن يكذبك: ((إن صدقتُ فماذا تفعل؟)) مع جزمك مقتضى علمه؛ كقولك لمن يعق أباه: ((إن كان أباك فلا تعقه))، وقولك لمن يكذب عليك وتستيقن كذبه ((إن صدقت فلا تخش بأسًا)).
ومنها: التوبيخ لكون المقام يشتمل على ما يقلع عن الشرط من أصله، ويكون هذا على سبيل الفرض؛ نحو قوله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قومًا مسرفين} على القراءة بكسر همزة ((إن)). ومنها تغليب المتصف بعدم الجزم على الجازم؛ بإسناد الفعل إلى جماعة بعضهم جازم وبعضهم غير جازم؛ كقوله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث...}.
ينظر: "شرح عقود الجمان في علم المعاني والبيان" (ص33، 34)، "المفصل في علوم البلاغة" (ص195- 196). [يراجع ويوسع]
(4) قوله: ((اللذين يليان الحجر)) مثبت من (ب)، وموضعه في سائر النسخ: (( اليمانيين)) وهو خطأ؛ يدل عليه ما بعده.
(5) في (ي): ((يقم)).
(6) في (ز): ((ولذلك)).
(7) في (ح): ((يستملها)).
(8) قوله : ((النبي رضي الله عنه )) ليس في (ح) و(ز).
(9) في (ز): ((يجربهم)).
(10) في (ب): ((التجمع)).
(11) ظاهر هذا أن ابن سعيد والفارسي وغيرهما رووا الكلمة الثانية هنا بالحاء المهملة والزاي المعجمة. وانظر ما يأتي في كلام الشارح والتعليق عليه.
(12) في (ز): ((نجمعهم)).
(13) في (ز): ((فتح)).
(14) في (ز): ((ولنبيه)).
(15) قوله : ((الثاني يحربهم)) سقط من (ز).
نقل الشارح هنا عبارة القاضي في "الإكمال" (4/430) متصرفًا فيها بما يؤدي إلى تغيير المعنى؛ فجعل أولاً للرواية ((يحزبهم)) في الثاني لابن سعيد الفارسي وغيرهما، وهنا ذكر أن كافة الرواة ترويه ((يحربهم)). وبعبارة القاضي يتضح ما في كلام الشارح فإليكها: قال القاضي: ((كذا لابن سعيد والفارسي وغيرهما في الأول: ((يجرئهم)) بالجيم والراء وهمزة بعدهما، من الجرأة؛ أي شجعهم عليهم بإظهار قبيح أفعالهم. ورواه العذريُّ: ((يجربهم)) بالباء مكان الهمزة؛ ومعناه يختبر ما عندهم في ذلك من حمية وغضب لله وبيته. وعندهم كلهم [أي: ابن سعيد والفارسي والعذري] في الحرف الثاني: ((يحربهم)) بالحاء المهملة والزاي والباء بواحدة، ومعناه أي: يشد منهم ويثبت عزائمهم عليهم ويمالئهم على حربهم من قولهم: أمر حزيب؛ أي شديد، أو يكون ((يحزبهم)): يميل بهم إلى نفسه ونصرته فحزب الرجل: مَنْ مال إلي، وتحازب القوم: تمالئوا)).اهـ. كلام القاضي. وانظر: "مشارق الأنوار" (1/145).(3/436)
وقولُ ابنِ عباسٍ: ((إنه فُرِقَ لي فيها رأي))؛ أي: انكشف واتضح؛ ومنه قوله تعالى: {وقرءانًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} (1) ؛ أي: أوضحناه، وكشفنا معانيهُ. و((وَهَى)): ضَعُفَ ورَثَّ. و((أجمع رأيه)) - رباعيًّا -: عَزَم، وأمضي. فأما: جمع (2) - ثلاثيًّا-: فضدُّ التفريقِ. و((تحاماه الناس))؛ أي: امتنعوا من نقضِ البيتِ خوفًا وهيبةً. و((تتابعوا)) كافةُ الرواةِ على الباءِ بواحدةٍ من التتابعِ، وهو الجيِّدُ هنا (3) ، وضبطَه (4) أبو بحرٍ بالياءِ (5) باثنتين من (6) تحتِها، ومعناهما واحد، غير أن التتايع (7) – بالياء (8) ، باثنتين - أكثرُه (9) في الشرِّ.
وقولُه: ((فجعل ابنُ الزبير أعمدةً فستَّر عليها الستورَ)) إنما فعل ذلك ابنُ الزبيرِ (10) - رضي الله عنهما - لاستقبالِ المستقبلين، وطوافِ الطائفين، ولأنَّ (11) ابنَ عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: ((إن كنتَ هادمَها فلا تَدَعِ الناسَ لا قِبلةَ لهم)). وهذا يدلُّ على أن بقعةَ البيتِ ما كانت تتنزَّلُ عندَهما منزلةَ البيتِ، وقد خالفهما في ذلك جابرُ (12) – رضي الله عنه - وقال: صلُّوا إلى موضعِها (13) . وقد ذكرنا الخلافَ بين الفقهاءِ في ذلك.
وما (14) فعله عبدُالله بن الزبيرَ - رضي الله عنهما - في =(3/437)=@
__________
(1) سورة الإسراء؛ الآية: 106.
وقد وردت الآية كاملة في (ح) فقط، وفي (أ) و(ن) و(ز) إلى قوله: ((لتقرأه)). وفي (ي) إلى قوله: ((على الناس)).
(2) في (ح): ((فأما ما جمع)).
(3) في (ي): ((منها)).
(4) في (ب): ((وضبطها)).
(5) في (ز): ((بالباء)).
(6) قوله : ((من)) سقط من (ح).
(7) في (ز): ((التتابع)).
(8) سقط من (ي).
(9) في (ب) و(ح): ((أكثر)).
(10) المثبت من (ب)، وفي سائر النسخ ((ابن الزبير)) وهو خطأ واضح؛ فإن عبد الملك هدم بناء ابن الزبير. ***يراجع الورق***
(11) في (ح): ((ولا أن)).
(12) أخرج عبدالرزاق في "مصنفه" (9147) قصة بناء الزبير للكعبة ، وقول ابن عباس له وقول جابر أيضًا، في قصةٍ طويلةٍ، عن ابن جريج .
(13) في (ح): ((موضعهما)).
(14) في (ي): ((وما)). ***يراجع ***(3/437)
البيتِ كان صوابًا وحقًّا، وقبَّح الله الحجَّاجَ، وعبدَالملكِ! لقد (1) جهلا سنَّةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - واجترأا على بيتِ الله تعالى وعلى أوليائِه.
و((التلطيخُ)): التقذيرُ (2) والتلويثُ؛ يقال: لطختُ فلانًا بأمرٍ قبيحٍ: إذا رماه به، ورجلٌ لطيخٌ؛ أي: قَذِر (3) . أراد بذلك العيبَ لفعلِه، وهو المَعَابُ (4) !
وقوله: ((ثم أعاده على (5) بنائِه))؛ يعني: البناءَ الأولَ المتقدِّمَ على بناءِ قريشٍ (6) ، وهو الذي عليه الآن. وقد كان الرشيدُ أراد أن يردَّه على ما بناه ابنُ الزبيرِ، فقال له مالكٌ: نشَدْتُكَ اللهَ (7) يا أميرَ المؤمنين! أن تجعلَ (8) هذا البيتَ =(3/438)=@
__________
(1) في (ي): ((فقد)).
(2) في (أ) و(ح) و(ي): ((التقذر)).
(3) ؟؟؟.
(4) المعاب والمعيب: العيب، اسمًا أو مصدرًا؛ لأنه يجوز في ((مفعل)) من نحو ((عاب)) الكسر والفتح في المصدر والاسم، والأصل الفتح في المصدر والكسر في الاسم. "المصباح" (ص360)، والضمير ((هو) يعود إلى عبد الملك؛ يرد عليه الشارح سبه لابن الزبير رضي الله عنه!.
(5) في (ح) و(ي): ((أعاد)).
قوله: ((أعاده علي)) في (ح) و(ي): ((أعاد على)). وفي "الصحيح" و"التلخيص" : ((أعاده إلي)).
(6) في (ح) و(ز): ((ابن الزبير)).
(7) قوله: ((نشدتك الله)) أي: سألتك بالله، وأقسمت عليك... يقال: نَشَدتك اللهَ وباللهِ، وأَنُشُدك اللهَ بالله، وناشدتك الله وباللهِ. ونصبه للفظ الجلالة على أنه بمنزلة ((دعوت))؛ أو ضمن معنى ذكَّرْت. ولا يقال: ((أَنْشَدْتك الله)). وأصل ذلك من النِّشْدة بمعنى الصوت، والنشيد: رفع الصوت؛ كأنه يقول: أسألك بالله رافعا صوتي – ثم استعمل في كل مطلوب مؤكد ولو بلا رفع. ومنه ناشط الضالة صوتي – ثم استعمل في كل مطلوب مؤكد ولو بلا رفع. ومنه ناشد الضالة؛ أي: طالبها، ومنشدثها، أي: معرِّفها. وفي "المخصص": أن هذا التركيب يجاب بخمسة أشياء: بالأمر والنهي والاستفهام و((أن)) و((إلا)) و((لما))... وينظر "المخصص" (17/165)، "المشارق" (2/28)، "النهاية" (5/52)، و"اللسان" (3/422)، "التاج" (5/278). ***ينظر الورق المطبوع**** ص414
(8) أما قوله: ((أن تجعل)) فكذا وقع في النسخ، و "الاستذكار" (12/117)، و "التمهيد" (10/50)، و "شرح النووي" (9/89)، وفي "الإكمال" المخطوط: ((أن تجعل)) أيضًا في المطبوع (4/428) ((ألا تجعل))! [يراجع ويكمل]. ***ينظر الورق المطبوع**** ص414.(3/438)
ملعبةً للملوكِ؛ لا يشاءُ أحدٌ إلا نقضَ البيتَ وبناه؛ فتذهبُ هيبتُه من صدورِ الناسِ)) ، فترك ما هَمَّ به، واستحسن الناسُ هذا (1) من مالكٍ، وعملوا عليه، فصار هذا كالإجماعِ على أنه لا يجوزُ التعرضُ له بِهَدٍّ (2) أو تغييرٍ (3) . والله أعلمُ.
وقوله: ((فأراها (4) قريبًا من سبعِ (5) ِأذرع)) ليس هذا (6) مخالفًا لما تقدم من ((خمس أذرع)) (7) ؛ لأن هذا تقديرٌ، وذكرُ الخمسِ تحقيقٌ.
وقولُ عبدِالملكِ: ((لو كنتُ سمعته (8) قبلَ أن (9) أهدمَه لتركتهُ على ما بنى ابنُ الزبيرِ))؛ تصريحٌ منه بجهلِه بالسنةِ الواردةِ في ذلك، وهو غيرُ معذورٍ في ذلك؛ فإنه كان متمكنًا من التثبت في ذلك والسؤالِ والبحثِ، فلم يفعلْ، واستعجل وقصَّر؛ فالله تعالى (10) حسيبُه، ومجازيه على ذلك. =(3/439)=@
__________
(1) سقط من (ي).
(2) في (ب): ((بهد)). والهَدُّ: الهَدْم. "النهاية" (5/250).
(3) في (ب): ((تغير)).
(4) في (ز): ((فارسي)).
(5) في (ح): ((سبعة)).
(6) في (ح): ((هذا ليس)).
(7) قوله : ((من خمس أذرع)) سقط من (ب).
(8) في (ب): ((سمعت هذا)).
(9) سقط من (ز).
(10) في (ب): ((والله)).(3/439)
و((الجَدْرُ))- بالفتحِ-: الجدارُ، وهو بالدالِ المهملةِ، والجيمِ المفتوحةِ. والمرادُ به هنا: أصلُ الجدارِ الذي أخرجته قريشٌ عن بناءِ الجدارِ الذي بنوه، وهو المعبَّرُ عنه بالشَّاذَرْوانِ (1) . وقَدْ يكون ُالجَدْرُ (2) أيضًا: ما يُرفعُ من جوانبِ الشَّرَبَاتِ (3) في أصولِ النخلِ، وهي كالحيطانِ لها. ومنه قوله: ((اسْقِ يا زُبَيْرُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ الْجَدْرَ)) (4) . =(3/440)=@
__________
(1) ضبطها في (أ): ((بالشَّذْروان))، والمثبت من (ب)، وفي سائر النسخ: ((بالشذروان)) دون ضبط. والمثبت الصواب؛ ضبطه كذلك في "المصباح" (ص160- 161)، وقد ذكر المجي في "قصد السبيل" (ص79) أنه من الألفاظ الفارسية الدخيلة. وذكر د/ف عبد الرحيم في "سواء السبيل" إلى ما في العربية من الدخيل (ص106) أصله: شادُرْوان، وشادُرْبان بالواو والباء، وبضم الدال المهملة فيهما. وذكره أيضًا في مقدمة تحقيقه "للمعرب" (ص45) من الألفاظ الفارسية الدخيلة.
(2) في (ز): ((الجدار)). وقد تقدمت أنها بمعنى؛ فالجَدْر لغة في الجدار.
(3) في (غ): ((جوانب البئرباب)).
(4) سيأتي في النبوات ، باب وجوب الإذعان لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء عما نهى عنه ، برقم (2266).(3/440)
ومن باب الحج عن المعضوب (1)
قولُه: ((فجعل الفضلُ ينظرُ إليها، وتنظرُ إليه)) هذا النظرُ منهما بمقتضى الطباعِ؛ فإنها مجبولةٌ على الميلِ إلى الصورِ الحسنةِ؛ ولذلك قال في روايةٍ (2) : ((وكان الفضلُ أبيضَ وسيمًا))؛ أي: جميلاً. وصَرْفُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَجْهَ الفضلِ إلى الشقِّ الآخرِ، منعٌ له من مقتضى الطبعِ، وردٌّ له إلى مقتضى الشرعِ.
وفيه دليلٌ على أن المرأةَ تكشفُ وجهَها في الإحرامِ، وأنها لا يجبُ عليها سترُه وإن خيف منها (3) الفتنةُ، لكنها تُندَبُ إلى ذلك، بخلافِ أزواجِ النبي (4) - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الحجابَ عليهنَّ كان (5) فريضةً (6) .
وقولُها: ((إن فريضةَ الله أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيعُ أن يثبتَ على الراحلةِ (7) )) هذا هو المسمَّى بالمعضوبِ، والعَضْبُ: القَطْعُ، وبه سُمِّي السيفُ (8) : ((عَضْبًا)) (9) ؛ وكأن من انتهى إلى هذه الحالةِ قُطعت أعضاؤه؛ إذ لا يقدرُ على شيءٍ. وقد =(3/441)=@
__________
(1) في (ب): ((المغصوب)).
أخرجه مالك في "الموطأ": (849) ومن طريقه أخرجه البيهقي في "الكبرى" (5/233)، وأخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (5/232)، نقلاً عن "فتح الباري" (3/459).
(2) في (ي): ((الرواية)).
(3) في (ح): ((منه)).
(4) من هنا استؤنفت المقابلة على (م).
(5) في (ز): ((كان عليهن)).
(6) تقدم نحو هذا للشارح في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقدم التعليق عليه.
(7) الرواية: ((إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت...)) إلخ.
(8) في (ح): ((البيت)).
(9) والمعضوب: الزَّمن الذي لا حراك به؛ كأن الزمانة عضبته ومنعته الحركة. وتسمية السيف ((عَضْبًا تسميةٌ بالمصدر)) "المصباح" (ص215).(3/441)
بيَّنَتْه (1) في الروايةِ الأخرى بقولِها: ((لا يستطيعُ أن يستويَ على ظهرِ بعيرِه)). فبجموعِ (2) الروايتين يَحصُلُ أنه لا يقدرُ على الاستواءِ على الراحلةِ، ولو استوى لم (3) يثبتْ عليها.
وقولُها: ((أدركتْ أبي))، وفي (4) الروايةِ (5) الأخرى: ((عليه فريضةُ الله في الحجِّ)) - ظاهرٌ في أن من لم يستطعِ الحجَّ بنفسِه أنه مخاطبٌ به.
وبهذا الظاهرِ أخذَ الشافعىُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو حنيفةَ، والجمهورُ؛ على تفصيلٍ لهم يأتي إن شاء الله تعالى.
وخالفهم في ذلك مالكٌ وأصحابُه، ورأوا (6) : أن هذا الظاهرَ مخالِفٌ لقولِه تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} (7) ، فإن الأصلِ في الاستطاعِة إنما هي القوة (8) بالبدنِ؛ ومنه قولُه تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا} (9) ؛ أي: ما قَدَروا، ولا قَوُوا. وبالجملةِ (10) : فإذا قال القائلُ: ((فلانٌ مستطيعٌ))، أو ((غيرُ مستطيعٍ)). فالظاهرُ منْ السابقُ إلى الفهمِ: نفيُ القدرةِ أو إثباتهُا،، فلمَّا عَارَضَ ظاهرُ هذا (11) الحديثِ ظاهرَ القرآنِ، َرجَّحَ مالكٌ - رحمه الله - ظاهرَ القرآنِ. وهو مرجَّحٌ بلا شكٍّ من أوجهٍ: منها: أنه مقطوعٌ بتواترِه، ومنها: أن هذا القولَ إنما هو قولُ المرأةِ على ما ظنته (12) من أنه مخاطبٌ (13) . ثم إنه يحتملُ أن يكونَ معنى: ((أدركتْ أبي (14) )): أن (15) الحجَّ فُرِض وأبوها حَيٌّ (16) على تلك الحالِة الموصوفِة (17) .
قلتُ (18) : وهذا التأويلُ، وإن قبله قولُها: ((أدركت))، فلا يقبلُه (19) قولُها في الروايةِ الأخرى: ((عليه فريضةُ الحجِّ))، لكنَّ هذا كلَّه منها ظنٌّ وحِسْبَانٌ، ولا حجةَ في شيءٍ من ذلك؛ فإنها ظنتِ الأمرَ على خلافِ ما هو عليه.
لا (20) يقالُ: فقد أجابَها (21) النبيُّ (22) - صلى الله عليه وسلم - على سؤالِها، ولو كان سؤالَها غلطًا لما أجابها عليه، ولبيَّنه لها؛ فإن تأخيرَ (23) البياِن عن وقتِ الحاجةِ غيرُ جائزٍ.
لأنا نقولُ: إنه لم يُجبْها على هذا القولِ، بل على قولِها: ((أفأحج عنه؟)) فقال (24) لها: ((نعم))، أو: ((فحجِّي (25) عنه)) على اختلافِ =(3/442)=@
__________
(1) في (ز): ((ينتبه)).
(2) في (ز): ((فمجموع)).
(3) في (ز): ((ولم)).
(4) قوله: ((وفي)) في (أ): ((وجه)).
(5) قوله : ((الرواية)) سقط من (ز).
(6) في (ح) و(ي): ((ورأى)).
(7) سورة آل عمران؛ الآية: 97 .
(8) في (م): ((للقوة)).
(9) سورة الكهف؛ الآية: 97.
(10) سقط من (ي).
(11) قوله : ((هذا)) سقط من (أ) و(ح) و(ز) و(ي).
(12) في (ح): ((ظننت))، وفي (ز) و(ي): ((ظنت)).
(13) قوله: ((من أنه مخاطب)) من (أ) فقط، وليس في سائر النسخ.
(14) قوله : ((أبي)) سقط من (ب) و(ز) و(م).
(15) قوله : ((أن)) سقط من (ز).
(16) قوله : ((حي)) سقط من (ب) و(ز) و(م).
(17) هذا معنى كلام القاضي في "الإكمال" (4/436، 438).
(18) في (ز): ((قال الشيخ)) وفي (ب) و(م): ((قال الشيخ رحمه الله)).
(19) في (ز): ((يقبل)).
(20) في (ح): ((ولا)).
(21) في (ز): ((أحالها)).
(22) في (ي): ((رسول الله)).
(23) في (ح): ((تأخر)).
(24) في (ب) و(م): ((قال)).
(25) في (ز): ((تحجي)).(3/442)
الروايةِ، وإنما قال لها ذلك لما رأى من حرصِها على إيصالِ الخيرِ والثوابِ لأبيها (1) ، فأجابها إلى ذلك؛ كما قال للأخرى (2) التي قالت: إن أمِّي نذرتْ أن تحجَّ، فلم تحجَّ (3) حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ فقال: ((حُجِّي عنها، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ (4) دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ عَنْهَا؟)) قَالَتْ: نعم. ففي هذا ما (5) يدلُّ على أنه من بابِ التطوُّعاتِ (6) ، وإيصالِ الخيرِ والبرِّ للأمواتِ؛ ألا ترى أنه قد شبَّه فعلَ الحجِّ بالدَّينِ! وبالإجماعِ (7) : لو مات ميتٌ (8) وعليه دينٌ لم يجبْ على وليِّه قضاؤُه من مالِه، فإن تطوَّعَ بذلك تأدَّى الدينُ عنه. ولا يبعدُ في كرمِ الله الوليُّ وفضلِه إذا حجَّ الولىُّ عن الميتِ الصَّرورةِ (9) أن يعفوَ الله عنِ الميتِ بذلك، ويثيبَه عليه، أو لا يطالبَه (10) بتفريطِه، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا المعنى في الصومِ (11) . ولم يتعرضِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لقولها؛ لأنه فهم أن مرادَها الاحتمالُ الذي قدمناه. والله تعالى أعلمُ (12) .
قلت (13) : وقد قال بعضُ أصحابِنا - وهو أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ-: حديثُ الخثعميةِ عند مالكٍ وأصحابِه مخصوصٌ بها (14) . وقال آخرون: فيه اضطرابٌ (15) . قلت (16) : وفي هذين القولينِ بُعدٌ، والصحيح ما قدَّمتُه (17) . والله تعالى أعلم.
وقد قال بعضُ أصحابِنا بموجَبِ حديثِ الخثعميةِ؛ فقال: لا تجوزُ النيابةُ في الحجِّ إلا للابنِ (18) عن أبيه خاصةً (19) .
وفي هذا الحديثِ ردٌّ على الحسنِ بنِ حيٍّ (20) ؛ حيث قال: لا يجوزُ حجُّ المرأةِ عن (21) الرجلِ.
وقد اختلف العلماءُ في النيابِة في الحجِّ قديمًا وحديثًا؛ فحكي عن النخعي =(3/443)=@
__________
(1) في (ي): ((إلى أبيها)).
(2) أخرجه البخاري (4/64 رقم1852) في جزاء الصيد ، باب الحج والنذور عن الميت ، والرجل يحج عن المرأة . و(11/584 رقم6699) في الأيمان والنذور ، باب من مات وعليه نذر . و(13/296 رقم7315) في الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب من شبه أصلاً معلومًا بأصل مبين ... .
(3) في (أ): ((تحجج)).
(4) في (ح): ((أبيك))، وكأنه صوَّبها.
(5) في (ز): ((مما)).
(6) في (أ): التطوات)).
(7) في (ي): ((بالإجماع)).
(8) قوله : ((ميت)) سقط من (ح).
(9) في (ح): ((الضرورة))، وفي (ي): ((للضرورة)). ومعنى الصرورة : الذي لم يحج قط .
(10) في (ز): ((يطالب)).
(11) في باب قضاء الصيام عن الميت، من كتاب الصيام.
(12) وقال القاضي عياض في "الإكمال" (4/436- 437) بنحو ما ذكره الشارح؛ من أن سؤالها كان عن وصول المنفعة إلى أبيها، وليس عن حصول الفرض عنه، وتعقبه الحافظ في "الفتح" (4/69) قائلاً: وتعقب بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء فيتم الاستدلال)).
(13) في (ب) و(م): ((قال الشيخ رحمه الله))، وفي (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(14) في "التمهيد" (9/124- 125)، "الاستذكار" (12/59- 60) وقول الشارح: ((مخصوص بها)) كذا في النسخ، و"الإكمال" (4/439)، والصواب: ((بهما)) كما تفيده عبارة ابن عبد البر حيث قال: ((... فخص (أي باو الخثعمية) بأن يقضى عنه وينفعه ذلك، وخصت ابنته أيضًا أن تحج عن أبيها وهو حيٌّ. وممن قال بذلك مالك وأصحابه؛ قالوا: خص أبو الخثعمية والخثعمية بذلك...)) إلخ.
(15) ذكره القاضي في "الإكمال" (4/439) وخلاصة هذا الاضطراب أن المسئول عنه تارة يذكر ((أبًا)) وتارة ((أما))، والسائل مرة ((رجل ومرة ((امرأة)) وجمع القضاي بتعدد القصة. أما الحافظ في "الفتح" (4/68)، فقال: بعد أن عدد طرق الحديث وما جاء فيها -: والذي يظهر لي من مجموع الطرق أن السائل رجل وكانت بانته معه فسألت أيضًا، والمسئول عنه أبو الرجل وأمه جميعًا.... فقول الشابة: ((إن أبي)) لعلها أرادت به جدها)).اهـ.
(16) في (ب) و(م): ((قال الشيخ رحمه الله))، وفي (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(17) في (ح): ((قدمناه)).
(18) في (م): ((للأبوين)).
(19) ذكره القاضي في "الإكمال"(4/439) وقال: وقال آخرون: أو عن ذوي القرابة القريبة.اهـ. وذكر نحو القولين ابن عبد البر في "التمهيد" (9/135) عن سفيان الثوري .
(20) في (أ) و(ح) و(ز) و(ي): ((حيي)).
(21) في (ح) و(ي): ((على)).(3/443)
وبعضِ (1) السَّلفِ: لا يحجُّ أحدٌ عن أحدٍ، جملةً من غيرِ تفصيلٍ،، وحُكي مثلُه عن مالكٍ. وقال جمهورُ الفقهاءِ: يجوزُ أن يحجَّ عن الميتِ، عن فرضِه ونذرِه، وإن لم يُوص به (2) ، ويُجزئُ عنه. واختلف قولُ الشافعيِّ في الإجزاءِ عن الفرضِ. ومذهبُ مالكٍ، والليثِ، والحسنِ بن حيٍّ: أنه لا يحجُّ أحدٌ عن أحدٍ، إلا عن (3) ميتٍ لم يحجَّ حجةَ الإسلامِ، ولا ينوبُ عن فرضِه. قال مالكٌ: إذا أوصى به. وكذلك عندَه يُتطوَّعُ بالحجِّ عنِ الميتِ إذا أوصى به. وأجاز أبو حنيفة والثوريُّ وصيةَ الصحيحِ بالحجِّ عنه تطوُّعًا، وروُي مثلُه عن مالكٍ؟
وسببُ الخلافِ في هذه المسألِة: ما قد أشرنا إليه من معارضِة الظواهرِ بعضِها بعضًا، ومعارضةِ القياسِ لتلك الظواهرِ، واختلافِهَم في تصحيحِ حديثَيْ جابرٍ وابنِ عباسٍ:
فأما حديثُ جابرٍ (4) : فخرَّجه عبدُالرزاقِ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ بِالْحَجَّةِ الْوَاحِدَةِ ثَلَاثَةً الْجَنَّة: الْمَيِّتَ، وَالْحَاجَّ، وَالمُنْفِذَ (5) لِذَلِكَ))، في إسنادِه أبو (6) معشرٍ؛ نجيحٌ، وأكثرُ الناسِ يضعِّفُه، ومع ضعفِه يُكتبُ حديثُه.
وأما حديثُ ابنِ عباسٍ (7) : فخرَّجه أبو داودَ؛ قال فيه: سَمع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقولُ: لبيك (8) عن شبرمةَ. قال: ((مَنْ شُبْرُمَةُ؟)) قال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي. فقالَ: ((حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟)) قال: لا. قال: ((حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةُ)). عَلَّله بعضُهم بأنه قد رُوي موقوفًا، والذي أسنده ثقةٌ.
وقد (9) قال سفيانُ، والحسنُ بن عليٍّ: لا يَحجُّ في الوصيةِ بالحجِّ مَنْ لم يَحُجَّ عن نفِسه؛ أخذًا بحديثِ =(3/444)=@
__________
(1) في (م): ((بعض)).
(2) في (ح) و(ي): ((يفرض له)).
(3) قوله : ((عن)) سقط من (ز).
(4) أخرجه ابن عدي (7/54) من طريق عبدالرزاق ، عن أبي معشر ، عن محمد ابن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله ليدخل بالحجة الواحدة ثلاثًا - يعني : الجنة : الميت ، والحاج عنه ، والمنفذ له))يعني : الموصي.
وأخرجه ابن عدي (1/342) وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (2/367 رقم294)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/219) - من طريق ابن عدي - والحارث ابن أبي أسامة في "زوائده" (ص122 رقم352)؛ جميعهم من طريق إسحاق بن بشر الكاهلي ، عن أبي معشر ، به .
قال ابن الجوزي : ((هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمتهم به إسحاق ابن بشر ، وهو في عداد من يضع الحديث)).اهـ. لكن قد تابعه عبدالرزاق ، كما عند ابن عدي . لكن الحديث ضعيف لضعف أبي معشر . وضعفه البيهقي في "سننه" (5/180)، والألباني في "الضعيفة" (4/433-434 رقم1964)، وللحديث طرق أخرى، وكلها ضعيفة . [لابن عبد البر كلام على هذا الحديث "الاستذكار" (12/36)، هذا تعليق كتب بجانب الهامش]
(5) في (م): (والمتعد)).
(6) قوله : ((أبو)) سقط من (ز).
(7) أخرجه أبو داود (2/403 رقم1811) في المناسك ، باب الرجل يحج مع غيره ، وابن ماجه (2/969 رقم2903) في المناسك ، باب الحج عن الميت ، وابن الجارود (2/113-114 رقم499)، وأبو يعلى (4/329 رقم2440)، وابن خزيمة (4/345 رقم3039)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (6/375 رقم2547)، وابن حبان (9/299 رقم3988/الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (12/34 رقم12419)، والدارقطني (2/270)، والبيهقي (2/336) - جميعهم من طريق عبدة بن سليمان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فذكره .
قال البيهقي : ((هذا إسناد صحيح ليس في هذا الباب أصح منه)).
وقد توبع عبدة على رفعه : فأخرجه الدارقطني (2/270)، والبيهقي (4/336)، كلاهما من طريق أبي يوسف القاضي .
أخرجه الدارقطني (2/270) من طريق محمد بن بشر ، ومحمد بن عبدالله الأنصاري . ورواه بعضهم موقوفًا؛ فأخرجه الدارقطني (2/271) من طريق غندر ، والحسن بن صالح ، به .
قال البيهقي (4/336): ((ورواه غندر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، موقوفًا على ابن عباس ، ومن رواه مرفوعًا حافظ ثقة؛ فلا يضره خلاف من خالفه)).اهـ.
وقال الحافظ في "التلخيص الحبير" (2/223): ((وعبدة نفسه محتج به في "الصحيحين" وقد تابعه على رفعه محمد بن بشر ، ومحمد بن عبدالله الأنصاري ، وقال ابن معين : أثبت الناس في سعيد : عبدة)).اهـ.
وقال عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (2/327): ((علّله بعضهم بأنه روي موقوفًا، والذي أسنده ثقة فلا يضره)).اهـ.
وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/452): ((فأصحاب سعيد بن أبي عروبة يختلفون فيه ، فقوم منهم يجعلونه مرفوعًا؛ منهم : عبدة بن سليمان ، ومحمد بن بشر، والأنصاري ، وقوم يقفونه؛ منهم: غندر، وحسن بن صالح. والرافعون ثقات ، فلا يضرهم وقف الواقفين له؛ إما لأنهم حفظوا ما لم يحفظوا ، وإما لأن الواقفين رووا عن ابن عباس رأيه ، والرافعين رووا عنه روايته)).اهـ.
وقال الحافظ في "النكت الظراف" (4/429): ((وقال أبو داود في "المسائل": سألت أحمد، فقلت: حديث عزرة هذا ؟ فقال: صحيح ، وعزرة قديم السماع - يعني: من ابن أبي عروبة -، قال : فذكرته لأبي زرعة ؟ فقال : الحديث صحيح)).اهـ.
لكن قال الحافظ في "بلوغ المرام" (ص182رقم737): ((والراجح عند أحمد وقفه)).
وفي"مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح" (2/139-140) لما سئل عن حديث شبرمة قال : ((وقد بيّن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ((أحجج عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة)).اهـ.
ورجَّح بعضهم الوقف : قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (2/223): ((وأما الطحاوي فقال : الصحيح أنه موقوف ، وقال أحمد بن حنبل : رفعه خطأ ، وقال ابن المنذر : لا يثبت رفعه)).
وقد خولف ابن أبي عروبة في روايته؛ فأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (6/381)، والبيهقي (5/179-180). كلاهما من طريق ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن قتادة، أن سعيد بن جبير حدثه أن عبدالله بن عباس مرَّ به رجل ... فذكره موقوفًا .
قال المزي في "تحفة الأشراف" (4/430): (( وذلك معدود في أوهامه؛ فإن قتادة لم يلق سعيد بن جبير فيما قاله يحيى بن معين وغيره)).اهـ. وهذا خلاف ما ذهب إليه الطحاوي ، حيث حمل الوهم فيه على قتادة ، زاعمًا أن ذلك من قتادة لحذقه في التدليس وقد أعل الحديث بتدليس قتادة، فإنه لم يصرِّح بالسماع . وقد اختُلف في تسمية عزرة؛ حيث إنه لم يُنسب؛ فقال الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (6/378): وعزرة هذا هو عزرة بن تميم... وقال البيهقي (4/336): ((وعزرة هذا : هو عزرة بن يحيى))، وحكى عن أبي علي الحافظ ، قوله : ((وقد روى قتادة أيضًا عن عزرة بن تميم ، وعن عزرة بن عبدالرحمن)). فتعقبه ابن التركماني فقال : ((عزرة الذي روى عن سعيد بن جبير ، وروى عنه قتادة: هو عزرة بن عبدالرحمن الخزاعي ، كذا اذكره البخاري في "تاريخه"، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وصاحب الكمال، والمزي ، وليس في كتاب أبي داود واحد يقال له عزرة بن يحيى ، بل ولا في بقية الكتب الستة ، وترجم المزي في أطرافه لهذا الحديث فقال : عزرة بن عبدالرحمن، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وفي "تقييد المهمل" للغساني: وروى مسلم عن قتادة ، عن عزرة ، وهو عزرة بن عبدالرحمن الخزاعي ، عن سعيد بن جبير في كتاب اللباس ، قال البخاري : عزرة بن عبدالرحمن الخزاعي كوفي ، عن سعيد بن جبير، وسعيد بن عبدالرحمن بن أبزى ، سمع منه قتادة ، قال : وقال أحمد - يعني : ابن حنبل -: هو عزرة بن دينار الأعور ، قال : ولا أراه يصح. وذكر صاحب الإلمام هذا الحديث، ثم قال : رأيت في كتاب "التمييز" عن النسائي : عزرة الذي روى عنه قتادة: ليس بذاك القوي ...)) اهـ.
وقال الحافظ في "التهذيب" (3/98): ((وأما الحديث الذي روى أبو داود وابن ماجه من طريق عبدة بن سليمان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قصة شبرمة - فوقع عندهما ((عزرة)) غير منسوب ، وجزم البيهقي بأنه عزرة بن يحيى ، ونقل عن أبي علي النيسابوري أنه قال : روى قتادة أيضًا عن عزرة بن ثابت ، وعن عزرة بن عبد الرحمن ، وعن هذا ، فقتادة قد روى عن ثلاثة، كل منهم اسمه : عزرة ، فقول النسائي في "التمييز": ((عزرة الذي روى عنه قتادة ليس بذاك القوي)) لم يتعين في عزرة بن تميم ، كما ساقه المؤلف [أشار لها بسهم وقيل يفسر]، فليتفطن لذلك.اهـ. وانظر "حاشية تهذيب الكمال" (20/52).
وللحديث طرق أخرى : يرويه عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، واختلف عليه في وصله وإرساله : فأخرجه الدارقطني (2/268 و269) من طريق حبيب بن أبي ثابت، ومحمد بن عبد الرحمن، وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (6/383 رقم2549)، والدارقطني (2/269)؛ كلاهما من طريق أبي بكر بن عياش ، عن يعقوب بن عطاء .
وأخرجه الدارقطني (2/268و269) من طريق الحسن بن ذكوان ، والحسن بن دينار ، والحسن بن عمارة ، ثلاثتهم عن عمرو بن دينار . وأخرجه الطبراني في "الصغير" (1/377 رقم630) عن عبدالله بن سندة ، عن عبدالرحمن بن خالد الرقي ، عن يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار.
أربعتهم - حبيب بن أبي ثابت ، ومحمد بن عبدالرحمن ، ويعقوب بن عطاء ، وعمرو بن دينار - عن عطاء ، عن ابن عباس مرفوعًا . وقد صحح الألباني في "الإرواء" (4/172) طريق الطبراني ، وجعلها مما يقوي المرفوع .
وقد رواه بعضهم مرسلاً : أخرجه الشافعي في "الأم" (2/123) عن مسلم بن خالد الزنجي،، وسعيد بن منصور ، عن ابن عيينة ، كما في "تلخيص الحبير" (2/123).
كلاهما - مسلم بن خالد ، وابن عيينة - عن ابن جريج ، عن عطاء ، مرسلاً .
قال الحافظ في "التلخيص" (2/123): ((لكنه يقوي المرفوع ؛ لأنه من غير رجاله)).اهـ.
(8) في (ح) و(ي): ((لبيك اللهم)).
(9) قوله : ((قد)) سقط من (ب) و(م).(3/444)
شبرمةَ هذا. وقاله الشافعيُّ فيمن حَجَّ عن ميِّتٍ. وقال غيرُ (1) مَن ذُكر بجوازِ ذلك، وإن كان الأَولى هو الأولُ.
والجمهورُ على كراهيةِ الإجارةِ في الحجِّ (2) (3) ، وقال أبو حنيفة: لا تجوزُ. وقال مالكٌ والشافعيُّ - في أحدِ قوليه-: لا تجوزُ (4) ، فإن وقع مضى. وقال بعضُ أصحابِنا بجوازِ (5) ذلك ابتداءً.
و((الرَّوحاءُ)): موضعٌ معروفٌ من عمل الفُرْعِ، بينه وبين المدينة نحوُ الأربعين ميلاً. وفي كتاب مسلمٍ (6) : ستةٌ وثلاثون ميلاً. وفي كتابِ ابنِ أبي شيبةَ (7) : ثلاثون ميلاً.
و((الرَّكْبُ)): أصحابُ الإبلِ الرَّاكبون عليها.
وقولُهم (8) : ((مَنِ القومُ؟)) سؤالُ مَنْ لم يعلم مَن كانوا؛ إما لأنَّهم كانوا في ليلٍ، وإما لأن هؤلاء الركبَ (9) كانوا فيمن أسلم ولم يهاجِرْ (10) .
ورفعُ المرأةِ الصبيَّ؛ يدلُّ على صغرِه، وأنه لم يكنْ جَفْرًا (11) ، ولا مراهقًا؛ إذ لا ترفعُه غالبًا إلا وهو صغيرٌ. وفي "الموطأ" (12) : ((فأخذَتْ بضَبْعَيْ (13) صبيٍّ لها وهي (14) في محفَّتِها)). وفي غيره (15) : ((فأخرجتْه من محفَّتِها)). وهو حجةٌ للجمهورِ (16) في أن الصغيرَ يَنعقدُ (17) حجُّه، ويجتنبُ (18) ما يجتنبُه الكبيرُ (19) . وهو ردٌّ على قومٍ من أهلِ البدعِ منعوا حجَّ الصبيِّ، =(3/445)=@
__________
(1) في (ب): ((غيره)).
(2) في (ز): ((كراهية الإجازة في ذلك)).
(3) أشير بسهم وكتب غير واضح بسبب التصوير في (أ) يراجع الشيخ! في إثبات الفروق.
(4) في (أ): ((يجوز)).
(5) في (ي): ((يجوز)).
(6) (1/290 رقم388).
(7) في "مصنفه" (2373)، ومن طريقه أخرجه مسلم في "صحيحه".
في الموضع المشار إليه، مع اختلافهما في التحديد، قال الحافظ في "الفتح" (2/85): وحكى الأعمش عن أبي سفيان رواية عن جابر، أن بين المدينة والدوحاء ستة وثلاثن ميلاً؛ هذه رواية قتيبة عن جرير عند مسلم (ولفظها أن الأعمش سأل أبا سفيان عنها فأجاب بذلك))، وأخرجه (أي مسلم) عن إسحاق، عن جرير ولم يسق لفظه، ولفظ إسحاق في "مسنده": ((حتى يكون بالروحاء وهي ثلاثون ميلاً من المدينة)) فأدرجه في الخبر، والمعتمد رواية قتيبة)).
وقال القاضي في "المشارق" (1/305): ((بينه وبين المدينة نحو أربعين ميلا))، ثم ذكر ما عند مسلم وما عند ابن أبي شيبة ولم يرجح، وكذلك النووي في "تهذيب الأسماء والصفات" (3/132).
(8) كذا في جميع النسخ! والقائل السائل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما جاء في الحديث.
(9) في (ي): ((القوم))
(10) ؟؟؟.
(11) قال في "اللسان": الْجَفْر : الصبي إذا انتفخ لحمه ، وأكل ، وصار له كرش .
(12) (1/422 رقم244) في الحج ، باب جامع الحج. ولفظه، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة وهي في محفتها فقيل لها: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت بضبعي صبي كان معها...إلخ.
هذا كلام القاضي عياض في "الإكمال" (4/441) وفيه: وقد تقدم في حديث جابر (في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أنه أُذن في الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة خلق كثير ليأتموا به، فلعل هؤلاء ممن قدم فلم يلقوه إلا هناك ولذلك لم يعرفوه.
(13) الضَّبْع – بسكون الباء -: العضُد. ومنه الاضطباع، سمي بذلك لإداء أحد الضبعين. "الصحاح" (3/1247- 1248)، "المصباح" (ص185).
(14) في (ح): ((وهو)).
(15) أخرجه أبو داود (2/352-353 رقم1736) في المناسك ، باب في الصبي يحج. ولفظة؛ عن ابن عباس: ((... فقزعت امرأة فأخذا بعضد صبي فأخرجته من محفتها...)) إلخ.
(16) في (ح): ((الجمهور)).
(17) في (ز): ((ينقعه)).
(18) في (أ): ((ويجنب)).
(19) قوله : ((ما يجتنبه الكبير)) سقط من (ح).(3/445)
وعلى أبي حنيفةَ إذ يقولُ: لا ينعقدُ، وإنما هو عندَه من بابِ التمرين (1) ، ولا يلزمُ أن يجتنبَ (2) شيئا (3) يجتنبُه (4) المحرمُ.
وكلُّ من قال بصحةِ حجِّ الصغيرِ متفقون على أنه لا يجزئُه عن حجةِ الإسلامِ. وقد شذَّتْ فرقةٌ لا مبالاةَ بها، فقالت: يجزئُه عنها، وهو فاسدٌ (5) ؛ بدليلِ أن الصبيَّ لا يجبُ عليه حكمٌ شرعًا اتفاقًا.
وإنما الخلافُ: هل يُخاطَبون بخطابِ الندبِ من جهةِ الله تعالى؟ أو إنما المخاطَبُ أولياؤُهم بحملِهم (6) على آدابِ الشريعةِ، وتمرينِهم عليها، وأخذِهم بما يمكنُهم من أحكامِها في أنفسِهم وأموالِهم. وهذا هو المرتضى في (7) الأصولِ. ثم لا بُعدَ في أن الله تعالى يُثيبُهم على ما يَصدُرُ عنهم من أفعالِ البرِّ والخيرِ (8) ؛ فإن الثوابَ فضلِ الله تعالى يؤتيه من يشاءُ؛ وبهذا قال عمرُ بنُ الخطابِ (9) رضي الله عنه وكثيرٌ من العلماءِ؛ أعني: أنهم قالوا: إنهم يُثابون على طاعاتِهم (10) ، ولا يُعاقبون على سيئاتِهم.
واختلف العلماءُ في الصبيِّ إذا أحرم بالحجِّ ثم بلغ؛ فقال مالكٌ: لا يرفضُ إحرامَه، ويُتمُّ حجَّه، ولا يجزئُه عن حجِة الإسلامِ. وقال: إن استأنف الإحرامَ قبلَ الوقوفِ بعرفةَ أجزأه عنها. وقال أبو حنيفةَ: يلزمُه تجديدُ النيةِ للإحرامِ، ورفضُ الأولى (11) ؛ إذ لا يُتَركُ فرضٌ لنافلةٍ. وقال الشافعيُّ: يجزئُه، ولا يحتاجُ إلى تجديدِ نيَّةٍ.
والخلاف ُفي العبدِ يُحِرمُ ثم يَعْتِقُ كالخلافِ في الصبيِّ.
وقولُه: ((ولكِ أجرٌ))؛ يعني: فيما تكلفَّتْه (12) من أمرِه بالحجِّ (13) وتعليمِها إيَّاه (14) ، وتجنيبِها (15) إيَّاه ممنوعاتِ الإحرامِ. والله أعلمُ (16) . =(3/446)=@
__________
(1) وفائدة الخلاف – كما ذكر القاضي في "الإكمال" (4/442) -: إلزام الصبي من الفدية والدم والجبر ما يلزم الكبير، فمن يرى انعقاد حجهم يلزمه، ومن لا فلا.
(2) في (ب) و(م): ((يجنب)).
(3) سقط من (أ).
(4) في (ب) و(م): ((يجتنب)).
(5) قوله : ((وهو فاسد)) سقط من (ز).
(6) في (ب) و(ز): ((تحملهم)).
(7) في (ي): ((من)).
(8) في (ح) و(ي): ((أفعال الخير)).
(9) أخرجه ابن عبدالبر في "التمهيد" (1/106) من طريق حماد بن زيد ، ثنا يحيى البكاء، عن أبي العالية الرياحي، قال : قال عمر بن الخطاب : تكتب للصغير حسناته ، ولا تكتب عليه سيئاته .
(10) في (أ) و(ح): ((طاعتهم)).
(11) في (أ) و(ب) و(م): ((الأول)).
(12) في (ح): ((تكلفية)).
(13) قوله : ((بالحج)) سقط من (ب) و(ز) و(م).
(14) في (ب): ((أباه)). [شطب عليها في الهامش وبقيت في المتن]
(15) في (ح): ((وتحتيبها)).
(16) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/446)
ومن بابِ فَرْضِ الحجِّ مرةً في العمرِ
قولُه: ((قد (1) فرض عليكم الحجَّ فحجُّوا))؛ أي: أَوْجب وأَلْزم، وإن كان أصلُ الفرضِ: التقديرَ، كما قد (2) تقدم. ولا خلافَ في وجوبِه مرةً (3) في العمرِ على المستطيعِ، وقد تقدم الكلامُ على الاستطاعةِ (4) .
وقولُ السائلِ: ((أكلَّ عامٍ؟)) سؤالُ مَنْ تردَّد في فهمِ قولِه: ((فحجوا)) بين التَّكرارِ والمرةِ الواحدةِ (5) ، وكأنه (6) عندَه مجملٌ، فاستفصل، فأجابه بقولِه: ((لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ؟ لَوَجَبَتْ))؛ أي: لوجبت (7) المسألةُ، أو الحجةُ في كلِّ عام (8) ، بحكمِ ترتيبِ الجوابِ على السؤالِ.
وقولُه: ((ولما استطعتم))؛ أي: لا تُطيقون ذلك؛ لثِقَلِه ومشقتِه على القريبِ، ولتعذُّرِه على البعيدِ.
وقوله: ((ذروني ما تركتُكم))؛ يعني: لا تكُثروا من الاستفصالِ عن المواضعِ التي تكونُ مقيَّدةً (9) بوجهٍ ما ظاهرٍ وإن كانت صالحةً لغيرِه. وبيانُ ذلك: أن قولَه: ((فحجوا)) وإن كان صالِحًا للتكرارِ، فينبغي أن يكتفى بما يَصْدَقُ =(3/447)=@
__________
(1) سقط من (ي). والرواية في "الصحيح" و"التلخيص": ((قد فرض الله...)).
(2) ((قد)) من (أ) فقط. وتقدم الكلام على ((الفرض)) في...
(3) سقط من (ي).
(4) في الباب السابق.
(5) اختلف في الأمر المطلق هل يفيد التكرار أو لا، على ثلاثة أقوال: الأول: لا يفيد التكرار؛ بل يفيد طلبا الماهية من غير إشعار بقلة أو كثرة، ويكتفي بالمرة الواحدة في حصول المطلوب.
وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين، وصححه النووي عند أصحاب الشافعين. وهو رواية عن أحمد، وهو قول الإسفراينيي ، وحكى عن أبي حنيفة، وعامة المالكية.
الثاني: أنه يفيد التكرار. وهو رواية عن أحمد واختارها أكثرأصحابه.
الثالث: التوقف فيما زاد على المرة. واختاره إمام الحرمين.
ينظر تفصيلاً في "المحصول" لابن العربي (ص58- 59)، و"المحصول" للرازي (2/98- 107)، و "تقريب الوصول" مع تحقيقه لـ د/محمد المختار الشنقيطي (ص184- 185)، "أصول السرخسي" (1/38- 43)، و"المسودة" (1/110- 115)، و"البحر المحيط" (2/117- 120)، و"معالم السنن" (2/275- 277).
(6) في (م): ((وكان)) .
(7) قوله : ((أي لوجبت)) سقط من (ب) و(ز) و(م).
(8) قوله : ((في كل عام)) سقط من (ح) و(ي).
(9) في (م): ((مفيدة)).(3/447)
عليه اللفظُ، وهو المرةُ الواحدةُ؛ فإنها مدلولةٌ للَّفظِ (1) قطعًا، وما زاد عليها يُتغافلُ عنه (2) ، ولا يُكثرُ السؤالُ فيه (3) ، لإمكانِ أن يكثرَ الجوابُ المترتبُ عليه. فيضاهي ذلك قصةَ بقرةِ بني إسرائيلَ التي (4) قيل لهم فيها: ((اذبحوا بقرةً)). فلو اقتصروا على ما يصدقُ عليه اللفظُ، وبادروا إلى ذبحِ بقرةٍ - أيَّ بقرةٍ (5) كانت - لكانوا ممتثلين، لكن لما أكثروا السُّؤالَ كثر عليهم الجوابُ، فشدَّدوا، فَشُدِّد عليهم (6) ؛ وذُمُّوا (7) على ذلك؛ فخاف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ (8) هذا على أمتِه؛ ولذلك قال: ((فَإِنَّمَا (9) هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ))، وعلى هذا يحملُ قولُه: ((فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ))؛ يعني: بشيءٍ مطلقٍ؛ كما إذا قال: ((صُمْ))، أو ((صلِّ))، أو ((تصدَّقْ))، فيكفي من ذلك أقل ما ينطلقُ عليه الاسمُ؛ فيصومُ يومًا، ويصلِّي ركعتين، ويتصدَّقُ بشيءٍ يُتصدَّقُ بمثله. فإن قيَّد شيئًا من ذلك بقيودٍ، ووصفه بأوصافٍ، لم يكن بدٌّ من امتثالِ أمرهِ على ما فصَّل وقيَّد (10) ، وإن كان فيه أشدُّ المشقَّاتِ وأشقُّ التكاليفِ. وهذا مما لا يختلفُ فيه - إن شاء الله تعالى - أنه هو المرادُ بالحديثِ.
وقولُه: ((وإذا نهيتُكم عن شيءٍ فدعوه))؛ يعني: أن النهيَ على نقيضِ الأمرِ (11) ؛ وذلك: أنه (12) لا يكونُ ممتثلاً لمقتضى (13) النهي حتى لا يفعلَ واحدًا من آحادِ ما تناولَه (14) النهيُ، ومتى (15) فعل واحدًا فقد خالف وعصى، فليس في النهيِ إلا تركُ ما نُهي عنه مطلقًا (16) دائمًا، وحينئذٍ يكونُ ممتثلاً لتركِ ما أُمر بتركِه، بخلافِ الأمرِ، على ما تقدَّم. وهذا الأصلُ إذا فُهم هو مسألةُ (17) مطلقِ الأمرِ: هل يحملُ على الفورِ أو التراخِي، أو على المرةِ الواحدةِ أو على التكرار؟
وفي هذا الحديثِ أبوابٌ من الفقهِ لا تخفى. والله أعلمُ (18) =(3/448)=@
__________
(1) في (أ): ((اللفظ)).
(2) قال المازري في "المعلم" بعد أن ذكر أن السائل قد يكون احتمل الأمر عنده التكرار أو الاكتفاء بالمرة الواحدة -: ويصح أن يكون إنما احتمل عنده من جه آخر؛ وهو ذلك أن ((الحج)) في اللغة قصد فيه تكرير؛ فيكون احتمل عنده التكرير من جهة اشتقاق اللفظ وما يقتضيه من التكرار. وقد تعلق بما ذكرنا عن أهل اللغة ههنا، من قال بإيجاب العمرة؛ وقال: كما كان قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} يقضتي على حكم الاشتقاق التكرر، واتفق على أن الحج لا يلزم إلا مرة واحدة – كانت العودة إلى البيت تقتضي أن تكون في عمرة حتى يحصل التردد إلى البيت كما اقتضاه الاشتقاق.اهـ.
قلت: في "المشارق" (1/181)، و"اللسان" (2/227): أن الحج: الإيتان مرة بعد أخرى. قال الماوردي في "الحاوي" (4/3): فسمي الحج حجا؛ لأن الحا ج يأتي إليه (أي: إلى البيت) قبل الوقوف بعرفة، ثم يعدد إليه لطواف الإقامة، ثم ينصرف إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصدر، فيتكرر العود إليه مرة بعد أخرى، فقيل هل: حج.اهـ.
فلا يلزم إذن لتحقيق مقتضى الاشتقاق منه التكرار: القول بإيجاب العمرة!
(3) في (م): ((منه)).
(4) في (ح) و(ي): ((الذي)).
(5) قوله : ((أي بقرة)) سقط من (ز).
(6) سقط من (ز).
(7) في (ب) و(ز) و(م): ((فذموا)).
(8) قوله : ((مثل)) سقط من (ز).
(9) في (ي): ((وإنما)).
(10) قوله: ((ما فصل وقيد)) في (ي): ((ما وقيد)).
(11) في (ح): ((الأمور)).
(12) قوله: ((أنه)) سقط في (ز).
ذكر الحافظ في "الفتح" نحو كلام الشارح هنا – بكثير من ألفاظه – من أول قوله: ((ذروني ما تركتكم)) عن ابن فرج. يراجع من هو!
(13) في (ب) و(ز) و(م): ((بمقتضى)).
(14) في (ح): ((يتناوله))، وفي (م): ((يتاوله)).
(15) في (ح): ((ومن)).
(16) غير مقروءة في (ح).
(17) قوله: ((هو مسألة)) في (أ): ((هو من مسألة))، وفي (ح) و(ي): ((هو ومسألة)).
(18) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/448)
ومن باب ما جاء (1) أن الْمَحْرَمَ من الاستطاعة
ظواهرُ أحاديثِ هذا البابِ متواردةٌ على أنه لا يجوزُ للمرأةِ أن تسافرَ سفرًا طويلاً إلا ومعها ذو محرمٍ منها، أو زوجٌ (2) . وسيأتي القولُ في أقلِّ السفرِ الطويلِ (3) ، وقد مرَّ منه طرفٌ في (4) كتابِ الصلاةِ.
فيلزمُ من (5) هذه الأحاديثِ أن يكون الْمَحْرمُ (6) شرطًا في وجوبِ الحجِّ على المرأةِ لهذه الظواهرِ (7) ؛ وقد رُوي ذلك عن النخعيِّ، والحسنِ، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ، وأصحابُ الرأيِ، وفقهاءِ أصحابِ الحديثِ.
وذهب عطاءٌ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ، وابنُ سيرينَ، والأوزاعيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ إلى أن ذلك ليس بشرطٍ، وروي مثلُه عن عائشةَ، رضي الله عنها. لكنَّ الشافعيَّ (8) - في أحدِ قوليه - يَشْترِطُ أن يكونَ معها نساءٌ أو امرأةٌ ثقة مسلمةٌ،، وهو ظاهرُ قولِ مالكٍ على اختلافٍ في تأويلِ قولِه: ((تخرجُ مع رجالٍ ونساءٍ (9) )) هل بمجموعِ ذلك، أم في جماعةٍ من أحد الجنسين؟ وأكثرُ ما نقلَه عنه أصحابُنا (10) : اشتراطُ النساءِ (11) .
وسببُ هذا الخلافِ (12) مخالفةُ ظواهرِ هذه الأحاديثِ لظاهرِ قولِه تعالى: {ولله على الناس حجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً} (13) ؛ وذلك أن قوله: {من استطاع} ظاهرهُ الاستطاعةُ بالبَدَنِ (14) ، كما قررناه آنفًا (15) ، فيجبُ على كلِّ (16) مَنْ كان قادرًا عليه ببدنِه، ومن (17) لم تجدْ محرمًا قادرةٌ ببدنِها؛ فيجبُ عليها. فلما تعارضتْ هذه الظواهرُ؛ اختلف العلماءُ في تأويلِ ذلك:
فجمع أبو حنيفة ومن قال بقولِه بينهما؛ بأن جعلَ الحديثَ مبيِّنًا (18) للاستطاعِة (19) في حقِّ المرأةِ. ورأى مالكٌ ومن =(3/449)=@
__________
(1) بعده في (أ): ((في)).
(2) قوله: ((أو زوج)) سقط في (أ).
(3) ما سيأتي في هذا الباب أحال فيه الشارح على ما مر في كتاب الصلاة باب ما جاء في قصر الصلاة في السفر!
(4) في (ح): ((من)).
(5) في (ز): ((في)).
(6) قوله : ((المحرم)) سقط من (ز).
(7) في (ز): ((بهذا الظاهر))، وفي (أ) و(ي): ((بهذه الظواهر)) وفي (ح): ((هذه الظواهر)).
(8) زاد بعده في (ب) و(م): ((قال)).
(9) في (ب) و(ح) و(أ) و(ي): ((أو نساء)). وانظر: "الإكمال" (4/446).
(10) في (أ) و(ح) و(ي): ((أصحابنا عنه)).
(11) قال مالك في "الموطأ" (1/425): ((... إن لم يكن لها ذو محرم يخرج معها، أو كان لها فلم يستطع أن يخرج معها، أنها لا تترك فريضة الله عليها في الحج، لتخرج في جماعة النساء)). وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (13/368) بعد أن حكى مذهب مالك وقوله هذا -: ((ولم يختلف فيه عنه ولا عن أصحابه)). وما ذكره الشارح هنا ذكره القاضي في "الإكمال" (4/441).
(12) قوله: ((وسبب هذا الخلاف)) في (ب) و(م): ((وسبب الخلاف))، وفي (ي): ((وسبب هذه وسبب هذا الخلاف)).
(13) سورة آل عمران؛ الآية: 97.
(14) في (ح) و(ي): ((في البدن)).
(15) في باب الحج عن المعضوب والصبي، الباب قبل السابق.
(16) سقط من (ي).
(17) في (ي): ((وإن)).
(18) قوله : ((الحديث مبينًا)) سقط من (ح).
(19) في (ح): ((الاستطاعة)).(3/449)
قال بقولِه أن الاستطاعة بيِّنةٌ بنفسِها (1) في حقِّ الرجالِ والنساءِ، وأن الأحاديثَ المذكورةَ في هذا لم تتعرضْ (2) للأسفارِ الواجبةِ (3) ؛ ألا ترى أنه قد اتفق على أنها (4) يجبُ عليها أن تسافرَ مع غيرِ ذي محرمٍ إذا (5) خافت على دينِها ونفسِها، وتُهاجرَ من دارِ الكفرِ كذلك (6) ؛ ولذلك (7) لم يُختلفْ في أنها ليس لها أن تسافرُ سفرًا غيرَ واجبٍ مع غيرِ ذي محرمٍ، أو زوجٍ، ويمكنُ أن يقالَ: إن المنعَ في هذه الأحاديثِ إنما خرج لما يؤدِّي إليه من الخلوةِ وانكشافِ عوراتهِنَّ غالبًا، فإذا أمن ذلك بحيث يكون في (8) الرفقة نساء تنحاش إليهن جاز، كما قاله الشافعي، ومالك. وأما مع الرِّجال المأمونين ففيه إشكال؛ لأنه مظنة الخلوة، وكشف العورة. وقد أقام الشرع المظنة مقام العفة في غير ما موضع (9) . والله تعالى أعلم.
وقولُه (10) : ((لا يحل لامرأةٍ)) هو على العمومِ لجميعِ (11) المؤمناتِ؛ لأن ((امرأة)) نكرةٌ في سياقِ النفيِ؛ فتدخلُ (12) فيها (13) الشابةُ والمتجالَّةُ (14) ، وهو قولُ الكافِة. وقال بعضُ أصحابِنا: تخرجُ منه المتجالَّةُ (15) ؛ إذ حالُها (16) كحالِ الرجلِ في كثيرٍ من أمورِها (17) . وفيه بُعدٌ؛ لأن الخلوةَ بها تحرمُ، وما لا يطلعُ عليه من جسدِها غالبًا عورةٌ، فالمظنةُ (18) موجودةٌ فيها، والعمومُ صالحٌ لها؛ فينبغي ألا تخرج (19) منه. والله تعالى أعلمُ.
وقولُه: ((مسيرة (20) ثلاثٍ))، أو((يومين))، أو ((يومٍ وليلةٍ)) لا يُتوهَّمُ منه أنه (21) اضطرابٌ، أو تناقضٌ؛ فإن الرواةَ لهذه الألفاظِ من الصحابةِ مختلفون؛ فروى (22) بعضٌ ما لم يَرْوِ بعضٌ، وكلُّ ذلك قاله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أوقاتٍ مختلفةٍ بحسبِ ما سُئل عنه (23) . =(3/450)=@
__________
(1) في (ز): ((في نفسها)).
(2) في (ز) و(ي): ((يتعرض)).
(3) في (ز): ((الواجب)).
(4) في (ز): ((أنه)).
(5) في (ح): ((أو إذا)).
(6) قوله : ((كذلك)) سقط من (ح) و(ي).
(7) كذا في النسخ، وأكثر ناسخي هذه النسخ يلتزم كتابه الكاف صريحة، والصواب: ((وكذلك))؛ لأنه يحكي الاتفاق وعدم الاختلاف في منعها من السفر غير الواجب، دون محرم، ووجوبه – إذا وجب – ولو دون محرمٍ.
وقد نقل النووي في "شرح مسلم" (9/104) نحو عبارة الشارح عن القاضي، لكنها ليست نص ما "الإكمال" (4/445- 446)!
وقد حكى النووي قبل ذكر كلام القاضي اختلاف أصحابهم الشافعيين في سفر المرأة بغير محرم في الأسفار غير الواجبة.
(8) في (ح): ((من)).
(9) قد يقام السبب (أو المظنة) مقام العلة عند تعذر الإطلاع على حقيقة العلة؛ تيسيرا لأمرر على المكلف، ويسقط معه اعتبار العلة، ويدار الحكم على السبب، وهو أقسام:
القسم الأول: أن تكون العلة خفيفة؛ فلا سبيل إلى تعليق الحكم بها فيعلق بسببها، وهو نوعان: أحدهما: أن يكون دليلاً عليها كالعدالة مع الصدق والأبوة في التملك والولاية وعدم القصاص؛ فهنا يعمل بدليل العلة ما لم يعارضه أقوى منه. الثاني: أن يكون حصولها معه ممكنًا؛ كالحدث مع النوم، والوطء في الخلوة الصحيحة.
القسم الثاني: أن تكون ظاهرة في الجملة لكن الحكم لا يتعلق بنوعها وإنما يتعلق بمقدار مخصوص منها وهو غير منضبط؛ كالمشقة مع السفر، والعقل مع البلوغ؛ فإن العقل الذي يحصل به التكليف غير منضبط لنا وكذلك المشقة التي يحصل معها الضرر.
القسم الثالث: أن تكون ظاهرة منضبطة، لكن قد تخفى؛ مثل الإيلاج مع الإنزال، واللمس مع اللذة.
فأما إمساك الخمر إلى ثلاث وتحريم الخليطين والانتباذ في الأوعية، فقد يقال: هو من هذا القسم، وقد يقال: هو من القسم الأول؛ لخفاء مبادئ الإسكار.
ينظر "المسودة" (2/789- 790)، "أصول الشاشي" (1/359- 361).
(10) في (ح) و(ز): ((قوله)).
(11) في (ح): ((جميع)).
(12) في (ز): ((فيدخل)).
(13) سقط من (ح)، وفي (أ) و(ز) و(ي): ((فيه)).
(14) أي : التي كبرت وأسنَّت. [شطب هذا الهامش ولم يشطب من المتن].
(15) من قوله: ((وهو قول الكافة...)) إلى هنا، سقط من (م).
(16) قوله: ((غذ حالها)) في (ز): ((إدخالها)).
(17) نقل هذا الرأي النووي في "شرح مسلم" (9/104) ذكر أن القاضي عياض نسبه إلى الباجي، وكذلك نقله الحافظ في "الفتح" (4/76) وذكر أن ابن دقيق العيد نسبه إلى الباجي. وعبارة "الإكمال" (4/446) ظاهرة في أن هذا الكلام ليس للباجي وإنما هو لـ((غيره))؛ فقد ذكره بعد أن نقل عن الباجي في "المنتقى" (3/82) قوله: وهذا عندي في الانفراد والعدد اليسير، فأما في القوافل العظيمة فهي عندي كالبلاد يصح سفرها دون نساء وذوي محارم)) قال القاضي: قال غيره: وهذا في الشابة فأما المتجالة...))إلخ.
وكذلك عبارة ابن دقيق العيد في "الإحكام" (ص452- 453) ليس فيها تصريح بأنه الباجي – كما نقله الحافظ – وإنما فيها أن هذا قوله ((بعض المالكية)) ثم عبر عنه بقوله: ((أولماكي))، وفي "التاج والإكليل" (2/521) نسبة هذا القول بنصه تقريبا إلى ابن الحكم (ت268هـ).
(18) في (ب) و(م): ((والمظنة)). وفي (ي): ((بالمظنة)) غير منقوطة الباء.
(19) في (م): ((يخرج)).
(20) في (ب): ((ميسرة)).
(21) .
(22) في (أ) و(ح) و(ز) و(ي): ((روى)).
(23) ونحو ذلك وزيادة ذكر القاضي في "الإكمال" (4/447)، قال: وهذا كله ليس يتنافر ولا يختلف، فيكون عليه السلام منع من ثلاث ومن يومين ومن يوم، أو يوم وليلة وهو أقلها. وقد يكون قوله عليه السلام هذا في مواطن مختلفة ونوازل متفرقة، فحدث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهدهن وإن حدث بها واحد فحدث مرات بها على اختلاف ما سمعها. وقد يمكن أن يلفق بينها بأن اليوم المذكور مفردًا والليلة المذكورة مفردة بمعنى اليوم والليلة المجموعين؛ لأن اليوم من الليل من اليوم، ويكون ذكره ((يومين)) مدة مغيبها في هذا السفر في السير والرجوع، فأشار مرة بمسافة السفر ومرة بمدة المغيب، وهكذا ذكر الثلاث؛ فقد يكون اليوم الوسط بين السير والرجوع الذي تقضى فيه حاجتها بحيث سافرت له فتتفق على هذا الأحاديث، وقد يكون هذا كله تمثيلا لأقل الأعداد إذ الواحد أو العدد وأقله، والاثنان أول التكثير وأقله، والثلاث أول الجمع، فكأنه أشار أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر فيه مع غير ذي محرم.اهـ.
وذكر النووي (9/103) عن البيهقي: كأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المرأة تسافر ثلاثًا بغير محرم فقال: لا، وسئل عن سفرها يومين محرم، فقال: لا، وسئل عن سفرها يومًا، فقال: لا... وكله صحيح وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع لعيه اسم السفر... فالحاصل أن كل ما يسمى سفرًا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم.اهـ. وانظر: "فتح الباري" (4/75).(3/450)
وأيضًا فإن كلَّ (1) ما دون الثلاثِ داخلٌ في الثلاثِ، فيصحُّ أن يعيِّنَ بعضها، ويحكُمَ عليها بحكمِ جميعِها، فينصَّ تارةً على الثلاثِ (2) وتارةً على أقلَّ منها؛ لأنه داخلٌ فيها. وقد تقدَّم الخلافُ في أقلِّ مدةِ السفرِ في بابِ القصرِ (3) .
وقولُه: ((إلا ومعها ذو محرمٍ منها)) هذا يعمُّ ذوي (4) المحارمِ، سواءٌ (5) كان بالصهرِ (6) ، أو بالقرابِة، وهو قولُ الجمهورِ، غير أن مالكًا قد (7) كره سفرَ (8) المرأةِ مع ابنِ زوجِها؛ قال: وذلك لفسادِ الناسِ بعدُ (9) .
وقولُه: ((لا تشدُ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ))؛ يعني: لا يسافرُ (10) لمسجدٍ لفعلِ قُربةٍ (11) فيه (12) إلا إلى هذه المساجدِ؛ لأفضليتِها وشرفيتِها (13) على غيرِها من المساجدِ. ولا خلاف في أن هذه المساجدَ الثلاثةَ أفضلُ من سائرِ المساجدِ كلِّها. ومقتضى هذا النهي أن مَنْ نذر المشيَ أو المضيَّ إلى مسجدٍ من سائرِ المساجدِ للصلاةِ فيه، ما عدَا هذه الثلاثةَ، وكان منه على مسافةٍ يحتاجُ فيها إلى إِعمالِ الْمَطِيِّ، وشدِّ رحالِها (14) -: لم يلزمْه ذلك؛ إلا أن يكونَ نذر مسجدًا من هذه المساجدِ الثلاثِة. وقد ألحق محمدُ بنُ مسلمةَ مسجدَ قِباءٍ بهذه (15) المساجدِ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى (16) . =(3/451)=@
__________
(1) سقط من (ب) و(م).
(2) في (م): ((الثلاثة)).
(3) في كتاب الصلاة، باب: ما جاء في قصر الصلاة في السفر.
(4) في (ز): ((ذو)).
(5) في (م): ((سوى)).
(6) في (ز): ((بالصهرية))، وفي (ح): ((بالصغر)).
(7) سقط من (ب) و(ز) و(م).
(8) في (ز): ((سير)).
(9) في (ز): ((بعيد)).
وظاهر هذه العبارة أن هذا التعليل من كلام مالك – رحمه الله-، لكنه تعليل القاضي عيضا وغيره، وعبارته في "الإكمال" (4/448): وكراهة مالك سفرها مع ابن زوجها وإن كان ذا محرم منها، فإنما ذلك لفساد الناس بعدُ (أي: بعد العصر الأول؛ كما شي شرح النووي 9/105) وأن المحرمية منهم في هذا ليست في المراعاة كمحرمية النسب...)) وذكر الباجي في "المنتقى" (3/82) علة ذلك قائلاً: ووجه ذلك عندي ما ثبت للربائب من العدوان وقلة المراعاة في الأغلب، فلا يحصل لها فيه الإشفاق والستر والحرص على طيب الذكر)).اهـ.
وفي "مواهب الجليل" (2/521):
((لكن كره مالك سفرها مع ربيبها أما لفساد الزمان لضعف مدرك التحريم عند بعضهم؛ وعلى هذا فيلحق به محارم محرم الصهر والرضاع. وأما لما بينهما من العداوة فسفرها معه تعريض لضيعتها وهذا هو الظاهر....
وما ذكره عن مالك يفهم منه أنه كرهه مطلقا وليس كذلك إنما كرهه إذا كان أبوه قد طلقها وتزوجت بعده ونصه: وسئل مالك عن سفر الرجل بامرأة أبيه أتراه ذا محرم فقال قال الله سبحانه: {أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] فأتم الآية، وقال: هؤلاء ذو المحرم فأما الرجل يكون أبوه قد طلق المرأة وتزوجت أزواجًا يريد أن يسافر معها فلا أحب ذلك. قال ابن القاسم: وما يعجبني أن يسافر بها فارقها أبوه أو لم يفارقها... ابن رشد: احتجاج مالك بالآية يدل على أنه حمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها)) على عمومه في جميع المحارم من نسب أو رضاع، وكراهيته أن يسافر بها إذا كان أبوه قد طلقها وتزوجت الأزواج، استحسان مخافة الفتنة عليه إذ ليست في تلك الحال زوجة لأبيه)).اهـ.
(10) في (ب) و(م): ((تسافر)).
(11) قوله: ((لفعل قربة)) سقط من (أ).
(12) سقط من (أ) و(ب) و(م).
(13) في (ب) و(م): ((وشرفها))، وفي (ح): ((شرفيتها)).
(14) في (ب): ((زحالها)).
(15) في (ي): ((هذه)).
(16) في باب فضل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(3/451)
فصار شدُّ الرِّحالِ في هذا الحديثِ عبارةً عن السفرِ البعيدِ. فأمَّا لو كان المسجدُ قريبًا منه لزمه المضيُّ إليه (1) إذا نذر الصلاةَ فيه؛ إذ لم يتناولْه هذا النَّهيُ (2) . وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ وتفريعٍ.
وقولُه (3) : ((مسيرة يوم))، أو ((ليلة)) (4) ؛ لما كان ذِكرُ أحدِهما يدلُّ على الآخرِ ويستلزمُه؛ اكتفى بذكِر أحدِهما عن الآخرِ، وقد جمعهما في الروايةِ الأخرى؛ حيث قال: ((يوم وليلة))، والرواياتُ يُفسِّرُ (5) بعضُها بعضًا. وقد وقع في بعضِ الرواياتِ: ((لا تسافرُ امرأةٌ (6) إلا مع ذي محرم))، ولم يذكرْ مدةً؛ فيقتضي بحكمِ إطلاقِه منعَ السَّفرِ قصيرِه وطويلِه.
وقولُه: ((لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة))؛ عامٌّ في المتجالاَّتِ وغيرِهن، وفي الشيوخِ وغيرِهم، وقد اتقى بعضُ السَّلفِ الخلوةَ بالبهيمةِ؛ وقال: ((شيطانٌ مُغْوٍ (7) وأنثى حاضرةٌ)) أو كلامًا هذا معناه. =(3/452)=@
__________
(1) قوله : ((إليه)) سقط من (ز).
(2) حكاه في "الإكمال" (4/449) عن الداودي، واستنبطه الداودي من إتيان النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد قباء.
(3) من قوله: ((وسيأتي لهذا...)) إلى هنا، كتب مكانه في (ي): ((من نذر المشي أو المضي إلى مسجد من سائر الناس)).
(4) يعني قوله في الرواية الأخرى: ((مسيرة ليلة)). وانظر الحديث في "التلخيص".
(5) في (أ): ((تفسر)).
(6) قوله : ((امرأة)) سقط من (ز).
(7) في (ي): ((مغر)).(3/452)
وقولُ الرجلِ: ((إني اكْتُتبت (1) في غزوةِ كذا))؛ أي: أُلزْمتُ وأثبتُّ اسمي في ديوانِ ذلك البعثِ.
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - للرجلِ (2) : ((انطلقْ فحجَّ مع امرأتِك)) هو (3) فسخٌ لما كان التزم (4) من المضيِّ للجهادِ. ويدلُّ على تأكُّدِ أمرِ صيانةِ النساءِ في الأسفارِ، وعلى أن الزوجَ أحقُّ بالسفرِ مع زوجتِه من ذوي رحمِها؛ ألا ترى أنه لم يسألْهُ: هل (5) لها (6) محرمٌ أم لا؟ ولأن الزوجَ يطلَّعُ من الزوجة (7) على ما لا يطَّلعُ منها ذو المحرمِ؛ فكان أولى؛ فإذن قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث: ((إلا ومعها ذو محرمٍ)) إنما خرج خطابًا لمن لا زوجَ لها. والله تعالى أعلم (8) .
ومِنْ بابِ ما يقالُ عندَ الخروجِ إلى السفرِ وعندَ الرجوعِ
{سَخَّر} ذلَّل ومكَّن.{مقرنين}: مُطيقين؛ قاله ابنُ عباسٍ (9) ؛ قال الشاعرُ:
لَقَدْ عَلِمَ القَبَائلُ مَا (10) عُقّيْلٌ ... لَنَا في النَّائِباتِ بِمُقْرنِينَا (11)
أي: بمطيقينَ (12) . وقال الأخفشُ: ضابطين. وقال قتادة: مماثلين؛ من (13) القِرْنِ (14) =(3/453)=@
__________
(1) في (ي): ((اكتت)).
(2) سقط من (ي).
(3) في (ي): ((وهو)).
(4) في (ب) و(م): ((ألزم)).
(5) قوله : ((هل)) سقط من (ز).
(6) في (ب) و(م): ((له)).
(7) في (ز): ((الزجة)).
(8) قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/115) بعد ذكر الحديث: فدل على أنها لا ينبغي لها أن تحج إلا به، ولولا ذلك لقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((وما حاجتها إليك؛ لأنها تخرج مع المسلمين... ففي ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمره بذلك وأمره أن يحج معها، دليل على أنها لا يصلح لها الحج إلا به.اهـ.
وقال في "الفتح" (4/77) أخذ بظاهر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بعض أهل العلم فأوجب على الزوج السفر مع امرأته إذا لم يكن لها غيره وبه قال أحمد، وهو وجه للشافعية، والمشهور أنه لا يلزم كالولي في الحج عن المريض.اهـ.
(9) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (21/576) عن علي ، عن أبي صالح ، عن معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس { وما كنا له مقرنين }، يقول : مطيقين . وسنده ضعيف . وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (7/369)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم .
(10) في (أ): ((من)).
(11) البيت من بحر الوافر، وهو لعمرو بن معد يكرب، وليس في "ديوانه" و((عُقيل)) قبيلة. والشاهد فيه قوله: ((بمقرنينا)) أي: ليسوا بمطيقين لنا وليس لهم من القوة ما يماثل قوتنا. والبيت نسبه لعمرو بن معد يكرب. والقرطبي في "تفسيره" (16/59)، وأبو حيان في "البحر المحيط" (8/9)، والسمين الحلبي في "الدر المصون" (9/577)، وابن عادل في "اللباب" (17/238).
(12) في (م): ((بمطيقينا)).
(13) في (م): ((في)).
(14) في (ز): ((القران)).(3/453)
في القتالِ؛ وهو الِمثْلُ. ويحتملُ أن يكونَ من المقارنةِ؛ أي: الملازمِة. و{منقلبون}: راجعون؛ تنبيهًا على المطالبةِ بالشكرِ على ما أنعم، وعلى العدلِ فيما سخَّر.
((البِرُّ)): العملُ الصالُح، والخلُقُ الحسنُ. و((التقوى)): الخوفُ الحاملُ على التحرُّزِ من المكروهِ.
((الصاحبُ))؛ أي: أنت الصاحبُ (1) الذي تصحبُنا (2) بحفظِكَ ورعايتِكَ. و((الخليفةُ))؛ أي (3) : الذي تخلُفنا (4) في أهلينا بإصلاحِ (5) أحوالِهم بعدَ مغيبِنا عنهم (6) ، وانقطاعِ نظرِنا عنهم (7) . ولا يسمَّى الله تعالى بـ((الصاحبِ))، ولا بـ((الخليفةِ)) (8) ؛ لعدمِ الإذنِ، وعدمِ تَكرارِهما في الشريعةِ.
و((أعوذ)): أستجيرُ. و((وعثاءُ السفرِ)): مشقتُه وشدتُه؛ وأصلُه من الوَعْثِ: وهو الوَحَلُ، والدَّهْسُ (9) . و((كآبةُ المنظرِ))؛ أي: حُزْنَ المَرْأى، وما يسوءُ منه. و((المنقلَبُ)): الانقلابُ (10) ، وهو مصدرُ ((انقلب)) مَزِيدًا (11) . ((آيبون)): جمعُ ((آيبٍ))، وهو الراجعُ بالخيرِ هنا (12) .
و((تائبون)): جمعُ ((تائبٍ)) من الذنب، وأصلُ التوبةِ الرجوعُ (13) ؛ وكذلك حدَّها بعضُ أئمتِنا بأن قال: ((التوبةُ: هي الرجوعُ (14) عمَّا هو مذمومٌ شرعًا إلى ما هو محمودٌ شرعًا)). وسيأتي القولُ فيها إن شاء الله تعالى (15) . وقد تقدَّم القول في (16) ذنوبِ الأنبياءِ صلواتُ الله وسلامُه عليهم (17) .
((عابدون)):خاضعون متذلِّلون. ((حامدون)): مُثْنُونَ عليه بصفاتِ كمالِه =(3/454)=@
__________
(1) قوله : ((الصاحب)) سقط من (ح) و(ز).
(2) في (ح) و(غ): ((تصحبنا)).
(3) قوله : ((أي)) سقط من (ب) و(م).
(4) في (م): ((يخلفنا)).
(5) في (ب) و(م): ((بصلاح)).
(6) سقط من (ز).
(7) قوله: ((وانقطاع نظرنا عنهم)) سقط من (ح).
(8) قوله: ((ولا بالخليفة)) في (ح) و(ي): ((والخليفة)).
(9) قوله: ((الوحل والدهس)) في (ح) و(ز): ((الوجل والدهش)). والوحْل والوحَلُ: الطين الرقيق. والدَّهْس: ما غابت فيه قوائم الدواب من الرمال الرقيقة. فالمشي فيها يشتد على صاحبه، ثم جعل الوعث بهذا المعنى مثلا لكل ما يشق على صاحبه.
و((الوعث)) بفتح العين وسكونها وكسرها. ينظر "غريب أبي عبيدة" (1/375)، "تهذيب اللغة" (3/153)، "مشارق الأنوار" (2/290)، و"النهاية" (5/205)، و"المصباح المنير" (ص336، 342)، "تاج العروس" (3/278).
(10) في (م): ((الانفلات)).
(11) في (ز): ((مزيد))، وفي (ي): ((مرتدًا)).
(12) يعني – والله أعلم – أن المقصود هنا ليس مطلق الرجوع؛ فإنه تحصيل حاصل حينئذٍ، لكن المراد الرجوع في حالة خاصة وهي فعل العبادة، واتصافهم بالأوصاف المذكورة من العبادة والتوبة والحمد. قال الحافظ في "الفتح" (11/189). ذكره في "الفواكه الدواني" (1/374).
وقد يقال فيه: راجعون إلى الله بالموت، وأيضًا الأَوْبة: التوبة، والأوَّاب التواب آب إلى الله: تاب من ذنبه "المصباح" (ص20).
(13) قوله : ((وأصل التوبة الرجوع)) سقط من (ح).
(14) من قوله : ((وكذلك حدها ....)) إلى هنا سقط من (ز).
(15) في كتاب الرقاق، باب: وجوب التوبة وفضلها، وفيه بحث جيد في معنى التوبة، وباعثها، نقله عنه الحافظ في "الفتح" (11/103).
(16) في (ح): ((من)).
(17) في كتاب الإيمان، باب: ما خص به نبينا - صلى الله عليه وسلم - من الشفاعة العامة. ومناسبة ذكر الشارح لهذا هنا قوله - صلى الله عليه وسلم - ((تائبون)) والتوبة تكون من الذنب؛ ولدلالته على التقصير في العبادة؛ فيكون - صلى الله عليه وسلم - قاله تواضعًا وتعليمًا؛ كقوله: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا)).(3/454)
وجلالِه، وشاكرون عوارفَ أفضالِه (1) .
و((الحَوْرُ بعدَ الكَوْرِ)) بالراءِ (2) ؛ هكذا روايةُ العذريِّ وابنِ الحذَّاءِ، ومعناه: الزيادةُ والنقصانُ (3) ،، وقيل: الخروجُ من الجماعةِ بعدَ أن كان فيها؛ يقال: كار عمامتَه؛ أي: لفَّها، وحارها؛ أي: نقَضها،، وقيل: الفسادُ بعدَ الصلاحِ،، وقيل: القلَّةُ بعدَ الكثرةِ،، وقيل: الرّجوعُ من الجميلِ إلى القبيحِ (4) .
ورواه الفارسيُّ وابنُ سعيدٍ (5) - وهو المعروفُ من روايةِ عاصمٍ الأحول ِ-: ((بعدَ الكَوْنِ)) بالنونِ؛ قال أبو عبيدٍ: ((سئل عاصمٌ عن معناه، فقال: ألم تسمعْ إلى قولِهم: ((حار بعدَما كانَ)). يقولُ: إنه كان (6) على حالةٍ جميلةٍ فحار عن (7) ذلك؛ أي رجع)) (8) . قال أبو إسحاق الحربيُّ: يُقال: إن عاصمًا وَهَمَ فيه؛ وصوابهُ: ((الكَوْرُ)) بالراءِ (9) . والله تَعَالى أعلم.
وإنما استعاذ من دعوةِ المظلومِ؛ لأنها (10) مستجابةٌ؛ كما جاء في "الصحيحِ" (11) ، ولما تضمنتْه من كفايةِ الظلمِ ورفعِه.
و((قَفَلَ)): رَجَعَ من سفرِه، و((القافلةُ)) (12) : الرَّاجعون من السفرِ، ولا يقالُ لهم =(3/455)=@
__________
(1) ؟؟؟.
(2) في (ز): ((قالوا)).
(3) في هذه العبارة لفٌّ ونشر غير مرتب؛ يريد أن ((الحور)): النقصان و((الكور)): الزيادة. وانظر ما يأتي.
(4) وكل هذا من ((حار)) بمعنى: رجع، أو نقض عمامته، و((كار)) بمعنى: زاد، أو: لف عمامته. قال أبو عبيد: وكل هذا قريب بعضه من بعض في المعنى.اهـ. وقال الخطابي: وأكثر ما يراد بالحور: الرجوع إلى النقص.اهـ. وقيل: إن معناه: من التردد في الأمر بعد المضي فيه؛ أخذه من ((الحور)) بمعنى المراجعة والمراددة في الكلام.
وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/276- 277)، "المعلم" (2/74)، و"الإكمال" (4/452)، "غريب الخطابي" (2/194- 195، 307- 308)، "مشارق الأنوار" (1/215)، "النهاية" (1/458)، (4/208، 211)، "شرح النووي" (9/111)، "التعاريف" للمناوي (1/299)، "لسان العرب" (4/218)، (5/154- 155)، "المصباح" (ص83، 280)، "التاج" (6/313)، (7/461).
(5) في (ح): ((سعد)).
(6) قوله : ((كان)) سقط من (ز).
(7) في (ز): ((على)).
(8) قول أبي عبيد في "غريب الحديث" (1/276).
(9) نقل هذا عن الحربي القاضي عياض في "الإكمال" (4/452). قال النووي في "شرح صحيح مسلم" (9/111): ((وليس كما قال الحربي، بل كلاهما روايتان ، وممن ذكر الروايتين جميعًا الترمذي في "جامعه" وخلائق من المحدثين ، وذكرهما أبو عبيد وخلائق من أهل اللغة وغريب الحديث ، قال الترمذي بعد أن رواه بالنون : ويروى بالراء أيضًا ، ثم قال : وكلاهما له وجه)). اهـ.
وهذه الرواية التي بالنون، من ((الكون)) مصدر ((كان يكون)) التامة بمعنى وجدد استقر. ومنه يقال للرجل: ((كُنْتِيٌّ)) إذا كان لا يزال يقول: كنت شابا، كنت شجاعًا؛ بمعنى أنه كان صالحًا ثم تحول امرأ سَوْءٍ. ويقال له أيضًا: ((كأنِيٌّ))؛ يقول: كان لي، قال: فكنت أهب، وكان لي خيل فكنت أركب. ونحوه. "غريب الحديث" للخطابي (2/194)، "شرح النووي" الموضع السابق.
(10) في (ز): ((لأنه)).
(11) أخرج البخاري في "صحيحه" (1425 و2316 و4090) من حديث ابن عباس في قصة بعث معاذ إلى اليمن ، وفيه : ((واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)).
وأخرج البخاري في "صحيحه" (2894) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استعمل مولى له يدعى: ((هنيا)) على الحمى ، فقال : يا هني ! اضمم جناحك عن المسلمين ، واتق دعوة المظلوم ، فإن دعوة المظلوم مستجابة .
(12) في (ز): ((والقافلون)) والمعنى واحد.(3/455)
سفي مبدئِهم (1) : ((قافلةٌ))؛ قاله القتيبيُّ (2) وغيرهُ، لكن (3) رفقةٌ.
و((الجيوشُ)): جمع جيشٍ، وهو العسكرُ العظيمُ. و((السَّرايا)): جمعُ سَريةٍ، وهي دون الجيشِ. وسُمِّيت بذلك لأنها تَسْري (4) بالليلِ. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((خَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ، وَلَنْ تُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ (5) )) (6) .
و((أَوْفى)): أَقبل وأَطلَّ. و((الثنيَّةُ)): الهَضْبَةُ، وهي الكَوْمُ دونَ الجبلِ (7) . و((الفَدْفَدُ (8) )): ما غَلُظَ من الأرضِ وارتفعَ، وجمعهُ: ((فَدَافِدُ)) (9) .
وتكبيرُه - صلى الله عليه وسلم - هذه في المواضعِ المرتفعِة إشعارٌ بأن أكبريَّةَ كل كبيرٍ إنما هي منه، وأنها محتقرةٌ بالنسبة إلى أكبريَّتِهِ تعالى وعظمتِه (10) ، وتوحيدُه الله (11) تعالى هناك: إشعارٌ بانفرادِه سبحانه وتعالى بإيجادِ جميعِ الموجوداتِ، وبأنه المأْلوهُ؛ أي: المعبودُ في كلِّ الأماكنِ من الأرضَينَ والسمواتِ؛ كما قال تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (12) .
و((الْمُلْكُ)) و((الْمِلْكُ)): أصلُه الشدَُّّ والرَّبْطُ (13) ، و((الْمُلك)) – بالضمِّ - يتضمَّنُ الْمِلكَ بالكسرِ، ولا يَنعكسُ (14) . و((ساجدين (15) )): جمعُ ((ساجدٍ))، وأصلُه الخضوعُ والتذلُّل؛ ومنه قولُ الشاعرِ:
.................................. ... تَرَى الأُكْمَ فيها سُجَّدًا لِلْحَوافِر (16)
أي: متذلِّلةً خاضعةً. =(3/456)=@
__________
(1) في (م): ((مبدتهم)).
(2) في (أ) و(ح) و(ي): ((القتبيّ))، وكلاهما صواب، وهو ابن قتيبة، تقدم الكلام على نسبته وترجمته في أول الكتاب، في باب شرح ما جاء في خطبته.
