16- وعَنْهُ (1) قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَةَ، فَنَرْجِعُ وَمَا نَجِدُ لِلْحِيطَانِ فَيْئًا نَسْتَظِلُّ بِهِ.
17- وعَنْ جَعْفَرٍ بِنْ مُحَمَدّْ (2) ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله: مَتَى كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْجُمُعَةَ؟ قَالَ: كَانَ يُصَلِّي ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ: نَوَاضِحَنَا. قَالَ حَسَنٌ بِنُ عِيَاشٍ فَقُلْتُ لِجَعْفَرٍ: فِي أَيِّ سَاعَةٍ تِلْكَ؟ قَالَ: زَوَالَ الشَّمْسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : ((فَنَرْجِعُ (3) وَمَا نَجِدُ (4) لِلْحِيطَانِ فَيْئًا نَسْتَظِلُّ بِهِ))، يعني أنه كان يفرغ من صلاة الجمعة قبل تمكن الفيء من أن يستظل (5) به؛ كما قال : ((ثم نرجع نتتبع (6) الفيء))، وهذا يدل على إيقاعه - صلى الله عليه وسلم - إياها في أول الزوال.
و((النواضح)): الإبل التي يُسْتَقَى عليها. و((نريحها (7) )): نروحها؛ أي: نروِّحها؛ لتستريح. قال القاضي أبو الفضل: لا خلاف (8) بين فقهاء الأمصار أن الجمعة لا تصلى (9) إلا بعد الزوال، إلاَّ أحمد وإسحاق. وروي عن الصحابة - رضي الله عنهم - في هذا (10) أشياء لم تصح عنهم؛ إلا ما عليه الجمهور.
وقد روي عن مجاهد: أنها صلاة عيد. =(2/496)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (7/449 رقم 4168) في المغازي، باب غزوة الحديبية ، ... ومسلم (2/589 رقم 860 ) في الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس.
(2) أخرجه مسلم(2/588 رقم 858) في الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس.
(3) في (ز):((فيرجع)) .
(4) في (ز) و(س):((ولا نجد)) .
(5) قوله:((يستظل)) غير واضحة في (ز).
(6) في (أ):((نتتع)) كذا رسمت.
(7) في (ز):((وتريحها)) .
(8) في (ح): ((لا خلاف فيها)) .
(9) في (ز):((يصلي)) .
(10) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((وروي من هذا عن الصحابة)) .(2/496)
قال الشيخ - رحمه الله -: ويلزم على هذا (1) ألاّ تنوب عن ظهر يوم الجمعة، كظهر يوم العيد (2) (3) . =(2/497)=@
__________
(1) في (ب): ((ويلزم عليه)) .
(2) قوله:((وقد روي عن مجاهد أنها صلاة عيد...)) إلى هنا ليس في (أ).
(3) زاد بعده في (ز) و(س):((والله أعلم)) .(2/497)
( 4 ) باب الإنصات للخطبة وفضله
18- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: لَغَيْتَ، وَهِيَ لُغَةُ أَبِي هُرَيرَةَ.
19- وَعَنْهُ (2) ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((مَنِ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى. وَفَضْلُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ)).
زَادَ في رواية: ((وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 5 ) باب الخطبة، والقيام لها، والجلوس بين الخطبتين، والإشارة باليد
20- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله (3) : أَنَّ النَّبِيَّr كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً - في رواية: فِيهِمْ أَبُو بَكْر وَ عُمَر - فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الخطبة والقيام لها
قوله (4) : ((كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ قَائِمًا)): هكذا سنّة الخطبة لتكون (5) أبلغ في الإسماع؛ كالمؤذن عند الجمهور (6) ، إلا أن تدعوه حاجة من ضعف أو غيره. وقد حُكي عن أبي حنيفة: أنه لا يرى القيام لها مشروعًا. حكاه ابن القصار، بل هو عنده مُباح. ثم اختلف (7) في مشروعيته: هل هو شرط في صحة الخطبة والجمعة أم لا؟ فذهب الشافعى إلى أنه شرطٌ (8) إلا (9) مع العذر، ومذهبنا: أنه ليس من شروط الصحة للخطبة ولا للجمعة، ومن تركه أساء ولا شيء عليه. وقد روي: أن (10) (11) أول من خطب جالسًا معاوية رضي الله عنه لما ثقل (12) .
واختُلف في الخطبة: هل هي شرط في صحة الجمعة (13) أم لا؟
فكافة العلماء على أنها شرط، وشذّ الحسنُ فرأى أن الصلاة تجزئ دونها، وتابعه أهل الظاهر في هذا، وحكاه ابن الماجشون عن مالك. ثم اختلف هؤلاء: هل هي فرض، أو سنة؟ واضطربت الروايات عن أصحابنا في ذلك (14) ، ثم =(2/498)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (2/414 رقم 934) في الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، ومسلم (2/583 رقم 851) في الجمعة، باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة.
(2) أخرجه مسلم (2/587 رقم 857) في الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة.
(3) أخرجه مسلم (2/590 رقم 863) في الجمعة، باب قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا }.
(4) في (ز) و(س):((ليكون)) .
(5) قوله:((قوله)) ليس في (ز).
(6) قوله: ((عند الجمهور)) ليس في (ح).
(7) في (ح): ((اختلفوا)) .
(8) هناك إشارة لحق في هذا الموضع من (ب) بعد قوله:((شرط))، وكتب في الهامش ما نصه: ((في صحة الخطبة والجمعة)) .
(9) قوله:((إلا)) ليس في (أ.)
(10) قوله:((أول)) ليس في (ز) و(س).
(11) في (أ): ((انه)) .
(12) أخرجه ابن أبي شيبة (1/448 رقم5179و5180) في الصلاة، باب: من كان يخطب قائمًا، من طريق ليث، عن طاوس قال: ((خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا، وأبو بكر قائمًا، وعثمان قائمًا، وأول من جلس على المنبر: معاوية بن أبي سفيان)) .
وأخرجه أيضًا (1/449 رقم5193) في الموضع السابق من طريق جرير عن مغيرة، والبيهقي (3/197 طريق شعبة، عن حصين، كلاهما ( مغيرة، وحصين ) عن الشعبي، قال: ((أول من أحدث القعود على المنبر معاوية)) . وفي لفظ: ((إنما خطب معاوية قاعدًا حيث كثر شحم بطنه ولحمه)) .
وكلا الطريقين ضعيف لإرساله، والأول فيه مع الإرسال ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف.
(13) كذا في الأصول، وفي هامش (ح): ((الصلاة)) ؛ أي بدل:((الجمعة))، وفوقها:((صح)) .
(14) في (ح): ((في أصحابنا عن ذلك)) .(2/498)
اختلفوا في الخطبة المشروعة: فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه لا يجزئ في الخطبة إلا ما وقع عليه اسم الخطبة عند العرب، وأبو حنيفة وأبو يوسف ذهبا إلى أنه يجزئ من ذلك تحميدةٌ، أو تهليلة، أو تسبيحة، وحكاه ابن عبد الحكم عن مالك.
و((العير)): الإبل التي تحمل الأطعمة والتجارة، وهي المسماة في الرواية الأخرى (1) بـ((سويقة))] (2) ، وهي تصغير سوق.
وقوله : ((فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا (3) ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ (4) إِلا اثْنَا (5) عَشَرَ رَجُلاً)) فيه ردّ على من يقول: إن الجمعة لا تُقام إلا على أربعين فصاعدًا، وحُكي ذلك عن الشافعي، وقد تمسّك بهذا الحديث طائفة من أهل العلم على أن أقل ما تنعقد (6) به الجمعة اثنا (7) عشر، ولا حجة فيه على ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما عَقَدَهَا، وشرع فيها بأكثر من هذا (8) العدد، ثم عرض لهم أن تفرقوا، ولم يبق منهم غير ذلك العدد. وقد رُوي في بعض روايات هذا الحديث: أنه بقي معه أربعون رجلاً (9) ، والأول أصح وأشهر.
وعلى الجملة فقد اختلف العلماء في العدد المشترط في وجوب الجمعة، وفي العدد الذي تصح ببقائهم إذا تفرقوا عن الإمام بعد شروعه فيها على أقوال كثيرة، فلنرسم (10) فيه مسألتين :
المسألة الأولى: اختلف: هل يُشترط في وجوب الجمعة عدد؟ فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى اشتراطه، وذهب داود إلى أنه لا يُشترط ذلك في وجوبها، وتلزم (11) المنفرد، وهي ظهرُ ذلك اليوم عنده لكل أحد. قال القاضي عياض: وهو خلافُ الإجماع. واختلف المشترطون: هل هو مختصٌ =(2/499)=@
__________
(1) عند مسلم في الموضع السابق برقم (863/37).
(2) في (أ) و(ز) و(س): ((سويقة)) بدون الباء.
(3) في (أ): ((إليهما)) .
(4) في (أ): ((لم يبق معه)) .
(5) رسمت في (أ) و(س) في الموضع الأول بالألف المقصورة: ((اثنى)) .
(6) في (ز):((ينعقد)) .
(7) رسمت في (أ) و(س) في الموضع الأول بالألف المقصورة: ((اثنى)) .
(8) قوله: ((هذا)) ليس في (أ).
(9) أخرجه الدارقطني في "السنن" (2/4 رقم5)، ومن طريقه البيهقي (3/182)، من حديث على بن عاصم، عن حصين بن عبدالرحمن، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبدالله قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا يوم الجمعة ؛ إذا أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلوا بالبقيع، فالتفتوا إليها، وانفضّوا إليها، وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس معه إلا أربعون رجلاً أنا فيهم...، الحديث.
قال الدارقطني: «لم يقل في هذا الإسناد:((إلا أربعين رجلاً)) غير علي بن عاصم، عن حصين، وخالفه أصحاب حصين ؛ فقالوا: ((لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا غثنا عشر رجلاً ».
وعلي بن عاصم هذا هو: ابن صهيب الواسطي، قال الحافظ في "التقريب" (ص699 رقم4792):((صدوق يخطئ وويصرّ ورمي بالتشيع)) .
(10) في (أ): ((فليرسم)) .
(11) في (أ): ((ويلزم)) . و(س):((نلزم)) كذا رسمت.(2/499)
بعدد (1) محصور أم لا؟ فعدم الحصر هو مذهب مالك؛ فإنه لم يشترط في ذلك حدًّا محدودًا، وإنما قال: يكونون بحيث يمكنهم الثَّواء في بلدهم، وتتقرَّى (2) بهم قرية. وفسّره بعض أصحابنا بنصب الأسواق (3) فيها؛ حكاه عياض. والمشترطون للعدد (4) اختلفوا: فمن قائل: مئتان. ومن قائل: خمسون؛ قاله عمر بن عبد العزيز (5) ومن قائل: أربعون؛ قاله الشافعي، ومن قائل: ثلاثون بيتًا (6) ؛ قاله مطرف، وعبد الملك، عن مالك، ومن قائل: اثنا (7) عشر. ومن قائل: أربعة؛ قاله أبو حنيفة (8) ، لكن إذا أقاموا (9) في مصر. وقال غيره: ثلاثة. وقيل: واحد مع الإمام. وهذه أقوال متكافئة، وليس على شيء منها دليل، والأصل (10) ما صار إليه مالك من عدم التحديد، والتمسك بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والعمل المتصل في ذلك: بأنهم (11) كانوا يُجمِّعون في الأمصار الكِبار، والقرى الصغار؛ كجواثا (12) وغيرها.
وأما المسألة الثانية: فقد اختلفوا فيما إذا كمل ما تنعقد به الجمعة، ثم تفرقوا عن الإمام، فقيل: إنها تجزىء وإن بقي وحده؛ قاله أبو ثور، وحُكي عن الشافعي. وقيل: إذا بقي معه اثنان، وهو قول الثوري والشافعي. وقيل: إذا بقي معه اثنا (13) عشر رجلاً؛ تمسُّكًا بهذا الحديث، وحكاه أبو يعلى العبدي عن أصحاب مالك، وبه قال إسحاق. ثم اختلفوا في الحال التي يتفرقون عنها: فقال أبو حنيفة: إن عقد بهم ركعة أو سجدة (14) ثم تفرقوا عنه؛ أجزأه أن يُتمها جمعة، وإن كان قبل ذلك استقبل ظهرًا. وقال مالك والمزني: إن كان (15) صلّى بهم ركعة بسجدتيها أتمها (16) جمعة، وإلا لم تجزه. وقال زفر: متى تفرقوا قبل الجلوس للتشهد (17) لم تصح جمعة (18) ، وإن جلس وتفرقوا عنه قبل السلام صحَّت. وقال ابن القاسم وسحنون: إن تفرقوا عنه قبل سلامه لم تجزه (19) الجمعة. وللشافعي قول ثالث: إنها لا تجزئه حتى يبقى معه =(2/500)=@
__________
(1) في (س):((بفرد)) .
(2) في (س) تشبه أن تكون:((ومفرى)) .
(3) في (ز) و(س):((الأمران)) .
(4) في (س):((بفرد)) .
(5) قوله:((ابن عبدالعزيز)) مكرر في (ب).
(6) قوله:((بيتا)) ليس في (أ).
(7) في (أ):((اثنى)) بالمقصورة.
(8) قوله:((قاله أبو حنيفة)) ليس في (ز) و(س).
(9) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((كانوا)) بدل: ((أقاموا)) .
(10) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((فالأصل)) .
(11) في (ز) و(س):((فإنهم)) .
(12) في (أ): ((كجوا)) .
(13) في (س) و(أ):((اثنى)) بالمقصورة.
(14) في (ب) و(ح) و(ز) و(س):((ركعة وسجدة)) .
(15) قوله:((كان)) ليس في (ح) و(س).
(16) في (أ):((أتها)) .
(17) في (ز):((جلوس التشهد)) .
(18) في (ب): ((جمعته)) .
(19) في (أ):((لم يجزه)) .(2/500)
أربعون رجلاً إلى تمام الصلاة. والأصحّ من هذه الأقوال ما يعضده (1) هذا الحديث، وهو قول إسحاق وأصحابنا، والله تعالى أعلم (2) .
وقوله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} (3) : التجارة هنا: العير التي تحمل التجارة. واللهو: الطبل الذي كانوا يضربونه عند قدومهم (4) . وانفضّوا؛ أي: تفرقوا.
وقوله : {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}؛ أي: تخطب. وهذا ذمٌّ لمن ترك الخطبة بعد الشروع فيها، وقد استدل به على اشتراط الخطبة في الجمعة، وفيه بُعد، وأحسن مُتَمَسَّك فيه: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) (5) .
21- وعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (6) ؛ أَنَهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبِيثِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، وَقَالَ الله تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }.
22- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (7) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ، قَالَ: كَمَا تَفْعَلُونَ الْيَوْمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول كعب بن عُجرة: ((انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبِيثِ يَخْطُبُ قَاعِدًا)): يدل على خلاف قول أبي حنيفة؛ حيث رأى أن الخطيب إن شاء قام، وإن شاء قعد في =(2/501)=@
__________
(1) في (ز) و(س):((يعضد)) .
(2) قوله:((والله تعالى أعلم)) ليس في (ب) و(ز) و(س).
(3) سورة الجمعة، الآية: 11.
(4) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (23/389 طريق ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: اللهو: الطبل. وسنده صحيح.
وأخرج ابن جرير أيضًا (23/388-389) عن محمد بن سهل بن عسكر، عن يحيى بن صالح، عن سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبدالله، قال: كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرون بالكبر والمزامير، ويتركون النبي - صلى الله عليه وسلم - قائمًا على المنبر، وينفضون إليها، فأنزل الله {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا...}. وسنده صحيح.
قال ابن جرير:((والذي هو أولى بالصواب في ذلك الخبر الذي رويناه عن جابر ؛ لأنه قد أدرك القوم ومشاهدهم)) .اهـ.
(5) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2/111 رقم631) في الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، والإقامة.
(6) أخرجه مسلم (2/591 رقم 864) في الجمعة، باب قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا}.
(7) أخرجه البخاري (2/401 رقم 920) في الجمعة، باب الخطبة قائمًا...، ومسلم (2/589 رقم 861) في الجمعة، باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة، ومافيهما من الجلسة.(2/501)
خطبته.
وحديثا ابن عمر (1) وجابر بن سمرة بعده (2) يدلان (3) على مشروعية الجلوس في وسطها، وقد اختلف في ذلك. قال القاضي أبو الفضل: اختلف أئمة الفتوى فى حكم الجلوس بين الخطبتين؛ فذهب مالك وأبوحنيفة وأصحابهما وجمهور العلماء إلى أنه سنة، وإن لم يجلس فقد (4) أساء (5) ، ولا شيء عليه. وقال الشافعي: هي فرض، ومَن لم يجلسها فكأنه لم يخطب، ولا جمعة له. وقد حُكي (6) عن مالك نحوه، ورأى مالك والشافعي وأبو ثور الجلوس على المنبر قبل القيام إلى الخطبة، ومنعه أبو حنيفة، وقد روي عن مالك، وهو غير معروف من مذهبه.
23- وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (7) قَالَ : كَانَتْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَتَانِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيُذَكِّرُ النَّاسَ.
24- وَعَنْهُ (8) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ، فَقَدْ وَالله صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلاةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول جابر : ((قَدْ وَالله صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلاةٍ)): ظاهر هذا أنه أراد =(2/502)=@
__________
(1) في (ح): ((ابن عمرو))، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في "التلخيص".
(2) قوله:((وحديثا ابن عمر وجابر بن سمرة بعده)) ليس في (أ).
(3) في (أ): ((ويدل أيضًا)) .
(4) في (أ): ((وقد)) .
(5) في (أ):((أسى)) .
(6) في (ب): ((وحكي)) .
(7) مسلم (2/589 رقم 862) في الجمعة، باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة ومافيهما من الجلسة.
(8) أخرجه مسلم في الموضع السابق.(2/502)
ألفي صلاة جمعة، وهذا (1) محال؛ لأن هذا العدد (2) من الْجُمع؛ إنما يكون في نيف وأربعين سنة، ولم يصلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المقدار من الجمع، فيتعيّن (3) أن يراد به الصلوات المفروضات ، أو (4) قصد به الإغياء والتكثير، والله أعلم (5) .
25- وَعَنْه (6) قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَتْ صَلاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((كَانَتَ صَلاةُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا))؛ أي: متوسطة بين الطول والقصر (7) ، ومنه: القصد من الرجال، والقصد في المعيشة. والإكثار في الخطبة مكروه؛ للتشدُّق والإملال للتطويل؛ كما مضى في حديث معاذ (8) .
26- وَعَنْ أَبي وَائِلٍ (9) قَالَ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ، فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ. لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ؟ ! فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((إِنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا)).
27- وعَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ (10) ؛ ورَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يدَيْهِ، فَقَالَ: قَبَّحَ الله هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((خَطَبَنَا عَمَّارٌ، فَأَبْلَغَ وَأَوْجَزَ))؛ أي: أبلغ في المعنى، وأوجز في اللفظ، وهذه المسمّاة بالبلاغة والفصاحة.
وقوله : ((فَلَوْ (11) كُنْتَ تَنَفَّسْتَ))؛ أي: أطلت الكلام شيئًا؛ يقال: نفَّس الله في عمرك (12) ؛ أي: أطاله.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ (13) )): الرواية في هذا اللفظ : ((مَئِنَّةٌ)) (14) بالهمز، والقصر، وتشديد النون، ووقع لبعضهم : ((مائنّة)) (15) بالمدّ، وهو غلط، وكذلك كل تقييد خالف =(2/503)=@
__________
(1) في (ح) و(ز) و(س): ((وهو)) .
(2) في (ز) و(س):((القدر)) .
(3) في (ب) و(ح) و(ز): ((فتعين)) .
(4) ((وقصد)) بدل((أوْقصد)) في (أ).
(5) قوله:((والله أعلم)) ليس في (ب).
(6) أخرجه مسلم (2/591 رقم 866) في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(7) في (أ):((القصر والطول)) .
(8) تقدم برقم ؟؟؟ (360)، باب القراءة في المغرب والعشاء.
(9) أخرجه مسلم (2/594 رقم 869) في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(10) أخرجه مسلم (2/595 رقم 874) في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(11) في (أ): ((لو)) .
(12) في (ز) و(س):((عمره)) .
(13) في (س):((منئة من فقه)) . وفي (ز):((مئنة من فقه)) .
(14) في (س):((منئة)) .
(15) في (س):((مانئة)) .(2/503)
الأول. قال الأصمعي: سألني شعبة عن هذا الحرف، فقلت: هو كقولك: علامة، ومخلقةٌ، ومَجْدرةٌ. وأنشد للراجز (1) :
إنّ اكتحالاً بالنَّقِيِّ الأَمْلَجِ ... ونَظَرًا في الحاجبِ الْمُزَجَّجِ
مَئِنَّةٌ من الفعال الأعوج (2)
وقال (3) أبو عبيد: يعني: إن هذا مما يُستدل به على فقه الرجل.
قال أبو منصور: جعل أبو عبيد الهمزة فيه أصلية (4) (5) .
قال أبو الحسن (6) بن سراج: الميم في : ((مَئِنَّةٌ)) (7) أصلية، ووزنها (8) فَعِلة، من مأنت (9) : إذا شعرت، وقاله (10) أبوه (11) أبو مروان.
قال الأزهري: الميم في ((مَئِنة)) (12) ميم مفعلة، وليست بأصلية. ومعنى قول المرَّار (13) :
فَتَهَامَسوا سِرًّا وقالوا: عَرِّسوا ... من غَيْر تَمْئِنَةٍ (14) لغيرِ مُعَرَّسِ
أي: من غير تهيئةٍ ولا فكر فيه، يقال: أتى (15) فلان وما مأَنْتُ مَأْنَه، ولا شأنت شأنه؛ أي: لم أفكر فيه، ولم أتهيأ له (16) .
وقوله: ((فَأَطِيلُوا الصَّلاةَ وَأقْصُرُوا (17) الْخُطْبَةَ)): غير مخالف لقوله: ((كانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا))؛ لأن كل واحد قصد في بابه، لكن الصلاة ينبغي أن تكون أطول من الخطبة، مع القصد في كل واحد منهما.
وقوله: ((وَإِنَّ (18) مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا)) البيان هنا: الإيضاح البليغ مع اللفظ المستعذب، وفي هذا الحديث تأويلان : =(2/504)=@
__________
(1) ذكر هذا الرَّجَز ابن منظور في "لسان العرب" (13/29) نقلاً عن اللحياني ، ولم ينسبه لأحد.
(2) قوله: ((وأنشد للراجز...)) إلى هنا ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(س).
(3) في (ز) و(س):((قال)) بلا واو.
(4) قوله:((أبوه)) ليس في (أ).
(5) في (أ):((مينة)) .
(6) في (ب): ((أبو الحسين)) .
(7) في (س):((منئة)) .
(8) في (ز):((وزنها)) بواو واحدة.
(9) من قوله:((قال أبو منصور...)) إلى هنا ليس في (أ).
(10) في (ز) و(س):((وقال)) .
(11) قوله:((أبوه)) ليس في (أ).
(12) في (س):((منئة)) .
(13) أي: الفَقْعَسي ؛ كما في "لسان العرب" (13/397)، وقد ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" (2/197) ولم ينسبه لأحد، وعنده: ((شيئًا)) بدل:((سرًّا))، وانظر "غريب الحديث" للخطابي (2/260)، و"لسان العرب" (13/29).
(14) في (ز) و(س):((تمنئة)) .
(15) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((أتاني)) .
(16) قوله:((له)) ليس في (ز) و(س).
(17) في (أ): ((وقصروا)) .
(18) في (ب) و(ز) و(س): ((وإن)) .(2/504)
أحدهما: أنه قصد به الذم؛ لأن الإبلاغ (1) في البيان (2) يفعل في القلوب من الإمالة والتحريك والتطريب والتحزين ما يفعل (3) السحر. واستدلّ متأوِّل هذا بإدخال مالك الحديث في"موطئه" (4) في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله، وأنه مذهبه في تأويل الحديث.
وثانيهما: أنه على جهة المدح، فإن الله تعالى قد امتن على عباده بالبيان؛ حيث قال : {خلق الإنسان ( علمه البيان } (5) ، وشبّهه بالسحر لميل الفلوب إليه (6) . وأصل السحر: الصرف، والبيان يصرف القلوب ويميلها إلى ما يدعو (7) إليه.
قال الشيخ – رحمه الله -: وهذا التأويل أولى؛ لهذه الآية وما في معناها.
وقوله : ((وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ)): كان ذلك - والله أعلم - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند التشهد في الخطبة؛ كما كان يفعل في الصلاة (8) . =(2/505)=@
__________
(1) قوله:((له)) ليس في (ز) و(س).
(2) في (ز) و(س):((البلاغ)) .
(3) في (أ):((يعقل)) .
(4) (2/986 رقم7).
(5) سورة الرحمن، الآيتان: 3-4.
(6) قوله:((في حال خطبته)) ليس في (أ).
(7) في (ح): ((ما تدعو)) .
(8) زاد بعدها في (ز):((والله أعلم)) .(2/505)
( 6 ) باب ما يقال في الخطبة ورفع الصوت بها
28- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله (1) قَالَ: كَانَتْ خُطْبَةُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْجُمُعَةِ، يَحْمَدُ الله، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ عَلا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ في رواية: ((واحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ)) حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يَقُولُ:
((صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ)) وَيَقُولُ: ((بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ)) وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ: ((أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ الله، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)) ثُمَّ يَقُولُ: ((أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ، يَحْمَدُ الله وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ. ثُمَّ يَقُولُ: ((مَنْ يَهْدِهِ الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَخَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ الله...)) وسَاقَ الْحَدِيثَ.
29- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) : أَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في مُخَاطَبَتة ضِمَادًا: ((إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ...))، وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ.
30- وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ (3) : أَنَّ رَجُلاً خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما يقال في الخطبة
كونه - صلى الله عليه وسلم - تحمرُّ عيناه، ويعلو صوته، ويشتدّ غضبه [في حال خطبته] (4) ؛ كان هذا منه في أحوال. وهذا مُشعر بأن الواعظ حقُّه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه (5) ما يطابقه، حتى لا يأتي بالشيء وضده ظاهر عليه، وأما اشتداد غضبه؛ فيحتمل (6) أن يكون عند نهيه عن أمر خولف فيه، أو يريد أن صفته صفة الغضبان.
و((مُنْذِرُ الجَيْشٍ)) هو: المخبر بجيش العدو، والذي (7) يخوف به.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ)): قيّدناه بالفتح والضم. فأما الفتح؛ فهو على المفعول معه (8) ، والرفع على أنه معطوف على التاء في بُعثت، وفصل بينهما بـ((أنا)) (9) توكيدًا للضمير؛ على ما هو الأحسن عند النحويين، وقد اختار بعضهم النصب بناءً على أن التشبيه وقع بملاصقة الإصبعين واتصالهما، واختار آخرون الرفع بناءً على أن التشبيه وقع بالتفاوت (10) الذي بين رؤوسهما، ويعني أن ما بين زمان (11) النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيام الساعة قريب؛ كقرب السَّبابة من الوسطى، وهذا أوقع، والله أعلم. =(2/506)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/592 رقم 867) في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(2) أخرجه مسلم (2/593 رقم 868) في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(3) أخرجه مسلم (2/594 رقم 870) في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (ح): ((به)) .
(6) في (ح): ((محتمل)) .
(7) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((العدو الذي)) .
(8) قوله:((معه)) ليس في (أ).
(9) قوله:((بأنا)) ليس في (ح).
(10) في (ز) و(س):((في التفاوت)) .
(11) قوله:((زمان)) ليس في (ح).(2/506)
وقد جاء من حديث (1) سهل (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((سبقتُها (3) بما سبقت هذه هذه))؛ يعني الوسطى والسبابة.
وقوله : ((أَمَّا بَعْدُ (4) )) هي كلمة (5) تفصل مابعدها مما قبلها، وهي حرف متضمن للشرط، ولذلك تدخل الفاء في جوابها، وقدَّرها النحويون بـ((مهما)). و((بعد)): ظرف زماني قُطع عن الإضافة مع كونها مرادة، فيُبني (6) على الضم، وخُصَّ بالضم (7) ؛ لأنه حركة ليست له في (8) حال إعرابه، والعامل فيه ما تضمنه ((أما)) من معنى الشرط، فإن معناه: مهما يكن من شيء بعد حمد الله؛ فكذا، والله أعلم.
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} (9) ، أنه قوله: أما بعد.
وقوله: ((خَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ)): روي: الهدي: بضم الهاء، وفتح الدال فيهما، وبفتح الهاء، وسكون الدال فيهما، وهما بمعنى واحد (10) ؛ من الهداية، وهي الدّلالة والإرشاد. والْهُدى في مستعمل (11) العرف هُدَيَان: هُدى دلالة وإرشاد، وهو الذي يضاف إلى الرسل والكتب؛ كما قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (12) ، وفي القرآن: {هدى للمتقين} (13) ، والْهُدى الثاني: بمعنى التأييد والعصمة من تأثير الذنوب، والتوفيق، وهذا هو الْهُدى الذي لا ينسب إلا لله تعالى، وهو المراد بقوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (14) ، وحملت القدرية هذا الهدي على البيان بناءً على أصلهم الفاسد في القدر؛ كما قدمناه في أول كتاب الإيمان، ويردُّ =(2/507)=@
__________
(1) في (أ):((بالحديث)) .
(2) حديث سهل بن سعد هذا أخرجه مسلم (4/2268 رقم2950) في الفتن، باب قرب الساعة، من طريق يعقوب بن عبدالرحمن وعبدالعزيز بن أبي حازم، كلاهما عن أبي حازم سلمة بن دينار، عن سهل بن سعد قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بإصبعه التي تلي الإبهام والوسطى وهو يقول: ((بُعثت أنا والساعة هكذا))، ولم أجد اللفظ الذي ذكره المصنف من حديث سهل، ولكن أخرجه الحميدي في "مسنده" (2/413 رقم925) عن سفيان بن عيينة، عن أبي حازم ؛ أنه سمع سهل بن سعد الساعدي يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((بُعثت أنا والساعة كهذه من هذه))، وأشار سفيان بالسبابة والوسطى.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" (9/439 رقم5301) في الطلاق، باب اللعان، من طريق علي بن المديني، عن سفيان.
وأما اللفظ الذي ذكره المصنف فهو من حديث المستورد بن شداد. أخرجه الترمذي (5/429-430 رقم2213) في الفتن، باب ما جاء في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((بُعثت أنا والساعة كهاتين...)) عن محمد بن عمر بن هياج الأسدي، عن يحيى بن عبدالرحمن الأرحبي، عن عُبيدة بن الأسود، عن مجالد، عن قيس بن أبي حازم، عن المستورد بن شداد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بُعثت في نفس الساعة، فسبقتها كما سبقت هذه هذه))؛ لإصبعه السبابة والوسطى.
وضعفه الترمذي بقوله: ((هذا حديث غريب من حديث المستورد بن شداد، لا نعرفه إلا من هذا الوجه)) .اهـ.
وفي سنده مجالد، وهو ابن سعيد الهمداني، وهو ليس بالقوي ، وقد تغير في آخر عمره، كما في "التقريب" (ص 920 رقم6520).
(3) في (أ): ((سبقتهما)) .
(4) قوله: ((بعد)) ليس في (ب) و(ح).
(5) في (ز) و(س): ((وقوله: أنا كلمة)).
(6) في (ز) و(س): ((فبني)).
(7) في (أ): ((الضم)) .
(8) في (أ): ((الذي)) .
(9) سورة ص، الآية: 20.
(10) في (ح): ((وهما من أصل فعل واحد))، وفي (ب): ((وهما من أصل واحد)).
(11) في (ح): ((في استعمال)) .
(12) سورة الشورى، الآية: 52.
(13) سورة البقرة، الآية: 2.
(14) سورة القصص، الآية: 56.(2/507)
عليهم قوله تعالى : {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1) ، ففرق (2) بين الدلالة والهداية؛ ولهذا موضعٌ يُعرف فيه، قال أبو عبيد الهروي (3) : الْهَدْيُ بفتح (4) الهاء وإسكان الدال: هو الطريق، فهَدْيُ محمد - صلى الله عليه وسلم - : طريقه؛ كما يقال: فلان حسن الْهَدْي؛ أي المذهب في الأمور كلها والسيرة، ومنه (5) : ((اهتدوا بهدي (6) عمار)) (7) .
وقوله: ((وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا)): يعني: المحدثات التي ليس (8) في الشريعة أصل يشهد لها بالصحة والجواز، وهي المسمّاة بالبدع؛ ولذلك حكم عليها بأن كل بدعة ضلالة. وحقيقة البدعة: ما ابتُدئ وافتُتح من غير أصل شرعي، وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ)) (9) .
وقوله: ((أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ))؛ أي: أقرب له من نفسه، أو أحق بالمؤمن (10) به منها، ثم فسر وجهه بقوله: ((مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ)) (11) . وبيانه: أنه إذا ترك دينًا أو ضياعًا (12) ولم يقدر على أن يُخلِّص نفسه منه؛ إذ لم يترك شيئًا يسدُّ به ذلك، ثم خلّصه منه (13) النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيامه به عنه، أو سدّ ضيعته؛ كان أولى به من نفسه؛ إذ قد (14) فعل معه ما لم يفعل هو بنفسه، والله أعلم.
وأما رواية من رواه (15) : ((أنا أولى بالمؤمنين (16) من أنفسهم)) في غير الأصل فيحتمل أن يحمل على ذلك، ويحتمل أن يكون معناه: أنا أولى بالمؤمنين من =(2/508)=@
__________
(1) سورة يونس، الآية: 25.
(2) في (أ): ((فقرق)).
(3) قوله: ((الهروي)) ليس في (ح).
(4) قوله: ((بفتح)) تكرر في (س).
(5) في (ح): ((ومنها)) .
(6) في (أ): ((هدي)) .
(7) أخرج الحاكم في "المستدرك" (3/75) وصححه، ووافقه الذهبي، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه كما بينته في تعليقي على "مختصر استدراك الذهبي" لابن الملقن (3/1194-1198 رقم503).
(8) في (ز) و(س): ((ليست)).
(9) سيأتي برقم (...) في الأقضية، باب لا يقضي القاضي وهو على حال تشوش عليه فكره.
(10) قوله: ((بالمؤمن)) ليس في (ز) و(س) و(أ).
(11) في (ب) و(ح): ((فعليَّ وإليَّ)) .
(12) في (أ): ((ضياعًا أو دينًا)) .
(13) قوله: ((منه)) ليس في (ح).
(14) قوله: ((قد)) ليس في (ح).
(15) في (ب): ((روى)) .
(16) في (أ): ((المؤمنين)) بدون الباء.(2/508)
بعضهم لبعض (1) ؛ كما قال تعالى : {أن اقتلوا أنفسكم} (2) ؛ أي ليقتل بعضكم بعضًا، في أشهر أقوال المفسرين.
والضياع: العيال؛ قاله النضر بن شُمَيل، وقال ابن قتيبة: هو مصدر ضاع يضيع، ضياعًا، ومثله: مضى يمضي مضاءً، وقضى يقضي قضاءً، أراد: من ترك عيالاً عالة وأطفالاً (3) ، فجاء بالمصدر موضع الاسم؛ كما تقول (4) : ترك فقرًا؛ أي: فقراء. والضياع - بالكسر -: جمع ضائع؛ مثل: جائع وجياع، وضيعة الرجل أيضًا: ما يكون منه معاشه؛ من صناعة أو غلة؛ قاله الأزهري. وقال شمر: ويدخل (5) فيه: التجارة والحرفة، يقال: ماضيعتك (6) ؟ فتقول: كذا. =(2/509)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((ببعض)).
(2) سورة النساء، الآية: 66.
(3) في (ح): ((أو أطفالاً)) .
(4) في (ز): ((نقول)).
(5) في (ب) و(ز) و(س): ((وتدخل)) .
(6) في (ز) و(س): ((ضيعك)).(2/509)
قال الشيخ - رحمه الله -: وهذا الكلام إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رفع ما كان قرّره (1) من امتناعه من الصلاة على من مات وعليه دين لم يترك له وفاء؛ كما قاله أبو هريرة رضي الله عنه: كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يؤتى (2) بالميت عليه الدين، فيسأل (3) : ((هل ترك لدينه وفاء؟)) (4) فإن قيل: إنه ترك وفاء؛ صلى عليه، وإن قالوا: لا؛ قال: ((صلوا على صاحبكم)). قال: فلما فتح الله تعالى عليه الفتوح؛ قال: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من توفي فترك دينًا، فعلي، ومن ترك مالاً فلورثته)).
قال القاضي: وهذا مما يلزم الأئمة من الفروض (5) في مال الله تعالى للذرية وأهل الحاجة، والقيام بهم وقضاء ديون محتاجيهم (6) .
وقوله للخطيب الذي قال : ((من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى)): ظاهره: أنه أنكر عليه جمع اسم الله تعالى واسم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في ضمير واحد، ويعارضه ما رواه أبو داود (7) من حديث ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب فقال في خطبته: ((من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضرّ إلا نفسه))، وفي حديث أنس (8) : ((ومن يعصهما فقد غوى))، وهما صحيحان (9) ، ويعارضه أيضًا قوله تعالى : {إن الله وملائكته يصلون على النبي} (10) ، فجمع بين ضمير (11) اسم الله وملائكته، ولهذه المعارضة صرف بعض (12) القُرَّاء هذا الذّم إلى أن ذلك الخطيب وقف على: ((ومن يعصهما))، وهذا تأويل لم تساعده (13) الرواية؛ فإن =(2/510)=@
__________
(1) في (ب) و(ح) و(ز): ((قرر))، وفي (س): ((قدر)).
(2) في (ز): ((يولى)).
(3) في (ز) و(س): ((قيل)).
(4) وسيأتي في الوصايا والفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته وعصبته برقم (1717).
(5) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((الفرض)) .
(6) في (أ): ((محتاجهم))، وفي (ز) و(س): ((دين محتاجهم)).
(7) في "سننه" (1/659 رقم1097) في الصلاة، باب الخطبة قائمًا، و(2/592 رقم2119) في النكاح، باب في خطبة النكاح، والبيهقي في "سننه" (7/146)، كلاهما من طريق عمران القطان، عن قتادة، عن عبدربه، عن أبي عياض، عن ابن مسعود...، بذكر خطبة الحاجة بتمامها، وفيها موضع الشاهد.
وسنده ضعيف لجهالة حال عبدربه بن أبي يزيد، فقد قال ابن حجر في "التقريب" (ص 568 رقم3815) عنه: ((مستور)) . وقال (ص 1187 رقم8357) عن شيخه أبي عياض المدني:((مجهول)) . وقال (ص 750 رقم5189) عن عمران بن داود القطان: ((صدوق يهم، ورمي برأي الخوارج)) .
ومع هذا كله صححه النووي في "شرح مسلم" (6/160). وهذا كله لأجل هذه اللفظة، وأما خطبة الحاجة فصحيحة لمجيئها عن ابن مسعود رضي الله عنه من طرق ؛ كما أوضح ذلك الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في رسالته: ((خطبة الحاجة)).
(8) لم أجد حديث أنس هذا.
(9) قوله: ((وهما صحيحان)) ليس في (أ)، وقد نقله السيوطي في "شرح النسائي" (6/90) عن المصنف.
(10) سورة الأحزاب، الآية: 56.
(11) قوله: ((ضمير)) سقط في (ز).
(12) قوله: ((بعض)) ليس في (أ).
(13) في (أ): ((يساعده)) .(2/510)
الرواية الصحيحة أنه أتى باللفظين في مساق واحد، وأن آخر كلامه إنما هو: ((فقد غوى)). ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّ عليه وعلّمه صواب ما أخلّ به، فقال: ((قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى))؛ فظهر أن ذمّه له إنما كان على الجمع بين الاسمين (1) في الضمير، وحينئذ يتوجه الإشكال، ونتخلّص عنه من أوجه :
أحدها: أن المتكلم لا يدخل تحت خطاب نفسه إذا وجّهه لغيره، فقوله (2) - صلى الله عليه وسلم - : ((بئس الخطيب أنت)) منصرف لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظًا ومعنى.
وثانيها (3) : أن إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الخطيب يحتمل أن يكون كأن هنالك (4) من يتوهم التسوية من جمعهما (5) في الضمير الواحد، فمنع ذلك لأجله، وحيث عُدِمَ ذلك جاز الإطلاق.
وثالثها (6) : أن ذلك الجمع تشريف، ولله تعالى أن يُشرف من شاء بما شاء، ويمنع من مثل (7) ذلك للغير (8) ؛ كما قد أقسم بكثير من المخلوقات، ومنعنا من القسم بها، فقال سبحانه وتعالى : {إن الله وملائكته يصلون على النبي (9) } (10) ، وكذلك (11) أذن لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في إطلاق مثل ذلك، ومنع منه الغير على لسان نبيه.
ورابعها: أن العمل بخبر (12) المنع أولى لأوجه؛ لأنه تقعيد قاعدة (13) ، والخبر =(2/511)=@
__________
(1) في (أ): ((الاثنين)) .
(2) في (ز) و(س): ((لقوله)).
(3) في (أ) و(ز) و(س): ((وثانيهما)) .
(4) في (ب) و(ح): ((هناك))، وفي (ز) و(س): ((أن يكون هناك)).
(5) في (ح): ((جمعها)) .
(6) في (أ): ((وثالثهما)) .
(7) قوله: ((مثل)) ليس في (ح).
(8) في (ب): ((الغير)) .
(9) زاد في (ح): {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.
(10) سورة الأحزاب، الآية: 56.
(11) في (ح): ((كان)) .
(12) في (أ) رسمت هكذا: ((بحبـ))، ولم تكتب الراء.
(13) في (ب): ((القاعدة)) .(2/511)
الآخر يحتمل الخصوص، كما قررناه؛ ولأن هذا الخبر ناقل، والآخر مُبقًى (1) على الأصل؛ فكان الأول أولى، ولأنه قول والثاني فعل؛ فكان أولى، والله أعلم.
31- وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى (2) ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ... }.
32- وعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) ، عَنْ أُخْتٍ لِعَمْرَةَ قَالَتْ: أَخَذْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَقْرَأُ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على المنبر: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} (4) : يحتمل: أن يكون أراد الآية وحدها، أو السورة (5) كلها، ونبّه (6) ببعضها عليها؛ كما يقال: قرأت: {الحمد لله}.
وفي قراءته - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية (7) ، وسورة {ق} دليل على صحة استحباب مالك قراءة شيء من القرآن في الخطبة، وخص هذه الآية، وسورة {ق}؛ لما تضمنت (8) من المواعظ والزجر والتحذير (9) . =(2/512)=@
__________
(1) في (ز) و(س) و(أ): ((بق)).
(2) أخرجه البخاري (6/312 رقم 3230) في بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: ((آمين))، ومسلم (2/594 رقم 871) في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(3) أخرجه مسلم (2/595 رقم 873) في الكتاب والباب السابقين.
(4) سورة الزخرف، الآية: 77.
(5) في (أ): ((والسورة)) .
(6) في (أ) و(ب): ((وينبه)) .
(7) في (أ): ((السورة)) .
(8) في (ز) و(س): ((تضمنته)).
(9) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).(2/512)
باب ركوع من دخل والإمام يخطب والتعليم في حالة الخطبة
33- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (1) قَالَ: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فَجَلَسَ، فَقَالَ: ((يَا سُلَيْكُ ! قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا)) ثُمَّ قَالَ: ((إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ركوع من دخل والامام يخطب
قوله - صلى الله عليه وسلم - لسليك: ((قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ))، وقوله: ((إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا)): اختلف العلماء في العمل بهذا الحديث، فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والحسن وأبو ثور وفقهاء أصحاب الحديث رضي الله عنهم إلى (2) العمل بظاهره؛ وهو أن الداخل في حال خطبة الإمام يركع ركعتين.
وقال الأوزاعي: إنما يركعهما من لم يركعهما في بيته. وذهب (3) مالك والليث وأبو حنيفة والثوري وأصحابهما وجمهور من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم؛ إلى أنه لا يركع، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم (4) ، واحتج لهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي (5) رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخطى رقاب الناس في حال (6) الخطبة: ((اجلس (7) فقد آذيت)) (8) ، وبأمره - صلى الله عليه وسلم - بالإقبال على الخطبة والإصغاء لها (9) - والصلاة في ذلك الوقت =(2/513)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (2/407 رقم 930) في الجمعة، باب إذا رأى الإمام رجلاً جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين. ومسلم (2/597 رقم 875-59) في الجمعة، باب التحية والإمام يخطب.
(2) قوله: ((إلى)) سقط من (ز).
(3) في (س): ((تشبه فذهب)) [وتراجع].
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (1/448 رقم5173) في الصلاة، باب من كان يقول: إذا خطب الإمام فلا يصلّ، عن عباد بن العوام، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد بن عبدالله، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال: أدركت عمر وعثمان، فكان الإمام إذا خرج يوم الجمعة تركنا الصلاة. وسنده صحيح.
وأخرجه أيضًا (1/447 رقم5167) في الموضع السابق، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، أنه كره الصلاة والإمام يخطب يوم الجمعة.
وسنده ضعيف، لضعف الحارث الأعور.
(5) في (ح): ((الذي)) .
(6) في (أ) و(ز): ((حالة)) .
(7) في (س): ((احبس)).
(8) أخرجه أحمد (4/188و190)، وأبو داود (1/668 رقم1118) في الصلاة، باب تخطي رقاب الناس يوم الجمعة، والنسائي (3/103 رقم1399) في الجمعة، باب النهي عن تخطي رقاب الناس...، وابن خزيمة (3/156 رقم1811)، والطحاوي (1/366)، وابن حبان (7/29-30 رقم2790/الإحسان)، والحاكم (1/288)، والبيهقي (3/231).
جميعهم من طريق معاوية بن صالح، عن أبي الزهرية، قال: كنا مع عبدالله بن بسر صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة، فجاء رجل يتخطى رقاب الناس - فقال عبدالله بن بسر: جاء رجل يتخطى رقاب الناس - يوم الجمعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((اجلس، فقد آذيت وآنيت)) .
وسنده حسن. قال الحاكم: ((صحيح على شرط مسلم))، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في "التلخيص" (2/144): ((وضعفه ابن حزم بما لا يقدح)) .اهـ.
وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب" رقم (716).
وأبو الزهرية: هو حدير الحضرمي الحمصي.
(9) في (ح): ((إليها)) .(2/513)
تصرف عن ذلك، وبالعمل المنقول المستفيض بالمدينة على أنهم كانوا لا يركعون في تلك الحال ولذلك قال ابن شهاب: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام.
وقد تأول أصحابنا حديث جابر تأويلات في بعضها بُعْدٌ، وأولى معتمدِ المالكية في ترك العمل به أنه خبرٌ واحد عارضه عمل أهل المدينة خَلَفًا (1) عن سَلَف، من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - إلى زمان مالك رحمه الله (2) ؛ فيكون العمل بهذا العمل أولى، وهذا أصل مالك رحمه الله تعالى (3) . وأما أبو حنيفة فترك العمل به على أصله أيضًا (4) في ردّ أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى، والله أعلم.
وذهب بعض المتأخرين من أصحاب الحديث إلى الجمع بين الأمرين، فخيّر (5) الداخل بين الركوع وتركه، وهو قول من تعارض عنده الخبر والعمل.
34- وَعَنْ أَبِي رِفَاعَةَ (6) قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَخْطُبُ قَالَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ! رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، لا يَدْرِي مَا دِينُهُ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا، قَالَ: فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ الله، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أبي رفاعة : ((انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَخْطُبُ))؛ يحتمل أن تكون تلك الخطبة للجمعة ولغيرها؛ إذ قد كان - صلى الله عليه وسلم - (7) يجمع الناس لغير الجمعة؛ عند نزول النوازل، فيخطبهم ويعظهم.
وقوله (8) : ((رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، لا يَدْرِي مَا دِينُهُ)): استلطاف في السؤال، واستخراج حسن (9) للتعليم (10) ؛ لأنه لما أخبره بذلك تعين عليه أن يعلّمه، وأيضًا فإن هذا الرجل الغريب الذي جاء سائلاً عن دينه؛ هو من النوع الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((إن ناسًا (11) يأتونكم من أقطار الأرض يطلبون العلم، فاستوصوا بهم خيرًا)) (12) ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأمر بشيء إلا كان أول آخذٍ به، وإذا نهى عن شىء كان أول تاركٍ له. =(2/514)=@
__________
(1) في (أ): ((خلف)).
(2) في (ز): ((رضي الله عنه)).
(3) في (ز): ((رضي الله عنه)).
(4) قوله: ((أيضًا)) ليس في (ح).
(5) في (ب): ((فيخير))، وفي (س): ((بخبر)).
(6) أخرجه مسلم (2/597 رقم 876) في الجمعة، باب حديث التعليم في الخطبة.
(7) في (ح): ((النبي - صلى الله عليه وسلم - )).
(8) في (أ): ((وقول)) .
(9) قوله: ((حسن)) ليس في (أ).
(10) في (ح): ((التعليم)) .
(11) في (ح): ((أناسًا)) .
(12) أخرجه الطيالسي في "مسنده" (ص291-292 رقم2191)، والترمذي (5/30رقم2650، 2651) في العلم، باب ما جاء في الاستيصاء بمن يطلب العلم، وابن ماجه (1/90-92 رقم247و249) في المقدمة، باب الوصاة بطلبة العلم، والطبراني في "مسند الشاميين" (1/226 رقم405)، جميعهم من طريق أبي هارون العبدي ؛ قال: كنا نأتي أبا سعيد، فإذا رآنا قال: مرحبًا بوصية رسول الله ؛ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: ((إنه سيأتي قومٌ يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فاستوصوا بهم خيرًا)) . هذا لفظ الطيالسي.
قال الترمذي: ((قال علي: قال يحيى بن سعيد: كان شعبة يضعِّف أبا هارون العبدي. قال يحيى بن سعيد: مازال ابن عون يروي عن أبي هارون العبدي حتى مات، وأبو هارون اسمه عمارة بن جوين)). وقال أيضًا:((هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي هارون عن أبي سعيد)).
قلت: أبو هارون العبدي عمارة بن جوين قال عنه الحافظ ابن حجر في "التقريب" (ص711 رقم4874): ((شيعي متروك، ومنهم من كذبه)) .(2/514)
وقوله : ((فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ)) إنما فعل ذلك لتعيُّنه عليه في الحال، ولخوف الفوت، ولأنه لا يناقض ما كان فيه من الخطبة. ومشيُه - صلى الله عليه وسلم - وقربه منه في تلك الحال مبادرة لاغتنام الفرصة ، وإظهار التهمع (1) بشأن السائل.
وقوله : ((فَأُتِيَ (2) بِكُرْسِيٍّ حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا)): هكذا صحيح الرواية، وذكره (3) ابن قتيبة وقال : ((بِكُرْسِيٍّ خُلْبٍ)). قال (4) : والْخُلْب: الليف، وهو تصحيف منه إنما (5) هو : ((خِلْت))؛ كما رواه ابن أبي شيبة (6) ، وهو بمعنى: ((حسبت))؛ الذي رواه مسلم. ووقع في نسخة ابن الحذّاء : ((بكرسي خشب))، وهو أيضًا تصحيف، وصوابه ما قدّمناه، وقد فسَّره حميد في كتاب ابن أبي شيبة (7) ، فقال: ((أراه كان (8) من عودٍ أسود فحسبه من حديد))، قال الشيخ: وأظن أن (9) هذا الكرسي هو المنبر، ويعني (10) به (11) (12) : أنه نقل عن موضعه المعتاد له إلى موضع السائل؛ ليجلس عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : ((ثم أتى خطبته فأتم آخرها))؛ أي: لما فرغ من تعليم الرجل؛ رجع إلى أسلوب خطبته المتقدم، لا يقال: إن هذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - قطعٌ للخطبة؛ لما (13) قررناه من أن تعليم العلم والأمر والنهي في الخطبة لا يكون قطعًا للخطبة، والجمهور على أن الكلام (14) في الخطبة للأمر (15) يحدث لا يفسدها. وحكى الخطابي عن بعض العلماء: أن الخطيب إذا تكلم في الخطبة أعادها. =(2/515)=@
__________
(1) في (أ): ((وإظهارًا للتهمم))، وفي (ز) و(س): ((وإظهار التهمم)).
(2) في (ح): ((فأوتي)) .
(3) في (ح): ((وذكر)) .
(4) قوله: ((قال)) ليس في (ز).
(5) في (ح): ((وإنما)) .
(6) لم أجده في "المصنف"، ولكن أخرجه في "المسند" (2/126 رقم620)، وفيه: ((جعلت)) بدل: ((خلت)). وقد أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (2/578 رقم1164)، والنسائي (8/220 رقم 5377) في الزينة، باب الجلوس على الكراسي، وابن خزيمة في "صحيحه" (2/355-356 رقم1457)، و(3/151رقم1800)، وفيه عندهم: ((خلت))، وسنده صحيح.
(7) لم أجده عند أبي شيبة، ولكن أخرجه بنحوه البخاري في الموضع السابق من "الأدب المفرد"، وابن خزيمة في الموضع السابق من "صحيحه".
(8) قول: ((كان)) ليس في (أ).
(9) قوله: ((أنَّ)) و((به)) ليس في (أ) و(س).
(10) في (س): ((ونعني)).
(11) قوله: ((به)) ليس في (ز).
(12) قوله: ((أنَّ)) و((به)) ليس في (أ) و(س).
(13) في (أ): ((كما)) .
(14) كتبت في (ز) في الحاشية ولم تتضح ((ال) في التصوير.
(15) قوله: ((للأمر)) ليس في (أ)، وفي (ز) و(س): ((لأمر)).(2/515)
**************
( 8 ) باب ما يُقْرَأُ به في صلاة الجمعة وفي صبح يومها
35- عَنِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ (1) قَالَ: اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ، فَقَرَأَ بَعْدَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ }، قَالَ: فَأَدْرَكْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ حِينَ انْصَرَفَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي السَّجْدَةِ الأُولَى، وَفِي الآخِرَةِ { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما يقرأ في صلاة الجمعة
قراءةُ (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة (3) بسورتها (4) ليذكرهم بأمرها، ويُبيّن تأكيدها وأحكامها، وأما قراءة سورة المنافقين فلتوبيخ من يحضرها من المنافقين (5) ؛ لأنه قلّ من كان يتأخر عن الجمعة منهم؛ إذ قد كان هدَّد (6) على التخلف عنها بحرق البيوت على من فيها، ولعل هذا - والله أعلم- كان في أول الأمر، فلما عقل الناس أحكام الجمعة وحصل توبيخ المنافقين؛ عدل عنها (7) إلى قراءة (8) : {سبح اسم ربك الأعلى}، و{هل أتاك حديث الغاشية}، على ما في حديث النعمان (9) بن بشير؛ لما تضمنتاه من الوعظ (10) والتحذير والتذكير، وليخفف أيضًا عن الناس؛ كما قال: ((إذا أممت =(2/516)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/597 رقم 877) في الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة.
(2) في (ز) و(س): ((قرأ)).
(3) قوله: ((في الجمعة)) ليس في (أ).
(4) في (ز) رسمت هكذا: ((بسوتها)).
(5) في (أ): ((منهم)) .
(6) في (ب): ((يهدد))، وفي (ح): ((قد هدد))، وفي (س): ((إذ كان قد هدد))، وفي (ز): ((إذ كان قد هددهم...)).
(7) في (أ): ((عنهما)) .
(8) في (أ): ((قوله تعالى)) .
(9) في (أ): ((عباد))، والمثبت من (ب).
(10) في (ز): ((مذهب)).(2/516)
الناس فاقرأ بـ{الشمس وضحاها}، و{سبح اسم ربك الأعلى}، و{هل أتاك حديث الغاشية})) (1) .
36- وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (2) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ.
قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلاتَيْنِ.
37- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (3) : أَنَّ النَبَّي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: {الم تَنْزِيلُ... } السَّجْدَةِ. وَ { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ }، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (4) : ((وإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَرَأَ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلاتَيْنِ)): هذا يدل على أنه لا يكتفى بصلاة العيد عن صلاة الجمعة إذا اجتمعتا (5) في يوم واحد (6) ، وهو المشهور من مذاهب (7) العلماء؛ خلافًا لمن ذهب إلى أن الجمعة تسقط يومئذ، وإليه ذهب ابن الزبير وابن عباس (8) ، وقال: ((هي السنة))، وذهب غيرهما إلى أنهما يُصليان (9) ، غير أنه يُرخص لمن أتى العيد من أهل البادية في ترك (10) إتيان الجمعة، وإلى هذا (11) ذهب عثمان (12) والذي استمر عليه العمل: ما دلّ عليه ظاهر الحديث المتقدم.
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إِذَا صَلَّيْتُمْ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَصَلُّوا وسجودُه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة صبح (13) الجمعة عند قراءة السجدة دليل على جواز قراءة السجدة في صلاة الفريضة، وقد كرهه فى "المدوّنة" (14) . وعُلِّل بخوف التخليط على =(2/517)=@
__________
(1) تقدم برقم (360) في الصلاة، باب القراءة في المغرب والعشاء.
(2) أخرجه مسلم (2/598 رقم 878) في الكتاب والباب السابقين.
(3) أخرجه مسلم (2/599 رقم 879) في الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة.
(4) قوله: ((وقوله)) ليس في (أ).
(5) في (أ) و(ح) و(ز) و(س): ((اجتمعا)) .
(6) قوله: ((واحد)) ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(س).
(7) في (أ): ((الوعد)).
(8) أخرجه ابن أبي شيبة (2/7 رقم5835) في الصلاة، باب في العيدين يجتمعان...، والنسائي (3/194 رقم1592) في العيدين، باب الرخصة في التخلف عن الجمعة لمن شهد العيد، كلاهما من طريق عبدالحميد بن جعفر. وأخرجه أحمد (4/4) طريق ابن إسحاق.
وأخرجه ابن أبي شيبة (2/7 رقم 5840) في الموضع السابق من طريق هشام بن عروة. ثلاثتهم (عبدالحميد بن جعفر، وابن إسحاق، وهشام بن عروة ) عن وهب بن كيسان ؛ قال: اجتمع عيدان في عهد ابن الزبير، فأخّر الخروج، ثم خرج فخطب فأطال الخطبة، ثم صلى ولم يخرج إلى الجمعة، فعاب ذلك أناس عليه، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: ((أصاب السنة))، فبلغ ابن الزبير، فقال:((شهدت العيد مع عمر، فصنع كما صنعت)) . وسنده صحيح.
(9) في (ب): ((تصليان)) .
(10) قوله: ((ترك)) ليس في (أ).
(11) في (ب): ((إليه))، وفي (ح): ((ذلك)) بدل: ((وإلى هذا))، وفي (ز) و(س): ((وإلى ذلك)).
(12) أخرجه البخاري (10/24 رقم5572 طريق أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: ثم شهدت العيد مع عثمان بن عفان، وكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال: ((يا أيهاالناس، إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له)) .
قال الحافظ في "الفتح" (10/27): « قوله: ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له)): استدل به من قال بسقوط الجمعة عمن صلى العيد إذا وافق العيد يوم الجمعة، وهو محكي عن أحمد ، وأجيب بأن قوله: ((أذنت)) ليس فيه تصريح بعدم العود، وأيضًا: فظاهر الحديث في كونهم من أهل العوالي ؛ أنهم لم يكونوا ممن تجب عليهم الجمعة لبُعد منازلهم عن المسجد، وقد ورد في أصل المسألة حديث مرفوع)).اهـ.
(13) قوله:((صبح)) ليس في (ح)، وفي (س): ((الصبح صبح الجمعة)).
(14) في (ز) و(س): ((المودية)).(2/517)
الناس، وقد علل بخوف زيادة سجدة في صلاة الفرض، وهو تعليل فاسد بشهادة هذا الحديث (1) .
**************
( 9 ) باب ما جاء في التنفل بعد الجمعة
38- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((إِذَا صَلَّيْتُمْ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَصَلُّوا أَرْبَعًا)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَإِنْ عَجِل بِكَ شَيْءٌ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَيْنِ إِذَا رجِعْتَ)).
وَفِي لَفظٍ آخَر: ((مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا)).
39- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ (3) ووَصَفَ تَطَوُّعَ صَلاةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: وَكَانَ لا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التنفل (4) بعد الجمعة
أَرْبَعًا))؛ أي: إذا أردتم أن تصلوا نفلاً؛ كما قال في الرواية الأخرى: ((مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا)). قال الإمام (5) : وكل (6) هذا إشارة إلى ترك الاقتصار على ركعتين؛ لئلا تلتبس الجمعة بالظهر التي هي أربع على الجاهل، أو لئلا يتطرق أهل البدع إلى صلاتها ظهرًا أربعًا، وإلى الأخذ بظاهر هذا الحديث ذهب أبوحنيفة وإسحاق؛ فقالا: يصلي أربعًا لا يفصل بينهن. وروي (7) عن جماعة من السلف أنه يصلي بعدها ركعتين، ثم =(2/518)=@
__________
(1) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(2) أخرجه مسلم (2/600 رقم 881) في الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة.
(3) أخرجه مسلم (2/600 رقم 882-71) في الموضع السابق.
(4) في (ح): ((النفل)).
(5) أي: المازري في كتاب "المعلم" (1/319).
(6) في (ب): ((وكان)) .
(7) في (ب): ((وورد)) .(2/518)
أربعًا؛ وهو مذهب الثوري وأبي (1) يوسف، لكن استحب أبو يوسف تقديم الأربع على الاثنتين (2) ، واستحب الشافعي التنفل بعدها، وأن الأكثر أفضل. وأخذ مالك برواية ابن عمر رضي الله عنهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي في بيته ركعتين، وجعله في الإمام أشدّ (3) ، ووسع (4) لغيره في الركوع في المسجد؛ مع استحبابه ألاّ يفعلوا. قاله (5) عياض.
والمقصورة: موضع من المسجد، تُقصر على الملوك والأمراء، وأول من عمل ذلك معاوية لما ضربه الخارجي(7)، واستمر العمل عليها لهذه العلة؛ تحصينًا للأمراء، فإن كان اتخادها لغير تلك العلة فلا يجوز، ولا يُصَلَّى فيها؛ لتفريقها الصفوف، وحيلولتها بين الإمام وبين المصلين خلفه ، مع تمكنهم (6) من مشاهدة أفعاله.
وقد أجاز اتخادها (7) بعض المتأخرين لغير التحصين، وفيه بُعْدٌ. واختلف في الصلاة فيها، فأجازه أكثر السلف وصلوا فيها؛ منهم: الحسن والقاسم بن =(2/519)=@
__________
(1) في (ز): ((وأبو يوسف)).
(2) في (ح): ((الثنتين)) .
(3) قوله: ((أشد)) ليس في (أ).
(4) في (ح): ((واوسع)) .
(7) أما صلاة معاوية رضي الله عنه في المقصورة فثابت في هذا الحديث عند مسلم، وأما صلاته فيها لما ضربه الخارجي، وأنه أول من عمل ذلك فلم أجد ما يدل عليه.
(5) في (أ): ((قال)).
(6) قوله: ((مع تمكنهم)) ليس في (أ).
(7) في (أ): ((أجازها)) .(2/519)
محمد وسالم وغيرهم، وأباه آخرون وكرهوه، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج عنها إلى المسجد (1) ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، غير أن إسحاق قال: فإن صلى أجزأته، وقيل: هذا إذا كانت مباحة، فإن كانت محجورة إلا على آحاد؛ لم تجز فيها الجمعة؛ لأنها بتحجيرها خرجت عن حكم (2) الجامع المشترط (3) في الجمعة.
40- وَعَنِ السَّائِبِ ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ (4) قَال: صَلَّيْتُ مَعْ مُعَاوِيَةُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: لا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ، إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلا تَصِلْهَا بِصَلاةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَلا تُوصَلَ صَلاةٌ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : ((أَلا تُوصَلَ (5) بِصِلاةٍ))، هكذا إحدى الروايتين، وقد روي : ((ألا نُوصَل (6) صلاةً))، فالأولى (7) : ((توصل (8) ))- بالتاء -: مبني لما لم يُسَمّ فاعله، وفيه ضمير هو المفعول (9) الذي لم يسم فاعله، و((بصلاة)) متعلق به. فعلى هذه (10) يكون النهي مخصوصًا بالجمعة لفظًا. والرواية الأخرى : ((نُوصل))، - بالنون-: مبني للفاعل، و((صلاة)) (11) مفعول، وهذا اللفط يعم جميع الصلوات.
ومقصود هذا الحديث منع ما يؤدي إلى الزيادة على الصلوات المحدودات، والله أعلم. =(2/520)=@
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (1/402 رقم4619) في الصلاة، باب: من كره ذلك، عن وكيع، عن عيسى، عن نافع: أن ابن عمر كان إذا حضرته الصلاة وهو في المقصورة خرج إلى المسجد. وفي سنده عيسى بن أبي عيسى الحنّاط، ويقال: الخياط، والخبّاط ؛ لكونه قد عالج الصنائع الثلاثة، وهو متروك كما في "التقريب" (ص 770 رقم5352).
وفي طبقته: عيسى بن حفص، وهو ثقة، ويروي عن نافع، وعنه وكيع، لكن الذي في إسناده ابن أبي شيبة هو الحناط - فيما يظهر -، فإنه أهمله في هذا الإسناد لكونه صرح به في إسناد الحديث رقم (4617) المتقدم على الذي قبله.
(2) قوله: ((حكم)) ليس في (ح).
(3) في (ح): ((المشترك)) .
(4) أخرجه مسلم (2/601 رقم 883) في الكتاب والباب السابقين.
(5) .في (ز) و(س): ((يوصل)).
(6) في (أ) و(ز): ((توصل)) .
(7) في (ز) و(س): ((بالأولى)).
(8) قوله: ((توصل)) سقط من (ز) و(س).
(9) في (ب): ((للمفعول)) .
(10) في (ز) و(س): ((هذا)).
(11) في (ز) و(س): ((والصلاة)).(2/520)
************
( 10 ) باب التغليظ في ترك الجمعة
41- عَنْ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ (1) أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التغليظ في ترك الجمعة
قوله: ((لَيَنْتَهِيَنَّ (2) أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ))؛ أي: تركهم. قال شمر: زعمت النحوية: أن العرب أماتوا مصدره وماضيه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب (3) .
قال الشيخ رحمه الله (4) : وقد قرأ ابن أبي عبلة (5) : {ما ودعك ربك وما قلى} (6) مخفَّفًا؛ أي: ما تركك، والأكثر في الكلام ما ذكره شمر عن النحويين.
وقوله (7) : ((أَوْ لَيَخْتِمَنَّ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ)): حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها.
والختم: الطبع، وأصله من: ختمت الكتاب؛ إذا طبعته بطابعه، وهو في الحقيقة عبارة عما يخلقه الله تعالى في قلوبهم من الجهل والجفاء والقسوة، وهذا مذهب أهل السنة، وقال غيرهم من أهل الأهواء: هو الشهادة عليهم بما فيها، وقيل عن بعضهم: هو عَلَمٌ جعله الله تعالى في قلوبهم لتعرف الملائكة فرق ما بين من يجب مدحه ممن يجب ذمُّه (8) .
وجمهور الأئمة على أنها فرض من فروض الأعيان. وروي عن بعض الشافعية: أنها من فروض الكفاية. وقد نَقَل عن مالك من لم يُحقق أنها سنة، وتوّهم على مالك أنه يقول: إنها من قبيل المندوب المتأكد، وليس بصحيح من مذهبه، ولا من (9) مذاهب =(2/521)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/591 رقم 865) في الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة.
(2) في (ح): ((فلينتهين)) .
(3) قوله: ((العرب)) ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(س).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ)، وفي (ب): ((قال الشيخ رحمه الله))، والمثبت من (ح).
(5) في (ح): ((ابن أبي علية)) .
(6) سورة الضحى، الآية: 3.
(7) في (ب): ((قوله)) .
(8) في تفسير قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} سورة البقرة، الآية: 7 ؛ ذكر ابن جرير في "تفسيره" (1/258-260) أقوال الناس في معنى الآية، ثم قال:((والحق في ذلك عندي ما صحّ بنظيره الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...))، ثم ذكر بسنده حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقلت قلبه، فإن زاد زادت حتى تغلق قلبه، فذلك الرّان الذي قال الله جلّ ثناؤه: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون})) سورة المطففين، الآية: 14، ثم قال ابن جرير: ((فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجلّ والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك، ولا للكفر منها مخْلّص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}، نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصلّ إلى ما فيها إلا بفضّ ذلك عنها ثمّ حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصفه الله أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضّه خاتمه وحلّه رباطه عنها.
ويقال لقائلي القول الثاني، الزاعمين أن معنى قوله جل ثناؤه: { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}، هو وصفُهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دعوا إليه من الإقرار بالحق تكبّرًا: أخبرونا عن استكبار الذين وصفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة، وإعراضهم عن الإقرار بما دُعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللَّواحق به؛ أفعلٌ منهم، أم فعلٌ من الله تعالى ذكرُه بهم؟
فإن زعموا أن ذلك فعلٌ منهم - وذلك قولهم -؛ قيل لهم: فإن الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وسمعهم. وكيف يجوز أن يكون إعراض الكافر عن الإيمان، وتكبُّره عن الإقرار به - وهو فعله عندكم - ختمًا من الله على قلبه وسمعه، وختمهُ على قلبه وسمعه، فعلُ الله عزّ وجلّ دون الكافر؟
فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبُّره وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه، فلما كان الختم سببًا لذلك، جاز أن يسمى مُسبِّبه به - تركوا قولهم، وأوجبوا أن الختم من الله على قلوب الكفار وأسماعهم، معنى غيرُ كفر الكافر، وغير تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به. وذلك الدخول فيما أنكروه.
وهذه الآية من أوضح الدليل على فساد قول المنكرين تكليف ما لا يُطاق إلا بمعونة الله ؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه ختم على قلوب صنف من كفّار عباده وأسماعهم، ثم لم يسقط التكليف عنهم، ولم يضع عن أحدٍ منهم فرائضه، ولم يعذره في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه؛ بل أخبر أن لجميعهم منه عذابًا عظيمًا؛ على تركهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه، مع ختمه القضاء عليهم مع ذلك بأنهم لا يؤمنون)) .اهـ.
(9) قوله: ((من)) ليس في (ب).(2/521)
أصحابه، لكن روى ابن وهب عنه لفظًا غلط في تأويله بعض المتأولين، وذلك: أنّ ابن وهب روى عن مالك في القرى المتصلة البيوت وفيها جماعة من المسلمين، قال: ينبغي (1) لهم أن يجمِّعوا، إذا كان إمامهم يأمرهم أن يجمعوا وليؤَمِّروا (2) رجلاً فيجمِّع بهم؛ لأن الجمعة سنة. هذا نص كلامه، وظاهره: أن التجميع على هذه الحالة من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أي: من طريقته التي كان يسلكها، والله أعلم. =(2/522)=@
__________
(1) في (ح): ((وينبغي)) .
(2) في (ح): ((فليأمروا))، وفي (ز) و(س): ((ويأمروا)).(2/522)
*************
أبواب صلاة العيدين
باب الخروج إلى المصلى في العيدين وخروج النساء
1- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الأَضْحَى، فَيَبْدَأُ بِالصَّلاةِ، فَإِذَا صَلَّى صَلاَتْهُ وَسَلَّمَ، قَامَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي مُصَلاهُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِبَعْثٍ ذَكَرَهُ لِلنَّاسِ، أَوْ كَانَتْلَهُ حَاجَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِهَا. وَكَانَ يَقُولُ: ((تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقُوا))، وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، حَتَّى كَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَخَرَجْتُ مُخَاصِرًا مَرْوَانَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْمُصَلَّى، فَإِذَا كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ قَدْ بَنَى مِنْبَرًا مِنْ طِينٍ وَلَبِنٍ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُنَازِعُنِي يَدَهُ، كَأَنَّهُ يَجُرُّنِي نَحْوَ الْمِنْبَرِ، وَأَنَا أَجُرُّهُ نَحْوَ الصَّلاةِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْهُ. قُلْتُ: أَيْنَ الابْتِدَاءُ بِالصَّلاةِ؟ فَقَالَ: لا، يَا أَبَا سَعِيدٍ ! قَدْ تُرِكَ مَا تَعْلَمُ. قُلْتُ: كَلا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! لا تَأْتُونَ بِخَيْرٍ مِمَّا أَعْلَمُ - ثَلاثَ مِرَارٍ - ثُمَّ انْصَرَفَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن (2) أبواب العيدين
سُمِّي العيد عيدًا؛ لعوده وتكرره (3) في كل سنة، وقيل: لعوده بالفرح والسرور، وقيل: يُسمّي (4) بذلك على جهة التفاؤل؛ لأن (5) يعود على من أدركه.
واختلف في حكم صلاة العيدين، فالجمهور على أنها سنة، وعن أبي حنيفة: أنها واجبة. وقال الأصمعي: إنها فرض. =(2/523)=@
__________
(1) أخرجه البخاري ( 2/448 رقم 956) في العيدين، باب: الخروج إلى المصلى بغير منبر، وانظر (1/405 رقم 304) في الحيض، باب ترك الحائض الصوم، ومسلم (2/605 رقم 889) في صلاة العيدين، باب منه.
(2) في (أ): ((من)) .
(3) في (أ): ((وتكراره)) .
(4) في (ز) و(س): ((سُمّي)).
(5) في (ز) و(س): ((لأنه)).(2/523)
وقوله: ((مُخَاصِرًا مَرْوَانَ))؛ أي: محاذيًا له، وأصله من الخصر، وكأنه حاذى خاصرته.
وقوله: ((يُنَازِعُنِي يَدَهُ))؛ أي: يجاذبني، و((كلاًّ)) بمعنى: ((لا))؛ كما قال الشاعر (1) :
فقالوا (2) قد بَكَيَْت فَقُلتُ: كَلاَّ
أي: لا (3) . وقد تقدم ذكر أول من قدم الخطبة على الصلاة في الإيمان (4) .
2- وعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ (5) قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالأَضْحَى، الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاةَ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ! إِحْدَانَا لا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ. قَالَ: لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا)).
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ: الْحُيَّضُ يَخْرُجْنَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، يُكَبِّرْنَ مَعَ النَّاسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أم عطية: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُخْرِجَهُنَّ))؛ تعني (6) : النساء، والضمير عائد على نساء جرى ذكرهن، وقد أبدلت من ضميرهن بقولها (7) : ((الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ)). ولا يصح أن يُستدل بهذا الأمر على وجوب صلاة العيدين والخروج إليهما (8) ؛ لأن هذا الأمر إنما توجه لمن ليس بمكلف بالصلاة باتفاق؛ كالحيَّض، وإنما مقصود هذا الأمر تدريب (9) الأصاغر على الصلاة، وشهود =(2/524)=@
__________
(1) والقائل هو قيس بن الملوح مجنون ليلى ؛ فالبيت في ديوانه (ص 62)، ولفظه بتمامه:
فقلن لقد بكيت فقلت كلا وهل يبكي من الطرب الجليد
وذكره ابن قتيبة في "أدب الكاتب" (25) ولم ينسبه لأحد، وذكر محقق الكتاب الأستاذ علي فاعور أن البيت نسب لبشار بن برد، ونسب أيضًا لأبي جنة الأسدي.
(2) في (ح):((وقالوا)) .
(3) قوله: ((أي لا)) ليس في (ز) و(س).
(4) برقم (39) في الإيمان، باب تغيير المنكر من الإيمان.
(5) أخرجه البخاري (1/423 رقم 324) في الحيض، باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى، ومسلم (2/60 رقم 890-12) في صلاة العيدين، باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات للر جال.
(6) في (ز): ((يعني)).
(7) في (أ): ((بقوله)) .
(8) في (ز) و(س): ((إليها)).
(9) في (ز): ((تدرب)).(2/524)
دعوة المسلمين، ومشاركتهن (1) في الثواب والخير، وإظهار جمال الدين.
والعاتق: الجارية حين تدرك. قال ابن السِّكِّيت: العاتق: فيما بين أن تدرك إلى أن تُعَنِّس ما لم تتزوج. وا لخدور: البيوت، وأصله: الهودج، وتعني (2) (3) به: المخبآت.
وهذا الحديث حجة على خروج النساء في العيدين، وهو مذهب جماعة من السلف؛ منهم: أبو بكر (4) ، وعمر (5) ، وعلي (6) ، وابن عمر (7) ، وغيرهم، ومنهم من منعهن من ذلك جملة؛ منهم: عروة، والقاسم، ومنهم من منع الشابة دون غيرها؛ منهم: عروة، والقاسم في قول آخر (8) ، ويحيى بن سعيد، وهو مذهب مالك وأبي يوسف. واختلف قول أبي حنيفة في ذلك بالإجازة والمنع، وكأنَّ مستند المانع: ما أحدثه (9) النساء من التبرج (10) والزينة الظاهرة.
وقوله: ((فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاةَ))؛ أي: موضع (11) الصلاة؛ كما قال في الرواية الأخرى: فيكنّ (12) خلف الناس. وهذا تنزيه للصلاة وللمصلين (13) من اختلاط النساء بهنّ، ولئلا تظهر (14) مخالفة من لا يصلّي ممن (15) يصلّي.
و((الجلباب)): ا لإزار، وجمعه: جلابيب (16) ، وقيل: هي المقنعة، وقيل: هو كالملاءة والملحفة، وقيل: الخمار. وظاهر قوله: ((لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا)) (17) : يعني: لتُعِرْها (18) من ثيابها، وقيل: هو على المبالغة؛ يعني: أنه تخرج اثنتان (19) في لحاف واحد.
وقوله : ((يُكَبِّرْنَ (20) مَعَ النَّاسِ))؛ يعني: إذا كبروا (21) .
والتكبير في العيد له أربعة =(2/525)=@
__________
(1) في (ح) و(ب) و(ز) و(س): ((ومشاركتهم)) .
(2) كتب بجانبها في الهامش [تراجع].
(3) في (ز) و(س): ((ويعني)).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (2/3 رقم5784) في الصلاة، باب من رخص في خروج النساء إلى العيدين، عن حفص، عن الحسن بن عبيدالله، عن طلحة اليامي، قال: قال أبوبكر: ((حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين)) .
وسنده ضعيف لإرساله ؛ فإن طلحة بن مصرِّف اليامي لم يدرك أبا بكر رضي الله عنه ، وكانت وفاة طلحة سنة اثنتي عشرة - أو ثلاثة عشر - ومائة. انظر "تهذيب الكمال" (13/437).
(5) لم أجده.
(6) أخرجه ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (5785) في الصلاة، وابن المنذر في "الأوسط" (4/262 رقم 2127) كلاهما عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي ؛ قال: ((حق على كل ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين))، ولم يكن يرخص لهن في شيء من الخروج إلا إلى العيدين.
وسنده ضعيف ؛ لضعف الحارث، وهو ابن عبدالله الأعور.
(7) أخرجه ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (5786) في الصلاة، وابن المنذر في "الأوسط" (4/262-263 رقم 2128) كلاهما من طريق ابن علية، عن أيوب، عن نافع قال: كان ابن عمر يخرج من استطاع من أهله.
وسنده صحيح.
(8) في (ح) و(ز) و(س): ((آخر لهما))، وكذا في (ب)، ثم شطب على قوله: ((لهما)).
(9) في (ب): ((المنع ما أحدث)) .
(10) في (أ): ((التبرز)).
(11) في (أ): ((مواضع)).
(12) في (ح) و(ز) و(س): ((يكن)) .
(13) في (أ): ((وللمصلى)).
(14) في (ز) و(س): ((يظهر)).
(15) في (أ) و(س)ك ((بمن)). وفي (ز): ((من)).
(16) في (ح): ((جلاليب)) .
(17) مابين المعكوفين سقط من النسخ (أ) و(ب) و(ح) و(ز) و(س)، فتم استدراكه من "الإكمال" للقاضي عياض (3/302).
(18) في (ز) و(س): ((لتعيرها)).
(19) في (أ) و(س): ((يخرج اثنان)). وفي (ز): ((تخرج اثنان)).
(20) في (أ): ((يكون)) .
(21) في (أ): ((أنه أكبروا)) .(2/525)
مواطن: في الخروج إلى المصلى إلى حين (1) يخرج الإمام للصلاة، والتكبير في الصلاة (2) (3) ، والتكبير في الخطبة بتكبير الإمام، والتكبير أيام التشريق خلف الصلوات، على الخلاف في هذه الجملة، وسيأتي (4) ذكر بعضه والله أعلم (5) .
*************
( 2 ) باب لا صلاة قبل صلاة العيدين في المصلى ولا أذان ولا إقامة
3- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (6) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَوْمَ أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهمَا وَلا بَعْدَهَما، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلالٌ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَتُلْقِي سِخَابَهَا.
4- وَعَنْ عَطَاء، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيِّ (7) قَالا: لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلا يَوْمَ الأَضْحَى. ثُمَّ سَأَلْتُهُ بَعْدَ حِينٍ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَنِي عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيُّ: أَنْ لا أَذَانَ لِلصَّلاةِ يَوْمَ الْفِطْرِ حِينَ يَخْرُجُ الإِمَامُ، وَلا بَعْدَ مَا يَخْرُجُ، وَلا إِقَامَةَ، وَلا نِدَاءَ، وَلا شَيْءَ. لا نِدَاءَ يَوْمَئِذٍ وَلا إِقَامَةَ.
5 - وَعَنْ جَابْر بْنِ سَمُرَةَ (8) قالَ: صَلِّيْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعِيدَيْنِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب لا صلاة قبل صلاة العيدين ولا بعدهما
خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى دليل على أن مشروعية صلاة العيدين الخروج إلى المصلى، وهو الذي عمل عليه الناس. وحكمته إظهار جمال الإسلام، والمباهاة، والغلظة على الكفار. وتستوي (9) في ذلك البلاد كلها مع التمكن؛ إلا مكة، فإنه لا يخرج منها في العيدين لخصوصية ملاحظة البيت.
وقوله : ((فَأَمَرَ (10) النِّسَاءَ بِالصَّدَقَةِ))؛ أي: نَدبَهن إليها وحضّهن عليها. =(2/526)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((أن)) بدل ((حين)).
(2) قوله:((والتكبير في العيد له أربع مواطن...)) إلى هنا ليس في (ح).
(3) في (ز) ((الصلوات))
(4) في (أ): ((سيأتي)) بلا واو.
(5) قوله: ((والله أعلم)) من (ز) فقط.
(6) أخرجه البخاري (3/299 رقم 1431) في الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، وذكر أطرافه في (1/192 رقم 98)، ومسلم (2/602 رقم 884) في صلاة العيدين، باب منه
(7) أخرجه البخاري ( 2/451 رقم 960) في العيدين، باب المشي والركوب إلى العيد بغير أذان ولا إقامة، ومسلم (2/604 رقم 886) في صلاة العيدين، باب منه.
(8) أخرجه مسلم (2/604 رقم 887) في صلاة العيدين، باب منه.
(9) في (أ): ((وتستويان))، وفي (ز) و(س): ((ويستوي)) .
(4) قوله: ((وقال عبدالرزاق...)) إلى هنا ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(س).
(10) في (ز) و(س): ((يأمر)).(2/526)
و((الخُرص)): حلقة تعلّق في الأذن، و((الفتحة)): ما يلبس (1) في أصابع اليد، وجمعها: فَتَخَات، وفَتَخٌ (2) ؛ قاله (3) ابن السِّكِّيت، وقال الأصمعي: هي خواتيم (4) لا فصوص لها، وتجمع أيضًا: فِتَاخٌ. وقال عبدالرزاق: الفتخ: الخواتيم العظام كانت تصنع في الجاهلية(4). و((السِّخَاب)): خيط فيه خرز، وجمعه: سُخُبٌ؛ مثل: كتاب وكتب. وقال البخاري (5) : ((هي قلادة من طيبٍ أو مسكٍ)). غيره (6) : أو قرنفل، ليس فيه من الجوهر شيء. و((الأقرطة)): جمع قرط، وقيل: صوابه: قرطة، وأقراط، وقرّاط وقروط، وقيل: لا يبعد أن يكون جمع قراط (7) . قال ابن دريد: كل ما علق من شحمة الأذن فهو: قرط، كان من ذهب أو خرز.
وكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلّ قبلهما ولا بعدهما حجة لمالك وجماعة من السلف على الشافعي وجماعة؛ حيث أجازوا الصلاة قبلهما وبعدهما، وعلى الكوفيين =(5/527)=@
__________
(1) في (أ): ((يعلق)).
(2) قوله: ((وفَتَخٌ)) سقط من (ز) و(س).
(3) في (أ): ((قال)).
(4) في (ز) و(س): ((خواتم)).
(5) في "صحيحه"(10/330)، ولفظه: ((باب القلائد والسخاب للنساء، يعني قلادة من طيب وسُكٍّ)) . وقال الحافظ في "الفتح": «بضم المهملة وتشديد الكاف، وفي رواية الكشميهني: ((ومسك)) بكسر الميم وسكون المهملة وكاف خفيفة».
(6) قوله:((غيره))؛ أي: قال غير البخاري من أهل اللغة ؛ كما في "الإكمال" (3/291).
(7) قوله: ((وقرّاط وقروط، وقيل: لا يبعد أن يكون جمع قراط)) ليس في (ب) و(ز) و(س)، وفي (ح) أشير إلى إلغائه بعلامة الإلغاء: ((لا – إلى))، والمثبت من (أ).(2/527)
والأوزاعي؛ حيث أجازوا الصلاة بعدهما ومنعوها قبلهما، لكن خصّ مالك المنع (1) بما إذا صُليا خارج المصر أخذًا بموجب فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤذن لهما، ولم يُقِم؛ دليل على أن ذلك ليس مشروعًا فيهما، ولا في غير الفرائض من السنن الراتبة، وهو (2) المعلوم من عمل الناس (3) بالمدينة وغيرها، وروي: أن معاوية أحدث الأذان لهما (4) ، وقيل: زياد (5) ، وهو الأشبة، وهذا الحديث وغيره يرد على من أخذ بذلك.
************
باب الصلاة فيهما قبل الخطبة
6- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (6) قَالَ: شَهِدْتُ صَلاةَ الْفِطْرِ مَعَ النَبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ، قَالَ: فَنَزَلَ نَبِيّ الله - صلى الله عليه وسلم - كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى جَاءَ النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلالٌ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِالله شَيْئًا...}، فَتَلا هَذِهِ الآيَةَ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْهَا: ((أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكِ؟)) فَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا مِنْهُنَّ: نَعَمْ، يَا نَبِيَّ الله. لا يُدْرَى حِينَئِذٍ مَنْ هِيَ. قَالَ: ((فَتَصَدَّقْنَ)) فَبَسَطَ بِلالٌ ثَوْبَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَلُمَّ، فِدًى لَكُنَّ أَبِي وَأُمِّي، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِمَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ.
7- وَعَنْهُ (7) قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، قَالَ: ثُمَّ خَطَبَ، فَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ، قَالَ: فَأَتَاهُنَّ، فَذَكَّرَهُنَّ، وَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، وَبِلالٌ قَائِلٌ بِثَوْبِهِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْخَاتَمَ وَالْخُرْصَ وَالشَّيْءَ.
8- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ (8) : أَنَّ النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تقديم الصلاة على الخطبة
قد (9) قدّمنا ذكر من قدّم الخطبة على الصلاة وهذا الحديث وما في معناه، ونقل أهل المدينة المتصل؛ يردان (10) على من قدم الخطبة على الصلاة فيهما، ولا قائل به اليوم من فقهاء الإسلام. =(2/528)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((هذا المنع)).
(2) في (ز) و(س): ((وهذا)).
(3) قوله: (الناس)) ليس في (أ). في (أ): ((المدينة)).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (1/491 رقم5664) في الصلاة، باب من قال: ليس في العيدين أذان ولا إقامة، عن وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن ابن المسيب قال: أول من أحدث الأذان في العيدين معاوية.
وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/453).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (5668) عن ابن إدريس، عن حصين قال: أول من أذن في العيد زياد.
وعلقه ابن المنذر في الأوسط (4/259).
سنده صحيح إن سلم من تغيّر حصين بن عبدالرحمن السلمي.
(6) أخرجه البخاري ( 8/638 رقم 4895) في التفسير، باب: { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك }، وذكر أطرافه في (1/192 رقم 98)، ومسلم (2/602 رقم 884) في صلاة العيدين، باب منه.
(7) أخرجه مسلم (2/602 رقم 884) في صلاة العيدين، باب منه.
(8) أخرجه البخاري ( 2/453 رقم 963) في العيدين، باب الخطبة بعد العيد ، وذكر أطرافه في (2/451 رقم 157)، ومسلم (2/605 رقم 888) في الكتاب والباب السابقين.
(9) قوله: ((قد)) ليس في (ز) وفي مكانها ما يشبه ((لا)).
(10) في (أ): ((يرد)) .(2/528)
وقوله : ((يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ))، يعني: يشير عليهم بالجلوس، وكأنهم ظنوا أنه قد كمّل الخطبة.
وأما نزوله - صلى الله عليه وسلم - إلى النساء؛ فذلك ليسمعهن (1) ، وقيل: هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يجوز للإمام اليوم قطع الخطبة ووعظ من بَعُد عنه. ويظهر أن دعوى خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فيه بعد؛ لعدم البيان، وإنما يحمل (2) هذا - والله أعلم- على أنه لم يقطع الخطبة، ولم يتركها تركًا متفاحشًا، وإنما كان ذلك كله قريبًا؛ إذ (3) لم يكن المسجد كبيرًا، ولا صفوف النساء بعيدة، ولا محجوبة، والله أعلم.
وفيه من الفقه: هبة المرأة اليسير من مالها بغير إذن زوجها، ولا يقال في هذا: إن أزواجهن كانوا حُضُورًا؛ لأن ذلك لم ينقل، ولو نُقل ذلك فلم ينقل تسليم أزواجهن في ذلك، ومن ثبت له حق فالأصل بقاؤه حتى يُصرِّح بإسقاطه، ولم يصرِّح القوم ولا نُقل ذلك، فصحّ ما قلناه.
وقوله : ((فَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ)) إلى قوله : ((لا يُدْرَى (4) حِينَئِذٍ مَنْ هِيَ؟)) هكذا عند جميع الرواة؛ غير أن بعضهم يقول: ((لا يدري حَسَنٌ من هي؟))، وكذا ذكره البخاري (5) ، =(2/529)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((يحتمل)). وفي (أ): ((محمل)).
(2) في (ز): ((ليسمعن)).
(3) في (أ): ((إذا)) .
(4) في (ب): ((ولا ندري))، وفي (أ) و(ز) و(س): ((لا يدري)) بلا واو.
(5) في"صحيحه"(2/466-467) (979)في العيدين، باب موعظة الإمام النساء يوم العيد.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(2/466-467): «حسن هو الراوي له عن طاوس، ووقع في "مسلم" وحده: ((لا يُدرى حينئذ))، وجزم جمع من الحفاظ بأنه تصحيف، ووجهه النووي بأمر محتمل، لكن اتحاد المخرج دالّ على ترجيح رواية الجماعة؛ ولاسيّما وجود هذا الموضع في مصنف عبدالرزاق الذي أخرجناه من طريقه؛ كما في البخاري موافقًا لرواية الجماعة». اهـ.(2/529)
ويعني به: الحسن بن مسلم راوي الحديث عن طاوس في كتاب مسلم وغيره ولعل قولهم ((حينئذ)) تصحيفُ ((حسن (1) ))؛ قاله الإمام (2) ، وقال القاضي عياض (3) : هو تصحيف بلا شك. =(2/530)=@
__________
(1) قوله: ((حسن)) ليس في (أ).
(2) أي: المازري.
(3) قوله: ((عياض)) ليس في (ز) و(س) و(أ).(2/530)
***********
(4) باب ما يقال في الخطبة
9- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله (1) قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، - وَفِي رِوَايَةٍ: يَوْم الْفِطْر- فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى الله، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَقَالَ: ((تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ، سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ)). قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ، يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءَ: زَكَاةُ الفِطْرِ؟ قَالَ: لاَ وَلَكِنْ صَدَقَةً يَتَصَدَّقْنَّ بِهَا حِيْنَئِذٍ. تُلْقِيْ الَمَرْأَةُ فَتَخَهَا، وَيُلْقِيْنَ وَيُلْقِيْنَ. قُلْتُ لِعَطَاءَ: أَحَقًْا عَلَىَ الإِمَامِ الآنَ أَنْ يَأْتِيَ النِسْاءَ حِيْنَيفرَغَ فَيُذَكِّرْهُنَّ؟ لَعَمْرِيْ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌ عَلِيْهِم، وَمَا لَهُمْ الآنَ لاَيَفْعَلُوْنَ ذَلِكَ ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في "الأم": ((فقالت (2) امرأة من سِطة النساء (3) ))؛ أي: من خيار النساء، يقال: فلان من أوسط قومه، وواسطة قومه، ووسيط قومه (4) ، وقد وَسَطَ وساطة، وسِطةً. قال القاضي: كذا (5) وقع هذا الحرف (6) عند عامة شيوخنا، وسائر الرواة؛ إلا فيما أتى به الخشني والطبري، فإنهما ضبطاه: ((واسطة))، وهو قريب من التفسير الأول، لكن حذّاق شيوخنا زعموا: أن هذا الحرف مغيَّر في كتاب مسلم، وأن صوابه : ((من سفلة النساء)) (7) ، ويؤيِّده: قول من رواه: ((ليست من عِلْيَةِ النساء)) (8) ، ويعضده أيضًا (9) قوله بعد: ((سفعاء الْخَدَّين))، والسُّفعة: شُحوب بسواد.
وقوله : ((تُكْثِرْنَ (10) الشَّكَاةَ))؛ يعني: التشكي با لأزواج؛ أي: يكتمن الإحسان، ويظهرن (11) التشكِّي كثيرًا، و((الْعَشِيرَ)): الزوج، وهو معدول (12) عن اسم الفاعل للمبالغة؛ من =(2/531)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (2/451 رقم 961) في العيدين، باب المشي والركوب إلى العيد بغير إذن ولا إقامة، ومسلم (2/603 رقم 885) في صلاة العيدين، باب منه.
(2) كذا في (أ) و(ب) و"شرح النووي" (6/175)، ووقع في (ح) ونسخ "صحيح مسلم" المطبوعة:((فقامت)) بدل: ((فقالت)) .
(3) قوله: ((النساء)) ليس في (أ).
(4) قوله: ((ووسيط قومه)) ليس في (ح).
(5) في (ب): ((وكذا)) .
(6) في (ز): بدون ف ((الحر)).
(7) أخرجه أحمد (3/318)، والدارمي (1/377-378) في الصلاة، باب الحث على الصدقة يوم العيد، والنسائي (3/186-187 رقم1575) في العيدين، باب قيام الإمام في الخطبة متوكئًا على إنسان.
(8) أخرجه الحميدي (1/51-52 رقم92)، وأحمد (1/376و423و425و436)، والدارمي (1/237) في الطهارة، باب الحائض تسمع السجدة فلا تسجد، والنسائي في "الكبرى" (5/398 رقم9257)، وأبو يعلى (9/48-49و77و187 رقم5112و5144 و5284)، وابن حبان (8/115-116 رقم3323/الإحسان)، والحاكم (2/190).
جميعهم من طريق ذر بن عبدالله، عن وائل بن مهانة، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه قال للنساء:((تصدقن...)) الحديث، وفيه: ((قالت امرأة ليست من علية النساء)) .
والحديث صححه ابن حبان، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (5/196 رقم3569).
وفي سنده وائل بن مهانة، ولم يرو عنه غير ذر بن عبدالله الهمداني، وقال ابن سعد في "الطبقات" (6/203): ((وكان قليل الحديث))، وقال الذهبي في "الميزان" (4/331 رقم9335): ((لا يعرف، له حديث واحد))، وقال ابن حجر في "التقريب" (ص1035 رقم7445):((مقبول))، لكن ذكره ابن حبان في "الثقات" (5/495) وصحح حديثه كما تقدم، وهو من كبار التابعين، فقد ذكره ابن سعد ومسلم في الطبقة الأولى من أهل الكوفة؛ كما في "تهذيب التهذيب"(4/ 305)، وهو من أصحاب ابن مسعود ؛ كما حكاه البخاري في "تاريخه الكبير" (8/176) عن شعبة، وقد توبع على الحديث كما هو معلوم.
(9) قوله: ((أيضًا)) ليس في (ب).
(10) في (ز) و(س): ((يكثرن)).
(11) في (ب):((ويكثرن)) .
(12) تراجع في (ز).(2/531)
المعاشرة والعشرةَ: وهي الخلطة، قال الخليل: يقال: هذا عشيرك، وشعيرك، على القلب.
************
( 5 ) باب مايقرأ به في صلاة العيدين
10- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (1) ؛ أَنَهُ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِـ{ ق ( وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ }، و { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سؤال (2) عمر - رضي الله عنه - أبا واقد عما صلى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العيدين: يحتمل أن يكون اختبارًا لحفظ أبي واقد، ويحتمل أن يكون استشهد به على من نازعه في ذلك، ويجوز أن يكون نَسي فاستذكر بسؤاله. =(2/532)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/607 رقم 891) في صلاة العيدين، باب مايقرأبه في صلاة العيدين.
(2) في (أ) و(ز) و(س): ((وسؤال)).(2/532)
وتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيدين بقراءة تينك السورتين؛ لما تضمنتاه من المعاني المناسبة لأحوال الخارجين إلى العيد، واجتماعهم، وصدورهم؛ فإنها تذكر بأحوال الآخرة منزلة منزلة، وفيه دليل على سنة الجهر بالقراءة فيهما، ولا خلاف فيه (1) .
**********
( 6 ) باب الفرح واللعب في أيام الأعياد
11- عَنْ عَائِشَةَ (2) قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ، تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ. قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((يَا أَبَا بَكْرٍ ! إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((تَلْعَبَانِ بِدُفٍّ)).
وَفِي أُخْرَى (3) : وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسَجًّى بِثَوْبِهِ. فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ، فَقَالَ: ((دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ)) وَقَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، وَأَنَا جَارِيَةٌ، فَاقْدِرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْعَرِبَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ. وفي أخرى: الحَرِيصَةِ عَلَى اللهوِ.