وقد خطأ إطلاق ((القافلة)) على الجماعة المبتدئة السير، ورأى أن ((القافلة)): الراجعون، فقط – ابن الأنباري في "الزاهر في معاني كلمات الناس"، وابن قتيبة في "أدب الكاتب"، وتبعه الحريري في "درة الغواص"، وعبارة ابن قتيبة: ((ومن ذلك القافلة، يذهب الناس إلى أنها الرفقة في السفر ذاهبة كانت أو راجعة، وليس كذلك إنما القافلة الراجعة من السفر.. ولا يقال لمن خرج من العراق إلى مكة قافلة حتى يصدروا)).اهـ. وعبارة ابن الأنباري: ((والعامة تخطئ في القافلة....))إلخ. وعبارة الحريري: ((ويقولون: ((ودعت قافلة الحاج)) فينطقون بما يتضاد الكلام فيه؛ لأن التوديع إنما يكون لم يخرج إلى السفر والقافلة اسم للرفقة الراجعة إلى الوطن، فكيف يقرن بين اللفظين مع تنافي المعنيين؟!)).اهـ.
وغلط ابن قتيبة الأزهري في "تهذيب اللغة"؛ قال بعد أن ذكر كلام ابن قتيبة: وهو عندي غلط؛ لأن العرب لم تزل تسمى المنشئة للسفر ((قافلة)) على سبيل التفاؤل، وهو سائغ في كلام فصحائهم إلى اليوم)).اهـ. أي: تفاؤلاً بقفولها ورجوعها. ونقل هذا عن الأزهري صاحب "التكملة" و"الذيل" و"الصلة"، و"المصباح"، و"اللسان"، و"التاج". وقال ابن ظفر في حواشي "درة الغواص": ما ذكره أبو محمد (الحريري) مقول منقول، والذي يدفعه أن الرفقة سميت قافلة قبل قفولها تفاؤلا لها بالقفول؛ وهذه كتسميتهم الدمَّل ((دمَّلا)) قبل اندماله، واللديغ سليما قبل سلامته، والبيداء مفازة.اهـ.
وقال الشهاب الخفاجي في "شرح الدرة": تبع (الحريري) في هذا ابن قتيبة، وليس بشيء...)) ثم ذكر نحو كلام ابن ظفر وحكى كلام الأزهري.
وقد ذكر المعنيين القاضي في "المشارق" والنووي في "شرح مسلم" ، و"تحرير التنبيه"!
"الزاهر" (2/70)، "أدب الكاتب" (ص24)، "درة الغواص مع شرحها وحواشيها وتكملتها" (ص348، 790)، "تهذيب اللغة" (9/160- 161)، "التكملة والذيل والصلة" (5/490)، "المصباح" (ص264)، "مشارق الأنوار" (2/192)، و"شرح النووي على صحيح مسلم" (6/171)، "تحرير التنبيه" (ص185)، "لسان العرب" (11/560) (قفل))، و"تاج العروس" (15/623- 624) (قفل).
وخبر الكلام في التقضي من "أغلاط الصوام" (ص44).
(3) قوله: ((لكن)) في (ح): ((تكن))، وفي (ب) و(م): ((لا تكون))، وفي (ي): ((بكسر))!!.
(4) سَرَيْتُ الليلَ، وبالليل، وأَسْريت (لغةٌ حجازية): قطعته بالسير. ومنه ((السُّرَى))؛ جمع ((سَرْية)) و((سُرْية)). تقول: سَرَيْتُ سَرْيةً من الليل. "المصباح" (ص144) بتصرف.
(5) في (ح): ((القلة)).
(6) هذا الحديث يرويه الزهري واختلف عليه في وصله وإرساله.
فأخرجه أحمد (1/294)، وعبد بن حميد (ص218 رقم652)، وأبو داود (3/82 رقم2611) في الجهاد ، باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا ، والترمذي (4/105-106 رقم1555) في السير ، باب ما جاء في السرايا ، وأبو يعلى (4/459 رقم2587)، وابن خزيمة (4/140 رقم2538)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/45 رقم572)، وابن حبان (11/17 رقم4717/ الإحسان) من طريق أبي يعلى، والحاكم (1/443) و(2/101)، والبيهقي (9/156) - جميعهم من طريق جرير بن حازم ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((خير الأصحاب أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة)).
قال أبو داود : ((والصحيح أنه مرسل)). وقال الترمذي : (( هذا حديث حسن غريب لا يسنده كبير أحدٍ غير جرير بن حازم ، وإنما روي هذا الحديث عن الزهري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ، وقد رواه حبان بن علي العنزي، عن عقيل، عن الزهري ، عن عبيدالله بن عبدالله ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه الليث بن سعد ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً)).اهـ.
وقال الحاكم : ((هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، والخلاف فيه على الزهري من أربعة أوجه قد شرحتها في كتاب "التلخيص")).اهـ. ووافقه الذهبي .
وقال البيهقي : (( تفرد به جرير بن حازم موصولاً ، ورواه عثمان بن عمر ، عن يونس ، عن عقيل، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم منقطعًا ، قال أبو داود : أسنده جرير بن حازم وهو خطأ)). اهـ.
وتعقبه ابن التركماني بقوله : ((هذا ممنوع ؛ لأن جريرًا ثقة ، وقد زاد الإسناد فيقبل قوله ، كيف وقد تابعه غيره ؟!)) اهـ.
قال الألباني في "الصحيحة" (2/683): ((وعثمان بن عمر هو ابن فارس العبدي ، وهو أوثق من جرير، فقد اتفقوا على توثيقه ، بل قال العجلي : ثقة ثبت)).اهـ.
وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/483- 484 رقم 1250) – بعد أن حكى كلام الترمذي - : ((فعليه إذن عنده: الاختلاف فيه بالإسناد والإرسال وذلك غير قادح في نظر غيره، فالحديث صحيح)).اهـ.
وقد توبع جرير على وصله:
فأخرجه أحمد (1/299)، والدارمي (2/215) في السير، باب في خير الأصحاب والسرايا والجيوش.
وأبو يعلى (5/103- 104 رقم 2714)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2/46، 47 رقم573 و574)، وابن عديٍ (2/427).
والقضاعي في "مسند الشهاب" (2/225 و226 رقم1237 و1239) من طريق الطحاوي وغيره . جميعهم من طريق حبان بن علي (زاد بعضهم : ومندل)، عن عقيل (زاد بعضهم : ويونس)، عن ابن شهاب ، به .
وفي سنده حبان بن علي ، ومندل بن علي ، وكلاهما ضعيف ، كما في "التقريب" (ص217 و970 رقم1084 و6931). وجرير بن حازم فيه ضعفي سير من قبل حفظه ، كما قال الحافظ في "التقريب" (ص196 رقم919): ((ثقة ، لكن في حديثه عن قتادة ضعف ، وله أوهام إذا حدث من حفظه)).
قال الألباني في "الصحيحه" (2/683): ((وعلى افتراض أن جريرًا حفظه عن يونس - وهو ابن يزيد الأيلي - فيكون هذا هو المخطئ في وصله ، فإنه وإن كان ثقة محتجًّا به في "الصحيحين " فإن له أوهامًا كما بينه الحافظ في "مقدمة الفتح" (455)، فقال : وثقه الجمهور مطلقًا ، وإنما ضعفوا بعض رواياته ؛ حيث تخالف أقرانه ، أو يحدث من حفظه ، فإذا حدث عن كتابه فهو حجة . وقال في "التقريب" -(ص1100 رقم7976)-: ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهمًا قليلاً ، وفي غير الزهري خطأ . وهذا الحديث مما أخطأ فيه على الزهري - إن لم يكن أخطأ عليه جرير بن حازم كما تقدم - وذلك لأنه خالفه ثقتان احتج بهما الشيخان)).اهـ.
وهذان الثقتان هما : عقيل ، ومعمر :
أما رواية عقيل : فأخرجها سعيد بن منصور في "سننه" (2/150 رقم2387) عن عبدالله بن المبارك ، عن حيوة . ومن طريق سعيد أخرجه أبو داود في "المراسيل" (ص238 رقم313). وأخرجها الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2/48 رقم575) من طريق عبدالله بن صالح ، عن الليث؛ كلاهما - حيوة ، والليث - عن عقيل ، عن الزهري مرسلاً .
وأما رواية معمر : فأخرجها عبدالرزاق في "المصنف" (5/306 رقم9699) عن معمر ، عن الزهري ، مرسلاً .
قال الألباني في "الصحيحة" (2/648): ((فاتفاق هذين الثقتين على رواية الحديث عن الزهري مرسلاً ، مما يؤكد للمتأمل وَهْم جرير أو يونس في وصله عن الزهري ، عن عبيدالله ، عن ابن عباس . وإذا تبينت هذا ، فستعرف أن رواية حبان بن علي ، عن يونس وعقيل مما لا يصلح للاستشهاد به لمخالفته - مع ضعفه في نفسه كما تقدم - لرواية الثقتين المذكورين كما هو ظاهر .
وإنه مما يؤكد ما تقدم من التحقيق جزم أبي داود والبيهقي بخطأ الرواية المسندة كما تقدم ، وكذلك قال غيرهما ؛ مثل أبي حاتم وابنه ، فقد ساق هذا الحديث في كتابه "العلل " (1/347 رقم1024) من الوجهين المسندين - أعني طريق جرير وحبان-، ثم قال : فسمعت أبي يقول : مرسل أشبه . لا يحتمل هذا الكلام أن يكون كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - )).اهـ.
قلت-: لعل نفي ابن أبي حاتم رحمه الله لهذا الاحتمال إنما هو لمخالفة الحديث لظاهر قوله تعالى: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم- مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون. الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين}.
تفرد به جرير بن حازم موصولاً، ورواه عثمان بن عمر عن يونس عن عقيل عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منقطعًا. قال أبو داود: أسنده جرير بن حازم، وهو خطأ.
قلت: وعثمان بن عمر هو ابن فارس العبدي، وهو أوثق من جرير، فقد اتفقوا على توثيقه، بل قال العجلي: ثقة ثبت. ومما يؤيد ما قلت أنك إذا قابلت قول الحافظ المتقدم في جرير بقوله في عثمان هذا: إنه ثقة، قيل: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه،. وقول يحيى جرح غير مفسر فلا قيمة له، وبخاصة مع اتفاق الأئمة الآخرين على توثيقه.
(7) تقدم تفسير "التنبيه" والتعليق عليه، في باب من أين دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة والمدينة.
(8) في (م): ((الفقد )) وكُتب فوقها بخط مشرقي: ((الفدفد)).
(9) قال القاضي في "الإكمال" بعد أن نقل هذا التعريف عن المازري: هذا قول أبي زيد. وقال ابن الأنباري: الأرض الغليظة ذات الحصى فلا تزال الشمس تبرق فيها. وقال غيرهما: فلاة فدفد: لا شيء فيها.اهـ. وفي "الصحاح": الفدفد الأرض المستوية.اهـ. وانظر "تهذيب اللغة" (14/74)، "الصحاح" (2/518)، "غريب الخطابي" (1/274، 506)، "المعلم" (2/؟؟؟)، و"الإكمال" (4/454)، و"المشارق" (2/149)، والنووي (9/113)، و"النهاية" (3/420).
(10) وقال القاضي عياض في مناسبة التكبير: وقيل تكبيره عليه السلام في رجوعه إظهار لكلمة الإسلام وتعظيم لله؛ لأن سفره عليه السلام إنما كان بذلك كلما علا شرفا: حيث يرى ما فتحه الله عليه من الأرض ومكّن دينه منها؛ ولأن مواضع الإعلان بالذكر: مما علا وشرف كالأذان. "الإكمال" (4/454).
(11) قوله: ((وتوحيده الله)) في (أ) و(ح) و(ي): ((توحيده لله)).
(12) سورة الزخرف؛ الآية: 84.
وقد نقل هذه العبارة عن الشارح، الحافظ في "الفتح" (11/189).
(13) من مَلكتِ المرأةُ العَجينَ: شدَّدته وقوتْه وأَجادت عجنه. "المصباح" (ص299).
(14) في (ز): ((ينعكس)). وقال في أبو هلال العسكري: والفرق بين الملُك والمِلك: هو استفاضة المِلك وسعة المقدور لمن له السياسة والتدبير. والمِلك: استحقاق تصريف الشيء لمن هو أولى من غيره.اهـ. "الفروق اللغوية" (ص207)، و"مفردات ألفاظ القرآن" (ص774)، و"الكليات" (ص853)، و"لسان العرب" (10/492- 493)، و"تاج العروس" (13/646- 647).
(15) في (ب): ((ساجدون)).
(16) عجز بيت من بحر الطويل، لزيد الخيل الطائي الصحابي، والبيت بتمامه:
بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ في حَجَرَاتِهِ ... تَرَى الأُكْمَ فِيها سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
ويروي: ((بجيش تضل...)). وتقدم البيت بتمامه، وتخريجه والتعليق عليه، في كتاب الإيمان، باب: ترك الصلاة جحدًا أو تسفيهًا للأمر، كفرٌ.
والشاهد فيه هنا: ((سجدًا)) بمعنى: خاضعة متذللة.
البيت في أضداد ابن الأنباري (ص257)، وتصحيح الفصيح (ص2277).(3/456)
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - : ((صدق الله وعدَه، ونصر عبده))؛ خبرٌ (1) عن وفاءِ الله بما وعد (2) به على جهةِ الثناءِ والشكرِ؛ حيثُ (3) قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} (4) الآيةَ، وقال: {ولينصرن الله من ينصره} (5) . ويعني بقولِه: ((عبدَه)) نفسَه.
وقولُه: ((وهزم الأحزابَ وحدَه))؛ أي: مِنْ غيرِ محاولةٍ من أحدٍ، ولا سببٍ (6) ولا شركةٍ، بل (7) كما قال تعالى: {فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها} (8) . ويحتملُ أن يكونَ هذا الخبرُ بمعنى الدعاءِ؛ كأنه قال: اللهمَّ افعلْ ذلك وحَدك. والأولُ أظهرُ.
و((الأحزابُ)): جمعُ حزبٍ، وهو القطعةُ المجتمعةُ من الناسِ، ويعني بهم هنا على التأويلِ المتقدمِ: الجيشَ الذين (9) حاصروه بالمدينةِ، ثم نصره (10) الله تعالى عليهم بالريحِ، وعلى التأويلِ الثاني: يعني بهم كلَّ من يتحزَّبُ من الكفارِ عليه ويجتمعُ. والله أعلمُ (11) . =(3/457)=@
__________
(1) في (ح): ((أخبر)). [شطبت من الحاشية ولم تشطب من المتن].
(2) في (أ): ((وعده)).
(3) في (ز): ((كما)).
(4) سورة النور؛ الآية: 55.
(5) سورة الحج؛ الآية:40.
ووقع في غير (أ): ((ينصره ورسله))، اختلط على النساخ مع قوله تعالى: {وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} [الحديد: 25].
(6) في (ز): ((بسبب)) غير منقوطة الباء الأولى.
(7) سقط من (ز).
(8) سورة الأحزاب؛ الآية: 9.
(9) قوله: ((الجيش الذين)) في (أ): ((الجيش الذي))، وفي (م): ((والجيش الذين)).
(10) في (ز): ((نصر)).
(11) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ب) و(ز) و(م). وقد رجح القاضي عياض أن المراد الأول؛ أي: الأحزاب الذين تجمعوا يوم الخندق. وقال عنه النووي: وهو المشهور. قال القاضي وعلى هذا المعنى ينعطف قوله: ((صدق الله وعده)) تكذيبًا لقول المنافقين في (قصة الخندق) والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إ لا غرورا.اهـ. وقد ذكر الحافظ على هذا القول اعتراضا بأن هذا يتوقف على أن هذا الدعاء شرع بعد الخندق، وأجاب قائلاً: إن غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي خرج فيها بنفسه محصورة، والمطابق منها لذلك غزوة الخندق؛ لظاهر الآيات التي في سورة الأحزاب، وذكر الآيات. ثم نقل من الشارح بعض كلامه هنا، وكله كلام القاضي أعاد صياغته الشارح.
"الإكمال" (4/454)، "شرح النووي" (9/113)، "فتح الباري" (11/190).(3/457)
ومن بابِ التعريسِ بذي الحليفةِ إذا صَدَرَ من الحجِّ أو العمرةِ
((صَدَرَ)): رَجَعَ، والمصدَرُ: الموضعُ الذي يُصْدَر منه، وبه سُمِّي المصدرُ النَّحْوِيُّ. و((الإناخةُ)): تنويخُ الإبلِ. ويقالُ: أنختُ الجملَ فَبَركَ. ولا يقالُ: فَنَاخَ (1) . و((التعريسُ)): النزولُ (2) من آخرِ الليلِ؛ قاله الخليلُ، والأصمعيُّ، وغيرُهما (3) . وقال أبو زيدٍ: ((عرَّس القومُ في المنزلِ؛ أي (4) : نزلوا به، أيِّ وقتٍ كانَ من ليلٍ أو نهارٍ)) (5) . والأولُ أعرفُ. والتعريسُ بذي الحليفةِ ليس من سننِ الحجِّ ولا العمرةِ، ولكنَّه يستحبُّ (6) تبرُّكًا بالنبيِّ (7) - صلى الله عليه وسلم - ،، وأيضًا: فإنَّها بطحاءُ مباركةٌ، كما جاء في الحديثِ الآتي بعدُ، وقد استحبَّ مالكٌ النزولَ به (8) ، والصلاةَ فيه، وقال: إن لم يكنْ وقتَ صلاةٍ؛ أقام به حتى يحلَّ (9) وقتُ الصلاةِ. وقيل: إنما نزل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالناسِ لئلا يَفجؤوا أهليهم =(3/458)=@
__________
(1) "اللسان" (3/65)، و"تاج العروس" (4/322).
(2) ((النزول)) موضعها في (ي): ((بذي الحليفة)).
(3) "العين" (1/328)، و"الصحاح" (3/948).
(4) قوله : ((أي)) زيادة من (ب) و(م).
(5) في "النوادر" (ص212)، وعبارته: ((وقالوا: عَرَّس القدم تعريسًا في المنزل، حيث نزلوا بأيِّ حينٍ كان من ليلٍ أو نهار)).اهـ. ونقلها عنه في "المصباح" (ص208). وما نقله الشارح هنا القاضي في "الإكمال" (4/456).
يقال: أعرض، عرَّس. والأولى لغة قليلة، والأخرى أكثر. والمعرّس: موضع التعريس، ومنه سمِّي ذو الحليفة. ((المعرس)). وانظر: "النهاية" (3/206)، و"اللسان" (6/136- 137)، "التاج" (8/361).
(6) سقط من (ح). وفي (أ) و(ز): ((مستحب)).
(7) تقدم التعليق على مسألة التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواضعه التي نزل فيها، وفعل ابن عمر رضي الله عنهما لذلك. في باب من أين دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة والمدينة ومن أين خرج.
(8) قوله : ((به)) سقط من (ز).
(9) في (ب): ((تحل)).(3/458)
ليلاً؛ كما قد نهى (1) أن يأتيَ الرَّجلُ أهلهَ طُروقًا حتى تمتشِطَ (2) الشَّعْثةُ وتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ (3) . ومعنى ذلك: أن الرجلَ إذا فجأ أهلَه من سفرهِ ربما وجدَها على حالةٍ يستقذرُها من الشعثِ والتَّفَل (4) ، ورَثَاثةِ الهيئةِ؛ فيكونُ ذلك سببًا لفقدِ الألفةِ وعدمِ الصحبةِ. وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - إرشادٌ إلى أمرِ مصلحيٍّ ينبغي للأزواجِ أن يراعوه. و((يتحرَّى))؛ أي (5) : يقصدُ. والله أعلم (6) .
ومن بابِ فضلِ يومِ عرفةَ، ويومِ الحجِّ الأكبرِ (7)
قولُه: ((يؤذنون في الناسِ يومَ النحرِ: لا يحجّ بعدَ العامِ مشركٌ)) هذا يدلُّ على أن يومَ الحجِّ الأكبرِ يومُ النحرِ؛ كما قاله حميدٌ، وهو قولُ سعيدِ بنِ جبيرٍ، =(3/459)=@
__________
(1) في (ي): ((ذهب)).
(2) في (ز): ((يمتشط)).
(3) المغيبة: التي غاب زوجها؛ يقال: أغابت المراة، فهي مُغيبٌ ومُغِيبةٌ. "المصباح" (ص237). وسيأتي نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن طروق الأهل في النكاح ، باب من قدم من سفر فلا يعجل بالدخول .
(4) في (أ): ((تحل)).
(5) قوله : ((أي)) زيادة من (ب) و(م).
(6) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).
(7) قوله: ((يوم الحج الأكبر)) سقط من (م).(3/459)
ومالكٍ. وقالت طائفةٌ: إنه يومُ عرفَة، وبه قال عمرُ (1) ، وهو قولُ الشافعيِّ (2) . وقال مجاهدٌ: الحجُّ الأكبرُ القِرانُ: والأصغرُ: الإفرادُ. وقال الشعبيُّ: الحجُّ الأكبرُ: الحجُّ، والأصغرُ: العمرةُ.
والأَوْلى: القولُ الأولُ؛ بدليلِ أن الله تعالى أمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بأن يؤذنَ في الناسِ يومَ الحجِّ الأكبرِ، فأذَّن المبلِّغون عنه يومَ النحر بمنًى. وفي ((كتابِ أبي داودَ)) من حديثِ ابنِ عمرَ (3) ، وأبي هريرة (4) رضي الله عنهم (5) ؛ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ))، وهذا يرفعُ كلَّ إشكالٍ، ويريحُ من تلك الأقوالْ.
وقولُه: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة))، روينا: ((أكثر)) رفعًا ونصبًا فرفعُه على التميمية، ونصبُه على الحجازيةِ (6) . وهو في الحالينِ خبرٌ لا وصفٌ. والمجروران (7) بعده مُبَيِّنَانِ (8) ؛ فـ((من (9) يوم عرفة)) يبيِّنُ (10) الأكثريةَ مما هي (11) ، و((من أن يعتق)) يبيِّن المميِّزَ (12) . وتقديرُ الكلامِ: ما يومٌ أكثرُ مِنْ يومِ عرفةً عتيقًا (13) من النارِ. والله أعلمُ (14) .
وقوله: ((وإنه ليدنو))؛ هذا الضميرُ عائدٌ إلى الله تعالى، والدُّنوُّ دنوُّ إفضالٍ وإكرامٍ، لا دنوُّ انتقالٍ ومكانٍ؛ إذ يتعالى عنه ويتقدَّسُ (15) . =(3/460)=@
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/360 رقم15103) في الحج ، باب في يوم الحج الأكبر ، وابن أبي حاتم (6/1748 رقم9228)، وابن جرير (14/114 رقم16385 و16386) - جميعهم من طريق عمر بن الوليد الشني ، عن شهاب بن عباد العصري ، عن أبيه، قال : قال عمر : يوم الحج الأكبر : يوم عرفة .
وسنده ضعيف؛ شهاب بن عباد العصري: روى عنه جمع ، وذكره ابن حبان في "الثقات" (4/362)، وقال الدارقطني : صدوق زائغ . "تهذيب التهذيب" (2/181)، وفي "التقريب" (441 رقم2843): مقبول. وذكره البخاري في "تاريخه" (6/34 رقم1600)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/88 رقم452)، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً . وأورد الأثر السيوطي في "الدر المنثور" (؟؟؟/129)، وزاد نسبته إلى ابن سعد ، وأبي الشيخ .
(2) قوله: ((وهو قول الشافعي)) كذا حكى نسبة ذلك إلى الشافعي القاضي في "الإكمال" (4/458) عن المازري في "المعلم" (2/75). قال النووي في "شرح مسلم" (6/116): ((ونقل القاضي عياض عن الشافعي أنه يوم عرفة، وهذا خلاف المعروف من مذهب الشافعي)).اهـ. وقال في "المجموع" (8/201- 202): والصحيح الذي قاله الشافعي وأصحابنا وجماهير العلماء وتظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة أنه يوم النحر)).اهـ.
(3) أخرجه البخاري معلقًا (3/574 رقم1742) في الحج ، باب الخطبة أيام منى، عن هشام بن الغاز ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج بهذا ، وقال : ((هذا يوم الحج الأكبر))، فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ((اللهم اشهد))، وودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع .
ووصله أبو داود (2/483 رقم1945) في المناسك ، باب يوم الحج الأكبر ، وأبو عوانة في "مستخرجه"(3/394)، والحاكم (2/331) - ثلاثتهم من طريق الوليد بن مسلم. وأخرجه ابن جرير (14/124 رقم16447)، وابن أبي حاتم (6/1748 رقم9227)، والبيهقي (5/139-140) - ثلاثتهم من طريق أبي جابر محمد بن عبدالملك . وأخرجه ابن ماجه (2/1016 -1017 رقم3058) في المناسك ، باب الخطبة يوم النحر ، عن هشام بن عمار ، عن صدقة بن خالد -: ثلاثتهم (الوليد بن مسلم ، ومحمد بن عبدالملك ، وصدقة بن خالد)، عن هشام بن الغاز ، به .
قال الحاكم : ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة ، وأكثر هذا المتن مخرج في "الصحيحين" إلا قوله : ((إن يوم الحج الأكبر يوم النحر سنة))؛ فإن الأقاويل فيه عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على خلاف بينهم فيه ، فمنهم من قال : يوم عرفة ، ومنهم من قال : يوم النحر)). ووافقه الذهبي على صحته .
والحديث أورده السيوطي في "الدر المنثور" (4/127)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن مردويه ، وأبي الشيخ ، وأبي نعيم في "الحلية". [يراجع التخريج لحديث أبي هريرة].
(4) هو حديث الباب .
(5) من قوله: ((أبي داود من...)) إلى هنا، في (أ) موضعه بياض بمقدار ثلاث كلمات، من سقط ملحق بالحاشية.
(6) ما النافية الداخلة على الاسم؛ للعرب فيها مذهبان: مذهب أهل الحجاز ونجد وتهامة، يرجونها مُجرى ((ليس)) في العمل بشروط: ألا ينقض نفيها بـ((إلا))، وألا يتقدم خبرها على اسمها، وألا تدخل عليها ((إنْ)) النافية، وألا يتقدم معمول خبرها على اسمها غير الظرف والجار والمجرور، وزاد بعضهم: وألا تؤكد بمثلها، وألا يبدل من خبرها بدل مصحوب بـ((إلا)). وتسمى هذه ((ما)) ((الحجازية)).
والمذهب الثاني إهمالها وعدم إعمالها عمل ((ليس))، وحكاه سيبويه عن بني تميم، وتسمى ((ما التميمية)). والتميمية أقوى قياسًا، والحجازية أكثر استعمالاً ووردت في القرآن: {ما هذا بشرا} {ما هن أماتِهم}.
ونصب ((أكثر)) في الحديث على أن ((ما)) حجازية عاملة عمل ليس، ورفعها على أنها تميمية غير عاملة؛ كما قال الشارح. ويكون اسم((ما)) الحجازية أو المبتدأ مع ((ما)) التميمية هو ((يوم)) مرفوعًا بالضم المقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة جر حرف الجر الزائد ((من)). وهذا كما في قوله تعالى في سورة الحاقة: {فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين}.
(7) في (ح): ((والفجروران)) بالفاء.
(8) في (ح): ((مبنيان)) وفي (ز)، وكتبها ((مبنيان)) النون ووضع تنوينًا، والنون المكشوطة لا تزال واضحة.
(9) قوله: ((فمن)) في (أ): ((بمن)).
(10) في (ز): ((تبين)).
(11) يريد أناه تبين المفضَّل؛ فإن ((أكثر)) أفعل تفضيل، وتقدير السياق: يوم عرفة أكثر الأيام...إلخ.
(12) أي: التمييز الواقع بعد أفعل التفضيل.
(13) كذا في جميع النسخ، والأولى ((عتقا)) لأن السياق فيه ((أن يعتق)) وهو مصدر مؤول في موضع التمييز، و((عتيق)) مشتق ((فعيل)) بمعنى ((فاعل)) من ((عتق)) اللازم. وتقدير السياق جميعه: يوم عرفة أكثر الأيام عتقًا من النار.
(14) قوله : ((والله أعلم)) ليس في (ح) و(ي).
(15) هذا تأويل لصفة من صفات الله تعالى ثابتةٍ بالكتاب والسنة؛ وهي صفة القرب والدنو، وقد وصف الله نفسه بها في كتابه: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} [البقرة: 186] وغيرها، ووصف بها نفسه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، في هذا الحديث وغيره. وأهل السنة يمرون هذه الصفة على حقيقتها بما يليق بجلال الله وعظمته، ويصفونه بما وصفه به نفسه وبما وصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مع نفي الشبيه والنظير، سبحانه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
لكن – كما قال شيخ الإسلام – ((لا يلزم من جواز القرب عليه سبحانه، أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه نفسه، بل يبقى من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد؛ فإن دل على هذا، حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه)). وسبب تأويل من أول مثل هذه الصفة أنه فهم منها أنه سبحانه يتصف بالقرب من كل موجود، وكأنهم ظنوا أن ((القرب)) كـ((المعية))، وليس كذلك فإن ((المعية)) عامة وخاصة، فالعامة كقوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} والخاصة كقوله تعالى: إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون أما القرب فلم يرد إلا مخصوصًا بحالٍ من الأحوال؛ مثل الدعاء، والسجود، وتارة يذكر بصيغة الإفراد، وتارة بصيغة الجمع، فالإفراد نحو: {فإني قريب}، ((وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد))، والجمع نحو: {ونحن أقرب إليه منه حبل الوريد}، وقد أفاض شيخ الإسلام في تقريب التعبير بلفظ الجمع، كقوله جل شأنه: {نتلو} {نقص} {فإذا قرأناه} – بأن هذا من أساليب العرب للواحد المعظم نفسه، ويكون له أعوان يطيعونه ويعملون بأمره، فإذا فعلوا بأمره شيئًا قال: نحن فعلنا. وعليه فالقرب في {ونحن أقرب إليه منه حبل الوريد}: قرب ملائكة الرب من المحتضر، بأمر الله عز وجل؛ لأن سياق الآيات في سورة (ق) يدل عليه.
والخلاصة: أنه مع إثبات صفة القرب لله عز وجل، لا يفهم منه أنه قرب عام من كل الموجودات، كما سبق تقريره! فلا يحتاج إلى تأويل ما يأتي من ذكر ذلك على ما أوله المعطلة. والله أعلم.
وانظر كلام شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (5/232- 242، 247- 249، غيرها)، (6/5- 14، 19 – 25)، و"صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة" (ص89- 90)، "منهج الحافظ في العقيدة من خلال فتح الباري" (ص777- 785).(3/460)
وقولُه: ((ثم يباهي بهم الملائكة))؛ أي: يُثني عليهم عندَهم، ويعظمُهم بحضرتِهم؛ كما قال في الحديثِ الآخرِ (1) : يقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ (2) : ((انْظُرُوا إلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعثًا غُبْرًا، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ))، وكأنَّ هذا والله أعلمُْ، تذكيرٌ (3) للملائكِة بيوم (4) -: {أتجعل فيها من يفسد فيها (5) }. وإظهارٌ لتحقيقِ قولِه تعالى: {إني أعلمْ} (6) .
وقولُه: ((ما أراد هؤلاء))؛ أي: إنما حملهم على ذلك؛ حتى خرجوا عن (7) أوطانِهم، وفارقوا أهليهم ولذَّاتِهم - ابتغاءُ مرضاتِي (8) ، وامتثالُ (9) أمري. والله أعلمُ (10) .
ومن باب ثواب الحجِّ والعمرة
العمرة (11) في اللغة: هي الزيارة. قال:
يُهِلُّ بالفَدْفَدِ (12) رُكْبانُها ... والبيت من قصيدة يصف فيها مفازة لا يهتدى فيها.
واختلف في معنى هذا البيت تبعًا لاختلاف في معنى ((الفرقد)) من حيث هي من المشترك اللفظي؛ فالفرقد: ولد البقرة الوحشية. والفرقد: النجم، وهما فرقدان، ويجيء في الشعر مثنى وموحَّدًا. قال ابن سيده: لما لم يخلِّص ابن أحمر معنى الفرقد في هذا البيت؛ أي: لم يذكر لفظًا يرشح المراد منهم – اختلفوا فيه؛ قال: وفيه قولان: قال الأصمعي: إذا انجلى لهما لسحاب عن الفرقد أهلوا؛ أي: رفعوا أصواتهم بالتكبير كما يهل الراكب الذي يريد عمة الحج؛ لأنهم كانوا يهتدون بالفرقد. وقال غيره: يريد أنهم في مفازة بعيدة من المياه، فإذا رأوا فرقدًا، وهو ولد البقرة الوحشية – أهلوا؛ أي: كبروا؛ لأنهم قد علموا أنهم قد قربوا من الماء.اهـ. بتصرف. [تفسير الركبان]
والشاهد فيه قوله: ((المعتمر)) بمعنى الزائر. قال أبو عبيد بن سلام: أراد هنا العمرة، وهو في غير هذا المعتم.اهـ. وقد فسر ((المعتمر)) في البيت على أنه ((المعتم بالعمامة)) أبو عبيدة في ((مجاز القرآن))، وعنه نقل ابن دريد في "الجمهرة".
والبيت في "ديوان عمرو بن أحمر" (ص66)، و"منسوب له في مجاز القرآن" (1/150)، و"المحكم" (1/107)، (1/194)، و"مقاييس اللغة" (4/141)، (6/11)، و"غريب الحديث" لأبي عبيد (3/263)، و"جمهرة اللغة" (2/772)، و"تهذيب اللغة" (5/367)، (10/217)، و"أساس البلاغة" (ص882)، و"لسان العرب" (1/437)، و"تاج العروس" (2/35)، و"الدر المصون" (2/237)، و"الحيوان" للجاحظ (2/25)، و"التمهيد" لابن عبد البر (13/168)، وبلا نسبة في "لسان العرب" (8/120) و(11/701)، و"تاج العروس" (15/811)، و"المعلم" (2/75)، و"الإكمال" (4/460) .
[يراجع الديوان ضروري جدًّا ويضاف تفسير الركبان من "التهذيب"، بناءً على مضمون القصيدة، وتقييم هذا التفسير، وتقييم القول بأنه يصف مفازة وتحقيقه]. &%$ =(3/461)=@
__________
(1) رُوي من حديث جماعة من الصحابة .
1 – في (ح) و(ي): ((الأول)) والحديث حديث أبي هريرة : أخرجه أحمد (2/305)، وابن خزيمة (4/263 رقم2839)، وابن حبان (9/163 رقم3852/ الإحسان)، والحاكم (1/465)، والبيهقي (5/58) من طريق الحاكم وغيره ، وأبو نعيم في "الحلية" (3/305-306). جميعهم من طريق يونس بن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله يباهي بأهل عرفات ملائكة أهل السماء ، فيقول : انظروا إلى عبادي هؤلاء جاءوني شعثًا غبرًا)).
قال الحاكم : ((هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي.
وقال أبو نعيم : ((غريب من حديث مجاهد عن أبي هريرة ، ولا أعلم له راويًا إلا يونس بن أبي إسحاق)). وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1/381 رقم1867)، وتعليقه على ابن خزيمة .
2 - ومن حديث عبد الله بن عمرو: أخرجه أحمد (2/224)، والطبراني في "الصغير" (1/345-346 رقم575)؛ كلاهما من طريق أزهر بن القاسم، عن المثنى بن سعيد ، عن قتادة ، عن عبدالله بن بابيه ، عن عبدالله بن عمرو ، فذكره .
قال الطبراني: ((لم يروه عن قتادة إلا المثنى ، تفرد به أزهر)).
وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/158): ((رواه أحمد ، والطبراني في "الكبير" و"الصغير"، وإسناد أحمد لا بأس به)).
وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1/381 رقم1868).
3 - ومن حديث ابن عمر : أخرجه ابن حبان (5/205-207 رقم1887/ الإحسان)، والبزار (2/8-9 رقم1082/"كشف الأستار")، والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/294). ثلاثتهم من طريق يحيى بن عبدالرحمن الأرحبي ، عن عبيدة بن الأسود ، عن القاسم بن الوليد ، عن سنان بن الحارث بن مصرف ، عن طلحة بن مصرف ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، فذكره مطولاً ، وفيه : ((فإذا وقف بعرفة ، فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيقول : انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا ، اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم ، وإن كان عدد قطر السماء ، ورمل عالج)).
قال البزار: ((قد روي هذا الحديث من وجوه، ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق)). وقال البيهقي : ((إسناده حسن)).
(2) قوله: ((يقول للملائكة)) في (م): ((تقول الملائكة)).
(3) في (ب) و(ح) و(م) و(ي): ((تذكيرًا)).
(4) في (ب) و(م): ((بقول)))، والمثبت من سائر النسخ، وهما متقاربان؛ إذ يريد الشارح أنه يذكرهم باليوم الذي قالوا فيه، والأولى: ((بقولهم)).
(5) قوله : ((فيها)) ليس في (غ).
(6) سورة البقرة؛ الآية:30.
وهي بتمامها: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمد ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون}والآيتان بعدها تتمة القصة. واقتصر في نسخة (أ) و(ز) من الآية على قوله: ((أتجعل))، وفي (ب) و(م) اقتصر على ((أتجعل فيها))، والجزء المذكور في كلام الشارح ورد بتمامه في (ح) و(ي).
ويغلب على الظن أن الشارح - رحمه الله- قصد إلى السجع في هذه الفقرة، فاجتزأ الآية وقسمها، وعلى إرادة السجع يترجح إثبات ما وقع في (أ) و(ز) من الاقتصار على ((أتجعل))، مع إثبات ((الحديث الأول)) الواقع في (ح) و(ي) بدل قوله: ((الحديث الآخر)) فيما سبق من كلام الشارح. لكن أكثر النسخ على غير ذلك، وأيضًا لا تتبين ((أولية))) الحديث؛ فلم يذكره الشارح، وليس هو في "صحيح مسلم". وعلى السجع تكون العبارة هكذا: ((... أن يثني عليهم عندهمْ، ويعظمهم بحضرتهمْ، عبادي جاءوني شعثًا غبرًا، أشهدكم أني قد غفرت لهمْ)) وكأن هذا والله أعلمْ، تذكير للملائكة بيوم ((أتجعلْ))، وإظهار لتحقيق قوله تعالى: ((إني أعلمْ)).اهـ. والله تعالى أعلمْ.
(7) في (ح): ((من)). [شطبت من الهامش وبقيت في المتن]
(8) تقرأ في (ي): ((مرضاته)).
(9) في (أ): ((واهتبال)).
(10) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز).
(11) في (ز): ((والعمرة)).
(12) كذا في النسخ، إلا أنها في (م) تقرأ ((الفرفد)) أو الفرقد)). ... كَما يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرْ$%& ) البيت من بحر السريع، وهو لعمرو بن أحمر بن العمرو الباهلي، شاعر مخضرم، أسلم وغزا في الروم.
وقد وقع في "البحر المحيط" و"المعلم" وما نقله عنه في "الإكمال" كما وقع هنا: ((الفدف)). ووقع في "الدر المصون" و"التمهيد": ((الغرقد)) بالغين. والصواب من ذلك كله: ((الفرقد))؛ كما جاء في كل كتب اللغة المعتمدة التي ذكرت البيت وتكلمت على هذه الكلمة. وانظر تخريج البيت.(3/461)
وقال بعضُ اللُّغويين: الاعتمارُ والعُمرةُ: القصدُ (1) ؛ قال:
لَقَدْ سَما ابنُ مُعْمَرٍ حين اعْتَمَرْ (2)
أي: حين قَصَدَ.
وهي في عرفِ (3) الشرْعِ: زيارةُ البيتِ على أحكامٍ مخصوصةٍ.
وقد اختُلف في حكمِها؛ فذهب جماعةٌ من السَّلفِ إلى وجوبِها، وهو قولُ الأوزاعيِّ، والثوريِّ، وابنِ حبيبٍ (4) وابنِ الجهمِ (5) من أصحابِنا، وحُكي عن أبي حنيفةَ. وذهب آخرون إلى أنها ليستْ بواجبةٍ؛ وهو قولُ مالكٍ، ومشهورُ قولِ (6) أبي حنيفةَ وأصحابِه، وداودَ. واختلفتِ (7) الروايةُ فيها عن الشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وأبي ثورٍ. إلا أن مالكًا قال: إنها سُنةٌ مؤكدةٌ، وبعضُ هؤلاء يجعلُها مستحبةً (8) .
ومُتمسَّكُ مَنْ قال بوجوبِها قولُه تعالى: {وأتمُّوا الحج والعمرة لله} (9) . وليس فيه حُجَّةٌ؛ لأنا نقولُ بموجَبِه؛ فإن من شَرَع في شيءٍ (10) من أعمالِ الطاعاتِ وجب عليه إتمامُه؛ وإن كان مستحبًّا، وقد تقدَّم هذا المعنى غيرَ ما (11) مرةٍ.
وقوله: ((العمرةُ إلى العمرةِ كفارةٌ لما بينهما))؛ يعني: لَمِا يقعُ بينهما من السَّيِّئاِت. وقد استوفينا هذا المعنى في كتابِ الطهارةِ (12) . وقد استدلَّ بظاهرِ هذا مَنْ قال بجوازِ تَكْرارِ العمرةِ في السَّنةِ الواحدةِ، وهم الجمهورُ، وأكثرُ أصحابِ مالكٍ.
وذهب مالكٌ إلى كراهيةِ ذلك؛ ومتمسَّكُه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعتمر خمسَ عُمرٍ (13) ، كلَّ عمرة منها في سنةٍ غيرِ الأخرى، مع تمكُّنِه من التَّكرارِ في السنةِ الواحدةِ، ولم يفعلْ (14) . =(3/462)=@
__________
(1) المعنيان في "تهذيب اللغة" للأزهري (2/383- 384)، وانظر "النهاية" (3/298)، "تهذيب الأسماء" (3/42).
(2) البيت من مشطور الرجز، للعجاج عبد الله بن رؤبة بن لبيد، في أرجوزة يمدح بها عمر بن عبيد الله بن مَعْمَر، في حربه للخوارج، ومطلعها:
قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلهُ فَجَبَرْ
وَعَوَّر الرحمنُ مَنْ ولَّى العَوَرْ
فالحمدُ لله الذي أَعطى الحَبَرْ
مَوَاليَ الحقِّ إِنِ المَوْلى شَكَرْ
عَهْدَ نبيٍّ ما عَفَا وما دَثَرْ
وعهدَ عثمانٍ وعهدًا من عُمرْ
وعهدَ إخوانٍ هُمُ كانوا الوَزَرْ
ويقول فيها:
لقد سما ابنُ مَعْمَرٍ حين اعتمرْ
مَغْزًى بعيدًا من بعيدٍ وضَبَرْ
من مُخَّةِ الناس الذي كان امْتَخَرْ
ثلاثةً وستةً واثنَىْ عَشَرْ
ورواية البيت التي ذكرها الشارح هي رواية الديوان، وجل في مصادر التخريج، ووقع في "المحكم" و"المخصص" وأحد موضعي كلٍّ من: "الألفاظ" و"تاج العروس": ((لقد غزا...)). و((سما)): ارتفع. و((اعتمر)): قصد وأمَّ. قال الأصمعي: ويقال إذ أمَّ الرجل أمرًا: قد اعتمره. ويقال: قد اعتمرت فلانًا؛ أي: قصدت إليه. وكل من أتى شيئًا فقد حجَّه واعتمره.اهـ.
و((مغزًى)) مصدر ميمي من ((غزا يغزو)). و((ضبر)): المراد هنا: جمع جيشًا للغزو؛ وأصله من ضَبَرت الفرسُ: إذا جمعت قوائمها لتثب. ومعنى البيت أن ابن معمر قد ارتفع شأنه وعلا قدره حين قصد غزو موضعٍ بعيدٍ وهو البحرين، من موضعٍ بعيدٍ وهو الشام، وجمع لذلك جيشًا عظيمًا.
وموضع الشاهد قوله: ((اعتمر)) بمعنى: قصد.
والبيت للعجاج في "ديوانه" (1/76)، و"المحكم" (2/107)، و"الزاهر" للأزهري (ص206)، و"الصحاح" (2/719)، و"الألفاظ" لابن السكيت (ص36 و417)، و"تفسير الطبري" (3/229)، و"لسان العرب" (4/579)، و"تاج العروس" (7/119، 261). وبلا نسبة في "المخصص" (12/301)، و"تهذيب اللغة" (2/384)، و"المعلم" (2/75)، و"الإكمال" (4/460)، و"تفسير القرطبي" (2/177).
(3) قوله : ((عرف)) سقط من (ح).
(4) قوله : ((حبيب)) سقط من (ح).
(5) قوله: ((وابن الجهم)) موضعه بياض في (أ).
(6) في (ب) و(ز): ((مذهب)). وفوقها في (ب): ((قول)) وعليها علامة أنها في نسخة أخرى كذلك.
(7) في (ز): ((واختلف))، ومن قوله: ((أبي حنيفة...)) إلى هنا، موضعه بياض في (أ).
(8) "الاستذكار" (11/241).
(9) سورة البقرة؛ الآية: 196.
(10) في (م): ((معنى)).
(11) سقط من (أ).
(12) في باب فضل تحسين الوضوء والمحافظة على الصلوات، من كتاب الطهارة.
(13) تقدم في باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم وكم حج ، لكن فيه : أربع عمر .
(14) قال الحافظ في "الفتح" (3/598) ذاكرًا هذا الاستدلال ومتعقِّبَهُ: واستدل لهم (أي: من يكره تكرار العمرة في السنة) بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة، وأفعاله على الوجوب أو الندب. وتعقب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله؛ فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعله لرفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه (يعني: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)) ) فثبت الاستحباب من غير تقييد:اهـ.(3/462)
وأيضًا: فإنها نُسُكٌ مشتملٌ على إحرامٍ وطوافٍ وسعيٍ (1) ، فلا يفعلُ (2) في السنِة إلا مرةً؛ أصلُه الحجُّ (3) . وعلى قولِ مالكٍ لو أحرم بالعمرةِ المكررةِ (4) لزمتْه.
وقال آخرون: لا يعتمرُ في شهرِ أكثرَ من مرةٍ واحدةٍ (5) . ولا حُجةَ له (6) في شيءٍ مما تقدَّم.
وقوله: ((والحج (7) المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))؛ المبرورُ (8) : اسمُ مفعولٍ من: ((بُرَّ))- مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعلُه، فهو (9) مَبْرورٌ؛ فـ((بَرَّ (10) ))يتعدَّى بنفسِه؛ يقالُ: ((برَّ الله حجَّك))، ويُبنى (11) لما لم يسمَّ فاعلُه (12) ؛ فيقال: ((بُرَّ حجُّكَ؛ فهو (13) مبرورٌ)). ولا معنى لقول من قال: إنه لا يتعدَّى إلا بحرفِ الجرِّ (14) .
واختلف في معنى المبرورِ، فقيل (15) : الذي لا يخالطُه شيءٌ من المأثمِ، وقيل: المتقبَّلُ، وقيل: الذي لا رياءَ فيه ولا سُمْعَةَ (16) .
قلت (17) : وهذه الأقوالُ كلُّها متقاربُة المعنى؛ وهو أنه: الحجُّ الذي وُفِّيتْ أحكامُه، ووقع موافقًا لما طُلب من المكلَّفِ على الوجهِ الأكملِ. والله تعالى أعلمُ (18) .
وقولُه: ((ليس له جزاءٌ إلا الجنة))؛ يعني: أنه لا يُقتصرُ (19) فيه على مغفرةِ بعضِ الذنوبِ، بل لا بُدَّ (20) لصاحبِه من الجنةِ بسببِه (21) . والله تعالى أعلمُ.
وقولُه: ((من أتى هذا البيتَ))؛ أي (22) : حاجًّا؛ بيَّنته (23) الروايةُ الأخرى. =(3/463)=@
__________
(1) قوله: ((وطواف وسعي)) في (ح) و(ي): ((من طواف وسعي)).
(2) في (أ) و(م): ((تفعل))، وهي غير منقوطة في (ح) و(ب) و(ي)، والمثبت من (ز).
(3) أي: قياسًا على الحج؛ فالحج أصل، والعمرة فرع، والجامع: أن كليهما نسك فيه إحرام واطواف وسعي، والحج مرة، فالعمرة كذلك.
وأُجيبَ عن هذا القياس: بأن الحج مؤقت لا يتصور تكراره في السنة، بخلاف العمرة فإنها غير مؤقتة؛ فتُصِّور تكرارُها؛ كالصلاة. قاله النووي في "المجموع" (7/140). وانظر "الاستذكار" (11/249- 250).
(4) سقط من (ز). وهذا قول مالكٍ عينه؛ ففي "المدونة" (1/403): قال سحنون: ((قلت لابن القاسم: أرأيت من اعتمر في غير أشهر الحج، لم لا يكون له أن يعتمر بعد عمرته؛ قال: لأن مالكًا يقول: العمرة في السنة إنما هي مرة واحدة. قال: وقال مالك: لو اعتمر للزمته. قلت لابن القاسم: تلزمه إن اعتمر في قول مالكٍ عمرةٌ أخرى إن كان دخل بالأولى في أشهر الحج أو في غير أشهر الحج؟ قال: نعم)).اهـ. وعبارة القاضي عياض في "الإكمال" (4/461): ((ومنعه آخرون وقالوا يستحب ألا يعتمر في السنة إلا مرة... وهو قول مالك إلا أنه إن اعتمر أكثر من مرة لزمه تمام ذلك عنده)).
(5) قوله : ((واحدة)) سقط من (أ) و(ح).
(6) في (ي): ((لهم)) ولعله يريد هنا ((مالكًا)) رحمه الله، مؤيدًا بذلك قول الجمهور بعدم كراه8ة تكرار العمرة في السنة. وأما قوله: ((آخرون)) فالمراد بهم بعض أصحاب مالك كما هو ظاهر عبارة "الإكمال" (4/461)، وظاهر نقل النووي في "شرح مسلم" (9/118) عن القاضي. وعبارة القاضي: ((وقد اختلف السلف في الاعتمار في السنة مرارًا، فأجاز ذلك كثير... ومنعه آخرون... وهو قول مالك... وقال كثير من أصحابه بجواز ذلك، وقال آخرون: لا يعتمر في شهر أكثر من مرة)).
(7) قوله : ((والحج)) سقط من (ز)، وفي (م): ((الحج)).
(8) قوله : ((ليس له جزاء إلا الجنة المبرور)) سقط من (ح).
(9) في (م): ((وهو)).
(10) في (ب) و(ح) و(ز): ((فبر)).
(11) ؟؟؟.
(12) من قوله : ((فهو مبرور وبر ....)) إلى هنا سقط من (ز).
(13) في (ح): ((وهو)).
(14) هو المازري في "المعلم" (2/75). وعبارته: والمبرور وزن مفعول من البر، يحتمل أن يزيد أن صاحبه أوقعه على وجه البر، وأصله ألا يتعد بغير حرف جر، إلا أن يريد بمبرور وصف المصدر فيتعدى حينئذ إليه إذ كل ما لا يتعدى من الأفعال؛ فإنه يتعدى إلى المصدر.
قال القاضي في "الإكمال" (4/461): وهذا الكلام كله إنما يتوجه على أن معنى المبرور ما أشار إليه، من أنه قصد به البرَّ، وأما على غيره من التأويلات فلا يحتاج إلى حرف تعدية)).
ثم ذكر أقوالاً في تفسير ((المبرور)) سيذكر الشارح بعضها.
وقد قال في "الصحاح" (2/588): ((وبَرَّ حجُّه، وبُرَّ حجُّه، وبَرَّ اللهُ حجَّه، بِرًّا، بالكسر في هذا كله)).اهـ. وقال في "المصباح" (ص28): وبَرَّ الحجُّ واليمينُ والقولُ، فهو بَرٌّ وبارٌّ. ويستعمل متعديًا أيضًا بنفسه في الججِّ، وبالحرف في اليمين والقول، فيقال: برَّ اللهُ تعالى الحجَّ يَبَرُّه برورا، أي: قبله، وبَرِرْتُ في القول واليمين: ((إذا صدقت فيهما)) وانظر غريب أبي عبيد (5/520)، و"المشارق" (1/84)، و"النهاية" (1/117).
(15) في (ح): ((فقال)).
(16) ذكرها القاضي في "الإكمال" (4/461) هذه الأقوال، وزاد: وقيل: ((الذي لم تعقبه معصية)). وقال أبو عبيد (5/520): ((والمبرور: إنما هو مأخوذ من البر يعني ألا يخالطه غيره من الأعمال التي فيها المآتم ، وكذلك غرير الحج أيضًا)).
وقال النووي: (9/118- 119): وهو الأصح والأشهر.
(17) في (ب): ((قال الشيخ رحمه الله))، وفي (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(18) نقل هذه العبارة عن الشارح، الحافظ في "الفتح" (3/382).
(19) في (ز): ((تقتصر)).
(20) في (ب): ((يد)).
(21) من قوله: ((الذنوب بل....)) إلى هنا، موضعه بياض في (أ).
(22) قوله : ((أي)) سقط من (ح).
(23) في (ح) و(ب): ((تبينه))، وفي (أ): ((يبينه)).(3/463)
و((الرَّفَثُ)): الفحشُ من القولِ، وقيل (1) : الجماعُ، قال الأزهريُّ: هي كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه (2) الرجلُ من المرأةِ (3) .
و((الفسوقُ)): السِّبابُ والمعاصي (4) .
و((الجدالُ)): المجادلُة والمخاصمةُ فيما لا يجوزُ (5) ؛ قال الجوهريُّ: المجادلةُ: الخصومةُ المحكمَةُ (6) .
وقوله: ((رجع كيومَ ولدته أمُّه))؛ أي: بلا ذنبٍ، وهذا يتضمَّنُ غفرانَ الصغائرِ والكبائرِ والتَّبِعاتِ، وقد بيَّنَّا (7) ذلك فيما تقدَّم من كتابِ الصيامِ وغيرِه (8) .
ومن باب تَمَلُّك دُور مكة ورِباعها
قولُ أسامة رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أتنزل في دارك))؛ ظاهرُ هذه الإضافةِ أنها كانت ملكَه، ويدلُّ عليه أيضًا قولُه: ((وهل ترك لنا عقيلٌ من رِباعٍ أو دورٍ)). فأضافها =(3/464)=@
__________
(1) في (ب): ((فنل)).
(2) في (ي): ((يريد)).
(3) قوله: ((وقال الأزهري...)) هذه عبارة القاضي في "الإكمال" (4/462)، وهذا القول نقله الأزهري في "تهذيب اللغة" (15/77) عن الزجاج. وذكر أبو عبيد في "غريبه" (4/151)، والخطابي في "غريبه" (2/566) عن ابن عباس أنه: التعريض بذكر الجماع.
قال القاضي: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((فلم يرفث ولم يفسق)) هذا من قوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق} [البقرة: 197].
ورُوي عن ابن عباس أن الرفث في الآية ما خوطب به النساء، بمعنى أنه إن رفث ولم تسمعه امرأة فليس داخلاً في قوله تعالى: فلا رفث. وقال الحافظ في "الفتح" (3/382) والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من الجماع وإليه نحا القرطبي.
(4) قوله: ((السباب والمعاصي)) كلمة ((السباب)) في (ح) و(م) و(ي): ((السيئات))، وفي (أ) و(ب) أقرب إلى ((السيئات)) من ((السباب)). والمثبت من (ز) وهو الصواب. وفي "الإكمال" (4/462): ((وقيل: الفسوق هنا السيئات، وقيل: المعاصي.اهـ. ولما كانت السيئات هي المعاصي تبين أن السيئات هنا محرفة عن ((السباب)). وعليه فإن صواب عبارة الشارح أن تكون كما في "الإكمال" مع تصويب التحريف هكذا: ((السباب، وقيل: المعاصي)).
وهذا تفسيران للفسوق الذي وقع في آية الحج، وفي هذا الحديث، والمراد بالمعاصي هنا: المعاصي كلها؛ لأن هناك قولاً آخر بأن الفسوق هو المعاصي الخاصة بالإحرام بارتكاب محظوراته. وقيل: الذبح للأصنام وقيل: قول الزور. وقيل: التنابز بالألقاب. ورجح الطبري كونه المقصود به النهي عن محظورات الإحرام؛ لأن المعاصي كلها محرمة على الحاج وغيره، وهنا خص به الحاج، كما أن الرفث المنهي عنه حال الحج هو الذي كان حلالاً له قبل إحرامه، "تفسير الطبري" (4/135- 141).
(5) قوله: ((فيما لا يجوز)) سقط من (أ).
(6) هذا معنى كلام الجوهري في "الصحاح" (4/1653) فإنه قال: وجاء له؛ أي: خاصمه، مجادلة وجدالاً، والاسم الجدل، وهو شارة الخصومة وجدلت الحبل أجدلُه جَدْلا؛ أي: فتلته فتلاً محكمًا)).
ولفظ ((الجدال)) لم يذك في الحديث هنا، لكنه مذكور في الآية الكريمة: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وقيل في المراد به أقوال، هذا أحدها؛ أنه المخاصمة والمماراة، وقيل: هو هنا السباب، وقيل: المراد به نوعًا خاصًا من الجدال وهو الاختلاف فيمن هو أتم حجا من الحجاج. وقيل: اختلافهم في البدن الذي فيه الحج، وقيل: اختلافهم في الموقف أيهم المصيب موقف إبراهيم عليه السلام. وقيل: هو إبطال للنسيء الذي كانوا يعملونه في الجاهلية؛ أي: قد استقام أمر الحج على ميقات واحد لا يتقدمه ولا يتأخر عنه ولا جدال فيه. وقال الطبري عن هذا القول الأخير: إنه أولاها بالصواب، وبنى ذلك على أن المنهيات قبله تخص الحج؛ من الجماع المباح قبل، والمحظورات المباحة في غير الحرم والإحرام، فكذلك الجدال يخص الحج، ولأن سائر الأقوال فسرته بما هو منهي عنه أصلاً في الحج وغيره، في الحرم والحل. وفي كلام القاضي ما يظهر منه ترجيح القول بأنه الجدال في الموقف؛ فقد قال في تعليل عدم ذكر ((الجدال)) في الحديث: وقيل لم يذكر هنا الجدال المذكور في الآية مع الرفث والفسوق؛ لأن المجادلة ارتفعت، إنما كانت من العرب وسائر قريش في موضع الوقوف بعرفة أو المزدلفة، فأسلمت قريش وارتفعت المجادلة ووقف الكل بعرفة)).اهـ. وعدم ذكر الجدال في الحديث استدل به الطبري أيضًا على صحة ترجيحه للقول بأنه الجدال في مواقيت الحج؛ فإذا قد ارتفع الجدال واستقام أمر الحج، لم يذكره الرسول وخص استحقاق مغفرة الذنوب بعدم الرفث والفسوق. "تفسير الطبري" (4/144- 155)، "الإكمال" (4/462).
(7) قوله: ((وقد بينا)) في (م): ((وقدمنا)).
(8) لم يتقدم الشارح بحث هذا الموضع في كتاب الصيام، وإنما مرَّ طرف منه في كتاب الطهارة باب فضل تحسين الوضوء (يراجع) وفي نص الحديث هناك اشتراط اجتناب الكبائر لحصول التكفير بقوه - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا اجتنبت الكبائر))، أما في هذا الحديث فظاهره الإطلاق كما قال الشارح، وقد ذكر نحو عبارته الحافظ في "الفتح" (3/383) ثم قال: وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك (أي: بمغفرة الكبائر والتبعات) وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري)).اهـ.
أما حديث العباس بن مرداس السلمي فإنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((دعوت الله يوم عرفة أن يغفر لأمتي ذنوبها، فأجابني أن: قد غفرت إلا ذنوبها بينها وبين خلقي، فأعدت الدعاء يومئذ فلم أجب بشيء، فلما كان غداة المزدلفة قلت: يا رب، إنك قادر أن تعوض هذا المظلوم من ظلامته وتغفر لهذا الظالم، فأجابني أن: قد غفرت)) قال: فضحك رسول اله. قال: فقلنا: يا رسول الله، رأيناك تضحك في يوم لم تكن تضحك فيه؟! قال: ((ضحكت من عدو الله إبليس لما سمع بما سمع إذ هو يدعو بالويل والثبور ويضع التراب على رأسه)).
وأما حديث ابن عمر فإنه قال: ((خطبنا رسول الله عشية عرفة قال: ((أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا فقبل من محسنكم وأعطى محسنكم ما سأل ووهب مسيئكم لمحسنكم إلا التبعات فيما بينكم أفيضوا على اسم الله)) فلما كان غداة جمع قال: ((أيها الناس إن الله قد تطول عليكم في مقامكم هذا فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم والتبعات بينكم عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله)). فقال أصحابه: يا رسول الله، أفضت بنا بالأمس كئيبًا حزينًا، وأفضت بنا اليوم فرحًا مسرورًا؟! قال رسول الله: ((إني سألت ربي بالأمس شيئًا لم يجد لي به؛ سألته التبعات فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل، قال: إن ربك يقرئك السلام ويقول: التبعات ضمنت عوضها من عندي)).
"تفسير الطبري" (4/192- 194). [يراجع المحدثون للتخريج](3/464)
لنفسه، وظاهرُها الملكُ؛ فيكون عقيلٌ اعتدى على دارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ورباعِه، فأخذها وتصرَّفَ فيها (1) ، كما فعل أبو سفيان بدورِ (2) مَنْ هاجر من المؤمنين (3) ،، قال الداوديُّ (4) : إن عقيلاً باع ما كان للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولمن هاجر من بني عبدِ المطلبِ؛ فعلى هذا: يكونُ تَرْكُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لدارِه (5) تحرُّجًا مِنْ أن يرجعَ في شيءٍ أُخرج (6) منه لأجلِ الله تعالى (7) .
وقيل: إنَّه حَكَمَ لها بحُكْمِ الدارِ (8) ، وقد خرجتْ عن ملكِه لما غنمها المسلمون؛ كما يقوله مالكٌ والليثُ في هذه المسألِة لا في هذا الحديثِ (9) . وهذا فيه بُعدٌ؛ لأنه يكونُ تعليلُه - صلى الله عليه وسلم - بأخذِ عقيلٍ لها ضائعًا، ويخرجُ عن (10) أن يكونَ جوابًا عمَّا سُئله.
وقيل: كان أصلُها لأبي طالبٍ فأسكنه إيَّاها، فلما مات أبو طالبٍ ورثه عقيلٌ وطالبٌ؛ لكونِهما مساويَيْنِ له في الكفرِ، ولم يرثْه عليٌّ ولا جعفرٌ؛ لكونهما مسلميِن، فأخذها عقيلٌ لما هاجر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بحكمِ ميراثِه من أبيه (11) ؛ وعلى هذا فتكونُ (12) إضافتُها إليه مجازيةً؛ لأنه (13) سكنها فقطْ.
والقولُ الأولُ أولى.
وقد اختلف في مكةَ ودورِها، ورِباعِها؛ هل هي مملوكةٌ لأحدٍ؛ فيبيعَ ويُكْرِيَ؟ أو لا ملكَ لأحدٍ على شيءٍ منها؛ فلا يجوزَ فيها شيءٌ من ذلك؟ وإلى الأولِ ذهب الشافعيُّ وبعضُ السَّلفِ، وإلى الثاني ذهب أبو حنيفةَ والثوريُّ، وتوسَّط مالكٌ؛ فكره ذلك.
وللخلافِ سببانِ:
أحدُهما: هل فَتْحُ مكةَ كان عُنْوةً؛ فتكونَ مغنومةً، لكنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يقسمْها، وأَقَّرها لأهلِها، ولمن جاء بعدهم، كما فعل عمرُ رضي الله عنه بالأرضِ المغنومةِ (14) ؛ فتبقى على ذلك لا تباعُ ولا تُكرى (15) . وبأنها (16) فُتحت عُنْوةً، قال مالكٌ، وأبو حنيفة، والأوزاعيُّ. أو كان فتحُها صُلْحًا - وإليه ذهب الشافعيُّ - فتبقى (17) ديارُهم بأيديهم وفي أملاكِهم يَتصرَّفون (18) فيها كيف شاءوا. =(3/465)=@
__________
(1) في (ح): ((وتصرفها فيها)).
(2) في (م): ((بدار)).
(3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (4/102) من طريق الواقدي ، قال : حدثني عمر بن عثمان الجحشي عن أبيه ، وأخرجه الطبراني كما في "مجمع الزوائد" (6/14). قال الهيثمي : فيه عبدالله بن شبيب وهو ضعيف . وذكره الفاكهي في "أخبار مكة" (3/293)، وابن هشام في "السيرة النبوية" (3/28).
(4) في (ي): ((داود)).
(5) قوله : ((لداره)) سقط من (ز).
(6) في (ي): ((خرج)).
(7) هذا تعليل الخطابي في "أعلام الحديث" (2/871). وتعقبه الحافظ في "الفتح" (3/452) قال: ((وتعقب بأن سياق الحديث يقتضي أن عقيلاً باعها، ومفهومه أنه لو تركها لنزلها)). وقال في (8/15): والأظهر أن الذي يختص بالترك إنما هو إقامة المهاجر في البلد التي هاجر منها كما تقدم تقريره، لا مجرد نزوله في دار يملكها إذا أقام المدة المأذون له فيها وهي أيام النسك وثلاثة أيام بعده. والله أعلم)).
(8) يعني بالدار هنا مكة كلها؛ لما فتحت عنوة. وعبارة القاضي في "الإكمال" (4/263). وقال محمد بن أبي صفرة: في الحديث حجة بأن من خرج من بلده مسلمًا وبقي أهله وولده في دار الكفر، ثم غزاها مع المسلمين، أن ما فيها من ولده وماله بحكم البلد، كما كانت دار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حكم البلد ولم ير نفسه أحق بها)). ثم تعقبه بما تعقبه الشارح هنا.
(9) يعني أن مذهب مالك في المسالة أن ما فتح عنوةً تخرج دورها وما فيها عن ملك أصحابها لما غنمها المسلمون، ولما كان في هذا الحديث دلالة على بقاء ملك دور مكة لأصحابها، خالف الأدلة على أن مكة فتحت عنوة وما يقتضيه ذلك من عدم بقاء دورها على ملك أصحابها، فتوسط مالك وقال بكراهة التصرف في دور مكة بالبيع والشراء والكراء، مراعاة للخلاف؛ كما سيذكره الشارح بعد.
(10) قوله : ((عن)) سقط من (ح) و(ز) و(ي).
(11) وهو التعليل المذكور في الحديث.
(12) في (أ) و(ح) و(ز): ((فيكون)).
(13) قوله : ((لأنه)) سقط من (ز).
(14) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2334) عن عمر بن الخطاب : لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر . وانظر كتاب "الأموال" لأبي عبيد (62-66)، و"سنن البيهقي" (9/135)، و"فتاوى ابن تيمية" (28/582).
(15) في (ز): ((يكرى)).
(16) في (ب) و(م): ((أو أنها)).
(17) في (أ): ((فيبقى)).
(18) في (ز): ((فيتصرفون)).(3/465)
والسببُ الثاني: النظرُ (1) في قولِه تعالى: {سواء العاكف فيه والبادي} (2) ؛ هل الضميرُ راجعٌ إلى المسجدِ الحرامِ أو إلى البلدِ الحرام (3) ؟
والظاهر ُالأولُ، وأن مكَةُ فُتَحتْ عُنْوةً، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أمَّنهم، وأقرَّهم على أموالِهم. وهو الصحيحُ من الأحاديثِ (4) . والله تعالى أعلمُ. قال أبو عبيدٍ: ولا نعلمُ مكةَ يُشبهُها شيءٌ من البلادٍ (5) .
قلتُ (6) : وعلى قولِ مالكٍ: إنها مغنومةٌ؛ ينبغي (7) أن يكونَ مذهبُه كمذهبِ أبي حنيفةَ، لكنه راعى الخلافَ، على أصلِه في مراعاةِ الخلافِ الظاهرِ، وتكون (8) فائدةُ حكمِه بالكراهةِ (9) : أَنَّ من باع شيئًا منها أو أَكْرَاهُ لا يفسخُ عقدُه (10) ، ويُمْضَى، غيرَ أنه لا يَسوغُ الإقدامُ عليه. والله تعالى أعلم.
وقولُه: ((هل ترك لنا عقيل من رباع أو دور)) هذا الاستفهامُ معناه النفيُ؛ أي: ما ترك لنا شيئًا من ذلك.
واختلف الرواةُ: هل كان هذا القولُ في فتحِ مكةَ، أو في حجةِ الوداع؟ فرُوِيَ عن الزهريِّ (11) كلُّ ذلك. ويحتملُ أن يكونَ تكرَّرَ هذا السؤالُ والجوابُ في الحالتين. وفيه بُعدٌ. =(3/466)=@
__________
(1) في (ح): ((للنظر)).
(2) سورة الحج؛ الآية: 25.
والعاكف: المقيم فيه من أهل بلده، والبادي: الذي أتاه من غير بلد. وثبتت ياء ((البادي)) في جميع النسخ، وهي قراءة، وهي الأصل، قرأ بإثباتها وصلا ووقفًا ابن كثير ويعقوب، وأثبتها وصلا فقط ورش عن نافع وأبو جعفر وأبو عمرو، وحذفها وصلا ووقفا عاصم وقالون عن نافع، وابن عامر وحمزة والكسائي وخلف.
أما إثباتها فهو الأصل والقياس؛ لأن الكلمة محلاة بـ((أل)) قال سيبويه: إذا لم يكن في موضع تنوين – يعني اسم الفاعل – فإن البيان أجود في الوقف وذلك قولك: هذا القاضي وأما حذفها في الوقف فقد حكى سيبويه أن من العرب من يحذف هذا في الوقف شبهوه بما ليس فيه ألف ولام. وأما حذفها في الوصل فليس قياسيًّا، لكنها في الفواصل. وما أشبهها من الكلام التام الذي يوقف عليه - تشبه القوافي، والقوافي في كثر حذف ذلك منها. وانظر: "السبعة" (ص436)، "المبسوط" (ص309)، "النشر" (2/137- 138)، "كتاب سيبويه" (4/183- 185).
(3) لفظة ((الحرام)) من (أ) فقط. ورجح الطبريّ في الآية أن المراد ((المسجد الحرام))؛ لأن الله تعالى ذكره ذكر في أول الآية صد مَنْ كفر به مَنْ أراد من المؤمنين قضاء نسكه في الحرم عن المسجد الحرام، فقال: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل اله والمسجد الحرام} ثم ذكر جل ثناؤه صفة المسجد الحرام فقال: {الذي جعلناه للناس} فأخبر جل ثناؤه أنه جعله للناس (الذين آمنوا به) كلهم، فالكافرون به يمنعون من أراده من المؤمنين به عنه، ثم قال: {سواء العاكف فيه والباد} فكان معلومًا أن خبره عن استواء العاكف فيه والباد إنما هو في المعنى الذي ابتدأ الله الخبر عن الكفار أنهم صدوا عنه المؤمنين به، وذلك لاشك طوافهم وقضاء مناسكهم به والمقام، لا الخبر عن ملكهم إياه وغير ملكهم)).اهـ.
وذكر النووي في "المجموع" مناظرة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه، استدل فيها إسحاق بالآية الكريمة فقال الشافعي: والمراد المسجد خاصة، وهو الذي حول الكعبة، ولو كان كما تزعم لكان لا يجوز لأحد أن ينشد في دور مكة وفجاجها ضالة ولا ينحر فيها البدن ولا يلقي فيها الأرواث. فسكت إسحاق.
"تفسير الطبري" (18/595- 597)، "المجموع" (18/299- 300).
(4) قال الحافظ في "الفتح" (8/13) بعد حكاية الخلاف في المسألة: ولاحق أن صورة فتحها كان عنوة ومعاملة أهلها من دخلت بأمان.
وانظر: "المعلم" (3/25- 26)، و"الإكمال" (4/142- 145)، و"المجموع" (9/296- 301)، و"فتح الباري" (3/450- 451)، (8/12- 13). وانظر ما يأتي في باب ما جاء أن فتح مكة كان عنوة من كتاب الجهاد والسير.
(5) قول أبي عبيد في "الأموال" (ص70)، وهو يرى خصوصية ذلك بمكة؛ من جهتين: إحداهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان خصه من الأنفال والغنائم بما لم يجعله لغيره؛ وذلك لقوله: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله وللرسول} فنرى هذا كان خالصًا له. والجهة الأخرى أنه قد سن لمكة سننًا لم يسنها لشيء من سائر البلاد.اهـ.
وضعفه ابن عبد البر في "الاستذكار" (14/333)؛ قال: وهذه الآية لم يختلفوا أن قوله عز وجل: {واعملوا أنما غنمتم من شيء فأن الله خمسه...} [الأنفال: 41] نزلت بعد قوله: {قل الأنفال لله والرسول} [الأنفال: 1]. وانظر: "المنتقى" (3/220).
(6) في (ز): ((قال الشيخ)) وفي (ب) و(م): ((قال الشيخ رحمه الله)).
(7) في (ب): ((فينفي)).
(8) في (ز) و(ي): ((ويكون)).
(9) في (ي): ((بالكراهية)).
(10) في (م): ((عنده)) غير منقوطة النون.
(11) في (م): ((الزرعي)).(3/466)
وقولُه: ((للمهاجرِ إقامةُ ثلاثٍ بعدَ الصدْرِ بمكة))؛ المهاجرُ هنا (1) يعني به: كلَّ من هاجر من مكةَ إلى المدينةِ لنصرةِ (2) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يعني به من هاجر مَنْ غيرِها؛ لأن هذا الحديثَ خرج جوابًا عن سؤالِهم حين تحرَّجوا من الْمُقامِ بمكةِ؛ إذ كانوا قد (3) تركوها لله تعالى، فأجابهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك (4) ، ورأى أن إقامةَ الثلاثِ (5) ليستْ بإقامةٍ.
وقد تقدَّم احتجاجُ مالكٍ بهذا على تحديدِ المدةِ الفاصلِة بين الإقامةِ والسَّفرِ (6) .
وبهذا الحديثِ قال الجمهورُ؛ فحكموا بمنعِ المهاجر من أهلِ مكةَ من المُقامِ بها بعدَ الفتحِ، وأجاز ذلك (7) جماعةٌ لهم بعدَ الفتحِ (8) .
قلت (9) : وهذا الخلافُ وإن كان فيمن مضى حكمُهم وانقرض عصرُهم، وهجرتِهم الخاصةِ (10) بهم، لكن ينبني عليه (11) خلافٌ فيمن فرَّ بدينِه عن (12) موضع ما يخافُ فتنتَه، وترك فيه رِباعًا، ثم ارتفعت تلك الفتنةُ؛ فهل يرجعُ لتلك الرِّباعِ، أم لا؟ فنقولُ: إن كان تَرَكَ رباعَه لوجهِ الله تعالى، كما فعله (13) المهاجرون، فلا يرجعُ لشيءٍ من ذلك،، وإن كان إنما فرَّ بدينه لِيسلمَ له، ولم يخرجْ عن شيءٍ من أملاكِه، فإنه يرجعُ إلى ذلك كلِّه؛ إذ (14) لم يزُلْ شيءٌ من ذلك عن مِلْكِهِ. والله أعلمُ (15) . =(3/467)=@
__________
(1) سقط من (أ) وفي (ي): ((منها)).
(2) في (م): ((لنصر)).
(3) قوله: ((إذ كانوا قد))، في (ب): ((إذ قد كانوا))، وفي (ز): ((إذا كانوا)) وفي (م): ((إذ كانوا)).
(4) سقط من (ز).
(5) في (م): ((الثلاثة)). وقد نقل كلام الشارح هنا، الحافظ في "الفتح" (7/267).
(6) تقدم في كتاب الصلاة، باب: من أين يبدأ بالقصر.
(7) في (ي): ((ملك)) وكأن الناسخ ظنها ((مالك)).
(8) وقال القاضي في "الإكمال" (4/467) بعد ما ذكره الشارح -: مع الاتفاق على وجوب الهجرة عليهم قبل الفت، ووجوب سكنى المدينة لنصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواساتهم له بأنفسهم ولفرارهم بدينهم من الفتنة. وأما لغير المهاجر ممن أمن بعد ذلك، فلا خلاف في جواز سكنى بلده له، مكة أو غيرها.اهـ. وانظر "شرح النووي" (9/122- 123)، و"فتح الباري" (7/267).
(9) في (ز): ((قال الشيخ)). وفي (ب) و(م): ((قال الشيخ رحمه الله)).
(10) في (ح) و(ي): ((الحاصلة)).
(11) في (ح): ((عليهم)).
(12) في (أ) و(ح) و(ي): ((من)).
(13) في (ح): ((فعل)).
(14) في (ز): ((إذا)).
(15) من قوله: ((إذ لم يزل)) إلى هنا، سقط من (ي) وقد نقل هذه الفقرة بتمامها (مع تغير يسير) الحافظ في "الفتح" (7/267)، ثم قال: ((وهو حسن متجه، إلا أنه خص ذلك بمن ترك رباعًا أو دورًا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك. والله أعلم)).(3/467)
ومن باب تحريمِ مكةَ
قوله: ((لا هجرةَ بعدَ الفتحِ)) هذا رافعٌ (1) لما كان (2) تقرَّر من وجوبِ الهجرةِ إلى المدينةِ على أهلِ مكةَ باتفاقٍ، وعلى غيرِهم بخلافٍ، ولم يتعرَّضْ هذا العمومُ لنفيِ هجرةِ الرجلِ بدينهِ؛ إذ تلك الهجرةُ ثابتةٌ إلى يومِ القيامةِ، وإنما رُفع حكمُ الهجرةِ يومَ الفتحِ لكثرةِ ناصري الإسلامِ، ولظهورِ الدِّينِ وأَمْنِ الفتنةِ عليهم (3) .
وقوله: ((ولكنْ جهادٌ ونية)) دليلٌ على بقاءِ فرضِ الجهادِ وتأبيدِه، خلافًا لمن أنكر فرضيَّتَه (4) ، على ما يأتِي (5) .
وقولُه: ((وإذا (6) استُنفرتم فانفروا)) أي: طَلَبَ منكم الإمامُ (7) النَّفيرَ؛ وهو الخروجُ إلى الغزوِ؛ فحينئذ يتعيَّنُ الغزوُ على من استُنفرَ بلا خلافٍ.
وقوله: ((إن هذا البلدَ حرَّمه (8) الله يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ، فهو حرامٌ بحرمةِ الله تعالى إلى يومِ القيامةِ))؛ معنى حرَّمه الله؛ أي: حرَّم على غيرِ المحرِمِ دخولَه إلا أن يُحْرِمَ. ويَجْري هذا مَجْرَى قولِه تعالى: {حُرمت عليكم أمهاتكم} (9) ؛ أي: وطْؤُهنَّ. و{حُرمت عليكم الميتة} (10) ؛ أي: أكلُها. فَعُرْفُ الاستعمالِ دلَّ (11) على تعيينِ (12) المحذوفِ. وقد دلَّ على صحةِ هذا المعنى =(3/468)=@
__________
(1) في (ز): ((رفع))، وفي (أ): ((وقع)).
(2) قوله : ((كان)) سقط من (ح).
(3) قال في شرح النووي (9/123): وفي تأويل هذا الحديث قولان: أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام... وهذا يتضمن معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنها تبقى دار إسلام لا يتصور منها الهجرة. والثاني: معناه: لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها قبل الفتح؛ كما قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل...} الآية. وانظر: "القبس" (3/300-301)، و"فتح الباري" (6/39).
(4) في (م): ((فريضته)).
(5) يراجع.
(6) في (ح): ((إذا)).
(7) في (ز): ((الإمام منكم)).
(8) في (م): ((كرمه)).
(9) سورة النساء؛ الآية: 23.
(10) سورة المائدة؛ الآية: 3.
(11) في (أ): ((دال)).
(12) في (ز): ((تعين))، وفي (ح): ((تقدير))، وفي (ي): ((صحيين)).(3/468)
اعتذارُه - صلى الله عليه وسلم - عن دخولِه (1) مكةَ غيرَ محرمٍ مقاتلاً بقولِه: ((إِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ...))، الحديثَ (2) .
وبهذا أخذ مالكٌ والشافعيُّ - في أحد قوليهما - وكثيرٌ من أصحابِهما؛ فقالوا: لا يجوزُ لأحدٍ أن يدخلَ مكةَ إلا محرمًا، إلا أن يكونَ ممن يُكثِرُ التَّكرارَ إليها، كالحطَّابين ونحوِهم. وقد أجاز دخولَها لغيِر المحرِمِ (3) ابنُ شهابٍ، والحسنُ، والقاسمُ، ورُوي عن مالكٍ، والشافعيِّ، والليثِ،، وقال بذلك أبو حنيفة إلا لمن منزلُه (4) وراءَ المواقيتِ، فلا يدخلُها إلا بإحرامٍ،، واتفق الكلُّ على أن (5) من أراد الحجَّ أو العمرةَ؛ أنه لا يدخلُها (6) إلا مُحرِمًا.
ثم اختلف أهلُ القولِ الأولِ فيمن دخلَها غيرَ محرمٍ: فقال مالكٌ، وأبو ثورٍ، والشافعيُّ: إنه لا دم عليه،، وقال الثوريُّ، وعطاءٌ، والحسن ُبنُ حيٍّ (7) : يلزمُه حجٌّ أو عمرةٌ،، ونحوَهُ قال (8) أبو حنيفة فيمن منزلُه وراءَ المواقيتِ (9) .
ومتمسَّكُ من قال بجوازِ دخولِها لغيرِ المحرِم قولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديث المواقيتِ المتقدِّمِ: ((هُنَّ لَهُمْ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ (10) مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَو العُمْرَةَ (11) )). وتأوَّلوا الحديثَ المتقدِّمَ بأنَ (12) قالوا: إنما اعتذر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن دخولِه (13) مكةَ مقاتِلاً ؛كما قال: ((فَإِنْ أَحدٌ ترخَّص لقتالِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (14) ...))، الحديثَ.
قال القاضي عياضٌ: لم يُخْتلفْ في دخولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ: أنه كان حلالاً؛ لدخولِهِ (15) والِمغْفَرُ على رأسِه؛ ولأنه دخلها مُحارِبًا، حاملاً للسلاحِ هو وأصحابهُ، ولم يختلفوا في تخصيصِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكذلك (16) لم يَختلفوا في أنَّ مَنْ دخلها لحربٍ أو لشيءٍ (17) : أنه لا يحلُّ له أن يدخلَها حلالاً (18) .
وقوله: ((وإنه لم يَحلَّ القتالُ لأحدٍ قبلي)) الضمير في ((إنَّه)) هو ضميرُ الأمرِ والشأنِ. وظاهر هذا أن حكمَ الله تعالى كان في مكةَ: ألا يُقاتَلَ أهلُها، ويُؤَمَّنَ مَنِ =(3/469)=@
__________
(1) في (ح): ((دخول)).
(2) نقل هذه الفقرة الحافظ في "الفتح" (4/48).
(3) قوله: ((لغير المحرم)) في (أ)): ((بغير إحرام)).
(4) موضعه بياض في (أ).
(5) قوله : ((أن)) سقط من (ح) و(ز).
(6) من قوله : ((إلا بإحرام واتفق ...)) إلى هنا سقط من (ح).
(7) في (أ) و(ح) و(ز) و(ي): ((حيي)).
(8) في (ز) كأنها: ((فقال)).
(9) في (أ): ((الميقات)).
(10) في (ي): ((غيرهم)).
(11) تقدم في أول كتاب الحج، باب: المواقيت في الحج والعمرة.
(12) في (ز): ((فإن)).
(13) قوله: ((النبي)) من (أ) و(ي) فقط.
(14) زاد بعدها في (ب) و(م): ((مكة)).
(15) في (ح) و(ي): ((بدخوله)).
(16) في (أ) و(ب) و(ز): ((ولذلك)).
(17) في (أ): (بغي))، وتحرفت في "الإكمال" إلى ((بقي)).
(18) هذا كلام القاضي في "الإكمال" (6/145) في الجهاد، باب: فتح مكة، ونحوه في الحج (4/476).(3/469)
استجار بها، ولا يُعْرضَ (1) له، وهو أحدُ أقوالِ المفسرين في قوله تعالى: {ومن دخله كان آمنا} (2) ، وهو قولُ قتادةَ وغيرِه؛ قالوا: هو آمِنٌ من الغاراتِ (3) ،، وهو ظاهرُ قولِه تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا ويتخطف الناس من حولهم} (4) ، وهو منقولٌ من عادةِ العربِ في احترامِهم مكةَ، ومن كتبِ التواريخِ.
وقوله: ((ولم يحلَّ (5) لي إلا ساعةً من نهار فهو (6) حرامٌ)) الضميرُ في ((يحل (7) )) ((هو))، وهو يعودُ على (8) القتال قَطْعًا؛ كما يدلُّ عليه مساقهُ (9) ؛ فيلزم منه تحريمُ القتالِ فيه مطلقًا، سواءٌ كان ساكنُه مستحقًّا للقتالِ أو لم يكنْ؛ وهو الذي يدلُّ عليه قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ((ولا يحل (10) لأحدٍ بعدي (11) ))، ((ولم تحل (12) لي إلا ساعةً من نهارٍ (13) )).
وقولُه: ((فإن أحدٌ ترخص لقتالِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيها؛ فقولوا: إن الله أذن لرسولِه، ولم يأذن لكم))، وهذا نصٌّ على الخصوصيةِ، واعتذارٌ منه عما أُبيحَ له من ذلك، مع أنَّ أهلَ مكةَ كانوا إذ ذاك مستحقِّين للقتلِ والقتالِ (14) لصدِّهم عنه، وإخراجِهم (15) أهلَهُ (16) منه، وكفرِهم بالله تعالى وبرسولِه (17) - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الذي فهمه أبو شُريحٍ من هذا الحديثِ،، وقد قال بذلك غيرُ واحدٍ من أهلِ العلمِ؛ منهم (18) . غيرَ أن هذا يعارضُه ما جاء (19) في حديثِ أبي شريحٍ من قولِ عمرِو بنِ سعيدٍ، على ما يأتي (20) .
وقولُه: ((لا يُعْضَدُ شوكُه))، وفي حديثِ أبي هريرةَ (21) : ((لا يختبطُ شوكُه (22) )): يُعضد: يُقْطَع. والْمِعْضَدُ (23) : الآلةُ التى يُقطعُ بها (24) . والْخَبْطُ (25) : ضَرْبُ أوراقِ الشجرِ بالعِصِي لعلفِ المواشِي؛ يقال: خَبَطَ واختبط، والمصدرُ منه: =(3/470)=@
__________
(1) في (ز): ((يتعرض)).
(2) سورة آل عمران؛ الآية: 97.
(3) والمراد أن ذلك كان في الجاهلية؛ كان الرجل منهم إذا جَرَّ جريرة ثم عاد بالبيت لم يكن بها مأخوذًا؛ كما ذكره الطبري عن قتادة والحسن أما في الإسلام فالحرم لا يمنع من حدود الله، فلو أصاب حدًّا في غير الحرم ثم لجأ إليه أُخرج وأقيم عليه الحد. قال الطبري: فتأويل الآية على قول هؤلاء: والذي دخله من الناس كان آمنا بها في الجاهلية. قال: وقال آخرون: معنى ذلك: ومن يدخله يكن آمنا بها، وقالوا: هذا أمر كان في الجاهلية وكذلك هو في الإسلام، من أصاب حدًّا ثم لجاء إليه لم يتعرض له ولكنه لا يبايع ولا يؤدي حتى يخرج؛ فإن خرج أقيم عليه الحد. وقال آخرون: ومن دخله يكن آمنا من النار. قال الطبري: وأولى الأقوال بالصواب قول ابن الزبير ومجاهد والحسن، ومن قال: معنى ذلك: ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذًا به كان آمنا ما كان فيه، ولكنه يخرج منه فقيام فيه أقيم عليه فيه)).اهـ. وقال في آية العنكبوت الآتية: أنا جعلنا بلدهم حرما حرمنا على الناس أن يدخلوه بنارة أو هرب آمنا بأمن فيه من سكن.اهـ.
"تفسير الطبري" (7/29- 34)، (20/62). بتصرف يسير. وما اختاره الطبري هو مذهب أبي حنيفة وأحمد، على تفصيل سيأتي للشارح قريبًا، وسنذكر عنده مذهب الشافعي ومالك، واستدلال القاضي والنووي لهما.
(4) سورة العنكبوت؛ الآية: 67.
وقد نقل الحافظ في "الفتح" (4/43) عبارة الشارح هنا، لكنه لم ينسبها لأحد.
(5) في (م) و(ي): ((تحل)).
(6) في (ح): ((وهو)).
(7) في (ب) و(م): ((تحل)).
(8) في (ح): ((إلى)).
(9) قوله: ((يحل هو وهو...إلخ)) إن عني بـ((هو)) الأولى تقدير الضمير المستتر في ((يحل)) وبـ((هو)) الثانية ضمير هذا الضمير؛ فيكون كلامه: أن في ((يحل)) ضميرًا مستترًا، وهذا الضمير يعود على القتال، ويكون الضمير البارز في ((فهو حرام) عائدًا إلى ((البلد)) المذكور في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولاً، وإن عني بـ((هو)) الثانية ذلك الضمير في قوله: ((فهو حرام))، فيكون كلامه أن الضميرين المستتر في ((يحل)) والبارز في ((فهو حرام)) عائد إلى القتال. لكن سياق الحديث يرجح الأول؛ والبارز في ((فهو حرام)) عائد إلى القتال. لكن سياق الحديث يرجح الأول؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيدها)). كما أنه يجوز أن يعود الضمير الأول في ((يحل)) على البلد أيضًا، فبتحليل الله مكة للرسول حل له القتال، ثم عادت حرمتها فحرم القتال.
(10) في (أ) و(ب) و(ي): ((تحل)).
(11) في (ب): ((يعدي)).
(12) في (أ) و(ب) و(ز) و(م): ((تحل)).
وانظر التعليق الآتي.
(13) قوله: ((ولا يحل لأحد بعدي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار))هذا الكلام بهذا النسق لا يتفق مع رواية الحديث في الصحيح، ولتلخيص الشارح، ولفظ الرسول فيهما في معرض كلامه عن ((مكة)) وأن الله تعالى حبس عنها الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : ((وإنها لن تحل لأحد كان قبلي)) كذا في هذه الرواية وفي أخرى: ((لم تحل)) وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحدٍ بعدي، وواضح أن سياق الحديث عن ((مكة)) فالضمير في ((تحل)) عاد عليها بالمؤنث في الموضعين. وبتقرير هذا اللفظ في الرواية ، لا يستقيم للشارح استدلاله، به على عدد الضمير في اللفظ الذي ذكره قبلُ إلى القتال. ولم تثبت ما وقع في النسخ الأخرى في اللفظين الآخرين ((تحل))؛ لأنا لو أثبتناهما ((تحل)) لم ينضبط كلام الشارح، فأثبتناها على ما يستقيم به كلامه، ثم نقضنا كلامه بذكر الرواية الصحيحة. وعلى كلٍّ، فلو عاد تحريمها وتكريره ذلك في الحديث، يدل على أن البلد لا يحل لأحد بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى الذي حل له به، وهو قتال أهل ومحاربتهم.
قال النووي في "شرح صحيح مسلم" (9/124- 125):
قال الماوردي في "الأحكام السلطانية": من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله فإن بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ويدخلوا في أحكام أهل العدل قال وقال جمهور الفقهاء يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي الا بالقتال لأن قتال البغاة من حقوق الله التي لا يجوز إضاعتها فحفظها أولى في الحرم من إضاعتها. قال النووي: وهذا الذي نقله عن جمهور الفقهاء هو الصواب، وقد نص عليه الشافعي وقد نص عليه الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" وفي آخر كتابه المسمى بـ"سير الواقدي" من كتب وقال القفال المروزي: لا يجوز القتال بمكة قال: حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها وهذا الذي قاله القفال غلط نبهت عليه حتى لا يغتر به وأما الجواب عن الأحاديث المذكورة هنا فهو ما أجاب به الشافعي في كتابه "سير الواقدي": أن معناها تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف ما إذا تحصن الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شيء.اهـ.
وقال ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" (ص458- 459) بعد نقله كلام الماوردي والنووي:
أقول: هذا التأويل على خلاف الظاهر القوي الذي دل عليه عموم النكرة في سياق النفي في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك دما) وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين خصوصياته لإحلالها له ساعة من نهار وقال: ((فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم)) فأبان بهذا اللفظ أن المأذون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه لم يؤذن فيه لغيره والذي أذن للرسول فيه إنما هو مطلق القتال ولم يكن قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة بمنجنيق وغيره مما يعم كما حمل عليه الحديث في هذا التأويل. وأيضا فالحديث وسياقه يدل على أن هذا التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها وسفك الدم وذلك لا يختص بما يستأصل وأيضا فتخصيص الحديث بما يستأصل.اهـ.
وقال الحافظ في "الفتح" (4/48) بعد نقل كلام الماوردي والنووي أيضًا: وقال ابن المنير قد أكد النبي التحريم بقوله: ((حرمه الله)) ثم قال: ((فهو حرام بحرمة الله)) ثم قال: ((ولم تحل لي إلا ساعة من نهار)) وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشيء ثلاثا، قال: فهذا نص لا يحتمل التأويل.
ثم نقل الحافظ كلام الشارح في الفقرة التالية في النص على تخصيص حل القتال بالرسول - صلى الله عليه وسلم - .
(14) قوله: ((للقتل والقتال)) في (أ): ((للقتال و القتل)).
(15) في (ز): ((إخراج)).
(16) في (ح) و(ي): ((له)).
(17) في (ح) و(ي): ((ورسوله)).
(18) لفظة ((منهم)) سقطت من (ي). وبعدها في سائر النسخ بياض يتراوح من كلمتين إلى نصف سطر. وفي البياض الذي في (ب) كتب الناسخ: ((كذا)). وقد نقل الحافظ في "الفتح" (4/48) عبارة الشارح هذه إلى قوله: ((من أهل العلم)) فقط!. وانظر التعليق آخر الفقرة السابقة.
(19) قوله : ((جاء)) من (ح) فقط.
(20) في هذا الباب، من وقل عمر لأبي شريح: ((إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بخربة)) سيأتي كلام الشارح عليه.
(21) في (ب) و(م): ((أبي شريح))، وهو خطأ .
(22) في (ح): ((ولا يختبط)) والرواية في الصحيح والتلخيص: ((لا يخبط)).
(23) في (م): ((والمعَضَّة)) بالضبط.
(24) عَضَدت الشجرة أعضِده عَضْدا (من باب ضرب): قطعته بالمِعْضَد، قال في "المصباح": والمعضد: سيف يمتهن في قطع الشجر، والشجر معضودٌ وعَضَدٌ: مقطوع. "الصحاح" (2/509)، "المصباح" (ص215)، "النهاية" (3/251).
(25) في (ز): ((والخيط)).(3/470)
((خبْطًا))، بسكونِ الباءِ، والاسمُ بتحريكِها (1) .
و((الخلى)) مقصورًا (2) ، هو الرَّطْبُ من ((الكلأِ)) - مقصورًا، مهموزًا، و((الحشيشُ)): هو اليابسُ (3) منه و((الكلأُ)): يقالُ على الخلى، والحشيشِ (4) .
و((الشَّجرُ)): ما كان على ساقٍ، وفي بعضِ طرقِه: شجراؤها (5) وهو جنسُ الشجرِ (6) ، وهي ((العِضاهُ)) أيضًا (7) في الحديثِ الآخرِ (8) ، والعِضاهُ من شجرِ الباديةِ: كلُّ شجرٍ له شوكٌ، ومنه ما يُسمَّى بـ ((الكَنَهْبُل)) و((السَّيَال (9) )). ولهذا الحديثِ خصَّ الفقهاءُ مطلقَ الشجرِ المنهيِّ عن قطعِه بما يُنبتُه الله تعالى من غيرِ صُنْعِ آدميٍّ اتفاقًا منهم، فأما ما يَنبتُ بمعالجةِ آدميٍّ؛ فيجوزُ قطعُه (10) .
ثم اختلفوا في جزاءِ ما قُطع من النوعِ الأولِ. فقال مالكٌ: لا جزاءَ فيه؛ لعدمِ ما يدلُّ على ذلك،، وقال الشافعيُّ وأبو حنيفة: فيه الجزاءُ؛ فعند (11) أبي حنيفة: تؤخذُ (12) قيمةُ ما قُطع، فيُشترى بها (13) هديٌ (14) . وعندَ الشافعيِّ: في الدوحةِ (15) - وهي الشجرةُ العظيمةُ - بقرةٌ، وفيما دونها شاةٌ.
وأما قطعُ العُشْبِ للرعيِ، فمنع ذلك أبو حنيفةَ ومحمدُ بنُ الحسنِ، وأجازه غيرُهما.
وقولُه: ((ولا ينفر (16) صيده))؛ أي: لا يُهاجُ عن حالِه، ولا يُعْرَضُ (17) له. قال عكرمةُ: ((هو أن يُنَحِّيَه (18) من الظلِّ إلى الشمسِ)) (19) ، وقد تقدَّم القولُ فيه (20) .
وقولُه: ((ولا يَلْتقِطُ لُقَطَتهُ إلا منشدٌ)) اتفق رواةُ المحدِّثين على ضمِّ اللامِ وفتحِ القافِ من ((اللقَطَةِ)) هنا؛ أرادوا به الشيءَ الملتقَطَ، وليس كذلك عندَ أهلِ اللسانِ؛ قال الخليلُ: اللقَطةُ - بفتحِ القافِ -: اسمٌ للذِي يَلْتقِطُ، وبسكونِها لما يُلتقَطُ (21) . قال الأزهريُّ: هذا قياسُ اللغةِ؛ لأن ((فُعَلَةٌ)) في كلامِهم جاءَ فاعلاً كـ((الهُزَأَةِ)) (22) للذِي (23) يَهْزَأُ بالناسِ، وجاء (24) مفعولاً كـ((الهُزْأةِ)) للذي (25) يَهْزَأُ به الناسُ (26) ، إلا أن الرواةَ أجمعوا على أن اللُّقَطَةَ: الشيءُ الملتقَطُ (27) .
و((المنشدُ)): هو المعرِّفُ، و((الناشدُ)): هو الطالبُ والباغي (28) ؛ كما قال:
أُنْشُدُ والْبَاغِي يُحِبُّ الوُجْدَان (29) =(3/471)=@
__________
(1) خبطتُ الورق من الشجر خَبْطا (من باب ضرب): أسقطت، فإذا سقط فهو ((خَبَط)) فالخَبَط ((فَعَل)) بمعنى فعولٍ. وحقيقة الخبْط: الضرب. "النهاية" (2/7)، و"المصباح" (ص87).
(2) في (أ) و(ح) و(ز): ((مقصور)).
(3) في (ي): ((النابس)).
(4) قال الفراء في المقصور والممدود: ((الخلي كل ما اختليته بيدك من البقل، فذلك مقصور يكتب بالياء.اهـ. ونقله عنه أبو على ثم قال: وقال الأصمعي الخلي مقصور: النبت الرقيق كله مادام رطبا... وقال أبو حاتم: قال الأصمعي: الخلي: الرطب من النبات كله وهو الأخضر واحدته: خلاة.اهـ. ونحوه في "الصحاح" للجوهري. وفي "المصباح": الخلي الرطب وهو ما كان غضًا من الكلأ، وأما الحشيش فهو اليابس. وفيه: الكلأ: العشب رطبًا كان أو يابسًا، والجمع أكلاء. لكن في غريب أبي عبيد: قال الأصمعي: ومنه سميت المخلاة؛ لأنه يجعل فيها الخلي، وهو الحشيش اليابس.اهـ.
"المقصود والممدود" للفراء (ص38)، "غريب أبي عبيد" (5/141)، "المقصور والممدود" لأبي علي (ص49)، و"الصحاح" (6/2331)، و"المصباح" (ص96، 278)، و"النهاية" (2/75).
يقال: اختليت الخلى اختلاءً، وخَلَيْتُه خَلْيا (من باب رمى): قطعته.
(5) ذكرها القاضي عياض في "الإكمال" (4/470).
(6) في "الصحاح": الشجر والشجرة: ما كان ساق من نبات الأرض وأرض شَجيرة وشجراء، أي: كثيرة الأشجار. ووادٍ شجير، ولا يقال: واد أشجر. وواحد الشجْراء: شجرة. ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة: شجرة وشجراء، وقصبة وقصباء، وطرفة و طرفاء، وحلفة وحلْفاء... وقال سيبويه: الشجراء: واحد وجمع وكذلك القصباء والطرف والحلفاء.اهـ. وقريب منه في "مشارق الأنوار" (2/244).
(7) في (ح): ((لما)).
(8) البخاري (5/87 رقم2433) في اللقطة ، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يعضد عضاهها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا المنشد ولا يختلى خلالها)). وستأتي اللفظة في الباب الآتي، في تحريم المدينة.
(9) العِضَاهُ – كما قال الشارح -: كل شجر يعظم وله شوك. وهاؤه أصلية. واختلف في المفرد؛ قيل: ((عِضَهٌ)) هاؤها أصيلة وهي لامها، وقيل: ((عِضَةٌ)) واللام محذوفة وهي الواو وهاء التأنيث عوض؛ فأصلها: ((عِضَوَةٌ)). وقيل اللام المحذوفة هي الهاء؛ وربما ثبتت هاء التأنيث؛ فيقال: ((عِضَهَةٌ)). ويقال في مفردها أيضًا: ((عضاهة)) قال في "المشارق": ((وهو أقبحها)). وعَضِهَ البعير (من باب تعب) عَضَهًا وهو عَضِةٌ: رعى العضاه.
قال في "الصحاح": وهو – أي: العضاه- على ضربين: خالصٌ وغير خالصٍ. فالخالصُ: الغَرْفُ، والطَّلْحُ، والسّلَمُ، وا لسِّدْرُ، والسَّيَالُ، والسَّمُرُ، واليَنْبُوت، والعُرفُط، والقَتَادُ الأعظمُ، والكَنَهْبُلُ، والغَرَبُ، والغَرْقَدُ، والعَوْسَجُ.
وغيرُ الخالصِ: الشَّوْحَطُ، والنَّبْعُ، والشريَانُ، والسَّرَاء، والنَّشَمُ، والعُجْرُمُ، والتَّأْلَبُ، والغَرْفُ. فهذه تُدْعَى عِضَاهُ الْقياس من القوس.
وما صَغُرَ نم شجر الشوك فهو العِضُّ.
وما ليس بِعِضٍ ولا عِضَاهٍ من شجر الشَوك فالسُّكاعَي، والحَلاَوَي، والحَاذُ، والكُبُّ، والسُّلَّجُ.
(10) نقل الحافظ في "الفتح" (4/44) عبارة الشارح هذه والفقرة التالية، لكن عنده: ((فأما ما ينب بمعالجة آدمي فاختلف فيه. والجمهور على الجواز وقال الشافعي: في الجميع الجزاء ورجم ابن قدامة.اهـ. ثم نقل بقية كلام الشارح في الفقرة التالية. وفي "الإكمال" (4/471): ((... وأما ما غرسه الآدمي فلا شيء عليه فيه، وهذا مذهب مالك عند شيوخنا، وحكى الخطابي أن مذهب الشافعي منع قطع ما غرسه الآدمي من شجر البوادي ونماه وأنه وغيره مما أنيته الله سراء)).اهـ. وصحح النووي في "المجموع" (7/451) القطع بالتعميم في الجزاء وضعَّف التخصيص بما ينبته الله عز وجل.
وانظر "معالم السنن" (3/436).
(11) في (م): ((وعند)). والأولى ما أثبتناه، إلا أن العبارة ينقصها: ((واختلفا (أي: الشافعي وأبو حنيفة) في ذلك)) ونحوه.
(12) في (ز) و(م) و(ي): ((يؤخذ)).
(13) في (ح): ((به)).
(14) بعدها في (ي): ((ودونها شاة)).
(15) في (أ): ((الروحة)).
(16) في (ز): ((ينفره)).
(17) في (ي): ((يتعرض)).
(18) في (ب) و(م): ((تنحيه)).
(19) قول عكرمة ذكره البخاري في باب لا ينفر صيد الحرم بعد الحديث (1833)، قال: وعن خالد عن عكرمة قال: هل تدري ما ((لا ينفر صيدها))؟ قال: هو أن ينحيه من الظل ينزل مكانه.
(20) تقدم طرف من الكلام عن الصيد وجزائه في باب ما جاء في الصيد، لكن الشارح لم يتحدث عن مسألة ((تنفير الصيد)) قال القاضي في "الإكمال" (4/472): وقال الطبري: في قوله: ((لا ينفر صيدها)) حجة على تحريم اصطياده؛ لأنه إن نهى عن تنفيره فاصطياده آكد في التحريم.اهـ. ثم ذكر قول عكرمة الذي ذكره الشارح ثم قال: ولا خلاف أنه إن نفر فسلم أنه لا جزاء عليه، إلا أن يهلك، لكن عليه الإثم لمخالفة نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا شيء روى عن عطاء: أنه يطعم.اهـ. وانظر "شرح النووي" (9/126)، "فتح الباري" (4/46).
(21) في "العين" (5/100) وعبارته: ((واللُّقطة: ما يوجد ملقوطًا ملقى واللُّقَطة: الرجل اللقَّاطة وبياع اللُّقاطات يلتقطها)).
(22) الزاهر في "غريب ألفاظ الشافعي" لأبي منصور الأزهري (ص364). والتمثيل بـ((الهزَأة)) و((الهزْأة)) ليس من كلام الأزهري وبقية كلام الأزهري هكذا: ((غير أن كلام العرب جاء في ((اللقطة)) على غير قياس، وأجمع أهل اللغة ورواة الأخبار على أن ((اللقَطة)): هو الشيء الملتقط.
وروى عن الأحمر أنه قال: هي اللقَطة والقصَعة، وكذلك قال الفراء وابن الأعرابي والأصمعي)).اهـ. وفي "تهذيب اللغة" و "المستدرك" (16/249- 250) نقل الأزهري كلام الخليل، عن الليث، ثم قال: وكلام العرب الفصحاء على يغر ما قال الليث... ولم أسمع ((لقْطة)) لغير الليث وإن كان ما قاله قياسًا)).
وذكر ابن قتيبة وثعلب وابن دريد والزمخشري في "الفائق" أن ((اللقْطة)) بالسكون من لحن العامة، بل قال ابن مكي الصقلي والقاضي عياض: ولا يجوز الإسكان. وفي إصلاح المنطق: أن ((القَطة)) بفتح القاف من الأسماء التي جاءت على ((فُعَلة)) وليست من باب النعت على ((فعَلة)) و((فعْلة))، الذي يكون الفتح فيه للفاعل والسكون للمفعول.
ويؤيد عبارة ابن الأثير في "النهاية": وهي بضم القاف وفتح اللام اسم للمال الملقوط؛ أي الموجود.
ومقتضى كلام الأزهري أنها من باب النعت على ((فعَلة)) و((فعْلة)) إلا أن العرب تكلمت بها على غير القياس، ففتحوا في المفعول؛ بل في نوادر أبي زيد: ووجدتُ اللقَطَة مثل همزَة... قال أبو الحسن (الأخفش الأصغر): أبو زيد يذهب إلى أن اللقَطَة: ما يُلقط، واللقْطة: مَنْ يلقط، وغيره يذهب إلى أن ((اللقَطة: اللاقط، واللقْطة: الملقوط. ووجدت أبا العباس محمد بن يزيد يختار هذا القول)).اهـ. وقال الزمخشري في "أساس البلاغة": وهذا لقاطة من اللقاطات، وهي ما كان مطروحًا من شاء أخذه. ووجدت لقطة ولقَطة ولقيطا، ورجُلٌ لقَطة ولقَّاطة)).اهـ.
وقال الفيومي بعد نقل كلام الأزهري وتعقبه عن الليث: واقتصر ابن فارس والفارابي وجماعة على الفتح، ومنهم من يعد السكون من لحن العوّام. ووجه ذلك (وجد أن التسكين لحن) أن الأصل ((لقاطة)) فثقلت عليهم لكثرة ما يلتقطونه في النهب والغارات وغير ذلك، ؟؟؟ بها ألسنتهم اهتمامًا بالتخفيف؛ فحذفوا الهاء مرة، وقالوا: ((لُقاط))، والألف أخرى وقالوا: ((لقطة)) فلو سكن اجتمع على الكلمة إعلالان، وهو مفقود في فصيح الكلام، وهذا وإن لم يذكروه فإنه لا خفاء به عند التأمل؛ لأنهم فسروا الثلاثة (اللقاطة واللقاط واللقَطة) بتفسير واحدٍ.اهـ.
وهذا معناه أنها ليست من باب ((فعَلة)) عنده، وإلا لما احتاج إلى مثل هذا التخريج والقول بأنها مأخوذة من ((لقاطة)) وذكر صاحب "المصباح" أن أبا علي القالي في البارع حكى الفتح والتسكين.
وقد صوَّب ابن بري أيضًا ((اللقْطة)) وفي "اللسان": اللقْطة واللقَطة واللقاطة: ما التقط. وذكر النووي والبعلي عن ابن مالكٍ أنها التسكين لغة في ((اللقطة)) ونظم ابن مالك لغاتها بقوله:
لُقَاطَةٌ وَلُقْطَةٌ وَلُقَطَهْ ... وَلَقَطٌ مَا لاَ قِطٌ قَدْ لَقَطَهْ
وانظر: "العين" (5/100)، و"النوادر" (ص229- 230)، و"إصلاح المنطق" (ص642)، و"أدب الكاتب" (ص382)، و "الجمهرة" (2/923)، و"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص364)، و"تهذيب اللغة" (16/249- 250 "المستدرك")، و"إسفار الفصيح" (2/711)، و"تثقيف اللسان" (ص267)، و"أساس البلاغة" (ص747)، و"الفائق" (1/391)، "مشارق الأنوار" (1/362)، و"النهاية" (4/264)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (3/129)، "تحرير التنبيه" (ص235)، و"المطلع" (ص340- 341)، و"اللسان" (7/392- 393)، و"المصباح المنير" (ص287)، "تاج العروس" (10/400- 401).
(23) في (ح) و(ي): ((الذي)).
(24) كذا في النسخ، وعبارة الأزهري: ((وفعْلة)) جاء...))إلخ. وانظر التعليق آخر النقل عن الأزهري.
(25) في (ح) و(ي): ((الذي)).
(26) قوله: ((يهزأ به الناس)) في (ب) و(م): ((يهزأ الناس به))، وفي (ز): ((به يهزأ الناس)).
(27) في (م): (اللقطة)).
(28) في (ب) و(ي): ((الناغي)).
(29) تقدم في كتاب الإيمان، باب شفاعة الملائكة والنبيين والمؤمنين. [يوسع](3/471)
وقال الآخرُ (1) :
إصاخَة النَّاشِدِ للمُنْشِدِ (2)
يقال: نَشَدْتُ الضالَّةَ: طلبتها، وأَنشدتُها: عَرَّفْتُها. وأصلُ الإنشادِ: رَفْعُ الصوتِ، ومنه: إنشادُ الشعرِ (3) .
وقد أفاد ظاهرُ هذا الحديثِ وما في معناه: أن للقُطةِ (4) مكةَ مزيَّةً على لقطةِ غيرِها، لكن اختلفَ العلماءُ في أيِّ شيءٍ تلك المزيةُ:
فقالت طائفةٌ: هي أنها (5) لا تحلُّ للملتقِطِ بوجهٍ من الوجوهِ، ولا يزالُ يُعرِّفُها (6) دائمًا،، وممن (7) ذهب إلى هذا: أبو عبيدٍ، والشافعيُّ، وابنُ مهدِيٍ، والداوديُّ والباجيُّ وابنُ العربيِّ من أصحابِنا، ويعَتْضِدون بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن لقطةِ الحاجِّ (8) .
وقالت طائفةٌ أخرى: إنَّ المزيةَ (9) هي أنها لا يحلُّ التقاطُها إلا أن يسَمعَ (10) من ينشدها، فيأخذُها ويرفعُها.
وذهب مالكٌ في المشهورِ عنه إلى أن المزيةَ إنما هي في زيادةِ التعريفِ والمبالغةِ فيها، وحكمُها وحكمُ غيرِها من البلادِ سواءٌ (11) ، وسيأتي بيانُ أحكامِها، والقولُ الأولُ أظهرُ من الأحاديثِ المذكورةِ في هذا البابِ.
وقد فسَّر بعضُهم ((المنِشدَ)) بالطالبِ، يعني به: ربَّها (12) ؛ أي: لا تحلُّ إلا لَه، ويرجعُ هذا إلى القولِ الأولِ (13) ، وقد تقدم أن المنشدَ هو المعرِّفُ؛ على ما قال أبو عبيدٍ (14) وغيرُه.
((الإذخِر (15) )): هو نبتٌ له رائحةٌ طيبةٌ، معروفٌ.
وفى قولِه - صلى الله عليه وسلم - فى جوابِ (16) =(3/472)=@
__________
(1) في (م): ((آخر)).
(2) عجز بيت من السريع، للمثقب العبدي واسمه محسن بن تعلبةن أو عائذ بن محصن، أو عائذ الله بن محصن، وتمام البيت:
يُصِيخُ لِلنَّبْأَةِ أَسْمَاعَهُ ... إِصَاخَةَ النَّاشِدِ لِلْمُنْشِدِ
من قصيدته التي مطلعها:
هَلْ عِنْدَ غَانٍ لِفُؤَادٍ صَدِى ... مِنْ نَهْلَةٍ ِفي الْيَوْمِ أَوْ فِي غَدِ
يَجْزِي بِهَا الْجَازُونَ عَنِّي، وَلَوْ ... يُمْنَعُ شُرْبِي لَسَقَتْنِي يَدِى
والبيت في أبيات يصف فيها الناقة يقول:
كأنَّها أَسْفَعُ ذُو جدَّةٍ ... يُمْسُدُهُ الوَبْلُ وَلَيْلٌ سَدِى
مُلمَّعُ الخدَّيْنِ قَدْ أُرْدِفَتْ ... أكْرُعُهُ بالزَّمعِ الأسْوَدِ
كأنَّما يَنْظُرُ في ُبرقُعٍ ... مِنْ تَحْتِ رَوقٍ سَلِبِ المِذْوَدِ
(يُصِيخُ للنَّبْأةِ أَسْماعَهَ ... إصاخَةَ النَّاشِدِ للمُنْشِدِ)
فَنَخَبَ القَلْبُ وَمَارَتْ به ... مَوْرَ عَصَافِيرَ حَشَى المَرْعَدِ
ضمَّ صماخيهِ لنكرَّبةٍ ... من خَشيَةِ القانِصِ والموسَدِ
يقول: هذه الناقة كالثور الوحشي المتوجس الذي يجمع باله إذا أحسَّ بشيء من أسباب الصيد والقنص، فهو يصيح – أي: يستمع وينصت باهتمام – " النبأة"؛ وهي الصوت الخفي لا يدري من أين هو؛ كما يستمع من ضَلَّ له شيءٍ إلى صوت من يُعرِّفه، والشاهد فيه قوله: ((الناشد)) و((المنشد)) بمعنى: الطالب، والمعرِّف. وقد تقدم استشهاد الشارح بالبيت في كاب الصلاة باب النهي عن أن تنشد الضالة في المسجد والبيت للمثقب في "ديوانه" (ص41)، و"البيان والتبيين" (2/288)، و"الكامل" (1/142)، "جمهرة اللغة" (2/652)، وبلا نسبة في "جمهرة اللغة" (3/1265)، و"الأمالي" (1/34)، و"مقاييس اللغة" (3/325)، و"أساس البلاغة" (ص827)، و"شرح المفصل" (2/94)، و"تفسير القرطبي" (19/165)، و"الإكمال" (4/472).
(3) وفي "تهذيب اللغة": والنشد رفع الصوت، وكذلك المعرِّف يرفع صوته بالتعريف فسمِّي منشدًا.اهـ. وقال أبو عبيد: ((نَشَدت الضالة أنشُدها نِشْدَانًا)). "غريب الحديث" (4/96)، "تهذيب اللغة" (11/323)، و"إسفار الفصيح" (1/438).
(4) في (م): ((اللقطة)).
(5) في (ح): ((أنها)).
(6) في (ح): ((تعرفها)).
(7) في (أ): ((ومن)).
(8) سيأتي في الأقضية ، باب النهي عن لقطة الحاج. وانظر: "غريب الحديث" (4/95- 96)، "شرح النووي" (9/126)، و"الإكمال" (4/472- 473)، و"المنتقى" (6/138).
(9) قوله: ((إن المزية هي)) في (أ): ((هي أن المزية))، وفي (ح) و(ي): ((أو لأن المزية هي)).
(10) قوله: ((إلا أن يسمع)) في (ز): ((لاكن يسع)).
(11) عبارة المازري في "المعلم" (2/؟؟؟): فعند مالك أن حكم اللقطة في سائر البلاد حكم واحد، وعند الشافعي أن لقطة مكة بخلاف غيرها... ويحمل الحديث على أصلنا على المبالغة في التعريف؛ لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود إلا بعد أعوام فتدعو الضرورة لإطالة التعريف بها بخلاف غير مكة)). وخلاف المشهور.
(12) في (ز): ((يعني بتركها)) وفي (ي): ((بهار بها)).
(13) يعني أنه بذلك لا تحل أيضًا للملتقط تمللكها.
(14) في (أ) و(ي): ((أبو عبيدة)). ولم يذكر الشارح ذلك فيما تقدم عن أبي عبيد صريحًا، وكلام أبي عبيد في "غريب الحديث" (4/96- 97)، وقد قال أبو عبيد عن القول بأن ((المنشد) هنا هو رب اللقطة: فهذا حسن في المعنى، ولكنه لا يجوز في العربية أن يقال للطالب: ((منشد))، إنما المنشد: المعرف، والطالب هو: الناشد.
(15) و((الإذخر))من (أ) فقط، وفي سائر النسخ: ((الإذخر)).
(16) في (أ): ((حديث)÷.(3/472)
العباسِ، وقد سأله عن الإذخِرِ: ((إلاذخرَ))؛ دليلٌ على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فُوِّضتْ إليه أحكام، فكان (1) يحكمُ فيها باجتهادِه، واستيفاءُ المسألِ في الأصولِ (2) .
وقد يُوردُ على هذا أن يقالَ: إذا (3) كانتْْ مكةُ مما حرمها الله، ولم يحرمها الناس؛ فكيف لأحدٍ أن يحكم بحلِّيَّة شيء منها وقد حرَّمه الله تعالى؟ والجوابُ: أن الذي حرَّمه الله هو ما عدا (4) المستثنى جملةً؛ لأنه لما جعل لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - التخصيصَ مع علمِه بأنه يخصِّص كذا، فالمحكومُ به لله تعالى هو ما عدا ذلك المخصَّصَ. والله تعالى أعلمُ (5) .
و((أبو شريح)): هو خويلدُ بنُ عمرٍو، وكذلك (6) سَمَّاه البخاريُّ، ومسلمٌ (7) . وقال (8) محمدُ بنُ سعدٍ (9) : خويلدُ بنُ صخرِ بنِ عبدِ العزيزِ (10) . وقال أبو بكرٍ البَرْقَانُّي (11) : اسمُه: كعبٌ.
وقوله: ((وهو يبعثُ البعوثَ إلى مكة)) ((البعوثُ)): جمعُ ((بعثٍ))، وهي الجيوشُ أو السرايا، ويعني بها هنا الجيوشَ التي وجهها (12) يزيدُ بنُ معاويةَ إلى عبدِ الله بنِ الزبيرِ (13) ، وذلك أنه لما تُوفِّي معاويةٌ وجَّه يزيدُ (14) إلى عبدِالله يَستدعي منه بيعتَه، فخرج إلى مكةَ ممتنعًا من بيعتِه، يحرِّضُ الناسَ على بني أميةَ (15) ، فغضب يزيدُ، وأرسل إلى مكةَ يأمرُ واليَها يحيى بنَ حكيمٍ بأخذِ بيعةِ (16) عبدِالله، فبايعه، وأرسل إلى يزيدَ ببيعتِه، فقال: لا أقبلُ حتَّى يُؤتَى به في وَثَاقٍ،، فأبى (17) =(3/473)=@
__________
(1) قوله : ((فكان)) سقط من (ح) و(ي.
(2) أجمعوا على أ،ه يجوز للأنبياء أن يجتهدوا فيما يتعلق بمصالح الدنيا وتدبير الحروب. واختلفوا في اجتهادهم في أمر الشرع: هل كان لهم أن يجتهدوا فيما لا نص فيه: فقيل: ليس لهم ذلك لقدرتهم على النص بنزول الوحي. واحتج بقوله: {وما ينطق عن الهوى}، وبانتظاره - صلى الله عليه وسلم - الوحي إذا سئل. وقيل يجوز لهم ذلك، وهو مذهب الجمهور. وردوا على الآية بأن المراد: القرآن، وعلى تسليم إرادة مطلق النطق: بأن الاجتهاد الشرعي مأذون فيه. وقيل: بالتوقف في المسألة. واختلفوا في وقوعه منه - صلى الله عليه وسلم - : فقيل:وقيل وقع في الفروع ولم يقع في القواعد وقال المنكرون: السنة كلها و هي، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)). وقال القاضي عياض عن هذا الحديث. وقال المهلب: وقد يكون الجميع مما حرمه الله، لكن قد أعلم رسوله بتحليل المحرمات. وقال النووي: هذا محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - أوحي إليه في الحال باستثناء الإذخر وتخصيصه من العموم أو أوحي إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء فاستثنه، أو أنه اجتهد في الجميع. والله أعلم.
وقال في المسودة عن القول بأنه لا يجوز له - صلى الله عليه وسلم - أن يقضي في دين الله إلا بوحي – قال: وهذا قول أهل الحق كافةً.
وانظر: "البحر المحيط" (4/502- 506)، "الواضح" (5/3970 318)، "المسودة" (2/910- 914)، "المحصول" (6/27- 14)، "الإكمال" (4/473- 474)، و"شرح النووي" (9/127).
(3) في (ي): ((إن)).
(4) رسمها في (ز) بالياء: ((عدى)).
(5) وقال القاضي في "الإكمال" (4/473): فاستثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - الإذخر يدل على أنه مما لم يحرمه الله، وأن حرمتها هي في نفسها من تحريم الله، ومن هذه المحرمات ما حرم الله، ومنها ما حرمه عليه السلام. أو جميعها من تحريمه عليه السلام.
(6) في (ي): ((كذلك)).
(7) سماه كذلك البخاري في "التاريخ الكبير" (3/224)، وكذا سماه مسلم في "الكنى والأسماء" (1/429).
(8) في (ي): ((قال)).
(9) في (ح) و(ي): ((سعيد)).
(10) كذا في النسخ، و"طبقات ابن سعد" (4/295)، وفيه: واسمه: خويلد بن عمرو بن صخر بن عبدالعزى بن معاوية.
(11) في (أ): ((البرقي)). وهو أحمد بن محمده بن أحمد بن غالب، أبو بكر، الخوارزمي، ثم البرقاني، نسبة إلى قرية من قرى ؟؟؟ بنواحي خوازم. أخذ عن الدارقطني، وأخذ عنه الخطيب البغداي (ت425هـ). "سير أعلام النبلاء" (17/464- 468)، "الأنساب" (1/؟؟؟).
(12) في (ح): ((سيّرها)).
(13) انظر "تاريخ الطبري" (3/272)، و"الكامل" (3/380)
(14) من قوله : ((إلى عبدالله بن الزبير ....)) إلى هنا سقط من (ح).
(15) قوله : ((يحرض الناس على بني أمية)) سقط من (أ) و(ب) و(ز) و(م).
(16) في (أ): ((فأخذ بيعته))، وفي (م): (يأخذ بيعة)).
(17) في (ز): ((فأتى)).(3/473)
ابنُ الزبيرِ، وقال (1) : أنا عائذٌ بالبيتِ،، فأبى يزيدُ، وكتب (2) يزيدُ إلى عمرِو بنِ سعيدٍ أن يوجِّهَ (3) إليه جندًا، فبعث إليه هذه البعوث (4) .
وقولُ: ((إن الله حرَّم مكة، ولم يحرمْها الناسُ (5) ))؛ يعني (6) : أنه حرَّمها ابتداءً من غيرِ سببٍ يُعزى إلى أحدٍ ولا مقدمةٍ، ولا لأحدٍ فيه مدخلٌ؛ لا نبيٌٍّ ولا عالمٌٍ، ولا مجتهدٌ؛ وأكد ذلك المعنى بقولِه: ((ولم يحرمْها (7) الناس))؛ لا يقالُ: فهذا يعارضُه قولُه في الحديثِ الآخرِ: ((اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَة)) (8) ؛ لأنا نقولُ: إنما نسبَ الحكمَ هنا لإبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم - لأنه مبلِّغُه (9) ، وكذلك نسبتُه (10) لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - ، كما قد يُنسبُ الحكمُ للقاضي لأنه مُنَفِّذُه، والحكمُ لله العليِّ الكبيرِ بحكمِ الأصالةِ والحقيقةِ (11) .
وقولُ عمرِو بنِ سعيدٍ: ((إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا (12) بدم، ولا فارًّا (13) بِخَرْبة (14) ))؛ روايتنا: ((بِخَربةً (15) )) بفتحِ الخاءِ، وهي المشهورةُ الصحيحةُ، وضبطه الأصيليُّ بالضمِّ، وكذلك قاله الخليلُ، وفُسِّرتْ بالسرقِة، وبالفسادِ في الأرضِ (16) . والخاربُ: =(3/474)=@
__________
(1) في (ز): ((فقال)).
(2) في (أ) و(ح) و(ي): ((فكتب)).
(3) في (ز): ((توجه)).
(4) انظر: "تاريخ الطبري" (6/257- 266)، و"الكامل" لابن الأثير (3/377- 381)، وفيهما أن أمير المدينة عندما تولى يزيد: الوليد بن عتبة، وأمير مكة: عمرو بن سعيد بن العاص.
وأن يزيد كتب إلى الوليد يطلب بيعة ابن الزبير والحسين وابن عمر، ففر ابن الزبير والحسين إلى مكة، وكان واليها عمرو بن سعيد بن العاص، كما سبق، ثم إن يزيد عزل الوليد بن عتبة وأمر على المدينة مكانه عمرو بن سعيد الأشدق، وهو الذي أمره ببعث الجيوش إلى ابن الزبير، وجعل قائدها عمرو بن الزبير أخا عبد الله.
(5) الرواية في "الصحيح" و"التلخيص": ((إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس)) وفي الرواية قبلها: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض))..
(6) في (ح): ((معنى)).
(7) في (ا): ((يحرمه)).
(8) سيأتي في باب تحريم المدينة ، وصيدها ، وشجرها ، والدعاء لها ، في باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها .
(9) في (ح) و(ي): ((مبلغ)).
(10) في (ح): ((نسبه)).
(11) قال القاضي في الجواب عن هذا التعارض الظاهر: فأما إبراهيم فيحتمل أن تحريمه إياها بإعلام الله له أنه حرمها؛ فتحريمه لها بتحريم الله لا من قبل اجتهاده ورأيه. أو وكلّ الله إليه تحريمها فكان عن أمرا لله، فأضيف إلى الله مرة لذلك، ومرة إلى إبراهيم بحكمه، أو لأنه كما جاء في الحديث – دعا لها فكان تحريم الله بدعوته.اهـ. وذكر النووي أن في المسألة خلافًا مشهورًا في وقت تحريم مكة: فقيل إنها مازالت محرمة من يوم خلق السموات والأرض. وقيل: مازلت حلالا كغيرها إلى زمن إبراهيم ثم ثبت لها التحريم من زمنه. وبالقول الأول قال الأكثرون لموافقته الحديث: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض)). وأجابوا عن الآخر بأن تحريمها كان ثابتًا ثم خفي حتى أظهره إبراهيم وأشاعه لا أنه ابتدأه. والقائلون بالقول الثاني: أجابوا عن الحديث بأن معناه أن الله كتب في اللوح المحفوظ أو في غيره يوم خلق السموات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالى. انظر: "الإكمال" (4/479)، "شرح النووي" (9/124)، "الفتح" (3/440).
(12) في (ز): ((جارًّا)).
(13) في (ز): ((جارًّا)).
(14) ضبطها في (ز): ((يخربُهُ)).
(15) ضبطها في (ز): ((يخربُهُ)).
(16) في "العين" (4/256)؛ فإنه قال: والخارب: اللص. وما رأينا من فلاير خُربًا وخُرْبة؛ أي: فسادًا في دينه أو شيئًا. هذا نحو من تفسير الخليل.(3/474)
اللصُّ المفسِدُ، وقيل (1) : سارقُ الإبلِ خاصةً (2) .
قال أبو الفرج الجوزي: انعقد الإجماعُ على أنَّ من جنى في الحرمِ يقادُ منه فيه ولا يؤمَّنُ؛ لأنه هَتكَ حرمةَ الحرمِ، وردَّ الأمانَ. واختلف (3) فيمن ارتكبَ جنايةً خارجَ الحرمِ ثم لجأ إليه؛ فرُويَ عن أبي حنيفةَ، وأحمد: أنه لا يقامُ عليه الحدُّ فيه، ويُلْجأُ إلى الخروجِ إلى الحِلِّ، ويُمنعُ المعاملةَ والمبايعةَ حتى يضطرَّ إلى الخروجِ، فيخرجَ إلى الحِلِّ؛ فيقامُ عليه الحدُّ فيه (4) .
وقولُ عمرِو بن سعيدٍ لأبي شريحٍ: ((أنا أعلم بذلك منك)) ليس بصحيحٍ؛ للَّذي (5) تمسك به أبو شريح، ولما في حديثِ ابن عباسٍ كما قدمناه، وحاصلُ قولِ عمرٍو أنه تأويلٌ غيرُ معضودٍ بدليلٍ (6) .
وقولُه (7) : ((إن الله حبس عن مكة الفيل))؛ يعني به (8) : فيلَ أبرهةَ الأشرمِ (9) الحبشيِّ؛ الذي قصَد خرابَ (10) الكعبةِ، فلمَّا وصل إلى ذي المجازِ، - سوقٍ للعربِ (11) قريبٍ من مكةَ - عبَّأ فِيلَهُ (12) ، وجهَّزه إلى مكةَ، فلمَّا استقبل الفيلُ مكةَ رَزَمَ؛ أي: أقام وثَبَتَ، فاحتالوا عليه بكلِّ حيلةٍ، فلم يقَدرُوا عليه، فاستقبلوا (13) به جهةَ مكةَ فامتنع، فلم يزالوا به هكذا (14) حتى رماهم الله بالحجارةِ التي أرسل الطيرَ بها على ما هو مذكورٌ في السِّيرِ وفي كتبِ التفسيِر. =(3/475)=@
__________
(1) في (ح): ((ومنه)).
(2) هو قول الأصمعي؛ كما في "الصحاح" (1/119) قال: الأصمعي: هو سارق البعران خاصة. والجمع: خُرَّاب. تقول منه: خَرَبَ فلان بإبلِ فلانٍ يَخْرُبه خِرابة.اهـ.
وحكاه في "المشارق" عن الخليل أيضًا، وذكر أنه فسر في "صحيح البخاري" بـ((البلية)) و((السرقة))، ونسب الحافظ تفسيراه في بـ((البلية)) إلى البخاري نفسه. ومما فسرت به ((الخربة)) هنا: ((العيب. وذكر النووي أنها تطلق على كل خيانة.
انظر: "غريب الخطابي" (2/266)، "مشارق الأنوار" (1/231)، و"شرح النووي" (9/128- 129)، "فتح الباري" (4/45).
(3) في (ي): ((واختلفوا)).
(4) "زاد المسير في علم التفسير" (1/427)، لكنه ذكر الخلاف في اللاجئ إلى الحرم بجنايته خارجة خارجة بسياق غير الذي ذكره الشارح، وعبارته:
وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال احمد في رواية المروذي إذا قتل أو قطع يدا أو أتى حدا في غير الحرم ثم دخله لم يقم عليه الحد ولم يقتص منه ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يؤاكل، حتى يخرج فان فعل شيئا من ذلك في الحرم استوفي منه وقال أحمد في رواية حنبل إذا قتل خارج الحرم ثم دخله لم يقتل وإن كانت الجناية دون النفس فانه يقام عليه الحد وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقال مالك والشافعي يقام عليه جميع ذلك في النفس وفيما دون النفس.اهـ. كلام أبي الفرج. وقال: النووي في باب: ما يندب للمحرم وغيره قلته من الدواب في الحل والحرم، من "شرح مسلم": وحجتنا عليهم هذه الأحاديث؛ بمشاركة فاعل الجناية للدواب التي أباح الشارع قتلها في الحرم والإحرام، في الفسق، بل فسقه أفحش لكونه مكلفًا، ولأنه هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعله الله له من الأمان. وقال القاضي عياض: والحجة عليهم: أن مَن ضُيق عليه هذا التضييق ليس بآمن، قال النووي: قد خالفوا ما فسروا به الآية. وقد تقدم طرف من المسألة في باب ما يقتل المحرم من الدواب. وتقدمت الإشارة إلى تفسير قوله تعالى: {ومن دخله كان آمنا} وأقوال المفسرين فيها. وانظر: "الإكمال" (4/209)، "شرح النووي" (8/117- 118)، "فتح الباري" (4/47)، "المغني" (12/409- 414).
(5) في (ي): ((الذي)).
(6) قال الحافظ في "الفتح" (4/44- 45):
وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الحكم مساق الدليل، وفي تخصيصه العموم بلا مستند... قال ابن حزم: لا كرامة للطيم الشيطان يكون أعلم من صاحب رسول الله ص. وأغرب ابن بطال فزعم أن سكوت أبي شريح عن جواب عمرو بن سعيد دال على أنه رجع إليه في التفصيل المذكور، ويعكر عليه ما وقع في رواية أحمد أنه قال في آخره: قال أبو شريح: فقلت لعمرو: قد كنتُ شاهد وكنتَ غائبًا، وقد أُمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد بلغتك. فهذا يشعر بأنه لم يوافقه وإنما ترك مشاققته لعجزه عنه؛ لما كان فيه من قوة الشوكة. وقال ابن بطال أيضًا: ليس قول عمرو جوابًا لأبي شريح؛ لأنه لم يختلف معه في أن من أصاب حدًا في غير الحرم ثم لجأ إليه أنه يجوز إقامة الحد عليه في الحرم، فإن أبا شريح أنكر بعث عمرو الجيش إلى مكة ونصب الحرب عليها، فأحسن في استدلاله بالحديث، وحاد عمرو عن جوابه، وأجابه عن غير سؤاله، وتعقبه الطيبي بأنه لم يحد في جوابه، وإنما أجاب بما يقتضي القول بالموجب، كأنه قال له: صح سماعك وحفظك، لكن المعنى المراد من الحديث الذي ذكرته خلاف ما فهمته منه؛ فإن ذلك الترخص كان بسبب الفتح وليس بسبب قتل من استحق القتل خارج الحرم ثم استجار بالحرم، والذي أنا فيه من القبيل الثاني. قلت: لكنها دعوى من عمرو بغير دليل؛ لأن ابن الزبير لم يجب عليه حد فعاذ بالحرم فرارًا منه، حتى يصح جواب عمرو، نعم، كان عمرو يرى وجوب طاعة يزيد الذي استنابه... وأن ابن الزبير عاص بامتناعه من امتثال أمر يزيد، ولهذا صدر كلامه بقوله: إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ثم ذكر بقية ما ذكر استطرادا، فهذه شبهة عمرو وهي واهية.
(7) في (ح) و(ي): ((قوله)).
(8) قوله : ((به)) سقط من (ب)، و(م).
(9) في (م): ((الأشرح)) وصوبت الحاء إلى الميم بالخط المشرقي.
(10) في (م): ((حرب)).
(11) في "السير" أن الموضع الذي نزل فيه أبرهة وبرك فيه فيله، كما سيأتي – هو ((المغمَّس)) وهو موضع قريب من مكة في طريق الطائف، على ثلثي فرسخ من مكة. و((ذو المجاز)) السوق خلف عرفات وهو في طريق الطائف أيضًا، ولعلهما متقاربان!
وانظر: "معجم ما استعجم" (4/1185، 1248)، "معجم البلدان" (4/142)، (5/161)، "الكامل في التاريخ" (1/468). وانظر ما يأتي.
(12) في (م): ((مثله)).
(13) في (ز): ((واستقبلوا)).
(14) في (ز): ((كذلك)).
ولعل في سياق الشارح هنا سقطًا. حاصله: أن الفيل كما وجهوه إلى مكة برك، فوجهوه إلى اليمن راجعًا فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فإذا وجهوه إلى مكة ثانيًا برك. وفي "السير" أنه لما تهيأ أبرهة لدخول مكة ووجه الفيل، وكان اسمه ((محمودًا)) أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذ بإذنه فقال: ابرك محمود، وارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أنذه فبرك وخرج نفيل يشتد حتى صعد في الجبل، ثم حاولوا أن يقيموا الفيل وضربوه، فلم يقم إلى غير جهة مكة. ثم أرسل الله تعالى عليهم الطير الأبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول.
"سيرة ابن إسحاق" (ص38- 44)، "تاريخ الطبري" (2/222- 231)، "تفسير الطبري" (24/609- 614)، "الكامل" (1/342- 345)، "سيرة ابن هشام" (ص43- 54)، "البداية والنهاية" (3/139- 148). ...(3/475)
وقوله: ((ومن قُتِل له قتيل فهو بخيرِ النَّظَرَين (1) )) الحديثُ حجةٌ للشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وأبي ثورٍ - وروي عن ابن المسيِّبِ، وابن سيرين - على قولِهم (2) : إن ولَّي دمِ (3) العَمْدِ بالخيارِ بين القِصاصِ والدِّيَةِ، ويُجْبَرُ القاتلُ عليها إذا اختارها الوليُّ. وهي روايةُ أشهبَ عن مالكٍ. وذهب مالكٌ في روايةِ ابنِ القاسمِ وغيرِه إلى (4) أن الذي للولِّي إنما هو القتلُ فقطْ، أو العفُو (5) ، وليس له أن يُجبِرَ القاتلَ على الدِّيةِ؛ تمسُّكًا بقولِه تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} (6) ، وقولِه: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (7) ، وقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ((كِتَابُ اللهِ القِصَاصُ (8) )) (9) . وفي المسألِة أبحاثٌ تُنظُر في مسائلِ الخلافِ.
وقوله: ((اكتبوا لأبي شاهٍ (10) )) دليلٌ على جوازِ كتابةِ العلمِ، وهو مذهبُ الجمهورِ. وقد كرهه قومٌ من أهلِ العلمِ؛ تمسُّكًا بحديثِ أبي سعيدٍ (11) الآتي في كتابِ =(3/476)=@
__________
(1) أشير لها بسهم وكتب: يعلق في "التخليص" على قوله: (أو يقاد أهل القتيل) إن احتاج الطبعة العامرة.
(2) قوله: ((على قولهم)) سقط من (أ).
(3) في (ح): ((الدم)).
(4) سقط من (أ) و(ي).
(5) في (ز): ((والعفو)).
(6) سورة البقرة؛ الآية: 178.
(7) سورة المائدة؛ الآية: 45.
(8) ؟؟؟.
(9) سيأتي في القسامة ، باب القصاص في الجراح . ومن قوله: ((في القتلى...)) إلى هنا ، سقط من (ز).
(10) ((أبو شاه)) هو بهاءٍ تكون في الوقف ولادرج، ولا يقال بالتاء؛ قاله النووي، وقال: قالوا: ولا يعرف اسم أبي شاه هذا، وإنما يعرف بكنية. قال الحافظ ابن حجر: يقال: إنه كلبي. ويقال: إنه فارسي من الأبناء الذي قدموا ليمن في نصرة سيف بن ذي يزن. كذا رأيت بخط السِّلفي. وقيل: إن هاءه أصلية وهو بالفارسي معناه: الملك. قال: ومن ظن أنه باسم أحد الشياه فقد وهم.انتهى.
"شرح النووي" (9/129)، "الإصابة" (11/190).
(11) سيأتي في العلم ، باب النهي عن أن يكتب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء غير القرآن ، ونسخ ذلك.(3/476)
العلمِ، وكان محملُ النهيِ الذي في حديثِ أبي سعيدٍ إنما هو (1) لئلا يتَّكلَ الناسُ على الكتُبِ، ويتركوا الحفظَ، أو لئلا يُختلط (2) بالقرآنِ غيرُه؟ لقولِه في الحديثِ نفسِه: ((مَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا سِوىَ القُرآنِ فَلْيَمْحُهُ)) (3) .
وقوله: ((لا يحل لأحدٍ أن (4) يحمل السلاح بمكة (5) ))؛ قال به الحسنُ البصريُّ، وأجازه الجمهورُ إن دعت إليه حاجةٌ وضرورةٌ؛ تمسُّكًا بدخول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مكة بالسلاحِ. وهذا فيه بُعْدٌ؛ لما قدَّمناه مما (6) يدلُّ على خصوصيِة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وقد أنكر عبدُالله بنُ عمرَ – رضي الله عنه - (7) على الحَجَّاجِ أَمْرَهُ بحملِ السلاحِ في (8) الحرمِ. ويمكنُ أن يعلَّلَ (9) : بأن ذلك في أيامِ الموسمِ؛ لكثرةِ الخلقِ؛ فيخافُ أن يصيبَ أحدًا أو يروِّعَه؛ كما قد نبَّه عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ بقولِه: ((مَنْ مَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بَنِبْلٍ فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِها، لا يَعْقِر بِكَفِّهِ (10) مُسْلِمًا)) (11) . والله أعلم.
((المغفر)): ما يُلبَسُ على الرأسِ من درعِ الحديدِ، وأصلُه من الغَفْرِ؛ وهو: =(3/477)=@
__________
(1) قوله : ((إنما هو)) سقط من (ز).
(2) في (أ) و(ح) و(ز) و(ي): ((يخلط)).
(3) قال النووي في "شرح مسلم" (9/129- 130): فمن السلف من منع كتابة العلم، وقال جمهور السلف بجوازه. ثم أجمعت الأمة بعدهم على استحبابه. وأجابوا عن أحاديث النهي بجوابين: أحدهما: أنها منسوخة وكان النهي في أول الأمر قبل اشتهار القرآن لكل أحد؛ فنهي عن كتابة غيره خوفًا من اختلاطه واشتباهه، فلما اشتهر وأمنت تلك المفسدة أذن فيه. والثاني: أن النهي نهي تنزيه لمن وثقه بحفظه وخيف اتكاله على الكتابة، والإذن لمن لم يوثق بحفظه والله أعلم.
وهو نحو ما ذكره الشارح لكن عبارته أدق وفيها تحرير للمسألة. وانظر: "فتح الباري" (1/208).
(4) في (ح): ((أي)).
(5) قوله: ((السلاح بمكة)) في (أ) و(ح) و(ي): ((بمكة السلاح)).
(6) في (ي): ((ومما)).
(7) أخرجه البخاري (2/455 رقم966 و967) في العيدين ، باب ما يكره من حمل السلاح في لعيد والحرم .
(8) في (ح): ((من)).
(9) في (ز): ((يقال)).
(10) في (ح): ((بها)).
(11) هذا لفظ البخاري في هذا الحديث، في كتاب الصلاة، باب: المرور في المسجد. الحديث رقم (452). وسيأتي بلفظٍ آخر عند مسلم في كتاب البر والصلة، باب النهي أن يشيرا لرجل بالسلاح على أخيه. وقوله: (لا يعقر)) مجزوم جوابًا للأمر ((فليأخذْ)). ويجوز رفعه. وقوله: ((بكفه)) ليس متعلقًا بـ((بعقر)) بل بـ((فليأخذ)) وتقديره: فليأخذ بكفه على نصالها لا يعقر مسلمًا. رواية أبي أسامة (المشار إليها عند مسلم): ((فليمسك على نصالها بكفه أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء)). انتهى من "الفتح" (1/547)(3/477)
السَّتْرُ.
وهو دليلٌ على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخل مكةَ عُنوةً، وهو الصحيحُ من الأحاديثِ، والمعلومُ من السِّيرِ، لكنَّه عندما دخلها أمَّنَ أهلَها، كما سيأتي. وإنما اغترَّ من قال بأنها فتُحت صلحًا، لما سمع أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَعْرِضْ لأهلِها بقتلٍ، ولا سَبْيٍ، فظنَّ وقدَّر هنالك صلحًا في الخفاءِ مع أبي سفيان أو غيرِه. وهذا كلُّه وهمٌ، والصحيحُ الأولُ (1) .
و((ابنُ خَطَل)) هو: هِلال بنُ خطلٍ (2) . وقيل: عبدُالعزَّى بن خطلٍ. هذا قولُ ابنِ إسحاقَ وجماعةٍ. وقال الزبيرُ بنُ بكَّارٍ: ابنُ خطلٍ الذي أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقتلِه يوم الفتحِ هو: هلالُ بنُ عبدِالله (3) بنِ عبدِ منافِ بنِ أسعدَ بنِ جابرِ بن كَبيرِ (4) بنِ تيمِ بنِ غالبِ بنِ فهرٍ. قال: وعبدُالله هو الذي يُقال له: خَطَل، ولأخيه عبدِ العزى بنِ عبدِ منافٍ أيضًا: خطلٌ، هما جميعًا الخَطَلانِ؛ قاله (5) أبو عمر: وكان (6) قد أسلم، وهاجر، فاستكتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ارتدَّ، فقتل رجلاً كان يخدمه، وفرَّ إلى مكة، وجعل يسبُّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويهجوه (7) . وفيه دليلٌ على صحَّةِ مذهبِ الجمهورِ في أن الحدودَ تُقامُ بالحرمِ (8) ، كما تقدَّم.
وقولُ جابرٍ رضي الله عنه: ((إنَّه - صلى الله عليه وسلم - دخل مكةَ يومَ الفتحِ وعليه عمامةٌ سوداءُ)) ليس مناقضًا =(3/478)=@
__________
(1) وممن ذكر وقوع الصلح النووي في "شرح مسلم" (12/130)، قال: واحتج الشافعي بالأحاديث المشهورة أنه - صلى الله عليه وسلم - صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة. قال في "الفتح" (8/12): فيه نظر؛ لأن الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع له من قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن...))؛ فإن ذلك لا يسمى صلحًا؛ إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكفَّ عن القتال، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشَا لم يلتزموا ذلك؛ لأنهم استعدوا للحرب؛ كما ثبت في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة أن قريشًا وبشت أوباشا لها وأتباعًا فقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذي سألنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أترون أوباش قريش؟!)) ثم قال بإحدى يديه على الأخرى؛ أي: احصدوهم حصدًا ((حتى توافوني على الصفا)). قال: فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدًا إلا قتلنا. قال الحافظ: وإن كان مراده بالصلح وقوع عقد به، فهذا لم ينقل ولا أظنه عني إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته.
(2) ((خَطَل)) ضبطه النووي بفتحتين، وكذلك في "القاموس" و"المصباح" وخَطِل في منطقة خطَلا، من باب ((تعب)): أخطأ، فهو خَطِل. انظر: "شرح النووي" (9/132)، و"القاموس" (ص993)، و"المصباح" (ص93)، و"جمهرة نسب قريش" (ص980).
(3) في (ب) و(ز) و(م): ((عبدالعزى)).
(4) هكذا يمكن أن تقرأ في (ز)، وفي سائر النسخ: ((كثير)). والمثبت هو الصواب إن شاء الله؛ كما في "جمهرة النسب" لابن الكلبي، و "جمهرة نسب قريش وأخبارها" للزبير بن بكار. وكذلك أثبته محقق "التمهيد" وذكر أن في نسخة: ((كثير)) وقال: ولعل الصواب ما أثبتناه.
(1/173 (سطر: 19، 20)، 174 (سطر: 11/17)، و(3/76- اللوحة 33).
(5) في (ب): ((قال)). والمراد أن أبا عمر بن عبد البر، نقل الخلاف في اسمه عن ابن إسحاق والزبير بن بكار وغيرهما، وعنه نقل الشارح.
وقال الحافظ بن حجر: ((والجمع بين ما اختلف فيه من اسمه أنه كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمي عبد الله، وأما من قال: ((هلال)) فالتبس عليه بأخٍ له اسمه ((هلال)) بين ذلك الكلبي في النسب)).اهـ. وهذا جمع حسن، إلا أنه مخالف تماما لما في "جمهرة النسب" لابن الكلبي، وما ذكره ابن الكلبي موافق لما ذكره الزبير بن بكار ونقله عنه ابن عبد البر ثم الشارح هنا. ومؤداه أن ((عبد الله بن عبد مناف)) يقال له ولأخيه ((بعد العزى بن عبد مناف)): ((الخطلان)) بسبب تسمية أحدهما به وهو ((عبد الله))، وعبد الله هذا هو أبو هلال، الذي عرف بعد بـ((ابن خطل)). وانظر "جمهرة النسب" لابن الكلبي (1/173- سطر: 19- 20، 714 – سطر 11: 17)، (3/76 – اللوحة 33). و "جمهرة نسب قريش وأخبارها" (2/971 – 981)، "التمهيد" (6/157- 158)، "الفتح" (4/61).
تبنيه: في المطبوع من "جمهرة نسب قريش" لابن بكار، عند الكلام على ولد جابر بن كبير، وقع سقط يخل بالمعنى لا يخفى على القارئ، تصويبه واستدراكه في "جمهرة النسب" لابن الكلبي (1/174- سطر:11، 12).
(6) في (أ): ((كان)).
(7) قال الحافظ في "الفتح" (4/61): ((روى ابن إسحاق في المغازي: حدثني عبدالله بن أبي بكر وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل مكة قال : ((لا يقتل أحد إلا من قاتل ...)) فذكر الحديث، وفيه : ((وإنما أمر بقتل ابن خطل ؛ لأنه كان مسلمًا فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقًا ، وبعث معه رجلاً من الأنصار ، وكان معه مولى يخدمه ، وكان مسلمًا، فنزل منزلاً فأمر المولى أن يذبح تيسًا ويصنع له طعامًا ، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركًا ، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )).اهـ.
وانظر "السيرة النبوية" لابن هشام (4/409-410).
(8) في (ب): ((في الحرم)).(3/478)
لقولِه: ((إنه دخل ذلك (1) اليوم وعليه المغفر))؛ لإمكان أن تكونَ (2) العمامةُ تحتَ المغفرِ، وقايةً من صدأ الحديدِ وتَشْعيثِه (3) ، أو يكونَ نَزَعَ المغفرَ عندَ انقيادِ أهل مكةَ ولَبِسَ العمامةَ (4) . والله تعالى أعلمُ.
ومن بابِ تحريمِ المدينةِ
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن إبراهيم حرَّم مكة))؛ أي: بلَّغ حكمَ تحريمِها، وعلى ذلك يحملُ قولُ (5) نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - : ((وإني أحرِّم ما بين لابتي المدينة))؛ وقد دلَّ على (6) صحةِ هذا التأويل قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ((إِنَّ الله حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحرَّمْهَا النَّاسُ)) (7) .
وقولُه: ((وإني دعوتُ في صاعها ومُدِّها بمثلَيْ ما (8) دعا به (9) إبراهيمُ لأهلِ =(3/479)=@
__________
(1) سقط من (ي).
(2) قوله : ((تكون)) رسمها في (ز) بالياء والتاء معًا .
(3) في (ح) و(ي): ((شعثه)).
(4) ذكر هذين القولين في الجمع بين الروايتين، القاضي "الإكمال" (4/476).
(5) قوله: ((قول نبينا)) في (ي): ((قوله)) وكتب فوقها: ((نبينا)).
(6) كاد ناسخ (ي) يكتب ((هذا)) ثم أراد تصويبها إلى ((على))، لكن تركها تقرأ هكذا: ((هذلي)).
(7) تقدم برقم (1213) وتقدم جواب الشارح والقاضي عياض على هذا التعارض من الظاهر من لفظي الحديثين مع فائدة من النووي في المسألة.
(8) في (ز): ((لما)).
(9) قوله : ((به)) سقط من (ب) و(م).(3/479)
مكة))؛ تفسيره (1) : ما جَاءَ (2) في حديثِ أنسٍ (3) ، وهو قولُه: ((اللهمَّ اجْعَلِْ بالمدينةِ ضِعْفَيْ (4) ما بمكةَ من البركةِ)) (5) .
وقوله: ((في صاعها ومُدِّها))؛ أي: في ذي صاعِها وذي مدِّها. يعني: فيما يُكالُ بالصَّاعِ (6) والمدِّ. ووجهُ البركة تكثيرُ ذلك وتضعيفُه في الوجود أو في الشِّبع. وقد فعل (7) الله تعالى كلَّ ذلك بالمدينةِ، فانجلب الناسُ إليها من كلِّ أرضٍ وبلدٍ، وصارت مستقرَّ ملوكٍ، وجُلبت (8) إليها الأرزاقُ وكثُرتْ فيها، مع قلةِ أكلِ أهلِها، وتَرْكِ نَهَمِهم (9) ، وإنما هي وجبةٌ واحدةٌ يأكلون فيها العُلْقةَ (10) من الطعامِ، والكفِّ من التمرِ، ويُكتفى به (11) . ثم لا يلزمُ أن يكونَ ذلك فيها دائمًا، ولا في كلِّ شخصٍ، بل تتحقَّقُ (12) إجابةُ دعاءِ (13) النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ذلك في أزمانٍ، أو في غالبِ أشخاصٍ. والله تعالى أعلم.
وقوله: ((إني أحرِّم ما بين لابتي المدينة أن يُقطع (14) عضاهها، أو يُقتل صيدها)): اللابةُ (15) : الأرضُ ذاتُ الحجارةِ. وهي الحرَّةُ، وجمعها في القلةِ: لابات، وفي الكثرة: لابٌ، ولوبٌ؛ كـ ((قَارَةٍ)) و((قُورٍ (16) ))، و((سَاحةٍ)) و((سُوحٍ))، و((بَاحةٍ))، و((بُوحٍ (17) ))، قال (18) ابنُ حبيبٍ (19) ، اللابتان (20) : الحرَّتان الشرقيةُ والغربيةُ، وللمدينة حرتان (21) ، في القبلةِ والجوفِ، وترجعُ (22) إليهما (23) الشرقيةُ والغربيةُ (24) .
قال الهرويُّ: =(3/480)=@
__________
(1) في (ي): ((يفسره)).
(2) ((جاء)) من (ي) فقط.
(3) سيأتي في هذا الباب بعد ثلاثة أحاديث .
(4) في (أ): ((ضعف)).
والمثبت موافق للرواية. قال الجوهري: وضعف الشيء: مثله، وضعفاه: مثلاه.
وأضعافه: أمثاله.اهـ. وقال الأزهري: ذهب الشافعي رحمه الله – في الوصايا - بمعنى الضعف إلى التضعيف، وهذا هو المعروف عند الناس، والوصايا تمضي على العرف وعلى ما ذهب إليه في الأغلب وهم الموصي لا على ما يوجبه نص اللغة... وأما الضعف من جهة اللغة: فهو المثل فما فوقه إلى عشرة أمثاله وأكثر، وأدناه: المثل؛ قال الله تعالى: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30] أراد، والله أعلم: أنها تعذب مثلي ما تعذب به غيرها من نساء المسلمين؛ ألا تراه يقول عز وجل: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا تؤتها أجرها مرتين} [الأحزاب: 31]، فكان أبو عبيدة من بين أهل اللغة ذهب في قوله عز وجل: {يضاعف لها العذاب ضعفين} إلى أن يجعل الواحد ثلاثة أمثاله، إ لى العرف، كما ذهب الشافعي في الوصايا إلى العرف، والحكم في الوصايا غير الحكم فيما أنزله الله تعالى نصًّا.
وقال أبو إسحاق النحوي في قوله عز وجل: {فأتهم عذابا ضعفا من النار} [الأعراف: 38]، أي: عذابا مضاعفًا؛ لأن الضعف في كلام العرب على ضربين: أحدهما: المثل والآخر: أن يكون في معنى تضعيف الشيء.
وقال في قوله جل ثناؤه: {فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا} [سبأ: 37]، أي: جزاء التضعيف، الذي قال الله عز وجل: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160]، والضعف عند عوام الناس أنه مِثْلاَن فما فوقهما.
فأما أهل اللغة فالضعف عندهم في الأصل: المثل، فإذا قيل: ضَعَّفُتُ الشيء وضَاعَفْتُهُ وأَضْعَفْتُهُ، فمعناه جعل الواحد اثنين، ولم يقل أحد من أهل اللغة في قوله: {يضاعف لها العذاب ضعفين} أن يجعل الواحد ثلاثة أمثاله، غير أبي عبيدة، وهو غلط عند أهل العلم باللغة. والله أعلم. انتهى من "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص373- 374). وقول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" (2/136- 137).
(5) يأتي في هذا الباب .
(6) في (أ): ((في الصاع)).
(7) في (ح): ((جعل)).
(8) في (ب) و(م): ((جلب)).
(9) في (ب): ((نهمتهم))، وفي (م): ((تهمهم)). والنَّهَم: إفراط الشهوة، فعله: نَهِم يَنْهَم. ونَهِم أيضًا: زادت رغبته في العلم. ونَهَمَ ينهِم: كثر أكله. "المصباح" (ص323).
(10) في (ز) و(م) و(ي): ((العلفة)) وفلانٌ لا يأكل إلا عُلْقة: أي ما يُمسكُ نفسه. والجمع: عُلَق. المصباح (ص221).
(11) وقال القاضي عياض: البركة تكون بمعنى النماء والزيادة، وتكون بمعنى الثبات واللزوم: فقيل: يحتمل أن تكون هذه البركة دينية بما يتعلق بهذه المقادير من حقوق الله في الزكوات والكفارت؛ فتكون هنا بمعنى الثبات والبقاء بها للحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها. وتكون من تكثير المكيل والقدر بهذه الأكيال، حتى يجزئ منه ويكفي ما لا يجزئ من غيره في غير المدينة ومكاييليها. أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها، أو إلى كثرة ما بها من غلاتهم وثمارهم، أو يكون للزيادة فيما يكال بها؛ لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقه، لما فتح الله عليهم ووسع من فضله لهم وملكتهم من بلاد الخصب والريف من الشام والعراق ومصر، حتى كثر الحمل إلى المدينة، واتسع عيشهم، وانتقلوا عن ذلك إلى حال آخر ورغد سابغ، حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه غير ذلك، فانتقلوا عن مقاديرهم في عيشهم المعلوم من مد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المد الهاشمي، فزادوا في مدهم مثل نصفه أو ثلثه أو مثله، على الخلاف في مقداره، في هذا كله ظهور إجابة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم وقبولها... وقيل: يحتمل أن هذا خاص بزمنه وزمن من تلاه من أئمة الحق بعده. "الإكمال" (4/488) وهو كلام الباجي في "المنتقى" (7/187) زاد عليه القاضي.
(تنبيه: وقع في المطبوع من "الإكمال" تحريف وتصحيفًا لبعض هذه العبارة، وقد نقلناه بعد تصويبه من المخطوط).
(12) في (ز) و(م): ((يتحقق)).
(13) في (ز): ((دعوة)).
(14) في (ب) و(ز) و(م): ((تقطع)).
(15) في (ي): ((اللابة)).
(16) في (ح) و(ز) و(ي): ((كفارة وقور)).
(17) انظر "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/309- 311) وفيه: ((قال الأصمعي: اللابة الحرة، وهي الأرض قد ألبستها حجارة سود، وجمع اللابة: لابات ما بين الثلاث إلى العشر، فإذا كثرت فهي اللاب واللوب؛ لغتان... ومثل هذا في الكلام قليل ومنه: قارة وقور، وساحة وسوح.اهـ. ونحوه في "العين".
وذكر في المفرد أيضًا ((اللُّوبة)) و((النَّوبة)) بالنون صاحبُ "الصحاح". وفي "التهذيب" أنها لا تكون إلا حجارة سودًا. والقارة: الأصاغر من الجبال والأعاظم من الآكام، وهي متفرقة، خشنة الحجارة وساحة الدار وبساحتها. الموضع الذي أمامها وهو عرصتها وتجمع ((ساحة)) على ((ساحات)) و((ساحٍ)) أيضًا. "العين" (8/337- 338)، "تهذيب اللغة" (15/382- 383)، (9/275)، و"الصحاح" (1/200، 356، 377)، "أدب الكاتب" (ص530)، "التاج" (4/17)، و"المصباح" (ص153)، و"شرح النووي" (9/135).
(18) في (م): ((قاله)).
(19) في (ز): ((الأنباري))، وفي (ح) و(ي): ((فلان))، وموضعها في (أ) بياض، والمثبت من (ب) و(م). وانظر التعليق آخر الفقرة.
(20) في (ح): ((الآبتان)).
(21) في (ز): ((لابتان)).
(22) في (ز): ((ويرجع)).
(23) في (أ) و(ز): ((إليها)).
(24) من قوله: ((وللمدينة حرتان...)) إلى هنا، سقط من (ح) و(ي).
والمراد أن في المدينة أربع حرار: حرتان إحداهما غربية وهي التي ينزل بها الحاج، والأخرى من ناحية شرقي المدينة. وحرتان أخريان إحداهما من ناحية القبلة، والأخرى في الجوف من المدينة، وهما في طرف العمران من جانبي المدينة كالسابقتين، والقبلية والجوفية متصلتان بالشرقية والغربية، فلذلك يقال على الجمع: حرتان، وقد ردهما حسان إلى حرة واحدة في قوله:
لنا حرة مأطورة بجبالها ... بني العز فيها بيته فتأثلا
فقول الشارح: ((وللمدينة حرتان)) لعله سقط من النسخ: ((أخريان)) كما في "الإكمال" للقاضي عياض.
أما قوله: ((قال ابن حبيب)) وما فيه من اختلاف النسخ. فالصواب منه المثبت إن شاء الله؛ كما في "الإكمال"، و"التمهيد". ونسب نحو هذا القول أيضًا لابن نافع وابن وهب، في "المنتقى" و"التمهيد" .
أما ((ابن الأنباري)) و((ابن فلان)) فلعله من تصرف النساخ إذا أراد موضعه بياضًا، ولا يبعد أن ينسب هذا لابن الأنباري أيضًا. [يراجع ابن الأنباري].(3/480)
يقال: ما بين لابتيها أجهلُ من فلانٍ؛ أي: ما بين طَرفيْها؛ يعني: المدينة (1) .
وهذا (2) الحديثُ نصٌّ في تحريمِ صيدِ المدينةِ، وقطعِ شجرِها، وهو حجةٌ للجمهورِ على أبي حنيفةَ وأصحابهِ في إباحة ذلك، وإنكارِهم على من قال بتحريمِ المدينةِ؛ بناءً منهم (3) على أصلِهم في ردِّهم (4) أخبارَ الآحادِ فيما (5) تعمُّ به البلوى. وقد تكلَّمْنا معهم في هذا الأصلِ في بابِ أحداثِ الوضوءِ. ولو سُلِّم لهم (6) ذلك جدلاً، فتحريمُ المدينةِ قد انتشرَ عندَ أهلِ المدينةِ والمحدِّثين، وناقلي الأخبارِ، حتى (7) صار ذلك معلومًا عندَهم، بحيثُ لا يشُكُّون فيه (8) ، والذي قصَّر بأبي حنيفةَ وأصحابِه في ذلك قلَّةُ اشتغالِهم بالحديثِ ونقلِ الأخبارِ؛ وإلا فما الفرقُ بين الأحاديثِ الشاهدةِ بتحريمِ (9) مكةَ، وبين الشاهدةِ بتحريمِ المدينةِ في الشهرةِ (10) ، ولو (11) بحثوا عنها وأمعنوا فيه، حصل لهم منها مثلُ الحاصلِ لهم (12) من أحاديثِ مكةَ.
والجمهورُ على أن صيدَها لا جزاءَ فيه (13) ؛ لعدمِ النصِّ على (14) ذلك، ولم يتحقَّقوا جامعًا بين (15) الصَّيدينِ (16) ، فلم يُلحقوه به. وقد قال بوجوبِ الجزاءِ فيه ابنُ أبي ذئبٍ، وابنُ أبي ليلى، وابنُ نافعٍ من أصحابنا. واختلف قولُ الشافعيِّ – رحمه اله- في ذلك.
فأما الشجرُ: فيحرمُ قطعُه منها (17) أيضًا، وهو محمولٌ على مثلِ ما حمل عليه شجرُ مكةَ، وهو ما لم يُعالجْ إنباتَه الآدميُّ. ويدلُّ على صحةِ ذلك أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قطع نخلَ المسجدِ (18) . وقد ذكر ابنُ نافعٍ عن مالكٍ أنه قال: إنما نُهي عن قطعِ شجرِ المدينةِ لئلا تتوحَّشَ (19) ، وليبقى فيها شجرُها؛ ليستأنَسَ ويستظلَّ به مَن هاجر إليها.
قلت (20) : وعلى هذا، فلا يُقطعُ منها نخلٌ ولا غيُره، وحينئذٍ تزولُ خصوصيةُ ذكرِ العضاهِ (21) ، وهو شجرُ الباديةِ، الذي ينبتُ (22) لا بصنعِ آدميٍّ (23) . والأولُ أولى. والله تعالى أعلمُ.
وقوله: ((والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون))؛ يعني: للمُرْتِحِلين عنها إلى =(3/481)=@
__________
(1) في "الغريبين" لأبي عبيد الهروي (5/1708) وهو كلام مبتور، أصله عند ابن قتيبة في "غريبه"، وبترة المازري عن أبي عبيد أو عمن نقل عن أبي عبيد، وتبعه الشارح... وجه الإشكال إيهام أنه في هذا المثال المذكور يتحدث أيضًا عن المدينة مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لكن المراد أن عبارة ((ما بين لابتيها)) صارت تطلق على أي بلدة؛ قال الخليل: وإنما جرى هذا أول مرة بالمدينة، وهي بين حرتين، فلما تمكن هذا الكلام جرى على أقواه الناس في كل بلدة، فصار كأنه ((بين حدين)).اهـ. وإليك عبارة ابن قتيبة في "غريب الحديث"، ثم عبارة أبي عبيد، قال ابن قتيبة في شرح قول عائشة: ((بعيد ما بين اللابتين)): واللابة الحرة (في المطبوع: الجرة) وجمعها: لاب ولوب. والأصل في هذا أن مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام بين لابتين، وحرّم رسول الله ما بين لابتيها. ويقال: ما بين لابتيها أجهل من فلان؛ يراد: ما بين طرفي المدينة أو القرية أجهل منه. وأرادت عائشة: واسع الصدر واسع العطن.اهـ. وعند أبي عبيد: ((وفي حديث عائشة ووصفت أباها واسع الصدر، والأصل فيه أن مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين لابتين، وحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ما بين لابتيها؛ يقال: ما بين لابتيها أجهل من فلان، أراد ما بين طرفي المدينة)). وانظر "العين" (8/338)، "غريب ابن قتيبة" (2/464- 465)، و"المعلم" (2/78).
(2) في (ز): ((هذا)).
(3) قوله: ((بناء منهم)) في (ز): ((قياسهم)).
(4) في (أ) و(ح) و(ي): ((رد)).
(5) في (ي): ((بما)).
(6) قوله : ((لهم)) سقط من (أ).
(7) في (ح): ((حتى قد)).
(8) وقال المازري في "المعلم" (2/77):... والحديث اشتهر عند أهل النقل وكثر واتفق على صحته، وقد يكون بيانه عليه السلام شافيًا ولكن اكتفى الناس بنقل الآحاد فيما استغناءً ببعضهم عن بعض.اهـ. وانظر: "التمهيد" (6/309- 313)، "شرح النووي" (9/134)، "فتح الباري" (4/83- 84).
(9) في (ي): ((لتحريم)).
(10) في (م): ((الثمرة)).
(11) في (ح) و(ي): ((لو)).
(12) قوله : ((لهم)) من (ح) فقط .
(13) في (ح): ((له)).
(14) في (ح): ((في)).
(15) في (م): ((من)).
(16) ضبطها في (ح): ((الضِّدَّين)).
(17) في (م): ((فيها)).
(18) تقدم في باب ابتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الصلاة.
وما ذكره الشارح هنا، من استدلاله بقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - نخل المسجد، على أ،ه يجوز قطع ما عالج إنباته الآدمي، هو معكوس ما في "الإكمال" (4/؟؟؟) وما ينبغي أن يكون عليه الكلام؛ فالشارح في كلامه هذا يحتاج إلى إثبات أن شجر المسجد كان مما عالج إنباته الآدمي أولاً وما في "الإكمال" عن المهلب؛ قال: قَطْعُ النبي - صلى الله عليه وسلم - النخل فيها حتى بنى مسجده، يدل على أن النهي لا يتوجه لقطع شجرها للعمارة وجهة الإصلاح... وأن توجه النهي إنما هو القطع للفساد لبهجة المدينة وخضرتها في عين الوارد عليها والمهاجر إليها. قال القاضي: وقد ذكر ابن نافع عن مالك نحو هذا... (وهو الذي سيذكره الشارح بعد) وقيل: بل قطعه عليه السلام للنخيل إنما هو قطع لما غرسه الآدمي، والنهي إنما يتوجه إلى ما أثبته الله مما لا صنع فيه لآدمي.اهـ.
فواضح هنا أن مَنْ يحرم المدينة يحمل قطع النبي للنخيل على أنه مما غرسه الآدمي، ردًّا على خصمه المحتج بقطع النبي له في ادَّعاء نسخ التحريم.
قال الحافظ في "الفتح" (؟؟؟/؟؟؟): بعد أن حمل النهي عن قطع شجر المدينة على ما لا صنع للآدمي فيه كما حمل عليه في شجر مكة: وعلى هذا يحمل قطعة - صلى الله عليه وسلم - النخل وعله قبلة للمسجد ولا يلزم منه النسخ المذكور. وأيضًا في قول الشارح: ((قطع نخل المسجد)) المراد: أنه قطع نخلاً من المدينة ليبني المسجد مكانه، وقد جعله - صلى الله عليه وسلم - في قبلة المسجد.
(19) في (ز) و(ي): ((يتوحش)).
(20) في (م) و(ب): ((قال الشيخ))، وفي (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(21) في (ي): ((الغضاه)).
(22) في (ب): ((تنبت)).
(23) في (ز): ((أحد)).(3/481)
غيرِها، ويفسِّرُ هذا حديثُ سفيانَ بن زهيرٍ (1) الآتي بعدَ هذا إن شاء الله تعالى.
وقوله: ((لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها (2) من هو خير منه)) إلى آخرِ الحديثِ. ((رغبةً عنها (3) ))؛ أي كراهيةً لها (4) ؛ يقال (5) : رغبتُ في الشيءِ: أحببتُه (6) ، ورغبتُ عنه: كَرِهتُه.
وفي معنى هذا الحديثِ قولان: أحدُهما: أن ذلك مخصوصٌ بمدةِ حياتِه. والثاني: أنه دائمٌ أبدًا؛ ويشهدُ (7) له قولُه في حديثٍ آخرَ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون (8) )).
وقوله: ((لا يثبت أحدٌ على لأوائها وشدَّتها)) اللأواءُ - ممدودٌ-: هو الجوعُ، وشدَّةُ الكسبِ فيها والمشقاتُ. ويحتملُ أن يعودَ الضميرُ في ((شدَّتها)) على اللأواءِ؛ فإنها مؤنثةٌ، وعلى المدينةِ، والأولُ أقربُ (9) .
وقوله: ((إلا كنت له شفيعًا، أو شهيدًا)) زعم قومٌ أن ((أو)) هنا شكٌّ من بعضِ الرواةِ (10) ، وليسَ بصحيحٍ، فإنه قد رواه جماعةٌ من الصحابةِ (11) ومِن الرواةِ، كذلك على لفظٍ واحدٍ، ولو كان شكًّا لاستحال أن يتفقَ الكلُّ عليه. وإنما ((أو)) هنا للتقسيمِ، والتنويعِ؛ كما قال الشاعر (12) :
فَقَالُوا لَنَا ثِنْتانِ لَابُدَّ مِنْهُما ... صُدُورُ رِمَاحٍ أُشْرِعَتْ أَوْ سَلَاسِلُ (13)
ويكونُ المعنى: أنَّ الصابرَ (14) على شدةِ المدينةِ صنفان: مَنْ يشفعُ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - =(3/482)=@
__________
(1) قوله: ((شعبان بن زهير)) كذا في (أ) و(ب) و(ز) و(م)، وفي (ح): ((ابن زهر)) وفي (ي): ((سفيان بن زهر)). صوابه: ((سفيان بن أبي زهير)) وحديثه سيأتي في باب إثم نم أراد أهل المدينة بسوء.
(2) قوله: ((أبدل الله فيها)) في (أ) و(ح) و(ز) و(ي): ((أبدل فيها)).
(3) قوله : ((عنها)) سقط من (أ) و(ب).
(4) ؟؟؟
(5) في (ي): ((تقال)).
(6) ؟؟؟.
(7) ؟؟؟.
(8) قوله : ((لو كانوا يعلمون)) ليس في (أ) و(ح) و(ي). وفيهن موضعه: ((وذكر ما تقدم)) ولعله إشارة إلى هذا المحذوف: والحديث سيأتي في باب: المدينة لا يدخلها الطاعون. وقال القاضي في "الإكمال" (4/483) بعدما نقله الشارح هنا: ... وأن كلامه عليه السلام عمن (كذا) يخرج عنها ممن كان مستوطنًا بها.اهـ. وهو نحو من كلام الباجي في "المنتقى"؛ قال: يحتمل أن يريد - صلى الله عليه وسلم - رغبة عن ثواب الساكن فيها، وأما من خرج لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها.
قال: والظاهر عندي أنه إنما أراد به الخروج عن استيطانها إلى استيطان غيرها، وأما من كان مستوطنًا غيرها فقد عليها طالبًا للقربة بإتيانها أو مسافرًا فخرج عنها راجعًا إلى وطنه أو غيره من أسفاره فليس بخارج منها رغبة عنها.اهـ. "المنتقى" (7/190)، وانظر "فتح الباري" (13/200).
والحديث يأتي في باب المدينة لا يدخلها الطاعون .
(9) قوله: ((... علي لأوائها وشدتها)) الرواية التي في هذا الحديث: ((علي لأوائها وجهدها)) أما ((... وشدتها)) فستأتي في حديث آخر في الباب التالي.
وما ذهب إليه الشارح من عود الضمير في ((شدتها)) إلى ((اللأواء)) غير متجه. أوقعه فيه تفسير المازري ((اللأواء)) بـ((الجوع...)) وعبارةُ القاضي حيث قال: ((وقيل يحتمل أن تعود الشدة على الجوع، وعلى كل ما يشتد معه سكنها ويستضر به)). والقاضي لا يريد ما فهمه الشارح، بل يريد أنه يحتمل أن تكون الشدة المذكورة هي نفسها اللأداء، ويكون من باب العطف التفسيري، أو تكون ((الشدة)) عامة تعم كل ما يشتد معه سكناها، وتكون اللأواء الأولى بمعنى شدة الجوع وتعذر الكسب. يؤيد ذلك أن القاضي قال بعد نقل تفسير المازري: وتفسيره قوله: ((وجهدها)). أي: يفسر اللأواء قوله بعدها: ((وجهدها)) والجَهدِ بالفتح – المشقة. وفسرت ((اللأواء)) في كتب اللغة و"غريب الحديث" بـ((الشدة)) وبـ((شدة الضيق)) وبـ((شدة المجاعة)). وتنجلي حقيقة الأمر إذا عرفنا أن تفسير المازري هذا هو تفسير ((عيسى بن دينار)) كما في "المنتقى"، وأن قول القاضي: ((وقيل يحتمل...)) إلخ، القائل هو ((الباجي)) أو عيسى بن دينار وهو عبارته في "المنتقى" : ((وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ... لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد)) اللأواء: قال عيسى بن دينار: هو الجوع وتعذر الكسب والشدة، ويحتمل أن يريد بها اللأواء، ويحتمل أن يريد بها كلامًا يشتد به سكنها وتعظم مضرته)).اهـ. ومن ذلك يتضح أن الضمير في ((شدتها)) هو للمدينة فقط، وليس كما ذهب إليه الشارح: والله أعلم. وانظر "المنتقى" (7/189)، و"المعلم" (2/80)، و"الإكمال" (4/482)، و"شرح النووي" (9/136)، "العين" (8/353- 354)، و"المقاييس" (5/227)، و"المجمل" (ص800)، و"الصحاح" (5/2478)، و"الجمهرة" (1/246)، و"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص207)، و"أساس البلاغة" (ص727)، و"مشارق الأنوار" (1/353)، و"المقصور والممدود" (ص319)، و"تحرير التنبيه" (ص93)، و"المصباح" (ص289)، وغريبي أبي عبيد" (5/1665)، و"النهاية" (4/221).
(10) قال الباجي في "المنتقى" (7/189): وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة)) يحتمل أن يكون شكا من ابن عمر، ويحتمل أن يكون شكا من الراوي عنه. قال عيسى بن دينار: هو شك من المحدِّث، وقاله محمد بن عيسى الأعشى.اهـ.
(11) في (أ): ((الباب)). وهو تصحيف.
(12) هو : جعفر بن علية الحارثي . "ديوان الحماسة" (1/9).
(13) البيت من بحر الطويل، وهو لجعفر بن عُلبة بن ربيعة الحارثي، من قصيدة له، يذكر فيها خروج بني عُقيل في طلبه هو وعلي بن جُعْدَب الحارثي والنضر بن مُضارب ؟؟؟، لما أغار الثلاثة عليهم، ووضعوا لهم الأرصاد على المضايق، فكانوا كلما أفلتوا من عصبة لقيتهم أخرى، يقول:
وسائلةٍ عنَّا بغيبٍ وسَائلٍ ... بمَصْدَقِنا في الحربِ كيف نُحاولُ
عشيةَ قُرَّيْ سَحْبَلٍ إذْ تعطفت ... علينا السَّرايا والعَدوُّ المُبَاسِلُ
ففرَّج عنا اللهُ مَرْحى عدِّونا ... وضربٌ ببيضِ المشرفيةِ خابلُ
...
إذا ما رُصِدْنا مَرْصَدًا فُرِجَتْ لنا ... بأيمانِنا بيضٌ جَلَتْها الصَّيَاقِلُ
ولما أَبَوا إلا المضيَّ وقَدْ رَأَوا ... بأنْ ليس منا خشيةَ الموتِ نَاكِلُ
حلفتُ يمينًا بُرَّةً لم أردْ بها ... مقالةَ تسميعٍ ولا قوت باطلِ
ليختصمنَّ الهِندُوانِيُّ منهم ... معاقَد يخْشاها الطبيبُ المزُاولُ
(وقالوا: لنا ثنتانِ لابدَّ منهما ... صدورُ رماحٍ أُشرعت أو سلاسلُ
فقلنا لهمْ تلكُمْ إذن بعدَ كرَّةٍ ... تُغَادرُ صَرْعى نهضِها متخاذلُ...
ب- و((ثنتان)) أي: خصلتان اثنتان. و((صدور رماح)) صدر الشيء أوله، وصدر الرمح، والسهم: من الصفة إلى السنان، والنصل. و((أشرعت)) مبني للمجهول؛ أي: وُجهت للطعن بها. قال البغددادي: ويقدر في المعطوف (أي: سلاسل) صفة تعادل ((أشرعت)) أي: سلاسل وضعت في الأعناق.اهـ.
واختلف في معنى البيت تبعًا لمعنى ((أو)) فيه: فإن كان للتخيير؛ فالمعنى: أن الأعداء خيروهم بين شيئين: إما الحرب التي يعقبها القتل، وإما الاستئسار الذي يعقبه القتل، وإما الاستئسار الذي يعقبه القيد بالسلاسل. وعلى هذا المعنى يكون قوله: ((لا بد منهما)) على سبيل التعاقب، لا على سبيل الجمع بينهما؛ على تقدير حذف مضافٍ: ((لابد من إحداهما)).
وإما أن تكون ((أو)) بمعنى الواو؛ وتفيد التقسيم والتنويع ويكون حينئذٍ قوله: ((لابد منهما)) على ظاهره؛ أي: لابد منهما جميعًا: صدور الرماح لمن يقتل، والسلاسل لمن يؤسر؛ أي: يكون بعضكم كذا، وبعضكم كذا.
ونقل البغدادي عن ابن جني تقديره الكلام هكذا: ((فيكون بعضنا كذا وبعضنا كذا)) ثم قال البغدادي: وهذا يقتضي أن تكون هاتان الحالتان صفتين للمتكلم، ويكون مدح قومه بأنهم لا يفرون، بل بعضهم يقتل وبعضهم يؤسر، وهذا خلاف السياق.اهـ. قلت: لكن هذا غير مُقْتَضًى، لكنه محتمِلٌ.
والشاهد فيه قوله: ((أو)) – على المعنى الثاني المذكور للبيت، حيث جاءت للتفريق والتقسيم المجرد من الإبهام والتخيير، وهي هنا بمعنى الواو. وعلى ذلك استشهد بالبيت ابن مالك، وابن هشام والأشموني.
والقصيدة وأخبار جعفر بن علبة، في "الأغاني" (13/45- 57)، والبيت له مع ستة أبيات من القصيدة في ((شرح حماسة أبي تمام)) للأعلم الشنتمري (1/257- 259)، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي (1/44- 49)، و"شرح أبيات المغني" للبغدادي (2/60- 68)، والبيت بلا نسبة في ((شرح التسهيل)) (3/363)، و"المساعد على تسهيل الفوائد" (2/457)، و"مغني اللبيب" (ص77)، و"شرح الأشموني" (3/195).