وَفِي أُخْرَى: يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ في مَسْجِدِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الفرح واللعب في (4) أيام الأعياد
قول عائشة رضي الله عنها : ((وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ (5) مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ)): الجارية في النساء كالغلام في الرجال، وهما يقالان على من دون البلوغ منهما؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها عن نفسها: ((فاقدروا قدر الجارية العَرِبة))؛ أي: الصغيرة، والعَرِبة: المحبّبة إلى زوجها، وقيل: الغَنِجة (6) ، وقيل: المشتهية للَّعب؛ كما قال في الرواية الأخرى: ((الحريصة على اللهو)) بدل: ((العَرِبة)).
وقولها (7) : ((تُغَنِّيَانِ))؛ أي: ترفعان أصواتهما بإنشاد العرب (8) ، وهو المسمَّى عندهم بالنصب، وهو إنشاد بصوت رقيق فيه تمطط (9) ، وهو يجري مجرى الحداء.
وقولها (10) : ((بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الأَنْصَارُ (11) يَوْمَ بُعَاثَ)): هو بالباء المعجمة بواحدة (12) من =(2/533)=@
__________
(1) في (ز): ((والله أعلم)).
(2) أخرجه البخاري(2/440رقم 949)في العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، ومسلم (2/607 رقم892) في صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لامعصية فيه في أيام العيد.
(3) أخرجها مسلم (2/608 رقم 892-17) في الكتاب والباب السابقين.
(4) قوله: ((في)) ليس في (ز).
(5) في (س): ((جارتان)).
(6) في (س): ((العنجة)).
(7) في (أ): ((وقوله)) .
(8) في (ز) و(س): ((الشعر)).
(9) في (س): ((تمصيط)).
(10) في (أ): ((وقوله)) . ...
(11) في (أ) و(س): ((بما تفاولت الأنصار))، وفي (ز): ((بما تقاولت الأنْصار)).
(12) في (ب): ((الموحدة)).(2/533)
أسفل (1) ، والعين المهملة، كذا (2) رويناه وهو المعروف، وقاله أبو عبيد: بالغين المعجمة، وكان يومًا من أيام الحروب المعروفة بين الأوس والخزرج، كان الظهور فيه للأوس (3) على الخزرج.
وقولها (4) : ((وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ))؛ أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه (5) المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرّز (6) من الغناء المعتاد عند المشتهرين به؛ الذي (7) يُحرِّك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون؛ الذي يحرِّك الساكن ويبعث الكامن. وهذا النوع إذا كان في شعرٍ يشبّب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات؛ لا يختلف (8) في تحريمه؛ لأنه اللهو واللعب المذموم بالاتفاق، فأما ما (9) يسلم من تلك المحرمات، فيجوز القليل منه في (10) أوقات الفرح؛ كالعرس (11) والعيد، وعند (12) التنشيط على الأعمال الشاقة، ويدل على جواز هذا النوع هذا الحديث وما في معناه، على ما يأتي في أبوابه؛ مثل ما جاء في الوليمة (13) ، وفي حفر الخندق (14) ، وفي حدو أنجشة (15) (16) ، وسلمة بن الأكوع (17) (18) .
فأما ما أبتدعته (19) الصوفية اليوم من الإدمان على سماع (20) المغاني بالآلات (21) المطربة؛ فمن قبيل ما لا يُختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية والأغراض الشيطانية قد غلبت على كثير ممن نُسِب (22) إلى الخير وشُهر بذكره، حتى عموا عن تحريم ذلك وعن فحشه؛ حتى قد ظهرت من كثير منهم عوارات (23) الْمُجَّان والمجانين (24) ، والصبيان، فيرقصون (25) ويزقنون بحركات متطابقة (26) ، وتقطيعات متلاحقة؛ كما يفعل أهل السَّفَه والمجون، وقد انتهى التواقح بأقوام منهم إلى أن يقولوا: إن تلك الأمور من أبواب (27) القرب وصالحات الأعمال، وأن ذلك يُثمر صفاء القلوب (28) وسنِيَّات الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة، وقول أهل البطالة والْمَخْرَقَة، نعوذ بالله من البدع والفتن، ونسأله التوبة والمشي على السنن (29) .
وقول أبي بكر : ((أَبِمَزْمُورِ (30) الشَّيْطَانِ ؟)): إنكار منه لما سمع، مستصحبًا =(2/534)=@
__________
(1) قوله: ((بواحدة من أسفل)) ليس في (ب).
(2) في (ح) و(ب) و(ز) و(س): ((هكذا)).
(3) في (أ): ((الأوس)).
(4) في (أ): ((وقوله)).
(5) في (أ): ((يعر فه)).
(6) في (س): ((تحرر)).
(7) قوله: ((الذي)) تكرر في (س).
(8) في (ز): ((لاختلف))، [وتراجع].
(9) في (ح): ((من)).
(10) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((وفي)).
(11) في (أ): )(العرس)).
(12) في (ح): ((وعن)).
(13) لم أجد في "صحيح مسلم" شيئًا يتعلق بالغناء في الوليمة، لكن أخرج البخاري في "صحيحه" (7/315 رقم4001) في المغازي، باب منه، من طريق خالد بن ذكوان، عن الرُّبَيِّع بنت معوِّذ قالت: دخل عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة بُني عليّ، فجلس على فراش كمجلسك مني، وجويرات يضربن بالدُّفّ يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبيّ يعلم ما في غدٍ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين)) .
وأخرج البخاري أيضًا (9/225 رقم5162) في النكاح، باب النسوة التي يهدين المرأة إلى زوجها ودعائهن بالبركة، من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : ((يا عائشة ! ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو)) .
وجاء في بعض طرقه عند الطبراني في "الأوسط" (3/315 رقم3265) وغيره ذكر الأبيات التي يغنين بها في هذا اللهو، وفيها ضعف، وقد حسّنها الشيخ الألباني رحمه الله في "الإرواء" (7/51 رقم1995)، و"آداب الزفاف" (ص 180-181).
(14) وهو الآتي برقم (1298) في الجهاد والسير، باب في التحصين بالقلع وبالخنادق عند الضعف.
(15) قوله: ((أنجشة)) غير واضحة في (س) وفي (ز): ((الحبشة)).
(16) وهو الآتي برقم (2227) في النبوات، باب في رحمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصبيان والعيال والرقيق.
(17) في حاشية (ب): ((صوابه عامر بن الأكوع عم سلمة بن الأكوع)).
(18) وهو الآتي برقم (1314) في الجهاد، باب غزوة ذي قرد، وصوابه: عامر بن الأكوع عمّ سلمة بن الأكوع كما تقدم.
(19) في (ح) و(س) و(ز): ((أبدعه)) . وفي (أ): ((ابتدعه)).
(20) قوله: ((سماع)) ليس في (أ).
(21) في (س): ((باللات)).
(22) في (ح): ((ينسب))، وفي (ب): ((ينتسب)) .
(23) في (أ) و(ب): ((عورات)) .
(24) في (ح) و(ز) و(س): ((والمخانيث))، وكذا في (ب) وكأنها صوبت كما هو مثبت.
(25) في (ب): ((فيترقصون)) .
(26) في (أ) و(ز) و(س): ((مطابقة)) .
(27) في (أ): ((باب)) .
(28) في (أ) و(ب) و(ز) و(س): ((الأوقات)) .
(29) وللقرطبي كتاب في تحريم هذا النوع من الغناء سماه "كشف القناع عن حكم الوجد والسماع" طبع عام 1411 هـ بتحقيق الدكتور عبدالله الطريقي.
(30) في (أ): ((أمزمور)) .(2/534)
لما كان تقرر عنده (1) من تحريم اللهو والغناء جملة؛ حتى ظن أن هذا من قبيل ما يُنكر، فبادر إلى ذلك، قيامًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك على ما ظهر له، وكأنه ما كان تبيَّن له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قررهن على ذلك بعد، وعند ذلك قال له (2) النبي (3) - صلى الله عليه وسلم - : ((دَعْهُمَا))، ثم علل الإباحة: بأنه يوم عيد؛ يعني أنه يوم (4) سرور وفرح شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا.
و((المزمور)): الصوت، ونسبته إلى الشيطان؛ ذمٌّ على (5) ما ظهر لأبي بكر رضي الله عنه.
قال الإمام (6) : فأما الغناء بآلة مُطربةٍ فيُمنع، وبغير آلة اختلف الناس فيه، فمنعه أبو حنيفة، وكرهه الشافعي ومالك، وحكى أصحابُ الشافعي عن مالك: أن مذهبه الإجازة من غير كراهة.
قال القاضي: المعروف من مذهب مالك المنع لا الإجازة.
قال الشيخ: ذكر الأئمة رضي الله عنهم هذا الخلاف هكذا (7) مطلقًا، ولم يفصلوا (8) موضعه، والتفصيل الذي ذكرناه لابد من اعتباره، وبما ذكرناه (9) يجتمع شمل مقصود الشرع الكلي ومضمون =(2/535)=@
__________
(1) في (أ): ((لما كان تقرر لما تقرر عنده)) .
(2) قوله: ((له)) ليس في (أ)، وفي (ز): ((قاله)).
(3) في (ز): ((قاله النبي)).
(4) في (ز) و(س): ((أي يوم)).
(5) قوله: ((على)) تكرر في (س).
(6) أي: المازري.
(7) قوله: ((هكذا)) ليس في (ح).
(8) في (س): ((يقصلوا)).
(9) في (ب): ((ذكرنا)) بدل: ((ذكرناه)) .(2/535)
الأحاديث الواردة في ذلك، وينبغي أن يُستثنى من (1) الآلات التي (2) ذكر الإمام: الدّفّ، فإنه قد جاء ذكره في هذا الحديث، وفي حديث العرس.
وتسجية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهه بثوبه؛ إعراض عنهما. وقالت في الحديث الآخر (3) : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على الفراش مضطجعًا، وإنه حوّل وجهه عند غِناء الجاريتين، وكأنه أعرض عن ذلك الغناء؛ لأنه من قبيل اللغو الذي يعرض عنه.
وأما لعب الحبشة (4) في المسجد فكان لعبًا بالحراب والدَّرَق تواثُبًا ورقصًا بها، وهو من باب التدريب على الحرب (5) والتمرين والتنشيط عليه، وهو من قبيل المندوب؛ ولذلك أباحه النبى - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وفيه دليل على جواز نظر النساء إلى الأجانب (6) من الرجال على مثل هذه الحال التي قد أُمنت المفاسد والفتن فيها.
وإنكار عمر رضي الله عنه عليهم تمسك منه بالصورة الظاهرة؛ كما قلنا في (7) حق أبي بكر رضي الله عنه، وفيه أبواب من الفقه لا تخفى.
12- وَعَنْهَا قَالَتْ (8) : كَانَ يَوْمَ عِيدٍ، يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِيْنَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ: ((دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ)) حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ: ((حَسْبُكِ؟)) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ((فَاذْهَبِي)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : ((دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ)): دونكم: منصوب على الظرف؛ بمعنى =(2/536)=@
__________
(1) في (أ) زيادة: ((الأحاديث الواردة في ذلك)) بعد قوله: ((أن يستثنى من)) .
(2) في (أ): ((الذي)) .
(3) وهو الرواية التي ذكر بعضها المصنف في "التلخيص" برقم ( 471 )، ولكنه ذكر المعنى هنا، ونصّها كما في " صحيح مسلم ": تقول عائشة رضي الله عنها: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه...، الحديث.
(4) في (ز): ((الخشبة)).
(5) في (أ): ((الحروب)) .
(6) في (ز): ((إلى جانب)).
(7) في (ح): ((هي)) بدل: ((في)) .
(8) أخرجه البخاري02/440 رقم 950) في العيدين، باب الحراب والدرّق يوم العيد، ومسلم (2/609 رقم 892-19) في صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لامعصية فيه في أيام العيد.(2/536)
الإغراء، والمغرى به محذوف؛ دلّت (1) الحالة عليه؛ وهو (2) لعبهم بالحراب، فكأنه قال: دونكم اللعب بالحراب (3) ، والعرب (4) تغري (5) بـ:((عليك)) و((دونك)) و((عندك)) (6) .
و((أَرْفِدَةَ)): - بكسر الفاء -: هي روايتنا، وقيد (7) عن أبي بحر : ((أَرْفِدَةَ)) - بفتح الفاء -، وهو لقب للحبشة (8) .
13- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (9) قَالَ: بَيْنَمَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِرَابِهِمْ، إِذْ دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَهْوَى إِلَى الْحَصْبَاءِ يَحْصِبُهُمْ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((دَعْهُمْ، يَا عُمَرُ !)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((حَسْبُكِ؟)): معناه يكفيك، وهو محذوف همزة الاستفهام.
و((الْحَصْبَاءِ)): الرمل. و ((أَهْوَى بِيده)): أمالها لأخذ الحصباء، و((حصبهم)): رماهم بالحصباء (10) . =(2/537)=@
__________
(1) في (أ): دلة.
(2) في (ب): ((وهم)).
(3) قوله: ((بالحراب)) ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(س).
(4) قوله: ((دونكم)) ليس في (أ).
(5) في (ح): ((والعرب أحرى تغري)) .
(6) في (ز) و(س): ((وعندك ودونك)).
(7) في (ز) و(س): ((وفيه)) وفي (ح): ((وقيل)).
(8) في (ح): ((الحبشة)) .
(9) أخرجه البخاري(6/92رقم 2901) في الجهاد، باب اللهو بالحراب ونحوها، ومسلم (2/610رقم 893) في صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لامعصية فيه في أيام العيد.
(10) وفي (ز): ((والله أعلم)).(2/537)
************
أبواب الاستسقاء
(1) باب الخروج إلي المصلى لصلاة الإستسقاء، وكيفية العمل فيها
1- عَنْ عَبْدَ الله بْنَ زَيْدٍ الْمَازِنِيَّ (1) ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، وَأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ.
وَفِي أُخْرَى: فَجَعَلَ إِلَى النَاسِ ظَهْرَهُ يَدْعُو الله، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
وَفِي أُخْرَى: قَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن أبواب الاستسقاء
حديث عبد الله بن زيد يقتضي: أن سنة الاستسقاء الخروج إلى المصلى، والخطبة، والصلاة (2) ، وبذلك (3) قال جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى: أنه ليس من سنتة صلاة ولا خروج، وإنما هو دعاء لاغير. وهذا الحديث وما في معناه يردّ عليه، ولا حجة لأبي حنيفة في حديث أنس (4) ؛ إذ فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا من غير صلاة ولا غيرها؛ لأن ذلك كان دعاء عُجِّلت إجابته، فاكتفى به عما (5) سواه، ولم يقصد بذلك بيان سنة الاستسقاء (6) ، ولما قصد البيان بيّن بفعله؛ كما في حديث عبد الله بن زيد.
وظاهر هذا الحديث: أن الخطبة مقدمة على الصلاة؛ لأنه جاء فيه بـ((ثم)) التي للترتيب والْمُهْلة، وبذلك قال مالك في أول قوليه، وهو قول كثير من الصحابة. والجمهورُ على أن الصلاة مقدمة على الخطبة، وإليه رجع مالك، وهو =(2/538)=@
__________
(1) أخرجه البخاري ( 2/492 رقم 1005) في الاستسقاء، باب الاستسقاء وخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء، ومسلم (2/611 رقم 894) في صلاة الاستسقاء، باب منه.
(2) قوله: ((وبذلك)) ليس في (أ).
(3) في (أ): ((بذلك)) .
(4) أي: الاتي برقم (476).
(5) في (أ): ((عن)).
(6) في (أ): ((سنته))، وفي (ز): ((سنتة)) كذا رسمت.(2/538)
قوله في "الموطأ" (1) ، وكان مستند هذا القول: رواية من روى هذا الخبر بالواو غير المرتبة بدل : ((ثم))، وما روي عن إسحاق بن عيسى بن الطباع (2) ، عن مالك أنه قال: إنه (3) - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وهذا نص. ويُعتضد هذا بقياس هذه الصلاة على صلاة العيدين؛ بسبب (4) أنهما يخرج لهما، ولهما خطبة. ولم يذكر في حديث عبد الله بن زيد هذا (5) : أنها يكبر لها كما يكبر في العيد، ولذلك لم يَصِرْ إليه أكثر العلماء: مالك وغيره. وقد قال بالتكبير فيها (6) جماعة؛ منهم: ابن المسيب، وعمر بن عبدالعزيز، والشافعي
والطبري رضي الله عنهم. وحجتهم: حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي خرّجه أبوداود (7) ، قال فيه: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متذلِّلاً متواضعًا متضرعًا، حتى. أتى إلى (8) المصلى، فرقى على المنبر ولم يخطب خطبكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم (9) صلى ركعتين كما يصلي في العيد، وهذا لا ينتهض حجة، فإنه يصدق التشبيه وإن كان من بعض الوجوه؛ ولا يلزم التشبيه من كل الوجوه، إلا في شبيهٍ ومثيل (10) ؛ للمبالغة التي فيه؛ فإن العرب تقول: زيد كالأسد، وكالبحر (11) ، وكالشمس؛ تريد (12) بذلك أنه يشبهه (13) في وجهٍ من الوجوه، على أن هذا الحديث قد رواه الدارقطني (14) ، وقال فيه : ((صلّى ركعتين؛ كبّر في الأولى سبع (15) تكبيرات، وقرأ : {سبح (16) اسم ربك الأعلى}، وقرأ في الثانية: {هل أتاك حديث الغاشية}، وكبّر خمس تكبيرات))، وهذا نصٌّ ، غير (17) أن هذا الطريق (18) في إسناده محمد بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عوف (19) ، وهو ضعيف الحديث، ذكره ابن أبي حاتم.
ولا خلاف في أنه يجهر فيهما (20) بالقراءة، وقد ذكره البخاري (21) ، ويُخطب فيهما خطبتان، يجلس في أولهما (22) ووسطهما، وهو قول مالك والشافعي، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وعبد الرحمن بن مهدي: يخطب خطبة واحدة لا جلوس فيها، وخيّره الطبري. =(2/539)=@
__________
(1) (1/190) كتاب الاستسقاء، باب العمل في الاستسقاء.
(2) في (أ): ((الصباع))، وفي (ز) و(س): ((الصباغ)).
(3) قوله: ((قال: إنه)) ليس في (ز) و(س) و(أ) و(ح).
(4) في (ز) و(س): ((لسبب)).
(5) في (أ): ((لهذا)).
(6) قوله: ((فيها)) ليس في (أ).
(7) في "سننه" (1/688-689 رقم1165) كتاب الصلاة، باب جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، وأخرجه أحمد (1/230و269و355)، وابن ماجه (1/403 رقم1266) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء، والترمذي (2/445 رقم558) في الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء، والنسائي (3/156-157 رقم1506و1508) في الاستسقاء، باب الحال الذي يستحب للإمام أن يكون عليها إذا خرج، وباب جلوس الإمام على المنبر للاستسقاء، وابن خزيمة (2/331 رقم1405)، والطحاوي (1/324)، وابن حبان (7/112 رقم2862/الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (10/331رقم10818و10819)، والدارقطني(2/67-68و68)، والحاكم (1/326 - 327)، والبيهقي (3/344و347و347-348و348).
جميعهم من طريق هشام بن إسحاق بن عبدالله بن كنانة، عن أبيه ؛ قال: أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس أسأله عن صلاة الاستسقاء، فقال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبذِّلاً متمسكنًا، متضرعًا، متواضعًا، ولم يخطب خطبتكم هذه، فصلى ركعتين كما يصلي في العيد.
قال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح)) . وقال الحاكم: ((هذا حديث رواته مصريون، ومدنيون، ولا أعلم أحدًا منهم منسوبًا إلى نوع من الجرح، ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي.
وفي سنده هشام بن إسحاق، روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في الثقات (7/568)، ونقل ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9/52-53) عن أبيه أنه قال: ((شيخ))، وصحح حديثه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان كما سبق، وقال الذهبي في "الكاشف" (2/335 رقم5955): ((صدوق))، وقال ابن حجر في "التقريب" (7334): ((مقبول)) .
وأبوه إسحاق بن عبدالله بن كنانة: وثقه أبو زرعة، وقال النسائي: ((ليس به بأس))؛ كما في "تهذيب الكمال" (2/440-442)؛ وقال ابن حجر في "التقريب" (369): ((صدوق)).
وقد حكم أبو حاتم على روايته عن ابن عباس بالإرسال كما في "الجرح والتعديل" (2/226)، وردّ ذلك الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (3/328-329) فقال: ((وهو وَهْم، فإنه صرَّح بالسماع من ابن عباس))، وصحح حديثه هذا.
وحسنه الشيخ الألباني في "الإرواء" (3/133-134 رقم665)، وفي تعليقه على الموضع السابق من "صحيح ابن خزيمة" قال: ((إسناده يحتمل التحسين ؛ هشام بن إسحاق لم يوثقه غير ابن حبان، وروى عنه ثلاثة من الثقات أحدهم سفيان الثوري.
(8) قوله: ((إلى)) ليس في (ح) و(ز) و(س) و(أ).
(9) في (ح): ((حتى)) .
(10) في (س): ((ومشيل)).
(11) في (ز) و(س): ((والبحر)).
(12) في (ح) و(ز) و(س): ((يريد)) .
(13) في (أ): ((لشبهه)) .
(14) في "سننه" (2/66)، وأخرجه البزار (1/316-317 رقم659/كشف)، والحاكم (1/326)، والبيهقي (3/348).
جميعهم من طريق محمد بن عبدالعزيز، عن أبيه، عن طلحة قال: أرسلني مروان إلى ابن عباس أسأله عن سنة الاستسقاء، فقال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين، إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلب رداءه، فجعل يمينه على يساره، ويساره على يمينه، وصلّى ركعتين وكبّر في الأولى سبع تكبيرات، وقرأ: {سبح اسم ربك الأعلى}، وقرأ في الثانية: {هل أتاك حديث الغاشية}، وكبّر فيها خمس تكبيرات)). قال الهيثمي: ((هو في السنن من غير تكبير)) .
وقال البزار: ((لا نعلمه بهذا الإسناد عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد)) .
وقال الحاكم: ((صحيح الإسناد ولم يخرجاه))، فتعقبه الذهبي بقوله: ((ضُعّف عبدالعزيز))، كذا ! ولعل الصواب: ((محمد بن عبدالعزيز)) . والحديث أعلّه البيهقي بقوله: ((محمد بن عبدالعزيز هذا غير قوي، وهو بما قبله من الشواهد يقوى)). اهـ.
لكن قال الألباني: ((هو ضعيف جدًّا ؛ لأن محمدًا هذا هو ابن عبدالعزيز بن عمر الزهري...، قال فيه البخاري والنسائي: ((منكر الحديث))، وقال النسائي مرة: ((متروك))، فلا يقوى حديثه بالشواهد لشدة ضعفه؛ لاسيما وهي جملة وهذا مفصل، ولا يصلح للاستشهاد بالمجمل على المفصل كما هو ظاهر. وأبوه عبدالعزيز بن عمر، قال ابن القطان: ((مجهول الحال))، وفيه يتبين أن قول الحاكم عقب الحديث: ((صحيح الإسناد، بعيد عن جادة الصواب)).اهـ.
(15) في (ز) و(س): ((بسبع)).
(16) في (ح) و(ز) و(س): ((بسبح)) .
(17) في (أ): ((على)) .
(18) في (ب) و(ز):((الحديث))، وفي (ح) أشار الناسخ في الحاشية إلى أن في نسخة: ((الحديث))، وفي (س): ((غير أن الحديث)).
(19) كذا في جميع النسخ، وهو وهم، وصوابه: ((محمد بن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالرحمن بن عوف)) . انظر الموضع السابق من "سنن الدارقطني"، و"الجرح والتعديل" (8/7).
(20) في (أ) و(ح): ((فيها)) .
(21) في "صحيحه" (2/514 رقم1024) في الاستسقاء، باب الجهر بالقراءة في الاستسقاء، من حديث عباد بن تميم، عن عمه قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي، فتوجّه إلى القبلة يدعو، وحوَّل رداءه، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة.
(22) في (ب) و(ح) و(ز): ((أولاهما)) .(2/539)
وقوله : ((فَاسْتَسْقَى، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ))، أو ((قَلَّبَ رِدَاءَهُ (1) )): استسقى (2) : استفعل؛ أي: طلب السقيا بتضرُّعه ودعائه (3) ، وإنما قلب رداءه على جهة التفاؤل؛ لانقلاب حال صلاة (4) الشدة إلى السَّعة.
وجمهور العلماء على أنه سنة، على ما تضمنه هذا الحديث، وأنكره أبوحنيفة، وصعصعة (5) بن سلاَّم من قدماء العلماء بالأندلس، والحديث حجة عليهم. ثم الذين قالوا بالتحويل اختلفوا؛ فمنهم من قال: إنه يرد ما على يمينه على شماله، ولا ينكسه، وهم الجمهور، وقال الشافعي بمصر (6) : ينكسه، فيجعل ما يلي (7) رأسه أسفل، وسبب هذا (8) الخلاف: اختلافهم في مفهوم قول الصاحب : ((حوّل)) و((قلب))، هل هما بمعنى واحد، أو بينهما فرقان؟ ثم هل يحوِّل الناس أرديتهم إذا حوَّل الإمام أم لا؟ قال مالك: نعم، وقال الجمهور: لا. ومتى يحوِّله (9) ؟ فقيل: بين الخطبتين، وقيل: عند الإشراف عليهما، والقولان لمالك، والثاني هو المشهور عنه، وبه قال الشافعي.
ثم هل يرجع بعد تمام دعائه فيذكّر الناس أو لا؟ قولان (10) .
ولا خلاف في تحويل الإمام وهو قائم وتحويل الناس- عند من يقول به - وهم جلوس. =(2/540)=@
__________
(1) قوله: ((أو قلب رداءه)) ليس في (أ). وفي (ز): ((او أقلب رداءه)).
(2) قوله: ((استسقى)) سقط من (ز) و(س).
(3) قوله: ((دعائه)) سقط من (ز) و(س).
(4) قوله: ((صلاة)) سقط من (ز) و(س) و(أ).
(5) في (ز) و(س): ((وضعَّفه)).
(6) قوله: ((بمصر)) ليس في (ح).
(7) في (ح): ((على)) .
(8) قوله: ((هذا)) ليس في (ح).
(9) في (أ): ((يحول)).
(10) قوله: ((قولان)) ليس في (أ).(2/540)
2- وعَنْ أَنَسٍ (1) : أَنَّ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلا فِي الاسْتِسْقَاءِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَهُ عَلَيْهِ السَلاَم اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أنس - رضي الله عنه - : ((إِنَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلا فِي الاسْتِسْقَاءِ))، يعنى: أنه لم (2) يكن يبالغ في الرفع، إلا في الدعاء. ولذلك قال: ((حَتَّى يُرَى (3) بَيَاضُ إِبْطَيْهِ))، وإلا فقد رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر (4) عند الدعاء، وفي غير الاستسقاء ذلك (5) .
وقد روى الترمذي (6) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع يديه (7) عند الدعاء لم يحطَّهما حتى يمسح بهما وجهه)). قال : ((هذا حديث صحيح غريب)).
وقد استحب (8) جماعة من العلماء رفع اليدين عند الدعاء. وقد روي عن مالك كراهة رفع الأيدي في شيء من الأشياء، ووجهه: مخافة اعتقاد الجهة (9) ! ثم اختلفوا (10) في كيفية الرفع، فاختار مالك: الإشارة بظهور كفيه إلى السماء كما في هذا الحديث، وهو رفع الرَّهب. وقيل: يشير ببطونهما إلى السماء. وهو رفع الرغب والطلب (11) . =(2/541)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (2/413 رقم933) في الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، وذكر أطرافه في: (2/412 رقم932)، ومسلم (2/612 رقم 895).
(2) في (أ): ((إذا لم)).
(3) في (ز) و(س): ((برا)).
(4) سيأتي برقم (1273) في الجهاد، باب الإمام مخير في الأسارى، وذكر وقعة يوم بدر، وتحليل الغنيمة.
(5) بل مراد أنس رضي الله عنه : أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرفع يديه في شيء من الدعاء إذا كان على المنبر، إلا في الاستسقاء، وليس مراده الدعاء مطلقًا.
(6) في "جامعه" (5/432-433 رقم3386) كتاب الدعوات، باب ما جاء في رفع الأيدي عند الدعاء، وأخرجه عبد بن حميد في "مسنده" (ص 44 رقم39)، والطبراني في "الأوسط" (7/124 رقم7053)، وفي "الدعاء" (2/886 رقم212)، والحاكم (1/536).
جميعهم من طريق حماد بن عيسى الجهني، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، عن عبدالله بن عمر، عن عمر بن الخطاب قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مدَّ يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه)) .
وفي سنده: حماد بن عيسى الجهني، وهو ضعيف كما في"التقريب"(ص269 رقم1511).
والحديث قال عنه الترمذي: ((صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى، وقد تفرد به، وهو قليل الحديث، وقد حدث عنه الناس، وحنظلة بن أبي سفيان هو ثقة، وثقه يحيى بن سعيد القطان)) .اهـ. وقال الطبراني: ((لا يُروى هذا الحديث عن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به: حماد بن عيسى الجهني)) .اهـ. وقال أبو زرعة - كما في "العلل" لابن أبي حاتم (2/205 رقم2106)-: ((هو حديث منكر، أخاف أن لا يكون له أصل)) . وقال ابن الجوزي في "العلل" (2/841): ((قال يحيى بن معين: هو حديث منكر)) . وقال الشيخ الألباني في "الإرواء" (2/178 رقم433): ((والحاكم مع تساهله... سكت عليه، ولم يصححه، وتبعه الحافظ الذهبي)) .اهـ.
وله شاهد من حديث ابن عباس ويزيد بن سعيد، ولا يثبتان.
أما حديث ابن عباس: فأخرجه عبد بن حميد (ص 236 رقم715)، وابن ماجه (1/373-374 رقم1181) في إقامة الصلاة، باب من رفع يديه في الدعاء ومسح بهما وجهه، و(2/1272 رقم3866) في الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء، وابن حبان في "المجروحين"(1/368)، والطبراني في "الكبير" (10/319-320 رقم10779)، والحاكم (1/536)، والبغوي في "شرح السنة" (5/202-203و203-204 رقم1399و1400)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/840 رقم1407).
جميعهم من طريق صالح بن حسان، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا دعوت الله فادع بباطن كفيك، ولا تدع بظهورهما، فإذا فرغت فامسح بهما وجهك)) . قال ابن أبي حاتم في "العلل"(2/351 رقم2572): ((سألت أبي عن حديث رواه سعيد بن محمد الوراق، عن صالح بن حسان..؟ فقال: هذا حديث منكر)) .
وضعفه البغوي وقال:((صالح بن حسان المدني الأنصاري، منكر الحديث، قاله البخاري"اهـ.
وقال البوصيري في "الزوائد"(1/390):((هذا إسناد ضعيف، لاتفاقهم على ضعف صالح بن حسان)) .اهـ. وضعفه الشيخ الألباني في الإرواء" (2/179-180 رقم434)، ثم قال: ((وقد تابعه عيسى بن ميمون، عن محمد بن كعب، به. أخرجه ابن نصر. ولا يفرح بهذه المتابعة ؛ لأن ابن ميمون حاله قريب من ابن حسان قال ابن حبان: ((يروي أحاديث كلها موضوعات "، وقال النسائي: ((ليس بثقة)) .اهـ.
وأخرجه أبو داود (2/163-164 رقم1485) في الصلاة، باب الدعاء، من طريق عبدالملك بن محمد بن أيمن، عن عبدالله بن يعقوب بن إسحاق، عمن حدثه، عن محمد بن كعب، به، بمعناه. ومن طريقه البيهقي (2/212).
قال أبو داود: ((روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب، كلها واهية، وهذا طريق أمثلها، وهو ضعيف أيضًا)) .اهـ.
وقال الشيخ الألباني في "الإرواء" (2/180): ((وهذا سند ضعيف. عبدالملك هذا ضعفه أبو داود، وفيه شيخ عبدالله بن يعقوب الذي لم يسم، فهو مجهول)) .
وأما حديث يزيد بن سعيد الكندي والد السائب: أخرجه أبو داود (2/166رقم1492) في الموضع السابق عن قتيبة بن سعيد، عن ابن لهيعة، عن حفص بن هاشم بن عتبة، عن السائب بن يزيد، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا فرفع يديه، مسح وجهه ويديه ، قال الشيخ الألباني في "الإرواء"(2/179): ((وهذا سند ضعيف ؛ لجهالة حفص بن هاشم، وضعف ابن لهيعة)) .اهـ. ثم قال (ص 182): ((ولا يصح القول بأن أحدهما يقوي الآخر بمجموع طرقهما - كما فعل المناوي؛ لشدة الضعف الذي في الطرق)) .اهـ.
وأما الحافظ ابن حجر فقال في "بلوغ المرام" (ص 381 رقم1583): ((ومجموعها يقضي بأنه حديث حسن))!
وللشيخ بكر أبو زيد رسالة مفردة في تخريج هذا الحديث، وجمع طرقه، والكلام عنها، وخلص فيها إلى أن الحديث ضعيف.
(7) قوله: ((يديه)) سقط من (س).
(8) في (ز): ((المستحب)).
(9) هذا تقوُّلٌ على الإمام مالك رحمه الله، ونسبة شيء إليه لم يقل به، ولم يرد عنه رحمه الله شيء يدل على مراد المؤلف، بل الوارد عنه خلاف ذلك، فهو القائل: ((الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة))، وهذا يدل على إثباته لعلو الذات الذي يعبر عنه المؤلف باعتقاد الجهة، وهذا داء سرى للمؤلف - عفا الله عنه - من علم الكلام، وانتشار مذهب الأشاعرة في عصره، وإلا فنصوص الكتاب والسنة غاية في االكثرة في إثبات علو الله على خلقه؛ بما لا يدع مجالاً للشكّ والريبة، وإن شئت معرفة ذلك فراجع "الرسالة التدمرية" لشيخ الإسلام ابن تيمية، و"العلو للعلي الغفار" للذهبي، و"فضّ الوعاء في رفع اليدين عند الدعاء" للسيوطي، فإنه جمع الأحاديث الواردة في رفع اليدين عند الدعاء، وأوصلها إلى درجة التواتر المعنوي.
(10) في (ز) و(س): ((اختلف)).
(11) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).(2/541)
*************
( 2 ) باب الدعاء في السُّقْيَا في المسجد وبغير صلاة
3- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (1) : أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ الله يُغِثْنَا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ((اللهمَّ أَغِثْنَا، اللهمَّ أَغِثْنَا، اللهمَّ أَغِثْنَا)) قَالَ أَنَسٌ: فَلا وَالله، مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلا قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلا دَارٍ. قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ.
قَالَ: فَلا وَالله مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ الله يُمْسِكْهَاعَنَّا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((اللهمَّ حَوْلَنَا وَلا عَلَيْنَا، اللهمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)) قَالَ: فَانْقَلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الدعاء في السقيا (2)
دار القضاء سميت بذلك؛ لأنها بيعت في قضاء دَيْنِ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي كتبه على نفسه لبيت مال المسلمين، وأوصى أن يباع فيها ماله، فباع عبدالله ابنه داره هذه من معاوية، وباع ماله بالغابة، وقضى دينه (3) ، فكان يُقال لها (4) : دار قضاء دين عمر، ثم اختصروا فقالوا: دار القضاء (5) ، وهي دار مروان. وكان دين عمر رضي الله عنه عشرين (6) ألفًا، وقد غلط من ظنها دار (7) قضاء الأمراء (8) .
وظاهر هذا الحديث يدل على جواز كلام الداخل مع الخطيب في حال خطبته، ويحتمل أن يكون إنما كلّمه في حال سكتةٍ كانت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ إما لاستراحة في النطق، وإما في حال الجلوس، والله أعلم.
وقوله : ((هَلَكَتِ الأَمْوَالُ))؛ أي: المواشي. وأصل المال: كل ما يُتَمَوَّل، وعُرْفُه عند العرب: الإبل؛ لأنها معظم أموالهم. ((وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ))؛ أي: الطرق؛ لهلاك الإبل، ولعدم ما يؤكل في الطرق. =(2/542)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (2/501 رقم 1013) في الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع، وذكر أطرافه في (2/412 رقم 932)، ومسلم (2/612 رقم 897) في صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء.
(2) في (ز) و(س): ((السقي)).
(3) قوله: ((بالغابة وقضى دينه)) ليس في (ح).
(4) قوله: ((لها)) سقط من (ز) و(س).
(5) في (ز): ((قضاء)).
(6) في (أ): ((عشرون)) .
(7) في (ز) و(س): ((ظن أنها دار)).
(8) وانظر: "معجم البلدان" (2/422)، و"لسان العرب" (15/189).(2/542)
وقوله: ((اللهمَّ أَغِثْنَا)) بالهمزة رباعيًا، كذا (1) رويناه، ومعناه: هب لنا غيثًا، والهمزة فيه للتعدية، وقال بعضهم: صوابه: غِثْنا؛ لأنه من غاث. قال: وأما أغثنا فإنه من الإغاثة، وليس من طلب الغيث، والأول الصواب (2) ، والله أعلم.
وقوله : ((وَلا قَزَعَةٍ))؛ أي: ولا قطعة من سحاب، وجمعه: قزع. قال أبو عبيد: وأكثر ما يكون في الخريف.
و((سَلْعٍ)): بفتح السين المهملة، وسكون اللام، وهو: جبل مشهور بقرب المدينة، في البخاري: هو الجبل الذي في السوق (3) .
وتشبيه (4) السحابة بالتُّرس؛ في كثافتها واستدارتها. وأمطرت: أنزلت رباعيًا، ويقال: ثلاثيًّا؛ بمعنى واحد، وقيل: أمطر في العذاب، ومطر (5) في الرحمة. والأول أعرف.
وقوله : ((مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا))؛ أي: من سبتٍ إلى سبتٍ؛ كما تقول: جمعة؛ أي: من جمعة إلى جمعة.
والسبت في اللغة: القطع، وبه سُمِّي يوم السبت. قال (6) ثابت في تفسير قوله : ((سبتًا)): إنه القطعة من الزمان، يقال: سبتٌ من الدهر؛ أي: قطعة منه، وسبتُّه: قطعته، وقد رواه الداودي (7) : ((سِتًّا))، وفسره: بستة أيام من الدهر، وهو تصحيف (8) . =(2/543)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((هكذا)).
(2) في (ح): ((أصوب)).
(3) وكذا في "معجم البلدان" (3/236).
(4) في (ز) و(س): ((وشبه)).
(5) في (أ): ((ومطرت)).
(6) في (أ) و(ز): ((وقال)).
(7) في أصل (ح): ((رواه الدارقطني)) وأشار في الحاشية إلى أن في نسخة أخرى: ((الداودي)).
(8) ردَّ ذلك الحافظ في "الفتح" (2/504)، فقال: «وكأن من ادَّعى أنه تصحيف استبعد اجتماع قوله:((ستًّا)) مع قوله في رواية إسماعيل بن جعفر الآتية: ((سبعًا))، وليس بمستبعد ؛ لأن من قال:((ستًّا)) أراد ستة أيام تامة، ومن قال: ((سبعًا)) أضاف أيضًا يومًا ملفقًا من الجمعتين)) .اهـ.(2/543)
وقوله في الثانية: ((هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ))؛ أي: لامتناع الرعي والتصرف؛ لكثرة المطر.
و((حَوَالَيْنَا)): ظرف متعلق بمحذوف تقديره: اللهم أنزل حوالينا ولا تنزل علينا.
و((الآكَامِ)): جمع أكمة، وهي: دون الجبال. و((الآكام)): بفتح الهمزة والمد، ويقال بالكسر: ((إِكام))، و((أَكم))، و((أُكم))-بفتحها وضمها-، وقال الخليل: الأكَمة: هو تل.
و((وَالظِّرَابِ)): الروابي، واحدتها (1) : ظرب، ومنه الحديث: ((فإذا حُوتٌ (2) مثل الظِّرب)) (3) . قال الثعالبي: الأكمة: أعلى من الرابية.
4- وَعَنْهُ قَالَ (4) : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَامَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَصَاحُوا، وَقَالُوا: يَا نَبِيَّ الله، قَحَطَ الْمَطَرُ، وَاحْمَرَّ الشَّجَرُ، وَهَلَكَتِ الْبَهَائِمُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَتَقَشَّعَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَتْ تُمْطِرُ حَوَالَيْهَا، وَمَا تُمْطِرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةً، فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ الإِكْلِيلِ.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ((اللهمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا)) قَالَ: فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ إِلاتَفَرَّجَتْ، حَتَّى رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ فِي مِثْلِ الْجَوْبَةِ، وَسَالَ وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلا أَخْبَرَ بِجَوْدٍ.
وَفِي أُخْرَى: فَرَأَيْتُ السَحَابَ يَتَمَزَّقُ كَأَنَّهُ الْمُلاَءُ حِيْنَ يُطْوَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و((قَحَطَ الْمَطَرُ))؛ أي: امتنع وانقطع، وفي البارع: قَحَطَ المطر: بفتح القاف والحاء. وقحط الناسُ: بفتح الحاء وكسرها، وفي الأفعال بالوجهين في المطر، وحُكي: قُحِط الناسُ - بضم القاف وكسر الحاء -، يُقحطون، قحطًا وقحوطًا. =(2/544)=@
__________
(1) في (أ): ((واحدها)) .
(2) قوله: ((حوت)) ليس في (أ).
(3) أخرجه البخاري في "صحيحه" (5/128 رقم2483) في الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعروض، و(8/77 رقم4360) في المغازي، باب غزوة سيف البحر، وأخرجه مسلم بلفظ: ((كهيئة الكثيب الضخم))، وسيأتي برقم (...) كتاب الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر (1935).
(4) أخرجه مسلم (2/614رقم 897-10) في صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء.(2/544)
و((وَاحْمَرَّ الشَّجَرُ)): يبس. و((تقشعت)): انكشفت. و((الإكليل)): قال أبو عبيد: هو ما أحاط بالظفر من اللحم، و الإكليل أيضًا: العصابة، وروضة مكللة: محفوفة با لنَّوْر، وأصله: الاستدارة.
و((الْجَوْبَةِ)) (1) : هي الفجوة بين البيوت، والفجوة أيضًا: المكان المتسع من الأرض، والمعنى: أن السحاب تقطّع حول المدينة مستديرًا، وانكشف عنها حتى باينت ما جاورها مباينة الجوبة لما حولها. وقال الداودي: هي كالحوض المستدير. ومنه قوله تعالى: {وجفان كالجواب (2) } (3) ، وواحدة الجوابي: جابية.
و((قَنَاةَ)): اسم وادٍ من أودية المدينة، وكأنه سمّى مكانه قناة، وقد جاء في غير الكتاب (4) : ((وسال الوادي (5) قناة شهرًا)) (6) على البدل (7) .
و((الجَوْد)): المطر الواسع الغزير.
و((يَتَمَزَّقُ)): يتقطع (8) ، والمُلا: مقصورًا - جمع ملاءةٍ-؛ وهي: الملاحف. و((انجابت انجياب الثوب)) (9) ؛ أي: تقطعت كما يتقطع (10) الثوب قطعًا متفرقة. وقوله هنا (11) : ((حِيْنَ تُطْوَى (12) ))؛ يعني: أن (13) السحاب بعد أن كان منتشرًا؛ انضمّ عن جهات المدينة، فصار كأنه ثوب طوي (14) عنها. =(2/545)=@
__________
(1) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((كالجوابي)).
(2) في (أ): ((والجونة)).
(3) سورة سبأ، الآية: 13.
(4) في(ب) و(ز) و(س): "كتاب مسلم"، وأشار ناسخ (ح) إلى أنها كذلك في نسخة، والمثبت من (أ)، ويوافقه ما في الموضع الآتي من "الإكمال".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ)، وفي(ب) و(ح) و(ز) و(س): ((وادي))، وهو خطأ ظاهر، والمثبت من "الإكمال" (3/323)، وقد قال النووي في"شرحه" (6/194): « قوله: ((وسال وادي قناة شهرًا)): قناة - بفتح القاف -: اسم لواد من أودية المدينة، وعليه زروع لهم، فأضافه هنا إلى نفسه، وفي رواية للبخاري:((وسال الوادي قناة ، وهذا صحيح على البدل، والأول صحيح)).ا هـ.
(6) هذه رواية البخاري في "صحيحه" (2/413 رقم933) في الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة.
(7) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((على الإضافة))، والمثبت من (أ)، وكذا هو في الموضع السابق من "الإكمال".
(8) في (س): ((ينقطع)).
(9) قوله: ((وانجابت انجياب الثوب)) ليس في رواية مسلم، ولكن في بعض طرق الحديث عند البخاري (2/508 رقم1016) في الاستسقاء، باب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء، ولفظه: ((فانجابت عن المدينة انجياب الثوب))، ومنشأ هذا الخلط: اعتماد المصنف على كتاب "الإكمال" للقاضي عياض- كما نبهت على ذلك سابقًا - ثم تصرفه في العبارة أحيانًا، وإليك نص عبارة القاضي عياض في "الإكمال" (3/324) ليستقيم السياق: «وقوله:((فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملا حين تطوى)): الملا - مقصورة - جمع ملاءة، وهي الريطة ؛ مثل الملحفة وشبهها مما ليس بلفقين، فشبَّه انقشاع السحاب وانجلاءه وتقطّعه عن المدينة بالملاءة المنشورة إذا طويت، وهذا مثل قوله في الحديث الآخر: ((وانجابت عن المدينة انجياب الثوب))، قيل: تقبَّضت وتداخلت ؛ من قولك: جُبت الفلاة ؛ أي: دخلتها، وقيل: تقطعت عنها تقطُّع الثوب، وانكشفت عنها انكشافه».اهـ.
(10) في (س): ((ينقطع)).
(11) قوله: ((هنا)) ليس في (ز) و(س).
(12) في (س): ((يُطوى))، وفي (ز): ((يطوى)) ضبطت بالتاء والياء.
(13) قوله: ((أن)) ليس في (ز) و(س).
(14) في (ب): ((يطوى)) .(2/545)
ولا يخفى (1) ما في هذا الحديث من الأحكام، ومن كرامات النبي - صلى الله عليه وسلم - .
***********
باب التبرك بالمطر والفرح به، والتعوُّذ عند الريح والغيم
5- عَنْ أَنَسٍ (2) قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَطَرٌ قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ ! لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: ((لأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى)).
6- وَعَنْ عَائِشَةَ (3) ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ، وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ. فَقَالَ: ((إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي)) وَيَقُولُ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ: ((رَحْمَةٌ)).
7- وَعَنْهَا (4) قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: ((اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ)) قَالَتْ: وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ. فَقَالَ: ((لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ! كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ : {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}.
8- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (5) ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: ((نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التبرك بالمطر
قوله : ((فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَوْبَهُ))؛ أي: كشفه عن جسده.
وقوله: ((لأَنَّهُ (6) حَدِيثُ عَهْدٍ (7) بِرَبِّهِ))؛ أي: بإيجاد ربّه له (8) ، وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - تبرُّك بالمطر، واستشفاء به؛ لأن الله تعالى قد سَمّاه رحمة، ومباركًا وطهورًا، وجعله سبب (9) الحياة، ومُبعدًا عن العقوبة.
ويستفاد منه احترام المطر، وترك الاستهانة به. =(2/546)=@
__________
(1) غير واضحة في (ز) [وتراجع]. كتب هذا الهامش بجانب كلمة (ولا يخفى) ثم مسح وأثبته لوجوده في الهامش ولم يمسح.
(2) أخرجه مسلم (2/615 رقم 898) في صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء.
(3) أخرجه البخاري (8/578 رقم 4829) في التفسير، باب { فلما رأوه عارضًا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا }، وذكر أطرافه في (6/300 رقم 3206)، ومسلم ( 2/616 رقم 899) في صلاة الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح بالمطر.
(4) أخرجه البخاري (6/300 رقم 3206) في بدء الخلق، باب ماجاء في قوله: { وهو الذي يرسل الرياح }، ومسلم (2/616 رقم 899) في صلاة الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح بالمطر.
(5) أخرجه البخاري (2/520 رقم 1035) في الاستسقاء، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((نصرت بالصبا))، ومسلم (2/617 رقم 900) في صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور.
(6) في (ب): ((إنه)) .
(7) قوله: ((عهدٍ)) ليس في (ح).
(8) الظاهر أن المصنّف - عفا الله عنه - أراد أن ينفي دلالة هذا الحديث على عُلُوّ الله على خلقه، فأوّله بهذا التأويل، والحديث ظاهر الدلالة على علوّ الله، ولذلك استدلّ به أهل السنة في المسألة ؛ فقال الذهبي في((العلو)) كما في "مختصره"(80): ((فمن الأحاديث المتواترة لواردة في العلوّ...))، ثم ذكر ما يحضره من الأحاديث، ومنها هذا الحديث. [كتب بجانبها انظر خلفه ولا شيء موجود خلفه]
(9) في (ز):((بسبب)) .(2/546)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي))؛ يعني: على العُتاة عليه، العصاة له من أمته. وكان - صلى الله عليه وسلم - لعظيم حلمه ورأفته وشفقته، يرتجي لهم الفلاح والرجوع إلى الحق، وهذا كما قال يوم أحد: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (1) ، وقيل: خاف أن تعمّهم عقوبة بسبب العصاة منهم، والأول أوضح.
و((عصفت)): اشتدَّت وبردت. و((تَخيّلت (2) السماء))؛ أي: كَثُر فيها السحاب. والمخيلة - بفتح الميم -: سحابة فيها رعد وبرق، لا ماء فيها، ويقال في (3) السماء إذا تغيَّمت: أخالت، فهي مُخيلة - بالضم -، قاله أبو عبيد. =(2/547)=@
__________
(1) سيأتي برقم (1304) في الجهاد والسير، باب في اقتحام الواحد على جميع العدو، وذكر غزوة أحد وما أصاب فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) في (أ):((تخيلت)) بلا واو.
(3) في (ح): ((ويقال فيه)) .(2/547)
و((الصَّبَا)): الريح الشرقية، و ((الدَّبُورِ))- بفتح الدال -: الريح الغريبة.
************
باب
9- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لا تُمْطَرُوا وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا، وَتُمْطَرُوا، وَلا تُنْبِتُ الأَرْضُ شَيْئًا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و((السَّنَة)): الجدب. وأراد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((لَيْسَتِ السَّنَةُ ألا تُمْطَرُوا)): أن (2) الأحق باسم السَّنَة والجدب: أن يتوالى المطر حتى تغرق الأرض ويفسد ما عليها بكثرته (3) وتواليه، وإنما كان هذا أحق بالاسم؛ لأنه أمنع من التصرف، وأضيق للحال، وأعدم للقوت، وأسرع في الإهلاك (4) . وأسلوب هذا الحديث كأسلوب قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)) (5) ، و ((ليس المسكين بالطوّاف عليكم)) (6) ، إلى غير ذلك مما في بابه (7) . =(2/548)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (4/2228 رقم 2904) في الفتن وأشراط الساعة، باب في سكنى المدينة وعمارتها قبل الساعة.
(2) في (ب) رسمت هكذا: ((ألا تمطروان))، وفي (ح): ((ألا تمطروا وأن)) .
(3) في (ب): ((لكثرته)) .
(4) في (ر) و(س) و(أ): ((الهلاك)) .
(5) سيأتي برقم (912) في الزكاة، باب ليس الغنى عن كثرة العرض.
(6) سيأتي برقم (900) في الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يفطن له فيتصدق عليه.
(7) وزاد بعداه في (ز):((والله أعلم)) .(2/548)
*************
أبواب كسوف الشمس والقمر
( 1 ) باب الأمر بالصلاة والذكر والصدقة عند الكسوف
1- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيْسَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَقُومُوا فَصَلوا)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَى يكَشِفَ مَا بِكُمْ)).
2- وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ (2) : ((فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَكَبِّرُوا وَادْعُوا الله، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبواب الكسوف
الكسوف: التغيّر (3) إلى سواد، ومنه: كسف وجهه؛ إذا تغير. والخسوف (4) : النقصان، قاله الأصمعي. والخسف أيضًا: الذلّ، ومنه: سامه (5) خُطَّةَ خَسْفٍ؛ أي: ذُلّ، فكسوف الشمس والقمر وخسوفهما: تغيُّرهما، ونقصان ضوئهما، فهما بمعنى واحد، هذا هو المستعمل في القرآن وفي الأحاديث، وقد قال بعض اللغويين: لا يقال في الشمس إلا: كُسفت، وفي القمر إلا: خُسف (6) ، وذُكر هذا عن عروة. وقال الليث بن سعد: الخسوف (7) في الكل، والكسوف في البعض؛ يعني: في الشمس والقمر.
وقوله : ((فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَقُومُوا فَصَلوا))؛ يعني: الكسوف، فأعاد (8) عليه ضمير المذكّر، وفي الأخرى : (([فَإِذَا] (9) رَأَيْتُمُوهُمَا (10) )) أعاده على كسوف الشمس وكسوف القمر (11) ، وهذا يدل على التسوية بين كسوف الشمس والقمر (12) ، =(2/549)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (2/526 رقم 1041) في الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس، ومسلم (2/628 رقم 911-21، 22) في الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف: ((الصلاة جامعة)) .
(2) أخرجه البخاري (2/545 رقم 1058) في الكسوف، باب صلاة الكسوف في المسجد، وذكر أطرافه في (2/529 رقم 1044) في الكسوف، باب الصدقة في الكسوف، ومسلم (2/618 رقم 901) في الكسوف، باب صلاة الكسوف.
(3) في (ح): ((التغيير)) .
(4) في (أ):((الخسوف)) بلا واو.
(5) في (ب): ((سامني)) .
(6) في (ح):((وفي القمر خسف)) .
(7) في (س):((الخشوف)) .
(8) في (ب):((وأعاد)) .
(9) قوله:((فإذا)) ليس في (أ).
(10) في (ح):((رأيتموها)) .
(11) قوله:((وكسوف القمر)) ليس في (ح)، وفي (ب):((وخسوف القمر)) .
(12) في (ح):((وخسوف القمر)) .(2/549)
في الأمر بالصلاة عندهما، وبذلك قال جميع الفقهاء والعلماء (1) من السلف وغيرهم؛ غير أنهم اختلفوا في حكم ذلك وكيفيته: فالجمهور: على أن صلاة كسوف الشمس سنة (2) مؤكدة، وأنها يُجمع لها، وتُصلى (3) بإمام؛ على خلاف في كيفية ذلك يُذكر فيما بعد. وذهب أهل الكوفة إلى أنها لا يُجمع (4) لها، وأنها تصلى ركعتين ركعتين، ومستندهم: حديث عبد الرحمن بن سمرة الآتي (5) ، وليس بنص فيما قالوه؛ فإنه قال فيه: فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين؛ لاحتمال أن يكون إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة (6) ، وشكت عن الأخرى، والله أعلم. ثم لو سُلِّم ذلك لأمكن أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ذلك كذلك ليبيّن جواز ذلك، وغيره من الأحاديث يدل على (7) أن السنة ما تضمنته تلك الأحاديث. =(2/550)=@
__________
(1) قوله:((والعلماء)) سقط من (ز) و(س).
(2) في (ز) و(س):((الكسوف سنه)) .
(3) في (ز) و(س):((وأنها تصلي)) .
(4) في (ح) و(ز) و(س):((يجتمع)) .
(5) برقم (441).
(6) وقوله:((واحدة)) ليست في (ز).
(7) قوله: ((جواز ذلك....)) إلى هنا مكرر في (أ).(2/550)
وأما خسوف القمر فذهب مالك (1) وأبو حنيفة: إلى أنه لا يُجتمع (2) لصلاته، وأنها تصلى ركعتين ركعتين كسائر النوافل، وذهب جمهور من الصحابة والعلماء وأصحاب الحديث والشافعي رضي الله عنهم إلى أنه يُجتمع (3) لها، وتصلى على كيفية مخصوصة، على الخلاف الذي يأتي ذكره.
3- وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى (4) : ((فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((فَافْزَعُوا (5) إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَدُعَائِهِ))؛ يعني: تفزَّعوا (6) إليهما، وأقبلوا عليهما، وقد قدمنا ذكر أقسام الفزع (7) .
( 2 ) باب كيفية العمل فيها، وأنها ركوعان في كل ركعة
4- عَنْ عَائِشَةَ (8) قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَامَ فَكَبَّرَ، وَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قِرَاءَةً طَوِيلَةً - مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَاسٍ: نَحْوَ سُورَةِ البَقَرَةْ- ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: ((سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ))، ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةِ الأُولَى، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، هُوَ أَدْنَى مِنَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: ((سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ))، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله، لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا لِلصَّلاةِ)). وَقَالَ أَيْضًا: ((فَصَلُّوا حَتَّى يُفَرِّجَ الله عَنْكُمْ))، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُمْ، حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُنِي أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي أَتَقَدَّمُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا ابْنَ لُحَيٍّ وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَ النَبِيَ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ مُنَادِيًا: ((الصَلاَةُ جَامِعَةُ، فَاجْتَمَعُوا)).
وَفِي أُخْرَى (9) : أَنَ النَبِيَ - صلى الله عليه وسلم - جَهَرَ فِي صَلاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ.
وَزَادَ في أخرى: ((يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ! إِنْ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ الله أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ. يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ! وَالله لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟)).
وفِي أُخْرى: فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: ((اللهمَّ هَلْ بَلَّغْت)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيفية العمل فيها (10)
ذهب الجمهور إلى أن صلاة كسوف الشمس ركعتان، في كل ركعة ركوعان (11) على ما في حديث عائشة رضي الله عنها وما في معناه، قال أبو عمر (12) : ((وهذا أصح ما في هذا الباب، وغيره من الروايات التي خالفتها (13) معلولة (14) ضعيفة))، وأما (15) =(2/551)=@
__________
(1) في (ز):((أبو مالك)) .
(2) في (ب): ((لا يجمع)) .
(3) في (ب) و(ح) و(ز): ((أنها يجمع))، وفي (س) مكانها بياض.
(4) أخرجه البخاري(2/545رقم 1059) في الكسوف، باب الذكر في الكسوف، ومسلم (2/628 رقم 912) في الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف: ((الصلاة جامعة)) .
(5) في (أ): ((فافرغوا)) .
(6) في (أ): ((تفرغوا))، وفي (ز):((نزعوا)) .
(7) وزاد بعدها في (ز):((والله أعلم)) .
(8) أخرجه البخاري (2/533 رقم1046) في الكسوف، باب خطبة الإمام في الكسوف، وذكر أطرافه في (2/529 رقم1044) في الكسوف، باب الصدقة في الكسوف، ومسلم (2/619 رقم901/1 و3 و5) في الكسوف، باب صلاة الكسوف.
(9) أخرجه البخاري (2/549 رقم1065) في الكسوف، باب الجهرة بالقراءة في الكسوف، ومسلم (2/620 رقم901/5) في الكسوف، باب صلاة الكسوف.
(10) في (ح): ((فيهما)) .
(11) قوله:((ركوعان)) دخل عليها سواد في (ز).
(12) أي ابن عبدالبر. انظر "التمهيد"(3/302 و305-307)، و"الاستذكار"(7/93).
(13) في (ح) و(ز) و(س): ((خالفته)) .
(14) في (أ): ((معلومة)) .
(15) في (أ): ((أما)) بلا واو.(2/551)
الأحاديث الآتية بعد هذا التي تدل على أن في كل ركعة ثلاث ركوعات (1) ، أو أربع ركوعات (2) ، أو خمس ركوعات على ما في حديث أُبي (3) ؛ فقد قال بكل حديث منها طائفة من الصحابة وغيرهم، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن ذلك الاختلاف إنما كان بحسب طول مدة الكسوف وقصرها، وفي هذا نظر.
وقوله : ((قَامَ فَخَطَبَ)): دليل لمن قال: من سنتها الخطبة، وهم: الشافعي وإسحاق والطبري، وفقهاء أصحاب الحديث، وخالفهم (4) في ذلك مالك وأبو حنيفة، وقالا: إن هذه الخطبة إنما كان مقصودها زجر الناس عما قالوه (5) من أن الكسوف إنما كان لموت إبراهيم، وليخبرهم بما شاهد في هذه الصلاة؛ مما اطلع عليه من الجنة والنار.
وقوله: ((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله تَعَالَى))؛ أي: دليلان (6) على وجود الحق سبحانه (7) وقهره، وكمال إلاهيته (8) ، وخصهما (9) بالذكر؛ لما وقع للناس من أنهما يخسفان لموت عظيم، وهذا إنما صدر عمّن لا علم عنده، ممن ضعف عقله واختلّ فهمه (10) ، فردّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم (11) جهالتهم، وتضمّن ذلك الرد على [من قال] (12) بتأثيرات النجوم، ثم أخبر بالمعنى الذي لأجله يكسفان؛ وهو أن الله تعالى يُخوِّف بهما عباده. فإن قيل: فأي (13) تخويف في ذلك والكسوف أمر (14) عادي؛ بحسب تقابل هذه النيرات وحجب بعضها لبعض، وذلك يجري مجرى حجب الجسم =(2/552)=@
__________
(1) كما في رواية عبيد بن عمير عن عائشة الآتية برقم (771).
(2) كما في رواية ابن عباس الآتية برقم (774).
(3) أخرجه أبو داود (1/699 رقم1182) في الصلاة، باب من قال: أربع ركعات، وعبدالله بن أحمد في "زياداته على المسند" (5/134)، والحاكم (1/333)، وعنه البيهقي (3/329). جميعهم من طريق محمد بن عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...، الحديث، وفيه: ((وركع خمس ركعات، ثم سجد سجدتين)) .
قال الحاكم: ((الشيخان قد هجرا أبا جعفر الرازي، ولم يخرجا عنه، وحاله عند سائر الأئمة أحسن الحال، وهذا الحديث فيه ألفاظ، ورواته صادقون)) .اهـ.
وتعقبه الذهبي بقوله: ((خبر منكر، وعبدالله بن أبي جعفر ليس بشيء، وأبوه فيه لين)) .
وقال الشيخ الألباني في "الإرواء" (3/130 رقم661): « الحمل فيه على الأب، فإن ابنه قد توبع عليه عند غير الحاكم، وضعفه البيهقي بقوله:((وهذا إسناد ولم يحتج بمثله صاحبا الصحيح ». ونقل ابن الملقن في "خلاصة البدر المنير" (1/240) تصحيحه عن ابن السكن. وقال ابن عبدالبر في "التمهيد" (3/307): ((وليس هذا الإسناد عندهم بالقوي)) . وقال (ص311):((ولكنه حديث يدور على أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي، وقد تكلم في هذا الإسناد)) .
(4) في (ب): ((فخالفهم)) .
(5) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((قالوا)) .
(6) في (أ): ((دليلاً)) .
(7) في (ز):((سبحانه وتعالى)) .
(8) في (ز) و(س):((الالهبة)) .
(9) في (أ):((وخصها)) .
(10) وهم أهل الجاهلية.
(11) قوله:((عليهم)) ليس في (ر) و(س).
(12) قوله:((من قال)) ليس في (أ).
(13) في (أ) و(ز):((وأي)) .
(14) في (أ):((أثر)) .(2/552)
الكثيف نور (1) الشمس، عما تقابله (2) من الأرض، وذلك لا يحصل به تخويف؟ قلنا: لا نُسلم أن سبب الكسوف ما ادعوه، ومن أين عرفوا ذلك؟ أبالعقل (3) أم بالنقل؟ وكل واحد منهما إما بواسطة نظر، أو بغير واسطة، ودعوى شيء من ذلك ممنوع (4) ، وغايتهم أن يقولوا: ذلك مبني على أمور هندسية ورصدية تُفضي بسالكها (5) إلى القطع ، ونحن نمنع إفضاء (6) ما ذكروه إلى القطع (7) ، وهو أول المسألة. ولئن سلّمنا ذلك جدلاً، لكنا نقول : يحصل (8) بهما (9) تخويف العقلاء من وجوه متعددة (10) ، أوضحها: أن ذلك مذكر بالكسوفات التي تكون (11) بين يدي الساعة (12) ، ويمكن أن يكون ذلك الكسوف منها، ولذلك قام النبي (13) - صلى الله عليه وسلم - فزعًا يخشى أن تقوم الساعة. وكيف لا وقد قال الله عز وجل: {فإذا برق البصر ( وخسف القمر ( وجمع الشمس والقمر} (14) ؟ قال أهل التفسير: جمع بينهما في إذهاب نورهما. وقيل غير ذلك. وأيضًا فإن كل ما في هذا (15) العالم: علويّه وسفليّه دليل على نفوذ قدرة الله تعالى، وتمام قهره، واستغنائه، وعدم مبالاته؛ وذلك كله يُوجب عند العلماء بالله خوفه وخشيته؛ كما قال تعالى : {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (16) . وخصّ هنا خسوفهما بالتخويف؛ لأنهما أمران علويان نادران طارئان عظيمان، والنادر العظيم مخوف موجع؛ بخلاف ما يكثر وقوعه، فإنه لا يحصل منه ذلك غالبًا، وأيضًا فلما وقع فيهما من الغلط الكبير (17) للأمم (18) التي كانت تعبدهما، ولما وقع للجهّال (19) من اعتقاد تأثيرتهما (20) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُمْوه)): هذه (21) الرؤية هي (22) رؤية عيان حقيقة، لا رؤية (23) علم؛ بدليل: أنه رأى في الجنة والنار أقوامًا بأعيانهم، ونعيمًا وعذابًا (24) وقطفًا من عنب، وتناوله، وغير ذلك. ولا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها، لا سيما على مذاهب أهل السنة في أن الجنة والنار قد خُلقتا (25) ووُجدتا؛ =(2/553)=@
__________
(1) في (ح): ((لهذه)) بدل: ((نور)) .
(2) في (ب) و(أ) و(ز): ((يقابله)) .
(3) في (أ) و(ز) و(س): ((بالعقل)) .
(4) في (ح) و(ز) و(س): ((ممنوعة)) .
(5) في (ب): ((بسالكيها)) .
(6) في (ز) و(س):((أيضًا)) .
(7) قوله:((ونحن نمع إفضائ ما ذكروه إلى القطع)) وقوله:((يحصل)) ليس في (أ).
(8) قوله:((ونحن نمع إفضائ ما ذكروه إلى القطع)) وقوله:((يحصل)) ليس في (أ).
(9) في (ز) و(س):((فيهما)) .
(10) قوله:((متعددة)) ليس في (ز).
(11) في (ز):((يكون)) .
(12) في (أ):((الساعة)) .
(13) قوله:((النبي)) ليس في (ح) و(ز) و(س).
(14) سورة القيامة، الآية: 7-9.
(15) في (أ): ((ما كان في)) .
(16) سورة فاطر، الآية: 28.
(17) في (خ) و(ز) و(س):((الكثير)) .
(18) في (أ): ((الأمم)) .
(19) في (أ): ((الجهال)) .
(20) في (ح): ((تأثيرهما)) .
(21) في (ز) و(س):((وهذه)) .
(22) قوله: ((هي)) ليس في (ح).
(23) في (ح): ((رواية)) .
(24) قوله:((وعذابًا)) ليس في (ح) و(ز) و(س).
(25) في (ز):((خلقنا)) .(2/553)
كما دل عليه الكتاب والسنة، وذلك أنه (1) راجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إدراكًا خاصًّا به (2) ، أدرك (3) به الجنة والنار على حقيقتهما؛ كما قد خلق له إدراكًا لبيت المقدس، فطفق يخبرهم عن آياته، وهو ينظر إليه (4) .
ويجوز أن يقال: إن الله تعالى مثّل له (5) الجنة والنار، وصوّرهما له في الحائط؛ كما تتمثل صور المرئيات في المرآة، ويُعتضد هذا بما رواه البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - في غير حديث الكسوف، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((لقد رأيت الآن منذ (6) صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين (7) في قبلة هذا الجدار))، وفي لفظ أنس (8) (9) : ((عرضت عليَّ الجنة والنار (10) آنفًا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي))، وقال فيه مسلم: ((إني صُوِّرت لي الجنة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط))، ولا يستبعد هذا من حيث: إن (11) الانطباع في المرآة إنما (12) هو في الأجسام الصقيلة؛ لأنا نقول: إن ذلك (13) شرط عادي لا عقلي، ويجوز أن تنخرق (14) العادة وخصوصًا في مدة النبوة، ولو سُلِّم أن تلك الشروط عقلية؛ فيجوز أن تكون تلك الأمور موجودة في جسم الحائط، ولا يُدرِك ذلك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - . و((قطف الثمرة)): ما يقطف منها؛ أي: يقطع منها (15) ويُجتنى، وهو هنا عنقود من العنب؛ كما قد جاء مفسرًا في الرواية الأخرى.
و ((يَحْطِمُ)) (16) ؛ أي: يكسر (17) بعضها على بعضٍ كما يفعل البحر (18) . والْحَطْم (19) : الكسر، ويحتمل أن يريد بذلك: أن بعضها يأكل بعضًا، وبذلك سميت جهنم: الحطمة. والرجل الحطمة: الأكول (20) . =(2/554)=@
__________
(1) قوله: ((أنه)) ليس في (ب).
(2) قوله: ((به)) ليس في (ب) و(ز) و(س).
(3) في (ب): ((وأدرك)) .
(4) تقدم برقم (136) في كتاب الإيمان، باب رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء ووصفه لهم.
(5) قوله:((له)) ليس في (أ).
(6) في (أ):((مذ)) .
(7) في (ب) و(ح): ((متمثلتين))، وفي (أ):((ممثلين)) .
(8) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((آخر)) بدل: ((أنس)) .
(9) سيأتي برقم (2262) في المناقب، باب ترك الإكثار من مُسَاءلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(10) قوله:((والنار)) ليس في (ر) و(س).
(11) قوله:((إن)) سقط في (ز).
(12) في (س):((شتبه أن تكون((افا)) وتراجع.
(13) قوله:((ذلك)) غير واضحة في (ز).
(14) في (أ): ((تتمكن)) .
(15) قوله: ((منها)) ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(س).
(16) وفي (ز):((ويخطم)) .
(17) في (أ):((يكبر)) .
(18) قوله:((البحر)) ليس في (أ).
(19) في (ز):((الخطم)) .
(20) في (ح): ((الأكلول)) .(2/554)
و((ابْنَ لُحَيٍّ)): اسمه عمرو، ولُحَيٌّ أبوه، ابن قِمّعة بن إلياس، وهو الذي كنّاه في الحديث الآخر (1) بأبي ثمامة، وسماه: بـ((عمرو بن مالك)). ولُحَيّ: لقب مالك ، وقد جاء في رواية أخرى (2) : عمرو بن عامر الخزاعي (3) . والله أعلم.
وكان عمرو هذا (4) أول من غيّر دين إسماعيل - عليه السلام - ، فنصب الأوثان، وبَحّر البحيرة، وسيّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي؛ فيما ذكر ابن إسحاق (5) ، وهو الذي عنى الله تعالى بقوله : {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا (6) يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون (7) } (8) .
وقد اختُلف (9) في تفسير هذه الأشياء، فالسائبة: الناقة إذا تابعت بين (10) عشر إناث ليس بينهن ذكر، سُيِّبت فلم يُركب ظهرها، ولم يُجَزَّ وبرها، ولم يَشرب لبنَها إلا ضيفٌ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقَّت أذنها، ثم خُلِّي سبيلها مع أمها على حكمها، وهي البحيرة بنت السائبة، وسُمِّيت بذلك؛ لأنها بُحرت أذنها؛ أي: شُقّت شَقًّا واسعًا، وهذا (11) قول ابن إسحاق. وقال غيره: السائبة: هي (12) التي ينذرها الرجل أن يسيبها (13) إن برأ من مرضه، أو أصاب أمرًا يطلبه، فإذا كان ذلك [أسابها] (14) فسابت، لا ينتفع بها.
قال ابن إسحاق (15) : والوصيلة: الشاة إذا أَتْأمَتْ (16) عشر (17) إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذَكر، قالوا: وصلت، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلا أن يموت شيء منها فيشترك فيه (18) ذكورهم وإناثهم، وقال كثير من أهل اللغة: إن الشاة كانت إذا ولدت أنثى (19) فهي لهم، وإذا ولدت ذكرًا ذبحوه (20) لآلهتهم (21) ، فإذا (22) وَلَدت ذكرًا وأنثى لم يذبحوا الذكر، وقالوا: وصلت أخاها؛ فيسيبون (23) أخاها ولا ينتفعون به.
و((الحامي)): الفحل إذا رُكِب وَلَدُ ولده، وقيل: إذا نتج (24) من صلبه عشرة أبطن؛ قالوا: حمى ظهره، فلا يُركب، ولا يُنتفع به، ولا يُمنع من ماءٍ ولا كلأٍ. =(2/555)=@
__________
(1) أي: حديث جابر الآتي قريبًا برقم (772).
(2) وهي الآتية برقم (863) في التفسير، باب ومن سورة العقود.
(3) قوله:((وقد جاء في رواية أخرى:((مور بن عامر الخزاعي)) ليس في (أ).
(4) في (ز) و(س):((هو)) بدل((هذا)) .
(5) كما في السيرة النوية لابن هشام (1/202)، ورواه ابن جرير في "تفسيره" (11/117-118 رقم12820) طريقه ؛ قال: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأكثم بن الجون: (( يا أكثم ! رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به، ولا به منك !))، فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله !؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيَّب السائبة وحمى الحامي)) . وسنده حسن.
(6) قوله: ((كفروا)) ليس في (ح).
(7) في (ح): ((لا يعلمون)) .
(8) سورة المائدة ، الآية: 103.
(9) في (أ):((وقد اختلف العلماء)) .
(10) في (أ):((من)) بدل:((بين)) .
(11) في (أ) و(ز) و(س):((هذا)) بلا واو.
(12) قوله:((هي)) ليس في (ح).
(13) في (س):((أي يسبيها)) وفي (أ):((أي يسيبها)) .
(14) في (أ): ((سابها)) .
(15) كما في "السيرة" لابن هشام (1/214).
(16) في (ز):((إذا تأمت)) أي: ولدت اثنين في بطن واحد. انظر "لسان العرب" (12/61).
(17) في (ز) و(س):((نامت عشرة)) .
(18) في (أ): ((فيها)) .
(19) قوله:((أنثى)) غير واضحة في (ز).
(20) في (أ): ((دعوه))، وانظر لذلك "تفسير الطبري" (11/130 رقم 12839).
(21) في (ز) رسمت هكذا((لالهتهم)) .
(22) في (ح):((وإذا)) .
(23) في (أ):((فيسيبو)) .
(24) قوله:((نتج)) لم تنقط في (ز).(2/555)
وقوله : ((بَعَثَ مُنَادِيًا: الصَلاَةُ جَامِعَةُ، فَاجْتَمَعُوا))؛ أي: ينادي، أو يقول ذلك، ولهذا الحديث استحسن الشافعي أن يقال ذلك في الخسوف. وهو حجة للجمهور على أبي حنيفة؛ إذ قال: لا يُجتمع لها، والكل متفقون على أنه لا يُؤذّنَ لها (1) ولا يقام.
وقوله : ((أَنَ النَبِيَ - صلى الله عليه وسلم - جَهَرَ فِي صَلاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ))؛ أخذ بظاهر هذا جماعة من السلف ومحمد بن الحسن وأبو يوسف وأحمد وإسحاق وفقهاء الحديث، ورواه معن والواقدي عن مالك؛ فقالوا: يُجهرُ بها في صلاة كسوف الشمس، ومشهور قول مالك: الإسرارُ فيها، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والليث وسائر أصحاب الرأي؛ مُتمسكين بقول ابن عباس (2) رضي الله عنهما: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ فيها نحو سورة البقرة))، قالوا (3) : ولو جهر لعُلم ما قرأ (4) ، وبما (5) خرّجه النسائي (6) من حديث سمرة بن جندب، وَوَصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف وقال (7) : ((فصلى، فقام كأطول (8) قيام قام بنا في صلاة قط، مانسمع (9) له صوتًا...، وذكر الحديث. وتأولوا الحديث الأول على أنه كان في خسوف القمر بالليل، وخيَّر الطبري بين الجهر والإسرار، فأعمل (10) الحديثين.
وقوله: ((يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! إِنْ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ الله)): ((إن)) نافية بمعنى ((ما))، و((من)) زائدة على اسم ((إن)). و((أغير (11) ))بالنصب (12) : خبر إنْ النافية، فإنها تعمل عمل ((ما)) عند الحجازيين، وعلى التَّميمية: هو مرفوع على أنه خبر المبتدأ الذي هو أحد. =(2/556)=@
__________
(1) قوله:((لها)) ليس في (ز).
(2) أخرجه مسلم (2/626 رقم907) في الكسوف، باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، وسيورده المصنف في "التلخيص" برقم (773)، لكن مختصرًا ليس فيه موضع الشاهد هنا.
(3) قوله:((قالوا)) ليس في (أ).
(4) في (ب): ((بما قرأ)) .
(5) في (ز) و(س):((وربما)) .
(6) في "سننه" (3/140-141 رقم1484) كتاب الكسوف، باب نوع آخر، وأخرجه أحمد (5/14و16و16-17 و17و19و23)، وأبوداود (1/700-701 رقم1184) في الصلاة، باب من قال: أربع ركعات، وابن ماجه (1/402 رقم1264) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الكسوف، والترمذي (2/451 رقم562) في الصلاة، باب ما جاء في صفة القراءة في الكسوف، وابن خزيمة (2/325-326 رقم1397)، وابن حبان (7/94، 94-95، 101-103رقم2851، 2852، 2856-الإحسان)، والحاكم (1/239- 331)، والبيهقي (3/339). جميعهم من طريق الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عباد العبدي، عن سمرة بن جندب: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم في كسوف الشمس لا يسمع له صوت)) . قال الترمذي:((حديث سمرة حديث حسن صحيح))، وقال الحاكم: ((صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي، وحسنه البغوي في "شرح السنة" (4/381).
وفي سنده: ثعلبة بن عباد، لم يرو عنه سوى الأسود بن قيس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وسكت عليه البخاري، وأبو حاتم، وذكره ابن المديني في المجاهيل الذين روى عنهم الأسود بن قيس، وقال ابن حزم وابن القطان: ((مجهول))، قال الحافظ: ((وكذا نقل ابن المواق عن العجلي))، انظر "تهذيب التهذيب" (1/272)، و"الثقات" (4/98). وفي "التقريب" (851): ((مقبول)) . والحديث أخرجه الحاكم أيضًا (1/334) وصححه، فتعقبه الذهبي بقوله: ((ثعلبة مجهول، وما أخرجا له شيئًا)) .اهـ.
وقد صحح حديثه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان كما سبق، وضعفه ابن حزم في "المحلى" (5/102) بقوله:((هذا لا يصح ؛ لأنه لم يروه إلا ثعلبة بن عباد العبدي، وهو مجهول)) .
وضعفه الشيخ الألباني في "الإرواء" (3/130-131 رقم662).
(7) في (ب): ((فقال))، في (ح) و(ز) و(س): ((قال)) .
(8) في (أ): ((بأطول))، والمثبت من (ب) و(ح)، وهو موافق لما في "سنن النسائي"، وكذا الفرق الآتي.
(9) في (أ): ((ما سمع)) .
(10) في (أ):((وأعمل)) .
(11) في (أ):((وغير)) .
(12) قوله:((بالنصب)) ليس في (أ).(2/556)
والغَيْرة في حقنا راجعة إلى تغير وانزعاج وهيجان؛ يلحق الغيران (1) عندما يُنال (2) شيء من حرمه أو محبوباته؛ يحمل على صيانتهم ومنعهم. وهذا التغيّر على الله تعالى محال؛ إذ هو مُنزَّه عن كل تغير ونقص، لكن لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم، وزجر القاصد إليهم؛ أطلق ذلك على الله تعالى؛ إذ قد زجر وذمّ ونصب (3) الحدود، وتوعد بالعقاب الشديد من تعرض لشيء من محارمه، وهذا من التجوّز، ومن باب تسمية الشيء باسم ما يترتب عليه (4) ، وقد قررنا نحو (5) هذا المعنى في كتاب الايمان في الغضب والرضا (6) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا)): يعني ما يعلم هو من أمور الآخرة وشدة أهوالها، ومما أُعِدّ في النار من عذابها وأنكالها، ومما أُعِدّ في الجنة من نعيمها وثوابها، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد كان رأى (7) كل ذلك مشاهدة وتحقيقًا، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - متواصل الأحزان (8) ، قليل الضحك، جلّه التبسم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟)) يعني: ما أمر به بتبليغه (9) من الإنذار والتحذير والتنزيل. =(2/557)=@
__________
(1) في (ح): ((الغير)) .
(2) في (ب): ((تنال)) .
(3) في (ز):((ونصبت)) .
(4) قوله:((باسم ما يترتب عليه)) ليس في (أ).
(5) قوله:((نحو)) ليس في (س) و(ز).
(6) الصواب إثبات ما أثبته الله لنفسه من صفات الجلال والكمال من غير تأويل ولا تمثيل، وغيرة الله عز وجل وغضبه ورضاه ثابتة للرب جل وعلا؛ كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه.
(7) وضع بجانها في الهامش [ تراجع في (ز)].
(8) ضعيف، تقدم تخريجه في (108) في الصلاة، باب أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وكراهية التعمق والتشديد.
وسبق التعليق بأن الخبر الذي فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متواصل الأحزان لا يثبت، وأن الله قد صان نبيه عن الحزن على الدنيا، ونهاه عن الحزن على الكفار، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فمن أين يأتيه الحزن؟! انظر "مدارج السالكين" (1/507).
(9) في (س) و(ز):((به بتبليغه)) .(2/557)
***********
( 3 ) باب ما جاء أن في كل ركعة ثلاث ركعات
5- عَنْ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ (1) : أَنَّ الشَّمْسَ انْكَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَامَ قِيَامًا شَدِيدًا، يَقُومُ قَائِمًا ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ ثُمَّ يَرْكَعُ، رَكْعَتَيْنِ فِي ثَلاثِ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ. فَانْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ قَالَ: ((الله أَكْبَرُ))، ثُمَّ يَرْكَعُ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، قَالَ: ((سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ)). فَقَامَ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا حَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ الله، يُخَوِّفُ الله بِهِمَا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفًا فَاذْكُرُوا الله حَتَّى يَنْجَلِيَا)).
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَهَا قَالَتْ: صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ.
6- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ (2) قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ. فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى بِالنَّاسِ سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، بَدَأَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَرَأَ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ - وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَطَالَ القِيَامْ حَتَى جَعَلَوا يَخِرُّونَ -، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَرَأَ قِرَاءَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الأُولَى، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَرَأَ قِرَاءَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ أَيْضًا ثَلاثَ رَكَعَاتٍ، لَيْسَ فِيهَا رَكْعَةٌ إِلا الَّتِي قَبْلَهَا أَطْوَلُ مِنِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَرُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ.
ثُمَّ تَأَخَّرَ وَتَأَخَّرَتِ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا - وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى انْتَهَى - إِلَى النِّسَاءِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَتَقَدَّمَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى قَامَ فِي مَقَامِهِ فَانْصَرَفَ حِينَ انْصَرَفَ وَقَدْ آضَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ! إِنَّمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله، وَإِنَّهُمَا لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ، مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)). وَفِيهَا: ((وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ)).
وَفِي أُخْرَى: ((فَرَأَيْتُ فِيْهَا امْرَأَةً حِمْيَرِيَّةً سَوْدَاءَ طَوِيلَةً - وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ -، ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي مَقَامِي، وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرِهَا لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ بَدَا لِي أَلا أَفْعَلَ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلاتِي هَذِهِ)).
7- وَمِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَاسٍ (3) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَفَفْتَ - وَفِي رِوَايَةٍ: تَكَعْكَعْتَ- فَقَالَ: ((إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا. وَرَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ. وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ)) قَالُوا: بِمَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ: ((بِكُفْرِهِنَّ)) قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِالله؟ قَالَ: ((يَكْفُرْنَ الْعَشِيرِ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانِ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء أن (4) في كلّ ركعة ثلاث ركوعات أو أكثر
قولها (5) : ((وَرُكُوعُهُ نَحْو مِنْ سُجُودِهِ))؛ تعني (6) : أن سجوده فيهما (7) كان طويلاً؛ إلا أنه دون الركوع؛ لأنه قد نص على أنه كان (8) يطول كل ركعة؛ غير أنه كان يطول في المتقدمة أكثر مما يطول في التي تليها. فإذا (9) كانت كل ركعة طويلة والسجود نحو الركوع؛ لزم أن يكون السجود طويلاً، وقد نصَّت على ذلك في حديث آخر فقالت : ((ما ركعت ركوعًا ولا سجدت سجودًا كان أطول منه)) (10) ، وفي حديث أبي موسى (11) : ((فقام فصلى بأطول قيام وركوع وسجود))، وهو حجة لقول مالك في "المدونة"، وقول إسحاق وبعض أصحاب الحديث، وحُكي عن الشافعي، وقال =(2/558)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/620 رقم902/6) في الكسوف، باب صلاة الكسوف.
(2) مسلم (2/623 رقم904-10) في الكسوف، باب عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.
(3) أخرجه البخاري (2/540/1052) في الكسوف، باب صلاة الكسوف جماعة، وذكر أطرافه في (1/83 رقم29) في الإيمان، باب كفران العشير وكفر دون كفر، ومسلم (2/626 رقم907) في الكسوف، باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.
(4) قوله:((أَنَّ)) ليس في (أ) و(ح).
(5) في (ب) و(ح) و(أ) و(ز) و(س):((وقولها))، والصواب أن يقول:((وقوله)) ؛ لأن هذا من حديث جابر ، لا من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6) الصواب أن يقول: ((يعني)) كما في التعليق السابق، وفي (ز)((يعني)) جاءت على الصواب.
(7) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((فيها)) .
(8) قوله:((كان)) ليس في (س).
(9) في (ح): ((وإذا)) .
(10) سيأتي برقم (776).
(11) مسلم (2/628-629 رقم912) في الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف((الصلاة جامعة))، وتقدم مختصرًا برقم (769).(2/558)
مالك في "المختصر": ((إنه لا يطوِّل السجود، وإنه كسائر الصلوات))، وهو المعروف من قول الشافعي.
وقوله : ((ثُمَّ تَأَخَّرَ وَتَأَخَّرَتِ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى النِّسَاءِ))، هذا التأخر كان في الصلاة، وهو الذي عبّر (1) عنه في الحديث الآخر (2) بالقهقرى (3) ، الذي فعله مخافة أن يصيبه لفح النار، على ما فسره بعد. وكونه تقدم - أي: رجع - إلى الموضع الذي كان فيه، ويحتمل أن يعبر (4) بذلك على (5) التقدم (6) الذي تقدمه (7) ؛ ليتناول القطف من الجنة، والله تعالى أعلم.
وهذا يدل على أن العمل غير الكثير في الصلاة لا يفسدها، وسيأتي خروج النساء إليها.
و((آضتِ الشمس))؛ أي: عادت (8) إلى حالتها الأولى (9) ، واختلف النحويون في ((آض)): هل هي (10) من أخوات كان فتحتاج إلى اسم وخبر، أو إنما تتعدى إلى مفعول =(2/559)=@
__________
(1) في (ب): ((غمّر)) .
(2) قوله: ((الآخر)) ليس في (ح).
(3) لعله يريد التكعكع أو الكف الوارد في حديث ابن عباس الآتي.
أما إن كان مراد المصنف: لفظ:((القهقرى))، فهذا لم يرد في حديث صلاة الكسوف، وإنما ورد في حديث تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة صفة الصلاة وهو على المنبر، وهذا الحديث تقدم برقم (430) في باب جواز حمل الصغير في الصلاة، وجواز التقدم والتأخر.
(4) بياض في (أ).
(5) في (ز):((عن)) .
(6) قوله:((التقدم)) لم يتضح في (ز).
(7) في (أ): ((تقدم)) .
(8) في (ح): ((عادت الشمس)) .
(9) في (ح): ((حالها الأولى))، وفي (ب): ((حالها الأول))، وفي (ز):((عادتها الأولى)) .
(10) في (ح): ((هل هو)) .(2/559)
واحد بحرف الجر (1) ؟ على قولين.
وهذا الحديث يدل على (2) أنها مما تتعدى (3) إلى مفعول واحد بحرف جر (4) ، غير أنه حذف هنا، وقد يُحذف حرف الجر فينتصب (5) ما حذف (6) منه حرف الجر؛ كما (7) قال:
وآض روض اللهو يبسًا ذوايًا ... ................................
وقد روي هذا الحرف هنا: ((أضاءت (8) الشمس)) (9) ؛ أي (10) : ظهر ضوؤها، يقال: ضاءت الشمس، وأضاءت بمعنى واحد.
وقوله: ((فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ))؛ أي: تنكشف، وهذا يدل على أن وقت الكسوف ينبغي أن يكون (11) معمورًا بالصلاة، فإما بتطويل الصلاة، أو بتعديد الركعات كما تقدم وهذا الأمر على جهة الندب؛ بدليل: أنه قد تقدم (12) أنه - صلى الله عليه وسلم - انصرف منها قبل أن تنجلي (13) الشمس (14) .
و ((لفح النار)): شدة لهبها وتأثيرها (15) ، ومنه قوله تعالى : {تلفح وجوههم النار} (16) ، واللفح أشد تأثيرًا من النفح؛ كما قال تعالى : {ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك} (17) ؛ أي: أدنى شيء منه؛ قاله (18) الهروي.
و ((الْمِحْجَنِ)): عصا معقفة الطرف؛ وهي الْخُطّاف. و((القُصب)): الأمعاء؛ بضم القاف، وهي الأقتاب أيضًا. و((خشاش الأرض)): بفتح الخاء والشين =(2/560)=@
__________
(1) في (ب): ((بحرف جر)) .
(2) قوله:((على)) ليس في (س) و(ز).
(3) في (س):((يتعدى)) .
(4) قوله: ((على قولين...)) إلى هنا ليس في (ب).
(5) في (أ): ((فينصب)) .
(6) قوله:((ما حذف)) ليس في (أ) وفي (س) و(ز):((ما يحذف)) .
(7) القائل هو: ابن دريد كما في ديوانه (ص 123)، وعجز البيت:
................................. ... من بعد ما قد كان مجَّاج الثرى
(8) في (ح): ((آضاءت)) .
(9) أخرجه ابن خزيمة في"صحيحه"(2/318-319 رقم1386)، ومن طريقه ابن حبان في "صحيحه" (7/87-88 رقم2844/الإحسان طريق يحيى القطان، عن عبدالملك بن سليمان، عن عطاء، عن جابر - رضي الله عنه - . وسنده صحيح.
(10) في (ز):((إلى)) .
(11) قوله:((أن يكون)) ليس في (أ).
(12) قوله:((قد تقدم)) ليس في (أ).
(13) تصحفت الكلمة في (ز) إلى((يتجلى)) .
(14) لم أجد حديثًا صريحًا في ما ذكره المصنف قد تقدم، لكن سيأتي حديث عبدالرحمن ابن سمرة - رضي الله عنه - برقم (10)، وفيه: ((فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيَحْمَدُ وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَيَدْعُو، حَتَّى حُسِرَ عَنْهَا، قَالَ: فَلَمَّا حُسِرَ عَنْهَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ)) .
وذكر المصنف في الشرح هناك الخلاف في ذلك، وبعض الأحاديث التي استُدِلَّ بها.
(15) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((وتأثيره)) .
(16) سورة المؤمنون، الآية: 104.
(17) سورة الأنبياء، الآية: 46.
(18) في (أ):((قال)) .(2/560)
المعجمتين، وهي (1) هوام الأرض، وقيل: صغار الطير، ويقال (2) : بكسر الخاء. وحُكي عن أبي علي : أنه قال (3) : خُشاش (4) بضمها. وقيل: لا يقال في الطير إلا بالفتح (5) .
و((تَكَعْكَعْتَ))؛ أي: أحجمت وجَبُنت (6) ، يقال: تكعكع الرجل، وتكاعى وكعَّ كعوعًا؛ إذا أحجم وجبن؛ قاله الهروي وغيره.
قال الشيخ: وهو في هذا (7) الحديث بمعنى: ((كففت))؛ كما قاله في الرواية الأخرى، وكما قال (8) :
ولكنني أمضي على ذاك (9) مقدمًا إذا بعض من لاقى (10) الخطوب تكعكعا
وقال آخر (11) :
كعكعته بالرجم والتَّنَجُّهِ (12)
أي: كففته (13) .
وقوله: ((وَلَقَدْ (14) مَدَدْتُ يَدِي))، إلى قوله: ((ثُمَّ بَدَا لِي (15) أَلا أَفْعَلَ))، وقع في رواية أخرى (16) : ((فقصرت يدي عنه)). ووجه الجمع: أنه لما تحقق أنه لا يناله، بدا له فيما همّ به، فقصرت يده عنه؛ أي: بصرفه إياها عن الأخذ. ويحتمل أنه (17) يريد أنه لم تلحقه يده؛ لأنه مدخر (18) ليوم الجزاء. وقد تقدم الكلام على بقية هذا الحديث فيما تقدم. =(2/561)=@
__________
(1) في (أ):((وهي من)) .
(2) في (ح):((وقيل)) .
(3) في (ح) و(ز) و(س):((يقال)) .
(4) قوله:((خشاش)) ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(س).
(5) في (ز):((الفتح)) .
(6) في (س) و(ز):((وخفت)) .
(7) قوله:((هذا)) ليس في (أ).
(8) القائل هو متمم بن نويرة ؛ كما في "التمهيد" لابن عبدالبر (3/319)، و"لسان العرب" (8/313).
(9) في (أ):((ذلك))، والتصويب من المرجعين السابقين.
(10) في "اللسان": ((يلقى)) .
(11) هو: رؤبة بن العجاج ؛ كما في "لسان العرب" (13/547).
(12) في الأصل: ((بالزجر والتنحُّب))، والتصويب من "لسان العرب"، ويدل عليه شطر البيت ؛ حيث قال: أو خاف صَقْع القارعات الْكُدَّهِ
(13) قوله: ((وكما قال: ولكنني أمضي...)) إلى هنا ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(س).
(14) في (أ): ((ولو)) .
(15) في (أ):((إلي)) .
(16) عند مسلم (2/622 رقم904/9) في الكسوف، باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.
(17) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((أن)) .
(18) في (ح):((لأنه مدخر عن الأخذ)) .(2/561)
************
( 4 ) باب ما جاء أن في كل ركعة أربع ركعات
8- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ وَعَنْ عَلِيٍّ، مِثْلُ ذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ. قَالَ: وَالأُخْرَى مِثْلُهَا.
( 5 ) باب يطول سجودها كما يطول ركوعها
9- عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (2) أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نُودِيَ أَنَ الصَّلاةَ جَامِعَةً، فَرَكَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ جُلِّيَ عَنِ الشَّمْسِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ وَلا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ، كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث عمرو (3) - رضي الله عنه - (4) : ((رَكَعَ (5) رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ (6) ))، يعني بالسجدة: الركعة. وقد تقدم تسمية أهل الحجاز الركعة بالسجدة (7) . =(2/563)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/627 رقم908) في الكسوف، باب ذكر من قال: أنه ركع ثمان ركعات في أربع سجدات.
(2) أخرجه البخاري(2/538رقم1051) في الكسوف، باب طول السجود في الكسوف، وذكر طرفه في (2/533 رقم1045) في الكسوف، باب النداء بالصلاة جامعة في الكسوف، ومسلم(2/627 رقم910) في الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف:((الصلاة جامعة)) .
(3) انتقلت واو((عمرو)) بعد صيغة الترضي، وهي في (ب) و(ح) على الصواب ؛ لأن صيغة الترضي غير موجودة. [كتب بجانب هذا الهامش في جانب الورقة (لم يُذكر اسم النسخة التي فيها انتقال واو عمرو)]
(4) وكذا في جميع نسخ "المفهم" و"التلخيص":((حديث عمرو))، والصواب:((عبدالله بن عمرو بن العاص)) كما في "صحيح مسلم".
(5) في (س) و(أ) و(ز):((عُمر وركع)) كذا رسمت.
(6) في (ز) و(س):((سجوده)) .
(7) وزاد بعدها في (ز)((والله أعلم)) .(2/562)
************
( 6 ) باب ما جاء أن صلاة الكسوف ركعتان كسائر النوافل
10- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ (1) ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُنْتُ أَرْتَمِي بِأَسْهُمٍ لِي بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَنَبَذْتُهَا: فَقُلْتُ: وَالله! لأَنْظُرَنَّ إِلَى مَا حَدَثَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الصَّلاةِ، رَافِعٌ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيَحْمَدُ وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَيَدْعُو، حَتَّى حُسِرَ عَنْهَا، قَالَ: فَلَمَّا حُسِرَ عَنْهَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَدْعُو وَيُكَبِّرُ وَيَحْمَدُ وَيُهَلِّلُ، حَتَّى جُلِّيَ عَنِ الشَّمْسِ، فَقَرَأَ سُورَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء أن كسوف الشمس ركعتان كسائر النوافل
قوله: ((أَرْتَمِي))؛ أي: أرمي الغرض. يقال: رمى وارتمى بمعنى واحد. =(2/563)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/629 رقم913-25و26) في الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف " الصلاة جامعة)) .(2/563)
و((نَبَذْتُهَا)): رميتها (1) من يدي. و((حُسِرَ)): كشف.
وقوله: ((قَرَأَ سُورَتَيْنِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ))، قد تقدم الكلام عليه، ونزيد هنا تنبيهًا (2) ؛ وهو: أن ظاهر هذا الحديث: أن صلاته هاتين الركعتين لم تكن (3) لأجل أنها صلاة الكسوف؛ لأنه إنما صلى بعد الانجلاء، وهو الزمان الذي يفرغ فيه من العمل فيها؛ لأنه الغاية التي مدّ فعل صلاة الكسوف إليها بقوله (4) : ((فصلوا حتى ينجليا (5) ))، فلا حجة فيه للكوفيين غير أنه قد روى أبو داود (6) من حديث النعمان بن بشير قال : ((كسفت الشمس (7) على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها، حتى انجلت))، وهذا معتمدٌ قوي للكوفيين؛ غير أن الأحاديث المتقدمة أصح وأشهر، ويصح حمل هذا الحديث على أنه بيَّن فيه جواز مثل هذه الصلاة في الكسوف، وإن كان المتقرر (8) في الأحاديث المتقدمة هو السنة، والله أعلم. =(2/564)=@
__________
(1) في (أ): ((ونبذتهما: رميتهما))، وفي (ب): ((ونبذت بها))، وفي (س) و(ز):((وقيدتها رميتها)) .
(2) في (ح): ((ونزيد هنا أي تنبيهًا)) .
(3) في (ح) و(ز) و(س): ((يكن)) .