(14) في (ب) و(م): ((الصابرين)).(3/482)
من العصاةِ، ومَنْ يشهدُ له بما نال فيها من الشدَّةِ ليوفَّى أجره. وشفاعتُه (1) وإن كانت عامةً للعصاةِ من أمته، إلا أن العصاةَ من أهلِ المدينةِ لهم زيادةُ خصوصٍ منها؛ وذلك - والله تعالى أعلمُ- بأن يشفعَ لهم قبلَ أن يعذَّبوا بخلافِ غيرِهم، أو يشفعَ في ترفيعِ درجاتهمِ، أو في السَّبقِ إلى الجنةِ، أو فيما شاء الله من ذلك (2) .
وقوله: ((ولا يريد (3) أحدٌ أهلَ المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار))؛ ظاهرُ هذا: أن الله تعالى يعاقبُه (4) بذلك في النار. ويحتملُ أن يكونَ ذلك كنايةً (5) عن إهلاكِه في الدُّنيا (6) ، أو عن توهينِ أمرِه وطمسِ كلمتهِ؛ كما قد (7) فعل الله ذلك بمن غزاها، وقاتل أهلها فيما (8) تقدَّم؛ كمسلمِ بنِ عقبةَ؛ إذ أهلكه الله تعالى مُنْصَرَفَهُ (9) عنها، وكإهلاكِ يزيدَ بنِ معاويةَ إِثْرَ إغزائه (10) أهلَ المدينةِ، إلى غيرِ ذلك (11) .
و((العقيقُ)): موضعٌ (12) بينه وبين المدينةِ عَشَرةُ أميالٍ، وبه مات سعد رضي الله عنه (13) ، وحُمل إلى المدينةِ، فصُلِّي (14) عليه ودفن بها.
و((السَّلبُ))- بفتح اللامِ -: الشيءُ المسلُوبُ؛ أي: المأخوذُ، وبإسكانِها: المصدَرُ. و((نفَّلنيه)): أعطانيه نافلةً (15) . =(3/483)=@
__________
(1) ؟؟؟.
(2) هذا كله كلام القاضي عياض في "الإكمال" (4/483) ونحوه له مختصرًا في "المشارق" (2/258- 259)، وقد نقله عنه النووي في "شرح مسلم" (9/136- 137)، قال الزرقاني: (4/274) بعد نقل كلام القاضي: ونقله عن النووي وآخرون وأقروه.... والشارح هنا اختصر كلاما لقاضي، وزاد الاستشهاد ببيت الشعر. وهذا نص كلام القاضي؛ لعمومه الفائدة.
قال القاضي عياض: سئلت قديمًا عن معنى هذا الحديث، ولم خَصَّص – عليه السلام – ساكن المدينة بهذا من شفاعته، مع ما يثبت من ادخاره إياها لجميع أمته، وهل "أو" هنا للشك أو لغيره. ولنا عن هذا جواب شاف مقنع، في أوراق، اعترف بصوابه كل من وقف عليه. نذكر منه هنا لمعا تليق بالموضع.
والأظهر أن ((أو)) هنا ليست للشك، خلاف من ذهب من شيوخنا إلى ذلك؛ إذ قد روى هذا الحديث: جابر، وأبو هريرة، وابن عمر، وأبو سعيد، وسعد بن أبي وقاص، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت أبي عبيد؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بهذا اللفظ، وبعيدٌ اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك، ووقوعه من جميعهم وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه كذا قاله - صلى الله عليه وسلم - . فإمام أن يكون أعلم عليه السلام بهذه الجملة هكذا، أو تكون ((أو)) للتقسيم، ويكون أهل المدينة صنفين: شهيدا لبعضهم، وشفيعًا لآخرين: إما شفيعًا للعاصين وشهيدا للمطيعين، أو شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعًا لمن مات بعده، أو غير ذلك مما الله أعلم به.
وهذه خاصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين في القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمة؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد: ((أنا شهيد على هؤلاء))؛ فيكون لتخصيصهم بهذا كله زيادة منزلة وغبطة وحظوة.
وقد يكون ((أو)) هنا هي التي بمعنى الواو؛ فيكون لأهل المدينة شهيدًا وشفيعًا؛ وقد روي: ((إلا كنت له شهيدًا أو له شفيعًا)).
وإذا جعلناها للشك – كما ذهب إليه المشايخ – فإن كانت اللفظة الصحيحة ((الشهادة)) اندفع الاعتراض؛ إذ هي زائدة على الشفاعة المدخرة المجردة لغيرهم. وإن كانت اللفظة الصحيحة ((الشفاعة)) فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع أمته: أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لإخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم منها بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - في القيامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، أو ما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة؛ من إيوائهم إلى ظل عرش الرحمن، أو كونهم في روح وعلى منابر، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من خصوص المبررات الواردة لبعض دون بعض في الآخرةٍ. والله أعلم.
(3) في (ز): ((يزيد)).
(4) في (ز): ((يعافيهِ)).
(5) في (أ): ((كفاية)).
(6) أي: يكون ((في النار)) مقدمًا في اللفظ، أي: أذابه الله ذَوْبَ الرصاص في النار؛ كما قال في الحديث الآتي في باب إثم من أراد المدينة بسوء -: ((كما يذوب الملح في الماء)). قاله القاضي عياض في "الإكمال" (4/484)، ونقله عنه النووي في "شرح مسلم" (9/138).
وقال: إن زيادة ((في النار)) ترفع إشكال الأحاديث التي لم تذكر فيها، وأن هذا حكمه في الآخرة. ثم ذكر ما نقله الشارح.
(7) سقط من (ب) و(م).
(8) في (ح): ((فيمن))، وفي (م): ((كما)).
(9) في (ي): ((منصرفًا)).
(10) في (ي): ((غزاته)). غير منقوطة الزاي والتاء. والمراد: بعد إزاء يزد مسلمَ بن عقبة؛ أي: أمره إياه بالغزو.
(11) كان ذلك في وقعة ((الحرة)) وسيذكر الشارح أحداثها مختصرة في باب الترغيب في سكنى المدينة، وسيذكر أيضًا – مما يناسب المقام هنا – أن يزيد ومسلمًا ماتا بعد غزوها مباشرة، مات مسلم في طريقه إلى مكة، ثم بلغهم موت يزيد. وانظر تفصيل الأحداث في: "تاريخ الطبري" (6/415- 434)، و"تاريخ الإسلام" (حوادث سنة 63، 64هـ)، و"البداية والنهاية" (11/614- 634).
(12) سقط من (ح).
(13) أي : سعد بن أبي وقاص، وانظر خبر وفاته في "سير أعلام النبلاء" (1/96)، و"الإصابة" (4/162).
(14) في (ب) و(م): ((وصلى)).
(15) قوله : ((نافلة)) سقط من (ب) و(م).(3/483)
وأصلُ النافلةِ: الزيادةُ (1) .
وإنما فعل سعدٌ (2) هذا؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك في حقِّ مَن صاد (3) في حرِم المدينةِ؛ كما رواه أبو داود (4) من حديثِ سعدٍ (5) أيضًا، وذكر نحوَ حديثِ مسلمٍ في الشجرِ، ثم قال (6) : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ((مَنْ أَخَذَ أَحَدًا يَصِيدُ (7) فِي حَرَمِ المَدِينَةِ فَلْيَسْلُبْهُ)).
وكأنَّ سعدًا قاس قَطْعَ (8) شجرِها (9) على صيدِها؛ بجامعِ كونِهما محرَّمينِ بحرمِة الموضعِ. وهذا كلُّه مبالغةٌ في الرَّدعِ، والزَّجرِ، لا أنها (10) حدودٌ ثابتةٌ في كلِّ أحدٍ وفي كلِّ وقتٍ (11) . وامتناعُه من ردِّ السَّلبِ لأنه (12) رأى أن ذلك أدخلُ (13) في بابِ الإنكارِ والتشديدِ، ولتنتشرَ (14) القضيةُ في الناسِ، فينكفُّوا (15) عن الصيدِ وقطعِ الشجرِ (16) .
وقولُه: ((إنها حرم آمن (17) ))يروى: ((آمن)) بمدةٍ بعدَ (18) الهمزةِ وكسرِ الميمِ، على النعتِ لـ((حرمٍ))؛ أي: من أن (19) تغزوَه قريشٌ؛ كما قال يومَ الأحزابِ: ((لَنْ تَغْزُوَكُمْ (20) قُرَيْشٌ بَعْدَ الْيَوْمِ)) (21) ، أو من الدجَّال، أو الطاعونِ، أو آمنٌ صيدُها (22) وشجرُها. ويروى بغيرِ مدٍّ، وإسكانِ الميمِ، وهو مصدرٌ؛ أي: ذاتُ أمنٍ؛ كما يقال: امرأةٌ عَدْلٌ (23) . =(3/484)=@
__________
(1) نَفَّلتُه وأَنْفلته: وهبته النَّفَل وغيرَه. وهو عطيَّةٌ لا تريد ثوابها منه. والنَّفَل: الغَنيمة، والزيادة، والنَّفْل والنافلة: الزيادة أيضًا. "المصباح" (ص318).
(2) في (ح): ((سعيد)).
(3) في (ز): ((ضاد)).
(4) قوله : ((أبو داود)) سقط من (ح).
(5) أخرجه أحمد (1/170)، وأبو داود (2/532-533 رقم2037) في المناسك، باب في تحريم المدينة، وأبو يعلى (2/130 رقم806)، وابن خزيمة ، كما في "إتحاف المهرة" (5/108 رقم5017)، والطحاوي (4/191)، والبيهقي (5/199-200) من طريق أبي داود . جميعهم من طريق جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم ، عن سليمان بن أبي عبد الله ، قال : رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة الذي حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلبه ثيابه ، فجاء مواليه فكلموه فيه ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّم هذا الحرم وقال : ((من أخذ أحدًا يصيد فيه فليسلبه ثيابه)) فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه.
وفي سنده سليمان بن أبي عبدالله؛ لم يرو عنه غير يعلى بن حكيم ، وذكره ابن حبان في "الثقات" (4/312)، والبخاري في "تاريخه" (4/23 رقم1836) وقالا : أدرك المهاجرين ، وقال أبو حاتم - كما في "الجرح والتعديل" لابنه (4/127 رقم549)-: أدرك المهاجرين والأنصار ، ليس بالمشهور ، فيعتبرَ حديثه.
وقال ابن خزيمة - كما في المصدر السابق -: ((سليمان هذا قد روى عن أبي هريرة أيضًا ، وقال : أدركت المهاجرين : عمر وعثمان وغيرهما)).
وفي "التقريب" (ص409 رقم2597): مقبول . وقال الذهبي في "الكاشف" (1/461 رقم2106): وثق. والحديث صححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (3/43- 35 رقم 1460). وله طريق أخرى: أخرجه أبو داود (2/533 رقم2038) في الموضع السابق. من طريق صالح مولى التوأمة ، عن مولى لسعد ، فذكره بمعناه .
قال المنذري في "مختصر السنن" (2/446): ((صالح مولى التوأمة : لا يحتج بحديثه ، ومولى سعد مجهول)).اهـ.
(6) سقط من (ز).
(7) في (ح): ((في صيد))، وفي (ز): ((بصيد)).
(8) قوله: ((وكأن سعدًا قاس قطع)) في (ز): ((وكانَ سعديا من يقطع))، وفي (ب): ((وكان سعد قاس قطع))، وفي (ي): ((وكأن سعدًا قاس من قطع)).
(9) في (ح): ((شجرتها)).
(10) في (ز) و(ي): ((لأنها)).
(11) يشير الشارح إلى أن حكم أخذ سلب الصائد في المدينة، لم يثبت القول به عند أئمة الفتوى، كما قال القاضي عياض في "الإكمال" (4/485) قال: فلم يقله أحد منهم بعد زمن الصحابة إلا الشافعي في قوله القديم في صيد المدينة: يؤخذ سلبه، وفي فعل سعد.اهـ. قال النووي في "شرح مسلم" (9/1399: وفي هذا الحديث دلالة لقول الشافعي في القديم... وبهذا قال سعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة، ثم ذكر قول القاضي ثم قال: قلت: ولا تضر مخالفتهم إذا كانت السنة معه. وهذا القول القديم هو المختار لثبوت الحديث فيه وعمل الصحابة على وفقه، ولم يثبت له دافع.اهـ. وذك قول القاضي أيضًا الحافظ في "الفتح" (4/84) ثم قال: قلت: واختاره جماعة معه (أي: مع الشافعي) وبعده؛ لصحة الخبر فيه... وأرغب بعض الحنفية فادعى الإجماع على ترك الأخذ بحديث السلب، ثم استدل بذلك على نسخ أحاديث تحريم المدينة؛ ودعوى الإجماع مردودة فبطل ما ترتب عليها.اهـ.
(12) في (ح): ((من أنه)).
(13) في (ز): ((دخل)).
(14) في (ز): ((ولينشر)).
(15) في (ز): ((فيكفوا)).
(16) هذا التعليل من الشارح مبني على أن حكم أخذ السلب من الصائد بمكة، يس معمولاً به، وعلى ما صححه النووي وابن حجر، فهذا حقه، ولا ينبغي له أن يرده، وعلى ما صححه النووي وابن حجر، فهذا حقه، ولا ينبغي له أن يرده؛ لأن هذا جزاء من يصيد بالمدينة ؛ أن يأخذ واجدُه سلبَةُ. ولفظ سعدٍ رضي الله عنه في الحديث يقوي مذهب الشافعي ويرو تعليل الشارح،؛ فإنه رضي الله عنه علل فعله بأن ذلك أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ووهبه لمن يجد أحدًا يصيد بالمدينة سلب هذا الصائد.
(17) ضبطها في (ب)بسكون الميم وكسرها، وكتب فوقها: ((معًا)).
(18) في (أ): ((قبل)).
(19) قوله: ((أي من أن)) في (ح): ((أي من)) وفي (ز): ((أي آمن أن)).
(20) في (م): ((يغزوكم)).
(21) أخرجه البخاري (7/405 رقم4109 و4110) في المغازي ، باب غزوة الخندق ، ولفظه : ((الآن نغزوهم ولا يغزوننا)).
وأما اللفظ الذي ذكره المؤلف هنا فقد أورده ابن إسحاق في "السيرة" بدون إسناد كما الآن في "سيرة ابن هشام" (3/206)، و"دلائل النبوة" للبيهقي (3/458).
(22) في (ي): ((لصيدها)).
(23) هذا كلام القاضي في "المشارق" (1/39) وقال عن رواية المد والكسر: إنها كذا لعامة الرواة. وفي رواية القصر والسكون: إنها في كتاب التميمي من رواة مسلم. وهو من باب الوصف بالمصدر،؛ يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع؛ للمبالغة كأنهم جعلوا الموصوف نفس ذلك المعنى؛ لكثرة حصوله منه. ولاستواء المذكر والمؤنث فيه يمكن أن يحمل ((أمن)) هنا على أنه وصف لـ((حرم)) أيضًا، كما كان ((آمن)) وصفًا له. أو يكون ((أمن)) خبرًا آخر لـ((إنها)) فيكون راجعًا إلى المدينة، وهي مؤنثة. ومراد الشارح الثاني؛ لقوله: ((ذات أمن؛ كما يقال: امرأة عدل)). وعبارة القاضي: ((ذات أمن كما قيل: رجل عدل)).
انظر: "الخصائص" (2/105- 107)، "شرح المفصل" (3/49- 52).(3/484)
وقوله لأُحُدٍ: ((هذا جبلٌ يحبنُّا ونحبه)) ذهب بعضُ الناسِ: إلى أن هذا الحديثَ محمولٌ على حقيقتِه، وأن الجبلَ خُلِق فيه حياةٌ ومحبَّة حقيقيةٌ (1) وقال: هو من معجزاتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - . وهذا لا يصدرُ عن مُحقِّقٍ (2) ؛ إذ ليسَ في اللفظِ ما يدلُّ على ما ذَكرَ (3) . والأصلُ بقاءُ الأمورِ على مستمرِّ عاداتِها (4) حتى يدلَّ قاطعٌ على انخراقِها (5) لنبيٍّ أو وليٍّ، على ما (6) تقررَّ في علمِ الكلامِ (7) .
والذي يصحُّ أن يُحملَ عليه الحديثُ أن يقالَ: إن ذلك من بابِ المجازِ المستعملِ: فإما من باب الحذفِ؛ فكأنه قال: يحبُّنا أهلُه، كما قال: {وسئل القريةَ} (8) ، وهذا المعنى موجودٌ في كلامِ العربِ وفي أشعارِهم (9) كثيرًا ، كقوله:
أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيارِ لَيْلَى ... أُقَبِّلُ ذَا الْجِدَارَ وَذَا الجِدَارَا
وَمَا تِلْكَ الدِّيارُ شَغَفْنَ قَلبِي ... وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا (10)
وإمَّا مِن باب ِالاستعارةِ؛ أي: لو كان ممن يعقلُ لأحبَّنا، أو على جهةِ مطابقةِ اللفظِ اللفظَ (11) ، أو لأنه استُشهد به مَنْ أحبَّه (12) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كحمزةَ وغيرِه من الشهداءِ الذين استشهدوا به يومَ أحد ٍ رضي الله عنهم أجمعين (13) .
وقوله: ((اللهم إني أُحرِّم ما بين جَبَلَيها (14) )) وفي لفظ آخر: ((مَأْزِمَيها)) بكسر الزايِ وفتحِ الميمِ الثانيةِ، بمعنى: جبليها، على ما قاله ابنُ شعبانٍ (15) . وقال (16) =(3/485)=@
__________
(1) في (ب) و(ز): ((حقيقة)).
(2) في (ب): ((تحقق)).
(3) في (ح): ((ذكروا)).
(4) في (م): ((عادتها))، وفي (ي): ((قاعدتها)).
(5) في (ي): ((انحرافها)).
(6) قوله: ((على ما)) في (ح): ((كما)).
(7) وعلى هذا النحو تأول ((يحبنا ويحبه)) الباجي في "المنتقى" (7/192) ونقل مثله عن عيسى بن دينار، وكذلك المازري في "المعلم" (2/78)، والقاضي عياض في "الإكمال" (4/485- 486)، وذكر احتمال أن يكون حقيقة وأن يكون معجزةً.
وقول الشارح: (وهذا لا يصدر عن محقق؛ إذ...))إلخ. لعلنا نكتفي بقول أبي عمرو بن عبد البر المالكي في الرد عليه، حيث قال بعد ذكر الخلاف في تفسير قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((اشتكت النار إلى ربها)) وأدلة من قال بأنه على الحقيقة، وشبهات من حمله على المجاز؛ قال أبو عمر: و حمل كلام الله تعالى وكلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - على الحقيقة أولى بذوي الدين والحق؛ لأنه يقص الحق وقوله الحق تبارك وتعالى علوًا كبيرًا)).اهـ. وقوله: ((إذ ليس في اللفظ ما يدل على ما ذكر والأصل بقاء الأمور على مستمر عاداتها...)) نعم، فالأصل إذن هنا أن يحمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظاهره وحقيقته ما لم يدل قاطعٌ على صرفه عن حقيقته، وكيف يخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، بشيء ثم نؤوله نحن على ما يتفق مع عقولنا وأهوائنا!
ويدل على دحض ما يزعم من المجاز في هذا قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}، وقوله: {وقالوا لجلودهم لما شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء}. وقوله تعالى عن الحجارة بالمقارنة ببني إسرائيل وقسوة قلوبهم: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} وخاطب النبي أيضًا حراء؛ حيث قال له: ((اثبت حرا فليس عليك إلا نبي أو صديق... الحديث. والأدلة على ذلك كثيرة، وما تمسكوا به ليس فيه دليل لهم. وانظر إلى تخبط من تأول وحمّل الألفاظ ما لا تطيق، فقد ذكروا في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((يحبنا ونحبه)) أقوالاً كثيرة لا دليل عليها، وتركوا ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - . وسنرد على ما استدل به الشارح في موضعه.
وانظر كلام ابن عبد البر في "التمهيد" (5/11- 16) ونحوه قال النووي في "شرح مسلم" (9/139- 140)، والحافظ في "فتح الباري" (6/87)، (7/38، 378).
(8) سورة يوسف؛ الآية: 82.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز في القرآن : { واسأل القرية } . قالوا المراد به أهلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل لهم : لفظ القرية والمدينة والنهر والميزاب ؛ وأمثال هذه الأمور التي فيها الحال والمحال كلاهما داخل في الاسم . ثم قد يعود الحكم على الحال وهو السكان وتارة على المحل وهو المكان وكذلك في النهر يقال : حفرت النهر وهو المحل . وجرى النهر وهو الماء ووضعت الميزاب وهو المحل وجرى الميزاب وهو الماء وكذلك القرية قال تعالى : { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة } . وقوله : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون } { فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } . وقال في آية أخرى : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون } . فجعل القرى هم السكان . وقال : { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم } . وهم السكان . وكذلك قوله تعالى { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا } . وقال تعالى : { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } . فهذا المكان لا السكان لكن لا بد أن يلحظ أنه كان مسكونا ؛ فلا يسمى قرية إلا إذا كان قد عمر للسكنى مأخوذ من القرى وهو الجمع ، ومنه قولهم : قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه.اهـ.
أي أن المعنى:: { واسأل أهل القرية القرية } مفهوم من لفظ القرية ذاته واستعماله في اللسان لا بتقدير ولا على إرادة المجاز.
ويركز شيخ الإسلام على أن اللفظ لابد أن يكون في سياق لا يخرج عنه؛ قال: اللفظ لا يستعمل قط إلا مقيدًا بقيود لفظية موضوعة، والحال حال المتكلم والمستمع لابد من اعتبار في جميع الكلام... ودلالة اللفظ على المعنى دلالة قصدية إرادية اختيارية ، فالمتكلم يريد دلالة اللفظ على المعنى ؛ فإذا اعتاد أن يعبر باللفظ عن المعنى كانت تلك لغته ولهذا كل من كان له عناية بألفاظ الرسول ومراده بها : عرف عادته في خطابه وتبين له من مراده ما لا يتبين لغيره . ولهذا ينبغي أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث أن يذكر نظائر ذلك اللفظ ؛ ماذا عنى بها الله ورسوله فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث وسنة الله ورسوله التي يخاطب بها عباده وهي العادة المعروفة من كلامه ثم إذا كان لذلك نظائر في كلام غيره وكانت النظائر كثيرة ؛ عرف أن تلك العادة واللغة مشتركة عامة لا يختص بها هو - صلى الله عليه وسلم - بل هي لغة قومه ولا يجوز أن يحمل كلامه على عادات حدثت بعده في الخطاب لم تكن معروفة في خطابه وخطاب أصحابه . كما يفعله كثير من الناس وقد لا يعرفون انتفاء ذلك في زمانه . ولهذا كان استعمال القياس في اللغة وإن جاز في الاستعمال فإنه لا يجوز في الاستدلال فإنه قد يجوز للإنسان أن يستعمل هو اللفظ في نظير المعنى الذي استعملوه فيه مع بيان ذلك على ما فيه من النزاع ؛ لكن لا يجوز أن يعمد إلى ألفاظ قد عرف استعمالها في معان فيحملها على غير تلك المعاني ويقول : إنهم أرادوا تلك بالقياس على تلك ؛ بل هذا تبديل وتحريف.اهـ. "مجموع الفتاوى" (7/112- 115).
(9) قوله : ((في)) سقط من (أ) و(ح).
(10) البيتان من بحر الوافر، وهما لمجنون ليلى قيس بن الملوح، وهما بيتان لا ثالث لهما ورواية البيت الثاني: ((وما حب الديار...)) في "ديوانه" (ص113)،و "خزانة الأدب" (4/227- 228، 381). و"شرح أبيات المغني" (7/103)، والبيت الثاني بلا نسبة في "مغني اللبيب" (ص484)، و"رصف المباني" (ص244) ذكرهما الحافظ في "الفتح" (6/87) بعد حكاية قول الشارح هنا، والزرقاني في "شرح الموطأ" (4/282).
وشاهد الشارح في البيتين: أن الشاعر قام بتقبيل الجدر والبناء، بسبب حبه لساكن البناء، وهو شاهد معنوي. ويسقط الشارح ذلك على لفظ الحديث، ولفظ الآية التي ذكرها؛ فيكون حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للجبل وحب الجبل له، إنما هو حب لأهل الحيل ومنهم. والآية قد تقدم نقل رد شيخ الإسلام على من قال بالمجاز فيها وما شابهها. وأما لفظ الحديث؛ فالفرق بينه وبين سياق البيتين، واضح؛ حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر ابتداءً عن حبه للجبل وحب الجبل له، أما الشاعر فإنه لم يتعرض لحبه للجماد ولا لحب الجماد له، لحُمل على حقيقته؛ فالمحب لشخص يحب كل ما يتصل به، يحبه حقيقة؛ وقد قال المجنون أيضًا [من الطويل]:
أحب من الأسماء ما وافق اسمها ... أو أشبهه أو كان منه مدانيا
وقال كثير عزوة [من الطويل]:
وأنت التي حببت كل قصيرة إليَّ ... ولم تعلم بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطى شر النساء
وقال الغزالي في "المستصفى" (1/48) البحاتر – في الكلام على الحسن والقبح – قبل إنشاد بيتي المجنون: ((... فالمقرون بالذيذ لذيذ، والمقرون بالمكروه مكروه، بل إن الإنسان إذا جالس من عشقه في مكان؛ فإذا انتهى إليه أحسن في نفسه تفرقة بين ذلك المكان وغيره ولذلك قال الشاعر...)) ثم أنشد البيتين. [يراجع]
(11) قوله : ((اللفظ)) جاء مرة واحدة في (م).
(12) في (ز): ((أحب)).
(13) في (ب): ((رضي الله عنه)) و((أجمعين)) من (ي) فقط.
(14) في (ز): ((جبلها جبليها)). [شطبت من الحاشية وبقيت في المتن]
(15) كذا في (ي) وهو الصواب وفي سائر النسخ: ((المتضايق)) وانظر ما يأتي.
(16) في (ب) و(م) و(ي): ((قال)).(3/485)
ابنُ دريدٍ: ((المآزِمُ: المَضَايقُ)) ومنه (1) : ((مأزما منى (2) ))، وهذا (3) يقربُ من تفسيرِ ابنِ شعبانٍ (4) ؛ لأن المتضايقَ (5) منقطعُ الجبالِ بعضَها من بعضٍ، وهما المعبَّرُ عنهما بـ ((اللابتان)) (6) .
ومقدارٌ حرمِ المدينةِ ما قاله أبو هريرة رضي الله عنه: أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل اثني عَشَرَ ميلاً حولَ المدينةِ حِمىً.
وقوله: ((المدينة حرام (7) ، ما بين عَيْر إلى ثور)) كذا روايةُ الرواةِ؛ وللعذريِّ:((عائرٍ)) بدل ((عَير)). وقد أنكر الزبيريُّ مصعبٌ وغيرهُ هاتين الكلمتين، وقالوا (8) : ليس بالمدينةِ عَيْرٌ ولا ثورٌ؛ قالوا: وإنما (9) ثورٌ بمكةَ. وقال الزُّبيرُ (10) : عير (11) : جبلٌ (12) بمكة (13) . وأكثرُ رواةِ البخاريِّ ذكروا ((عيرًا (14) ))، وأما ثورٌ فمنهم من كنَّى عنه بـ ((كذا))، ومنهم من ترك مكانَه بياضًا؛ إذ اعتقدوا (15) الخطأَ في ذكرِه؛ قاله =(3/486)=@
__________
(1) قوله: ((ومنه)) في (ي): ((منه)).
(2) قوله: ((مأزما مني)) في (ب) و(م): ((مأزمي مني)) وقول ابن دريد في "الجمهرة" (2/1071) وعبارته: ((والمآزم: المَضَايِقُ، واحدها: مَأْزِمٌ، ومنه مأزما منى)).اهـ.
(3) في (ي): ((وهما)).
(4) من قوله : ((وقال ابن دريد ....)) إلى هنا سقط من (ز).
(5) من قوله: ((ومنه مأزما...)) إلى هنا، سقط من (ح).
وهكذا في سائر النسخ ((المتضايق)) وقد تقدم أن الصواب: المضايق؛ جمع مضيق.
(6) في (م): ((بالابنان)). وهنا فائدة عن ابن حجر في "الفتح" (4/83) وهي أن بعض الحنفية ادعى اضطراب الحديث؛ لأنه ورد في رواية: ((ما بين لابتيها))، وفي أخرى: ((ما بين جبليها)) وفي رواية: ((مأزميها)) قال الحافظ: ((وتعقب بأن الجمع واضح، وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة؛ فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح، ولاشك أن رواية ((لابتيها)) أرجح لتوارد الرواة عليها. ورواية ((جبليها)) لا تنافيها يكوون عند كل لابة جبل، أو ((لابتيها)) من جهة الجنوب والشمال و((جبليها)) من جهة الشرق والغرب، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر. وأما رواية ((مازميها)) فهي في بعض طرق حديث أبي سعيد والمأزم: المضيق بين الجبلين وقد يطلق على الجبل نفسه.اهت. وكلام الحافظ من ((مأزميها)) قرب مما عند النووي في "شرح مسلم" (9/147).
(7) من قوله : (( - صلى الله عليه وسلم - جعل ....)) إلى هنا، سقط من (ح).
(8) في (ب) و(م): ((فقالوا))، وفي (ح) و(ي): ((وقال)).
(9) في (ي): ((وإنما هو)).
(10) المثبت من (ي) وفي سائر النسخ: ((الزبيري)). وانظر التعليق الآتي.
(11) في (أ): ((غير))).
(12) في (م): ((حفر)).
(13) قوه: ((وقال الزبير: عير جبل بمكة)) في "الإكمال" (4/489): ((وقال الزبير: عير جبل بناحية المدينة)) ونحوه في "مشارق الأنوار" (2/108) ووقع في نسخ "المفهم" غير (ي): ((الزبيري)) بدل ((الزبير))، وتقدم أن الزبيريَّ وغيره ينكرون وجود ((عير)) أو ((ثور)) بالمدينة.
وما ذكره القاضي نقله عنه النووي في "شرح مسلم" (9/143)، والسيوطي في "الديباج" (3/411)، وحكاه النووي أيضًا في "تهذيب الأسماء" (3/83) عن أبي عبيد وغيره من العلماء؛ أن عيرًا جبل بناحية المدينة.
وقال الحافظ في "الفتح" (4/82): وروى الزبير في "أخبار المدينة" عن عيسى بن موسى، قال: قال سعيد بن عمر لبشر بن السائب: أتدري لمَ سكنَّا العقبة؟ قال: لا. قال: لأنَّا قتلنا منكم قتيلاً في الجاهلية، فأُخرجنا إليها. فقال: وددت لو أنكم قتلتم منا آخر وسكنتم وراء عير. يعني جبلاً. كذا في نفس الخبر)).اهـ.
وقد ذكر ابن الأثير في "النهاية" (1/229) أنه قيل: إن عيرًا جبل بمكة.
فلعل في كلام الشارح هنا سقطًا.
(14) في (ز) و(م): ((عير)).
(15) في (ب) و(م): ((واعتقدوا)).(3/486)
عياضٌ (1) . وقال بعضُهم: ثورٌ وَهْمٌ من بعض الرواةِ؛ قال أبو عبيدٍ: كأنَّ الحديثَ أصلُه: ((من عَيْرٍ إلى أُحدٍ)). والله أعلم (2) . وكذا ذكر المازريُّ قال: ذِكْرُ((ثورٍ)) ههنا وَهْمٌ من الرَّاوي؛ لأنَّ ((ثورًا)) بمكةَ، والصحيحُ: ((إلى أُحُدٍ)) (3) .
وقوله: ((فمن أحدث فيها حدثًا))؛ يعني: من أحدث ما يخالفُ (4) الشرعَ من بدعةٍ، أو معصيةٍ، أو ظلمٍ؛ كما قال: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)) (5) .
وقوله: ((أو آوى محدِثًا))؛ أي: ضمَّه إليه، ومَنعَه مِمَّن له عليه حقٌّ، ونَصَرَه. ويقال: أَوى - بالقصر والمدِّ - متعديًا ولازمًا، والقصرُ في اللازمِ أكثرُ، والمدُّ في المتعدِّي أكثرُ (6) .
وقوله: ((فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) لعنةُ الله: طَرْدُه للملعونِ، وإبعادهُ عن رحمتِه. ولعنةُ الملائكةِ والناسِ (7) : الإبعادُ (8) ، والدعاءُ بالإبعادِ. وهؤلاء هم اللاعنون، كما قال تعالى: {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (9) . والصَّرْفُ: التوبةُ، والعدلُ: الفديةُ؛ قاله الأصمعي. وقيل: الصرفُ: الفريضةُ، والعدلُ: التطوُّعُ (10) . وعَكَس ذلك (11) الحسنُ. وقيل: الصرفُ: الحيلةُ والكسبُ، والعدلُ: الِمثْلُ؛ كما قال تعالى: {أو عَدْلُ ذلك صيامًا} (12) . ويقال في العدل بمعنى المثل: عَدْلٌ وعِدْلٌ، كـ((سَلْمٍ)) و((سِلْمٍ)) (13) .
وقوله: ((وذمة المسلمين واحدة))؛ أي: من عَقَد من المسلمين أمانًا، أو عهدًا لأحدٍ من العدوِّ لم يحلَّ لأحدٍ أن ينقضَهُ.
و((الذمة (14) )): العهد. وهو لفظٌ مشترَكٌ بين أمورٍ مُتعددةٍ (15) . =(3/487)=@
__________
(1) في "الإكمال" (4/489).
(2) قول أبي عبيد في "غريب الحديث" (3/311) وعبارته بعد ذكر لفظ الحديث: وهذا حديث أهل العراق، وأهلُ المدينة لا يعرفون بالمدينة جبلاً يقال له ((ثور)) وإنما ((ثور)) بمكة – فنُرى أن الحديث أصله: ((ما بين عير إلى أحد)).
(3) نم قوله: ((وكذا ذكر المازري...)) إلى هنا، مثبت من (أ) فقط. وقول المازري في "المعلم" (2/78).
قال الحافظ في "الفتح" (4/82-83): ((وقال المحب الطبري في "الأحكام" بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه : قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبدالسلام البصري : أن حذاء أُحُد عن يساره جانحًا إلى ورائه جبل صغير(كذا، والصواب: ((جبلاً صغيرًا)) اسم ((أن)) ) يقال له : ثور ، وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب ؛ أي : العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال ، فكلٌّ أخبر أن ذلك الجبل اسمه : ثور ، وتواردوا على ذلك ، قال : فعلمنا أن ذكر ثور في الحديث صحيح ، وأن عدم علم أكابر العلماء به: لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه . قال : وهذه فائدة جليلة. انتهى. وقرأت بخط شيخ شيوخنا القطب الحلبي فلهذا في "شرحه": حكى لنا شيخنا الإمام أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصري أنه خرج رسولاً إلى العراق ، فلما رجع إلى المدينة كان معه دليل ، وكان يذكر له الأماكن والجبال، قال : فلما وصلنا إلى أُحُد إذا بقربه جبل صغير فسألته عنه ؟ فقال : هذا يسمى ثورًا ، قال: فعلمت صحة الرواية . قلت : وكأن هذا كان مبدأ سؤاله عن ذلك. وذكر شيخنا أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في "مختصره لأخبار المدينة": أن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خلْف أُحُد من جهة الشمال جبلاً صغيرًا إلى الحمرة بتدوير يسمى ثورًا . قال : وقد تحققته بالمشاهدة ، وأما قول ابن التين : إن البخاري أبهم اسم الجبل عمدًا ؛ لأنه غلط ، فهو غلط منه ، بل إبهامه من بعض رواته؛ فقد أخرجه في الجزية فسماه ، والله أعلم)).اهـ.
(4) في (ب) و(م): ((ما يخالفه)).
(5) أخرجه البخاري (5/301برقم2697) في الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود. ومسلم (3/1343 رقم1718/17) في الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
(6) وهذا لفظ القاضي في "الإكمال" (4/486)، وكذلك قال الجوهري في "الصحاح" : ((قال: ((وآويته أنا إيواءً، وأويته أيضًا: إذا أنزلته بك، فعلت وأفعلت بمعنى، عن أبي زيد)).
(7) قوله : ((والناس)) سقط من (ح) و(ي).
(8) عبارة القاضي في "الإكمال" (4/488) ولعنة الملائكة والناس هنا: الدعاء عليهم بمثل هذا (أي: الإبعاد والطرد). وقد يكون لغته الملائكة هنا ترك الدعاء لهم والاستغفار، و"إبعادهم" عنه، وإخراجهم من جملة المؤمنين الذين يستغفرون لهم)).اهـ.
(9) سورة البقرة؛ الآية: 159.
(10) من قوله: ((قاله الأصمعي التطوع))، في (ي): ((قاله الأصمعي والتطوع)).
(11) قوله: ((وعكس ذلك)) في (ب) و(م): ((كما قال)).
(12) سورة المائدة؛ الآية: 95.
وقد جمع أبو البركات الأنباري في "الزاهر" (1/146- 147) سبعة أقوال في معنى ((العدل)) و((الصرف))، ونسب كل قول إلى صاحبه؛ قال: في الصرف والعدل سبعة أقوال:
الأول: يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الصرف: التوبة، والعدل: الفدية – وبهذا قال مكحول وهو مذهب الأصمعي.
الثاني: وقال يونس بن حبيب: الصرف: الاكتساب، والعدل: الفدية.
الثالث: وقال أبو عبيدة: الصرف: الحيلة.
الرابع: وقال قوم: الصرف: الفريضة، والعدل: التطوع.
الخامس: وقال الحسن: العدل الفريضة، والصرف: التطوع.
السادس: وقال قتادة في قوله تعالى: ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل [البقرة: 48] قال: لو جاءت بكل شيء لم يقبل منها.
السابع: وقال قوم: العدل: المثل؛ واحتجوا [بالآية التي ذكرها الشارح].اهـ. ونحوه ذكر المازري في "المعلم" (2/78- 79) وزاد القاضي عياض في "الإكمال" (4/487): وقيل: الصرف: الدية، والعدل: الزيادة. وروي عن الحسن في معنى الصرف هنا: التصرف في العمل.اهـ. ونقل عن النووي في "شرح مسلم" (9/141)، وانظر "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/663)، و"النهاية" (3/24).
(13) وقال ابن الأنباري في "الزاهر" (1/147) بعد أن ذكر نحو ما ذكره الشارح هنا: قال الفراء: العَدْل ما عادل الشيء من غير جنسه. والعِدْل: ما عادل الشيء من جنسه.
(14) في (ح) و(ي): ((والذم)).
(15) قال و"تاج العروس" (16/265) الذِّمةُ – بالكسر - : العهدُ، والكفالةُ، ومأدبةُ الطعام أو العرس، والقومُ المعاهدون. وفي "المصباح" (ص111): وتفسر الذمة بالعهد والأمان والضمان.(3/487)
وقولُه: ((يسعى بذمتهم أدناهم))؛ أي: أقلُّهم منزلةً في الدُّنيا وأضعفُهم. وهو حجةٌ لمن أجاز أمانَ العبدِ (1) والمرأةِ، على ما سيأتي (2) في الجهادِ إن شاء الله تعالى.
وقولُه: ((فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنةُ الله))؛ أي: نَقَضَ عهدَه؛ يقال: أخفرتُ الرجلَ إخفارًا: إذا غدرتَه (3) . وخَفَرتُه: إذا أجرتَه، خُفَارةً (4) .
ومجيءُ الناسِ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأولِ الثَّمرِ، مبادرةٌ بهديةِ ما يُستطْرَفُ، واغتنامٌ لدعائِه وبركتِه؛ ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ أولَ ذلك الثمرِ وضعَه على وجهِه، كما رواه بعضُ الرواةِ عن مالكٍ (5) في هذا الحديثِ من الزيادةِ. =(3/488)=@
__________
(1) في (ي): ((العهد)) وكتب الناسخ في الحاشية: ((أظن العبد والمرأة)).
(2) في (ب) و(م): ((يأتي)).
(3) في (ز): ((عذرته)).
(4) ((الخفارة)) مثلثة الخاء. والفعل الثلاثي من باب ضرب، وفي لغة من باب قتل. وانظر: "تهذيب الأسماء واللغات" (3/95)، و"المصباح" (ص93).
(5) ذكره القاضي عياض في "الإكمال" (4/492) وقال : ((وقد روى الخشني هذا الحديث عن مالك أنه – عليه السلام- كان إذا أخذ ذلك وضعه على وجهه، وقال ما تقدم (أي: الدعاء). فذكره .
وجاء في "علل الدارقطني" (1671): وسئل عن حديث ابن المسيب عن أبي هريرة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتي بباكورة الفاكهة وضعها على عينيه ثم على شفتيه ، ثم قال : ((اللهم كما أريتنا أوله فأرنا آخره))، ثم يعطيه من كان عنده من الصبيان، فقال - أي الدارقطني -: ((يرويه الزهري ، واختلف عنه؛ فرواه يونس ، عن الزهري واختلف عن يونس)).
يرويه الزهري واختلف عنه ؛ فرواه يونس ، عن الزهري ، واختلف عن يونس ، فرواه عبد الرحمن بن يحيى العذري ، عن يونس ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة.
وتابعه أبو ربيعة ، عن جرير بن حازم.
وخالفه أبو عاصم ، فرواه عن جرير بن حازم ، عن يونس ، عن الزهري مرسلا.
وكذلك قال حماد بن زيد ، عن جرير بن حازم ، عن يونس.
ورواه أبو عجلان الموصلي ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك.
وتابعه سفيان محمد المصيصي ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري كذلك أيضا.
ورواه أيضا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، قال ذلك أبو لبابة عثمان بن فايد عنه.
ورواه أبو كرز عبد الله بن عبد الملك ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة.
ورواه عقيل بن خالد ، عن الزهري واختلف عنه ؛ فرواه عمرو بن عثمان ، عن أبيه ، عن ابن لهيعة ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وكذلك قيل عن يحيى بن يحيى ، عن ابن لهيعة.
ورواه قتيبة ، عن ابن لهيعة ، عن عقيل ، عن الزهري مرسلا ، وهو المحفوظ ولا يصح مسندا عن واحد منهم.
ثنا محمد بن محمود بن محمد بواسط ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور ، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد العذري ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالباكورة من الفاكهة وضعها على عينيه ثم على شفتيه ، ثم قال : اللهم كما أريتنا أوله فأرنا آخره ، ثم يعطيه من يكون عنده من الصبيان.
حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال ، وإسماعيل بن محمد الصفار ، ومحمد بن مخلد ، قالوا : حدثنا أبو قلابة ، حدثنا أبو ربيعة فهد بن عوف ، حدثنا جرير بن حازم ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بالباكورة دفعه إلى أصغر من يحضره من الولدان.
حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا عباس بن محمد ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن جرير بن حازم ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن ابن شهاب ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالباكورة قبلها ووضعها على عينيه ، أو عينه.
حدثنا محمد بن مخلد ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا سليمان بن لرحمن الدمشقي ، حدثنا أبو لبابة عثمان بن فايد ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بالباكورة من الرطب جعلها على فيه وعلى عينيه.
حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا عباس بن محمد ، حدثنا عبد الصمد بن النعمان ، حدثنا عبد الله بن عبد الملك ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بأول ما يدرك من الفاكهة شمها ثم حمد الله ووضعها على عينيه.
حدثنا ابن مخلد ، حدثنا محمود بن محمد بن أبي المضاء الحلبي ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبي ، عن ابن لهيعة ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بباكورة الفاكهة ، ... الحديث.
حدثنا ابن مخلد ، حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن يحيى النيسابوري ح وثنا ابن مخلد ، حدثنا أحمد بن إبراهيم أبو علي القوهستاني لا : حدثنا يحيى بن يحيى ، أنبأنا ابن لهيعة ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بالباكورة من الفاكهة وضعها على فيه ثم وضعها على عينيه ، ثم قال : اللهم كما أطعمتنا أوله فأطعمنا آخره.
قال أبو علي القوهستاني : سمعت يحيى بن يحيى ، يقول في هذا الحديث : عن عروة ، عن عائشة في كتابي بين السطرين.
وزاد يحيى بن محمد في حديثه ، ثم تناوله من حضره من الولدان ، حدثنا محمد بن مخلد ، حدثنا أبو علي القوهستاني ، حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه.(3/488)
وتخصيصُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك الثمرَ أصغرَ وليدٍ (1) يراه؛ لأنه أقلُّ صبرًا ممن هو أكبرُ منه، وأكثرُ جَزعًا، وأشدُّ فرحًا، وهذا من حسنِ سياستهِ - صلى الله عليه وسلم - ومعاملتِه للكبارِ والصِّغارِ . وقيل: إن ذلك من بابِ التفاؤلِ بنموِّ الصغيرِ وزيادتِه، كنموِّ الثمرةِ (2) وزيادتِها. والله أعلم (3) . =(3/489)=@
__________
(1) في (ح) و(ي): ((وليده)).
(2) قوله: ((الثمرة وزيادتها)) في (ي): ((الثمر وزيادتها)) وصوب ((زيادتها)) إلى ((زيادته)) وترك الألف.
(3) قوله : ((والله أعلم)) زيادة من (ز). والقول الأول ذكره القاضي في "الإكمال" (4/492)، والقول الثاني ذكره المازري في "المعلم" (2/81) ونقله عنه القاضي.(3/489)
ومن (1) بابِ الترغيبِ في سُكْنى المدينةِ
قوله: ((إن أهلنا (2) لخُلُوفٌ)) بضمِّ الخاءِ المعجمةِ (3) ؛ أي: لا حافظَ لهم، ولا حاميَ؛ يقال: حيٌّ (4) خُلوفٌ؛ أي: غاب عنهم رجالُهم.
وقوله: ((لآمرنَّ (5) بناقتي تُرحَّل (6) )) مشدَّدة الحاءِ (7) ؛ أي: يُجعلُ عليها الرَّحْلُ (8) .
وقوله: ((ثم لا أحلُّ لها - أو عنها (9) - عقدة))؛ أي: أَصِلُ المشيَ (10) والإسراعَ؛ وذلك لمحبتِه (11) الكونَ في المدينِة، وشدَّةِ شوقِه إليها (12) . وقد تقدَّم الكلامُ في ا لمأزِمَين (13) . =(3/490)=@
__________
(1) قوله : ((ومن)) سقط من (ح) و(ي).
(2) في (ح) و(ي): ((أهلها)). والرواية في "الصحيح" و"التلخيص" ((وإن عيالنا...)).
(3) زاد بعده في (ح) و(ز) و(ي): ((من فوقها)). وليس لها فائدة؛ فإن رسم ((الحاء)) إما أ، يهمل ويكون حاءً، أو يعمم من فوق ويكون خاءً، ولا يتصور إعجامه من تحت.
(4) قوله : ((يقال حي)) سقط من (ز).
(5) في (ب) و(م): ((لأمرت)).
(6) في (م): ((يرحل)).
(7) في (م): ((الخاء)).
(8) وقد ضبطها النووي في "شرح مسلم" بسكون الراء وتخفيف الحاء؛ من الثلاثي؛ يقال: رَحَلَ البيعر – كمنع – وارتحله: حَطَّ عليه الرَّحل؛ وهو ما يوضع على البعير ليركب عليه، وقال في "المصباح": الرحل: كل شيء يعد للرحيل من وعاءٍ للمتاع ومركب للبعير وحِلْسٍ ورسنٍ.اهـ. ومنه سميت ((الراحلة)) ((فاعلة)) بمعنى ((مفعولة))؛ لأنها تُرْحَلُ: أي: يوضع عليها الرحل.
ويقال، أيضًا: ((المُرحَّلة: الإبل التي عليها رحالها، وهي أيضًا التي وُضعت عنها رحالها؛ ضدٌّ)).
انظر: "مشارق الأنوار" (1/285)، و"شرح النووي" (9/147) (16/101)، و"شر الزرقاني" (4/391)، و"المصباح" (ص117)، و"تاج العروس" (14/274).
(9) في (ي): ((ثم لا أحل لها أو لا أحل عنها)).
(10) في (ب) و(م): ((السير)).
(11) في (م): ((لمحبة)).
(12) ؟؟؟.
(13) في باب تحريم المدينة، في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((اللهم إني أحرم ما بين جبليها)).(3/490)
وقوله: ((لا يُحمل فيها سلاح، ولا تُخبط (1) فيها شجرة)) هذا (2) كلُّه يقضي بالتسويةِ (3) بين حرمِ المدينِة وحرمِ مكةَ، وهو ردٌّ على أبي حنيفةَ، على ما (4) تقدَّم.
وقوله: ((إلا (5) لعلف))؛ لم يذكرْ هذا الاستثناءَ في شجرِ مكةَ، وهو جار فيها. ولا قرن بينهما. وكذلك (6) ذكر في مكة: ((إلا الإذخر)) (7) . ولم يذكره في المدينةِ، وهو أيضًا (8) جارٍ (9) فيها؛ إذ لا فرقَ بين الحرَمين (10) . والحاصلُ من الاستثناءَيْنِ (11) : أنَّ ما دعت الحاجةُ إليه من العلفِ والانتفاعِ (12) بالحشيش، جاز تناولُه على وجهِ الهشِّ (13) والرِّفْقِ من غيرِ عنفٍ، ولا كسرِ غصنٍ (14) . وهو حجةٌ على مَنْ منع شيئًا من ذلك.
وقوله: ((ما من (15) المدينة شِعبٌ (16) ولا نقبٌ إلا عليه ملكان (17) يحرسانها)) ((الشِّعْب)) (18) - بكسرِ الشينِ - هو (19) الطريقُ في الجبلِ؛ قاله يعقوبُ وغيرُه (20) . و((النَّقْب))- بفتح النونِ وضمِّها؛ وهو الطريقُ على رأسِ الجبل (21) . وقيل: هو الطريقُ ما (22) بين الجبلينِ (23) . وقال الأخفشُ: أنقابُ المدينةِ: طُرقُها (24) ، وفِجاجُها (25) .
و((ما يَهيجهم))؛ أي: ما (26) يحرِّكُهم؛ يُقال: هاج الشيءُ، وهجْتُه، وهاجتِ (27) الحربُ، وهاجَها الناسُ؛ أي: حرّكوها وأثاروها.
و((بنو عبدالله بن غطَفان)) كانوا (28) يُسمَّون في الجاهليةِ: ((بني (29) عبدالعُزّى))، فسمَّاهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ((بني عبدالله)). فسمتهم العربُ: ((بني مُحوَّلة))؛ لتحويلِ اسمِهم (30) .
وفي هذا ما يدلُّ على أن حراسةَ الملائكةِ للمدينةِ إنما كان إذ ذاك في مدةِ غيبةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه عنها، نيابةً عنهم (31) . =(3/491)=@
__________
(1) في (أ) و(ح) و(ز): ((يخبط)).
(2) في (ز): ((فهذا)).
(3) قوله: ((يقضي بالتسوية)) في (ب) و(م): ((يقتضي التسوية)).
(4) قوله: ((على ما)) في (م): ((فيما)). وأبو حنيفة ينكر تحريم المدينة وانظر ما تقدم للشارح في باب تحريم المدينة.
(5) في (أ): ((لا)).
(6) في (ز): ((وكذا)).
(7) تقدم في باب تحريم مكة وصيدها وشجرها ولقطتها .
(8) ((أيضًا)) من (ز) فقط.
(9) في (م): ((جائز)).
(10) انظر ما تقدم في باب تحريم المدينة. و"الإكمال" (4/494).
(11) في (م): ((الاستثناء بين))، وفي (ي): ((الاستثناء)).
(12) في (ح): ((وبالانتفاع)).
(13) في (ز): ((المس)).
(14) هذا معنى كلام القاضي في "الإكمال" (4/494)، وعبارته: ويفسر هذا الاستثناء [أي: قوله: ((إلا لعلف))] – والله أعلم – الحديث الآخر: ((لا يخبط ولا يعضد، ولكن يهش هشًّا رفيقًا)) والهشُّ تحريك الغ صن ليسقط ورقة.اهـ.
ثم ذكر عن الخليل معنى ((الهش))، ثم قال: ومعناه: لا تخبط لتكسر أغصانها، ولا يجوز أن يؤخذ منها إلا ا، يحرك أو يضرب ضربًا رفيقًا لأخذ الورق للعلف)). والحديث الذي ذكره القاضي عند أبي داود، في باب تحريم المدينة رقم (2039) ولفظه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن يهش هشًّا رفيقًا)).
(15) في (ح) و(ي): ((في)).
(16) في (م): ((شعبة)).
(17) في (م): ((ملكين)).
(18) في (ز): ((والشعب)).
(19) في (ز): ((هو)).
(20) قول يعقوب ابن السكيت في "إصلاح المنطق" (ص5): قال: والشِّب: ((الطريق في الجبل)).اهـ. وقيل: هو ما انفرج بين الجبلين. انظر "العين" (4/268)، "جمهرة اللغة" (1/343)، "مشارق الأنوار" (2/254)، "شرح النووي" (9/248).
(21) وهو قول الخليل في "العين" (5/179) قال: طريق ظاهر على رءوس الجبال والآكام والروابي لا يزوغ عن الأبصار. وهو المنقبة أيضًا.
(22) في (ز): ((مما)).
(23) انظر: الزاهر في "غريب ألفاظ الشافعي" (ص344)، و"النهاية" (5/101).
(24) في (م): ((طرفها)).
(25) وحكى القاضي عن ابن وهب أنها مداخلها، قال: وقيل: طرقها. وانظر "النهاية" (5/101)، و"شرح النووي" (9/148).
(26) قوله : ((ما)) سقط من (م).
(27) في (م): ((وهاج)).
(28) في (ز): ((وكانوا)).
(29) في (ا9: ((بنو)) وفي (م): ((ببني)) غير منقوطة الباءين.
(30) قال القاضي في "المشارق" (2/117) ((محوّلة)) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وفتح الواو مشددةً؛ لتحويل اسم أبيهم. وانظر "شرح النووي" (9/149)، (16/74).
(31) مراد الشارح هنا – إن شاء الله – الحراسة المذكورة في الحديث، وليست الحراسة من الطاعون والدجَّال المذكورة في حديث آخر؛ يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((... يحرسانها حتى تقدموا إليها))، وقول الراوي بعد ((ما وضعنا رحالها حين دخلنا المدينة، حتى أغار علينا بنو غطفان، وما يهيجهم قبل ذلك شيء)): وقد كانوا – كما ذكر في الحديث - اشتكوا إليه - صلى الله عليه وسلم - ، تركهم عيالهم بلا حافظ، وأنهم غير آمنين عليه. قال النووي: معناه أن المدينة في حال غيبتهم كانت محمية محروسة، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إن بني عبد الله بن غطفان أغاروا عليها حين قدمنا، ولم يكن قبل ذلك يمنعهم من الإغارة عليها مانع ظاهر، ولا كان لهم عدد يهجيهم ويشتغلون به، بل بسبب منعهم قبل قدومنا: حراسة الملائكة)).اهـ. ونحوه عند القاضي في "الإكمال" (4/495).(3/491)
وقوله: ((ليالي الحرة (1) ))؛ يعني به: حرةَ المدينةِ، كان بها مَقْتَلةٌ عظيمةٌ في أهلِ المدينةِ؛ كان سببهُا: أن (2) ابنَ الزبيرِ وأكثرَ أهلِ الحجازِ كَرهوا بيعةَ يزيدَ بنِ معاويةِ (3) ، فلما مات معاويةُ وجَّه يزيدُ مسلمَ بنَ عقبة المدنيَّ (4) في جيشٍ عظيمٍ من أهلِ الشامِ، فنزل بالمدينةِ، فقاتل أهلَها، فهزمهم، وقتلَهم بحرَّة المدينةَ قتلاً ذريعًا، واستباح المدينةَ ثلاثةَ أيامٍ، فسُمِّيتْ وقعةَ الحرَّةِ)) لذلك (5) . ثم إنه توجَّه بذلك الجيشِ يريدُ مكةَ، فمات مسلمٌ بقُديد، وولي الجيشَ الحصينُ بن نُمير، وسار (6) إلى مكة (7) ، وحاصر (8) ابنَ الزبيرِ، وأُحرقتِ الكعبةُ، حتى انهدم جدارُها، وسقط سقفُها، فبينما (9) هم كذلك، بلغهم موت يزيد فتفرَّقوا، وبقيَ ابنُ الزبيرِ بمكةَ إلى زمانِ (10) الحجَّاج، وقتلِه لابنِ الزبيرِ، رضي الله عن (11) ابنِ الزبيرِ وأبيهِ (12) .
و((الجَلاء))- بفتحِ الجيمِ والمدِّ -: الانتقالُ من موضعٍ إلى آخرَ. و((الجِلاء)) - بكسرِ الجيمِ والمدِّ -: هو جِلاءُ السيفِ، والعَروسِ. و((الجَلا)) - بفتحِ الجيمِ والقصرِ: هو جَلا الجبهةِ؛ وهو انحسارُ الشَّعَرِ عنها؛ يقال منه: رجلٌ أَجْلى وأَجلحُ (13) . =(3/492)=@
__________
(1) في (ز): ((الحر)).
(2) سقط من (ز).
(3) لما اشتهر من فسقِه، وأخرجوا عامله على المدينة، ودعوا إلى الشورى وبايعوا عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة على خلع يزيد، واخرجوا مَنْ بالمدينة من بني أمية.
(4) كذا في النسخ! وصوابه : ((المري))، نسبة إلى مرة بن عوف بن سعد من ذبيان ، وهو الذي يسميه أهل المدينة : مرفًا ؛ لإسرافه وفحشه بالقول والفعل بهم ، هلك في عام ثلاث وستين ، وعمره بضع وتسعون سنة . انظر ترجمته في "تاريخ ابن عساكر" (16/475)، و"الإصابة" (10/28).
(5) كذا في (أ): ((بذلك)).
(6) في (أ): ((صار)).
(7) في (ي): ((المدينة)).
(8) في (أ): ((حاصر)) وفي مكان الواو بياض .
(9) في (ح): ((فبينا)).
(10) في (ي): ((زمن)).
(11) في (ز): ((عنه عن)) وقبله في ي) بياض بمقدار كلمة.
(12) قوله : ((وأبيه)) من (ب) و(م) فقط. وانظر تفصيل الأحداث في "تاريخ الطبري" (6/415- 434)، و"تاريخ الإسلام" (حوادث سنة 63، 64هـ)، "البداية والنهاية" (11/614- 634).
(13) انظر: ((المقصور والممدود)) للفراء (ص106، 107، 110)، ولأبي الطيب الوشاء (ص45)، و"المقصور والممدود" لأبي علي القالي (ص65، 335، 433). و((الجلا)) المقصور يكتب بالألف؛ لأنه واوي؛ فعله جلا يجلو، ويقال: رجلٌ أجلى وامرأة جلْواء.(3/492)
وقوله (1) : ((إذا كان مسلمًا))؛ يُقَيّد (2) ما تقدَّم من مطلقَاتِ هذه الألفاظِ. ويُنَبَّه (3) على القاعدةِ المقرَّرةِ من أن الكافرَ لا تنالُه شفاعةُ شافعٍ؛ كما (4) قال الله (5) تعالى مخبرًا عنهم: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} (6) .
وقوله في المدينة: ((وهي وَبيئة)) بالهمزِ، من الوباء؛ وهو هنا: شدَّةُ المرضِ (7) ، والحمَّى.
وكانوا لَمَّا قدموا المدينةَ لم تُوافِقْهم في صحَّتِهم، فأصابتهم أمراضٌ عظيمةٌ، ولَقُوا من حُمَّاها شدَّةً، حتى دعا لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وللمدينةِ، فكشف الله ذلك ببركِة دعائِه - صلى الله عليه وسلم - ، كما ذُكر في هذا الحديثِ، وفي (8) غيرِه.
وقوله: ((وحَوِّلْ حُمَّاها إلى الجحفة))؛ قد ذكرنا الجحفةَ في بابِ المواقيتِ (9) . وإنما (10) دعا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا رحمةً لأهلِ المدينةِ، ولأصحابِه، ونَقِمةً من أهلِ (11) الجحفِة؛ فإنَّهم (12) كانوا إذ ذاك كفَّارًا (13) . قال الخطابيُّ: كانوا يهودًا (14) . وقيل: إنه لم يبقَ أحدٌ من أهل الجحفةِ في ذلك الوقتِ إلا أخذته الحمَّى (15) .
ففيه: الدعاءُ للمسلمِ، وعلى الكافرِ. وهذا وما في معناه من أدعيةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - التي تفَوقُ الحصرَ - حجَّةٌ على بعضِ المعتزلةِ القائلين: لا فائدةَ في الدَّعاءِ مع سابقِ (16) القدرِ،، وعلى غُلاة الصوفيِة القائلين: إن (17) الدعاءَ قادحٌ في التوكُّلِ. وهذه كلُّها جهالاتٌ لا يَنتحلُها إلا جاهلٌ غبيٌّ (18) ؛ لظهورِ فسادِها، وقُبحِ ما يلزم عليها. ولبسَطِ هذا (19) موضعٌ آخرُ. =(3/493)=@
__________
(1) في (ز): ((قوله)).
(2) كأنها في (ح): ((تقييد)).
(3) في (ح) و(ي): ((وتنبيه)).
(4) قوله : ((كما)) سقط من (ح).
(5) لفظ الجلالة مثبت من (ب) و(ز) و(م).
(6) سورة الشعراء؛ الآية: 100-101.
(7) في (ح): ((الأمراض)).
قال في "الصحاح" (1/79): وَبَأُ، يمدُّ ويقصر: مَرضٌ عامٌّ. وجمع المقصور أوْباءٌ وجمع الممدود أوْبِئَةٌ. وقد وَبِئَتِ الأرضُ تَوْبَأُ وَبَأً فهي مَوْبوءَةً، إذا كثُر مرضها. وكذلك وَبِئَتْ تَوْبَأُ وَباءَةً، فهي وَبِئَةٌ ووَبيئَةٌ، على فَعِلة وفَعيلة. وفيه لغة ثالثة: أَوْبَأْتُ فهي موئبة.اهـ. والمراد في الحديث ما قال الشارح، وليس المراد به المرض العام أو الطاعون، قال النووي في "شرح مسلم" (9/150): الوباء: الموت الذريع، هذا أصله، ويطلق أيضًا على الأرض الوخيمة التي تكثر بها الأمراض لاسيما للغرباء الذين ليسوا مستوطنيها.اهـ. وهو نحو كلام القاضي في "الإكمال" (4/496). وقال القاضي: ويختلف حال النازل والوارد عليها فتعتريهم الأمراض لاختلاف الهواء عليهم.اهـ.
(8) قوله : ((في)) سقط من (ب) و(م).
(9) في أول كتاب الحج.
(10) في (ح): ((إنما)).
(11) قوله: ((من أهل)) في (ي): ((لأهل)). نَقَمْتُ مِنْهُ وانتقمت: عاقبته.
والاسم: ((النَّقمة)) كـ((الكِلَمة)) وتخفف ((نِقْمة)) كـ((كلمة)) ونَقَمت منه ونقِمت: إذا عبته وكرهته لسوء فعَله. والمراد الأول "المصباح" (ص320- 321).
(12) في (ح): ((بأنهم)).
(13) قاله القاضي في "الإكمال" (4/496) عن المازري في "المعلم" (2/81) وهو قول الباجي في "المنتقى" (7/195- 196) وعبارته: وقال بعض أهل العلم إن الجحفة – وهي مَهْيعة – كانوا في ذلك الوقت على غير الإسلام فدعا عليهم بذلك.
(14) "أعلام الحديث" (3/938).
(15) قال الباجي في "المنتقى" (7/196): ومن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - صارت الجحفة وبئة، قلَّ من يشرب من عينها، ويقال له: حُمَّ، إلا حُمَّ.
(16) في (م): ((سابقة)).
(17) في (ح) و(ي): ((بأن)).
(18) في (م): ((غني)).
(19) سقط من (ح) وكرر كلمة ((موضع)).(3/493)
و((يُحنِّسُ (1) )) بضمِّ الياء، وكسرِ النونِ وتشديدِها - رويناه، وهو المشهورُ، وقد (2) ضُبط عن (3) أبي بحرِ: ((يحنَّس)) بفتح النونِ.
وقول ابن عمر – رضي الله عنه - لمولاته: ((اقعدي لكاعِ))؛ معناه: لئيمةٌ، من اللَّكَعِ، وهو اللآمةُ (4) . وقيل: أُخذ من الملاكيعِ؛ وهو الذي يَخرجُ مع السَّلَى (5) من البطنِ (6) .
ولا يستعملُ إلا في النداءِ؛ يقال للذكرِ: يا لُكَعُ، وللأنثى: يا لَكَاع. وقيل: يا لَكْعَاء (7) . وربما جاء في الشعرِ للضرورِة في غيرِ النداءِ؛ كما قال (8) :
.......................... ... إِلَى بَيْتٍ قَعِيدتُهُ لَكَاعِ (9)
وقد يقال للصغيرِ (10) ؛ كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للحسنِ – رضي الله عنه - حيثُ (11) طلبه: ((أَثَمَّ لُكَعُ)) (12) ؛ أي: الصغيرُ.
وهذا من ابنِ عمر – رضي الله عنهما - تبسُّطٌ مع مولاتِه، وإنكارٌ عليها إرادةَ الخروجِ من المدينةِ. =(3/494)=@
__________
(1) في (أ) و(ح) و(ي): ((يحنس)). دون الواو. وفي (م): ((يحبس)) دون الواو أيضًا.
(2) قوله : ((قد)) سقط من (أ).
(3) في (ي): ((على)).
(4) قوله: ((وهو اللآمة)) في (ب) و(م): ((وهي الأمة)).
(5) السَّلى: سَلَى الناقة والشاة؛ وهو الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد، يكتب بالياء؛ يقال: شاة سَلْياء، وقد سَلِيَتْ: إذا تلد لي ذلك منها." المقصور والممدود" لأبي علي (ص102).
(6) قاله ابن الأنباري في "الزاهر" (1/144). وحكاه في "تهذيب اللغة" (1/315). عن ابن الأعرابي، وذكره في "اللسان" (8/323) عن ثعلب، عن الأصمعي.
(7) قوله : ((يا)) سقط من (أ) و(ب).
(8) قوله: ((كما قال)) في (أ): ((كما ل)).
(9) هذا عجز بيت من الوافر، والبيت بتمامه:
أُطَوِّفُ مَأ أَطَوِّفُ ثمَّ آوِي ... إِلَى بَيْتٍ قَعِيدتُهُ لَكَاعِ( )
وهو للحطيئة جَرْوَلِ بن أوس، يهجو امرأته. وهو بيت فرد؛ لا سابق له ولا لاحق. ويروى ((أُجوَِّل ما أُجوِّل...)) و((أُطوِّد ما أطوِّد...)) والمعنى واحد. و((قعيدة الرجل)): امرأته، القاعدة في البيت، و((لكاع)): لئيمة. وأصل اللَّكع: وسَخ الغلْفةِ. واللُّكعُ: المُهْر والجحش. ولَكِع لَكَعًا ولَكَاعَةً: لَؤُم وحَمُقَ.
ومعنى البيت: أُكثر الطواف والتجوال في طلب الرزق، ثم أرجع وآوي إلى البيت فيه زوجة لئيمة الطبع.
والشاهد فيه قوله: ((قعيدته لكاعِ))، وقد استعملها لغير النداء، ووقعت خبرًا، ضرورةً، والأصل فيها من الأسماء الملازمة للنداء.
قال المبرد في الكلام على بناء ((فعال)): و((فعال)) معدولٌ عن ((فاعلة))، و((فاعلة))لا ينصرف في المعرفة، فَعُدِ إلى البناء؛ لأنه ليس بعد ما ينصر ف إلا المبنى.
وبني على الكسر؛ لأن في (فاعلة)) علامة التأنيث وكأن أصل هذا أن يكنن إذا أردت به الأمر ساكنًا كالمجزوم من الفعل الذي هو في معناه فكسرته لالتقاء الساكنين.اهـ. ثم ذكر ما كان من هذا البناء اسمًا للفعل نحو ((نزال)) ثم قال: ومنها (أي من أوجه بناء ((فعال)) ) أن يكون صفة غالبة تحل محل الاسم،... تقول في النداء: يا فساق، ويا خباث، ويا لكاع؛ تريد: يا خبيثة، ويا فاسقة، ويا لكعاء؛ لأنه في النداء في موضع معرفة.اهـ. "الكامل" (2/587- 590).
والبيت في ملحق "ديوان الحطيئة" (ص330)، ونسبه له في "الكامل" (1/339)، (2/726)، (3/1231)، و"العقد الفريد" (6/113)، و"خزانة الأدب" (2/404)، و"جمهرة اللغة" (2/662)، و"شرح المفصل" (4/57)، و"شرح التصريح" (2/241)، و"المعلم" (2/80)، و"شرح الزرقاني" (4/273). ولأبي الغريب النصري في "اللسان" (8/323). وبلا نسبة في "الألفاظ" لابن السكيت (ص51) وذكره محققه أن في حاشية الأصل: ((البيت للحطيئة)) وأن التبريزي في "تهذيب الألفاظ نسبة لأبي الغريب النصري" وبلا نسبة أيضًا في ((شرح ابن عقيل)) (1/133)، و"أوضح المسالك" (4/42).
(10) في (ح) و(ي): ((لصغير)). و هو أرجح الأقوال في هذا الحديث؛ حيث قيل: إنه أراد: اللئيم، وقيل: البعد. وقال الأصمعي: هو الذي لا يتجه لمنطق ولا غيره. وصوبه الأزهري؛ كما في "اللسان" (8/323).
(11) في (ح) و(ز): ((حين)).
(12) سيأتي في باب فضائل الحسن والحسين ، من كتاب النبوات .(3/494)
ومن بابِ: المدينةُ لا يدخلُها (1) الطاعونُ ولا الدَّجَّالُ
قوله: ((عَلَى أَنْقَابِ المَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ، لَا يَدْخُلُها الطَّاعُونُ، وَلَا الدَّجَّالُ))؛ قد تقدَّم القولُ في الأنقابِ (2) . و((الطاعونُ)): الموتُ العامُّ الفاشي. ويعني بذلك أنه لا يكونُ في المدينةِ من الطاعونِ مثلُ الذي يكونُ في غيرِها من البلادِ؛ كالذي وقع من (3) طاعونِ عَمَوَاسَ (4) ، والجارِفِ، وغيرِهما (5) . وقد أظهر الله تعالى صدقَ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنه لم يُسمعْ من النَّقلِة، ولا من غيرهِم مَن يقولُ: إنه وقع بالمدينةِ طاعونٌ عامٌّ؛ وذلك ببركةِ دعاءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيثُ قال: ((اللَّهُمَّ صَحِّحْهَا لَنَا)) (6) .
وقد تقدَّم الكلامُ على اسمِ الدَّجَّالِ، واشتقاقِه (7) . وهو وإن لم يدخلِ المدينةَ إلا أنه يأتي سَبْختَها من دُبُرِ أُحُدٍ، فيضربُ هناك رِواقَه، فتَرجُفُ المدينةُ بأهلِها ثلاثَ رَجَفَاتٍ، فيخرجُ (8) إليه منها كلُّ كافرٍ ومنافقٍ، كما يأتي في حديثِ أنسٍ (9) في كتابِ ((الفتن))، ثم يَهِمُّ بدخولِ (10) المدينةِ، فتصرفُ (11) الملائكةُ وجهَهُ إلى الشامِ، وهناك يهلكُ بقتلِ عيسى ابنِ مريمَ - صلى الله عليه وسلم - إيَّاه، ببابِ لُدٍّ (12) ، على ما يأتي، وسيأتي أيضًا: أن مكةَ لا يدخلُها الدَّجالُ (13) . =(3/495)=@
__________
(1) في (ب): ((تدخلها)).
(2) في الباب السابق.
(3) في (ب) و(ز) و(م): ((في)).
(4) في (م): ((عمراس)) وانظر التعليق التالي.
(5) أما ((عمواس)) فهي بفتح العين والميم، وقيل: بكسر العين وسكون الميم. وهي قرية من قرى الشام، بين الرملة وبيت المقدس. ونُسب إليها الطاعون لأنه بدأ منها؛ وكان في سنة 81هـ، في زمن عمر رضي الله عنه، ومات فيه خلق كثير لا يحصى من الصحابة رضي الله عنهم، ومات فيه نحو خمسة وعشرين ألفًا. وقيل سُمِّي بذلك لأنه ((عَمَّ)) الناس و((تواسوا)) فيه.
وأما ((الجارف)) فسمِّي بذلك لكثرة من مات فيه، والجارف: الموت الذريع، سمي بذلك لاحترافه الناس؛ كالسيل، والجَرْف الغرف من فوق الأرض وكشح ما عليها. وكان بالبصرة. أما زمنه فذكر النووي أن فيه اختلافًا وتباينًا شديدًا، فقيل: سنة67، وقيل: سنة87، وقيل: سنة119، وقيل سنة: 132. ثم ذكر هذا الاختلاف ثم قال: فهذه أقوال متعارضة فيجوز الجمع بينهما بأن كل طاعون من هذه يسمى جارفًا؛ لأن معنى بحرف موجود في جميعها، ثم نقل عن ابن قتيبة تسمية ما وقع من الطواعين في الإسلام وأولها طاعون عمواس، وثانيها بحارف.
وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كون الطاعون شهادة وكيف قرن بالدجال ومدحت المدينة بعدم دخولهما والجواب أن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه وينشأ عنه لكونه سببه فإذا استحضر ما تقدم من أنه طعن الجن حسن مدح المدينة بعدم دخوله إياها... وقد أجاب القرطبي في "المفهم" عن ذلك فقال: كطاعون عمواس والجارف وهذا الذي قاله يقتضي تسليم أنه دخلها في الجملة وليس كذلك فقد جزم بن قتيبة في المعارف وتبعه جمع جم من آخرهم الشيخ محيي الدين النووي في "الأذكار" بان الطاعون لم يدخل المدينة أصلا ولا مكة أيضا لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه وقع بها الطاعون أصلا.
ولعل القرطبي بني على أن الطاعون أعم من الوباء أو أنه هو وأنه الذي ينشا عن فساد الهواء فيقع به الموت الكثير وقد مضى في الجنائز من "صحيح البخاري" قول أبي الأسود قدمت المدينة وهم يموتون بها موتا ذريعا. فهذا وقع بالمدينة، وهو وباء بلا شك، ولكن الشأن في تسميته ((طاعونا)). والحق أن المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة الذي ينشأ عن طعن الجن فيهيج بذلك الطعن الدم في البدن فيقتل فهذا لم يدخل المدينة قط فلم يتضح جواب القرطبي.اهـ.
انظر: "معجم البلدان" (4/157- 158)، "معجم ما استعجم" (3/971)، "مشارق الأنوار" (1/144)، "النهاية" (1/262)، "شرح النووي" (1/105- 107)، و"فتح الباري" (10/190 – 191).
(6) تقدم في باب الترغيب في سكنى المدينة .
(7) في المقدمة، باب التحذير من الكذابين.
(8) في (ب): ((فتخرج)).
(9) سيأتي في باب في هوان الدجال على الله تعالى ، من كتاب الفتن .
(10) في (ح): ((بالدخول)).
(11) في (ز): ((فتضرب)).
(12) يأتي في كتاب الفتن ، باب أشراط الساعة ، باب في صفة الدجال .
(13) سيأتي في الباب والكتاب السابقين أيضًا.(3/495)
وقوله: ((يأتي على النَّاس زمانٌ يدعو الرجلُ ابنَ عمِّه، وقريبَه: هَلُمَّ إلى الرخاءِ)) هذا منه - صلى الله عليه وسلم - إخبارٌ عن أمرِ غيبٍ وقع (1) على نحوِ ما ذَكَرَ؛ فكان (2) ذلك من أدلَّةِ نبوَّتِه - صلى الله عليه وسلم - . وعَنَى بذلك أن الأمصارَ تُفتحُ على المسلمين، فتكثرُ الخيراتُ، وتترادفُ عليهم الفتوحاتُ، كما قد اتفق عندَ فتحِ (3) الشامِ، والعراقِ، والدِّيارِ المصريةِ، وغيرِ ذلك؛ فرَكَنَ كثيرٌ ممن خرج من الحجازِ وبلاد (4) العربِ إلى ما وَجدوا (5) من الخِصْبِ، والدَّعَةِ بتلك البلادِ المفتوحةِ، فاتخذوها دارًا، ودَعَوْا إليهم (6) مَنْ كان بالمدينةِ؛ لشدَّةِ العيشِ بها وضيقِ الحال؛ فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ((والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون (7) ))؛ وهي خيرٌ (8) من حيثُ تعذُّرُ الترفُّهِ فيها، وعدمُ الإقبالِ على الدنيا بها (9) ، وملازمةُ ذلك المحلِّ الشريفِ، ومجاورةُ النبيِّ الكريم (10) - صلى الله عليه وسلم - ، ففي (11) حياتهِ - صلى الله عليه وسلم - : صحبتُه، ورؤيةُ وجهِه الكريمِ، وبعدَ وفاتِه: مجاورةُ جَدَثِه الشريفِ، ومشاهدةُ آثارِه المعظَّمِة. فطوبى لمن ظفر بشيءٍ من ذلكْ، وأحسنَ الله عزاءَ مَنْ لم ينلْ شيئًا مِمَّا (12) هنالكْ.
وقوله: ((لا يخرجُ أحدٌ رغبةً عنها، إلا أخلف الله فيها (13) خيرًا منه))؛ يعني: أن =(3/496)=@
__________
(1) في (أ) و(ب): ((ووقع)).
(2) في (ح) و(ي): ((وكان)).
(3) في (ز): ((فتوح)).
(4) في (ح): ((أو بلاد)).
(5) في (ز): ((وجد)).
(6) في (ز): ((إليها)).
(7) قوله : ((لو كانوا يعلمون)) ليس في (أ) و(ب)، (ز)، و(م).
(8) قوله: ((وهي خير)) سقط من (م).
(9) قوله : ((بها)) سقط من (ح) و(ي).
(10) قوله: ((الكريم)) ليس في (ز).
(11) في (ب): ((في)).
(12) في (ح) و(ي): ((من)).
(13) في (ي): ((له فيها)).(3/496)
الذي يخرج ُمن (1) المدينةِ راغبًا عنها؛ أي: زاهدًا فيها؛ إنما هو: إما جاهلٌ (2) بفضلِها وفضلِ المُقامِ فيها، وإما (3) كافرٌ بذلك،، وكلُّ واحدٍ من هذين: إذا خرج منها فمن بَقي من المسلمين خيرٌ منه وأفضلُ على كلِّ حالٍ، وقد قضى الله تعالى بأن مكةَ والمدينةَ، لا تَخْلُوانِ (4) من أهلِ العلمِ والفضلِ (5) والدِّين، إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومَنْ عليها؛ فَهُم الخلفُ ممن خرج رغبةً عنها (6) .
وقوله: ((إن المدينةَ كالكِير تُخْرِج (7) الخبَثَ)) هذا تشبيهٌ واقعٌ؛ لأن الكيرَ لشدَّةِ نفْخِه ينفي (8) عن النارِ السُّخام (9) والدُّخَانَ والرَّمادَ، حتى لا يبقى إلا خالصُ الجَمْرِ والنارِ؛ هذا إن أراد بالكيرِ المنْفَخَ (10) الذي تُنفخ (11) به النارُ. وإِن أراد به (12) الموضعَ المشتملَ على النارِ، وهو المعروفُ عند أهلِ اللغةِ (13) ، فيكون معناه: أن ذلك الموضعَ (14) لشدَّةِ حرارتِه ينزعُ خَبَثَ الحديدِ والذهبِ والفضةِ، ويخرجُ خلاصةَ ذلك. والمدينةُ كذلك؛ بما (15) فيها من شدة العيشِ وضيقِ الحالِ، تخلِّصُ النفسَ من شهواتِها وشَرَهها، ومَيلها إلى اللذاتِ والمستحسناتِ، فتتزكَّى (16) ُالنفس عن أدرانِها (17) ، وتبقى خلاصتُها، فيظهرُ (18) سرُّ جوهرِها، وتعمُّ بركاتُها، ولذلك قال في الروايةِ الأخرى: ((تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا)) (19) .
وقوله: ((أُمرت (20) بقريةٍ تأكل القُرى))؛ أي: بالهجرةِ إليها إن كان قاله بمكةَ، أو بسُكناها (21) إن كان قاله بالمدينةِ. وأكلُها للقُرى (22) : هو أن منها افتُتحتْ جميعُ القُرى، =(3/497)=@
__________
(1) في (ز): ((عن)).
(2) قوله: ((غنما هو إما جاهل)) في (ح): ((إما هو جاهل))، وفي (ي): ((إما جاهل)).
(3) في (ب) و(ز) و(م): ((أو)).
(4) في (أ) و(ي): ((يخلوان)) وهي غير منقوطة في (ح) و(ز).
(5) في (ب): ((وللفضل)).
(6) تقدمت فائدة في المراد عن يخرج من المدينة، عن الباجي والقاضي عياض، في باب تحريم المدينة.
(7) في (م): ((يخرج)).
(8) في (ح): ((تنفي)).
(9) السُّخام – كغراب -: سواد القدر ونحوه. "المصباح" (ص141).
(10) في (ز) و(م): ((النفخ))، وهي غير واضحة في (ح). والمنفخ والمنفاخ: آلة النفخ. "المصباح" (ص317).
(11) كذا في (ز)، وهي في (ح) غير منقوطة التاء، وفي سائر النسخ: ((ينفخ)).
(12) سقط من (ب) و(م).
(13) قوله: ((وهو المعروف عند أهل اللغة))، وكذلك قال الحافظ في "الفتح" (4/88)؛ قال: الكير... وفيه لغة أخرى ((كُور)) بضم الكاف. والمشهور بين الناس أن ((الكير)) هو الذِّق (المنفاخ) الذي ينفخ فيه، لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير: حانوت الحداد، والصائغ، قال ابن التين: وقيل: الكير هو الزق، والحانوت هو الكور)).اهـ. وما حكاه الحافظ عن ابن التين هو قول أكثر أهل اللغة؛ وهو أن: الكير: المنفاخ، والكور: الموضع المنبي بالطين تكون فيه النار؛ قال ابن قتيبة: والكور: كور الحداد المبني من طين. والكير: زق الحداد.اهـ. وقال نحوه ابن السكيت والأزهري والجوهري وابن فارس وابن سيد وهشام الوقشي والفروز آبادي والفيومي وابن منظور والزبيدي. وذكر المعنين في ((الكير)) ابن الأثير، وذكر المعنين أيضًا في ((الكور)) ابن منظور. وانظر: "إصلاح المنطق" (ص32- 33)، و"أدب الكاتب" (ص313)، "تهذيب اللغة" (10/345)، و"الصحاح" (2/811)، و"مقاييس اللغة" (5/149)، و"المجمل" (ص774)، و"التعليق على الموطأ" لهشام الوقشي (2/290) و"المحكم" (7/81، 101)، و"النهاية" (4/217)، و"المصباح المنير" (ص280، 281)، و"القاموس" (2/219- 130)، و"اللسان" (5/155، 157)، و"تاج العروس" (7/460- 461، 465).
(14) من قوله : ((المشتمل على النار ....)) إلى هنا، سقط من (ح).
(15) في (ب) و(م): ((لما)).
(16) في (ح) و(م) و(ي): ((فتزكى)).
(17) في (ي): ((ادراكها)).
(18) في (ب): ((فيطهر)). [شطبت من الحاشية ولم تشطب من المتن]
(19) ذكر ابن عبد البر والقاضي عياض، أن ذلك خاص بزمنه - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يكن يصبر على المدينة ولأوائها معه - صلى الله عليه وسلم - إلا المؤمنون، فلما مات خرج عنها كثير من جلة أصحابه. وتعقب النووي القاضي عياض في ذلك بأن نفي المدينة لشرارها إنما في زمن الدجال كما ذكر في الحديث عند مسلم، ثم قال النووي: فيحتمل أنه مختص بزمن الدجال، ويحتمل أنه في أزمان متفرقة.اهـ. ونقل كلامهم جميعًا الحافظ في "الفتح"، وذكر نحو ما ذكره النووي من الاحتمالين. وانظر: "التمهيد" (12/230- 231) (22/280)، (23/171)، و"الإكمال" (4/500)، و"شرح النووي" (9/154)، و"فتح الباري" (4/88) (13/306).
(20) في (ح): ((أخذت)).
(21) في (ح) و(ز): ((سكناها)).
(22) في (ب) و(ز) و(م): ((القرى)).(3/497)
وإليها جُبِي فَيْ البلادِ (1) وخَراجُها في تلك الْمُدَدِ (2) . وهو أيضًا من علاماتِ نبوَّتِه - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: ((يقولون: يثربُ، وهي المدينة))؛ أي: يُسميِّها (3) الناسُ: ((يثربَ))، والذي ينبغي أن تُسمَّى به: ((المدينةُ)). فكأن (4) النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كره ذلك الاسمَ؛ على عادتِه في كراهِة (5) الأسماء ِغيرِ المستحسنةِ، وتبديلِها بالمستحسنِ منها؛ وذلك أن ((يثرب)) لفظٌ مأخوذٌ من ((الثَّرْبِ)؛ وهو الفسادُ، و((التثريبِ)) (6) وهو المؤاخذةُ بالذنبِ، وكلُّ ذلك من قَبيلِ ما يُكرَهُ. وقد فهم العلماء من هذا: مَنْعَ أن يقال: يثربُ؛ حتى قال عيسى بنُ دينارٍ: مَن سمَّاها ((يثربَ)) كُتِبت عليه خطيئةٌ، فأما قوله تعالى: {يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا} (7) ، فهو حكايةٌ عن قولِ المنافقين (8) . وقيل: سُميت: ((يثرب)) بأرضِ هناك (9) ، المدينةُ ناحيةً منها. وقد سماها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ((طَيْبةً))، و((طابة)) (10) ، من الطيِّب (11) ؛ وذلك أنها طَيبةُ التربةِ والرائحةِ. وهي تربةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وتُطيِّبُ مَنْ سكَنها، ويسَتطيبها المؤمنون.
وقوله: ((تنفي خبثها، وينصعُ (12) طِيبُها)): ينصَع (13) : يَصْفو، ويخلُص. يقال: طِيبٌ ناصع: إذا خَلُصَتْ رائحتُه، وصفَت مما ينقصها. وروينا: ((طيِّبها)) هنا (14) بفتحِ الطاءِ، وتشديد الياءِ، وكسرها،، وقد رويناه في "الموطأ" هكذا، وبكسرِ الطاءِ ... =(3/498)=@
__________
(1) في (ي): ((فهي)).
(2) هذان قولان، ذكرهما القاضي عياض، والنووي؛ أحدهما: أنها منها تفتح البلاد؛ إذ هي مركز الجيوش الإسلامية. والثاني: أن أكلها وميرتها تكون من تلك القرى التي تفتتح، وإليها تساق غنائمها وخراجها.
والأول ذكر أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد" (23/170- 171) أنه روي عن مالك. وانظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/434)، "الإكمال" (4/500)، "شرح النووي" (9/154)، "فتح الباري" (4/87- 88).
(3) في (ح): ((سمتها)) وفي (أ): ((تسميها)).
(4) في (ب) و(م): ((وكأن)).
(5) في (ز): ((كراهته)).
(6) قوله: ((أو التثريب)) في (م): ((والتثريب)).
(7) سورة الأحزاب؛ الآية: 13.
(8) قول عيسى بن دينار في "المنتقى" (7/191)، وانظر: "الإكمال" (4/501).
(9) في (ح): ((هنالك)).
(10) في (م): ((وطابت)).
(11) وطابة وطَيْبة، لغتان بمعنًى واحد؛ قيل: من الطِّيب، كما ذكر الشارح وقيل: من ((الطَّيِّب)) بفتح الطاء وتشديد الياء مكسورة؛ وهو الشيء المستحسن الموافق. وقد نقل هذه الفقرة – بتصرف – النووي في "شرح مسلم" (9/154)، والحافظ في "الفتح" (4/87) ونقل الشارح بن الباجي في "المنتقى" (7/191)، والقاضي في "الإكمال" (4/501).
(12) قوله: ((ينصع)) في (م): ((ينضع)).
(13) قوله: ((ينصع)) في (م): ((ينضع)).
(14) في (ح): ((ههنا)).(3/498)
وتسكين الياءِ (1) ، وهو أليقُ بقولِه: و((ينصع))؛ لأنه يقال: نَصَعَ الطِّيبُ: إذا قَوِيَتْ رائحتُه.
ومن بابِ إثمِ مَنْ أراد أهلَ المدينةِ بسوءٍ
قد تقدم القولُ على قوله: ((مَنْ أَرَادَ أَهْلَ المدِينَة بِسُوءٍ)) في الباب الذي قبل هذا. وفي بعضِ ألفاظِه: ((من أراد أهلَ المدينة بدَهْمٍ أو بسوء)) (2) على الشكِّ. =(3/499)=@
__________
(1) من قوله: ((وقد رويناه في "الموطأ"...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(2) مسلم (2/1008 رقم1387/494) في الحج ، باب من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله .(3/499)
((بدهم)) بفتحِ الدالِ: الداهيةُ والجيشُ العظيمُ (1) ، أو الفسادُ العظيمُ. والذَّهمُ، والذَّهماءُ (2) : من أسماء الداهيةِ.
وقوله: ((تُفتح (3) اليمن، فيأتي قوم يَبِسُّون فيتحملون (4) ))رويناه بفتح الياء، وبضمِّ الباء (5) وكسرِها (6) ؛ ثلاثيًّا،، ورويناه أيضًا بضمِّ الياءِ وكسرِ الباءِ (7) ؛ رباعيًّا. قال الحربيُّ (8) : بَسَسْتُ (9) الغنمَ والنُّوقَ: إذا دعوتُها. فمعناه: يَدْعون الناسَ إلى بلادِ الخِصْبِ (10) .
وقال ابنُ وهبٍ: يُزيِّنون لهم البلادَ ويحببِّونها (11) ، مأخوذٌ من إبساسِ الحَلُوبةِ كي يدر (12) لبنُها. وقال أبو عبيد: معناه: يَسُوقون، والبسُّ: سُوْقُ الإبلِ (13) .
قلت (14) : والأولُ أليقُ بمساقِ الحديثِ ومعناه.
وهذا الحديثُ من دلائلِ نبوتِه وصدقِه - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه أخبر بوقوعِ أمورٍ قبلَ وقوعِها، ثم وقعتْ بعدَ ذلك على نحوِ خبرِه؛ فكان ذلك دليلاً على صدقِه - صلى الله عليه وسلم - . =(3/500)=@
__________
(1) بعده في (ي) بياض بمقدار كلمة.
(2) في (أ): ((الدهيماء))، وفي (ي): ((الدهمان)).
قوله: ((والدهم والدهماء))، في (أ): ((والدهم والدهيماء))، وفي (ي): ((والدهم والدهمان))، والأصوب ما في "الإكمال" (4/504)، و"المشارق" (1/262): ((والدهيم - والدهيماء - مصغران - من أسماء الدواهي)). قال في "مقاييس اللغة" (2/307): ((والدهيماء)): تصغير ((الدهماء)) وهي الداهية.اهـ.
وقال أبو عبيد في "غريب الحديث" (5/143- 144) في تفسير ((الدهيماء)): وبعض الناس يذهب بها إلى ((الدهيم)) فإن كان من الدهيم؛ فإن ((الدهيم)) الداهية، ويقال: إن سببها أن ناقة كان يقال لها: ((الدهيم))، فغزا قومُهُ قومًا، فقتل منهم سبعة إخوة، فحُملوا على ((الدهيم)) فصارت مثلاً في كل داهية وبلية. وانظر: "النهاية" (2/145)، و"اللسان" (12/211- 212).
(3) في (م): ((يفتح)).
(4) سقط من (أ)، وفي (ح): ((فتحملون))، وهي ساقطة من (أ).
(5) في (ز): ((الياء)).
(6) في (ح): ((وبكسرها)).
(7) في (ز): ((الياء)).
(8) في (ب) و(م): ((القاضي))، وفي (ز): ((الجويني)). وفي "الإكمال" (4/505): ((قال القاضي: قال الحربي)).
(9) في (أ) و(ب) و(م): ((بسبست)).
(10) قال في "المنتقى" (7/199) في تفسير ((يبسون)): وروى ابن القاسم عن مالك: ((يبسون)) يدعون.
(11) ذكره الباجي أيضًا في "المنتقى" (7/191).
(12) في (ب) و(م): ((تدر)) وفي (أ) رسمها بالنقطين، وكتب فوقها ((معها)). وكلاهما صواب؛ يقال: درَّ اللبن، وردت الناقة لبنها. القاموس (2/28).
(13) "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/467- 468). وانظر "المشارق" (1/100)، و"الإكمال" (4/505).
(14) لم تتضح في (ح)، وفي (ز): ((قال الشيخ))، وفي (ب) و(م): ((قال الشيخ رحمه الله)).(3/500)
وقوله: ((تَتْرُكُونَ (1) الَمدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ)): ((تتركون)): بتاء الخطابِ (2) . ومرادُه: غيرُ المخاطبين، لكن نوعهم (3) من أهلِ المدينةِ، أو نسلُهم (4) . و((على خيرِ ما كانت))؛ أي: على أحسنِ حالٍ كانت عليه فيما قبلُ.
وقد وُجد هذا الذي قاله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ وذلك: أنها صارت بعدَه - صلى الله عليه وسلم - مَعْدِنَ الخلافةِ وموضِعَها، ومَقْصِدَ الناسِ ومَلجأَهم ومَعقِلَهم، حتى تنافسَ الناسُ فيها، وتوسَّعوا في خُطَطِها، وغَرسوا وسَكنوا منها ما لم يُسكن من (5) قبلُ، وبنَوْا فيها وشيَّدوا حتى بلغت المساكن إهاب (6) ، كما سيأتي في حديثٍ أبي هريرةَ الآتي إن شاء الله تعالى، وجُلبت إليها خيراتُ الأرضِ كلُّها، فلما انتهتْ حالُها كمالاً وحسنًا، انتقلتِ (7) الخلافةُ عنها إلى الشامِ، فغلبت (8) عليها الأعرابُ، وَتَعاورتْها (9) الفتنُ، فخاف أهلهُا، فارتحلوا (10) عنها. وذكر الأخباريون: أنها خَلَت من أهلِها، وبقيتْ ثمارُها للعوافي: الطيرِ، والسَّباع (11) ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - ، ثم تراجع الناسُ إليها، وفي حالِ خلائِها غَذَتِ (12) الكلابُ على سواري المسجدِ. ((وعَوَافي الطير)): هي الطالبةُ لما تأكلُ. يقال: عَفَوْتُه، أعفوه: إذا طلبتُ معروفَه. وغَذَّى الكلبُ يُغَذِّي (13) : إذا بال دُفْعةً بعدَ دُفْعةٍ (14) .
وقوله: ((ثم يخرجُ راعيان من مزينةَ يَنْعِقان بغنمهما))؛ أي: يصيحان بها، ليسوقاها، والنُّعاقُ: صوتُ السائقِ للغنمِ؛ ومنه قولُه تعالى: {كمثل الذي يَنْعِقُ بما لا يسمع} (15) .
وقوله: ((فيَجدانها وحشًا))؛ أي: خلاءً؛ يقال: أرضٌ وَحْشٌ؛ أي خاليةٌ. ومشى وَحْشًا؛ أي: وحدَه؛ قاله الحربيُّ (16) . ويحتمل أن يكون معناه: كثيرةَ الوحوشِ (17) ؛ كما قال في البخاريِّ (18) : ((فَيَجِدَانِهَا وُحُوشًا)) (19) ؛ أي: يجدانِ المدينةَ كثيرةَ الوحوشِ لمَّا =(3/501)=@
__________
(1) في (ز): ((يتركون)).
(2) في (أ): ((المخاطب)).
(3) في (ز): ((فرعهم)).
(4) نقل هذه العبارة الحافظ في "الفتح" (4/90). وقال: وروي: ((يتركون)) بتحتانية، ورجحه القرطبي.اهـ.
(5) ((من)) من (ز) فقط.
(6) في (م): ((أنقاب)). وهذا إشارة إلى حديث أخرجه مسلم في كتاب الفتن، باب في سكنى المدينة وعمارتها قبل الساعة، رقم (2903) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((تبلغ المساكن إهابَ أو يهاب)). قال القاضي في "المشارق" (1/58): ((إهاب)) بكسر الهمزة وآخره باء موحدة، موضع بقرب المدينة،... و((يهاب)) بكسر الياء باثنتين عند كافة شيوخنا، وعند التميمي كذلك وبالنون؛ أي: ((نهاب). وانظر: ((شرح النووي)) (18/30).
(7) في (ي): ((انقلبت)).
(8) في (ي): ((فغلب)).
(9) في (ح): ((وتعاوزتها)).
(10) في (ب) و(م): ((وارتحلوا)).
(11) تابع الشارح هنا القاضي عياضًا في "الإكمال" (4/507) وتعقبهما النووي في "شرح مسلم" (9/160): المختار أن هذا الترك للمدينة يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة، وتوضحه قصة الراعيين.اهـ. وتابعه الحافظ في "الفتح" (4/900) واستدل له، وقال: وهذا لم يقع قطعًا.
(12) في (ح): ((غدت))، وفي (ز): ((عدت)).
(13) في (ح): ((وغدى الكلب يغدي)).
(14) وقال أبو عبيد في "غريب الحديث" (5/250): ((غَذَّى البعير ببوله، يغذِي: إذا رمى به متقطعًا)). وقال الأزهري في "تهذيب اللغة" (8/174): ((وغذَّى الكلب أرضًا ببوله تغذيةً)).
وفي "القاموس" (4/369) وإذا البعير بوله وغذابه: قطعه، كغذَّاه.
(15) سورة البقرة؛ الآية: 171.
وقوله: ((بما لا يسمع)) ليس في (ب) و(ز) و(م).
(16) نقله عنه في "الإكمال" (4/508).
(17) في (ب) و(ح) و(ز) و(ي): ((الوحش)).
(18) تقدم تخريجه .
(19) جاء هنا في رواية أبي ذر الهروي والأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت ، لصحيح البخاري ، ورواه الباقون : ((وحشًا))، كما عند مسلم . انظر "صحيح البخاري" - النسخة اليونينية -(3/27)، و"شرح القسطلاني" (3/334).(3/501)
خلتْ من سُكَّانِها، كما قال: ((للعوافي)). والوَ ... حْشُ: كلُّ ما توحَّش من الحيوانِ، وجمعُه: وُحُوشٌ (1) .
والضميرُ في ((يجدانِها)) على هذا: راجعٌ للمدينةِ (2) . وقيل: إنه عائدٌ على الغنمِ؛ أي: صارت هي (3) وُحوشًا؛ إما بأن تنقلبَ كذلك، والقدرةُ صالحةٌ،، وإما بأن تتوحَّشَ، فتنفرَ من أصواتِ الرُّعاةِ (4) .
و((خرَّا على وجوهِهما))؛ أي: سَقطا ميتين. وهذا الذي ذكره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من حديثِ الرَّاعيَيْنِ (5) إنما يكونُ في آخرِ الأمرِ، وعند (6) انقراضِ الدنيا؛ بدليلِ ما قال في (7) البخاريِّ في هذا الحديثِ: ((آخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيُنةَ))، قيل: معناه: آخرُ مَن يموتُ بها (8) فيُحشرُ؛ لأن الحشرَ بعدَ الموت. ويحتملُ: أن يتأخَّرَ حشرُهما لتأخيرِ (9) موتِهما.
قلتُ (10) : ويحتملُ أن يكونَ معناه: آخرُ من يحشرُ إلى المدينةِ؛ أي: يُساقُ إليها (11) ؛ كما في لفظِ كتابِ مسلمٍ. والله أعلم (12) .
ومن بابِ فضلِ المِنبَرِ والقبرِ والمسجدِ
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ما بين بيتي ومِنبَري روضةٌ من رياضِ الجنةِ)): الصحيحُ من =(3/502)=@
__________
(1) هذا من كلام القاضي عياض في "الإكمال" (4/508) ونقله النووي أيضًا بعد كلام الحربي، وصوَّب أن معناه: يجدانها ذات وحوش. وقال تبعًا للقاضي – عن الوحش -: ((وقد يعبر بواحدة عن جمعه)) يريد أن ((الوحش)) المفرد تعني ((الوحوش)) الجمع.
وفي "المصباح" (ص335).
أن ((الوحش)) و((الوحشي)) بمعنًى، ثم حكى عن الفارابي أن ((الوحش)) جمع ((الوَحْشيِّ)) فعلى هذا، يكون ما جاء في الحديث محمولاً على الجمع الأصلي، لا على المفرد المستعمل للدلالة على جنسه.
(2) في (ب) و(ح): ((إلى المدينة)).
(3) سقط من (ب) و(م).
(4) حكاه القاضي في "الإكمال" (/508) عن ابن المرابط، وأنكره، واختار الأول؛ أن الضمير عائد إلى المدينة؛ قال النووي في "شرح مسلم" (9/161): وهنا هو الصواب، وقول ابن المرابط غلط. والله أعلم.اهـ.
ونقل الحافظ في "الفتح" (؟؟؟/؟؟؟) كلام القاضي والنووي، وقول الشارح هنا: ((والقدرة صالحة لذلك)) فاهمًا منه أن الشارح يؤيد عود الضمير على ((الغنم)) قال الحافظ: ويؤيده أن في بقية الحديث: ((أنهما يخران على وجوههما إذا وصلا إلى ثانية الوداع)). وذلك قبل دخولهما المدينة بلا شك؛ فيدل على أنهما وجدا التوحش المذكور قبل دخول المدينة فيقوي أن الضمير يعود على غنمهما.
(5) في (ز): ((الراغبين)).
(6) في (ز): ((عند)) دون واو.
(7) سقط من (أ) و(ح) و(ز) و(ي).
(8) قوله : ((بها)) سقط من (ب).
(9) في (ز): ((لنا خير)).
(10) في (ب) و(م): ((قال الشيخ رحمه الله)) وفي (ز): ((قال الشيخ رضي اله عنه)).
(11) في (أ): ((إليهما)).
(12) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز). وقول الشارح نقله الأبي في ((شرحه)) (3/475).(3/502)
الرواية: ((بَيْتي))، ورُوي في غيرِ "الأم" (1) : ((قبري)) مكان ((بَيْتي))، وجعل بعض الناس هذا تفسيرًا لقوله: ((بيتي)). والظاهر (2) بيت سكناه. أو التأويلُ الآخرُ جائزٌ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - دفُن في بيتِ سُكناه (3) .
قال القاضي عياضٌ: أجمع المسلمون على أن موضعَ قبر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ بقاعِ الأرضِ كلِّها (4) .
وقد حَمل كثيرٌ من العلماءِ هذا الحديثَ على ظاهرِه؛ فقال: يُنقلُ ذلك الموضعُ بعينِه إلى الجنة. وقال بعضُهم: يحتملُ أن يريدَ به: أن العملَ الصالحَ في ذلك الموضعِ يؤدِّي بصاحبِه إلى الجنةِ (5) .
وقوله: ((ومنبري على حوضي)) حمله أكثرُهم على ظاهرِه؛ فقال: يكونُ منبرُه ذلك بعينِه على حوضِه. وقيل: إنَّ له على حوضِه منبرًا آخرَ غيرَ ذلك، أعظمَ وأشرفَ منه. وقيل معناه: أن ملازمَة (6) منبرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، لسماعِ الذكرِ والوعظِ والتعلُّم (7) ، يُفضِي (8) بصاحبِه إلى الورودِ على الحوضِ (9) .
وللباطنيةِ (10) في هذا الحديثِ من الغلوِّ والتحريفِ ما لا ينبغي أن يلتفتَ إليه. والأَوْلى (11) : التمسُّكُ بالظاهرِ؛ فقد جاء في "الصحيحِ": أن هنالك - أعني في أرضِ المحشرِ - أقوامًا على منابرَ، تشريفًا لهم وتعظيمًا؛ كما قال: ((إِنَّ المُقْسِطِين عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ =(3/503)=@
__________
(1) جاءت في بعض طرق الحديث غير المشهورة، وأكثر الروايات وما في "الصحيحين" وغيرهما بلفظ : ((بيتي))، وإنما رواه بعضهم بالمعنى فعَبَّر عن البيت بالقبر، وإلا فلم يكن هناك قبر حين حدث به - صلى الله عليه وسلم - ، ثمّ لو كان قال - صلى الله عليه وسلم - لكان معلومًا عند الصحابة فلم يختلفوا حين دّفْنهِ حتى تبينوا أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون .
ولمزيد من البحث ، انظر "قاعدة في التوسل والوسيلة" للإمام ابن تيمية (ص47)، ولمعرفة شذوذ هذه اللفظة انظر رسالة الماجستير المقدمة من الشيخ صالح الرفاعي "فضائل المدينة": الأحاديث الواردة في الروضة (ص456-484) ففيه بحث مستقصى . ***حذف هذا الهامش وكتب بجانبه ينظر ويوسع***.
(2) قوله : ((والظاهر)) جاء مكانه في (ح): ((وجعل بعض)).
(3) من قوله : ((والتأويل الآخر ....)) إلى هنا، سقط من (ب) و(م).
وما ذكره الشارح هنا حكاه القاضي في "الإكمال" (4/509) عن الطبري، ونقله عنه النووي في "شرح مسلم" (9/161). قال الحافظ في "الفتح" (4/100): قوله: ((ما بين بيتي ومنبري)) كذا للأكثر، ووقع في رواية ابن عساكر وحده ((قبري)) بدل ((بيتي))، وهو خطأ؛ فقد تقدم هذا الحديث في كتاب الصلاة قبيل الجنائز بهذا الإسناد بلفظ ((بيتي)) وكذلك هو في "مسند مسدد" شيخ البخاري فيه.اهـ.
وانظر "قاعدة في التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام (ص47).
[يوسع حديثيًّا وينقل من كلام الشيخ].
(4) "الإكمال" (4/511).
(5) نقله القاضي في "الإكمال" (4/509) عن المازري في "المعلم" (2/81) وذكره نحوه ابن عبد البر في "التمهيد" (2/287)، والباجي في "المنتقى" (1/341- 342) وحكاه عن الداودي؛ قال: يحتمل أن ينقل ذلك الموضع إلى الجنة فيكون من رياضها، ويحتمل أن يريد بذلك أن ملازمة ذلك الموضع والتقرب إلى الله تعالى فيه يؤدي إلى رياض الجنة؛ كما يقال: ((الجنة تحت ظلال السيوف)). وذلك يحتمل وجهين: أحدهما: أن اتباع ما يتلى فيها من القرآن والسنة، يؤدي إلى رياض الجنة؛ فلا يكون فيها للبقعة فضيلة إلا لمعنى اختصاص هذه المعاني دون غيرها. والثاني: أن يريد أن ملازمته ذلك الموضع بالطاعة والصلاة، يؤدي إلى رياض الجنة لفضيلة الصلاة في ذلك الموضع على سائر المواضع وهذا أبين؛ لأن الكلام إنما خرج على معنى تفضيل ذلك؛ الموضع، ويشبه أن يكون مالك – رحمه الله – تأول فيه هذا الوجه؛ ولذلك أدخله في باب واحد مع فضل الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصلاة في سائر المساجد.اهـ.
وقيل: المراد: كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذِّكر لاسيما في عهده - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون تشبيهًا بغير أداة؛ ذكر الحافظ في "الفتح" (4/100)، ثم ذكر احتمال إرادة أن العمل ذلك في الموضع يؤدي إلى الجنة، ثم احتمال أن يكون على ظاهره ثم قال: هذا حاصل ما أوّله العلماء في هذا الحديث، وهي على ترتيبها في القوة.اهـ.
وقال في (11/475) عن الوجه القاتل بأن المراد: أن العمل الصالح في ذلك الموضع يؤدي إلى الجنة-: وهذا فيه نظر؛ إذ لا اختصاص – لذلك بتلك البقعة على غيرها.اهـ.
(6) في (ح): ((ملازمته)).
(7) في (أ): ((التعليم)).
(8) في (ب): ((تفضي)). [هذه الحاشية شطبت في الهامش ولم تشطب من المتن].
(9) ذكر هذه الأقوال القاضي في "الإكمال" (4/509) ونقله عنه النووي في "شرح مسلم" (9/162)، وزاد الحافظ في "الفتح" (4/100) أن المنبر ينقل يوم القيامة فينصب على الحوض. قال: وهو أظهر.اهـ. وقال الباجي في "المنتقى" (1/342) عن القول بأن له منبرًا آخر على الحوض: ((وليس هذا بالبين؛ لأنه ليس في الخبر ما يقتضيه، وهو قطع الكلام عما قبله من غير ضرورة إلى ذلك)).اهـ.
(10) في (ي): ((وللبطانية)).
(11) في (م): ((والأول)).(3/503)
الْقِيَامَةِ)) (1) ، وإذا كان ذلك في أئمةِ العدلِ فأحرى الأنبياء (2) ، وإذا كان ذلك للأنبياء، فأحرى وأولى بذلك (3) نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - ؛ فيكونُ منبرُه بعينِه، ويزاد فيه ويعظَّم، ويرُفعُ، ويُنوَّرُ (4) ؛ على قدرِ منزلتِه - صلى الله عليه وسلم - ، حتى لا يكونَ لأحدٍ في ذلك اليومِ (5) منبرٌ (6) أرفعُ منه؛ إذ ليس في القيامةِ أفضلُ منه - صلى الله عليه وسلم - !
ومن باب فضل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الحرام (7)
وقوله: ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ في غيرِه من المساجدِ إلا المسجدَ الحرامَ))؛ اختلف في استثناءِ المسجدِ الحرام، هل ذلك لأن المسجدَ =(3/504)=@
__________
(1) سيأتي في باب فضل الإمام المقسط ، من كتاب الإمارة والبيعة .
(2) في (ز): ((بالأنبياء)). والمراد أن الأنبياء أولى بذلك من غيرهم، وأحرى الأمرين: أولاهما. وزيدٌ حَرَي أن يفعل كذا، وحَرِيٌّ، وحَرٍ. "المصباح" (ص72- 73).
(3) قوله: ((وأولى بذلك)) في (ز): ((بذلك وأولى)).
(4) قوله: ((وينور)) في (ز): ((وهو)).
(5) سقط من (ي).
(6) في (ب) و(ح) و(ن): ((منبرا)).
(7) كتب بجانبها في هامش الصفحة تراجع النسخ.(3/504)
الحرامَ أفضلُ من مسجدِه - صلى الله عليه وسلم - ، أو هو لأن المسجدَ الحرامَ أفضلُ من سائرِ المساجدِ غيرَ مسجدِه - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه أفضلُ المساجدِ كلِّها؟ وانجرَّ مع هذا الخلافِ الخلافُ (1) في أيُّ البلدين أفضلُ: مكةُ، أو المدينةُ؟
فذهب عمرُ (2) وبعضُ الصحابةِ (3) - رضي الله عنه - ومالكٌ وأكثرُ المدنيِّين: إلى تفضيلِ المدينةِ، وحملوا الاستثناءَ على تفضيلِ الصلاةِ في مسجدِ المدينةِ بألفِ صلاةٍ على سائرِ المساجدِ إلا المسجدَ الحرامَ، فبأقلَّ من الألفِ؛ واحتجُّوا بما قال عمرُ رضي الله عنه: ((صَلَاةٌ فِي المسجِد الحرامِ خيرٌ من مائةِ صلاةٍ فيما سواه)). ولا يقولُ عمر - رضي الله عنه - هذا من تلقاءِ نفسهِ، ولا من اجتهادهِ؛ إذ لا يُتوصَّلُ إلى ذلك بالاجتهادِ؛ فعلى هذا تكونُ فضيلةُ مسجدِ الرسولِ (4) - صلى الله عليه وسلم - على المسجدِ الحرامِ بتسعمائةٍ، وعلى غيرِه بألفٍ (5) .
وذهب الكوفيُّون، والمكيُّون، وابنُ وهبٍ، وابنُ حبيبٍ من أصحابنا: إلى تفضيلِ مكة (6) . واحتجُّوا بما زاده قاسمُ بنُ أصبغَ وغيرُه (7) في هذا الحديثِ من روايةِ عبدالله بن الزبيرِ – رضي الله عنهما - بعدَ قولهِ: ((إلا المسجدَ الحرامَ))؛ قال: ((وَصَلَاةٌ فِي المَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ)) (8) .
قِلتُ (9) : وقد رَوى هذا الحديثَ عبدُ بن حميدٍ، وقال فيه: ((بمائِة ألفِ صلاةٍ)) (10) ؛ وهذه (11) زياداتٌ منكَرةٌ، لم تشتهرْ (12) عند الحفَّاظ، ولا خرَّجها (13) أهلُ الصحيحِ. والمشهورُ المعلومُ: الحديثُ من غيرِ هذه الزياداتِ (14) ؛ فلا يُعوَّلُ عليها، وينبغي أن يجرَّدَ النظرُ إلى الحديثِ المشهورِ وإلى لفظِه (15) . ولا شكَّ أن المسجدَ الحرامَ =(3/505)=@
__________
(1) في (ز): ((اختلاف)).
(2) ذكر ابن عبدالبر في "التمهيد" (6/18) هذا القول وردَّه بالروايات الصريحة الصحيحة عن عمر بتفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمائة صلاة . وقال ابن عبدالبر : ((وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب ما يقطع الخلاف ويحسم التنازع))، ثم روى بإسناده حديث ابن الزبير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي)). اهـ.
وحديث ابن الزبير حديث صحيح أخرجه أحمد (16117)، وعبد بن حميد (521)، والبزار (425)، وابن حبان (1620) وغيرهم . وقال ابن عبد البر: اختلف على ابن الزبير في وقفه ورفعه، ونم رفعه أحفظ وأثبت ومثله لا يقال بالرأي.
(3) في (ز): ((أصحابه)).
(4) في (ي): ((رسول الله)).
(5) تأول هذا التأويل ابن نافع، ذكره عنه ابن عبد البر في "التمهيد" (16/18- 19)، والباجي في "المنتقى" (1/341)، والقول بأنه يفضله بـ((تسعمائة)) ذكره القاضي في "الإكمال" (4/511).
قال ابن عبد البر: وأما تأويل ابن افع فبعيد عند أهل المعرفة باللسان، ويلزمه أن يقول: إن الصلاة في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسعمائة ضعف وتسعة وتسعين ضعفًا، وإذا كان هكذا لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف، على تأويل ابن نافع. وحسبك ضعفًا بقول يئول إلى هذا. فإن حد حدًّا في ذلك (وهو ما فعله الشارح تبعًا لام في "الإكمال") – لم يكن لقوله دليل ولا حجة، وكل قول لا تعضده حجة ساقط.اهـ.
(6) في (ح) و(ي): ((مسجد مكة)). [شطبت هذه الحاشية من المتن وبقيت في مكانها ولم يعدلها].
(7) سقط من (ز).
(8) وهو الحديث المشار إليه آنفًا .
(9) في (ز): ((قال الشيخ))، وفي (ب): ((قال الشيخ رحمه الله)).
(10) الموجود في النسخ المطبوعة من "مسند عبد بن حميد": ((مائة صلاة)) كباقي الروايات المعروفة ، فلعلّه وقع للمؤلف رحمه الله نسخة فيها زيادة من الناسخ .
(11) في (ز): ((وهذا)).
(12) في (ز): ((يشتهر)).
(13) في (م): ((خرجه)).
(14) في (ب): ((الزيادة)).
(15) بل صحَّحها الحفاظ، وذكر ابن عبد البر في "التمهيد" (6/18) أن القول بأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من ا لصلاة في مسجد الرسول بمائة ألف صلاة، هو قول عامة أهل الأثر والفقه، ووصف رواة هذه الزيادة بأنهم ((الثقات)). وذكر في (6/33) حديث: ((والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ...)) وقال: هذا قاطع في موضع الخلاف.اهـ. قال الحافظ في "الفتح" (؟؟؟/؟؟؟) وقد رجع عن هذا القول كثير من المصنفين المالكية.(3/505)
مستثنًى من قولِه: ((من المساجدِ))؛ وهي بالاتفاقِ مفضولةٌ، والمستثنى من المفضولِ مفضولٌ إذا سُكت عليه (1) ؛ فالمسجدُ الحرامُ مفضولٌ، لكن لا يقالُ: إنه مفضولٌ بألفٍ؛ لأنه قد استثناه منها، فلا بدَّ أن تكونَ (2) له مزيَّةٌ على غيرِه من المساجدِ، لكن ما هي؟ لم يُعيَّنها الشرعُ، فيتوقَّفُ فيها، أو يُعتمدُ على قولِ عمر – رضي الله عنه - آنفًا (3) . ويدلُّ على صحةِ ما قلناه زيادةُ عبدِالله بن قارظٍ (4) بعدَ قولِه: ((إلا المسجدَ الحرامَ)): ((فإنِّي آخِرُ الأَنبِيَاءِ، وَمَسْجِدِي آخِرُ المَسَاجِدِ)) (5) ، فربط الكلامَ بـ ((فاءٍ التعليلِ)) مشعرًا بأن مسجده (6) إنما فَضُلَ على المساجدِ كلِّها؛ لأنه (7) متأخِّرٌ عنها، ومنسوبٌ إلى نبيٍّ (8) متأخِّرِ عن الأنبياءِ كلِّهم (9) في الزمانِ. فتدبرْه فإنه واضحٌ (10) .
وقولُه عن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما-: ((أن امرأةً اشتكتْ شَكوى (11) ))؛ جميعُ رواةِ مسلمٍ رَوَوْا (12) هذا الحديثَ من طريقِ الليثِ، عن نافعٍ، عن إبراهيمَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مَعْبِدٍ، عن ابنِ عباسٍ: أن امرأةً (13) . وقال النسائيُّ: ((روى هذا الحديثَ الليثُ، عن نافعٍ، عن إبراهيمَ، عن ميمونةَ. ولم يذكرِ (14) ابنَ عباسٍ)) (15) . وكذلك (16) البخاري: عن الليث (17) ، ولم يذكرْ فيه ابنَ عباسٍ (18) . وقال بعضُهم: صوابهُ: إبراهيمُ بن عبدِ الله بن مَعْبدِ بن عباسٍ؛ أنَّه قَالَ: ((إنْ امرأةً (19) اشتكت))، و((عَن ابن عباسٍ (20) )) خطأٌ، والصوابُ (21) : ((ابن)) بدلَ (22) ((عن)). والله أعلمُ (23) .
وقولُ ميمونةَ للمرأةِ التي نَذَرَتْ أَنْ تصلِّيَ في بيتِ المقدسِ: ((اجْلِسِي وصلِّى في مسجدِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - )) إنما أمرتها بذلك لأنها لو مَشَتْ إلى مسجدِ بيتِ المقدسِ؛ فصلَّتْ (24) فيه، حصل لها أقلُّ مما يحصلُ لها (25) في مسجدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وضيَّعتْ على نفسِها ألفَ صلاةٍ في مسجدِ الرسولِ، مع ما يلَحقُها من مشقَّاتِ =(3/506)=@
__________
(1) قوله : ((إذا سكت عليه)) سقط من (أ).
(2) في (ز): ((يكون)).
(3) قال الباجي في "المنتقى" (1/341): وأما الذي يقتضيه الاستثناء في هذا الموضع فأن يكون حكم مكة خارجًا عن أحكام سائر المواطن في الفضيلة المتقدمة في الخبر، ولا يعلم حكم مكة من هذا البخر؛ فيصح أن تكون الصلاة في مكة أفضل، ويصح أن تكون الصلاة في المدينة أفضل، ويصح أن يتساويا)).اهـ. ونقل الحافظ في "الفتح" (3/67) عن ابن بطال نحوه: مرجحًا المساواة، ثم قال الحافظ: وكأنه لم يقف على دليل أفضيلة مكة.
(4) قوله: ((بن قارظ)) في (ز): ((بن فارك))، وفي (ي): ((أبي قارظ)).
(5) "صحيح مسلم" (2/102 رقم 1394).
(6) قوله: ((ومسجدي آخر المساجد... مسجده)) في (ز): ((ومسجده)).
(7) في (ب) و(م): ((لأنها)).
(8) في (ز): ((شيء)) وقوله : ((متأخر عنها ومنسوب إلى نبي)) سقط من (ب)، و(م).
(9) في (ز): ((كلها)).
(10) قاله القاضي في "الإكمال" (4/512)؛ قال: وقوله عليه السلام في آخر الحديث من رواية ابن قارظ عن أبي هريرة... ظاهر جلي في تفصيل مسجده لهذه العلة.اهـ.
وانظر تفصيل الكلام في المسألة في "التمهيد" (6/17- 34)، و"شرح النووي" (9/163- 166)، و"فتح الباري" (3/67- 68).
(11) قوله: ((اشتكت شكوى)) في (م): ((اشكت شكوى)).
(12) في (أ): ((روى)).
(13) قوله : ((أن امرأة)) سقط من (أ).
(14) في (ب) و(ز) و(م): ((يذكروا)).
(15) "السنن الكبرى" (2/390 رقم3881).
(16) في (ز): ((وكذا)).
(17) قوله : ((عن الليث)) سقط من (ب) و(م).
(18) انظر "التاريخ الكبير" (1/302). وقال البخاري : ولا يصح فيه: ((ابن عباس)).
(19) في (ب): ((مرأة)).
(20) بعده في (ي) بياض بمقدار كلمة ، كتب فيه الناسخ ((صح)).
(21) في (ز): ((وصوابه)).
(22) في (ح) و(ي): ((بديل)).
والأولى أن يقال: والصواب إسقاط ((ابن)) ونحوُه. وعبارة القاضي في "الإكمال" (4/؟؟؟): وقال بعضهم: وصوابه: إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس، أنه قال: إن امرأة اشتكت. و((عن ابن عباس)) خطأ.
(23) جزم البخاري في "التاريخ الكبير" والنسائي بإسقاط ذكر ابن عباس من الإسناد ، وأن إبراهيم بن معبد سمعه من ميمونة مباشرة ، واستبعد ذلك ابن حبان في "الثقات" والمزي في "تحفة الأشراف" (12/485). وقال المزي : ((كلُّ ذلك - أي إسقاط ابن عباس - وهم ممن قاله)).اهـ.
(24) في (م): ((فضلت)).
(25) قوله : ((لها)) سقط من (أ).(3/506)
الأسفارِ وكثرةِ النفقاتِ؛ فرفعتْ عنها الحرجَ، وكثَّرتْ لها في الأجرِ.
وعلى (1) قياس هذا: فعند مالكٍ: إذا نذر المدنيُّ الصلاةَ في مسجدِ مكةَ، صلَّى في مسجدِ المدينةِ؛ لأنها (2) أفضلُ عندَه. ولو نذر المكيُّ الصلاةَ في مسجدِ المدينةِ أتاه. ولو نذر كلُّ واحدٍ منهما الصلاةَ في مسجِد (3) بيتِ المقدسِ صلَّى في مسجدِ (4) بلدِه؛ لأنه أفضلُ منه. قال الإمامُ أبو عبدالله: ذهب بعضُ شيوخِنا إلى ما قالتْ ميمونةُ (5) .
وقوله: ((صلاةٌ فيه أفضلُ من ألفِ صلاةٍ فيما سواه (6) ))؛ أي: في مسجدِ (7) المدينةِ.
واختلفوا: هل يرادُ بالصلاةِ هنا: الفرضُ، أو هو عامٌّ في الفرضِ والنفلِ؟ وإلى الأولِ ذهب الطحاويُّ، وإلى الثاني ذهب مُطرِّفٌ من أصحابِنا (8) .
وقوله: ((لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ)) قد قلنا: إن شدَّ الرِّحالِ كنايةٌ عن السفرِ البعيدِ. وقد فسَّر هذا المعنى في الروايةِ الأخرى التي قال فيها: ((إِنَّما (9) يُسَافَرُ إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدٍ)).
ولا شكَّ في أن هذه المساجدَ الثلاثةَ إنما خُصَّت بهذا لفضْلِها على سائرِ المساجدِ؛ فمن قال: ((لله عليَّ صلاةٌ في أحدها))، وهو في =(3/507)=@
__________
(1) في (ي): ((على))؛ بدون الواو.
(2) في (ح): ((لأنه)).
(3) سقط من (ي).
(4) سقط من (ي).
(5) "المعلم" (2/83). ومن قوله: ((وعلى قياس هذا...)) إلى آخر الفقرة، هو من كلام المازري أيضًا، غير ترتيبه الشارح. وقال المازري بعده: قال بعض شيوخنا: الأولى أن يأتي المدني مسجد مكة، والمكي مسجد المدينة؛ ليخرجا من الخلاف الذي وقع في فضل إحداهما على الأخرى.
(6) زاد بعدها في (م): ((من المساجد)).
(7) في (أ): ((المسجد)).
(8) قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/128): ((...إنما ذلك على الصلوات المكتوبات لا على النوافل)).اهـ.
وقال الباجي في "المنتقى" (1/341): وسئل مطرف عن هذه الفضيلة هل هي في النافلة أيضًا، قال: نعم؛ رواه ابن سحنون في تفسيره. قال: وقال لي عمر: جمعة (بها) خير من جمعة، ورمضان (بها) خير من رمضان.اهـ. وانظر: "الإكمال" (4/512).
(9) قوله: ((التي قال فيها إنما)) في (ز): ((إلى أن قال إنما)).(3/507)
غيرِها، فعليه إتيانُها، بَعُدَ أو قَرُب. فإن قال (1) : ((ماشيًا))، فلا يلزمُه المشيُ - على المشهورِ - إلا في مسجدِ مكةَ خاصَّة، وأما المسجدان الآخرانِ: فالمشهورُ: أنه لا يلزمُ (2) المشيُ إليهما مَنْ (3) نذرَهُ، ويأتيهما راكبًا. وقال ابنُ وهبٍ: ((يأتيهما ماشيًا، كما سمَّى)). وهو القياسُ؛ لأن المشيَ إلى مكةَ إنما لزم (4) من حيثُ كان قربةً مُوصلةً إلى عبادةٍ تُفعلُ في مسجد له حرمةٌ عظيمةٌ، فكذلك (5) يلزمُ كلُّ مشيٍ قربةٍ بتلك الصفةِ. ولا يلزمُه (6) المشيُ إلى سائرِ المساجدِ؛ لأن البعيدَ منها قد نُهي عن السفرِ إليه، والقريبةُ (7) منها (8) متساويةُ الفضيلةِ؛ فيصلِّي حيثُ شاء منها. وقد قال بعضُ أصحابِنا: إن كانْت قريبةً على أميالٍ يسيرةٍ، فيأتيها. وإن نذر أن يأتيهَا ماشيًا، أتى ماشيًا؛ لأن المشيَ إلى الصلاةِ طاعةٌ تُرفعُ به الدرجاتُ، وتُحطُّ به الخطايا. وقد ذهب القاضي إسماعيلُ إلى أن (9) من قال: ((عليَّ المشيُ إلى المسجدِ الحرامِ أصلي فيه (10) ))، فإنه يأتي راكبًا إن شاء، ويدخلُ مكةَ مُحْرِمًا. وأحلَّ المساجد الثلاثة (11) محلاً واحدًا (12) المساجد. وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ في النَّذرِ إن شاء الله تعالى.
وقوله - وقد سُئل عن أيِّ المسجدين الذي (13) أُسس على التقوى -: ((هو مسجدُكم هذا)) لمسجدِ (14) المدينةِ - يردُّ قولَ ابنِ عباسٍ؛ إذ قال: إنَّه مسجد قباءٍ (15) ؛ قال: لأنه أولُ مسجدٍ بُني في الإسلامِ. وهذا السؤالُ صَدَرَ مِمَّن ظهرتْ له =(3/508)=@
__________
(1) من قوله : ((لله علي صلاة في أحدها ....)) إلى هنا، سقط من (ح).
(2) في (ز): ((يلزمه)).
(3) في (أ): ((عن)).
(4) في (ح): ((يلزم)).
(5) في (م): ((وكذلك)).
(6) في (ب) و(ز) و(م): ((يلزم)).
(7) في (ي): ((والقريب)).
(8) سقط من (ب) و(م).
(9) سقط من (م).
(10) سقط من (ح).
(11) في (أ) و(ح) و(ز) و(ي): ((الثلاثة المساجد)) وهو جائز.
(12) أي: في سقوط المشي إليها وإن نطق به، إذا قصد الصلاة فيها. كما في "المعلم" (2/82). وهذه الفقرة كلها من كلام المازري.
(13) في (أ): ((الذين)).
(14) في (ز): ((مسجد)).
(15) أخرجه ابن جرير (14/478 رقم17212)، وابن أبي حاتم (6/1881-1882 رقم10076). كلاهما من طريق أبي صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله:{لمسجد أسس على التقوى}، يعني : مسجد قباء . وسنده ضعيف ؛ لضعف أبي صالح عبدالله بن صالح . وللانقطاع بين علي بن أبي طلحة ، وابن عباس . وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (4/288)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، والبيهقي في "الدلائل".(3/508)
المساواةُ بين مسجدين مُعينَّينِ، حصلت ْلهما مزيةٌ على غيرِهما من المساجدِ؛ بحيث يَصلُحُ أن يقالَ على كلِّ واحدٍ منهما: أُسِّس على التقوى؛ وذلك أنه رأى مسجدَ قباءٍ أولُ مسجدٍ بناه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه؛ وذلك أنه لما هاجر - صلى الله عليه وسلم - نزل على بني عمروِ بنِ عوفٍ في قباءٍ يومَ الإثنينِ، فأقام فيهم (1) أيامًا، وأسَّس فيها مسجدَ قباء، ثم إنه ارتحل عنهم يومَ الجمعةِ إلى بني سالمِ بنِ عوفٍ، فصلَّى عندهم الجمعةَ، وهي (2) أولُ جمعةٍ (3) جُمعت في الإسلامِ (4) ، ثم إنه دخل المدينةَ فنزلَ على بني مالكِ بنِ النجارِ (5) ، على أبي أيوبَ، فأسَّس مسجدهَ (6) بالمِرْبَدِ الذي كان للغلامَيْنِ اليتيمينِ، فاشتراه من الناظرِ لهم على ما تقدَّم في كتابِ الصلاةِ. فلما تساوى المسجدانِ المذكوران في بناءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه لهما، صار كلُّ واحدٍ من المسجدين مؤسَّسًا على التقوى؛ فلما قال الله تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - : {لَمَسْجِدٌ أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} (7) ، أَشْكل التعيينُ، فسُئل عن ذلك، فأجاب: بأنه (8) مسجدُ المدينةِ.
فإن قيل: إذا كان كلُّ واحدٍ منهما أُسس على التقوى؛ فما المزيةُ التي أوجبت (9) تعيينَ مسجد المدينة؟
قلنا: يمكنُ أن يقالَ: إن بناءَ مسجدِ قُبَاءٍ لم يكن بأمرٍ جَزْمٍ من الله تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ، بل نَدَب إليه، أو كان رأيًا رآه، بخلافِ مسجدِ المدينةِ، فإنه أُمر بذلك، وجَزَم عليه، فأسَّسه (10) امتثالَ الواجب؛ فكان بذلك الاسمِ أحقَّ. أو حصل له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه رضي الله عنهم من الأحوالِ القلبيةِ عند بنائهِ (11) ما لم يحصُلْ لهم عندَ غيرِه؛ فكان أحقَّ بذلك (12) . والله أعلم (13) .
ويلزمُ من تعيين النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجده لأن يكونَ هو المرادَ بقولِه تعالى: {لمسجد أسس علىا لتقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}: أن يكونَ الضميرُ في {فيه رجالٌ} عائدًا (14) على ((لَمَسْجِدٌ أُسَّسَ)) (15) ؛ لأنه لم يتقدمْه ظاهرٌ غيرُه يعودُ عليه، وليس الأمرُ كذلك؛ بدليلِ (16) ما رواه أبو داود من طريقٍ صحيحةٍ، عن =(3/509)=@
__________
(1) في (م): ((فيها)).
(2) في (ح): ((وهو)).
(3) تقرا في (ح): ((جمعية)) وعللها كانت ((جمعت)) ثم صوبها.
(4) ؟؟؟.
(5) بعدها في (ي) بياض بمقدار كلمتين.
(6) في (ز): ((مسجد)).
(7) سورة التوبة؛ الآية: 108.
(8) في (ي): ((أنه)).
(9) في (ي): ((أوجب)).
(10) في (ب) و(ح): ((فأسسه)).
(11) قوله : ((عند بنائه)) سقط من (أ).
(12) في (ز) و(ب) و(م): ((لذلك)).
(13) ورجح أيضًا ابن جرير الطبري، وابن عبد البر، والقاضي عياض، والنووي – أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لما ورد من الأحاديث في ذلك من لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - . قال ابن عبد البر: وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الذي أسس على التقوى أنه مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أثبت من جهة الإسناد عنه من قول من قال: إنه مسجد قباء. وجائز أن يكونا جميعًا أُسسا على تقوى الله ورضوانه، بل معلوم أن ذلك كان كذلك إن شاء الله.اهـ.
ورجح أبو حيان أنه مسجد قباء؛ وحكاه عن ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين، قال: وهو أولى؛ لأن الموازنة بين مسجد قباء ومسجد الضرار أوقع منها بين مسجد الرسول ومسجد الضرار، وذلك لائق بالقصة... ثم ذكر ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((هو مسجدي هذا)) ثم قال: وإذا صح هذا النقل لم يمكن خلافه.اهـ.
أما الحافظ ابن حجر، فحكى القول بأن المراد في الآية مسجد قباء، عن الجمهور، ثم نقل كلام الشارح هنا ثم قال: ويحتمل أن تكون المزية لما اتفق من طول إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمسجد المدينة، بخلاف مسجد قباء، فما أقام به إلا أيامًا قلائل، وكفى بهذا مزية من غير حاجة إلى ما تكلفه القرطبي. والحق أن كلاًّ منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} يؤيد كون المراد مسجد قباء... وعلى هذا فالسرُّ في جوابه - صلى الله عليه وسلم - بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده، رفعُ توهُّم أن ذلك خاص بمسجد قباء. والله أعلم. قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا؛ لن كلاً منهما أسس على التقوى. وكذا قال السهيلي، وزاد غيره: أن قوله تعالى: {من أول يوم} يقتضي أنه مسجد قباء؛ لأن تأسيسه كان في أول يوم حل النبي - صلى الله عليه وسلم - بدار الهجرة. والله أعلم.اهـ.
وفي ما قاله الحافظ رد آخر على ما سيتكلفه الشارح أيضًا من رَجْعِ الضمير في قوله تعالى: {فيه رجال...} إلى مسجد قباء، مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - . والجمع بما قاله الحافظ أولى من التكلف!
انظر: "تفسير الطبري" (14/475- 190)، و"البحر المحيط" (5/102)، و"التمهيد" (13/267- 268)، و"الإكمال" (4/518)، و"شرح النووي" (9/169)، و"فتح الباري" (7/244 – 245)
(14) في (ح): ((عائد)).
(15) قوله: ((لمسجد أسس)) في (ز): ((المسجد الذي أسس على التقوى)).
(16) سقط من (ح).(3/509)
أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نَزَلْتَ هَذِهِ الآيَةُ: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} (1) في أَهْلِ قُباءٍ؛ لأَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْماءِ (2) )) فعلى هذا يكونُ الضميرُ في {فيه رجال} عائدٍ على المسجدِ المذكور قبلَه، بل على ((مسجدِ قُباء))؛ الذي (3) دلَّت عليه الحالُ والمشاهدةُ عندَهم (4) ، وأما عندنا: فلولا هذا الحديثُ لحملناه على الأولِ. وعلى هذا يتعينُ على القارئِ أن يقفَ (5) على {فيه} من قولِه: {أحق أن تقوم (6) فيه}، ويبتدئ: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا}؛ ليحصل (7) به التنبيه (8) على ما ذكرناه (9) . والله تعالى أعلم.
وفي إتيانِه - صلى الله عليه وسلم - قباءً كلَّ سبتٍ (10) دليلٌ على جوازِ تخصيصِ بعضِ الأيامِ ببعضِ الأعمالِ الصالحةِ، والمداومِة على ذلك. وأصلُ مذهبِ (11) مالكٍ: كراهُة تخصيصِ شيءٍ من الأوقاتِ بشيءٍ من القُربِ إلا ما ثبت به توقيفٌ (12) . وقُباءٌ بينها وبين المدينةِ نحوُ ثلاثةِ (13) أميالٍ، فليستْ مما تُشدُّ إليها الرِّحالُ (14) ؛ فلا يتناولُها الحديثُ المتقدِّمُ الذِّكرِ (15) . وكونُه - صلى الله عليه وسلم - يأتيها راكبًا وماشيًا؛ إنما كان ذلك بحسَبِ ما اتفق له. وكان تعاهدُه لقباءٍ لفضيلةِ مسجدِها، ولتفقُّد أهلِها؛ اعتناءً بهم وتشريفًا لهم، وليس في تعاهدِه - صلى الله عليه وسلم - مسجدَ قباءٍ ما يدل على إلحاقِ مسجدِها بالمساجدِ الثلاثِة، كما ذهب إليه محمدُ بنُ مسلمةَ، كما قدَّمناه (16) .
و((قُباءٌ)): مُلحقٌ بـ((بعاثٍ))؛ لأنه من ((قَبَوْت)) أو ((قَبيت)) (17) ؛ فليست همزتُه للتأنيثِ، بل للإلحاقِ (18) ؛ فلذلك صُرِف (19) . والله تعالى أعلم. =(3/510)=@
كمل كتاب الحج بحمد الله، يتلوه كتاب الجهاد (20)
__________
(1) سورة التوبة؛ الآية: 108.
ووقع في (م): ((المتطهرين))، وهي قراءة علي بن أبي طالب. انظر: "البحر المحيط" (5/103)، و"البدر المصون" (6/123).
(2) تقدم في باب ما يستنجى به والنهي عن الاستنجاء باليمين، من كتاب الطهارة.
(3) ((الذي)) من (ز) فقط، وفي سائر النسخ: ((التي)).
(4) قوله: ((والمشاهدة عندهم)) في (ب): ((والمشاهد بعدهم)).
(5) في (ز): ((تقف)).
(6) في (م): ((يقوم)).
(7) في (ب): ((فيحصل))، وفي (م): ((فتحصل)).
(8) في (م): ((التثنية)).
(9) في (ح): ((ذكرنا)).
(10) في (م): ((سبب)).
(11) تقرأ في (ب): ((مذهبنا)).
(12) قوله: ((ما ثبت به توقيف)) في (ح) و(ي): ((ما ثبت بدليل))، وفي (م): ((ما ثبت فيه توقيف)).
(13) في (ي): ((ثلاثة)).
(14) قوله: ((إليها الرحال)) في (ح): ((الرحال إليها)).
(15) قوله : ((الذكر)) من (أ).
(16) في (ح) و(م): ((قدمنا)).
(17) قوله: ((قبوت)) أو ((قبيت)) في (ز): ((فتوت أو فتيت)).
(18) في (م): ((للحاق)).
(19) في (ز): ((صرفه)) وانظر "معجم ما استعجم" (4/1045- 1046)، و"المقصور والممدود" للقالي (ص؟؟؟)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (3/286).
(20) من قوله : ((كمل ....)) إلى هنا، من (أ) فقط وفي (ز): ((تم كتاب الحج بعون الله تعالى وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد وآله)).(3/510)
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
وصلَّى اللهُ عَلَى محمدٍ وَعلى آلهِ (2)
كتابُ الجهادِ (3)
بابُ التأميرِ علي الجيوشِ
قوله: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سريةٍ، أوصاه في خاصتِه بتقوى الله)) فيه من الفقِه: تأميرُ الأمراءِ، ووصيتهُم. وقد تقدَّم القولُ في الجيشِ (4) ، والسَّريةِ. قال الحربيُّ: السَّريةُ: الخيلُ تَبلُغُ أربعَمائةٍ ونحوها (5) . و((تقوى الله)): التحزُّزُ بطاعتِه من عقوبتِه.
وقوله: ((ومن معه من المسلمين خيرًا))؛ أي: ووَصَّاه (6) بمَنْ معه منهم (7) أن يفعلَ معهم خيرًا. =(3/511)=@
__________
(1) البسملة ليست في (ب) و(ي).
(2) قوله: ((وصلى الله على محمد وعلى آله)) من (أ)، وفي (ز): ((رب اختم بالخير)). وفي (م): ((صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصبحه وسلم تسليمًا)).
(3) كتب الشيخ نصر الهوريني في حاشية (م) ما نصه: ((الذي في "صحيح مسلم" ذكر كتاب الجهاد بعد باب استحباب خلط الأزواد، قبيل كتاب الصيد. كتبه نصر الهوريني في رجب بالأزهر سنة 1270.
(4) في (م): ((الجيوش)).
(5) قال النووي في "صحيح مسلم" (12/37): السرية قطعة من الجيش تخرج منه تغير وترجع إليه... قالوا: سميت ((سرية))؛ لأنها تسري في الليل ويخفي ذهابها، وهي ((فعيلة)) بمعنى ((فاعلة))؛ يقال: سرى وأسرى: إذا ذهب ليلاً.اهـ. وانظر: "مشارق الأنوار" (2/214)، و"الإكمال" (5/31).
(6) في (م): ((وصاه)) وفي (ي): ((أوصاه))، كلاهما دون واو العطف.
(7) في (ب) و(ح) و(م): ((من المسلمين)).(3/511)
وقوله: ((اغْزوا باسم الله))؛ أي: اشْرَعُوا في فعلِ الغزوِ مستعينين بالله، مخلِصين له.
وقوله: ((قاتلوا من كفر بالله)) هذا العمومُ يشملُ جميعَ أهلِ الكفرِ، المحاربين وغيرَهم، وقد خَصصَ منه (1) مَنْ له عهدٌ، والرُّهبانَ، والنِّسوانَ، ومَنْ لم يبلغِ الحُلُمَ؛ وقد قال متصلاً به: ((وَلَا تَقْتَلُوا وَلِيدًا))؛ وإنما نهى عن قتلِ الرهبانِ والنسوان (2) ؛ لأنهم (3) لا يكون منهم قتالٌ غالبًا، فإن (4) كان منهم قتالٌ أو تدبيرٌ أو أذًى قُتلوا؛ ولأن الذراريَّ والأولادَ مالٌ (5) ، وقد نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعةِ المالِ (6) .
وقوله: ((ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تَمْثُلوا (7) )): الغُلُولُ: الأخَذُ من الغنيمةِ من غيرِ قَسْمِها (8) ، والغَدْرُ: نقضُ العهدِ. والتمثيلُ هنا: التشويهُ بالقتيلِ؛ كجَدْع أنفِه وأذنِه، والعبثِ به (9) . ولا خلافَ في تحريمِ الغُلولِ والغدر، وفي كراهةِ الْمُثلةِ.
وقوله: ((وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادعُهم إلى ثلاثِ (10) خلالٍ، أو =(3/512)=@
__________
(1) قوله: ((منه)) سقط من (أ)، وفي (ز) و(ي): ((منهم)).
(2) قوله: (( الرهبان والنسوان)) في (ب) و(ز) و(م): ((الرهبان والنساء)). وفي (ي): (الولدان والنسوان)).
و((النِّساء)) و((النِّسوان)) – بكسر النون – و((النِّسوة)) بضمها وكسرها – جموعُ ((المرأة)) من غير لفظها. "القاموس المحيط" (4/395).
(3) في (ب): ((لأنه)).
(4) في (م): ((وإن)).
(5) في (ز): ((مالي)).
(6) سيأتي في باب الاعتصام بحبل الله وأن الحاكم المجتهد له أجران في الإصابة، وأجر في الخطأ من كتاب الأقضية برقم (1807 و1808).
(7) علق على هذه الكلمة في حاشية (ب) بقوله: ((بفتح المثناة، وسكون الميم، وضم الثاء)).
(8) في (ب) و(م): ((قسمتها)).
(9) سقط من (ي).
(10) في (ي): ((ثلاثة)).(3/512)
خصال))؛ الرواية ُبـ((أو)) التي للشكِّ، وهو من بعضِ الرواةِ. ومعنى الخلالِ والخصالِ واحدٌ.
وقولُه: ((فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم)) قيَّدناه (1) عَمَّن يُوثقُ بعلمِه وتقييده (2) ، بنصب ِ((أيتَهنَّ)) على أن يعملَ فيها ((أجابوك)) على إسقاطِ حرفِ الجرِّ، و((ما)) زائدةٌ؛ ويكونُ تقديرُ الكلامِ: فإلى أيتِهن أجابوكَ فاقبلْ منهم؛ كما تقول (3) : أجبتُك (4) إلى كذا، وفي (5) كذا)) فيتعدَّى إلى الثاني بحرفِ الجرِّ (6) .
وقولُه: ((ثم ادعهم إلى الإسلام)) كذا وقعتِ الروايةُ في جميعِ نسخِ كتابِ مسلمٍ: ((ثم ادعهم (7) )) بزيادةِ ((ثم))، والصوابُ إسقاطُها (8) ، كما رُوي في غيرِ كتابِ مسلمٍ؛ كـ"مصنف أبي داود" (9) ، و"كتاب الأموال" (10) لأبي عبيدٍ؛ لأن ذلك هو (11) ابتداءُ تفسيرِ الثلاثِ (12) الخصالِ.
وقوله: ((ثم ادعهم إلى التحول من دارهم (13) إلى دار المهاجرين))؛ يعني: المدينة (14) . وكان هذا في أولِ الأمرِ، في وقتِ وجوبِ الهجرةِ إلى المدينةِ على كلِّ من دخلَ في الإسلامِ، أو على أهل مكةَ خاصَّةً (15) . في ذلك خلاف. وهذا يدلُّ على أنَّ الهجرةَ كانتْ واجبةً على كلِّ مِن آمن مَن (16) أهلِ مكةَ وغيرها. وسيأتي إيعابُ ذلك. =(3/513)=@
__________
(1) في (ز): ((قيدنا)).
(2) سقط من (ي).
(3) في (ب): ((يقول)).
(4) في (ز) و(م) و(ي): ((أجيبك))، وفي (ب) تقرأ: ((أجيئك)).
(5) في (ب) و(ز) و(ي): ((أو في)).
(6) وقال الأُبيُّ (5/46): ((أيتهن)) مبتدأ، و((ما)) زائدة، والعائد محذوف، تقديره: ((إليها)). وجاز حذفه كقوله: (السمن مَنَوان بدرهم)) فإن قلتَ: إنما جاز حذفه في قضية ((السمن)) لأن حذفه لا يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعة عنه، و((أجاب)) (هنا)) متعدٍّ. قلتُ: وإن كان متعديًّا فقد أخذ مفعوله وهو الكاف، إلا أن يقال: إنه متعد إلى اثنين وإنما أخذ أحدهما فما زال طالبًا للثاني؛ ففيه التهيئة والقطع، فيرجع النظر في ((أجاب)) هل يتعدى إلى واحد أو اثنين.اهـ.
وما قاله الشارح أولى؛ قال "اللسان" (1/283): تقول: أجابه عن سؤاله وقد أجابه إجابة...)).
وفي "معجم الأفعال المتعدية بحرف" (ص40): أجاب سؤاله وعن سؤاله وإلىّ سؤاله رد له الجواب.
يقال: أجابه إلى حاجته؛ أي: ارتاح إلى قضائها.
(7) قوله: ((ثم ادعهم)) سقط من (ب).
(8) وكذا قال القاضي عياض في "المشارق" (2/328)، و"الإكمال" (6/32) وقال عن ((ثم)): ((زائدة مقحمة)). ونقل في "الإكمال" قول المازري في "المعلم" (3/10): ((وقوله: ((ثم ادعهم إلى الإسلام)) لفظ يوهم أنه غير الثلاث الخصال التي أجملها أولاً؛ لذكره لفظة ((ثم)). وإنما دختلت ههنا لافتتاح الكلام والأخذ في تفسير الخصال الأول.اهـ.
وقد نقل النووي في "شرح مسلم" كلام القاضي والإمام، ولم يرجح. والصواب قول المازري؛ فإن ((ثم)) تأتي في اللغة للابتداء، إما اصطلاحًا؛ أي يأتي بعدها المبتدأ والخبر، أو ابتداء الكلام. مثال الأول قوله تعالى: {قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون} [الأنعام: 64]، ومثال الثاني قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} [المؤمنون: 14- 16]. قال المالقي: وقد يرجع هذا إلى عطف الجمل، إذا كان الجملتان في كلامٍ واحد، وذلك بحسب إرادة المتكلم، والأظهر في الجمل الانفصال في المراد إلا حيث يدل الدلي على أن المقصود الكلام واحد.اهـ.
وانظر: "رصف المباني" للمالقي (ص173- 174)، و"الجنى الداني" للمرادي (ص431- 432).
(9) في "سننه" (3/83-85 رقم1612) باب في دعاء المشركين، من كتاب الجهاد.
(10) (ص28 رقم60).
(11) قوله: ((ذلك هو)) في (ز): ((سهو)).
(12) في (ح): ((الثلاثة)).
(13) قوله: ((من دارهم)) سقط من (ح).
(14) في (ي): ((أهل المدينة)).
(15) سقط من (ي).
(16) سقط من (ز).(3/513)
وقوله: ((فإن أبوا أن يتحوَّلوا فأخبرهم: أنهم يكونون كأعراب المسلمين (1) ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء؛ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين))؛ يعني: أن (2) مَن أسلم ولم يجاهد (3) ولم يهاجر، لا يُعطى من الخمسِ ولا من الفَيْءِ شيئًا، وهذا يتمشَّى على مذهبِ مالكٍ في قسمةِ الخمسِ والفيءِ؛ إذ يرى أن ذلك موكولٌ لاجتهادِ (4) الإمامِ، يضعُه حيثُ يَراه (5) من المصالحِ الضروريةِ، والأمورِ المهمةِ، ومنافعِ المسلمين العامَّةِ، ويُؤْثِرُ فيه الأحوجَ فالأحوجَ، والأهمَّ فالأهمَّ، ولا شكَّ أن المهاجرين كانوا في ذلك الوقتِ أولى به من غيرِهم من المسلمين الذين لم يُهاجروا وأقاموا في بلادِهم؛ فإنَّ المهاجرين خرجوا من بلادِهم (6) وأموالهم لله تعالى، ووصلوا إلى المدينةِ فقراءَ، ضعفاءَ، غرباءَ (7) ؛ فلا شكَّ في أنهم الأولى.
قال القاضي عياضٌ (8) : ولذلك كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُؤْثرُهم بالخمُس على الأنصارِ غالبًا، إلا أن يحتاجَ أحدٌ من الأنصارِ.
وقد أخذ الشافعيُّ بهذا الحديثِ في الأعراب (9) ؛ فلم يَرَ لهم شيئًا من الفَيْءِ، وإنما لهم الصدقةُ المأخوذةُ من أغنيائهِم وتُردُّ على فقرائِهم، كما أنَّ أَهل الجهادِ وأجنادَ المسلمين لا حقَّ لهم في الصدقةِ عندَه، ويُصرفُ كلُّ مالٍ في أهلِه.
وسوَّى مالكٌ وأبو حنيفةَ – رحمهما الله - بين المالين، وجوَّزا صرفَهما للصنفين.
وذهب أبو عبيدةَ (10) إلى أن هذا الحديثَ منسوخٌ، وأن هذا كان حكمَ من لم يهاجرْ (11) أولاً؛ في أنه (12) لا حق له (13) في الفيْءِ، ولا في الموالاةِ للمهاجرِ، ولا موارثتِه؛ قال =(3/514)=@
__________
(1) من قوله: ((وقوله: فإن أبوا...)) إلى هنا، مكرر في (ب) و(م)، لكنه في (ب) ضرب على المكرر، وأدخل كلمة ((وقوله)) في الضرب مرتين!.
(2) سقط من (ي).
(3) قوله: ((ولم يجاهد)) من (ز) فقط.
(4) في (ح): ((إلى اجتهاد)).
(5) في (أ) و(ب) و(ح) و(م): ((رآه)).
(6) قوله: ((فإن المهاجرين خرجوا من بلادهم)) سقط من (ي)، وفي (ز): ((ديارهم)) بدل ((بلادهم)).
(7) في (ز): ((عريا)).
(8) في "الإكمال" (6/32- 33). وما سبق من كلام الشارح، وما سيأتي في الفقرة التالية، هو من كلام القاضي أيضًا، في الموضع نفسه.
(9) في (ح): ((الأغراب)).
(10) قوله: ((وذهب أبو عبيدة)) كذا في جميع النسخ، وفي "الإكمال" (6/33): ((وذهب أبو عبيد)). وهو الصواب، وانظر "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص224- 225).
(11) في (ز): ((تهاجر)).
(12) قوله: ( (في أنه)) في (م): ((فانه)).
(13) في (أ): ((لهم)).(3/514)
الله تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} (1) ، ثم نسخ (2) ذلك بقولِه تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} (3) ، وبقولِه - صلى الله عليه وسلم - بعدَ فتحِ مكةَ: ((لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ)) (4) ، وبقولِه - صلى الله عليه وسلم - : ((المُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ (5) عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ)) (6) ، وهذا فيه بُعْدٌ. وسيأتي بيانُ حكمِ الخمسِ والفيءِ والغنيمةِ، إن شاء الله تعالى.
ومحملُ (7) الحديثِ عندَ أصحابِنا المالكيين على ما تقدَّم من مذهبِ مالكٍ، رحمه الله تعالى.
وقوله: ((فإن هم أبوا فسلهم (8) الجزية))؛ حجَّةٌ لمُالكٍ وأصحابه، والأوزاعيِّ، في أخذِ الجزيةِ من كلِّ كافرٍ، عربيًّا كانَ أو غيرَه (9) ، كتابيًّا كان أو غيره (10) . وذهب أبو حنيفة: إلى أنها تُقبلُ من الجميعِ إلا من مشركِي العربِ ومجوسِهم. وهو قولُ عبدِالملكِ (11) وابنِ وهبٍ من أصحابِنا. وقال الشافعيُّ - رحمه الله تعالى -: لا تُقبلُ (12) إلا من أهلِ الكتابِ- عربًا كانوا أو عجمًا، ولا تقبلُ من غيرِهم، والمجوسُ عندَه أهلُ كتابٍ.
واخُتلف في استرقاقِ العربِ: فعند مالكٍ، والجمهورِ (13) : أنهم كغيرِهم؛ يُسترقُّون حيث كانوا. وعند أبي حنيفةَ، والشافعيِّ (14) : لا يُسترقُّون، إما أن يُسلموا، أو يقتلوا. وهو قولُ بعضِ أصحابِنا، غيرَ أن أبا حنيفة (15) : يَسْترِقُّ النساءَ والصغارَ.
وقد (16) اختُلف في القَدرِ المفروضِ من الجزيةِ؛ فقال مالكٌ: هو أربعةُ دنانيرَ على أهلِ الذهبِ، وأربعون درهمًا على أهل الوَرِقِ. وهل يُنقصُ منها للضعيفِ (17) أو لا؟ قولانِ.
وقال الشافعيُّ: هي (18) دينارٌ على الغنيِّ والفقيرِ.
وقال أبو حنيفةَ والكوفيُّون: على الغنيِّ ثمانيةٌ وأربعون درهمًا، والوسطِ: أربعةٌ وعشرون درهمًا (19) ، =(3/515)=@
__________
(1) سورة الأنفال؛ الآية: 72. وقوله: ((حتى يهاجروا)) من (ي) فقط.
(2) قوله: ((ثم نسخ)) في (ي): ((ونسخ)).
(3) سورة الأنفال؛ الآية: 75.
(4) تقدم في كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها، وشجرها ولقطتها برقم (1212)، وسيأتي في الإمارة والبيعة، باب لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية وعمل صالح برقم (1438).
(5) زاد بعدها في (ح): ((واحدة)). وانظر مصادر التخريج.
(6) رُوي من حديث علي، وعبدالله بن عمرو، وابن عباس، وعائشة، ومَعْقِل بن يسار:
أما حديث علي: فأخرجه أحمد (1/119 و122)، والنسائي (8/20 و24 رقم4735 و4745 و4746) في القسامة، باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس، وأبو يعلى (1/424-425 رقم562)؛ ثلاثتهم من طريق قتادة، عن أبي حسان، عن علي، فذكره .
وهذا سند رجاله ثقات، إلا أن قتادة مدلس، لم يصرح بالسماع. ورواية أبي حسان مسلم بن عبدالله عن علي مرسلة؛ على ما قاله أبو حاتم وأبو زرعة؛ كما في المراسيل لابن أبي حاتم (ص216 رقم815 و816)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (2/198-199 رقم959). وقال الألباني في "الإرواء" (4/251): ((بسند صحيح على شرط مسلم)).
وقد توبع أبو حسان على روايته؛ فأخرجه أبو داود (4/666-669 رقم4530) في الديات، باب: أيقاد المسلم بالكافر؟ والنسائي (8/19-20 رقم4734) في الموضع السابق، والبزار (2/290-291 رقم714)، وأبو يعلى (1/462 رقم628)، والطحاوي (3/192)، وفي "شرح مشكل الآثار" (3/272 رقم1243) و(15/123 رقم5889)، والحاكم (2/141)، والبيهقي (7/133-134) من طريق أبي داود، والبغوي في "شرح السنة" (10/172 رقم2531) - جميعهم من طريق يحيى بن سعيد القطان، وأخرجه البزار (2/2901 رقم713) من طريق حماد بن زيد، وأخرجه أبو يعلى (1/282 رقم338)، والبيهقي (8/29)، كلاهما من طريق يزيد بن زريع.
وأخرجه الحاكم (2/141) من طريق روح بن عبادة، وعبدالوهاب الخفاف - خمستهم – (يحيى بن سعيد، وحماد بن زيد، ويزيد بن زريع، وروح بن عبادة، وعبدالوهاب الخفاف)، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة، عن علي، فذكره .
قال البزار: ((وهذا الحديث قد روي عن علي من غير وجه، وهذا الإسناد أحسن إسناد يروى في ذلك وأصحه، ولا نعلم أسند قيس بن عبادة عن علي إلا حديثين، هذا أحدهما)).اهـ.
وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وحسنه الحافظ في" الفتح" (12/261)، وقال الألباني في "الإرواء" (7/267): ((رجاله ثقات رجال الشيخين)).
وأما حديث عبدالله بن عمرو: فأخرجه الطيالسي (ص299 رقم2258)، وأحمد (2/180 و192 و211 و215)، وأبو داود (3/183-185 رقم2751) في الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر، و(4/670 رقم4531) في الديات، باب: أيقاد المسلم بالكافر؟ وابن ماجه (2/895 رقم2685) في الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم، وابن الجارود (3/85 رقم330 رقم771 و1703/غوث)، وابن خزيمة (4/26 رقم2280)، والبيهقي (8/29)، والبغوي في "شرح السنة" (10/172-173 رقم2532) - جميعهم من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، فذكره.
وحسنه الحافظ في الفتح (12/261)، والألباني في تعليقه على ابن خزيمة .
وأما حديث ابن عباس: فأخرجه ابن ماجه (2/895 رقم2683) في الموضع السابق، عن محمد بن عبدالأعلى الصنعاني، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكره .
وصحح إسناده الألباني في "الإرواء" في تعليقه على "المشكاة" (2/1033 رقم3476).
وفي الباب من حديث عائشة: أخرجه أبو يعلى (8/197-198 رقم4757)، والدارقطني (3/131)؛ كلاهما من طريق عبيدالله بن عبدالمجيد، عن عبيدالله بن عبدالرحمن بن موهب، عن مالك بن محمد بن عبدالرحمن، عن عمرة، عن عائشة، فذكرته مطولاً.
قال الهيثمي في "المجمع" (6/458): ((ورواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح، غير مالك بن أبي الرجال، وقد وثقه ابن حبان، ولم يضعفه أحد)).
ومالك بن أبي الرجال: قال أبو حاتم - كما في "الجرح والتعديل" (8/216 رقم962)-: ((هو أحسن حالاً من أخويه: حارثة وعبدالرحمن)).
وبيَّض له البخاري في "التاريخ الكبير" (7/315-316 رقم1345)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (9/164).
وفي سنده أيضًا: عبيدالله بن عبدالرحمن بن موهب؛ وثقه العجلي، وابن معين في رواية، وضعفه في أخرى، وقال النسائي: ليس بذاك القوي. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن عدي: حسن الحديث يكتب حديثه. وفي"التقريب" (ص461 رقم4343): ليس بالقوي .
والراجح من حاله: أنه صدوق .
وعن معقل بن يسار: أخرجه ابن ماجه (2/895 رقم2684) في الموضع السابق، والطبراني في "الكبير" (20/206 رقم471)، والبيهقي (8/30)؛ ثلاثتهم من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن أنس بن عياض، عن عبدالسلام بن أبي الجنوب، عن الحسن، عن معقل بن يسار، فذكره .
قال الهيثمي في "المجمع" (9/457): ((وفيه عبدالسلام بن أبي الجنوب، وهو ضعيف)).
ولا يصح للحسن سماع من معقل بن يسار؛ قاله أبو حاتم؛ كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص42 رقم136).
(7) في (ب): ((ويحمل)).
(8) ؟؟؟.
(9) قوله: ((كأن أو غيره)) في (ي): ((كأن أو غير عربي)). وهو مطموس في (ز)، وموضع الطمس لا يتسع لهذه العبارة، فلعله فيها إلى جانب الطمس سقطًا.
(10) قوله: ((كتابيا كان أو غيره)) سقط من (ي).
(11) قوله: ((وهو قول عبد الملك وابن وهب من أصحابنا)) في المطبوع من "الإكمال" (6/34- 35): ((وهو قول ابن وهب من أصحابنا وعند مالك أنها لا تقبل من مجوس العرب)) كذا في مطبوعه، وفي النسخة الخطية: ((وعبد الملك أنها...)). وكذلك نقلها عنه الأبي في "شرحه" (5/45) مرتين، وذكر في "المنتقى" (2/173) ذلك القول عن ابن وهب فقط، وقال في "الذخيرة" (3/452) وروي عن مالك استثناء الفرس،... لأنهم لا كتاب لهم. واستثنى ابن الجهم كفار قريش....، واستثنى ابن وهب مجوس العرب، وعبد الملك والشافعي من ليس بكتابي، وأبو حنيفة مشركي العرب.اهـ. وانظر أيضًا "التاج والإكليل" (3/380). ولو سلمنا صحة ما في النسخة وما نقله الشارح والأبي، وتكون عبارة القاضي مشكلةً؛ حيث كان حقه أن يقول: ابن وهب وعبد الملك من أصحابنا، وعلى ذلك أيضًا يكون قوله: ((أنها لا تقبل من مجوس العرب)) تكرارًا، وإن قلنا: إن الصواب ما في المطبوع؛ فلم يذكر لنا المحقق من أين حصل عليه، ولم يشر إلى ما في النسخ! وأيضًا تكون كلمة ((وعند)) مصحفة أيضًا من ((وعن))؛ لأن قول مالك المشهور أخذها من كل كافرٍ مطلقًا، أما عدم قبولها من مجوس العرب، فلعله رواية عنه. وحق لشيخ الأبي: عبد الله بن ؟؟؟ أن يقول ما شق على...
(12) في (ب): ((لا يقبل)).
(13) قوله: ((والجمهور)) في (ي): ((وغيره)).
(14) سقط من (أ).
(15) زاد بعده في (أ): ((والشافعي)).
(16) قوله: ((قد)) سقط من (أ) و(ب).
(17) في (ي): ((الضعيف)).
(18) في (ز): ((هو)).
(19) قوله: ((درهمًا)) سقط من (ح).(3/515)
والفقير: اثنا عشرَ درهمًا (1) . وهو قولُ أحمدَ بنِ حنبلٍ. ويزاد (2) وينقصُ على قدرِ طاقتهِم (3) .
وهي عندَ مالكٍ وكافِة العلماءِ: على الرجالِ الأحرارِ، البالغينَ، العقلاءِ، دون غيرِهم. وإنما تؤخذُ ممن كان تحتَ قهرِ المسلمينَ، لا مِمَّن نأى بدارِه. ويجبُ (4) تحويلهُم إلى بلادِ المسلمينَ، أو حربهم (5) .
وقوله: ((وإذا حاصرت أهل حصن...)) الكلامَ إلى آخرهِ - فيه حجَّةٌ لمن يقولُ من الفقهاءِ وأهلِ الأصولِ: إن المصيبَ في مسائلِ الاجتهادِ واحدٌ، وهو المعروفُ من مذهبِ مالكٍ وغيرهِ. ووجهُ الاستدلال (6) : هو (7) أنه - صلى الله عليه وسلم - قد نَصَّ على أن لله تعالى حُكمًا معيَّنًا (8) في المجتهَداتِ، فمن وافقه فهو المصيبُ، ومن لم يوافقْه فهو المخطئْ (9) .
وقد ذهب قومٌ من الفقهاءِ والأصوليين إلى أن كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، وتأوَّلوا هذا الحديثَ بأن قالوا: إن معناه: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُوصي أمراءَه بألا (10) يُنزلوا الكفارَ على حكمِ ما أنزل الله على نبيِّه في حالِ غَيبةِ الأمراءِ عنه (11) ، وعدمِ علمِهم به (12) ؛ فإنهم لا يَدْرون إذا فعلوا ذلك: هل يُصادفون حكمَ ما أنزلَ الله على نبيِّه أم لا؟ وفي هذا التأويلِ بُعْدٌ وتعسّفٌ (13) . واستيفاءُ المباحثِ في هذهِ المسألةِ في علمِ الأصولِ.
وقوله: ((وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك (14) أن تجعل لهم ذمة الله...)) الحديثَ إلى آخرهِ: ((الذمةُ)): العهدُ. و((تُخْفِروا)): تَنْقُضُوا، وهو رُباعيٌّ؛ يقال: =(3/516)=@
__________
(1) ((درهما)) من (ي) فقط.
(2) في (ز): ((وتزاد)).
(3) في (ي): ((طاعتهم)).
(4) في (ب): ((وتجب)).
(5) في (أ): ((حزبهم)).
(6) قوله: ((ووجه الاستدلال)) في (ز): ((ووالاستدلال)).
(7) سقط من (ي).
(8) في (أ): ((مغيبًا)).
(9) قوله: ((يوافقه فهو المخطئ)) كلمة ((فهو)) من (ز) فقط، وكلمة ((المخطئ)) من (ح) فقط، وفي سائر النسخ: ((مخطئ)).
(10) في (ح): ((ألا)).
(11) في (ز): ((عنهم)).
(12) سقط من (ز).
(13) ذكره المازري في "المعلم" (3/10- 11) لكنه قال: إنه يجيب عن هذا من يقول من أهل الأصول: ليس لله جلت قدرته حكم يطلب في مسائل الفروع حتى يُخطأ مرة ويصاب أخرى، سوى ما أرى المجتهد إليه اجتهاد، فهو حكمه الله تعالى.اهـ. ثم ذكر ما ذكره الشارح بمعناه. وعند النووي (12/40) نحو ما هنا، وجمعها الأبي في شرحه (7/50)، عن المازري والنووي.
(14) في (م): ((فإن أدوك)).(3/516)
أَخفرتُ الرَّجلَ (1) : نقضتَ عهدَه، وخفَرتُه: أجرتَه.
ومعناه: أنه خاف من نقضِ مَنْ لا يعرفُ حقَّ الوفاءِ بالعهدِ، كجَهَلَةِ الأعرابِ؛ فكأنه يقولُ: إنْ وَقَع نقضٌ من متعدٍّ، كان تقضُ عهدِ الخلقِ أهونَ من نقضِ عهدِ اللهِ تعالى.
والله تعالى أعلمُ.
وقولُ نافع ِ- وقد سُئل عن الدعوةِ قبلَ القتالِ -: ((إنها كانت في أولَ (2) الإسلامِ))، واستدلالُه بقضيةِ بني المُصْطلَقِ؛ يفهمُ منه: أن حكمَ الدعوةِ كان متقدِّمًا، وأنه منسوخٌ بقضيةِ بني المصطَلِقِ. وبه تمسَّك من قال بسقوطِ الدعوةِ مطلقًا. =(3/517)=@
__________
(1) في (ز): ((لرجل)).
(2) سقط من (ح).(3/517)
ومنهم من ذهب إلى أنَّها واجبةٌ مطلقًا، متمسِّكًا (1) بظاهرِ وصيةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك أمراءَه، ولم تصلحْ عنده قضيةٌ بني المصطلقِ لأَنْ تكونَ ناسخةً لذلك (2) ؛ لأن تلك الوصايا (3) تقعيدٌ (4) قاعدةٍ عامةٍ، وقضيةُ بني المصطلقِ قضيةٌ في عينٍ؛ ولأن الوصيةَ قولٌ، وقضيةُ بني المصطلقِ فعلٌ، والفعلُ لا ينسخُ القولَ على ما يُعرفُ في الأصولِ.
والذي يَجمعُ بين هذه الأحاديثِ صريحُ مذهبِ مالكٍ؛ وهو أنه قال: لا يُقاتَلُ (5) الكفارُ قبلَ أن يُدْعَوْا، ولا تُلتمسُ (6) غِرَّتُهم، إلا أن يكونوا ممن (7) بلغتْهم الدعوةُ؛ فيجوزُ أن تؤخذَ غِرَّتُهم (8) . وعلى هذا فيُحملُ حديثُ بني المصطلقِ: على أنهم كانوا قد بلغتْهم الدعوةُ، وعَرَفوا ما يطلبُه المسلمون منهم. وهذا الذي صار إليه مالكٌ هو الصحيحُ؛ لأن فائدة الدَّعوةِ أن يعرفَ (9) العدُّو أن المسلمين لا يقُاتِلون للدنيا ولا للعصبيةِ، وإنما يُقاتِلون للدِّينِ، وإذا علموا (10) بذلك أمكنَ أن يكونَ ذلك سببًا مُمِيلاً لهم إلى الانقيادِ للحقِّ (11) ، بخلافِ ما إذا جَهلوا مقصودَ المسلمين، فقد يَظنُّون أنهم يقاتلِون للملك، وللدنيا (12) ، فيزيدون عُتُوًّا وتعصبًا.
وقوله: ((أغار عليهم))؛ أي: أرسلَ عليهم الغارةَ، وهي الخيلُ التي تُغيرِ في أولِ النهارِ. و((غارُّون)): غافلون. و((الغِرُّة)): الغفلةُ. و((الأنعام)): الإبلُ، والبقرُ، والغنمُ. و((المقاتِلة)): الصَّالحون للقتالِ المُطِيقون له. و((السَّبي)): الذَّراريُّ، والنِّساءُ.
وقوله: ((وأصاب يومئذ، قال يحيى: أَحسَبه قال: جويريةَ، أو قال: ابنةَ =(3/518)=@
__________
(1) في (ب) و(م): ((تمسكًا)).
(2) سقط من (ب) و(م).
(3) في (ب) و(ز) و(م): ((القضية)).
(4) تقرأ في (ب): ((تفيد)) والنقط غير واضح.
(5) في (ب): ((تقاتل))، وفي (ح): ((تقاتلوا)).
(6) في (ز): ((يلتمس)) وفي (ي): ((تجوز)).
(7) سقط من (ح).
(8) ذكره الباجي في "المنتقى" (3/169). وانظر الأبي (5/44).
وذكر أن هذه رواية العراقيين عن مالك. قال: وفي "المدونة" روايتان عن مالك؛ قال ابن القاسم: لا يبيتون، غزوناهم نحن أو أقبلوا إلينا غزاة، حتى يدعوا. قال: وقد قال مالك أيضًا: الدعوة ساقطة عمن قارب الدار لعلمهم بما يدعون إليه. وأما من شُك في أمره فخيف ألا تبلغه الدعوة فإن الدعوة أقطع للشك وأنزه للجهاد.اهـ. وانظر "شرح الأبي" (5/44).
(9) في (ز): ((تعرف)).
(10) في (ب) و(ح) و(م): ((أعلموا)).
(11) في (ح): ((الحق)).
(12) في (ي): ((والدنيا)).(3/518)
الحارث)). هكذا صوابُ هذه (1) الروايةِ؛ بإسقاط: ((البتة)) (2) . وقد غلط فيها بعضُ النَّقلةِ، فظن أن يحيى إنما شك (3) في اسمِ ابنةِ (4) الحارثِ: هل هو (5) ((جويريةُ)) أو ((البتةُ))؟! وحمله على ذلك الأخذُ بظاهرِ ذلك (6) اللفظِ المصحَّفِ (7) ، وهو غلطٌ فاحشٌ؛ لأنه لم يذهبْ أحدٌ من الناسِ (8) إلى أن اسمَ ابنةِ الحارثِ هذه: البتةُ. وإنما (9) يحيى بن يحيى شكَّ في سماعِ اسمِ (10) جويريةَ (11) ، ثم بَتَّ القضيةَ، وحقَّق السَّماعَ لاسمِها؛ بدليلِ قولِه في الروايةِ الأخرى: ((جويريةَ (12) ابنةَ (13) الحارثِ)) ولم يشكَّ (14) . والله أعلمُ.
فرعٌ: إذا قُتل مَنْ أُمر بدعوتِه من (15) قبلِ أن يُدعى، فهل على قاتِله ديةٌ، أم لا؟ فذهب مالكٌ وأبو حنيفةَ: إلى أنه لا ديةَ عليه؛ لأنه حلالُ الدَّم بأصلِ الكفرِ، ولم يتجدَّدْ من جهتِه ما يُوجبُ حرمةَ دمِه؛ فبقي (16) على الأصل؛ لعدمِ الناقلِ، ولا يصلحُ المنعُ من قتالهِم قبلَ الدعوةِ مُوجبًا لحرمتِهم، كما لم يَصلُحْ ذلك موجبًا لحرمِة نسائهِم وأبنائِهم. والله تعالى أعلمُ (17) . =(3/519)=@
__________
(1) سقط من (ي).
(2) قوله: ((بإسقاط البتة)) سقط من (أ).
وقوله: إن صواب الرواية بإسقاط هذه اللفظة، فيه نظر؛ فإنها من قول يحيى، وضرورية؛ حيث إنه بذكرها قطع شكه وبتَّ الرواية على الصواب؛ كما قال القاضي في "المشارق" (1/77)، و"الإكمال" (6/28). وكما سيظهر من كلام الشارح بعد وإنما الخطأ في الرواية جعل ((البتة)) اسمًا لابنة الحارث.
كما سيأتي. وقد قال القاضي عياض: كذا قيدنا هذا الحرف في كتاب مسلم عن جميعهم ((البتة)) بياء بواحدة مفتوحة، بعدها تاء باثنتين فوقها مشددة.
(3) كتب هنا في (أ) ما نصه: ((حاشية: معنى ذلك أن الراوي يحيى بن يحيى النيسابوري، شك في هذه اللفظة ((جويرية)): هل تحقق سماعها، أو إنما سمع ((ابنة الحارث)). وكان يحيى هذا كثيرًا ما يعرض له الشك في بعض الألفاظ؛ لكثرة تحرِّيه؛ ولأجل ذلك كان يُلقَّب بـ((الشكَّاك)). وقد غلط في هذا بعض الفضلاء غلطًا عجيبًا؛ فكتب في كتابه ((أليته)) بفتح الهمزة وكسر اللام وبعدها ياء، وظنه اسمًا، وأن شك يحيى بن يحيى إنما هو في نفس الاسم لا في إثباته أو سقوطه؛ قاله شيخنا المنذري.
لكن الناسخ كتبه في متن النسخة، وكتب في آخره ((إلى) لينبه على انتهاء الحاشية، ووضع ذلك بعد قوله: ((إنما شك في)) ثم أعاد ((شك في)) ليصل الكلام!.
(4) في (ز): ((بنت)).
(5) في (ب) و(ز) و(م): ((هي)).
(6) سقط من (أ).
(7) قوله: ((المصحف)) مثبت من (أ) فقط.
وقد أهمل القاضي في "الإكمال" اسم من وقع في هذا التصحيف، وكذلك لم يذكر كيف صحفه، وقد ذكر ذلك كله في "المشارق"؛ قال: ورأيت أبا عبد الله بن أبي نصر الحميدي في مختصره ضبطه ((ألبته))بكسر اللام بعدها ياء باثنتين تحتها.. وهو تصحيف لا شك فيه.اهـ.
وعلى هذا فإن لفظة ((البتة)) في قول الشارح: ((هل هو جيرية أو البتة)) مصحف على ((ألبته)) الذي ضبطه القاضي. وواضح أن الشارح إنما نقل كلام القاض في "الإكمال" دون ما في "المشارق"؛ حيث وقع في مخطوط "الإكمال" ومطبوعه: ((وقد رأيت بعض عظماء أهل الحديث من المصنفين سقط في هذا الحديث سقوطًا عجيبًا، قال: فضبطه في كتابه البتة، وجعله اسمًا لجويرية وهو وهم وتصحيف لا شك فيه.اهـ.
(8) قوله: ((من الناس)) سقط من (ي).
(9) في (ح): ((فإنما)).
(10) سقط من (ز).
(11) في (أ): ((جويرة)).
(12) في (أ) و(ب) و(م): ((جويرة)).
(13) في (ز): ((ابنت)).
(14) قوله: ((ولم يشك)) سقط من (أ).
(15) سقط من (ب) و(ز) و(م).
(16) في (ب) و(م): ((فيبقى)).
(17) من قوله: ((فرع إذا قتل من...)) إلى هنا، سقط من (ي).(3/519)
ومن باب النهي عن الغدر
قوله: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له)) هذا منه - صلى الله عليه وسلم - خطابٌ للعربِ بنحوِ ما كانت تفعلُ؛ وذلك أنهم كانوا (1) يرفعون للوفاءِ رايةً بيضاءَ، وللغدرِ رايةً سوداءَ؛ ليُشْهِروا به الوفيّ (2) ؛ فيعظِّموه ويمدَحوه، والغادرَ؛ فيذُمُّوه (3) ، ويلوموه (4) بغدرِه. وقد شاهدْنا هذا عادةً مستمِرةً فيهم (5) إلى اليومِ.
فمقتضى هذا الحديثِ: أن الغادَر يُفعلُ به مثلُ ذلك؛ ليشهر (6) بالخيانِة والغدرِ؛ فيذُمُّه أهلُ الموقفِ. ولا يبعدُ أن يكونَ الوفيُّ بالعهدِ يُرفع له لواءٌ يُعرفُ به وفاؤه وبِرُّه؛ فيمدحُه أهلُ الموقفِ (7) ؛ كما يُرفعُ لنبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لواءُ (8) الحمدِ (9) ؛ فيحمدُه كلُّ من في الموقفِ (10) .
وقوله: ((بقدر غُدرته))؛ يعني: أنه (11) إن كانت غُدرتُه (12) كبيرةً عظيمةً رُفع له لواءٌ كبيرٌ عظيمٌ مرتفعٌ، حتى يعرفَه (13) بذلك مَنْ قَرْب منه ومن بَعُدَ. =(3/520)=@
__________
(1) قوله: ((كانوا)) سقط من (أ) و(ح) و(ز) و(ي).
(2) في (ح): ((الولي)).
(3) في (ز): ((ويذمره)).
(4) في (أ): ((يلومونه)).
(5) قوله: ((عادة مستمرة فيهم)) في (ز): ((فيهم عادة مستمرة)).
(6) في (ي): ((ليشتهر)).
(7) من قوله: ((ولا يبعد أن...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(8) من قوله: ((يعرف به وفاؤه وبره ....)) إلى هنا، سقط من (ح).
(9) روي هذا عن جماعة من الصحابة :
1 - أنس: أخرجه أحمد (3/144 و144-145)، والدارمي (1/27-28) في المقدمة، باب ما أعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفضل. كلاهما من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( إني لأول الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر ...)) الحديث .
قال الألباني في "الصحيحة" (4/100): ((وسنده جيد، رجاله رجال الشيخين)).
2 - ابن عباس: أخرجه الطيالسي (ص 353 رقم2711)، وأحمد (1/281 و295)، وأبو يعلى (4/213-216 رقم2328)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/481) من طريق الطيالسي وغيره. جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة، فحمد الله وأنى عليه، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...، فذكره بمعناه .
قال الهيثمي في "المجمع" (10/372-373): ((رواه أبو يعلى وأحمد، وفيه: علي بن زيد، وقد وثق عَلَى ضعفه، وبقية رجالهما رجال الصحيح)).
وقد رُوي من وجهٍ آخر عن أبي سعيد الخدري؛ أخرجه أحمد (3/2)، وابن ماجه (2/1440-1441 رقم4308) في الزهد، باب ذكر الشفاعة؛ كلاهما من طريق هشيم، وأخرجه الترمذي (5/288-289 رقم3148) في التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، من طريق سفيان؛ كلاهما - هشيم، وسفيان - عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، فذكره .
قال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح. وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أبي نضرة، عن ابن عباس)).
3 – عبد الله بن سلام: أخرجه أبو يعلى (13/480-481 رقم7493) عن عمرو الناقد، عن عمرو بن عثمان الكلابي، عن موسى بن أعين، عن معمر بن راشد، عن محمد بن عبدالله بن أبي يعقوب، عن بشر بن شفاف، عن عبدالله بن سلام، فذكره بمعناه. ومن طريقه أخرجه ابن حبان (14/398 رقم6478/الإحسان).