(4) في الحديث المتقدم. برقم (771).
(5) في (ب): ((تنجليا)) .
(6) في "سننه" (1/704 رقم1193) في الصلاة، باب من قال: يركع ركعتين، والإمام أحمد (4/269و271و277)، والنسائي (3/141و145 رقم1485و1489و1490) في صلاة الكسوف، باب نوع آخر، وابن ماجه (1/401 رقم1262) في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الكسوف، وابن خزيمة (2/330 رقم1403و1404)، والحاكم (1/332)، وقال:((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ))، ووافقه الذهبي. وذكر الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (2/181) أن ابن عبدالبر صححه، وأن ابن أبي حاتم أعلّه بالانقطاع.
والحديث ضعفه الشيخ الألباني في تعليقه على "صحيح ابن خزيمة" (2/329 رقم1402)، وأعلّه بالاضطراب والانقطاع بين أبي قلابة والنعمان بن بشير.
(7) في (س):((السمش)) .
(8) في (ز):((المتفرد)) . [وتراجع](2/564)
************
( 7 ) باب شهود النساء صلاة الكسوف
11- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ (1) قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ يُصَلُّونَ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ. فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَأَطَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقِيَامَ جِدًّا، حَتَّى تَجَلانِي الْغَشْيُ - أَو الغَشِيُّ - فَأَخَذْتُ قِرْبَةً مِنْ مَاءٍ إِلَى جَنْبِي، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي، أَوْ عَلَى وَجْهِي مِنَ الْمَاءِ، قَالَتْ: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((أَمَّا بَعْدُ، مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ رَأَيْتُهُ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَإِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَرِيبًا، أَوْ مِثْلَ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ- لا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ - لا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ، هُوَ رَسُولُ اللهِ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَأَجَبْنَا وَأَطَعْنَا ثَلاثَ مِرَارٍ، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ. قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ إِنَّكَ لَتُؤْمِنُ بِهِ، فَنَمْ صَالِحًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ - لا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب شهود النساء صلاة الكسوف
اختلف في مخاطبة النساء بصلاة الكسوف، فقيل: يُخاطب بها الجميع والنساء (2) والمسافرون، وهذا مشهور مذهب مالك، وعند الشافعي. وروي عن مالك أيضًا ما يدل على أنما (3) يخاطب بها من يُخاطب بالجمعة، فيخرج منها النساء والمسافرون. وذهب الكوفيون إلى أنهن يُصلين أفرادًا (4) لا جماعة.
وهذا الحديث وحديث (5) جابر (6) يدلان (7) على حضور النساء لها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما خرجن من بيوتهن ولا حضرن الصلاة إلا وقد صح عندهن أنهن مخاطبات بذلك. وأيضًا فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة))؛ يدل على أنهن مخاطبات بذلك، وهذا الخطاب (8) وإن كان أصله للذكور؛ فالنساء مندرجات فيه؛ كما اندرجن في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا (9) إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (10) ، و{كتب عليكم الصيام} (11) ، وغير ذلك من خطابات التعبدات العامة (12) ، والنساء داخلات فيها باتفاق.
واختلف فيمن فاتته صلاة الكسوف مع الإمام، هل يصليها وحده؟ على قولين لأهل العلم، ومن أصحابنا من قال: لا تلزمه، وهو أصل مالك (13) : في أن السنن لا تُقضى إذا فاتت (14) بفوات أفعالها وأوقاتها (15) . =(2/565)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (1/288 رقم 184) في الوضوء، باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل. وذكر أطرافه في (1/182 رقم 86) في العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس، ومسلم (2/624 رقم905/11) في الكسوف، باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.
(2) قوله:((النساء)) سقط في (ز).
(3) في (ز) و(س:((أنه)) وفي (أ) يشبه أن تكون((إنما)) .
(4) في (ز) و(س):((أفذاذًا)) .
(5) في (س) و(ز):((حديث)) بلا واو.
(6) المتقدم برقم (772).
(7) في (ب): ((يدل)) .
(8) قوله:((الخطاب)) ليس في (أ).
(9) قوله: {يا أيها الذين آمنوا} ليس في (ز) و(س) و(أ).
(10) سورة المائدة، الآية: 6.
(11) سورة البقرة، الآية: 183.
(12) قوله:((العامة)) ليس في (أ).
(13) في (ح): ((وهو أصل لمالك)) .
(14) في (ز):((فانت)) .
(15) في (ح) و(ز) و(س): ((أو أوقاتها)) .(2/565)
وقولها : ((حتى تجلاني الغَشْيُ أو الغَشِيُّ)): الأول بسكون الشين، والثاني بكسرها، وكلاهما بالغين المعجمة، وهما بمعنى واحد، وهو خفيف (1) الإغماء، وأتى الراوي باللفظين لأنه شك هل سمعه منها مُسَكّنة أو مثقَّلة. ووقعت هذه اللفظة عند الطبري بالعين المهملة، وليس بشيء.
وقولها : ((فجعلت أصب على رأسي ووجهي الماء))، هذا كان منها لطول القيام وشدة الحر، فإنها (2) رأت أن فعل مثل هذا مع شدة الحاجة إليه يجوز؛ لخفة أمر ما ليس بفريضة، ولأن هذا الفعل ليس من قبيل العمل الكثير الذي ينصرف به عن الصلاة؛ كتأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتقدمه في هذه الصلاة. وفي هذا الحديث أبواب كثيرة =(2/566)=@
__________
(1) في (ر) و(س): (حقيقة)) .
(2) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((وكأنها)) .(2/566)
من الفقه؛ منها ما ذكر، ومنها ما لم يذكر؛ إلا أنها (1) لا تخفى على المتأمل الفطن.
وقول عائشة رضي الله عنها : ((ففزع فأخطأ بدرع))، قد تقدم الكلام على الفزع، ومعنى: ((أخطأ بدرع))؛ أي غلط (2) في ثوبه فلبس (3) درعًا غَيْره (4) لاستعجاله (5) ، وفي بعض رواياته (6) : ((فخطا بدرع))- ثلاثيًّا -. قال القاضي: ولعله : ((خطئ)). قال ابن عرفة: أخطأ في العمد وغيره، وخطئ بمعناه، وكلاهما مهموز (7) . وقال الأزهري: أخطأ: إذا لم يتعمد، وخطئ: إذا تعمد. والخطأ : [ضد الصواب] ، مهموز (8) يُمد (9) ويقصر، والمد قليل، والمصدر ممدود: خطّاء وأخطاء. والخِطْء - بكسر الخاء وسكون الطاء -: الإثم، فأما الخِطاء بالكسر والمد؛ فهو من التخطي.
قال الشيخ - رحمه الله-: ويظهر لي أن معنى قولها : ((أخطأ بدرع))؛ أي: أخطأ فانصرف بدرع وحده من غير رداء، ولذلك قالت : ((حتى أُدرك بردائه)). وأما رواية من رواه (10) : ((فخطا))؛ فأظن تلك الرواية وقعت بغير همز؛ من الخطو، يقال: خطا يخطو خطوًا، والواحدة (11) : خطوة؛ كما قال الشاعر (12) :
ومَرَّ يَخطُو سَرِيعًا فِي تَأَوُّدِهِ ... يَالَيْتَهُ فِي سَوَادِ النَّاظِرين خَطَا
فيكون معناه: أنه مشى خطوات بدرعه (13) من غير رداء حتى أُدرك به (14) ، والله أعلم. =(2/567)=@
__________
(1) في (أ): ((أنه)) .
(2) في (ح): ((أخطأ)) .
(3) في (ز):((فليس)) .
(4) كذا في النسخ: ((درعًا غَيره))، وفي "الإكمال" (3/347): ((درعَ غَيرِهِ)) .
(5) في (أ):((لاستعجا)) .
(6) في (ح):((الروايات)) .
(7) في (أ):((مهمو)) .
(8) في (أ): ((ضده مهموز)) .
(9) في (أ):((ويمد)) .
(10) في (ب): ((من روى)) .
(11) في (ب): ((الواحدة)) .
(12) هذا البيت ذكره أبو منصور الثعالبي في " تتمة اليتيمة "(1/116) هكذا:
وَظَلَّ يَخْطو فَكُلٌّ قَالَ مِنْ شَغَفٍ ... يالَيْتَهُ فِي سَوَادِ النَّاظِرين خَطَا
ونسبه لأبي العشائر.
(13) في (ب): ((بدرع)) .
(14) في (ح): ((حتى أدرك بردائه)) .(2/567)
12- وَعَنْهَا (1) قَالَتْ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَفَزِعَ فَأَخْطَأَ بِدِرْعٍ، حَتَّى أُدْرِكَ بِرِدَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَتْ: فَقَضَيْتُ حَاجَتِي، ثُمَّ جِئْتُ فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمًا، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ حَتَّى رَأَيْتُنِي أُرِيدُ أَنْ أَجْلِسَ، ثُمَّ أَلْتَفِتُ إِلَى الْمَرْأَةِ الضَّعِيفَةِ، فَأَقُولُ: هَذِهِ أَضْعَفُ مِنِّي فَأَقُومُ، فَرَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَطَالَ الْقِيَامَ حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَعْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : ((الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مِنْ آيَاتِ الله تَعَالى))؛ أي: أن كسوفهما آية من آيات الله؛ لأنه الذي خرج (2) الحديث بسببه (3) ، ثم هل يتعدى الأمر بالصلاة عند الكسوف إلى كل آية مخوفة؛ كالزلازل والصواعق، والرياح الشديدة وشبهه من الآيات؟ فذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور وأشهب إلى الصلاة عند ذلك كله. وقد روي عن مالك، وروي عن ابن عباس (4) وابن مسعود (5) ، والمشهور عن مالك و (6) الشافعي والجمهور: أن ذلك مخصوص بالكسوف؛ لأن قوله: ((آيَتَانِ (7) )) لم يخرج مخرج التعليل، وإنما خرج مخرج الإعلام؛ كما قال: ((فإنهما لا يَنْكَسِفَانِ (8) لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا حَيَاتِهِ، وإنما هما (9) آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله))، والله أعلم. =(2/568)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (2/545 رقم1258) في الكسوف، باب لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته، ومسلم (2/625 رقم906/16) في الكسوف، باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.
(2) في (ز):((جَرح)) .
(3) في (أ):((عليه بسببه)) .
(4) أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/222 طريق شيخه عبدالوهاب بن عبدالمجيد الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عبدالله بن الحارث: أن ابن عباس صلى بهم في زلزلة كانت أربع سجدات فيها ست ركوعات.
وهذا سند صحيح. ... ... ...
وقد رواه عبدالرزاق في "المصنف" (3/101-102 طريق معمر، عن قتادة وعاصم الأحول، كلاهما عن عبدالله بن الحارث، به بلفظ أطول من هذا، لكن وقع في بعض النسخ سقط كما ذكره المحقق، وقد أخرجه البيهقي في "سننه" (3/343 طريق عبدالرزاق، ولفظه: عن ابن عباس أنه صلى في زلزلة بالبصرة فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع فسجد، ثم قام في الثانية ففعل كذلك، فصارت صلاته ست ركعات وأربع سجدات، ثم قال ابن عباس: هكذا صلاة الآيات. وقد جاء معناه عن ابن عباس مرفوعًا.
فأخرج أبو داود في "سننه" (1/706 رقم1197) في الصلاة، باب السجود عند الآيات، والترمذي (5/665 رقم3891) في المناقب، باب فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كلاهما من طريق يحيى بن كثير، عن سلم بن جعفر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قيل لابن عباس بعد صلاة الصبح: ماتت فلانة - لبعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فسجد، فقيل له: أتسجد هذه الساعة؟ فقال: أليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((إذا رأيتم آية فاسجدوا)) ؟ فأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه)) . وفي سنده الحكم بن أبان العدني وهو مختلف فيه، ولذا يقول عنه الحافظ ابن حجر في "التقريب" (ص261 رقم1447): ((صدوق عابد، له أوهام)) .
(5) أخرجه البيهقي في "سننه" (3/343 طريق حبيب بن حسان، عن الشعبي، عن علقمة قال: قال عبدالله بن مسعود: ((إذا سمعتم هادًّا من السماء ؛ فافزعوا إلى الصلاة)) .
وسنده ضعيف جدًّا لشدة ضعف حبيب بن حسان، ويقال له: حبيب بن أبي الأشرس، وحبيب بن أبي هلال. قال محمد بن المثنى: ((ما سمعت يحيى ولا عبدالرحمن حدثا عن سفيان عن حبيب بن حسان بن أبي الأشرس شيئًا قط))، وقال أحمد والنسائي:((متروك))، وفيه كلام غير ذلك، فانظر "لسان الميزان" (2/377) إن شئت.
(6) قوله:((مالك)) ليس في (أ).
(7) في (ب) و(ح) و(ز) و(س):((هما آيتان)) .
(8) في (ح):((لا يكسفان)) .
(9) في (ح):((وإنهما)) .(2/568)
5
كتاب الجنائز
(1) باب تلقين الموتى، وما يقال عند المصيبة، وعند حضور
المرضى والموتى
1- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إِلهَ إِلا اللهُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الجنائز (2)
من (3) باب تلقين الموتى
قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إِلهَ إِلا اللهُ))؛ أي: قولوا لهم ذلك، وذكِّروهم به عند الموت، وسمّاهم صلى الله عليه وسلم موتى ؛ لأن الموت قد حضرهم. وتلقين الموتى هذه الكلمة سنة مأثورة عَمِلَ (4) بها المسلمون، وذلك ليكون آخر كلامه: لا إله إلا الله، فيختم له بالسعادة، وليدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:((من كان آخر كلامه: لا إله إلا =(2/569)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/631 رقم916) في الجنائز، باب تلقين الموتى: لا إله إلا الله.
(2) قبله في (ز) و(س): ((بسم الله الرحمن الرحيم))، وفي (ز): ((رب يسر واعن))، وفي (س): ((رب أعن)).
(3) قوله: ((من)) ليس في (ح)، وفي (ب): ((ومن)).
(4) في (ب): ((وقد عمل)).(2/569)
الله ؛ دخل الجنة)) (1) ، ولينبَّه الْمحتَضَرَ على ما يدفع به الشيطان، فإنه يتعرَّض (2) للمحتضر ليفسد عليه عقيدته، فإذا تلقنها المحتَضَر وقالها مرَّةً واحدة؛ فلا تُعاد عليه ؛ لئلا يتضجَّر. وقد كره أهل العلم الإكثار عليه من التلقين، والإلحاح عليه (3) إذا هو تلقنها، أو فُهِم عنه ذلك.
وفي أمره صلى الله عليه وسلم بتلقين الموتى ما يدلّ على تعيُّن الحضور عند المحتَضَر؛ لتذكيره وإغماضه، والقيام عليه، وذلك من حقوق المسلم على المسلمين، ولا خلاف في ذلك.
2- وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (4) قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا)). قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ، يَخْطُبُنِي لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ لِي بِنْتًا، وَأَنَا غَيُورٌ. فَقَالَ:((أَمَّا بِنْتُهَا فَنَدْعُو اللهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ)). وَفِي رِوَايَةٍ:((ثُمَّ عَزَمَ اللهُ لِي فَقُلْتُهَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ))، هذا تنبيه على قوله تعالى: {وبشر الصابرين}... الآية (5) ، مع أنه ليس فيها أَمْرٌ بذلك القول، وإنما تضمنت مدح من قاله ؛ فيكون ذلك القول مندوبًا، والمندوب مأمور به ؛ أي: مطلوب ومقتضًى، وإن سُوّغ تركه.
وقال أبو المعالي: لم يختلف الأصوليون أنّ المندوب مقتضًى ومطلوبٌ، وإنما اختلفوا هل يُسمَّى مأمورًا به؟
قال الشيخ: وهذا الحديث يدلّ على أنه يُسمَّى (6) بذلك.
وقوله:((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ))، كلمة اعتراف بالملك لمستحقّه، وتسليمٌ له فيما يُجريه في ملكه، وتهوينٌ للمصائب (7) بتوقع ما هو أعظم منها، وبالثواب المترتّب (8) عليها، وتذكير للمرجع (9) والمآل الذي حَكَم به ذو العزّة والجلال.
وقوله:((اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي))، هو من الأجر، وهو الثواب. قال صاحب "الأفعال": يقال: آجره الله، بالمدّ وبغير المدّ. وقال الأصمعيّ: هو =(2/570)=@
__________
(1) أخرجه أبو داود (3/486 رقم3116) كتاب الجنائز، باب في التلقين، وأحمد في "المسند" (5/233، 247)، والحاكم في "المستدرك" (1/351) كتاب الجنائز، و(1/500) كتاب الدعاء والتكبير والتهليل. وصحّحه وأقرّه الذهبي.
ثلاثتهم من طريق صالح بن أبي عَريب، عن كثير بن مرّة، عن معاذ، به مرفوعًا.
وسنده ضعيف، فصالح بن أبي عَريب مقبول كما في "التقريب" 2880.
(2) في (ح): ((معرّض)).
(3) قوله: ((عليه)) سقط من (ز) و(س).
(4) أخرجه مسلم (2/631رقم918) في الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة.
(5) سورة البقرة، الآية: 155.
(6) في (ح): ((سمِّي)).
(7) في (ب): ((المصيباب))، وفي (ح) و(ز) و(س): ((للمصيبات)).
(8) في (ز) و(س): ((المرتّب)).
(9) في (ب): ((المرجع)).(2/570)
مقصور لا يمدّ، وهو الذي حكاه أكثر أهل اللغة.
وقول أم سلمة رضي الله عنها:((عَزَمَ اللهُ لِي))؛ أي: خلق فيّ قصدًا (1) مؤكّدًا (2) ، وهو العزم، لا أنّ إرادة الله تعالى تسمّى (3) عزمًا (4) ، لعدم الإذن في ذلك، والله تعالى أعلم.
وقولها:((وَأَنَا غَيُورٌ))؛ أي: كثيرة الغَيرة، وقد جاءت فَعول في صفة المؤنّث كثيرًا، وإن كان أصلها للمذكّر. قالوا: امرأة ضَحوك وعَروب وعروس، وعقبة كَؤُود، وأرض صَعُود وحَدُور وهَبُوط. ويقال: امرأة غَيرَى، ورجل غَيرَان، كسكرى وسكران، وغضبى وغضبان، وهو القياس.
3- وَعَنْهَا (5) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ، أَوِ الْمَيِّتَ فَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ))، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ، قَالَ: قُولِي:((اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلَهُ، وَأَعْقِبْنِي مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً))، قَالَتْ: فَقُلْتُ فَأَعْقَبَنِي اللهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِي مِنْهُ، مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله صلى الله عليه وسلم:((إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَيِّتَ فَقُولُوا خَيْرًا))، أمر تأديبٍ وتعليمٍ بما (6) يقال عند الميت، وإخبارٌ بتأمينِ الملائكة على دعاء مَنْ هناك.
ومن هذا استحب علماؤنا (7) أن يحضر الميت الصالحون وأهلُ الخير (8) حالة موته (9) ؛ ليذكِّروه، ويدعوا له =(2/571)=@
__________
(1) في (ب): ((عزمًا)): وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة: ((قصدًا)).
(2) من هنا بدأ السقط من نسخة (ح): ((لا بل)) التالي موجود في (ح).
(3) في (ز) و(س): ((يسمى)).
(4) قيل معناه: الإرادة، فإن القصد والعزم والإرادة متقاربات، فيكون المعنى: أراد الله لي ذلك.انظر"المنهاج"(1/46)، و"صيانة صحيح مسلم"(ص119)، و"مكمل الإكمال"(1/5).
(5) أخرجه مسلم (2/633 رقم919) في الجنائز، باب ما يقال عند المريض والميت.
(6) في (ز) و(س): ((ما)).
(7) في (ح): ((علمانا)).
(8) قوله: ((وأهل الخير)) سقط من (ز)، وفي مكانه بياض في (س).
(9) في (ب): ((الموت)).(2/571)
ولمن يخلفه، ويقولوا خيرًا ؛ فيجتمع (1) دعاؤهم (2) وتأمين الملائكة، فينتفع بذلك (3) الميّت ومن يُصاب به، ومن يخلفه.
وقوله:((وَأَعْقِبْنِي مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً))؛ كما قالت:((وأخلف لي خيرًا منها))؛ أي: عاقبة جميلة (4) .
*************
( 2 ) باب في إغماض الميت، والدعاء له
4- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (5) قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ:((إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ)). ثُمَّ قَالَ:((اللهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إغماض الميت
قوله:((شَقَّ بَصَرُهُ)): صوابه وصحيحه (6) : شق بفتح الشين مبنيًّا للفاعل، وبرفع البصر؛ أي: انفتح. يقال: شَقّ بصرُ الميت، وشقّ الميت بصره: إذا شخص بصرُه، بفتح الخاء أيضًا، قاله صاحب "الأفعال"، ولم يَعرِف أبو زيد الضمَّ.
وإغماض الميت: شدّ أجفانه بعد موته، وهو سنّة عَمِل بها المسلمون كافّةً، ومقصوده: =(2/272)=@
__________
(1) في (ب): ((فيجتمع)).
(2) في (ح): ((دعاهم)).
(3) في (س): ((بذاك)).
(4) وزاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(5) أخرجه مسلم (2/634 رقم920) كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر.
(6) رجح النووي هذا الوجه، فقال: هكذا ضبطناه، وهو المشهور، وضبطه بعضهم: ((بصرَه)) بالنصب، وهو صحيح أيضًا، والشين مفتوحة بلا خلاف. اهـ. "المنهاج"(6/222).(2/572)
تحسين وجه الميت، وسترُ (1) تغيُّرِ بصره.
و((المهديون)): الذين هُدُوا إلى الصراط المستقيم: صراط الله.
وقوله:((وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ (2) فِي الْغَابِرِينَ))؛ أي: كن الخليفة على من يتركه (3) من عقبه، ويبقى بعده. ويعني بالغابرين: الباقين ؛ كما قال تعالى:{إلا امرأته كانت من الغابرين} (4) ؛ أي: من (5) الباقين في العذاب. و((غبر)) من الأضداد؛ يقال: بمعنى: بَقِيَ، وبمعنى: ذَهَبَ.
5- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (6) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((أَلَمْ تَرَوُا الإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ؟))، قَالُوا: بَلَى، قَالَ:((فَذَلِكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:((إن الروح إذا قُبض تبعه البصرُ))، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:((فَذَلِكَ (7) حِينَ يَتْبَعُ (8) بَصَرُهُ (9) نَفْسَهُ)) (10) ، يدلّ على أن الروح والنفس عبارتان عن معنى واحد، وهو الذي يُقبض بالموت، والله تعالى أعلم. =(2/573)=@
__________
(1) في (ز): ((ويستر)).
(2) قوله: ((في عقبه)) سقط من (ح).
(3) في (ب): ((يترك)).
(4) سورة الأعراف، الآية: 83 ، سورة العنكبوت، الآية: 32.
(5) قوله: ((من)) سقط من (أ).
(6) أخرجه مسلم(2/635 رقم921) في الجنائز، باب في شخوص بصر الميت يتبع نفسه.
(7) في (س): تشبه: ((لفذلك)).
(8) في (ب): ((تبع)).
(9) في (س): ((البصر)).
(10) "صحيح مسلم" (2/635 رقم921) باب: في شخوص بصر الميت يتبع نفسه..(2/573)
وفيهما (1) ما يدلّ على أن الموت (2) ليس عدمًا ولا إعدامًا،وإنما هو انقطاعُ تعلُّقِ الروحِ بالبدن، ومفارقتُه، وحيلولةٌ بينهما، ثم إنّ البدن يبلى ويفنى؛ إلا عَجْب الذنب الذي منه بُدئ خلقُ الإنسان، ومنه يركب الخلق يوم القيامة (3) (4) .
( 3 ) باب ما جاء في البكاء على الميت وعنده
6- عَنْ أُمُّ سَلَمَةَ (5) قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: غَرِيبٌ وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ، لأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً يُتَحَدَّثُ عَنْهُ، فَكُنْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ، إِذْ أَقَبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِي، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:((أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخِلِي الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللهُ مِنْهُ؟)) مَرَّتَيْنِ، فَكَفَفْتُ عَنِ الْبُكَاءِ فَلَمْ أَبْكِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في البكاء على الميت
قول أمّ سلمة رضي الله عنها:((لأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً يُتَحَدَّثُ عَنْهُ))؛ أي: تنوح عليه نياحةً شديدةً، وذلك منها على ما كانوا عليه من النياحة والاجتماع لها، قبل أن يبلغها تحريمُ النياحة، والله أعلم.
و((الصَّعِيدِ)) هنا: أعالي الأرض، وكأنّها تريد عوالي المدينة، ومنه: صعيد مصر؛ أي: أعالي (6) بلادها. و((تُسْعِدَنِي)) معناه: توافقني على النياحة.
وقوله:((أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخِلِي الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ (7) اللهُ مِنْهُ؟)) مرّتين =(2/574)=@
__________
(1) في (ب) و(ز) و(س): ((وفيه)).
(2) في (ح): ((الميت)) وفي (أ): ((الموت)) وكتب تحته: ((الميت)) وفوقه كلمة ((أصل)).
(3) يشير بذلك إلى ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري (8/551 رقم4814) كتاب التفسير، تفسير سورة الزمر، باب: {ونفخ في الصور}، و(8/689 رقم4935) سورة {عمّ يتساءلون}، باب: {يوم ينفخ في الصور}، ولفظه: ((ليس من الإنسان شيء إلا يبلى؛ إلا عظمًا واحدًا، وهو عَجْبُ الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة))، ومسلم (4/2270-2271 رقم2955) كتاب الفتن، باب ما بين النفختين، وفيه ثلاث روايات وعجب الذنب هو العظم اللطيف. الذي في أسفل الصلب وأعلى ما بين الإليتين وهو رأس العصعص. انظر: "شرح التثريب" (3/307).
(4) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(5) أخرجه مسلم (2/635 رقم922) في الجنائز، باب البكاء على الميت.
(6) في (أ): ((أعالي)).
(7) قوله: ((أخرجه)) مكانه بياض في (س).(2/574)
؛ يحتمل ذلك - والله أعلم- أن يكون بسبب صحّة إسلام أبي سلمة، وحسن هجرته (1) .
7- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (2) قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ، وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا، أَوِ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ:((ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ))، فَعَادَ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا. قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ، مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ:((هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:((وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ)). قال الهروي: يقال: تَقَعْقَعَ الشيءُ: إذا اضطرب وتحرك، ويقال: إنه ليتقعقع (3) لَحْيَاه من الكِبَر. قال غيره: القعقعة هنا: صوت النَّفَس وحشرجة الصدر، ومنه: قعقعةُ الجلود، والتِّرسَة والأسلحة، وهي: أصواتها.
و((الشَنّة)): القِربة البالية، فكأنّه شبّه صوتَ نَفَسِه وقلقلته في صدره بصوت ما ألقي (4) في القربة البالية (5) اليابسة من الماء وحُرِّك فيها. ومن أمثالهم: لا يُقعقَع له (6) بالشّنان ؛ أي: لا يُقرَع بقرعه (7) ؛ كما يُفعل بالصبي (8) .
وقوله:((هَذِهِ رَحْمَةٌ))؛ أي: رقَّةٌ يجدها الإنسان في قلبه، تبعثه على البكاء من خشية الله تعالى، وعلى أفعال البر والخير، وعلى الشفقة على المبتلى والمصاب، ومَن كان كذلك ؛ جازاه الله برحمته، وهو المعْنّي بقوله صلى الله عليه وسلم:((إنما يرحم الله من =(2/575)=@
__________
(1) ذكر أهل العلم أوجهًا غير ما ذكره المصنِّف، فمن ذلك:
1 - يحتمل أن المرتين معمولة القول، أي: فقال مرتين.
2 - ويحتمل أنه عدد الإخراج، أي إخراج الشيطان منه.
3 - ويحتمل أن الأولى: إخراجه بالإيمان، والثانية بالهجرة؛ لأن الإيمان لا يخرجه مطلقًا.
4 - ويحتمل بالأولى يوم دخوله في الإسلام، وبالثانية يوم خروجه من الدنيا مسلمًا.
5 - ويحتمل أن يراد بالمرة الأولى يوم هاجر من مكة إلى الحبشة، وبالثانية يوم هاجر إلى المدينة، فإنه من ذوي الهجرتين. انظر "إكمال الإكمال ومكمله" (3/66)، و"فتح الملهم" (2/469-470)، و"شرح الطيبي" (3/406).
(2) أخرجه البخاري (3/151 رقم1284) في الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه...))، بلفظ مقارب، و(10/118 رقم5655) كتاب المرضى، باب عيادة الصبيان، بنحوه، و(11/494 رقم6602) كتاب القدر، باب: {وكان أمر الله قدرًا مقدورًا}، مختصرًا، و(11/541 رقم6655) كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}، بنحوه، و(13/358 رقم7377) كتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}، بلفظ مقارب، و(13/434 رقم7448)، باب ما جاء في قول الله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين}، بنحوه، ومسلم (2/635 رقم923) في الجنائز، باب البكاء على الميت.
(3) في (ب): ((لتتقعقع)).
(4) في (ب): ((في صدره بما ألقي))، وقوله: ((ألقي)) سقط من (ح).
(5) قوله: ((البالية)) سقط من (ح).
(6) قوله: ((له)) ليس في (ح).
(7) في (ز) و(س): ((لقرعه)).
(8) ذكره القاضي في "الإكمال" (151/ب)، وفيه: ((أي لا يفزع بصوته)).اهـ.
وهذا المثل ذكره الحجّاج بن يوسف الثقفي في خطبته في أهل العراق حين قدم أميرًا عليهم، كما في "تاريخ الطبري" (7/91) في أحداث سنة 75 هـ. قال: إني والله يا أهل العراق، ما أغمز كتَغماز التين، ولا يُقَعْقَعُ لي بالشنان، ولقد فُرزتُ عن ذكاء....(2/575)
عباده الرحماء))، وضد ذلك القسوة في القلوب، الباعثة (1) على الإعراض عن الله تعالى، وعن أفعال الخير. ومن كان كذلك؛ قيل فيه: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} (2) .
8- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (3) قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ، فَقَالَ:((أَقَدْ قَضَى؟ قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ اللهِ! فَبَكَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فَقَالَ:((أَلا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:((فَوَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ (4) ))، روايتنا فيه بسكون الشين وتخفيف الياء، وقد رواه جماعة من الشيوخ بكسر الشين وتشديد الياء. قال (5) الحافظ أبو الحسن (6) : لا فرق بينهما، هما (7) واحد، يريد من الغشاوة.ورواه البخاري:((في غاشية (8) ))، قال: يحتمل وجهين: مَن يغشاه من الناس، أو ما يغشاه من الكرب.
وقوله:((أَقَدْ (9) قَضَى؟)) أي: مات.
وقوله:((إِنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ)): يدل على أن البكاء الذي لا يصحبه صوتٌ ولا نياحةٌ جائز، قبل الموت وبعده، بل قد يقال فيه: إنه مندوب إليه ؛ لأنه قد قال فيه: إنه (10) رحمة (11) ، والرحمة مندوب إليها.
فأمّا النياحة التي كانت الجاهلية تفعلها ؛ من تعديد خصال الميت، والثناء عليه بما كان فيه من =(2/576)=@
__________
(1) في (ب) و(ز) و(س): ((الباغية)).
(2) الآية: (22سورة الزمر.
(3) أخرجه البخاري (3/175 رقم1304) في الجنائز، باب البكاء عند المريض، ومسلم (2/636 رقم924) في الجنائز، باب البكاء على الميت.
(4) في (ح): ((غشيته)).
(5) في (ح): ((وقال)).
(6) في (ب) زيادة: ((الدارقطني)).
والحافظ أبو الحسن ؛ مما لم أجزم في تحديده برأي، فقد جاء في نسخة (ب) أنه أبو الحسن الدارقطني، لكن جاء عند القاضي عياض في "الإكمال" (152/أ) قوله: ((قال لي الحافظ أبو الحسن))، ولذا فقد استعرضت أسماء شيوخ القاضي من خلال "الغنية" له، وكذا ما ساقه ولده أبو عبدالله في "التعريف بالقاضي عياض "، وغير ذلك، فاستخلصت من ذلك أن من شيوخ القاضي الذين يكنون بـ((أبي الحسن)) سبعة شيوخ، ولم يتميّز لي أيُّ واحدٍ هو منهم.
(7) قوله: ((بينهما هما)) في (ز) يشبه أن يكون ((بينهنما)).
(8) في (ح): ((غاشيته)).
(9) في (أ): ((قد)).
(10) قوله: ((إنه)) سقط من (ز) و(س).
(11) في (ح): ((راحمة)).(2/576)
الخصال الدُّنيوية والمذمومة، والصراخ الذي يُخرجه الجزع المفضي إلى السّخط والعبث ؛ من ضرب الخدود، وشق الجيوب، فكل ذلك محرَّم، من أعمال الجاهلية، ولا يختلف (1) فيه.
فأمّا بكاء وصراخ لا يكون معه شيء من ذلك فهو جائر قبل الموت، مكروه بعده.
أمّا جوازه فبدليل حديث جابر بن عتيك الذي خَرَّجه (2) مالك (3) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبدالله بن ثابت، فوجده قد غلب عليه، فصاح به، فلم يُجبْه، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:((غُلِبْنا عليك أبا (4) الربيع))، فصاح النسوة وبكين، فجعل جابر يُسكِتُهنّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((دعهن، فإذا وجبت (5) فلا تبكين باكية)).
ووجه الاستدلال: أنه صلى الله عليه وسلم أقرّهن على البكاء والصياح قبل الموت، وأمر بتركهنّ على ذلك (6) .
وإنما قلنا: إنه مكروه بعد الموت ليس بمحرَّم ؛ لما في حديث جعفر (7) من بكائهن بعد الموت، وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ونهيهن عنه، فلما لم ينكَفِفْن، قال للمبلّغ:((احْثُ في أفواههنّ التراب))، ولم يبالغ في الإنكار عليهن، ولا زجرهن، ولا ذمّ (8) ، ولو كان ذلك محرَّمًا لفعل كل ذلك، والله أعلم.
وبهذا الذي قررناه يرتفع الاختلاف (9) بين ظواهر الأحاديث التي في هذا الباب،ويصح جمعها، فتمسّكْ به، فإنه حسن جدًّا، وهو الصواب إن شاء الله (10) - تعالى-. =(2/577)=@
__________
(1) في (أ): ((مخالف))، وفي (ز): ((تختلف)).
(2) قوله: ((الذي خرجه)) تكرر في (ح).
(3) في "الموطأ" (1/233 رقم36) كتاب الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت، وفي آخره زيادة، وأبو داود (4/16 رقم3102) كتاب الجنائز، باب في فضل من مات في الطاعون، والنسائي (4/13 رقم1846) كتاب الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت، وابن حبان كما في "الإحسان" (7/461-464 رقم3189-3190) كتاب الجنائز، فصل في التشهد، والحاكم في "المستدرك" (1/503 رقم1300) كتاب الجنائز، وصححه وأقره الذهبي، والطبراني في "الكبير" (2/208 رقم1779).
رووه جميعًا من طريق مالك، قال: عن عبدالله بن عبدالله بن جابر بن عتيك، عن عتيك بن الحارث - وهو جد عبدالله بن عبدالله بن جابر، أبو أمه -، أخبره أن جابر بن عتيك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبدالله بن ثابت... الحديث.
فهذا إسناد فيه عتيك بن الحارث مجهول، لم يوثقه سوى ابن حبان وبقية رجاله ثقات. وقد صحح الحاكم هذا الإسناد، وأقره الذهبي.
كما أخرجه من طرق أخرى كل من:
ابن أبي شيبة (3/66 رقم1212) كتاب الجنائز، باب في التعذيب في بكاء الميت، من طريق عبدالله بن عيسى، عن جبير قال: حدثنا الفضل بن دكين قال: حدثنا إسرائيل، عن عبدالله بن عيسى، عن جبير بن عتيك، عن عمه قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على رجل من الأنصار... الحديث بمعناه مختصرًا.
والنسائي (6/51-52) كتاب الجهاد باب من خان غازيًا في أهله، من طريق عبدالملك بن عمير، عن جبر... به قال: أخبرنا أحمد بن يحيى قال: حدثنا إسحاق بن منصور قال: حدثنا داود - يعني: الطائي -، عن عبدالملك بن عمير، عن جبر، أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميت... الحديث بمعناه.
قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/270): ((ومالك أحسن الناس سياقة لحديثه ذلك في الإسناد والمتن)).اهـ.
وقال الحافظ في "الإصابة" (2/215) بعدما ذكر طرق الحديث: ((وفيه اختلاف كثير ورواية مالك هي المعتمدة)).اهـ.
وله شاهد عند الطبراني في "الكبير" (5/68 رقم4607) من طريق عبدالملك بن عمير، عن ربيع الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد ابن أخي جبر الأنصاري... الحديث بمعناه، وفيه قصة وفاة جابر بن عتيك رضي الله عنه.
قال المنذري في "الترغيب"(2/308): ((رواه الطبراني، ورواته محتجّ بهم في الصحيح)).اهـ.
وقال عنه الهيثمي في "المجمع" (3/16): ((رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات)). اهـ، وفي (5/300): ((رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح)). اهـ.
وقد ساق خبره ابن حبان في "صحيحه"، وصححه الحاكم، وأقره الذهبي.
فالحديث بمجموع طرقه وشواهده حسن لغيره، والله أعلم.
(4) في (ب): ((يا أبا)). ...
(5) في (أ): ((وجبت)).
(6) في (ب): ((تلك)).
(7) أخرج الحديث البخاري (3/166 رقم1299) كتاب الجنائز، باب من جلس عند مصيبة يُعرف فيه الحزن، و(3/176 رقم1305) كتاب الجنائز، باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك، و(7/512 رقم4263) كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام، ومسلم (2/644 رقم935) كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة.
ولفظ البخاري في الرواية الأولى: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة، جلس يُعرف فيه الحزن، وأنا أنظر من صائر الباب - شق الباب -، فأتاه رجلٌ فقال: إن نساء جعفر - وذكر بُكاءهن - فأمره أن ينهاهن، فذهب. ثم أتاه الثانية لم يُطعنه، فقال: ((انْهَهُنّ))، فأتاه الثالثة، قال: والله غلبننا يا رسول الله، فزعمت أنه قال: ((فاحث في أفواههن التراب))، فقلت: أرغم الله أنفك، لم تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء.
(8) قوله: ((ولا ذمّ)) سقط من (ز) و(س).
(9) في (ب): ((الخلاف)).
(10) قوله: ((شاء الله تعالى)) مكانه بياض في (س).(2/577)
( 4 ) باب في عيادة المريض، والصبر عند الصدمة الأولى
9- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (1) أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَدْبَرَ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((يَا أَخَا الأَنْصَارِ ! كَيْفَ أَخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ))، فَقَالَ: صَالِحٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ)) فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ وَنَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ، مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ وَلا خِفَافٌ وَلا قَلانِسُ وَلا قُمُصٌ، نَمْشِي فِي تِلْكَ السِّبَاخِ حَتَّى جِئْنَاهُ، فَاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْلِهِ، حَتَّى دَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب عيادة المريض
قوله صلى الله عليه وسلم:((كَيْفَ أَخِي سَعْدُ؟)) دليل على حسن التعاهد (2) ، وتفقُّد الإخوان، والسؤال عن أحوالهم (3) إذا فُقدوا، وعلى (4) الاستلطاف في السؤال عنهم.
وقوله:((مَنْ (5) يَعُودُهُ (6) مِنْكُمْ؟)) حضٌّ على عيادة المرضى، وقد ورد في ذلك أحاديثُ كثيرةٌ (7) تدلّ على نَدبيَّتها (8) ، وكثرة ثواب فاعلها، وهي مندوبة، وقد تجب (9) إذا خِيف على المريض ضيعة (10) ؛ فإن التمريضَ واجبٌ على الكفاية، فمن قام به سقط عن غيره، والله أعلم. =(2/578)=@
__________
(1) مسلم (2/673 رقم925) باب عيادة المريض.
(2) في (ح): ((المعاهدة)).
(3) في (أ): ((حالهم)).
(4) في (ح): ((إذا فقدوا على)).
(5) في (أ) يشبه أن تكون: ((فمن)).
(6) في (ز) و(س): ((يعود)).
(7) منها حديث أبي هريرة الآتي في كتاب الأدب، باب حق المسلم على المسلم، من أحاديث "التلخيص".
(8) في (ب): ((ندبتيها)).
(9) في (ز): ((يجب)).
(10) في (أ): ((ضياعة)).(2/578)
10- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا، فَقَالَ لَهَا:((اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي))، فَقَالَتْ: وَمَا تُبَالِي بِمُصِيبَتِي؟ فَلَمَّا ذَهَبَ، قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ، فَأَتَتْ بَابَهُ، فَلَمْ تَجِدْ عَلَى بَابِهِ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ! لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ:((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ - أَوْ قَالَ: عِنْدَ أَوْلِ الصَدْمَةٍ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: مَرَّ بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا)): هذا البكاة كان معه ما يُنكَر ؛ من رفع صوت (2) أو غيره ؛ كالجزع، وأمّا نفس البكاء فعلى ما تقدَّم من الإباحة.
وقوله: ((فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ))، خوفًا من سوء أدبها في ردها عليه، وحياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهرُ حال هذه المرأة أنها لم تعرفه؛ لشدة (3) حزنها وماكانت فيه.
وقوله: ((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ))؛ يعني: إنما الصبر الشاقُّ الصعب (4) على النفس؛ الذي يعظم الثواب عليه، إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدلّ (5) على قوَّة النفس وتثبُّتها ، وتمكنها (6) في مقام الصبر، وأما إذا بردتْ حرارةُ المصيبة؛ فكل أحدٍ يصبر إذ ذاك ؛ ولذلك قيل: يجب على العاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بدّ للأحمق منه بعد ثلاث ؛ ولهذا المعنى أبيح للمصابة أن تحدّ على غير زوجها ثلاثًا لا غير (7) ؛ إذ بعدها تبرد المصيبة غالبًا، وأما دوام الإحداد إلى أربعة أشهر وعشر للمتوفى عنها زوجها، فلمعنى يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
و((الصَدْمَ)): أصله الضرب في الشيء الصلب، ثم استعير (8) لمن فجأتْه المصيبة. ومعنى هذا القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صادمته هذه المرأة بقولها:((إليك عني))، كما رواه البخاري (9) ، وبقولها:((ما تبالي بمصيبتي))- وهو سوء أدب يُتأذَّى به -، قابل ذلك بالصبر، وحلُمَ عنها، ولم يؤاخذْها به مع تمكنه من ذلك، فحصل من الصبر على أَشَقِّه على النفوس، وأعظمه في الثواب.
هذا ما سمعناه في هذا، ويحتمل عندي أن يَنْجَرَّ (10) مع هذا (11) للمرأة منه معنى؛ وذلك أنها لما شاهدت قبر ابنها تجدَّدت (12) عليها مصيبتها، فكان ابتداء تجدُّدها صدمة أُولى صُدِمَتْها، فلم تصبر حتى غشيها من الجزع ماصدّها عن معرفة من كلَّمها، ثم لما أفاقت من ذلك جاءت معتذرة مُظهرة للتجلد (13) ، فقال لها ذلك، منبهًا على أنها قد فاتها محل الصبر =(2/579)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/125 رقم1252) في الجنائز، باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري، مختصرًا، و(3/148 رقم1283) باب زيارة القبور، و(13/132 رقم7154) في الأحكام، باب ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بواب، ومسلم (2/637 رقم626) في الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى.
(2) في (ز): ((الصوت)).
(3) في (ح): ((أشد)).
(4) قوله: ((الصعب على النفس)) ليس في (أ).
(5) في (ز) و(س): ((فإنها تدل)).
(6) في (أ): ((وتمسكها)).
(7) لحديث أم حبيبة وزينب، الآتي في كتاب الطلاق، باب في الإحداد على الميت في العدة، من أحاديث "التلخيص".
(8) في (أ): ((استعر)).
(9) تقدم تخريج روايات البخاري.
(10) في (أ): ((يتحرر)).
(11) في (ب): ((هذه)).
(12) في (ح): ((تجدد)).
(13) في (أ): ((للجلد)).(2/579)
والأجر، والله أعلم.
وقوله: ((فَلَمْ تَجِدْ عَلَى بَابِ النبي صلى الله عليه وسلم بَوَّابِينَ))؛ لأن ذلك كان عادته لتواضُعه، ومجانبته (1) أحوال المترفين والمتكبرين ؛ لأنه كان نبيًّا عبدًا، لا نبيًّا مَلِكًا صلى الله عليه وسلم (2) .
*************
( 5 ) باب ما جاء أن الميت ليعذبُ ببكاءِ الحَيِّ عليه
11- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ (3) قَالَ: تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ، قَالَ: فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، قَالَ: فَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا ،قَالَ: ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وَهُوَ مُوَاجِهُهُ: أَلا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ؟ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ)). فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ حَدَّثَ فَقَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَة فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلاءِ الرَّكْبُ؟ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ. قَالَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِي. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ، فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا أَنْ أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ: وَا أَخَاهْ ! وَا صَاحِبَاهْ ! فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ ! أَتَبْكِي عَلَيَّ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ))، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللهُ عُمَرَ، لا وَاللهِ ! مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ قَالَ:((إِنَّ اللهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ))، قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللهُ أَضْحَكَ وَأَبْكَى.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَوَاللهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ شَيْءٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، قَالَتْ: إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِّي عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ وَلا مُكَذَّبَيْنِ وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إن الميت ليعذب ببكاء الحي
قوله صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ)): اختلف في معناه على أقوال: =(2/580)=@
__________
(1) في (ب) و(ح): ((ومجانبة)).
(2) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(3) أخرجه البخاري (3/151 رقم1286) في الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه...، ومسلم (2/641-642 رقم928 و929) في الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه.(2/580)
فأنكرته عائشة رضي الله عنها، وصرحت (1) بتخطئة الناقل أو نسيانه (2) ، وحملها على ذلك أنها لم تسمعه كذلك (3) ، وأنه معارض (4) بقوله (5) تعالى: {ولا تزر (6) وازرة وزر أخرى} (7) ، وهذا فيه نظر. أما إنكارها ونسبة الخطأ لراويه فبعيد، وغير بيِّن ولا (8) واضح، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن الرواة لهذا المعنى كثير (9) ؛ عمر، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وقيلة بنت مخرمة (10) ، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم، وإذا أُقدِم على ردّ خبر جماعة (11) مثل هؤلاء (12) مع إمكان حمله على محمل صحيح (13) ، فلأن يُردّ (14) خبر راوٍ واحد أولى، فردُّ (15) خبرها أولى، على أن الصحيح (16) : ألا يُردّ واحدٌ من تلك الأخبار، وننظر (17) في معانيها كما نبيِّنه. =(2/581)=@
__________
(1) في (ز): ((وصرخت)).
(2) في (ب): ((بنسيانه)).
(3) في (ز): ((لم نسمعه ذلك كذلك))، وفي (ب): ((لم تسمعه لذلك)).
(4) في (ز): ((مفارض)).
(5) في (ب): ((لقوله)).
(6) في (ح): ((ولا تزرو)).
(7) سورة الأنعام، الآية: 164.
(8) قوله: ((ولا)) غير واضحة في (ز).
(9) في (ب): ((كثيرون)).
(10) سيأتي تخريج كل من حديث عمر وابن عمر وقيلة بنت مخرمة رضي الله عنهم بعد قليل. وأما حديث المغيرة بن شعبة فأخرجه البخاري (3/160 رقم 1291) كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت، بلفظ: ((من نيح عليه يعذب بما نيح عليه))، ومسلم (2/643 رقم 933) كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، بلفظ: ((من نيح عليه، فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة)).
(11) قوله: ((جماعة)) سقط من (ح).
(12) في (س): ((منع)).
(13) في (ح): ((الصحيح)).
(14) في (أ): ((يزاد)).
(15) في (س): ((فنرد)) و(ز) رسمت هكذا (فنرد) بغير فقط.
(16) قال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص171): ((وهذا ظنّ منها رضي الله عنها وتأويل، ولا يجوّز ردّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لظنّها، ولوكانت حكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا في مخالفته؛ كان قولها مقبولاً، ولو كان عبدالله بن عمر نقله وحده؛ تُوهِّم عليه كما حكت الغلط، ولكن نقله جماعة من الصحابة فيهم عمر وعمران بن حصين وابن عمر وأبو موسى الأشعري)).اهـ.
(17) في (ح) و(ز) و(س): ((وينظر)).(2/581)
وثانيهما: أنه لا مُعارضة بين ما روت هي، ولا ما رووا (1) هم ؛ إذ كلُّ واحد منهم أخبر عمَّا سمع وشاهد، وهما واقعتان مختلفتان.
وأما استدلالُها على ردّ ذلك بقوله تعالى: {ولا تزر (2) وازرة وزر أخرى} (3) ، فلا حجة فيه، ولا معارضة بين هذه الآية والحديث (4) ؛ على ما نُبديه من معنى الحديث إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف العلماء فيه، فقيل: محمله على ما إذا كان النوح من وصيّته وسنّته، كما كانت الجاهلية تفعل، حتى قال طرفة (5) :
إذا مِتُّ فانْعَيْنِي بما أنا أهله ... وشقِّي عليّ الجيب يا ابنة معبد
وقد جمع عبدالمطلب بناته عند موته وأمرهن أن ينعَيَنه ويندبنه (6) ، ففعلن، وأنشدت كل واحدة منهن شعرًا تمدحه فيه، فلما فرغن قال آخر ما كلّمهن: أحسنتنَّ، هكذا فانْعَيْنَني (7) ، وإلى هذا نحا (8) البخاري.
وقيل: معناه: أن تلك الأفعال التي يُبكى بها الميت، مما كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ من قتل النفوس، وأخذ =(2/582)=@
__________
(1) في (ب): ((ولا بين ما روى)).
(2) في (ح): ((ولا تزرو)).
(3) سورة الأنعام، الآية: 164.
(4) فصّل الإمام ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص 166-171) في ردّ ذلك بما لا مزيد عليه، فراجعه إن شئت.
(5) انظر "ديوانه" (ص178)، "وجمهرة أشعار العرب" (1/450)، وهو من معلّقته المشهورة.
(6) قوله: ((يندبنه)) سقط من (ح).
(7) أخرج قصة وفاة عبدالمطلب وجمعه لبناته ابن إسحاق في "السير والمغازي" (67)، باب حديث الفيل، مرسلاً، وساق أبياتًا من رثاء بناته له، وابن سعد في "الطبقات" (1/118) في باب: ذكر صنع عبد المطلب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه بعد وفاة أمّه، وذكر وفاة عبد المطلب ووصية أبي طالب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وذكرها ابن هشام في "السيرة" (1/169) عن ابن إسحاق، وقال: ((لم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر؛ إلا أنّه لما رواه محمد بن سعيد بن المسيب كتبناه)). اهـ.
(8) في (أ): ((ذهب)).(2/582)
الأموال، وإخراب البلاد، وغير ذلك، فأهلُه يمدحونه بها، ويعدِّدونها عليه، وهو يُعذَّب بسببها (1) ، وعلى هذا تُحمل رواية من رواه: ((ببعض بكاء أهله))؛ إذ ليس كل ما يُعدِّدونه من خصاله يكون مذمومًا، فقد يكون من خصاله: كرم، وإعتاقُ رقابٍ، وكشف كرب.
وقد دلّ على صحّة هذا التأويل: حديث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ؛ حيث أُغمِي عليه، فجعلت أخته عمرة تبكي: واجَبَلاه ! واكذا ! واكذا! تُعدِّد عليه، فأفاق وقال لها: ما قلتِ شيئًا إلا قيل لي: أنت كذلك (2) ؟ فلما مات لم تبك عليه. خرَّجه البخاري (3) .
وذهب داود وطائفة إلى اعتقاد ظاهر الحديث، وأنه (4) إنما يعذب بنوحهم؛ لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم (5) بذلك، فيعذَّب بتفريطه في ذلك، وبترك (6) ما أمره الله تعالى به من قوله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم نارًا} (7) .
وقيل: معناه: أنه يعذّب بسماع بكاء أهله؛ لرقَّته (8) لهم (9) ، وشفقته عليهم؛ لما يصيبهم من أجله. وقد دلّ على صحة هذا المعنى: حديث قيلة بنت مخرمة العنزية، وبكت على ابنها مات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها وأنكر عليها: ((والذي نفسُ محمد بيده! إن أحدكم ليبكي (10) فيستعبر (11) له صويحبُه، يا عباد الله ! لا تعذبوا (12) إخوانكم)) (13) ، ذكره أبو بكر بن أبي شيبة، وهو حديث طويل مشهور، وهذا التأويل حسن جدًّا، ولعله أولى ما قيل في ذلك، والله أعلم (14) .
وسكوت ابن عمر عن عائشة رضي الله عنهم حين قالت ماقالت (15) ؛ ليس لشكٍّه (16) فيما رواه، لا هو ولا أبوه عمر رضي الله عنهما ؛ فإنهما قد صرحا برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان - والله تعالى أعلم -: لأنه ظهر له أن الحديث قابل للتأويل، ولم يتعيَّن له محمل، أو =(2/583)=@
__________
(1) في (س): ((بها)). ولم تتضح في (ح).
(2) في (ب): ((كذاك)).
(3) (7/516 رقم4267و4268) في كتاب المغازي من الجامع، باب غزوة مؤتة من أرض الشام، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(4) في (ح): ((ووافقه) مكان ((أنه)).
(5) في (ز): ((وتأذنيهم)).
(6) في (س): ((ويترك)).
(7) سورة التحريم، الآية: 6.
(8) في (ب) و(ز) و(س): ((برقته)).
(9) قوله: ((لهم)) سقط من (ح).
(10) في (ز): ((ليبلى)) [وتراجع].
(11) في (أ): ((فيستغفر)).
(12) في (أ): ((لا تعذنوا)).
(13) لم أقف عليه في "المصنف" وعزاه له الحافظ في: "الفتح" (3/155).
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (25/7- 11 رقم1) مطولاً، وابن منده، كما في "الإصابة" (13/98- 102)، وفيه: ((فو الذي نفس محمد بيده، إن إحداكن لتبكي فتستعبر له صويحبه، فيا عباد الله، لا تعذبوا موتاكم)).
وأخرجه أبو داود (3/451-452 رقم3070) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في إقطاع الأرضين، والترمذي (رقم2814) كتاب الأدب، باب ما جاء في الثوب الأصفر، وفي "الشمائل" (ص74 رقم67)، والبيهقي (3/235) مختصرًا.
جميعهم من طريق عبدالله بن حسان العنبري، عن جدتيه: دحيبة وعليبة، عن قيلة بنت مخرمة، فذكرته.
قال الترمذي: ((حديث قيلة لا نعرفه إلا من حديث عبدالله بن حسان)).اهـ.
وقال ابن عبدالبر في"الاستيعاب" (13/140- بهامش الإصابة): حدثنا عبدالله بن حسان الحديث الطويل الفصيح... وقد شرح حديثها أهل العلم بالحديث، فهو حديث حسن)). اهـ.
وقال الحافظ في "الفتح" (3/155): ((حديث طويل حسن الإسناد، أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم، وأخرج أبو داود والترمذي أطرافًا منه)).اهـ.
(14) قوله: ((والله أعلم)) ليس في (ح).
(15) في (ز): ((قالت قالت)) [وتراجع].
(16) في (أ): ((لشكٍّ)).(2/583)
سكت محترمًا لها عن أن يراجعها في ذلك المجلس، وفي ذلك الوقت، وأخّر ذلك لوقت آخر؛ مع أنه لم تُرهِق (1) إليه في ذلك الوقت حاجة يعتدّ (2) بها، والله تعالى أعلم.
12- وَعَنْ عُرْوَةَ (3) قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ)). فَقَالَتْ: وَهِلَ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ أَوْ بِذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآنَ)) وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ:((إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ))، وَقَدْ وَهِلَ، إِنَّمَا قَالَ:((إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}. يَقُولُ: حِينَ تَبَوَّءُوا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:((الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ)).
وَفِي أُخْرَى: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ اللهُ لأَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا، فَقَالَ:((إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا)).
13- عَنِ ابْنِ عُمَرَ (4) قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَصِيحَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ حَفْصَةَ بَكَتْ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: مَهْلاً يَا بُنَيَّةُ ! أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ))..
14- وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ (5) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها: ((وهل أبو عبدالرحمن)). قال الهروي: يقال: وَهِلَ يَهَلُ إلى الشيء: إذا ذهب وهْمُه (6) إليه، ومنه قول ابن عمر رضي الله عنهما:((وَهِلَ أنس)) (7) ؛ يريد: غلط، فأما (8) وَهِلْتُ من كذا، أَوْهَلُ، فمعناه (9) : فَزِعتُ (10) ، ومنه الحديث:((فقمنا وَهِلِين)) (11) ؛ أي: فزعين.
وقال أبو عبيد في "المصنف" (12) : قال أبو زيد: وَهِلت في الشيء، ووهِلت =(2/584)=@
__________
(1) في (أ) و(ب): ((يرهق)).
(2) في (ز) و(س): ((تُعبد)).
(3) أخرجه البخاري (7/301 رقم3978) كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، ومسلم (2/643 رقم932) في الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه.
(4) البخاري (3/151 رقم1287) في الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه...))، و(3/161 رقم1292) في الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت، ومسلم (3/638-639 رقم927) في الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه.
(5) أخرجه البخاري (3/160 رقم1291) في الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت، ومسلم (2/643رقم933) في الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه.
(6) كذا في (ب) و"الغريبين" (6/206)، في (أ) و(ح) و(ز) و(س): ((وهمك)).
(7) الحديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (2/42 و53 و79-80)، وابن الجارود في "المنتقى" (2/68 رقم 431)، وابن حبان (9/242 رقم 3933) وغيرهم ؛ من حديث حميد الطويل، عن بكر بن عبدالله المزني، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك بعمرة وحجة، قال حميد: حدثني بكر بن عبد الله المزني أنه ذكر حديث أنس بن مالك لابن عمر، فقال: وَهِلَ أنس. أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، قال: فذكرت قول ابن عمر لأنس ابن مالك فقال: ما يحسب ابن عمر إلا أنا صبيان. وهذا لفظ ابن حبان.
وأصل الحديث في "الصحيحين" دون موضع الشاهد، وسيأتي في "تلخيص مسلم" برقم (54) كتاب الحج، باب الاختلاف فيما به أحرم النبي صلى الله عليه وسلم.
(8) في (ح): ((وأما)).
(9) في (ز) و(س): ((معناه)).
(10) في (ح): ((فزعت منه)).
(11) وهو الحديث الآتي برقم (274) باب من نام عن صلاة الصبح..، وفيه: ((فزعين)) بدل: ((وهلين)). وأما بلفظ: ((وهلين)) فأخرجه أبو داود (1/305 رقم438) كتاب الصلاة، باب في من نام عن الصلاة أو نسيها، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/216-217).
(12) في (ز): ((المضيف)).(2/584)
عنه، أَيْهَل (1) ، وهلاً: نسيتُ وغلِطْتُ. ووهلتُ في (2) الشيء أهِلُ وهلاً (3) : إذا ذهب وَهَمْك إليه.
و((القَلِيب)): البئر غير المطويّة، وأمّا إنكار عائشة على ابن عمر سماع أهل القليب، فمن قبيل ما تقدّم؛ وذلك (4) أنها أنكرت ما رواه الثقة الحافظ؛ لأجل أنها ظنّت (5) أن ذلك (6) مُعارض بقوله (7) تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} (8) ، و: {إنك لا تسمع الموتى} (9) ، ولا تعارض بينهما ؛ لوجهين:
أحدهما:أن الموتى في الآية إنما يراد بهم الكفار،فكأنهم موتى في قبورهم، والسماع يراد به الفهم والإجابة هنا ؛ كما قال تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (10) } (11) ، وهذا كما سَمّاهم: {صمٌّ (12) بُكمٌ عُمْيٌ} (13) ، مع سلامة هذه الحواسّ منهم. =(585)=@
__________
(1) ضبطها ناسخ (ب) بكسر الهمزة.
(2) في (ب) و(ح): ((إلى)).
(3) قوله: ((نسيت...)) إلى هنا سقط من (أ) و(ز) و(س).
(4) في (ب): ((وذاك)).
(5) في (ز) و(س): ((ظننته)).
(6) في (ب): ((وذكل)).
(7) في (ب): ((لقوله)).
(8) سورة فاطر، الآية: 22.
(9) سورة النمل، الآية: 80 ، وفي سورة الروم، آية 52:{فإنك لا تسمع الموتى}.
(10) في (ز): لم تتضح كلمة ((معرضُون)).
(11) سورة الأنفال، الآية: 23.
(12) في (ح) و(ز): ((بصمٍ وبكمٍ وعميٍ))، وفي (س): ((بصم)).
(13) يشير إلى وصف حال المنافقين كما في سورة البقرة، آية: 18، وفي قوله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون} آية (171).(2/585)
وثانيهما (1) : أنا لو سلمنا أن الموتى في الآية على حقيقتهم ؛ فلا تعارُض بينها وبين أن بعض الموتى يسمعون (2) في وقت ما، أو في حال ما، فإن تخصيص العموم ممكن وصحيح إذا وُجد المخصِّص (3) ، وقد وُجد هنا (4) ؛ بدليل هذا الحديث وحديث أبي طلحة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بدر: ((والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم))، وهو متفق عليه (5) ، وبما في معناه ؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الميت (6) : ((إنه ليسمع قرعَ النِّعال)) (7) ، وبالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره، وجوابه لهما (8) ، إلى غير ذلك مما لا يُنكر.
فحديث ابن عمر رضي الله عنهما صحيح النقل، وما تضمنه يقبله (9) العقل، فلا طريق لتخطئته، والله تعالى أعلم. وأيضًا فقد رواه عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما أنتم بأسمع لما أقول منهم (10) ))، ورواية من روى (11) : ((إن الميت يعذب ما (12) نِيح عليه))؛ يشهد (13) لما اخترناه في تأويل الحديث المتقدم. و((ما)) هنا ظرفية، تقديره: مدة النياحة عليه، وما يعذب بسببه مسكوت عنه هنا، وهو ما تقدم، والله أعلم. =(2/586)=@
__________
(1) في (أ): ((وثانيها)).
(2) في (ز): ((تسمعون)).
(3) في (ح): ((ويصح إذا وجد للتخصيص)).
(4) في (أ): ((هاهنا)).
(5) أخرجه البخاري (7/300 رقم3976) كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، ومسلم (4/2204، 2875) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار. وسيأتي برقم (...).
(6) قوله: ((في الميت)) سقط من (ز) و(س).
(7) ترجم البخاري (3/205) كتاب الجنائز من "صحيحه" بعنوان: باب الميت يسمع خفق النعال، وساق فيه حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا، قال: ((العبد إذا وضع في قبره وتولّى وذهب أصحابه - حتى إنه ليسمع قرع نعالهم-، أتاه ملكان فأقعداه...)) الحديث، و(3/232 رقم1374) باب ما جاء في عذاب القبر، بنحو حديث أنس، ومسلم (4/2200 رقم2870) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، بنحوه، ورقم (4/2780) بلفظ: ((خفق نعالهم)).
(8) كما جاء في حديث أنس الذي تقدم تخريجه في التعليق السابق.
(9) في (أ) و(ب): ((تقبله)).
(10) قوله: ((منهم)) ليس في (أ) و(ز)، وفي (ح) ضرب عليها.
(11) تقدم تخريجه من حديث المغيرة بن شعبة.
(12) في (ح): ((بما)).
(13) في (أ) و(ب) و(ح): ((يشهد)) بدون نقط للياء.(2/586)
وفي "الأم" (1) : أن عمر رضي الله عنه لما طعن عوّلت عليه حفصة رضي الله عنها (2) ، هكذا صحيح الرواية، وقد روي:((أعْوَلَتْ ))، وهما لغتان، غير أن الثانية أشهر وأفصح (3) ، وكلاهما من العويل، وهو البكاء ومعه صوت (4) .
************
( 6 ) باب التشديد في النياحة، وما جاء في اتباع الجنائز
15- عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ (5) ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ))، وَقَالَ:((النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا، تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التشديد في النياحة
قوله صلى الله عليه وسلم:((أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ))؛ أي: من شأنهم وخصالهم،
و((لا يَتْرُكُونَهُنَّ))، يعني: غالبًا.
((الْفَخْرُ (6) فِي الأَحْسَابِ))؛ يعني: الافتخار بالآباء الكبراء والرؤساء، وقد قال صلى الله عليه وسلم:((إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة (7) الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما (8) هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس كلّهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب)) (9) .
و((وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ)): استحقارُها وعيْبُها، وقد تقدم الكلام على الاستسقاء بالنجوم.
((وَالاسْتِسْقَاءُ)): استدعاء السُّقي (10) وسؤالُه، وكأنهم كانوا يسألون من النجوم أن تسقيهم ؛ بناءً منهم على اعتقادهم الفاسد في أن النجوم تُوجِد المطر وتخلقه (11) . =(2/587)=@
__________
(1) يقصد بالأم: "صحيح مسلم"، وهو تعبير استعمله القاضي في "الإكمال" كثيرًا، وتبعه المؤلف على استعماله هنا.
(2) تقدم تخريجه قريبًا.
(3) ذكر القاضي في "الإكمال" (152/ب): ولم يصحّح أثرهم إلا أعول)).اهـ.
وذكر النووي عن محققي أهل اللغة قولهم: يقال: عوَّل عليه وأعول لغتان، وهو البكاء بصوت. وقال بعضهم: ((لا يقال إلا أعول، وهذا الحديث يرُدُّ عليه)).اهـ."المنهاج" (6/230).
(4) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(5) أخرجه مسلم (2/644 رقم934) في الجنائز، باب التشديد في النياحة.
(6) في (ب): ((النياحة والفخر)) ووضع إشارة لحق على النّياحة ولم يظهر شيء في الهامش، وفي (ح) و(أ) و(ز)( و(س): ((والفخر)).
(7) في (ح): ((عيبة)).
(8) في (ب): ((وإنما)).
(9) أخرجه أحمد في "المسند" (2/361 رقم523-524)، وأبو داود (رقم5116) كتاب الأدب، باب في التفاخر بالأحساب، والترمذي (رقم3955) كتاب المناقب، باب في فضل الشأم واليمن بلفظ أحمد الأول، إلا أن الزيادة في أوله، وقد قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن غريب، و(رقم3956) بنحوه، وقال: وهذا أصح من الأول، والطحاوي في "مشكل الآثار" (9/85 رقم 3458) بنحو، وفي آخره زيادة، وفيه: ((عبية)) بتقديم الموحدة. ... ...
رووه جميعًا، إلا الترمذي، من طرق عن هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن المقبري، عن أبي هريرة به مرفوعًا، وأما رواية أبي داود والترمذي فمن طريق هشام بن سعد، عن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة به مرفوعًا. وعند الترمذي في الرواية الأخرى: هشام، عن أبي سعيد المقبري، به.
وهو حديث حسن الإسناد لحال هشام بن سعد، فإنه صدوق له أوهام، كما قال الحافظ، وقد قال ابن منده: هذا حديث مشهور عن هشام متصل صحيح، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (35 و69).
(10) في (ب): ((السقيا))، وضرب على الألف.
(11) قال الشيخ سليمان بن عبدالله بن عبدالوهاب: الاستسقاء بالنجوم نوعان:
أحدهما: أن يعتقد أن الْمُنزل للمطر هو النجم، فهذا كفر ظاهر ؛ إذ لا خالقَ إلا الله...
والثاني: أن ينسب إنزال المطر إلى النجم، مع اعتقاده أن الله تعالى هو الفاعل لذلك الْمنزل له؛ إلا أنه سبحانه وتعالى أجرى العادة بوجود المطر عند ظهور ذلك النجم، فحكى ابن مفلح خلافًا في مذهب أحمد في تحريمه وكراهته، وصرَّح أصحاب الشافعي بجوازه. والصحيح أنه محرَّم ؛ لأنه من الشرك الخفيّ... إلى آخر كلامه رحمه الله. "تيسير العزيز الحميد" (454)، وانظر "فتح المجيد" (374).(2/587)
و ((السِرْبَالٌ)): واحد السرابيل، وهي: الثياب والقُمُص، يعني (1) : أنّهنّ تلطَّخْنَ (2) بالقطِرَان، فيصير لهنّ كالقُمُص، حتى يكون اشتعال النار والتصاقها بأجسادهن أعظم، ورائحته أنتن، وألمها بسبب الجرب (3) أشدّ.
16- وَعَنْ عَائِشَةَ (4) قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ. قَالَتْ: وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ - شَقِّ الْبَابِ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ فَيَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ فَأَتَاهُ، فَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: وَاللهِ ! لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَتْ: فَزَعَمَتْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اذْهَبْ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ قَالَتْ عَائِشَةُ، قُلْتُ: أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَكَ وَاللهِ مَا تَفْعَلُ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَنَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ: مِنَ الْعِيِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (5) :((مِنْ صَائِرِ الْبَابِ)): قد فسّره في الحديث بشقّ الباب، وهكذا صحّت روايته. قال الإمام (6) : والصواب:((صِير الباب))- بكسر الصاد -.
وفي حديث آخر:((من اطلَّع من صِير باب فقد دَمَر)) (7) ، وهو شَقّ الباب، و((دَمَر)): دخل بغير إذن.
وكون نساء جعفر لم يُطِعْن الناهي لهنّ عن البكاء؛ إمّا لأنه لم يُصرِّح لهن بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن، فظننَّ منه أنه كالمحتسب في ذلك وكالمرشد للمصلحة، أو لأنهن غُلبن في أنفسهن على سماع (8) النهي ؛ لحرارة المصيبة، والله تعالى أعلم.
وقوله: ((احْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ (9) ))؛ يدلّ على أنهنّ صرخْن ؛ إذ لو كان =(2/588)=@
__________
(1) في (ح): ((تعني)).
(2) في (ب) و(ز) و(س): ((يلطخني)).
(3) في (أ)، و(ز) و(س): ((الحر)).
(4) أخرجه البخاري (3/166 رقم1299) في الجنائز، باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن، مسلم (2/644 رقم935) في الجنائز، باب التشديد في النياحة.
(5) كذا في جميع النسخ.
(6) أي: المازري في "المعلم" (1/325).
(7) ذكر الحديث باللفظ الذي ساقه المؤلف: الهروي في "الغريبين"(2/651) و(4/1107)، وابن الأثير في "النهاية" (3/66)، لكني لم أقف على من خرجّه بهذا اللفظ، والله أعلم.
(8) في (ز): ((عن أسماع)).
(9) في (ب): ((من التراب)).(2/588)
بكاءً (1) بالعين فقط، لم يكن (2) لملء (3) أفواههنّ بالتراب معنًى، وليس أمره صلى الله عليه وسلم للرجل بذلك ليفعله بهن على كل حالٍ، ولكن على طريق أن هذا مما يُسكتهنّ إن فعلتَه، فافعلْه إن أمكنك، وهو لا يمكنك.
وفيه دليل على أن المنهي عن المنكر إن لم ينته عوقب وأُدِّب (4) إن أمكن ذلك، وإلا فالملاطفة فيه أولى إن نفعت (5) .
وقول عائشة رضي الله عنها للرجل: ((أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَكَ))؛ أي: ألصقه الله بالرغام (6) - وهو التراب -، دعت عليه؛ لأنها فهمت أنه أَحْرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة تكراره عليه وإخباره ببكائهن، ولذلك قالت له: ((وَاللهِ مَا (7) تَفْعَلُ (8) مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أي: لا تقدر على فعله، لتعذُّره عليك (9) ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَنَاءِ (10) )). ولم تُرِد الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره.
ووقع في رواية العذري (11) مكان:(( مِنَ الْعَنَاءِ)) (12) ((مِنَ الْغِيِّ))- بالغين المعجمة والياء المشدَّدة- الذي هو ضد الرشد، وعند الطبري مثله؛ إلا أنه بالمهملة، والأول أليق بالمعنى وأصح، وكذلك رواه البخاري.
17- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ (13) قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ البَيْعَةِ أَلا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ إِلا خَمْسٌ: أُمُّ سُلَيْمٍ، وَأُمُّ الْعَلاءِ، وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ، أَوِ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ (14) : يَا رَسُولَ اللهِ! إِلا آلَ فُلانٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَسْعَدُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أُسْعِدَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((إِلا آلَ فُلانٍ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أم عطية رضي الله عنها:((أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ البَيْعَةِ أَلا نَنُوحَ))، دليل على تحريم النياحة، وتشديد المنع فيها (15) ؛ لأنها تستجلب الحزن، وتصدّ عن الصبر المحمود. =(2/589)=@
__________
(1) قوله: ((إذ لو كان)) غير واضحة في (ز).
(2) قوله: (( لم يكن)) سقط من (ح).
(3) في (ح): ((لملم)).
(4) في (ح): (( عوتب وأدب بذلك)).
(5) في (ب): ((تعقب))، وفي (ح): ((وقعت)).
(6) في (أ) و(س) و(ح): ((ألصقه بالرغام)).
(7) في (ب): ((لا)) بدل ((ما)).
(8) في (ز): ((عن أسماع)).
(9) قوله: ((عليك)) سقط من (ب) و(ح).
(10) في (أ): ((من العثاء)).
(11) كذا قال القاضي في "الإكمال" (3/379)، وعند مسلم في "صحيحه" قال عقب الحديث: وفي حديث عبدالعزيز - يعني: ابن مسلم -: وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العِيِّ - بالمهملة -، أي: التعب، فيكون مقصودًا به العناء. وقد جاء في "الفتح" (3/168): ووقع في رواية العذري: ((الغي)) بفتح المعجمة بلفظ ضد الرشد.
(12) في (أ): ((من العثاء)).
(13) أخرجه البخاري (3/176 رقم1306) في الجنائز، باب ماينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك، وآخره: ((وابنة أبي سَبْرة امرأة معاذ وامرأتين، أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ وامرأة أخرى))، و(13/204 رقم7215) كتاب الأحكام، باب بيعة النساء، بنحوه، وفي أوله زيادة، مسلم (2/645 رقم936/31 و33) في الجنائز، باب التشديد في النياحة.
(14) "صحيح مسلم" (2/646 رقم937/33) في الجنائز، باب التشديد في النياحة، وفيه: عن أم عطية قالت: لما نزلت هنة الآية: {يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئًا... ولا يعصينك في معروف}، قالت: كان من النياحة، قالت: فقلت: يا رسول الله! إلا آل فلان... الحديث باللفظ المتقدم.
(15) في (ب): ((منها)) بدل ((فيها)).(2/589)
وقولها:((فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ إِلا خَمْسٌ))، ثم ذكرت (1) ثلاثًا أو أربعًا، قال عياض: معناه: أنه لم يفِ ممن بايع معها على ذلك (2) . وفي كتاب البخاري (3) تكميلهنَّ (4) ، فقال (5) : ابنة أبي (6) سبرة، وامرأة معاذ، وامرأتان (7) ، أو ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ (8) (9) ، وامرأة أخرى.
وقول أم عطية عند المبايعة:((إِلا آلَ فُلانٍ فَإِنَّهُمْ (10) كَانُوا أَسْعَدُونِي (11) فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ (12) أُسْعِدَهُمْ))، فقال:((إِلا آلَ فُلانٍ))، أشكل هذا الحديث على العلماء، وكثرت فيه أقوالهم:
وقيل (13) (3) فيه(4): إن هذا كان قبل تحريم النياحة.
وهذا فاسد بمساق حديث أم عطية هذا، فإن فيه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن في البيعة أن لا يَنُحْن))، وذكر النياحة مع الشرك، وألاَّ يعصينه في معروف، فلولا أنها من المحرمات، لما أكدّ أمرها عليهن، بذكرها في البيعة مع محظورات أخر، ولَمَّا فهمت أم عطية التحريم استثنت (14) .
وثانيها: أن ذلك خاص بأم عطية (15) .
وهذا أيضًا فاسد، فإنه لا يخصّها بتحليل ما كان من قبيل (16) الفواحش كالزنى وشرب الخمر (17) .
وثالثها: أن النهي عن النياحة إنما كان على جهة الكراهة، لا على جهة العزم =(2/590)=@
__________
(1) في (أ) و(ح) و(ز) و(س): ((ذكر))، وبقية النسخ ((ذكر)).
(2) "الإكمال" (152/ب)، (153/أ)، قال: ((هذا عندي أنه لم يفِ ممن بايع معها على ذلك في الوقت الذي بايعت فيه، لا أنه لم يترك النياحة أحد من المسلمات غير هؤلاء الخمس، هذا ما لا يصحّ ولا يعرف من أخلاق الصحابيات رضي الله عنهنّ)).اهـ.
(3) في كتاب الجنائز من "صحيحه" (3/176 رقم1306) باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك.
(4) في (ز): ((تكلميلهن)).
(5) في (ح): ((تكلمهن فقالت)).
(6) قوله: ((أبي)) تكرر في (س) و(ز).
(7) في "الصحيح": ((وامرأتين)).
(8) قوله: ((وامرأتان أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ)) سقط من (ح).
(9) قال الحافظ في "الفتح" (3/176-177):« وأما قوله: ((أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ))؛ فهو شك من أحد رواته، هل ابنة أبي سبرة هي امرأة معاذ أو غيرها ؟ والذي يظهر لي أن الرواية بواو العطف أصح ؛ لأن امرأة معاذ - وهو ابن جبل - هي أم عمرو بنت خلاد بن عمرو السلمية، ذكرها ابن سعد، فعلى هذا فابنة أبي سبرة غيرها، قال: ووقع في "الدلائل" لأبي موسى من طريق حفصة، عن أم عطية: ((وأم معاذ)) بدل قوله: ((وإمرأة معاذ))...، والصواب ما في الصحيح: ((امرأة معاذ وبنت أبي سبرة))، ولعل بنت أبي سبرة يقال لها: أم كلثوم، وإن كانت الرواية التي فيها أم معاذ محفوظة، فلعلَّها أم معاذ بن جبل، وهي هند بنت سهل الجهنية، ذكرها ابن سعد أيضًا، وعرّف بمجموع هذه النسوة الخمس، وهي: أم سليم، وأم العلاء، وأم كلثوم، وأم عمرو، وهند - إن كانت الرواية محفوظة -، وإلا فيختلج في خاطري أن الخامسة هي أم عطية راوية الحديث، ثم وجدت ما يؤيده من طريق عاصم عن حفصة عن أم عطية بلفظ: ((فما وفت غيري وغير أم سليم))، أخرجه الطبراني أيضًا»- وهذه الرواية عند الطبراني في "الكبير" (25/59 رقم135)-. قال: «ثم وجدت ما يرده وهو ما أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" من طريق هشام بن حسان، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: ((كان فيما أخذ علينا أن لا ننوح...)) الحديث، فزاد في آخره: ((وكانت لا تعد نفسها ؛ لأنّها لما كان يوم الحرّة لم تزل النساء بها حتى قامت معهن، فكانت لا تعد نفسها لذلك، ويجمع بأنّها تركت عدّ نفسها من يوم الحرّة».اهـ.
(10) وضع ولا يوجد له هامش.
(11) في (أ): ((أسعدو بي))، وفي (ح): ((ليسعدوني)).
(4) ذكر الحافظ في "الفتح"(8/639) ورجّحه، فقال: ((وظهر من هذا كله أن أقرب الأجوبة أنها كانت مباحة، ثم كرهت كراهة تنزيه، ثم تحريم، والله أعلم.
(12) قوله: ((أن)) ليس في (ز).
(13) في (ب) و(ح): ((قيل)).
(14) في (ح) يشبه أن تكون: ((امتثلت)).
(15) قال النووي في "المنهاج" (6/238): ((هذا محمول على أن الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة، ولا تحل النياحة لها ولا لغيرها في غير آل فلان؛ كما هو ظاهر الحديث، وللشارع أن يخص من العموم من شاء بما شاء، فهذا صواب الحكم في هذا الحديث)). اهـ.
وقد عقب الحافظ عليه في "الفتح" (8/638-639) بقوله: ((وفيه نظر، إلا إن ادعى أن الذين ساعدتهم لم يكونوا أسلموا، وفيه بعد، وإلا فليدَّع مشاركتهم لها في الخصوصية)).اهـ.
(16) قوله: ((قبيل)) سقط من (ح).
(17) في (ح): ((والشرب الخمر)).(2/590)
والتحريم.
وهذا أيضًا فاسد بما تقدَّم، وبقوله: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية))، وبقوله:((النائحة إذا لم تتب جاءت يوم القيامة وعليها سربالٌ من قطران ودرع من جرب))، وهذا وعيد شديد يدل على أنه من الكبائر.
ورابعها (1) : أن قوله صلى الله عليه وسلم:((إِلا آلَ فُلانٍ))، ليس فيه (2) نص على أنها تساعدهم بالنياحة (3) ، فيمكن أنها تساعدهم باللقاء (4) والبكاء الذي لا نياحة فيه، وهذا أشبهُ مِمَّا قبله.
وخامسها (5) : أن يكون قوله:((إِلا آلَ فُلانٍ)) إعادةٌ لكلامها على جهة الإنكار والتوبيخ؛كما قال للمستأذن حين قال: ((أنا))، فقال صلى الله عليه وسلم:((أنا أنا)) (6) ، منكرًا عليه. ويدل على صحة هذا التأويل ما زاده النسائي (7) في حديثٍ بمعنى حديث أم عطية، فقال (8) : ((لا إسعاد في الإسلام))؛ أي: على النياحة، والله أعلم.
18- وَعَنْهَا (9) قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها:((نُهينا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا))؛ أي: لم يجزم (10) علينا، ولم يُشدّد علينا. وظاهر كلامها أنهن نُهين عن ذلك نَهي تنزيه وكراهة. وإلى منع (11) ذلك صار جمهور العلماء لهذا النهي، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((ارجعنَ مأزورات غير مأجورات)) (12) . وإليه ذهب ابن حبيب، وكرهه مالك للشابة، وفي (13) الأمر =(2/591)=@
__________
(1) ذكر ذلك الحافظ في "الفتح"(8/639)، وتعقب المصنِّف بقوله: ((بل يرد عليه ورود التصريح بالنياحة كما سأذكره - وذكر روايات للخبر فيها التصريح بالمساعدة في النوح - ويرد عليه أيضًا: أن اللقاء والبكاء المجرد لم يدخل في النهي... فلو وقع الاقتصار عليه، لم يحتج إلى تأخير المبايعة حتى تفعله)).اهـ.
(2) في (ح): ((ليس لي فيه)).
(3) في (ز) و(س): ((في النياحة)).
(4) في (أ): ((في اللقاء)).
(5) ذكر ذلك القاضي في "الإكمال" (3/380) والحافظ في "الفتح"(8/639)، وقال: ((ويرد عليه ما ورد على الأول)).
(6) أخرجه البخاري في "صحيحه"(11/35 رقم6250) كتاب الاستئذان، باب إذا قال: من ذا؟ فقال أنا. ولفظه: عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أنا، فقال: ((أنا أنا))، كأنه كرهها، ومسلم (3/1697 رقم38، 39 - 2155) كتاب الآداب، باب: كراهة قول المستأذن أنا إذا قيل: من هذا ؟ نحوه.
(7) في "السنن" (4/16 رقم1852) كتاب الجنائز، باب النياحة على الميت، عن أنس بن مالك مرفوعًا بلفظه، وفي أوله ذكر خبر البيعة مختصرًا.
وأخرجه الإمام أحمد في"المسند" (3/197) بنحوه، وفي آخره زيادة، وعبدالرزاق في "المصنف" (3/560 رقم6690) كتاب الجنائز، باب الصبر والبكاء والنياحة، بلفظه، وفيه زيادة، و(6/8 رقم9829) كتاب أهل الكتاب، باب بيعة النساء، بلفظه، وابن حبان كما في "الإحسان" (7/415- 416 رقم3146) كتاب الجنائز، فصل في النياحة ونحوها، والبيهقي في "الكبرى"(4/62) كتاب الجنائز، باب النهي عن النياحة على الميت، بلفظه، رووه جميعًا من طريق عبدالرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، به.
وهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات إلا أن فيه علةً ؛ حيث إنه من رواية معمر عن ثابت البناني، وقد تُكلم عنها، قال ابن معين: ((ومعمر عن ثابت ضعيف، وقال: وحديث معمر عن ثابت -وذكر غيره- مضطرب كثير الأوهام...)). اهـ. وقال الحافظ: ((ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت و... شيئًا)).أهـ. انظر "التهذيب" (10/126)، و"الميزان" (4/154)، و"التقريب" (6809).
وقد قال أبو حاتم في "علل الحديث" (1/369-370): ((هذا حديث منكر جدًّا)).اهـ.
(8) في (ب) و(ز) و(س): ((قال)) وسقطت من (أ).
(9) أخرجه البخاري (3/144 رقم1278) في الجنائز، باب اتباع النساء الجنائز، وأخرج قولها: ((وكنا ننهى عن اتباع الجنائز " في عجز حديث في (1/413 رقم313) في الحيض، باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض، و(9/491 رقم5341) كتاب الطلاق، باب القسط - وهو نوع من البخور - للحادة عند الطهر، ومسلم (2/646 رقم938) في الجنائز، باب نهي النساء عن اتباع الجنائز. وأما اللفظ الذي ساقه المؤلف هنا وليس في "التلخيص"، فرقمه في مسلم (938/35).
(10) في (ز) و(س): ((لم يحرم)).
(11) قوله: ((منع)) ليس في (أ).
(12) سبق تخريجه في الإيمان، باب إطلاق اسم الإيمان على ما جعله في حديث جبريل إسلامًا (...).
(13) في (أ): ((في)).(2/591)
المستنكر، وأجازه إذا لم يكن ذلك (1) ، وأجازه علماء المدينة ؛ لقولها:((ولم يعزم علينا ))، والله تعالى أعلم.
( 7 ) باب الأمر بغسل الميت وكيفيته
19- عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ (2) قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ فَقَالَ:((أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ))، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ:((اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ)). وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ:((مَشَطْنَاهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ)). وَفِي رِوَايَةٍ:((قَرْنَيْهَا وَنَاصِيَتَهَا)). وَفِي أُخْرَى قَالَ لَهَا: ((ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بغسل الميت
قوله صلى الله عليه وسلم:((اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ)): لا خلاف في أن غسل الْمَيِّت مشروع ومعمول به في الشريعة؛ لكن اختُلف في حُكمه (3) :
فقيل: الوجوب، وقيل: سنة مؤكدة، والقولان في المذهب.
وسبب الخلاف فيه (4) هو أن هذا الأمر: هل المقصود به بيان حكم الغسل فيكون واجبًا، أو المقصود به تعليم كيفية الغسل، فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب؟ وقد قال بعض أصحابنا: إن قوله في هذا:((إن رأيتنّ ذلك))، يقتضي إخراج ظاهر (5) الأمر بالغسل عن الوجوب ؛ لأنه قد (6) فوّضه إلى نظرهنّ، وردّ هذا التقييد إلى الأمر بالغسل، وهذا فيه بُعد، بل السابق للفهم (7) عود هذا الشرط إلى الأقرب به (8) ، وهو:((أكثر من ذلك))، أو إلى التخيير في الأعداد السابقة، والأول أظهر.
والظاهر من هذا الأمر أنه أمر تعليم، ولم يقصد به تقعيد قاعدة حُكم الغسل، فلا يُتمسَّك بظاهره، فالأولى أن غسل الميت سنة ثابتة نقلت بالعمل، والله تعالى أعلم.
وهذا الحديث يقتضي استحباب الأوتار في غسل الميت، وأن أقلَّ (9) ذلك =(2/592)=@
__________
(1) قوله: ((وأجازه إذا لم يكن ذلك)) مكرر في (ح).
(2) أخرجه البخاري (1/269 رقم167) في الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، و(3/125 رقم1253) في الجنائز، باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسّدر، بلفظ مقارب، و(3/130-131 رقم1254-1255)، باب ما يستحب أن يغسل وترًا، بلفظ مقارب، وباب يبدأ بميامن الميت، وباب مواضع الوضوء من الميت، وباب هل تكفن المرأة في إزار الرجل، بنحوه مختصرًا، وباب يجعل الكافور في الأخير، بلفظ مقارب، و(3/133-134 رقم1261-1263) باب كيف الإشعار للميت، نحوه، وباب شعر المرأة خلفها، نحوه، ومسلم (2/646-647 رقم939/36 و39 و42) في الجنائز، باب غسل الميت.
(3) قال ابن المنذر في كتابه "الإجماع" (42): ((انعقد الإجماع على مشروعية غسل الميت)).
وقال ابن الهمام في "شرح فتح القدير" (2/69): ((غسل الميت فرض بالإجماع؛ إذا لم يكن الميت خنثى مشكلاً، فإنه مختلف فيه)).اهـ. ...
وكذا قال النووي في "المجموع" (5/128)، وأبو القاسم الرافعي في "فتح العزيز" (5/114) بأنه فرض كفاية بإجماع المسلمين؛ إلا أن الحافظ ابن حجر تعقب النووي في قوله السابق، فقال في "الفتح" (3/125): ((وهو دهول شديد، فإن الخلاف مشهور عند المالكية، حتى إن القرطبي رجّح في شرح مسلم أنه سنة، ولكن الجمهور على وجوبه)).اهـ.
وقد رجّح المصنف هنا، وتلميذه أبو عبدالله في "التفسير"(4/299) أن غسل الجنازة سنة، وهو قول عند المالكية، كما ذكر ذلك ابن رشد في "بداية المجتهد" (1/164)، وأبو محمد القيرواني في "تنوير المقالة" (2/574).
(4) قوله: ((فيه)) سقط من (ب).
(5) في (ز): ((الظاهر)).
(6) قوله: ((قد)) سقط من (ب) و(ز) و(س).
(7) في (ب): ((إلى الفهم)).
(8) قوله: ((به)) ليس في (ز) و(س).
(9) في (ح): ((وإن قل)).(2/592)
ثلاثٌ، وليس لذلك عند مالك وبعض أصحابه (1) حدٌّ لازم يُقتصر عليه، لكنه يُنقى ويُغسل جميعُه، وإليه يرجع قول الشافعي وغيره من العلماء.
وصَرْف الأمر إلى اجتهاد الغاسل إنما هو بحسب ما يراه زيادة في الإنقاء والاحتياج إلى ذلك، وكذلك إذا خرج من الميت شيء بعد غسله أعاد غسله، وقد جاء في الرواية الأخرى: ((أو سبعًا، أو أكثر من ذلك)). قال أبو عمر بن عبد البر (2) : لا نعلم (3) أحدًا من العلماء قال بمجاوزة سبع غسلات في غسل الميت. قال أبو الفضل عياض (4) : وإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده، قال مالك وأبو حنيفة وجماعة من المالكية، قالوا: وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله. ومنهم من قال: يُوضأ إذا خرج منه شيء بعد الثالثة.
وقوله:((بِمَاءٍ وَسِدْرٍ))، احتج بهذا ابن شعبان: ومن يجيز غسله بماء الورد، وبالماء المضاف. قال ابن الفرضي:((وإنما يكره غسل الميت بماء الورد وماء القرنفل (5) من ناحية السرف، وإلا فهو جائز ؛ إذ لا يُغسل ليطهر، بل هو (6) إكرام للقاء الملكين)).
والجمهور على أن غسله بذلك لا يجوز، وأن ذلك لا يُفهم من الحديث؛ لكنه عندهم محمول على أن يُغسل أولاً بالماء القَرَاح لتتم (7) الطهارة، وفي الثانية بالماء والسدر للتنظيف، ثم في (8) الثالثة بالماء والكافور للتطييب (9) والتجفيف (10) .
قال عياض: وهذا حقيقة مذهب مالك، وحكاه ابن حبيب، وقال: يُبدأ (11) بالماء والسدر، ثم بالماء القراح. وقال أبو قلابة مثله، لكنه قال: ويُحسب هذا غسلة واحدة، وذهب أحمد: إلى أن الغسلات كلها تكون بالماء والسدر على ظاهر الحديث.
قال الشيخ: ويمكن أن يُجعل (12) السدر في الماء، ويُخضخض حتى يخرج (13) رغوته، ثم يُدلك جسد الميت ليبالغ في إزالة أدرانه، ثم يُصبّ الماء عليه؛ كالحال في قلع ما يعسر (14) قلعه من الأدران بالغاسول، ويكون هذا في أول غسلة، كما قاله =(2/593)=@
__________
(1) قوله: ((أصحابه)) لم يتضح في (ز).
(2) في "التمهيد" (1/373).
(3) في (ز): ((لا يعلم)).
(4) نص عبارة القاضي في "الإكمال" (3/383): ((نحا أحمد وإسحاق، أن لا يزاد على سبع، وإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده، كما قال مالك وأبو حنيفة: إذا خرج منه شيء بعد الثلاث غسل الموضع وحده، وقاله الثوري والمزني وجماعة من المالكية، قالوا: وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد الغسل)).اهـ. فكأن في عبارة المصنِّف سقط كما ترى، لأن المعروف عن مالك وأبي حنيفة كما تقدّم أن غسل الموضع وحده يكون بعد الثلاث وليس السبع، والذي قال بعد السبع الإمام أحمد وإسحاق، رحمهم الله تعالى.
(5) في (ح): ((بماء القرنفل وماء الورد)).
(6) قوله: ((هو)) ليس في (أ).
(7) في (أ) و(ح) و(ز) و(س): ((فتتم)).
(8) في (ز) و(س): ((ثم قال في)).
(9) في (ز) و(س): ((للتطيُّب)).
(10) في (ح) و(ز): ((والتحفيف)) بالحاء المهملة.
(11) في (ب) و(ز) و(س) و(ح): ((بل يبدأ)).
(12) في (س): ((أل يُجعل)) كذا رسمت.
(13) في (ب) و(ز) و(س): ((تخرج)).
(14) في (ب) تراجع للشيخ في لوح (ل106/ب).(2/593)
ابن حبيب، والله أعلم.
فإن لم يُوجد سدر فغيره من الغاسول مما يتنزّل منزلته يكفي عند كافة العلماء. وروي عن عائشة (1) رضي الله عنها في غسل رأس الميِّت بالخِطمي نهيٌ.
وقوله: ((وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا))؛ يعني: في الغسلة الآخرة، وعلى هذا جماعة العلماء إلا أبا حنيفة والأوزاعي، فإنهما رأيا: أن ذلك في الحنوط (2) ، لا في الغسل. وفائدة تخصيص الكافور: تبريده، وتجفيفه، ومنعه سرعة التغيّر (3) ، وقوة رائحته وسطوعها، فإن عدم قام غيره من الطيب مقامه، وهذا كله إكرام للميت، وإعداد له (4) للقاء الملائكة الكرام، والله تعالى أعلم.
وقوله (5) : فألقى إلينا حَقْوَه فقال:((أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ))، الحقو – بالفتح-: هو المعروف من كلام العرب، وقالته (6) هذيل بكسر الحاء، وأصله: معقد (7) الإزار، وجمعه: أَحْقٍ، وأحقاء، وحُقِيّ: كدَلْو، وأدْلاء، ودُلِيّ.
وهو في هذا (8) الحديث: الإزار، وهو المئزر الذي يُشد على الحقو، فسمي باسم الحقو على التوسُّع. كما تقول العرب: عذت بحقو فلان ؛ أي: استجرت به.
و((أَشْعِرْنَهَا))؛ أي: اجعلنه مما يلي جسدها. والشعار: الثوب الذي يلي الجسد، والدثار: الذي يلي الشعار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:((أنتم شعار، والناس دثار)) (9) ؛ كناية عن القرب والاتصال بهم.
واختلف في كيفية جعل هذا الإزار عليها: فقال (10) ابن وهب: يُجعل لها مِئزرًا. وقال ابن القاسم: تُلفَّف (11) فيه ولا تُؤزر، وهو قول ابن سيرين =(2/594)=@
__________
(1) أخرج خبر عائشة في ذلك: ابن ابي شيبة في "المصنف" (2/451 رقم10917) كتاب الجنائز، باب في الميت إذا لم يوجد له سدر؛ يغسل بغيره خطمي أو أشنان، وابن المنذر في "الأوسط" (5/331 رقم2940).
قال ابن أبي شيبة: حدثنا جرير بن عبدالحميد، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة: يغسل رأس الميت بخطمي ؟ فقالت: لا تَعْتَنِتُوا ميتكم. وسنده صحيح.
(2) قوله: ((الحنوط)) فوقها سواد طمس بعضها في (ز).
(3) في (س): ((التغيير)).
(4) قوله: ((له)) سقط من (ح)، وفي (ز) و(س): ((إعدادًا له)).
(5) في (ب): ((وقولها)).
(6) في (ب): ((وقالت))، وفي (ح): ((قالته)) بلا واو.
(7) في (ز): تشبه أن تكون ((مقعد)).
(8) قوله: ((هذا)) ليس في (ح).
(9) أخرجه عدد من الأئمة عن جمع من الصحابة، عن عبدالله بن زيد بن عاصم، وأنس، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، وأبي سعيد الخدري، وأبي قتادة، وأبي حميد، وغيرهم رضي الله عنهم جميعًا.
وحديث عبدالله بن زيد أخرجه البخاري (8/47 رقم4330) كتاب المغازي، باب غزو الطائف في شوال سنة ثمان، في أثناء حديث، ومسلم (2/739 رقم1061/139) كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، في أثناء حديث.
(10) قوله: ((عليها: فقال)) لم تتضح في (س).
(11) في (ب): ((تلف)).(2/594)
وابن جريج. وقال النخعي: الحقو: فوق الدرع. وقال ابن علية: الحقو: النطاق سَبَنيَّة (1) (2) طويلة يُجمع بها فخذاها ؛ تحصينًا لها، ثم تُلَفّ (3) على عجزها.
وفعل النبي (4) صلى الله عليه وسلم ذلك بها لينالها (5) بركة ثوبه (6) ، وفيه جواز تكفين النساء في ثياب الرجال.
وقول أم عطية: ((مَشَطْنَاهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ))، قال بهذا الشافعي وأحمد وإسحاق وابن حبيب.
وقال الأوزاعي: لا يجب المشط، ولم يعرف ابن القاسم الضفر، وقال: يُلفُّ (7) .
وقال أبو حنيفة: يُكره ذلك، ولكن (8) ترسله الغاسلة غير مضفور بين يديها دون تسريح.
وسبب هذا الخلاف هو: أن الفعل الذي فعلته أم عطية ؛ هل هي (9) مستندة في ذلك إلى إذن النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو هو شيء رأته، ففعلته استحسانًا، ووافقها من كان هناك من النساء، ولم يعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكلاهما محتمل. والأصل: أن لا يُفعل (10) في الميت شيء من جنس القرب إلا بإذنٍ من الشرع محقّق. ولم يَرِدْ ذلك مرفوعًا (11) ، والله أعلم.
وقولها (12) : ((قَرْنَيْهَا (13) وَنَاصِيَتَهَا))، وفي البخاري (14) : ((فألقيناها خلفها)). قال أبو الفرج الجوزي رحمه الله تعالى: وعندنا أن السنة أن يُضفر (15) شعر الميِّتة ثلاثة قرون، وتُلقى (16) خلْفَها. =(2/595)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((سبتيَّة)).
(2) السَّبنيَّة: أُزُرٌ سود للنساء، وقال الليث: ثيابٌ من كتانٍ بيض، منسوبة إلى سَبَن بغداد، وقيل: منسوبة إلى موضع بناحية المغرب. قال ابن سيده: وبالجملة فإني لا أحسبها عربية، اهـ."القاموس" (1554).
(3) في (ز): ((يُلَفّ)).
(4) قوله: ((وفعل البني - صلى الله عليه وسلم - ذلك بها لتنالها)) ملحق في هامش (ز) لم يتضح بعضه.
(5) في (ب) و(ز) و(س): ((لتنالها)).
(6) قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله في تعليقه على "الفتح" (3/130): ((إن التبرك بآثار الصالحين غير جائز، وإنما يجوز ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لما جعل الله في جسده وما ماسّه من البركة، وأما غيره، فلا يقاس عليه؛ لوجهين:
أحدهما: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.
الثاني: أن فعل ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم من وسائل الشرك، فوجب منعه، والله أعلم)).اهـ.
(7) في (أ): ((تُلف)).
(8) في (ز) و(س): ((لكن)) بلا واو.
(9) في (ب) و(ح): ((هرفيه)).
(10) في (أ): ((تفعل))، وفي (ب) و(ح) الحرف الأول مهمل.
(11) هذه مسألة خلافية وسبب الخلاف فيها ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى، وقد ترجم البخاري في "صحيحه" كما في "الفتح" (3/133) باب: يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون.
ونقل الحافظ في "الفتح" (3/134) كلام المؤلف في ذكر سبب الخلاف، ثم قال: كذا قال، ثم عقب عليه بذكر قول النووي في "المنهاج"(7/4): ((والظاهر إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك واستئذانه فيه، كما في باقي صفة غسلها)).اهـ. ثم ساق رواية لحديث أم عطية عند سعيد بن منصور بلفظ الأمر أنها قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اغسلنها وترًا، واجعلن شعرها ضفائر)). ثم عقب بذكر تبويب ابن حبان في "صحيحه"- كما في الإحسان- (7/304 رقم3033): ذكر البيان بأن أم عطية رضي الله عنها إنما مشطت قرونها بأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا من تلقاء نفسها. اهـ.
قال ابن حبان: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب وهشام وحبيب، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية... وساق الحديث. ثم قال: قال أيوب: وقالت حفصة: اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا، واجعلن لها ثلاثة قرون. وهذا إسناد صحيح.
(12) قوله: ((قولها)) فوقها سواد في (ز).
(13) في (ح): ((قرنها)).
(14) (3/134 رقم1263) كتاب الجنائز، باب يُلقى شعر المرأة خلفها، بلفظه.
(15) في (ب) و(ز): ((يظفر)).
(16) في (ز) و(س): ((ويلقى)).(2/595)
وقوله: ((ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا))؛ يدل على استحباب وضوء الميت، وهو حجة لنا وللشافعي على أبي حنيفة، فإنه لا يراه.
واختلف عندنا متى يوضأ؟ هل يوضأ (1) في المرة الأولى أو (2) الثانية، أو فيهما (3) ؟ والابتداء بالميامن على أصل الشريعة في استحباب ذلك في العبادات، وقد أخذ الحسن من هذا الحديث: أن النساء أحقُّ بغسل المرأة من الزوج، وأنه لا يغسلها إلا عند عدمهن. والجمهور من الفقهاء وأئمة الفتوى على خلافه، وأنه أحقُّ. وذهب الشعبي والثوري وأصحاب الرأي إلى أنه لا يغسلها جُملة، وأجمعوا على غسل الزوجة زوجَها، وجمهورهم على أنه أحقّ من الأولياء. وقال سحنون: الأولياء أحقُّ.
ولم يُنبِّه النبي صلى الله عليه وسلم أم عطية على الغُسل من غَسل الميت، وهو موضع تعليم، فلو كان واجبًا لبينه هنا (4) (5) .وقد روى أبو داود (6) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
مرفوعًا: ((مَنْ غسَّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ))، قال: اختُلف في إسناد هذا الحديث، وحمله الفقهاء على الاستحباب لا على الوجوب.
واختلف في المقصود بهذا الغسل:
فقيل: ليكون على يقين من طهارة (7) جسده لما يُخاف أن يطير عليه من رشاش غسل الميت.
وقيل: لأنه إذا عزم على الاغتسال كان أبلغ في غُسله، وأحرى ألا يتحفّظ مما يصيبه، فيبالغ في إنقائه (8) وتنظيفه (9) .
قال الخطابي: =(2/596)=@
__________
(1) قوله: ((يوضأ)) ليس في (ب).
(2) في (ب) و(ز) و(س): ((أو في)).
(3) من قوله: ((علي)) إلى هنا سقط من (ح).
(4) قوله: ((هنا)) ليس في (ح).
(5) انظر نحو ما ذكره المصنف في "الإكمال"(3/388)، و"الفتح" (3/135). وقال الحافظ معقبًا على قول القرطبي هذا: ((وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون شرع بعد هذه الوقعة)).اهـ.
(6) في "سننه" (3/115 رقم3161)، كتاب الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت، بلفظه، إلا أن فيه: ((الميت)) بدل: ((ميتًا ))، و(3/512 رقم 3162)، وقال: بمعناه.
وأخرجه أيضًا: الترمذي (3/318 رقم993) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت، بلفظ: ((من غُسْلِه الغسل، ومِنْ حَمْلِه الوضوء)) - يعني الميت -، وابن ماجه (1/470 رقم1463) كتاب الجنائز وفيه ذكر الغسل فقط ، وأحمد في "المسند" (2/272) بلفظ الترمذي ، إلا أنه بالتأنيث، و(2/454) بلفظه، و(2/ 280، 433، 472) بذكر الشطر الأول فقط كما عند ابن ماجه ، وفي الموضع الأول روايتان ، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/396 - 397) في ترجمة إسحاق - مولى زائدة -، كما عند ابن ماجه، رالطيالسي في "المسند" (4/75 رقم 2433) بلفظ مقارب، وعبد الرزاق في "المصنف" (3/407 رقم 6110 - 6111) كتاب الجنائز ، باب من غسل ميتًا اغتسل أو توضأ ، كما عند ابن ماجه، وابن أبى شيبة (2/470 برقم11153) كتاب الجنائز ، باب من قال على غاسل الميت غسل ، وفيه روايتان بلفظه ، و(3/50 رقم 11999) باب من كان إذا حمل حنازة توضأ ، وفيه روايتان بلفظه ، وابن حبان - كما في الإحسان - (3/435- 436 رقم 1161) كتاب الطهارة، باب نواقض الوضوء ، بلفظه ، وأبو نعيم في "الحلية" (9/158) بلفظ: ((من غسل ميتًا اغتسل ، رمن حمله توضأ ))، والطبراني في "الأوسط" (1/296-رقم 985 و986) بلفظه ، والبيهقي فى "الكبرى" (1/300-303) كتاب الطهارة ، باب الغسل من غسل الميت ، بلفظه ، و (1/302) بلفظه ، وفي أخره زيادة ، و (1/303) بلفظ مقارب ، و (1/ 302) كرواية ابن ماجه ، و (1/301) كرواية الترمذي ، وفيه ثلاثة طرق ، و(1/303) بلفظ الشطر الأول، وفيه: ((ومن أدخله قبره فليتوضأ ))، وابن حزم فى "المحلى" (1/250) و(2/23) بلفظه، و(2/23) بلفظ أبي داود، والبغوي في "شرح السنة" (2/168 رقم339) كتاب الحيض ، باب الغسل من غسل الميت ، بلفظه . قال الترمذي : ((حديث حسن)). اهـ.
وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، وحسنه البغوي في "شرح السنة" (2/168).
وقد ساق ابن القيم في "تهذيب السنن" (4/306) طرق الحديث ، ثم قال :" وهذه الطرق تدلّ على أن الحديث محفوظ ".اهـ.
وذكر الحافظ في "التلخيص" (1/236- 239 رقم 182) و(2/135) عن الذهبى في "مختصر البيهقي" قوله: ((طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء ، ولم يعلوها بالوقف ، بل قدموا رواية الرفع، والله أعلم. وقال أبو داود عقب الحديث : هذا منسوخ ، وسمعت أحمد بن حنبل وسئل عن الغسل من غسل الميت فقال : يجزيه الوضوء)).اهـ.
وفي "الأم" (1/38) قال الشافعي : ((إنما منعني من إيجاب الغسل من غسل الميت أن في إسناده رجلاً لم أقع من معرفة ثبت حديثه إلى يومي هذا على ما يقنعني ، فإن وجدت من يقنعني من معرفة ثبت حديثه أوجبت الوضوء من مس الميت مفضيًا إليه ، فإنهما في حديث واحد)).اهـ.
وقال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/238): ((وفي الجملة، هو بكثرة طرقه، أسوأ أحواله أن يكون حسنًا، فإنكار النوويّ على الترمذي تحسينه معترض)).اهـ.
وقال أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (14/107): ((وإسناد المسند هنا على شرط الشيخين ، والأسانيد الأخر صحيحة على شرط مسلم)).اهـ.
وقد اختلف في إسناده - كما قال المصنِّف -، فحيث قد حكم بقوله من ذكرت تكلّم فيه آخرون وضعّفوه ، وقد أعل بأمور ؛ منها :
1 - أنه موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه، قال ذلك البخاري كما عند البيهقي في "الكبرى" (1/301)، وابن أبى حاتم عن أبيه في "العلل" (1/351)، قال: ((هذا خطأ ، إنما هو موقوف على أبي هريرة ، لا يرفعه الثقات)). اهـ. وكذا قال البيهقي في "السنن الكبرى" (1/302)، وقد بسط القول فيه، وذكر ابن قدامة في "المغني" (1/256 و279) عن أحمد أنه قال: الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة . وقد ذكر أحمد شاكر في "المسند" (14/107) إعلال البخاري له بذلك ، وبيّن أن الرفع زيادة من ثقة ، بل من ثقات ، فهى مقبولة دون تردد .
2- وأُعلَّ بأن أبا صالح لم يسمعه من أبى هريرة ، ذكر ذلك الحافظ في "الفتح" (3/127)، قال: ((هو معلول ؛ لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة))، وذكره في "التلخيص" (1/238) عن ابن دقيق العيد ، وتعقبه - كما سيأتي -.
وقد جاء الخبر من عدة طرق ، والواسطة بين أبي صالح وأبي هريرة إن ثبت عدم السماع هو إسحاق مولى زائدة ، وتقدم أنه ثقة .
3- ما ذكره ابن العربي في "القبس شرح الموطأ" (2/438)، قال : ولو كان هذا الحديث صحيحًا لما خفي على المهاجرين حين قالوا لأسماء بنة عميس ، وقد غسلت أبا بكر زوجها : لا غسل عليك . ولهذا ردّ مالك هذا الحديث ، ونعم ما اعتمد في الرد ؛ لأن الحديث إذا تركه الخلفاء والمهاجرون يكون ذلك غمزًا فيه ، فكيف بالضعيف ؟)).اهـ.
وقد ضعفه عدد من الأئمة ؛ منهم:
- أحمد وابن المديني، حيث قالا: لا يصح في هذا الباب شيء، ذكر ذلك عنهما البيهقي في "الكبرى" (3/301)، والترمذي (2/309)، رالمنذري في "مختصر السنن" (4/307). وفي "مسائل أحمد" لابنه صالح (1/46)، قال: ((لا يصح الحديث فيه)).اهـ.
- محمد بن يحيى الذهلي قال: ((لا أعلم فيمن غسل ميتًا فليغتسل حديثًا ثابتًا، ولو ثبت للزمنا استعماله)).اهـ، ذكر ذلك عنه المنذري في "مختصر السنن" (4/307)، وذكره الحافظ في "الفتح" (3/127)، وقال: فيما حكاه الحاكم في "تاريخه" اهـ.
- الخطابي قال: ((في إسناد الحديث مقال)).اهـ. "معالم السنن" (4/306) مع "مختصر السنن".
- النووي في "المنهاج" (7/6)، قال: ((ضعيف بالاتفاق)).اهـ. وفي "المجموع"(5/185) قال معقبًا على تحسين الترمذي له: ((وقد ينكر عليه قوله أنه حسن، بل هو ضعيف، وقد بيّن البيهقي وغيره ضفه)).اهـ.
- ابن المنذر في "الأوسط" (5/351)، قال: ((ليس في هذا حديث يثبت)).ا.هـ. وانظر زيادة تفصيل في سرد طرق الحديث ورواياته، والأقوال فيه في "السنن الكبرى" للبيهقي (1/299-307).
- وذكر الحافظ عن الرافعي قوله: ((لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئًا مرفرعًا)).اهـ. وذكر عن الدارقطى أنه ذكره، وقال: ((فيه نظر)).اهـ.
وقد دفع الحافظ فى "التلخيص" (1/238) ما قيل في توهين الحديث وبيّن وجه الحق فيه بكلام رصين، حيث قال - رحمه الله تعالى - بعد ما ساق قول ابن دقيق العيد في "الامام": حاصل ما يعتل به وجهان:
أحدهما: من جهة الرجال، ولا يخلو إسناد منها من متكلم فيه. ثم ذكر أن أحسنها رواية سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، وهي معلولة، وإن صححها ابن حبان وابن حزم، فقد رواه سفيان، عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبى هريرة.
قال الحافظ: ((قلت: إسحاق مولى زائدة أخرج له مسلم، فينبغى أن يصحح الحديث)).اهـ.
أقول: كلام أهل العلم في هذا الحديث طويل، هذا ملخصه، وأخلُص من ذلك كله إلى القول بأن الحديث حسن الإسناد، كما تقدم. وأما الحكم المستنبط منه، فالقول فيه هو أن الراجح في ذلك أن الغسل مستحب لا واحب ؛ وذلك لما تقدم من دعوى النسخ التي ذكرها أبو داود - كما تقدم -، وأبانها الحافظ في "التلخيص" بأنه منسوخ بحديث ابن عباس مرفوعًا: ((ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهرًا وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم)). وقد ضعف البيهقى في "السنن الكبرى" (1/306) هذا الحديث، وقال بعد ما أخرجه: ((هذا ضعيف، والحمل على أبي شيبة كما أظن)).اهـ.
وتعقبه الحافظ، فقال: ((أبو شيبة هو إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة، احتج به النسائي ووثقه الناس، ومن فوقه احتج بهم البخاري... قال: فالإسناد حسن)).اهـ.
وأيضا يؤيد أن الأمر للندب - كما أشار الحافظ - ما أخرجه الخطيب في "تاريخه" (5/424) من طريق عبدالله بن الامام أحمد، قال: قال لي أبى: ((كتبت حديث عبيدالله عن نافع، عن ابن عمر: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل)). وصحح الحافظ إسناده، ثم قال: ((وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث، والله أعلم)).اهـ.
(7) في (ز): ((والطهارة)).
(8) في (ح): ((إتقانه))، وفي (أ): ((إتقائه)).
(9) علّق عليه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله في حاشية "الفتح"(3/135) بقوله: " وقال بعضهم: إن الحكمة في ذلك - والله أعلم - جبر ما يحصل للغاسل من الضعف بسبب مشاهدة الميت وذكر الموت وما بعده، وهو معنى مناسب، والله أعلم)).اهـ.(2/596)
لا أعلم أحدًا قال بوجوب الغسل منه (1) . وقال إسحاق: أما الوضوء فلا بد منه، ونحوه قال أحمد.
وهذه البنت التي ماتت للنبي صلى الله عليه وسلم هي زينب على ما جاء في "الأم" (2) ، وقيل: هي أتم كلثوم، على ما جاء ني كتاب أبي داود من حديث ليلى بنت [قَانِف] (3) الثقفية (4) (5) .
( 8 ) باب في تكفين الميت وتسجيته والأمر بتحسين الكفن
20- عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ (6) قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللهِ نَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا نَمِرَةٌ، فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ))، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدِبُهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تكفين الميت
قول (7) خباب: ((فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ))؛ أي: بما وعد به من هاجر بقوله الصدق، ووعده الحق، لا بالعقل (8) ؛ إذ لا يجب على الله تعالى شيء عقلاً ولا وضعًا (9) .
وقوله:((فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا))؛ أي: منا من مات على (10) الحال التي هاجر عليها من الفقر ومجانبة زهرة الدنيا (11) وطيباتها ؛ فذلك الذي سلم له أجر عمله كله، فرأى أن نيل طيبات الدنيا ينقص من ثواب الأعمال الصالحة فيها، =(2/597)=@
__________
(1) "معالم السنن"- بحاشية المختصر (4/305)، وفيه: ((قلت: لا أعلم أحدًا من الفقهاء يوجب الاغتسال من غسل الميت، ولا الوضوء من حمله، ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب)).اهـ.
وكلام الخطابي هذا متعقب، فقد ساقه الحافظ في "الفتح" (5/135)، وقال: ((وكأنه ما درى أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث)).ا هـ.
بل قد قال بالوجوب عدد ؛ منهم: أبو هريرة وعلي وابن المسيب وابن سيرين والزهري، كما ذكر ذلك ابن المنذر في "الأوسط" (5/350)، والعيني في "البناية" (3/225). وانظر "المحلى" (2/23).
(2) "صحيح مسلم" (2/648 رقم939/40) كتاب الجنائز، باب في غسل الميت.
(3) في جميع النسخ: ((قايف)) والمثبت هو الصواب. انظر "الإصابة" (13/120).
(4) "السنن" (3/509 رقم 3157) كتاب الجنائز، باب في كفن المرأة، قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها... الحديث.
وأخرجه أحمد في "المسند" (6/380)، وقد رواه أبو داود عنه. وابن عبد البر في "الاستيعاب" - بحاشية الإصابة - (4/403).
وأخرجه ابن ماجه (1/468) رقم 1458) كتاب الجنائز، باب ما حاء في غسل الميت، بلفظ حديث أم عطية المتقدم، إلا أن فيه أن ابنته هي أم كلثوم.
(5) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(6) أخرجه البخاري (3/142 رقم1276) في الجنائز، باب إذا لم يجد كفنًا إلا ما يواري رأسه أو قدميه غطي رأسه، ومسلم (2/649 رقم940) في الجنائز، باب في كفن الميت.
وأخرجه أيضًا البخاري (3/142 رقم1276) كتاب الجنائز، باب إذا لم يجد كفنًا إلا ما يواري رأسه أو قدميه غطى رأسه، بنحوه، مع تقديم وتأخير، و(7/226 رقم 3897) كتاب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، بنحوه، و (7/253 رقم 3913-3914) بنحوه. و(7/354 رقم 4047) كتاب المغازي، باب غزوة أحد، بنحوه، و(7/375 رقم 4082) باب من قتل من المسلمين يوم أحد، بنحوه، و(11/273 رقم 6448) كتاب الرقاق، باب فضل الفقر، بنحوه. ومسلم (2/649 رقم940) في الجنائز، باب: في كفن الميت. [كتب بجانب الهامش صفحة 179 من الأصل مفقودة]. وأشير إلى الجزء المظلل بقوله [ينقل مع تخريج حديث الباب الآتي] وأنا وضعته كما قال]
(7) قوله: ((قول)) ليس واضحًا في (ب) ويبدو أن قبله حرف.
(8) في (ز) و(س): ((بالفعل)).
(9) وقال الحافظ في "الفتح" (11/278): ((إطلاق الوجوب على الله بمعنى إيجابه على نفسه بوعده الصادق، وإلا فلا يجب على الله شيء)).اهـ.
(10) في (ز): ((الزحرة الدنيا)) وقوله: ((زهرة)) غير واضح في (س).
(11) في (ز): ((أي من على)) كذا رسمت ويوجد بعد من لحق ولم يتضح في الهامش.(2/597)
وقد قال في (1) البخاري (2) في هذا الحديث: ((لقد خشيت أن تكون (3) عجلت لنا طيباتُنا في حياتنا الدنيا.
وقوله:((وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدِبُهَا))؛ أي: أدركت ونضِجت. يقال: يَنع الثمر (4) وأينع: إذا أدرك طيبه، ومنه قوله تعالى:{وَيَنْعِه} (5) ، و((يَهْدِبُهَا))؛ أي: يجتنيها (6) ويقطفها، يقال منه: هَدَب، يهدُب (7) ، ويهدِب هَدْبًا. و ((النَّمِرَة)): كساءٌ ملمعٌ، وقيل: أسود (8) .
وقد (9) يُستدَلُّ بهذا الحديث على أن الكفن من رأس المال، وهو قول عامّة علماء الأمة، إلا ما حُكي عن طاووس: أنه من الثلث إن كان المال (10) قليلاً، وإلا ما حُكي عن بعض السلف: أنه من الثلث على الإطلاق، ولم يتابعا على هاتين المقالتين.
وفيه: أن الكفن إذا ضاق عن الميت؛ كان (11) تغطية وجهه ورأسه أولى ؛ إكرامًا للوجه، وسترًا (12) لما يظهر عليه من تغيُّر محاسنه، وإن ضاق عن الوجه والعورة؛ بدئ بستر العورة.
وتكفين (13) الميت المسلم واجب عند العلماء، فإن كان له مال فمن رأس ماله على ما تقدّم، وإن لم يكن له مال ففي بيت المال، أو على جماعة المسلمين. واختلف أصحابنا: هل يلزم ذلك من كان يلزمه (14) نفقته في حياته أم لا؟
والوتر في الكفن مستحب عند كافة العلماء، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حدٌّ واجب. =(2/598)=@
__________
(1) قوله: ((في)) ليس في (ح).
(2) "الصحيح" (3/140 رقم 1274) كتاب الجنائز، باب الكفن من جميع المال، بلفظه في أثناء حديث عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وفيه أن عبد الرحمن أُتي يومًا بطعامه، فقال: قتل مصعب بن عمير - وكان خيرًا مني-، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، وقتل حمزة - أو رجل أخر- خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي.
وأخرجه أيضًا في (3/142 رقم1275) باب إذا لم يوجد إلا ثوب واحد، بنحوه، و(7/353 رقم4045) كتاب المغازي، باب غزوة أحد، بلفظ الرواية الثانية عنده.
(3) في (ز) و(س): ((يكون)).
(4) في (أ) و(ب) و(ح): ((التمر)).
(5) سورة الأنعام، الآية: 99.
(6) في (ب) و(ز): ((يجنيها)).
(7) في (ز): ((يهذب)) بالذال المعجمة.
(8) في "النهاية" (5/118): كل شملة مخططة من مآزر الأعراب، فهي نمرة، وجمعها: نِمَار، كأنها أخذت من لون النمر.
(9) في (ح): ((قد)). بلا واو.
(10) في (ح): ((الما)) وضرب عليها.
(11) في (ز) و(س): ((كانت)).
(12) في (ح) يشبه أن تكون: ((وقيل)).
(13) بداية سقط طويل من نسخة (ح).
(14) في (ب): ((تلزمه)).(2/598)
21- وَعَنْ عَائِشَةَ (1) قَالَتْ:كُفِّنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ، أَمَّا الْحُلَّةُ فَإِنَّمَا شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ فِيهَا، أَنَّهَا اشْتُرِيَتْ لَهُ لِيُكَفَّنَ فِيهَا، فَتُرِكَتِ الْحُلَّةُ، وَكُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، فَأَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: لأحْبِسَنَّهَا حَتَّى أُكَفِّنَ فِيهَا نَفْسِي، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رَضِيَهَا اللهُ لِنَبِيِّهِ لَكَفَّنَهُ فِيهَا، فَبَاعَهَا وَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها: ((كُفِّنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ))؛ يدلّ على استحباب البياض في الكفن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) : ((إن من خير (3) ثيابكم البياض، فكفنوا فيها موتاكم)) (4) .
والكفن في غيره (5) جائز، ومن أطلق عليه أنه مكروة فمعناه: أن البياض أولى. واختلف قول مالك في الْمُعَصْفَر فمرَّةً كرهه ؛ لأنه مصبوغ يُتَجمَّل به، وليس بموضع تجمُّل، وأجازه أخرى ؛ لأنه من الطيب، ولكثرة لباس العرب له.
و((سَحُولِيَّةٍ)) (6) : روايتنا فيه بفتح السين، وهي (7) منسوبة إلى ((سَحول)) قرية باليمن. وفي الصحاح: السَّحل: الثوب الأبيض من الكرسف من ثياب اليمن، ويُجمع: سُحُول وسُحُل، قال: ويقال: سَحول موضع باليمن، والسحولية منسوبة إليه.
وقد كره مالك وعامة العلماء التكفين في ثياب الحرير للرجال والنساء، وأجازه ابن حبيب للنساء خاصة.
وقولها: ((لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ)): حمله الشافعيّ على أن ذلك ليس بموجود (8) في الكفن، فلا يُقَمَّص. وحمله مالك على أنه ليس بمعدود فيه، وأن العمامة والقميص زائدان على الثلاثة الأثواب.
ويحتمل أَنْ كانا (9) موجودين، ولم يعدَّهما الراوي، فيقمّص ويُعمَّم (10) . وهو قول مُتقدِّمِي أصحابه ؛ ابن القاسم وغيره، وهو قول أبي حنيفة. وحكى ابن القصار أن القميص والعمامة غير مستحبين عند مالك، ونحوه عن ابن القاسم، وعلى هذا فيدرج في الثلاثة الأثواب إدراجًا.
وقولها:((أَمَّا الْحُلَّةُ فَإِنَّمَا شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ فِيهَا)). قال الخليل: الحلَّة: =(2/599)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/135 رقم1264) في الجنائز، باب الثياب البيض للكفن، نحوه، إلى قوله: ((ليس فيها تميص رلا عمامة))، وذكر فيها أنها يمانية، و(3/140 رقم1271) في الجنائز، باب الكفن بغير قميص، ورقم (1272) بنحوه مختصرًا، إلى قوله: ((ولا عمامة))، وليس فيهما ذكر البياض، وليس في الثانية أنها سحولية، و( 3/140 رقم 1273)، باب الكفن بلا عمامة، بنحوه مختصرًا كالرواية الأولى، و(3/252 رقم 1387)، باب موت يوم الاتنين، بنحوه مختصرًا في أثناء حديث طويل، وفيه إلى قرله: ((ولا عمامة))، ومسلم (2/649 رقم 941/45)، الباب السابق، باب في كفن الميت، و(2/650 رقم 941/46) نحوه مختصرًا، و(941/47) من وجه آخر، وفيه أن عائشة سئلت: في كم كفن رسول ا لله صلى الله عليه وسلم، فقالت: في ثلاثة أثواب سحولية.
(2) في (ب) و(ز) و(س): ((قال صلى الله عليه وسلم)).
(3) في (ب): ((خباب)).
(4) هذا الحديث رواه عدد من الصحابة رضي الله عنهم ؛ منهم: ابن عباس، وسمرة بن جندب، وأنس بن مالك، وابن عمر رضي الله عنهم.
فأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فأخرجه أبو داود (4/209 رقم 3878) كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل، بلفظ: ((البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم))، ثم ذكر الكحل. الحديث، و (4/332 رقم 4061) كتاب اللباس، باب في البياض، بلفظه السابق، والترمذي (3/319 رقم 994) كتاب الجنائز، باب ما يستحب من الأكفان، وقال: ((حديث حسن صحيح، وهو الذي يستحبه أهل العلم)).
- وفي كتاب "الشمائل" (ص78 رقم 65) باب ما جاء في لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه (1/473 رقم 1472) كتاب الجنائز، باب ما جاء فيما يستحب من الكفن، و(2/1181 رقم3566) كتاب اللباس، باب البياض من الثياب، وأحمد فى "المسند" (1/247 و328 و355 و363)، وغيرهم.
وإسناده حسن، فيه عبدالله بن عثمان بن خثيم المكي صدوق، كما قال الحافظ في "التقريب" (3466).
وقال الحافظ في "الفتح"(3/135): ((وكان المصنف - يعني البخاري - لم يثبت على شرطه الحديث، وله شاهد من حديث سمرة بن جندب، وإسناده صحيح أيضًا)).اهـ.
وقال في "التلخيص" (2/139): ((صححه ابن القطان)).اهـ.
وصححه الشيخ الألباني كما في "صحيح الجامع" رقم (3300).
(5) قوله: ((في غيره)) غير واضح في (ز).
(6) في (س): ((وسخولة)).
(7) لم تتضح في (س).
(8) في (ب): ((كان)).
(9) في (ب): ((كان)).
(10) قوله: ((ويعمم) يشبه أن يكون في (ز): ((ويقمّ)).(2/599)
ضرب من برود اليمن. وقال أبو عبيد (1) : هي برود اليمن. والحلة: إزار ورداء، لا يسمَّى حُلَّةً حتى يكونا ثوبين.
22- وَعَنْهَا (2) قَالَتْ: سُجِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ مَاتَ بِثَوْبِ حِبَرَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها: ((سُجِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِثَوْبِ حِبَرَةٍ))، سُجِّي: أي غظّي، والتسجية مما مضى بها العمل، وهي سترة وجه (3) الْميَّت، لما أصابه من التغيير (4) .
و((الحِبَرَة)) من برود اليمن.
وقولها في "الأم": ((أدرج في حلَّة يمنية، ثم نزعت عنه)) (5) ؛ يعني (6) : وبعد ذلك كُفن في الثلاثة الأثواب.
اختلفت (7) الرواة (8) في هذا اللفظ: فعند العذري: يمنيَّة، وعند الصدفي: يمانيَة، وكلاهما منسوب إلى اليمن. وعند الفارسي: حلَّةٌ يَمْنَةُ، بتنوين ((حلّة)) ورفع ((يَمْنَة))،وإسكان الميم،وفتح النون.ويقال:بحذف التنوين من =(2/600)=@
__________
(1) في (أ): ((عبيدة)). كذا في (ب) وفي الأصل (ح): ((عبيدة)).
(2) أخرجه البخاري (10/276 رقم 5814) كتاب اللباس، باب البرود والحبر والشملة، بلفظ مقارب، و(3/113 رقم 1241-1242) كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه، بنحوه، في أئناء حديث، و(8/145 رقم (4452)، و(4453) كناب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، بمعناه في أئناء حديث، ومسلم (2/651 رقم 942) كتاب الجنائز، باب تسجية الميت.
(3) قوله: ((وجه)) سقط من (ب).
(4) في (ب): ((التغير)).
(5) عند مسلم (2/650 رقم(941/64) كتاب الجنائز، باب في كفن الميت، بلفظ: عن عائشة رضي الله عنها قالت: أدرج رسول اله صلى الله عليه وسلم في حُلَّة يمنية كانت لعبدالله بن أُبي، ثم نزعت عنه... الحديث.
(6) في (ب): ((تعني)).
(7) في (ب): ((واختلف))، وفي (أ) و(ز) و(س): ((اختلفت)) بلا واو.
(8) في (ز): ((الرواية)).(2/600)
((حلّة)) وإضافتها (1) .
واختلف في القميص الذي غُسِّل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الذي نُهوا عن نزعه. فقال بعض العلماء (2) : أنه نُزع عنه حين كُفِّن وسُتِر بالأكفان ؛ لأنه كان مبلولاً، ولا يتفق تكفينه فيه (3) كذلك.
وقد ذكر أبو داود (4) عن ابن عباس رضي الله عنهما: كُفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب نجرانية. الحلَّة ثوبان وقميصه الذي مات فيه (5) . وهذا مخالف لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم. وقد نصَّت على أنه لم يكفن في الحلَّة. وقولها:((ليس فيها قميص ولا عمامة ))؛ محتمل لما ذكرناه، والله أعلم.
23- وَعَنْ جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللهِ (6) ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ، فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ وَقُبِرَ لَيْلاً، فَزَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ، إِلا أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:((فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ))؛ أي: لا خطر له ولا قيمة، أو لا ستْرَ فيه ولا كفاية، أو لا نظافة له ولا نقاوة.
وقوله:((زَجَرَ (7) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ)): أخذ به الحسن (8) ، فكره أن يقبر (9) الرجل بالليل إلا لضرورة.
وذهب الجمهور (10) إلى جواز ذلك، وكأنهم رأوا أن ذلك النهي خاصٌّ بذلك الرجل لئلا تفوته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: يمكن أن يقصدوا (11) بدفنه بالليل ستر (12) إساءة ذلك الكفن الغير الطائل (13) .
قال الشيخ رحمه الله: وهذه التأويلات فيها بُعد، ولا تصلح (14) لدفع ذلك الظاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صدر عنه النهي المطلق بعد دفن الرجل بالليل، فقد تناول النهي غيره قطعًا، فتأمّله.
ويمكن أن يعضد مذهب الحسن بأنه إن دُفن (15) ليلاً قلّ المصلُّون عليه ؛ لأن عادة =(2/601)=@
__________
(1) الْيُمْنَة - بضم ا الياء وفتحها -: ضرب من برود اليمن. وفي "النهاية" و"تاج العروس" جزم بأنها في الحديث: ((يُمْنَة)). انظر "النهاية" (5/302)، و"غريب الخطابي" (2/292)، و"تاج العروس" (9/371 -372 ).
ويَمْنَة: من اليَمَن المكان، ومن الْيُمْن بمعنى البركة والفأل الحسن.
(2) كأنه يشير بذلك إلى أبي عبدالله بن أبى صفرة، كما نقل عنه المنذري في "مختصر السنن" (4/302)، وكذا جزم به ابن العربي في عارضة الأحوذي (4/216)، والقاضي فى "الإكمال" (3/396). قال ابن أبي صفرة: ((لو لم ينزع القميص - حين كفن -؛ لخرج عن حد الوتر الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، واستحسنه في غير ما شىء ؛ إشعارًا للتوحيد، وكانت تكون أربعة بالثوب المبلول، ويستبشع أن يكفن على قميص مبلول)).اهـ.
وقد ضعف حديث ابن عباس كما سيأتي. قال الامام النووي في "المنهاج"(7/8): ((وهذا هو الصواب الذي لا يتجه غيره ؛ لأنه لو بقي مع رطوبته لأفسد الأكفان. وأما الحديث الذي فى سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما، فحديث ضيف، لا يصح الاحتجاج به ؛ لأن يزيد بن أبي زياد أحد رواته مُجمَعٌ على ضعفه، سيما وقد خالف بروايته الثقات)).اهـ.
وقد ترجم ابن حبان - كما في الإحسان - (14/594) بقوله: ((ذكر البيان بأن الثوب الذي سجى به صلى الله عليه وسلم لم يكفن فيه)).
(3) قوله: ((فيه)) ليس في (ب) و(ز) وفوقها بياض في (س).
(4) في "سننه" (3/507 رقم 3153) كتاب الجنائز، باب في الكفن وأخرجه ابن ماجه (1/472 رقم 1471) كتاب الجنائز، باب فى كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأحمد في "المسند" (1/ 222)، وابن أبي شيبة (3/258) كتاب الجنائز، باب ما قالوا في كم يكفن الميت، بمعناه، والطبراني في "الكبير" (11/404 رقم 12146) بنحوه، ورقم (12145) بمعناه، و(11/405 رقم 12147) بمعناه أيضًا، والبيهقي في "الكبرى" (3/ 400) كتاب الجنائز، باب ذكر الخبر الذي يخالف ما روينا في كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.
قال أبو عبدالله بن أبى صفرة كما ذكر ذلك عنه المنذري في"مختصر السنن" (4/302): ((هذا حديث تفرد به يزيد بن أبي زياد، ولا يحتج به لضعفه. وحديث عائشة أصّح)).اهـ.
وتقدم نقل كلام النووي فى تضعيف الحديث.
(5) جاء عنها كما عند الترمذي في "الجامع" (3/311)، حين ذكروا لها قولهم ((في ثوبين وبرد حبرة))، قالت: قد أتى بالبرد، ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه.
وقد قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال: رُوِي في كفن النبي صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة أصح الأحاديث التي رويت في كفن النبي صلى الله عليه وسلم. والعمل على حديث عائشة عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
ويقول الإمام الخطابي في"غريب الحديث"(1/158) عن خبر عائشة: ((وهذا أصحّ الأخبار؛ لأنها أعلم بباطن أمره ؛ إذ كان قد حُجِب عنه الناس، ووليه نساؤه وأهل بيته، وقد مات صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة وفي حجرها، ودفن في حجرتها؛ لم يخف عليها شيء من أمره. ويشبه أن يكون -والله أعلم- لما مات سجي ببرد، فمن رأه مسجَّى به ظنّ أنه قد كفن فيه)).اهـ.
(6) أخرجه مسلم (2/651 رقم943) في الجنائز، باب تحسين كفن الميت.
(7) في (ز): ((وجر)).
(8) أخرج ذلك عنه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/34) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الدفن بالليل، وعبد الرزاق في "المصنف (3/520).
(9) في (ز): رسمت هكذا ((يقر)).
(10) فممن دفن بالليل أبو بكر وفاطمة وعائشة، وممن قال بهذا: عقبة بن عامر وابن المسيب وشريح وعطاء بن أبي رباح، والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق والطحاوي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم.
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (8/290): وعلى إحازة الدفن بالليل أكثر العلماء وجماعة الفقهاء ؛ لأن الليل ليس فيه وقت تكره فيه الصلاة)). اهـ. وانظر "تهذيب السنن" (4/308).
(11) في (ب): ((يقصدو)) بدون ألف.
(12) في (أ) و(ز): ((ليستر)).
(13) في (ب): ((طائل)).
(14) في (ب): ((يصلح)).
(15) في (ب) (أ) و(ز) و(س): ((قبر)).(2/601)
الناس في الليل ملازمة بيوتهم، ولا يتصرَّفون فيه، ولأنه إذا دُفن في الليل سومح (1) في الكفن ؛ لأن الليل يستره.
ودلّ على صحَّته قوله صلى الله عليه وسلم في آخره: ((إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه))، ضبطه أبو بحر:((كفْنه))- بسكون الفاء - يعني التكفن (2) ، وغيره بفتحها، يعني (3) : الكفن نفسه (4) ، وهو الأولى (5) ، والله أعلم.
************
( 9 ) باب الإسراع بالجنازة وفضل الصلاة عليها واتباعها
24- عَنْ أَبِي هُرَيْرَة (6) َ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ وَإِنْ تَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ)).
25- وَعَنْهُ (7) ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ وَلَمْ يَتْبَعْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ تَبِعَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ)) قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ:((أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ)).
26- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (8) أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ:أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ))، فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ خَبَّابًا إِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ مَا قَالَتْ، وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءِ الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصْبَاءِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الإسراع بالجنازة
قوله صلى الله عليه وسلم:((أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ))؛ أي: أسرِعوا بحملها إلى قبرها في مشْيِكم، يدلّ عليه قوله في آخره: ((فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ وَإِنْ تَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ))؛ وقيل: يعني به: الإسراع بتجهيزها بعد موتها لئلا تتغير (9) (10) .
قال الشيخ رحمه الله: =(2/602)=@
__________
(1) في (ب) (ز) و(س): ((ولأنه إذا قبر ليلاً تُسومِح)).
(2) في (أ) و(ب): ((التكفين))، وقوله: ((يعني التكفن)) سقط من (ز) و(س).
(3) في (ب): ((وهو)).
(4) قوله: ((نفسه)) ليس في (ب).
(5) في (ز) و(س): ((الأول)).
(6) أخرجه البخاري (3/182 رقم1315) في الجنائز، باب السرعة بالجنازة، بلفظ مقارب، ومسلم (2/651 رقم944/50) في الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، و(2/652 رقم944/51) بلفظ: ((أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير، وإن كانت غير ذلك كان شرًّا تضعونه عن رقابكم)).
(7) أخرجه البخاري (1/108 رقم47) في الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان، بنحوه، و(3/192و196 رقم1323و1325) في الجنائز، باب فضل اتباع الجنائز، وباب من انتظر حتى تدفن، ومسلم (2/653 رقم945/53) في الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، بلفظه، وفيه: ((وما القيراطان)).
(8) مسلم (2/653 رقم945/56) في الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها.
(9) خطأ النووي هذا القول، وقال: ((نقل القاضي عن بعضهم أن المراد الإسراع بتجهيزها إذا استحق موتها، وهذا قول باطل مردود بقوله صلى الله عليه وسلم: ((فشرٌّ تضعونه عن رقابكم)).
(10) في (ز): ((يتغير)). وكررا لهامش مرة أخرى وكتب فيه: في (ز): ((بتغير)).(2/602)
والأول أظهر، ثم لا يبعد أن يكون كل واحد منهما مطلوبًا؛ إذ مقتضاه مُطلقُ (1) الإسراع، فإنه لم يُقيِّده بقيد (2) ، والله أعلم.
ثم على الأول، فذلك الإسراع يكون في رفق ولطف (3) فإنه إن لم يكن كذلك تعب المتبع، ولعلّه يضعف (4) عن كمال الاتباع، وانخرقت حرمة الميت ؛ لكثرة تحريكه، وربما يكون ذلك سبب خروج شيء منه، فيتلطَّخ (5) به، فيكون ذلك نقيض المقصود الذى هو النظافة.
ومقصود الحديث ألا يتباطأَ في حمله بالمشي، فيُؤَخر عن خير مقدم (6) به عليه، أو يستكثر من حمل الشرّ إن كان من أهله، ولأن المتبطِّئ (7) في مشيه يخاف عليه الزهو والتكبر، وهذا (8) قول الجمهور.
وقد تضمن هذا الحديث الأمر بحمل الميت إلى قبره، وهو واجب على الكفاية إن لم يكن له مال يحمل منه (9) .
و((الْجَنَازَةِ))- بفتح الجيم وكسرها - لغتان للميت، والكسر أفصح، قاله القتبي (10) . وقال أبو علي - بالكسر -: السرير الذي يحمل عليه الميت، ولا يقال للميت جِنازة، وقال صاحب "العين" الجنازة – بفتح الجيم - الميت (11) . قال ابن دريد: جَنَزْتُ الشيء: سترته، ومنه سمى الميت جنازة ؛ لأنه يُستر. وعن ابن (12) الأعرابي: الفتح: للميت، والكسر للنعش.
و((القيراط)): اسم لمقدار معلوم في العرف، وهو جزء من (13) أربعة وعشرين =(2/603)=@
__________
(1) قوله: ((مطلق)) فوقها ؟؟؟ في (ز).
(2) في (ز) يشبه أن تكون ((يقيد)).
(3) في (ب): ((في لطف ورفق)).
(4) في (ب): ((يضعفبه)).
(5) في (أ): ((فينطلخ)).
(6) في (ب) و(س): ((يُقْدَم))، وفي (ز): ((تقدم)).
(7) في (ب) و(ز) و(س): ((المبطئ)).
(8) في (ب): ((وهو)).
(9) في (ز) و(س): ((عنه)) بدل ((منه)).
(10) في (ز) و(س): ((القتيبي)).
(11) من قوله: ((ولا يقال للميت جنازة...)) إلى هنا ليس في (ز) و(س).
(12) قوله: ((ابن)) فوقها سواد في (ز).
(13) في (ز): ((ومن)).(2/603)
جزءًا.
وقد يراد به الجزء مطلقًا، ويكون عبارة عن الحظ والنصيب؛ ألا ترى أنه قال:((كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ))؟
ومقصود هذا الحديث: أن من صلّى على جنازة كان له حظ عظيم من الثواب والأجر، فإن صلّى عليها واتَّبعها كان له حظَّان عظيمان من ذلك ؛ إذ قد عمل عملين، أحدهما: صلاته، والثاني: كونه معه إلى أن يدفن (1) . =(2/604)=@
__________
(1) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).(2/604)
**********
( 10 ) باب الاستشفاع للميت، وأن الثناء عليه شهادة له وأنه مستريح أو مستراح منه
27- عَنْ عَائِشَةَ (1) ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً، كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلا شُفِّعُوا فِيهِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الاستشفاع للميت
قوله صلى الله عليه وسلم:((من صلّى عليه مائةٌ من المسلمين، شُفِّعوا فيه))، وفي الحديث الآخر (2) : ((أربعون))، قيل: سبب هذا الاختلاف (3) : اختلاف السؤال، وذلك أنه سئل مرَّة أخرى عمَّن صلّى عليه مائةٌ واستشفعوا له، فقال:((شفعوا)). وسئل مرَّة عمَّن صلّى عليه أربعون، فأجاب بذلك. ولو سئل عن أقلَّ من ذلك، لقال ذلك، والله أعلم ؛ إذ (4) قد يستجاب دعاء الواحد، ويقبل استشفاعه. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (5) : =(2/605)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/654 رقم947) في الجنائز، باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه.
(2) في (ز): ((للآخر)).
(3) في (ب): ((الخلاف)).
(4) قوله: ((إذا)) فوقها سواد في (ز).
(5) جاء ذلك في حديث مالك بن هبيرة رضي الله عنه:
أخرجه أبو داود (3/514 رقم 3166) كتاب الجنائز، باب في الصفوف على الجنازة، ولفظه: ((ما من مسلم يموت فيصلى عليه ثلاثة صفوف من المسلمين، إلا أوجب))، والترمذي (3/347 رقم1028) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت، بلفظ: ((من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب))، وقال: ((حديث حسن))، وابن ماجه (1/ 478 رقم1490) كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن صلى عليه جماعة من المسلمين، بلفظ: ((ما صف صفوف ثلاتة من المسلمين على ميت إلا أوجب))، وأحمد (4/79) بنحو لفظ أبي داود، وابن أبي شيبة (3/13-14 رقم 11624) كتاب الجنائز، باب في الميت ما يتبعه من صلاة الناس عليه، بلفظ ابن ماجه، وأبو يعلى في "المسند" (12/215 رقم6831) بنحو لفظ الترمذي، والحاكم في "المستدرك" (1/362) كتاب الجنائز، بلفظ مقارب لابن ماجه، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط مسلم، و لم يخرجاه، وأقره الذهبي))، والبيهقي (4/ 30 )، كتاب الجنائز، باب صلاة الجنازة بإمام، وما يرجى للميت في كثرة من يصلي عليه، بمعناه.
وإسناده ضعيف، فيه محمد ابن إسحاق، وقد عنعن في روايته عندهم جميعًا.
ولكن كما سبق، فقد صححه الحاكم، وأقره الذهي. وقال الترمذي في جامعه: ((حديث مالك بن هبيرة حديث حسن، هكذا رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق، وروى إبراهيم ابن سعد عن محمد بن إسحاق هذا الحديث، وأدخل بين مرثد ومالك بن هبيرة رجلاً، ورواية هؤلاء أصح عندنا)).اهـ.
كما حسنه النووى في "المجموع" (2/212). وأقر الحافظ في "الفتح" (3/186) الترمذي في تحسينه للحديث.
وللحديث شاهد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال:صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة ومعه سبعة نفر، فجعل ثلاثة صفًا، واثنين صفًا، واثنين صفًا. أخرجه الطبراني في"الكبير" (8/224رقم 7785).
وبالنظر في إسناده، نجده جاء من طريق ابن لهيعة عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، عن القاسم عن أبي أمامة به. فهذا حديث ضعيف الإسناد ؛ لحال ابن لهيعة والقاسم بن عبدالرحمن، ولكن يرتقي به الحديث إلى درجة الحسن لغيره.(2/605)
((مَن صلّى عليه ثلاثة (1) صفوف شُفِّعوا فيه (2) ))، ولعلهم يكونون أقلَّ من أربعين.
28- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ (3) أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ أَوْ بِعُسْفَانَ فَقَالَ:((يَا كُرَيْبُ انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: تَقُولُ: هُمْ أَرْبَعُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَخْرِجُوهُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:((مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً، لا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إِلا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ)).
29- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (4) قَالَ:((مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ))، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ))، قَالَ عُمَرُ: فِدًاكَ أَبِي وَأُمِّي مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ)).
30- وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ (5) ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَهُ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: ((مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ)) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: ((الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ المُسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((يَسْتَرِيحُ مِنْ أَذَى الدُّنْيَا وَنَصَبِهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:((أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ))، قال الداودي: يعنى (6) هذا عند الفقهاء: إذا أثنى عليه أهل الفضل والصدق ؛ لأن الفَسَقَة قد يُثنون على الفاسق، فلا يدخل في الحديث. وكذلك (7) لو كان القائل فيه عدوًّا له وإن كان فاضلاً ؛ لأن شهادته له كانت في حياته (8) غير مقبولة له وعليه وإن كان عدلاً.
وقيل: ذلك فيمن علم الله أنه لا يحمله الحسد والعداوة، أو كثرة المحبة وفرط الإطراء (9) والغلو المذموم، فيقول ما ليس فيه من خير أو شر، ولكن إنما ذلك لمن وفّق الله له من يقول قولاً عدلاً بما علمه ممن يريد به الله، فيوجب الله له ما قالاه، وهو الذي وفقهما الله له (10) ، وسبق له في علمه تعالى. وربما قَبِل (11) علمهما، وترك ما (12) علمه من سريرته، لم يؤاخذه به؛ إذا (13) كان مسلمًا، تفضُّلاً منه تعالى، وسترًا عليه، وتحقيقًا لظنِّهم.
وقال بعضهم: في تكرار: ((أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ))- ثلاثًا - إشارة إلى أن (14) القرون الثلاثة الذين قال صلى الله عليه وسلم فيهم (15) : ((خير أمَّتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين =(2/606)=@
__________
(1) في (أ): ((ثلاث)).
(2) في (ز) و(س): ((شفعوا له)).
(3) أخرجه مسلم (2/655 رقم948) في الجنائز، باب من صلى عليه أربعون شفعوا فيه.
(4) أخرجه البخاري (3/228 رقم1367) في الجنائز، باب ثناء الناس إلى الميت، بنحوه، بدون تكرار، و(5/252 رقم2642) في الشهادات، باب تعديل كم يجوز؟ بمعناه بدون تكرار، ومسلم (2/655 رقم949) في الجنائز، باب فيمن يثني عليه خير أو شر من الموتى.
(5) أخرجه مسلم (2/657 رقم953) في الجنائز، باب في التكبير على الجنازة.
(6) في (ز) و(س): ((معنى)).
(7) في (ب): ((وكذا)).
(8) في (ب): ((لأن شهادته عليه في حياته كانت))، وفي (ز) و(س): ((له في حياته كانت)).
(9) في (ب) و(ز) و(س): ((فرط المحبة وكثرة الإطراء)).
(10) قوله: ((له)) سقطت في (ز).
(11) في (س): ((قيل)).
(12) قوله: ((ما)) ليس في (ب) و(ز) و(س) و(أ) وتراجع في (ح).
(13) في (ز) و(س): ((إذ)) بدل ((إذا)).
(14) كذا في النسخ، وصواب العبارة بحذفها بحيث تكون: إشارة إلى القرون الثلاثة... كما في "إكمال المعلم" (ل155/ب).
(15) في (ب): ((قال فيهم - صلى الله عليه وسلم - )).(2/606)
يلونهم)) (1) .
والأظهر فيه: التأكيد على ما تقرَّر من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا (2) حتى يُفهم (3) عنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ (4) النَّارُ)): يشكل بالنهي (5) عن سبِّ الموتى، وبقوله (6) (7) : ((اذكروا محاسنَ موتاكم، وكفّوا عن مساوئهم)).
وقد انفصل عنه من أوجه:
أحدها: أن هذا الذي تُحدِثَ عنه بالشرِّ كان مستظهرًا به ومشهورًا به (8) ، فيكون ذلك من باب ((لا غيبة في فاسق (9) )) (10) . =(2/607)=@
__________
(1) هذا الحديث جاء عن عددٍ من الصحابة، منهم: ابن مسعود، وعمران بن حصين، وعائشة، وأبى هريرة، والنعمان بن بشير، وغيرهم. وقد قال أبو نعيم في "الحلية" (2/79) بعد ما أخرجه عن ابن مسعود وعمران والنعمان وبريدة وأبى هريرة وعائشة: ((رواه أبو سعيد الخدري، وأبو برزة الأسلمي، وسمرة بن جندب، وسعد أبو بلال بن سعد في آخرين عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه)).اهـ.
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه البخاري (5/259 رقم 2652) كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة. جور إذا أُشْهد، بلفظ: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم...)) الحديث، و (7/3 رقم 3651) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بلفظه، و (11/244 رقم 6429) كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا، بلفظه. و(11/543 رقم6658) كتاب الأيمان والنذور، باب إذا قال: أشهد بالله، أو شهدت بالله، بلفظ: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير ؟ قال: ((قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم...)) الحديث، ومسلم (4/1962-1963 الأرقام 210، 211، 212، 2533) كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، بألفاظ متقاربة.
(2) يشير بذلك إلى ما كان من سنته صلى الله عليه وسلم من تكرار الكلمة أو الجملة لأهميتها، وليحفظ عنه، وللتأكيد على ما يقوله عليه الصلاة والسلام. وقد ورد ذلك في أحاديث ؛ منها: حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري (1/188 رقم 94 [كتب في الهامش مشير إليه (رقم كتاب العلم يعني بدون ذكر رقم)]) كتاب العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه، بلفظ: ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سلم، سلم ثلاثًا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا))، ورقم (95) بلفظ: ((أنه كان إذا تكلم بكلمة، أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه...)) الحديث، و(11/26 رقم 6244) كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثًا، باللفظ الأول.
(3) في (ب) و(س): ((تفهم)).
(4) نهاية السقط من (ح).
(5) يشير بذلك إلى ما جاء في حديث عائشة عند البخاري (3/258 رقم 1393) كتاب الجنائز، باب ما ينهى من سبِّ الأموات، بلفظ: ((لا تسبُّوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا))، و (11/362 رقم 6516) كتاب الرقاق، باب سكرات الموت، بلفظه.
(6) أخرجه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أبو داود في "سننه" (5/206 رقم4900) كتاب الأدب، باب النهى عن سب الموتى، بلفظه، والترمذي (3/339 رقم1019) كتاب الجنائز، باب آخر، بلفظه، وقال: ((هذا حديث غريب، سمعت محمدًا يقول: عمران بن أنس المكي منكر الحديث)).اهـ، والحاكم في "المستدرك" (1/385) كتاب الجنائز، بلفظه، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرحاه)). وأقره الذهبي، وابن حبان - كما فى الإحسان -(7/290 رقم 3020) كتاب الجنائز، فصل في الموت وما يتعلق به، بلفظه، والطبرانى في "الكبير"(12/438 رقم13599) بلفظه، وفي "المعجم الصغير"(1/280 رقم461) بلفظه، والبيهقي في "الكبرى" (4/75) كتاب الجنائز، باب النهي عن سب الأموات، بلفظه.
وإسناده ضعيف ؛ فيه عمران بن أنس، قال فيه البخاري: منكر الحديث. ...
وقد قال الطبراني في "المعجم الصغير": ((لم يروه عن عطاء إلا عمران، ولا عن عمران إلا معاوية بن هشام، تفرد به أبو كريب)). وقال الترمذي: ((حديث غريب)).
ولم أقف للحديث على متابع، وقد صححه الحاكم وأقره الذهبي، وذكره ابن حبان في "صحيحه". وضعفه الألباني، كما في "ضعيف الجامع الصغير"(1/246 رقم839).
وقد جاء الأمر بالكف عن ذكر المساوئ في حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري (3/258 رقم 1393) كتاب الجنائز، باب ما يُنهى من سًبّ الأموات، ولفظه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا))، وأيضًا في (11/362 رقم 6516) كتاب الرقاق، باب سكرات الموت، بلفظه.
(7) في (ح) و(ز) و(س): ((ولقوله)).
(8) قوله: ((به)) سقط من (ب).
(9) في (ح): ((لفاسق)).
(10) هذه العبارة مما اشتهر على الألسنة، ولكنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرحها بعض أهل الحديث بهذا اللفظ أو نحوه، عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه، أخرجه الطبراني في "الكبير" (19/418 رقم 1011) مرفوعًا بلفظ: ((ليس للفاسق غيبة))، وابن عدي في "الكامل"
(2/596)، و(5/1863)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (2/202-203 رقم 1185 و1186)، والخطيب في "الكفاية"(ص42)، وفيه العلاء بن بشر العبشمي ؛ ساق الذهبي له في "الميزان" هذا الخبر، وقال: ((ضعفه أبو الفتح الأزدي)).اهـ. وزاد الحافظ في اللسان: ((وذكره الحاكم، فقال: هذا الحديث غير صحيح)). وذكره ابن حبان في "الثقات" فقال: ((روى عنه جعدبة بن يحى المناكير)). وقال ابن عدي في "الكامل"- وساق روايته لهذا الخبر-: ((هذا معروف بالعلاء هذا، ومنهم من قال: عن العلاء عن سفيان الثوري، وهو خطأ، وإنما هو ابن عيينة، وهذا اللفظ غير معروف...)) إلى أن قال الحافظ: ((والعلاء بن بشر هذا لا يعرف، وله تمام خمسة أحاديث لا يتابع عليها)). وفي "الكامل" قال ابن عدي: ((ومقدار ما يرويه لا يتابع عليه)). وفي "مجمع الزوائد" قال الهيثمي: ((وفيه العلاء بن بشر، ضعفه الأزدي)).اهـ. انظر "الثقات" (8/504)، و"الكامل" (5/221)، و"الميزان" (3/97)، و"اللسان"(4/695- 696)، و"مجمع الزوائد" (1/149).
وذكر المناوي في "فيض القدير" (5/377) عن ابن عدي عن أحمد بن حنبل قوله: حديث منكر. ورمز السيوطي له بالضعف في "الجامع الصغير" كما في "الفيض".
وذكره ابن القيم في "المنار المنيف" (ص61)، وقال: «قال الدارقطني والخطيب: قد روي من طرق، وهو باطل)).اهـ.(2/607)
وثانيها: أن محملّ (1) النهي إنما هو فيما بعد الدّفن، وأما قبله فمسوغ؛ ليتَّعظ به الفسّاق، وهذا كما يكره لأهل الفضل الصلاة على المعلن (2) بالبدع والكبائر.
وثالثها (3) : أن الذي أثنى عليه الصحابة بالشرِّ يحتمل أن يكون من المنافقين، ظهرت عليه دلائل النفاق، فشهدت الصحابة بما ظهر لهم (4) ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:((وجبت له النار))، والمسلم لا تجب له النار، وهذا هو مختار عياض.
ورابعها: أن يكون النهي عن سبّ الأموات (5) متأخرًا عن هذا الحديث، فيكون (6) ناسخًا.
و ((الثناء)) ممدود، مقدَّم الثاء المثلثة على النون، إنما يقال في الخير غالبًا، والذي يقال في الشر هو النثا، بتقديم النون وتأخير الثاء، والقصر؛ إلا أن هذا الحديث جاء فيه (7) الثناء في الشرِّ؛ لمطابقته للفظ (8) الثناء في الخير (9) . =(2/608)=@
__________
(1) في (أ): ((محل)).
(2) في (ب) و(ح): ((المعلنين)).
(3) قال النووي (7/20): ((واختلف العلماء في الجمع بين هذه النصوص على أقوال، أصحها وأظهرها أن أموات الكفار يجوز ذكر مساويهم، وأما أموات المسلمين المعلنين بفسق أو بدعة أو نحوهما، فيجوز ذكرهم بذلك إذا كان فيه مصلحة ؛ لحاحة إليه للتحذير من حالهم، والتنفير من قبول ما قالوه، والاقتداء بهم فيما فعلوه، وإن لم تكن حاجة، لم يجز. وعلى هذا التفصيل تنزل هذه النصوص، وقد أجمع العلماء على جرح المجروح من الرواة، والله أعلم)).اهـ.
قال الحافظ عند حديثه عن حديث النهي عن سب الأموات (3/258): ((عمومه مخصوص بحديث أنس عند ثنائهم بالخير والشر)).
وانظرنحو كلام النووي المتقدم عند الحافظ (3/258) منسوبًا لابن رشيد.
(4) قوله: ((لهم)) فوقها سواد في (ز).
(5) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((الموتى)).
(6) في (ب): ((ليكون)). [عن هذا وسقط قوله: ((الحديث))]
(7) في (ح): ((جاء في)).
(8) في (ح): ((لمطابقة اللفظ)).
(9) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).(2/608)
*************
( 11) باب الأمر بالصلاة على الميت وكيفية الصلاة عليه
وكم التكبيرات
31- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ))، فَقُمْنَا فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ، - يَعْنِي النَّجَاشِي -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بالصلاة على الميت
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ)): دليل على وجوب الصلاة على الميت المسلم، وهو المشهور من مذاهب العلماء: أنه واجب على الكفاية، ومن مذهب مالك، وقيل عنه: إنه سنةٌ مؤكَّدة، وقد استدل عليه بقوله تعالى:{وصلّ عليهم} (2) ، وبقوله: {ولا تصلِّ على أحدٍ منهم مات أبدًا} (3) ، وفي تقرير وجه الاحتجاج بهما طول (4) يُعرف في الفقه.
وهذا الميت هو النجاشي رضي الله عنه ملك الحبشة ؛ الذي هاجر إلى أرضه من هاجر من الصحابة رضي الله عنهم، واسمه: أَصْحَمة - بهمزة وصاد مهملة ساكنة بعدها حاء مفتوحة -، كذا (5) ذكره البخاري (6) ، وابن إسحاق (7) . وفي "مسند ابن أبي شيبة" (8) في هذا الحديث تسميته:((صَحْمَة))، على وزن ((رَكْوَة))، بغير همز (9) ، وبفتح الصاد، وسكون الحاء. وقال: هكذا قال لنا يزيد، وإنما هو: صَمْحَة؛ كذا ذكره بتقديم الميم بغير همز.
و ((أصحمة)): عطية، بالعربية.
وقال جماعة من اللغويين: النجاشي: اسم لكلِّ ملك من ملوك الحبشة (10) ، وكسرى (11) : اسم (12) لكل ملك من ملوك (13) الفرس، وهرقل: اسم لكل ملك من ملوك الروم (14) . =(2/609)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/186 رقم1320) كتاب الجنائز، باب الصفوف على الجنازة، بنحوه، و(7/191رقم3877) كتاب مناقب الأنصار، باب موت النجاشي، بنحوه، ومسلم (2/657رقم952/66) في الجنائز، باب التكبير على الجنازة.
وجاء عند مسلم رقم (952/65) بلفظ آخر: ((مات اليوم عبدٌ لله صالح، أصْمْخَةُ))، فقام فأمَّنا وصلّى عليه.
(2) سورة التوبة، الآية: 103.
(3) سورة التوبة، الآية: 84.
(4) يشبه أن تكون في (ز): ((يعرق)).
(5) في (ز) و(س): ((هكذا)).
(6) في "صحيحه" مع الفتح (3/202) كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة أربعًا، و(7/191) كتاب مناقب الأنصار، باب موت النجاشي.
(7) كتاب السير والمغازي (ص201)، وقال المحقق بأنه في الأصل: ((مضخحة))، وفي إحدى النسخ: ((مضحفة))، وذكر بأن ذلك تصحيف، صوابه ما أثبته: ((أصحمة))، وقال: وفقًا لما سيأتي في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه)).اهـ. وفي كتابه صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن إسحاق (ص210)، قال: هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي الأصحم، عظيم الحبشة)).اهـ.
وكذا قال الخطيب في "الأسماء المبهمة" (ص 21 رقم 11).
(8) انظر "المصنف" له (3/363) (2 رقم 11488) و(3/45 رقم 11945)، و(7/278 رقم 36065) رقم، لكن فيه عن شيخه يزيد بن هارون: ((أصحمة النجاشي))، وهذه التسمية ((صحمة)) ذكرها الحافظ في "الإصابة"، وقال في "الفتح" (3/ 203): ((ووقع في مصنف ابن أبي شيبة عن يزيد: صحمة - بفتح الصاد، وسكون الحاء-)).اهـ.
(9) في (ح): ((همزة)).
(10) في (ب): ((لكل من ملك الحبشة)).
(11) قوله: ((وكَسِرى)) ضبطت بالفتح والكسر وكتب عليها ((معًا)) في (س).
(12) قوله: ((اسم)) سقط من (أ) و(ب).
(13) في (ب): ((لكل ملِكٍ ملَكَ)).
(14) في (ب): ((لكل من ملَكَ الروم)).(2/609)
32- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ:((اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:((نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ (2) ))؛ مِن أدلِّ الأدلة على صحَّة نبوَّة (3) نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والنعي: إشاعة الأخبار بموت الميت. قال الهروي: النعْيُ (4) - بسكون العين -: الفعل، والنعِيّ - بكسرها -: الميت (5) ، ويجوز أن يجمع: نعايا، مثل: صفي وصفايا.
وهذا الحديث احتجّ به أئمتنا على جواز الإعلام بموت الميت، ولم يروه من النعي المنهيّ عنه في قوله صلى الله عليه وسلم (6) : ((إياكم والنعي، فإنّ النعيَ من عمل الجاهلية)).
وهذا النعي الذي كان من عمل الجاهلية؛ إنما كان أن الشريف إذا مات فيهم بعثوا الركبان إلى أحياء العرب، فيندبون الميت ويثنون عليه بنياحة وبكاء وصراخ وغير ذلك، وذلك هو الذي نهى عنه.
وقد روي عن حذيفة (7) أنه نهى أن يؤذن بالميت أحد، وقال: إني (8) أخاف أن يكون نعيًا. ونحوه عن ابن المسيب، وقال به بعض سلف (9) الكوفيين من أصحاب ابن مسعود - رضي الله عنه - .
قال الشيخ رحمه الله: وهذا الحديث حجة على من كره الإعلام به، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:((هلاّ آذنتموني به)) (10) ، ونعيه صلى الله عليه وسلم أهل مؤتة (11) .
وقوله: ((فَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى))؛ يستدل به: على أن الجنائز لا يصلّى عليها في المسجد؛ كما قد (12) روي عن مالك، وأبي حنيفة، وجوّزه الشافعي.
وظاهر هذا الحديث جواز الصلاة على الغائب، وهو قول الشافعي، ولم يَرَ ذلك أصحابنا جائزًا ؛ لأنه لو كان ذلك لكان أحقُّ من صُلِّي عليه كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد النائية عن المدينة، ولم يصحَّ أنه فعل ذلك أحدٌ من الصحابة ولا غيرهم، ولو كان =(2/610)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/116 رقم1245) في الجنائز، باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، و(3/186 رقم1318) كتاب الجنائز، باب الصفوف على الجنازة، بنحوه مختصرًا، و(3/199 رقم 1327) باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، و(3/202 رقم1333) باب التكبير على الجنازة أربعًا، بنحوه، و(7/191 رقم3880) كتاب مناقب الأنصار، باب موت النجاشي، ومسلم (2/656 رقم951/62 و63) في الجنائز، باب في التكبير على الجنازة، والرواية الأخرى (1/657 رقم951/63).
(2) قوله: ((فيه)) سقط من (ب).
(3) قوله: ((نبوة)) ليس في (ز).
(4) قوله: ((النعي)) لم تتضح في (ب).
(5) في (ب) و(ح): ((الرجل الميت)).
(6) أخرجه الترمذي (3/312 رقم 984) كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية النعي، بلفظه عن ابن مسعود، ورقم (985) عنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الترمذي عقبه: نحوه، ولم يرفعه. قال الترمذي: ((وهذا - أي الثاني - أصح من حديث عنبسة عن أبي حمزة...)). قال: حديث عبدالله حديث حسن غريب)). وفي "تحفة الأحوذي" (4/60) قال: ((حديث عبدالله حديث غريب ))؛ بدون قوله: ((حسن)).
وكلا إسنادي الحديث عند الترمذي من طريق أبى حمزة به. وإسناده ضعيف لحال أبي حمزة؛ فإنه ضعيف.
ولكن للحديث شاهد في النهي عن النعي، هو حديث حذيفة رضي الله عنه، أخرجه الترمذي (3/313 رقم 986) الباب المتقدم، قال: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا عبدالقدوس بن بكر ابن خُنيس، حدثنا حبيب بن سليم العبسي، عن بلال بن يحيى العبسى، عن حذيفة بن اليمان، قال: إذا مت فلا تؤذنوا بي، إنى أخاف أن يكون نعيًا، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي. وقال: ((هذا حديث حسن صحيح)).اهـ، وابن ماجه (1/474 رقم 1476) كتاب الجنائز، باب ما حاء في النهي عن النعي، من طريق حبيب به، وفيه أن حذيفة كان يقول هذا إذا مات له الميت. وأحمد في "المسند" (5/406) بنحو لفظ ابن ماجه. وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/475 رقم11205) كتاب الجنائز، ما قالوا فى الأذان بالجنازة من كرهه، بدون ذكرالقصة. والبيهقي في "الكبرى" (4/74) كتاب الجنائز، باب من كره النعي والإيذان، والقدر الذي لا يكره منه، بنحو رواية ابن ماجه. كلهم يروونه من طريق حبيب بن سليم به، وحبيب قال فيه الحافظ في "التقريب" (ص1094): ((مقبول)).
فيعتضد به الحديث قبله ويتقوى ليكون حسنًا لغيره، وقد قال الترمذي عن حديث حذيفة: ((هذا حديث حسن صحيح)).
وقال الحافظ في "الفتح" (3/117): ((أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن)).
(7) قوله: ((عن حذيفة)) لم يتضح في (ح).
(8) قوله: ((إني)) ليس في (ب) و(ح) و(ز) وفي (س) كتبها ثم كأنه ضرب عليها.
(9) في (ز) و(ح): ((السلف الكوفيين)).
(10) سيأتي في باب الصلاة على القبر.
(11) أخرج هذا الخبر عن أنس رضي الله عنه البخاري (3/116 رقم1246) كتاب الجنائز، باب الرجل ينعي إلى أهل الميت بنفسه، بلفظ: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبدالله بن رواحة فأصيب - وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان -، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة فَفُتح له))، و (6/16 رقم 2798) كتاب الجهاد، باب تمني الشهادة، و (6/180 رقم 3063) باب من تأمرفي الحرب من غير إمرة إذا خاف العدو، و(6/628 رقم3630) كتاب المناقب، باب علامات النبوة، و(7/100 رقم3757) كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب خالد بن الوليد رضي الله عنه، بنحوه، و (7/512 رقم4262) كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام، بنحوه.
(12) قوله: ((قد)) سقط من (ح).(2/610)
ذلك (1) مشروعًا للزم أن يفعلَ ذلك دائمًا إلى غير غايةٍ ؛ لعدم القاصر له على زمان معين، واعتذروا عن حديث النجاشيِّ بأمور:
أحدها: أن ذلك مخصوصٌ بالنجاشيِّ؛ ليُعْلِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بإسلامه، وليستغفروا له، كما جاء في الحديث.
وثانيها: أنه قد رُفِعَ له وأُحضِرَ له حتى (2) رآه، فصلَّى على حاضرٍ بين يديه، كما رُفِع للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بيتُ المقدس، كما تقدّم في كتاب الإيمان (3) .
وثالثها: أنه كان (4) لم يصلِّ عليه أحدٌ ؛ لأنه مات بين قوم كفّار، وكان يكتم إيمانه؛ منتظرًا للتخلُّصِ (5) منهم، فمات قبل ذلك، ولم يصل عليه أحد، وعلى (6) هذا فيُصلِّى على الغريق، وأكيل السَبُع، وهو قول ابن حبيب من أصحابنا، ولم ير ذلك مالك ولا جماعة من العلماء.
قال الشيخ: وهذا الوجه الثالث أقربها (7) ، وفيما تقدم نظر.
33- عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى (8) قَالَ: كَانَ زَيْدٌ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((كَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ))، وفي حديث زيد بن ثابت (9) : أنه كبّر خمسًا.
وقد اختلف العلماء من السلف في ذلك؛ من ثلاث تكبيرات إلى تسع، فروي عن عليٍّ رضي الله عنه (10) : أنّه كان يكبّر على أهل بدر ستًّا، وعلى سائر الصحابة خمسًا (11) ، وعلى غيرهم أربعًا.
وقد جاء من رواية ابن أبي خيثمة (12) : أنه (13) صلى الله عليه وسلم كان (14) يكبّر أربعًا، =(2/611)=@
__________
(1) قوله: ((ذلك)) ليس في (ح).
(2) في (ب) و(ح): ((أنه كان قد رفع وأحضر له حتى)) وفي (ز) و(س): ((أنه كان قد رفع له واحضر حتى)).
(3) باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء ووصفه لهم....
(4) قوله: ((كان)) سقط من (ح).
(5) في (ح) و(ز) و(س): ((التخلص)).
(6) في (ب): ((فعلى)).
(7) وهذا القول صوّبه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيِّم، وبه قال الخطابي في "أعلام الحديث" (1/668)، وهو رواية عند أحمد.
(8) أخرجه مسلم (2/659رقم957) في الجنائز، باب الصلاة على القبر.
(9) في جميع النسخ: ((زيد بن ثابت))، وهذا وهم، فقد ذكر الحديث في "التلخيص" من رواية عبدالرحمن بن أبي ليلى عن زيد - كما سيأتي تخريجه قريبًا - فظن أن زيدًا هذا هو ابن ثابت، بينما هو ابن الأرقم، وأما ابن ثابت فالرواية عنه عند عبدالرزاق في كتاب الجنائز من "مصنفه" باب التكبير على الجنازة (3/480 رقم6396)، ولكنها بلفظ أربع تكبيرات، ولفظها عن الشعبي قال: ((كبَّر زيد بن ثابت على أمه أربع تكبيرات وما حسها خيرًا. وعند الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/494) من طريق خارجة بن زيد بن ثابت: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى على قبر قلابة فكبَّر أربعًا.
(10) أخرج خبره هذا: ابن أبى شيبة في "المصنف" (2/469 رقم11454) كتاب الجنائز، باب من كان يكبر على الجنازة خمسًا، بلفظ: كان علي يكبر على أهل بدر ستًّا، وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا، وعلى سائر الناس أربعًا، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 497)، بلفظه، والدارقطني (2/73 رقم 7) كتاب الجنائز، باب التسليم في الجنازة واحد، والتكبير أربعًا وخمسًا، والبيهقي (4/37) كتاب الجنائز، باب من ذهب في زيادة التكبير على الأربع.
رووه جميعًا من طريق حفص بن غياث، عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير قال: كان عليٌّ... فذكره.
وإسناده حسن لحال عبدالملك بن سلع، قال الحافظ فيه: صدوق. وقد قال الشيخ الألباني في "أحكام الجنائز"(ص113): ((سنده صحيح ورجاله ثقات كلهم)).اهـ.
ويتقوى أيضًا بما جاء عن علي رضي الله عنه، فقد جاء عنه أنه صلى على أحد البدريين ستًّا، وقال بأنه بدري، أخرج ذلك: عبد الرزاق في "المصنف" (3/480 رقم6399) كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة، في صلاته على سهل بن حنيف، وكان بدريًّا، وقد جاء مختصرًا، و(3/481 رقم 6403)، وفيه: أنه صلى على سهل بن حنيف، فكبرعليه ستًّا، ثم التفت إلينا، فقال: إنه بدري... الخبر، وأبو داود في "مسائل الإمام أحمد" (ص152)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/497)، وفيه روايتان: الأولى: أنه صلى على بدري، والثانية أنه صلى على سهل بن حنيف، والحاكم (3/409) كتاب "معرفة الصحابة"، بلفظ مقارب، إلى قوله: إنه من أهل بدر، وسكتا عنه، وابن حزم في "المحلى" (5/126) بلفظه، وقال: والبيهقي في "الكبرى" (4/36) كتاب الجنائز، باب من ذهب في زيادة التكبير على الأربع إلى تخصيص أهل الفضل بها، بلفظ مقارب كما عند الحاكم، وابن أبى شيبة (2/495 رقم1435)كتاب الجنائز، باب ما قالوا في التكبير على الجنازة، بنحوه.
كلهم من طريق عبدالله بن معقل،عن علي،به.قال ابن حزم: ((هذا إسناد في غاية الصحة)).
(11) في (ح): ((أصحابه)).
(12) كذا جاء في الأصل وسائر النسخ: ابن أبي خيثمة، وكذا في "الاستذكار"، والصواب هو ما جاء في مصادر تخريج الحديث أنه ابن أبي حَثْمَة، وهو: سليمان بن أبى حَثْمَة ابن غانم بن عامر القُرشيّ العدويّ، اختُلف في صحبته، وذكره ابن سعد فيمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه. وقال ابن منده: ((سليمان بن أبى حَثْمَة ذكر في الصحابة، ولا يصح، ثم ساق حديثنا هذا في التكبير على الجنائز)). وقال ابن عبد البر: ((وهو معدود في كبار التابعين)).اهـ.
"الاستيعاب" (2/65)، "الأسد" (2/448)، "الإصابة" (4/315- 316).
(13) أخرجه أبو نعيم في "معرفة الصحابة"(1/ل289/ب)، وابن عبدالبر في "الاستذكار" (8/239 رقم11244)، كلاهما من طريق مروان بن معاوية الفزاري، عن عبدالله بن الحارث، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر...، فذكره، وعزاه ابن الأثير في "أسد الغابة" (2/448)، وابن حجر في "الإصابة"(4/315- 316) لابن منده. وسنده ضعيف لإرساله، فإن سليمان بن أبي حثمة لم تثبت صحبته كما في "الإصابة)). وعبدالله بن الحارث لم أهتد إليه، وأخشى أن يكون مروان بن معاوية دلّسه، فإنه معروف بتدليس أسماء الشيوخ.
(14) في (ز) و(س): ((أنه عليه السلام أنه كان)).(2/611)
وخمسًا، وستًّا، وسبعًا، وثمانيًا، حتى مات النجاشيُّ، فكبّر أربعًا وثبت عليها، حتى تُوفي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمر (1) : وانعقَد (2) الإجماع بعدُ على أربع. وقال (3) عياض: وما سواه شذوذ، ولا (4) يلتفت إليه اليوم، ولا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال بخمس تكبيرات إلا ابن أيي ليلى (5) .
قال الإمام (6) : وهذا المذهب (7) متروكٌ الآن ؛ لأن ذلك صار علمًا على القول بالرفض.
ولم يقع في الصحيح ذكر السلام من صلاة الجنازة على الخصوص (8) ، لكن يستدل عليه بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:((تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم)) (9) ، وهو صحيح.
واختلف في عدده ؛ فالجمهور (10) من السلف وغيرهم على أنه واحدة. وذهب أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه، وجماعة من السلف إلى أنه تسليمتان.
وهل (11) (2) يجهر الإمام بالتسليم أو يُسِرّ؟ قولان عن مالك، والجهر لأبي حنيفة، والإسرار للشافعي.
وهل يردّ المأموم على إمامه [أم لا] (12) ؟ قولان لمالك.
وهل تُرفع الأيدي مع التكبير أم لا؟ اختلف فيه قول مالك على ثلاثة أقوال: الرفع في الأولى فقط، أو في (13) الجميع، أو لا (14) يرفع في شيء منها.
واختلف هل يقرأ في صلاة الجنازة بأمّ القرآن أم لا؟ فذهب مالك في المشهور عنه إلى ترك القراءة، وكذلك أبو حنيفة والثوري، وكأنهم (15) تمسّكوا بظاهر ما خرَّجه أبو داود (16) من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء (17) ))، وبأن مقصودَ هذه الصلاة إنما هو: الدعاء له، =(2/612)=@
__________
(1) انظر "التمهيد" (6/334-336).
(2) في (ح): ((انعقد)).
(3) في (ح) و(ب) و(ز) و(س): ((قال)) بلا واو.
(4) في (ب): ((لا)) بلا واو.
(5) قوله: ((ولا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار سوى ابن أبي ليلى)) مُتعقّب، فهو قول زيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان وعلي، كما قال ابن عبد البر.
وفي "المبسوط" (2/63) قال: ((وهو رواية عن أبي يوسف)). وفي "عمدة القاري" (6/377) ذكره عن ابن أبى ليلى وعيسى مولى حذيفة وأصحاب معاذ بن جبل، قال: وإليه ذهبت الظاهرية والشيعة، وبه قال ابن حزم؛ كما في "المحلى" (5/124).
(6) يعني: المازري في "المعلم" (1/327)، وهذا اصطلاح سار عليه القاضي في "الإكمال"، وتابعه المصنِّف في مواضع.
(7) وكأن الناسخ ضرب على قوله: ((المذهب)) في (ح).
(8) انظر آخر هذا الباب؛ ففيه أحاديث فيها ذكر التسليم من صلاة الجنازة.
(9) جاء هذا الحديث من رواية علي رضي الله عنه، وقد رواه غيره أيضًا، وقد أخرجه عن علي: أبو داود (1/49 رقم62) كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، بلفظ: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم))، و(1/411 رقم 618) كتاب الصلاة، باب الإمام يحدث بعد ما يرفع رأسه من آخر الركعة، بلفظه، والترمذي (1/54 رقم 3) أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، بلفظه، وقال: ((هذا الحديث أصحّ شيء في هذا الباب وأحسن "، وابن ماجه (1/101 رقم 275) كتاب الطهارة، باب مفتاح الصلاة الطهور، وأحمد في "المسند" (1/123)، و(1/129)، والشافعى في "الأم" (1/100)، و(7/164و188)، وعبد الرزاق في "المصنف" (2/2 7 رقم 2539) كتاب الصلاة، باب من نسي تكبيرة الاستفتاح، وابن أبي شيبة (1/208 رقم2378) كتاب الصلوات، باب في مفتاح الصلاة ما هو ؟، والدارمى في "السنن" (1/175) كتاب الصلاة والطهارة، باب مفتاح الصلاة الطهور، والبزار في "البحر الزخار"- المسند- (2/236 رقم 633) بلفظه، وقال: ((وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد)).اهـ، وأبو يعلى في "المسند" (1/456 رقم 616) بلفظه، والطحاوي في "شرح معانى الآثار" (1/273)، وابن عدي في "الكامل" (4/1448) بلفظه، و (6/410)، بلفظ مقارب، والدارقطي (1/360 رقم4) كتاب الصلاة، باب مفتاح الصلاة الطهور، و(1/379 رقم 1) باب تحليل الصلاة التسليم، وأبو نعيم في "الحلية" (8/372)، والبيهقي في "الكبرى" (2/15) كتاب الصلاة، باب ما يدخل به في الصلاة من التكبير، و(2/173) باب تحليل الصلاة بالتسليم، و(2/253) باب من أحدث في صلاته قبل الإحلال منها بالتسليم، و(2/379) باب وجوب التحلل من الصلاة بالتسليم ،والخطيب في "تاريخه" (10/197)، والبغوي في "شرح السنة" (3/17 رقم558) كتاب الصلاة، باب التكبير عند افتتاح الصلاة.
كلهم من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفيَّة، عن أبيه، به.
قال الترمذي(1/9): ((هذا الحديث أصح شىء في هذا الباب وأحسن، وذكر عن شيخه البخاري قوله: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديث عبدالله بن محمد بن عقيل، قال محمد: وهو مقارب الحديث)).اهـ.
وقال في (2/3): ((وحديث علي في هذا أجود إسنادًا، وأصحُّ من حديث أبى سعيد)).اهـ.
وقد صحح إسناده النووي فى "المجموع" (3/289)، وقال: ((إلا أن فيه عبدالله بن محمد ابن عقيل))، وساق كلام الترمذي فيه. وصححه الحافظ في "الفتح" (2/322)، قال: أخرجه أصحاب السنن بسند صحيح)).اهـ.
وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (2/218 رقم1006)، و(2/240 رقم 1072)، وكذا في تعليقه على "جامع الترمذي" (1/9) بتحقيقه.
كما حسن إسناده الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (2/9)، وقال: ((لكن الحديث صحيح بلا شك، فإن له شواهد يرقى بها إلى درجة الصحة)).اهـ.
(10) في (ب): ((والجمهور)).
(11) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((ثم هل)).
(12) قوله: ((أم لا)) ليس في (أ)، وفي (ح): ((أو لا)) بدل ((أم لا)).
(13) في (ب) و(ح): ((وفي)) بدون ألف ((أو)). في (ز) و(س): ((والجميع))
(14) في (ب) و(ز) و(س) و(ح): ((ولا)) بدون ألف ((أو)).
(15) في (أ)(ب): ((وكلهم)).
(16) في "السنن" (3/538 رقم3191) كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت بهذا اللفظ، وقد أخرجه أيضًا ابن ماجه (1/480 رقم 1497) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة، وابن حبان - كما في الإحسان- (5/31 رقم 3065) كتاب الجنائز، فصل في الصلاة على الجنازة، بلفظ أبي داود، و(5/31-32 رقم3066)، والبيهقي في "الكبرى"(4/40) كتاب الجنائز، باب الدعاء في صلاة الجنازة.
كلهم رووه من طريق ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، به مرفوعًا.
والحديث حسن الإسناد ؛ لحال ابن إسحاق، وصحح إسناده الشيخ الألباني في "الإرواء" (3/179).
(17) في (ح): ((له في الدعاء)).(2/612)
واستفراغ الوسع بعمارة كل أحوال تلك الصلاة في الاستشفاع للميت.
وذهب الشافعي وأحمد واسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من أصحابنا وداود إلى أنه يقرأ فيها بالفاتحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)) (1) ، حملاً له على عمومه. وبما خرَّجه البخاري (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما: وصلّى (3) على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: ((لتعلموا أنَّها (4) سنَّه)). وخرَّج النسائي (5) من حديث أبي أمامة قال:((السنة في الصلاة على الجنازة (6) أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مُخَافَتَةً، ثم يكبر ثلاثًا، والتسليم عند الآخرة)).
وذكر محمد بن نصر (7) المروزي عن أبي أمامة أيضًا قال:((السنَّة في الصلاة على الجنائز (8) أن يكبر (9) ، ثم يقرأ (10) بأم القرآن، ثم يصلي (11) على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص (12) الدعاء للميت، ولا يقرأ (13) إلا في التكبيرة الأولى، ثم يسلّم (14) )).
وهذان الحديثان صحيحان، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند.
والعمل على حديث أبي أمامة أولى ؛ إذ فيه جمع بين عموم قوله:((لا صلاة...))، وبين إخلاص الدعاء للميت، وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء، والله تعالى أعلم. =(2/613)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (2/236 رقم756) كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر...، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))، ومسلم (1/295 رقم394) كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة....
(2) الجامع مع "الفتح" (3/203 رقم1335) كتاب الجنائز، باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، عن طلحة قال: صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازةٍ، فقرأ فاتحة الكتاب، قال: لتعلموا أنها سُنّة.
(3) في (ز) أقرب أن تكون ((فصلى)).
(4) في (ز) و(س): ((أنه)).
(5) في "السنن" (4/75) كتاب الجنائز، باب الدعاء، وأخرجه أيضًا الشافعي في "الأم" (1/270) بمعناه في رواية أطول، وساق إسنادًا آخر، ثم قال مثل قول أبي أمامة، و(1/ 271) مختصرًا، وفي "المسند"- كما في ترتيبه -(1/210- 211 رقم581-583) باب صفة صلاة الجنائز، كرواياته الثلاث في "الأم"، وعبد الرزاق في "المصنف" (3/489 رقم 6428) كتاب الجنائز، باب القراءة والدعاء في الصلاة على الميت، بنحوه، وابن أبي شيبة في المصنف (3/298) كتاب الجنائز، باب من كان يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، مختصرًا، وابن الجارود في "المنتقى" (ص141 رقم540) كتاب الجنائز، بنحوه، إلا أنه لم يذكر المخافتة أو الإسرار، والبيهقي في "الكبرى (4/39) كتاب الجنائز، باب القراءة في صلاة الجنازة، بمعناه مطولاً، وابن حزم في "المحلى" (5/129) بلفظه.
رووه كلهم من طريق ابن شهاب، عن أبي أمامة، به.
وقد صحح إسناده على شرط الشيخين النووي في "المجموع" (5/33)، وصححه الحافظ في "الفتح" (3/204)، كما صححه الشيخ الألباني في كتاب "الجنائز" (ص111).
(6) في (ح): ((الجنائز)).
(7) في (ح): ((محمد بن أبي نصر)).
(8) في (ب) و(ز) و(س): ((الجنازة)).
(9) في (ب) جميع هذه الأفعال بالتاء المثناة الفوقية.
(10) في (ب) جميع هذه الأفعال مهملة في أولها.
(11) في (ب) جميع هذه الأفعال بالتاء المثناة الفوقية.
(12) في (ب) جميع هذه الأفعال بالتاء المثناة الفوقية.
(13) في (ب) جميع هذه الأفعال بالتاء المثناة الفوقية.
(14) في (ب) جميع هذه الأفعال بالتاء المثناة الفوقية.(2/613)
***********
( 12 ) باب الدعاء للميت وأين يقوم الإمام من المرأة
34- عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ (1) قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ:((اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ - أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ-))، قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الدعاء للميت
وليس فيه دعاء محدود عند العلماء، بل يدعو المصلِّي بما (2) تيسَّر له، لكنَّ الأَوْلى أن يكون بالأدعية المأثورة في ذلك (3) ؛ لحديث (4) عوف بن مالك هذا، وحديث أبي هريرة (5) ، وما أشبه ذلك.
وقوله: ((وأكْرِمْ نُزُلَه))؛ النُزُل: ما يُعَدُّ للنازل، وهو (6) الضيافة، وزايُه مضمومةٌ، وقد تُسكن.
وقوله:((ووَسِّعْ مُدْخَله))؛ أي: قبره، ومنزله في الجنَّة، وقد تقدّم القول (7) في قوله صلى الله عليه وسلم: ((واغْسِلْه بالماء والثلج والبَرَد))، وأن هذا على معنى المبالغة والتمثيل. والأهل هنا: عبارة عن الخدم والخوَل، ولا تدخل (8) الزوجة فيهم ؛ لأنه قد خصّها =(2/614)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/662 رقم963) في الجنائز، باب الدعاء للميت في الصلاة.
(2) في (ب): ((كحديث)).
(3) في (ح): ((ذاك)).
(4) في (ز) و(س): ((ما)) بدل ((بما)).
(5) حديث أبى هريرة أخرجه أبو داود (3/539 رقم 3201) كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت، بلفظ: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فقال: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده))، والترمذي (3/344 رقم 1024) كتاب الجنائز، باب ما يقول في الصلاة على الميت، وابن ماجه (1/ 480 رقم 1498) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (ص 584 رقم1080و 1081) باب ذكر الاختلاف على أبي سلمة ابن عبد الرحمن، في الدعاء في الصلاة على الجنازة، وأحمد في "المسند" (2/368)، وأبو يعلى في "المسند" (10/403 رقم 6009)، و(10/404 رقم 6010)، وابن حبان - كما في الإحسان-(5/29 رقم 3059)، كتاب الجنائز، فصل في الصلاة على الجنازة، والطبراني في "الأوسط"، عزاه له الحافظ في "النكت الظراف" (11/72)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 511 رقم 1326) كتاب الجنائز، بنحو لفظ أبى يعلى الثاني، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرحاه، وله شاهد صحيح على شرط مسلم، وساقه عن عائشة، وأقره الذهبي، والبيهقى في "الكبرى" (4/41) كتاب الجنائز، باب الدعاء فى صلاة الجنازة،
رووه جميعًا من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة، به.
وإسناده صحيح، وفي سنده اختلاف انظر تفصيله في "سنن الترمذي" (3/344)، و"العلل" للدارقطني (4/271).
(6) في (أ): ((من)).
(7) قوله: ((القول)) سقط من (ح).
(8) في (أ): ((ولا تدخل هنا الزوجة)).(2/614)
بالذكر بعد ذلك ؛ حيث (1) قال: ((وزوجًا خيرًا من زوجِه)).
ويحتمل أن يكون من باب (2) :{فيهما فاكهة ونخل ورمان} (3) ، ويُفهَمُ منه أنّ نساءَ الجنَّة أفضلُ مِن نساء (4) الآدميات، وإن دخلن الجنة. وقد اختلف في هذا المعنى، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
35- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ (5) قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّى عَلَى أُمِّ كَعْبٍ، مَاتَتْ وَهِيَ نُفَسَاءُ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلاةِ عَلَيْهَا وَسَطَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:((فقَامَ وسْطَها))؛ صحيح تقييدنا فيه بالسكون، وكذا ضبطه أبو بحر (6) والجيَّانيّ، وقال ابن دينار: وسْط الدار ووسَطها معًا بمعنى (7) واحد.
والصواب: أن الساكن ظرْفٌ، والمفتوحَ اسمٌ، فإذا قلت: حفرتُ وسْطَ الدار بئرًا، كان معناه: حفرتُ في الجزء المتوسِّط منها، ولا تقول: حفرتُ وَسَطَ الدار، إلاّ أن تعمَّ الدار بالحفر. وعلى هذا فالصواب في الرواية السكون.
وقد اختلفوا في أيّ موضع يقوم الإمام من الجنازة؟ بعد إجماعهم على أنّه لا يقوم ملاصقًا لها (8) ، وأنّه لا بدّ من فرجة بينهما؛ على ما حكاه الطبريّ.
فذهب قوم إلى أنه يقوم عليها وسطها: ذكرًا كان أو أنثى.
وقال آخرون: هذا حكم المرأة ؛ كي يسترها عن الناس، وأمّا الرجل فعند رأسه ؛ لئلا ينظر الإمام إلى فرجه، وهو قول أبي يوسف وابن حنبل.
وقال ابن مسعود بعكس (9) هذا في المرأة والرجل (10) . وذكر عن الحسن التوسعة في ذلك، وبها قال أشهب وابن شعبان. وقال أصحاب الرأي: يقوم فيها (11) حذاء (12) الصدر. وقد روى أبو داود (13) ما يرفع الخلافَ عن أنس رضي الله عنه وصلّى على جنازة، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة ! هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي على الجنائز (14) كصلاتك؟ يكبّر عليها أربعًا، ويقوم عند رأس الرجل، وعجيزة (15) المرأة؟ قا ل: نعم. =(2/615)=@
__________
(1) قوله: ((حيث)) ليس في (ز) و(س).
(2) قوله: ((من باب)) سقط من (ح).
(3) سورة الرحمن، الآية: 68 ، ويعني بذلك أنها من باب ذكر الخاص بعد العام ؛ للتأكيد على أهميته وإبرازه.
(4) قوله: ((نساء)) سقط من (ب) و(ز) و(س).
(5) أخرجه البخاري (1/429 رقم232) في الحيض، باب الصلاة على النفساء وسنتها، بلفظ: ((أن امرأة ماتت في بطن فصلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقام وسطها))، و(3/201 رقم1331 و1332) في الجنائز، باب الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها، بنحوه، وباب أين يقوم من المراة والرجل؟ ومسلم (2/664 رقم964/87) في الجنائز، باب أين يقدم الإمام من الميت للصلاة عليه، وفيه: ((للصلاة عليها وسطها)).
(6) في (أ): ((أبو بكر))، وهو خطأ.
(7) في (ح): ((معنى)).
(8) في (ز) و(س): ((ملاصقها)).
(9) في (ز) و(س): ((يعكس)).
(10) روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/6) عنه أنه كان إذا صلى على الجنازة قام وسطها، ويرفع عن صدر المرأة شيئًا.
(11) في (أ) و(ب): ((فيهما)).
(12) في (ز) و(س): ((بحذاء)).
(13) في "السنن" (3/533 رقم3194) كتاب الجنائز، باب أين يقوم الإمام من الميت اذا صلى عليه ؟ وهو جزء من حديث طويل.
وأخرج هذا الخبر أيضًا الترمذي (3/352 رقم1034) كتاب الجنائز، باب أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة؟ بنحوه، وقال: ((حديث أنس هذا حديث حسن "، وابن ماجه (1/479 رقم 1494) كتاب الجنائز، باب ما جاء في أين يقوم الإمام إذا صلى على الجنازة، وأحمد في "المسند" (3/ 118و204)، والطيالسي في "المسند" (3/607 رقم2263) وابن أبى شيبة (3/6) كتاب الجنائز، باب في المرأة أين يقام منها في الصلاة، والرجل أين يقام منه ؟ والطحاوي فى "شرح معاني الآثار" (1/491)، والبيهقي في "الكبرى" (4/33) كتاب الجنائز، باب الإمام يقف على الرجل عند رأسه، وعلى المرأة عند عجيزتها.
رووه جميعًا من طريق أبي غالب، عن أنس، به. وهو حديث صحيح.
(14) في (ب) و(ز) و(س): ((الجنازة)).
(15) في (أ): ((وعجزة)).(2/615)
وهذا الحديث يدلُّ على (1) مشروعية مقام الإمام كذلك، وهو يُبطل تأويلَ من قال: إنّ مقام النبيّ صلى الله عليه وسلم وسط جنازة أمِّ كعب، إنما كان من أجلِ جنينها حتى يكون أمامه، بل كان ذلك ؛ لأنّه حكم مشروعية (2) ذلك (3) .
************
(13) باب ما جاء في الصلاة على القبر
36- عَنْ عَبْدُ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ (4) قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَبْرٍ رَطْبٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَصَفُّوا خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في الصلاة على القبر
قوله: ((انتهى إلى قبر رطب فصلّى عليه))؛ أي: حديث الدفن؛ أي (5) : لم يُبْلَ بعد؛ لرطوبة ثراه، وقرب هيله.
وظاهر هذا الحديث وحديث (6) السوداء: جواز الصلاة على القبر. وقد اختلف في ذلك: فتحصيل مذهب مالك ومشهور أقوال أصحابه جواز ذلك؛ إذا لم يُصلَّ عليه. وعنه أيضًا وعن أشهب وسحنون أنه لا يصلِّى عليه ؛ لفوت ذلك، وأمّا من صُلِّي عليه؛ فليس لمن فاتته الصلاة عليه أن يصلّيَ عليه (7) ، وهو المشهور من مذهب مالك وأصحابه، وهو قول الليث، والثوري، =(2/616)=@
__________
(1) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((على أن)).
(2) في (ح) و(ز) و(س): ((مشروعيّته)).
(3) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(4) أخرجه البخاري (2/344 رقم853) في الأذان، باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور...، و(3/344 رقم857) كتاب الجنائز، باب الصفوف على الجنازة، و(3/190 رقم1322) باب سنة الصلاة على الجنائز، و(3/204 رقم1336) باب الصلاة الصيان مع الناس على الجنائز، و(3/204 رقم1336) باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن، و(3/207 رقم1340)، باب الدفن بالليل، ومسلم (2/658 رقم954/68) في الجنائز، باب الصلاة في القبر.