قال الهيثمي في "المجمع" (8/456): ((ورواه أبو يعلى والطبراني، وفيه: عمرو بن عثمان الكلابي، وثقه ابن حبان عَلَى ضعفه، وبقية رجاله ثقات)).
وعمرو هذا تركه النسائي، وقال أبو حاتم: يتكلمون فيه، كان شيخًا أعمى بالرقة يحدّث الناس من حفظه بأحاديث منكرة لا يصيبونه في كتبه، أدركته ولم أسمع منه، ورأيت من أصحابنا من أهل العلم من قد كتب عامة كتبه لا يرضاه، وليس عنده بذاك. "تهذيب الكمال" (22/147-149 رقم4409).
وفي "التقريب" (ص741 رقم5109): ((ضعيف وكان قد عمي)). وصحح إسناده الألباني في تحقيقه على كتاب "السنة" لأبي عاصم (ص356 رقم793)، وفي "الصحيحة" (4/101).
(10) نقل هذه الفقرة بتصرف، الحافظ في "الفتح" (6/284).
(11) سقط من (ز).
(12) في (ح): ((غدرة)).
(13) في (ح): ((يعرقه)) وفي (ز): ((يعرف)).(3/520)
وقوله: ((عند استه))؛ معناه- والله أعلم-: عندَ مقعِده؛ أي: يلزمُ اللِّواءُ به (1) ، بحيثُ (2) لا يقدرُ على مفارقتِه (3) ، ليمرَّ به الناسُ فيرَوْه، ويعرفُوه، فيزدادَ خجلاً (4) ، وفضيحةً عندَ كل من مرَّ به (5) .
وقوله:((ولا غادر أعظم من أميرِ عامةٍ))؛ يعني: أن الغدرَ في حقِّه أفحشُ، والإثمَ عليه أعظمُ منه على غيرِه؛ لعدمِ حاجتهِ إلى ذلك. وهذا كما قاله - صلى الله عليه وسلم - في الملك الكذَّاب، كما تقدم في كتاب الإيمان (6) . وأيضًا: فلما في غدرِ الأئمةِ من المَفْسَدةِ؛ فإنهم إذا غدروا وعُلم ذلك منهم، لم يأمنْهم العدوّ على عهدٍ، ولا صلحٍ، فتشتدُّ شوكتُه، ويعظمُ ضررُه، ويكونُ ذلك منفِّرًا من الدخولِ في الدينِ، وموجبًا لذمِّ أئمةِ المسلمينْ (7) .
وَقَدْ مَالَ أَكثرُ العلماءِ إلى أنه لا يُقاتَلُ مع الأميرِ (8) الغادرِ، بخلافِ الخائنِ والفاسقِ. وذهب بعضهم إلى الجهادِ معه. والقولان في مذهبِنا. والله تعالى أعلم.
فأما إذا (9) قلنا: لم يكن للعدوِّ عهدٌ، فينبغي أن يُتحيَّلَ (10) على العدوِّ بكلِّ حيلةٍ، وتدار (11) عليهم كلُّ خديعةٍ، وعليه يحملُ (12) قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ((الْحرَبْ خَدْعَةٌ)) بفتحِ الخاءِ وسكونِ الدالِ، وهي لغةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وهي مصدرُ((خَدَعَ)) المحدودُ (13) ؛ ((كغَرفْةٍ))، و((خَطْوةٍ)) - بالفتحِ فيهما - ومعناه: أن الحربَ تكونُ (14) =(3/521)=@
__________
(1) قوله: ((اللواء به)) تقرأ في (ز): ((للوآيه)).
(2) في (ي): ((حيث)).
(3) من قوله: ((عند مقعده ....)) إلى هنا، سقط من (ح).
(4) في (م): ((خجلة)).
(5) قال الحافظ في "الفتح" (6/284): قال ابن المنير: كأنه عومل بنقيض قصده؛ لأن عادة اللواء أن يكون على الرأس، فنُصب عند السفل؛ زيادة في فضيحته؛ لأن الأعين غالبًا تمتد إلى الألوية فيكون ذلك سببًا لامتدادها إلى التي بدت له ذلك اليوم؛ فيزداد بها فضيحة.اهـ..
(6) تقدم في باب من لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه، من كتاب الإيمان برقم (83).
(7) وذكر القاضي عياض "الإكمال" (6/284) في هذا، احتمالين؛ أحدهما ما ذكره الشارح؛ وهو النهي عن أن يغدر الإمام والثاني: أن المراد النهي عن الغدر بالأئمة، والخروج عليهم وشق العصا؛ قال: كما جاء في الحديث الآخر في الثلاثة الذين لا يكلمهم الله: ((ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا للدنيا؛ فإن أعطى له ما يريد وضفَى له، وإلا لم يف)).اهـ. قال النووي في "شرح مسلم" (12/44): ((والصحيح الأول). وقال الحافظ في "الفتح" (6/284) بعد نقل كلام القاضي: قلت: (أي الحافظ): ولا أدري ما المانع من حمل الخبر على أعم من ذلك وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب الفتن حيث أورده المصنف (البخاري) فيه أتم مما هنا، وأن الذي فهمه ابن عمر راوي الحديث هو هذا والله أعلم.اهـ.
دليل الحافظ ظن أن القاضي يذكر الاحتمالين في قوله: ((لكل غادر لواء يوم القيامة...))، وليس كذلك؛ لأن هذا عام فعلاً، أما ما عناه القاضي والنووي، فهو في قوله ص: ((ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة))؛ لأنه ذكره بعد قوله السابق، فترجح التخصيص، وبقي النظر في الاحتمالين، والصحيح ما صححه النووي. والله أعلم.
وانظر "فتح الباري" (13/68- 69) كتاب الفتن، باب: إذا قال عند قوم شيئًا ثم خرج فقال بخلافه.
(8) في (ي): ((الإمام)).
(9) في (ز) و(ي): ((إذا قلنا)).
(10) في (ز): ((يتخيل)).
(11) في (م): ((ويدار)).
(12) في (أ) و(ز) و(ي): ((محمل)).
(13) في (ح): ((المجدود)).
(14) في (م): ((يكون)).(3/521)
ذاتَ (1) خَدْعةٍ. فوضعَ المصدرَ موضعَ الاسمِ؛ أي: ينبغي أن يستعملَ فيها الخداعُ ولو مرَّةً واحدةً (2) .
ويحتملُ: أن يكونَ معناه: أن الحربَ تتراءَى لأخفاء الناسِ بالصورةِ المستحسنةِ، ثم تتجلَّى (3) عن صورةٍ مستقبحةٍ (4) ؛ كما قال الشاعرُ:
الْحَرْبُ أَوْلُ مَا تَكُونُ (5) فُتَنَّةً ... تَسْعَى (6) بِبِزَّتِهَا (7) لِكُلِّ جَهُولِ (8)
وقال الآخرُ (9) :
وَالْحَربُ (10) لَا يَبْقَى (11) ِلجَـ ... ـحِمِهَا (12) التَّخَيُّلُ والمِرَاحُ (13)
وفائدةُ الحديثِ على هذا: ما قاله (14) في الحديثِ الآخرِ: ((لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلوُا اللهَ العَافِيَةَ)).
وقد رُوي هذا الحرفُ ((خُدْعَة (15) )) بضمِّ الخاءِ وسكونِ الدالِ، وهو اسمُ ما يُفعلُ به الخِداعُ؛ كـ((اللُّعْبة)) لما يُلعَبُ به، و((الضُّحْكةِ)) لمن (16) يُضحكُ منه (17) . فكأنها (18) لما أُوقِع (19) فيها الخداعُ خُدِعتْ هي في نفِسها (20) . ورُوي: ((خُدَعة)) بضمِّ الخاءِ وفتحِ الدالِ؛ أي: هي التي تفعلُ ذلك، لِتَخْدَعَ (21) أهلَها، على ما تقدم. و((فُعَلة)) تأتي (22) بمعنى الفاعلِ؛ كـ((ضُحَكة))، و((هُزَأة)) (23) ، و((لُمَزة))، للذي يفعلُ ذلك (24) . والله تعالى أعلمُ. =(3/522)=@
__________
(1) في (ي): ((ذا)).
(2) قال ثعلب عن ((خَدعْة)) بضم الخاء وسكون الدال: ذُكر أنها لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال الخطابي: وهي أجودها. وقال الجوهري: خَدْعة وخُدْعة، والفتح أفصح. وقال عياض: وهي أفصح اللغات. وقال ابن الأثير: وهو أفصح الروايات وأصحها. وقال النووي: اتفقوا على أنها أفصحها. وقال الحافظ: وبذلك جزم أبو ذر الهروي والقزاز. قال القاضي: قال ثعلب: وقال بعضهم: معناه أنها تخدع أهلها؛ وصف الفاعل باسم المصدر. وقيل يحتمل أن يكون وصفًا للمفعول؛ كما قيل درهم ضرب الأمير؛ أي: مضروبه.
ومعنى أنها ((ذات خَدْعة)) واحدة؛ أي: ينقضي أمرها بخدعة واحدة؛ فمن خُدع فيها مرة لم يقل العثرة بعدها. وخطأ ابن درستويه ثعلبًا في قوله إنها لغة النبي؛ قال: لأنها ليست بلغة قوم دون قوم، بل هي كلام الجميع.اهـ.
قال الحافظ: قال أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلب أن النبيَّ كان يستعمل هذه البنية كثيرًا؛ لو جاز لفظها ولكونها تعطى معنى البنيتين الأخيرتين. (أي: خُدْعة وخُدَعة). قال: ويعطى معناها أيضًا الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن ولو مرة، وإلا فقاتل، قال: فكانت مع اختصارها كثير المعنى.اهـ. وقيل: الحكمة في الإتيان بالتاء؛ للدلالة على الوحدة؛ فإن الخداع إن كان من المسلمين فكأنه حضهم على ذلك ولو مرة واحدة، وإن كان من الكفار فكأنه حذرهم من مكرهم ولو وقع مرة واحدة؛ فلا ينبغي التهاون بهم؛ لما ينشأ عنهم من المفسدة ولو قل.اهـ.
انظر: "شرح الفصيح" لابن هشام اللخمي (ص127- 128)، "إسفار الفصيح" (2/602)، "تصحيح الفصيح" (ص263- 264)، "أعلام الحديث" (2/1432)، "معالم السنن" (3/433)، "غريب الحديث" للخطابي (2/166)، "الإكمال" (6/42)، "مشارق الأنوار" (1/231)، "النهاية" (2/14)، "شرح النووي" (7/169)، (12/45)، "الفتح" (6/158).
(3) في (أ) و(م) (ي): ((تنجلي)).
(4) في (م): ((مستحسنة)). وهذا المعنى هو الذي أشار إليه القاضي بأنه وصف الفاعل باسم المصدر؛ أي: هي التي تفعل ذلك. وانظر التعليق السابق ومصادره.
(5) في (ب) و(م): ((يكون)).
(6) في (ي): (يسعى)).
(7) في (ي): ((ببزتلها)) غير منقوطة.
(8) البيت من بحر الكامل، وهو أول ثلاثة أبيات، وبعده:
حتى إذا استْعرتْ وشُبَّ ضِرامُها ... عادت عجوزًا غيرَ ذاتِ حِليلِ
شمطاءَ جَزَّتْ رأسَها وتنكْرتْ ... مكروهةً للشمِّ والتقبيلِ
واختلف في نسبة هذه الأبيات، فهي في ديوان عمرو بن معد يكرب الزبيدي، ونسبها إلى سيبويه في "الكتاب"، والسرافي في "شرح أبيات سيبويه"، وبن سيده في "المحكم"، وصاحب الحماسية البصرية فيها، والبطليوسي في "شروح سقط الزند"، والمبرد في "الكامل" (حكاه عنه الحافظ في "الفتح") ونقل عن السهيلي في "الروض الأنف" جزمه بذلك. ونُسبت الأبيات أيضًا لامرئ القيس، وهي في ملحق ديوانه، ونسبت إليه في "صحيح البخاري"، وفي "تاريخ دمشق" أن عَمرًا أنشدها من شعر امرئ القيس؛ حيث قال عَمرو لعُمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سأله عُمر عن الحرب -: وإنها لكما قال عمي امرؤ القيس... ثم ذكر الأبيات.
وقوله: ((فتية)) قال القاضي عياض: تصغير ((فتاة)) وضبطه الأصيلي ((فتية)) بفتح الفاء، وهما بمعنًى، والأول أشهر في الرواية وأصوب؛ لاسيما مع قوله في البيت الثاني: ((ولت عجوزًا...)).
وقوله: ((أول ما تكون فتية)) يجوز فيه أربعة أوجه: رفع ((أول)) ونصب ((فتية)) فـ((الحرب)) مبتدأ و((أول)) مبتدأ ثان و((فتية)) حال سدت مسد الخبر، والجملة خبر ((الحرب)). ومن عكس فتقديره: ((الحرب في أول أحوالها فتية))؛ فـ((الحرب)) مبتدأ و((فتية)) خبرها و((أول)) منصوب على الظرف. ومن رفعهما فالتقدير: ((الحرب أول أحوالها)) فـ((أول)) مبتدأ ثان أو بدل من ((الحرب)) و((فتية)) خبر. ومن نصبهما جعل ((أول)) ظرفًا و((فتية)) حالاً، ,التقدير: ((الحرب في أول أحوالها إذا كانت فتية)) و((تسعى)) خبر عنها؛ أي: ألحرب في حال ما هي فتية؛ أي: في وقت وقوعها يفر من لم يجربها حتى يدخل فيها فتهلكه وقوله: ((ببزتها)) يروى: ((بزينتها)) من الزينة، والبزة اللباس الجيد.
وشاهد الشارح في معنوي؛ وذلك أن الحرب إنما يُعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت، فأما إذا أقبلت فإنها تزين ويظن أن فيها خيرا فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء صار ذلك مبينًا لهم مضرتها وواعظًا لهم أن يعودوا في مثلها.
وانظر: ديوان عمرو بن معد يكرب (ص154- 155)، وملحق ديوان امرئ القيس (ص353)، وصحيح البخاري، كتاب الفتن، باب الفتن تموج كموج البحر، قبل الحديث (7096)، و"فتح الباري" (13/49)، وكتاب سيبويه (1/401- 402)، و"شرح أبيات سيبويه" (1/293)، (2/178)، و"المحكم" (1/70)، و"الحماسة البصرية" (1/66)، و"شروح سقط الزند" (4/1638)، و"الكامل" (؟؟؟/؟؟؟)، و"لسان العرب" (8/64)، و "تاج العروس" (11/84) (خدع)، و "تاريخ دمشق" (46/387)، و "العقد" (1/94)، والبيت بلا نسبة في "مجمع الأمثال" (1/144)، و "مشارق الأنوار" (2/146)، و "المقتضب" (3/251)، و"لسان العرب" (15/147)، و "النهاية" (3/412)، و "شرح الحماسة" للمرزوقي (ص252، 368، 408)، و "عيون الأخبار" (1/210)، و "الشعر والشعراء" (1/373).
(9) قوله: ((وقال الآخر)) سقط من (ح) وفي (ي) و(م): ((وقال آخر))، وفي (أ): ((وقال)) فقط.
(10) في (ب) و(ز) و(م): ((الحرب)).
(11) في (م): ((تبقى)).
(12) في (ب) و(ز) و(م): ((لحاجمها))، وفي (ي): ((لجامحها)).
(13) في (ز) و(ي): ((التخبل والمزاح)).
والبيت من بحر الكامل، وهو لسعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة جد طرفة بن العبد، من قصيدة قالها في حرب البسوس يعرِّض فيها بالحارث بن عُباد لما اعتزل الحرب، يقول فيها:
يا بؤسَ للحرب التي ... وضعت أراهطُ فاستراحوا
والحرب لا يبقى لجا ... حمها التخيل والمِراحُ
إلا الفتى الصبار في النْـ ... ـنَجدات والفرس الوَقاحُ
والنَّثْرَةُ الحَصداءُ والْـ ... ـبَبْضُ المُكَلَّلُ والرِّماحُ
و((يبقى)): يصمد ويصبر. و((الجاحم)): التوقد والالتهاب. و((التخيل)): الخيلاء. و((المِراح)): المرح واللعب. يقول: إذا اشتدت الحرب ذهب الخيلاء والمرح، ومن لم يجدَّ في الحرب لم يصبر على شدتها. وهو يعرض هنا بمن قعد عن الحرب ويقول إنهم كانوا أصحاب بطر وخيلاء ومرح ونزق، فلم تثبت أقدامهم عند اللقاء.
والبيت لسعد في شرح أبيات سيبويه (2/178)، و"شرح ديوان الحماسة" للشنتمري (1/170)، "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي (ص500)، "ديوان الحماسة" للتبريزي (1/192)، "الأغاني" (5/46)، "المؤتلف والمختلف" (ص198)، "خزانة الأدب" (1/470)، (3/317). وللحارث بن عُباد في كتاب سيبويه (2/324). وبلا نسبة في الزاهر في "معاني كلمات الناس" (1/13، 121)، و"جمهرة اللغة" (1/562)، و"لسان العرب" (12/85)، و"فتح القدير" (2/68)، و"تاج العروس" (16/95).
(14) في (ب) و(م): ((قال)).
(15) قوله: ((الحرف خدعة)) في (ز): ((الحديث)) فقط.
(16) في (م): ((لما)).
(17) في (ح): ((به)).
(18) في (ز): ((فكأنه)).
(19) في (أ): ((وقع))، وفي (ب) و(م): ((أوقع الله)).
(20) قال القاضي في "المشارق" (1/231): ومن قالها بضم الخاء وسكون الدال فمعناه أنها تُخدع؛ أي: أهلُ الحرب ومباشروها.اهـ. أي: على تقدير مضافٍ.
(21) في (أ) و(ح): ((فتخدع)).
(22) في (م): ((يأتي)).
(23) قوله: ((وهزأة)) في (ي): ((أي هزأة)).
(24) وذكر القاضي في "المشارق" لغة رابعة؛ بفتح الخاء والدال؛ جمع خادع؛ يعني أن أهلها بهذه الصفة؛ فلا تطمئن إليهم؛ كأنه قال: أهل الحرب خَدَعةٌ.
وذكر هذا اللغة في "الفتح" عن المنذري، ثم قال: وحكى مكي ومحمد بن عبد الواحد لغة خامسة؛ كسر أوله مع الإسكان؛ قرأت ذلك بخط مغلطاي.اهـ. وهذه اللغة ذكرها في "القاموس"؛ قال: ((والحرب خدعة مثلته، وكهمزة)). "المشارق" (1/231)، "الفتح" (6/158)، "القاموس" (3/16) .(3/522)
ومن بابِ النهيِ عن تمنِّي لقاءِ العدوِّ
قوله (1) : ((لا تتمنوا لقاء العدو))؛ قيل (2) : إن فائدةَ هذا النهي ألا يُستخف (3) أمرُ العدوِّ؛ فيتساهلَ في الاستعدادِ (4) له والتحرُّزِ منه (5) ؛ وهذا (6) لما فيه من المكارِهِ والمحنِ والنكالِ؛ ولذلك قال متَّصِلاً به: ((واسْألوا (7) الله العافيةَ)).
وقيل: لما يُخافُ من إدالةِ (8) العدوِّ، وظَفَرهِ بالمسلمين. وقد رُوي (9) في هذا الحديثِ: ((فَإِنَّهُمْ (10) يَظْفَرُونَ (11) كَمَا تُنْصَرُونَ)) (12) .
وقيل: لما يؤدِّي (13) إليه من إذهابِ حياةِ النفوسِ التي يزيدُ بها المؤمنُ خيرًا، ويُرجى للكافرِ فيها أن يُراجعُ، وكلُّ ذلك محتَمَلٌ. والله تعالى أعلمُ.
ولا يقالُ: فلقاءُ العدوُّ وقتالهُ (14) طاعةٌ يَحصُلُ (15) منه: إمَّا الظَّفَرُ بالعدوِّ، وإما الشهادةُ؛ فكيف ينهى عنه وقد حَضَّ (16) الشَّرعُ على تمنِّي الشهادِة،ورغَّب فيه، فقال (17) : ((مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهادَةَ (18) صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)) (19) ؟! لأنا نَقول: لقاءُ العدوِّ وإن (20) كان جهادًا وطاعًة ومحصِّلاً لأحدٍ (21) الأمرينِ، فلم يُنه عن تنِّيه (22) من هذه الجهاتِ، وإنما نُهي عنه من جهاتِ تلك الاحتمالاتِ =(3/523)=@
__________
(1) في (أ): ((قوله)).
(2) في (ح): ((وقيل)).
(3) في (م): ((يستحب)).
(4) في (أ): ((الاستعاد)).
(5) ذكره المازري في "المعلم" (3/11) وذكر قولاً آخر؛ وهو أن معناه: لا تتمنوا لقاء العدو على حالة يشك في غلبته لكم أو يخاف منه أن يستبيح ؟؟؟. وسيذكره الشارح بعد، وذكر القولين النووي في "شرح مسلم" (12/45- 46) وصحح الأول.
(6) قوله: ((وهذا لما...))إلخ، كذا في النسخ، ولعل الصواب: ((وقيل: لما...)) فإن هذا قول آخر في معنى الحديث، ذكره القاضي عياض في "الإكمال" (6/43)، وحكى نحوه الحافظ في "الفتح" (6/156) عن ابن بطال، ثم ذكر القولين الآخرين.
(7) في (ح): ((وسلوا)).
(8) في (ح) و(ي): ((إذالة)).
والإدالة؛ من الدَّولة للجيشين يهزم هذا هذا، ثم يُهزم الهازم.
والمعنى: أن تصير هل الدَّوْلةُ على المسلمين. انظر: "تهذيب اللغة" (14/175).
(9) في (ب): ((وقد ذكر))، في (ح): ((فقد ذكر)).
(10) في (ي): ((بأنهم))
(11) في (ب): ((ينصرون)).
(12) تخريج.
(13) في (أ): ((يؤدي)) بالياء والتاء معًا .
(14) سقط من (م).
(15) يقرا في (ز): ((فنحصل منه))، وقوله: ((طاعة يحصل منه)) في (ي): ((تحصل به)).
(16) قوله: ((وقد حض)) يقرأ في (ب): ((ويرخص)).
(17) في (ب): ((يقال)).
(18) قوله: ((سأل الله الشهادة)) في (أ): ((سأل الشهادة)).
(19) سيأتي في باب الغنيمة نقصان من الأجر .
(20) في (ب): ((فإن)).
(21) في (ب): ((لأجر)).
(22) قوله: ((عن تمنيه)) في (أ): ((عنه)).(3/523)
المتقدِّمةِ، ثم هو ابتلاءٌ وامتحانٌ لا يُعرفُ عن ماذا تُسفر (1) عاقبتُه، وقد لا تحصلُ فيه لا غنيمةٌ ولا شهادةٌ، بل ضدُّ ذلك.
وتحرُيره: أن تمنيِّ (2) لقاءِ العدوِّ المنهيَّ عنه (3) غير تمنيِّ الشهادةِ المرغَّبِ فيه؛ لأنه قد يحصلُ (4) اللقاءُ ولا تحصلُ الشهادةُ ولا الغنيمةُ؛ فانفصلا (5) .
وقد فهم بعضُ العلماءِ من هذا الحديثِ كراهةَ (6) المبارزةِ (7) ؛ وبهذا (8) قال الحسنُ، ورُوي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: ((يَا بُنَّي! لا تَدْعُ أحدًا إلى المبارزةِ، ومَنْ دَعَاكَ إليها فاخرجْ إليه، فإنه باغٍ، وقد ضَمِن الله تعالى نصرَ من بُغِيَ عليه)) (9) . وقال ابنُ المنذرِ: أجمعَ كلُّ من أحفظُ عنه على (10) جوازِ المبارزةِ والدَّعوةِ إليها.
وشَرط بعضُهم فيها إذنَ الإمامِ؛ وهو قولُ الثوريِّ، والأوزاعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ،، ولم يشترطْه (11) غَيُرهم؛ وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ. واختلفوا: هل يعيّن المبارَز غيره أم لا؟ على قولين.
وقوله: ((إنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان ينتظرُ حتى إذا مالت الشمس))؛ يعني: أنه كان يؤخِّر القتالَ عن الهاجرةِ إلى أن تميلَ الشمسُ ليبردَ (12) الوقتُ على المقاتِلةِ، ويخفَّ عليهم حملُ السلاحِ، التي يؤلم حملُهَا في شدَّةِ الهاجرةِ؛ ولأن ذلكَ الوقتَ وقتُ الصلاةِ، وهو مظنَّةُ إجابة الدعاءِ. وقيل: بل كان يفعلُ ذلك لانتظارِ هبوبِ ريحِ النصرِ التي نُصر (13) بها؛ كما قال: ((نُصِرْتُ بالصَّبَا)) (14) ، وفي حديثٍ آخر؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينتظرُ حتى تزولَ الشمسُ، وتهبَّ رياحُ (15) النصرِ (16) . =(3/524)=@
__________
(1) في (ح): ((استقرت)) وفي (ب) و(ز) و(ي): ((عما تسفر)) وفي (م): ((عما يسفر)).
(2) سقط من (أ) و(ح).
(3) قوله: ((المنهي عنه)) في (ح): ((والنهي عنه)).
(4) في (م): ((تحصل)).
(5) ذكر نحوه المازري في "المعلم" (3/11) لكنه قال: قد يشكل هذا الموضع أن يقال: إذا كان الجهاد طاعة فتمني الطاعات حسن فكيف ينهى عنه... إلخ. وعبارة الشارح هنا أوفق؛ قال الأبي في "شرحه" (5/54) بعد نقل كلام المازري: قلت جَعَلَ (أي: المازري) تمني لقاء العدو جهادًا، أو مستلزمًا للجهاد، وانظر العكس: وهو تمني الجهاد هل هو تمنٍّ للقاء العدو أو مستلزم له، والأقرب أنه مستلزم له. وأما تمني الشهادة فليست ملزومة لتمني لقاء العدو؛ فتجوز.اهـ.
(6) في (ح): ((كراهية)).
(7) في (ز): ((المبادرة)).
(8) في (ب) و(ح) و(ز) و(م) و(ي): ((وبها)).
(9) بنحوه ذكره ابن حجر في "الفتح" (6/157)، وذكره المناوي في "فيض القدير" (6/388).
(10) قوله: ((من أحفظ عنه على جواز)) في (ب) و(م): ((من أحفظ عنه عن علي كرم الله وجهه جواز)). وقد ذكر عبارة ابن المنذر القاضي في "الإكمال" (6/43).
(11) في (أ) و(ز): ((يشترط)).
(12) لم يتضح في (أ).
(13) في (ز): ((يضر)).
(14) تقدم في الاستسقاء، باب التبرك بالمطر والفرح به برقم(771).
(15) في (م): ((ريح)).
(16) أخرجه ابن أبي شيبة (6/481 رقم33071) في السير، باب في قتال العدو: أي ساعة تستحب، وأحمد (5/444-445)، وأبو داود (3/113 رقم2655) في الجهاد، باب في أي وقت يستحب اللقاء، والترمذي (4/137 رقم1613) في السير، باب ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال، وابن حبان (11/70-71 رقم4757/الإحسان) من طريق ابن أبي شيبة، والحاكم (2/116)، والبيهقي (9/153) من طريق أبي داود؛ جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن أبي عمران الجوني، عن علقمة بن عبدالله المزني، عن معقل بن يسار؛ أن النعمان - يعني: ابن مقرن - قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل من أول النهار، أخَّر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر .
قال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح)). وقال الحاكم: ((صحيح على شرط مسلم))، ووافقه الذهبي. وأصله عند البخاري (6/258 رقم3160) في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب .(3/524)
وقوله: ((اللهم مُنْزلَ الكتابِ، ومُجْري السحاب، وهازم الأحزاب (1) ، سريعَ الحسابِ))؛ دليلٌ على جوازِ السَّجْعِ في الدعاءِ إذا لم يُتكلَّفْ (2) .
والأحزابُ: جمع ((حزب))؛ وهم الجمعُ والقطعةُ من الناسِ؛ ويعني بهم الذين تحزَّبوا عليه في المدينةِ، فهزمهم الله تعالى بالريحِ (3) .
ووَصْفُ اللهِ تعالى بأنه سريعُ الحسابِ؛ يعني به: يعلمُ الأعدادَ المتناهيةَ وغيرَها في آنٍ واحدٍ، فلا يحتاجُ في ذلك إلى فكرٍ ولا عَقْدٍ؛ كما يفعلُه (4) الحُسَّاب (5) منَّا.
وقوله: ((الجنَّة تحتَ ظلالِ السيوفِ))؛ هذا من الكلامِ النفيسِ البديعِ (6) ، الذي (7) جَمعَ ضروبَ البلاغةِ، من جزالةِ اللفظِ وعُذُوبتِهْ، وحُسْنِ استعارتِهْ، وشمولِ المعاني الكثيرةِ، مع الألفاظِ المعسولةِ (8) الوجيزةِ؛ بحيثُ تعجْز (9) الفصحاءُ، اللُّسْنُ البلغاءُْ، عن إيرادِ مثلِهِْ، أو أن (10) يأتوا بنظيره وشكلِهِْ؛ فإنه استُفيد منه - مع وجازتهِ - الحضُّ على الجهادِ، والإخبارُ بالثوابِ عليه، والحضُّ (11) على مقاربةِ العدوِّ، =(3/525)=@
__________
(1) قوله: ((ومجري السحاب وهازم الأحزاب)) سقط من (ح).
(2) في (ب): ((مكلف)). [هذا الهامش حُذف ولم يُحذف من المتن].
(3) يعنيك في غزوة الخندق، وقال النووي: هذا هو المشهور... قال القاضي: وقيل: يحتمل أن المراد أحزاب الكفر في جميع الأيام والمواطن.اهـ. قال الحافظ عن الأول: وقيل فيه نظر؛ لأنه يتوقف على أن هذا الدعاء إنما شرع من بعد الخندق. والجواب أن غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي خرج فيها بنفسه محصورة، والمطابق منها لذلك غزوة الخندق. انظر: "شرح النووي" (8/177)، (9/113)، و"الفتح" (11/190).
(4) في (ب): ((تفعله)).
(5) ذكره الطبري في "تفسيره" (4/207- 208)؛ قال في قوله تعالى: {والله سريع الحساب} [البقرة: ]: إنما وصف – جل ثناؤه - نفسه بسرعة الحساب؛ لأنه جل ذكره يُحصى ما يحصى من أعمال عباده بغير عقِد أصابعٍ ولا فكر روية؛ فعلَ العجزة الضعفة من الخلق، ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما، ثم هو مُجازٍ عباده على كل ذلك؛ فلذلك جل ذكره امتدح بسرعة الحساب، وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمِثْلٍ، فيحتاجَ في حسابه إلى عقد كف أو وَعْي صدر!.اهـ.
وقال القاضي عياض في "الإكمال" (6/45): و((سريع الحساب)) أي: سريع فيه، أو المعنى أن مجيء الحساب سريع!
(6) في (ز): ((السريع)).
(7) في (م): ((التي)).
(8) في (ز): ((المغسولة)).
(9) في (ح): ((تعجز)).
(10) قوله: ((أو أن)) في (ز): ((وأن)).
(11) في (أ) و(ي): ((والحظ)).(3/525)
واستعمالِ السُّيوفِ، والاعتمادِ عليها، واجتماعُ المقاتلين حين الزحفِ بعضِهم لبعضٍ، حتى تكونَ سيوفُهم بعضُها يقعُ (1) على العدوِّ، وبعضُها يرتفعُ عنهم (2) ؛ حتى كأن السيوفَ أظلَّت (3) الضاربينَ بها؛ ويعني: أن الضاربَ بالسيفِ في سبيلِ الله يُدخلُه اللهُ الجنةَ بذلك؛ وهذا (4) كما قالهَ في الحديثِ الآخرِ (5) : ((الجنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأُمَّهَاتِ)) (6) ؛ أي: مَنْ برَّ أُمَّه وقام بحقِّها، دخل الجنَّةَ.
وقوله يوم أحدٍ: ((اللهم إنك (7) إن تشأْ لا (8) تُعبدْ في الأرضِ))؛ هذا منه - صلى الله عليه وسلم - تسليمٌ لأمرِ الله تعالى فيما شاء (9) أن يفعلَه، وهو ردٌّ على غُلاةِ المعتزلِة؛ حيث قالوا: إن الشرَّ غيرُ مرادٍ لله تعالى. وقد ردَّ مذهبَهم نصوصُ الكتابِ؛ كقوله تعالى: {كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} (10) ، ومثلُها كثيرٌ.
وفي (11) هذا الحديثِ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا الكلامَ يومَ أحدٍ. والذي ذكره أهلُ السيرِ: أن ذلك إنما قاله يوم بدرٍ. وكذلك وقع في بعضِ رواياتِ مسلمٍ، وسيأتي (12) . ويحتملُ: أن يكونَ قاله في اليومين معًا. والله تعالى أعلمُ. =(3/526)=@
__________
(1) في (م): ((تقع)).
(2) قوله: ((يرتفع عنهم)) في (ب) و(م): ((ترتفع عليهم))، وفي (ي): ((ترتفع عنهم)).
(3) في (م): ((أضلت)).
(4) في (ب): ((وهو)).
(5) قوله: ((كما قاله في الحديث الآخر)) بدله في (أ): ((كما قال)).
(6) أخرجه أبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (3/568-569 رقم721)، وفي "الفوائد" (ص58 رقم25)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (ص؟؟؟ رقم118)، والخطيب في "الجامع، لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/347 رقم1765)؛ جميعهم من طريق منصور بن المهاجر البزوري، عن أبي النضر الأبَّار، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((الجنة تحت أقدام الأمهات)).
قال المناوي في "فيض القدير" (3/362): ((قال ابن طاهر: ومنصور وأبو النضر لا يعرفان، والحديث منكر)). وقال الزبيدي في "الإتحاف" (3/1252 رقم1890/ استخراج الحداد): ((وإسناده ضعيف، وفيه من لا يعرف)). وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (ص394 رقم2666)، وانظر "الضعيفة" (2/59 رقم593).
وله شاهد من حديث معاوية بن جاهمة: يرويه محمد بن طلحة، واختلف عليه: فأخرجه أحمد (3/429) عن روح بن عبادة، وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/121)، والحاكم (4/151) من طريق الحسن بن سهل المجوز، والخطيب في"الجامع لأخلاق الراوي" (2/347 رقم1764) من طريق عبدالملك بن محمد الرقاشي؛ ثلاثتهم- البخاري، والحسن بن سهل، وعبدالملك بن محمد - عن أبي عاصم النبيل. وأخرجه ابن ماجه (2/930 رقم2781) في الجهاد، باب الرجل يغزو وله أبوان، والنسائي (6/11 رقم 3104 في الجهاد، باب الرخصة في التخلف لمن له والدة، والحاكم (2/104)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6/178 رقم7833و7834) من طريق الحاكم وغيره - جميعهم من طريق حجاج بن محمد؛ ثلاثتهم (روح بن عبادة، وأوب عاصم، وحجاج بن محمد) عن ابن جريج، أخبرني محمد بن طلحة بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق، عن طلحة بن عبدالله، عن معاوية بن جاهمة؛ أن جاهمة - رضي الله عنه - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أردت أن أغزو فجئت أستشيرك، فقال: ((ألك والدة؟ )) قال: نعم، قال: ((اذهب فالزمها؛ فإن الجنة عند رجليها)).
ورواه سفيان بن حبيب، ويحيى بن سعيد الأموي، عن ابن جريج، لكن قالا: عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن معاوية بن جاهمة، عن أبيه. أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/122)، والطبراني في "الكبير" (2/289 رقم2202)، وابن شاهين في "الترغيب في فضائل الأعمال" (ص276-277 رقم291)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6/178 رقم7832)، والخطيب في "تاريخه" (3/324)، وابن الأثير في "أسد الغابة" (1/315) من طريق ابن شاهين .
ورواه محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة، عن معاوية بن جاهمة؛ أخرجه ابن أبي شيبة (6/522 رقم33449) في السير، باب الرجل يغزو ووالداه حيان، أله ذلك؟ والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/121-122)، وابن ماجه (2/929-930 رقم2781) في الموضع السابق، وأبو الشيخ في "الفوائد" (ص56 رقم24)، والطبراني في "الكبير" (8/311 رقم8162).
وهذا الحديث قد حصل فيه اختلافات كثيرة :
1 - اختلاف بعضهم بوصل السند إلى جاهمة، وبعضهم إلى معاوية بن جاهمة فقط .
2 - اختلافهم على محمد بن طلحة؛ فبعضهم يرويه عن محمد بن طلحة، عن طلحة، عن معاوية. وبعضهم يرويه عن محمد بن طلحة، عن معاوية بن جاهمة .
3 - اختلافهم في نسب محمد بن طلحة: فبعضهم يقول: محمد بن طلحة بن عبيدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق، وبعضهم يقول: محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة .
وقد اختلفت أقوال العلماء في توجيه هذه الروايات: فرجَّح أبو حاتم وأبو زرعة رواية محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن طلحة، كما في "العلل" لابن أبي حاتم (1/312 رقم926). ورجَّح البيهقي في "شعب الإيمان" (6/178) رواية حجاج بن محمد، عن ابن جريج. ورجا الحافظ "الإصابة" (2/54) رواية سفيان بن حبيب. وحكى في "التهذيب" وجوه الاختلاف، ثم قال: ((تلخص من ذلك أن الصحبة لجاهمة، وأنه هو السائل، وأن رواية معاوية ابنه عنه صواب، وروايته الأخرى مرسلة، وقول أبن إسحاق في روايته عن معاوية: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهْم منه؛ لأن بن جريج أحفظ من ابن إسحاق وأتقن، على أن يحيى بن سعيد الأموي قد روى عن ابن جريج مثل رواية بن إسحاق فوهم، وقد نبَّه على غلطه في ذلك أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" والله تعالى أعلم. وقال العسكري: معاوية بن جاهمة روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحسبه مرسلاً، والحديث إنما هو عن أبيه جاهمة)).اهـ. "التهذيب" (4/105).
والحديث قال عنه الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. قال الألباني في "الإرواء" (5/21): ((كذا قالا، وطلحة بن عبدالله لم يوثقه غير ابن حبان، لكن روى عنه جماعة، فهو حسن الحديث إن شاء الله، وفي "التقريب"- (ص464 رقم3040)-: ((مقبول)).اهـ.
وجوّد إسناده المنذري في "الترغيب" (3/285 رقم3656)، وحسَّن إسناده الألباني في "صحيح الجامع" (1/269 رقم1248 و1249)، وفي "الضعيفة" (2/59).
وجوَّد إسناده في تعليقه على "المشكاة" (3/1382 رقم4939).
(7) قوله: ((إنك)) سقط من (ح) و(ز) و(ي).
(8) في (ح) و(ي): ((ألا)).
(9) في (ي): ((يشاء)).
(10) سورة المدثر؛ الآية: 31.
(11) في (ح): ((في)).
(12) في باب الإمام مخير في الأسارى برقم (1279).(3/526)
ومن باب النهي عن قتل النساء والصبيان
قوله: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان (1) ))هذا اللفظُ عامٌّ في جميعِ نساءِ أهلِ الكفرِ؛ فتدخلُ (2) فيهم المرتدةُ وغيرُها، وبه تمسَّك أبو حنيفةَ في منعِ قتلِ المرتدةِ. ورأى الجمهورُ أنه لم يتناولِ المرتدةَ؛ لوجهين:
أحدُهما: أن هذا العمومَ خرجَ على نساءِ الحَرْبيِّين؛ كما هو مبيَّنٌ في الحديثِ.
الثاني: قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ((مَنْ بَدَّلَ دِينَه فَاقْتُلُوهُ)) (3) . وَفي المسألةِ أبحاثٌ تُعلم (4) في علمِ الخلافِ.
قال القاضي أبو الفضل عياضٌ: أجمع العلماءُ على الأخذِ بهذا الحديثِ في تركِ قتلِ النساءِ والصِّبيان، إذا لم يُقاتلوا.
واختلفوا إذا قاتلوا. =(3/527)=@
__________
(1) من قوله: ((قوله نهى ....)) إلى هنا، سقط من (ح).
(2) في (ح) و(ي): ((فدخل)).
(3) البخاري (6/149 رقم3017) في الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله، و(12/267 رقم6922) في استبانة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم .
(4) في (م): ((يعلم)).(3/527)
فجمهورُ العلماءِ وكافةُ مَنْ يُحفظُ عنه على أنهم إذا قَاتلوا قُتلوا. قال الحسنُ: وكذلك لو خرج النساءُ معهم إلى بلادِ الإسلامِ. ومذهبُنا: أنها لا تقتلُ في مثلِ هذا، إلا إذا قاتَلَتْ.
واختلف أصحابُنا إذا قاتلوا ثم لم يُظفرْ بهم حتى بَرَد القتالُ، فهل يُقتلون كما تُقتل (1) الأسارى (2) ، أم لا يقتلون إلا في نفسِ القتالِ؟
وكذلك اختلفوا إذا رَمَوْا بالحجارةِ؛ هل حكمُ ذلك حكمُ القتالِ بالسلاحِ أم لا؟ والله أعلم (3) .
قلت (4) : والصحيحُ: أنها إذا قاتلتْ بالسِّلاحِ، أو بالحجارةِ، فإنه يجوزُ قتلُها؛ لوجهين:
أحدُهما: قولُه - صلى الله عليه وسلم - : فيما خرَّجه النَّسائُّي مِن حديثِ عمرَ بنِ مُرَقِّع (5) بنِ صيفيِّ بنِ رباحٍ، عن أبيه (6) ، عن جدِّه رباحٍ (7) : أنه - صلى الله عليه وسلم - مرَّ في غزاةٍ بامرأةٍ قُتيلٍ، فقال (8) : ((ما كانتْ هذه تقاتلُ)) (9) ؛ فهذا تنبيهٌ على المعنى الموجِب للقتلِ؛ فيجبُ طَرْدُه إلا أن يمنعَ منه مانعٌ.
والثاني: قتلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لليهوديةِ التي طَرَحتِ الرَّحى على رجلٍ من المسلمين فقتلَتْه، وذلك بعدما أَسَرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (10) . وكلا الحديثين مشهورٌ.
وقوله: ((لو (11) أن خيلاً أغارت من الليلِ))؛ أي: أسرعتْ طالبةً غِرَّةَ العدوِّ، والإغارةُ: سُرعة السيرِ، ومنه قولهم: ((أَشْرِقْ ثَبِيرْ، كَيْمَا نُغِيرْ (12) )) (13) ؛ أي: نسرع (14) في =(3/528)=@
__________
(1) في (أ): ((يقتل)).
(2) في (ب): ((الأسرى)).
(3) قوله: ((والله أعلم)) من (ب) و(م). وانظر كلام القاضي في "الإكمال" (6/48).
(4) قوله: ((قلت)) سقط من (ح) و(ي). وفي (ب) و(م): ((قال الشيخ رحمه الله)) وفي (ز): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(5) في (ب): ((المرقع)) وهو صواب أيضًا.
(6) قوله: ((عن أبيه)) سقط من (ح).
(7) سقط من (أ).
(8) في (ح): ((فقالت))!
(9) أخرجه سعيد بن منصور (2/238 رقم2623)، وأحمد (3/488) و(4/346) من طريق سعيد بن منصور، وغيره، وابن ماجه (2/948 رقم2842) في الجهاد، باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان، والنسائي في "الكبرى" (5/186-187 رقم8626)، وأبو يعلى (3/115-116 رقم1546)، وابن حبان (11/110 رقم4789) من طريق أبي يعلى، والطحاوي (3/221 و222) من طريق سعيد بن منصور، وغيره، والطبراني في "الكبرير"(5/5/72 رقم4619 و4620)، والبيهقي (9/91)؛ جميعهم من طريق المغيرة بن عبد الرحمن. وأخرجه أحمد (3/488)، والطبراني في "الكبير" (5/72 رقم4617 و4618)، والحاكم (2/122) ثلاثتهم من طريق ابن أبي الزناد .
وأخرجه أحمد (3/488) من طريق ابن جريج؛ ثلاثتهم - المغيرة بن عبدالرحمن، وابن أبي الزناد، وابن جريج - عن أبي الزناد.
وأخرجه أبو داود (3/121-122 رقم2669) في الجهاد، باب في قتل النساء، والنسائي في "الكبرى" (5/186 رقم8625)، والطبراني في "الكبير" (5/73 رقم4621 و4622). ثلاثتهم من طريق عمر بن المرقع.
كلاهما (أبو الزناد، وعمر بن المرقع ) عن المرقَّع بن صيفي، عن رباح بن الربيع قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلاً، فقال: ((انظر علام اجتمع هؤلاء؟ )) فجاء، فقال: على امرأة قتيل، فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل)) الحديث .
قال الحاكم عقب روايته: ((رواه المغيرة بن عبدالرحمن، وابن جريج، عن أبي الزناد، فصار الحديث صحيحًا على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي.
قال الألباني في "الإرواء" (5/25): ((حسبه أن يكون حسنًا، فإن المرقع هذا لم يخرج له الشيخان شيئًا، ولم يوثقه غير ابن حبان، لكن روى عنه جماعة من الثقات، وقال الحافظ في "التقريب"- (ص930 رقم6605) -: ((صدوق)).
وله طرق أخرى: يرويه سفيان الثوري، عن أبي الزناد، عن المرقع بن صيفي، عن حنظلة الكاتب، مرفوعًا - جعله من مسند حنظلة الكاتب، بدلاً من رباح بن الربيع - أخرجه عبدالرزاق (5/201 رقم9382)، وابن أبي شيبة (6/486 رقم33107) في السير، باب من يُنهي عن قتله في دار الحرب، وابن ماجه (2/948 رقم2842) في الموضع السابق، من طريق ابن أبي شيبة، والنسائي في "الكبرى" (5/187 رقم8627)، وابن حبان (11/112 رقم4791/الإحسان)، والطحاوي (3/222).
قال ابن ماجه: قال أبو بكر ابن أبي شيبة: ((يخطئ الثوري فيه)). وقال أبو حاتم وأبو زرعة - كما في "العلل" لابن أبي حاتم (1/305 رقم914) -: (( هذا خطأ، يقال: إن هذا وهم الثوري؛ إنما هو المرقع بن صيفي، عن جده رباح بن الربيع أخي حنظلة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ كذا يرويه مغيرة بن عبدالرحمن، وزياد بن سعد، وعبدالرحمن بن أبي الزناد. قال أبو حاتم: والصحيح هذا)). اهـ.
وقال البيهقي في "معرفة السنن" (13/252): ((وأقام إسناده عن أبي الزناد: ابنه، والمغيرة بن عبدالرحمن، ورواه الثوري، عن أبي الزناد، عن مرقع، عن حنظلة الكاتب، قال البخاري: وهو وهم)).اهـ.
وأما ابن حبان فقد قال في "صحيحه" (12/113): ((سمع هذا الخبر المرقع بن صيفي، عن حنظلة الكاتب، وسمعه من جدِّه، وهما محفوظان)).
وقال الألباني في "الصحيحة"(2/314-315 رقم701): ((وهو الحق؛ لاتفاق من ذكرنا من الثقات عليها، ويقوي ذلك أن عمر بن المرقع بن صفي رواه عن أبيه مثل رواية الثقات عن أبي الزناد، كما تقدم، والابن أدرى برواية أبيه وجدِّه عادة)).اهـ.
(10) أخرجه أحمد (6/277)، وأبو داود (3/123 رقم2671) في الجهاد، باب في قتل النساء، والحاكم (3/35-36)، والبيهقي (9/82) من طريق الحاكم؛ ثلاثتهم من طريق محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: لم يقتل من نسائهم - تعني : بني قريظة - إلا امرأة، إنها لعندي تحدث تضحك ظهرًا وبطنًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل رجالهم بالسيوف؛ إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا. قلت: وما شأنك؟ قالت: حدث أحدثته. قالت: فانطلق بها فضربت عنقها، فما أنسى عجبًا منها أنها تضحك ظهرًا وبطنًا، وقد علمت أنها تقتل. وسنده حسن .
وقد اختلف في السبب الذي من أجله قُتلت هذه المرأة، فقال ابن هشام في "السيرة" (3/242): ((وهي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته)).
وقال ابن الأثير في "أسد الغابة" (2/141): ((يقولون: إن الحجر ألقتها عليه امرأة اسمها: بنانة، امرأة من بني قريظة، ثم قتلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع بني قريظة، لما قتل من أنبت منهم، ولم يقتل امرأة غيرها)).
وقال البيهقي في "سننه" (9/82): ((ذكر الشافعي في رواية أبي عبدالرحمن البغدادي عنه من أصحابه: أنها كانت دلت على محمود بن مسلمة دلَّت عليه رحى فقتلته، فقتلت بذلك. قال: وقد يحتمل أن تكون أسلمت وارتدت ولحقت بقومها فقتلها لذلك، ويحتمل غير ذلك)). ثم قال: ((قال الشافعي: لم يصح الخبر لأي معنى قتلها، وقد قيل: إن محمود بن مسلمة قتل بخيبر ولم يقتل يوم بني قريظة)).اهـ.
(11) سقط من (ح) و(ي).
(12) قوله: ((كيما نغير))، في (ح): ((كما تغير))، وفي (ز): ((كيما تغير))، وفي (م): ((كما يغير)).
(13) أخرجه البخاري (3/531 رقم1684) في الحج، باب متى يدفع من جمع، و(7/ 148 رقم3838) في مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية.
(14) في (ح): ((تسرع))، وفي (ز): ((يسرع)).(3/528)
النَّفْرِ. والغارَةُ: الخيلُ نفسُها. وشَنُّ الغارةَ؛ أي: أرسلَ الخيلَ مسرِعةً (1) .
ويقال: أغارتِ الخيلُ ليلاً، وضُحًى، ومَساءً، إذا كان ذلك في تلك الأوقاتِ. فأما البياتُ: فهو أن يؤخذَ العدوُّ على غِرَّةٍ بالليلِ.
وقولُه: ((سُئل عن الدارِ))؛ الدارُ: هي العشائرُ، تجتمعُ في مَحِلَّةٍ، فتُسمى المحلةُ: ((دَارًا))، وهي من الاستدار (2) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)) (3) ؛ يدلُّ على أن اسمَ الدارِ يقعُ على الربَّعِْ العامرِ المسكونِ، وعلى الخرابِ غيرِ المأهولِ، و((الدارُ)) مؤنثةٌ، وقوله تعالى: {ولنعم دار المتقين} (4) فالتذكيرُ على معنى ((المثوى)) و((الموضع)) (5) .
وقوله في ذراريِّ المشركين يُبَيِّتُون: ((هم من آبائهم)): ((الذريةُ)): تُطلقه العربُ على الأولادِ والعيالِ والنساءِ؛ حكاه عياضٌ (6) .
ومعنى الحديثِ: أن حكمَهم حكمُ آبائِهم في جوازِ قتلِهم عندَ الاختلاطِ بهم في دارِ كفرِهم، وبه قال الجمهورُ؛ مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفة، والثوريُّ. ورأوا رميَهم بالمجانيقِ في الحصونِ والمراكبِ (7) .
واختلف أصحابُنا؛ هل يُرمَوْن بالنارِ إذا كان فيهم ذراريُّهم ونساؤهم؟ على قولين. وأما إذا لم يكونوا فيهم؛ فهل يجوزُ رميُ مراكبِهم وحصونِهم بالنارِ؟ أما إذا لم يُوصلْ إليهم إلا بذلك، فالجمهورُ على جوازِه، وأما إذا أمكن الوصولُ إليهم بغيرِه (8) ، فالجمهورُ على كراهتِه؛ لما ثبت من قولِه - صلى الله عليه وسلم - : ((لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا اللهُ)) (9) . وأما إذا كان فيهم مسلمون؛ فمنعه مالكٌ جملةً. وهو الصَّحيحُ من مذهبِه، ومذهبُ جمهورِ العلماءِ. وفي المسألةِ تفصيلٌ (10) يعرفُ في أصولِ الفقهِ (11) .
وقوله: ((قطع نخيل بني النضير (12) ، وحرق)) دليلٌ للجمهورِ على جوازِ قطعِ نخلِ العدوِّ وتحريقها؛ إذا لم يُرْجَ مصيرُها للمسلمين، وكان قطعُها نكايةً للعدوِّ. =(3/529)=@
__________
(1) وفي "العين" و "غريب الحربي"و "غريب ابن قتيبة" شن الغارة: أي بثها وفرقها. وأصل الإغارة الإسراع. والغارة اسم منها؛ كالطاعة والإطاعة. ثم أطلقت الغارة على الخيل المغيرة "العين" (6/220)، و"غريب الحديث" للحربي (2/872)، و"غريب الحديث" لابن قتيبة (1/356)، و "النهاية" (3/394)، و"مشارق الأنوار" (2/140-141)، (2/149)، و"الإكمال" (ص236).
(2) كذا في (أ)، وهذه الفقرة كلها ليست في باقي النسخ؛ كما سيأتي وهو مصدر صحيح ((استدار))؛ كـ((الاستدارة))، فـ((أفعل)) و((استفعل)) إذا كان معتل اللام ننقل حركة اللام إلى الفاء وتقلب اللام ألفًا؛ ثم تحذف إحدى الألفين ويعوض عنها بالتاء. قال سيبويه في "الكتاب" (4/83): وإن شئت لم تعوضْ وتركت الحروف على الأصل؛ قال الله عز وجل: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاةْ} [النور: 7].اهـ. قال الشيخ خالد الأزهري في "التصريح على التوضيح" (2/32): ((وقد تحذف التاء للإضافة عند ابن مالك؛ نحو الآية، وفي الحديث: ((كاستنار البدر)) والأصل: وإقامة الصلاة، واسننارة البدر، فحذف التاء لسد المضاف إليه سدها، وقد تحذف في غير الإضافة؛ حكى الأخفش: أجاب إجابًا.اهـ. وانظر خاتمة "المصباح" (356).
(3) تخريج.
(4) تخريج.
(5) من قوله: ((وقوله: سئل عن الدار ....)) إلى هنا، من (أ)، وليس في سائر النسخ.
وقوله: ((فالتذكير...)) إلخ. تعليل لا مُلْجئ له؛ فإن ((الدار)) وإن كانت مؤنثة، فإنما تأنيثها غير حقيقي؛ فلا تجب العلامة أصلاً. ((فالدار)) في الآية الكريمة لم تذكَّر، ولكن حذفت علامة التأنيث؛ لأنها غير واجبة، وانظر خاتمة "المصباح" (ص363).
(6) في "المشارق" (1/268).
(7) في (أ): ((والمراكيب)).
(8) سقط من (ي).
(9) أخرجه البخاري (6/115 رقم149 رقم2954 و3016 و3017) في الجهاد، باب التوديع، وباب لا يعذب بعذاب الله. و(12/267 رقم6922) في استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم .
(10) غير مقروءة في (ح)، وقبلها كلمة لا تقرأ أيضًا.
(11) قوله: ((أصول الفقه))في (ب) و(ز) و(م): ((الأصول)).
(12) في النسخ: ((النظير)).(3/529)
وقد منع ذلك الليثُ بنُ سعدِ، وأبو ثورٍ، وقد رُوي عن الصِّدِّيق أبي بكرٍ (1) - رضي الله عنه - (2) . واختُلف في ذلك عن الأوزاعيِّ.
واعتُذِر لهم عن هذا الحديثِ: بأنه (3) - صلى الله عليه وسلم - إنما قَطع تلك النخيلَ (4) ليُوسِّعَ موضعَ (5) جَوَلانِ الخيلِ للقتالِ.
وهذا تأويلٌ يدلُّ على فسادِه قولُه تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} (6) ، ولا شكَّ في أن هذه الآيةَ نزلتْ فيما عاب المشركون على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من قطعِ نخيلِ بني النضيرِ (7) ، فبيَّن فيها أن الله تعالى أباحه لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - خِزْيًا (8) للمشركين ونكايةً لهم. والآيةُ نصٌّ في تعليلِ ذلك.
ويمكنُ أن يحملَ ما روي عن أبي بكرٍ الصديقِ (9) - رضي الله عنه - من منع ذلك، على ما إذا لم يكن في قطِعها نكايةٌ، أو (10) ارتُجِيَ عَوْدُها للمسلمين (11) ، والله تعالى أعلمُ.
و((اللينةُ)): النخلةُ؛ أيَّ نخلةٍ كانت. وقيل: إلا (12) العجوةَ. وقيل: كرامُ النخلِ؛ قاله سفيانُ. وقال جعفرُ بن محمدٍ: هي العجوةُ. وقيل: الفَسِيلُ؛ لأنه أَلْيَنُ (13) . وقيل: أغصانُ الأشجارِ (14) ؛ لِلينها. وقيل: هي النخلةُ القريبةُ من الأرضِ. قال الأخفشُ: اللينةُ (15) من اللَّونِ (16) ، وأصلها (17) : ((لِوْنَةٌ)) (18) ، وتُجمع (19) : لينٌ، ولِيَانٌ. قال (20) :
وَسَالِفَةٌ كَسَحُوقِ (21) اللِّيَا ... ... نِ أَضْرَمَ (22) فيها الغَويُّ السُّعُرْ (23)
وَ((البويرةُ (24) )) المذكورةُ في شعرِ حسَّانٍ: موضعٌ من بلادِ بني النضيرِ (25) . و((مستطيرٌ)): منتشرٌ. =(3/530)=@
__________
(1) في (ح) و(ي): ((أبي بكر الصديق)).
(2) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/447-448 رقم10) في الجهاد، باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو، وعبدالرزاق (5/199-200 و200 رقم9375 و9376) عن ابن جريج والثوري ثلاثتهم (مالك وابن جريج، والثوري) عين يحيى بن سعيد. وأخرجه عبدالرزاق (5/200 رقم9378)، والبيهقي (9/90) كلاهما من طريق معمر، عن أبي عمران الجوني. وأخرجه البيهقي (9/85 و90) من طريق سعيد بن المسيب، وصالح بن كيسان؛ أربعتهم (يحيى بن سعيد، وأبو عمران الجوني، وسعيد بن المسيب، وصالح بن كيسان) أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما بعث الجنود نحو الشام: يزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة؛ قال: لما ركبوا مشى أبو بكر مع أمراء جنوده يودعهم حتى بلغ ثنية الوداع، فقالوا: يا خليفة رسول الله! أتمشي ونحن ركبان؟ فقال: إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله، ثم جعل يوصيهم فقال: أوصيكم بتقوى الله، اغزوا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، فإن الله ناصر دينه، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تجبنوا، ولا تفسدوا في الأرض، ولا تعصوا ما تؤمرون، فإذا لقيتم العدو من المشركين إن شاء الله، فادعوهم إلى ثلاث خصال، فإن هم أجابوكم فاقبلوا منهم وكفوا عنهم: ادعوهم إلى الإسلام فإن هم أجابوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين فإن هم فعلوا، فأخبروهم أن لهم مثل ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، وإن هم دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم على دار المهاجرين، فأخبروهم أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي فرض على المؤمنين، وليس لهم في الفيء والغنائم شيء حتى يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا أن يدخلوا في الإسلام فادعوهم إلى الجزية، فإن هم فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، وإن هم أبوا فاستعينوا بالله عليهم فقاتلوهم إن شاء الله، ولا تغرقن نخلاً ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة، ولا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء، وستجدون أقوامًا حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، وستجدون آخرين اتخذ الشيطان في رءوسهم أفحاصًا، فإذا وجدتم أولئك فاضربوا أعناقهم إن شاء الله .
وهو حديث ضعيف؛ لانقطاعه. وانظر "مختصر استدلال الذهبي" (3/1209-1212 رقم507).
(3) في (ب) و(م): ((أنه)).
(4) في (ح) و(ي): ((النخل))، و((النخيل)) مؤنثة، و((النخل)) تذكر وتؤنث. انظر: ((المذكر والمؤنث)) للسجستاني (ص84- 85)، "الفرق بين المذكر والمؤنث" لابن الأنباري (ص85)، "المصباح المنير" (ص307).
(5) في (ب) و(م): ((في موضع)).
(6) سورة الحشر؛ الآية: 5.
(7) في النسخ: ((النظير)).
(8) في (ح) و(ي): ((حزنًا)).
(9) سقط من (ب) و(م).
(10) في (أ): ((و)).
(11) في (ب) و(م): ((إلى المسلمين)).
(12) سقط من (ي) وتقرأ في (ز): ((الما)).
(13) في (ح) و(ي): ((اللين)).
(14) في (ز): ((الأشجان)).
(15) في (ب): ((الليتة)).
(16) في (ب) و(م): ((اللين)).
(17) في (أ) و(ح) و(ي): ((وأصله)).
(18) في (أ): ((ألونة)).
(19) في (أ) و(ز) و(ي): ((ويجمع)).
(20) ...
(21) في (ح): ((الشعر)).
والبيت من بحر المتقارب، من رائية لامرئ القيس يشبب فيها بابنة العامري هر بنت سلامة بن علند، وقد تقدم استشهاد الشارح ببعض أبياتها في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي باب التغليس بصلاة الصبح بالمزدلفة من كتاب الحج. وهذا البيت من مقطع في القصيدة يصف فيه ناقته، أوله:
وأركبُ في الرَّوع خَيْفانةً ... ... كَسا وجَهَها سَعَفٌ مُنتشِرْ
لَها حافرٌ مثلُ قَعْبِ الوليـ ... ... ـدِ رُكِّبَ فيه وَظِيفٌ عَجِرْ...
ثم يقول:
لَها عُذَرٌ كقُرونِ النِّسا ... ... ءِ رُكِّبْنَ في يومِ ريحٍ وصِرّْ
وَسَالِفَةٌ كَسَحُوقِ اللِّيَا ... ... نِ أَضْرَمَ فِيهَا لغوِيُّ السُّعُرْ
والسالفة: صفحة العنق، وأراد بها العنق، ويروى: ((لها عنق))، والسحوق: النخلة الطويلة الجرداء، والليان، جمع لينة، وهي النخلة؛ ويروى: ((كسحوق اللُّبان)) وهو ضرب من الصمغ، وعليه خطئت هذه الرواية، وقيل: اللبان - بالموحدة - هنا: شجر الصنوبر؛ قال ابن سيده: ولا يتجه إلا عليه. والغوي: الغاوي المفسد، والسعر: جمع سعير؛ وهو شدة الوقود. يريد أنها شقراء وأن عنقها كالنخلة الجرداء.
والشاهد فيه قوله: ((الليان)) جمعًا لـ((لينة)) بمعنى النخلة.
وقد اختلف في معناها كما ذكر الشارح؛ قال ابن عطية: واختلف الناس في اللينة فقال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون: اللينة النخلة؛ اسمان بمعنى واحد وجمعها: لين وليان... (ثم ذكر بيتين امرئ القيس، ثم قال:) وقال ابن عباس وجماعة من اللغويين: اللينة من النخل ما لم يكن عجوة. وقال سفيان بن سعيد الثوري: اللينة الكريمة من النخل. وقال أبو عبيدة فيما روي عنه وسفيان: اللينة ما تمرها لون، وهو نوع من التمر يقال له اللون. قال سفيان: هو شديد الصفرة يشف عن نواة من التمر فيرى من خارج، وأصلها: ((لِوْنَة)) فأبدلت لموافقة الكسرة. وقال أيضًا أبو عبيدة: اللين ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني.اهـ.
والبيت في ديوان امرئ القيس (ص165)، و "شرح ديوانه" (ص116)، و"المحكم" (10/385، 426- 427)، و "جمهرة اللغة" (2/674، 989)، (3/1329)، و "الأمالي" (2/249)، و "أشعار الشعراء الستة الجاهليين" (1/117)، و "الحماسة المغربية" (2/1116)، و "المحرر الوجيز" (1/495)، (5/285)، و"روح المعاني" (28/43)، و"تفسير القرطبي" (18/12)، و "لسان العرب" (21/377، 393)، و"تاج العروس" (18/497، 516). وبلا نسبة في "المخصص" (11/132)، و"تهذيب اللغة" (4/25)، (15/364)، و"البحر المحيط" (8/240)، و "إعراب القرآن" للنحاس (4/391)، و "الدر المصون" (10/281)، لسان العرب (10/154)، و"تاج العروس" (13/210).
وانظر: "مشارق الأنوار" (1/365)، و "شرح النووي" (12/50)، و"النهاية" (4/278- 279)، و "فتح الباري" (7/333)، (8/629).
(22) في (أ) و(ب) و(ز) و(م): ((ركب)).
(23) في (ح): ((الشعر)).
(24) تقرأ في (ز): (والسويرة)).
(25) في النسخ: ((النظير)).(3/530)
ومن بابِ تخصيصِ هذه الأمِة بتحليلِ الغنائمِ
قولُ النبيِّ المذكورِ في هذا (1) الحديث - صلى الله على نبينا وعليه وسلم-: ((لا يتبعني (2) رجل قد (3) ملك بضع امرأة، وهو (4) يريد أن يَبنَي (5) بها، ولما يبن))؛ البُضعُ - بضمِّ الباءِ-: كنايةٌ عن فرجِ المرأةِ، وقد يُكنى به عن النكاحِ نفسه (6) ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُم أَهْلَهُ صَدَقَةٌ)) (7) . و((هَذَا البُضْعُ لَا يُقْرَعُ أَنفُه)) (8) ؛ يُريدُ هذا الكُفُؤ الذي لا يُردَّ. والبُضْعُ: مَهرُ المرأةِ (9) . والبَضْعُ - بِفتحِ الباءِ - مصدرُ بَضَعَ اللحمَ، يَبْضَعُهُ (10) : إذا قطعه. والبِضْعُ - بكسرِ الباءِ - في العدد: ما بين (11) الثلاثةِ إلى التسعةِ. وقد تقدَّم تفسيرُه.
و((الخَلفِات)): جمعُ ((خَلِفَةٍ))؛ وهي الناقةُ التي دنا ولادُها (12) .
وإنما نهى هذا النبيُّ قومَه عن اتباعِه على هذه الأحوالِ؛ لأن أصحابَها يكونون متعلِّقي النفوسِ بهذه الأسبابِ، فتضعفُ عزائمُهم، وتَفْتُرُ رغباتُهم في الجهادِ، والشهادةِ، وربما يُفْرِطُ ذلك التعلقُ بصاحبِه فيُفْضي به إلى كراهيةِ (13) الجهادِ وأعمالِ الخيرِ.
وكأن مقصودَ هذا النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يتفرَّغوا (14) من عُلَقِ (15) الدنيا ومُهِمَّاتِ أغراضِها، إلى (16) تمنِّي الشهادةِ بنيَّاتٍ صادقةٍ، وعُزُومٍ حازمةٍ (17) ، صافيةٍ، ليحصلُوا على الحظِّ الأوفْرِ، والأجرِ الأكبْرِ. =(3/531)=@
__________
(1) قوله: ((وقول النبي المذكور...)) إلى هنا، موضعه في (أ): ((قول النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكور في الحديث)). وفي (ز): ((قول النبي - صلى الله عليه وسلم - )) فقط. وفي (ب) و(م): ((قول النبي المذكور في هذا الحديث صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع النبيين)).
(2) في (أ): ((يبتني)).
(3) سقط من (ب) و(ح) و(ز) و(ي) و(م).
(4) قوله: ((وهو)) سقط من (أ).
(5) في (أ) و(ز): ((يبتني)).
(6) في (ب): ((بعينه)).
(7) تقدم في الزكاة، باب أعمال البر صدقات برقم (872).
(8) ((نعم البُضع لا يقرع أنفه)) قاله عمرو بن أسد عم خديجة رضي الله عنها، عندما ذهب إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بعض عمومته خطابًا إياها، فلما رآه عمرو قال ذلك وقال نحوه أبو سفيان عند تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة رضي الله عنها.
وأصله: أن الرجل يأتي بناقة كريمة إلى رجل له فحل، فيسأله أن يُطرقها فحله، فإن أخرج إليه فحلاً ليس بكريم، قرع أنفه، وقال: لا أريده. وانظر: "الطبقات الكبرى" (1/123)، (8/16، 99)، و "غريب الحديث" للحربي (3/1021)، و "غريب الخطابي" (1/297- 298)، و "تهذيب الأسماء واللغات" (3/268).
(9) من قوله: ((وهذا البضع لا يقرع ....)) إلى هنا، من (أ) فقط، وليس في سائر النسخ.
(10) في (ب): ((يبضعه)).
(11) قوله: ((ما بين)) في (ز): ((من)).
(12) في (أ) و(ح): ((ولادتها)). قال في "المصباح" (ص346): الولادة: وضع الوالدة ولدها. و((الولاد)) بغير هاءٍ: الحمل؛ يقال شاة والد بينة الولاد. ومنهم من يجعلها بمعنى الوضع. وكسرهما أشهر من فتحهما.اهـ. والمراد هنا معنى الوضع.
(13) في (أ): ((كراهة)).
(14) قوله: ((النبي ? أن يتفرعوا)) في (ز) ((البني ليتفرغوا)).
(15) في (ب): ((علل))، وكتب فوقها: ((علق)).
(16) في (أ): ((وعلى)).
(17) في (أ): ((حاضرة))، وفي (م): ((حازمة)).(3/531)
وقوله: ((فأدنى للقرية (1) ))؛ هكذا روايةُ جميعِ الرواةِ ((أدنى)) رباعيًّا.
قال القاضي أبو الفضل عياضٌ (2) : فإما أن تعديةَ ((دنا))؛ أي: قَرُبَ؛ فمعناه (3) : أدنى جيوشَه وجموعَه إليها. أو يكونَ ((أَدْنى)) بمعنى: حان؛ أي: قَرُبَ، وحضر فتحُها؛ من قولِهم: أَدْنت (4) الناقةُ: إذا (5) حان (6) نتاجُها، ولم يُقَلْ في غيرِ الناقةِ (7) .
قلتُ (8) : والذي يظهرُ لي أن ذلك من باب: أنجد، وأغار، وأشهر، وأظهر؛ أي (9) : دخل في هذه الأزمنةِ والأمكنةِ؛ فيكونُ معنى((أدنى)) أي (10) : دخل في الموضعِ (11) الداني منها. والله تعالى أعلم.
والقريةُ: المدينةُ، وهي ((أَرِيحا)) (12) . وكلُّ مدينةٍ قريةٌ؛ لاجتماعِ أهلِها فيها؛ من قريتُ الماءَ في الحوضِ: إذا جمعتَه، وجمعها: ((قُرى)) على غيرِ قياسٍ، والقياسُ المدُّ؛ كَـ((رَكْوَةٍ)) و((رِكاءٍ))، و((ظَبْيَةٍ)) و((ظِبَاءٍ))، وقد قيل: ((قِرية)) بكسرِ القافِ لغةٌ يمانيَةٌ، ولعلها جُمعت على هذه اللغةِ، كـ((ذِروة)) و((ذُرى))، و((لِحية)) (13) و((لُحًى)).
وقوله (14) للشمسِ: ((أنتِ مأمورةٌ))؛ أي: مسخَّرةٌ بأمرِ الله تعالى، وهو كذلك أيضًا (15) ، وجميعُ الموجوداتِ، غيرَ أن أمرَ الجماداتِ أمرُ تسخيرٍ وتكوينٍ، وأمرُ العقلاءِ أمرُ تكليفٍ وتكوينٍ (16) . وحبسُ الشمسِ على هذا النبيِّ ? من أعظمِ معجزاتِه، وأخصِّ كراماتِه. وقد اشتهر أن الذي حُبستْ عليه الشمسُ من الأنبياءِ - صلوات الله وسلامه عليهم- هو: يُوشَعُ بنُ نونٍ عليه السلام.
وقد رُوي أن مثلَ (17) هذه الآيةِ كانت لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - في موطنين:
أحدُهما: في حفرِ الخندقِ؛ حينَ شُغلوا (1) عن صلاةِ العصرِ حتى غابتِ الشمسُ، فردَّها الله تعالى عليه (2) حتى صلَّى العصرَ؛ ذكر ذلك الطحاويُّ (3) ، وقال: إن رواتَهُ كلَّهم ثقاتٌ.
والثانيةُ (4) : صبيحةُ الإسراءِ؛ حين انتظروا العِير التي أَخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بوصولِها =(3/532)=@
__________
(1) في (م): ((شغلوه)). وفي هامش (ب) تعليق نصه: ((حاشية: قوله: ((في حفر الخندق)) سبْق وَهْم؛ وإنما كان الشغل عن الصلاة في أيام الأحزاب الذي حفر الخندق من أجلها، حين تحزبت عليه العرب فهزمهم الله، وهي غزوة الخندق، لا حين حفر الخندق)).اهـ. وانظر التعليق التالي.
(2) سقط من (ح) و(ي).
(3) ذكره القاضي عياض في "الإكمال" (6/53)، و"الشفا" (/). قال الحافظ في "الفتح" (6/222): ((وأما ما حكى عياض أن الشمس رُدَّت للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق لما شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فردَّها الله عليه حتى صلى العصر - كذا قال - وعزاه للطحاوي، والذي رأيته في "مشكل الآثار" للطحاوي ما قدمت ذكره من حديث أسماء، فإن ثبت ما قال، فهذه قصة ثالثة)). اهـ.
والذي وقع في حفر الخندق، أنهم صلوا العصر بعد ما غربت الشمس، وهو عند المصنف، في الصلاة، باب ما جاء في الصلاة الوسطى، وباب من فاتته الصلوات كيف يقضيها برقم (512 و513 و516). وأما ما ذكره الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" من حديث أسماء بنت عميس (3/92 و93 رقم1067 و1068) فهو في قصة وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه في حجر علي، وعدم صلاته للعصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((صليت يا علي؟ )) قال: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((اللهم كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس)). قالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غابت .
وهو حديث موضوع. انظر "السلسلة الضعيفة" للألباني (2/395-401 رقم971)، و"الأوسط" للطبراني (4/224 رقم4039).
(4) في (ز): ((الثاني)).
__________
(1) في (أ) و(ح) و(ي): ((القرية)).
(2) ((عياض)) من (أ) فقط.
(3) في (ز): ((معناه)).
(4) في (ب): ((أذنت)).
(5) في (ح) و(ي): ((أي)).
(6) في (ب): ((دنا)).
(7) "الإكمال" (6/54) و "المشارق" (1/259) ونقله عن القاضي أيضًا: النووي في "شرح مسلم" (12/52). وقول القاضي ومن تبعته: ((يقتضي أن غير الناقة لا يقال ((أدنت))، لكن ولم يقل في غير الناقة قال في "العين": ((وأقربت الشاة والأتان فهي مقرن و أدنت الناقة فيه مدنٍ لا غير)) وفي "اللسان" ((الليث: أقربت الشاة والأتان فهي مقرب، ولا يقال للناقة إلا أدنت فهي مدنٍ)). وكذلك في "تاج العروس". وهذا يقتضي أن الناقة يقال فيها ((أدنت)) فقط، ولا يقال: ((أقربت))، أما ((أدنت)) فقد تقال لغير الناقة، وفي "أساس البلاغة": وأدنت الفرس فهي مدنٍ: ((دنا نتاجها))، وقد جاء في "اللسان" و "تاج العروس" أيضًا: ((وناقة مدنية ومُدْنٍ)): ((دنا نتاجها. وكذلك المرأة، وقد أدنت)). "العين" (5/154)، و "أساس البلاغة" (ص243)، و "لسان العرب" (1/665)، و "تاج العروس" (19/418).
(8) في (ز): ((قال الشيخ)) وفي (ب) و(م): ((قال الشيخ رحمه الله)).
(9) في (ز): ((إذا)).
(10) قوله: ((أي)) سقط من (ح) و(ي).
(11) في (ز): ((هذا الموضع)).
(12) ((أريحا)) بالفتح، ثم الكسرِ، وبياء ساكنة، والحاءُ مهملة، والقصرِ، وقد قيل بالخاء المعجمة لغة عبرانية. هي مدينة الجبارين في الغور من أرض الأردنّ بالشام، بينهما وبين المقدس يوم للفارس "معجم البلدان" (1/165)، وانظر: "فتح الباري" (6/222)، وقال الحافظ: سماها الحاكم في روايته عن كعب.
(13) من قوله: ((والقرية المدينة...)) إلى هنا، من (أ) فقط.
(14) في (ي): ((قوله)).
(15) سقط من (ي).
(16) في (ب): ((وتلوين)).
(17) قوله: ((مثل)) سقط من (أ).(3/532)
مع شروقِ الشمس ِ (1) . ذكره يونسُ بن بُكَيرٍ في زيادتِه في "سيرِ ابن إسحاقَ".
وقوله: ((فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النَّار لتأكله، فأبت أن تطعمه (2) ))؛ كانت (3) سنةُ الله تعالى في طوائفَ من بني إسرائيل أن يسوقَ لهم (4) نارًا، فتأكلُ (5) ما خَلُصَ من قربانِهم وغنائمِهم (6) ، فكان ذلك الأكلُ علامةَ قبولِ ذلك المأكولِ (7) ؛ حكاه السُّدِّيُّ وغيرُه، وهو الذي يدلُّ عديه ظاهرُ القرآنِ في قولِه تعالى: {الذين قالوا (8) إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار} (9). ويدلُّ على هذا (10) أيضًا: ظاهرُ هذا (11) الحديثِ، وقد كان فيهم - على ما حكاه ابنُ إسحاقَ - نارٌ تحكمُ بينهم عندَ تَنازُعِهم، فتأكلُ الظالَم، ولا تضرُّ المظلومَ. وقد رفع الله تعالى =(3/533)=@
__________
(1) ذكره القاضي أيضًا في الموضع السابق وقال الحافظ في "الفتح" (6/221): ((وهذا منقطع، لكن وقع في "الأوسط" للطبراني من حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار. وإسناده حسن)). اهـ.
قال الألباني في "الصحيحة" (1/401): قلت: وفي النفس من تحسينه شيء، وإن كان سبقه إليه شيخه الهيثمي في"المجمع" (8/297)، ولعل الحافظ نقله عنه. والله أعلم. ولئن صح هذا، فلا يعارض حديث يوشع عليه السلام لإمكان الجمع بينهما ... وبعد كتابة ما تقدم وقفت والحمد لله على إسناد الحديث، فتبين أنه ليس بحسن، بل هو ضعيف أو موضوع، ولذلك أودعته في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" برقم (972 ))).اهـ.
(2) في (ح) و(ي): ((تطعم)).
(3) في (أ): ((وكانت)).
(4) في (ح): ((إليهم)).
(5) في (ب) و(م): ((لتأكل)).
(6) في (أ): ((وغنمائمهم)).
(7) قوله: ((قبول ذلك المأكول)) في (أ): ((قبول المأكول))، وفي (ز): ((لقبول المأكول)).
(8) قوله: ((الذين قالوا)) سقط من (ح) و(ي).
(9) سورة آل عمران؛ الآية: 183.
وانظر: "تفسير الطبري" (7/448- 450)، و(14/64- 66).
(10) قوله: ((على هذا)) في (ح) و(ي): ((عليه)).
(11) سقط من (ز).(3/533)
كل ذلك عن هذه الأمةِ، وأحلَّ لهمِ غنائمَهم، وقربانَهم؛ رفقًا بهم ورحمةً لهم؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ((ذَلِكَ بِأَنَّ الله رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا))، وَجَعْلَ ذلك من خصائصِ هذه الأمةِ؛ كما قال (1) : ((فَلَمْ تَحِلَّ الغَنَائِمُ لِأَحَدٍ قَبْلَنَا))، وقد جاء في الكتبِ القديمةِ: أن من خصائصِ هذه الأمةِ: أنهم يأكلونَ قربانَهم في بطونِهم.
وما جرى لهذا النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع قومِه في أخذِ (2) الغُلولِ، آيةٌ شاهدةٌ على صدقِه، وعلى عظيمِ مكانته عندَ ربِّه عزَّ وجلَّ. وفي حديثِه أبوابٌ من الفقهِ لا تَخفى على فَطِنٍ. والله أعلم (3) .
ومن بابِ قوله تعالى: {يسألونك عن الأنفال} (4)
قول سعدٍ (5) رضي الله عنه: ((نزلت فيَّ أربع آيات))، ولم يذكرْ غيرَ آيةٍ واحدةٍ هنا، وقد جاءتِ الثلاثةُ الباقيةُ مبيَّنةً في كتابِ مسلمٍ، وسيأتي (6) ، إن شاء الله تعالى (7) .
وقوله (8) : ((نَفِّلْنيه))؛ أي: أعطني (9) إيَّاه؛ قال لبيد (10) :
إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا (11) خَيْرُ نَفَل ... وَبِإذْنِ اللهِ رَيْثِي (12) وَعَجَلْ (13)
ومنه سُمي الرَّجلُ ((نوفلاً))؛ لكثرةِ عطائِه. ويكون النَّفَلُ أيضًا الزيادةَ (14) . ومنه ((نوافلُ الصلاةِ)) (15) ؛ وهي الزوائدُ على الفرائضِ. =(3/534)=@
__________
(1) بعده في (ي): ((تعالى)).
(2) قوله: ((أخذ)) سقط من (ح).
(3) قوله: ((والله أعلم)) من (ز) فقط.
(4) سورة الأنفال؛ الآية: 1.
(5) قوله: (( قول سعد)) في (ي): ((قوله سعد)).
(6) في كتاب الفضائل، باب فضل سعد بن أبي وقاص.
(7) وقوله: ((وسيأتي...)) في (ب) و(م): ((وستأتي..))، و((إن شاء الله تعالى)) من (ب) و(م) فقط.
(8) في (ح) و(ي): ((قوله)) دون الواو.
(9) في (أ) و(ب): ((أعطيني))، وفي (ز): ((أعطاني)).
(10) قوله: ((قال لبيد)) غير واضح في (ب).
(11) قوله: ((تقوى ربنا)) في (ي): (تقوى الله)). وبه ينكسر وزن البيت.
(12) في (أ) و(ز) و(م): ((ربي)).
(13) البيت من الرمل، وهو -كما قال الشارح - للبيد، وهو لبيد بن ربيعة العامري الصحابي المخضرم؛ عاش في الجاهلية والإسلام، في قصيدة يذكر فيها مآثره ويتفجع على فراق أخيه أربد، وهذا البيت هو مطلع القصيدة، يقول بعده:
أحمدُ الله فلا نِدَّ لَهُ ... بيديهِ الخيرُ ما شاء فَعَلْ
مَن هداه سُبُلَ الخيرِ اهتدى ... ناعِمَ البالِ ومَن شاء أَضَلْ
ورَقَاقٍ عُصَبٍ ظُلْمانُه ... كحَزيقِ الحَبَشِيِّين الزُّجَلْ
قد تجاوزتُ وتحتي جَسْرَةٌ ... حَرَجٌ في مَرِفقَيْها كالفَتَلْ
وتظهر فيها روح التدين التي خالطت نفسه حتى قبل أن يسلم ويحسن إسلامه، وقد استشهد بهذه الأبيات بعض العلماء على إثبات القدر عند بعض الجاهليين؛ منهم ابن بطة في "الإبانة" (1/221)، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان يأمر برواية قصيدة لبيد هذه.
والريث: الإبطاء. وقوله: ((وعجلْ)) أي: وعجلي، وجاء في بعض المصادر: ((والعجل)).
والشاهد فيه قوله: ((نفل)) بمعنى الزيادة والفضل.
والبيت للبيد في "ديوانه" (ص139)، و "جمهرة أشعار العرب" (1/125)، و "الصحاح" (5/1833)، و "المقاييس" (2/4649، و "المصباح المنير" (ص318) (بلا نسبة)، و "مفردات ألفاظ القرآن" (ص250)، و "لسان العرب" (11/670)، و "تاج العروس" (15/746)، و "مجاز القرآن" (1/240)، و "المحرر الوجيز" (2/496)، و "تفسير الطبري" (13/226)، و "زاد المسير" (3/318)، و "الكشاف" (2/549)، و "البحر المحيط" (4/451- 452) ، و "الدر المصون" (5/556)، و "تفسير القرطبي" (7/317)، (15/120)، و "غريب الحديث" للخطابي (2/15)، و "فتح الباري" (13/449).
(14) في (أ): ((للزيادة)).
(15) في (ح) و(ي): ((الصلوات)).(3/534)
وقوله: ((أَوَ أُجْعَل (1) كمن لا غناء له))؛ الرِّواية الصحيحة بفتحِ الواوِ، ومن سكَّنها غَلِطَ؛ لأنها الواو الواقعةُ بعد همزةِ الاستفهامِ، ولا تكونُ إلا مفتوحةً (2) . وأما ((أو (3) )) الساكنةُ: فلا (4) تكونُ إلا لأحدِ الشيئينِ (5) .
وهذا الاستفهامُ من سعدٍ على جهةِ الاستبعادِ والتعجُّبِ من أن يُنَزَّلَ من ليس في شجاعتِه منزلتَه، لا على جهةِ الإنكارِ؛ لأنه لا يصحُّ ولا يحلُّ الإنكارُ على النبي ِّ - صلى الله عليه وسلم - (6) ، لا (7) سيما فيمن (8) يكون في منزلةِ سعدٍ، ومعرفتِه بحقِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، واحترامِه له.
و((الغَناء)) بفتح الغينِ، والمدِّ: النفعُ. و((الغِنى)) بكسرِ الغينِ والقصرِ: كثرة المال.
وقوله: ((فنزلت هذه الآيةُ: {يسئلونك عن الأنفال})) يقتضي أن يكونَ ثمَّ سؤالٌ عن حكمِ الأنفالِ، ولم يكن هنالك (9) سؤالٌ عن ذلك على ما يقتضيه (10) هذا الحديثُ؛ ولذلك قال بعضُ أهلِ العلمِ: إن((عن)) صلةٌ؛ ولذلك قرأه (11) ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه بغير((عن)): ((يسألونكَ (12) الأنفال)) (13) . وقال بعضُهم: إن((عن)) بمعنى ((مِنْ))؛ لأنه إنما (14) سألَ شيئًا معينًا، وهو السيفُ (15) ، وهو من الأنفالِ (16) .
و((الأنفالُ)): جمعُ ((نَفَلٍ)) - بفتح الفاء - هنا (17) ؛ كـ((جَمَل)) و(أَجْمالٍ))، و((لبن)) و((ألبان (18) )).
وقد اخُتلف في المرادِ بالأنفالِ هنا في الآية؛ هل هي الغنائم؛ لأنها عطايا، أو هي ما (19) ينفَّلُ من الخمسِ بعدَ القَسْمِ (20) ؟
وكذلك اختُلف في أخذِ سعدٍ لهذا (21) السيفِ؛ هل كان أَخْذُه له من القبضِ قبلَ القسمِ، أو بعدَ القسمِ (22) ؟ وظاهرُ قولِه: ((ضَعْهُ حَيْثُ أَخَذْتَهُ)) أنه قبلَ القسمِ؛ لأنه لو كان أَخْذُه له بعدَ القسمِ لَأَمَره أن يردَّه إلى من طار (23) له (24) في القَسْمِ (25) . =(3/535)=@
__________
(1) قوله: ((على الفرائض قوله)) و(ي) في (أ): ((وقوله على الفرائض)).
(2) قوله: ((وقوله: أو أجعل...)) إلخ. الرواية في "صحيح مسلم" ((أؤجْعل)) بهمزتين لا واو بينهما، وإنما ترسم الهمزة الثانية على واوٍ، لانضمامها مع فتح ما قبلها. ولم يذكر أحد من شراح مسلم - فيما نعلم - اختلافًا في رواية هذه اللفظة. لكن ما ذكره الشارح حول فتح الواو، وتسكينها، صحيح على كل حال. [يراجع نسخ التلخيص في المطبوع (أو أجعل)].
(3) سقط من (ي).
(4) في (أ): ((لا)).
(5) في (ي): ((شيئين)).
(6) زاد في (ب): ((واحترامه له)). [شطبت من الهامش وبقيت في المتن ولم تشطب].
(7) في (م): ((ولا)).
(8) في (أ) و(ح) و(ي): ((فيمن)).
(9) في (م): ((هناك)).
(10) في (م): ((يقتضي)).
(11) في (ح) و(ي): ((قرأ)).
(12) في (أ): ((يسألونك عن)).
(13) أخرجه الطبري في "تفسيره" (13/378 رقم15665) عن ابن يسار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش قال: كان أصحاب عبدالله يقرأونها: يسألونك الأنفال .
وأخرجه أيضًا في الموضع السابق رقم (15666) عن ابن وكيع، عن المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هي قراءة ابن مسعود: يسألونك الأنفال .
وسنده ضعيف .
(14) سقط من (ز).
(15) في (ح) و(ي): ((السلف)).
(16) قراءة: ((يسألونك الأنفال)) هي قراءة عبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعلي بن الحسين وولديه: زيد، ومحمد الباقر، وولده جعفر الصادق، وعكرمة، وعطاء، والضحاك وطلحة بن مصرف. قال الطبري بعد أن ذكر الأقوال الثلاثة في الآية، تبعًا للاختلاف في سبب نزولها: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله تعالى أخبر في هذه الآية عن قومٍ سألوا رسولَ الله الأنفالَ أن يعطيهموها، فأخبرهم الله أنها لله، وأنه جعلها لرسوله. وإذا كان ذلك معناه، جاز أن يكون نزولُها كان من أجل اختلاف أصحابِ رسول الله فيها، وجائز أن يكون كان من أجل مسألةِ من سأله السيف الذي ذكرنا عن سعد أنه سأله إياه، وجائز أن يكون من أجل مسألةِ من سأله قَسْم ذلك بين الجيش.اهـ.
وقال أبو حيان: والضمير في (يسألونك) يفسره وقعة بدر؛ فهو عائد على من حضرها من الصحابة، وكان السائل معلومًا معينًا ذلك اليوم؛ فعاد الضمير عليه. والسؤال قد يكون لاقتضاء معنًى في نفس المسئول فيتعدى إذ ذاك بـ((عن))، ((يسألونك عن الأنفال)) حكمها ولنم تكون؛ ولذلك جاء الجواب: ((قل الأنفال لله والرسول)). وقد يكون السؤال لاقتضاء مالٍ ونحوه؛ فيتعدّى إ ذاك لمفعولين؛ تقول: ((سألت زيدًا مالاً)). وقد جعل بعض المفسرين السؤال هنا بهذا المعنى، وادعى زيادة ((عن))، وأن التقدير: ((يسألونك الأنفال)) وهذا لا ضرورة تدعو إليه، وينبغي أن تحمل قراءة من قرأ بإسقاط ((عن)) على إرادتها؛ لأن حذف الحرف وهو مراد أسهل من زيادته لغير معنى غير التوكيد. وقيل: ((عن)) بمعنى ((من))؛ أي: يسألونك من الأنفال. ولا ضرورة تدعو إلى تضمين الحرف معنى الحرف.اهـ. بتصرف. وتابعه على ذلك السمين الحلبي. انظر "تفسير الطبري" (13/367- 380)، و "البحر المحيط" (4/453)، و "الدر المصون" (5/555).