(5) قوله: ((أي)) ليس في (ح).
(6) في (ح): ((في حديث)).
(7) قوله: ((أن يصلي عليه)) ليس في (ز) و(س).(2/616)
وأبي حنيفة، قال: إلا أن يكون وليه، فله إعادة الصلاة عليه.
وقد روي عن مالك جواز الصلاة عليه، وهو شاذّ من مذهبه، وهو قول الشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وحيث قلنا بفوت (1) الصلاة على الميت، فما الذي يقع به الفوت؟ اختلف فيه، فقيل: بهيل التراب وتسويته، وهو قول أشهب وعيسى وابن وهب. وقيل: بخوف تغيُّره، وهو قول ابن القاسم وابن حبيب وسحنون. وقيل: بالطُّول فيمن لم يصلِّ عليه، وهو ما زاد على ثلاثة أيَّامٍ فأكثر عند أبي حنيفة. وقال أحمد فيمن صُلِّي عليه: تعاد (2) إلى شهر، وقاله إسحاق في الغائب، وقال في الحاضر: ثلاثة أيام. قال أبو عمر: وأجمع من قال بالصلاة على القبر: أنّه لا يصلّى عليه إلا بالقرب، وأكثر ما قيل في ذلك شهر.
37- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (3) ، أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ- أَوْ شَابٌّ- فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عَنْهَا - أَوْ عَنْهُ - فَقَالُوا: مَاتَ. قَالَ:((أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟)) قَالَ: : وَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا - أَوْ أَمْرَهُ - فَقَالَ: ((دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ)) فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ:((إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((تَقُمُّ (4) الْمَسْجِدَ))؛ أي: تكنسه (5) ، والقمامة: الكِنَاسة.
وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسكينة يدلّ على كمال تفضُّله، وحسن تعهده، وكرم أخلاقه وتواضعه، ورأفته ورحمته، وتنبيهٌ على أن لا يُحْتَقَر مسلمٌ، ولا يُصَغَّر أمرُه.
قال الشيخ رحمه الله: قال بعض: مَن لم يُجِز (6) الصلاة على القبر: إنّ القبرَ الرَّطْبَ الذي في حديث ابن عباس يحتمل أن يكون قبر السوداء التي كانت تقمّ المسجد، وكانت صلاتُه عليه (7) خاصةٌ به ؛ لأنه قد قال:((إن (8) هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإنّ الله ينوّرها بصلاتي عليهم))، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وغيره لا يعلم ذلك، فكان ذلك خصوصًا به.
وهذا ليس بشيء ؛ لثلاثة أوجه:
أحدها: أنّا وإن لم نعلم ذلك، لكنّا نظنّه (9) ، ونرجو فضل الله سبحانه، ودعاء المسلمين لمن صلّوا عليه. =(2/617)=@
__________
(1) في (ب) و(ز) و(س): ((تفوت)).
(2) في (ز) و(س): ((يعاد)).
(3) البخاري (10/552 رقم 458)كتاب الصلاة، باب كنس المساجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان، و(1/554 رقم460) باب الخدم للمسجد، و(3/204 رقم1337) في الجنائز، باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن، ومسلم (2/659 رقم956/71) في الجنائز، باب الصلاة على القبر.
(4) في (أ) و(ب) و(ز) و(س): ((يقم)).
(5) في (ز) و(س): ((يكنسه)).
(6) في (ز): ((لم نجز)).
(7) في (ب): ((عليها)).
(8) قوله: ((إنَّ)) ليس في (أ).
(9) في (أ): ((نظن)).(2/617)
وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم قد قال: ((من صلّى عليه مائة، أو أربعون من المسلمين، شفعوا فيه)) (1) ، فقد أعلمنا أنّ ذلك يكون من غيره.
وثالثها: أنه كان يلزم منه ألا يصلّى على ميِّتٍ بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لإمكان الخصوصية فيمن صلّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل.
وأشبه ما قيل في حديث السوداء: أنّه (2) صلى الله عليه وسلم صلَّى على قبرها؛ لأنه (3) لم يصلِّ عليها صلاةً جائزة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام ولم يستخلف، بل قد روي أنه صلى الله عليه وسلم أمَرهم أن يُعلِموه بموتها، فلم يُعلِموه بذلك ؛ كراهية (4) أن يشقّوا (5) عليه، كما ذكره مالك (6) من حديث (7) أبي أمامة بن سهل (8) بن حنيف:أنّ مسكينة مرضت، وهذه المسكينة هي السوداء في هذا الحديث، والله أعلم.
ويفهم (9) منه أنّ (10) مَن دُفِنَ بغير صلاة أنّه يصلَّى على قبره، ولا يُخرَج، ولا يترك بغير صلاة، وهو (11) الصحيح، والله تعالى أعلم. =(2/618)=@
__________
(1) تقدم تخريج هذا الحديث في باب الاستشفاع للميت.
(2) في (ب): ((بأنه)).
(3) في (ب) و(ز): ((لأنها)).
(4) في (ح): ((كراهة)).
(5) في (س): ((يشقق)).
(6) في "الموطأ" (1/127رقم15) كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنائز، بسنده عن أبي أمامة، عن سهل بن حنيف، أنه أخبره أن مسكينة مرضت،فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المساكين ويسأل عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ماتت فآذنوني بها))، فخرج بحنازتها ليلاً فكرهوا أن يوقظوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بالذي كان من شأنها، فقال: ((ألم آمركم أن توذنوني بها؟))، فقالوا:يا رسول الله! كرهنا أن نخرجك ليلاً ونوقظك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صفَّ بالناس على قبرها، وكبّر أربع تكبيرات.
وهذا الخبر أخرجه أيضًا النسائي (4/40) كتاب الجنائز، باب الأذن بالجنازة، بلفظ مقارب، و(4/69) باب الصلاة على الجنازة بالليل، بنحوه، والشافعي في "المسند"- كما في ترتيبه -(1/ 208 رقم576)، وعبد الرزاق في "المصنف" (3/518 رقم6542) كتاب الجنائز، باب الصلاة على الميت بعد ما دفن، بنحوه، والبيهقى في "الكبرى" (4/48) كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن الميت، بنحوه.
رووه جميعًا من طريق ابن شهاب الزهري، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف به مرفوعًا.
وهذا إسناد صحيح. وأبو أمامة معدود في الصحابة، له رؤية، ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. كما في "التقريب" (ص104 رقم402). وقد روي الخبر من روايته عن أبيه مرفوعًا، أخرحه: ابن أبي شيبة (3/244)، والطبرانى في "المعجم الكبير" (6/102رقم5586)، والطحاوي في"شرح معاني الآثار" (1/494). رووه جميعًا من طريق سفيان بن حسين عن الزهري، عن أبي أمامة، عن أبيه، مرفوعًا. تفرد به سفيان بن حسين، وهو سفيان بن حسين بن حسن، أبو محمد،أو أبو الحسن الواسطي،قال الحافظ: ((ثقة في غير الزهري باتفاقهم))."التقريب" (ص244 رقم2437).
ورواه الأوزاعي كما عند البيهقي في "الكبرى" (4/48) عن ابن شهاب، عن أبى أمامة، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(7) في (ح): ((حديثه)).
(8) في (أ): ((سهيل)).
(9) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((ويحصل)).
(10) في (س): ((أنه)).
(11) في (ز) و(س): ((هو)) بلا واو.(2/618)
**************
( 14) باب الأمر بالقيام للجنازة ونسخه
38- عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ)).
39- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ (2) قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((إِذَا اتَّبَعْتُمْ جَنَازَةً فَلا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بالقيام إلى الجنازة (3)
قوله صلى الله عليه وسلم:((إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم (4) أو توضع))؛ قال الشيخ رحمه الله: هذا الأمر إنما كان مُتَوَجِّهًا لمن لم يكن متَّبعًا للجنازة، بدليل ماجاء في حديث أبي سعيد (5) رضي الله عنه :((إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ)).
وقد جاء من حديث عليّ (6) رضي الله عنه أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم للجنازة (7) ثم قعد.
واختلف العلماء بسبب هذه الأحاديث على ثلاثة أقوال:
أولها: الأمر بالقيام مطلقًا لمن مرَّت به، ولمن تبعها، وهو قول جماعة من السلف والصحابة ؛ أخذًا بالأحاديث المتقدِّمة، وكأنّ هؤلاء لم يبلغهم الناسخ، أو لم يَرَوا ترك قيامه ناسخًا (8) .
وثانيها: لا يقوم لها أحد (9) ، لا ممرورًا به ولا مُتَّبعًا، وكأن هؤلاء رأوا:أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم للقيام (10) ناسخ لمطلق القيام،وهو قول قوم من أهل العلم. وروي عن أحمد وإسحاق وابن الماجشون من أصحابنا: أن ذلك على التوسعة والتخيير.
وثالثها: أن القيام منسوخ في حقِّ من مرَّت به (11) ، وهو قول مالك =(2/619)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/177 رقم1307) في الجنائز، باب القيام للجنازة، بدون قوله: " أو توضع "، وساقه معلقًا مجزومًا به، و(3/178 رقم1308) باب متى يقعد إذا قام للجنازة، بمعناه، ومسلم (2/659 رقم958/73) في الجنائز، باب القيام للجنازة.
(2) أخرجه البخاري (3/178 رقم1310) كتاب الجنائز، باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال، فإن قعد أمر بالقيام، بلفظه، إلا أن فيه: ((فلا يقعد "، ومسلم (2/660 رقم959/77) في الجنائز، باب القيام للجنازة، بلفظه، ورقم (659/76) بلفظ: ((إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع)).
(3) فى (ز) كتب قبلها ما يشبه ((الجماعة)) وكأنه ضرب عليها.
(4) في (أ): ((و)).
(5) أخرجه البخاري (3/178 رقم1310) كتاب الجنائز، باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال، فإن قعد أمر بالقيام، بلفظه، إلا أن فيه: ((فلا يقعد))، ومسلم (2/660 رقم959/77) في الجنائز، باب القيام للجنازة، بلفظه، ورقم (659/76) بلفظ: ((إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع)).
(6) سيأتي بعد قليل.
(7) قوله: ((للجنازة)) ليس في(ح).
(8) وردت أحاديث يفهم منها بعض أهل العلم أنها ناسخة للأمر بالقيام للجنائز، منها حديث علي رضي الله عنه الذي ساقه المصنف، ومنها حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عند الحازمي في "الاعتبار" (ص131)، وأبي داود في "السنن" (3/520 رقم 3176) كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، والترمذي (رقم1020) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الجلوس قبل أن توضع، وابن ماجه (رقم1545) كتاب الجنائز، باب ما جاء في القيام للجنازة. ولفظه عند الحازمي: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضَع في اللحْد، فمرّ بحبرٍ من اليهود فقال: هكذا نفعل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((اجلسوا وخالفوهم)). ثم قال الحازمي: ((وقد رُوي هذا الحديث... وفيه كلام، ولو صحَّ لكان صريحًا في النسخ، غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت، فلا يقاومه هذا الإسناد)).اهـ. وقال الترمذي عقب الحديث: ((هذا حديث غريب، وبشر بن رافع، ليس بالقوي فى الحديث)).اهـ.
وقد ردّ القول بالنسخ عددٌ من الأئمة ؛ منهم: الحازمي والمنذري وابن قدامة والنووي وابن حزم وابن القيم والبيضاوي والشوكاني وغيرهم، وحكى الحافظ في "الفتح" (3/181) كلام البيضاوي في رد ذلك، قال: « يحتمل قول علي: ((ثم قعد ))؛ أي: بعد أن جاوزته وبعُدت عنه، ويحتمل أن يريد: كان يقوم في وقت ثم ترك القيام أصلاً، وعلى هذا
يكون فعله الأخير قرينة في أن المراد بالأمر الوارد في ذلك الندب، ويحتمل أن يكون نسخًا للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر، والأول أرجح؛ لأن احتمال المجاز- يعني: في الأمر-، أولى من دعوى النسخ)).اهـ. وانظر "تهذيب السنن" (4/313).
(9) في (ز) ((أحدا لا)) رسمت هكذا [وتراجع].
(10) في (ح): ((القيام)).
(11) من قوله: ((وهو قول قوم من أهل العلم...)) إلى هنا سقط من (ز) و(س).(2/619)
والشافعي وأبي حنيفة. وقال أحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن والأوزاعي فيمن اتبعها: لا يجلس حتى توضع، وأمّا من مرَّت به، فلا يلزمه القيام.
وقد اختلف أيضًا في القيام على القبر حتى يُقبر (1) : فكرهه قوم، وعمل به آخرون. وروي ذلك عن عليّ وعثمان وابن عمر - رضي الله عنهم - (2) .
وقد تقدَّم في كتاب الإيمان قول (3) عمرو بن العاص (4) : ((وأقيموا حول قبري قدر ما تُنحر (5) جزور ويقسم لحمها)) (6) ؛ أي: ثبّتوا (7) وتربّصوا.
40- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ (8) قَالَ: مَرَّتْ جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ. فَقَالَ:((إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا)).
41- وَعَنْ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ (9) وَكَانَا بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ فَقَالا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ. فَقَالَ:((أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟)).
42- وَعَنْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (10) قَالَ فِي شَأْنِ الْجَنَائِزِ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ ثُمَّ قَعَدَ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَقُمْنَا، وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا. يَعْنِي فِي الْجَنَازَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ))؛ أي: يفزع إليه ومنه (11) ، وهو (12) تنبيه على استذكاره واستعظامه (13) ، وجعله من أهم ما يخطر بالإنسان.
والمقصود من هذا الحديث أن لا يستمرَّ الإنسان على غفلته عند رؤية الميت، فإنه إذا (14) رأى الميت، ثم تمادى على ما كان عليه من الشغل؛ كان هذا دليلاً على غفلته، وتساهله بأمر الموت (15) ، فأمر (16) الشرع أن يترك ما كان عليه من الشغل ويقوم ؛ تعظيمًا لأمر الموت (17) ، واستشعارًا به.
وعلى (18) هذا فيستوي في ذلك الميت المسلم =(2/620)=@
__________
(1) في (ب): ((تقبى)).
(2) لم أقف على من ساق الحديث عنهم مسندًا، وإنما ذكر ذلك عنهم القاضي عياض في "الإكمال" (3/423)، والنووي في "المنهاج" (7/27)، والله أعلم.
(3) في (ح): ((وقول)).
(4) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((العاصي)).
(5) في (ز): ((يُنحر)).
(6) مسلم (1/112 رقم192-121) كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة والحج، في أثناء حديث طويل.
(7) في (ب) و(ز) و(س): ((تثبتو)). ويشير بذلك إلى ما يطلب من المسلم الحي لأخيه الميت بعد دفنه من طلب التثبيت له؛ فالمراد: ادعوا لي بالثبات، وتربصوا قليلاً عند قبري، ولا تعجلوا الانصراف، والله أعلم.
(8) أخرجه البخاري (3/179 رقم1311) في الجنائز، باب قام لجنازة يهودي، بنحوه، دون: ((إن الموت فزع))، ومسلم (2/660 رقم960/78) في الجنائز، باب القيام للجنازة. وفي الرواية الأخرى: ((قام النبي صلى الله عليه وسلم لجنازة مرت به حتى توارت))، وفي الأخرى: ((قام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لجنازة يهودي حتى توارت)).
(9) أخرجه البخاري (3/179 رقم1312) في الجنائز، باب قام لجنازة يهودي، ومسلم (2/661 رقم961/81) في الجنائز، باب القيام للجنازة.
(10) أخرجه مسلم (2/661 رقم962/82و84) في الجنائز، باب نسخ القيام للجنازة.
(11) في (ز) يشبه أن يكون ((وفيه)) [وتراجع (ل96/ب)].
(12) قوله: ((وهو)) ليس في (ز) و(س).
(13) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((وإعظامه)).
(14) في (ز) و(س): ((فإذا)) بدل ((فإنه إذا)).
(15) في (ز) و(س): ((الميت)).
(16) في (ز) رسمت هكذا ((فاسْر)) [وتراجع].
(17) في (ب): ((فعلى)).
(18) في (ب): ((فعلى)).(2/620)
وغيره، ولذلك قال في الميت الذمِّي:((أليست نفسًا؟)) معناه: أليست الجنازة نفسًا قُبِضَتْ؟
وقيل (1) : إنما قام (2) النبي صلى الله عليه وسلم؛ إجلالاً للملائكة الذين مع الميت.
وقيل (3) : إنما قام النبي صلى الله عليه وسلم (4) لجنازة اليهودي (5) لأنه كره أن تَعْلُوَ جنازةُ اليهوديِّ (6) رأسه.
وقيل (7) : لأنه أذاه نتن ريحها. والصحيح الأول.
وقوله:((إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ))؛ أي: من أهل هذه الأرض ؛ يعني: أنها من أهل الجزية الْمُقَرِّين بأرضهم (8) . =(2/621)=@
__________
(1) جاء معنى ذلك في حديثين:
أحدهما: حديث أنس رضي الله عنه؛ أخرجه: النسائي(4/47-48) كتاب الجنائز، باب الرخصة في ترك القيام، بلفظ: عن أنس: أن جنازة مرّت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقام، فقيل: إنها جنازة يهودي، فقال: ((إنما قمنا للملائكة))، وأخرجه أيضًا الحاكم (1/357)، كتاب الجنائز، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذا اللفظ؛ غير أنهما قد اتفقا على إخراج حديث عبيدالله بن مقسم، عن جابر في القيام لجنازة اليهودي. وأقره الذهبي.اهـ.
وفي إسناد هذا الحديث قتادة، وهو مدلس وقد عنعن.
الثاني: حديث أبي موسى رضي الله عنه عند: أحمد في "المسند" (4/391) بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مرّت بكم جنازة يهودي أو نصراني أو مسلم فقوموا لها، فلستم لها تقومون؛ إنما تقومون لمن معها من الملائكة)). وأخرجه أيضًا بنحوه (4/413) من طريق ليث بن أبي سُليم. قال فيه الحافظ في "التقريب": ((صدوق اختلط جدًّا، ولم يتميز حديثه فتُرك)).
فهذا إسناد ضعيف أيضًا.
(2) في (س): ((قال)) وبعده إشارة لحق وفي الهامش كتب ((لعله قام))، وفي (ز) تشبه أن تكون: ((قام)).
(3) جاء هذا في حديث عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أخرجه النسائي (4/47) كتاب الجنائز، باب الرخصة في ترك القيام، وفيه: أن الحسن بن على كان جالسًا فمرّ عليه يحنازة، فقام الناس حتى جاوزت الجنازة، فقال الحسن: إنما مرّ بجنازة يهودي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريقها جالسًا، فكره أن تعلو رأسه جنازة يهودي فقام. وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/42) كتاب الجنائز، باب من قال: يقام للجنازة إذا مرت، بنحوه. روياه من طريق شيخ ابن أبي شيبة، حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن الحسن بن علي...، فذكره.
وهذا الإسناد ضعيف، فحاتم بن إسماعيل المدني، صدوق يهم، كما فى "التقريب" (ص144). وقد قال ابن المديني كما في "التهذيب" (1/324): ((روى عن جعفر، عن أبيه أحاديث مراسيل أسندها)).اهـ.
وذكر ذلك ابن القيم في "تهذيب السنن" (4/313) وردَّه، فقال: ((وتعليله بأن ذلك كراهية أن تطوله تعليل باطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل بخلافه، وعنه في ذلك ثلاث علل:
إحداها: قوله: ((إن الموت فزع....)).
الثانية: أنه قام للملائكة....
الثالثة: التعليل بكونها نفسًا....
فهذه هى العلل الثابتة عنه، وأمّا التعليل بكراهة أن تطوله، فلم يأت في شيء من طرق هذا الحديث الصحيحة، ولو قُدِّر ثبوتها، فهو ظن من الراوي، وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكره بلفظه أولى)).اهـ.
(4) قوله: ((النبي صلى الله عليه وسلم)) ليس في (ب) و(ز) و(س) و(أ).
(5) في (ز) و(س): ((اليهود)).
(6) في (ز) و(س): ((اليهود)).
(7) جاء معنى هذا في أحاديث ؛ منها:
1- حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما: أخرجه أحمد فى "المسند" (1/250) بلفظ: أنه مر بهم جنازة فقام القوم ولم يقم - أي الحسن بن علي -، فقال الحسن: ما صنعتم، إنما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تأذيًا بريح اليهودي.
قال الهيثمي في "المجمع" (3/28): ((رواه أحمد، وفيه الحجاج بن أرطاة، وفيه كلام)).اهـ.
والحجاج قال عنه الحافظ في "التقريب" (ص152): ((أحد الفقهاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس)).اهـ.
(8) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).(2/621)
************
( 15 ) باب ركوب المتبع للجنازة إذا انصرف منها
43- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (1) قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ، ثُمَّ أُتِيَ بِفَرَسٍ عُرْيٍ، فَعَقَلَهٌ رَجُلٌ فَرَكِبَهُ، فَجَعَلَ يَتَوَقَّصُ بِهِ، وَنَحْنُ نَتَّبِعُهُ، نَسْعَى خَلْفَهُ، قَالَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلَّقٍ -أَوْ مُدَلًّى- فِي الْجَنَّةِ لابْنِ الدَّحْدَاحِ-أَوْ قَالَ لأَبِي الدَّحْدَاحِ-)).
وَفِي رِوَايَةٍ: أُتِيَ بِفَرَس مُعْرَوَرٍ فَرَكِبَه حِينَ انْصَرَفَ مِنْ جَنَازَةِ ابْنِ الدَّحْدَاحْ وَنَحْنُ نَمْشي حَوْلَه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ركوب المتبع للجنازة
قوله: ((أُتِيَ بِفَرَسٍ عُرْيٍ))؛ أي: لا سَرجَ عليه. يقال: فرس عُرْي، وخيلٌ أعْرَاء (2) ، وقد اعرَورَى فرسَه: إذا ركبه عُريًا (3) ، ولا يقال: رجل عُريٌ، ولكن (4) عُرْيَانُ. ورواية من روى ((بفرسٍ (5) معرور)) لا وجه لها.
و((عَقَلَهٌ (6) )): حبسه ليركبه. و((يَتَوَقَّصُ)): يَثبُ ويُقَارِبُ الْخُطوَةَ (7) .
وقوله:((وَنَحْنُ نَتَّبِعُهُ، نمشي خَلْفَهُ))، هو إخبار عن صورة تلك الحالة؛ لأنه تقدَّمهم، وأتوا (8) بعدَه، لا أن ذلك كانت عادتهم في مشيهم معه، بل المنقول في (9) سيرتهم أنه كان يُقَدِّمُهم (10) ولا يتقَدَّمهم، وينهى (11) عن وطء (12) العقب (13) .
ولا خلاف في جواز الركوب عند الانصراف من الجنازة، وإنما الخلاف في الركوب لمتبعها، فكرهه (14) كثير من العلماء، سواء كان معها، أو سابقها، أو خلفها.
والصحيح جواز الركوب، إلا أنه يتأخر عنها ؛ لما خرّجه الترمذي (15) وصححه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها (16) ، والطفل يُصلّى عليه))، وهذا أصحّ من الأحاديت التي ذكر فيها منْعُ الركوب مع الجنازة. =(2/622)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/665 رقم965/89 وما بعده) في الجنائز، باب ركوب المصلي على الجنازة إذا انصرف.
(2) في (س): ((لا شرج)).
(3) في (أ): ((أعرية)) وكتب في الهامش ((أعراء)) وأشار أنه في نسخة أخرى.
(4) في (أ): ((ولا لكن)) بدل ((لكن)).
(5) قوله: ((بفرس)) سقط من (ح).
(6) قوله: ((لا وجه لها وعقله)) غير واضح في (ح) ووضع قبله إشارة لحق، ولم يظهر شيء في الهامش.
(7) في (ب) و(ز) و(س): ((الخطو)).
(8) بداية سقط من (ح).
(9) في (ب) و(ز) و(س): ((من)).
(10) من قوله: ((وأتوا بعده...)) إلى هنا ساقط من (ح).
(11) في (أ): ((ونهى)).
(12) في (ز) ((وطى)) رسمت هكذا.
(13) جاء ذلك في حديث رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أخرجه: ابن ماجه (1/90 رقم246) المقدمة، باب من كره أن يوطأ عقبه، ولفظه عن جابر بن عبدالله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى؛ مشى أصحابه أمامه، وتركوا ظهره للملائكة. قال البوصيري (1/107): ((إسناد صحيح رجاله ثقات)).اهـ.
وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/332)، والحاكم في"المستدرك"(2/411) في تفسير سورة لقمان، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد))، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.
(14) في (ب): ((وكرهه)).
(15) في"الجامع" (3/349 رقم1031) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الأطفال، باللفظ المذكور، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح...، والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم)).اهـ.
وأخرجه أيضًا: - أبو داود (رقم 3180) كتاب الجنائز، باب المشي أمام الجنازة، والنسائي(4/55 رقم1942) كتاب الجنائز، باب مكان الراكب من الجنازة، بلفظه ،و(4/56 رقم1943) كتاب الجنائز، باب مكان الماشي من الجنازة،، وابن ماجه (1/475 رقم1481) كتاب الجنائز، باب ما جاء في شهود الجنائز، وأحمد في "المسند" (4/247 و252) بلفظه، و(4/248 -249)، والطيالسي في "المسند" (2/77-78 رقم 736، 737)، وابن أبى شيبة في "المصنف" (2/478- 479) كتاب الجنائز، باب من رخص في الركرب أمام ا لجنا زة، وابن المنذر في "الأوسط" (7/320-321 رقم 3049)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/482)، وابن حبان - كما في الإحسان -(7/320- 321 رقم3039) كتاب الجنائز، فصل في حمل الجنازة، والطبراني في "الكبير" (20/430 -431 رقم1044-1046)، و(20/430 رقم1042)، والحاكم في "المستدرك" (1/355) كتاب الجنائز، بلفظ مقارب، و(1/363)، كتاب الجنائز، بنحوه، ورقم (1344)، والبيهقي في "السنن"(4/8) كتاب الجنائز، باب السقط يغسل ويكفن ويصلى عليه إن استهل أو عرفت له حياة، بلفظه، وفي رواية قبلها بمعناه، و (4/24) بمعناه. رووه جميعًا من طريق زياد بن جبير بن حية، عن أبيه، عن المغيرة، به.
وصححه الشيخ الألباني في "الإرواء" (3/169)، وانظر لمزيد التفصيل "الاستذكار" (8/221)، و"نصب الراية" (2/295)، و"التلخيص" (2/114).
(16) في (س): ((منهما)) وفي (أ): ((بها)).(2/622)
وقوله:((كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلَّقٍ -أَوْ مُدَلًّى- فِي الْجَنَّةِ لابْنِ الدَّحْدَاحِ (1) )).
((العِذْقٍ))- بكسر العين -: العُرْجون، وبفتحها: النخلة، وهو هنا بالكسر، و((الدَّحْدَاحِ)): الرجل القصير دون الربعة. وقال شعبة: أبو الدحداح، وقال غيره: ابن الدحداح. وقال (2) أبو عمر (3) : أبو الدحداح، ويقال: أبو الدحداحة، فلان ابن الدحداحة.
وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم له (4) ذلك القول ؛ لقصَّةٍ جرت، وهي (5) أن يتيما خاصم أبا لبابة (6) في نخلة، فبكى الغلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((أعطه إياها، ولك بها عِذْق في الجنة))، قال: لا، فسمع ذلك ابنُ الدحداح (7) ، فاشتراها (8) من أبي لبابة بحديقة له، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أَلِي بها إن أعطيتُ اليتيمَ إيّاها عِذْقٌ في الجنّة؟ قال:((نعم))، فلما قَبِل ذلك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، ورُوي (9) غير ذلك (10) . =(2/623)=@
__________
(1) في (أ): ((الدحداج)).
(2) في (ب) و(ز) و(س): ((قال)) بلا واو.
(3) في "الاستيعاب" (4/61)، قال: ((أبو الدحداح، ويقال: أبو الدحدحة، مذكور في الصحابة)).اهـ.
(4) قوله: ((له)) ليس في (ب).
(5) أخرج هذه القصة: أحمد في "المسند" (3/146) عن أنس: أن رجلاً قال: يا رسول الله ! إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فأمُره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعطها إياه بنخلة في الجنة))، فأبى، فأتاه أبو الدحداح، فقال: بعني نخلتك بحائطي ففعل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ! إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له فقد أعطيتكها، فقال رسول الله: ((كم من عَذاق راحٍ لأبى الدحداح في الجنة))، قالها مرارًا. قال: فأتى على امرأته، فقال: يا أم الدحداح ! اخرجي من الحائط، فإني قد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها، وابن حبان - كما في الإحسان - (16/113- 114 رقم 7159) كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة رجالهم ونسائهم بذكر أسمائهم رضوان الله عليهم أجمعين -، والطبراني فى "الكبير" (22/300 رقم 763)، والحاكم في "المستدرك" (2/20).
رووه جميعًا من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، به.
قال الهيثمي في "المجمع": ((رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح)).
(6) في هذه الرواية التي ساقها المصنف ملحظان:
الأول: قوله إن الخصومة كانت بين يتيم وبين أبي لبابة.
الثاني: تسمية أبي لبابة في هذا.
ولكن من خلال تخريج الحديث لم أقف على ذلك، فالخصومة كانت بين رجلين، وأما تسمية الرجل، فلم أقف على من كنّاه، ولم أجده في "الأنباء المحكمة" للخطيب.
وفي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة يُكْنَون بـ((أبي لبابة))،وهم: أبو لبابة بن عبدالمنذر الأنصاري،أحد النقباء ليلة العقبة، وأبو لبابة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو لبابة الأسلمي، وحاشا أيًّا منهم أن يكون منه ما كان من هذا الرجل، فلعلّه كان رجلاً من المنافقين، والله أعلم.
(7) في (أ): ((الدحداج)).
(8) في (ح): ((فاشتراه)).
(9) في (ب): ((وروي له)).
(10) في (ب) زيادة: ((رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين))، وفي (ز) زاد: ((والله أعلم)).(2/623)
*************
( 16 ) باب في كيفية القبور وكراهية تجصيصها والبناء عليها،
وهل يجعل في القبر شيء؟
44- عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (1) أَنَهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ: الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
45- وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ (2) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا. - يَعْنِي: القُبُورْ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيفية القبور
قوله:((الْحَدُوا (3) لِي لَحْدًا))؛ اللحد: هو أن يُشَقَّ في الأرض، ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جهة القبلةِ، يدخل فيه الميت ويُسدُّ عليه باللَّبِن. وهو (4) أفضل عندنا من الشقّ، وكل واحد منهما جائز، غير أن الذي اختار (5) الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم هو اللحد ؛ وذلك أنه (6) لما أراد الصحابة رضي الله عنهم أن يحفروا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ اشتَوَرُوا في ذلك، وكان في المدينة رجلان، أحدهما يلحد، والآخر لا يلحد، فقالت الصحابة رضي الله عنهم: اللهم اخترْ لنبيك، فجاء الذي يُلحد أوَّلاً، فلحد (7) .
واشْتِوَارُهم (8) في ذلك وتَوقُّفُهم يدلّ على أنه لم يكن عندهم في أفضليَّة أحدهما من النبي صلى الله عليه وسلم تعيينٌ، ولذلك رجعوا إلى الدعاء في تعيين الأفضل.
ولم يقع في كتاب مسلم ذكر غسله صلى الله عليه وسلم، ولا الصلاة عليه، وقد ذُكِر في غيره.
فأما غسله صلى الله عليه وسلم، فغسل في قميصه (9) ، وذلك أنهم أرادوا أن ينزعوا فميصه ليغسلوه فسمعوا قائلاً يقول: ((لا تنزعوا القميص))؛ كما ذكره مالك في "موطئه" (10) .
وأما الصلاة عليه؛ فصلّى الناس عليه أفواجًا: الرجال والشبَّان (11) والنساء (12) والصبيان من غير إمام، صلّوا فوجًا بعد فوج، على ما ذكر أهل السنن (13) .
واختلف في =(2/624)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/665رقم966) في الجنائز، باب في اللحد ونصب اللبن على الميت.
(2) أخرجه مسلم (2/666رقم968) في الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر.
(3) في (أ) و(ح) و(ز) و(س): ((اتخذوا)).
(4) قوله: ((وهو)) مطموس في (ز).
(5) في (ب): ((اختاره)).
(6) أخرجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ابن ماجه (1/520 رقم1628) كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم، في خبر طويل في قصة وفاته صلى الله عليه وسلم، وفيه: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثوا إلى أبي عبيدة بن الجراح، وكان يضرح كضريح أهل مكة، وبعثوا إلى أبى طلحة، وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة وكان يلحد، فبعثوا إليهما رسولين، فقالوا: اللهم خر لرسولك، فوجدوا أبا طلحة، فجيء به، و لم يوجد أبو عبيدة، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم... الحديث.، وأحمد في "المسند" (1/8) مختصرًا، و(1/260) مطولاً، و(1/292)، وابن سعد في "الطبقات" (2/298)، وأبو يعلى في "المسند" (4/396 رقم (2518)، والبيهقي في "الكبرى" (3/407-408) كتاب الجنائز، باب السنة في اللحد.
قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/541): ((هذا إسناد فيه الحسين بن عبدالله بن عبيد الله بن عباس الهاشمي، تركه الإمام أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني والنسائي وقال البخاري: إنه كان يتهم بالزندقة، وقواه ابن عدي، وباقي رجال الإسناد ثقات)).اهـ.
قال الحافظ في "التلخيص" (2/258): ((وفي إسناده ضعف)).
وله شاهد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أخرجه: ابن ماجه (1/496 رقم1557) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الشق، وأحمد في "المسند"(3/139)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (7/260- 261). قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/507): ((هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات)).اهـ. وفي "التلخيص" (2/128) قال الحافظ: ((وإسناده حسن)).اهـ.
أما حديث عائشة رضي الله عنها فأخرجه ابن ماجه (1/497 رقم1558) بنحوه، والطيالسي في "المسند" (ص205 رقم1451) مختصرًا، وابن سعد في "الطبقات" (2/295) بنحوه. قال الحافظ في "التلخيص" (2/257) عن إسناد ابن ماجه: ((وإسناده ضعيف)).
(7) في (ح): ((فلحدوا)).
(8) في (ح): ((واشتوروا)).
(9) قوله: ((قميصه)) مطموس في (ح).
(10) (ص185 رقم25) كتاب الجنائز، باب ما جاء في دفن الميت، عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين... الحديث، وفيه: فلما كان عند غسله أرادوا نزع قميصه، فسمعوا صوتًا يقول: لا تنزعوا القميص، فلم يُنزع القميص، وغسل وهو عليه صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه أيضًا ابن سعد في "الطبقات" (2/276) من طريق مالك بلاغًا.
وقد ذكر ابن عبدالبر هذا الحديث في "التمهيد" (24/394)، و"الاستذكار" (8/286)، وقال في "التمهيد": ((هذا الحديث لا أعلمه يروى على هذا النسق بوجه من الوجوه غير بلاغ مالك هذا، ولكنَّه صحيح من وجوه مختلفة، وأحاديث شتّى جمعها مالك، والله أعلم)).اهـ.
(11) قوله: ((الشبان)) سقط من (ب) و(ح) و(س) و(ز).
(12) قوله: ((النساء)) كتب بهامش (أ) ووضع فوقه (خ) في إشارة إلى أنه في نسخة أخرى.
(13) ورد بذلك عدة أحاديث، منها: حديث سالم بن عبيد الأشجعي، وفيه: قالوا: ياصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أَيُصلَّى على رسول الله ؟ قال: نعم، قالوا: وكيف ؟ قال: يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون، ثم يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون، حتى يدخل الناس...الحديث.
أخرجه الترمذي في "الشمائل" (ص308 رقم 379) باب ما جاء في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي في "الكبرى" (4/263 رقم 7119) كتاب الوفاة، باب كيف صُلِّي على الرسول صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه (1/390 رقم1234) كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، والطبراني في "الكبير" (7/65 رقم 6367)، وابن عبد البر في "التمهيد" =
=(24/497)، وعبد بن حميد في "المنتخب" (142 رقم365)، وابن خزيمة فى "صحيحه" (3/20 رقم1541) كتاب الصلاة، باب إجازة صلاة المأموم عن يمين الإمام إذا كانت الصفوف خلفهما. وقد صحح هذا الحديث عدد من أهل العلم، حيث ذكره ابن خزيمة في "صحيحه)). وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/405 رقم1234): ((هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات)).اهـ. وصححه الألباني في "مختصر الشمائل المحمدية" (ص198 رقم333).(2/624)
سبب ذلك على أقوال:
فقيل (1) : لأنهم لم يكن لهم إمام، وهذا خطأ ؛ فإن إمامة الفريضة لم تتعطل، ولأن البيعة لأبي بكر رضي الله عنه تمت (2) قبل دفنه، وهو إمام الناس.
وقيل: بل صُلِّي عليه كذلك (3) ليأخذ كل الناس (4) بنصيبه (5) من الأجر والفضل.
ومات صلى الله عليه وسلم (6) يوم الاثنين، وأُخِّرَ دفنُه إلى يوم الثلاثاء، وأُخِّر دفنه (7) ؛ لأنهم اشتغلوا بأمر الإمامة ؛ لأنهم خافوا ثَوَرَانَ فتنةٍ (8) .
46- وَعَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ (9) قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ: أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَلا أَدَعَ تِمْثَالاً إِلا طَمَسْتَهُ وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَلا صُورَةً إِلا طَمَسْتَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و((التِمْثَال)): مثال صورة ما فيه روح، وهو يعمّ ما كان متجسِّدًا، وما كان مصوَّرًا في رَقْمٍ أو نقشٍ، ولا سيما وقد رُوي: ((صُورَةً)) مكان ((تِمْثَال)).
وقيل: إن المراد به هنا (10) ما كان له شخص وجسد؛ دون ما كان في ثوب أو حائط منقوشًا (11) ، وسيأتي الكلام عليهما.
وحاصل هذا الحديث: الأمر بتغيير (12) الصور مطلقًا، وأنّ إبقاءها (13) كذلك (14) منكَرٌ. و((طمسها)): تغييرها، وذلك (15) يكون (16) بقطع رؤوسها وتغيير وجوهها، وغير ذلك مما يُذْهِبُها.
وقوله: ((وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ))؛ ظاهره: منع (17) تسنيم القبور ورفعها، وأن تكون لاطية (18) ، وقد قال به بعض أهل العلم. وذهب الجمهور: إلى أن هذا (19) =(2/625)=@
__________
(1) قوله: ((فقيل)) ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ز) و(س): ((لثبتت))، وفي (أ): ((قلت)).
(3) في (ز): ((لذلك)) رسمت هكذا.
(4) في (ح): ((كل من الناس)).
(5) في (ب): ((نصيبه)).
(6) في (ح): ((ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - )).
(7) قوله: ((وأخر دفنه)) سقط من (ح).
(8) في (ب): ((فتننة)).
(9) أخرجه مسلم (2/666رقم969) في الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر.
(10) في (ب): ((ها هنا)).
(11) في (ب): ((أو منقوشًا في حائط)).
(12) في (ز): ((بتغيّر)).
(13) في (ز): ((بقاءها)).
(14) قوله: ((كذلك)) سقط من (ب).
(15) من قوله: ((وسيأتي الكلام...)) إلى هنا ليس في (ح).
(16) في (ح): ((وقد روي يكون)).
(17) في (ح): ((يمنع)).
(18) في (ب): ((لاطية بالأرض)).
(19) قوله: ((وأن هذا)) لم يتضح في (ز).(2/625)
الارتفاع المأمور بإزالته ليس هو التسنيم، ولا ما يعرف به القبر كي يحترم، وإنما هو الارتفاع الكثير الذي كانت الجاهلية تفعله. فإنها كانت تُعلي عليها (1) ، وتَبني فوقها ؛ تفخيمًا لها وتعظيمًا، وأما تسنيمها: فذلك صفة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، على ما ذكر في "الموطأ" (2) .
وقد جاء عن عمر رضي الله عنه: أنه هدمها، وقال: ينبغي أن تسوَّى تسويةَ تسنيمٍ. وهذا معنى قول الشافعي رحمه الله: تُسَطَّح القبور ولا تُبنى ولا تُرفع، وتكون على وجه الأرض، وتسنيمها اختيار أكثر العلماء وجملة أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة والشافعي.
قال الشيخ رحمه الله: والذي صار إليه عمر رضي الله عنه أولى، فإنه جمع بين التسوية والتسنيم.
47- وَعَنْ جَابِرٍ (3) قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((نَهَى (4) أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ ويُبْنَى عَلَيْهِ))؛ التجصيص والتقصيص: هو البناء بالجصّ، وهو القَصّ والقَصّة، والجصاص والقصاص واحد، فإذا خلط الجصُّ بالرماد فهو الجيّار، ذكر معنى ذلك أبو عبيد وابن الأعرابي، وقد تقدَّم في الحيض ذكر القصّة البيضاء.
وبظاهر هذا الحديث قال مالك، فكَرِه (5) البناء والجصّ على القبور، وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه.
ووجه النهي عن =(2/626)=@
__________
(1) في (ب): ((عليه)).
(2) لم أقف عليه في رواية يحيى بن يحيى للموطأ، وقد أخرج هذا الخبر البخاري (3/255) كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
(3) أخرجه مسلم (2/667 رقم970/94) في الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه.
(4) قوله: ((نهى)) سقط من (ب)، وفي مكانه إشارة لحق ولم يظهر بالهامش.
(5) في (ب) و(ح): ((وكره))، وفي (ز) و(س): ((يكره)).(2/626)
البناء والتجصيص في القبور، أن ذلك مباهاة واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبُّه (1) بمن كان يعظّم القبور ويعبدها (2) . وباعتبار هذه المعاني، وبظاهر هذا النهي ؛ ينبغي أن يقال: هو حرام، كما
قد قال به (3) بعض أهل العلم.
وقوله: ((وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ))، وقوله: ((لا تجلسوا على القبور)) (4) ، وقوله: ((لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه؛ خير له من أن يجلس على قبر)) (5) . اختلف في معناه: فمنهم من حمله على ظاهره من الجلوس، ورأى أن القبر يحترم (6) ، كما يحترم (7) المسلم المدفون فيه، فيعامل بالأدب، وبالتسليم عليه، وبغير ذلك. ومنهم من تأوَّله على أنه كناية عن إلقاء (8) الحدث في القبور، وهو تأويل مالك (9) . ولا شك في أن التخلي على القبور وبينها ممنوع، إما بهذا الحديث، وإما بغيره ؛ لحديث (10) الملاعن الثلاث (11) ، فإنه مجلس الزائر للقبور (12) ، فهو في معنى التخلّي في الظِلال، والطرق والشجر المثمر (13) ، وغير ذلك (14) ، ولأن ذلك استهانة بالميت المسلم، وأذى لأوليائه (15) الأحياء، والله أعلم.
48- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (16) قَالَ:((جُعِلَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:((جُعِلَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَطِيفَةٌ (17) حَمْرَاءُ))؛ هذه القطيفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (18) يلبسها ويفترشها، فلما مات اختَلَف في أخذها (19) عليٌّ وعبَّاس، وتنازعا فيها، فأخذها شُقران وجعلها في القبر، وقال: ((والله لا يلبسها أحدٌ بعده أبدًا)) (20) .
وقيل (21) : إنما جعلت في قبره ؛ لأن المدينة سَبِخَةٌ، والله تعالى أعلم. =(2/627)=@
__________
(1) في (ح): ((وتشببه)) وفي (ز): ((ويشبه)).
(2) في (ز): ((ويعيدها)).
(3) قوله: ((به)) ليس في (أ) و(ز) و(س).
(4) سيأتي في باب النهي عن الجلوس على القبور والصلاة إليها.
(5) سيأتي في باب النهي عن الجلوس على القبور والصلاة إليها.
(6) في (ز): ((تحترم)).
(7) في (ز): ((تحترم)).
(8) في (أ): ((إبقاء)).
(9) في "ألموطأ" كتاب الجنائز، باب الوقوف على للجنائز والجلوس على المقابر، قال: ((وإنما نُهي عن القعود على القبور فيما نُرى للمذاهب)).اهـ.
قال ابن عبالبر في "الاستذكار" (8/307): ((يريد حاجة الإنسان)).اهـ، وانظر ردّ ابن حزم عليه في "المحلى" (5/136).
(10) في (ب): ((فحديث)).
(11) أخرجه أبو داود (رقم26) كتاب الطهارة، باب المواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول فيها، ولفظه: ((اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل))، وابن ماجه (1/119 رقم 328) كتاب الطهارة وسننها (1)، باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق، والطبرانى في "الكبير" (20/123رقم247)، والخطابي في "غريب الحديث" (1/107)، والحاكم في "المستدرك" (1/167)، كتاب الطهارة، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، و لم يخرجاه "، وأقره الذهبي، والبيهقى في "الكبرى" (1/97) كتاب الطهارة، باب النهي عن التخلي في طريق الناس وظلهم.
رووه جميعًا من طريق نافع بن يزيد قال: حدثني حيوة بن شريح أن أبا سعيد الحميري حدثه عن معاذ به.
قال الحافظ في "التلخيص" (1/184): ((صححه ابن السكن والحاكم وفيه نظر ؛ لأن أبا سعيد لم يسمع من معاذ، ولا يعرف هذا الحديث بغير هذا الإسناد، قاله ابن القطان)).اهت.
ولكن حسن الحديث بشواهده الشيخ الألباني في "الإرواء" (1/100).
(12) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((للقبر)).
(13) في (أ): ((المثمرة)).
(14) قوله: ((وغير ذلك)) ليس في (ز) و(س).
(15) قوله: ((وأذى لأوليائه)) دخل بين الكلمتين سواد طمس بعض جزءٍ فيهما في (ز).
(16) أخرجه مسلم (2/665 رقم967) في الجنائز، باب جعل القطيفة في القبر.
(17) لم يتضح قوله: ((قطيفة في (ز).
(18) في (ز) و(س): ((كان النبي صلى الله عليه وسلم)).
(19) في (ح): ((فيها فأخذها)).
(20) أخرجه ابن أبي شيبة (3/25 رقم11754) كتاب الجنائز، باب في اللحد يوضع فيه شيء يكون تحت الميت، والترمذي (3/365 رقم1047) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الثوب الواحد يلقى تحت الميت في القبر، كلاهما من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، قال... الحديث. قال الترمذي: ((حديث شقران حديث حسن غريب))، وأورده الحافظ في "التلخيص" (2/262) وسكت عليه. وهو مرسل كما ترى.
وأخرجه ابن ماجه (1/520-521 رقم1628) كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم من طريق حسين بن عبدالله، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قال البوصيري في "الزوائد" (1/542): ((هذا إسناد فيه الحسين بن عبدالله بن عبيدالله الهاشمي: تركه الإمام أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني والنسائي. وقال البخاري: ((يقال إنه كان يتهم بالزندقة، وقواه ابن عدي، وباقي رجال الإسناد ثقات)).اهـ.
(21) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/25) كتاب الجنائز، باب في اللحد يوضع فيه شيء يكون تحت الميت، عن الحسن قال: جعل في لحد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء، كان أصابها يوم حنين - وفي نسخة: خيبر -، قال: فجعلوها ؛ لأن المدينة أرض سبخة.
وذكر أبو داود في المراسيل (ص299)، باب ما جاء في الدفن.(2/627)
*************
( 17 ) باب النهي عن الجلوس على القبور والصلاة إليها
49- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ، فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ)).
50- وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ (2) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((لا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ، وَلا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن الجلوس على القبور والصلاة إليها (3)
قوله: ((لا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ))؛ أي (4) : لا تتخذوها قبلة، وهذا مثل ما قدَّمناه (5) في النهي عن اتخاذ قبره مسجدًا، وفي ذمّ اليهود بما فعلوا من ذلك، وكلّ ذلك لقطع الذريعة أن يعتقد الجهَّال في الصلاة إليها أو عليها الصلاة لها، فيؤدِّي إلى عبادة من فيها؛ كما كان السبب في عبادة الأصنام. =(2/628)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/667 رقم971) في الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه.
(2) أخرجه مسلم (2/668 رقم972) في الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه.
(3) في (ز) و(س): ((عليها)).
(4) في (ب): استعاض عنها بواو العطف.
(5) في (ب) و(ز) و(س): ((قدمنا)).(2/628)
*************
( 18 ) باب الصلاة على الميت في المسجد
51- عَنْ عَائِشَةَ (1) أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ: ثُمَ خُرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ إِلَى الْمَقَاعِدِ، فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ عَلَيْهِم، وَقَالُوا: مَا كَانَتِ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجِدَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ. عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِجَنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إِلا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: وَاللهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ، سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإنكار الناس إدخال الميت في المسجد يدلّ على أن العمل المستمرَّ كان على خلاف ذلك، وأن الصلاة على سهيل (2) وأخيه في المسجد إما منسوخ كما قاله الطحاوي، وأن الترك آخر (3) الفعلين، وإما أن يكون خاصًّا بهما، وهذا العمل هو مُتمَسَّك من منع ذلك، وما تقدَّم من خروج النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة على النجاشيِّ من المسجد، وهم جماعة منهم: مالك في المشهور عنه، وبعض أصحابه، وأبو حنيفة، وابن أبي ذئب (4) ، والطحاوي.
وقد دلّ على المنع أيضًا ما خرَّجه أبو داود (5) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((من صلّى على جنازة في المسجد فلا شيء له)) (6) ، وفي إسناده صالح مولى التوأمة (7) ، وكان قد اختلط حديثُه بأخَرَة، فقال مالك فيه (8) : ليس بثقة. وقال فيه غيره: وحديثه قبل الاختلاط صحيح.
وهذا الحديث مما رواه عنه ابن أبى ذئب (9) قبل الاختلاط؛ على ما قاله أبو أحمد بن عدي وغيره من أئمة المحدثين.
وقد اعتضد المانع أيضًا بأن (10) الميت نجس، فلا يُدْخل المسجد. وقد اختلف في نجاسة الميت قول مالك، والشافعي، وأصحابهما، وقال بعض المتأخرين: الخلاف إنما يصحّ في المسلمين لا الكافرين، فإنهم متّفقون (11) على نجاسة (12) الميت منهم، وهذا القول حسن ؛ لأنه (13) قد تقرر الإجماع على أن الموت بغير ذكاة سبب التنجيس فيما له نفس سائلة مطلقًا، وهذا يقتضي تنجيس =(2/629)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/668-669 رقم973/100 و101) في الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد.
(2) في (ب): ((سهيل بن بيضاء)).
(3) في (ز) و(س): ((أحد)).
(4) في (ز) و(س): ((ذويب)).
(5) "السنن" (رقم 3191) كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد، إلا أن الذي في النسخة المطبوعة بتحقيق الدعاس: ((فلا شيء عليه))، وفي نسخة ((بذل المجهود)) (14/158): ((فلا شيء له))، وأما نسخة "عون المعبود"(8/479) و"تلخيص المنذري" (4/325)، ففيهما: ((فلا شيء عليه)). وقد قال المنذري في "التلخيص" عقب الحديث: «قال الخطيب: كذا في الأصل ؛ أي بلفظ: عليه».اهـ. ثم قال بعد ما ساق ترجيح جواز الصلاة على الجنازة في المسجد: «وقال غيره: ((لا شيء له ))؛ أي: لا شيء عليه، كما قال تبارك وتعالى: {وإن أسأتم فلها}» [سورة الإسراء، آية: 7]. وقال العظيم آبادي في "العون": «فلا شىء عليه، هكذا وقع في نسختين عتيقتين لفظة: ((عليه))، ووقع في نسخة عتيقة لفظة: ((له))».اهـ.
وأما ابن القيم، فقال في "تهذيب السنن": هذا الحديث فيه أربعة ألفاظ:
أحدها: ((فلا شيء)) فقط، وهو في بعض نسخ "السنن".
اللفظ الثاني: ((فلا شيء عليه))، وهى رواية الخطيب.
اللفظ الثالث: ((فلا شيء له))، وهى رواية ابن ماجه.
اللفظ الرابع: ((فليس له أجر))، ذكره أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد"، وقال: هو خطأ، لا إشكال فيه، والصحيح: ((فلا شيء عليه)). قال ابن القيم: ((وهذا الذي ذكره أبو عمر هو الصواب)).اهـ.
والحديث أخرجه أيضًا: - ابن ماجه (1/486 رقم 1517) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الجنائز فى المسجد، وفيه: ((فليس له شيء "، وأحمد فى "المسند" (2/444- 455 و505) بنحو لفظ ابن ماجه، وعبد الرزاق في "المصنف" (3/527 رقم 6579)، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد، بنحوه، وابن أبى شيبة في "المصنف" (3/47) كتاب الجنائز، باب من كره الصلاة على الجنازة في المسجد، بنحوه، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/492)، وفيه: ((فلا شىء له "، وابن حبان في "الضعفاء" (1/366)، وقال: « هذا خبر باطل، كيف يخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن المصلى فى المسجد على الجنازة لا شيء له من الأجر، ثم يصلي هو صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء في المسجد؟ وابن عدي في "الكامل" (4/56)، وأبو نعيم في "الحلية" (7/93)، وابن حزم في "المحلى" (5/163)، وقال: ((لم يروه إلا صالح مولى التوأمة، وهو ساقط، والبيهقي في "الكبرى" (4/52) كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد، وقال: ((هو مما يعد في أفراد صالح، وحديث عائشة رضي الله عنها أصحّ منه، وصالح مولى التوأمة مختلف في عدالته، وكان مالك بن أنس يجرحه)).اهـ، والبغوي في "شرح السنة" (5/352 رقم 1493) كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد، قال: وفي رواية: ((فليس له أجر))، وقال: ((هذا ضعيف الإسناد)).
(6) قال النووي في "المنهاج" (7/40): ((الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من "سنن أبي داود": ((ومن صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه))، ولا حجة لهم حينئذ فيه)).اهـ.
(7) في (أ): ((التومة)).
(8) في (ب): ((فقال فيه مالك)).
(9) في (ز) و(س): ((ذويب)).
(10) في (س) و(ز): ((فإن)).
(11) في (ب) و(ح): ((متفق)).
(12) في (ب) و(ز) و(س) و(ح): ((تنجيس)).
(13) في (س): ((لأنهم)).(2/629)
الميت المسلم؛ إلا أنه قد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (1) : ((المؤمن (2) لا ينجس)) (3) ، فهل يُحمل هذا على أنه لا ينجس حيًّا ولا ميتًّا، فيستثنى (4) من تلك القاعدة الكلية؟ أو يحمل على أنه لا ينجس ما دام حيًّا؟ وهو الذي خرَّج عليه الحديث، وتحمل تلك القاعدة الكلية على أصلها، ويبقى (5) الكافر على أصل القاعدة، وإنما الخلاف في نجاسة عين الكافر في حال حياته، فقال بنجاسته: الشافعي (6) وغيره (7) ؛ تمسُّكًا (8) بقوله تعالى: {إنما المشركون نجس} (9) ، وقال مالك وغيره بطهارته تمسُّكًا (10) بنوع من القياس، وهو (11) المسمَّى بقياس العكس عند بعض (12) أصحابنا، وهو (13) من باب قياس الدَّلالة.
تلخيصه أن يقال: لما كان الموت علّة التنجيس شرعًا؛ لزم أن تكون الحياة علة الطهارة شرعًا (14) ؛ ضرورة عدم الواسطة بين التنجيس (15) والطهارة، وقد استدلّ بعض أصحابنا على ذلك بقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} (16) ، وتقرير الحجة فيه (17) فيه (18) طول، وموضعه الفقه.
وقد تأوّل أصحابنا قوله تعالى: {إنما المشركون نجس}، بأن (19) معنى ذلك أنهم لا ينْفَكُّون عن النجاسة ؛ لعدم تحرُّزِهم منها. ومنهم من حمله على معنى الذمّ.
ثم نرجع إلى أصل المسألة ونقول: لوسلمنا أن الميت (20) ليس بنجس؛ فلا ينبغي أن يدخل المسجد ؛ لإمكان أن ينفصل منه شيءٌ من النجاسات، فيتلطخ المسجد. وقدتمسك من أجاز إدخال الميت في المسجد للصلاة عليه بما تمسكت به عائشة رضي الله عنها، ورأوا أنه حكم متعدٍّ لغير سهيل وأخيه، وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صلّى على جنازة في المسجد فلا شيء له))؛ على (21) أن معناه: فلا شيء عليه؛ كما قال تعالى: {وإن أسأتم فلها} (22) ؛ أي:عليها، وممن ذهب إلى جواز ذلك الشافعي في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق وابن حبيب من =(2/630)=@
__________
(1) سبق في آخر أبواب كتاب الطهارة.
(2) في (ب) و(س): ((إن المؤمن)).
(3) سبق تخريجه في آخر أبواب كتاب الطهارة.
(4) في (ز): ((ويستثنى)).
(5) في (ب): ((فيبقى)).
(6) تعقب الحافظ في "الفتح" (1/391) المصنف، فقال: ((وأغرب القرطبي في الجنائز من شرح مسلم، فنسب القول بنجاسة الكافر إلى الشافعي)).اهـ. وفي "الأم" (1/54) قال الشافعي: لأنه ليس في الأحياء من الآدميين نجاسة.اهـ.
(7) جزم ابن حزم في "المحلى" (1/183) بذلك، فقال: ((كل شيء من الكافر نجس، ومن المؤمن طاهر)).اهـ.
(8) في (ح): ((متمسكًا)).
(9) سورة التوبة، الآية: 28.
(10) في (ح): ((متمسكًا)).
(11) في (س): ((وهم)).
(12) سقط من (ح).
(13) في (ب): ((وهذا)).
(14) قوله: ((شرعًا)) سقط من (ح).
(15) قوله: ((التنجيس)) غير واضح في (ح).
(16) سورة الإسراء، الآية: 70.
(17) في (ح): ((فيهما)).
(18) قوله: ((فيه)) سقط من (أ) و(ب) و(س) و(ز).
(19) في (ز) و(س): ((فإن)).
(20) في (ب): ((الميت المؤمن)).
(21) قوله: ((على)) ليس في (ب).
(22) سورة الإسراء، الآية: 7.(2/630)
أصحابنا والقاضي إسماعيل. قال أبو عمر: ورواه المدنيون عن مالك. ويعتضد هؤلاء بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما صُلّي (1) عليه في المسجد، على ما ذكره مالك (2) عن ابن عمر.
وأما صلاة المصلّي (3) في المسجد على الجنازة: فأجازها مالك إذا ضاق الموضع واتصلت الصفوف، وكرهه مع عدم ذلك. ومستندها (4) خروج النبي صلى الله عليه وسلم والناس من المسجد للصلاة على (5) النجاشي (6) ؛ كما تقدَّم (7) .
وقولها: ((فَوُقِفَ بِهِ (8) عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ))؛ أي: يدعون له، وهذا بعد أن صلي عليه الصلاة الجامعة.
ويحتمل أن تكون هذه الصلاة هي الصلاة الجامعة (9) ، ويكون معنى (10) قولها (11) : ((فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ)) على هذا؛ أي: حُبِسَ بين حجرهن حتى يجتمع الناس للصلاة عليه، فيُصَلِّين عليه في جملة الناس، والله تعالى أعلم. =(2/631)=@
__________
(1) قوله: ((صُلي)) ضبطت في (ح) بضم الصاد، وفي (أ) و(ب) و(ز) بفتح الصاد، ولم تضبط في (س).
(2) "الموطأ" (1/230 رقم23) كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز في المسجد، عن نافع عن ابن عمر. وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" (3/526 رقم 6577) كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة فى المسجد، من طريق مالك، وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/47) كتاب الجنائز، باب في الصلاة على الميت في المسجد، من لم يَرَ به بأسًا، وابن المنذر في "الأوسط" (5/415)، والحاكم في "المستدرك" (3/292) كتاب "معرفة الصحابة" رضي الله عنهم، من طريق عبيدالله بن عمر، عن نافع، وفيه: ((صلى عليه صهيب رضي الله عنه))، والبيهقى في "الكبرى" (4/52) كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد، من طريق عبيد الله بن عمر، به.
وإسناد مالك هو سلسلة الذهب المشهورة، فهو من أصحّ الأسانيد وأقواها، وقد قال البغوي فى "شرح السنة" (5/351): ((وثبت أن أبا بكر وعمر صُلِّيَ عليهما في المسجد)).ا.هـ. وكذا قال الخطابي في "معالم السنن" (4/324)، وأضاف: ((ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، ففي تركهم إنكاره دليل على جوازه)).اهـ. ونحو ذلك قال ابن عبد البر في "التمهيد" (21/222)، و"الاستذكار" (8/273).
(3) في (ح): ((المصلي على الميت)).
(4) في (ح): ((ومستندهما)).
(5) قوله: ((على)) سقط في (ز) و(س).
(6) في (س): ((للنجاشي)).
(7) في (ز) و(س): ((على ما تقدم)).
(8) في (ز) و(س): ((بها)).
(9) قوله: ((تكون هذه الصلاة هي الصلاة الجامعة و)) ليس في (أ).
(10) في (ز) و(س): ((صلى عليه الصلاة الجامعة ويكون معنى)) وفي (أ): ((ويحتمل أن تكون معنى)).
(11) في (أ) و(ح) (ز) و(س): ((قوله)).(2/631)
قال الشيخ رحمه الله: وظاهره (1) أنهن صلَّين عليه صلاة أخرى، وفيه حجّة (2) لمن قال بجواز إعادة الصلاة على الميت كما تقدَّم (3) .
**************
( 19 ) باب زيارة القبور والتسليم عليها والدعاء والاستغفارللموتى
52- عَنِ بُرَيْدَةَ (4) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلا فِي سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِي الأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب زيارة القبور
قوله:((فَزُورُوهَا))؛ نصٌّ في النسخ للمنع المتقدم، لكن اختلف العلماء: هل هذا النسخ عام للرجال والنساء، أم هو خاص بالرجال، وبقي حكم النساء على المنع؟
والأول أظهر، وقد دلّ على صحة ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد رأى امرأة تبكي عند (5) قبر فلم ينكر عليها الزيارة، وإنما أنكر عليها البكاء، كما تقدّم. =(2/632)=@
__________
(1) في (ز): ((فظاهره)).
(2) في (ح): ((دليل)).
(3) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(4) أخرجه مسلم (2/672 رقم977/106) في الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عَزَّ وَجَلَّ في زيارة قبر أمه.
و(3/156 رقم 977/106) كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، بلفظه، و(3/1564) الباب المتقدم، قال: ((كنت نهيتكم))، فذكر بمعنى حديث أبي سنان، و(3/1584 رقم977/63) كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير، وبيان أنه منسوخ، وأنه اليوم حلال ما لم يصِر مُسكِرًا، مختصرًا بذكر الانتباذ فقط.
(5) في (ب): ((على)).(2/632)
53- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ: زَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ:((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في الحديث الآتي: ((زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ)) (2) ؛ وتذَكُّر الموت (3) يحتاج إليه الرجال والنساء، على أن أصحّ ما في نهي النساء عن زيارة القبور ما أخرجه (4) الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوَّارات القبور))، صححه الترمذي (5) ، على أن في إسناده عمر بن أبي سلمة، وهو ضعيف عندهم.
ثم إن هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة ؛ لأن ((زوارات)) للمبالغة (6) ، ويمكن أن يقال: إن النساء إنما يُمنَعن (7) من إكثار الزيارة ؛ لما يؤدي إليه الإكثار من تضييع حقوق الزوج، والتبرج، والشهرة، والتشبه بمن يلازم القبور لتعظيمها، ولما يخاف عليها من الصراخ، وغير ذلك من المفاسد. وعلى هذا يفرِّق بين الزائرات والزوارات (8) .
والصحيح نسخ المنع، عن الرجال والنساء، كما تقدم (9) .
وسيأتي القول على نسخ منع ادخار لحوم الأضاحي، ومنع الانتباذ في الحنتم والدُّباء (10) والمزفت في بابهما.
وقد زاد (11) مالك (12) في هذا الحديث: ((ولا تقولوا هُجْرًا))، وهو الفحش من القول، كالنوح والترنم به وغير ذلك، وبكاؤه صلى الله عليه وسلم على قبر أمه؛ إنما كان لما فاتها من أيامه، ومن الإيمان به.
وقوله:((فاسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي))، يحتمل أن يكون هذا =(2/633)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/671 رقم976/108) في الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عَزَّ وَجَلَّ في زيارة قبر أمه.
(2) قوله: ((زوروا القبور فإنها تُذكِّر الموت)) سقط من (ز) و(س).
(3) قوله: ((الموت)) سقط من (ب).
(4) في (ب): ((ما خرجه)).
(5) في "الجامع" (3/371 رقم1056) كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء، عن أبى هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور))، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح)).
وأخرجه أيضًا: ابن ماجه (1/502 رقم1576) كتاب الجنائز، باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز، بنحوه، وأحمد في "المسند" (2/337) بلفظه، و (2/356) بنحوه، والطيالسي في "المسند" (311 رقم 2358)، وأبو يعلى في "المسند" (10/314 رقم 5908)، وابن حبان - كما في إلاحسان - (5/71 رقم 3168) كتاب الجنائز، فصل في زيارة القبور، والبيهقى (4/78) كتاب الجنائز، باب ما ورد في نهيهم عن زيارة القبور.
كلهم من طريق أبي عوانة، به - وعندهم جميعًا غير الإمام أحمد: ((لعن الله)) -.
وقد قال البغوي عن الحديث في "شرح السنة"(2/417): ((وقد صح عن أبي هريرة...)).اهـ. كما أن ابن حبان ساقه في "صحيحه". وقال الشيخ الألباني في كتاب "أحكام الجنائز" (ص185): ((ورجال إسناد الحديث ثقات كلهم، غير أن في عمر بن أبي سلمة كلامًا، لعل حديثه لا ينزل به عن مرتبة الحسن، لكن حديثه هذا صحيح ؛ لما له من الشواهد)).اهـ.
(6) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (24/354) عن طائفة، منهم إسحاق بن راهويه أن اللعن قد جاء بلفظ الزوارات، وهن المكثرات للزيارة، قال: ((فالمرة الواحدة في الدهر لا تتناول ذلك، ولا تكون المرأة زائرة - كذا، ولعلها زوَّارة -، وعائشة رضي الله عنها زارت مرة واحدة، ولم تكن زوَّارة)).اهـ.
(7) في (ز) و(س): ((منعن)).
(8) في (ز): ((والزورات)) رسمت هكذا.
(9) في (ح) زيادة: ((والله تعالى أعلم)).
(10) قوله: ((الدباء)) سقط من (ح).
(11) قوله: ((زار)) فوقها سواد في (ز).
(12) الذي وقفت عليه عند الإمام مالك ليس من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، وإنما هو من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه."الموطأ" (2/485 رقم8) مكرر، كتاب الضحايا، باب ادخار لحوم الضحايا، عن ربيعة بن عبدالرحمن، عن أبي سعيد الخدري، فذكره وفي آخره: ((ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هُجرًا))، يعني: لا تقولوا سوءًا.
وهذه الزيادة أخرجها من حديث أبي سعيد رضي الله عنه كما عند مالك ،وأحمد في "المسند" (3/63و66)، كلاهما من طريق محمد بن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي سعيد، وفي سياق الإسناد قصة، واللفظ جاء في عجز الحديث، والبيهقي في "الكبرى" (4/77) كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، من طريق مالك به، وقال البيهقي: ((هذا حديث مرسل، وربيعة لم يدرك أبا سعيد)).(2/633)
الاستئذان قبل نزول قوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} (1) ، ويحتمل أن يكون بعد ذلك، وارتجى خصوصية أمّه بذلك، والله أعلم.
وهذا التأويل الثاني أولى (2) .
54- عَنْ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسٍ بْنِ مَخْرَمَة بْنِ الْمُطَّلِبِ (3) أَنَهُ قَالَ يَوْمَاً: أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ أُمِّي قَالَ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: بَلَىَ قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ وَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فَلَيْسَ إِلا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ:((مَا لَكِ؟ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً)) قَالَتْ: قُلْتُ: لا بِي شَيْءَ. قَالَ: لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ:((فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُهُ أَمَامِي؟)) قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ:((أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟)) قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ. قَالَ:((نعم))، قَالَ:((فَإِنَّ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِي، فَأَخْفَاهُ مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ، فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي. فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وجَلَّ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ))، قَالَتْ: قُلْتُ كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ:((قُولِي السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلاحِقُونَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَسْأَلُ اللّه لَنَا وَلَكُم العَافِيَةَ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة رضي الله عنها: ((فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا رَيْثَمَا ظَنَّ أَني قَدْ رَقَدْتُ (4) ))؛ أي: مقدار ذلك، و ((رُوَيْدًا)) (5) ؛ أي: مترفقًا متمهلاً ؛ لئلا ينبهها، وهو مصدر في موضع الحال.
وقولها: ((ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا))؛ أي: أغلقه (6) بلطف ؛ لئلا تعلم بخروجه وبقائها في الليل وحدها، فتستوحش (7) وتذعر، وظاهر خروجها خلفه إنما كان لأنها ظنت خروجه إلى بعض أزواجه.
و ((الْبَقِيعَ)): هو بقيع الغرقد، وهو مدفن أهل المدينة (8) ، والغرقد: شجر العَوْسَج (9) . ومعنى: انحرف: مال (10) للرجوع، والهرولة: فوق الإسراع، والإحضار: فوق الهرولة. وكلها مراتب الجري. =(2/634)=@
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 113.
(2) زاد بعدها في (ز) و(س): ((والله أعلم)).
(3) أخرجه مسلم (2/669-701 رقم974/103) في الجنائز، باب مايقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها.
(4) في (ح): ((قدرت)).
(5) في (ح): ((أي: رويدًا)).
(6) في (أ): ((أغفله)).
(7) في (ز): ((تستوحش)) بلا فاء.
(8) قوله: ((وهو مدفن أهل المدينة)) سقط من (ز) و(س).
(9) في (ز): ((العوشج)) بالشين.
(10) تراجع في (ح) (ل/248/ب).(2/634)
وقوله:((يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً مَا لَكِ (1) ؟))؛ ((عَائِشُ)): منادى مرخَّم: و((حَشْيَا رَابِيَةً)): وقع بها الربو، وهو البُهْر الذي يلحق من الجري.
قال الهروي: يقال (2) : امرأة حشياء وحشية، ورجل حشيان (3) وحشٍ (4) .
وقولها في جوابها (5) : ((لأي شَيْءَ)). قيّد الأسدي هذا الحرف: ((لأيِّ شيء)) بالياء باثنتين، وخفض ((شيء)) على الاستفهام تغطية (6) لحالها، كأنها تقول: لايِّ شيء تسأل. ورواه العذري: ((لا بِي شَيْءَ)) بالباء بواحدة (7) ، ورفع شيء، على أن تكون (8) ((لا)) بمعنى ((ليس))؛ أي (9) : ليس بي شيء، وهي روايتنا، وفي بعض النسخ:((لا شيء))، وهي أقربها، و((السَّوَادُ)): الشخص. و ((لَهَدَنِي)): ضربني ودفعني. قال ابن القوطية: لَهدْتُه لَهْدًا: دفعته، وأَلْهَدْتُ به: قصرت به.
وقوله: ((أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟)) أي: يجور (10) ، وهذا يؤيد أنها ظنت أن قد سار (11) إلى بعض أهله.
وقوله: ((أُمرتُ أَنْ آتيَ (12) أَهْلَ الْبَقِيعِ وأَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ))؛ يدلّ على أنه دعا لأهل
البقيع واستغفر، وأن هذا هو (13) الذي عبّر عنه في الرواية الأخرى: ((يصلي)).
وقد =(2/635)=@
__________
(1) في (س) و(ز): ((خشيًا)).
(2) في (ب) و(ح): ((يقال فيه))، وفي (ز) و(س): ((يقال منه)).
(3) في (ز): ((خشيا وخشية ورجل خشيان)) بالخاء في جميعها.
(4) في (ب)ك ((وحشٌن))، وفي (ز) يشبه أن تكون((وحشنٍ)).
(5) في (ح): ((وجوابه))، وفي (أ): ((في جوابه)).
(6) في (ح): ((وخفض شيء على أن يكون تغطية)).
(7) في (ح): ((الواحدة)).
(8) في (أ) و(ح) و(ز): ((يكون)) بدون نقطتي الياء.
(9) قوله: ((ليس أي)) ليس في (ز) و(س).
(10) في (ز) يشبه أن تكون ((نجوت)) إلا أن النون لم تنقط [وتراجع].
(11) في (أ): ((صار)).
(12) في (س): ((أتى إلى)) وكأنه ضرب على ((إلى)).
(13) قوله: ((هو)) سقط من (ح).(2/635)
قيل: إنه صلّى عليهم صلاته على الجنازة، ويؤيد هذا القول: أنه قد جاء (1) في حديث مالك:((فأُصلّي عليهم (2) )). وقولها:((فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات)). ثم الذي يقول بهذا يرى أن ذلك خصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم. والأول أظهر، وهذا محتمل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ))؛ هذا يدل: على أن السلام على الموتى كالسلام على الأحياء ؛ خلافًا لمن قال: إن تحية الميت:((عليك السَّلامُ)) بتقديم ((عليك (3) ))؛ تمسكًا بما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سلّم رجلٌ عليه (4) فقال: عليك السلام يا رسول الله! فقال:((لا تقل: عليك السلام؟ فإن عليك السلام تحية الميت (5) )) (6) .
وهذا لا حجَّة فيه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما كره منه أن يبدأ (7) بـ((عليك السلام))؛ لأنه كذلك كانت تحية الجاهلية للموتى (8) ، كما قال شاعرهم (9) :
عليك سلام الله قيس بن عاصم (10) ... ورحمته ما شاء أن يترحّما
ومقصوده صلى الله عليه وسلم أن سلام المؤمنين (11) على الأحياء والموتى مخالف لما كانت الجاهلية تفعله وتقوله، والله أعلم.
وقد تقدّم قوله: ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) في الطهارة. وفي إسناد هذا الحديث قال ابن جريج: أخبرني عبد الله رجل من قريش، عن محمد (12) بن قيس بن =(2/636)=@
__________
(1) في (ب): ((هذا القول ما جاء)).
(2) في (ز) و(س): ((ما صلي عليهم)).
(3) في (ح): ((بتقديم عليك السلام)).
(4) في (ب): ((سلم عليه رجل)).
(5) في (ب): ((الموتى)).
(6) أخرجه أبو دارد (رقم 4084) كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار، في صدر حديث، و(رقم5209) كتاب الأدب، باب كراهية أن يقول: عليك السلام، باللفظ الذي ساقه المصنف هنا، والترمذي (رقم2722) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في كراهية أن يقول: عليك السلام مبتدئًا، وساق نحو ما ذكر المصنف، ثم ذكر قصة طويلة، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، و(رقم 2721) الباب المتقدم، من طريق أبي تميمة عن رجل من قومه، والنسائي في "الكبرى" (5/486 رقم9694) كتاب الزينة، باب الاختلاف على أبي إسحاق فيه، وفى "عمل اليوم والليلة " (280-281 رقم 317-320) باب كيف السلام، وأحمد فى "المسند" (3/482)، وعبدالرزاق في "المصنف" (10/384 رقم19434) كتاب الجامع، باب كيف السلام والرد،
وابن السني فى "عمل اليوم والليلة" (76 رقم 236) باب النهي عن أن يقول الرجل: عليكم السلام ابتداءً، والحاكم في "المستدرك" (4/186) كتاب اللباس، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه))، وأقره الذهبي، والبيهقي في "الكبرى" (10/ 236) كتاب الشهادات، باب شهادة أهل العصبية، وأقره الذهبي، وقال الترمذي: ((حديث حسن صحيح "، وفي "زاد المعاد" (2/420) قال ابن القيم: ((حديث صحيح)).اهـ، وقال ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (1/226): ((حديث حسن)).اهـ.
وذكر الشيخ الألباني طريق الحديث عند الترمذي، وقال: ((وإسناده صحيح على شرط البخاري)). "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (3/393 رقم1403).
(7) في (أ) و(ز) و(س): ((أن بدأ)).
(8) قال ابن القيم في "زاد المعاد" (2/421): «أشكل هذا الحديث على طائفة، وظنوه معارضًا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في السلام على الأموات بلفظ: ((السلام عليكم))، بتقديم السلام، فظنوا أن قوله: ((فإن عليك السلام تحية الموتى))، إخبار عن المشروع، وغلطوا في ذلك غلطًا أوجب لهم ظنّ التعارض، وإنما معنى قوله: ((فإن عليك السلام تحية الموتى))، إخبار عن الواقع لا المشروع، أي: أن الشعراء وغيرهم يحيون الموتى بهذه اللفظة... فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحيا بتحية الأموات، ومن كراهته لذلك لم يردّ على المسلِّم بها)).اهـ.
(9) هذا البيت لعبدة بن الطيب، من بني عبد شمس، يرثي قيس بن عاصم المنقري، ذكره عنه النضر بن شميل، كما في "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/234).
(10) وكتب ناسخ (ب) محتجًّا على هذا البيت، وقال: ((قيس بن عاصم هذا من خيار الصحابة رضي الله عنه وعنهم وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم هذا سيد أهل الوبر وهو سيد بني تميم فلا يصلح أن يقال فيه ما قال شاعر الجاهلية؛ لأنه مات في خلافة...)).
(11) في (ب) و(أ) و(ح): ((المسلمين)).
(12) في (ب): ((عمر)).(2/636)
مخرمة، هذا الرجل هو عبد الله بن أبي مُلَيْكَة على ما قاله النسائي (1) ، وأبو نعيم الجرجاني وأبو بكر وأبو عبيدالله (2) الجيزي (3) . وقال (4) الدارقطني: هو عبد الله بن كثير بن المطلب بن أبي ودَاعَة السهمي (5) .
************
( 20 ) باب فيمن لايصلى عليه
55- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (6) قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من لا يصلّى عليه
قوله: ((قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ))؛ كذا (7) صحيح الرواية فيه، وهو جمع مشقص، وهو السكين، على الخلاف الذي ذكرناه في كتاب الإيمان. وقد رواه الطبري: بمشقاص (8) ، بألف، وليس بشيء، وصوابه: مشقص. ولعل هذا القاتل لنفسه كان مستحلاً لقتل نفسه فمات كافرًا، فلم يصل عليه لذلك، وأما المسلم القاتل لنفسه فيصلّى عليه عند كافة العلماء، وكذلك المقتول =(2/637)=@
__________
(1) في "السنن" (4/91-92).
(2) في (ب) و(ز) و(س): ((عبدالله)).
(3) في (أ): ((الحربي)).
(4) في (ز) و(س): ((قال)) بلا واو.
(5) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(6) أخرجه مسلم (2/672 رقم978) في الجنائز، باب ترك الصلاة على القاتل نفسه.
(7) في (ب) و(ح): ((هكذا)).
(8) في (ب): ((بمشاقص)).(2/637)
في حدٍّ أو قصاص، ومرتكب (1) الكبائر وولد الزنى، غير أن أهل (2) الفضل يجتنبون الصلاة على المبتدعة والبغاة، وأصحاب الكبائر، ردّعًا لأمثالهم. ويجتنب الإمام خاصة الصلاة على من قتله في حدّ.
وحُكي عن بعض السلف خلافٌ في بعض صوره؛ فعن الزهري: لا يصلّى على المرجوم، ويصلّى على المقتول في قود. وقال أحمد: لا يصلّي الإمام على (3) قاتل نفس، ولا غالّ. وقال أبو حنيفة: لا يصلّى على محارب، ولا على من قُتل من الفئة الباغية، وقال الشافعي: لا يصلّى على من ترك الصلاة إذا قتل، ويصلّى على من سواه. وعن الحسن: لا يصلّى على النفساء تموت (4) من زنى، ولا على ولدها. وقاله قتادة في ولد الزنى. وعن بعض السلف خلاف في الصلاة على الطفل الصغير ؛ لما جاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على إبراهيم ابنه. وقد (5) جاء عنه: أنه صلّى عليه. ذكر الحديثين أبو داود (6) ، وقد علل ترك الصلاة عليه بعلل ضعيفة أشبهها: أنه لم يصل عليه بنفسه (7) ، لشغله بكسوف الشمس وصلّى عليه غيره، والله أعلم.
واختلفوا في الصلاة على السقط ؛ فذهب بعض السلف وفقهاء المحدِّثين إلى الصلاة عليه (8) ، والجمهور على أنه لا يصلّى عليه، حتى يستهل صارخًا، أو تُعرف (9) حياته.
وقال بعض السلف:يصلى عليه متى نُفخ فيه الروح،وتمت له أربعة أشهر. وأما المقتول في معترك العدوّ، فلا يُغَسَّل، ولا يُصلَّى عليه عند مالك، ويُفعل (10) ذلك به عند غيره. وفرَّق أبو حنيفة بين الغسل والصلاة، فأثبتها، وأسقطه.
واختلف أصحابنا لو كان الشهيد جنبًا، هل يُغسّل أم لا؟ قولان.
و((عبد الله بن أبيّ بن (11) سلول)): هو عبدالله بن أبي بن مالك، وسلول: أم =(2/638)=@
__________
(1) قوله: ((ومرتكب)) دخل عليه سواد طمس جزءًا في الكلمة في (ز).
(2) قوله: ((أهل)) سقط من (ح).
(3) قوله: ((على)) ليس في (ز) وفي مكانها ما يشبه اللحق ولم يتضح في الهامش.
(4) في (ز) و(س): ((بموت)).
(5) قوله: ((وقد)) سقط من (ب).
(6) أخرج أبو داود (رقم 3187) كتاب الجنائز، باب في الصلاة على الطفل، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها قالت:مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرًا، فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرج هذا الحديث: أحمد في "المسند" (6/267)، بلفظ مقارب، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/507) كتاب الجنائز، باب الطفل يموت، أيصلى عليه أم لا ؟ مختصرًا، وفي رواية أخرى ذكر مثله.
كلهم من طريق يعقوب بن إبراهيم به.
فهذا الإسناد رجاله ثقات سوى ابن إسحاق، فهو صدوق مدلس، كما تقدم، فأما تدليسه، فزال بتصريحه بالتحديث كما عند أبي داود وأحمد، فإسناد أبي داود لهذا الحديث حسن. وقد تكلم عدد من الأئمة عن هذا الحديث ؛ فقال ابن حزم فى "المحلى"(5/158): "هذا خبر صحيح "، وقال الخطابي فى "معالم السنن" (4/323): ((وإن كان حديث عائشة أحسن اتصالاً)).اهـ. يعني مما جاء في الصلاة عليه، وفي "الإصابة" (1/151) قال الحافظ: إسناده حسن، وصححه ابن حزم)).اهـ، وأما الإمام أحمد، فنقل عنه الحافظ في الموضع السابق أنه قال في رواية حنبل عنه: ((حديث منكر "، ونقل عنه ابن القيم في "الزاد" (1/514) أنه قال: ((هذا حديث منكر جدًّا "، ووهّى ابن إسحاق.
ورجح الألباني في "الجنائز" (ص80) أن إسناده حسن.
وأما ما ورد في الصلاة عليه، فقد جاء ذلك في أحاديث مسندة وأحاديث مرسلة، فالمسندة عن ابن عباس والبراء بن عازب وأنس وأبى سعيد الخدري رضي الله عنهم، والمرسلة عن عبدالله ابن يسار البهي، وعن عطاء، وعن أبي جعفر الباقر وغيرهم - رحمهم الله -.
فأما ما رواه أبو داود في "سننه" وعزاه له المصنِّف هنا، فهما روايتان مرسلتان:
الأولى - رواية البهي رحمه الله: "السنن" (رقم 3188) كتاب الجنائز، باب فى الصلاة على الطفل، قال: حدثنا هناد بن السري، حدثنا محمد بن عبيد، عن وائل بن داود، قال: سمعت البهي قال: لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقاعد. والمقاعد كما قال المنذري كما في "حاشية السنن" (3/529)، قال: ((أي كان منتهيا إلى موضع يسمى مقاعد بقرب المسجد الشريف، اتخذ للقعود فيه للحوائج والوضوء)).اهـ. وهذا الخبر أخرجه: البيهقي في "الكبرى" (4/9) كتاب الجنائز، باب السقط يغسل ويكفن ويصلى عليه، من طريق أبي داود به. قال المنذري في "مختصر السنن" (4/323): ((مرسل)).اهـ.
الثانية: رواية عطاء بن أبي رباح رحمه الله: "السنن" (رقم 3188) مكرر، الباب المتقدم، قال أبو داود: قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني، قيل له: حدثكم ابن المبارك، عن يعقوب بن القعقاع، عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى على ابنه ابراهيم وهو ابن سبعين ليلة. وهو عند البيهقي من طريق أبي داود في الموطن السابق.
الثالثة: رواية محمد بن علي بن الحسين رحمه الله - وليست عند أبي داود -: أخرجها ابن سعد في "الطبقات" (1/141)، قال: أخبرنا أبو بكر بن عبدالله بن أبي أويس المدني، عن سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى على ابنه إبراهيم حين مات. وأخرجها أيضًا البيهقي في الموضع السابق، وفي "دلائل النبوة" (5/431) من طريق الربيع بن سليمان، حدثنا عبدالله بن وهب، أخبرني سليمان بن بلال به بلفظ مقارب.
فهذه الأحاديث الثلاثة معلّة بالإرسال.
وأما الأحاديث المسندة في الصلاة عليه ؛ فمنها:
1 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه: ابن ماجه (1/484 رقم1511) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر وفاته. قال: حدثنا عبدالقدوس بن محمد، حدثنا داود بن شبيب الباهلي، حدثنا إبراهيم بن عثمان، حدثنا الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى [عليه]- ساقطة من مطبوعة السنن، وهى في مصباح الزجاحة - رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ((إن له مرضعًا في الجنة، ولو عاش لكان صديقًا نبيًا، ولو عاش لعتقت أخواله القبط، وما استرق قبطي))، وأخرجه أبو نعيم فى "معرفة الصحابة" (2/142 رقم 709) من طريق داود بن شبيب به. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(1/493): ((إسناد ضعيف؛ لضعف إبراهيم بن عثمان، أبو شيبة)).اهـ. وهو متروك الحديث، كما قال الحافظ في "التقريب" (ص92)، وقال في "الاصابة" (1/151): ((وفي سنده أبو شيبة الواسطي...، وهو ضعيف.... وأخرجه ابن منده، وقال: ((غريب)).اهـ.
2- حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/283) قال: حدثنا أسود بن عامر، ثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن البراء بن عازب، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابن ستة عشر شهرًا، وقال: ((إن له في الجنة من يتم رضاعه، وهو صدّيق))، وابن سعد في "الطبقات" (1/140)، من طريق إسرائيل، به، والبيهقي في "الكبرى" (4/9) كتاب الجنائز، باب السقط يغسل ويكفن ويصلى عليه إن استهل أو عرفت له حياة، من طريق الأسود بن عامر به بلفظه. وقد رواه مرسلاً من رواية عامر الشعبي - دون ذكر البراء -: عبد الرزاق في "المصنف" (3/532رقم 6605) كتاب الجنائز، باب الصلاة على الصغير والسقط وميراثه، عن الثوري، عن جابر، عن الشعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على ابن مارية القبطية وهو ابن ستة عشر شهرًا، وابن سعد في "الطبقات" (1/140) قال:... بنحوه، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/508) كتاب الجنائز، باب الطفل يموت أيصلى عليه أم لا ؟ بمعناه.
فالحديث ضعيف؛ لضف جابر الجعفي، وقد قال المنذري في "مختصر السنن" (4/324): ((وهو حديث لا يثبت ؛ لأنه من رواية جابر الجعفي ، ولا يحتج به)).اهـ.
وذكر الحافظ في "الإصابة" (1/152) هذا الحديث ، وقال : فيه جابر الجعفي أحد الضعفاء
وقد جاء من طريق الشعبي مرسلاً ، كما سبق تخريجه.
3 - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: وقد جاء عنه روايتان : إحداهما مثبتة للصلاة عليه ، والأخرى قال فيها أنس : لا أدري ، صلى عليه أم لا ؟
أخرج الأولى : أبو يعلى في "المسند" (6/335 رقم3660) قال : حدثنا عقبة بن مُكْرَم ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا محمد بن عبيدالله الفزاري ، عن عطاء ، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى على ابنه إبراهيم، فكبّر عليه أربعًا، وابن سعد في "الطبقات" (1/140) قال : أخبرنا عبدالله بن نمير الهمداني ، عن عطاء بن عجلان ، عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كبّر على ابنه إبراهيم أربعًا . وقد ذكر الهيثمي هذه الرواية في "المجمع" (3/35)، وقال: ((رواه أبو يعلى ، وفيه محمد بن عبيدالله العرزمي ، وهو ضعيف)).اهـ. وفي الإصابة (1/151) قال الحافظ: ((من طريق عطاء بن عجلان ، وهو ضعيف)).اهـ. وقال في "المطالب العالية"(1/216 رقم766): ((إسناده واهٍ)).اهـ.
وأما الرواية الثانية، فأخرجها: أحمد في "المسند" (3/280-281) قال: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة، عن إسماعيل السدي، قال: سألت أنس بن مالك، قال: قلت: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم ؟ قال : لا أدري ، رحمة الله على إبراهيم ، لو عاش كان صديقًا نبيًا ... الحديث ، وابن سعد في "الطبقات" (1/140) عن عفان وغيره ، به .
قال الهيثمي في "المجمع" (9/162):" رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".اهـ.
وصحح الشيخ الألباني سنده ، كما في "أحكام الجنائز" (ص80).
4 - حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه البزار- كما في "كشف الأستار"-(1/386 رقم 816) كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة، قال:حدثنا إبراهيم بن يوسف الصرفي الكوفي، حدثنا عبدالرحمن بن مالك بن مغول ، عن الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبى سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه ابراهيم ، فكبر عليه أربعًا. قال البزار: ((عبدالرحمن صاحب سُنة، ولم يكن بالقوي ، حدث بأحاديث في فضائل الصحابة ، فاحتملها قوم من أهل العلم)).اهـ.
قال الحافظ في "الاصابة" (1/152): ((فيه عبدالرحمن بن مالك بن معقل - كذا عنده -، وهو ضعيف)).اهـ. قال الهيثمي في "المجمع" (3/35): ((رواه البزار والطبراني في الأوسط ، وفيه عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، وهو متروك)).اهـ.
وقد قال البيهقي فى "السنن الكبرى" (4/9) بعد ما روى حديث البراء ، ومراسيل البهي وعطاء ومحمد بن جعفر: ((فهذه الآثار وإن كانت مراسيل ، فهي تشد الموصول قبله ، وبعضها يشد بعضًا ، وقد أثبتوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه ابراهيم ، وذلك أولى من رواية من روى أنه لم يصل عليه)).اهـ.
وتعقبه المنذري فى "مختصر السنن" (4/324) بقوله : ((وكأن البيهقي يرى أن الأحاديث الضعيفة يشد بعضها بعضًا ، وفيه نظر)).اهـ. وإن كان المنذري يميل إلى القول بأنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه. وقال القاضي في "الإكمال" (3/455): ((والصلاة أثبت)). وانظر "الاستيعاب" (1/43)، و"أسد الغابة" (1/50)، و"المحلى" (5/158)، و"أحكام الجنائز" (ص80).
(7) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((لم يصل عليه هو بنفسه)).
(8) عقد ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/10) كتاب الجنائز، بابًا بعنوان: ما قالوا في السقط، من قال يصلّى عليه، وساق فيه روايات عن أبي بكر وابن عمر والمغيرة بن شعبة وعبد الرحمن بن أبى ليلى وابن سيرين رضي الله عنهم ورحمهم، وجاء ذلك عن أيوب وقتادة وأحمد وإسحاق وابن المسيب وابن حزم رحمهم الله.
وعلق سماحة الشيخ العلاّمة عبد العزيز بن باز رحمه الله على قول من قال: لا يصلى على السقط، فى "الفتح" (3/201) بقوله: ((القول بعدم الصلاة على السقط ضعيف، والصواب شرعية الصلاة عليه إذا سقط بعد نفخ الروح، وكان محكومًا بإسلامه ؛ لأنه ميت مسلم، فشرعت الصلاة عليه كسائر موتى المسلمين، ولما روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والسقط يصلَّى عليه))، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة ، وإسناده حسن، والله أعلم)).اهـ.
(9) في (ح): ((وتعرف)).
(10) في (ز): ((ويفعل به ذلك به)).
(11) قوله: ((ابن)) ليس في (ز) و(س).(2/638)
أبيّ (1) ، فتارة ينسب أبيّ إليها، وتارة إلى أبيه مالك، وكان عبد الله هذا سيد الخزرج في آخر جاهليتهم، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وانصرف الخزرج وغيرهم إليه؛ حسده عبدالله؛ وناصبه العداوة، غير أن الإسلام غلبه فنافق، وكان رأسًا في المنافقين، وهو (2) أعظمهم نفاقًا، وأشدهم كفرًا. وكان المنافقون خلقًا كثيرًا، حتى لقد روى (3) ابن عباس: أنهم كانوا ثلاثمائة رجل، ومائة وسبعين امرأة، وكان لعبدالله هذا (4) ولد اسمه: عبد الله (5) ، هو من فضلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أصدقهم إسلامًا، وأكثرهم عبادة، وأشرحهم صدرًا رضي الله عنهم، وكان أبرَّ الناس بأبيه هذا، ومع ذلك، فقال يومًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله (6) ! إنك لتعلم أني من أبرِّ الناس بأبي، ولكن إن أمرتني أن آتيك برأسه فعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل نعفو عنه)) (7) .
وكان (8) من أحرص الناس على إسلام أبيه، وعلى أن ينتفع أبوه من بركات رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ولذلك لما مات سأل ابنُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه ؛ لينال من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه، وسأله (9) أن يصلي عليه فصلّى عليه، كل ذلك إكرام لابنه، وإسعاف له في طلبته.
وقد روي (10) أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطاه قميصه ؛ لأن عبد الله كان قد أعطى العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر قميصًا، وذلك: أن العباس رضي الله عنه أُسر يوم بدر وسلب، فمرَّ به عبدالله فأعطاه قميصه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك (11) .
56- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (12) قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ، يُكَفِّنَ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ وَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً....} وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ. قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ. فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَتَرَكَ الصَّلاةَ عَلَيْهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول (13) عمر رضي الله عنه في هذا الحديث: ((أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟))؛ يحتمل أن يقال: كان هذا قبل نزول قوله تعالى: {ولاتصل على أحد =(2/639)=@
__________
(1) في (ب): ((أبيه)).
(2) في (ب) و(ز) و(ح) و(س) و(أ): ((هو)) بلا واو.
(3) في (ح): ((روي عن)).
(4) قوله: ((هذا)) دخل عليه بياض في (ز).
(5) في (ح): ((عبيدالله)).
(6) قوله: ((يا رسول الله)) ليس في (ب) و(ز) و(س).
(7) أخرجه البزار - كما في "كشف الأستار" (3/260 رقم 2708) كتاب علامات النبوة، باب مناقب عبدالله بن عبدالله بن أبيّ، قال: حدثنا محمد بن بشار وأبو موسى، قالا: حدثنا عمرو بن خليفة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبى هريرة، قال: مرَّ رسول الله بعبدالله بن أبي وهو في ظلِّ أُطُمة، فقال: غبَّر علينا ابن أبي كبشة، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله ! والذي أكرمك لئن شئت لأتيتك برأسه، فقال: ((لا، ولكن بُرّ أباك، وأحسن صحبته)).
قال البزار: ((لا نعلم رواه عن محمد بن عمرو إلا عمرو بن خليفة)).
وأخرجه ابن حبان - كما في الإحسان -(1/175- 171 رقم 428) كتاب البر والإحسان، باب حق الوالدين، من طريق ابن وهب، قال: أخبرنى شبيب بن سعيد، عن محمد بن عمرو، به.
وقد ذكر الهيثمي حديث أبي هريرة في "مجمع الزوائد" (1/109)، وقال: رواه الطبراني فى "الأوسط"، وقال: تفرد به زيد بن بشر الحضرمي، قلت: وثقه ابن حبان، وبقية رجاله ثقات)).اهـ. وقال في (9/318): رواه البزار، ورجاله ثقات.
وقال الحافظ في "الفتح" (8/334) عن استئذان عبدالله بن أبي النبي صلى الله عليه وسلم في أن يقتل أباه: أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة بإسناد حسن)).اهـ. وذكر هذه الرواية فى "الإصابة" (2/336).
(8) في (ز) و(س): ((فكان)).
(9) في (ح): ((زيادة في)).
(10) أخرج هذا الخبر البخاري (6/144 رقم3008) كتاب الجهاد، باب الكسوة للأسارى، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: لما كان يوم بدر أتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصًا، فوجدوا قميص عبدالله بن أبيّ يُقْدَر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه ؛ فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه.
قال ابن عيينة - وهو راوي الحديث عن عمرو بن دينار، عن جابر -: كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يدٌ، فأحب أن يكافئه. و(3/214 رقم1350) كتاب الجنائز، باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلّة ؟ وفيه ذكر القصة مع زيادة.
(11) قوله: ((بذلك)) سقط من (ب) و(ز) و(س).
(12) الرواية الأولى أخرجها البخاري 3/138 رقم1269) كتاب الجنائز، باب الكفن في القميص الذي يُكّفَّ أو لا يُكف، ومن كفن بغير قميص، بنحوه. و(8/333 رقم4670) في التفسير، باب {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} بنحوه،(8/337 رقم 4672) كتاب التفسير، سورة براءة، باب {ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره}، بنحوه. وأما الرواية الأخرى بالزيادة فأخرجها في (10/266 رقم5796) كتاب اللباس، باب لبس القميص، بنحوه، ومسلم (4/1865 رقم 2400/ 25) في فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه، و(4/2141 رقم 2774/3-4) كتاب صفة المنافقين وأحكامهم، إلا أن فيه: ((إنما خيرني ربي)) بدل: ((إنما أخبرني الله)).
(13) قوله: ((وقول)) ليس يظهر في (ب) وفي مكانه بياض وظهر الحرف الأول.(2/639)
منهم مات أبدًا} (1) .
ويظهر من هذا المساق (2) : أن عمر رضي الله عنه وقع له في خاطره أن الله نهاه عن الصلاة عليه قبل نزول الآية، ويكون هذا (3) من قبيل الإلهام والتحديث (4) الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم (5) .
ويحتمل أن يكون فهم ذلك من مساق قوله تعالى: {إستغفر لهم أو لا تستغفر لهم} (6) الآية (7) ، وهذان التأويلان فيهما بُعد، والذي يظهر لي- والله تعالى أعلم -: أن البخاري ذكر هذا الحديث من رواية ابن عباس، وساقه سياقةً هي أتقن (8) من هذه، وليس فيها هذا اللفظ، فقال عنه عن عمر: لما مات عبدالله بن أُبي بن (9) سلول دُعِيَ (10) له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلّي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه: وثبتُ (11) إليه فقلت: يا رسول الله ! أتصلي على ابن أُبيّ (12) وقد قال يوم كذا (13) : كذا وكذا؟ أعدِّد (14) عليه، قال: فتبسّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال:((أخِّرْ عنْي))، فلما أكثرتُ (15) عليه، قال: ((إني خُيِّرت فاخترت، لو أنّي أعلم أنّي إن زدت على السبعين يغفر له لزدت (16) عليها))، قال: فصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف، فلم (17) يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا}، قال: فعجبت بعد (18) من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم (19) .
قال الشيخ رحمه الله: وهذا مساق حسن، وترتيب متقن، ليس فيه شيء (20) من الإشكال المتقدّم، فهو ا لأولى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((سأزيد على السبعين))؛ وعد بالزيادة، وهو مخالف لما في =(2/640)=@
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 84.
(2) في (ب): ((السياق)).
(3) في (ح): ((ذلك)).
(4) في (أ) و(ز) و(س) و(ب): ((والحديث)).
(5) يشير بذلك إلى ما جاء عن أبي هريرة وعن عائشة رضي الله عنهما.
فأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري (6/512 رقم 3469) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (4 5)، ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب)). و(7/42 رقم3689) كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأما حديث عاثشة رضي الله عنها فأخرجه مسلم (4/1864رقم2398/23) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم)). قال ابن وهب - راوي الحديث -: تفسير مُحَدَّثون: مُلهمون.
(6) سورة التوبة، الآية: 80. وانظر "الفتح" (8/334).
(7) قوله: ((الآية)) سقط من (ح).
(8) في (ب): ((أبين)).
(9) قوله: ((ابن)) ليس في (ز) و(س).
(10) في (أ): ((دعا)).
(11) في (س) تشبه أن تكون: ((وثبت)).
(12) في (ز) و(س): (ابن أبي سلول)).
(13) قوله : ((كذا وكذا)) سقط من (أ) و(ز) و(س).
(14) قوله: ((أُعدِّد)) دخل عليها سواد في (ز).
(15) في (ز) و(س): ((أكثرنا)).
(16) في (ح): ((زدت)).
(17) في (ب): ((ولم)).
(18) في (ب): ((بعد ذلك))، وفي (ز) و(س): ((فعجبت من)).
(19) حديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري (3/228 رقم1366) كتاب الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين، و(8/333 رقم4671) كتاب التفسير، تفسير سورة براءة، باب {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم...}.
(20) قوله: ((شيء)) ليس في (س).(2/640)
حديث ابن عباس (1) فإن فيه: ((لو أعلم أني إن زدت على السبعين غُفر له لزدت))، وهذا تقييد (2) لذلك الوعد المطلق، والأحاديث يفسّر (3) بعضها بعضًا، ويقيد بعضها بعضًا (4) ، وقد قلنا: إن هذا الحديث أولى (5) .
وتخصيص الله تعالى العدد بالسبعين على جهة الإغياء (6) ، وعلى عادة العرب في استعمالهم هذا العدد في البعد والإغياء، فإذا قال قائلهم: لا أكلمه سبعين سنة، صار (7) عندهم بمنزلة قولهم (8) : لا أكلمه أبدًا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:((لو أعلم أني إذا زدت غفر له لزدت))، فقد علم أنه لا يغفر له. وقد قيل له في موضع آخر: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} (9) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إني خيّرت))؛ مشكل مع قوله تعالى: {ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} (10) الآية، وقد تقدم أنّ الآية (11) نزلت بعد موت أبي طالب، حين قال صلى الله عليه وسلم: ((والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك (12) )) (13) . وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرًا، وهو متقدم على الآية التي فهم منها التخيير.
والجواب عن الإشكال: أن المنهي عنه في هذه الآية: الاستغفار المرجوّ (14) الإجابة حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة (15) لهم كما فعل بأبي طالب، فإنه إنما استغفر له كما استغفر إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه لأبيه؛ على جهة أن يجيبهما الله تعالى، فيغفر للمدعوّ لهما، وفي هذا الاستغفار استئذان (16) النبي صلى الله عليه وسلم ربه في أن يأذن له فيه لأمّه، فلم يُؤذن له فيه، فهذا (17) النوع هو الذي تناوله منع الله تعالى (18) ونهيه. وأما الاستغفار لأولئك المنافقين الذي (19) خيّر فيه فهو استغفار =(2/641)=@
__________
(1) قوله: ((حديث ابن عباس)) مطموس في (ح).
(2) قوله: ((لزدت، وهذا تقييد)) مطموس في (ح).
(3) في (س): ((تفسر)).
(4) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((ببعض)).
(5) قال الحافظ في "الفتح" (8/335): ((حديث ابن عمر جازم بقصة الزيادة، وآكد منه ما روى عبد بن حميد من طريق قتادة قال: لما نزلت: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم}، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد خيّرني ربى، فو الله لأزيدن على السبعين)). وأخرجه الطبري من طريق مجاهد مثله، والطبري أيضًا وابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، مثله، وهذه طرق وإن كانت مراسيل، فإن بعضها يعضد بعضًا...، وروى الطبري من طريق مغيرة، عن الشعبي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قال الله: {إن تستغفرلهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}))، فأنا استغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين))، وقد تمسك بهذه القصة من جعل مفهوم العدد حجة، وكذا مفهوم الصفة من باب الأولى...)).اهـ. وانظر "الفتح" (8/338).
(6) أَغْيَا الرجل: بلغ الغاية. والمراد هنا بلوغ الغاية في التأكيد على نفي قبول الاستغفار للمشركين، كما أبانه المصنف في كلامه. انظر"الصحاح"(6/2451)، و"القاموس"(1701).
(7) في (ب): ((كان)).
(8) في (ز) و(س): ((قوله)).
(9) سورة المنافقين، الآية: 6.
(10) سورة التوبة، الآية: 113.
(11) في (ب): ((هذه الآية)).
(12) قوله: ((عنك)) سقط من (ب).
(13) تقدم تخريجه في أول كتاب الإيمان.
(14) في (ب) و(ز) و(ح) و(س): ((استغفار مرجوّ)).
(15) قوله: ((المغفرة)) لم يتضح في (ز).
(16) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((استأذن)).
(17) في (ح): ((وهذا)).
(18) في (أ): ((النبي صلى الله عليه وسلم)).
(19) في (ز) ((الذين)) بدل ((الذي)).(2/641)
لسانيّ، علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقع ولا ينفع، وغايته لو وقع تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر لهم، فانفصل المنهي عنه (1) من المخيّر فيه، وارتفع الإشكال، والحمد لله (2) .
**************
(21) باب النهي عن تمني الموت لضر نزل به
57- عَنْ أَنَسٍ (3) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ:((اللهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي)).
58- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (4) قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن تمني الموت لضرٍّ نزل به (5)
قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ))؛ إنما نهي عن تمني الموت لأجل الضر (6) ؛ لأن ذلك دليل على التضجُّر (7) والتسخط بالمقدور، وعدم الصبر والرضا؛ هذا مقصود هذا (8) الحديث، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه ففيه النهي عن تَمنِّي الموت مطلقًا لضرٍّ ولغير (9) ضرٍّ، ألا ترى أنه علّل النهْيَ بانقطاع العمر (10) ؟
فهذان الحديثان يفيدان مقصودين مختلفين لا يحمل أحدهما على الآخر.
وقوله:((فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ: اللهُمَّ أَحْيِنِي (11) مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي))؛ في هذا الحديث دليل على استعمال التفويض وسؤال الخيرة، حتى فيما لا بدّ منه وهو الموت.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم الاستخارة في الأمور كلها؛ كما يعلمهم السورة من القرآن (12) ، فإذا تمنى الموت (13) وجزم به؛ كان قد اختار لنفسه =(2/642)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((عنهم)).
(2) وفي (ز): ((والله أعلم والحمد لله)).
(3) أخرجه البخاري (10/127 رقم5671) في المرض، باب تمني المريض الموت، و(11/150 رقم6351) كتاب الدعوات، باب الدعاء بالموت والحياة، و(13/220 رقم7233) كتاب التمني، باب ما يكره من التمني، مختصرًا، ومسلم (4/2064 رقم2680/10) في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، ورقم (2680/11) مختصرًا.
(4) أخرجه البخاري (10/127 رقم5673) في المرض، باب تمني المريض الموت، ومسلم (4/2065 رقم2682) في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به.
(5) قوله: ((به)) ليس في (ز) و(س).
(6) قوله: ((الضر)) سقط في (ز).
(7) في (أ) و(ح): ((الضجر)).
(8) قوله: ((هذا)) ليس في (ز) و(س).
(9) في (ز): ((أو لغير)) بدل ((ولغير)).
(10) في (ب): ((العمل)).
(11) في (ز) و(س): ((أحييني)).
(12) يشير بذلك إلى حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما فى الاستخارة، أخرجه البخاري (3/48 رقم 1162) كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعملنا السورة من القرآن، يقول: ((إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسالك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: فى عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني. قال: ويسمي حاجته)). و(11/183 رقم6382) كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة، و(13/375 رقم7390) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {قل هو القادر}.
(13) قوله: ((الموت)) سقط في (ز).(2/642)
ما لعلّه ينقطع عنه به خير؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ المُؤْمِنَ لا يَزِيدُه (1) عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا))، وقد فسّر هذا الحديث (2) البخاري (3) (4) ، فزاد في هذا (5) فقال (6) : ((لا يتمنَّيَنَّ (7) أحدكم الموت، إما محسنًا، فلعله يزداد حسنًا (8) ، وإمّا مسيئًا (9) ، فلعله أن يستعتب))، والاستعتاب: طلب العتبى، وهو الرضا، وذلك لا يحصل إلا بالتوبة والرجوع عن الذنوب (10) .
*************
( 22 ) باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
59- عَنْ عَائِشَةَ (11) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ)) فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللهِ ! أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ. قَالَ:((لَيْسَ كَذَلِكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ، وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ)).
وَفِي أُخْرَى: وَالْمَوْتُ قَبْلَ لِقَاءِ اللهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (12)
قولها: ((كُلُّنَا نَكْرَهُ (13) الْمَوْتَ))؛ قول من ظن أنه قد عبّر عن الموت بلقاء الله تعالى توسُّعًا، فأجيبت (14) بما يقتضي: أن لقاءَ الله تعالى بعد الموت، وقد نصَّ على ذلك =(2/643)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((لا يزيد)).
(2) قوله: ((الحديث)) سقط من (س).
(3) في (ز) زاد بعدها ((رضي الله عنه)).
(4) أخرجه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في (10/127رقم5673) كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، و(13/220 رقم7235) كتاب التمني، باب ما يكره من التمني.
(5) في (ب) و(ز) و(س): ((فيه)) بدل ((في هذا))، وفي (ح): ((في هذا الحديث)).
(6) قوله: ((فقال)) ليس في (ب).
(7) في (ح): ((لا يَتّمنَّ)).
(8) في (ز) و(س): ((إحسانًا)).
(9) كذا جاء في رواية البخاري بالنصب، وعند بعضهم كما في المسند بالرفع، ونصبه كما قال الحافظ في "الفتح" (13/222) على تقدير عامل نصب، نحو: يكون.
(10) زاد بعدها ((والله أعلم)).
(11) أخرجه البخاري تعليقًا (11/357 رقم6507) في الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وهو عنده موصول من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وفيه سؤال عائشة رضي الله عنها، إلا أن فيه: قالت عائشة، أو بعض أزواجه، ومسلم (4/2065 رقم2684/15 و16) في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
(12) قوله: ((لقاءه)) ليس واضحًا في (ب).
(13) في (ب): ((يكره)).
(14) في (ح): ((فأجيب)).(2/643)
في طريق آخر، فقال:((ولقاء الله بعد الموت)).
وفي هذا الحديث ما يدلّ على أنه لا يخرج أحدٌ من هذه الدار حتى يعلم ما له عند الله تعالى من خير أو شر، وقد قيل ذلك في قوله تعالى: {لهم البشرى في الحياة الدنيا} (1) .
وهذه الكراهة للموت هي الكراهة (2) الطبيعية التي هي راجعة إلى (3) النفرة عن المكروه والضرر، واستصعاب ذلك على النفوس. ولا شك في وجدانها لكلِّ أحد، غير أن مَن رزقه الله تعالى ذوقًا من محبته، وانكشف (4) له شيء من جمال حضرته، غلب عليه ما يجده من خالص محبته، فقال عند أزوُف رحلته، مخاطبًا للموت وسكرته (5) ؛ كما قال معاذ رضي الله عنه (6) : ((حبيبٌ (7) جاء على فاقة. لا أفلح اليوم من ندم ))، وكان يقول عند اشتداد (8) السكرات: ((اخْنُقْنِي خنْقَك (9) ، فوَحقِّكَ إن قلْبي ليحبّك (10) )) (11) (12) . =(2/644)=@
__________
(1) سورة يونس، الآية: 64.
(2) في (ب) و(ز) و(س) و(ح): ((الكراهية)).
(3) في (ح): ((عن)).
(4) في (ب) و(ز): ((أو انكشف)).
(5) في (ب) و(ز) و(س): ((ولسكرته)).
(6) لم أقف على هذا القول لمعاذ رضي الله عنه، إنما هو معروف لأخيه الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ؛ أخرجه عن حذيفة أبو نعيم في "الحلية" (1/282)، والمزي في "تهذيب الكمال" (5/509)، وابن عساكر في تاريخ دمشق - كما في مختصره -(6/ 262)، وعزاه له صاحب "كنز العمال" (13/346)، وذكره الذهبي في ترجمته في "السير" (2/368).
وإسناد الحديث عند أبي نعيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن العباس، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا السري بن يحيى، عن الحسن قال: لما حضرحذيفة الموت...، فذكره وهذا إسناد صحيح.
(7) في (ح): ((حبيبًا)).
(8) في (ز): ((استداد)).
(9) في (ز) و(س): ((خنقًا)).
(10) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(11) مقالة معاذ رضي الله عنه هذه أخرجها ابن سعد في "الطبقات" (7/388) و(3/589)، وفي الموضع الثاني روايتان، الثانية بنحوه، وأبو نعيم في "الحلية" (1/240)، وذكرها الذهبي في "السير" (1/460). قال ابن سعد: أخبرنا عبدالله بن موسى، عن شيبان، عن الأعمش، عن شهر بن حوشب، عن الحارث بن عميرة الزبيدي قال: إني لجالس عند معاذ بن جبل وهو يموت، فهو يغمى عليه مرّة، ويفيق مرة، فسمعته يقول عند إفاقته: ((اخْنُقْنِي خنْقَك ، فوَعِزِّتِك إني لأحبّك)).
وعند أبي نعيم من طريق شهر بن حوشب، به، في أثناء خبر طويل. وقد رواه ابن سعد (3/589) من طريق آخر، قال: أخبرنا الفضل بن دكين، قال أخبرنا موسى بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كهيل، قال: أخذ معاذًا الطاعون في حلقه، فقال: ((يارب، إنك لتخنقني، وإنك لتعلم أنّي أحبك)). وهذا الخبر حسن بمجموع طرقه.
(12) جاء بعدها في نسخة (ح) قوله: ((تم كتاب الجنائز؛ يتلوه إن شاء الله تعالى في الثاني كتاب الزكاة. تم الجزء الأول من كتال المفهم لما أشكل من كتاب مسلم رحمه الله، والحمد لله وحده وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. علقه العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن عيسى بن رويك الشافعي... (1) عفا الله عنه وعن جميع المسلمين...(2) ؟؟؟، وحسبنا الله ونعم الوكيل)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يشبه أن تكون: ((العثماني))
...طمس.(2/644)
المفهم
لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
الجزء الثالث
كتاب الزكاة
باب ما تجب فيه الزكاة، وكم مقدار ما يخرج
1- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (1) ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ)).
2- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ (2) ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلا تَمْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ... الحَدِيث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب (3) الزكاة (4)
قد (5) تقدم اشتقاق الزكاة في (6) كتاب الإيمان، وتسمى أيضًا: صدقة، مأخوذة من الصدق؛ إذ هي دليل على صحة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وقد تقدم استيفاء (7) هذا (8) المعنى في كتاب الطهارة.
وشرعها الله تعالى مواساة للفقراء، وتطهيرًا للأغنياء من البخل. وإنما تجب على من (9) له مِن المال ما له بال. وأقل ذلك النصاب على ما سيأتي (10) بيانه.
ثم موضوعها: الأموال النامية (11) ؛ أي: الصالحة للنماء، وهي: العين (12) والحرث والماشية، ثم هذه الأصول منها ما ينمى (13) بنفسه كالحرث والماشية، ومنها ما ينمو بتغيير (14) عينه وتقليبه كالعين (15) .
والإجماع (16) منعقدٌ على تعلق الزكاة بأعيان هذه المسميات. فأما تعلق الزكاة بما سواها من العروض والديون؛ ففيها للفقهاء ثلاثة أقوال (17) :
فأبو حنيفة يوجبها على الإطلاق، وداود يسقطها من (18) ذلك، ومالك يوجبها في عروض التجارة، وفي الديون تفصيل يعرف في كتب فقهه، وستأتي (19) حجة كل فريق في تضاعيف (20) الكلام.
قوله (21) صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ))، أواقٍ جمع =(3/5)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/675 رقم980) في الزكاة، باب منه.
(2) أخرجه البخاري (3/271و310و322-323و350 رقم1405و1447 و1459 و1484) كتاب الزكاة، باب ما أدى زكاته فليس بكنز، وباب زكاة الورق، وباب ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وباب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ومسلم (2/673 رقم979) في الزكاة، باب منه.
(3) في (ي) قبله: ((بسم الله الرحمن الرحيم حسبي الله ونعم الوكيل)) ومن هنا بدأت المقابلة من نسخة (ي).
(4) في (ح) قبله: ((بسم الله الرحمن الرحيم، حسبي الله تعالى وكفى)).
(5) في (ب) و(ز) و(ح) و(ي): ((وقد)).
(6) في (ح): ((من)).
(7) قوله: ((استيفاء)) سقط من (ز) و(س).
(8) في (ح): ((ذلك)).
(9) في (ح): ((من كان)).
(10) في (ب) و(ح) و(ر) و(س) و(ي): ((ما يأتي)). ... ...
(11) قوله: ((النامية)) سقط من (ح).
(12) في (ي): ((الغين)).
(13) كذا في جميع النسخ.
(14) في (ز): ((بتغير)).
(15) في (ي): ((كالغين)).
(16) توثيق فقهي (عماد).
(17) توثيق فقهي (عماد).
(18) في (أ) و(ب) و(ز) و(س) و(ي): ((في)).
(19) في (أ) و(ز) و(س) و(ي): ((وسيأتي)).
(20) في (ي): ((تضاغيف)).
(21) في (ب) و(س): ((وقوله)).(3/5)
أوقية. قال أبو عبيد: هي اسم لوزن مبلغه أربعون درهمًا كيلاً. قال ابن السكيت: الأُوقيّة - ضم الهمزة وتشديد (1) الياء -، وجمعها أواقي وأواق. قال غيره (2) : ولا يقال فيه (3) وَقية (4) - بفتح الواو - من غير همز. وحكى اللحياني أنه يقال: ويجمع (5) : وقايا.
ودرهم الكيل زنته خمسون حبةً وخُمُسَا حبة، وسمي درهم الكيل؛ لأنه بتكييل (6) عبد الملك بن مروان؛ أي: بتقديره وتحقيقه، وذلك أن الدراهم التي كان (7) الناس يتعاملون بها على وجه الدهر نوعان: نوع عليه نقش فارس، ونوع عليه نقش الروم. أحد النوعين يقال لها: البَغْلِيّة، وهي السود؛ الدرهم منها ثمانية دوانيق (8) ، والأخرى (9) يقال لها: الطبرية، وهي العُتُق؛ الدرهم منها (10) أربعة (11) دوانيق (12) ، فجاء الإسلام وهي كذلك، وكان (13) الناس يتعاملون بها مجموعة على الشطر من هذه، والشطر من هذه لدى (14) الإطلاق؛ ما لم يعيِّنوا بالنص أحد النوعين.
وكذلك كانوا يؤدون الزكاة في أول الإسلام؛ باعتبار مائة من هذه، ومائة من هذه في النصاب. ذكر هذا (15) أبو عبيد وغيره، فلما كان (16) عبد الملك بن مروان تَحَرَّجَ من نقوشها (17) ، فضرب الدرهم بنقش الإسلام بعد أن تحرى معاملتهم الإطلاقية، فجمع بين درهم بغلي من ثمانية دوانيق (18) وبين درهم طبري من أربعة دوانيق (19) ، فكان اثني (20) عشر دانقا، فقسمها نصفين، فضرب الدرهم من نصفها وهو (21) ستة دوانق، والدانق: ثمان حبات، وثُلُث حبة وثُلُثَا (22) خُمُسِ حبة من الشعير (23) المطلق.
واتفق المسلمون على اعتبار درهم الكيل المذكور؛ لموافقته (24) ما كان معتبرًا من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أن ضربت، وأن نصاب الزكاة (25) مئتا درهم من دراهم الكيل، =(3/6)=@
__________
(1) في (ز): ((وتسديد)) لم تنقط الشين.
(2) قوله: ((وأواق قال غيره)) سقط من (ح).
(3) قوله: ((فيه)) سقط من (ب) و(ي).
(4) قوله: ((وقية)) سقط من (ح).
(5) في (ح) و(ي): ((وتجمع)).
(6) في (ح): ((بتكيل)).
(7) في (ز) و(س): ((كانوا)).
(8) في (ب) و(ي) و(ز) و(س): ((دوانق)).
(9) في (ب): ((والأخر)).
(10) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((منها من أربعة)).
(11) في (ي): ((من أربعة)).
(12) في (ب) و(ي) و(ز) و(س): ((دوانق)).
(13) في (ح) و(ز): ((فكان)).
(14) في (ز) و(س): ((كذا)).
(15) في (ح): ((ذكرها)).
(16) في (ز) كتب فوق ((كان)) كلمة ((زمان)) ولكنها بخط مغاير.
(17) في (ي): ((نقوشهما)).
(18) في (ب) و(ز) و(س) و(ي) و(ح): ((دوانق)).
(19) في (ب) و(ز) و(س) و(ي) و(ح): ((دوانق)).
(20) في (ي): ((اثنا)).
(21) في (ز) و(س): ((وهي)).
(22) في (ب) و(ز) و(س) و(ي) و(ح): ((وثلث)).
(23) في (س): ((ضبطت بالفتح والكسر وكتب فوقها ((معًا)).
(24) في (ي): ((موافقته)).
(25) في (ح): ((وأن دراهم النصاب)).(3/6)
وهي الخمسة الأواقي المذكورة في الحديث. ولم يخالف (1) في ذلك إلا من زعم أن أهل كل بلد يعتبرون النصاب بما يجري عندهم من الدراهم؛ صغرت أو كبرت. وهو مذهب ابن حبيب الأندلسي (2) .
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن على (3) وزن أهل مكة)) (4) ، وهو حديث صحيح (5) .
وقد تقدّم أن هذا المقدار المذكور هو الذي كان على (6) وزن أهل مكة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. وأما دينار الذهب فهو أربعة وعشرون قيراطًا. والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير، فمجموعه اثنان وسبعون حبة، وهو مجمع عليه (7) .
والوَرِق: بكسر الراء على الأصل كـ((كَبِد)) (8) ، وبإسكانها تخفيف، كما يقال: كبْد وفخْد (9) ، وهي الدراهم خاصة. ويقال عليها: الرقة (10) - بتخفيف القاف -، ومنه قوله: ((في الرِّقة ربع العشر)) (11) . قال أبو بكر: جمعها: رقات ورقون (12) . ومنه قولهم: وجدان الرقين (13) يغطي (14) أَفَن الأَفِين (15) ؛ أي: وجدان الدرهم (16) يغطي عيب المعيب.
قال الهروي: يقال: رجل (17) وارق: كثير الوَرِق.
وقال بعضهم: لا يقال: لغير الدراهم وَرِق، ولا رِقَة. وإنما يقال له (18) : فضة. وأما الفقهاء: فالفضة والورق عندهم سواء. وكذلك قال ابن قتيبة: إن الرقة والورق: الفضة، مسكوكها، وغير مَسْكُوكِها (19) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ فِيمَا دُونَ))؛ ظاهره أنه إذا نقص من النصاب ولو (20) أقل ما =(3/7)=@
__________
(1) في (ب) و(ز) و(س): ((يخالفه)).
(2) توثيق فقهي.
(3) قوله: ((على)) سقط في (ز).
(4) زاد بعدها في (ز) ((وفي)) وكأنه ضرب عليها.
(5) أخرجه من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:
أبو داود (رقم3340) كتاب البيوع والإجارات، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المكيال مكيال المدينة))، ولفظه: ((الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة))، والنسائي (5/54 رقم2520) كتاب الزكاة، باب كم الصاع؟ بلفظه، مع تقديم الجملة الثانية و(7/284 رقم4594) كتاب البيوع، باب الرجحان في الوزن، بنحوه، وأبو عبيد في كتاب "الأموال" (ص518 رقم 1607) بنحوه، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3/288 رقم1252) بلفظ أبي داود، والطبراني في "المعجم" (12/392 رقم 13449) بنحوه، وأبو نعيم في "الحلية" (4/20) بنحوه، والبيهقي في "الكبرى" (4/170) كتاب الزكاة، باب ما دل على أن زكاة الفطر إنما تجب صاعًا، بنحوه، و (6/31) كتاب البيوع، باب أصل الوزن والكيل بالحجاز، بنحوه، والبغوي في "شرح السنة" (8/69 رقم 2063) كتاب البيوع، باب المكيال والميزان، بنحوه.
رووه جميعًا من طريق سفيان الثوري، عن حنظلة بن أبي سليمان، عن طاوس، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعًا وهذا إسناد صحيح. ... ... ...
وفي "فيض القدير" (6/374) أن السيوطي حسنه، وقال المناوي: ((وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي وابن دقيق العيد والعلائي، ورواه بعضهم عن ابن عباس. قيل: وهو خطأ)).اهـ.
(6) ال الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (165): ((وهذا سند صحيح كما قال ابن الملقن في الخلاصة)).اهـ.
( ) قوله: ((على)) ليس في (أ) و(ب) و(ح) و(ي).
(7) قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (20/145): ((وقد رُوِي عن جابر بن عبدالله، بإسناد لا يصح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار أربعة وعشرون قيراطًا))، وهذا الحديث وإن لم يصح إسناده، ففي قول جماعة العلماء به، وإجماع الناس على معناه ما يغني عن إسناده)).اهـ.
(8) في (ب): ((في كبد)).
(9) في (س) و(ز) و(ي): ((فخذ)).
(10) في (ز) و(س): ((أيضًا الرقة)).
(11) الحديث أخرجه البخاري (3/317-318 رقم 1454) في الزكاة، باب زكاة الغنم.
(12) في (س) و(ز): ((ورقوق))، وفي (ي): ((رقاق ورقوق)).
(13) قوله: ((الرقين)) لم يتضح في (ي).
(14) في (س): ((يعظِّي)).
(15) في (ز): ((آمن الأقبن)) بالقاف.
(16) في (ي): ((الدراهم)).
(17) في (ح): ((حل)).
(18) قوله: ((له)) ليس في (ح، وفي (س) و(ز): ((لها)).
(19) في (ح): ((مسكوكهما وغير مسكوكهما)).
(20) قوله: ((ولو)) سقط من (ح).(3/7)
ينطلق عليه اسم النقص؛ لم تجب فيه زكاة (1) ، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: إذا كان النقصان يسيرًا لم تسقط (2) الزكاة.
واختلف أصحابه في مقدار اليسير:
فمنهم من قال: هو ما لا يتشاح (3) فيه في العادة.
ومنهم من فسره: بأنه المقدار الذي تختلف (4) فيه الموازين، وهذا عندهم شرط (5) جوازها بجواز (6) الوازنة.
وحكي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أن نصاب الدراهم إن نقص ثلاثة (7) دراهم، ونصاب الذهب إن نقص ثلث دينار؛ لم تسقط (8) الزكاة.
والظاهر مع أبي حنيفة، والمعنى مع أصحابنا.
و((دُونَ)) في كل مواضع هذا الحديث بمعنى: أقل؛ أي: ليس في أقل من خمس صدقة، لا أنه نفي عن غير الخمس الصدقة، كما زعم بعضهم في قوله: ((لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ))؛ أنها بمعنى غير.
وقوله: ((خَمْسِ ذَوْدٍ)): الرواية المشهورة فيه على الإضافة، ومنهم من (9) يرويه بالتنوين على البدل. والصحيح في (10) الرواية إسقاط الهاء من ((خَمْسِ)) على التأنيث. وأثبتها بعضهم على التذكير، وهذا على الخلاف في ((الذود))، هل (11) يطلق على الإناث أو على الذكور؟ على ما يأتي.
وأصل وضع الذود إنما هو مصدر، من ذاد يذود، إذا دفع شيئًا، فكأن من كان عنده دفع عن نفسه معرّة الفقر، أو شدّة (12) الفاقة والحاجة. واختلف اللغويون فيه :
فقال أبو عبيد: هو ما بين الثنتين إلى التسع من الإناث دون الذكور. ونحوه عند (13) سيبويه في التأنيث، قال (14) : يقال: ثلاث ذَوْدٍ؛ لأن الذود أنثى، وليس باسم كسر عليه مذكره (15) .
وقال الأصمعي: الذود: ما بين الثلاث إلى العشر، والصُّبَّة (16) : خمس أو ست، والصِّرْمَة: ما بين العشر إلى العشرين (17) ، والعَكَرَة (18) : ما بين العشرين إلى الثلاثين (19) ، والْهَجْمَةُ: ما بين الستين إلى السبعين، والهُنَيْدةُ: مائة، والخِطْرُ: نحو المائتين، والعَرْج: من (20) خمسمائة إلى الألف (21) . وقال (22) غيره: هِنْدُ (23) - غير مصغر -: مائتان، وأمَامَة: ثلاثمائة. وأنكر =(3/8)=@
__________
(1) توثيق فقهي (عماد).
(2) في (ز) ((يسقط)) بالياء.
(3) في (ي): يشبه أن تكون ((يشاح)).
(4) في (س): ((يختلف)).
(5) في (ب) و(ز) و(س): ((بشرط))، ويشبه أن تكون كذلك في (ح).
(6) في (أ): ((رواجها برواج)).
(7) تعليق فقهي (عماد).
(8) في (ز): ((يسقط)) بالياء.
(9) في (ب): كأن الناسخ ضرب عليها.
(10) في (ح): ((من)).
(11) في (ب): ((وهل)).
(12) في (ي): ((وشدة)).
(13) في (ب) و(ز) و(س): ((عن))، وفي (ح) و(ي): ((قال)).
(14) في (س) و(ز): ((فقال)).
(15) في (ب) و(ح) و(س) و(ز) و(ي): ((مذكر)).
(16) في (س): ((والضُبَّة)).
(17) في (ب): ((عشر إلى عشرين)).
(18) في (س) و(ز): ((والفكرة)).
(19) في (ب): ((ثلاثين)).
(20) في (ب): ((ما بين)).
(21) في (ح): ((ألف)).
(22) في (ب) و(ي) و(ز) و(س): ((قال)).
(23) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((وهند)).(3/8)
ابن قتيبة أن يراد بالذود الواحد، وقال: لا يصح أن يقال: خمس ذود، كما لا يقال: خمس ثوب.
وقال القاضي عياض: الذود: ما بين الثلاثة إلى العشرة (1) ، ولا واحد له من لفظه، إنما يقال في الواحد: بعير، كما يقال للواحدة من النساء: امرأة. وقال غيره (2) : خمس ذود، كما يقال خمس (3) أبعرة، وخمسة جمال، وخمس نوق. وقد نصّ بعض اللغويين على أن ((الذود)) (4) يكون واحدًا.
وقال أبو حاتم: تركوا القياس في الجمع فقالوا: ثلاث ذود لثلاث من الإبل، وأربعُ ذودٍ، وعشرُ (5) ذود على غير قياس، كما قالوا: ثلاثمائة وأربعمائة، والقياس: مِئِين ومِئات، ولا يكاد يقولونه.
قال الشيخ رحمه الله: وهذا صريح بأن الذود واحذ في لفظه، والأشهر ما قاله المتقدمون أنه لا يقال على الواحد، والله أعلم.
وقوله: ((لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ))؛ الأوسق: جمع قلة الوِسْق (6) ، كـ((فِلْس وأَفْلُس))، ويقال: أَوْسَاق: جمع وِسق - بكسر الواو -، كما يقال: عِدْل وأعْدَال.
واختلفوا في اشتقاقه، فقال شمر: كذا شيء حملتَه (7) فقد وسقْتَه، يقال: ما أفعلُ كذا ما وسقتْ (8) عيني الماء؛ أي: حملْته (9) (10) . وقال غيره: الوسق: ضمك (11) الشيء إلى الشيء، ومنه قوله تعالى: {وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} (12) ؛ أي: جمع وضم، يقال (13) للذي يجمع الإبل: وَاسِق، وللإبل (14) نفسها: وَسَقَتْ، وقد وَسَقْتُها فاستَوسَقَتْ؛ أي: اجتمعت وانضمت.
وقال الخطابي: الوسق: تمام حمل (15) الدواب النقالة، وهو ستون صاعًا. قال غيره: والصاع: أربعة أمداد، والمُد: رطل وثلث بالعراقي. والرطل العراقي: هو اثنا عشر أوقية. والأوقية هنا (16) : =(3/9)=@
__________
(1) في (ب): ((الثلاث إلى العشر)).
(2) في (ح): ((عنه)).
(3) في (ي): ((خمسة)).
(4) قوله: ((على أن الذود)) تكرر في (ح).
(5) في (ب): ((وعشرة)).
(6) في (ز): ((للوسق)).
(7) في (أ): ((جملته)).
(8) في (ب) و(ح): ((أوسقت)) وكأنه ضرب على الألف في نسخة (ب).
(9) في (ب): ((ما حملت))، وفي (ح) و(ي): ((أي: حملت))، وفي (ز) و(س): ((عيني ما حملت)).
(10) في (أ): ((جملته)).
(11) في (ب): ((وسقك)).
(12) سورة الإنشقاق؛ الآية: 17.
(13) في (ح) و(ي): ((ويقال)).
(14) في (ب): ((والأبل)).
(15) في (س): ((حول)).
(16) في (ب) و(ح) و(ز): ((هنا هي)).(3/9)
زنة عشرَةِ دراهمَ وثلثي درهم، من دراهم الكيل، فمبلغ (1) زنة الرطل من دراهم الكيل: مائة درهم وثمانية (2) وعشرون درهمًا. ولم يجز (3) في هذا الحديث ذكر نصاب (4) الذهب، ولا وقع في "الصحيحين" (5) ، ولا ما يدلّ على اشتراط (6) الحول في الزكاة.
وقد ذكر أبو داود (7) ما يدل عليهما، فروى بإسناد صحيح إلى أبي إسحاق السبيعي، عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول؛ ففيها (8) خمسة دراهم، وليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارًا، فإذا كان لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب (9) ذلك))، قال: فلا أدري أعليٌّ يقول ((بحساب ذلك))، أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ((وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول)).
قال الشيخ رحمه الله: وهذا الحديث غاية ما قيل فيه: أن جرير بن حازم رواه عن أبي إسحاق (10) ، وقرن فيه بين عاصم بن ضمرة، وهو ثقة، وبين الحارث الأعور، وهو كذاب. ورواه جماعة من الأئمة عن أبي إسحاق، عن عاصم موقوفًا على عليّ، فقال من رَدَّ ذلك الحديث: لعل جريرًا سمعه من أبي إسحاق عن عاصم موقوفًا، وسمعه عنه عن الحارث (11) مسندًا، ولذلك قرن (12) بينهما، وكأن الإسناد متلقى عن الحارث.
وهذا لا ينبغي أن يُردَّ الخبر له (13) ، فإنه وهمٌ، وظنُّ غير محقق، بل هو مردود (14) ؛ لأن المعتمد ثقة جرير وأمانته، وقد أخبر أنه سمعه منهما (15) في مساق =(3/10)=@
__________
(1) في (ح): ((ومبلغ)) في (ي): ((فتبلغ))، وفي (أ): ((فملغ)).
(2) بعدها في (ز) ((وعشر)) وَكَأَنَّه ضرب عليها.
(3) في (ب) و(ح) و(س): ((يجر)). وفي (ز): قرب أن تكون ((يجز))، وفي (أ): ((فلم يجر)) وفي (ي): ((ولم تجر)).
(4) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((لنصاب)).
(5) قال ابن عبداالبر في "الاستذكار" (9/34): ((لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الذهب شيء، من جهة نقل الآحاد العدول الثقات الأثبات)).اهـ.
وقال القاضي في "الإكمال" (3/465- 466): ((ولم يأت ذكر الذهب هنا، إذ أكثر أموالهم وأثمانهم إنما كانت بالدراهم، وقد روي في الذهب وتحديد نصابه أحاديث ليست بالقوية، ولكن المسلمين أجمعوا على صحة معناها)).اهـ. وانظر "عارضة الأحوذي" (3/104).
(6) في (ي): ((اشراط)).
(7) في "سننه" (رقم1573) كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، وهذا الحديث جاء فيه فقرتان: الأولى: فيها ذكر نصاب النقدين، والثانية: فيها اشتراط الحول لوجوب ا لزكا ة.
وقد أخرجه تامًّا كما عند أبى داود: ابن زنجويه في كتاب "الأموال" (2/808 رقم 1399) موقوفًا، والبيهقي في "الكبرى" (4/138) كتاب الزكاة، من طريق أبي داود وبلفظه، مرفوعًا، وابن حزم في "المحلى" (6/39) موقوفًا.
وأخرج الجزء الأول منه: أحمد في "المسند" (1/93، 113، 114) مختصرًا مرفوعًا، وأبو عبيد في كتاب "الأموال" (ص425 رقم 1160) موقوفًا، و(1161)، وقال: عن علي مثل ذلك، وابن أبى شيبة في "المصنف" (2/356- 357) كتاب الزكاة، باب من قال: فما زاد على المائتين فبالحساب، مختصرًا موقوفًا، و (2/355- 356) كتاب الزكاة، باب من قال: ليس في أقل من مائتي درهم زكاة، وفيه ثلاث روايات بلفظ ترجمة الباب، الأولى موقوفة، والأخريان مرفوعتان، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (1/145) مرفوعًا، والبزار في "المسند" (3/87 رقم 844) مرفوعًا، وابن خزيمة (4/34 رقم 2297) كتاب الزكاة، باب ذكر البيان أن الزكاة واجبة على ما زاد على المائتين من الورق، مرفوعًا، والدارقطني في "العلل" (3/ 161) موقوفًا، وقال: ((رفعه الثوري، ووقفه معمر))، وابن حزم في "المحلى" (6/38) في أثناء حديث موقوف، والبيهقي في "الكبرى" (4/95) كتاب الزكاة؛ مختصرًا مرفوعًا عن ابن وهب، به؛ كما عند أبي داود.
كما أخرج الجزء الثاني منه، وهو ما يتعلق باشتراط الحول في وجوب الزكاة في المال: عبدالله بن أحمد في "زوائد المسند"(1/148) موقوفًا، والدارقطني في "السنن" (2/91) موقوفًا.
رووه جميعًا - في روايته التامة والروايات الأخرى من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي به، بعضهم يرفعه، وبعضهم يوقفه على عليّ، وعند بعضهم الحارث الأعور مقرونًا مع عاصم بن ضمرة.
وقد ناقش المصنف رحمه الله تعالى علّة الحديث حيث قال هنا: ((فروى - يعني أبا داود - بإسناد صحيح إلى أَبِي إسحاق السبيعي، ثم ذكر الخبر مرفوعًا، وعقب على ذلك بترجيح رواية جرير بن حازم، ثم قال: ولا يضره وقف من وقفه إذا كان الذي رفعه ثقة)). اهـ.
وقال ابن حزم في "المحلى" (6/70): ((أما حديث علي فإن ابن وهب، عن جرير، عن أبي إسحاق، قرن فيه بين عاصم بن ضمرة وبين الحارث الأعور، والحارث كذاب، وكثير من الشيوخ يجوز عليهم مثل هذا، وهو أن الحارث أسنده، وعاصم لم يسنده، فجمعهما جرير وأدخل حديث أحدهما في الآخر، وقد رواه عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن على: شعبة وسفيان ومعمر، فأوقفوه على عليّ وهكذا كل ثقة رواه عن عاصم...))، ثم قال: ((قد ذكرنا أنه حديث هالك، ولو أن جريرًا أسنده عن عاصم وحده؛ لأخذنا به، لكن لم يسنده إلا عن الحارث معه))، ثم أفاض رحمه الله في تضعيف الحديث ورده.
وقد ذكر الزيلعي في "نصب الراية" (2/328) أن الحديث حسن، وحكى عن النووي في "الخلاصة" أنه قال: ((وهو حديث صحيح أو حسن)). قال الزيلعي: ((ولا يقدح فيه ضعف الحارث لمتابعة عاصم له)).اهـ. ثم ذكر عن عبد الحق في "الأحكام" كلامًا نحو ما قاله ابن حزم. وفي "التلخيص الحبير" (2/306) قال الحافظ: ((لا بأس بإسناده، والآثار تعضده، فيصلح للحجة)). اهـ. يعني المرفوع.
وقد صحح إسناده الشيخ أحمد شاكر فى "المسند"(2/311)، كما أن الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (3/256-258) رجح الوقف فى حال هذا الخبر، ثم قال: ((ثم وجدت للحديث طريقًا أخرى بسند صحيح عن علي رضي الله عنه خرّجته في "صحيح أبي داود"، فصح الحديث)).اهـ.
(8) في (ح): ((عليها)).
(9) في (ح): ((فَبحسان)).
(10) في (ي): ((إسحاق السبيعي)).
(11) في (س): ((عنه الحارث)).
(12) في (ي): ((فرق)).
(13) في (ب): ((به))، وفي (ي): ((إليه)).
(14) في (ب): ((مقبول))، ووضع عليها إشارة لحق ولم يظهر بالهامش إلا رأس الكلمة.
(15) في (ي): ((ههنا)).(3/10)
واحد، وظاهره (1) : أنه تلقاه عن كل واحد منهما على نحو ما تلقاه عن الآخر، فيُعْتَمد على رواية الثقة، وتلغى رواية غيره، ولا يضره وقف من وقفه (2) ؛ إذا كان الذي رفعه (3) ثقة.
قال القاضي عياض رحمه الله: وأما (4) نصاب الذهب فهو عشرون دينارًا، والمُعوَّل في تحديده على الإجماع، وقد حكي فيه خلاف شاذ، وورد فيه أيضًا (5) حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: وأما نصاب الإبل والغنم؛ فلم يخزج في كتاب مسلم من ذلك شيء. وقد خرَّج البخاري (6) فيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وأما نصاب البقر فلم يقع في "الصحيحين" شيء من ذلك. وقد روى في ذلك النسائي (7) عن مسروق، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالمٍ (8) دينارًا، أو عِدْلَه مَعَافِر. غير أنه منقطع، لم يلق مسروق معاذًا. وقد خرَّجه (9) الترمذي (10) عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه (11) ، ولم يسمع أبو عبيدة من أبيه. ورواه مالك (12) عن طاوس، عن معاذ من فعله موقوفًا، وطاوس لم يدرك معاذًا.
وأحسن ما في الباب ما خرَّجه الدارقطني (13) ، عن الشعبي، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في كل أربعين من البقر مُسِنَّة، وفي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة))، قال: هذا يروى مرسلاً عن الشعبي (14) ، وهو الصواب.
قال أبو محمد بن حزم: قد صح الإجماع المتيقن المقطوع به، الذي =(3/11)=@
__________
(1) في (ح): ((وظاهرها)).
(2) في (ز): ((رفعه)).
(3) في (ز) و(س): ((وقفه)).
(4) في (ح): ((فأما)).
(5) في (ح): ((وورد أيضًا فيه)).
(6) أخرجه مفرقًا في عدة مواضع من الصحيح على النحو التالي: (3/317 رقم1454) كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، وهو أطول الروايات عنده، وفيه ذكر زكاة الإبل والغنم والرقة، و (3/312 رقم 1448) كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة، وفيه جزء من ذكر زكاة الإبل، و(3/216 رقم 1453) كتاب الزكاة، باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده، وفيه ذكر زكاة الإبل، و(3/314 رقم1450) كتاب الزكاة، باب لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، و(3/315 رقم1451) كتاب الزكاة، باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، و (5/130 رقم 2487) كتاب الشركة، باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، و(3/321 رقم 1455) كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ في الصدقة هرِمةٌ ولا ذات عَور ولا تيسٌ؛ إلا ما شاء المصدق.
وهذه الروايات الأربع كلها مختصرة؛ لم يرد من الحديث فيها إلا لفظ ترجمة الباب فقط، و (6/212 رقم3106) كتاب فرض الخمس، باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه، و (10/328 رقم 5878) كتاب اللباس، باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر، وهاتان الروايتان مختصرتان فيهما ذكر ختم الكتاب وصفة الختم. و(12/330 رقم 6955) كتاب الحيل، باب في الزكاة، مختصرًا جدًا.
(7) (5/26 رقم2452) كتاب الزكاة، باب زكاة البقر، قال: أخبرنا أحمد بن حرب قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن مسروق، عن معاذ قال: لما بعثه رسول الله ?... الحديث بلفظه. وقد جاء الحديث عنده - أي النسائي - من طرق أخرى وسأسوقها مع تخريجها، وذلك للاختلاف الوارد في إسناد الحديث من رواية الأعمش؛ كما سنرى، فعنده في (5/25 رقم2450): من طريق مفضل بن مهلهل عن الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، عن معاذ به، و(5/26 رقم2451): من طريق يعلى بن عبيد قال: حدثنا الأعمش عن شقيق، عن مسروق، والأعمش، عن إبراهيم؛ قالا: قال معاذ.... الحديث، و(5/26 رقم2453): من طريق ابن إسحاق قال: حدثني الأعمش عن أبي وائل - شقيق -، عن معاذ، به.
وقد أخرج الحديث عدد من الأئمة من هذه الطرق أو بعضها:
فمن الطريق الأول: أخرجه أبو داود (رقم1577) كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/362) كتاب الزكاة، باب في صدقة البقر، ماهي؟ والدارقطني في"السنن"(2/102رقم31) كتاب الزكاة، باب ليس في الخضروات صدقة، والبيهقي في "الكبرى" (4/98) كتاب الزكاة، باب كيف فرض صدقة البقر؟
ومن الطريق الثاني: الأعمش عن شقيق - أبي وائل -، عن مسروق، عن معاذ، أخرجه أبو داود (22/36 رقم 1578) كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، وقال: ((رواه جرير ويعلى ومعمر وشعبة وأبو عوانة ويحيى بن سعيد عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق. قال يعلى ومعمر: عن معاذ مثله)).اهـ، والترمذي (رقم623) كتاب الزكاة، باب ماجاء في زكاة البقر. وقال: ((هذا حديث حسن، وروى بعضهم هذا الحديث عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن فأمره أن يأخذ، وهذا أصح)). اهـ، وابن ماجه (1/576 رقم 1803) كتاب الزكاة، باب صدقة البقر، وأحمد في "المسند" (5/230)، وعبد الرزاق في "المصنف" (4/21 رقم 6841) كتاب الزكاة، باب البقر، وأبو عبيد في "كتاب الأموال" (ص386 رقم993) باب صدقة البقر، وابن الجارود في "المنتقى" (ص5، رقم343)، وابن خزيمة فى "صحيحه" (4/19 رقم 2268) كتاب الزكاة، باب صدقة البقر، وابن حبان - كما في الإحسان (11/244- 245 رقم 4886) كتاب السير، باب الذمي والجزية، والدارقطني في "السنن" (2/102 رقم 29، 30) كتاب الزكاة، باب ليس فى الخضروات صدقة، والحاكم في "المستدرك" (1/398) كتاب الزكاة، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)). وأقره الذهبي، والبيهقي في "الكبرى" (4/98) كتاب الزكاة، باب كيف فرض صدقة الفطر؟ و(9/193) كتاب الجزيه، باب كم الجزية؟ والبغوي في "شرح السنة" (6/19رقم 1571) كتاب الزكاة، باب صدقة البقر السائمة.
ومن الطريق الثالث: من طريق يعلى بن عبيد عن الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، والأعمش عن إبراهيم قالا: قال معاذ. أخرجه: ابن زنجويه في "كتاب الأموال"(1/125 رقم105)، و(2/837 رقم1454)، والدارمي في "السنن"(1/382) كتاب الزكاة، باب زكاة البقر، والبيهقي في "الكبرى"(4/98) كتاب الزكاة، باب كيف فرض صدقة الفطر؟ و(9/193) كتاب الجزية، باب كم الجزية؟ وقال بعد ما ذكر ما ورد من رواية الأعمش عن إبراهيم عن معاذ، والأعمش عن إبراهيم، عن مسروق، عن معاذ؛ قال (9/193): فالصواب...، ثم ساق إسناده من طريق - يعلى بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن مسروق. والأعمش عن إبراهيم، قالا: قال معاذ...، ثم قال: ((هذا هو المحفوظ؛ حديث الأعمش عن أبى وائل شقيق بن سلمة، عن مسروق، وحديثه عن إبراهيم، منقطع؛ ليس فيه ذكر مسروق)).اهـ.
وقال أيضًا في هذه الصفحة: قال أبو داود في بعض النسخ: هذا حديث منكر، بلغني عن أحمد أنه كان ينكر هذا الحديث إنكارًا شديدًا. قال البيهقي: إنما المنكر رواية أبي معاوية عن الأعمش، عن إبراهيم، عن مسروق، عن معاذ، فأما رواية الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق؛ فإنها محفوظة، قد رواها عن الأعمش جماعة منهم: سفيان الثوري، وشعبة، ومعمر، وجرير، وأبو عوانة، ويحيى بن سعيد، وحفص بن غياث. وقال بعضهم: عن معاذ، وقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن، أو مافي معناه. اهـ.
وجاء عند ابن خزيمه في "صحيحه" (4/19) كتاب الزكاة، باب صدقة البقر، من طريق عبد الرحمن بن مغراء، حدثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة وإبراهيم، عن مسروق، عن معاذ، به.
ومن الطريق الرابع: الأعمش، عن أبي وائل شقيق، عن معاذ: أخرجه أبو داود (رقم1576) كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، والبيهقي في "الكبرى" (9/193) كتاب الجزية، باب كم الجزية؟ كما أن الحديث جاء من طرق أخر؛ غير ما أخرجه النسائي موصولة ومرسلة، فقد أخرجه أحمد (5/233) من طريق شريك، عن عاصم، عن أبى وائل، عن معاذ، به، و(5/247) من طريق أبي بكر بن عياش، حدثنا عاصم، به، وأخرج أحمد طريقًا آخر للحديث (3/240) عن سلمة بن أسامة، عن يحيى بن الحكم، عن معاذ، به.
وأخرجه أبو عبيد في "الأموال" (ص391 رقم 1021) من طريق سلمة بن أسامة، عن معاذ به. وجاء الخبر مرسلاً عند ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/362) كتاب الزكاة، باب في صدقة البقر، من طريق الأعمش، عن إبراهيم وأبي وائل، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا.
وقد أعلّ المصنف الحديث بقوله: غير أنه منقطع، لم يلق مسروق معاذًا. اهـ. وقد قال بنحو هذا ابن حزم في"المحلى"(6/8) حيث أعلّ الأحاديث الواردة في زكاة البقر بأن النصاب ثلاثين وأربعين، فقال: فوجدنا الآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم منقطعة، والحجة لا تجب إلا بمتصل، وقال (6/11): ((وجدنا الآثار التي احتجوا بها عن معاذ وغيره مرسلة كلها؛ إلا حديث بقية؛ لأن مسروقًا لم يلق معاذًا، وبقية ضعيف لا يحتج بنقله))، ثم قال (6/16): ((ثم استدركنا فوجدنا حديث مسروق، ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلا شك قد أدرك معاذًا، وشهد حكمه، وعلمه المشهور المنتشر، فصار نقله لذلك، ولأنه عن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلاً عن معاذ بلا شك، فوجب القول به)).اهـ.
وقال الحازمي في "الاعتبار"(ص336): ((وهو حديث حسن على شرط أبي داود والنسائي..."، ثم قال: ((وعلى الجملة، الاعتماد على حديث معاذ؛ لأنه أصح ما يوجد في الباب، وله شواهد في السنن)).اهـ.
كما أن الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (3/269) ذكر قول الحاكم وموافقة الذهبي له في تصحيح الحديث، ثم قال: ((وهو كما قالا، وقد قيل إن مسروقًا لم يسمع من معاذ؛ فهو منقطع، ولا حجة على ذلك)).اهـ. بينما رجح الترمذي الرواية المرسلة في "السنن"، وتقدم نقل عبارته. وانظر: ((التلخيص الحبير"(2/152-153).
(8) في (ح) و(ي): ((خادم)).
(9) في (ح): ((أخرجه)).
(10) (3/19 رقم 622) كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر. قال: حدثنا محمد ابن عبيد المحاربي وأبو سعيد الأشج، قالا: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في ثلاتين من البقر تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة))، وقال: ((هكذا رواه عبد السلام بن حرب عن خصيف، وعبد السلام ثقة حافظ، وروى شريك هذا الحديث عن خصيف عن أبي عبيدة، عن أبيه - كذا عنده -، عن عبد الله، وأبو عبيدة بن عبدالله لم يسمع من عبدالله أبيه)).اهـ.، وابن ماجه (1/577 رقم 1804) كتاب الزكاة، باب صدقة البقر، بلفظه. وابن أبي شيبة في "المصنف"(2/362) كتاب الزكاة، باب في صدقة البقر ما هي؟ بلفظه، وأبو يعلى في "المسند"(8/433رقم5016) بلفظه، والبيهقي في "الكبرى" (4/99) كتاب الزكاة، باب كيف فرض صدقة البقر؟ بنحوه، وقال: ((رواه شريك، عن خُصيف، عن أبي عبيدة، عن أمه، عن عبدالله، قاله البخاري)).اهـ.
رووه جميعًا من طريق عبد السلام بن حرب به، ورواه الإمام أحمد (1/411) من طريق مسعود بن سعد - التصويب من نسخة شاكر (6/4) وفي المطبوعة: ابن مسعود وابن سعد-، حدثنا خصيف به.
وهذا إسناد ضعيف للإنقطاع بين أبي عبيدة وأبيه، حيث لم يسمع أبو عبيدة من أبيه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه؛ كما صرح بذلك غير واحد: كالإمام الترمذي وابن حبان في "الثقات"، وأبي حاتم في "المراسيل"، وشعبة، والمزي في "التهذيب"، وفي "التحفة" (7/157)، وقال الحافظ في "التقريب": ((والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه)).اهـ. و"الثقات" (5/561)، و"المراسيل"(ص256)، و"جامع التحصيل"(ص204)، و"التهذيب"(5/75)، و"التقريب"(ص656 رقم8231)، ولم أقف على رواية شريك التي أشار إليها الترمذي والبيهقى، وللحديث شاهد من حديث معاذ بن جبل المتقدم آنفًا، فيتقوى به فهو صحيح لغيره.
(11) في (ب): ((عن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود)).
(12) في "الموطأ" (1/259 رقم24) كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة البقر، قال: عن حميد بن قيس المكي، عن طاوس اليماني: أن معاذ بن جبل الأنصاري أخذ من ثلاتين بقرة تبيعًا، ومن أربعين بقرة مسنة، وَأَتِيَ بما دون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئًا، وقال: لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئًا حتى ألقاه فأسأله، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ بن جبل. وأخرجه عن مالك: الشافعي - كما في ترتيب مسنده - (1/237 رقم648)،
وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف"(4/26 رقم 6856) كتاب الزكاة، باب البقر، والبيهقي في "الكبرى" (4/98) كتاب الزكاة، باب كيف فرض صدقة البقر؟
رووه جميعًا من طريق مالك بإسناده. وهو إسناد منقطع كما قال المصنف هنا، فإن طاوسًا لم يلق معاذًا، نص على ذلك عدد من الأئمة؛ منهم: ابن عبد البر في "التمهيد" (2/273)، والدارقطني في "العلل" (6/66)، والعلائي في "جامع التحصيل"(ص201).
وقال الألباني في"الإرواء"(3/270): ((وهذا سند رجاله كلهم ثقات؛ إلا أنه منقطع بين طاوس ومعاذ)). وقد قال الحافظ في"التلخيص"(2/152): ((قد قال الشافعي: طاوس عالم بأمر معاذ، وإن لم يلقه لكثرة من لقيت ممن أدرك معاذًا، وهذا مما لا أعلم من أحدٍ فيه خلافًا)).اهـ.
(13) لم أقف عليه من حديث أنس، وإنما أخرجه الدارقطني في "السنن"(2/99) من حديث ابن عباس بنحوه، و(2/101) من حديث مسروق عن معاذ.
ونقل الزيلعي في "نصب الراية" (2/352) عن الدارقطني أنه سئل عن حديث رواه أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في كل أربعين من البقر مسنة، وفي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة؟)) فقال: ((هذا يرويه داود بن أبي هند، واختلف عنه، فرواه أبو أميه الطرسوسي، عن عبيد الله بن موسى، عن الثوري، عن داود، عن الشعبي، عن أنس، ورفعه، وغيره يرويه عن الثوري عن داود عن الشعبي مرسلاً وهو الصواب)). اهـ. قال الزيلعي: ((وهذا مرسل)). اهـ.
(14) أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/362) كتاب الزكاة، باب فى صدقة البقر ما هي؟ قال: حدثنا علي بن مسهر، عن الأجلح، عن الشعبي، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن: ((أن يؤخذ من ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة))، وقال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم وعن إسماعيل، عن أبي خالد، عن الشعبي قال: ((في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، وفي أربعين مسنة)). وقال (2/363): حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي قال:... بنحوه.
وعبارة الدارقطني التي نقلها المصنف وذكرها الزيلعي؛ صريحة في أن الصواب هو الرواية المرسلة، وقد تكلم الأئمة في رواية عبيد الله بن موسى عن سفيان، فقال عثمان بن أبي شيبة: صدوق ثقة، وكان يضطرب في حديث سفيان اضطرابًا قبيحًا. وقال ابن عدي: قال البخاري: عنده جامع سفيان ويستصغر فيه.اهـ. انظر "التهذيب" (3/29)، وفي "التقريب" (ص375 رقم4345) قال الحافظ: ((ثقة كان يتشيع، قال أبو حاتم: كان أثبت في إسرائيل من أبي نعيم، واستصغر في سفيان الثوري، مات سنة (213هـ)، على الصحيح، روى له الجماعة)).
فما ذهب إليه المصنف - رحمه الله تعالى - هو الراجح، وأن هذا الحديث ضعيف للإرسال.(3/11)
لا خلاف (1) فيه: أن في كل خمسين بقرةٍ بقرةٌ. فوجب الأخذ بهذا، وما دون ذلك مختلف فيه، ولا نص في إيجابه.
قلت: وحديث جابر وأبي سعيد يدلان على أن ما نقص عن هذه النصب ليس فيه زكاة، ولا خلاف في ذلك، إلا ما ذهب إليه أبو حنيفة وبعض السلف من أن الحب تخرج الزكاة من قليله وكثيره، والحديثان حجة (2) عليهم.
وقال داود: كل ما يدخله الكيل فتراعى فيه الخمسة الأوسق، وما عداه مما لا يوسق، ففي قليله وكثيره الزكاة.
قال القاضي عياض رحمه الله: وأجمعوا على أن في عشرين دينارًا الزكاة. ولا تجب في أقل منها؛ إلا ما روي عن الحسن والزهري مما لم يتابعا عليه: أن لا صدقة في أقل من أربعين دينارًا، والأشهر عنهما ما روي عن الجماعة. وروي عن بعض السلف: أن الذهب إذا كانت قيمته (3) مائتي درهم فيها (4) الزكاة، فإن نقصت عن ذلك فلا شيء فيه.
واتفقوا على أن ما زاد من الحب (5) على خمسة أوسق؛ أن الزكاة في قليله وكثيره، ولا (6) وَقَصَ فيه. واتفقوا على الأوقاص في المواشي.
واختلفوا في الذهب والفضة: فذهب مالك والشافعي وبعض السلف والجمهور إلى أن لا وقَصَ فيهما (7) . وذهب أبو حنيفة وبعض أصحابه إلى أنه لا شيء فيما (8) زاد على المائتي درهم حتى تبلغ أربعين، ولا على العشرين دينارًا (9) حتى تبلغ أربعة دنانير (10) ، فإذا زادت على ذلك، ففي كل أربعين درهمًا درهم، وفي كل أربعة دنانير درهم، ومعتمدهم في هذا حديث ضعيف لا أصل له (11) ومالك وجمهور علماء الأمصار يرون ضَمَّ الذهب والفضة على اختلاف بينهم؛ فمالك وجماعة يراعون الوزن، والضم على الأجزاء (12) لا على القيم، ويُنْزِلُون كل دينار منزلة عشرة دراهم على الصرف القديم. وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري يرون ضمها (13) على القيمة (14) في وقت الزكاة.
وقال الشافعي وداود وأبو ثور وأحمد: لا يضم منها شيء إلى شيء، ويراعى نصاب كل واحد منهما بنفسه.
وذهب آخرون إلى =(3/12)=@
__________
(1) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((لا اختلاف)).
(2) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((حجتان)).
(3) في (ح) و(ز) و(س): ((قيمتها)).
(4) في (ب): ((ففيها)).
(5) في (ي): ((الخمسة)).
(6) في (ب) و(ي) و(ز) و(س): ((لا)) بلا واو.
(7) في (ي): ((والجمهور أن الأوقص فيها)).
(8) في (ي): ((فما)).
(9) في (ب): ((دينار)).
(10) كذا في (ب) و(أ) و(ح) و(ز) و(س) و(ي): ولعل الصواب أربعين.
(11) يشير المصنِّف رحمه الله إلى حديث معاذ رضي الله عنه: أخرجه الدارقطني (2/93 رقم1) كتاب الزكاة، باب ليس في الكسر شيء، من طريق ابن إسحاق عن المنهال بن الجراح، عن حبيب بن نجيح، عن عبادة بن نسي، عن معاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره حين وجهه إلى اليمن: ((أن لا تأخذ من الكسر شيئًا؛ إذا كانت الورق مائتي درهم فخذ منها خمسة دراهم، ولا تأخذ مما زاد شيئًا حتى تبلغ أربعين درهمًا، وإذا بلغ أربعين درهمًا فخذ منه درهمًا)).
ثم عقب الدارقطني بقوله: المنهال بن الجراح متروك الحديث، وهو أبو العطوف، اسمه الجراح بن المنهال، وكان ابن إسحاق يقلب اسمه إذا روى عنه، وعبادة بن نسي لم يسمع من معاذ.
وأخرجه أيضًا البيهقي في "الكبرى" (4/135) كتاب الزكاة، باب ذكر الخبر الذي روي في وقص الورق، من طريق ابن إسحاق قال: حدثني المنهال بن الجراح... فذكره، ثم عقب بذكر كلام الدارقطني، ثم قال: ((مثل هذا لو صح لقلنا به ولم نخالفه؛ إلا أن إسناده ضعيف جدًّا، والله أعلم)). اهـ.
(12) في (ز) و(س): ((ضمهما)).
(13) في (ز): ((الأخرى)).
(14) في (ح): ((القيم)).(3/12)
أنه إنما يضم إذا كمل من أحدهما نصاب، فيضم الآخر، ويزكى الجميع.
3- وَعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ (1) أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِيمَا سَقَتِ الأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((فِيمَا سَقَتِ الأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ))؛ كذا مساق حديث جابر رضي الله عنه هنا.
وفي البخاري (2) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا (3) : ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثرِيًا (4) العشر، وفيما (5) سقي بالنضح نصف العشر)).
و((الأَنْهَارُ)): جمع نهر، وقد تقدم اشتقاقه.
و ((الْغَيْمُ)) هنا: هو المطر. وقد روي في غير كتاب (6) مسلم (7) : ((الغيل)) (8) باللام. قال (9) ابن السكيت: هو الماء الجاري على الأرض.
و((العثري (10) )) قال أكثرهم: هو ما يشرب (11) بماء السماء. وسمي بذلك؛ لأنه تكسر (12) حوله الأرض، وتعثّر (13) جريه (14) إلى أصول النخل بتراب يرتفع هناك. قالوا: والبعل (15) ما لا (16) يحتاج إلى ذلك (17) ، وإنما يشرب بعروقه.
و((السانية)): هي السَّاقية، يقال: سنا يسنو سَنوًا؛ إذا استقى، وهو النضح أيضًا.
و((النواضح)): هي الإبل التي يستقى عليها الماء.
وقد أجمع العلماء على الأخذ بهذا الحديث في قدر ما يؤخذ. واستدل أبو حنيفة بعمومه على وجوب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض من الثمار والرياحين والخضر وغيرها، إلا الحشيش وشبهه من الحطب والقصب، وما (18) لا يثمر من الشجر كالسَّمُر وشبهه (19) . وخالفه جماعة العلماء في ذلك على اختلافهم فى تفاصيل ذلك.
وقد أجمعوا على الحنطة والشعير والتمر والزبيب. ورأى الحسن والثوري وابن أبي ليلى في آخرين: أنه لا زكاة إلا في هذه الأربعة. =(3/13)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/675 رقم981) في الزكاة، باب ما فيه العشر أو نصف العشر.
(2) (3/347 رقم 1483) كتاب الزكاة، باب العُشر فيما يسقى من ماء السماء بالماء الجاري.
(3) في (ب): ((موقوفًا)).
(4) في (س) و(ز): ((عشريًا))، وفي (ي): ((عشروا)).
(5) في (ي) و(ز) و(ب) و(ح): ((وما))، وفي (س) لم تتضح.
(6) قوله: ((كتاب)) سقط من (ب) و(ح) و(ز) و(س) و(ي).
(7) جاء هذا اللفظ في أحاديث موقوفة أو مرفوعة، ومرسلة أو موصولة وذلك عند: ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/375-376) كتاب الزكاة، باب ما قالوا فيما يسقى سيحًا وبالدوالي، وورد عنده في عدة روايات كما يلي:
من حديث الشعبي، عن أبيه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن: ((يؤخذ مما سقت السماء، وسقى بالغيل...)).
ومن حديث منصور عن الحكم قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ باليمن: ((أن فيما سقت السماء أو سقي غيلاً...)). ... ... ... ... ... ...
ومن حديث قتادة، عن صالح أبي الخليل قال: ((سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم... وماء الغيل)). ومن حديث أبي الزبير، عن جابر، أنه سمعه يقول فيها العشر، قلت: فيما يسقى غيلاً.
وعند يحيى بن آدم في كتاب الخراج (ص115 رقم365) من حديث منصور به.
وعند أبي عبيد في كتاب "الأموال" (ص478 رقم 1412) من حديث منصور به.
وعند ابن زنجويه في كتاب "الأموال" (3/1061 رقم 1964)، و(1/128 رقم109) من حديث منصور به.
وجاء عند ابن ماجه في "سننه" (1/581) نقل تفسير يحيى بن آدم لبعض ألفاظ الحديث، وفيه: والغَيْل: سيل دون سيل.اهـ.
(8) في (ز): ((العنل)).
(9) في (ب): ((وقال)).
(10) في (ح): ((العيثري))، وفي (س) و(ز): ((العشري))، وفي (ي): ((والعشيري)).
(11) في (ح) و(ي): ((شرب)).
(12) في (أ): ((تسكر))، وفي (ب): ((يكسر)).
(13) في (ح) و(ي) مهملة الأول، وفي (أ): ((يعبر))، وفي (س) و(ز): ((يعسر)).
(14) في (ب): ((حرثه)).
(15) في (ي): ((والبقل)).
(16) في (ز) و(س): ((ما يحتاج)).
(17) في (ح): ((يحتاج إليه)) بدل ((إلى ذلك)).
(18) لم تتضح في (ز).
(19) من قوله: ((من الحطب والقصب...)) إلى هنا سقط من (ي).(3/13)
وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنها تجب في كل ما يُقتات ويُدَّخر للعيش غالبًا، ونحوه قال الشافعي وأبو ثور؛ إلا أنهما استثنيا الزيتون. وقال ابن الماجشون من أصحابنا: تجب (1) في ذوات الأصول كلها ما ادُّخر منها وما لم يدَّخر.
و((العَشور)): أكثر الرواة على فتح العين. وهو اسم القدْر المخرج. وعن الطبري: ((العُشْر))- بضم العين، وتسكين الشين -، ويكون العُشُور- بالضم-جمع ((عُشْر)).
والحكمة في فرض العشر: أنه يُكتب بعشرة أمثاله، فكأن المخرج للعشر تصدَّق (2) بكل (3) ماله، والله تعالى أعلم (4) .
*************
( 2 ) باب ليس فيما اتُّخِذَ للقُنْيَةً صدقة، وفي تقديم الصدقة وفي
تحمّلها عمن وجبت عليه
4- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (5) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ. وَفِي رِوَايَةٍ (6) : لَيسَ فِي العَبدِ صَدَقَةٌ إلا صَدَقَةَ الفطر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ليس فيما اتخذ للقنية صدقة
قوله: ((لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ))؛ هذا الحديث أصل في أن ما هو للقنية لا زكاة فيه، وهو مذهب كافة العلماء وأئمة الفتوى؛ إلا حماد بن أبي سليمان (7) ، فإنه أوجب في الخيل الزكاة. وقال (8) أبو حنيفة: إذا كانت إناثًا وذكورًا يُبتغى (9) نسلها، ففي كل فرس (10) دينار، وإن شاء قوَّم وأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم، ولا حجة لهم مع هذا الحديث. =(3/14)=@
__________
(1) كذا في (س)، وفي بقية النسخ أهمل أولها.
(2) في (ز): ((يصدق)).
(3) في (ب): ((بجميع)).
(4) قوله: ((والله تعالى أعلم)) ليس في (س).
(5) أخرجه البخاري (3/326 رقم1463) في الزكاة، باب ليس على المسلم في فرسه صدقة، و(3/327 رقم1464) الباب المتقدم، بنحو رواية مسلم، ومسلم (2/675 رقم982) في الزكاة، باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه.
(6) (2/676 رقم982/10) الكتاب والباب السابقين.
(7) في (أ) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((سلمة)).
(8) في (ب): ((قاله))، وفي (أ) و(س) و(ر) و(ي): ((وقاله)).
(9) في (ز) و(س) و(ب) و(ح): ((رأس)).
(10) في (ي): ((ينبغي)).(3/14)
وقوله: ((لَيسَ فِي العَبدِ صَدَقَةٌ (1) إلا صَدَقَةَ الفطر))؛ دليل: على أن على السيد في عبده زكاة الفطر، وهو قول الجمهور في العبيد؛ كانوا لخدمة (2) ، أو غلة، أو تجارة؛ خلافًا لداود وأبي ثور في إيجابها على العبد نفسه، وخلافًا لأهل الكوفة في إسقاطها (3) من (4) عبيد التجارة فقط.
5- وَعَنْهُ (5) قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم - عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا))، ثُمَّ قَالَ: ((يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أبي هريرة رضي الله عنه: ((إِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ))؛ ظاهر هذا اللفظ أنها الصدقة الواجبة، وإليه صار الجمهور، وعلى هذا يلزم (6) استبعاد منع (7) هؤلاء المذكورين لها، ولذلك قال بعض العلماء: كانت صدقة تطوع.
وقد روى عبد الرزاق (8) هذا الحديث، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الصدقة، وذكر الحديث.
قال ابن القصار: وهذا (9) أليق بالقصة، فلا يظن بأحد منهم منع الواجب. قال: فيكون عذر خالد واضحًا؛ لأنه رضي الله عنه لما (10) أخرج أكثر ماله حُبْسًا في سبيل الله تعالى؛ لم يحتمل صدقة التطوع، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم لذلك. ويكون ابن جميل شحَّ في (11) التطوع الذي لايلزمه، فعتب عليه (12) النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث. وأخبر (13) أن العباس يسمح بما طلب منه ومثله معه، وأنه ممن (14) لا يمتنع مما حَضَّه (15) عليه (16) النبي صلى الله عليه وسلم، بل يَعُدُّه كاللازم. =(3/15)=@
__________
(1) من هنا بدأ خط طوالي في النسخة (ب) في القسم (أ) اللوحات 26 إلى 30، فتح عنه عدم وضوح بعض الكلمات التي توازي هذه الكلمة.
(2) في (س): ((للخدمة)).
(3) (أ) و(ح) و(س) و(ز) و(ي): ((إسقاطهما)).
(4) في (ب) و(ح) و(س) و(ز) و(ي): ((عن)).
(5) أخرجه البخاري (3/331 رقم1468) في الزكاة، باب قول الله تعالى: {وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله }، وفيه: ((فهي عليه صدقة ومثلها معها))، وليس فيه قوله لعمر: ((إن عم الرجل صنو أبيه))، ومسلم (2/676 رقم983) في الزكاة، باب تقديم الزكاة ومنها.
(6) في (ح): ((فيلزم)).
(7) في (ب) و(ح): ((منع مثل))، وفي (ي): ((استبعاد مثل)).
(8) في "المصنف" (4/18 رقم 6826) كتاب الزكاة، باب من كتم الصدقة، و(4/44 رقم 69/8) كتاب الزكاة، باب موضع الصدقة.
قال رحمه الله تعالى: عن ابن جريح قال: حدثت حديثًا رفع إلى عبد الرحمن الأعرج عن، أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس في الصدقة، فأتى فقيل: يا رسول الله! هذا أبو جهم بن حذيفة وخالد بن الوليد وعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منعوا الصدقة. فقال: ((ما ينقم ابن جميل منا إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله)) الحديث.
كذا جاء عنده في الموضعين: أبو جهم، قال الحافظ في "الفتح" (3/263): ((هو خطأ لإطباق الجميع على ابن جميل)).
والحديث عند الشيخين - كما تقدم في تخريج الحديث - من طريق عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة.
ولكن إسناد عبدالرزاق ضعيف للانقطاع الظاهر فيه، والله أعلم.
(9) في (ح): ((من)).
(10) في (ح): ((إنما)).
(11) في (ح): ((من)).
(12) قوله: ((عليه)) سقط من (ح).
(13) في (س): ((أخر)).
(14) قوله: ((ممن)) سقط من (ي).
(15) في (ي): ((خصه)).
(16) قوله: ((عليه)) سقط من (ح).(3/15)
وأما من قال إنها صدقة الفرض، فيشكل عليه امتناع هؤلاء الكبراء والفضلاء من الصحابة عن أدائها، واحتسابه صلى الله عليه وسلم لخالد فيها بما كان حَبَس من آلة الجهاد، مع أنه قد كان يعدها (1) على وجه الْحُبُس؛ على ما هو ظاهر الحديث.
وقوله: ((فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا))، وقوله: ((فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا))، وقد انفصل عن استبعاد منعهم بأنهم (2) لم يمنعوها عنادًا، بل توقفًا من ابن جميل إلى أن يرى هل يُسامح بها.
وقال المهلب (3) : كان ابن جميل منافقًا أولاً فمنع الزكاة، فأنزل الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (4) الآية، فقال: استثناني (5) الله، فتاب وصُلحت حاله (6) ، وتأوُلاً من خالد بأنه يحتسب له بها، ومن العباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم تحملها (7) عنه، أو بأنه عديم (8) ، أو بغير ذلك من أنواع التأويلات المسوغة، ولم يكن فيهم أبعد تأويلاً من ابن جميل؛ ولذلك عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: ((إِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا))؛ فهو خطاب منه للعمال (9) على الصدقة؛ حيث لم يحتسبوا له بما أنفق في الجهاد من الخيل والعدة. وكأن خالدًا -والله أعلم - رأى أن الحاجة قد تعينت للجهاد في سبيل الله، وقد جعل الله تعالى للجهاد (10) حظًّا من الزكاة، فرأى أن يصرفها فيه، فأخرج زكاته، واشترى بها ما يصلح للجهاد؛ كما يفعله الإمام. ولما تحقق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: ((إنكم تظلمون خالدًا، فإنه (11) صرفها مصرفها، وأنتم تطالبونه (12) بها (13) . وعند ذلك يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم لخالد (14) ذلك إمضاءً لما فعل خالد، ويكون معنى ((احتبس أدراعه (15) وأعتده في سبيل الله)): رفع يده عنها، وأبانها عن (16) ملكه، وخلّى بين الناس وبينها في سبيل الله، لا أنه (17) حبسها وقفًا (18) على =(3/16)=@
__________
(1) في (ي): يشبه أن تكون ((يعدها)).
(2) في (س) و(ز): ((فإنهم)).
(3) في (ب): ((ابن المهلب)).
(4) سورة التوبة؛ الآية: 74، وقوله: ((الآية)) ليس في (أ)، و(س) و(ز)، و(ي).
(5) في (أ) و(ح): ((استتابني)). [تراجع في غير (ب) حيث أنها في (ب) المثبت].
(6) لم أقف عليه عن ابن جميل، وإنما وقفت عليه عن الجلاس بن سويد عند الطبري في "تفسيره" (14/368-369 رقم16984و16985)، وفيه: قال الجلاس: يا رسول الله إني أرى الله قد استثنى لي التوبة فأنا أتوب، فتاب فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
(7) في (ح): مهملة الأول ولكن ضبطها بكسر الميم.
(8) في (ز) و(س): ((غريم)).
(9) في (أ): ((للغمال)).
(10) قوله: ((وقد جعل الله للجهاد)) سقط من (ح).
(11) في (ب) و(ز) و(س) و(ح) و(ي): ((فإنه قد)).
(12) في (أ): ((تطلبونه)).
(13) قوله: ((بها)) سقط من (ي).
(14) قوله: ((لخالد)) سقط من (ح).
(15) في (ز): ((أدرعة)).
(16) في (س): ((من)) بدل ((عن)).
(17) في (ح): ((أنها)).
(18) في (ز) و(س): ((وقفها حبًا)).(3/16)
التأبيد.
و((الأدراع)): جمع درع الحديد. و((الأعتاد)): جمع عتد (1) ، وكذلك الأعتد في غير هذه الرواية، وكلاهما جمع قلة، وهو الفرس الصُلب. وقيل: هو المعد للركوب. وقيل: السريع الوثب.
قال (2) الهروي: هو ما أعده الرجل من سلاح، ودواب، وآلة للحرب (3) . ويجمع أيضا: أَعْتِدَة. وفي غير مسلم: ((أَعْتُدَة))- بضم التاء وفتح الدال -، وروي (4) أيضًا (5) : ((أعبدة))- بالباء - بواحدة (6) جمع (7) : ((عبد)) (8) .
(9) وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حق العباس رضي الله عنه: ((فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا (10) ))، فقد اضطربت (11) ألفاظ الرواة فيه: فقيل (12) ما ذكرناه. وفي البخاري: ((فهي (13) عليه صدقة ومثلها (14) معها))، وفي غيرهما: ((فَهِيَ له وَمِثْلُهَا)) (15) .
فأما (16) رواية مسلم فظاهرها أنه تحمّلها عنه ومثلها (17) ، ويحتمل أنها كانت له عليه؛ إذ قد كان قدّمها له. وفيه بُعدٌ من حيث اللفظ، وإن (18) كان الدارقطني قد روى من حديث موسى بن طلحة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا كنا (19) احتجنا فتعجَّلنا من العباس صدقة ماله سنتين)) (20) ؛ وبهذا يحتجّ مَن رأى (21) تقديم الزكاة قبل (22) وقت وجوبها. وهو مذهب أبي حنيفة والأوزاعي والشافعي وفقهاء المحدثين. ومن هؤلاء مَن يجيز تقديم زكاة عامين؛ أخذًا بهذا الحديث. ومنع ذلك مالك والليث، وهو قول عائشة وابن سيرين، فقالوا (23) : لا يجوز (24) تقديمها على وقت وجوبها (25) كالصلاة. وعن مالك خلافٌ فيما قرب، وكأن هؤلاء لم يصحَّ عندهم (26) الحديث - والله أعلم -، ولا ارتضوا ذلك التأويل.
وقيل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((هي عليَّ ومثلها))؛ إنه صلى الله عليه وسلم كان (27) قد تسلّف من العباس مالاً احتاج إليه في السبيل، فقاصَّه به عند الحول، وهذا ما لا يختلف في جوازه، وحينئذ لا يكون حجة (28) على جواز التقديم. وأما رواية البخاري؛ فنص في أنه تركها له ومثلها (29) ؛ وذلك لأنه كان قد فدى (30) نفسه وعقيلاً، فكأنه كان غريمًا (31) ، وإليه يرد قوله: =(3/17)=@
__________
(1) في (ي): ((عتيد)).
(2) في (ب) ((وقال)).
(3) في (أ) و(ب) و(ي) و(ز) و(س): ((الحرب)).
(4) قوله: ((وروي)) سقط من (أ) و(ي).
(5) قوله: ((أيضًا() ليس في (ب) و(ز) و(س) وكأنه ضرب عليها في (ح).
(6) في (ب): ((الموحدة)).
(7) في (ز) و(س): ((أدرعة)).
(8) كما عند ابن خزيمة وبعض رواة البخاري، وقد ذكر هذه الرواية التوربشتي في "الميسر" (554)؛ وقال: هو تصحيف صَحَفى لم ياخذ العلم س أفواه الرجال. أهـ، وصوَّب أنه: اعتده - بالتاء -، وقال الحافظ في الفتح (333/3): وقيل ا لبعض رواة البخارى: وأعبده – بالموحدة - جمج عبد؛ حكاه القاضي، والأول هو المشمهور: أعتده. اهـ.
(9) كتب في أعلى الصفحة [اللوحة 127 بياض في (ب) وثنيت الصفحة].
(10) في (ي): ((معهما)).
(11) في (ي): ((اضطرب)).
(12) في (ز) أقرب أن تكون ((فقل)).
(13) في (س): ((هي عليه)) بلا واو.
(14) في (ز) يشبه أن تكون ((وملها)).
(15) عند ابن خزيمة والبيقهي.
(16) في (ز) و(س): ((وأما)).
(17) وقد قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله في التعليق على "فتح الباري" (3/333): ((وظاهر الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم تركها له وتحملها عنه، وسمى ذلك صدقة تجوزًا وتسامحًا في اللفظ، ويدل على ذلك رواية مسلم: ((فهي عليَّ ومثلها)) فتأمل.اهـ.
(18) ؟؟؟.
(19) في (ز): ((قال كنا)).
(20) "السنن" (2/124 رقم6) كتاب الزكاة، باب تعجيل الصدقة قبل الحول، من طريق الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن موسى بن طلحة، عن طلحة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا عمر! أما علمت أن عمّ الرجل صنو أبيه؟ إنا كنا احتجنا إلى مال، فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين)). قال: اختلفوا عن الحكم في إسناده، والصحيح عن الحسن بن مسلم، مرسل. اهـ.
والحسن بن عمارة متروك.
وقد جاء الحديث من غير طريق الحسن بن عمارة مرسلاً؛ أخرجه أبو عبيد في "كتاب "الأموال" (583 رقم1885) باب تعجيل الصدقة، عن الحكم بن عتيبة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة، فأتى العباس يسأله صدقة ماله، فقال: قد عجلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة سنتين، فرفعه عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدق عمي، قد تعجلنا منه صدقة سنتين)). أخرجه ابن زنجويه في كتاب الأموال (3/1187 رقم2207).
وأخرجه ابن زنجويه مرسلاً من طريق هشيم، عن منصور، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم (3/1178 رقم2208) بنحوه.
وقد أشار لهذا الطريق أبو عبيد عقب الرواية السابقة؛ فقال: ((كان هشيم يزيدُ في إسناد هذا الحديث عن منصور، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم، قال: حدثت بذلك عنه ولا أحفظه منه)).اهـ.
وقد تكلم أهل العلم على هذا الحديث، ورجح المرسل عدد منهم؛ كأبي داود وأبي حاتم والدارقطني والبيهقي والحافظ وغيرهم. انظر "التلخيص" (2/317).
(21) في (ح): ((يرى)).
(22) في (ح) و(ي): ((على)) بدل ((قبل)).
(23) في (ز) و(س): ((قالوا)).
(24) في (ب): ((لا يجب)).
(25) في (ي): ((وقت حوبها)).
(26) في (س) مكانها إشارة لحق ولم يظهر في الهامش من الكلمة إلا ((هم)).
(27) ؟؟؟.
(28) ؟؟؟.
(29) في (ي): ((ومثلها معها لأنه)).
(30) في (ب): ((أنه قد كان فدى)).
(31) في (ح): ((عديمًا)).(3/17)
((فهي (1) له ومثلها))، ويحتمل: ((فهي له عليَّ)) كما تقدم. وبحسب هذه التأويلات تنزل (2) عليه الأحكام.
وقوله: ((مَا يَنْقِمُ (3) ابْنُ جَمِيلٍ))؛ أي: ما يعيب، يقال: نقَم ينقِم (4) ، ونَقِم (5) ينقَم (6) ، ومنه قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ (7) إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا} (8) ، وقال الشاعر (9) :
ما نقم الناس من أمّيةَ إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا
وإنهم سادة الملوك لا (10) ... تصلح إلا عليهم العرب
وقوله: ((أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟))؛ أي: يرجع مع أبيه إلى أصل واحد، ومنه قوله تعالى: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ} (11) ، وأصله من (12) النخلتين والنخلات التي ترجع إلى أصل واحد. و((الصِّنْوَان)): جمع صِنْو، كقِنْوَان وقِنْو، ويجمع: أصناء؛ كأسماء، فإذا كثرت، قلت: الصِّنَّي والصُّنيِّ (13) ، وهذا تعظيم لحق العم، وهو مقتضٍ ومناسب لأن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: ((هي (14) عليّ)) (15) أنه تحملها عنه؛ احترامًا له ومبّرةً (16) وإكرامًا؛ حتى لا يَتَعَرَّض له بطلبها (17) أحد (18) ؛ إذ تحمّلها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم (19) . =(3/18)=@
__________
(1) في (ب) و(ز) و(س): ((وهي)).
(2) في (ح): ((نزل)).
(3) في (ز): ((ننقم)).
(4) في (ز): لم يضبط العين.
(5) في (أ): ((ينقم)) وفي (ح): ((ونقَم)).
(6) في (أ): ((وينقُم)).
(7) في (ي): ((منه)).
(8) سورة البروج؛ الآية: 8.
(9) هو ابن قيس الرُّقَيَّات. ذكر ذلك عنه الزبيدي في "تاج العروس" (9/84).
(10) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((ولا)).
(11) سورة الرعد؛ الآية: 4.
(12) في (ي): ((في)) بدل ((من)).
(13) في (.) و(س): ((والصنيو)).
(14) في (أ): ((هو)).
(15) قوله: ((على)) ليس في (أ).
(16) في (ز) و(س): ((وميزةً)).
(17) في (س): ((يطلبها)).
(18) في (ز) و(س): ((أحدًا)).
(19) قوله: ((والله أعلم)) من (ز) فقط.(3/18)
*************
( 3 ) باب الأمر بزكاة الفطر، وعمن تخرج، ومما ذا تخرج، ومتى تخرج؟
6- عَنْ ابْنِ عُمَرَ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، أَوْ رَجُلٍ، أَوِ امْرَأَةٍ؛ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ (2) : فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ؛ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بزكاة الفطر
قوله: ((فَرَضَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ))؛ جمهور أئمة الفتوى على أنها واجبة، وهو المنصوص عن مالك؛ محتجين بقوله((فَرَض))؛ فإن (3) عرفه الشرعي أوجب، وبأنها داخلة في عموم قوله تعالى: {وَءَاتُوا الزَّكَاةَ} (4) .
وذهب بعض أهل العراق وبعض أصحاب مالك: إلى أنها سنَّة، ورأوا أن: ((فَرَضَ)) بمعنى: ((قَدَّرَ))، وهو أصله في اللغة، كما قال تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضةً} (5) ، ولم يروها داخلة في عموم ما ذكر. وقال أبو حنيفة: هي واجبة وليست بفريضة؛ على مذهبه في الفرق بين الواجب والفرض.
وقوله: ((زَكَاةَ الْفِطْرِ في (6) رَمَضَانَ))؛ إشارة إلى وقت وجوبها. وقد اختلف فيه:
فعندنا وعند الشافعي: تجب بغروب الشمس من آخر رمضان. وقيل عنهما: بطلوع الفجر من يوم الفطر.
وذهب بعض المتأخرين من أصحابنا: إلى أنها (7) تجب بطلوع الشمس من يوم الفطر، وسبب هذا الخلاف: أن الشرع قد أضاف هذه الزكاة للفطر، وهل هو الفطر المعتاد في سائر الشهر (8) ، فيكون الوجوب من وقت الغروب، أو الفطر المعتاد في كل (9) يوم، فيكون من طلوع الشمس. أو المراد أول الفطر المأمور به يوم الفطر، فيكون من طلوع الفجر.
وقال ابن قتيبة: معنى صدقة الفطر؛ أي (10) : صدقة النفوس، والفظرة: أصل الخلقة، وهذا بعيد (11) ، بل (12) مردود بقوله: =(3/19)=@
__________
(1) "صحيح مسلم" (2/678 رقم984/16) في الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير.
(2) أخرجه البخاري (3/367 رقم 1503) كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، بنحو الرواية الثانية عند المصنف، وفيه زيادة: "والصغير والكبير"، وفى آخره زيادة أيضًا، و(3/ 369 رقم 1504) كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين، بلفظ الرواية الثانية، و(3/371-372 رقم 1507) كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر صاعًا من تمر، مختصرًا، وفيه زيادة، و(3/375 رقم1511) كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر على الحر والمملوك، بنحوه، وفي آخره زيادة، وليس فيه قوله: ((من المسلمين "، و(3/377 رقم 1512) كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر على الصغير والكبير، بنحوه وليس فيه: ((من المسلمين "، ومسلم (2/677 رقم984/12) كتاب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، ولفظه لفظ الرواية الثانية عند المصنف، ورقم (984/13)، ولفظه: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر: صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على كل عبد، أو حر؛ صغير أو كبير)).
(3) في (ب) و(ز) و(س): ((فإنه)).
(4) سورة البقرة؛ الآية: 277 ، وسورة التوبة؛ الآية: 5، 11، و سورة الحج؛ الآية: 41.
(5) سورة البقرة؛ الآية: 236.
(6) في (ب) و(ح) و(ي): ((من)).
(7) في (ب): ((أنه)).
(8) في (س): ((الشهور)).
(9) في (ي): ((الفطر من كل)).
(10) قوله: ((أي)) سقط من (ب).
(11) في (ي): ((بعيد)) من قوله ((صدقة)).
(12) قوله: ((بل)) سقط من (ح).(3/19)
((صدقة الفطر من رمضان))، والأظهر الأول (1) .
وقوله: ((عَلَى كُلِّ نَفْسٍ))؛ يقتضي عموم النفوس أغنيائهم وفقرائهم (2) ، خلافًا لأصحاب الرأي في قولهم: لا تلزم من يحلّ له أخذها.
واختلف قول مالك وأصحابه في ذلك، ومشهور مذهبه أنها تجب على من فضل عن (3) قوته يوم الفطر قدرها (4) . ويدخل في ذلك العموم (5) الحاضر والبادي؛ خلافًا لليث وربيعة والزهري وعطاء في قصر (6) وجوبها على أهل الحواضر (7) والقرى، دون أهل العمُود والخصوص.
وقوله: ((مِنَ الْمُسْلِمِينَ))؛ دليل على أنها لا تخرج عن العبد الكافر، وهو قول الجمهور. وذهب الكوفيون وإسحاق وبعض السلف (8) : إلى أنها تخرج عن العبيد الكفار.
وقد تأول الطحاوي قوله: ((مِنَ الْمُسْلِمِينَ)): أنه عائدٌ إلى السادة المخرجين، وهذا لا يقتضيه مساق الحديث، فتأمله.
قال الشيخ رحمه الله: ظاهر (9) هذا الحديث: أنه (10) إنما قصد فيه إلى بيان مقدارها، ومن يقدر عليه، ولم يتعرض فيه لبيان من يخرجها عن نفسه ممن يخرجها عن غيره، بل =(3/20)=@
__________
(1) في (ب): ((والأول أظهر)).
(2) في (أ): ((أَغْنياؤهم وفقراؤهم)).
(3) في (ب): ((من)).
(4) في (ح): ((بقدرها)).
(5) قوله: ((العموم)) ليس في (س) و(ز).
(6) في (ز) و(س): ((وعطاء نص وجوبها)).
(7) في (ب): ((الحاضرة)).
(8) قوله: ((وبعض السلف)) ليس في (ز) و(س).
(9) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((وظاهر)).
(10) قوله: ((إنه)) ليس في (س) و(ز).(3/20)
شمل الجميع؛ إذ قد ذكر فيهم العبد والصغير.
فأما الصغير: فلا خلاف عند من يقول: إنها تخرج بسببه؛ أنّ وليَّه هو الذي يخاطب بإخراجها؛ إذ الصبي لم يجر عليه (1) بَعْدُ قلم التكليف.
وأما العبد: فذهب الجمهور إلى أنه ليس مخاطبًا بها؛ لأنه لا شيء له. ولو كان له مالٌ فسيده قادر على انتزاعه، خلافًا (2) لداود، فإنه أوجبها على العبد؛ تمسكًا بلفظ العبد المذكور في الحديث هذا (3) . وقال: على السيد أن يتركه قبل (4) الفطر فيكتسب (5) ذلك القدر، وليس له منعه من ذلك في تلك المدة؛ كما لا يمنعه من صلاة الفرض.
ثم إذا تنزلنا على قول الجمهور في أنه لا يجب عليه شيء، فهل (6) يخاطب سيده بإخراجها عنه (7) أم لا؟ جمهورهم أيضًا على أنه يجب ذلك عليه (8) ؛ لأنه تلزمه (9) نفقته ومؤونته (10) ، وهذه من جملة المؤن، فإن المخاطَب بإخراجها؛ المكلَّف الواجدَ لها حين الوجوب؛ عن نفسه وعمَّن (11) تلزمه نفقته؛ بدليل ما رواه الدارقطني (12) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد، ممن تمونون.
والصحيح ما (13) في الأصل من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نخرج (14) إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير، حرٍّ أو مملوك، فصرّح فيه بأنهم كانوا يخاطبون (15) بإخراج زكاة الفطر عن غيرهم؛ وذلك الغير لا بدّ أن يكون بينه وبين المأمور بالإخراج ملابسة، وتلك الملابسة هي التي مثل الملابسة التي بين الصغير ووليه (16) ، والعبد وسيده، وهي القيام بما يحتاج إليه كل واحد منهما من المؤن.
وأما إخراجها عن الزوجة؛ فمذهب الجمهور أن ذلك يجب على الزوج (17) . وقال الكوفيون: لا يلزم الرجل إخراجها عن زوجته، وإنما يلزمها هي أن تخرجها عن نفسها، وسببه ما تقدّم. =(3/21)=@
__________
(1) قوله: ((عليه)) سقط من (ح).
(2) قوله: ((خلافًا)) دخل عليه سواد.
(3) قوله: ((هذا)) ليس في (ح) و(أ) و(ي).
(4) بعدها في (ز) كلمة لم تتضح قد يكون ضرب عليها [وتراجع].
(5) في (س) و(ز): ((فيكسب)).
(6) ؟؟؟.
(7) قوله: ((عنه)) سقط من (ح).
(8) قوله: ((عليه)) سقط من (ب).
(9) في (ي): ((يلزمه))، وفي (س): ((نلزمه)).
(10) في (أ) و(ب) و(ي): ((مؤنته)).
(11) في (أ) و(ي): ((عن من)).
(12) في "سننه" (2/141 رقم12) كتاب زكاة الفطر، من طريق القاسم بن عبد الله بن عامر بن زرارة، حدثنا عمير بن عمار الهمداني، حدثنا الأبيض بن الأغر، حدثني الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر، به. وقال عَقِبه: ((رفعه القاسم، وليس بقوي، والصواب موقوف)). اهـ. وقد تقدم في مطلع هذا الباب تخريج حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا.
وأخرجه أيضًا: البيهقي (4/161) كتاب الزكاة، باب إخراج زكاة الفطر عن نفسه وغيره، من طريق الدارقطني بسنده، وقال: ((إسناده غير قوي)).
وقد جاء الخبر موقوفًا على ابن عمر عند الدراقطني وغيره، وقد رجح - رحمه الله-الموقوف.
أخرجه: عبد الرزاق فى المصنف (3/327 رقم 5828) كتاب العيدين، باب رقيق الماشية. قال: عن معمر، عن أيوب، عن نافع قال: كان ابن عمر يؤدي زكاة الفطر بالمدينة عن رقيقه؛ الذين يعملون في أرضه، وعن رقيق امرأته، وعن كل إنسان يعوله، ومالك في "الموطأ" (6/283 رقم51) كتاب الزكاة، باب من تجب عليه زكاة الفطر، بنحوه، وابن أبي شيبة في "المصنف"(2/399) كتاب الزكاة، باب ما قالوا في العبد يكون غائبًا في أرض لمولاه يعطي عنه، بنحوه، وابن زنجويه في كتاب "الأموال" (3/1257 رقم 2417-2418) بنحوه مختصرًا، والدارقطني في "السنن" (2/141)، رقم (13) كتاب زكاة الفطر، بلفظ مقارب، والبيهقى في "الكبرى"(4/161) كتاب الزكاة، باب إخراج زكاة الفطر عن نفسه وغيره...، بنحوه مختصرًا، وعنده رواية أخرى بلفظ مقارب.
كلهم يروونه من طريق نافع، به.
وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه مرسل؛ وهو الذي صححه الدارقطني؛ كما تقدم. وانظر "الإرواء" للألباني (3/320).
(13) في (ي): ((بما)).
(14) في (ب) زيادة: ((كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل)).
(15) في (ي): ((مخاطبون)).
(16) في (ي): ((الصغير وليه)).