(17) قوله: ((هنا)) سقط من (أ) و(ز) و(ي).
(18) والأنفال: العطايا. والنفل: العطية تطوعًا والزيادة على الواجب. قد تقدم تفسيره بنحوه للشارح أول الباب.
(19) في (ي): ((مما)).
(20) انظر ما يأتي للشارح قريبًا في الكلام على الخلاف في هذه الآية: محكمة أو منسوخة.
(21) قوله: ((سعد لهذا)) في (ب): ((هذا)) ,في (م): ((سعيد هذا)).
(22) من قوله: ((وكذلك اختلف ....)) إلى هنا، سقط من (ح) و(ي).
(23) في (م): ((صار)) وطارَ له في القسمة كذا؛ أي: وقع في حصته وصار لهو المعنى واحد. وانظر "النهاية" (1/54).
(24) في (ي): ((إليه)).
(25) وقال القاضي في "الإكمال" (6/55): ((ويحتمل أن يكون هذا قبل الخمس؛ ألا تراه كيف قال: ((ضعه حيث أخذته)). ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول حكم الغنائم وتحليلها والحكم فيها، وهو الأظهر والصواب؛ وعليه يدل الحديث، وقد روي في تمامه ما بيَّنه من قوله ? لسعد بعد نزول الآتي: ((خذ سيفك سألتنيه وليس لي ولا لك، وقد جعله الله لي، وجعلته لك)). ويحتمل أن يكون بعد بيان الخمس وقبل القسمة.(3/535)
وقولُه تعالى: {قل الأنفال لله والرسول} (1) ؛ ظاهرُه - إن حملنا الأنفال على الغنائمِ - أن الغنيمةَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليستْ مقسومةً بين الغانمين؛ وبه قال ابنُ عباسٍ (2) وجماعةٌ، ورأوا أنها منسوخةٌ بقولِه تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه...} (3) الآيةَ (4) ، وظاهرُه (5) : أن أربعةَ أخماسِ الغنيمةِ للغانمين.
وقد رُوي عن ابن عباسٍ (6) أيضًا: أنها محكمةٌ، غيرُ منسوخةٍ، وأن للأمامِ أن ينفلَ من الغنائمِ ما شاء لمن شاء ؛ لما يراه من المصلحةِ. وقيل: هي مخصوصةٌ بما شَذَّ من المشركين إلى المسلمين؛ من عبدٍ، أو أمَةٍ، أو دابةٍ. وهو قولُ عطاءٍ، والحسنِ.
وقيل: المرادُ بها: أنفالُ السَّرايا.
والأولى: أن الأنفالَ المذكورةَ في هذه الآيةِ هي ما ينفِّلهُ الإمامُ من الخمسِ؛ بدليلِ قولهِ تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} (7) ، ولا يصحُّ الحكمُ بالنسخِ؛ إذ الجمعُ بين الآيتين ممكنٌ، ومتى أمكن الجمعُ فهو أولى من النسخِ (8) ، باتفاقِ الأصوليين.
وقال مجاهدٌ في الآية: إنها محكمةٌ، غيرُ منسوخةٍ، وأن المرادَ بالأنفالِ: ما ينفلُه الإمامُ من الخمسِ (9) . وعلى هذا: فلا نفلَ (10) إلا من الخمسِ، ولا يتعيَّنُ الخمسُ إلا بعدَ قسمةِ الغنيمةِ خمسةَ أخماسٍ؛ وهو المعروفُ من مذهبِ مالكٍ. وقد رُوي عن مالكٍ: أن الأنفالَ من خمسِ الخمسِ؛ وهو (11) قولُ ابنِ المسيِّبِ، والشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، والطبريِّ. وأجاز الشافعيُّ النفلَ قبلَ إحرازِ الغنيمةِ وبعدهَا. وهو قولُ أبي ثورٍ، وا لأوزاعيِّ، وأحمدَ، والحسنِ البصريِّ (12) .
وقولُه تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} (13) ؛ أي: أصلحوا فيما بينكم، وأطيعوا الله ورسولَه فيما أمرَكم =(3/536)=@
__________
(1) سورة الأنفال؛ الآية: 1. ووقع في (ي): ((وللرسول)).
(2) علقه البخاري (8/306) في التفسير، باب قوله { يسألونك عن الأنفال ...}. ووصله الطبري (13/378 رقم 15667)، وابن أبي حاتم (5/1653 رقم8766)، والبيهقي (6/293)؛ ثلاثتهم من طريق أبي صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} قال: الأنفال: المغانم، كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة، ليس لأحد منها شيء ...، ثم أنزل الله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ...}.
وفي سنده: أبو صالح عبدالله بن صالح، صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة؛ كما في "التقريب"(ص515 رقم3409). وعلي بن أبي طلحة: اختلف في سماعه من ابن عباس .
(3) سورة الأنفال؛ الآية: 41.
(4) قوله: ((الآية)) سقط من (أ).
(5) في (ب): ((وظاهره)).
(6) تخريج.
(7) سورة الأنفال؛ الآية: 41. وانظر "تفسير الطبري" (13/361- 367).
(8) من قوله: ((إذا الجمع بين...)) إلى هنا، سقط من (م).
(9) انظر "تفسير الطبري" الموضع السابق.
(10) قوله: ((فلا نفل)) في (ز): ((ما أنفل)).
(11) في (ح): ((وهذا)).
(12) في (ز): ((البصر)).
(13) سورة الأنفال؛ الآية: 1.(3/536)
به من الرضا بما قَسَمَ لكم، إن كنتم محقِّقين إيمانَكم. وهذا يدلُّ على أنهم (1) وقع فيما بينهم شَنَآنٌ ومنافرةٌ بسببِ الغنيمةِ. ويدلُّ على هذا: ما رواه أبو أمامةَ الباهليُّ (2) - رضي الله عنه - قال: سألتُ عُبادة بنَ الصامتِ عن ِالأنفالِ؟ فقال: فينا أصحابَ (3) بدرٍ نزلتْ، حين اختلفنا في النَّفلِ، وساءت فيه أخلاقنُا، فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقسَمه علينا على بواءٍ؛ أي: على سواءٍ (4) . وعن ابن عباسٍ (5) - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: ((من فعل كذا (6) ، فله كذا))، فتسارع الشُّبَّانُ، وثبت الشيوخُ مع الرَّاياتِ، فلما فُتح لهم، جاء (7) الشبانُ يطلبون ما جُعل لهم، فقال لهم الأشياخُ: لا تذهبون (8) به دوننا، فقد كنَّا رِدْءًا لكم، فأنزل الله تعالى (9) : {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} (10) .
وقوله: ((بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نجد سريةً)) إلى قوله: ((ونفلنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرًا بعيرًا))؛ هذه السريةُ خرجتْ من جيشٍ بعثهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نجدٍ، فلما غنمت قسم ما غنمت على الجيش والسريةِ، فكانت (11) سُهْمَانُ كلِّ واحدٍ من الجيشِ والسَّريةِ: اثني عشر بعيرًا، اثني عشر بعيرًا (12) ، ثم زِيدَ أهلُ السَّرية بِعيرًا بعيرًا؛ فكان لكلِّ إنسانٍ (13) من أهلِ السَّريةِ: ثلاثةَ عشرَ بعيرًا، ثلاثةَ عشرَ بعيرًا (14) . بيّن ذلك ونصَّ عليه أبو داود (15) من حديثِ شعيبِ بن أبي حمزةَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ – رضي الله عنهما -.
ولهذا قال مالكٌ، وعامةُ الفقهاءِ: إن السَّريةَ إذا خرجتْ من الجيشِ، فما غنمتْه كان مقسومًا =(3/537)=@
__________
(1) في (ز): ((أنه)).
(2) حديثه حسن. انظر "سنن سعيد بن منصور" (5/187-189 رقم982) بتحقيقي.
(3) في (أ) ضبطت: ((أصحاب)) بفتح الباء وبكسرها، وكتب فوقها (( معًا)).
(4) قوله: ((على بواء أي على سواء)) في (ز): ((على بواء أي سواء))، وفي (م): ((على بواد أي على سواء))، وفي (ي): ((على سواء)) فقط، والتواء: المثل، والسواء، والكفء. "العين" (؟؟؟)، و "القاموس" (1/43).
(5) أخرجه أبو داود (3/175-176 و176-177 و177 رقم2737 و2738 و2739) في الجهاد، باب في النفل، والنسائي في "الكبرى" (6/349 رقم11197)، والطبري في "تفسيره" (13/367 و368 و368-369 رقم15650و15651 و15652)، والحاكم (2/131-132 و221 -222)، والبيهقي (6/291-292 و292 و315و315-316) من طريق أبي داود وغيره. جميعهم من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: ((من فعل كذا وكذا، فله من النفل كذا وكذا))، قال فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة: كنا ردءا لكم لو انهزمتم لفئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى. فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا. فأنزل الله تبارك وتعالى: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول...} إلى قوله: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون}؛ يقول: فكان ذلك خيرًا لهم، وكذلك أيضًا فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم .
قال الحاكم: ((هذا حديث صحيح))، ووافقه الذهبي .
(6) قوله: ((كذا)) سقط من (أ).
(7) في (ز): ((جاءت)).
(8) في (ز): ((تذهبوا)).
(9) في (م): ((عز وجل)).
(10) سورة الأنفال؛ الآية: 1.
(11) في (م): ((وكانت)).
(12) قوله: ((اثنتي عشر بعيرًا)) ذكر مرة واحدة في (ز) و(م)، ووقع في (ز): ((اثنا عشر بعيرًا)).
(13) في (م): ((واحد)).
(14) قوله: ((ثلاثة عشر بعيرًا)) ذكره مرة واحدة في (م).
(15) في "سننه" (3/177-178 رقم2741) في الجهاد، باب في نفل السرية تخرج من العسكر .(3/537)
بينها وبين الجيش. ثم إن رأى الإمامُ أن يُنَفلَهم من الخمسِ جاز عند مالكٍ، واستُحبَّ عندَ غيرهِ.
وذهب الأوزاعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو عبيدٍ: إلى أن النفلَ من جملةِ الغنيمةِ بعدَ إخراجِ الخمسِ، وما بقي للجيشِ، وحديثُ ابن عمرَ يردُّ على هؤلاءِ؛ فإنه قال فيه (1) : فبلغتْ سُهمانُنا (2) : اثني (3) عشر بعيرًا، اثني (4) عشر بعيرًا، ونفلنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرًا بعيرًا.
وظاهرُ مساقِ هذه الروايةِ: أن الذي قسَّم بينهم، ونَفَّلهم (5) ، هو (6) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، حين رجعوا إليه. وفي رواية مالكٍ عن نافعٍ: ((ونُفِّلُوا بعيرًا بعيرًا)) (7) ، ولم يذكرْ ((رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - )). ومن (8) رواية الليثِ عن نٍافع: ((وَنُفِّلوا سوى (9) ذلك بَعيرًا بعيرًا، فلم يُغِّيْره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - )). وفي كتابِ أبي داودَ (10) من حديثِ محمدِ بنِ إسحاقَ عن نافعٍ، قال: فَأَصَبْنَا نَعَمًا كثيرًا، فنَّفلنا أميرنُا بعيرًا بعيرًا، ثم قَدِمْنا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقسَم بيننا (11) غُنيمتَنا، فأصاب كلَّ إنسانٍ (12) منا: اثنا (13) عشرَ بعيرًا، اثنا (14) عشرَ بعيرًا، وما حاسَبَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي أعطانا صاحبُنا، ولا عاب عليه ما صنع؛ فكان لكلِّ رجلٍ ثلاثةَ عشرَ بعيرًا بنَفَلِه.
وهذا (15) اضطرابٌ في حديثِ ابنِ عمرِ (16) ، على أنه يمكنُ أن تحملَ (17) روايةُ من رفع ذلك إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه لما بلغه ذلك أجازه وسوَّغه. والله تعالى أعلم. أو (18) تكونُ روايةُ عبيدِالله عن نافعٍ في الرَّفع وَهْمًا.
وبمقتضى روايةِ ابنِ إسحاقَ عن نافعٍ قال الأوزاعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو عبيدٍ؛ كما قدمناه (19) آنفًا من (20) مذهبِهم. لكنَّ محمدَ بنَ إسحاقَ كذَّبه مالكٌ، وضعَّفه غيرُه. =(3/538)=@
__________
(1) سقط من (ي).
(2) في (م): ((سهما منّا)).
(3) في (ز): ((اثنا)).
(4) في (ز): ((اثنا)).
(5) تقرأ في (ي): ((ونقلهم)).
(6) تقرأ في (ي): ((ونقلهم)).
(7) "الموطأ" (2/450 رقم15) في الجهاد، باب جامع النفل في الغزو .
(8) في (ب) و(م): ((وفي)).
(9) قوله: ((سوى)) سقط من (ح).
(10) في "سننه"(3/179 رقم2743) في الجهاد، باب في نفل السرية تخرج من العسكر.
(11) في (ح): ((علينا)).
(12) في (أ): ((رجل))، وفي (ح) و(ي): ((واحد)). [راجع]
(13) في (ح) و(ي): ((اثني)).
(14) في (ح) و(ي): ((اثني)).
(15) في (م): ((وهو)).
(16) جمع بين الروايات كذلك القاضي في "الإكمال" (6/58، والنووي في "شرح مسلم" (12/55)، والحافظ في "الفتح" (6/239-240).
(17) في (م): ((يحمل)).
(18) في (ب) و(م): ((و)).
(19) في (ب) و(ز) و(أ): ((قدمنا)).
(20) تقرأ في (ح): ((ومن)).(3/538)
وقولُه: ((ونفلنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نفلاً سوى نصيبِنا من الخمس))؛ هذا المجرورُ الذي هو((من الخمس)) (1) هو في موضعِ الصفةِ لـ((نَفَل))؛ يعني (2) : أنه نفلهم نفلاً (3) من الخمسِ، وليس في موضعِ الحالِ من((نصيبِنا))؛ لأنه كان يلزم عليه أن يكون لهم نصيبٌ في (4) الخمسِ غيرُ النفلِ، ولم ينقلْ (5) هذا بوجهٍ، ولا قاله أحدٌ فيما علمتُه.
و((الشَّارفُ)): المسنُّ الكبيرُ من النُّوقِ (6) .
وقوله: ((كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينفلُ بعضَ مَن يبعثُ من السَّرايا))؛ يدلُّ على أن ذلك ليس حتمًا واجبًا على الإمامِ، وإنما ذلك (7) بحسبِ ما يظهرُ له من المصلحةِ والتنشيطِ؛ كما يقولُه مالكٌ. وقد كره مالكٌ أن يحرضَ الإمامُ العسكرَ بإعطاءِ جزءٍ من الغنيمةِ قبلَ القتالِ؛ لما يخافُ من فسادِ النيةِ. وقد أجازه بعضُ السَّلفِ. وأجاز النخعيُّ وبعضُ العلماءِ أن تُنفلَ (8) السَّريةُ جميعَ ما غنمت. والكافةُ على خلافِه. =(3/539)=@
__________
(1) قوله: ((الذي هو من الخمس)) سقط ((الذي)) من (ح) و(ي)، وسقط ((هو من الخمس)) من (ي) فقط.
(2) في (ب): ((بمعنى)).
(3) قوله: ((نفلاً)) سقط من (أ).
(4) في (م): ((من)).
(5) في (ز): ((ينفل)).
(6) وكذا فسِّر في "صحيح مسلم". قال القاضي: ((وتمامه: من النوق؛ لا يقال ذلك للذكران؛ والشارف: المسنة الكبيرة. إلا أن يريد بقوله: ((المسن الكبير)): البعير؛ لأنه ينطبق على المذكر والأنثى؛ فذكر الوصف على اللفظ.اهـ. وانظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/486).
(7) قوله: ((ذلك)) سقط من (ح).
(8) في (ح): ((ينفل)).(3/539)
وقوله: ((والخمس في ذلك واجبٌ كلِّه))؛ يعني: أن التخميسَ (1) لا بُدَّ منه فيما غنمته السَّريةُ، وفيما غنمه الجيشُ. وعلى (2) هذا يكونُ (3) ((كله)) مخفوضًا تأكيدًا لـ"ذلك" المجرور بـ((في))، وقد قيدناه بالرفعِ على أن يكون تأكيدًا لـ((الخمس)) المرفوعِ. وفيه بُعْدٌ. والله أعلمُ (4) .
من بابِ: للإمامِ أن يخصَّ القاتلَ بالسَّلبِ
((الجولُة)): الاضطرابُ. ويعنى به: انهزامَ المنهزمةِ يومَ حنينٍ؛ على ما يأتي. وذكر بعضُ العلماءِ الإجماعَ على أنه لا يجوزُ أن يقالَ: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - انهزم أو هُزِم، ولم يَرْوِ ذلك أحدٌ قطُّ، بل خلافُه من الشبابِ والإقدام (5) .
و((حبل العاتق)): هو موصلُ ما بين العنقِ والكاهِلِ. وقيل: هو حبلُ الوريدِ. والوريدُ: عرقٌ بين الحلقومِ والعِلْباوَيْن (6) .
وقوله: ((فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت))؛ أي: ضمةً شديدةً أَشْرفَ =(3/540)=@
__________
(1) في (ب): ((التخمس)).
(2) قوله: ((وعلى)) في (ز): ((وعن على)).
(3) في (ح): ((فيكون)).
(4) قوله: ((والله أعلم)) ليس في (ح) و(ي). ومن قوله: ((وعلى هذا يكون ....)) إلى هنا، سقط من (أ).
(5) من قوله: ((وذكر بعض العلماء...)) إلى هنا، انفردت به النسخة (أ). وكذا وقع فيها: ((الشباب والإقدام)) وكلمة ((الإقدام)) تقرأ ((الأقوام)). والصواب: ((الثبات والإقدام)). وهذه العبارة عبارة القاضي في "الإكمال" (6/63) وانظر "شرح النووي" (12/58، 122).
(6) في (ب) و(م): ((اللفاديد)) وفي (ي): ((العلياوين)) والعاتق: موضع الرداء من المنكب، والكاهِل: مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق، ما بين الكتفين. وقال الأصمعي: هو موصل العنق وحبل العاتق: قال الخطابي: هو وصلة ما بين العنق والكاهل.
قال القاضي: وقيل: الحبل: الوريد نفسه. والوريد: عرق بين الحلقوم والعِلْباوين. والعلباوان: هما العصبتان الصفراوان اللتان في مأخذ العنق تأخذا من أصل القفا إلى الكاهل بينهما أخدود. والمفرد ((عِلْباء)) مذكر مصروفٌ، والمثنى ((علباوان)) يجري مجرى الإناث.
والجمع: القلَابّي. "الكنز اللغوي" (ص200)، "تهذيب اللغة" (2/406).(3/540)
بسببِها على الموتِ. وهي استعارةٌ حسنةٌ. وأصلُها: أنَّ من قُرَب من الشيءِ وجد ريحَه.
وقوله: ((وجلس (1) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((من قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سلبه)) - دليل على أن هذا القولَ منه - صلى الله عليه وسلم - كان بعدَ أن بَرَدَ القتالُ، وأما قبلَ القتالِ (2) فيَكرهُ مالكٌ للإمام أن يقولَ مثل ذلك؛ لئلا تفسدَ نيةُ المجاهدين.
وهل قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك القولُ مُقَعِّدًا لقاعدِة تمليكِ السلبِ للقاتلِ، ومبيِّنًا لحكمِ الله تعالى في ذلك دائمًا، وفي كلِّ واقعةٍ؟ وإليه صار الليثُ، والشافعيُّ (3) ، والأوزاعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، والطبريُّ، والثوريُّ، وأبو ثورٍ؛ قالوا: السلبُ للقاتلِ؛ قاله الإمام أو لم يقلْه، غيرَ أن الشافعيَّ - رحمه الله - اشترط في ذلك أن يقتله مُقْبِلاً. واشترط الأوزاعيُّ أن يكونَ ذلك قبل التحامِ الحربِ.
أو قاله - صلى الله عليه وسلم - على جهةِ أن يبيِّن أن (4) للأمامِ أن يفعلَ ذلك إذا رآه مصلحةً؟ وإلى هذا ذهب مالكٌ، وأبو حنيفة؛ فقالا: إن السلبَ ليس بحقٍّ للقاتلِ، وإنه (5) من الغنيمةِ، إلا أن يجعلَ الأميرُ (6) ذلك له.
فأما (7) الطائفةُ الأولى: فتمسَّكتْ بظاهرِ الحديثِ المتقدِّمِ، وقصر الشافعيُّ عمومَ قولِه: ((مَنْ قتل قتيلاً)) على نحوِ (8) ما وقع لأبي قتادة؛ فإنه قتلَ الكافرَ مُقْبلاً (9) ؛ ولذلك ضمَّه الضمةَ الشديدةَ، وليس للأوزاعيِّ على ما اشترطَ حجَّةٌ من الحديثِ، بل هو حجَّةٌ عليه (10) ؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك بعدَ فراغِ القتالِ.
وأما الطائفةُ الثانيةِ: فإنهم ردُّوا ظاهرَ ذلك الحديثِ لما يعارضُه؛ وهو قولُه تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} (11) فأضاف أربعةَ =(3/541)=@
__________
(1) في (ز): ((فجلس)).
(2) في (ي): ((ذلك)). [عند كلمة القتال كتب عليها الهامش وهي (قبل ذلك القتال)] تراجع.
(3) قوله: ((والشافعي)) سقط من (أ) و(ب).
(4) سقط من (ي).
(5) في (ز): ((وإن)).
(6) في (م): ((الإمام)).
(7) في (ح): ((وأما)).
(8) سقط من (ز).
(9) في (م): ((مقتلا)). وكتب في جانبها في هامش المطبوع راجع في (م).
(10) في (ز): ((عليه)).
(11) سورة الأنفال؛ الآية: 41.(3/541)
أخماسٍ من (1) الغنيمةِ للغانمين، ولا يصلحُ قولُه: ((من قتل قتيلاً فله سلبه)) للتخصيصِ؛ للاحتمال الذي أبديناه.
ومما تمسَّكوا به قضيةُ أبي جهلٍ (2) الآتيةُ بعد هذا؛ وذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لابْنَيْ عفراءَ: ((كِلَاكُمَا قَتَلَهُ))، ثم قضى بسلبِه لأحدِهما، وهي نصٌّ في المقصودِ.
لا يقال: إن قضيةَ أبي جهلٍ متقدِّمةٌ وقضية أبي قتادةَ متأخِّرةٌ؛ فتكونُ ناسخةً؛ لأنا لا نسلمُ التعارضَ؛ لإمكانِ الجمعِ بين القضيتين؛ لأن ذلك رأيٌ رآه فيهما (3) ؛ فاختلف الحالُ بحسبِ (4) اختلافِ الاجتهادِ. والله تعالى أعلمُ.
ومما يعتضدُ به هؤلاء: أنه لو كان قولُه: ((من قتل قتيلاً فله سلبه)) مُقعِّدًا للقاعدةِ ومبيِّنًا لها؛ لكان ذلك أمرًا معمولاً به عند الصحابةِ (5) - رضي الله عنهم -، وخصوصًا الخلفاءَ الأربعةَ - رضي الله عنهم - ؛ فإنهم كانوا حضورًا في ذلك الموطنِ (6) ، وقد انقرضتْ أعصارُهم ولم يحكموا بأن السلب (7) للقاتلِ مطلقًا (8) ، على ما حكاه ابن أبي زيدٍ في "مختصره". هذا مع كثرةِ وقائِعهم في العدوِّ وغنائمِهم، وعمومِ الحاجةِ إلى ذلك. فلما لم يكن ذلك كذلك؛ صح أن يقال: إن ذلك موكولٌ لرأيِ (9) الإمامِ. والله تعالى أعلم (10) .
تفريعٌ: لا شك في أن مَنْ كان مذهبُه أن السلبَ للقاتلِ: أنه (11) لا يخمِّسه، وإنما يملكُه بنفسِ القتلِ المشهودِ عليه، وأما من صار إلى أن ذلك للإمامِ يرى فيه رأيه، فاختلفوا؛ هل يخمَّسُ أو لا يُخمَّسُ؟ فقال مالكٌ، والأوزاعيُّ، ومكحولٌ: يُخمَّسُ. وقاله إسحاق إذا كثر. ونحوُه عن عمر - رضي الله عنه - (12) . وحكى ابنُ خواز منداد (13) عن مالكٍ: أن الإمامَ مخيَّرٌ في ذلك كلِّه (14) ؛ قاله القاضي إسماعيل (15) .
ثم اختلفوا في السلبِ الذي يستحقُّه القاتلُ:
فذهب الأوزاعيُّ، وابنُ حبيبٍ من أصحابنا، إلى أنه (16) : فَرسُه الذي ركبه (17) ، وكلُّ شيءٍ كان عليه؛ من لَبُوسٍ، وسلاحٍ، وآلةٍ، وحليةٍ له ولفرسهِ؛ غير أن ابنَ حبيبٍ قال: إن المنطقةَ التي فيها دنانيرُ =(3/542)=@
__________
(1) قوله: ((من)) سقط من (أ) و(ب) و(ز) و(م).
(2) سيأتي في باب لا يستحق القاتل السلب بنفس القتل .
(3) في (ب): ((فيها)).
(4) قوله: ((بحسب)) في (ي): ((باختلاف)). [موضع الهامش غير صحيح في المتن]
(5) في (ز): ((أصحابه)).
(6) في (أ): ((المواطن)).
(7) في (أ): ((السلت)).
(8) سقط من (م) و(ي).
(9) قوله: ((لرأي)) في (ي): ((إلى رأي)).
(10) انظر: ((المنتقى)) (3/190).
(11) قوله: ((أنه)) سقط من (ب) و(م).
(12) أخرجه ابن أبي شيبة (6/482 و482-483 رقم33078 و33079) في السير، باب من جعل السلب للقاتل، من طريقين عن ابن عون، وهشام بن حسان، وعبدالرزاق (5/233 رقم9468)، والطحاوي (3/229-230و230) من طريق أيوب، والبيهقي (6/310-311) من طريق هشام بن حسان ؛ ثلاثتهم - ابن عون، هشام بن حسان، وأيوب - عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك قال: كان السلب لا يخمس، فكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء بن مالك، وكان حمل على مرزبان الزأرة، فطعنه بالرمح حتى دق قربوس السرج، ثم نزل إليه فقطع منطقته وسواريه، قال: فلما قدمنا المدينة، صلى عمر بن الخطاب صلاة الغداة، ثم أتانا فقال: السلام عليكم: أثم أبو طلحة؟ فقال: نعم، فخرج إليه، فقال عمر: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء بن مالك مال، وإني خامسه، فدعا المقومين، فقوموا ثلاثين ألفًا، فأخذ منها ستة آلاف)).
وصححه الألباني في "الإرواء" (5/57-58 رقم1224).
(13) في (أ): ((منذاد)) وفي (ب) و(م): ((منداذ)) وفي (ز): ((بنداذ)).
(14) قوله: ((كله)) سقط من (ح) فقط.
(15) قوله: ((قال القاضي إسماعيل)). كذا في النسخ. وفي "الإكمال" (6/61): ((واختار إسماعيل القاضي)) وقال النووي: (12/59): وعن مالك رواية اختارها إسماعيل القاضي: أن الإمام بالخيار إن شاء خمسه وإلا فلا)).
(16) في (ح): ((أن)).
(17) في (ب) و(م): ((يركبه)).(3/542)
ودراهم نفقتِه (1) داخلةٌ في السَّلبِ. ولم ير ذلك الأوزاعىُّ (2) .
وقد عمل (3) بقولِهِما جماعةٌ من الصحابِة (4) . ونحوهُ مذهبُ الشافعيّ، غيرَ أنه تردد في السِّوارينِ، والحليةِ، وما في معناهما من غيرِ حليةِ الحربِ (5) .
وذهب ابنُ عباسٍ (6) – رضي الله عنه - إلى أنه: الفرسُ، والسِّلاحُ، وهو معنى مذهبِ مالكٍ.
وشذَّ أحمدُ، فلم ير الفرسَ من السَّلبِ، ووقفَ في السَّيفِ.
وللشافعيِّ قولان فيما وجد في عسكرِ العدوِّ من أموالِ المقتولِ؛ هل هو من سلبِه أم لا؟ والصحيحُ: العمومُ فيما كان معه؛ تمسّكًا بالعمومِ. والله تعالى أعلمُ.
وقوله: ((له عليه بينة))؛ قال بظاهره الليثُ، والشافعيُّ، وبعضُ أصحابِ الحديثِ؛ فلا يَستحقُّ القاتلُ السلبَ إلا بالبيّنةِ (7) ، أو شاهدٍ (8) ويمينٍ. وقال الأوزاعيُّ والليثُ بنُ سعدٍ (9) : ليستِ البيّنةُ شرطًا في الاستحقاقِ، بل إنِ اتفق ذلك فهو الأَوْلى رفعًا للمنازعةِ، وإن لم يتفق كان للقاتلِ بغيرِ بيّنةٍ؛ ألا ترى أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعطى أبا قتادةَ سلبَ مقتولِه من غيرِ شهادةٍ، ولا يمين! ولا تكفي (10) شهادةُ واحدٍ، ولا يناطُ بها حكمٌ بمجردهِا.
لا يقال: إنما أعطاه إيَّاه بشهادةِ الذي هو في يدِه، وشهادةِ أبي بكرٍ – رضي الله عنه -. لأن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يُقمْ شهادةً لأبي قتادةَ، وإنما منع أن يُدفعَ السلبُ للذي ذَكر (11) أنه في يديه (12) ، ويُمنع (13) منه أبو قتادة.
ويُخرَّجُ على أصولِ المالكيةِ في هذه المسألةِ، ومن قال بقولها (14) : أنه لا يَحتاج الإمامُ فيه إلى بينةٍ؛ لأنه من الإمامِ ابتداءُ عطيّةٍ. فإن شرط فيه (15) الشهادةَ كان له، وإن لم يشترطْ، جاز أن يعطيَه من غيرِ شهادةٍ. والله تعالى أعلم. =(3/543)=@
__________
(1) كذا في (أ)، وفي سائر النسخ: ((نفقة)).
(2) قوله: ((غير أن ابن حبيب...)) إلخ. عبارة القاضي في "الإكمال" (6/61- 62): ((واختلفوا ما هو السلب... فقيل: فرسه الذي يركبه وكل شيء عليه من لبوس وسلاح وآلة له ولفرسه ولسلاحه؛ كالشوكار والمنطقة والسوار والخاتم والطوق والتاج... وهذا مذهب الأوزاعي وبه قال ابن حبيب من أصحابنا وبه عمل جمع من الصحابة، ونحوه مذهب الشافعي...)) ثم قال القاضي: ((ورأى ابن حبيب أصحابنا ما في منطقته من دنانير ودراهم لنفقة داخلة في السلب، ولم ير ذلك الأوزاعي ولا غيره)).اهـ..
(3) في (ز): ((قال)).
(4) سقط من (ي).
(5) قوله: ((وقد عمل به جمع من الصحابة..)) إلخ والمراد ب((قولهما)) هنا: قول الأوزاعي وابن حبيب فيما اتفقا فيه، وانظر النقل السابق عن "الإكمال".
(6) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/455 رقم19) في الجهاد، باب ما جاء في السلب في النفل، عن ابن شهاب، عن القاسم بن محمد؛ أنه قال: سمعت رجلاً يسأل عبدالله بن عباس عن الأنفال؟ فقال ابن عباس: الفرس من النفل، والسلب من النفل .
ومن طريق مالك أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (13/364 رقم 15646)، والطحاوي (3/230). وأخرجه عبدالرزاق في "تفسيره" (2/249) عن معمر، عن الزهري، عن القاسم بن محمد قال: قال ابن عباس: كان عمر - رضي الله عنه - إذا سئل عن شيء قال: لا آمرك ولا أنهاك ...، قال: فسلط على ابن عباس رجل من أهل العراق، فسأله عن الأنفال؟ فقال ابن عباس: كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلبه ...
ومن طريق عبدالرزاق أخرجه ابن جرير في "تفسيره" في الموضع السابق برقم (15647)، وفيه: ((كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه)).
وأخرجه ابن أبي شيبة (6/483 رقم33086) في السير، باب من جعل السلب للقاتل، من طريق الأوزاعي، عن ابن شهاب، بهذا الإسناد. قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (3/546): ((وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس)).
(7) في (ز): ((بالنية)).
(8) في (ي): ((بشاهد)).
(9) قوله: ((بن سعد)) من (أ) فقط. وهكذا وقع ذكر ((الليث)) في جميع النسخ. وقد تقدم أن مذهبه اشتراط البينة. وعبارة "الإكمال" (6/62): وقال الأوزاعي: يعطي بقوله ولا يحتاج إلى بينة وهو قول المالكية. وحجتهم في هذا الحديث: أن النبي ? أعطاه بشاهد وأحد ولم يحلفه معه وأنه لم يرد ? لابينة وإنما أراد أن يعلم ذلك، [ونحو هذا الليث (كذا ) أيضًا] وأنهم عندهم باب خبر لا باب شهادة)).اهـ. وفي المخطوط: ((... ونحو هذا الحديث أيضًا...)). وذكر النووي أن عدم اشتراط البينة هو قول مالك والأوزاعي ولم يذكر الليث. ونقل الأبي عبارة القاضي لكنه لم يذكر الجملة التي فيها الإشكال؛ وقال: ((... وإنما أراد أن يعلم ذلك هو عندهم من باب خبر الواحد لا من باب الشهادة)).
ولم يذكر الشارح هنا مذهب المالكية. وتصريح القاضي به تعقبه فيه الأبي بما حكاه الباجي قائلاً. قلت: تأمل قوله: ((وهو قول المالكية)) وقال الباجي إن كان الإمام قال: ((من قتل قتيلاً له عليه بينة)) لم يثبت بدونها ولا بشاهد ويمين؛ لأن المثبت القتل لا المال، ولا يثبت قتل بيمين، وإن لم يقل الإمام: ((له عليه بينة)) فقال سحنون: لا يأخذه إلا ببينة لو جاء بسلب، وقال: ((قتلت صاحبه لم يأخذه)) واختلف قوله لو جاء برأس وقال: ((قتلت صاحبه)). الباجي: والفرق بين الرأس والسلف أن الرأس في الغالب لا يأتي به إلا قاتله. قال الباجي: واستدلال أصحابنا بحديث أبي قتادة يدل على ثبوته بخبر الواحد. فأنت ترى لم يحكه الباجي إلا عن مقتضى استدلالهم لا أنه قولُ المالكية.اهـ. وانظر كلام الباجي في "المنتقى" (3/192- 193)، وانظر: "التمهيد" (23/242- 247). [يراجع]
(10) في (أ) و(ز): ((تكفي))!!!. [راجع باقي النسخ]
(11) في (ح): ((ذكره)).
(12) في (ح): ((يده)).
(13) في (ز): ((وتمنع)).
(14) في (أ): ((بقولهما)).
(15) قوله: ((شرط فيه)) في (أ) و(ز): ((شرط فيها))، وفي (ح): ((اشتراط فيه)).(3/543)
وقوله: ((فأرضه من حقِّه، يا رسول الله!)) أي: أَعْطِهِ (1) ما يرضى به بدلاً من حقِّه في السَّلبِ. فكأنه سأل من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يتركَه له، ويعطي أبا قتادةَ من غيرِه ما يَرْضى به (2) .
وقولُ أبي بكر – رضي الله عنه -: ((لا ها الله إذًا))؛ الروايةُ هكذا (3) ((إذًا (4) )) بالتنوينِ. قال الخطابيُّ: والصوابُ فيه (5) : ((لا ها اللِه ذا)) بغيرِ ألف قبلَ الذالِ؛ ومعناه في كلامِهم: ((لا والله)). يجعلون الهاءَ مكانَ الواوِ. والمعنى: لا والله لا يكونُ ذا. قال المازريُّ: معناه: ذا يميني، وذا قسمي. وقال أبو زيد: ((ذا)) صلةٌ في الكلامِ (6) .
وقوله: ((فبعت الدرعَ، فاشتريت به (7) مخرفًا))، قال القاضي أبو الفضلِ: ُرويناه بفتحِ الميمِ وكسرِها. فمن كسره (8) جعلَه مثل: ((مِرْبَدٍ))، ومن فتح (9) جعله مثل: ((مَضرَب)).
ورويناه أيضًا بفتح الميمِ وكسرِ الراء؛ كما قالوا: ((مَسكِن)) و((مَسجِد)).
أبو الفرج (10) .
والمَخْرَفُ: البستانُ الذي تُخترف ثمارُه؛ أي: تُجتنى (11) . فأما المِخْرَف - بكسر الميمِ - فهو الوعاء الذي يُجمعَ فيه ما يُخترفُ.
و((تأثلت (12) المالَ)): تملكتُه (13) ، فجعلتُه أصلَ مالِي (14) . وأَثَلَةُ كلِّ شيء: أصلُه.
وقوله: ((كلا، لا يعطيه (15) أضيبع من قريش))؛ ((كلا)): ردعٌ وزجرٌ. وقد تكون بمعنى: ((لا))؛ كقوله تعالى حكايةً عن موسى ?: {كلا} (16) ، =(3/544)=@
__________
(1) في (م): ((أعطيه)).
(2) سقط من (ز).
(3) في (ز): ((كهذا)).
(4) قوله: ((إذا)) سقط من (أ).
(5) قوله: (( والصواب فيه)) سقط من (أ)، وفي (ح): ((والصواب)) فقط.
(6) انظر كلام المازري في "المعلم" (2/151)ن وكلام الخطابي في (؟؟؟). وانظر "الإكمال" (5/116). وسيأتي للشارح بحث جيد في المسألة في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، في قول عائشة أو بريرة مثل هذه الجملة، وقد استحسنه الحافظ في "الفتح" (8/39)، وانظر النووي (10/145)، (12/60)، و "شواهد التوضيح" (ص167).
(7) قوله: ((به)) سقط من (أ).
(8) في (ب): ((كسر)).
(9) في (ي): ((فتحه)).
(10) من قوله: ((ورويناه أيضًا...)) إلى هنا، من (أ) فقط. والعبارة بقية كلام القاضي عياض في "الإكمال" (6/63)، وفيها: ((كما قالوا: مَسِكن ومسجِد، ومَسْجَد ومَسكَن)). وانظر: "مشارق الأنوار" (1/233). [يراجع قوله: ((أبو الفرج))].
(11) في (ح) و(ي): ((تجنى)).
(12) في (ح): ((تاثتت)) غير منقوطة.
(13) في (ح) و(ي): ((تمليكه)).
(14) في (أ): ((مال)).
(15) في (ح) و(ي): ((تعطيه)).
(16) سورة الشعراء؛ الآية: 62.(3/544)
في جوابِ (1) قولِهم (2) : {إنا لمدركون} (3) . وقد تكون (4) استفتاحًا بمعنى: ((ألا))؛ كما قيل في قوله تعالى: {كلا إن كتاب (5) الأبرار لفي عليين} (6) ، و((أضيبع)) روايتُنا فيه - وهي المشهورةُ - بالضادِ المعجمةِ، والعينِ المهملةِ؛ وهو تصغيرُ ((ضَبُعٍ)) على غيرِ القياسِ؛ فكأنه لما وصفَ الآخرِ بالأسديةِ، صغَّر هذا بالنسبةِ إليه، وشبَّهه بالضَّبُع تصغيرًا له (7) . ورواه السمرقندي: ((أصيبغ (8) )) بالصاد المهملةِ والغينِ المعجمة؛ فقيل: كأنه (9) حقَّره وذمَّه بسوادِ لونِه. وقال الخطابيُّ: الأُصيبغ (10) نوعٌ من الطيرِ. قال (11) : ويجوز أن يشبهَه بنباتٍ صغيرٍ، يقال له (12) : الصبغاء، أولُ ما يطلعُ (13) من الأرضِ (14) فيكون ما (15) يلي الشمسَ منه أصفرَ. وقال الهرويُّ بمعناه (16) .
ومبادرةُ أبي بكرٍ – رضي الله عنه - بالفتيا والرَّدعِ والنَّهيِ بحضرةِ رسولِ الله (17) - صلى الله عليه وسلم - ، وإقرارُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وتصديقُه على قولِه - شرفٌ عظيمٌ، وخصوصيةٌ لأبي بكر – رضي الله عنه - ليس لأحدٍ من الصحابةِ – رضي الله عنهم - مثلها (18) ، هذا مع أنه قد كان عددٌ من الصحابةِ نحوُ الأربعةَ عشرَ (19) يُفتون في (20) حياةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، يعلمُ بهم، ويُقرُّهم (21) ، لكن لم يُسمعْ عن أحدٍ منهم (22) أنه أفتى بحضرتِه، ولا صدر عنه شيءٌ مما صدر عن أبي بكر – رضي الله عنه - في هذه القصةِ (23) .
وفي هذا الحديثِ أبوابٌ من الفقهِ لا تخفى على متأمِّلٍ.
غريبُ حديثِ سلمة بنِ الأكوعِ:
قول سلمة – رضي الله عنه -: ((فبينا (24) نحنُ نتضحَّى))؛ يعني (25) : نتغدَّى في وقتِ - الضَّحاءِ بالمد - قاله الخطابيُّ وغيرُه (26) . و((الطَّلَق)): الحبلُ (27) ، وهو بفتحِ اللامِ.
و((الحَقَب)) بفتحِ =(3/545)=@
__________
(1) في (أ) و(ي): ((جواز)).
(2) قوله: ((قولهم)) سقط من (ح) و(ي).
(3) سورة الشعراء؛ الآية: 61.
(4) في (ح) و(ب) و(م): ((يكون)). [راجع].
(5) قوله: ((كتاب)) سقط من (أ).
(6) سورة المطففين؛ الآية: 18، قال السمين الحلبي: للنحويين في هذه اللفظة ((كلا)) ستة مذاهب أحدها: أنها حرف ردعٍ وزجر، قال: وهذا معنى لائق بها حيث وقعت في القرآن. والثاني: أنها حرف تصديق بمعنى ((نعم)) فتكون جوابًا. قال: ولابد حينئذ من أني يتقدمها شيء لفظًا أو تقديرًا. وقد تستعمل في القسم. والثالث: أنها بمعنى ((حقًّا)). والرابع: أنها بمعنى ردٌّ لما قبلها، وهو قريب من معنى الردع. (ولعله هو الذي يعنيه الشارح هنا بقوله: ((قد تكون بمعنى ((لا)) ). والخامس: أنها صلة في الكلام بمعنى ((إي)) كذا قيل، وفيه نظر؛ فإن ((إي)) حرف جواب ولكنه مختص بالقسم. السادس: أنها حرف استفتاح.اهـ. "الدر المصون" (7/637).
(7) قوله: ((له)) سقط من (أ).
(8) في (ي): ((أضيبع)).
(9) قوله: ((فقيل كأنه)) في (ز): ((فكأنه)).
(10) في (ب) و(ح): ((الأصبغ)).
(11) سقط من (ز).
(12) في (ح): ((لها)).
(13) في (ح) و(ي): ((تطلع)).
(14) قوله: ((من الأرض)) سقط من (أ).
(15) في (ح) و(ز) و(ي): ((مما)).
(16) قال القاضي عن رواية: ((أضيبع)): وهو أشبه بمساق الكلام؛ لقوله: ((ويدع أسدًا)). ومقابلة ((ضبع)) له. قال: وشبهه بالضبع لضعف افتراسه وما يوصف به من الحمق والعجز.اهـ.
وقال ابن مالكٍ: ((أضيبع)) تصغير ((أَضْبَع))؛ وهو القصيرُ ((الضبْعِ))؛ أي: العضد، ويكنى به عن الضعيف، وإذا أردت المبالغة صغر.
وقال القاضي في رواية ((أضيبغ)) قيل: معناه: أسيود؛ كأنه عيره بلونه. أما قول الخطابي الذي ذكره الشارح، فقد نقله عنه القاضي عياض، ووقع في ((أعلام الحديث)): ((فيكون ما يلي الشمس منه أصيغر)). والعبارة عند ابن قتيبة: ((فما يلي الشمس من أعاليها أخضر، وما يلي الظل أبيض)).
ثم ذكر قول النبي ?: ((ألم تروها ما يلي الظل منها أصفر أو أبيض، وما يلي الشمس منها أخضر)) – وفي لفظ: ((ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر، ما يكون إلى الشمس منها أصيفر أو أخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض)). قال ابن قتيبة: وإذا كانت كذلك فهي صنعاء)). "غريب الحديث"لابن قتيبة (1/396)، "الغريبين" (4/1062)، "تهذيب اللغة" (8/28)، "أعلام الحديث" (3/1754)، و"الإكمال" (6/64)، و"مشارق الأنوار" (2/39)، "شواهد التوضيح" (ص168)، و"شرح النووي" (12/61- 62)، و"النهاية" (3/9- 10)، و "فتح الباري" (8/41).
(17) قوله: ((رسول الله)) في (م): ((النبي)).
(18) في (ي): ((مثل)).
(19) عقد الإمام ابن سعد في كتاب "الطبقات" (2/334-350) بابًا ذكر فيه الصحابة الذين كانوا يفتون في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وانظر أيضًا "التمهيد" (9/76)، و"فتح الباري" (12/141)، و"تدريب الراوي" (2/129).
(20) في (ي): ((على)).
(21) في (ح): ((ويقررهم)).
(22) سقط من (ي).
(23) في (ح): ((القضية)).
(24) في (ح): ((فبينا)).
(25) سقط من (ز).
(26) قال أبو عبيد: يريد: نتغدى، واسم ذلك الغدَاء: الضحاء، وإنما سمى بذلك؛ لأنه يؤكل في ((الضحاء))، والضحاء: ارتفاع الشمس لأعلى، وهو ممدود مذكر، والضحى مؤنثة مقصورة، وهي حين تشرق الشمس. وانظر: "غريب أبي عبيد" (5/319)، و "غريب ابن قتيبة" (1/347)، و "غريب الخطابي" (1/617)، و"الإكمال" (6/69)، و "شرح النووي" (21/66).
(27) في (م): ((الجبل)). وقال القاضي في "الإكمال" (6/69): القيد من الجلود. وقال النووي: (12/66): هو العقال من جلده والكل بمعنًى.(3/545)
القافِ، والحقيبةُ: هو ما يجعلُه الرَّاكبُ خلفَه (1) .
و((الضعَفَة))- بفتحِ العين -: جمعُ ((ضعيفٍ))، والأوْجَهُ والأصحُّ (2) : ((ضعْفَة)) بسكونِ العينِ؛ أي: حالةٌ ضعيفةٌ وهزالٌ (3) .
و((يشتدُّ)): يَجْري سريعًا.
و((قعد عليه))؛ أي: رَكِبَهُ؛ لأن الرَّاكبَ قاعدٌ. و((اخترطتُ السَّيفَ))؛ أي: سللتُه من غِمْدِه سريعًا.((فنَدَرَ))؛ أي: سقط وخرج عن جسدِه. ومنه: الشيءُ النادرُ (4) ؛ أي: الخارجُ، والروايةُ فيه بالنونِ والدالُ مهملةٌ (5) . و((الرَّحْلُ)) للبعيرِ كـ((السرَّجْ)) للفرس،ِ و((الإكافِ) للحمارِ.
وفيه من الفقهِ: أن السَّلبَ إنما يستحقُّه القاتلُ بإذن الإمامِ كما تقدَّم؛ إذ لو كان واجبًا له بنفسِ القتلِ لما احتاج إلى تكرارِ هذا القولِ؛ إذ قد (6) تقرَّر الحكمُ في يومِ حنينٍ - على زعمِ الخصمِ - وعُمل به (7) .
وفيه: أن كلَّ ما يكونُ على القتيلِ، أو معه، أو عليه - سلب للقاتلِ.
وفيه: أن السَّلبَ لا يُخمَّس.
وفيه حجَّةٌ لمن قال من أهلِ العلمِ: إن للأمامِ أن يُنفِّلَ جميعَ ما أخذتْه السَّريةُ من الغنيمةِ لمن يراه منهم؛ إذ قد كان مع سلمةَ رجلٌ على ناقةٍ، ولم يعطِه من الغنيمةِ شيئًا، وهذا إنما يتمُّ للمحتجِّ به إذا نقُل: أنه لم يكنْ (8) هناك غنيمةٌ إلا ذلك السَّلبَُ، فلعلَّهم غنموا شيئًا آخرَ غير السَّلبِ (9) ، فإن نقلوا ذلك تمسَّكْنا (10) بقولِه تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} (11) ، وقلنا: ذلك (12) خاصٌّ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . =(3/546)=@
__________
(1) قال القاضي في "الإكمال" (6/69): وأما الحقب فقال بعض شيوخنا فيما كتبناه عن الصواب أن يكون من ((حَقْبِهِ)) بسكون القاف؛ أي: مما احتقب ضلعه وجعله حقيبته، وهي الرفادة في مؤخرة القتب. قال القاضي: ولم نروه إلا بالفتح في القاف. وقال في "مشارق الأنوار" (1/159): وهو الصواب (أي: فتح القاف)، والحقب: حبل يشد خلف البعير. وقيل: صوابه: ((حقْبه)) بسكون القاف؛ وكذا قيده التميمي عن الجياني؛ أي: مما احتقب خلفه وجعله في حقبته.اهـ. فأنت ترى الشارح ضبطها بالفتح وفسرها تفسير التي بالسكون. وانظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/347)، "النهاية" (1/411).
(2) في (ح): ((الأصح)).
(3) وقال القاضي عياض: ((وفينا ضعفة ورقة)) كذا ضبطناه على أبي بحر بسكون العين، وهو الصواب، أي حالة ضعف. ومن رواه بفتح العين فجمع ((ضعيف))، والأول أوجه لا سيما مع ((ورقَّة)). "مشارق الأنوار" (2/61)، "الإكمال" (6/70)، وانظر: "شرح النووي" (12/66). وقد ذكر النووي أن في بعض "نسخ مسلم": ((وفينا ضعف)) بحذف الهاء؛ فيؤيد ذلك الرواية بسكون العين.
(4) في (م): ((البارد)).
(5) انظر: "الإكمال" (6/70).
(6) سقط من (ي).
(7) انظر: "الإكمال" (6/70).
(8) في (م): ((تكن)).
(9) قال الحافظ في "الفتح" (6/169): وقال القرطبي: فيه أن للإمام أن ينقل جميع ما أخذته السرية من الغنيمة لمن يراه منهم وهذا يتوقف على أنه لم يكن هناك غنيمة إلا ذلك السلب. قال الحافظ: قلت: وما أبداه احتمالاً هو الواقع فقد وقع في رواية عكرمة بن عمار أن ذلك كان في غزوة هوازن وقد اشتهر ما وقع فيها من بعد ذلك من الغنائم.اهـ. لم يذكر الحافظ بقية كلام الشارح ولا الرد عليه.
(10) في (ح): ((تمسكًا)).
(11) سورة الأنفال؛ الآية: 41.
(12) في (أ) و(ز): ((ذاك)).(3/546)
وفيه: قتلُ الجاسوسِ، ولا خلافَ في ذلك إذا لم يكن مُعاهَدًا، أو مسلمًا. والمعاهد يقتلُ عندنا وعند الأوزاعيِّ لنقضه العهدَ. وقال معظمُ الفقهاءِ: لا يكونُ ذلك نقضًا. وأما المسلمُ فالجمهورُ على أن الإمامَ يجتهدُ فيه (1) . وقال كبارُ أصحابِ مالكٍ: أنه يقتلُ، واختلف في قبولِ توبته على ثلاثةِ أقوالٍ، يُفرْقَُ (2) في الثالثِ بين أن يكونَ معروفًا بذلك أو لا.
وفيه: التنويهُ بأهلِ الفضائلِ، ومعرفةُ حقِّ من فيه فضلٌ وغَنَاءٌ. والله أعلمُ (3) .
ومن باب لا يستحقُّ القاتلُ السَّلبَ بنفسِ القَتْلِ
قوله: ((تمنيتُ لو (4) كنت بين أضلع منهما))؛ كذا الروايةُ، بالضادِ المعجمةِ، والعينِ المهملةِ، ووقع في بعضِ رواياتِ (5) البخاريِّ: ((أَصْلَحَ)) (6) بالحاءِ والصادِ مهملتين؛ من الصلاح، والأولُ أصوبُ. ومعنى((أَضْلَعَ)): أَقْوى، والضلاعةُ: =(3/547)=@
__________
(1) عبارة القاضي: (6/71): ((فجلهم على اجتهاد الإمام فيه بغير [القتل] من الضرب والحبس)).اهـ. وقد سقطت كلمة ((القتل)) من المخطوط والمطبوع، ونقله عنه بالنص الأبي (5/69)، وانظر "شرح النووي" (12/67). وقد ذكر القاضي أن مالكًا قال في المسلم: ((يجتهد فيه الإمام)) وأطلق مالك قوله: ولم يفسر الاجتهاد.
(2) في (ز): ((ففرق)).
(3) قوله: ((والله أعلم)) من (ز) فقط.
(4) في (ح): ((تمنيت أني كنت من)).
(5) في (ي): ((الروايات)) من (أ) فقط.
(6) قال الحافظ في "الفتح" (6/248-249): ((ووقع في رواية الحموي وحده: ((بين أصلح منهما)) بالصاد والحاء المهملتين، ونسبه ابن بطال لمسدد شيخ البخاري، وقد خالفه إبراهيم بن حمزة عند الطحاوي، وموسى بن إسماعيل عند ابن سنجر، وعفان عند ابن أبي شيبة؛ يعني: كلهم عن يوسف شيخ البخاري فيه، فقالوا: ((أضلع)) بالضاد المعجمة والعين. قال: واجتماع ثلاثة من الحفاظ أولى من انفراد واحد، انتهى. وقد ظهر أن الخلاف على الرواة عن الفربري؛ فلا يليق الجزم بأن مسددًا نطق به هكذا، وقد رواه أحمد في "مسنده"، وأبو يعلى عن عبيدالله القواريري، وبشر بن الوليد وغيرهما، كلهم عن يوسف كالجماعة، وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن عفان كذلك)).اهـ.
وقد ضبط الحافظ ((أضلع)) بضم اللام، وقال: كذا للأكثر جمع ((ضلع))، وروي بضم اللام وفتح العين؛ من الضلاعة وهي القوة.اهـ. وكلا الضبطين غير ظاهر، والضبط الثاني لعله في المطبوعة فيه تحريفًا أو تضحيًا، ويكون صوابه: ((بفتح اللام وفتح العين)). وانظر ما يأتي للشارح، و "مشارق الأنوار" (2/59)، و "الإكمال" (6/65)، و "شرح النووي" (12/62)، و "النهاية" (3/97).(3/547)
القوةُ؛ ومنه قولُهم: ((هل يدرك الظَّالعُ (1) شَأْوَ الضَّليع)) بالضاد؛ أي: القويّ (2) .
و((الظالع)) (3) بالظاءِ المشالةِ (4) : هو (5) الذي أصابه الظلع (6) ، وهو ألَمٌ يأخذ الدَّابة في بعضِ قوائِمها. وكأنه استضعفهما (7) لصغرِ أسنانِهما، وتمنَّى أن يكونَ بين رَجُلين أقوى منهما (8) .
وقوله: ((لا يفارق سوادي سواده))؛ أي: شخصي شخصَهُ. وأصلُه: أن الشخصَ يُرىَ على البعدِ أَسودَ. والله تعالى أعلم.
وقوله: ((حتى يموتَ الأعجلُ منَا))؛ أي: الأقربُ أجلاً، وهو كلامٌ مستعملٌ عندهم (9) يُفهم منه: أنه يُلازِمُه، ولا يتركُه إلى وقوعِ الموتِ بأحدِهما (10) . وصدورُ (11) مثل هذا الكلامِ في حالِ (12) الغضبِ والانزعاجِ يدلُّ على صحةِ العقلِ وثبوتِ (13) الفهمِ، والتثبتِ العظيمِ في النظرِ في العواقبِ؛ فإن مقتضى الغضبِ أن يقولَ: حتى أقتلَه؛ لكن العاقبةَ مجهولة.
وقوله: ((فلم أنشب أن نظرتُ إلى أبي جهل يزول في الناس))؛ معنى لم أنشَبْ: لم أشتغل (14) بشيءٍ. وهو من: نَشِبَ بالشيءِ؛ إذا دخل (15) فيه وتعلَّق به.
و((يزولُ))؛ أي: يجولُ ويضطربُ في المواضعِ، ولا يستقرُّ على حالٍ؛ وهو فعلُ من يعبِّئُ الناسَ ويحرضُهم، أو فِعلُ من أخذه الزَّوِيْل، وهو: الفزعُ والقلقُ. والأولُ أولى؛ لروايةِ ابنِ ماهان لهذا الحرفِ: ((يجولُ)) بالجيمِ (16) . =(3/548)=@
__________
(1) في (ز): ((الضالع)).
(2) كتب قبالتها في هامش الورق المطبوع يراجع.
(3) في (ح) ((الظالغ)).
(4) قوله: ((المشالة)) سقط من (ب) و(م).
(5) قوله: ((هو الذي)) في (أ): ((والذي)).
(6) في (أ): ((الضلح)).
(7) في (ي): ((استصغرهما)).
(8) قوله: ((وتمنى أن يكون بين رجلين أقوى منهما)) سقط من (أ) فقط.
(9) قوله: ((عندهم)) من (أ) فقط.
(10) وقال القاضي في "المشارق" (2/68): ((الأعجل منا)) كذا الرواية في الصحيحين وهو الصحيح، وقال بعض المتعقبين: صوابه ((الأعجز)) بالزاي، ولم يقل شيئًا، بل جهل الكلمة، وهي كلمة تستعملها العرب بمعنى الأقرب أجلاً، وهو من العجلة والاستعجال وهو سرعة الشيء. وانظر "الفتح" (6/249).
(11) في (ز): ((وصدر)).
(12) في (ي): ((حالة)).
(13) في (ب): ((ثقوب)).
(14) في (ز): ((يشتغل))، و(ي): ((أشغل)).
(15) في (أ) و(ح): ((وحل)).
(16) قال القاضي في "الإكمال" (6/65): ((يزول)) كذا روايتنا عن كافة شيوخنا في الكتاب.اهـ. وقال النووي: ((يزول)) هو بالزاي والواو هكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وكذا رواه القاضي عن جميع شيوخهم. وانظر: "غريب الحديث" للخطابي (3/154)، و "المشارق" (1/166، 296، 313)، و "النهاية" (2/320)، و "شرح النووي" (12/62).(3/548)
((يزول في الناس)) هو المشهورُ، ورُوي: ((يَرْفُل))، وفي البخاريِّ: ((يَجُولُ))؛ فمن رواه ((يزول)) أراد: يتحركُ وينزعجُ، ولا يستقرُّ على حالٍ، ولا في مكانٍ، و((يجولُ)) نحو ذلك، ومن رواه ((يَرْفل))؛ أي: يُسبلُ ثيابَه أو درعَه ويجرُّها (1) .
وقوله: ((هل مسحتُما سيفيكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله)) هذا يدلُّ على أن للإمامِ أن ينظرَ في شواهدِ الأحوالِ ليترجَّحَ عندَه قولُ أحدِ المتداعيين؛ وذلك أن سؤالَه عن مسحِ السيفينِ (2) إنما كان لينظرَ إن كان تعلَّق بأحدِهما من أثر الطعامِ أو الدَّمِ (3) ما لم يتعلَّقْ بالآخرِ؛ فيقضي له، فلما رأى تَساوِيَ سيفيهما في ذلك قال: ((كِلَاكُمَا قَتَلَهُ))، ومع (4) ذلك فقضى (5) بالسَّلبِ لأحدهما؛ فكان ذلك أدلَّ دليلٍ على صحةِ ما قدَّمناه من مذهبِ مالكٍ وأبي حنيفة.
وقد اعتذر المخالفون عن هذا الحديثِ بأوجهٍ:
منها: أن هذا منسوخٌ بما (6) قاله يومَ حنين. وهو فاسدٌ؛ لوجهين:
أحدهما: أن الجمعَ بينهما ممكنٌ، كما قدمناه؛ فلا نسخَ.
والثاني: أنَّه قد رَوى أهلُ السِّير وغيرُهم أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يومَ بدرٍ: ((مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ))؛ كما قال يومَ حنينٍ (7) . وغايتُه: أن يكونَ من بابِ تخصيصِ العمومِ، على ما قلناه.
ومنها: أن بعضَ الشافعيةِ قال: إنما فعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأنه استطاب نفسَ أحدِهما. وهذا كلامٌ غيرُ محصَّلٍ؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيبُ الأنفسَ بما لا يحلُّ. ثم كيف يستطيبُ نفسَ هذا بإفسادِ قلبِ الآخرِ؟ هذا ما لا يليقُ (8) بذوي المرُوءاتِْ، فكيف بخاتمِ النبواتْ؟!
ومنها: أنه لعله أن يكونَ رأى على سيفِ أحدِهما من الأثرِ ما لم ير على الآخرِ؛ فأعطاه السلبَ لذلك (9) ، وقال: ((كِلَاكُمَا قَتَلَهُ)) تطييبًا لقلبِ الآخرِ (10) . وهذا =(3/549)=@
__________
(1) من قوله: ((يزول في الناس هو المشهور ...)) إلى هنا، من (أ) فقط. وانظر المراجع السابقة. [وكتب قبالتها في هامش الورقة في المتن لعلها حاشية وكتب في ا لحاشىة أيضًا لعلها حاشية].
(2) في (ح): ((الخفين))!
(3) في (ح): ((الطعام والدم)).
وكذا وقع في جميع النسخ: ((الطعام))، وكذلك في مطبوع "الإكمال" (6/66)، ومخطوطه. وعبارة القاضي: ((... ليرى دليلاً يرجح به جهة القاتل من أثر طعام أو مبلغ الدم)). والصواب في هذه الكلمة والله أعلم: ((الطعان))؛ وقد نقل ذلك القاضي: الأبيُّ في (5/66) وعبارته: ((ونظره ص في سيفيهما إنما هو ليرجح القاتل بما يراه من أثر الطعان و[صبغ] الدم)).
(4) في (ز): ((ومغني)).
(5) في (ي): ((قضى)).
(6) في (أ): ((لما)). [تراجع من (أ)]
(7) قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (23/252): ((أما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين: ((من قتل قتيلاً فله سلبه)) فمحفوظ من رواية الثقات غير مختلف فيه، وأما قوله ذلك يوم بدر وأحد فأكثر ما يوجد ذلك في رواية أهل المغازي .
وقال الزيلعي في "نصب الراية" (3/429): ((اعلم أنه وقع في بعض كتب أصحابنا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك يوم بدر؛ أعني قوله: ((من قتل قتيلاً فله سلبه))؛ قال شيخنا علاء الدين: وهو وهم، وإنما قاله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين؛ كما صرح به في مسلم وغيره، والذي قاله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر شيء آخر)). ثم ساق رواية بن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن عطاء بن عجلان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: ((من قتل قتيلا فله سلبه))، وهو ضعيف.
ثم أورد الزيلعي (3/430) طريقًا آخر فقال: رواه الواقدي في كتاب المغازي: حدثني عبدالحميد بن جعفر قال: سألت موسى بن سعد بن زيد بن ثابت: كيف فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر في الأسرى والأسلاب والأنفال؟ فقال: نادى مناديه يومئذ: من قتل قتيلاً فله سلبه، ومن أسر أسيرًا فهو له، فكان يعطي من قتل قتيلاً سلبه. اهـ، وقال الشيخ أبو الفتح اليعمري في سيرته "عيون الأثر" في باب قصة بدر: والمشهور في قوله عليه السلام: ((من قتل قتيلاً فله سلبه))؛ إنما كان يوم حنين، وأما يوم بدر فوقع من رواية من لا يحتج به)).اهـ.
قلت: مما يشهد بأن ذلك وقع يوم بدر ما أخرجه سعيد بن منصور (2689)، وابن أبي شيبة (12/370)، وأبو عبيد في "الأموال" (756)، وأحمد في "المسند" (1556)، وابن زنجويه في "الأموال" (1126)، والطبري (9/173)، والواحدي في "أسباب النزول" (ص155) من طريق محمد بن عبدالله الثقفي، عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمى: ذا الكتيفة، فأتيت به إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: ((اذهب فاطرحه في القبض))، قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، قال: فما جاوزت إلا يسيرًا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال: ((اذهب فخذ سيفك)).
ومحمد الثقفي لم يدرك سعيدًا فيكون؛ منقطعًا، لكن رواه بمعناه أبو داود (2740)، والترمذي (3079)، وأحمد (1538) من طريق عاصم بن أبي النجود، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن مالك به، نحوه .
(8) قوله: ((ما لا يليق)) في (ح): ((ما يليق)). وفي (ي): ((مما لا يليق)).
(9) في (ب) و(م): ((بذلك)).
(10) قوله: ((تطييبًا لقلب الآخر)) في (أ): ((تطيب للب الآخر)). وفي (ح) و(ي): ((تطييبًا للآخر)).(3/549)
يُبطلُه قولُه: ((كِلاكُمَا قتله)) والقتلُ هو السببُ (1) عندَ القائلِ (2) . وظاهرُه (3) التسويةُ في القتلِ؛ فإن القائَل إذا قال لمخاطبَيْهِ (4) : ((كلاكما قال))، أو ((كلاكما خرج))، فظاهرهُ المشاركةُ فيما نُسب إليهما. ثم يلزمُ هذا القائلَ أن يجوِّزَ (5) على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التوريةَ في الأحكامِ. والقولُ بذلك باطلٌ وحرامٌ.
وقولُه: ((والرجلان: معاذُ بن عمرِو بنِ الجموحِ، ومعاذُ بنُ عفراءَ))؛ هكذا الصحيحُ، وقد جاء في البخاريِّ من حديثِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -: ((أن ابني عفراءَ ضَرَبَاهُ حتى بَرَدَ)) (6) . وكأن (7) هذا وَهْمٌ من بعض الرواةِ لحديثِ ابنِ مسعودٍ. وسببُ هذا الوهمِ: أن عفراءَ هذه من بني النجارِ، أسلمت وبايعتْ، وكان أولادُها سبعةً، كلهم شهد (8) بدرًا، وكانت عندَ الحارثِ بنِ رفاعةَ، فولدت له: معاذًا ومعوِّذًا، ثم طلَّقها، فتزوَّجها بُكيرُ بنُ عبدِ (9) ياليلَ، فولدت (10) له: خالدًا، وإياسًا، وعاقلاً، وعامرًا. ثم طلقها فراجعَها (11) الحارثُ، فولدت له عوفًا، فشهدوا كلُّهم بدرًا. فكأنه التبسَ على بعضِ الرُّواةِ معاذُ بن عمرو بن الجموح بمعاذِ بن عفراء وسمعوه (12) ((ابن عفراء)) عندَ السكوتِ عن ذكر عمرٍو والد معاذٍ. والله تعالى أعلمُ.
وفي البخاريِّ ومسلمٍ: أن ابنَ مسعودٍ - رضي الله عنه - هو الذي أجهز على أبي جهلٍ (13) ، =(3/550)=@
__________
(1) في (ح) و(ي): ((السيف)).
(2) في (ب) و(ز) و(م): ((القاتل))..
(3) في (ح): ((فظاهره)).
(4) في (ح) و(ي): ((لمخاطبه)).
(5) في (ي): ((نجوز)).
(6) قال الحافظ في "الفتح" (7/394): ((ووقع في رواية السمرقندي في مسلم: ((حتى برك)) بكاف بدل الدال؛ أي: سقط، وكذا هو عند أحمد عن الأنصاري، عن التيمي. قال عياض: وهذه الرواية أولى؛ لأنه قد كلم ابن مسعود، فلو كان مات كيف كان يكلمه؟ انتهى. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: ((حتى برد))؛ أي: صار في حالة من مات، ولم يبق فيه سوى حركة المذبوح، فأطلق عليه باعتبار ما سيئول إليه)).اهـ.
وأما قول الشارح: ((وكأن هذا وهم من بعض الرواة لحديث ابن مسعود))، فقد قال الحافظ في "الفتح" (7/296): ((وعفراء والدة معاذ، واسم أبيه الحارث، وأما ابن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء، وإنما أطلق عليه تغليبًا، ويحتمل أن تكون أم معوذ أيضًا تسمى عفراء، أو أنه لما كان لمعوذ أخ يسمى معاذًا باسم الذي شركه في قتل أبي جهل ظنه الراوي أخاه، وقد أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر بن حزم قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعتهم يقولون وأبو جهل في مثل الجرحة: أبو جهل الحكم لا يخلص إليه، فجعلته من شأني فعمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه، وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي. قال: ثم عاش معاذ إلى زمن عثمان. قال: ومر بأبي جهل معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق، ثم قاتل معوذ حتى قتل، فمر عبدالله بن مسعود بأبي جهل فوجده بآخر رمق، فذكر ما تقدم. فهذا الذي رواه ابن إسحاق يجمع بين الأحاديث، لكنه يخالف ما في "الصحيح" من حديث عبدالرحمن بن عوف؛ أنه رأى معاذًا ومعوذًا شدَّا عليه جميعًا حتى طرحاه، وابن إسحاق يقول: إن ابن عفراء هو معوذ، وهو بتشديد الواو، والذي في "الصحيح" معاذ، وهما أخوان، فيحتمل أن يكون معاذ بن عفراء شدَّ عليه مع معاذ بن عمرو كما في "الصحيح"، وضربه بعد ذلك معوذ حتى أثبته، ثم حز رأسه ابن مسعود، فتجمع الأقوال كلها)). اهـ.
(7) في (ي): ((كأن)).
(8) في (ب) و(م): ((شهدوا)).
(9) قوله: ((عبد)) سقط من (ب) و(م).
(10) في (م): ((فولد)).
(11) قوله: ((ثم طلقها فراجعها)) في (أ) و(ح) و(ز) و(ي): ((ثم راجعها)).
(12) كذا في النسخ غير (ز) ففيها: ((وسمعوه)). ولعل الصواب: ((وسمَّوه)). [يراجع]
(13) سيأتي عند المصنف في باب الإمام مخير في الأسارى، ويأتي هناك تخريجه عند البخاري.(3/550)
واحتزَّ (1) رأسهَ بعد أن جرى له معه كلامٌ سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقول عوف لخالدٍ – رضي الله عنه - (2) : ((هل أنجزت لك ما ذكرتُ لك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟)) كلامٌ فيه نوعٌ من التقصيرِ والتهكمِ بمنصبِ الإمارةِ، والإزراءِ عليه؛ ولذلك غضب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك حين سمعه، ثم أمضى ما فعله خالدٌ بقولِه: ((لا تعطه يا خالد!))، ونوَّه به (3) وعظَّم حرمتَه بقولِه: ((هَلْ أَنتُمْ تَاركُو (4) لِي أُمَرَائِي؟!)) وهذا يدلُّ دلالةً واضحةً على أن السَّلبَ لا يستحقُّه (5) القاتلُ بنفسِ القتلِ، بل (6) برأْيِ الإمامِ ونظرِه؛ كما قدَّمناه (7) .
وقوله: ((ادفعْهُ إليه))؛ هو أمرٌ على جهةِ الإصلاحِ ورفعِ التنازعِ، فلما صدرَ من عوفٍ ما يقتضي الغضَّ من منصبِ الإمارةِ أمضى ما رآه الأميرُ؛ لأنه لم يكن للقاتلِ فيه حقٌّ. وهذا نحوٌ مما (8) فعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بماءِ الزبيرِ، حيث (9) نازعُه الأنصاريُّ في السقيِ، فقال النبي (10) عليه السلام: ((اسْقِ يَا زُبَيْرُ! وَأَرْسِلِ الماءَ إلى جَارِكَ))، فأغضبَ الأنصاريُّ النبيَّ (11) - صلى الله عليه وسلم - ، فقال للزُّبيرِ: ((اسْقِ يا زُبَيْرُ (12) ! وَأَمْسِكِ (13) الماءَ حَتَّى يَبْلُغَ (14) الجَدْرَ)) (15) ، فاستوفى للزبيرِ حقَّه.
وهذا الحديثُ من أصعبِ الأحاديثِ على القائلِ بأن السَّلبَ يستحقُّه القاتلُ بنفسِ القتلِ.
و((استُغضبَ)) هو (16) مبنيٌّ لما لم يُسمَّ فاعلُه؛ أي: أُغْضِبَ، زيدتِ فيه السينُ والتاءُ، ومعناه: خُلق فيه الغضبُ عندما سمع ما كَرهه شيئًا فشيئًا. والله تعالى أعلم (17) . =(2/551)=@
__________
(1) في (ب): ((واجتز)).
(2) ؟؟؟
(3) قوله: ((ونوه به)) في (م): ((وتود به)).
(4) في (أ) و(ح) و(ز) و(ي): ((تاركون)). وسيأتي للشارح توجيه هذا اللفظة.
(5) سقط من (ز).
(6) سقط من (م).
(7) في (ب) و(م): ((قدمنا)).
(8) في (ح): ((ما)).
(9) في (ب) و(م): ((حين)).
(10) قوله: ((النبي)) من (م) فقط.
(11) في (ب) و(م): ((رسول الله)).
(12) من قوله: ((وأرسل الماء...)) إلى هنا، سقط من (ي).
(13) في (ب) و(م): ((واحبس)).
(14) في (ي): ((يرجع)).
(15) سيأتي في النبوات، باب وجوب الإذعان لحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والانتهاء عما نهى عنه.
(16) قوله: ((هو)) سقط من (ح) و(ي).
(17) قوله: ((والله تعالى أعلم)) ليس في (ب) و(م).(3/551)
وقوله: ((هل أنتم تاركو لي أمرائي))؛ هكذا الروايةُ بإسقاطِ النونِ من((تاركو))؛ ولحذفها (1) وجهان:
أحدُهما: أن يكون استطالَ الكلمةَ؛ كما استطيلت كلمةُ الاسمِ الموصولِ؛ كما قال تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا} (2) ، على أحدِ القولين. وكما قال الشاعرُ:
أَبَنيِ كُلَيْبٍ إِنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا ... قَتَلَا المُلُوكَ وَفَكَّكَا الْأَغْلَالَا (3)
والوجهُ الثاني (4) : أن يكونَ ((أمرائي)) مضافًا، وأُقحم الجارُّ والمجرورُ بين المضافِ والمضافِ إليه، ويكون هذا من نوعِ قراءةِ ابنِ عامرٍ: {وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائِهم} (5) ، بنصبِ {أولادَهم}، وخفضِ {شركائِهم} (6) ، ففصل بين المضافِ والمضافِ إليه بالمفعولِ، وأكثر ما يكون هذا النوعُ (7) في الشعرِ، وكما (8) أنشده سِيبويه:
كَمَا خُطَّ الكِتَابُ بِكَفَِ يَوْمًا ... يَهُودِيٍّ يُقَارِبُ أَوْ يُزِيلُ (9)
وكما أنشد (10) :
فَزَجَجْتُهَا بِمِزَجَّةٍ ... زَجَّ الْقَلُوصَ أَبِي مَزَادَهْ (11)
وُيفهُم من هذا الحديثِ: احترامُ الأمراءِ، وتركُ الاستطالةِ عليهم.
وقوله: ((اسُتْرعِيَ رعيةً))؛ أي: كُلِّف رعَيها ورعايتَها، وهذا مثالٌ مطابقٌ (12) =(3/552)=@
__________
(1) في (ح) و(ي): ((لحذفها)).
(2) سورة التوبة؛ الآية: 69.
وهذا الذي ذكره الشارح في الآية هو أحد الوجوه فيها؛ وهو حذف نونها تخفيفًا والثاني: أن ((الذي)) صفة لمفرد مفهم للجمع؛ أي وخضتم خوضًا كخوض الفريق الذي خاضوا. والثالث: أن ((الذي)) صفة للمصدر؛ وخضتم خوضًا كالخوض الذي خاضوه. قال لاسمين الحلبي: وهذا الوجه ينبغي أن يكون هو الراجح؛ إذ لا محذور فيه. والرابع: أن ((الذي)) تقع مصدرية، وتقديره: وخضتم خوضًا كخوضهم.
انظر: "الدر المصون" (6/83- 84)، "اللباب" (10/142- 143).
(3) البيت من بحر الكامل، وهو للأخطل غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة، والأخطل لقبه، وهو شاعر نصراني من شعراء الدولة الأموية، في قصيدة له يمدح بها قومه ويهجو جريرًا، ومطلعها:
كَذَبتْكَ عينُكَ أم رأيتَ بواسطٍ ... غَلَسَ الظلامِ من الرَّباب خَيالَا.
وتعرَّتْ لكَ بالأبالخِ بعدما ... قطعتْ بأَبْرَقَ خُلَّةً ووِصالَا
وتغوَّلتْ لتروعَنا جِنِّيَّةً ... والغانياتُ يُرينكَ الأَهوالَا
يَمْدُدْنَ من هَفَواتِهنَّ إلى الصِّبا ... سَببًا يَصِدْنَ به الرجالَ طُوالَا
ما إن رأيتُ كمكرِهنَّ إذا جرى ... فينا ولا كحِبالهنَّ حِبالًا
ويقول فيها:
ولقد علمت إذا العشارُ تَروَّحتْ ... هَدَجَ الرئالِ تَكُبُّهَّن شَمالاَ
ترمي العضاةَ بحاصبٍ من ثلجِها ... حتى يبيتَ على العضاةِ جِفالَا
أنَّا نُعجِّلُ بالعبيطِ لضيفِنا ... قبلَ العيالِ ونقتلُ الأَبطالَا
((أبني كليب................. ... ......................))
وأخوهما السَّفَّاحُ ظَمَّأَ خليَه ... حتى وَرَدْنَ جِبَي الكُلاب نِهالا
وينو كليب ين يربوع: رهط جرير، والأغلال: جمع غل، وهو طوقٌ من حديد يجعل في عنق الأسير؛ أي: أن عميه يفكان الغل من عنق الأسراء وينجونهم من أسر أعدائهم قسرًا عليهم. قال السكري: أحد عميه أبو حنش عصم بن النعمان قاتل شرحبيل بن الحارث بن عمرو بن آكل المرار يوم الكُلاب الأول، والآخر دَوْكَس بن الفَدَوْكَس بن مالك بن جشم بن بكر بن حُبيب. والكُلاب – بضم الكاف -: اسم ماءٍ فيما بين البصرة والكوفة. قال السكري: الصفاح اسمه سلمة بن خالد بابن برة القنفذ.اهـ.
وصوب البغدادي ما قاله ابن قتيبة: يعني بعميه: عمرًا ومرة ابني كلثوم؛ فإن عمرًا قتل عمرو بن هند، ومرة قتل المنذر بن النعمان بن المنذر. وذكر ذلك دريد أيضًا في الاشتقاق.
والشاهد في قوله: ((إن عمى اللذا قتلا الملوك)) حيث حذف النون من ((اللذان)) تخفيفًا لاستطالة الموصول عند البصريين، ولغةً عند الكوفيين. واستشهاد الشارح به على قول البصريين. وفي ((الأزهية)): و((الذي)) في أصلها قولان؛ قيل: أصلها: ((لذي))، وقيل: ((ذا)). وفي المفرد خمس لغات: ((الذي، و((اللذِ))، و((اللذْ))، و((اللذيُّ))، و((ذو)). وفي التثنية أربع لغات؛ يقال: ((اللذانِ)) بتخفيف النون، و((اللذانِّ)) بتشديدها يشدد عوضًا مما حذف، وقيل: ليفرق بينهما وبين ما يحذف في الإضافة، ويقال: ((اللذيَّان))، بتشديد الياء، وقال: ((اللذا)) بغير نون. ونقل الأزهري عن أبي بكر الأنباري في قول الشاعر:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم ... القوم كل القوم يا أم خالد
إن ((الذي)) في هذا البيت جمع مفرده: ((اللذْ)) ومثناه: ((اللذا)).
والبيت للأخطل في "ديوانه" (ص86)، و "الأزهية" (ص296)، و "الاشتقاق" (ص338)، و "خزانة الأدب" (3/185)، و "تهذيب اللغة وسر صناعة الإعراب" (2/536)، و "كتاب سيبويه" (1/186)، و "المقتضب" (4/146)، و "الشعر والشعراء" (1/236)، و "تهذيب اللغة" (7/520)، (15/39، 40)، و "لسان العرب" (2/349)، (14/233)، (15/245)، و "تاج العروس" (20/149)، و "البحر المحيط" (7/411)، و "الدرر المصون" (9/427)، و "رصف المباني" (ص406)، و "شرح المرزوقي لديوان الحماسة" (1/79)، و "المحتسب" (1/185).
(4) من قوله: ((أن يكون استطال الكلمة ....)) إلى هنا، سقط من (ح).
(5) سورة الأنعام؛ الآية: 137.
(6) قوله: ((بنصب أولادهم وخفض شركائهم)) سقط من (ح) و(ي).
وتتمة ضبط هذه القراءة: أن ابن عامر رحمنه الله قرأ: ((زين) بالبناء للمفعول، و((قَتْلُ)) بالرفع دون تنوين على أنه نائب الفاعل، و((أولادهم)) بالنصب على أنه مفعول به لـ((قَتْل)) و((شركائهم)) بالخفض على أنه مضاف إليه، والمضاف ((قَتْل)). وقرأ الجمهور: ((زَيَّنَ)) بالبناء للفاعل، ((قَتْلَ)) بالنصب، مفعولاً لـ((زين))، ((أولادهم)).
بالخفض مضافًا إليه ((قتل)) من إضافة المصدر إلى المفعول، ((شركاؤهم)) بالرفع فاعلاً لـ((زين)). وفي الآية قراءات كثيرة تواتر منها هاتان فقط. وقراءة ابن عامر على الفصل بين المضاف والمضاف غليه بأجنبي غير الظرف والجار والمجرور، في اختيار الكلام. وهي مسألة اختلف فيها البصريون والكوفيون؛ قال أبو حيان: فجمهور البصريين يمنعونه متقدموهم ومتأخروهم ولا يجيزون ذلك إلا في ضرورة الشعر. وبعض النحويين أجازها، وهو الصحيح؛ لوجودها في هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي الصريح المحض ابن عامر الآخذ القرآن عن عثمان بن عفان قبل أن يظهر اللحن في لسان العرب، ولوجودها أيضًا في لسان العرب في عدة أبيات.اهـ. وقد ضعف هذه القراءة عدد من العلماء الأكابر، ووهَّم بعضهم ابن عامر فيها ونسبه إلى الغلط واتباع مجرَّد الرسم، نمهم الفراء، وأبو عبيد، والطبري، ومكي، وأبو علي، والزمخشري، وابن الأنباري، وغيرهم، وقد انتصر لها علماء أكابر مثلهم أيضًا؛ قال السمين الحلبي: وهذه القراءة متواترة صحيحة، وقد تجرأ كثير من الناس على قارئها بما لا ينبغي، وهو أعلى القراء السبعة سندًا، وأقدمهم هجرة.اهـ.
وقال أبو حيان معلقًا على طعن الزمخشري في ابن عامر وقراءته: ((و؟؟؟ لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في لسان العرب في غير ما بيت، وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذي تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقًا وغربًا، وقد اعتمد أخيك، و((إن الشاة لتجتر فتسمع صوت والله رنها)) وهذا الحديث هنا شاهد على ذلك
وقال ابن جني في "الخصائص" باب ما يرد عن العربي مخالفًا للجمهور: إذا اتفق شيء من ذلك نظر في ذلك العربي وفيما جاء به: فإن كان فصيحًا وكان ما جاء به يقبله القياس فيحسن الظن به؛ لأنه يمكن أن يكون قد وقع إليه ذلك من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها... ثم نقل بسند عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله...)) قال ابن جني: فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح يسمع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ ما وُجد طريق إلى تقبل ما يورده إذا كان القياس يعاضده)).اهـ. والأحرى لو لم تكن متواترة، فكيف وهي متواترة؟!
وقد قال الإمام الشافعي في ((حرز الأماني)) في قراءة ابن عامر والانتصار لها:
و((زين)) في ضمن وكسر، ورفع ((قَتْـ ... ـل)) ((أولادهم)) بالنصب شاميُّهم تلا
ويخفض عنه الرفع في ((شركاؤهم)) ... وفي مصحف الشامِينَ بالياء مُثِّلَا
ومفعوله بين المضافينِ فاصلٌ ... ولم يُلْفَ غيرُ الظرف في الشعر فَيصلاَ
كـ((له درُّ اليومَ مَن لامها)) فلا ... تُلُمْ من مُليمي النحوِ إلا مُجَهِّلَا
وانظر: "السبعة" (ص270)، و "النشر" (2/197- 199)، "غاية الاختصار" (2/489)، "البحر المحيط" (4/231- 233)، "الدرر المصون" (5/161- 176)، "الخصائص" (؟؟؟/385- 387)، "الكشاف" (2/399- 402)، و"تفسير القرطبي" (12/137- 139).
(7) رسمت في (ي): ((المفعول ع)). ولعله أراد تصويبها.
(8) في (ح): ((كما)).
(9) قوله: ((يقارب أو يزيل)) سقط من (ي). والبيت من بحر الوافر، وهو لأبي حية النميري الهيثم بن الربيع بن زرارة، وبعده:
على أن البصيرَ بها إذا ما ... أعاد الطَّرْفَ يَعْجُمُ أو يَفِيلُ
و((يقارب)) أي: يقارب بعض كتابته من بعضها، ((ويزيل)): يفرق كتابته ويميزها، وكان اليهود مشهورين بالكتابة، ويروى البيت: ((كتحبير الكتاب بخط يوما يهودي....))، ((كتحبير الكتاب بكف يوما يهودي...)) يصف الديار ويشبه ما بقي من رسمها بكتابة اليهودي. وقوله: ((يعجم أو يفيل)) أي: يعرف أو يشك.
والبيت شاهد على الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف وهو أجنبي عنهما مقحم بينهما في قوله: ((بكفِّ يومًا يهوديٍّ))؛ أي: بكفِّ يهوديِّ يومًا. وانظر التعليق السابق على آية سورة الأنعام.
والبيت لأبي حية في "ديوانه" (ص163)، و "كتاب سيبويه" (/178- 179)، و "المحكم والمحيط الأعظم" (1/209)، و "لسان العرب" (12/390)، و "الإنصاف في مسائل الخلاف" (2/432)، و"شرح التصريح" (1/736)، و "خزانة الأدب" (4/419)، و "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (2/349)، (3/347)، وغيرها. وبلا نسبة في "الخصائص" (2/405)، و "رصف المباني" (ص153)، والمقتضب (4/377)، و "الأصول في النحو" (2/277)، (3/467)، و "تهذيب اللغة" (5/34)، و "شرح المفصل" (1/103)، و "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" (3/168)، و "شرح الأشموني" (2/524)، و "شرح ابن عقيل" (2/78)، و "البحر المحيط" (1/501)، (4/232)، و "الدر المصون" (2/42)، (6/163، 165، 168)، و "لسان العرب" (4/15)، و "تاج العروس" (6/234)، وغيرها.
(10) في (ب) و(م): ((قال)).
(11) هذا البيت من مجزوء الكامل، وهو من الشواهد التي لا يعرف قائلها، قال البغدادي: قال ابن خلف: هذا البيت يروى لبعض المدنيّين المولّدين، وقيل: هو لبعض المؤنّثين ممن لا يحتج بشعره. وزجّ الناقة: طعنها لتسرع، والمزجة – بكسر الميم-: ما يُزج به. وتروى بفتحها، وهو موضع الزج. والقلوص: الناقة الشابة. وأبو مزداة: كنية لرجل. والمعنى أنه زج راحلته لتسرع كما يفعل أبو مزادة بالقلوس. والشاهد فيه فصله بين المتضايفين بالمفعول به في قوله: ((زج القلوص أبي مزداه)).
وأُنشد هذا البيت هكذا.
فزججتُها متمكِّنًا ... زجَّ الصعابِ أبو مزادَهْ
فلا شاهد فيه. ويروى: ((زج الصعابَ أبي مزداه)). وهو من شواهد الكوفيين في المسألة وقد منعها البصريون. قال البغدادي: وهذا البيت لم يعتمد عليه متقنو كتاب سيبويه حتى قال السيرافيّ: لم يثبته أحدٌ من أهل الرواية وهو من زيادات أبي الحسن الأخفش في حواشي كتاب سيبويه فأدخله بعض النّسّاخ في بعض النسخ حتّى شرحه الأعلم وبان خلف في جملة أبياته... قال الزمخشريّ في مفصّله: وما يقع في بعض نسخ الكتاب من قوله: ((فزججتها بمزجة...)) البيت، فسيبويه بريء من عهدته، أراد أن سيبويه لم يورد هذا البيت في كتابه بل زاده غيره في كتابه وإنّما برّأ سيبويه من هذا لأنّ سيبويه لا يرى الفصل بغير الظرف وإذا كان هذا مذهبه فكيف يورد بيتًا على خلاف مذهبه.اهـ. وقد رد هذا البيت الفراء من الكوفيين. وأيا كان أمر هذا البيت ففي المسألة شواهد غيره كثير تعضد قول الكوفيين شعرًا ونثرًا وقرآنًا. وانظر التعليق على قراءة ابن عامر رحمه الله في آية الأنعام.
وقد ورد البيت بلا نسبة في "تفسير الطبري" (12/137)، و "المحرر الوجيز" (2/350)، (3/3/346)، و "البحر المحيط" (4/232)، و "الدر المصون" (5/164، 165، 170)، و "الإنصاف في مسائل الخلاف" (2/427)، و "الخصائص" (2/406)، و "خزانة الأدب" (4/415 – 423)، و "شرح المفصل" (3/189)، "كتاب سيبويه" (1/176)، و "مجالس الشعبي" (1/152)، و"المقرب" (ص78)، و "الكشاف" (2/401).
(12) في (أ): ((مطلق)).(3/552)
للمُمثَّلِ (1) به من كلِّ وجهٍ (2) .
و((الصَّفوْ)): الصَّافي عن (3) الكَدَرِ، وهو عبارةٌ عما يأخذُه الناسُ بالقسمِ (4) .
و((الكَدِْرُ (5) )): المتغيِّرُ، وهو (6) مثالٌ لما يبقى للأمراءِ؛ لما يتعلَّقُ به من التبعاتِ والحقوقِ. والله تعالى أعلم.
ومن بابِ التنفيلِ بالأسارى
((التَّعريسُ)): النزولُ من (7) آخرِ الليلِ. و((شن الغارة)): فَرَّقها وأرسلها، وهو بالشِّين، فأما ((سَنَّ الماءَ)) فهو بالسِّينِ المهملةِ؛ أي: صَبَّه (8) . و((العُنُقُ)) (9) من الناسِ: =(3/553)=@
__________
(1) في (ح) و(م) و(ي): ((للمثل)). وفي (ز): ((للمتمثل)).