(17) في (ي): ((على ذلك)).(3/21)
7- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (1) قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ: إِنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا فَلا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ ثَلاثَةِ أَصْنَافٍ: الأقِطِ، وَالتَمْرِ، وَالشَعِيرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ))؛ الطعام هنا هو: القمح؛ بدليل ذكر الشعير.
وقد (2) رواه أبو داود (3) وقال: ((أو صاعًا من حنطة)) مكان: ((مِنْ طَعَامٍ)). وهو حجة على من قال: لا تخرج من البُرّ، وهو خلاف شاذٌّ، وهو مسبوق (4) بإجماع السلف، وهو حجة على من يقول: إنه يُخرج من البر نصف صاع، وهم جماعة من السلف وأبو حنيفة رحمه الله، واحتجوا بأحاديث لم يصحّ (5) عند أهل الحديث شيء منها (6) . وقال الليث: مدان بمد هشام (7) ، والأوزاعي: مدّان بمد أهل بلده. والجمهور على التمسك بما ذكرناه.
وقوله: ((أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ))؛ حجة لعامة أهل العلم على من منع إخراج الأقط فيها (8) ، وهو (9) الحسن، وهو أحد (10) قولي الشافعي رضي الله عنهما. وقَصَر أشهب إخراجها على هذه الأصناف الأربعة المذكورة في (11) الحديث، واختلف فيه قول مالك، فالمشهور عنه: أنه ألحق بهذه الأربعة ما في معناها من الْمُقْتَات (12) ؛ كالذرة (13) والدّخن والسُلت. وزاد ابن حبيب: العَلَس. واختلف عنه في القطنية =(3/22)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/372 رقم 1508) كتاب الزكاة، باب صاع من زبيب، بنحوه، دون ذكر الصغير والمملوك، آخره: أرى مدًّا من هذا يعدل مدين. و(3/ 371 رقم 1506) كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر صاعًا من طعام، مختصرًا، و(3/375 رقم1510) كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل العيد، بمعناه، وليس فيها موطن الشاهد: ((عن الصغير والكبير والذكر والأنثى))، ومسلم (2/678 رقم985/18 و20) في الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير.
(2) في (ح): ((فقد)).
(3) في "سننه" (رقم1616) كتاب الزكاة، باب كم يؤدَّي في صدقة الفطر؟ قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا داود - يعني ابن قيس -، عن عياض بن عبدالله، عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك؛ صاعًا من طعام، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب... الحديث. قال أبو داود: ((رواه ابن عُلَيَّة وعبدة وغيرهما، عن ابن اسحاق، عن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، عن عياض، عن أبى سعيد، بمعناه، وذكر رجل واحد فيه عن ابن علية: أو صاعًا من حنطة، وليس بمحفوظ)).اهـ.
(4) في (ز) و(س): ((مسنون)).
(5) في (ي): ((لم يتصح)).
(6) أي: لم يصح من هذه الأحاديث شيء بذاته، ولكن وردت أحاديث مرفوعة لا تخلو أفرادها عن مقال، ولكن مجموعها مع الآثار الصحيحة عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم يورث الحديث قوة، وانظر في تفصيل ذلك "السنن الكبرى" للبيهقي (4/167) و"السنن" للدارقطني" (2/147)، و"مشكل الآثار" للطحاوي (4/347)، و"شرح معاني الآثار" (2/47)، و"مجمع الزوائد" (3/81)، و"التمهيد" (4/137)، و"نصب الراية" (2/408)، و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" (3/171).
قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" (2/19 ): ((والمعروف أن عمر بن الخطاب جعل نصف صاع من بر مكان الصاع من هذه الأشياء؛ ذكره أبو داود. وفي الصحيحين: أن معاوية هو الذي قوّم ذلك، وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار مرسلة ومسندة يقوي بعضها بعضًا»-وساق عددًا منها -، ثم قال: ((وكان شيخنا -رحمه الله تعالى- يقوّي هذا المذهب، ويقول: هو قياس قول أحمد في الكفارات، أن الواجب فيها من البر نصف الواجب من غيره)).اهـ.
(7) هو هشام بن إسماعيل المخزومي، عامل كان بالمدينة لبني مروان؛ كذا قال ابن عبدالبر في "الاستذكار" (9/363)، قال: ((ومُدُّ هشام بالمدينة معروف؛ كما أن الصاع الْحَجَّاجيَّ معروف بالعراق)).اهـ.
(8) في (ي): يشبه أن تكون ((فها)).
(9) قوله: ((وهو الحسن)) ليس في (ز) و(س).
(10) في (أ) و(ب) و(ح): ((وأحد)) بدل ((وهو أحد)).
(11) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((في هذا)).
(12) في (س) و(ز): ((المقتاتات))، وفي (ب): يشبه أن تكون ((المقتاتات)).
(13) في (ي): ((كالدزة)).(3/22)
والسويق والتين؛ إذا كانت (1) عيشًا (2) لأهل البلد، وتفصيل هذا في الفقه.
وقوله: ((كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ - إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -))؛ مثل هذا ملحق بالمسند المرفوع عند المحققين من الأصوليين؛ لأن مثل هذا لا يأمر به غير (3) النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى مثله عنه، ولا يذكره الصحابي في معرض الاحتجاج، إلا وهو مرفوع للنبي (4) صلى الله عليه وسلم. وقد زاد في الرواية المتقدمة على هذه الثلاثة: الطعام، وصارت الأصناف المذكورة في الحديث أربعة.
8- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (5) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول ابن عمر رضي الله عنهما: ((أَمَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ))، يعني: إلى صلاة يوم عيد الفطر، وبهذا (6) الحديث قال جمهور العلماء، واستحبّوه (7) ليستغني بها المساكين عن السؤال في ذلك اليوم. وقد رُوي مرفوعًا: ((أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم)) (8) . وكرهوا =(2/23)=@
__________
(1) في (ح): ((كان)).
(2) في (ح): ((عيشيا)).
(3) في (ي): ((عن)).
(4) في (ح): ((إلى النبي)).
(5) أخرجه البخاري (3/375 رقم1509) في الزكاة، باب الصدقة قبل العيد، بلفظ مقارب، و(3/367 رقم1503) في الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، بنحوه في آخر الحديث، ومسلم (2/679 رقم986/22) في الزكاة، باب الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة.
(6) في (س) و(ز): ((بهذا)) بلا واو.
(7) في (ح): ((واستحسنوا ليسبابني)) هكذا رسمت.
(8) أخرجه: ابن زنجويه في كتاب "الأموال" (3/1251 رقم 2397)، قال: أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا نؤمر أن نخرجها قبل أن نخرج إلى الصلاة، ثم يقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المساكين إذا انصرف، وقال: ((أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم))، وابن عدي في "الكامل" (7/55)، والدارقطني في "السنن" (2/152 رقم67) كتاب زكاة الفطر، مختصرًا، والحاكم فى "معرفة علوم الحديث" (131)، باب الأحاديث التي انفرد بها بزيادة فيها راو واحد، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/175) كتاب الزكاة، باب وقت إخراج زكاة الفطر.
رووه كلهم من طريق أبي معشر، عن نافع، به.
قال النووي في "المجموع" (6/126) والحافظ في "بلوغ المرام" كما فى شرحه "سبل السلام" (2/270): ((إسناده ضعيف)). اهـ. ونقل الشيخ الألباني ذلك في "إرواء الغليل"، عند ذكره لهذا الحديث (3/ 332 رقم 844) وقال: ((ضعيف)). وذكره ابن حزم في "المحلى" (6/121)، وقال: ((وأبو معشر المدني هذا نجيح، مُطَّرح، يحدث بالموضوعات عن نافع وغيره)).اهـ.(3/23)
تأخيرها عن يوم الفطر. ورخص بعضهم في تأخيرها، وقاله مالك وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، وجعله بعض شيوخنا خلافًا من قول مالك. وحاصل مشهور مذهب مالك: أن آخر يوم الفطر آخر وقت أدائها، وما بعد يوم (1) الفطر وقت قضائها، والله تعالى أعلم.
***************
( 4 ) باب وجوب الزكاة في البقر والغنم، وإثم مانع الزكاة
9- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ، وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالإِبِلُ؟ قَالَ: وَلا صَاحِبُ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلاً وَاحِدًا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟ قَالَ: وَلا صَاحِبُ بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، لا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلا جَلْحَاءُ وَلا عَضْبَاءُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ)). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالْخَيْلُ؟ قال: ((الْخَيْلُ ثَلاثَةٌ، هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ. فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنِوَاءً عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي ظُهُورِهَا وَلا رِقَابِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ؛ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ لأَهْلِ الإِسْلامِ فِي مَرْجٍ وَرَوْضَةٍ، فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إِلا كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٌ، وَكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا حَسَنَاتٌ، وَلا تَقْطَعُ طِوَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ إِلا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا وَأَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ، وَلا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا إِلا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالْحُمُرُ؟ قَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ إِلا هَذِهِ الآيَةَ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ})).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب وجوب الزكاة في البقر والغنم
قوله: ((مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي حَقَّهَا))؛ كذا صحت الرواية بهاء التأنيث المفردة، وظاهره (3) أنه عائدٌ على الفضة، فإنه أقرب مذكور، وهي مؤنثة، وحينئذ يبقى ذكر الذهب ضائعًا لا فائدة له (4) . وهذا مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ (5) يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (6) .
وقد حُمِل هذا على الاكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر (7) ؛ كما قال الشاعر (8) :
نحن بما عندنا وأنت بِما ... عندك راضٍ والرأي مختلف
وقال الآخر (9) (10) :
لكل همٍّ من الهموم سعه ... والصبح والمسيء (11) لا بقاء معه =(3/24)=@
__________
(1) قوله: ((يوم)) سقط من (ح).
(2) أخرج بعضه: البخاري (3/267 رقم1402) كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، وفيه ذكر الإبل والغنم فقط، مسلم (2/682 رقم987/26) في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة.
(3) في (س): ((فظاهره)).
(4) في (ي): ((فيه)).
(5) في (ب) و(ح): ((إن الذين)).
(6) سورة التوبة؛ الآية: 34.
(7) ذكر ذلك: التوربشتي فى "الميسر" (ص425)، والطيبي فى "شرح المصابيح" (4/7) وقال: وأما عودته إلى الفضة فإنها أقرب؛ كما قال الله تعالى: {والذين يكنزون...} الآية، واكتفى ببيان حال صاحبها عن بيان حال صاحب الذهب، أو لأن الفضة أكثر انتفاعًا فى المعاملات من الذهب، وأشهر في أثمان الأجناس)).اهـ.
(8) نسبه سيبويه فى الكتاب (1/75) إلى قيس بن الخطيم وهو الصواب. انظر: "ديوان قيس بن الخطيم" ص239 تحقيق/ناصر الدين الأسد. ونسبه صاحب "خزانة الأدب" (2/193) إلى عمرو بن امرئ القيس.
(9) في (أ) و(ب): ((آخر)).
(10) هذا البيت للأضبط بن قريع، كما في كتاب "الأغاني"(18/134)، وفيه ((فلاح)) بدل ((بقاء)).
(11) في (ب): ((والمسا والصبح)).(3/24)
وقيل: أعادها على معنى الكلمات المتقدمة، وكأنه (1) قال: لا يؤدي (2) من تلك الأمور المذكورات حقَّها. وأشبه من هذه الأوجه أن يقال: إن الذهب والفضة يقال عليهما:عينٌ (3) لغةً، فأعاد الضمير عليها (4) ، وهي مؤنثة، والله أعلم.
وهذا الحديث يدل على أن الذهب والبقر فيهما الزكاة، وإن لم يجيء ذكرهما (5) في حديث (6) جابر المتقدم، ولا في كتاب أبي بكر الصديق (7) رضي الله عنه في الصدقة؛ على ما ذكره البخاري. ولا خلاف في وجوب الزكاة فيهما، وإن اختلفوا في نصاب (8) البقر على ما سيأتي (9) .
وقوله: ((فَيُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ، وَجَنْبُهُ وَظَهْرُهُ))؛ قيل (10) : إنما خُصَّت هذه المواضع بالكي دون غيرها من أعضائه؛ لتقطيبه وجهه في وجه السائل، وازوراره عنه بجانبه، وانصرافه عنه بظهره.
وقوله: ((كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ))؛ كذا رواية السِّجزي (11) ، ولكافة الرواة: ((رُدَّتْ)) (12) ، والأول هو الصواب، فتأمله فإنه هو (13) المناسب للمعنى.
وقوله: ((فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)): قيل: معناه (14) : لو حاسب فيه غير الله سبحانه وتعالى.
الحسن: قدر مواقفهم للحساب. ابن اليمان: كل موقف منها ألف سنة.
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ! إنه (15) ليخفّ (16) على المؤمن حتى يكون أخف عليه (17) من صلاة مكتوبة)) (18) . =(3/25)=@
__________
(1) في (أ): ((وكأنها)).
(2) في (ي): ((لا نؤدي)).
(3) قوله: ((عين)) سقط من (ح).
(4) في (ح): ((عليها الضمير)).
(5) في (ي): ((وإن لم يجرهما في حديث)).
(6) في (ح): ((كتاب)).
(7) قوله: ((الصديق)) ليس في (ح) و(ب) و(س) و(ي).
(8) في (أ) و(ب) و(ح): ((نصب)). وفي (س): ((لم تتضح)).
(9) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((يأتي))، وزاد بعدها في (ز): ((إن شاء الله تعالى)).
(10) في (ز): ((وقيل)).
(11) في (أ): ((الشجري))، وفي (س): ((البحري))، وفي (ز): ((رواية البخاري)) وكتب في الهامش ((البحري)) وفوقها ((أهمل)).
(12) في (ز) و(س): ((عليه أخف)).
(13) قوله: ((هو)) ليس في (ب) و(ح) و(أ) و(ي).
(14) قوله: ((معناه)) سقط من (ي).
(15) قوله: ((إنه)) سقط من (ح).
(16) في (ي): ((لتخف))
(17) في (ز) و(س): ((عليه أخف)).
(18) أخرجة الإمام أحمد في "المسند"(3/75) بنحوه، وفي أوله قصة، وأبو يعلى في "المسند" (2/527 رقم1390) بنحوه، وفي أوله قصة، وابن جرير فى التفسير (29/45) بلفظه، وفي أوله قصة، وفي آخره زيادة: ((يصليها فى الدنيا))، وابن حبان - كما في الإحسان- (16/329 رقم7334) باب إخباره صلى الله عليه وسلم عن البعث وأحوال الناس في ذلك اليوم، كما عند الطبري، وعزاه السيوطي فى "الدر المنثور"(6/264) للبيهقي في البعث، ولم أقف عليه فيه.
رووه كلهم من طريق دراج ابى السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، به مرفوعًا.
فالحديث بهذا ضعيف للكلام فى تضعيف رواية دراج عن أبي الهيثم. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/337): "رواه أحمد وأبو يعلى، وإسناده حسن على ضعف راويه".اهـ.
وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ؛ أخرجه أبو يعلى في "المسند" (10/415 رقم 6025)، ولفظه مرفوعًا: ((يقوم الناس لرب العالمين مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيَهُون ذلك اليوم على المؤمن؛ كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب))، وابن حبان - كما في الإحسان - (16/328 رقم7333) باب إخباره صلى الله عليه وسلم عن البعث وأحوال الناس في ذلك اليوم، بلفظه، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/465) لابن أبي حاتم والحاكم والبيهقى في البعث، ولم أقف عليه؛ روياه من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزا عي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة، به.
قال أبو يعلى: حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد، حدثنا الوليد بن مسلم به.
فهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات؛ رجال الصحيح؛ سوى إسماعيل بن عبد الله بن خالد.
قال الحافظ في "التقريب" (240): ((صدوق نسب لرأي جهم)).
فهذا الإسناد حسن، والله أعلم.(3/25)
وقوله: ((بُطِحَ لَهَا))؛ أي: أُلْقي على وجهه. قاله بعض المفسرين. وقال أهل اللغة: البطح: هو (1) البسط؛ كيف ما كان على الوجه أو غيره، ومنه: سميت بطحاء مكة؛ لانبساطها.
وقوله: ((بِقَاعٍ قَرْقَرٍ))؛ أي: بموضع (2) مستو واسع. وأصله: الموضع المنخفض الذي يستقرُّ فيه الماءُ؛ يقال فيه: قاع، ويجمع: قِيعَة، وقيعان (3) ، مثل: جار وجيرة وجيران. وقال الثعالبي: إذا كانت الأرض مستوية مع الاتساع فهي الْخَبْت والجَدْجَد والصحصح (4) ، ثم القاع والقرقر، ثم الصفصف.
وقوله: ((لَيْسَ فِيهَما (5) عَقْصَاءُ (6) ))؛ وهي الملتوِية القرن، ورَجُلٌ أعقصُ (7) : فيه التواء وصعوبة أخلاق.
((وَلا جَلْحَاءُ))؛ وهي (8) التي لا قرون لها. ((وَلا عَضْبَاءُ))؛ وهي المكسورة داخل القرن، وهو المشاش، وقد يكون العضب في الأذن، والمعضوب: الزَّمِن الذي لا حراك به. هذا معنى ما ذكره أبو عبيد. وقال ابن دريد: الأعضب: الذي انكسر أحد قرنيه. وقال غير هؤلاء: الأعضب في القرن والأذن: الذي انتهى القطع إلى نصفه فما فوقه.
وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة تسمّى: العضباء (9) . ومن رواية مصعب (10) عن مالك: وكانت تسمى:القصواء (11) . وفي =(3/26)=@
__________
(1) قوله: ((هو)) سقط من (ب) و(س) و(ز).
(2) في (ب): ((موضع)).
(3) قوله: ((قيعان)) ليس في (ز) و(س).
(4) في (ز) تشبه أن تكون ((القصيح)).
(5) في (ب) و(ح) و(ي) و(أ) و(س): ((فيها)).
(6) في (أ): ((عفصاء)).
(7) في (أ): ((أعفص)).
(8) في (ي): ((هي)) بلا واو.
(9) انظر "البخاري" (6/73 رقم2871-2872) كتاب الجهاد، باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ، و(11/340 رقم6501) كتاب الرقاق، باب التواضع.
(10) كذا جاء فى النسخ التي بين يدي: من رواية مصعب، ولعله من رواية أبي مصعب الزهري، وهو: أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبدالرحمن بن عوف القرشى الزهري المدني، ولد سنة (150هـ ) ولازم الإمام مالك بن أنس، وتفقه به، وسمع منه "الموطأ" وأتقنه عنه. قال الدار قطني: ((أبو مصعب ثقة فى الموطأ، وقدمه على يحيى ابن بكير)). "السير" (11/436).
(11) جاء ذكر القصواء في عدد من الأحاديث، عن جمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم: ابن عمر، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف أسامة على القصواء عام الفتح، وفيه ذكر دخوله الكعبة. أخرجه البخاري (8/105 رقم4400) كتاب المغازي، باب حجة الوداع. وذكره معلقًا (6/73). جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم (2/887-890 رقم 147/1218) كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، وغيرهم.(3/26)
حديث أنس رضي الله عنه: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته الجدعاء (1) )) (2) ، وفي آخر: ((على ناقة خرماء)) (3) . وفي آخر: ((مخضرمة (4) )) (5) .
قال أبو إسحاق الحربي: والعضب والجدع (6) والخرم والقصو كله في الأذن. وقال (7) أبو عبيدة: القصواء المقطوعة (8) الأذن عرضًا، والمخضرمة (9) : المستأصلة، والعضب: النصف فما فوقه. وقال الخليل: الخضرمة (10) : قطع الأذن الواحدة.
وقوله: ((كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا))؛ كذا صحيح (11) الرواية (12) . فقيل (13) : تغيير (14) وقلب في الكلام، وصوابه - كما جاء في رواية أبي صالح، عن أبي هريرة -: ((كلما مضت (15) عليه أخراها رُدَّ (16) عليه أولاها)).
قيل: وهكذا يستقيم الكلام؛ لأَنَّه إنما يردُّ (17) الأول الذي قد (18) مرَّ (19) قبلُ، وأما الآخر فلم يمرّ بعد، فلا يقال فيه: ردَّت.
قال الشيخ رحمه الله: ويظهر لي أن الرواية الصحيحة ليس فيها تغيير؛ لأن معناها: أن أولى (20) الماشية كلَّما وصلت إلى آخر ما تمشي عليه؛ تلاحقت بها أخراها، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع (21) ، فعادت الأخرى أولى؛ حتى تنتهي (22) إلى آخره. وهكذا (23) إلى أن يقضي الله بين العباد (24) ، والله تعالى أعلم.
وقوله: ((تَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا)): جمع ظلف، وهو: الظُفْر من كلِّ دابة مشقوقة الرِّجل، ومن الإبل: الخف. ومن الخيل والبغال والحمير: الحافر. =(3/27)=@
__________
(1) في (ي): ((الجذعاء)).
(2) لم أقف على ما ذكره المؤلف هنا من حديث أنس، على أنها ثابتة من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، في ذكر الناقتين اللتين عرضهما الصديق في الهجرة على النبي، وأنه أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الجدعاء. أخرجه البخاري (7/389 رقم4093) كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع، في حديث طويل.
(3) جاءت هذه التسمية لناقة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي كاهل، قيس بن عائذ رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم عيد على ناقة خرماء، وحبشي ممسك بخطامها. أخرجه: النساني (3/185) كتاب العيدين، باب الخطبة على البعير، ولم يسمِّها، وابن ماجه (1/ 408 رقم 1284) كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الخطبة في العيد، ولم يسمها، وأحمد فى "المسند" (4/306)، وابن حبان - كما في الإحسان- (9/186 رقم 3874) كتاب الحج، باب رمي جمرة العقبة، والطبراني في "الكبير" (18/360 رقم924-925)، وفيهما: جزماء، والبيهقي في "الكبرى" (3/298) كتاب صلاة العيدين، باب من أباح أن يخطب على منبر أو على راحلة. رووه جميعًا من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن أخيه، عن أبي كاهل.
وسنده صحيح.
(4) في (س): ((مخصومة)).
(5) جاء ذكرها في حديث عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر على ناقة مخضرمة. أخرج ذلك: ابن ماجه (2/1016 رقم 3057)كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/33): ((هذا إسناد صحيح)).اهـ.، والنسائي في "الكبرى" (2/444 رقم 4099) كتاب الحج، باب يوم الحج الأكبر، وأحمد (3/473).
رووه جميعًا من طريق عمرو بن مرة، عن مرة الطيب الهمداني، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وعند ابن ماجه: عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/33): ((هذا إسناد صحيح)).اهـ.
قال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (7/174): ((تسمى العضباء مرة، والقصواء والجدعاء والخرماء والمخضرمة، وهي ناقة واحدة؛ لأنه وقف عليها في حجة الوداع، وهي الموصوفة بهذه الصفات، وكذلك بالحديبية، خلاف القصواء. وقال بعض الناس: إنها نوق بعدد هذه الصفات، والأحاديث تَرُّدُّ قوله؛ إذ لم يقف إلا مرة واحدة)).اهـ.
أما ابن القيم في "زاد المعاد" (1/134) ففرق بين القصواء والعضباء، وذكر الخلاف في: هل العضباء والجدعاء واحدة أو اثنتان؟ وفي "الفتح" (3/74) قال الحافظ: وذُكِر له عدة نوق غير هذه، تتبعها من اعتنى بجمع السير)).اهـ.
(6) في (ز): ((والغضب والجذع)).
(7) في (ب) و(ي): ((قال))، وفي (ز) و(س): ((قال أبو عبيد)).
(8) في (س): ((القصو المقطوعة)) كذا رسمت.
(9) في (ز) و(س): (( المخصومة)).
(10) في (ح): ((المخضرمة))، وفي (ز) و(س): ((الخصومة)).
(11) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((هكذا صحت)).
(12) أي: عند مسلم.
(13) في (ب): ((وقيل هو))، وفي (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((فقيل هو)).
(14) في (ح): ((تغير)).
(15) في (ح): ((مرّ)).
(16) في (ب) و(ح) و(س) و(ز) و(ي): ((ردت)).
(17) في (ي): ((يريد)).
(18) قوله: ((قد)) سقط من (ي).
(19) قوله: ((قد مر)) لم تتضح في (ح).
(20) في (س) و(ي): ((أول)).
(21) قوله: ((بدأت الأخرى بالرجوع)) سقط من (ح).
(22) في (ح): ((يُنتهى)).
(23) في (ح): ((وهذا)).
(24) في (ح): ((يُقضى بين العباد)).(3/27)
وقوله: ((وَنِوَاءً أَهْلِ الإِسْلامِ))، وهو بكسر النون والمدّ؛ أي: مُعاداةً. يقال: ناوأته (1) نِواءً ومُنَاوءة: إذا عاديته. و((الوزر)): الإثم.
وقد تعلق أبو حنيفة ومن يقول بوجوب الزكاة في الخيل بقوله: ((ولم ينس حق الله تعالى في (2) رقابها))؛ قال: وحق الله هو الزكاة.
ولا حجة فيه؛ لأن ذكر الحقِّ هنا مجمل غير مفسَّر، ثم يقال بموجبه؛ إذ قد يتعين فيها حقوق واجبة لله تعالى (3) في بعض الأوقات؛ كإخراجها في الجهاد، وحمل عليها في سبيل الله، والإحسان إليها الواجب، والصدقة بما يكتسب (4) عليها إن دعت إلى ذلك ضرورة.
وقوله: ((فهِيَ لَهُ سِتْرٌ))؛ أي: حجابٌ من سؤال الغير عند حاجته لركوب فرس؛ بدليل قوله: ((تَغَنّيًا وتَعَفُّفًا))؛ أي: عن الناس.
وقوله: ((وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ؛ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ))؛ أي: أعدَّها، وهو من الربط، ومنه (5) : الرباط. وهو حبس الرجل نفسَه وعُدَّتَه في الثغور تجاه العدو. و((اسْتَنَّتْ))؛ أي: رعَت، ومنه قولهم: اسْتَنَّت الفصال حتى القرعى (6) . وقال ثابت: الاستنان: أن تَلجَّ (7) في عدوها (8) ذاهبة وراجعة.
و((الشَرَف)): المرتفع من الأرض. وقال بعضهم: الشرف: الطَّلق، فكأنه يقول: جرت طلقًا، أو طلقين. =(3/28)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((ناواه)).
(2) كتب ناسخ (ي): ((فيها)) ثم صوبها إلى ((في)).
(3) قوله: ((واجبة لله تعالى)) سقط من (ح).
(4) في (ح): ((بما في نكتسب)).
(5) في (ز) و(س): ((وهو من)) بدل ((ومنه)).
(6) في (ب): ((الفرعاء))، وفي (ح): ((القرعاء)).
(7) في (س): ((ثلج)).
(8) في (ز): ((غدوها)).(3/28)
وقوله: ((وَلا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا (1) ))؛ أي: يمنعها من شرب يضرُّ بها أو به؛ باحتباسها للشرب، فيفوته ما يؤمله (2) ، أو يقع به ما يخافه.
وقوله: ((مَا أُنْزِلَ (3) عَلَيَّ فِي الحُمُرِ شَيْءٌ إِلا هَذِهِ الآيَةَ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ (4) ))؛ أي: القليلة المثل، المنفردة (5) بمعناها. ((الْجَامِعَةُ))؛ أى: العامة الشاملة. وهي (6) حجة للقائلين (7) بالعموم في ((من))، وهو مذهب الجمهور من الفقهاء والأصوليين.
وهذا منه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لم يفسِّر الله لهُ، من (8) أحكام الحُمُر وأحوالها، ما فسر له (9) في الخيل والإبل وغيرها مما ذكره.
10- وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرِ (10) قَالَ: ((ولاصَاحِبِ كَنْزٍ لا يَفْعَلُ فِيهِ حَقَّهُ إِلا جَاءَ كَنْزُه يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ، فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ، فَيُنَادِيهِ خُذْ كَنْزَكَ الَّذِي خَبَأْتَهُ فَأَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ، فَإِذَا رَأَى أَلاَّ بُدَّ مِنْهُ، سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضَمُهَا قَضْمَ الْفَحْلِ)).
وَفِيهِ: قَالَ رَجُلٌ: مَا حَقُّ الإِبِلِ؟ قال: ((حَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا وَمَنِيحَتُهَا وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث جابر رضي الله عنه: ((ولاصَاحِبِ كَنْزٍ))، قال الطبري: الكنز: كل شيء مجموع بعضه إلى بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها. وقال ابن دريد: الكنز: كل شيء غَمَرْتَهُ (11) بيدك أو رِجلك في وعاء أو أرض.
قال الشيخ: وأصل الكنز: الضمُّ والجمع، ولا يختص ذلك بالذهب والفضة؛ ألا =(3/29)=@
__________
(1) ؟؟؟.
(2) في (أ): ((يؤلمه)).
(3) في (ب): ((أنزل الله)).
(4) قوله: ((الجامعة)) سقط من (ح) و(ي).
(5) في (س): ((المتفردة)).
(6) في و(ي) و(س) و(ب) و(ح): ((وهو)) بلا واو.
(7) في (ز) و(س): ((القائلين)).
(8) في (أ): ((ما)).
(9) في (ز) و(س): ((به)) بدل ((له)).
(10) أخرجه مسلم (2/684 رقم988/27) في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة.
(11) في (ز) و(س): ((غمزتَهُ)).(3/29)
ترى قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم (1) بخير ما (2) يكنزه (3) المرء: المرأة الصالحة))؛ أي: يضمُّه لنفسه ويجمعه.
واختلف في المراد بالكنز في الآية، فقال أكثرهم (4) : هو كلُّ مال وجبتْ فيه الزكاة، فلم (5) تُؤدَّ منه، ولا أُخرجت، وكل ما أخرجت زكاتُه فليس بكنز. وقيل: كل ما زاد على أربعة آلافٍ فهو كنز، وإن وُدِّيت زكاته. وقيل: هو (6) (4) ما فضُل عن الحاجة. ولعل هذا كان في أول الاسلام عند ضيق الحال عليهم، والقول الأول هو (7) الصحيح؛ بدليل هذا الحديث، وبما خرَّجه أبو داود (8) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ (9) يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ} (10) ، قال: كبُر ذلك على المسلمين، فقال عمر رضي الله عنه -: أنا أفرّج عنكم (11) ، فانطلق، فقال: يا نبي الله! إنه كبُر على أصحابك هذه الآية، فقال: ((إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليُطيِّبَ ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث - وذكر كلمة- لتكون لمن بعدكم؛ لتطيب (12) لمن بعدكم))، قال: فكَبّر عمر رضي الله عنه، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبرك بخير ما يكنز (13) المرءُ: المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرَّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظتْه)).
وقوله: ((إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَنْزُه شُجَاعًا أَقْرَعَ))، وفي أخرى: ((إلا مثل))؛ أي: صُوّر له (14) . وقيل: نُصِب وأقيم. من قولهم: مَثُلَ قائمًا؛ أي (15) : منتصبًا. والشجاع (16) من (17) الحيات: هو الحية الذكر الذي يُواثب (18) الفارس والراجل (19) ، ويقوم على ذنبه، وربما بلع (20) رأس الفارس، ويكون في الصحارى. وقيل: هو الثعبان. قال =(3/30)=@
__________
(1) في (ح) و(ي): ((أنبئنكم)).
(2) في (ح): ((كما)).
(3) في (ي): يشبه أن تكون ((يكنزكم)).
(4) في (ز): ((أكنزهم)).
(5) في (ب): ((ولم)) وفي (س): ((فلا)).
(6) في (ب): ((هو كل))، وكأنه ضرب على ((كل)).
(7) قوله: ((هو)) سقط من (ب).
(8) في "السنن" (2/305 رقم 1664) كتاب الزكاة، باب في حقوق المال، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي، حدثنا أبي، حدثنا غيلان، عن جعفر بن إياس، عن مجاهد، عن ابن عباس، به.
وأخرجه أيضًا الحاكم في "المستدرك" (1/408- 409) كتاب الزكاة، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه))، وأقره الذهبي، والبيهقي في "الكبرى" (4/83) كتاب الزكاة، باب تفسير الكنز الذي ورد الوعيد عليه. روياه من طريق يحيى المحاربي، به، وعند البيهقي من طريق يحيى المحاربي قال:... فذكره، بمثل إسناده وقصر به بعض الرواة عن يحيى، فلم يذكر في إسناده عثمان أبا اليقظان، وأخرجه أبو يعلى في "المسند" (4/378 رقم 2499)، والحاكم في "المستدرك" (2/333 رقم3281) كتاب التفسير، تفسير سورة التوبة. وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)). قال الذهبي: ((عثمان لا أعرفه، والخبر عجيب)).اهـ.، والبيهقي في "الكبرى" (4/834) الباب السابق. وفي "شعب الإيمان" (6/480 رقم 3035) كتاب الزكاة، باب التشديد على منع زكاة المال. كلهم من طريق يحيى المحاربي به إلا أن فيه: عثمان أبا اليقظان عند أبي يعلى، والبيهقي، وعند الحاكم: عثمان بن القطان الخزاعي، روى عنه غيلان الجامع، وروى عن جعفر بن إياس. وإسناد أبي داود ضعيف فيه علتان:
1 - الانقطاع بين غيلان الجامع، وجعفر بن إياس، كما يتبين من الطريق الثانية، وكما أشار لذلك البيهقي في "السنن الكبرى". وقد علم أن الواسطة بينهما عثمان أبو اليقظان وهو ضعيف كما في "التقريب" (ص139)؟.
2 - ضعف رواية جعفر بن إياس عن مجاهد، فقد ضعفه شعبة في حبيب بن سالم وفي مجاهد، كما في "التقريب" (ص139 رقم930).
وقد ذكر الحديث الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (3/484).
(9) في (ب): ((الذين)) بلا واو.
(10) سورة التوبة؛ الآية: 34.
(11) في (ب): ((عنهم)).
(12) في (ي): ((ليطيب)).
(13) في (ح): ((يكنز)).
(14) قوله: ((له)) ليس في (ز) و(س).
(15) قوله: ((أي)) سقط من (ح).
(16) قوله: ((والشجاع)) ليس في (ب) وفي مكانه بياض.
(17) قوله: ((من)) ليس في (ز).
(18) في (أ): ((تواثب)).
(19) في (أ): ((والرجل)).
(20) في (ب) و(ح) و(ز) و(س) و(ي): ((بلغ)).(3/30)
اللّحياني: يقال للحية: شجاع. وثلاثة (1) أشْجِعَة، ثم شُجعان. والأقرع من الحيات: الذي تَمَعَّط رأسه وابْيَضَّ من السم، ومن الناس: الذي لا شَعْر له في رأسه لِتَقَرُّحِه (2) .
وفي غير كتاب مسلم من الزيادة: ((له زبيبتان)) (3) ، وهما الريشتان (4) في جانبي (5) فمه من السم (6) ، ويكون مثلها في شدقي الإنسان عند كثرة الكلام. وقيل: نكتتان على عينيه، وما هو بهذه (7) الصفة من الحيات هو أشدّ أذى. قال الداودي: وقيل: هما نابان يخرجان من فِيه.
وقوله: ((فَيُنَادِيهِ خُذْ كَنْزَكَ الَّذِي خَبَأْتَهُ (8) فَأَنَا (9) عَنْهُ غَنِيٌّ))؛ كذا وقع لنا فيما رأيناه (10) من النسخ، وفي الكلام خرم يتلفق بتقدير محذوف، وهو: ((فيقول: فَأَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ))، وحينئذ يلتئم الكلام، فتأمَّله، وكثيرًا ما يخذف القول الذي للحكاية كقوله تعالى (11) : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُم لِوَجْهِ اللهِ} (12) ؛ أي: يقولون: إنما.
وقوله: ((فَإِذَا رَأَى أن لا بُدَّ مِنْهُ (13) ، سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضَمُهَا قَضْمَ الْفَحْلِ))؛ معنى (14) سلك: أدخل (15) . ويقضمها: يأكلها. يقال: قَضَمَت الدابة شعيرها تقضمه، والقضم بأطراف الأسنان، والخضم بالفم كله. وقيل: القضم: أكل اليابس، والخضم: أكل الرطب، ومنه قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تخضمون ونقضم والموعد الله.
وقوله: ((مَا (16) حَقُّ الإِبِلِ؟ فقَالَ (17) : حَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ...)) إلى آخره. ظاهر هذا السؤال والجواب: أن هذا هو الحق (18) المُتَوَعَّد عليه فيما تقدّم حين ذكر الإبل، وأنه =(3/31)=@
__________
(1) في (ب): ((ثلاثة)).
(2) في (أ): ((لتقرُّعه))، وفي (ح): ((لتعرجه)).
(3) قوله: ((له زبيبتان)) عند البخاري (2/268 رقم1403) و(8/230 رقم4565).
(4) في (ب) و(ح) و(ي): ((الزبيبتان))، وفي (س): ((له زبينتان وهما الزبينتان)).
(5) في (أ): ((جاني)).
(6) ضبطت في (س): ((السّمُ)) بالفتح والضم وكتب فوقها: ((معًا)).
(7) في (ح): ((على هذه)).
(8) في (ح): ((خبأت)).
(9) في (ي): ((وأنا)).
(10) في (أ): ((روايناه)).
(11) قوله: ((كقوله تعالى)) سقط من (ح).
(12) سورة الإنسان؛ الآية: 9.
(13) في (ي): ((لابد له منه)).
(14) في (ب): ((ومعنى)).
(15) في (ز): ((دخل)).
(16) في (ز) و(س): ((فما)).
(17) في (ز) و(س): ((قال)).
(18) من هنا بدأ السقط من نسخة (ي).(3/31)
كل الحق، مع أنه لم يتعرض فيه (1) لذكر الزكاة.
وفي هذا الظاهر إشكال تزيله (2) الرواية الأخرى التي ذكر فيها ((مِن)) التي هي للتبعيض، بل وقد جاء في رواية أخرى مفسَّرًا: ((ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها))، وكذلك قال في الغنم، وكأن بعض الرواة أسقط في هذه (3) الرواية ((من)) وهي مرادةٌ ولا بدّ.
ثم ظاهره: أن هذه (4) الخصال واجبة، ولا قائل به مطلقًا. ولعلَّ هذا الحديث خرج على وقت الحاجة، ووجوب المواساة، وحال الضرورة؛ كما كان في أول الإسلام. فيكون معنى هذا الحديث: أنه مهما (5) تعينت هذه الحقوق ووجبت (6) ، فلم تفعل؛ تعلق بالممتنع من فعلها هذا الوعيد الشديد، والله أعلم.
قوله (7) : ((حلْبها يومَ وِردها، وحلبها (8) على الماء))، كل ذلك بسكون اللام على المصدر، وهو الأصل في مصدر ما كان على ((فَعَلَ يَفْعُل))، وقد جاء على ((فَعَل))- بفتح العين - في الحَلَبِ، فأمّا الحَلَبُ: اسم اللبن، فبالفتح لاغير، وليس هذا موضعه.
وخَصَّ حَلْبَ الإبل بموضع الماء ليكون أقرب على المحتاج والجائع، فقد لا يقدر على الوصول لغير مواضع الماء.
و((المنحة)): قال ابن دريد: أصلها أن يعطي الرجلُ الرجلَ ناقةً يشرب (9) لبنها، أو شاة، ثم صارت كلُّ عطيةٍ منحة. قال الفرَّاء: يقال: منحته أمنُحه وأمنحه (10) - بالضم والكسر-.
وقال أبو هريرة (11) : ((حق الإبل أن يَنْحَرَ السمينة، ويَمْنَحَ الغزيرة، ويُفْقِر الظهر، ويَطْرَق الفحل، وتسقى (12) اللبن)).
و((إفقار الظهر)): هو إعارة فقار المركوب، وهو الظهر، كما (13) جاء في الرواية الأخرى.
وقول الأحنف بن قيس: ((إذ جاء (14) رجلٌ أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه))؛ كذا صح هنا من رواية أكثرهم - بالخاء والشين المعجمتين-، من الخشونة على وزن أفْعَل؛ إلا أنه عند ابن الحذَّاء في الآخر: ((حسن الوجه)). وقد =(3/32)=@
__________
(1) قوله: ((فيه)) سقط من (ب).
(2) في (ز): ((يزيله)).
(3) في (ز) و(س)((ثم ظاهر هذه)).
(4) في (س): ((أسقط هذه)).
(5) في (أ): ((مهم)).
(6) في (ح): ((ووجب)).
(7) في (ز) و(ب) و(ح): ((وقوله)) ولم تتضح في (س).
(8) في (س) و(ز): ((وجعلها)).
(9) في (ب) و(ح): ((فيشرب))، وفي (ز) و(س): ((ناقته فيشرب)).
(10) في (أ): ((وأمنحته)).
(11) أخرجه موقوفًا على أبي هريرة - عقب حديثه المرفوع المتقدم: أبو داود (رقم1660) كتاب الزكاة، باب في حقوق المال. ولفظه: فقال له -يعني لأبى هريرة -: فما حق الابل؟ قال: ((تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتطرق الفحل، وتسقي اللبن))، وأحمد في "المسند" (2/490)، والحاكم في "المستدرك" (1/403) كتاب الزكاة، بلفظ أبي داود. وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه))، وأقره الذهبي. قال الحاكم: ((أبو عمر الغُداني، يقال: إنه يحيى بن عبيد البهراني، فإن كان كذلك فقد احتج به مسلم)).اهـ، والبيهقي في "الكبرى" (4/183) كتاب الزكاة، باب ما ورد في حقوق المال، بلفظ أبي داود.
رووه كلهم من طريق قتادة، عن أبي عمرالغُدَاني، عن أبي هريرة.
وأبو عمر الغُدَاني قال الحافظ فيه: ((مقبول، ووهم من قال اسمه: يحيى بن عبيد)).اهـ. "التقريب" (ص660)
(12) في (ب): ((تنحر السمينة)) وتمنح العزيرة، وتفقر الظهر، وتطرق الفحل ويفقر الظهر، ويطرق الفحل، وتسقي اللبن)).
وفي (ز) و(س): ((تنحر السمينة، وتمنح الغزيرة، ويفقر الظهر، ويطرق الفحل، ويسقى اللبن)).
(13) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((كما قد)).
(14) في (ز) و(س): ((إذا جاء)).(3/32)
رواه القابسي في البخاري: ((حسن الشعر والثياب والهيئة)) من الحسن. ولغيره: ((خشن)) من الخشونة، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
و((قام عليهم)): وقف. و((الملأ)): الأشراف في أصله، وقد يقال على الجماعة، وهو مهموز مقصور.
11- وَعَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ (1) قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَبَيْنَا أَنَا فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مَلأٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الثِّيَابِ، أَخْشَنُ الْجَسَدِ، أَخْشَنُ الْوَجْهِ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفَيْهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ يَتَزَلْزَلُ. قَالَ: فَوَضَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا، قَالَ: فَأَدْبَرَ وَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ هَؤُلاءِ إِلا كَرِهُوا مَا قُلْتَ لَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، إِنَّ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: ((أَتَرَى أُحُدًا ؟)) فَنَظَرْتُ مَا عَلَيَّ مِنَ الشَّمْسِ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ يَبْعَثُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَقُلْتُ: أَرَاهُ، فَقال: ((مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي مِثْلَهُ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلاثَةَ دَنَانِيرَ))، ثُمَّ هَؤُلاءِ يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قَالَ: قُلْتُ: مَا لَكَ وَلإِخْوَتِكَ قُرَيْشٍ لا تَعْتَرِيهِمْ وَتُصِيبُ مِنْهُمْ، قَالَ: لا وَرَبِّكَ ! لا أَسْأَلُهُمْ عَنْ دُنْيَا وَلا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْحَقَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جُنُوبِهِمْ، وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَلِ أَقْفَائِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جِبَاهِهِمْ، قَالَ: ثُمَّ تَنَحَّى فَقَعَدَ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ سَمِعْتُكَ تَقُولُ قُبَيْلُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ إِلا شَيْئًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْعَطَاءِ؟ قَالَ: خُذْهُ فَإِنَّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((بَشِّرِ الكنازين))؛ أي: الجمَّاعين، ويروى: ((الْكَانِزِينَ))، وهو بالنون من الكنز. ووقع عند الهروي: الكاثرين - بالثاء المثلثة - من الكثرة (2) ، والأول أولى؛ لأنه (3) يقال للكثير المال: مكثر لا كاثر. وأما الكاثر: فهو الشيء الكثير، يقال: كثير وكاثر وكُثَار، ومنه قول الشاعر :
فإنما العزة للكاثر (4)
و((الرَضْفٍ)): الحجارة المحمَاة. و((الحلمة)): رأس الثدي للمرأة. والثَّنْدُوَة للرجل. و((نُغْضِ الكَتِفَ))- بضم النون -: العظم الرقيق الذي في طرف الكتف، وهو الناغض، سمي بذلك لحركته، من قولهم (5) : أنغض رأسه؛ أي: حرَّكه، ومنه قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُون إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ} (6) ؛ أي: يحركونها استهزاءً.
و((يَتَزَلْزَلُ))- بزائين معجمتين؛ أي: يتحرك، يعني: الرضف (7) ينزل (8) من النغض (9) إلى الحلمة. و((وَضَعَ الناس رُءُوسَهُمْ)): أطرقوا متخشِّعين، أو مستثقلين؛ يدل عليه قوله: ((إِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْقِلُونَ (10) شَيْئًا)). و((لم يرجع (11) ))؛ أي: لم يرد. و((أُحُد)): جبل =(3/33)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/271 رقم1407) في الزكاة، باب ما أُدِّيَ زكاته فليس بكنز، ومسلم (2/689 رقم992/34 و35) في الزكاة، باب الكنازين للأموال والتغليظ عليهم.
(2) قوله: ((من الكثرة)) ليس في من (أ).
(3) في (أ) و(ب) و(ز) و(ح): ((لأنه إنما)).
(4) قاله الأعشى انظر الديوان بشرح د/محمد أحمد قاسم، وعزاه له الجوهري في "الصحاح" (2/803)، وابن منظور في "اللسان" (5/132)، والزبيدي في "تاج العروس" (3/517)، وتمامه:
ولستَ بالأكثَرِ منهم حَصى ... وإنما العِزةُ للكاثر
كما في ديوان وانظر: مختار الشعر الجاهلي لسيد كيلاني (2/169).
(5) في (أ): ((في قوله)).
(6) سورة الإسراء؛ الآية: 51.
(7) في (ز): ((الرضقة)).
(8) في (ب): ((يتزلزل))، وفي (ح): ((يزيل)) وفي (س): ((يتزيل)).
(9) في (أ): ((النقص)).
(10) في (ح): ((لا يعلمون)).
(11) قوله: ((ولم يرجع)) سقط من (ب).(3/33)
معروف بالمدينة. واستفهامه له عن رؤيته لتحقق (1) رؤيته حتى يُشّبه له به ما (2) أراد بقوله: ((مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِمِثْلَهُ (3) ذَهَبًا)).
وقوله: ((إِلا ثَلاثَةَ دَنَانِيرَ))؛ يعني: دينارًا يرصده لدين (4) (5)؛ أي: يؤخره، ودينارًا لأهله، ودينارًا لإعتاق رقبة، والله أعلم.
وقوله: ((ثُمَّ هَؤُلاءِ يَجْمَعُونَ (5) ))؛ ظاهر احتجاج أبي ذر رضي الله عنه بهذا الحديث وشبهه: أن الكنز المتوعَّد عليه هو جمع (6) ما فضل عن الحاجة، وهكذا نقل من مذهبه، وهو من شدائده رضي الله عنه، ومما انفرد به. وقد روي عنه خلافُ ذلك، وحمل إنكاره هذا على ما أخذه السلاطين لأنفسهم، وجمعوه لهم من بيت المال وغيره، ولذلك هجرهم، وقال: ((لا أَسْأَلُهُمْ (7) عَنْ دُنْيَا وَلا أَسْتَفْتِيهِمْ (8) عَنْ دِينٍ))، والله أعلم.
و((تَعْتَرِيهِمْ)): تزورهم وتأتيهم تطلب منهم (9) ، ومنه قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (10) ، وهو الزائر، يقال منه: عروته (11) واعتريته (12) ؛ أي: أتيته أطلب منه حاجة.
وهذا الحديث يدل على تفضيل الفقر على الغنى، وقد تقدمت المسألة. والعطاء الذي يسأل (13) عنه أبو ذر؛ هو ما يعطاه الرجل من بيت المال على وجهٍ =(3/34)=@
__________
(1) في (ب): ((ليتحقق)).
(2) في (ز): ((هذا)) بدل ((ما)).
(3) في (ب) و(ز) و(س) و(ح): ((مثله)).
(4) قوله: ((لدين)) سقط من (ح).
(5) قوله: ((يجمعون)) سقط من (ح).
(6) في (ب): ((جميع)).
(7) في (ح) و(س): ((لا أسلهم)).
(8) في (ز) و(س): ((ولا أستفتهم)).
(9) في (ز) و(س): ((ويعتريهم ويزورهم ويأتيهم يطلب عنهم)).
(10) سورة الحج؛ الآية: 36.
(11) في (ز): ((اعروته)).
(12) قوله: ((واعتريته)) سقط من (ح).
(13) في (ب) و(ح) و(س) و(ر): ((سئل)).(3/34)
يستحقُّه (1) ، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: ((ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف (2) ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك)) (3) .
وقوله: ((فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعْهُ))؛ أي: إذا كنت لا تتوصل إليه إلا بوجه غير جائز؛ فلا تلتفت إليه، فإن سلامة الدِّين أهمُّ من نيل الدنيا، فكيف إذا انتهى الأمر إلى أن لا يسلم دِينٌ ولا تنال (4) دنيا ؟! ومن أخسر صفقة ممن خسر الآخرة والأولى؟! نعوذ بالله من سخطه والله أعلم (5) . =(3/35)=@
__________
(1) في (ح): ((يستحقونه)).
(2) في (ز): ((مسرف)) بالسين المهملة.
(3) حديث عمر هذا سيأتي في باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير سؤال....
(4) في (ز): ((ينال)).
(5) قوله: ((والله أعلم)) ليس في (ب) و(ح) و(س) و(أ).(3/35)
**************
(5) باب الحض على الصدقة والنفقة على العيال والأقربين
12- عَنْ أَبِي ذَرٍّ (1) قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَمْشِي وَحْدَهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ، قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ، فَالْتَفَتَ فَرَآنِي، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَالَهْ، قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلا مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْرًا فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا))، قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ: ((اجْلِسْ هَهُنَا))، قَالَ: فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ، فَقَالَ لِي: ((اجْلِسْ هَهُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ))، قَالَ: فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لا أَرَاهُ فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللَّبْثَ، ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ، وَهُوَ يَقُولُ: ((وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى))، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ؟ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا. قَالَ: ((ذَاكَ جِبْرِيلُ عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ)).
13- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) ، عَنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَ اللهَ قَالَ لِي: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ)). وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَمِينُ اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُهَا سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْقَبْضَ، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الحضّ على الصدقة
قوله: ((نَفَحَ))- بالفاء والحاء المهملة-، ومعناه (3) : أعطى، وأصله: الرمي بالشيء. و((يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ))؛ كلُّها منصوبة على الظرف، معمولة لـ((نَفَحَ))، وذكر هذه الجهات كناية عن كثرة (4) العطاء، فكأنه يعطي السُّؤَّال من أي جهة أتوه.
و((القاع)): المستوي من الأرض (5) في انخفاض. و((الحرّة)): الصحراء ذات الحجارة السود، وجمعها: حرار (6) . وقد تقدّم الكلام على قوله (7) : ((وإن زنى وإن سرق)) في كتاب الإيمان. =(3/36)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (5/54 رقم2388) في الاستقراض، باب أداء الديون...، وذكر أطرافه في (3/110 رقم1237) في الجنائز، باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، ومسلم (2/688 رقم94/33) في الزكاة، باب الترغيب في الصدقة.
(2) أخرجه البخاري (8/352 رقم4684) في التفسير، باب { وكان عرشه على الماء}، ومسلم(2/690 رقم993/36 و37) في الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف.
(3) في (ب): ((معنا)) بلا واو.
(4) إلى هنا نهاية السقط من نسخة (ي).
(5) قوله: ((من الأرض)) مطموس في (ي).
(6) في (ح) و(ز): ((حران))، وفي (س): ((حِرّات)).
(7) قوله: ((على قوله)) مطموس في (ي).(3/36)
وقوله: ((يَمِينُ اللهِ (1) مَلأَى))؛ كذا صحت الرواية، وهو (2) الصواب. ومن رواها ((ملآن)) فقد أخطأ، فإن اليمين اسم اليد، واليد مؤنثة. ونسبة اليمين إلى الله تعالى نسبة مجازية توسعية؛ عُبِّر بها عن كثرة العطاء، والقدرة عليه، وحمل (3) على هذه الاستعارة عادة التخاطب وحصول التفاهم (4) (5) ، ومنه قوله تعالى:{لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ} (6) ، فاليد (7) : عبارة عن القدرة (8) ، وتسميتها باليمين على ما تعارفناه فيما بيننا من أن القدرة (9) والبطش والتصرف إنما هو باليمين، ولأنه مشتق من اليمن والبركة.
ولذلك (10) قال في حديث آخر: ((وكلتا يديه يمين)) (11) ؛ نافيًا لتوّهم النقص والقصور في حقه تعالى (12) . وكذلك كل ما أطلق على الله تعالى؛ مما يدل على الجوارح والأعضاء؛ كالأعين والأيدي والجنب والإصبع، وغير ذلك مما يلزم من ظاهره التجسيم؛ الذي تدل العقول بأوائلها (13) على استحالته، فهي كلها =(3/37)=@
__________
(1) قوله: ((يمين الله)) مطموس في (ي).
(2) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((وهي)).
(3) في (أ): ((ويحتمل)).
(4) في (أ): ((التعليم)).
(5) من قوله: ((وحمل على هذا...)) إلى هنا جاء في (ح) و(ي) بعد خمسة أسطر، بعد قوله: ((والقصور في حقه تعالى)).
(6) سورة الحاقة؛ الآية: 45.
(7) في (ح): ((واليد)).
(8) الأصل في اليد الحقيقة، فدعوى المجاز مخالفة للأصل، واطراد لفظها في موارد الاستعمال، وتنوع ذلك، وتصريف استعماله يمنع المجاز. ألاترى إلى قوله: { خلقت بيدي} [سورة ص: 75]، وقوله: {بل يداه مبسوطتان }[سورة المائدة: 64]، وقوله: {وماقدووا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه} [سورة الزمر: 67]، فلو كان مجازًا في القدرة والنعمة لم يستعمل منه لفظ يمين.
ثانيًا: إن يد النعمة والقدرة لا يتجاوز بها لفظ اليد، فلا يتصرف فيها بما يتصرف في اليد الحقيقية، فلا يقال فيها: كف، لا للنعمة ولا للقدرة، ولا إصبع وإصبعين ولا يمين ولا شمال، وهذا كله ينفي أن تكون اليد يد نعمة أويد قدرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((يد الله ملأى لا يغيضها نفقة)). وقال: ((المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن)).
وقد ذكر ابن القيم عشرين وجهًا في إبطال تأويل اليد بالقدرة أوالنعمة. "مختصر الصواعق المرسلة"(2/153-174) بتصرف، وانظر: "مجموع الفتاوى"(20/451-454) و(5/87- 89و98-100) و(6/88-105 و362-373)، "الكواشف الجلية عن معاني الواسطية" (ص244)، "رد الدارمي على بشر المريسي" (ص25).
(9) في (ح) و(ي): ((القوة)).
(10) في (ب) و(ز) و(س) و(أ): ((وكذلك)).
(11) يشير بذلك إلى حديث عبدالله بن عمرو رضى الله عنهما، مرفوعًا: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلوا)). "صحيح مسلم"(3/1458 رقم1827/18) كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر...، واللفظ له.
(12) حكى الإمام البغوي في"شرح السنة"(10/64) عن أبي سليمان الخطابي قوله: ((ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليدين شمال؛ لأن الشمال على النقص والضعف. وقوله: ((كلتا يديه يمين)) هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها على ما جاءت، ولا نكيفها، رننتهى إلى حيث انتهى بنا الكتاب، والأخبار الصحيحة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة ».اهـ.
(13) تراجع في (ب) (ل/133/أ).(3/37)
مؤولة (1) في حقه تعالى؛ لاستحالة حملها على ظواهرها (2) (3) .
وقوله: ((سَخَّاءُ)) بالمد والهمز والرفع، على أنه خبر بعد خبر. و((اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)) منصوبان على الظرف، متعلقان بما في ((سَحَّاءُ)) من معنى (4) الفعل، وهي الرواية المشهورة. وعند أبي بحر: ((سحًّا)) منصوبًا منوَّنا على أنه مصدر صدره محذوف، يدل (5) عليه قوة الكلام، كأنه قال: يَسُحّ (6) سحًّا. ويجوز أن (7) يكون من باب قوله:
ما إِنْ يَمَسُّ الأرضَ إلا مَنْكِبٌ ... منه، وحرفُ السَّاقِ، طيَّ المحْملِ (8)
و((السح)): الصبّ الكثير، كما قال امرؤ القيس (9) :
فدمعهما سَكْبٌ وسحٌّ وديمة (10)
و((يَغِيضُهَا)): ينقصها (11) . يقال: غاض الماء، وغضته، متعديًا ولازمًا. وفاعله مضمر تدل عليه المشاهدة؛ تقديره: لاينقصها شيء. وقد جاء هذا المضمر مظهرًا في رواية ابن نمير. فقال: ((لا يَغِيضُهَا شيء (12) )).
ووقع عند الطبري في حديث عبد الرزاق (13) : ((لا يغيضها سحُّ الليل والنهار))، برفع (14) ((سح)) على أنه فاعل((يغيضها))، وخفض ((الليل والنهار)) بالإضافة على التوسع، كما قالوا: يا سارقَ الليلةِ أهل الدار.
وقوله: ((وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)): العَرش (15) والعَرِيش: السرير في أصل اللغة، وهو من =(3/38)=@
__________
(1) في (ح): ((متأولة)).
(2) في (أ): ((ظوارها)).
(3) سبق التعليق على مثل هذا القول، وانظر "بيان تلبيس الجهمية" لابن تيمية (1/90-102)، و"شرح العقيدة الطحاوية" (101-103).
(4) قوله: ((معنى)) لم تتضح في (ز).
(5) قوله: ((يدل)) مهمل في (ب). [هذا الهامش وضعته بجانب هذه الكلمة لأن الورقة ليس فيها كلمة يدل إلا في هذا الموضع لذا وضعته]
(6) في (ي): ((تسح)).
(7) قوله: ((يجوز أن)) سقط من (ح).
(8) قال: أبو كبير الهذلي، انظر "ديوان الهذليين" (2/93)، و"الكتاب" لسيبويه (1/359)، و"خزانة الأدب" (8/194)، و"الإنصاف" (1/230).
(9) قوله: ((امرؤ القيس)) ليس في (ب) و(ح) و(أ) و(ي).
(10) عجز البيت ورشٌّ وتوْكَافٌ وتَنْهَمِلان، "ديوان امرئ القيس" بتحقيق/السندوبي (ص235).
(11) في (ز): ((ينقضها)).
(12) "صحيح مسلم" (2/691، رقم 36/993).
(13) لم أقف عليه عند عبد الرزاق في "تفسيره" ولا في "مصنفه".
(14) في (أ): ((فرفع)).
(15) في (ز) و(س): ((والعرش السرير)).(3/38)
الرفع كما تقدّم. وليس معناه في حق الله سبحانه وتعالى السرير، ولا المَحَلّ؛ إذ لو كان كذلك (1) لكان محمولاً، ولكان مفتقرًا، ويلزم منه حدوثه، وإنما العرش المضاف إليه عبارة عن موجود عظيم، هو أعظم المخلوقات (2) ؛ خلقه الله تعالى على الماء، فاستولى عليه، بمعنى: أنه سخَّره كيف شاء (3) .
قال كعب في قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (4) ، قال: إن الله تعالى بدأ بخلق (5) ياقوتة خضراء، فنظر إليها بإلاهيته (6) فصارت ماء، ثم خلق عرشه عليه (7) (8) . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان (9) عرشه على الماء (10) ؛ أي: فوقه؛ إذ لم يخلق سماء ولا أرضًا (11) .
وظاهر هذا الحديث: أن العرش حالة إخباره صلى الله عليه وسلم هو على الماء؛ كما قال كعب، وظاهر كلام ابن عباس: أنه لما خلق السماء (12) والأرض؛ أضيفت فوقية العرش إليهما.
وقوله: ((وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْقَبْضَ (13) ))؛ ولم يقل اليسرى (14) ، ولا الشمال، اجتنابًا لما تضمنته ألفاظهما، ونفيًا لتوهم النقص، ولذلك قال: ((وكلتا يديه يمين)). ويفهم من إضافة اليدين إليه (15) تعالى: قدرته على المخلوقات (16) .
و((الْقَبْضَ))- بالقاف والباء بواحدة (17) - وهو المعروف، وهي روايتنا. وعند الخشني: ((الفيض)) بالفاء والياء (18) باثنتين من أسفل (19) . والقبض في الرواية الأولى: هو نقيض البسط، ولذلك اكتفى بذكره عن البسط، وصار هذا كقوله (20) تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (21) ، اكتفى به عن ذكر نقيضه، وهو الشرّ. ويكون هذا الحديث مثل قوله تعالى: {وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (22) ؛ أي: يقبض (23) الأرزاق والأرواح والقلوب والأمور كلها؛ بالقبض اللائق بها (24) . ويبسطها ببسطها (25) اللائق بها.
وقوله: ((يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ))؛ أي: يعلي ويضع، ويعز ويذل، ويفعل ما يريد من الشيء ونقيضه. =(3/39)=@
__________
(1) في (ب) و(ز) و(س): ((ذلك)).
(2) قوله - عفا الله عنه -: ((لو كان كذلك لكان محمولاً، ولكان مفتقرًا)) من شبه أهل التأويل، والحق أنه لايلزم من كونه فوق عرشه أنه محتاج إليه، فالله سبحانه خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه محتاجًا إلى سافله، والله سبحانه أجل وأعظم وأغنى وأعلى من أن يفتقر إلى شيء بحمل أو غير حمل، بل هو الأحد الصمد... الذي كل ماسواه مفتقر إليه، وهو مستغن عن كل ماسواه. "التحفة المهدية" (207 -208 ) بتصرف، وانظر "شرح العقيدة الطحاوية" (313)، "مجموع الفتاوى" (2/188)، و(5/216-218 و262-263).
(3) تفسير الاستواء بالاستيلاء خطأ، لادليل عليه؛ لا من الكتاب ولامن السنة، ولا من لغة العرب.
والصواب في ذلك قول الإمام ربيعة بن أبي عبدالرحمن - شيخ الإمام مالك -: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق". أخرجه عنه اللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (3/398 رقم665)، والبيهقى في الأسماء والصفات (408)، وذكره شيخ الاسلام في "مجموع الفتاوى" (5/365) ومرعي الكرمي في "أقاويل الثقات" (121).
(4) سورة هود؛ الآية: 7.
(5) في (ب): ((فخلق)).
(6) وفي (ز) و(س): ((بالهيبة)) وفي (ح) يشبه أن تكون ((بالهيبة)) ولم تنقط الموحدة الأخيرة.
(7) في (ز) و(س): ((عليها)).
(8) لم أقف عليه عند الطبري ولا عند عبدالرزاق ولا عند السيوطي في تفاسيرهم، وذكره أبو الشيخ الأصبهاني مطولاً من حديث ابن عباس (2/546-547).
(9) في (ز) و(س): ((وكان)).
(10) جاء بعد ذلك في (ح): ((قال إن الله تعالى)) وضرب على قوله: ((قال)) ولم يضرب على باقي الزيادة.
(11) لم أقف عليه بهذا اللفظ.
(12) في (ب): ((السماوات)).
(13) قوله: ((القبض)) سقط من (ب).
(14) في (ز) و(س): ((الأخرى)).
(15) في (ب) و(ز) و(س): ((إلى الله)).
(16) في (أ) و(ز) و(س) و(ح): ((المختلفات))، وفي (ح) و(ي): ((المختلقات)).
(17) في (ب): ((وبالباء الموحدة)).
(18) من قوله: ((بواحدة...)) إلى هنا سقط من (ح).
(19) في (ب): ((تحتها)).
(20) في (ح): ((لقوله)).
(21) سورة آل عمران؛ الآية: 26.
(22) سورة البقرة؛ الآية: 245.
(23) في (أ): ((يقيض)).
(24) في (ح): ((بها)).
(25) في (أ): ((بسطها)).(3/39)
14- وَعَنْ ثَوْبَانَ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَ وَجَلْ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)). قَالَ أَبُو قِلابَةَ: وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ يُعِفُّهُمْ أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ.
15- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُ أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - في الدنانير المنفقة في طرق (3) الخير-: ((أعظمها أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ))؛ هذا محمول على ما إذا استوت الحالة في الأهل والأجنبي، فلو كان أحدهما أحوج أو أوكد (4) ؛ لكان المنفق (5) في الأوكد أعظم أجرًا، فإذا استوت المراتب فترتيب (6) الأعظم كما وقع في الحديث. =(3/40)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/691 رقم994) في الزكاة، باب فضل النفقة على العيال والمملوك، وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم.
(2) أخرجه مسلم (2/692 رقم995) في الكتاب والباب السابقين.
(3) في (ز) و(س): ((طريق)).
(4) في (ب) و(ز) و(س): ((آكد)).
(5) في (ز): ((المتفق)).
(6) في (ي): ((فيترتب)).(3/40)
وقوله في حديث أبي طلحة رضي الله عنه: ((وكان أحب أمواله إليه بيرحاء))، رويت هذه اللفظة بكسر الباء بواحدة، ويفتح الراء (1) وضمها، وبمد ((حاء)) وقصرها؛ فالنصب على أنه خبر كان، وحينئذ ترفع (2) ((أحب)) على أنه اسمها، ورفع ((بئر)) على أنه اسم كان، وحينئذ تنصب ((أحب)) على أنه خبرها. فأما مد ((حاء)) وقصرها لغتان، وهو حائط نخل يسمي (3) بهذا الاسم، بموضع يعرف بقصر بني جديلة (4) ، وليس ببئر؛ ولذلك قال الباجي: قرأت هذه اللفظة على أبي ذر الهروي بنصب الراء على كل حال، وعليه أدركت أهل العلم والحفظ بالمشرق. وقال لي الصوري (5) : بيرحاء (6) ؛ بنصب الباء، قال: وبالرفع قرأناه على شيوخنا الأندلسيين.
وقد روى هذا الحرف في "الأم": حماد بن سلمة: بَرِيحَاء بكسرالراء وفتح الباء.
وقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (7) ، قال الحسن: لن تكونوا أبرارًا حتى تبذلوا كبير أموالكم.
أبو بكر الوراق: لن تنالوا برِّي بكم حتى تبروا إخوانكم (8) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الجنَّة. وقال مجاهد (9) : ثواب البر. =(3/41)=@
__________
(1) في (ز): ((الزاء)).
(2) في (س) و(ي): ((يرفع)).
(3) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((سُمّي)).
(4) في (ح): ((خالد)). وفي (أ) و(ي) و(س) و(ز): ((خويلد)).
(5) في (ب): ((الصيرفي)).
(6) في (س): ((ببرحاء)).
(7) سورة آل عمران؛ الآية: 92.
(8) في (ز): ((أخواتكم)).
(9) في (ح) و(ي): ((مقاتل)).(3/41)
16- وَعَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ (1) قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالاً، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاء وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاء، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ))، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ، قَالَ: فَجَعَلَهَا فِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
17- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ (2) ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((بَخْ))؛ بالإسكان والكسر من غير تنوين، وبالتنوين، وقد ذكر الأحمر فيها (3) التشديد. وقد روي (4) فيها الرفع. وقال بعضهم: فإذا كرَّرت فالاختيار (5) فيهما (6) التحريك والتنوين في الأول، والتسكين في الثاني.
قال أبو بكر: معناه: تعظيم الأمر وتفخيمه. وسكنت الخاء فيه كما سكنت اللام في ((هل)) و((بل)). ومن قال ((بخ)) بالخفض (7) والتنوين شبهه بالأصوات، كـ((صَهٍ)) و((مَهٍ))، وقال (8) ابن السكيت: ((بَخٍ)) و((بَخْ)) و((بَهٍ)) و((به)) (9) .
وقوله: ((ذَلِكَ (10) مَالٌ رَابِحٌ))؛ المشهور: ((رَابِحٌ)) بالباء بواحدة من الربح. ووصفه (11) المال بالرابح؛ لأنه بسببه يربح، كما قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} (12) . وهذا على مذهب العرب في ((لابن)) و((تامر))؛ أي: ذو لبن وتمر؛ كما قال النابغة (13) :
كليني لهمٍّ يا أُمَيمةَ ناصبِ
أي: ذو نصب.
وقد روي (14) : ((رايح))، بالياء باثنتين، اسم فاعل من ((راح))، ومعناه: قريب (15) الفائدة (16) . وقيل: غير بعيد. وقال ابن دينار: يروح أجره عليه في الآخرة. وقال غيره: يروح عليه كلما أثمرت الثمار.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه :
منها: صحة الصدقة المطلقة، والحبس المطلق، وهو الذي لم يعين مصرفه، وبعد هذا يعين.
ومنها: صحة الوكالة؛ لقوله: ((ضعه حيث شئت)). =(3/42)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/325 رقم1461) في الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، ومسلم ( 2/693 رقم998/42 و43) في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد....
(2) أخرجه البخاري (1/136 رقم55) في الإيمان، باب ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى، ومسلم ( 2/695 رقم1002/48) في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والولاد والوالدين ولو كانوا مشركين.
(3) في (ح): ((فيها)).
(4) في (ب): ((قريء)).
(5) في (س): ((بالاختيار)).
(6) في (ب) و(ح): ((فيها)).
(7) في (س) و(ر): ((بالتنوين والخفض فشبهه)).
(8) في (ب) و(ح): ((قال)) بلا واو.
(9) في (ح): ((بخ بخ وبه به)). وفي (ز) و(ي): ((بخ بخ وبهٍ وبه)).
(10) في (ح): ((ذاك)).
(11) في (ح): ((ووصف)).
(12) سورة البقرة؛ الآية: 16.
(13) في "ديوانه" (ص9)، وتمام البيت: وليل أقاسيه بطيء الكواكب
(14) جاء هذا اللفظ: رائح، أو: رايح، عند البخاري برقم (2318) موصولاً، ورقم (1461 و4554) معلقًا. وورد بالشك من الراوي بين رابح ورائح، عند البخاري برقم (2769 و5611).
(15) في (س): ((قربت)).
(16) في (ح): ((العائدة)).(3/42)
ومنها: إطلاق لفظ الصدقة بمعنى الحُبُس.
وقد روي: أنها بقيت وقفًا بأيدي بني عمّه. وبه احتج غير واحد من العلماء على جواز (1) تحبيس الأصول على الكوفيين، لكن قد (2) روي (3) من طريق صحيح (4) : أن حسَّان باع نصيبه (5) من معاوية، فقيل له (6) : تبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع (7) صاعًا من تمر بصاع من دراهم؟ وعلى هذا فلا يكون فيه مايدل على صحة الوقف.
ومنها: مراعاة القرابة، وإن بَعُدوا في النسب؛ إذ بين أبي طلحة وبين (8) حسَّان وأُبيّ آباء كثيرة، وإنما يجتمعان مع أبي طلحة في عمرو بن مالك بن النجار، وهو السابع من آبائهم. وقال أبو عمر: إن حسَّان يجتمع معه في حرام (9) ، وهو الجد الثالث، وأُبيّ يجتمع معه في عمرو، وهو الجد (10) السابع؛ إلى غير ذلك، فتأمل ما فيه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أَنْفَقَ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ))؛ أي: على زوجته وولده. ومعنى (11) يحتسبها: أي يقصد بها ثواب الله (12) . =(3/43)=@
__________
(1) في (ز): ((جوان)) بدل ((جواز)).
(2) قوله: ((قد)) سقط من (ب) و(س) و(ز).
(3) أخرج ذلك البخاري في "صحيحه" - معلقًا - (5/387 رقم2758) كتاب الوصايا، باب من تصدق إلى وكيله، ثم رد الوكيل إليه. قال: وقال إسماعيل: أخبرني عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، لا أعلمه إلا عن أنس، به.
(4) في (ب) و(ز) و(س): ((صحيحة)).
(5) في (ي) و(ح): ((نصفه)).
(6) قوله: ((له)) ليس في (ز).
(7) في (ز) و(س): ((لا أبيع)).
(8) قوله: ((بين)) سقط من (ي).
(9) من قوله: ((وهو للسابع... إلى في حرام)) ليس في (أ).
(10) قوله: ((الجد)) سقط من (ب) و(س) و(ز).
(11) في (ز) و(س): ((معنى)) بلا واو.
(12) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).(3/43)
*************
( 6 ) باب فضل الصدقة على الزوج والولد اليتيم والأخوال
18- عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِاللهِ (1) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ)). قَالَتْ: فَرَجَعْتُ إِلَى عَبْدِ اللهِ فَقُلْتُ: إِنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ. فَائْتهِ فَاسْأَلْهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي عَنِّي وَإِلا صَرَفْتُهَا إِلَى غَيْرِكُمْ. فَقَالَتْ: فَقَالَ لِي عَبْدُاللهِ: بَلِ ائْتِيهِ أَنْتِ، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتِي حَاجَتُهَا قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ. قَالَتْ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلالٌ، فَقُلْنَا لَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلانِكَ: أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا؟ وَلا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ بِلالٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ هُمَا ؟)) فَقَالَ: امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّ الزَّيَانِبِ؟)) قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ ابِنْ مَسْعُودْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل الصدقة على الزوج أو (2) الولد
قوله صلى الله عليه وسلم: ((تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ))؛ احتج بظاهره من رأى أن الزكاة تجب في الحُليّ. ولا حجة فيه؛ لأنّا لا نُسَلّم أن هذه الصدقة (3) هنا هي الواجبة بل التطوع؛ بدليل قوله: ((وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ))، فإنه (4) ظاهر في الحث والحض على فعل الخير والمبالغة فيه؛ ألا ترى أنه (5) سلك فيه مسلك قوله (6) : ((ردُّوا السائل ولو بظلف مُخْرَقِ؟)) (7) .
وقولها: ((فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِئ عَنِّي وَإِلا صَرَفْتُهَا إِلَى غَيْرِكُمْ))؛ لا يدل على أنها الصدقة الواجبة، وإنما ذلك لما وعظهن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((تصدَّقْن فإني أُرِيْتُكن أكثر أهل النار)). بادرن هذا الأمر، وأخذن في التصدق؛ لتحصل لهن الوقاية من النار؟ فكأنها قالت: أَتَقِينِي هذه الصدقة من النار، وكأنها خافت إن تصدقت على زوجها ألا ينفعها ذلك، ولا يكون لها في ذلك أجر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لهما في جوابهما: ((لَهُمَا أَجْرَانِ))، ولم يقل: تجزئ (8) ، أو لا تجزئ (9) ، والله أعلم.
وقد روي =(3/44)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/328 رقم1466) في الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، ومسلم ( 2/693 رقم998/42 و43) في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين.....
(2) في (أ): ((أو)) ولم تتضح في (س).
(3) في (ز) و(س): ((أن الصدقة)).
(4) في (س): ((بأنه)).
(5) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((أنه قد)).
(6) قوله: ((قوله " سقط من (ح).
(7) يشير رحمه الله إلى حديث أم بجيد رضي الله عنها، الذي أخرجه النسائي (5/81 رقم2565) كتاب الزكاة، باب رد السائل، قال: أخبرني هارون بن عبدالله قال: حدثنا معن، قال: حدثنا مالك، ح. وأنبأنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن ابن بجيد الأنصاري، عن جدته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ردّوا السائل ولو بظلف - فى حديث هارون - محرق))، ومالك في "الموطأ" (2/923 رقم8) كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في المساكين، وفيه: ((المسكين)) بدل: ((السائل))، وأحمد في "المسند" (4/70)، وعبدالرزاق في "المصنف" (11/94 رقم20019) كتاب الجامع، باب مسألة الناس، بنحوه، وابن حبان - كما في الإحسان-(8/167- 168 رقم3374) كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، بلفظه.
رووه كلهم من طريق زيد بن أسلم، عن ابن بجيد، عن جدته.
وجاء عند البيهقي في "الكبرى"، ورواية في "الشعب" من طريق ابن بكير، عن مالك، عن زيد، عن محمد بن بجيد الأنصاري، عن جدته حواء.
ومحمد بن بجيد بن وهب الأنصاري الحارثي، روى عن جدته، وعنه زيد بن أسلم، ولم أقف على من عدَّله أو جَرَّحه، انظر: ((تعجيل المنفعة" (360)، لكن تابعه أخوه عبدالرحمن؛ أخرج حديثه: أبو داود (رقم 1667) كتاب الزكاة، باب حق السائل، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الرحمن بن بجيد، عن جدته أم بُجَيد، وكانت ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول الله! صلى الله عليك، إن المسكين ليقوم على بابي فما أجد له شيئًا أعطيه إياه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لم تجدي له شيئًا تعطينه إياه إلا ظلفًا مُحْرقًا فادفعيه إليه في يده)). وأخرجه أيضًا الترمذي (رقم665) كتاب الزكاة، باب ما جاء في حق السائل، وقال: ((حديث حسن صحيح))، والنسائي (5/86 رقم2574) كتاب الزكاة، باب تفسير المسكين، وأحمد في "المسند" (6/382-383)، وابن خزيمة في "صحيحه" (4/111 رقم2472، 2473) كتاب الزكاة باب الأمر بإعطاء السائل وإن قلَّت العطية وصغرت قيمتها، وابن حبان - كما في الإحسان - (8/166- 167 رقم 3373) كتاب الزكاة، باب صدقه التطوع، والطبرانى في "الكبير" (24/221 رقم561)، والحاكم في "المستدرك" (1/417) كتاب الزكاة، وقال: ((صحيح الإسناد ولم يخرجاه))، وأقره الذهبي.
وعبدالرحمن بن بجيد بن وهب الأنصاري الحارثي المدني - روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن جدته أم بُجَيْد، وعنه محمد بن إبراهيم التيمي وزيد بن أسلم - مختلف فى صحبته، وقال الحافظ: له رؤية، وذكره بعضهم في الصحابة، وله حديث مرسل. اهـ.
وذكره ابن حبان في "الثقات" في الصحابة (3/257) وفي التابعين (5/85). وقال الذهبي: وثق.
وقد صحح الحديث عدد من الأئمة تقدم نقل أقوالهم في أثناء التخريج، وصححه الألباني كما في "صحيح الجامع الصغير" (3/177 رقم 3496).
(8) في (أ): ((ولا تجزئ)).
(9) في (ح) و(س): ((يجزئ)).(3/44)
في غير مسلم (1) : أن امرأة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كانت صناعًا، وأنها قالت: يا رسول الله ! إني ذاتُ صنعةٍ أبيع منها، وليس لزوجي ولا لولدي شيء (2) ، فهل لي فيهم من أجر؟ وفي أخرى (3) : أنها أخذت حُلِيَّها لِتَصَّدَّقَ به (4) ، وقالت: لعل الله أن لا يجعلني من أهل النار. وهذا يدل على أنها كانت صدقة تطوّع.
وممن (5) قال بوجوب الزكاة في الحلي وإن كان للباس: عمر (6) وابن مسعود (7) في (8) جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وابن المسيب وابن سيرين والزهري في جماعة من التابعين، وقاله (9) الكوفيون.
وممن قال: لا زكاة فيه: ابن عمر على خلاف عنه (10) ، وجابر (11) ، وعائشة (12) ، وغيرهم من الصحابة والتابعين، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق، وأظهر قولي الشافعي. وفيه دليل على جواز صدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها، لكن فيما لا (13) يجحف بحق الزوج مما يكون (14) له بال فأما ما له بال (15) من مالها؛ فليس لها أن تخرجه بغير معاوضة (16) ؛ إلا بإذن (17) الزوج؛ بدليل ما أخرجه (18) النسائي (19) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة أن تقضي في ذي بال (20) من مالها؛ إلا بإذن زوجها))، نقلته من حفظ وسماع لا من كتاب. وهذا مذهب مالك. والذي له بال عنده: الثلث فصاعدا.
والحلي عندنا على ثلاثة أضرب:
متخذ للباس، فلا (21) زكاة فيه.
ومتخذ للتجارة، أو على غير الوجه المُسَوَّغ، وفيه الزكاة.
ومتخذ للكراء، وفيه خلاف؛ لتردُّده بينهما. =(3/45)=@
__________
(1) أخرج ذلك: أحمد في "المسند" (3/305)، وفيه روايتان: ولفظ روايته الأولى: كانت امرأة صناعًا، وكانت تبيع وتصدق، فقالت لعبد الله يومًا: لقد شغلتني أنت وولدك، فما أستطيع أن أتصدق معكم، فقال: ما أحب إن لم يكن في ذلك أن تفعلي، فسألا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لك أجر ما أنفقت عليهم))، ولفظ الرواية الأخرى أطول قليلاً.
وأخرج ذلك أيضًا عبد الرزاق فى "المصنف" (10/458 رقم19696) كتاب الجامع، وأبو عبيد في كتاب "الأموال" (581 رقم1879)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/23)، وابن حبان -كما في الإحسان- (10/571 رقم 4247) كتاب الرضاع، باب النفقة، والطبراني في "الكبير" (24/263- 264 الأرقام (666-670)، والبيهقي في "الكبرى" (4/178-179) كتاب الزكاة، باب الاختيار في صدقة التطوع.
رووه جميعًا من طريق عروة بن الزبير، عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة، عن رائطة امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وعند عبد الرزاق دون ذكر عبيدالله.
وهو حديث صحيح.
(2) قوله: ((شيء)) سقط من (ح).
(3) أخرج هذا أبو عبيد في "الأموال" (579 رقم 1877)، والطحاوي في "شرح معاني الآتار" (2/24و25)، وفى اثنائه عند أبي عبيد: ((وكان في النساء امرأة عبدالله بن مسعود، فانقلبت إلى عبد الله بن مسعود فأخبرته بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذت حليًّا لها، فقال: أين تذهبين بهذا الحلي؟ فقالت: أتقرب به إلى الله وإلى رسوله، لعل الله أن لا يجعلني من أهل النار... الحديث.
وسنده حسن. ... ... ... ... ...
وجاء من رواية أبي سعيد الخدري عند البخاري (3/325 رقم1462) كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، وفيه أنها قالت: يا نبي الله! إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حُلِىّ لي، فأردت أن أتصدق بها، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحقُّ من تصدقت به عليهم)).
(4) في (ب) و(ز) و(س): ((لتتصدق به)).
(5) في (س): ((ومن)).
(6) أخرج ذلك عنه: ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/382) كتاب الزكاة، باب في الحلي، والبيهقي في "الكبرى" (4/139) كتاب الزكاة، باب من قال في الحلي زكاة كلاهما من طريق مساور الوراق، عن شعيب بن يسار، قال: كتب عمر إلى أبي موسى أن أؤمر من قبلك من نساء المسلمين أن يصَّدقن من حليهن...، وهذا الإسناد ضعيف؛ لأنه مرسل. شعيب بن يسار لم يدرك هذه الحادثة، وقد قال البخاري فيما حكاه عنه البيهقي: ((مرسل)). وقال البيهقي: ((هذا مرسل. شعيب بن يسار لم يدرك عمر)).اهـ. كما أن شعيبًا مجهول الحال.
(7) أخرج ذلك عنه: عبد الرزاق في "المصنف" (4/83 رقم 7055) كتاب الزكاة، باب التبر والحلي، والدارقطني في "السنن" (2/109 رقم 5) كتاب الزكاة، والبيهقي في "الكبرى" (4/139) كتاب الزكاة، باب من قال في الحلي زكاة.
رووه كلهم من طريق حماد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود قال: سألته امرأة عن حلي لها فيه زكاة قال: إذا بلغ مائتي درهم فزكيه... الخبر. قال عبد الرزاق: عن معمر، عن حماد، به. وعند الدارقطني من طريق هشام الدستوائي، عن حماد عن إبراهيم قال: كان لامرأة ابن مسعود حلي، فقالت لابن مسعود...، وعند البيهقي من طريق سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة أن امرأة ابن مسعود سألت....
أما رواية عبد الرزاق والدارقطني فهي مرسلة، لأن إبراهيم بن يزيد النخعي لم يدرك ابن مسعود، وإن كان بعض الأئمه يقوون مراسيل إبراهيم عن ابن مسعود، فقد قال الأعمش - كما في "التهذيب" (1/177-178) -: قلت لإبراهيم: أسند لي عن ابن مسعود؟ فقال إبراهيم: إذا حدثتكم عن رجل عن عبدالله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله. وقال العلائي في "جامع التحصيل" (141 -142): مكثر من الإرسال، وجماعة من الأئمة صححوا مراسيله، وخص البيهقي ذلك. مما أرسله عن ابن مسعود.اهـ.
ومع أنه روى - كما عند البيهقي - عن علقمة؛ إلا أن بعض الأئمة قال عنها: بأنها مرسلة، فقد ذكر ابن أبي حاتم في "المراسيل" (9) عن مسدد قال: كان عبدالرحمن بن مهدي وأصحابنا ينكرون أن يكون إبراهيم سمع من علقمة.اهـ.
ومع ذلك فقد قال ابن حزم في "المحلى" (6/75): ((هو عنه في غاية الصحة)).
(8) في (ب): ((و)) بدل ((في)).
(9) في (ح): ((قال)).
(10) جاء عنه رضي الله عنه روايتان:
أما رواية إيجاب الزكاة فيه فأخرجها: ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/382) كتاب الزكاة، باب في الحلي. قال: حدثنا وكيع، عن جرير بن حازم، عن عمرو بن شعيب، عن عبدالله بن عمر [أشير إليه وكتب بجانبها في نسخة المصنف عندنا (عمرو) بدل (عمر)] أنه كان يأمر نساءه أن يزكين حليهن.
فهذه رواية منقطعة عمرو بن شعيب لم يلق عبدالله بن عمر.
وأما الرواية الثانية فعنه روايتان: ... ... ... ... ... ... =
الأولى: أنه قال: ليس في الحلي زكاة، أخرجها: عبد الرزاق في "المصنف" (4/82 رقم 7047) كتاب الزكاة، باب في التبر والحلي. واللفظ له، وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/383) كتاب الزكاة، باب من قال: ليس في الحلي زكاة، بنحوه، والدارقطني في "السنن" (2/109 رقم8) كتاب الزكاة من طريق عبد الرزاق به، بلفظه. والبيهقي في "الكبرى" (4/138) كتاب الزكاة، باب: من قال لا زكاة. في الحلي، بلفظه.
وإسنادها صحيح.
الثانية: أن عبدالله بن عمر كان يُحَلّي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة. أخرجها: مالك في "الموطأ" (1/250 رقم11) كتاب الزكاة، باب ما لا زكاة في التبر والحلي والعنبر، واللفظ له، والشافعي في "الأم" (2/41) من طريق مالك به، والدارقطني في "السنن" (2/109 رقم9) كتاب الزكاة، من طريق أسامة بن زيد، عن نافع، والبيهقي في "الكبرى" (4/138) كتاب الزكاة، باب من قال لا زكاة في الحلي، من طريقين: مالك، وأسامة بن زيد. وإسنادها صحيح أيضًا.
(11) أخرج ذلك عنه: الشافعي في "الأم" (2/41) عن عمرو بن دينار، قال: سمعت رجلاً يسأل جابر بن عبدالله عن الحلي؛ أفيه زكاة؟ فقال جابر: لا، فقال: وإن كان يبلغ ألف دينار؟ فقال جابر: كثير. وعبدالرزاق في "المصنف" (4/82 رقم 7046) كتاب الزكاة، باب التبر والحلي، بلفظه إلا أن السائل فيه عمرو بن دينار، والبيهقي في "الكبرى" (4/138) كتاب الزكاة، باب من قال لا زكاة في الحلي، من طريق الشافعي به، بلفظه.
وإسناده صحيح.
(12) كانت رضي الله عنها تلي بنات أخيها، يتامى فى حجرها، لهن الحلي، فلا تحرج منه الزكاة، أخرج ذلك عنها: مالك في "الموطأ" (1/550 رقم 10) كتاب الزكاة، باب ما لا زكاة فيه من التبر والحلي والعنبر، والشافعي في "الأم"(2/40)، وفي"المسند"- كما في ترتيبه- (1/227 رقم 626) من طريق مالك، وأحمد في مسائل ابنه عبدالله (2/559 رقم 772)، وعبد الرزاق في "المصنف" (4/83 رقم 7052) كتاب الزكاة، باب الحلي والتبر، والبيهقي في "الكبرى" (4/138) كتاب الزكاة، باب من قال: لا زكاة في الحلي، من طريقين عن مالك.
رووه جميعًا من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه: أن عائشة...، وعند الشافعي، ومن طريقه البيهقي، من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة.
وإسناده صحيح.
(13) في (ح): ((فيما لم)).
(14) في (ب): ((مما لا يكون)).
(15) قوله: ((فأما ماله بال)) سقط من (ي).
(16) في (س): ((معارضة)).
(17) في (أ): ((إلا أن يأذن)).
(18) في (ب) و(ح): ((خرّجه)).
(19) "السنن" (6/278 رقم3756) كتاب العمرى، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، قال: أخبرنا محمد بن معمر قال: حدثنا حماد بن سلمة، ح وأخبرني إبراهيم بن يونس بن محمد قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن داود -وهو ابن أبي هند - وحبيب المعلم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجوز لامرأة هبة في مالها إذا ملك زوجها عصمتها))، واللفظ لمحمد.
وأخرجه أيضًا أبو داود (رقم 3546) كتاب البيوع، باب في عطية المرأة بغير إذن زوجها بلفظه، وابن ماجه (2/798 رقم 2388) كتاب الهبات، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها بنحوه، وأحمد في "المسند" (2/221) بنحوه، والحاكم في "المستدرك" (47) كتاب البيوع، بنحوه، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، سمعت علي بن عمر الحافظ يقول: سمعت أبا بكر بن زياد الفقيه النيسابوري يقول: سمعت محمد بن علي بن حمدان الوراق يقول: قلت لأحمد بن حنبل: عمرو بن شعيب سمع من أبيه شيئًا؟ فقال: هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو، وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب، وصح سماع شعيب من جده عبدالله بن عمرو)).اهـ. وقال الذهبي: صحيح. والبيهقى في "الكبرى" (6/60) كتاب الحجر، باب الخبر الذي ورد في عطية المرأة بغير إذن زوجها، وفيه ثلاث روايات بألفاظ متقاربة، بنحو.
رووه كلهم من طريق حماد بن سلمة.
وإسناده حسن.
(20) في (ز) و(س): ((في بال)).
(21) في (ب) و(أ) و(ز) و(س) و(ي): ((ولا)).(3/45)
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ))؛ أي: أجر صلة الرحم، وأجر منفعة الصدقة.
واختلف قول مالك في الصدقة الواجبة على القرابة غير الوالدين والولد والزوجة؛ بالجواز والكراهية (1) ، ووجه هذه الكراهية مخافة الميل للمدح (2) بصلة الأرحام فتفسد نية أداء الفرض، أو تضعف.
فأما الوالدان والولد الفقراء فلا تدفع (3) الزكاة إليهم بالإجماع.
واختلفوا في المرأة: هل تُعِطي (4) منها زوجها؟ فأجازه الشافعي (5) ، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وأبو ثور، وأشهب؛ إذا لم يصرفها إليها (6) فيما يلزمه لها، ولم يجزه مالك، ولا أبو حنيفة، واختلف فيه عن أحمد.
وليس إخبار بلال بالسائلتين اللتين استكتمتاه (7) مَنْ هما بكشف (8) أمانة سرٍّ؛ لوجهين:
أحدهما (9) : أن بلالاً فهم أن ذلك ليس على الإلزام، وإنما كان ذلك منهما على أنهما رأتا (10) أنه لا ضرورة تحوج إلى ذلك.
والثاني: أنه (11) إنما أخبر بهما (12) جوابًا لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى أن إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمُّ وأوجبُ من كتمان ما أمرتاه به (13) . وهذا كله بناء على أنهما أمرتاه. ويحتمل أن يكون ذلك (14) سؤالا سألتاه، ولا يجب إسعاف كل سؤال. =(3/46)=@
__________
(1) في (ب): ((والكراهة)).
(2) في (ح): ((بالمدح)).
(3) في (ح): ((يدفع)).
(4) في (ب) و(أ): ((يعَطي)).
(5) في (ح): ((الشعبي)).
(6) في (ي): (الها)).
(7) في (أ): ((استكتماه)).
(8) في (ز): ((يكسف)).
(9) في (ب): ((أحدهما))، ووضع قبلها إشارة لحق وكتب في الهامش الأول ووضع عليه رمزًا يشبه أن يكون (خ)، وفي (ح) و(ي): ((الأول)).
(10) في (ب): ((رأيا)).
(11) في (ح): ((أنهما)).
(12) في (س): ((أخبرهما)).
(13) قوله: ((به)) سقط من (ب).
(14) قوله: ((ذلك)) سقط من (ح).(3/46)
19- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (1) قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ لِي أَجْرٌ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ؟ أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ فَقَالَ: ((نَعَمْ لَكِ فِيهِمْ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ)).
20- وَعَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ (2) أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقال: ((لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((لَوْ أَعْطَيْتِهَا (3) أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ))؛ هذا يدل على أن الصدقة على الأقارب أفضل من عتق الرقاب. وهو قول مالك.
وتخصيص الأخوال؛ إما لأنهم من جهة الأم، وللأم ثلاثة أرباع البر، وإما لأنهم كانوا أحوج. وهكذا صحت الرواية في كتاب مسلم: ((أَخْوَالَكِ))، ووقع في البخاري (4) من رواية الأصيلي: ((أخواتك)) بالتاء بدل ((أخوالك))، ولعلّه الأصحّ، بدليل رواية مالك في"الموطا": ((أعطها (5) لأختكِ وصِلِيها (6) بها؛ ترعى (7) عليها، فهو خير لك (8) )) (9) . =(3/47)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/328 رقم1467) في الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، ومسلم ( 2/695 رقم1001) في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج....
(2) أخرجه البخاري (5/217 رقم2592) في الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها، ومسلم ( 2/694 رقم999) في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج.....
(3) في (ي): ((أعطتها)).
(4) في "صحيحه" كما تقدم تخريجه منه: أخوالك، ولم أقف على أخواتك بالتاء، ولم يشر الحافظ في "الفتح" إلى تلك الرواية، فالله أعلم.
(5) كذا في النسخ الثلاث: ((أعطها))، وفي المطبوع من "الموطأ" ((أعطيها)).
(6) في (ز) و(س): ((وصلها)).
(7) في (س): ((تدعي)).
(8) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(9) (2/967 رقم9) كتاب الجامع، باب ما جاء في أكل الضب. قال: عن عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي صعصعة، عن سليمان بن يسار أنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة بنت الحارث... الخبر، وفي آخره: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتك جاريتك التي كنت استأمرتيني في عتقها، اعطيها أختك، وصِلي بها رحمك، ترعى عليها، فإنه خير لك)). وهو مرسل.
قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (19/235): ((لم يختلف الرواة للموطأ في إسناد هذا الحديث وإرساله)).اهـ.(3/47)
*************
( 7 ) باب الصدقة على الأم المشْرِكة وعن الأم الميتة
21- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ (1) قَالَتْ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَو رَاهِبَة أَفَأَصِلُهَا؟ قال: ((نَعَمْ)).
وَفِي رِوَايَةٍ قال: ((نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الصدقة على الأم المشركة وعن (2) الأم الميتة
قولها: ((إِنَ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَو رَاهِبَة (3) )): قد (4) جاء هذا في رواية أخرى: ((رَاغِبَةٌ (5) ))، بغير شك، وهو الأصح (6) . واختلف في معناه: فقيل: راغبة عن الإسلام؛ أي: كارهة فيه. وقيل: راغبة فيما تعطيها. وذكره أبو داود (7) وقال: قدمت عليّ أمي راغبة في عهد قريش، وهي راغمة؛ أي: مشركة؛ فالأول بالباء؛ أي: طالبة صلتي. والثاني بالميم؛ أى: كارهة للإسلام، ساخطة له.
وأمّها هذه هي (8) : قَيْلَةُ بنت عبد العزّى (9) العامرية القيسية (10) (11) . ويقال: قتيلة (12) . وقيل فيها نزل قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} (13) الآية (14) . وفيه صلة الأبوين المشركين كما قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (15) .
22- وَعَنْ عَائِشَةَ (16) ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((إِنَّ (17) أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا)): الرواية المعروفة عند الجمهور: ((افْتُلِتَتْ)) – =(3/48)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (5/233رقم2620) في الهبة، باب الهدية للمشركين، ومسلم (2/ 696 رقم1003/49 و50) في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج...
(2) في (ز) و(س): ((وعلى)).
(3) في (ي): ((أو راهبة عن الإسلام)).
(4) قوله: ((قد)) سقط من (ي).
(5) في (أ): ((راعبة)) بالعين المهملة.
(6) ؟؟؟.
(7) التخريج.
(8) قولها: ((هي)) ساقط من (ح).
(9) في (ح) و(ي): ((عبد العزيز)).
(10) أشير إلى كلمة القيسية بخط على جانب الصفحة وكتب فيه [لعل الصواب ما في (ب) و(ح) وتراجع].
(11) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((القرشية)).
(12) في (ز) و(س): ((قبيلة)).
(13) جاء ذلك في "صحيح البخاري"(10/413 رقم 5978) كتاب الأدب، باب صلة الوالد المشرك.وفيه عقب ذكر الحديث: قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى فيها: {لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين}. وانظر: "تفسير الطبري" (28/66)، و"الإكمال" (ل 167/ب).
(14) سورة الممتحنة؛ الآية: 15.
(15) سورة لقمان؛ الآية: 15.
(16) أخرجه البخاري (3/254 رقم1388) في الجنائز، باب موت الفجأة والبغتة، ومسلم ( 2/696 رقم1004) في الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه.
(17) في (أ): ((إني)).(3/48)
بالفاء (1) - مبنيًّا لما لم يسمَّ فاعلُه؛ أي: ماتت فلتة؛ أي: فجأة. و((نَفْسَهَا)): بالرفع والنصب، فالرفع على أنه المفعول الذى لم يسمّ فاعلُه، والنصب على أنه المفعول الثاني بإسقاط حرف (2) الجر، والأول مضمر (3) ، وهو المقام مقام الفاعل.