(2) في (م): ((الوجوه)).
(3) في (ب) و(م): ((من)).
(4) قال النووي: قال أهل اللغة: ((الصفو)) هنا بفتح الصاد، لا غير، وهو الخالص. فإذا ألحقوه الهاء فقالوا: ((الصفوة)) كانت الصادر مضمومة ومفتوحة ومكسورة؛ ثلاث لغات. "شرح النووي" (12/65).
(5) الكدر: بفتح الكاف وسكون الدال وكسرها. نقيض الصفو: "القاموس" (2/125)، وضبطها كذلك في الطبعة العامرة من "صحيح مسلم".
(6) في (م): ((وهذا)).
(7) سقط من (ز).
(8) قال المازري: ((شن الغارة؛ أي: فرقها، وقيل: صبها عليهم صبًّا؛ كما يقال شن عليهم الماء؛ أي: صبه.اهـ. وقال القاضي: أي: فرقها وصبها، كصب الماء وتفريقه)).اهـ. ولعل الشارح هنا يريد تعقب المازري والقاضي في ذلك، فقرر أن الذي يقال في الماء ((سن)) بالمهملة. والتحقيق أن ((سن)) بالمهملة والمعجمة كلاهما يقال في صب الماء، غير أنه بالمعجمة صب متقطع فيه تفريق، وبالمهملة إرساله إرسالاً متصلاً دون تفريق. والأنس هان تشبيه شن الغارة ((شن الماء)) بالمعجمة؛ كما ذكره المازري والقاضي.
وقد ذكر ذلك الجوهري، والحربي، وابن قتيبة، والخطابي؛ قال الحربي: الشن الأخفش: الصب المتقطع، والسن: الصب المتصل المتتابع.اهـ. انظر: "الصحاح" (5/2141، 2145)، "غريب الحديث" للحربي (2/872)، و "غريب ابن قتيبة" (1/434)، و "غريب الخطابي" (1/438)، و "المعلم" (3/15)، و"المشارق" (2/254)، و"لسان العرب" (13/242).
(9) في (ح): ((الغش))، وفي (ي): ((العس)).(3/553)
الجماعةُ منهم. و((القَشْع)): النَّطع، وفيه لغتان: كسرُ القافِ، وفتحُها. ورُوي بالوجهين هنا، وفي البخاريِّ (1) .
وقوله: ((فنَّفلني أبو بكرِ ابنتَها))؛ أي: أعطانِيها نافلةً؛ أي: زيادةً من الخمسِ على سهمهِ من الغنيمةِ؛ لِمَا رأى من نَجْدتِه، وَغَنائِهِ.
وقوله: ((لقد أعجبتني وما كشفتُ لها ثوبًا))؛ يعني: أنه توقَّف عن الاستمتاعِ بها منتظرًا براءتَها (2) ، أو إسلامَها، وسيأتي في النكاحِ قولُ الحسنِ: إن عادةَ الصحابِة كانت: إذا سَبَوُا المرأة لم يَقْرَبوها حتى تُسلمَ وتَتَطهّرَ (3) .
وقوله (4) : ((لله أبوك))، العادةُ أن الشيءَ إذا أضيفَ إلى عظيمٍ اكتَسى عظمًا وشرفًا؛ كما قيل: ((ناقةُ الله))، و((بيتُ الله))، فإذا وُجد من الولدِ ما يحسُنُ موقعُه قيل: ((لله أبوك))؛ حيث أنجبَ بك وجاءَ بمثلِكَ؛ أي: أنه نجيبٌ (5) .
وقوله: ((لا أباك)) (6) ؛ هو مدحٌ؛ أي: لا كافِيَ لك ولا مُجْزِيَ، وقولهم: ((لا أمُّ له))؛ ذمٌ؛ أي: أنت لقيطٌ لا تَعرفُ أمُّكَ، وقيل: ((لا أبا لك))؛ مدحًا؛ أي: لا كافَي لك غيرُ نفسِكَ، وقد يكون ذمًّا؛ أي: لا يُعرفُ أبوكَ، وقيل: معنى ((لا أبا لك)) أي: جِدَّ في أمرِكَ وشَمِّر، فإن من له أبٌ ربما يتكَّلُ عليه ليكفيَه بعضَ الأمورِ، ومن لا له أبٌ؛ يتولَّى الأمورَ بنفسه فيحتاج إلى زيادة عناية، فمعنى: ((لا أبا لك))؛ التخضيضُ والتحريضُ. وقيل في قوله: ((لا أم لك)): إنه يكون مدحًا، ويكون ذمًّا، ويقال أيضًا: ((لا أباك))، في معنى: ((لا أبا لك)) و((لا باك)) أيضًا من غيرِ همزٍ (7) .
وقولُه: ((فبعث بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكةَ ففدى بها ناسًا من المسلمين)) =(3/554)=@
__________
(1) كذا في جميع النسخ! وليس الحديث عند البخاري. وفي "الإكمال" (6/72): ((وبالوجهين - أي الفتح والكسر - ذكرها الخطابي.اهـ. فلعلَّ ((الخطابي)) تصحّفت هنا إلى ((البخاري)).
وتفسيرها بـ((النطع)) ذُكر في الحديث، و((النطع)) بساط من الجلد. وفي ((النطع)) أربع لغات: فتح النون وكسرها، ومع كل منهما فتح الطاء وسكونها. وقال أبو عبيد في "القشع": الجلود اليابسة، ولا يكون القشع إلا يابسًا.اهـ. وقال في "النهاية": ((قيل: أراد: الفرو الخَلَق)). وقد ذكر "القشع" بفتح القاف وكسرها الخطابي في "معالم السنن"، والقاضي في "المشارق"، والنووي في "شرح مسلم". انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (5/211، 212)، "معالم السنن" (/31)، "مشارق الأنوار" (2/193)، "شرح النووي" (12/68)، "النهاية" (4/65).
(2) في (م): ((براها)).
(3) في (أ) و(ح) و(ي): ((وتطهر)). ولم يذكر الشارح قول الحسن هذا في كتاب النكاح أو غيره.
(4) من هنا إلى قوله الآتي: ((... من غير همز)) انفرد به (أ).
(5) نقل هذه الفقرة ابن الأثير في "النهاية" (1/19) عن أبي موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني (ت581هـ) وذكرها كذلك النووي (2/171). [يراجع فتح المغيث]
(6) كذا في النسخة، وقول الشارح: ((وقوله: ((لا أباك...)) إلى آخر ما انفردت به (أ)، استطرد؛ حيث لم تذكره هذه اللفظة في الحديث هنا، وإنما تقدمت في كتاب الإيمان باب رفع الإمانة والإيمان من القلوب. والرواية هنا: ((لا أبا لك)). وقال الشارح هناك: ((إن ((اللام)) في ((لا أبا لك)) مقحمة)).
"المفصل" (1/107)، "الكتاب" (؟؟؟)، "شذرات الذهب" (؟؟؟)، "الخصائص" (1/345)، "اللامات" (1/100).
(7) من قوله: ((وقوله: لله أبوك العادة...)) قبل عشرة أسطر إلى هنا سقط من (ب)و(ح). [شطب من الحاشية ولم يشطب في المتن].(3/554)
- حجَّةٌ على أبي حنيفةَ؛ حيث لم يُجزِ للإمامِ المفاداةَ، ولا الفداءَ بالأسيرِ، وعندَ مالكٍ: أن الإمامَ مخيَّرٌ في الأسارى بين خمسِ خصالٍ: القتلِ، والاسترقاقِ، والمنِّ، والفداءِ، والاستبقاءِ. وذلك هو الصحيحُ؛ بدليلِ قولِه تعالى: {فإما مَنًّا بعد وإما (1) فداءً} (2) ، ولأن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فعل كلَّ ذلك، فكان الأسارى مخصوصين من حكمِ الغنيمةِ بالتخييرِ (3) . والله تعالى أعلمُ.
ومن بابِ ما يُخمَّسُ من الغنيمةِ وما لا يخمَّسُ
قوله: ((أيما قريةٍ أتيتموها، فأقمتم (4) فيها، فسهمُكم فيها))؛ يعني بذلك - والله تعالى أعلم -: أن ما أُجْلي عنه (5) العدوُّ، أو صُولحوا عليه، وحَصل بأيدي المسلمين من غيرِ قتالٍ، فمن أقام فيه كان له سهمٌ من العطاءِ (6) . وليس المراد بالسَّهمِ هنا: أنها (7) تخمَّسُ، فتقسم سُهمامًا (8) ؛ لأن هذا هو حكمُ القِسمِ الآخرِ الذي ذكره بعدَ هذا، حيث قال: ((وأيما قريةٍ عصتِ الله ورسولَه فإن خمسَها لله ورسولِه (9) ، ثم هي (10) لَكُمْ)). تُقسم أخماسًا؛ فيكون الخمسُ لله ورسولِه (11) ، وأربعةُ أخماسِها لكم. يخاطبُ (12) بذلك الغانمين. وهذا كما قال تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى (13) } (14) الآيةَ. ولم يختلفِ العلماءُ في أن أربعةَ أخماسِ =(3/555)=@
__________
(1) ؟؟؟.
(2) سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ الآية: 4. ووقع في (م): ((وإلا فداء)).
(3) في (ب): ((بالتخير)).
(4) كذا في (ز)، وفي سائر النسخ: ((أقمتم)) دون الفاء، والرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((وأقمتم)) بالواو.
(5) في (ح): ((أجلى عنها)). وجَلَا العدوُّ عن البلد يجلو، وأَجْلى يُجْلي، وجَلَوْناه، وأَجليناه: خرج، وأخرجناه "المصباح" (ص59).
(6) في (ز): ((العطايا)).
(7) في (ح): ((أن)).
(8) في (أ): ((سهانًا)).
(9) في (ح): ((ولرسوله)).
(10) قوله: ((هي)) في (ب): ((ما بقي)).
(11) من قوله: ((فإن خمسها لله...)) إلى هنا، سقط من (ي)، ومن قوله: ((ثم هي لكم...)).
(12) في (م): ((مخاطب)).
(13) قوله: ((ولذي القربى)) سقط من (أ) و(ب).
(14) سورة الأنفال؛ الآية: 41.(3/555)
الغنيمةِ يقسم (1) بين الغانمين. وأعني بـ((الغنيمة)) ما عدا الأرَضين؛ فإن فيها خلافًا يذكرُ إن شاء اللهُ تعالى.
وأما الأسارى(9) ففيهمُ الخلافُ المتقدِّم. وأما الخمسُ والفيءُ: فهل يُقسَمُ في أصنافٍ، أو لا يقسمُ، وإنما هو موكولٌ إلى نظرِ الإمامِ واجتهادِه، فيأخذُ منه حاجتَه (2) من غيرِ تقديرٍ، ويُعطي القرابةَ منه باجتهادِه (3) ، ويصرفُ الباقيَ في مصالحِ المسلمين. وهذا هو مذهبُ مالكٍ - رحمه الله-، وبه قال الخلفاءُ الأربعةُ - رضي الله عنهم - (4) ، وبه عملوا، وعليه يدلُّ قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ((مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ)) (5) ، فإنه لم يقسمْه أخماسًا ولا أثلاثًا.
فأما من قال: بأنه يقسم فقد اختلفوا، فمنهم من قال: يُقسمُ على ستةِ أسهمٍ: سهمٌ لله، وسهمٌ للرسول ? (6) ، وهكذا بقيةُ الأصنافِ المذكورةِ في الآيةِ. ثم منهم (7) من قال: إن سهمَ اللهُ يُدفُع للكعبةِ؛ وبه قال طاووسٌ، وأبو العاليةِ ومنهم من قال: للمحتاجين. وأما سهمُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فكان له في حياتِه، ثم هو (8) للخليفةِ بعدَه. وقيل: يُصرفُ في مصلحةِ الغزاةِ. وقيل: يردُّ على القرابةِ.
وقال الشافعيُّ: يُقسمُ على خمسةٍ، ورأى: أن سهمَ اللهِ ورسولِه واحدٌ، ثم إنه يصرفُ في مصالحِ المسلمين، والأربعة ُالأخماس على الأربعةِ الأصنافِ المذكورينَ في الآيةِ.
وقال أبو حنيفةَ: يُقِسمُ (9) على ثلاثةِ أسهمٍ: سهمٌ لليتامى، وسهمٌ لابنِ السبيلِ، وسهمٌ للمساكينِ، فأما سهمُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وسهمُ القرابةِ، فقد سقط؛ لأنه إنما كان لهم (10) لغَنَائِهم ونُصرتِهِم؛ لأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ يأخذُه لنبَّوتِهِ فيكونَ لهم (11) . وأما (12) ذكرُ الله تعالى في أولِ الآيةِ فإنما هو على جهةِ التشريفِ لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - لئلَّا يأنَف (13) من الأخذِ. هذا نقلُ حُذاقِ المصنِّفين.
قلتُ (14) : ولا شك (15) في أن الآيةَ ظاهرةٌ في قسمةِ الخمسِ على ستةٍ، ولولا =(3/556)=@
__________
(1) في (م): ((تقسم)).
(2) قوله: ((وأما الأسارى)) في (أ) ((أما الأسارى))، وفي (ب): ((وأما الأسرى)).
(3) في (أ): ((باجتهاد)).
(4) وأما قول أبي بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - فسيأتي قريبًا في باب بيان ما يصرف فيه الفيء والخمس برقم (1277)، وفي باب تصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - بما وصل إليه من الفيء، ومن سهمه برقم (1278).
وأما قول عثمان: فكونه أقطع مروان فدك، وسيأتي تخريجه في باب فضل القتيل في سبيل الله .
(5) تقدم تخريجه في "سنن سعيد بن منصور" (5/187-198 رقم982) بتحقيقي .
(6) قوله: ((سهم لله وسهم للرسول ?))في (أ): ((لله سهم، وللرسول ? سهم)).
(7) سقط من (م).
(8) سقط من (ز).
(9) في (ح): ((تقسم)). ولم تنقط ياؤها في (ب) و(ي).
(10) قوله: ((لهم)) سقط من (ح) و(ي).
(11) قوله: ((لغنائهم ونصرتهم)) لأن رسول الله ? لم يكن يأخذ لبيوته فيكون لهم)) كذا في (أ). وفي (ح) و(ي): ((لغنائهم ونصرتهم رسول الله ?)). في (ز): ((لغنائهم ونصرتهم لأن رسول الله ? لم يكن يأخذه لنبوته)). وفي (ب) و(م): ((لغنائهم ونصرتهم رسول الله ? لم يكن يأخذه بنوايب)) وهذه الكلمة الأخيرة غير مفتوحة في (ب)، و(م) وتقرأ في (م): ((هوايب)) وعلى كلٍّ، فالعبارة مضطربة؛ وعبارة الحنفية - كما في "المبسوط" للسَّرخسي، و"بدائع الصنائع" -: ((ولنا أن الخلفاء الراشدين ما رفعوا هذا السهم لأنفسهم، وكان لرسول الله ? بسبب النبوة، ولم ينتقل ذلك إلى أحدٍ بعده))، ((وأما سهم ذوي القربى فقد كان رسول الله ? يصرفه إليهم في حياته... ولم يكن هذا السهم مستحقًا بالقرابة بل كان رسول الله ? يصرفه إليهم مجازاة على النصرة التي كانت منهم، ولم يبق ذلك المعنى بعد رسول الله ?)) ولعل في عبارة الشارح سقطًا.
"المبسوط" (3/17- 19)، (10/8- 11)، "البدائع" (7/125). [بيان حكم الغنائم وما يتصل بها]
(12) في (ح): ((وأما ما)).
(13) في (ح): ((يأخذ)).
(14) في (ز): ((قال الشيخ)) وفي (ب) و(م): ((قال الشيخ رحمه الله)).
(15) قوله: ((ولا شك)) سقط من (ز).(3/556)
ما استُدلُ به لمالكٍ من عملِ الخلفاءِ على خلافِ ظاهرِها، لكان الأولى التمسُكَ بظاهرِها، لكنَّهم - رضي الله عنهم - (1) هم أعرفُ بالمقالِ، وأقعدُ بالحالِ، لا سيما مع تَكْرارِ هذا الحكمِ عليهم وكثرتِه فيهم. فإنهم لم يَزالوا آخذين للمغانمِ (2) ، قاسمين لها طولَ مدتِهم؛ إذ هي عيشُهم (3) ، ومنها رزقُهم، وبها قام (4) أمُرهم؛ فكيف يخفى عليهم أمرها، أو يشذَّ عنهم (5) حكمٌ من أحكامِها؛ هذا ما لا يظنُّه بهم مَنْ يعرفهُم.
وقوله: ((كانت (6) أموالُ بني النضير (7) مما أفاء الله على رسوله ?)) أفاء: أي: رَدَّ على رسولِه من أموالِ الكفارِ. وهذا يدلُّ على أن الأموالَ إنما كانت للمسلمين بالأصالِة، ثم صارتْ للكفارِ بغير الوجوهِ الشرعيةِ (8) ، فكأنهم لم يملكوا ملكًا صحيحًا، لاسيما إذا تَنَزَّلْنا على أن الكفار (9) مخاطَبُون بفروعِ الشريعةِ، ومع ذلك فلهم شبهةُ الملكِ؛ إذ قد أضاف الله تعالى إليهم أموالاً؛ كما (10) أضاف إليهم أولادًا، فقال: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} (11) ،
وقد اتفق المسلمون على أن الكافرَ إذا أسلم وبيدهِ مالٌ غيرُ متعيِّنٍ للمسلمين، كان له، لا (12) ينتزعُه أحدٌ منه (13) بوجهٍ من الوجوهِ. وسيأتي للمسألِة مزيدُ بيانٍ.
وقوله: ((مما لم يوجِفْ عليه (14) ))؛ أي: يُسْرِعْ. والإيجافُ: الإسراعُ، ووجيفُ (15) الخيلِ: إسراعُها. والرِّكابُ: الإبلُ (16) .
وقولُه: ((فكانت (17) للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً))؛ هذا الحديثُ حجَّةٌ لمالكٍ على أن الفيءَ لا يُقسمُ، وإنما هو موكولٌ لاجتهادِ (18) الإمامِ، والخلافُ الذي ذكرناه في الخمسِ هو الخلافُ هنا، فمالكٌ لا يَقْسمُه، وأبو حنيفة يَقْسمُه أثلاثًا، والشافعيُّ يَقسِمُه (19) أخماسًا. =(3/557)=@
__________
(1) سقط من (م).
(2) في (ب) و(م): ((للغنائم)).
(3) في (أ) و(ز): ((عيشتهم)).
(4) في (ب) و(م): ((قوام)).
(5) في (أ): ((عليهم)).
(6) في (ح): ((فكانت))، وفي (ي): ((لكانت)).
(7) كذا على الصواب في (أ)، وفي سائر النسخ: ((النظير)).
(8) في (ح): ((المشروعة)) وكتب في هامش (ي): ((الشرعية)) ووضع علامة أنها من نسخة أخرى.
(9) في (ي): ((للكفار)).
(10) قوله: ((أضاف الله إليهم أموالًا كما)) سقط من (ح).
(11) سورة التوبة؛ الآية: 55.
(12) في (أ) و(ب) و(ز) و(م): ((ولا)).
(13) في (ي): ((منهم)).
(14) قوله: ((عليه)) سقط من (أ).
(15) في (ز): ((وإيجاف)). قال في "النهاية" (5/156): الوجيف: ضرب من السير سريع، وقد وَجَفَ البعير يَجِفُ وَجْفًا ووجيفًا.اهـ. وانظر: "القاموس" (3/303).
(16) قال الخطابي: الركاب: الإبل التي تركب، اسم جماعة، ولا يفرد من لفظه اسم الواحد.اهـ. وقال في "القاموس" (1/75): واحدتها: راحلة. وتجمع على رُكُب ورِكابات وركائب. وانظر: "مشارق الأنوار" (1/289).
(17) في (أ) و(ز): ((وكانت)).
(18) في (ي): ((إلى اجتهاد)).
(19) ((يقسمه)) من (م) فقط.(3/557)
وقوله: ((فكان ينفقُ على أهلِه نفقةَ سنةٍ))؛ أي: يُعطيهم قوتَ سنتِهم، كما في البخاريِّ (1) : ((أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَني النَّضِيرِ (2) ، وَيَحْبِسُ (3) لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ)). وأما لنفسِه فما رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ادَّخر، ولا احْتكر؛ وإنما كان يفعلُ ذلك بأهلِه قيامًا لهم بحقُوقِهم. ودفعًا لمطالبِتهم، ومع ذلك فكان أهلُه يتصدَّقْنَ، يمسكْنَ شيئًا، ولذلك ما قد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ربما (4) ينزلُ به الضيفُ فيَطلُبُ (5) له (6) شيئًا في بيوتِ أزواجِه، فلا (7) يوجدُ عندهنَّ شيءٌ.
وفيه ما يدلُّ على جوازِ ادخارِ قوتِ العيالِ سنةً، ولا خلافَ فيه إذا كان من غلَّةِ المدخِّرِ، وأما إذا (8) اشتراه من السُّوقِ، فأجازه قومٌ ومنعه آخرون إذا أضرَّ بالناسِ. وهو مذهبُ مالكٍ في الاحتكارِ مطلقًا.
و((الكُراعُ)): الخيلُ (9) والإبلُ.
وقوله: ((قسم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّفَل للفرس سهمين وللرجل سهمًا))، رواه العذريُّ، والخُشَنُّي: ((للراجل)) بالألف، وغيرُهما: بغيرِ ألفٍ. و((النَّفَل)) هنا: الغنيمةُ (10) ؛ لأنها هي التي تُقسَمُ على الفارسِ والراجلِ بالسهامِ.
وهذا الحديثُ حجَّةٌ لمالكٍ والجمهورِ على أنه يقسمُ للفرسِ وراكبِه ثلاثةُ =(3/558)=@
__________
(1) في "صحيحه" (9/501-502 رقم5357) في النفقات، باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، وكيف نفقات العيال .
(2) كذا في (أ) على الصواب، وفي سائر النسخ: ((النظير)).
(3) في (م): ((ويخمس)).
(4) في (ز): ((وربما)).
(5) في (ح) و(ي): ((فينظر)).
(6) كذا في (ز)، وفي سائر النسخ: ((شيء)).
(7) في (ز): ((فلم)).
(8) قوله: ((وأما إذا)) في (ح): ((وأما وإذا)).
(9) في (ح): ((والكراع والخيل)).
(10) في (ب) و(م) و(ز): ((الغنيمة هنا)).(3/558)
أسهمٍ، وللراجلِ (1) سهمٌ؛ لا سيما على روايةِ: ((وللرجلِ (2) )) فإنه يريدُ به راكبَ الفرسِ، وأن الألف واللام فيه (3) للعهدِ. وقد رُوي من طريقٍ صحيحٍ عن ابنِ عمرَ – رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم لرجلٍ وفرسِه ثلاثةَ أسهمٍ؛ سهمًا له، ولفرسِه سهمين (4) . ذكره أبو داود (5) . وفي البخاريِّ (6) عن ابنِ عمرَ: جعلَ للفرسِ (7) سهمينِ ولصاحبِه سهمًا.
ومن جهة المعنى: أن مؤنَ الفارسِ أكثرُ (8) ، وغَناءَه أعظمُ؛ فمن المناسبِ أن يكونَ سهمُه أكثَر من سهمِ الرَّاجلِ.
وشذّ أبو حنيفة فقال (9) : يُقسمُ للفرسِ كما يُقسم للرَّجلِ (10) . ولا أثر له يعضدُه، ولا قياسَ يَعتمدُه؛ ولذلك خالفه في ذلك كبراءُ أصحابهِ؛ كأبي يوسفَ ومحمدِ بنِ الحسنِ (11) ، وغيرِهما.
حمل أبو حنيفة رحمه الله حديثَ ابنِ عمرَ الواقعَ في "صحيحِ مسلمٍ" ((للفرسِ سهمين))؛ أي: هو وفارسُه، وقال: لا أفضلُ بهيمةً على مسلمٍ! فقيل: فلا تَساوِيَ بينهما، ولم يقلْه غيرُه، إلا شيءٌ روي عن عليٍّ (12) وأبي موسى (13) ، رضي الله عنهما. وحديثُ البخاريِّ وأبي داودَ راجعٌ (14) لذلك الاحتمالِ، ولفظُ ابنِ ماجَهْ (15) : أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أسهمَ يومَ خيبرَ للفارسِ ثلاثةَ أسهمٍ: للفرسِ سهمان، وللرجل سهمٌ (16) .
وقد ذكر أبو بكرِ بنُ أبي شيبةَ من حديثِ ابنِ عمرَ – رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَسَم للفارسِ سهمين، وللراجلِ سهمًا (17) .
والصحيحُ من حديثِ ابنِ عمر ما خرَّجه البخاريُّ ومسلمٌ، كما ذكرناه (18) . ثم اختلفوا (19) هل يُسْهَمُ (20) لأكثرَ من فرسٍ واحدٍ، أو لا يُسْهَمُ إلا لواحدٍ؟ فقال مالكٌ: لا يُسهم إلا لفرسٍ واحدٍ؛ لأنه لا يُقاتَلُ إلا على فرسٍ واحدٍ، وما عداه إنما هو قوةٌ واستظهارٌ.
وقال الجمهورُ، وابنُ وهبٍ، وابن الجهم - من أصحابِ مالكٍ (21) -: يُقسمُ (22) لفرسين، ولم يقلْ أحدٌ: إنه يُسهُم (23) لأكثرَ من فرسين، إلا شيئًا روي عن سليمانَ بن موسى - وهو الأشدقُ - أنه يسهمُ لمن عندَه أفراسٌ، لكلِّ فرسٍ سهمانِ (24) ، وهو شاذٌّ. والله أعلم (25) . =(3/559)=@
__________
(1) في (ح): ((واللرجل)).
(2) في (ب): ((للراجل)). بالألف، ودون الواو.
(3) قوله: ((فيه)) سقط من (ح).
(4) قوله: ((سهمًا له ولفرسه سهمين)) سقط من (ز).
(5) في "سننه" (3/172-173 رقم2733) في الجهاد، باب في سهمان الخيل. وأخرجه عبدالرزاق (9320)، وسعيد بن منصور (2760)، وأحمد (4448)، والدارمي (2/225)، وابن ماجه (2854) من طرق عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، به، نحوه، وإسناده صحيح كما قال الشارح رحمه الله .
(6) (2863 و4228).
(7) في (ح): ((للرجل)).
(8) سقط من (ز)، وفي (ح): ((أعظم)).
(9) في (ح): ((فيقال)).
(10) في (أ): ((للراجل)).
(11) انظر: ((السير)) لمحمد بن الحسن الشيباني (ص247).
(12) أخرجه ابن أبي شيبة (33185) عن غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق بن هانئ، عن علي.
(13) أخرجه ابن أبي شيبة (33183) عن معاذ، ثنا حبيب بن شهاب، عن أبيه، عن أبي موسى، به.
(14) كذا في النسخة. والصواب: ((رافع)) أي: التصريح في الحديث عند البخاري وأبي داود، وقد ذكرهما الشارح آنفًا، يرفع الاحتمال الذي حمل عليه أبو حنيفة الحديث؛ وما يتوهم مع رواية: ((وللراجل)). قال المزري: وحَمْلُ أبي حنيفة ما وقع من الأثر على أن المراد بقوله: ((سهمان للفرس)) أي: هو وفارسه – خروج عن الظاهر؛ لأنه إنما أضاف هذا للفرس. قال القاضي: أما مع رواية: ((وللرجل)) فبينٌ، وأما مع رواية: ((وللراجل)) فمحتمل، لكن يرفع الاحتمال ما ورد مفسرًا في حديث ابن عمر هذا... إلخ. ثم ذكر نحو ما ذكره الشارح هنا من حديث ابن عمر. وانظر: "المعلم" (3/19)، و"الإكمال" (6/92)، و"شرح النووي" (21/83).
(15) في "سننه" (854)، والدارمي (2472) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، عن عبدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، به.
(16) آخر ما انفردت به النسخة (أ).
(17) هو في "المصنف" (6/492 رقم33159) في السير، باب في الفارس: كم يقسم له؟ من قال: ثلاثة أسهم ولفظه: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين، وللرجل سهمًا)).
وقول الشارح: ((والصحيح من حديث ابن عمر ما خرَّجه البخاري ومسلم، كما ذكرناه)) إشارة منه إلى أن ما وقع عند ابن أبي شيبة وهم من الراوي.
وقد ذكر الحافظ نحوه عن الدارقطني نحوه، قال الدارقطني عن شيخه أبي بكر النيسابوري: وهم فيه الرمادي وشيخه. قلت: لا؛ لأن المعنى أسهم للفارس بسبب فرسه سهمين غير سهمه المختص به، وقد رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" و"مسنده" بهذا الإسناد فقال: للفرس.
وقال الحافظ: وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الجهاد له عن ابن أبي شيبة، وكأن الرمادي رواه بالمعنى، وقد أخرجه أحمد عن أبي أسامة وابن نمير معًا بلفظ: أسهم للفرس، وعلى هذا التأويل أيضًا يحمل ما رواه نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن عبيدالله مثل رواية الرمادي أخرجه الدارقطني، وقد رواه علي بن الحسن بن شقيق وهو أثبت من نعيم عن ابن المبارك بلفظ: أسهم للفرس، وتمسك بظاهر هذه الرواية بعض من احتج لأبي حنيفة في قوله: إن للفرس سهمًا واحدًا، ولراكبه سهم آخر، فيكون للفارس سهمان فقط، ولا حجة فيه؛ لما ذكرنا. واحتج له أيضًا بما أخرجه أبو داود من حديث مجمع بن جارية - بالجيم والتحتانية في حديث طويل في قصة خيبر قال: فأعطى للفارس سهمين، وللراجل سهمًا، وفي إسناده ضعف، ولو ثبت يحمل على ما تقدم؛ لأنه يحتمل الأمرين، والجمع بين الروايتين أولى ولا سيما والأسانيد الأولة أثبت ومع رواتها زيادة علم... قال محمد بن سحنون: انفرد أبو حنيفة بذلك دون فقهاء الأمصار، ونقل عنه أنه قال: أكره أن أفضل بهيمة على مسلم، وهي شبهة ضعيفة؛ لأن السهام في الحقيقة كلها للرجل. قلت: لو لم يثبت الخبر لكانت الشبهة قوية؛ لأن المراد المفاضلة بين الراجل والفارس، فلولا الفرس ما ازداد الفارس سهمين عن الراجل، فمن جعل للفارس سهمين فقد سوى بين الفرس وبين الرجل، وقد تُعقب هذا أيضًا؛ لأن الأصل عدم المساواة بين البهيمة والإنسان، فلما خرج هذا عن الأصل بالمساواة فلتكن المفاضلة كذلك، وقد فضل الحنفية الدابة على الإنسان في بعض الأحكام، فقالوا: لو قتل كلب صيد قيمته أكثر من عشرة آلاف أداها، فإن قتل عبدًا مسلمًا لم يؤد فيه إلا دون عشرة آلاف درهم، والحق أن الاعتماد في ذلك على الخبر، ولم ينفرد أبو حنيفة بما قال، فقد جاء عن عمر وعلي وأبي موسى، لكن الثابت عن عمر وعلي كالجمهور، واستدل للجمهور من حيث المعنى بأن الفرس يحتاج إلى مؤنة لخدمتها وعلفها، وبأنه يحصل بها من الغنى في الحرب ما لا يخفى)).اهـ.
(18) في (ز): ((ذكرنا)).
(19) قوله: ((ثم اختلفوا)) في (ي): ((واختلفوا).
(20) في (م) و(ي): ((يقسم)). ...
(21) قوله: ((من أصحاب مالك)). سقط من (ح) و(ي).
(22) في (ب) و(م): ((يسهم)).
(23) في (ح): ((يقسم)). ...
(24) في (ح) و(ي): ((سهمًا)).
(25) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/559)
ومن بابِ مَا يُصرفُ فيه الفيءُ والخمسُ
((تعالى (1) النهار)): ارتفع. و((مفضيًا إلى رِمالِه))؛ أي: لم يكنْ بينَه وبين الحصيرِ حائلٌ يقيه آثارَ عيدانِه. ورِمالُ الحصيرِ: ما يُؤثِّرُ فِي جنبِ المضطجِعِ عليه (2) . ورَمَلْتُ الحصيرَ: نَسَجْتُه، وقد (3) تقدَّم.
و((مَالِ)) ترخيمُ ((مالكٍ)) في النداءِ. و((دَفَّ أهلُ أبيات))؛ أي: نزلوا بهم مسرعين محتاجين. وأصلُه من الدَّفيفِ؛ وهو: السَّيرُ السَّريعُ، وكان (4) الذي تنزلُ (5) به فاقةٌ يُسرعُ المشيَ لتنجليَ عنه.
و((الرَّضْخُ))- بسكونِ الضادِ -: هي العطيةُ القليلةُ، غيرُ المقدرةِ.
و((يَرْفَأُ)) مقصورٌ، وهو (6) مولى (7) عمرَ رضي الله عنه وآذِنهُ (8) .
وقوله: ((هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن؟)) في الكلامِ حذُفُ؛ تقديرُه (9) : هل لك إذنٌ في هؤلاء؟
وقول العبَّاس: ((اقضْ بيني وبين هذا الكاذبِ، الآثمِ، الغادرِ، الخائنِ))؛ قولٌ =(3/560)=@
__________
(1) في (ز): ((قوله تعالى)). ورسمت ((تعالى)) في (ح) و(ي) هكذا: ((تعلا)).
(2) سقط من (ي).
(3) ((رمال الحصير)) بكسر الراء، وتضم. والمراد: ضلوع الحصير المتداخلة بمنزلة الخيوط في الثوب المنسوج؛ قاله الخطابي قال الحافظ: وكأنه لم يكن فوق الحصير فراش ولا غيره، أو كان بحيث لا يمنع تأثير الحصير.اهـ. ويقال: رَمَلْت الحصيرَ، وأرملته، ورمَّلته. و((رَمَل)) أعلى وأكثر. قال الزمخشري: الرُّمال: ما رُمِل؛ أي: نسج، ونظيره: الحُطام والرُّكام؛ لما حُطِم ورُكِمَ. انظر: "أعلام الحديث" (2/1230)، و "الفائق" (2/83)، و "النهاية" (2/265)، و "شرح النووي" (10/92)، و "الفتح" (5/117)، (6/205)، (9/287).
(4) في (ب) و(م): ((فكان)).
(5) سقط من (ز).
(6) قوله: ((مقصور وهو)) في(أ): ((وهو)).
(7) في (م): ((قول)).
(8) قال النووي في "شرح مسلم" (21/71): ((يرفا)) بفتح المثناة تحت وإسكان الراء وبالفاء غير مهموز، هكذا ذكره الجمهور، ومنهم من همزه.اهـ. في "الفتح" (/205): وهي روايتنا من رطيق أبي ذر.اهـ. قال الحافظ في "الفتح" (6/205): وهي روايتنا من طريق أبي ذر.اهـ. يعني همز ((يرفأ)). قال: ويرفا هذا كان من موالي عمر أدرك الجاهلية، ولا تعرف له صحبة، وقد حج مع عمر في خلافة أبي بكر.
(9) قوله: ((حذف تقديره) في (ي): ((حده)).(3/560)
لم يُردْ به ظاهرَه؛ لأن عليًّا - رضي الله عنه - مُنَزَّهٌ عن ذلك كلِّه، مبَّرأٌ منه (1) قطعًا، ولو أراد ظاهرَه لكان محرَّمًا، ولاستحال على عمرَ، وعثمانَ، وعبدِ الرحمنِ، والزبيرِ، وسعدٍ (2) - رضي الله عنهم -، وهم المشهودُ لهم بالقيامِ بالحقِّ وعدمِ المبالاةِ بمن يخالفُهم فيه (3) ، فكيف يجوز ُعليهم الإقرارُ على المنكرِ؟! هذا ما لا يصحُّ؛ وإنما هذا (4) قولٌ أخرجَه من العبَّاسِ الغضبُ، وصولةُ سلطنِة العمومةِ؛ فإنَّ العمَّ صِنْوُ الأبِ (5) ، ولا شكّ أن الأبَ إذا أطلقَ هذه الألفاظَ على ولدِه؛ إنما يُحملُ ذلك منه على أنه قَصْدِ الإغلاظِ والرَّدعِ؛ مبالغةً (6) في تأديبِه، لا أنَّه (7) موصوفٌ بتلك الأمورِ. ثم انضاف إلى هذا: أنهم في محاجَّةٍ ولايةٍ دينيَّهٍ (8) ، فكأنَّ العباسَ يعتقدُ أن مخالفتَه فيها لا تجوزُ، وأن المخالفةَ (9) فيها تؤدِّي (10) إلى أن يَتصفَ (11) المخالفُ بتلك الأمورِ، فأطلقها ببوادرِ الغضبِ على هذه الأوجهِ، ولما (12) علم الحاضرون ذلك لم يُنكروه. والله تعالى أعلمُ.
وهذا التأويلُ أشبهُ ما ذُكر في ذلك، وإلا فَتَطْريقُ (13) الغلطِ لبعضِ النَّقَلِة لهذه القصةِ (14) فيه بُعْدٌ؛ لحفظِهم وشهرتِهم، والذي اضطرَّنا إلى تقديرِ (15) أحدِ الأمرين: ما نعلمُه من أحوالِ (16) تلك الجماعةِ، ومن عظيمِ (17) منازلهِم في الدِّينِ والورعِ والفضلِ؛ كيف لا، وهم من هم، - رضي الله عنهم - وحشرنا في زمرتِهم (18) .
و((أَجَلْ)) بمعنى: نعم. و((اتَّئدوا)) بمعنى: تَثَبَّتُوا وارفُقُوا.
وقولُ عمر (19) : ((أُنشُدُكم الله))؛ أي: أُقسم (20) عليكم بالله، يخاطبُ الحاضرين.
وقوله ?: ((لا نُورَثُ، ما تركنا صدقةٌ))؛ جميعُ الرواةِ لهذه اللفظةِ في "الصحيحين" وفي غيرِهما يقولون (21) :((لا نُورَثُ)) بالنون، وهي نونُ جماعةِ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام (22) ؛ كما قال: ((نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنبِيَاءِ لَا نُورَثُ)) (23) .
و((صدقةٌ)): مرفوعٌ على أنه خبُر =(3/561)=@
__________
(1) في (أ) و(ب) و(ح) و(ز): ((عنه)).
(2) في (ز): ((وسعيد وسعد)). وما ذكر في الرواية ((سعد)) فقط.
(3) قوله: ((فيه)) سقط من (ب) و(م)، وفي (أ): ((بالجنة)) بدل (( فيه)).
(4) في (ح): ((هو)).
(5) تقدم في الزكاة، باب ليس فيما اتخذ للقنية صدقة، وتقديم الصدقة وتحملها عمن وجبت عليه، برقم (852).
(6) في (ح): ((مبالغًا)).
(7) قوله: ((لا أنه)) في (م): ((لأنه)).
(8) في (ز): ((دينه)).
(9) في (ح): ((المخالف)).
(10) في (م): ((يؤدي)).
(11) قوله: ((يتصف موضعه)) في (ح): ((الإنسان)).
(12) في (م): ((وإذا)).
(13) في (أ): ((تطرق)) والمراد: أن يجعل للغلط طريقًا إلى الرواة؛ أي: ينسبهم إلى الغلط. من طَرَّقت القطاة: إذا فحصت للبيض؛ كأنها تجعلَ له طريقًا. "اللسان" (10/223).
(14) في (ب) و(ح) و(ي): ((القضية)).
(15) قوله: ((إلى تقدير)) في (ب): ((إلى هذا تقدير))، وفي (م): ((تقدير)) فقط.
(16) في (ي): ((حال)).
(17) في (ز): ((عظم)).
(18) ذكر احتمال توهيم الرواة في هذه القصة، المازري في "المعلم" (3/16)، وهو أيضًا الذي أول التأويل الذي ارتضاه الشارح هنا، ونقله عنه أو عن القاضي عنه. قال المازري بعد أن نزه العباس وعليًّا عن مثل هذه الأوصاف: ولسنا نقطع بالعصمة إلا للنبي ? أو لمن شهد له بها، لكنا مأمورون بتحسين الظن بالصحابة رضي الله عنه جميعهم، ونفي كل رذيلة عنهم، وإضافة الكذب لرواتها عنهم إذا انسدت طرق التأويل. وقد حمل بعضا لناس هذا الرأيُ على أن أزال من نسخته ما وقع في هذا الحديث من هذا اللفظ وما بعده تورعًا عن إثبات مثل هذا، ولعله يحمل الوهم على رواته.
وإن كان هذا اللفظ لابد من إثباته ولا يضاف الوهم إلى رواته، فأمثل ما حمل عليه أنه صدر من العباس على جهة الإدلال على ابن أخيه...))إلخ. ثم ذكر نحو ما نقله الشارح هنا. وانظر: "الإكمال" (6/77- 79)، و "شرح النووي" (12/72- 73)، و "الفتح" (6/25).
(19) قوله: ((وقول عمر)) في (ي): ((وقوله)). وفي (أ): ((وقوله عمر)).
(20) في (ز): ((قسم)).
(21) سقط من (أ)، وفي (ز): ((يقول)).
(22) جاء في رواية البخاري لهذا الحديث، من قول عمر - رضي الله عنه -: ((يريد رسولُ الله ? نفسه)) ب'د أن ذكر قول النبي ?: ((لا نورث)).
قال الحافظ: وفي قول عمر: ((يريد نفسه)) إشارة إلى أن النون في قوله: ((نورث)) للمتكلم خاصة، لا للجمع.
وسيأتي الشارح في مناقشته للشيعة تقريره أن النبي ? مختص بهذه الخاصية؛ أنه لا يورث.
(23) قال الحافظ ابن كثير في "تحفة الطالب بمعرفة أحاديث ابن الحاجب" (ص213-214): ((هذا الحديث بهذا اللفظ لم أره في شيء من الكتب الستة؛ وإنما الذي في "الصحيحين" من حديث أبي بكر وعمر عائشة - رضي الله عنهم - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا نورث ما تركنا صدقة)).
وقد روى الترمذي في غير جامعه بإسناد على شرط مسلم عن عمر، عن أبي بكر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة)).
وقال الحافظ في "الفتح" (12/8): ((وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث))، فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ: ((نحن))، لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة، عن أبي الزناد بلفظه: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث)) الحديث أخرجه عن محمد بن منصور عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في "مسند الحميدي" عن بن عيينة، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب في "مسنده: من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" بنحو اللفظ المذكور، وأخرجه الدارقطني في "العلل" من رواية أم هانئ عن فاطمة عليها السلام، عن أبي بكر الصديق بلفظ: ((إن الأنبياء لا يورثون)).
قال ابن بطال وغيره: ووجه ذلك والله أعلم أن الله بعثهم مبلغين رسالته وأمرهم ألا يأخذوا على ذلك أجرًا... فكانت الحكمة في ألا يورثوا لئلا؛ يظن أنهم جمعوا المال لوارثهم... وقد حكى ابن عبد البر أن للعلماء في ذلك قولين، وأن الأكثر على أن الأنبياء لا يورثون، وذكر أن ممن قال بذلك من الفقهاء إبراهيم بن إسماعيل بن علية، ونقله عن الحسن البصري عياضٌ في "شرح مسلم"... قلت: وعلى تقدير تسليم القول المذكور، فلا معارض من القرآن (يعني: نحو قوله تعالى على لسان زكريا: {يرثني ويرث من آل يعقوب}) لقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ((لا نورث ما تركنا صدقة))؛ فيكون ذلك من خصائصه التي أكرم بها، بل قول عمر: ((يريد نفسه)) يؤيد اختصاصه بذلك)). اهـ.(3/561)
المبتدأِ الذي هو: ((ما تركنا))، والكلامُ جملتان؛ الأُولى فعليةٌ، والثانيةُ اسميةٌ. لا خلافَ بين المحدِّثين في هذا.
وقد صحَّفه بعضُ الشيعةِ، فقال: ((لا يُورَثُ - بالياءِ - ما (1) تركنا صدقةً)) بالنصب، وجعلَ الكلامَ جملةً واحدةً، على أن يجعل (2) ((ما)) مفعولاً لما (3) لم يسمَّ فاعلُه، و((صدقةً)) نصبٌ (4) على الحالِ؛ ويكونُ معنى الكلام: إن ما يتركُه (5) صدقةً لا يورثُ (6) ، وإنما فعلوا هذا (7) واقتحموا هذا المحرَّمَ، لما يلزمهُم على روايةِ الجمهورِ من إفسادِ قولهمِ ومذهبِهم؛ أنهم يقولون: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُورَثُ كما يُورَثُ (8) غيرُه، متمسِّكين بعمومِ آيةِ المواريثِ، مُعْرِّضين عمَّا كان معلومًا عندَ الصحابةِ من الحديثِ الذي يدلُّ على خصوصيةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يُورثُ (9) .
وقد حكى الخطابيُّ (10) حكايةً تدلُّ على صحةِ مذهبِ أهلِ السُّنةِ، وعلى بطلانِ مذهبِ أهلِ البدعِ: حُكي عن (11) ابن الأعرابيِّ: أن أبا العبَّاسِ السفَّاحِ قام في أولِ مقامٍ قامه (12) خطيبًا في قريةٍ تسمى ((العباسيةَ)) بـ((الأنبارِ))، حمد (13) الله وأثنى عليه، فلما جاء عندَ الفراغِ، قام إليه رجلٌ (14) ، وفي عنقِه المصحفُ، فقال: يا أميرَ المؤمنين! أُذكرُكَ اللهََ الذي ذكرتَه إلا قضيتَ لي على خَصْمي بما في كتابِ الله تعالى. فقال: ومن خَصْمُكَ؟ قال: أبو بكرٍ الذي منع فاطمةَ ((فَدَكَ)). فقال: هل كان بعدَه أحدٌ؟ قال: نعم. قال: ومن؟ قال: عمرُ. قال: فأقام (15) على ظلمِكم؟ قال: نعم. قال: فهل كان بعده أحدٌ؟ قال: نعم. قال: فمن (16) ؟ قال: عثمانُ. قال: فأقام على ظلمِكم؟ قال: نعم. قال: فهل كان بعدَه أحدٌ؟ قال: نعم. قال: فمن (17) ؟ قال: عليُّ بنُ أبي طالبٍ. قال: فأقام (18) على ظلمِكم؟ قال: فأُسكت (19) الرجلُ، وجعل يلتفتُ يمينًا وشمالاً (20) يطلبُ مخلِّصًا. فقال أبو العباسِ: والله الذي لا إله إلا هو، لولا أنه أولُ مقامٍ قمتُه، ولم أكنْ تقدمتُ إليك (21) ، لأخذتُ الذي فيه (22) عيناك، اجلسْ. ثم أخذ في خطبتِه. =(3/562)=@
__________
(1) قوله: ((فقال لا: نورث بالياء ما تركنا)) في (ب): ((فقال لا ة رث ما تركنا)). وفي (م): ((فقالوا لا نورث ما)).
(2) قوله: (( على أن يجعل)) في (ي): ((يجعل)) غير منقوطة الباء.
(3) قوله: ((لما)) سقط من (أ) و(ز).
(4) في (ح) و(ي): ((تنصب)) وفي (.): ((ينصب)).
(5) في (ز): ((نتركه)).
(6) في (م): ((نورث)).
(7) في (ي): ((ذلك)).
(8) في (ح): ((تورث)).
(9) قال القاضي: وقد اعترض بهذا الهوس أبو عبد الله بن المعلم أحد أئمة الإمامية، على القاضي أبي علي بن شاذان، لما استدل عليه بهذا الحديث، وقال له: إنما نفى وراثة ما تركوه صدقة، وأما ما ترك على غير الصدقة فلا تمنع وراثته. واعتمد بهذه النكتة لعلمه بقصور أبي علي في العربية، فقال له أبو علي في جوابه: لا أعلم ما ((صدقةٌ)) من ((صدقة))، ولا أحتاج إليه في هذه المسألة؛ فإنه لا شك عندي وعندك أن فاطمة من أفصح العرب وأعلمهم بالفرق بين اللفظين، وكذلك العباس وهم ممن يستحقون الميراث وعلي كذلك رضي الله عنه، وقد طلبت ميراثها من النبي ? من أبي بكر، فجاوبها أبو بكر بهذا اللفظ بما فهمت منه أنه لا شيء لها، وكذلك علي وسائر الصحابة ولم يعترض أحد منهم بهذا العالمين بذلك، ولو كان اللفظ لا يقتضي المنع لما أورده أبو بكر ولا تعلق به، ولم يسلم له الآخرون أيضًا؛ فإن الرفع هو المروي، ومدعِي النصب مبطل. "الإكمال" (6/89- 90).
(10) ذكرها الخطابي في "معالم السنن" (4/210)؛ قال: وحدثني أبو عمر محمد بن عبد الواحد النحوي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى، عن ابن الإعرابي وانظر "المعلم" (3/17)، "الإكمال" (6/79).
(11) قوله: ((عن)) سقط من (ح).
(12) في (ي): ((قام)).
(13) في (ب) و(م): ((فحمد)).
(14) كذا في النسخ، والذي عند الخطابي: ((فلما افتتح الكلمة وصار إلى الشهادة من الخطبة، قام رجل من آل بني طالب وفي عنقه مصحف...)) هو أنسب لما يأتي على لسان الرجل: ((أذكرك الله الذي ذكرته))، وقوله في آخر الحكاية: ((ثم أخذ في خطبته)) .
(15) في (ب): ((وأقام)).
(16) في (ح) و(ز) و(م): ((ومن)).
(17) في (ي): ((من)).
(18) في (ز): ((وأقام)).
(19) في (ح) و(ي): ((فأمسك)).
(20) قوله: ((يمينا وشمالاً)) من (ي) فقط.
(21) في "معالم السنن": ((ثم إني لم أكن تقدمت إليك في هذا قبل...)).
(22) في (ي): ((فيك)).(3/562)
وحاصلُ هذه الحكايةِ: أن الخلفاءَ - رضي الله عنهم - علموا وتحقَّقوا صحَّةَ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ((لا نُورثُ، ما تركنا (1) صدقةٌ))، وعملوا على ذلك إلى أن انقرضتْ أزمانُهم الكريمة ُبلا خلافٍ في ذلك.
فأما طلبُ فاطمة َ رضي الله عنها ميراثهَا من أبيها من أبي بكرٍ، فكان ذلك قبل أن تسمعَ الحديثَ الذي دلَّ على (2) خصوصيةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكانت متمسِّكةً (3) بما في كتابِ اللهِ تعالى من ذلك، فلما أخبرها أبو بكرٍ بالحديثِ توقَّفتْ عن ذلك، ولم تعدْ عليه بطلبٍ (4) .
وأما منازعةُ عليٍّ والعباسِ فلم تكن (5) في أصلِ الميراثِ، ولا طلبَا أن يتملَّكا ما ترك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أموالِ بني النضيرِ (6) ؛ لأربعةِ أوجهٍ:
أحدُها: أنهما قد كانا (7) ترافعا إلى أبي بكرٍ - رضي الله عنه - (8) في ذلك، فمنعهما أبو بكرٍ مستدلاً بالحديثِ الذي تقدَّم، فلما سمعاه أذعنا، وسكتا وسلَّما (9) ، إلى أن توفيِّ أبو بكرٍ ووَلِيَ عمرُ - رضي الله عنهما - فجاءاه، فسألاه أن يوليَهُما على النظرِ فيها، والعملِ بأحكامِها، وأَخْذِها من وجوهِها، وصرفِها في مواضعهِا، فدفعَها إليهما على ذلك، وعلى ألا (10) ينفردَ أحدُهما عن الآخرِ بعملِ حتى يستشيرَه، ويكونَ معه فيه، فعملا كذلك إلى أن (11) شقَّ عليهما العملُ فيها مجتمعَيْنِ، فإنهما كانا بحيثُ لا يقدرُ أحدهُما أن يستقلَّ بأدنى عملٍ حتى يحضرَ الآخرُ، ويساعدَه، فلما شقَّ عليهما (12) ذلك، جاءا إلى (13) عمرَ - رضي الله عنهم - مرَّةً (14) ثانيةً - وهي هذه الكرة التي (15) ذُكرت هنا (16) يطلبانِ منه أن يقسمها بينهما، حتى يستقلَّ (17) كلُّ واحدٍ منهما بالنظرِ فيما يكونُ في يديه منها، فأبى عليهما (18) عمر ذلك، وخاف إن فعل ذلك أن يظن ظانٌّ (19) أن ذلك قسمة ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيعتقد بطلان قوله: ((لا نُورَثُ ))، لا سيما لو قسمَها نصفينِ، فإنَّ ذلك كان يكون موافقًا لسنِة القَسْمِ في المواريثِ؛ فإن من ترك بنتًا، وعمًّا، كان المالُ بينهما نصفينِ (20) : للبنتِ النصفُ بالفرضِ، وللعمِّ النصفُ بالتعصيبِ. فمنع ذلك عمر =(3/563)=@
__________
(1) في (ز): ((تركناه)).
(2) في (ح): ((عليه)).
(3) في (ح): ((مستمسكة)).
(4) في (م): ((تطلب)).
(5) في (م): ((يكن)).
(6) في (ب) و(م) و(ي): ((النظير)).
(7) قوله: ((قد كانا)) في (ز): ((كانا))، وفي (م)): ((قد كانوا)).
(8) قوله: ((إلى أبي)) في (أ) و(ب) , و(ز)، و(م) ((لأبي)).
(9) سقط من (ب) و(م).
(10) قوله: ((وعلى ألا)) في (ز): ((وألا)).
(11) قوله: ((إلى أن)) في (م): ((أن أن)).
(12) سقط من (ب) و(م).
(13) قوله: ((إلى)) سقط من (أ) و(ب).
(14) قوله: ((مرة)) سقط من (ب) و(ح).
(15) في (أ): ((الذي)).
(16) في (ح): ((ذكرناها)).
(17) في (ي): ((مستقل)).
(18) في (أ): ((عليهم)).
(19) في (أ) كتب فوق: ((ظان)) "صح"، وكتب في الحاشية: ((بعد طول الزمن))، وعليه "حـ".
(20) من قوله: ((فإن ذلك كان يكون ....)) إلى هنا، سقط من (ح).(3/563)
- رضي الله عنه - حَسْمًا للذريعةِ، وخوفًا من ذهابِ حكمِ قولِه: ((لَا نُورَثُ)).
والوجهُ الثاني: أن عليًّا - رضي الله عنه - لما وَلِيَ الخلافةَ لم يغيْرها عما عُمل عليهِ (1) فيها في عهدِ أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ - رضي الله عنه -، ولم يتعرضْ لتملُّكِها، ولا لقسمةِ شيءٍ منها، بل كان يصرفهُا في الوجوهِ التي كان مَنْ قبلَهُ يُصرفهُا فيها، ثم كانت بيدِ حسنِ بنِ عليٍّ، ثم بيدِ (2) حسينِ بنِ عليٍّ، ثم بيدِ عليِّ بنِ الحسينِ (3) ، ثم بيدِ الحسنِ (4) بنِ الحسنِ، ثم بيدِ زيدِ بنِ الحسنِ، ثم بيد عبدِاللهَ بنِ الحسنِ، ثم تولاها بنو العباسِ على ما ذكره أبو بكر البَرْقانيُّ في"صحيحِه" (5) . وهؤلاء كبراءُ أهلِ البيتِ - رضي الله عنهم -، وهم مُعتمَدُ الشيعةِ وأئمتُهم، لم يُروَ عن واحدٍ منهم أنه تملَّكَها، ولا وَرِثَها، وَلَا وُرِثتْ عنه، فلو كان ما يقولُه (6) الشيعة حقًّا لأخذها عليٌّ، أو أحدٌ من أهلٍ (7) بيتهِ لما ظَفِروا بها، ولَمْ فلا.
والوجهُ الثالثُ (8) : اعترافُ عليٍّ والعبَّاسِ - رضي الله عنه - بصحةِ قولِه - صلى الله عليه وسلم - : ((لا نُورَثُ، ما تركنا صدقُةُ))، وبعلمِ (9) ذلك حين سألهَما عن علمِ (10) ذلك، ثم إنهما أذعنا وسلَّما ولم يُبْديا - ولا أحدٌ منهما (11) - في ذلك اعتراضًا، ولا مَدْفعًا، ولا يحلُّ لمن يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أن يقولَ: إنهما اتَّقيا (12) على أنفسِهما؛ لما يُعلمُ من صلابتِهما في الدينِ، وقوتِهما فيه، ولما يُعلمُ من عدلِ عمرَ، وأيضًا: فإن المحلَّ محلُّ مناظرةٍ، ومباحثةٍ عن حكمِ مالٍ (13) من الأموالِ، ليس فيه ما يُفضي (14) إلى شيءٍ مما يقولُه أهلُ الهَذَيانِ من الشيعةِ. ثم الذي يقطعُ دابرَ العنادِ ما ذكرناه من تمكن علي وأهل بيته من الميراث، ولم يأخذوه (15) ، كما قلناه.
والوجهُ (16) الرابعُ: نصُّ قولِ عمرَ - رضي الله عنه - لهما، وحكايتُه عنهما في آخر الحديثِ؛ حيثُ قال لهما: ((ثم (17) جئتَني أنتَ وهذا، وأنتما جميعٌ، وأمرُكما واحدٌ، فقلتما (18) : ادفعْها =(3/564)=@
__________
(1) قوله: ((عليه)) من (أ) فقط.
(2) سقط من (ز).
(3) كذا في (ح)، وفي (ز): ((حسين))، وفي باقي النسخ: ((الحسين)). ووقع في "الإكمال" (الحسن بن الحسين). ثم ذكر القاضي ما جاء في البخاري (3809) من قوله في الحديث: ((ثم كان بيد علي بن حسين وحسين بن حسن كلاهما كانا يتداولانها)).
والذي في البخاري ((وحسن بن حسن)) وكذلك نقله في "المشارق" (2/404)، عن البرقاني والبخاري ((الحسن بن الحسين))وكذلك نقله الأبي عن القاضي في "شرحه" (5/76).
(4) في و(م) و(ي) و(ح): ((الحسن)).
(5) ذكره القاضي في "الإكمال" (6/80)؛ قال: قطع مسلم هذا الحديث عند قوله: ((فإن عجزتما عنها فرداها عليّ)) زاد البخاري: ((فأنا أكفيكماها)) فلم يكملا الحديث. وقد ذكر مسلم بعد هذا أيضًا زيادة: قال: فدفعها عمر إلى علي وعباس - رضي الله عنهم - فغلبه عليها علي أي على القيام بها. وقد خرجه بتمامه أبو بكر البرقاني في "صحيحه"؛ قال فغلب عليٌّ عليها العباسَ، فكانت بيدِ علي، ثم كانت بيد حسن بن علي...)) ثم ذكر نحو ما ذكره الشارح هنا. وينظر هنا أن أخذ علي لها كان في خلافة عمر، تولي على الخلافة. وانظر "التمهيد" (8/163)، و "مشارق الأنوار" (2/404).
(6) في (ز) و(م): ((تقوله)).
(7) قوله: ((أهل)) سقط من (ح).
(8) في (أ): ((الثاني)).
(9) في (م) و(ي) و(ح): ((ويُعلم)).
(10) في (ي): ((حكم)).
(11) في (أ): ((منها)).
(12) في (م) و(ي): (ابقيا)).
(13) في (ز): ((مالي)).
(14) في (ي): ((يقضي)).
(15) في (ح): ((يأخذون)).
(16) في (أ) و(ب) و(ح) و(ز) و(م): ((الوجه)) دون الواو.
(17) سقط من (ي).
(18) في (ب): ((فقلتما)).(3/564)
إلينا، فقلتُ: إن شئْتُم (1) دفعتها إليكما، على أنَّ عليكما عهدَ الله أن تعملا (2) فيها بالذي كان يعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذتماها بذلك، قال: أكذلك؟ قالا: نعم)). وهذه نصوص منهم على صحة ما ذكرناه (3) .
وإنما طوَّلنا الكلامَ في هذا الموضعِ لاستشكالِ كثيرٍ من الناسِ لهذا الحديثِ، والآتي (4) بعده، ولخوضِ الشيعةِ في هذا الموضعِ (5) ، ولتَقَوُّلِهم فيه بالعظائمِ على الخلفاءِ، البرَرَة الحُنْفَاءِْ (6) .
وقولُ عمرَ - رضي الله عنه -: ((إن الله تعالى خصَّ رسوله (7) ? بخاصيةٍ (8) لم يخصِّصْ بها أحدًا غيرَه)). يعني (9)
__________
(1) في (ح) و(ي): ((شئتما)).
(2) في (ب) و(م): ((تفعلا)).
(3) في (ب) و(م): ((ذكرته))، وفي (ح) و(ز): ((ذكره)).
(4) في (ب) و(ز) و(م): ((وللآتي)) وفي (ي): ((واللآتي)).
(5) ((الموضع)) من (ي) فقط.
(6) وقد ذكر نحو الوجه الأول ابن عبد البر في "التمهيد" (8/167)، عن القاضي إسماعيل، وذكره أيضًا القاضي في "الإكمال" (6/79)؛ قال ابن عبد البر: قال إسماعيل بن إسحاق: الذي تنازعا فيه عند عمر ليس هو الميراث؛ لأنهم قد علموا أن رسول الله ? لا يورث، وإنما تنازعا في ولاية الصدقة وتصريفها)). وقاله الخطابي في "أعلام الحديث" (2/1440-1441). قال الحافظ: وفي "الفتح" (6/207): وفي ذلك إشكال شديد؛ وهو أن أصل القصة صريح في أن العباس وعليًّا قد علما بأنه ? قال: ((لا نورث)) فإن كانا سمعاه من النبي ? فكيف يطلبانه من أبي بكر؟! وإن كانا إنما سمعاه من أبي بكر أو في زمنه بحيث أفاد عندهما العلم بذلك، فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر؟! والذي يظهر - والله أعلم - حملُ الأمر في ذلك على ما تقدم في الحديث الذي قبله في حق فاطمة، وأن كلاً من عليٍّ وفاطمة والعباس اعتقد أن عموم قوله: ((لا نورث)) مخصوص ببعض ما يخلفه دون بعض؛ ولذلك نسب عمر إلى علي وعباس أنهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما في ذلك. وأما مخاصمة علي وعباس بعد ذلك ثانيًا عند عمر فقال إسماعيل القاضي، فيما رواه الدارقطني من طريقه: لم يكن في الميراث؛ إنما تنازعها في ولاية الصدقة وفي صرفها كيف تصرف. كذا قال، لكن في رواية النسائي وعمر بن شبة من طريق أبي البختري، ما يدل على أنهما أرادا أن يقسم بينهما على سبيل الميراث، ولفظة في آخره: ((ثم جئتماني الآن تختصمان يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي، والله لا أقضي بينكما إلا بذلك. أي: إلا بما تقدم من تسليمها لهما على سبيل الولاية. وكذا وقع عند النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس نحوه، وفي السنن لأبي داود وغيره: أراد أن عمر يقسمها لينفرد كل منهما بنظر ما يتولاه، فامتنع عمر من ذلك وأراد ألا يقع عليها اسم قسم؛ ولذلك أقسم على ذلك. وعلى هذا اقتصر أكثر الشراح واستحسنوه، وفيه من النظر ما تقدم، وأعجب من ذلك جزمُ ابن الجوزي ثم الشيخ محيي الدين بأن عليًّا وعباسًا لم يطلبا من عمر إلا ذلك، مع أن السياق صريحٌ في أنهما جاءاه مرتين في طلب شيء واحد، لكن العذر لابن الجوزي والنووي أنهما شرحا اللفظ الوارد في مسلم دون اللفظ الوارد في البخاري. والله أعلم.
وانظر: "شرح النووي" (12/74)، و "الإكمال" (6/81).
(7) في (ز): ((رسول الله)).
(8) في (ب) و(م): ((خاصة))، وفي (أ): ((بخاصية)).
(9) من هنا باقي النسخ إلى قوله: ((اجتهاد الإمام)) قبل قوله: ((وقول عمر: والله لا أقضي)) من (أ) فقط، وجاء بدلاً منه في باقي النسخ: ((يعني بذلك: أن الله تعالى جعل النظير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون غيره ممن كان معه من ذلك الجيش، كما رواه ابن وهب عن مالك، ورواه أيضًا ابن القاسم عنه))، =(3/565)=@
ووقع في (ز): ((لرسول الله ? خاصة))، وفي (م): ((خاصة لرسوله)) وزاد في (ب): ((وحينئذ كانت تكون الآية مصرَّحة بنقيض مقصوده))، والزيادة ستأتي بعد قليل في (أ).(3/565)
بذلك أن الله تعالى أحلَّ له الصَّفيّ وطيَّبَهُ له، ولم يحلَّ ذلك لأحدٍ من الأنبياءِ قبلَه؛ كما قال في الغنيمةِ: ((أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبِلْي)) (1) .
وليس معنى ذلك أن عمرَ كان يعتقدُ أن الله خصَّ الرسولَ بهذا الفيءِ المعينِ فيصرفهُ حيثُ شاءَ؛ فتكون وجهُ الخصوصيةِ أنه لا يخمِّسُه ولا يَقسمُه بخلافِ غيرِه من الفيِء؛ فإنه يقسمُ عندَ الشافعيِّ على خمسةٍ، وعند الحنفيِّ على ثلاثةٍ، وعند مالكٍ يقسمُ على الاجتهادِ؛ لأنا نقولُ: ذلك فاسدٌ من وجهين:
أحدُهما: أن الآيةَ التي استدلَّ بها عمرُ على خصوصيةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك مصرِّحةٌ بالقَسْمِ؛ فإنه قال فيها: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} (2) . وحينئذٍ كانت تكونُ الآيةُ مصرِّحةً بنقيضِ مقصودِه (3) .
والوجهُ الثاني: أن عمرَ المصرِّحَ بالخصوصيةِ حَكَمَ فيِ كلِّ فَيْءٍ بالقسمةِ، ولما قرأ عمرُ هذه الآيةَ إلى قولِه: {والذين جاؤوا من بعدهم} قال: أرى هذه الآيةَ قدِ استوعبتَ الناسَ كلَّهم حتَّى الراعِيَ وهذا، ونصٌّ بعدمِ الخصوصيةِ في الآيةِ؛ فوجهُ الخصوصيةِ التي ذكر ما قلناه والله أعلم.
وقد ذكرنا في كتابِ الزكاةِ الفقيرَ والمسكينَ وابنَ السبيلِ، فأما ذوو القربى فهم قرابةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . واخُتلف فيمن همُ؛ فالجمهورُ على أنهم بنو هاشمٍ وبنو المطلبِ، وذهب بعضُ السلفِ إلى أنهم قريشٌ.
ثم هل يستحقَّه الفقراءُ منهم خاصةً دونَ الأغنياءِ، أم جميعُهم؟ ثم هل يقسمُ بينهم على السواءِ، أم على حكمِ قسمةِ المواريثِ. ومذهبُ الشافعيِّ أنه حقٌّ لهم؛ فيستوي فيه صغيرهُم وكبيرهُم، غنيُّهَم وفقيرهُم، لذكرِهم سهمان، وللأنثى سهمٌ. ومذهبُ عليٍّ قسْمتُه على ما يؤدِّي إليه اجتهادُ الإمامِ (4) . =(3/565)=@
__________
(1) تقدم في الصلاة، باب أول مسجد وضع في الأرض وهو في "التلخيص" من حديث جابر برقم (119)، ومن حديث أبي هريرة برقم (122).
وذكر القاضي أقوالًا في تفسير قول عمر هذا؛ قال: قيل: معناه تحليل المغانم له ولأمته، أو كونها له، أو تخصيصه بما أفاء الله عليه ملكًا كما قال بعضهم، أو تصريفًا وحكمًا كما عليه الجمهور على قول أكثرهم؛ قال الأبي: أي جعل حكم ذلك له يحكم فيه بما يراه. قال القاضي: وهذا الوجه أظهر لاستشهاد أبي بكر (كذا، والصواب: عمر) رضي الله عنه على هذا بالآية.
أي: قوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله...} الآية.
وسيرد الشراح اختيار القاضي هنا فيما يأتي من كلامه!
خصائص النبي، كان يصطفيه من رأس الغنيمة قبل قسمها، أو من رأس الخمس. وانظر: "التمهيد" (20/42- 45)، "الإكمال" (6/82)، و"شرح النووي" (12/75- 76)، و"شرح الأبي" (5/75).
(2) سورة الحشر؛ الآية: 7.
(3) كتب في حاشية (أ) ما نصه: ((أعني الذي دل عليه قوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} فإنها الآية التي استدل بها عمر على الخصوصية التي افتتح بها كلامه.حاشية)).
(4) هنا نهاية ما انفردت به النسخة (أ).(3/565)
وقولُ عمر - رضي الله عنه -: ((والله لا أقضي بينكما بغير ذلك))؛ أي (1) : لَا أَوْلِّي أحدَكما على جزءٍ منها، والآخرَ على جزءٍ آخرَ. وهذا هو الذي طلبا على ما قرَّرناه.
وقوله: ((فإن عجزتما عنها))؛ أي: عن القيامِ بها مجتمعَيْنِ، كما قررناه. وفي هذا الحديثِ أبوابٌ من الفقهِ لا تخفى على متأمِّلٍ فَطِنٍ. =(3/566)=@
__________
(1) في (م): ((إني)).(3/566)
ومن بابِ تَصدُّقِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بما وصل إليه من الفيءِ والخمِس
وسيأتي (1) العذرُ لفاطمةَ - رضي الله عنها - عن طلبِها ميراثَها من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ هذا.
وقولُه (2) : ((مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك)) كانت الأراضي التي تصدَّقَ بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تَصَيَّرتْ إليه بثلاثة طرقٍ:
أحدُها: ما وصَّى له به عند (3) موته مُخَيْريقُ (4) اليهوديُّ لمَّا أسلم يومَ أحدٍ (5) ، وكانتْ سبعةَ حوائطَ في بني النضيرِ (6) . وما أعطاه الأنصارُ من أَرَضِيهم (7) .
والثاني (8) : حقُّه من الفيءِ من سائرِ أرضِ بني النضيرِ (9) ، حين أجلاهم (10) ، وكذلك (11) نصفُ أرضِ فَدَكَ (12) ، صالحَ أهلَها على النصفِ بعدَ حنيبرَ (13) ، وكذلك ثلثُ أرضِ وادي القُرى (14) ، صالح عليه (15) يهودَ، وكذلك حِصنان من حصونِ خيبرَ: الوَطِيحُ، والسُّلَالمُ (16) ، فتح أحدَهما صلحًا (17) ، وأجلى (18) أهلها.
والثالثُ: سهمُه من خُمسِ خيبرَ، وما افتتح (19) منه عَنْوةً، وهو حصنُ الكُتَيْبةِ (20) ، خرج كلُّه في خمسِ الغنيمةِ منها، واقتسم الناسُ سائرَها؛ حكاه أبو الفضل عياضٌ.
فهذه الأراضي التي وصلتْ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان يأخذُ منها حاجةَ عيالِه، ويصرفُ الباقي في مصالحِ المسلمين، وهي التي تصدَّق بها؛ حيث قال: ((مَا تَرَكْتُ =(3/567)=@
__________
(1) في (أ): ((ويأتي)).
(2) في (أ): ((له)) بدل (( وقوله)).
(3) في (ز): ((بعد)).
(4) تقرأ في (ي): ((محيزنق)) دون نقط الياء، وفي (م): ((مخيرتق)).
(5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/501 و502) باب ذكر صدقات رسول لله - صلى الله عليه وسلم - من طريق الواقدي، بعدة ألفاظ وروايات مختلفة .
وأخرجه عمر بن شبة في "تاريخ المدينة" (173) من طريق أبي عون، عن الزهري، قال: كانت صدقات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أموالاً لمخيريق، فأوصى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأخرجه الزبير بن بكار في "أخبار المدينة"، كما في "الإصابة" (6/57) عن محمد بن الحسن بن زباله - وهو ضعيف - عن غير واحد، فذكر نحوه في قصة .
وانظر خبر مخيريق في "الإصابة" (9/151 -152)، و"فتح الباري" (5/402) و(6/203)، و"السيرة النبوية" (3/51) و(4/37 و38)، و"تاريخ الطبري" (2/73)، و"تركة النبي - صلى الله عليه وسلم - " لحماد بن إسحاق (1/78).
(6) كذا في (أ)، وفي سائر النسخ: ((النظير)).
(7) في (م): ((أرضهم)).
(8) في (ب) و(م): ((والباقي)).
(9) كذا في (أ)، وفي سائر النسخ: ((النظير)).
(10) أخرجه البخاري (2904 و3094)، ومسلم (1757).
(11) سقط من (ي).
(12) أخرجه البخاري (2328 و2329 و3152)، ومسلم (1551).
(13) في (أ) و(ح) و(ز) و(ي): ((حنين)). وكتب هامش (ز): ((خيبر)) ولم تظهر علامة التصحيح.
(14) الموضع السابق من "تاريخ المدينة" و"الطبقات".
(15) في (م): ((عليها)).
(16) في (ب) و(ح): ((الوضيح والسلالم)) قال في "النهاية": ((الوطيح هو بفتح الواو وكسر الطاء، وبالحاء المهملة؛ حصن من حصون خيبر)). وقال في ((السلالم)): هي بضم السين وقيل: بفتحها. وقال النووي: هو بضم السين وتخفيف اللام. "النهاية" (2/396)، (5/202)، "تهذيب الأسماء واللغات" (3/151- 152)، وانظر "معجم ما استعجم" (3/745)، (4/1380)، و "معجم البلدان" (2/409)، (3/233)، (5/379).
(17) قوله: ((فتح صلحًا)) من (أ) فقط. وفي سائر النسخ: ((أحدهما صلح)).
(18) في (ح): ((فأجلي))، وفي (ب) و(م): ((وأخلي)).
(19) في (ح): ((افتح)).
(20) ضبطها ابن الأثير بضم الكاف مصغرًا، وقال البكري: بفتح أوله وكسر ثانيه، على لفظ واحدة الكتائب من الجيش. وانظر: "معجم ما استعجم" (2/521)، (4/1115)، "معجم البلدان" (2/409)، (4/437)، "النهاية" (4/149).(3/567)
بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي، وَمُؤْنَةِ (1) عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ)) (2) . فلما مات ? عَمِل فيه أبو بكرٍ - رضي الله عنه - كذلك، ثم عمرُ - رضي الله عنه - ثم عثمانُ - رضي الله عنه -، غير أنه يُروى: أن عثمانَ أَقْطع مروانَ فَدَكَ (3) ، وهو مما نُقِمَ (4) على عثمانَ. قال الخطابيُّ: ((لعل (5) عثمانَ تأوَّل قولَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((إِذَا أَطْعَمَ اللهُ نَبِيًّا طُعْمَةً فَهِي لِلَّذِي يَقُومُ مِنْ (6) بَعْدِهِ)) (7) ، فلما استغنى عثمانُ عنها (8) بمالِه، جعلها لأقربائِه)) (9) .
قلتُ (10) : وأولى من هذا أن يقالَ: لعلَّ عثمانَ دفعها له على جهةِ المساقاةِ، وخَفِيَ وجهُ ذلك على الرَّاوي، فقال: ((أَقْطَعَ)). والله تعالى أعلمُ.
وقولُه: ((إنما (11) يأكلُ آلُ محمدٍ في (12) هذا المال))؛ يعني هنا بـ((آل محمد)): نساءه؛ كما قال في الحديثِ الآخرِ (13) : ((ما تركتُ بعدَ نفقةِ نسائِي)).
وقوله: ((فأبى أبو بكرِ أن يدفعَ إلى فاطمةَ (14) شيئًا، فوجدتْ فاطمةُ على أبي بكرٍ في ذلك، فهجرَتْه، فلم تكلِّمْه))؛ لا (15) يُظنُّ بفاطمةَ - رضي الله عنها - أنها اتَّهمتْ أبا بكرٍ - رضي الله عنه - فيما ذكره عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، لكنها (16) عَظُمَ عليها تركُ العملِ بالقاعدةِ الكليةِ المقرَّرةِ في الميراثِ، المنصوصةِ في القرآنِ (17) ، وجَوَّزتِ السهوَ والغلطَ على أبي بكر، ثم إنها لم تلتقِ بأبي بكرٍ لشغلِها بمصيبِتها برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، =(3/568)=@
__________
(1) قوله: ((نسائي ومؤنة)) سقط من (ح) و(ي).
(2) سيأتي في الوصايا والفرائض، باب قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا نورث)).
(3) أخرجه أبو داود (3/378-379 رقم2972) في الخراج والإمارة والفيء، باب في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عن عبدالله بن الجراح، عن جرير، عن المغيرة، قال: جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان حين استخلف، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت له فدك، فكان ينفق منها، ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم، وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مضى لسبيله، فلما أن ولي أبو بكر - رضي الله عنه - عمل فيها بما عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته حتى مضى لسبيله، فلما أن ولي عمر عمل فيها بمثل ما عملا حتى مضى لسبيله، ثم أُقطعها مروانُ، ثم صارت لعمر بن عبدالعزيز، قال عمر - يعني ابن عبد العزيز -: فرأيت أمرًا منعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة عليها السلام ليس لي بحق، وأنا أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت، يعني: على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
عبدالله بن الجراح: وثقه النسائي، وقال أبو زرعة: ((صدوق)) وقال أبو حاتم: كان كثير الخطأ ومحله الصدق)). وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: ((مستقيم الحديث، وكان من أهل جنابذ)). وقال الحاكم أبو عبدالله: ((محدث كبير سكن نيسابور، وبها انتشر علمه، وقد كتب عنه في طريق الحجاز)). وفي "التقريب" (ص496 رقم3265): ((صدوق يخطئ. والأقرب أنه: صدوق)).
والمغيرة: هو ابن مقسم الضبي، ثقة متقن إلا إنه كان يدلس، ولا سيما عن إبراهيم. كما في "التقريب" (ص966رقم6899). ولم أجد من نص على سماعه من عمر بن عبدالعزيز، والمغيرة بن مقسم كوفي، وعمر مدني .
(4) في (م): ((يقم)).
(5) في (م): ((لعلى)).
(6) سقط من (م).
(7) أخرجه أحمد (1/4)، وعمر بن شبة في"تاريخ المدينة" (1/198)، وأبو داود (3/379 رقم2973) في الخراج والإمارة والفيء، باب في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأموال، والبزار (1/124 رقم54)، والمروزي في "مسند أبي بكر الصديق" (ص.. رقم78)، وأبو يعلى (1/40 رقم37)، والبيهقي (6/303)؛ جميعهم من طريق الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال: لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ قال فقال: لا، بل أهله. قالت: فأين سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله عز وجل إذا أطعم نبيّا طعمة ثم قبضه، جعله للذي يقوم من بعده))، فرأيت أن أرده على المسلمين، فقالت: فأنت وما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال البزار: ((وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه بهذا اللفظ إلا أبو بكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نعلم له طريقًا عن أبي بكر إلا هذا الطريق. وأبو الطفيل قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث. والوليد بن جميع رجل من أهل الكوفة قد حدث عنه جماعة واحتملوا حديثه)).اهـ. "تهذيب الكمال" ج: 27 ص: 571.
والوليد بن جميع: وثقه ابن معين، والعجلي، وابن سعد. وقال أحمد وأبو داود: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال العقيلي: في حديثه اضطراب. وقال الحاكم: لو لم يخرج له مسلم لكان أولى. وذكره ابن حبان في الثقات، ثم عاد وذكره في المجروحين، وقال: كان ممن ينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات، فلما فحش ذلك منه، بطل الاحتجاج به. "تهذيب الكمال مع حاشيته" (31/36-37).
وفي "التقريب" (ص1039 رقم7482): ((صدوق يهم، ورُمي بالتشيع)).
وقال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/289): ((ففي لفظ هذا الحديث غرابة ونكارة، ولعله روي بمعنى ما فهمه بعض الرواة، وفيهم من فيه تشيع، فليعلم ذلك، وأحسن ما فيه قولها: أنت وما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...))إلخ.اهـ.
ومثله قول الحافظ في "الفتح" (6/202): ((ثم مع ذلك ففيه لفظة منكرة، وهي قول أبي بكر: بل أهله، فإنه معارض للحديث الصحيح: إن النبي لا يورث)).اهـ.
والحديث صححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (1/160 رقم14)، وحسنه الألباني في "الإرواء" (5/76-77 رقم1241)، وساق له شاهدًا من حديث سعد بن تميم: أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(4/46)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/279)، والطبراني في "الكبير" (6/45 رقم5461)، وتمام في "الفوائد" (3/113 و114 رقم916 و917 و918/كما في الروض البسام)، والسهمي في " تاريخ جرجان" (ص 493)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/233) من طريق الطبراني، وغيره. جميعهم من طريق سليمان بن عبدالرحمن، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا عبدالله بن العلاء بن زبر وغيره: أنهما سمعا بلال بن سعد يحدث عن أبيه سعد، قال: قيل يا رسول الله! ما للخليفة من بعدك؟ قال: ((مثل الذي لي إذا عدل في الحكم، وقسط في القسط، ورحم ذا الرحم فمن فعل غير ذلك فليس مني ولست منه)).
قال الألباني في "الإرواء" (5/77 رقم1241): ((وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات)).
(8) قوله: ((عثمان عنها)) في (ب) و(م): ((عنها عثمان)).
(9) "معالم السنن" 04/218). وعبارة: وكأن تأويله (يعني: عثمان) في ذلك والله أعلم. ما بلغه عن رسول الله ? أنه قال:... إلخ.
(10) في (ز): ((قال الشيخ))، وفي (ب) و(م): ((قال الشيخ رحمه الله)).
(11) قوله: ((إنما)) سقط من (ح).
(12) سقط من (ز).
(13) قوله: ((الحديث الآخر)) في (ب) و(م): ((الرواية الأخرى)).
(14) قوله: ((إلى فاطمة)) في (ح) و(ي): ((لفاطمة)).
(15) في (ب): ((ولا)).
(16) في (ز): ((لكنه)).
(17) في (ح): ((بالقرآن)).(3/568)
ولملازمتِها (1) بيتَها، فعبَّر الراوي عن ذلك بالهِجْرانِ، وإلا فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((لَا يَحِلُّ لمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ)) (2) ، وهي أعلمُ الناسِ بما يَحلُّ من ذلك ويَحرمُ، وأبعدُ الناسِ عن مخالفةِ (3) رسولِ اللهِ (4) - صلى الله عليه وسلم - ، كيف لا تكون (5) كذلك وهي بضعةٌ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (6) ، وسيدةُ نساءِ أهلِ الجنةِ (7) ؟
ودَفْنُ عليٍّ لفاطمةَ - رضي الله عنها - ليلاً، يُحتملُ أن يكونَ ذلك مبالغةً في صيانِتها، وكونُه لم يُؤْذِنْ أبا بكرٍ - رضي الله عنهما - بها؛ لعلَّه إنما لم يفعلْ ذلك لأنَّ غيرَه قد كفاه ذلك، أو خاف أن يَكونَ ذلك من بابِ النَّعْيِ المنهيِّ عنه، وليس في الخبرِ ما يدلُّ على أن أبا بكرٍ لم يعلمْ بموتِها، ولا صلَّى عليها، ولا شاهد جنازتَها (8) ، بل اللائقُ بهم، المناسبُ لأحوالِهم: حضورُ (9) جنازتِها، واغتنامُ بركتهِا، ولا تَسمعْ (10) أكاذيبَ الرَّافضةِ المبُطْلِين، الضالين المُضِلِّين.
وقولُه: ((وكان لعليٍّ من الناس جهةٌ حياةَ فاطمةَ))؛ ((جهةُ)) (11) ؛ أي: جاهٌ واحترامٌ؛ كان الناسُ يحترمون عليًّا في حياتِها كرامةً لها؛ لأنها بضعةٌ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مباشرٌ لها، فلما ماتتْ وهو لم يبايعْ أبا بكرٍ، انصرف الناسُ عن ذلك الاحترامِ؛ ليدخلَ فيما دخل فيه (12) الناسُ، ولا يُفِّرقَ جماعتَهم؛ ألا ترى أنه لما بايع أبا بكرٍ - رضي الله عنه - أقبل الناسُ عليه بكلِّ إكرامٍ وإعظامٍ (13) ؟!
وقولُه: ((لم (14) يكنْ علي - رضي الله عنه - بايعَ تلكَ الأشهرَ))؛ يعني: الستةَ الأشهرَ التي عاشتْها =(3/569)=@
__________
(1) في (ز): ((وبملازمتها)).
(2) سيأتي في البر والصلة، باب النهي عن التحاسد والتدابر والتباغض وإلى كم تجوز الهجرة .
(3) في (أ): ((مخالة)).
(4) قال القاضي عياض: ((وما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر - رضي الله عنهما - إنما معناه انقباضها عن لقائه ومواصلته، وليس مثل هذا من الهجران المحرم من ترك السلام والإعراض. وقوله هنا: ((فلم تكلمه))؛ أي: في هذا الأمر أو في غيره؛ لانقباضها عنه فلم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى كلامه، ولم يأت في خبر أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته)).
وقال الحافظ: ((روى البيهقي من طريق الشعبي أن أبا بكر عاد فاطمة فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم. فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت. وهو وإن كان مرسلا فإسناده إلى الشعبي صحيح؛ وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر. وقد قال بعض الأئمة... (ثم ذكر الحافظ نحو كلام القاضي ثم قال:) وكأن فاطمة عليها السلام لما خرجت غضبى من عند أبي بكر تمادت في اشتغالها بحزنها ثم بمرضها. وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر؛ وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: ((لا نورث)) ورأت أن منافع ما خلَّفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه، وتمسك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل، فلما صمم على ذلك انقطعت عن الاجتماع به لذلك، فإن ثبت حدث العشبي أزال الإشكال، وأَخْلِقْ بالأمر أن يكون كذلك؛ لما علم من وفور عقلها ودينها عليها السلام)). "الإكمال" (6/81)، و "شرح النووي" (12/73)، و "الفتح" (6/202)، و "شرح الأبي" (5/77).
(5) في (أ) و(م): ((يكون)) ولم تنقط في (ح).
(6) من قوله: ((كيف لا تكون...)) إلى هنا سقط من (ي) وسيأتي حديث كونها بضعة من رسول الله ? في النبوات، باب فضائل فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(7) أخرجه ابن أبي شيبة (6/391 رقم32260) في الفضائل، باب ما ذكر في فضائل فاطمة، وعنه ابن حبان (15/402 رقم6952/الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (22/419-420 رقم1034). وأخرجه النسائي في "الكبرى" (5/95 رقم8366)، والطبراني في "الكبير" في الموضع السابق، وابن شاهين في فضائل فاطمة (ص20 و20-21 رقم4 و5) كما في "مجموع فيه من مصنفات ابن شاهين، ت البدر".
جميعهم من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت: قلت لفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رأيتك أكببت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه فبكيتِ، ثم أكببت عليه الثانية فضحكت، قالت: أكببت عليه الثانية فأخبرني أنه ميت فبكيت، ثم أكببت عليه فأخبرني أني أول لحوقًا به، وأني سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران فضحكت. وسنده حسن .
وأخرجه الحاكم (3/185-186) من طريق إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عروة قال: قالت عائشة ...، فذكره بمعناه.
سكت عنه الحاكم، وصححه الذهبي على شرط الشيخين .وقال الألباني في "الصحيحة" (4/14): ((وهو كما قال)). وله شاهد من حديث ابن عباس، وحذيفة .
أما حديث ابن عباس: فأخرجه أحمد (1/293 و316 و322)، وعبد بن حميد (ص205 رقم597)، والنسائي في "الكبرى" (5/93 و94-95 رقم8655 و8657 و8364)، وأبو يعلى (5/110 رقم2722)، والطحاوي في"شرح معاني الآثار" (1/140-141 رقم148)، وابن حبان (15/470 رقم7010/ الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (11/226 رقم11928)، و(22/407 رقم1019) و(23/7 رقم1)، والحاكم (3/160 و185) من طريق أحمد وغيره. جميعهم من طريق داود بن أبي فرات، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض خطوطًا أربعة، قال: ((أتدرون ما هذا؟ )) قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)). وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصحح إسناده الحافظ في "الفتح" (7/135). وقال الألباني في "الصحيحة" (4/3 رقم1508): ((ورجاله ثقات رجال البخاري غير علباء بن أحمر، فهو من رجال مسلم)).
وله طريق أخرى: أخرجه الطبراني في "الكبير" (11/328 رقم12179)، وفي "الأوسط" (2/23-24 رقم1107) عن جعفر بن محمد الفريابي، عن أبي جعفر النفيلي، عن عبدالعزيز بن محمد الدراوردي، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس، فذكره بمعناه .
قال الألباني في "الصحيحة" (3/410 رقم1424): ((وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم)).
وأما حديث حذيفة: فأخرجه ابن أبي شيبة (6/391 رقم32261) في الفضائل، باب ما ذكر في فضل فاطمة، وأحمد (5/391)، والترمذي (5/619 رقم3781) في المناقب، باب مناقب الحسن والحسين، والنسائي في "الكبرى" (5/95 رقم8365)، والحاكم (3/151). جميعهم من طريق إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب النهدي، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، عن حذيفة قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج فاتبعته، فقال: ((ملك عرض لي استأذن ربه أن يسلم علي، ويخبرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)).
قال الحاكم: ((صحيح الإسناد))، ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل)).
وقد توبع ميسرة بن حبيب على روايته: فأخرجخ الحاكم (3/151) من طريق أبي مري الأنصاري، عن المنهال، عن عمرو، بهذا الإسناد. وقال: ((صحيح الإسناد))، ووافقه الذهبي .
وفي الباب: عن أبي سعيد الخدري: أخرجه الحاكم (3/154).
(8) ذكر هذه العبارة الحافظ في "الفتح" (7/494) غير منسوبة!.
(9) في (ح): ((حظور)).
(10) في (ب): ((تستمع))، وفي (ي): ((نسمع)).
(11) قوله: ((جهة)) سقط من (ب).
(12) سقط من (ز).
(13) قال الحافظ: ولذلك قالت عائشة في آخر الحديث لما جاء وبايع: فكان المسلمون إلى علي قريبًا؛ حين راجع الأمر بالمعروف. وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة لشغله بها وتمريضها وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها ?، ولأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها سألته عن الميراث رأى علي أن يوافقها في الانقطاع عنه)). "الفتح" (7/494). وانظر ما يأتي من كلام الشارح.
(14) في (أ): ((فلم))، وفي (ب) و(م).(3/569)