ورواه ابن قتيبة: ((اقتتلت)) (4) - بالقاف -، وفسره بأنها كلمة تقال لمن مات فجاة، ويقال (5) أيضًا لمن قتلتْه الجنّ والعشق.
وقوله: ((فَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا (6) ؟))؛ الرواية الصحيحة بكسر الهمزة (7) من ((إن)) على الشرطية، ولا يصح قولُ مَن فتحها؛ لأنه إنما سأل عما لم يفعله.
ولم يُختَلف في مقتضى هذا الحديث، وهو: أن الصدقة بالمال نافعة للميت. واختلف في عمل الأبدان هل ينفع (8) الميت إذا فعل عنه؟ فمن حمله على المال قال: ينفعه، ومن لم يحمله عليه (9) وأخذ بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} (10) ، قال: لا ينفعه. وسيأتي (11) كمال هذه المسألة في الصوم والحج إن شاء الله تعالى.
23- وَعَنْ حُذَيْفَةَ (12) ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ))؛ أي: كل ما يفعل الإنسان (13) من أعمال البرّ والخير، كان ثوابه كثواب من تصدق بالمال، والله أعلم (14) . =(3/49)=@
__________
(1) في (ز): ((بالتاء)) بدل ((بالفاء)).
(2) قوله: ((شرف)) سقط من (ي).
(3) في (أ): ((المضمر)).
(4) في (ح): ((اقتلتت))، وفي (ي) سقطت.
(5) في (س): ((وتقال)).
(6) في (ز) و(س): ((عليها)).
(7) في (ح): ((الهاء)).
(8) في (ح): ((تنفع)) وفي (ي): ((ننفع)).
(9) قوله: ((عليه)) ليس في (ز) و(س).
(10) سورة النجم؛ الآية: 39.
(11) في (ي): ((وسال)).
(12) أخرجه مسلم ( 2/697 رقم1005) في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
(13) قوله: ((الإنسان)) سقط من (ب) و(ح) و(ز) و(س) و(ي).
(14) قوله: ((والله أعلم)) ليس في (ز) و(س).(3/49)
***************
( 8 ) باب الابتداء في الصدقة بالأهم فالأهم
24- عَنْ جَابِرٍ (1) قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَبِي صلى الله عليه وسلم فَقال: ((أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ ؟)) فَقَالَ: لا، فَقال: ((مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟)) فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: ((ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا)). يَقُولُ فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الابتداء في (2) الصدقة بالأهم فالأهم
قوله: ((أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ))، وقد (3) جاء في رواية أخرى في "الأم" (4) ؛ أن هذا الرجل من الأنصار، واسمه: أبو (5) مذكور (6) .
وهذا الحديث حجة للشافعي، ومن قال بقوله على جواز بيع المدبر. وأن التدبير ليس بلازم كالوصية. وخالفه (7) في ذلك مالك ومن قال بقوله. فقال: إنه (8) لا يجوز بيعه إلا إن استغرقه دين بعد الموت، قال مالك: وهو الأمر المجتمع (9) عليه عندنا.
وعلى هذا فظاهر هذا الحديث متروك بدليل هذا العمل المجمع عليه، فيتعين تأويل هذا الحديث عند من يرجح العمل المنقول على أخبار الآحاد، وهو مذهب مالك. وقد حمل أصحابنا هذا الحديث: على أنه إنما باعه النبي صلى الله عليه وسلم في دين متقدّم على التدبير، ويعتضد هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى بيع المدبر بنفسه؛ كما يتولى (10) الحاكم بيع مال (11) المفلس. وأحالت الشافعية هذا التأويل بأنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل لما دفع إليه ثمن المدبر: ((ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا)). قالوا: ولو كان هنالك (12) دين لكان الابتداء به أولى، ولقال (13) : ابدأ بدينك.
قال بعض أصحابنا: إن قوله: ((ابْدَأْ بِنَفْسِكَ))؛ متضمن لذلك؛ لأن قوله: ((ابْدَأْ بِنَفْسِكَ))؛ إنما يعني به ابدأ بحقوقها. ومن أعظم حقوقها تخليصها من الدَّين الذي هي مرتهنة به. ومما احتج به أصحابنا بأن (14) المدبر لا يباع (15) ولايوهب: حديث ابن عمر رضي الله عنهما (16) ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((المدبر لا يباع ولا يوهب، وهو حُرٌّ من الثلث))، وصحيحه موقوف على ابن عمر، والذي استدل به مالك ما تقدّم. =(3/50)=@
__________
(1) البخاري (4/354 رقم2141) كتاب البيوع، باب بيع المزايدة، و(4/420 رقم 2230، 2231) باب بيع المدبر، و(5/65 رقم2453) كتاب الاستقراض، باب من باع مال المفلس أو المعدم فقسمه بين الغرماء، أو أعطاه حتى ينفق على نفسه، و(5/165 رقم 2534) كتاب العتق، باب بيع المدبر، و(13/179 رقم 7186) كتاب الأحكام، باب بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم. وكل هذه الروايات عند البخاري مختصرة، ومسلم (2/692 رقم997) في الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة.
(2) في (ح): ((الابتداء بالصدقة)).
(3) قوله: ((قد)) سقط من (ب) و(ح) و(ز) و(س) و(ي).
(4) "صحيح مسلم" (2/693 رقم 997) كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس، ثم أهله، ثم القرابة، ولفظه: ((أن رجلاً من الأنصار، يقال له أبو مذكور، أعتق غلامًا له عن دبر، يقال له يعقوب... الحديث.
(5) قوله: ((أبو)) سقط من (ب) و(ز) و(س).
(6) أبو مذكور الأنصاري، من بني عذرة؛ قال الحافظ في "الفتح" (5/166) عن اجتماع كونه من بني عذرة، ومن الأنصار: ولعله له كان من بني عذرة وحالف الأنصار.اهـ.
ومن ترجم له اكتفى بذكر هذه الرواية عنه عند مسلم، وفي "الإصابة" قال الحافظ: ((جاء في سائر الروايات غير مسمى)).اهـ. "أسد الغابة" (6/281)، "الإصابة" (12/14).
(7) في (ح) و(ي): ((وخالف)).
(8) قوله: ((إنه)) سقط من (ب).
(9) في (ي): ((المجمع)).
(10) قيل: ((يتولى)) كلمة غير واضحة في (ز)، ولعلها ((عليه السلام)).
(11) قوله: ((مال)) سقط من (ز) و(س).
(12) في (س) و(ز): ((هناك)).
(13) في (ب) و(ز) و(س) و(ح) زيادة: ((له)).
(14) في (أ) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((لأن)).
(15) في (ز): (لا تباع)).
(16) أخرجه بهذا اللفظ من حديث ابن عمر مرفوعًا: الدارقطني(4/138 رقم50) كتاب المكاتب، والبيهقي في "الكبرى" (10/314) كتاب المدبر، باب من قال: لا يباع المدبر.
وأخرجه مختصرًا مرفوعًا؛ بلفظ: ((المدبر من الثلث)): ابن ماجه (2/840 رقم 2514) كتاب العتق، باب المدبر، والطبراني في "الكبير"(12/367 رقم 13365)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/234) في ترجمة علي بن ظبيان، وابن عدي في "الكامل" (5/187- 188) في ترجمة علي بن ظبيان، وساقه من عدة طرق عنه، والدارقطني (4/138رقم 49) كتاب المكاتب، والبيهقي في "الكبرى" (10/314) كتاب المدبر، باب المدبر من الثلث، والخطيب في "تاريخه" (11/443-444).
وأخرجه موقوفًا: الدارقطني (4/138 رقم51) كتاب المكاتب، من حديث ابن عمر أنه كره بيع المدبر، والبيهقي في "الكبرى" (10/313) كتاب المدبر، باب من قال: لا يباع المدبر، ولفظه عن ابن عمر قال: ((لا يباع المدبر)). وأخرجه ابن عدي من طريق الشافعي عن ابن ظبيان موقوفًا في "الكامل" (5/1833). كلاهما من طريق حماد بن زيد، عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر به.
وفي "فيض القدير" للمناوي (6/263) ذكر السيوطي الرواية المختصرة، ورمز لها بالحسن، فقال المناوي: رمز لحسنه، قال ابن حجر: وروي مرفوعًا وموقوفًا، والصحيح وقفه، وأما رفعه فضعيف، وذلك لأن فيه علي بن ظبيان العبسي. اهـ. ثم ذكر الرواية التامة (6/264) وذكر كلام الدارقطني، ثم قال: وقال عبد الحق: إسناده ضعيف والصحيح موقوف، وقال في "المنار": الصحيح وقفه.اهـ.
وذكر الشيخ الألباني عن ابن الملقن في "الخلاصة" قوله: ((وأطبق الحفاظ على أن الصحيح رواية الوقف)).اهـ. وقد حكم عليه في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (1/197 رقم164) بأنه موضوع، وقال: ((فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم باع المدبر ». اهـ.(3/50)
وقوله: ((فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ))؛ المعروف: ((فَضَلَ)) بكسر الضاد، وهي لغة. ويقال (1) بفتحها، وهو (2) اختبار الجوهرى.
وهذا الحديث دليل على مراعاة الأوكد فالأوكد (3) .
**************
( 9 ) باب أعمال البر صدقات
25- عَنْ أَبِي ذَرٍّ (4) ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنَّبِيِّ: يَا رَسُولَ اللهِ ! ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ قَالَ: ((أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أعمال البر صدقات
قد تقدّم القول على الدثور، وعلى تفضيل الفقر في كتاب الصلاة. ومقصود هذا الحديث: أن أعمال الخير إذا حسنت النيات فيها تنزَّلت (5) منزلة الصدقات في الأجور، ولا سيما في حق من لا يقدر على الصدقة. ويفهم منه: أن الصدقة في حق القادر عليها أفضل له من سائر (6) الأعمال القاصرة على فاعلها. =(3/51)=@
__________
(1) قوله: ((يقال)) ليس في (أ).
(2) في (أ) و(ح) و(س) و(ي): ((وهي)).
(3) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(4) أخرجه مسلم ( 2/697 رقم1006) في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف. ...
(5) في (أ): ((تنزلت)).
(6) في (ي): يشبه أن تكون ((سايل)).(3/51)
وقوله: ((فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ))، البضع -بضم الباء-:الجماع، وأصله: الفرج. قال الأصمعي: يقال: ملك فلان بضع فلانة: إذا ملك عقد نكاحها، وهو كناية عن موضع الغشيان، والمباضعة: المباشرة، والاسم: البضع.
وفيه دليل: على أن النيات الصادق0ات تصرف المباحات إلى الطاعات.
وقولهم: ((أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟)) استفهام من استبعد حصول أجر بفعل (1) مستلذ، يحث الطبع عليه، وكأن هذا الاستبعاد إنما وقع من تصفُّح الأكثر من الشريعة، وهو أن الأجور إنما تحصل في العبادات الشاقة على النفوس المخالفة لها. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أجابهم على هذا بقياس العكس، فقال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام؟)) ونظمه: كما يأثم في ارتكاب الحرام؛ يؤجر في فعل الحلال. وحاصله راجع إلى إعطاء كل واحد من المتقابلين ما يقابل به الآخر (2) من الذوات والأحكام.
وقد اختلف الأصوليون في هذا النوع من القياس، هل يعمل عليه أم لا؟ على قولين. وهذا الحديث حجة لصحة العمل بهذا النوع.
26- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (3) : إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ، وَحَمِدَ اللهَ، وَهَلَّلَ اللهَ، وَسَبَّحَ اللهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاثِمِائَةِ السُّلامَى، فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ)). قَالَ أَبُو تَوْبَةَ: وَرُبَّمَا قَالَ: ((يُمْسِي)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (4) صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلاثِمِائَةِ (5) مَفْصِلٍ))؛ =(3/52)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((لفعل)).
(2) في (ز): ((الآجر)).
(3) أخرجه مسلم (2/698 رقم 53/1006) في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
(4) في (ب): ((قوله)) بلا واو.
(5) في (ح): ((ومائة)).(3/52)
الضمير في ((إِنَّهُ))، ضمير الأمر والشأن، والمفاصل: هي العظام التي ينفصل بعضها من بعض، وقد سمّاها: سُلاميات. قال أبو عبيد: السُّلامى في (1) الأصل: عظم في فِرْسَن (2) البعير، وقد تقدّم القول في السُّلاميات في الصلاة.
ومقصود هذا الحديث: أن العظام التي في الإنسان هي أصل وجوده، وبها حصول منافعه؛ إذ (3) لا تتأتى الحركات والسكنات إلا بها، والأعصاب رباطات، واللحوم والجلود حافظات وممكنات، فهي إذًا أعظم نعم الله تعالى على الإنسان، وحق المنعم عليه أن يقابل كل نعمة منها بشكر يخصّها، وهي (4) أن يعطي صدقةً كما أُعطي منفعة، لكن الله تعالى لطف وخفف بأن جعل التسبيحة الواحدة كالعطية، وكذلك التحميدة، وغيرها من أعمال البر وأقواله (5) ، وإن قلّ مقدارها، وأتم تمام الفضل (6) أن اكتفى من ذلك كلّه بركعتين في الضحى (7) ؛ على ما مرّ (8) . وقد نبهنا على سرّ ذلك في باب صلاة الضحى.
وقوله: ((عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاثِمِائَةِ السُّلامَى))؛ كذا وقعت الرواية (9) ، وصوابه في العربية: ((ثلاثمائة السلامى))؛ لأنه لا يجمع بين (10) الإضافة والألف واللام (11) ؛ إلا في الإضافة غير المحضة؛ بشرط دخول الألف واللام على المضاف والمضاف إليه. =(3/53)=@
__________
(1) قوله: ((في)) سقط من (ي).
(2) الفرسن من البعير بمنزلة الحافر من الدابة؛ كذا قال الجرهري (6/2177)، وفي "النهاية" (3/429): الفِرسن: عظم قليل اللحم، وهو خف البعير كالحافر للدابة، وقد يستعار للشاة فيقال فِرْسَن شاة، والذي للشاة هو الظّلْف.
(3) قوله: ((إذ)) ليس في (ز) و(س).
(4) في (ز) و(س): ((وهو)).
(5) قوله: ((وأقواله)) سقط من (ي).
(6) في (ز) و(ي): ((الفصل)).
(7) يشير بذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث أبي ذر المتقدم، بعد ذكر أنواع من الصدقات، قال: ((ويجزيء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)). أخرج ذلك: مسلم (1/498 رقم 720/84) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى، ولفظه عن أبي ذر مرفوعًا: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكبر صدقة، ويجزيء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)).
(8) تراجع في (ب) [ل/138/أ].
(9) في (ز) و(س): ((وقع في الرواية)).
(10) في (ي): يشبه أن تكون ((من)).
(11) في (ح): ((الألف واللام والإضافة)).(3/53)
27- وَعَنْ أَبِي مُوسَى (1) ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ)). قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قال: ((يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ)). قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قال: ((يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ)) قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قال: ((يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الْخَيْرِ)). قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قال: ((يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ)).
28- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ، عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ الشَّمْسُ. قَالَ: تَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، قَالَ: وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ. وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ))؛ هو هنا مطلق، وقد (3) قيَّده (4) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بقوله: ((في كل يوم))؛ وظاهر هذا اللفظ الوجوب، لكن خففه الله تعالى (5) حيث جعل ما خف (6) من المندوبات مسقطًا (7) له؛ لطفا (8) منه وتفضلاً.
و((ذو الحَاجَةِ)): صاحبها. و((الْمَلْهُوفَ)): المضطر إليها، الذي (9) قد شغله همه بحاجته عن كل ما سواها، ولا شكّ في أن قضاء حاجة من كانت
هذه حاله يتعدد (10) فيها (11) الأجر، ويكثر بحسب ما كشف من كربة صاحبها. =(3/54)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/307 رقم1445) في الزكاة، باب على كل مسلم صدقة، فمن لم يجد فليعمل بالمعروف، ومسلم (2/699 رقم1008/54) في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
(2) أخرجه البخاري (5/309 رقم2707) في الصلح، باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم، (6/132 رقم2989) في الجهاد، باب من أخذ بالركاب ونحوه، ومسلم (2/699 رقم1009/54) في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
(3) في (ح): ((وقيل)).
(4) في (ح): ((قتده)).
(5) في (ز) و(س): ((خففه تعالى)).
(6) في (ز) و(س): ((ما خفا)).
(7) في (أ): ((مقسطًا)).
(8) في (ز): ((لفظًا)).
(9) قوله: ((الذي)) مكرر في (ي).
(10) في (ي): ((تتعدد)).
(11) في (ز): ((فيه)).(3/54)
ومقصود هذه الأحاديث الترغيب في أعمال البر والخير بطريق إظهار وجه الاستحقاق واللطف، والحمد لله (1) .
*************
( 10 ) باب الدعاء للمنفق وعلى الممسك، والأمر بالمبادرة للصدقة
قبل فَوْتِها
29- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا. وَيَقُولُ الآخَرُ: اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الدعاء للمنفق وعلى الممسك
قوله: ((اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا))؛ هو موافق (3) لقوله تعالى: {وَمَا أنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (4) ، وهذا يعم الواجبات والمندوبات.
وقوله: ((اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا))؛ يعني: الممسك عن النفقات الواجبات (5) ، وأما الممسك عن المندوبات؛ فقد لا يستحق هذا الدعاء؛ اللهم (6) إلا أن يغلب عليه البخل بها، وإن قَلَّت في أنفسها؛ كالحبة واللقمة وما شاكل هذا. فهذا قد يتناوله هذا الدعاء؛ لأنه إنما يكون كذلك لغلبة صفة البخل المذمومة عليه، وقلَّ (7) ما يكون كذلك إلا ويبخل بكثير من الواجبات، أو لا يطيب نفسًا بها، والله تعالى أعلم. =(3/55)=@
__________
(1) زاد في (ز) بعدها ((أولاوآخرًا)).
(2) أخرجه البخاري (3/304 رقم 1442)، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى}... الآية، ومسلم (2/700 رقم1010/54) في الزكاة، باب في المنفق والممسك.
(3) في (ب) و(ز) و(س) زيادة: ((في المعنى)).
(4) سورة سبأ؛ الآية: 39.
(5) في (ب): ((الواجبات والمندوبات)).
(6) في (ز) و(س): ((ياللهم)).
(7) في (أ): ((وقد)).(3/55)
30- وَعَنْ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ (1) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((تَصَدَّقُوا فَيُوشِكُ الرَّجُلُ يَمْشِي بِصَدَقَتِهِ فَيَقُولُ الَّذِي أُعْطِيَهَا: لَوْ جِئْتَنَا بِهَا بِالأَمْسِ قَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الآنَ فَلا حَاجَةَ لِي بِهَا، فَلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((تَصَدَّقُوا فَيُوشِكُ الرَّجُلُ...))؛ هذا الأمر حضّ (2) على المبادرة إلى إخراج الصدقة. و((يُوشِكُ)): يسرع.
وقول المعطى له: ((لَوْ جِئْتَنَا بِهَا بِالأَمْسِ قَبِلْتُهَا))؛ يعني: أنه قد استغنى عنها بما أخرجت الأرض؛ كما قال في الحديث الآخر: ((تقيء (3) الأرض أفلاذَ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب))، قال ابن السكيت: الفلذ لا يكون إلا للبعير، وهي: القطع المقطوعة طولاً (4) . وحكى أبو عبيد عن الأصمعي: الحزّة والفلذة (5) : ما قُطِعَ طولاً من اللحم، ولم يخصّ كبدًا من غيره.
و((الأُسطوان))- بضم الهمزة والطاء -: السّواري، واحدتها: أسطوانة.
وهذا عبارة عما تخرج الأرض من الكنوز والبدرات (6) ، وهذا معنى قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرضُ أَثْقَالَهَا} (7) ؛ أي: كنوزها؛ على أحد التفسيرين، وقيل: موتاها.
31- وَعَنْ أَبِي مُوسَى (8) ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ ثُمَّ لا يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((وَيُرَى (9) الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً؛ يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ))، معنى: ((يَلُذْنَ (10) )): يستترن ويتحرزن؛ من الملاذ الذي هو السترة (11) ، لا من =(3/56)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/281 رقم1411) في الزكاة، باب الصدقة قبل الرد، و(3/293 رقم1424) كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، بنحوه، و(13/81 رقم7120) كتاب الفتن، باب، بنحوه، ومسلم (2/700 رقم1011/54) في الزكاة، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها.
(2) في (ي): ((حظ)).
(3) في (ي): يشبه أن تكون ((تعني)).
(4) كذا جاء في الأصل وبقية النسخ، والعبارة كما "إصلاح المنطق" (16): قال: الفَلْذ: مصدر فَلَذْت له؛ أي: أعطيته قطعة من المال، والفِلْذُ قطعة من كبد البعير)).اهـ. ونقل المازري في "المعلم" (2/18) عن ابن السكيت: الفِلْذُ لا يكون إلا للبعير، وهو قطعة من كبده؛ يقال: فلذة واحدة، ثم يجمع فلذًا أو أفلاذًا، وهي القطع المقطوعة طولاً)).اهـ. وكذا نقل القاضى في "الإكمال" (3/533)، والنووي في "المنهاج"(7/98): ((أو هي القطعة من اللحم)).اهـ.
(5) في (ز) و(س): ((والفلذ)).
(6) في (ب): ((البدارات))، وفي (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((الندرات)).
(7) سورة الزلزلة؛ الآية: 2.
(8) أخرجه البخاري (3/281 رقم1414) في الزكاة، باب الصدقة قبل الرد، ومسلم (2/700 رقم1012) في الزكاة، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها.
(9) في (أ): ((وترى)).
(10) في (ز) و(س): ((يلُذنَ به)).
(11) في (س): ((هو من السترة)).(3/56)
اللذة، وذلك إنما يكون لكثرة قتل الرجال في الملاحم؛ كما سيأتي في كتاب الفتن (1) (2) .
32- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (3) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا.
33- وَعَنْهُ (4) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ. وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي. ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ (5) مُرُوجًا وَأَنْهَارًا))؛ أي: تنصرف دواعي العرب عن مقتضى عادتهم (6) من انتجاع الغيث، والارتحال في المواطن للحروب والغارات، ومن عزة (7) النفوس العربية الكريمة الأبيّة إلى أن يتقاعدوا عن ذلك، فيشتغلوا بغراسة الأرض وعمارتها، وإجراء مياهها؛ كما قد شوهد في كثير من بلادهم وأحوالهم. =(3/57)=@
__________
(1) يشير المصنِّف رحمه الله إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم (4/2214 رقم 157/17) كتاب الفتن، باب إذا توجه المسلمان بسيفيهما، ولفظه مرفوعًا: ((لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، وتكون بينهما مقتلة عظيمة، ودعواهما واحدة)). ولفظ الرواية الثانية: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج))، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: ((القتل، القتل)).
(2) زاد بعدها في (ز): ((إن شاء الله تعالى)).
(3) أخرجه مسلم (2/701 رقم157/60) في الزكاة، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها.
(4) أخرجه مسلم (2/701 رقم1013/60) في الكتاب والباب السابقين.
(5) في (س): ((الحرب))، وفي (ز): سواد على كلمة ((العرب)).
(6) في (ب) و(ز) و(س): ((عاداتهم)).
(7) في (ب): ((نخوة))، وفي (ز): ((غيرة)).(3/57)
************
( 11 ) باب لا يقبل الله الصدقة إلا من الكسب الطيب
34- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلا الطَّيِّبَ إِلا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ)). وَفِي رِوَايَةٍ: ((لا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلا أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ - أَوْ قَلُوصَهُ - حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ أَعْظَمَ)). وَفِي أُخْرَى: ((مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ فَيَضَعُهَا فِي حَقِّهَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) ومن باب لا يقبل الله الصدقة إلا من (2) الكسب الطيب
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ))؛ أي (3) : منزَّه عن النقائص والخبائث، فيكون بمعنى: القدوس، وقيل: طيب الثناء، ومستلذ الأسماء عند العارفين بها، وعلى هذا: فطيِّب من أسمائه الحسنى، ومعدود في (4) جملتها المأخوذة من السنة؛ كالجميل (5) والنظيف (6) ؛ على قول من رواه (7) ورآه (8) .
والكسب الطيب في هذا الحديث (9) الحلال، وهذا كقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيْبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} (10) و{كلوا مِنْ طَيْبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (11) وغيره، وأصل الطيب: المستلذ بالطبع، ثم أطلق على المطلق (12) =(3/58)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/287 رقم1410) في الزكاة، باب لا يقبل الله صدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب، ومسلم (2/702 رقم1014/63 و64) في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها.
(2) في (ح): ((من ذي)).
(3) في (ح): ((لأي)).
(4) في (ح): ((من)).
(5) يشير بذلك إلى ما ورد في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)). أخرجه مسلم (1/93رقم 147/91) كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، واللفظ له.
(6) يشير بذلك إلى ماجاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عند الترمذي(رقم 2799) كتاب الأدب، باب ماجاء في النظافة. وقال: "هذا حديث غريب، وخالد بن إلياس يضعف)).اهـ، وأبي يعلي في "المسند" (2/121-122 رقم790) ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم...)) الحديث، وابن حبان في "المجروحين" (2/279)، وابن عدي في "الكامل" (3/5-6) فى ترجمة خالد بن إلياس، وابن الجوزي في "العلل المتاهية" (2/223-224 رقم1186) باب حديث في النظافة.
قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/224): ((هذا حديث لا يصح»، ثم ذكر أقوال الأئمة في خالد بن إلياس. وقال ابن القيسراني في "تذكرة الموضوعات" (107): «فيه خالد بن إلياس العدوي، يروي الموضوعات)). اهـ، والله اعلم.
(7) في هامش نسخة (ب) كتب الناسخ: ((يعني به النظيف؛ لأنه لم يأت في الصحيح)).
(8) قوله: ((ورآه)) سقط من (ب).
(9) في (ب): ((هو الحلال)).
(10) سورة البقرة، الآية: 267.
(11) سورة البقرة؛ الآية: 57، 172، سورة الأعراف، الآية: 160، وسورة طه، الآية: 81.
(12) في (ز): ((المطابق)).(3/58)
بالشرع.
وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام؛ لأنه غير مملوك للمتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، والتصدق به تصرُّف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأمورًا به (1) ، منهيًا عنه (2) من وجه واحد، وهو محال، ولأن أكل الحرام يفسد القلوب، فيحرم (3) الرقة والإخلاص، فلا تقبل الأعمال. وإشارة الحديث إلى أنه لم يقبل؛ لأنه ليس بطيب، فانتفت المناسبة بينه وبين الطيب بذاته.
35- وَعَنْهُ (4) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله (5) : ((إِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ (6) الْمُرْسَلِينَ))؛ يعني: أنه سوَّى بينهم في الخطاب بوجوب أكل الحلال.
و((رَزَقْنَاكُمْ)) هنا بمعنى (7) : ملّكناكم، وقد يكون في موضع آخر (8) : نفعناكم (9) . وقد تقدّم الكلام على الرزق.
وقوله: ((ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ))؛ يعني (10) : في (11) الحج والجهاد. وما أشبه ذلك من أسفار (12) الطاعات؛ إلا أن ((أَشْعَثَ أَغْبَرَ))؛ يدلّ على المُحرم (13) . والشَّعثُ في (14) الشعر، والغبرة في سائر الجسد.
وقوله: ((يَمُدُّ يَدَيْهِ (15) إِلَى السَّمَاءِ))؛ أي: عند الدعاء، وهذا يدلّ على مشروعية مدّ [اليدين] (16) عند الدعاء (17) إلى السماء. وقد تقدّم ذلك (18) . =(3/59)=@
__________
(1) في (ي): ((بها)).
(2) في (ي): ((عنها)).
(3) في (ب): ((فتحرم)).
(4) أخرجه مسلم (2/703 رقم1015) في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها.
(5) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز): ((وقوله))، وفي (س): ((لم تتضح)).
(6) في (ح): ((بما به أمر)).
(7) قوله: ((بمعنى)) سقط من (ب).
(8) قوله: ((آخر)) ليس في (ز) و(س).
(9) في (ب): ((بمعنى نفعناكم)).
(10) في (ب): ((يعي)).
(11) في (ي): ((من)) بدل ((في)).
(12) في (ح): ((أسباب)).
(13) كأن المصنِّف رحمه الله يوميء بذلك إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه في ثناء الله جل وعلا على أهل عرفة، ولفظه مرفوعًا: ((إن الله ليباهي الملائكة بأهل عرفات فيقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غُبرًا))، أخرجه أحمد في"المسند" (2/305) واللفظ له، وابن خزيمة في"صحيحه" (4/263 رقم2839) كتاب المناسك، باب تباهي أهل السماء بأهل عرفات، بلفظ مقارب، وابن حبان -كما في الإحسان- (9/163 رقم3852) كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة والمزدلفة والدفع منهما، بلفظ مقارب، والحاكم في "المستدرك" (1/465 رقم1708) كتاب المناسك، بلفظ مقارب، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه))، وأَقَرَّهُ الذهبي. وساقه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما - كما تقدم -. وقال الألباني في "صحيح الجامع الصغير"(2/141 رقم 1863): ((صحيح)). وقال في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (2/126): ((قد صح من هذا الحديث مباهاة الله ملائكته بأهل عرفة، وقوله: ((انظروا إلى عبادي جاؤونى شعثًا غبرًا))، من حديث أبي هريرة وابن عمرو وعائشة)).اهـ.
(14) في (ح): ((من)).
(15) في (ز): ((يده)).
(16) في (أ): ((اليد)).
(17) في (ب) و(ح) و(ي) و(ز) و(س): ((عنده)). بدل ((عند الدعاء)).
(18) في (س): ((وقد تقدم الكلام على ذلك)).(3/59)
وقوله: ((فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟))؛ أي: كيف - على جهة الاستبعاد -، ومعناه: أنه ليس أهلاً لإجابة دعائه، لكن يجوز (1) أن يستجيب الله تعالى له تفضلاً ولطفًا وكرمًا.
وقوله: ((إلا أخذها الرحمن بيمينه))؛ أي: قبلها مشرّفة مكرّمة، مرضيًا بها، بالغة محلها، وهذا كما قال الشاعر (2) :
إذا ما (3) راية (4) رفعت لمجدٍ ... تلقَّاها عرابة باليمين
أي: هو مؤمل للمجد والشرف، ولم يرد بها يمين (5) الجارحة؛ لأن المجد معنى، واليمين (6) التي (7) يتلقى (8) به (9) رايته معنى، وكذلك اليمين في حق الله تعالى (10) .
وقوله: ((فتربو))؛ أي (11) : يزيد (12) ثوابها (13) .
و((كفُّ (14) الرحمن)): عبارة عن محل القبول، ويجوز أن يكون (15) مصدر كف يَكُفُّ كفًا، ويكون معناه: الحفظ والصيانة، فكأنه قال: تلك الصدقة في حفظ الله وكلائه (16) ، فلا ينقص ثوابها، ولا يبطل جزاؤها، والله تعالى أعلم.
ويحتمل أن يكون الكفّ عبارة عن كفة الميزان الذي (17) توزن فيه الأعمال، فيكون من باب حذف المضاف، كأنه قال: فتربو (18) في كفة ميزان الرحمن.
و((القلوص)): الناقة (19) الفتية؛ كالجارية في النساء. و الفلو في (20) الإبل؛ كالصبي في الرجال (21) . =(3/60)=@
__________
(1) في (ز): ((لكن أي يجوز)).
(2) هو الشماخ بن ضرار، انظر: "الشعر والشعراء" (1/274-278)، و"الصحاح" (1/180)، و"الفتح"(3/280)، و"الأغاني" (12/256).
(3) قوله: ((إذا ما )) تكرر في (ي).
(4) في (ح): ((رأته)).
(5) في (ح) و(س): ((اليمين)).
(6) في (ز) و(س): ((فاليمين)).
(7) في (ب): ((فاليمين التي))، وفي (ح): ((والمعنى الذي)) بدل ((واليمين التي)).
(8) في (ب): ((تتلقى))، وفي (ز) و(س): ((تتلقى)).
(9) في (ي): ((بها)).
(10) عقب الإمام الترمذي في "جامعه" (3/50- 51) بعد هذا الحديث بقوله: قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات ومن الصفات... قد ثبتت الروايات في هذا، ويؤمن بها، ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟ هكذا روي عن مالك وسفيان ابن عينيه وعبدالله بن المبارك؛ أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أَمِرّوها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة... إلى أخر كلامه رحمه الله تعالى.
قال الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله تعالى - في تعليقه على "فتح الباري"- (3/280): ((هذه التأويلات ليس لها وجه، والصواب إجراء الحديث على ظاهره، وليس في ذلك – بحمد الله - محذور عند أهل السنة والجماعة؛ لأن عقيدتهم الإيمان بما جاء في الكناب والسنة الصحيحة من أسماء الله سبحانه وصفاته، وإثبات ذلك لله على وجه الكمال مع تنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقات، وهذا هو الحق الذي لا يجوز العدول عنه. وفي هذا الحديث دلالة على إثبات اليمين لله سبحانه، وعلى أنه يقبل الصدقة عند الكسب الطيب ويضاعفها)). وانظر ما يأتي من كلام الإمام الترمذي يتضح لك ما ذكرته - يشير رحمه الله إلى ما تقدم نقله -، والله الموفق. اهـ.
(11) قوله: ((أي)) ليس في (أ).
(12) في (أ): ((يريد))، وفي (ح): ((تزيد)).
(13) قال النووي في "المنهاج" (7/99): ((قيل تربيتها وتعظيمها حثى تكون أعظم من الجبل: أن المراد بذلك تعظيم أجرها وتضعيف ثوابها، قال: ويصح أن يكون على ظاهره، وأن تعظم ذاتها ويبارك الله تعالى فيها، ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان)). اهـ. وانظر "عارضة الأحوذي" (3/167)، و"العمدة" (7/200).
(14) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(15) في (ب): ((تكون)) مهملة الأول في (ح).
(16) في (ب) و(ح) و(ز) و(س) و(ي): ((وكلاءته)).
(17) في (ب): ((التي)).
(18) في (ز) و(س): ((فتربوا)).
(19) في (ح): ((الشابة)).
(20) في (ح): ((من)).
(21) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).(3/60)
*************
( 12 ) باب الصدقة وقاية من النار
36- عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ النَّار فَتَعَوَّذ، وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثَلاثَ مَرَات، ثُمَّ قال: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِن لَمْ تَجِدْوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12) ومن باب الصدقة وقاية من النار
الترجمان: المفسِّر للكلام والمترجم له، ويقال: ترجمان، بالفتح والضم (2) .
وقوله: ((أَيْمَنَ مِنْهُ، وأَشْأَمَ مِنْهُ))؛ كلاهما منصوب (3) على الظرف، ويعني بهما: يمينه وشماله؛ مأخوذ من اليد اليمنى والشؤمى (4) .
وقوله: ((واتَّقُوا النَّارَ))؛ أى: اجعلوا بينكم وبينها وقاية من الصدقات وأعمال البر (5) .
وقوله: ((وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ))، قال الخليل: أشاح بوجهه عن الشيء: نحاه =(3/61)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/281 رقم1413) في الزكاة، باب الصدقة قبل الرد، ومسلم (2/703 رقم1016/67) في الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار.
(2) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((وبالضم)).
(3) في (ح): ((منصرف)).
(4) في (ب): ((الشوما))، وفي (ح): ((الشومى)).
(5) من قوله: ((وقوله: واتقوا النار...)) إلى هنا سقط من (ح).(3/61)
عنه.
قال الشيخ رحمه الله: وهذا هو معناه في هذا الحديث. وقال (1) الفراء: المشيح على معنيين: المقبل إليك، والمانع لما وراء ظهره.
*************
( 13 ) باب حث الإمام الناس على الصدقة إذا عنت فاقة
37- عَنْ جَرِيرٍ (2) قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ: فَجَاءَ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقال: (({يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمِ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الآيَةِ - إِلَى قَوْلِه -{رَقِيبًا}- وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ- {اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ-حَتَّى قَالَ-:وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)) قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((مُجْتَابِي الْعَبَاءِ))؛ أي: مقطوعي أوساط النمار. والاجتباب (3) : التقطيع (4) والخرق، ومنه قوله تعالى: {الَّذين جَابُوا الصَّخْر بِالْوَادِ (5) } (6) ؛ أي: خرقوها. و((النِّمَارِ)): جمع نمرة، وهي: ثياب من صوف فيها تنمير. و((الْعَبَاءِ)): جمع عباءة، وهي: أكسية غلاظ مخططة.
و((تَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)): تَغَيَّر لما شق عليه من فاقتهم. و((كومين)) -بفتح الكاف-، هي الرواية؛ أي: صُبْرَتين، وقد قيل (7) ((كُومين)) بضم الكاف (8) .
قال أبو مروان بن سراج: هو بالضم اسم لما كُوِّم، وبالفتح: المرة (9) الواحدة. والكَوْمَة: الصبرة، والكوم: العظيم من كل شيء، والكوم: المكان المرتفع كالرابية، والفتح هنا أولى؛ لأنه إنما شبَّه ما اجتمع هناك بالكوم الذي هو الرابية.
و((المُذْهَبَةٌ))، الرواية الصحيحة المشهورة فيه هكذا - بالذال المعجمة، والباء المنقوطة بواحدة من =(3/62)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((قال)) بلا واو.
(2) أخرجه مسلم (2/704 رقم1017) في الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار.
(3) في (ح) و(س): ((الاجتباب))، وفي (ز): ((والاجتناب)).
(4) في (ب): ((القطع)).
(5) في (ي): ((بالوادي)).
(6) سورة الفجر؛ الآية: 9.
(7) في (ب) و(ح) و(س) و(ز) و(ي): ((قيد)) بدل ((قيل)).
(8) جاء بعدها في (ح): قوله: ((هي الرواية؛ أي صبرتين، وقد قيد كومين بضم الكاف)) مكررًا.
(9) في (ز): ((امرة)) بدون لام.(3/62)
أسفل (1) -؛ من الذهب. ويحتمل أن يريد بها: كأنه (2) فضة مذهبة؛ كما قال الشاعر (3) :
كأنها فضة قد (4) مسها ذهب
ويعني به تشبيه إشراق وجهه وتنويره، أو (5) كأنه آلة مذهبة، كما تذهب (6) من الجلود والسروج والأقداح وغير ذلك، وتجعل (7) طرائق يتلو بعضها بعضا وقد وقع للحميدي في "الجمع بين الصحيحين": ((مدهنة))- بالدال المهملة والنون -. قال: والمدهن: نقرة في الجبل يستنقع فيها ماء المطر. والمدهن أيضًا: ما جعل فيه الدُّهن. والمدهنة من ذلك، شبَّه صفاء وجهه بإشراق السرور بصفاء هذا الماء المستنقع في الحجر، أو بصفاء الدهن (8) .
وسروره صلى الله عليه وسلم بذلك فرحٌ بما ظهر من فعل المسلمين، ومن سهولة البذل عليهم، ولمبادرتهم (9) لذلك، وبما كشف (10) الله (11) من فاقات أولئك المحاويج.
وقوله: ((مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً))؛ أي: من فعل فعلاً جميلاً فاقتدي به فيه، وكذلك إذا فعل (12) قبيحًا فاقتدي به فيه. ويفيد الترغيب في الخير المتكرر أجره (13) بسبب الاقتداء، والتحذير من الشر المتكرر إثمه بسبب الاقتداء. =(3/63)=@
__________
(1) قوله: ((المنقوطة بواحدة من أسفل)) ليس في (ب)، وجاء بدلاً منه: ((الموحدة)).
(2) في (ب): ((كأنها)).
(3) هذا عجز بيت لذي الرُّمة، وصدره:
كحلاءُ في بَرَجٍ صفراءُ في نعجٍ
الديوان بتحقيق/عبد القدوس أبو صالح (ص33).
(4) قوله: ((قد)) سقط من (أ).
(5) في (ز): ((إذ)) بدل ((أو)).
(6) في (ح) و(أ) و(ز) و(س): ((يذهب)).
(7) في (س): ((ويجعل)).
(8) في "مشارق الأنوار" (1/271) قال القاضي: ((وصحف هذا الحرف بعض الرواة، فقال: مُدهَبة بدال مهملة ونون - وليس بشيء)).اهـ.
(9) في (ب) و(ي) و(ز) و(س): ((ومبادرتهم))، وفي (ح): ((وحمادرتهم)).
(10) في (ب): ((كشفه)).
(11) لفظ الجلالة ليس في ((ح)).
(12) في (ي): ((فعل فعلاً قبيحًا)).
(13) في (ح): ((وأجره)).(3/63)
**************
( 14 ) باب النهي عن لَمْزِ المتصدِّق والترغيب في صدقة المِنْحَة
38- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ (1) قَالَ: أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ قَالَ: كُنَّا نُحَامِلُ فِي رِوَايَةِ: عَلَى ظُهُورِنَا قَالَ: فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ قَالَ: وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا وَمَا فَعَلَ هَذَا الآخَرُ إِلا رِيَاءً فَنَزَلَتْ: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ}.
39- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى فَذَكَرَ خِصَالاً وَقَالَ: مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةً غَدَتْ بِصَدَقَةٍ وَرَاحَتْ بِصَدَقَةٍ صَبُوحِهَا وَغَبُوقِهَا.
40- وَعَنْهُ (3) يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((أَلا رَجُلٌ يَمْنَحُ أَهْلَ بَيْتٍ نَاقَةً تَغْدُو بِعُسٍّ وَتَرُوحُ بِعُسٍّ إِنَّ أَجْرَهَا لَعَظِيمٌ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب لمز (4) المتصدق
قوله: ((نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنَا))؛ أي: نحمل عليها بالأجرة. و{يلمزون}: يعيبون. و {المطوعين}: المتطوعين، من الطاعة والطواعية (5) ، وأدغمت التاء في الطاء. و((الجهد))- بضم الجيم -: الطاقة، وبالفتح: المشقة. =(3/64)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/282 رقم1415) في الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، ومسلم (2/706 رقم1018) في الزكاة، باب الحمل أجرة يتصدق بها، والنهي الشديد عن تنقيص المتصدق بقليل.
(2) أخرجه مسلم (2/707 رقم1020) في الزكاة، باب فضل المنيحة.
(3) أخرجه مسلم (2/707 رقم1019) في الزكاة، باب فضل المنيحة.
(4) قوله: ((لمز)) سقط من (ح) و(ي).
(5) قوله: ((والطواعية)) ليس في (ز) و(س).(3/64)
وقوله: ((مَنْ (1) )) منح منيحة - ويروى: ((منحة غَدَتْ بِصَدَقَةٍ وَرَاحَتْ (2) بِصَدَقَةٍ))؛ و (3) ((المنحة)) و((المَنِيحَة)): عطية ذوات الألبان؛ لينتفع المعطى له باللبن، ثم يردّ المحلوب.
و((مَنْ)): شرط في موضع رفع بالابتداء، جوابه: ((غَدَتْ بِصَدَقَةٍ، وَرَاحَتْ (4) بِصَدَقَةٍ))، وهو خبر المبتدأ على قول، والصحيح: أن خبرها ما بعدها؛ لأن ((مَنْ)) الشرطية لا تحتاج إلى صلة، بل هي اسم تام، وإنما لم يتم الكلام بما بعدها؛ لما تضمنته من معنى الشرط. فتدبَّره، فإنه الصحيح (5) .
ومعنى الكلام: أن من منح منيحة كان للمانح صدقة كلما غدت أو راحت؛ لأجل ما يُنال (6) منها في الصباح والمساء. و((الغدوة (7) )): البكرة (8) . و((الرواح)): العشي (9) . و((الصَّبوح)): شرب الصباح. و((الغبوق)): شرب العشي. و((الجاشرية)): شرب نصف النهار. و((العُسُّ)): قدح ضخم يحلب (10) فيه. والرواية الصحيحة المعروفة: ((بِعُسٍّ (11) )) - بعين مهملة مضمومة. ووقع للسمرقندي: ((تروح بعشاء، وتغدو بعشاء)). ورواه الحميدي: ((بعساء))، - بعين مهملة مفتوحة، وسين مهملة، وبالمد والهمز -. وفسّره في غير "الأم" بالعُسّ الكبير (12) . =(3/65)=@
__________
(1) قوله: ((من)) ليس في (أ).
(2) في (أ): ((راجت)).
(3) حرف الواو سقط من (ب) و(ح).
(4) في (أ): ((راجت)).
(5) في (ب): ((صحيح)).
(6) في (س): ((يقال)).
(7) في (ي): يشبه أن تكون ((والغدو)).
(8) في (أ) و(ز) و(س): ((والبكرة)).
(9) في (ز) و(س): ((والعشي))، وفي (أ): ((والرواج والعشي)).
(10) في (ي): ((تجلب)).
(11) في (ي): ((بغس)).
(12) قال الخطابي في "غريب الحديث" (1/508) بعد ما ساق الحديث بسنده من طريق الحميدي، وقال: قال الحميدي: العِسَاء: العُسُّ الكبير، وقال: ولم أسمعه إلا في هذا الحديث. والحميدي من أهل اللسان، ورواه ابن المبارك فقال: تغدو برِفد وتروح برفد، وكان ذلك شاهدًا لقول الحميدي؛ لأن الرِّفد: القدحُ الكبير.(3/65)
( 15 ) باب مثل المتصدق والبخيل وقبول الصدقة تقع عند غير مستحق
41- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ فَإِذَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّيَ أَثَرَهُ وَإِذَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِصَدَقَةٍ تَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ وَانْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا قَالَ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: فَيَجْهَدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلا يَسْتَطِيعُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله (2) : ((جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ))؛ يعني: درعين. والجُنَّة: ما يُستجنُّ به، وكذا صحيح الرواية. وقد روي: ((جبتان))- بالباء بواحدة (3) ، وفيه بُعْدٌ في المعنى.
و((اتَّسَعَتْ)) من السعة، ويعني به، طالت (4) ؛ لأنه إذا اتسع الثوب طال. فإذا اتسعت تصرف فيها بيده وغيره؛ بخلاف جُنَّة (5) الحديد. وقد روي: سبغت (6) ، وهو أحسن في المعنى. و((تَقَلَّصَتْ)): تقبضت وانضمت على يده. وهذان المثلان للبخيل والمتصدق واقعان؛ لأن كل واحد منهما إنما يتصرّف بما يجد من نفسه، فمن غلب الإعطاء والبذل عليه، طاعت نفسه، وطابت بالإنفاق، وتوسعت فيه، ومن غلب عليه البخل، كان كلما خطر بباله إخراج شيء مما بيده (7) شحت نفسه بذلك، فانقبضت يده للضيق الذي يجده (8) في صدره، ولشح نفسه الذي من وقيه (9) فقد أفلح، =(3/66)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/305 رقم1443) في الزكاة، باب مثل المتصدق والبخيل، ومسلم (2/709 رقم1021/77) في الزكاة، باب مثل المنفق والبخيل.
(2) في (ي) و(أ) و(ب) و(ح) و(ز): ((وقوله)) ولم تتضح في (س).
(3) وقع عند مسلم في رواياته الثلاث ((جنتان)) بالنون. وفي الرواية الأولى منها: ((وجبتان)) بالموحدة التحتية.
ووقع عند البخاري (3/305) بالباء الموحدة، وقال: وقال: [ أشير لها بسهم وقيل تراجع غدًا] حنظلة عن طاووس: ((جنتان))، وقال الليث: حدثني جعفر، عن ابن هرمز، سمعت أبا هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((جنتان)).اهـ.
(4) في (ز) و(س): ((طال)).
(5) في (ز) و(س): ((جُبَّة)).
(6) في (أ): ((سغب)).
(7) في (ب): ((في يده))، وفي (ي): ((منها بيده)).
(8) في (أ) و(ز) و(س): ((يجد)).
(9) في (ز): ((وقته)).(3/66)
كما قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .
وقد وقع حديث (2) أبي هريرة هذا (3) في "الأم" من طرق (4) فيها تثبيج (5) وتخليط (6) . وما أثبتناه (7) هنا أحسنها مساقًا (8) ، والله تعالى أعلم.
42- وَعَنْهُ (9) ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: لأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ. قَالَ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ. لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ قَالَ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ. لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ. فَقَالَ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ وَعَلَى سَارِقٍ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول المتصدق: ((اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ))؛ إشعار بألم قلبه؛ إذ ظن أن صدقته لم توافق محلّها، وأنَّ ذلك لم ينفعه، ولذلك كرَّر الصدقة، فلما علم الله تعالى صحة نيته تقبلها منه، وأعلمه بفوائد صدقاته.
ويستفاد منه: صحَّة الصدقة وإن لم توافق محلاً مرضيًا، إذا حسنت نية المتصدق. أما لو علم المتصدِّق أن المتصدَّق (10) عليه (11) يستعين (12) بتلك الصدقة (13) على معصية (14) لحرم (15) عليه ذلك، فإنه من باب التعاون على الإثم والعدوان (16) . =(3/67)=@
__________
(1) سورة الحشر؛ الآية: 9 ، سورة التغابن؛ آية: 16.
(2) في (ي): ((في حديث)).
(3) في (ح): ((هكذا)).
(4) في (أ): ((طريق)).
(5) في (س): ((تبشيج))، وفي (ز) ((تتبيج)).
(6) يعني بذلك رواية مسلم رقم (1021/75)، وما أشار له المصنف رحمه الله تعالى من اضطراب في هذه الرواية ذُكر مفصلاً في"الإكمال" (3/546)، و"مشارق الأنوار" (2/323-324)، و"المنهاج" (7/107-109)، و"الفتح"(3/306)، و"العمدة" (7/244-245)، وشرح الشيخ أحمد شاكر على "مسند الإمام أحمد" (13/54- 58).
(7) عدلت في أشير لها بسهم وكتب [كذا في (ب) و(ح)].
(8) رواية مسلم (76-77، 1021).
(9) أخرجه البخاري (3/290 رقم1421) في الزكاة، باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم، ومسلم (2/709 رقم1022) في الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في غير أهلها.
(10) قوله: ((فأما لو علم المتصدِّق أن المتصدّق)) ليس في (س) و(ز).
(11) وضع الناسخ إشارة لحق في (ز) بعد قوله: ((عليه)) وكتب في الهامش: ((فلو علم أنه يستعين بتلك الصدقة)) وكتب عليها صح.
(12) في (ي): ((مستعين)).
(13) في (ح) كتبت: ((المعصية)) وحاول الناسخ تصحيحها ولم يوفق.
(14) في (ح): ((معصية الله)).
(15) في (ح): ((تحرم)) ولم تنقط التاء، وفي (ي): ((يحرم)).
(16) زاد بعدها في (ز): و((والله أعلم)).(3/67)
**************
( 16 ) باب أجر الخازن الأمين والمرأة تتصدق من كسب زوجها والعبد من مال سيده
43- عَنْ أَبِي مُوسَى (1) ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الأَمِينَ الَّذِي يَتَصَدَقْ وَرُبَّمَا قَالَ: يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ فَيُعْطِيهِ كَامِلاً مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ)).
44- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا تَصُمِ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ، وَلا تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ)).
45- وَعَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ (3) قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَأَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوَالِيَّ بِشَيْءٍ؟ قال: ((نَعَمْ وَالأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ)).
46- وَعَنْهُ (4) قَالَ: أَمَرَنِي مَوْلايَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا، فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ، فَعَلِمَ مَوْلايَ بِذَلِكَ فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَدَعَاهُ فَقال: ((لِمَ ضَرَبْتَهُ؟)) قَالَ: يُعْطِي طَعَامِي بِغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ، فَقال: ((الأَجْرُ بَيْنَكُمَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أجر الخازن الأمين
قوله: ((إِنَّ الْخَازِنَ الأَمِينَ المُسْلِمَ...)) إلى آخره، هذه الأوصاف لابدّ من اعتبارها في تحصيل أجر الصدقة للخازن، فإنه إن لم يكن مسلمًا لم تصحَّ منه (5) نية التقرُّب (6) ، وإن لم يكن أمينًا كان عليه وزر الخيانة، فكيف يحصل له أجر الصدقة ؟! وإن لم يطب بذلك نفسًا لم يكن (7) له نية، فلا يؤجر.
وقوله: ((أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ (8) ))، لم نروه (9) إلا بالتثنية، ومعناه: أنه بما فعل متصدق، والذي أخرج الصدقة بما أخرج متصدق آخر، فهما متصدقان. ويصح أن يقال على الجمع، ويكون معناه: أنه متصدق من جملة المتصدقين.
و ((آبِي (10) اللَّحْمِ))، اختلف في سبب (11) تسميته بذلك، فمنهم من قال: بما جاء بيانه في الحديث الآخر بعده؛ وذلك: أنه لما ضرب عبده على دفع اللحم سُمِّي آبي اللحم لذلك. وقيل: لأنه (12) كان لا يأكل من لحم ما ذبح على النصب، وقيل: لأنه كان لا يأكل اللحم جملةً. و((آبِي اللَّحْمِ)): بطن من (13) غفار، ومولى (14) عمير (15) منهم. =(3/68)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/302 رقم1438) في الزكاة، باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد، ومسلم (2/710 رقم1023) في الزكاة، باب أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت من بيت زوجها غير مفسدة بإذنه الصريح أو العرفي.
(2) أخرجه البخاري (9/295 رقم5195) في النكاح، باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، وذكر أطرافه في (4/301 رقم2066) في البيوع، باب قول الله تعالى: { أنفقوا من طيبات ما كسبتم }، ومسلم (2/711 رقم1026) في الزكاة، باب ما أنفق العبد من مال مولاه.
(3) أخرجه مسلم(2/711رقم1025/83) في الزكاة، باب ما أنفق العبد من مال مولاه.
(4) أخرجه البخاري (4/111 رقم1897) في الصوم، باب الريان للصائمين، ومسلم (2/711 رقم1027/85) في الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر.
(5) قوله: ((منه)) سقط من (ح).
(6) في (ي): ((لم تصح الصدقة)).
(7) في (ز) و(س) و(ي): ((لم تكن)).
(8) في (أ): ((أجر المصَّدقين))، وفي (ب) و(ز) و(س): ((أجر المتصدقين)).
(9) في (ز): ((لم تروه)).
(10) في (ي): ((وآتى)).
(11) قوله: ((سبب)) سقط من (أ).
(12) قوله: ((لأنه)) سقط من (ي).
(13) في (ب) و(ي) و(ح): ((من بني)).
(14) في (ب): ((ومولاه)).
(15) في (ز) و(س): ((عمر)) بدل(( عمير)).(3/68)
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((الأَجْرُ بَيْنَكُمَا))؛ يعني: فيما أعطى العبد، مما جرت العادة بإعطائه، والمسامحة بأمثاله؛ كاللحم، واللبن، والطعام اليسير، وغير ذلك. وأما لو دفع ماله بال مما لم تجر العادة بإعطائه لكان عليه الوزر، وللمالك كل الأجر.
وقوله: ((لا تَصُمِ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ))، البعل: الزوج. وشاهد: حاضر.
ومحمل (1) هذا على المتطوِّعة بالصوم؛ لأن مراعاة حق الزوج واجبة (2) عليها، وحقه عليها (3) مستصحب، فلو سوغ (4) لها الصوم بغيرإذنه، لكان ذلك منعًا للزوج من حقِّه، فلو (5) شرعت في صوم التطوّع بغير إذنه، فله أن يحللها؛ لأن حقَّه مقدَّم على ما شرعت فيه، وكذلك لو أحرمت بالحج والعمرة (6) تطوعًا.
وقوله: ((وَلا تَأْذَنْ (7) فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ))، تخصيص المنع بحضور الزوج؛ يدل على أن ذلك لحق الزوج في زوجته؛ إذ قد يكون المأذون له في تلك الحال ممن يشوّش على الزوج مقصوده وخلوته بها.
وعلى هذا تظهر المناسبة بين هذا النهي وبين النهي (8) عن الصوم المتقدّم. وقال بعض الأئمة: إن ذلك معلل بأن البيت ملك الزوج (9) ، وإذنها في دخوله تصرُّف فيما لا تملك. وهذا فيه بُعْدٌ؛ إذ لو كان معلّلاً بذلك، لاستوى حضور الزوج وغيبته، والله تعالى أعلم.
وقوله: ((وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ))، (10) محمول على ما تقدّم من الأطعمة، وما لا بال له. =(3/69)=@
__________
(1) في (ب): ((ويُجمل)).
(2) في (ح): ((واجب)). [تراجع في غير (ح)]
(3) قوله: ((وحقه عليها)) سقط من (ح).
(4) في (أ): ((شرع)).
(5) في (ب): ((ولو)).
(6) في (ب) و(ح): ((أو العمرة)).
(7) في (ز) و(س): ((لا تأذن)) بلا واو.
(8) كتبت في هامش الورقة وكتب بجانبها [من جميع النسخ].
(9) في (ي) و(ب) و(ح): ((للزوج)).
(10) زاد في (ح) في هذا الموضع: ((فهو)) وكأن الناسخ ضرب عليه. [يراجع (ح)](3/69)
**************
( 17 ) باب أجر من أنفق شيئين في سبيل الله وعظم منزلة
من اجتمعت فيه خصال من الخير
47- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ))، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ)).
48- وَعَنْهُ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟)).
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: ((فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟)) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا قَالَ: ((فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟)) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أجر من أنفق شيئين في سبيل الله (3)
قوله: ((مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ))، هكذا وقع في (4) هذا اللفظ في كتاب مسلم. ووقع في البخاري: ((من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله)). =(3/70)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (4/111 رقم1897) في الصوم، باب الريان للصائمين، ومسلم (2/711-712 رقم1027/85) في الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر.
(2) أخرجه مسلم (2/713 رقم1028) في الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر.
(3) أشير إليها بسهم في الهامش وكتب (غير موجود بالأصل).
(4) قوله: ((في)) سقط من (ب) و(ح) و(ز) و(س) و(ي).(3/70)
وهذا نصّ في عموم كل شيء يخرج (1) في سبيل الله. وقيل: يصح إلحاق جميع أعمال البرّ (2) بالإنفاق. ويدلّ على صحة هذا بقية الحديث؛ إذ قال فيه: ((من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام)).
((والزوج)): الصنف (3) ، وكذلك قيل في قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةٌ} (4) ، قال ابن عرفة: كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج. ويقال: زوجت الإبل: إذا قرنت واحدا بواحد. زاد الهروي في هذا الحديث: قيل: وما زوجان؟ قال: ((فرسان، أو عبدان، أو بعيران)) (5) .
و((الرَّيَّانِ)): فعلان (6) من الرِّيّ على جهة المبالغة، وسمي بذلك على جهة مقابلة العطشان؛ لأنه جوزي على عطشه بالرِّي الدَّائم في الجنة، التي يدخل إليها من ذلك الباب.
وقوله: ((فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ))؛ أي: من المكثرين لصلاة (7) التطوّع، فكذلك (8) غيرها من أعمال البرّ المذكورة في هذا الحديث (9) ؛ لأن الواجبات لابدّ منها لجميع المسلمين، ومن ترك شيئًا من الواجبات إنما يخاف عليه أن ينادى من أبواب جهنم، فيستوي في القيام بها المسلمون (10) كلهم، وإنما يتفاضلون بكثرة الطاعات (11) التي بها تحصل تلك الأهلية التي بها (12) ينادون (13) من =(3/71)=@
__________
(1) في (ز): ((تخرج)).
(2) في (ي): ((الدنيا)) بدل ((البر)).
(3) في (ب): يشبه أن تكون: ((صنو)).
(4) سورة الواقعة؛ الآية: 7.
(5) "الغريبين" (3/836)، وقد أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (5/159) من حديث أبي ذر - وفي إسناده قصة -، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أنفق زوجين من ماله ابتدرته حجبة الجنة))، قلنا: ما هذا الزوجان؟ قال: ((إن كانت رجالاً فرجلان، وإن كانت خيلاً ففرسان، وإن كانت إبلاً فبعيران))، حتى عدّ أصناف المال كله. و(5/151) بنحوه وفيه: ذكر البقر بدل الخيل، والطبراني في "الكبير" (2/154 رقم 1644) بنحوه، وفيه ذكر البقر بدل الرجال، و(2/155رقم 1645) مختصرًا، وفيه: ((بعيرين، فرسين، شاتين، درهمين، خفين، نعلين))، وابن حبان - كما في الإحسان - (10/501 رقم4643) كتاب السير، باب فضل النفقة فى سبيل الله، وفيه: ((عبدان من رقيقه، فرسان من خيله، بعيران من إبله))، ورقم (4644) بلفظ مقارب لروايته الأولى، ورقم (4645) بلفظ رواية أحمد الأولى.
رووه كلهم من طريق الحسن البصرى عن صعصعة بن معاوية؛ أنه لقي أبا ذر فسأله أن يحدثه، فحدثه بهذا الحديث وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده صحيح لكن جاء في بعض روايات الحديث: أن تفسير الزوجين من كلام أبى ذر رضي الله عنه ، وهو ظاهر حال الروايات، وقد أشار لذلك الإمام ابن عبدالبر في "التمهيد" (7/185 -186 ) قا ل: وإنما أراد - والله أعلم - بذكر الشيئين - أقلَّ التكرار، وأقل وجوه المداومة على العمل من أعمال البر؛ لأن الاثنين أقل الجمع.اهـ.
(6) في (ز) و(س): ((يقال)) بدل ((فعلان)).
(7) في (ب): ((من الصلاة)).
(8) في (ب) و(ز) و(س): ((وكذلك))، و(ح): ((وكذا)).
(9) من قوله: ((فكذلك غيرها من...)) إلى هنا سقط من (ي).
(10) في (ب): ((المؤمنون)). ...
(11) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((التطوعات)).
(12) قوله: ((بها)) سقط من (ب).
(13) في (ي): ((ينادي)).(3/71)
تلك الأبواب.
ولما فهم أبو بكر الصديق (1) رضي الله عنه هذا المعنى قال: هل يدعى أحد من تلك الأبواب؟ أي: هل يحصل لأحد من أهل (2) الإكثار من تطوعات البرّ المختلفة ما (3) يتأهل به (4) لأن يدعوه خزنة الجنة من كل باب من أبوابها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم أنت (5) منهم))، فإنه رضي الله عنه كان قد جمع خصال تلك الأبواب كلها (6) ، ألا ترى أنه قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي بعد هذا: ((هل فيكم (7) من أطعم اليوم مسكينًا؟)) فقال أبو بكر: أنا ، قال: ((هل فيكم (8) من عاد مريضًا؟)) فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا (9) . وقد تقدّم الكلام على بعض نكت هذا الحديث.
وذكر مسلم في هذا الحديث من أبواب الجنة أربعة، وزاد غيره بقية الثمانية، فذكر فيها: باب التوبة، وباب: الكاظمين الغيظ، وباب: الراضين (10) ، والباب الأيمن الذي يدخل منه مَن لا حساب عليه، حكاه القاضي أبو الفضل (11) . =(3/72)=@
__________
(1) قوله: ((الصديق)) من (ز) فقط وليس في (ي).
(2) قوله: ((أهل)) سقط من (ب) و(ح) و(أ) و(ز) و(ي).
(3) في (ي): ((مما)) بدل ((ما)).
(4) في (ب): ((معه)).
(5) في (ب): ((وأنت)).
(6) قوله: ((كلها)) سقط من (ي).
(7) في (ي): يشبه أن تكون ((فيكم)).
(8) في (ي): يشبه أن تكون ((فيكم)).
(9) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(10) في (ح): ((الراجين)).
(11) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).(3/72)
*************
( 18 ) باب من أحصى أُحْصِي عليه والنهي عن احتقار قليل الصدقة وفضل إخفائها
49- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ (1) قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((انْفَحِي أَوِ انْضَحِي أَوْ أَنْفِقِي، وَلا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ، وَلا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من أَحْصَى (2) (3) أُحْصِي عليه
قوله: ((انْفَحِي أَوِ انْضَحِي أَوْ أَنْفِقِي)) (4) ، معناه (5) : أعطي، وأصل النفح: الضرب بالعصا أو بالسيف (6) ، وكأن الذي ينفق يضرب المعطى (7) له بما يعطيه. ويحتمل أن يكون من نَفَحَ الطيبُ؛ إذا تحركت رائحته؛ إذ العطية تستطاب كما تستطاب الرائحة الطيبة، أو من ((نَفَحَت (8) الريح))، إذا هَبَّت (9) باردة، فكأنه أمر (10) بعطية سهلة كثيرة.
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: ((ونفح (11) به يمينًا وشمالاً))؛ أي: أعطاه (12) في كل وجه. وأصل النضح: الرش. وكأنه أمر (13) بالتصدّق بما تيسّر، وإن كان قليلاً.
50- وَعَنْهَا (14) ؛ أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: ((ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ وَلا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الحديث: ((ارْضَخِي))؛ أي: أعطي بغير تقدير. ومنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرضخ للنساء من الغنيمة، ولا يضرب لهن بسهم. ويفيد تكرار هذه الألفاظ تأكد أمر (15) الصدقة، والحضّ عليها على (16) أي حال تيسَّرت بكثير أو قليل، بمقدر أو بغير مقدر، والله أعلم. =(3/73)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/299-300 رقم1433) في الزكاة، باب تحريض على الصدقة والشفاعة فيها، و(5/217 رقم2591) كتاب الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها، بنحوه، ومسلم (2/714 رقم 1029/89) في الزكاة، باب الحث في الإنفاق وكراهة الإحصاء.
(2) في (ح): ((أحصى عددًا)).
(3) أشير بسهم أعلى الهامش وقيل [يراجع هذا الموضع من (ح)].
(4) في الأصل والنسخ: ((وانضحي وأنفقي))، وفي (ز) و(س): ((وانضحي أو أنفقي)).
(5) في (أ) و(ح) و(ي) و(ز): ((معناها)).
(6) في (ب): ((السيف)).
(7) في (أ): ((للمعطى)).
(8) في (أ): ((نفخت)).
(9) في (أ): ((ذهبت)).
(10) في (ب): ((أمره)).
(11) في (أ): ((ونفخ)).
(12) في (ي): ((أعطى)).
(13) في (ح): ((أمره)).
(14) أخرجه البخاري (3/301 رقم1434) في الزكاة، باب تحريض على الصدقة والشفاعة فيها، و(5/217 رقم2590) كتاب الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها، بنحوه، ومسلم (2/714 رقم 1029/89) في الزكاة، باب الحث في الإنفاق وكراهة الإحصاء.
(15) في (ز) و(س): ((تأكدًا من)).
(16) قوله: ((على)) سقط من (ب).(3/73)
وقولها: ((لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ))؛ تعني (1) : ما يدخل عليها للانفاق عليها وعلى (2) أهل بيتها، وهذا محمول على ما تقدّم.
وقوله: ((ولا (3) (4) تُحْصِي فَيُحْصِيَ عَلَيْكِ))؛ أي: لاتبخلي (5) فتجازين على بخلك. وأصل هذا من الإحصاء الذي هو العدّ. وعبر عن البخل بالإحصاء؛ لأن البخيل يعدُّ ماله ويتحرز به، ويغار عليه.
وقوله: ((وَلا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ))؛ أي: لا تمسكي المال في الوعاء فيمسك الله تعالى فضله وثوابه عنك. وفي غير مسلم: ((ولا توكي فيوكى عليك))؛ أي: لا تربطي. والوكاء: الخيط الذي يُشدُّ به (6) . وهذا كله من باب مقابلة اللفظ اللفظ (7) (8) .
ومعنى ما ذكر: أنك إذا فعلت ذلك جزيت عليه بنسبة ما فعلت.
51- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (9) أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: ((يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((يَا نِسَاءَ المؤمنات))؛ روايتنا فيه بفتح الهمزة وكسر تاء (10) ((المؤمنات (11) )) على المنادى المضاف، وهو من إضافة الشيء إلى صفته (12) . وقد تقدّم. وقد قدّر (13) النحويون هذا (14) : يا نساء الجماعات المؤمنات، تحرزا (15) من إضافة الشيء إلى =(3/74)=@
__________
(1) في (ز): ((يعني)).
(2) في (ح): ((أو على)).
(3) أشير لكلمة (فلا) بعد تعديلها (ولا)، وكتب [كذا في (ب)].
(4) في (ح) و(ي): ((فلا)).
(5) في (ح) و(ي): ((لا تبخلين)).
(6) قوله: ((به)) ليس في (س).
(7) أشير بجانبها بسهم وعدلت من (باللفظ) إلى (اللفظ)، وكتب بجانبها [من جميع النسخ ما عدا (ب)].
(8) قوله: ((اللفظ)) سقط من (ب)، وفي (ي): ((اللفظ باللفظ)) [وتراجع ب].
(9) أخرجه البخاري (5/197 رقم2566) في الهبة وفصلها والتحريص عليها، باب منه، و(10/445رقم6017)كتاب الأدب، باب لا تحقرن جارة لجارتها، بلفظه، ومسلم (20/ 714رقم1030) في الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بالقليل ولا تمتنع من القليل لاحتقاره.
(10) في (أ): ((ياء)).
(11) في (ز): ((مؤمنات)).
(12) صحح هذه الرواية الطيبي والنووي والعيني، وهو جائز عند الكوفيين، كما قال النووي: أصحها وأشهرها: نصب " النساء " وجر "المسلمات" على الإضافة، قال الباجي: وبهذا رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق، وهو من باب إضافة الشىء إلى نفسه والموصوف إلى صفته، والأعم إلى الأخص؛ كمسجد الجامع، وجانب الغربي، ولدار الآخرة، وهو عند الكوفيين جائز على ظاهره. اهـ. وانظر "المنهاج" (7/120)، و"شرح الطيبي" (4/99) و"العمدة"(11/25)، و"المنتقى"(7/321)، و"الإكمال"(3/561)، و"الفتح"(5/197).
(13) في (ح): ((قرر)).
(14) قوله: ((هذا)) سقط من (أ).
(15) في (س): ((تحرزًا)).(3/74)
نفسه (1) . وهذه رواية الجمهور، وقد رواه بعضهم: ((يا نساء)) - بالرفع -، و"المؤمنات"- بالكسر -، وعلى هذه الرواية يكون: ((يا نساء))، منادى مفردًا (2) ، والمؤمنات صفة على الموضع. ويجوز رفعه على اللفظ، كما تقول: يا زيد (3) العاقل، بالرفع على اللفظ، والنصب على الموضع.
و((الفِرْسِن)): للبعير كالقدم للإنسان، وأصله للبعير. وقد يقال للشاة، كما جاء هنا (4) ، ومقصود هذا الحديث النهي عن احتقار القليل من الصدقة. و((لو)) هنا للتقليل (5) ، وقد بينا محاملها في أول الكتاب.
52- وَعَنْهُ (6) عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ))؛ أي:في ظل عرشه، كما جاء في الحديث (7) الآخر، والمراد به (8) يوم القيامة إذا قام الناس في صعيدها (9) ، وقربت الشمس من الرؤوس، وأُديرت النار بأهل الموقف، فليس هناك إلا ظل العرش. فأما ظل الصدقة فمن ظل العرش، والله تعالى أعلم.
ويحتمل أن يراد بالظلّ هنا: الكَنَف والكرامة والوقاية من المكاره، كما تقول العرب: أنا في ظل فلان؛ أي: في صيانته وكرامته وكنفه، وإلى هذا نحا (10) ابن دينار.
و((الإِمَامُ الْعَادِلُ)): هو كل من ولي شيئًا من أمور المسلمين، فعدل فيه.
وقوله: ((وَشَابٌّ (11) نَشَأَ بِعِبَادَةِ (12) اللهِ))؛ كذا الرواية: بعبادة الله - بالباء (13) ، وهذه الباء هي باء المصاحبة، كما تقول: جاء زيد بسلاحه؛ أي: مصاحبًا لها، ويحتمل (14) أن يكون (15) بمعنى الفاء، كما قد تكون الفاء بمعنى الباء، في مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ} (16) ، و((نَشَأَ)) نبت وابتدأ؛ أي: لم تكن له (17) صبوة، وهو الذي قال (18) فيه في الحديث الآخر: ((يعجب ربك من صبيٍّ ليست له صبوةٌ)) (19) ، وإنما كان ذلك لغلبة التقوى التي بسببها (20) ارتفعت الصبوة. =(3/75)=@
__________
(1) في (ح): ((جنسه)).
(2) في (ز) و(س): ((مفرد)).
(3) في (ي): ((يا رند)).
(4) في (ب): ((هاهنا)).
(5) في (ي): ((للتحليل)).
(6) أخرجه البخاري (2/142 رقم660) في الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، و (3/292 رقم 1423) كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، بنحوه، و(11/312 رقم6479) كتاب الرقاق. باب البكاء من خشية الله، وذكر فيه الذاكر لله فقط، و(12/112 رقم 6806) كتاب الحدود، باب فضل من ترك الفواحش، بنحوه، ومسلم (2/715 رقم1031) في الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة.
(7) لم أقف على هذه الرواية في حديث أبي هريرة، وقد عزاها الحافظ في "الفتح" (2/144) إلى سعيد بن منصور من حديث سلمان، وتبعه على ذلك الألباني فى "الإرواء" (3/396) فكأنه لم يقف عليها أيضًا. وحديث سلمان رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 469) من طريق قتادة عن سلمان، موقوفًا بلفظ: ((التاجر الصدوق مع السبعة في ظل عرش الله تعالى يوم القيامة)). وسنده منقطع فقتادة لم يسمع من سلمان.
ذُكر الإظلال في ظل العرش في أحاديث أخرى؛ منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((من أنظر معسرًا أو وضع له، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)). أخرحه الترمذى (رقم 1306) في البيوع، باب ما جاء في إنظار المعسر، وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني كما في "الجامع" (5/260 رقم5983).
(8) قوله: ((به)) سقط من (ح) و(ز) و(س) و(ي).
(9) في (ح): ((صعيدٍ واحدٍ)).
(10) في (ي): ((نجا)).
(11) في (ب) و(ح): ((شاب)).
(12) في (ي): ((في عبادة)).
(13) قوله: ((بالباء)) ليس في (ز) و(س).
(14) في (أ): ((يحتمل)) بلا واو.
(15) في (ز) و(س): ((تكون)).
(16) سورة البقرة؛ الآية: 210.
(17) قوله: ((له)) سقط من (ح).
(18) في (ب): ((يقال)).
(19) أخرجه الإمام أحمد (4/151)، والطبراني في "الكبير"(17/309 رقم 853) عن قتيبة ابن سعيد، ورواه أبو يعلى (3/288 رقم 1749) عن كامل بن طلحة، والطبراني أيضًا من طريق عبدالله بن عباد العبَّاداني، ثلاثتهم عن ابن لهيعة، عن أبي عُشَّانة حَيّ بن يُؤمن، سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله رضي الله عنه يقول: ((إن الله عز وجل ليعجب من الشاب ليست له صبوة)). والحديث عزاه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (241) إلى تَمَّام في "فوائده"، والقضاعى في "مسنده". وانظر "الاحياء" (4/4). وفى إسنادهم جميعًا ابن لهيعة كما تقدم، وبه ضعَّف الحديث الحافظ - رحمه الله - فيما نقله عنه السخاوي في الموضع المذكور، وأما السخاوي وقبله الهيثمى في "المجمع"(10/270) فحسَّنا إسناده. وله شاهد من حديث ابن عمر مرفوعًا: ((إن الله يحب الشاب الذي يفني شبابه في طاعة الله عز وجل))، أخرجه أبونعيم في "الحلية"(5/360)، وقال: تفرد به محمد بن الفضل بن عطية، عن سالم يعني سالِمًا الأفطس، رواه عن عمر بن عبدالعزيز، عن ابن عمر.
ومحمد بن الفضل، كذبه غير واحد من الأئمة، كما في ترجمته في"التهذيب" (3/674- 675) ومن أجله حكم الشيخ الألباني على الحديث بأنه موضوع، كما في "السلسلة الضعيفة"رقم (98).
(20) في (ي): يشبه أن تكون ((فسببها)).(3/75)
وقوله: ((وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ (1) ))؛ أي: يحب الكون فيها للصلاة والذكر وقراءة القرآن، وهذا إنما يكون ممن استغرقه حبُّ الصلاة والمحافظة عليها وشُغِف بها.
وقوله: ((وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ))؛ أي: داما على المحبة الصادقة الدِّينية، المبرأة عن الأغراض الدُّنيوية، ولم يقطعاها بعارض في حال اجتماعهما، ولا حال افتراقهما.
وقوله: ((وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ (2) ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ ))؛ معنى دعته: عرضت نفسها عليه؛ أي (3) للفاحشة. وقول المدعو في مثل هذا الحال (4) : إني أخاف الله، وامتناعه لذلك دليلٌ على عظيم (5) معرفته بالله تعالى، وشدّة خوفه من عقابه، ومتين تقواه، وحيائه من الله تعالى. وهذا هو المقام اليوسفي.
وقوله: ((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا))؛ هذه صدقة (6) التطوع في قول ابن عباس (7) وأكثر العلماء. وهو حضٌّ على الإخلاص في الأعمال، والتستر بها، ويستوي في ذلك جميع أعمال البر التطوعية.
فأما الفرائض فالأولى (8) إشاعتها وإظهارها (9) لتحفظ (10) قواعد الدين، ويجتمع (11) الناس على العمل بها، فلا يضيع منها شيء، ويظهر بإظهارها جمال دين الإسلام، وتعلم حدوده وأحكامه.
والإخلاص واجب في جميع القرب، والرياء مفسد لها.
وقوله: ((حَتَّى (12) لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ)) (13) ؛ هذا مبالغة في إخفاء الصدقة، =(3/76)=@
__________
(1) في (ب): ((بالمساجد)).
(2) قوله: ((امرأة)) سقط من (أ)و(ب) و(ز) و(س) و(ي).
(3) قوله: ((أي)) سقط من (ز) و(س).
(4) قوله: ((الحال)) سقط من (ح) وموجود في (ز) و(س)
موجود في (ب) وينظر الفرق إن كان في نسخة أخرى، قوله: ((الحال)) سقط من (ي).
(5) قوله: ((عظيم)) سقط من (ب).
(6) في (ب): ((صدة)).
(7) أخرج ذلك عنه الطبري في "تفسيره" (3/62)، قال: حدثني المثنى قال: حدثنا عبدالله قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ((قوله: {إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}، فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها، يقال: بخمسة وعشرين ضعفًا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها)).اهـ.
وهذا الأثر ضعيف لحال عبدالله بن صالح وانقطاعه بين علي بن طلحة وابن عباس.
(8) في (ب): ((فالأول)).
(9) في (ب): ((بإظهارها)).
(10) في (ب) و(ح) و(ز): ((لتتحفظ))، وفي (أ) و(س) و(ي): ((لتنحفظ)).
(11) في (ح): ((ويجمع)).
(12) قوله: ((حتى)) سقط من (أ) وهي موجودة في(ب)، وضرب عليها.
(13) كذا ساقه المصنف هنا، وف ي"التلخيص": ((حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)). وهذا هو الموافق لما في نسخ الصحيح، و لم يتعرض المؤلف - رحمه الله تعالى- لهذه المسألة - حتى ولا تلميحًا - مع أهميتها، وقد قال الإمام النووي في "المنهاج" (7/122) بعد ما ساق رواية مسلم، وفيها: ((حتى لا تعلم يمينه ماتنفق شماله)): هكذا وقع في جميع نسخ مسلم في بلادنا وغيرها، وكذا نقله القاضي عن جميع روايات نسخ مسلم... والصحيح المعروف: ((حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))، هكذا رواه مالك في "الموطأ" والبخاري في "صحيحه" وغيرهما من الأئمة، وهو وجه الكلام؛ لأن المعروف في النفقة فعلها باليمين 1اهـ.
وقال القاضي في"الاكمال"(3/563): ويشبه أن يكون الوهم فيها من الناقلين عن مسلم. اهـ. وانظر فى الكلام عن هذه المسألة أيضًا: "الفتح "(2/ 146)، و"العمدة"(4/ 353).(3/76)
وقد سمعنا من بعض المشايخ أن ذلك أن يتصدق على الضعيف في صورة المشتري منه (1) ، فيدفع (2) له (3) درهمًا مثلاً في شيء يساوي نصف درهم. فالصورة (4) مبايعة، والحقيقة صدقة، وهو اعتبار حسن (5) .
وقوله: ((وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))؛ خاليًا يعني: من الخلق، ومن الالتفات إلى غير الله.
و((فيض العين)): بكاؤها. وهو على حسب حال الذاكر، وبحسب ما ينكشف له من أوصافه تعالى، فإن (6) انكشف له غضبه وسخطه (7) ، فبكاؤه (8) عن خوف، وإن انكشف [له] (9) جماله وجلاله، فبكاؤه عن محبة وشوق، وهكذا يتلوَّن الذاكر بتلوُّن (10) ما يذكر من الأسماء والصفات.
وهذا الحديث جدير بأن ينعم فيه النظر، ويستخرج ما فيه من اللطائف والعبر، والله الموفق الملهِم (11) . =(3/77)=@
__________
(1) قوله: ((منه)) ليس في (ز) و(س).
(2) في (ح): ((فيدع)). كتب بجانبها [تراجع في نسخة أخرى]
(3) في (ب): ((إليه)) بدله ((له)).
(4) في (ب): ((والصورة)).
(5) ذكر الحافظ هذه الصورة عن المصنف، ثم قال: وفيه نظر، إن كان أراد أن هذه الصورة مراد الحديث خاصة. وإن أراد أن هذا من صور الصدقة المخفية، فَمُسَلَّم، والله أعلم.اهـ. وذكره العيني في "العمدة" (4/354) عن المصنف.
(6) في (ز): ((بأن)) بدل ((فإن)).
(7) قوله: ((وسخطه)) سقط من (ح).
(8) في (ح): ((فبكاء)).
(9) ما بين المعكوفين سقط من (أ) و(ز) و(س).
(10) في (ح) و(ي): ((بحسب))، وكتب في الهامش ((بتلون)). وفي (أ): ((يتلون)).
(11) في (س): ((للهم)) بدل ((الملهم))، وفي (ز): ((والله أعلم)).(3/77)
*************
( 19 ) باب أي الصدقة أفضل وفضل اليد العليا والتعفف عن المسألة
53- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فَقَالَ: ((أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ، وَلا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا، وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَلا وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أي الصدقة أعظم
قوله صلى الله عليه وسلم (2) : ((أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ (3) ))، أما: استفتاح للكلام، ((وَأَبِيكَ)) قسم، ومقسم به. وقد تقدم الكلام على القسم (4) بالأب في كتاب الإيمان (5) . والمقسم عليه: ((لتُنَبَّأنَّه)) (6) ؛ أي: لَتُخْبَرَنَّ (7) به حتى تعلمه.
والشح: المنع مطلقًا، يعم (8) منع المال وغيره. وهو من أوصاف النفس المذمومة؛ ولذلك قال (9) تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (10) ، والبخل: بالمال، فكأنه نوع من الشحّ. قال معناه (11) الخطابي (12) . وقد دل على صحة هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم (13) بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة (14) فقطعوا)) (15) ؛ أي: شح النفس، وهو منعها من القيام بالحقوق (16) المالية وغيرها.
وقوله: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ))؛ أي: النفس، ولم يجر لها ذكر، لكن دل عليها الحال، كما قال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} (17) ، ومعناه: قاربت الحلقوم، فلو بلغته لم تتأتَّ (18) منه وصية ولا غيرها. و((الحلقوم)): الحلق. =(3/78)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/284 رقم1419) في الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح الصحيح، و(5/373 رقم2748) كتاب الوصايا، باب الصدقة عند الموت، ومسلم (2/716 رقم1032) في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح.
(2) قوله: ((قوله صلى الله عليه وسلم)) ليس في (ب).
(3) في (ح): ((لتنانبه))، وفي (ي): ((لتنابنه)).
(4) في (ز) و(س): ((المقسم)).
(5) هذه اللفظة: ((وأبيك))شاذة، والأدلة متظافرة متظاهرة بتحريم الحلف بغير الله عز وجل.
(6) في (ح): ((لتنبأبه)).
(7) أشير إلى كلمة (أي: لتخبرن) بسهم ثم كتب في الهامش [تراجع في (ر)].
(8) في (ز): ((تعم)).
(9) قوله: ((قال)) مكرر في (ي).
(10) سورة الحشر؛ الآية: 9، وسورة التغابن، الآية: 16.
(11) في (ز) و(س): ((مُضِلَت)) بدل ((معناه)) ولم تنقط الضاد في (ز).
(12) قال في "معالم السنن" (2/263): ((الشح أبلغ في المنع من البخل، وأنما الشح بمنزلة الجنس، والبخل بمنزلة النوع، وأكثر مايقال البخل: إنما هو في افراد الأمور وخواص الأشياء والشح عام، وهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة)).اهـ. وانظر: "الإكمال" (ل171/أ) و"المنهاج" (7/123)، و"الفتح" (3/285).
(13) في (ز) و(س): ((فأمرهم)).
(14) في (ي): ((بالقطبعة)).
(15) أخرج هذا الحديث من رواية ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أبو داود (رقم 1698) كتاب الزكاة، باب في الشح، بلفظ مقارب، مع تقديم وتأخير، والنسائي في "التفسير" (2/409 رقم603) سورة الحشر، بنحوه في أثناء حديث، وأحمد في "المسند" (2/159-160 و195) بنحوه في أثناء حديث، و(2/191) بنحوه في صدر حديث، وليس فيه ذكر البخل. وغيرهم.
وصحح إسناده احمد شاكر في تعليقه على "المسند" (9/200 رقم6487) و(11/51 رقم6792)، و(11/71 رقم 6837) وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (2/539).
(16) في (ز) و(س): ((من الحقوق)).
(17) سورة الواقعة؛ الآية: 83.
(18) في (ح): ((تأت)).(3/78)
وقوله: ((لِفُلانٍ كَذَا، وَلِفُلانٍ كَذَا (1) ، وَأَلا وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ))، قال الخطابي: المراد به الوارث.
قال الشيخ رحمه الله: وفيه بُعْدٌ، بل الأظهر أنه الموصى له، ممن تقدّمت وصيته (2) على تلك الحالة، ومن ينشيء له الوصية في تلك الحالة أيضًا.
54- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (3) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ ((الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ))؛ أي: يحضُّ (4) الغني على الصدقة، والفقير على التعفُّف عن المسألة.
وقوله: ((الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى))، ثم فسّر اليد العليا بالْمُنْفِقَة والسُّفلى بالسائلة، وهو نصٌّ يرفع تعسُّف من تعسَّف في تأويله (5) ، غير أنه وقع هذا الحديث في كتاب أبي داود، وقال فيه في بعض طرقه بدل المنفقة: المتعففة (6) . قال: وقال (7) أكثرهم: اليد العليا: المنفقة (8) .
وذكر أبو داود (9) أيضًا من حديث مالك بن نضلة مرفوعًا: ((الأيدي ثلاث: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى، فأعطِ الفضلَ، ولا تعجز عن نفسك)). =(3/79)=@
__________
(1) إلى هنا انتهت نسخة (ب)، وما بعده سقط إلى.
(2) في (أ) و(ي) و(ز) و(س): ((وصيته له)).
(3) أخرجه البخاري (3/294 رقم1429) في الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنىً، ومسلم (2/717رقم1033) في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح.
(4) قوله: ((يحض)) سقط من (ي).
(5) يوميء المصنِّف بهذا إلى ما قال به الخطابي في "أعلام الحديث" (2/801) حيث قال فإنه يفسر على وجهين: أحدهما: أن العليا المنفقة والسفلى السائلة، والوجه الآخر: أن تكون العليا هي المتعففة، روي ذلك عن ابن عمر، وهو أشبه الوجهين ها هنا. اهـ. وقال فى "معالم السنن" (2/243): ((رواية من قال: ((المتعففة))، أشبه وأصح في المعنى، وذلك أن ابن عمر ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام...، وقد يتوهم كثير من الناس أن معنى العليا: هو أن يد المعطي مستعلية فوق يد الآخذ، يجعلونه من علو الشىء إلى فوق، وليس ذلك عندي بالوجه، وإنما هو من علاء المجد والكرم، يريد به الترفع عن المسألة والتعفف عنها».اهـ.
وفي "غريب الحديث" له (1/595) قال: ((قال ابن قتيبة: العليا المعطية، والسفلى السائلة... وهذا وجه حسن، وفيه وجه أخر أشبه بمعنى الحديث، وهو أن تكون العليا المتعففة، وقد روي ذلك مرفوعًا)).اهـ. ونحوه قال البغوي في "شرح السنة" (6/117). وانظر: "الإكمال" (3/566)، "التمهيد" (5/247)، "شرح الطيبي" (4/62)، "العمدة" (7/229).
(6) "السنن" (2/297) ونحوه عند الخطابى في "غريب الحديث (1/ 595).
(7) في (ح): ((فقال)).
(8) قال أبو داود في"السنن" (2/297): ((اختلف على أيوب عن نافع في هذا الحديث، قال عبد الوارث: ((اليد العليا: المتعففة))، وقال أكثرهم عن حماد بن زيد، عن أيوب: ((اليد العليا: ((المنفقة))، وقال واحد عن حماد: ((المتعففة))».اهـ. وذكر ابن عبد البر في "التمهيد" (15/247- 249): ((الحديث من رواية مالك، وفيه: ((المنفقة))، ثم أخرج الحديث من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، وفيه: ((المتعففة))»، ثم قال: رواية مالك في قوله: ((اليد العليا المنفقة))، أولى وأشبه بالأصول، من قول من قال: ((المتعففة)))...»، ثم ساق أدلة ذلك، ثم قال: ((لأن العلو في الإعطاء لا في التعفف ».اهـ. وبهذا الوجه جزم ابن حبان في "صحيحه"، كما في الإحسان (8/149). وانظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/198)، "الإكمال"(3/566). وقد رجح هذا الوجه أيضًا: المنذري في"مختصر السنن" (2/244) قال: « وما جاء في الحديث الصحيح من التفسير مع فهم المقصد من الحث على الصدقة أولى)).اهـ.
وصححه النووي في "المنهاج" (7/125) قال: ((والصحيح الرواية الأولى، ويحتمل صحة الروايتين، فالمنفقة أعلى من السائلة، والمتعففة أعلى من السائلة)). اهـ. ونحو قول النووي قال الطيبي في "شرحه" (4/62-63)، ورجحه الحافظ في "الفتح" (3/297-298) وضع تحت الرقم خط وأشير إليه في الهامش وكتب [في الأصل (198) وهو غلط. فليتنبه]، والعيني في "العمدة" (9/229-231).
(9) "السنن" (رقم1649) كتاب الزكاة، باب الاستعفاف، قال: حدثنا أحمد=
= ابن حنبل، قال: حدثنا عبيدة بن حميد التيمي قال: حدثني أبو الزعراء، عن أبي الأحوص، عن أبيه مالك بن نضلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم...، فذكره بلفظه. وأخرجه أيضًا: أحمد في "المسند" (3/473) و(4/137) بلفظه، وابن خزيمة في "صحيحه" (4/97 رقم3440) كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة عن ظهر غنى، بلفظه، وابن حبان - كما في الإحسان - (8/148 رقم 3362) كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، بلفظه، والحاكم في "المستدرك" (1/408) كتاب الزكاة، بلفظه، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه))، وسكت عنه الذهبي، وهو كما قالا.(3/79)
55- وَعَنْ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ، أَوْ خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ))؛ يعني: أنه يبدأ بكفاية من تلزمه كفايته (2) ، ثم بعد (3) ذلك يدفع لغيرهم؛ لأن القيام بكفاية العيال واجب، والصدقة على الغير مندوبٌ إليها، ولا يدخل في ذلك ترفيه (4) العيال الزائد (5) على الكفاية (6) ، فإن الصدقة بما يرفه به العيال أولى؛ لأن من لم تندفع حاجته أولى بالصدقة ممن اندفعت حاجته في مقصود الشرع.
وقوله: ((خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى))؛ أي: ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس وحقوق العيال. وقال الخطابي: أي: متبرعًا، أو (7) عن غنى يعتمده، ويستظهر به على النوائب.
والتأويل الأول أولى، غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى الله تعالى بها على الأنصار؛ إذ قال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (8) وقد روي: أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيف فنوَّم صبيته وأطفأ السِّراج، وآثروا (9) الضيف بقوتهم (10) . وكذلك قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} (11) ؛ أي: على شدّة الحاجة إليه والشهوة له (12) ، ولا شكّ أن صدقة مَن هذه حالُه أفضل.
وفي حديث أبي ذر: ((أفضل الصدقة جهد من (13) مقل)) (14) . وفي (15) حديث أبي هريرة: ((سبق درهم مائة ألف))، قالوا: وكيف؟ قال: ((رجل له درهمان (16) ، فتصدق بأحدهما، ورجل له مال كثير، فأخذ من =(3/80)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/294 رقم1427) في الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنىً...، ومسلم (2/717 رقم1034) في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح.
(2) في (ي): ((فكاننه)) كذا [وتراجع].
(3) في (ي): ((من بعد)).
(4) في (أ): ((ترقية)).
(5) في (ي): ((الزابد)).
(6) قوله: ((الزائد على الكفاية)) ليس في (ز) و(س).
(7) في (ح): ((أي)).
(8) سورة الحشر؛ الآية: 9.
(9) في (ز) و(س): ((وآثر)).
(10) يشير المصنِّف - رحمه الله تعالى - إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري (7/119 رقم 3798) كتاب مناقب الأنصار، باب قول الله عز وجل: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}، و(8/631 رقم 4889) كتاب التفسير، سورة الحشر، باب: {ويؤثرون على أنفسهم...} الآية، ولفظ الرواية الأولى: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يَضُمُّ - أو يُضيف - هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوتُ صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يُريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ضحك الله الليلة - أو عجب - من فعالكما))، فأنزل الله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( ومن يوق شح نفسه فأؤلئك هم المفلحون}، ومسلم (3/1624 رقم2054/173) كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، وفيه ثلاث روايات، الأولى بنحوه، والأخريان فيهما اختصار.
(11) سورة الإنسان؛ الآية: 8.
(12) قوله: ((له)) سقط من (ح).
(13) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(14) أخرحه من حديث أبى ذر رضي الله عنه: أحمد في "المسند" (5/178-179) في أثناء حديث، وفيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست إليه، فقال: ((يا أبا ذر! هل صليت ؟))...، فذكر الحديث، وفي أثنائه: قال: قلت: فما الصدقة؟ قال: ((أضعاف مضاعفة، وعند الله مزيد))، قال: قلت: أيها أفضل يا رسول الله؟ قال: ((جهد من مقل، أو سر إلى فقير))... الحديث.
وأخرجه أيضًا الطيالسى في "المسند" (65 رقم 478) كلاهما من طريق المسعودي عن أبى عمرو الشامي، عن عبيد بن الخشت، عن أبي ذربه. وابن حبان - كما في الإحسان - (1/287 رقم 362) كتاب البر والإحسان، باب ما جاء في الطاعات وثوابها، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 166-168) من طريقين أخرين عن أبى ذر، وساقه في الأولى بنحو ما عند أحمد، وفي أخره زيادة طويلة، وقال في الموضع الثاني: ثم ذكر مثله. قال أبو داود: حدثنا المسعودي به. والحديث ضعيف جدًّا.
(15) في (ح): ((في)).
(16) في (ح): ((ماله)).(3/80)
عرْض ماله مائة ألف فتصدّق بها)) (1) .
فقد أفاد (2) مجموع ما ذكرناه (3) : أن صدقة المؤثر والْمُقِل أفضل، وحينئذ يثبت التعارض بين هذا المعنى وبين قوله: ((خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى))؛ على تأويل الخطابي.
فأما على (4) ما أوَّلنا به الغنى، فيرتفع التعارض، وبيانه: أنَّ الغنى يعني به في الحديث: حصول ما يدفع (5) به الحاجات الضرورية؛ كالأكل عند الجوع المشوِّش الذى لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى (6) ما يدفع به عن نفسه الأذى (7) ، وما هذا سبيله، فهذا (8) ونحوه مما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدُّق، بل يحرم؛ وذلك أنه إن آثر غيره بذلك، أدى إلى هلاك (9) نفسه، أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقَّه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار، وكان صدقته هي الأفضل؛ لأجل ما تحمله (10) من مضض الحاجة وشدَّة المشقة، والله تعالى أعلم (11) .
56- وَعَنْهُ (12) قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قال: ((إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ))؛ أي: روضة خضراء، أو شجرة ناعمة غضَّة مستحلاة الطعم.
وقوله: ((فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ (13) نَفْسٍ))؛ أي: بسخاوتها، وقلة حرصها (14) ، بورك له فيه (15) ؛ أي: انتفع به (16) صاحبه في الدّنيا بالتنمية، وفي الآخرة بأجر النفقة. و((إِشْرَافِ (17) النَفْس)): هو حرصها وتشوُّفها.
وقوله: ((لَمْ يُبَارَكْ لَهُ (18) فِيهِ))؛ أي: لا ينتفع به صاحبه؛ إذ لا يجد لذة نفقته، =(3/81)=@
__________
(1) أخرجه النسائي في (5/59) كتاب الزكاة، باب جهد المقل، وأحمد في "المسند" (2/379)، وابن المبارك كما في "زوائد الزهد" لنعيم بن حماد (23 رقم 95)، وابن زنجريه في كتاب "الأموال" (2/773 رقم1336)، وابن خزيمة في "صحيحه" (4/99 رقم2443) كتاب الزكاة، باب صدقة المقل إذا أبقى لنفسه قدر حاجته، وابن حبان -كما في الإحسان -(8/135 رقم 3347) كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، والحاكم في "المستدرك" (1/416) كتاب الزكاة، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وسنده صحيح.
(2) في (ح): ((فإذا)) بدل: ((فقد أفاد)).
(3) في (ز) و(س): ((ذكرنا)).
(4) قوله: ((على)) سقط من (ي).
(5) في (ح) و(ي): ((ترتفع))، وفي (ز) و(س): ((تدفع)).
(6) في (ح): ((التي)).
(7) في (ح): ((أذا)).
(8) في (ي): تشبه أن تكون: ((بهذا)).
(9) في (ي): ((إهلاك)).
(10) في (ز) و(س): ((يثبت)) ولم تنقط في (ز).
(11) نقل الحافظ في "الفتح" (3/296) كلام المؤلف هنا بطوله من أول الفقرة إلى نهايتها، ثم قال: ((وبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله)).اهـ.
(12) أخرجه البخاري (6/249 رقم3143) في فرض الخمس، باب ماكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (2/717 رقم1035) في الزكاة، باب بيان أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح.
(13) في (س): ((يطيب)).
(14) جاء عند البخاري بلفظ: ((فمن أخذه بسخاوة نفس)).
(15) في (ز) و(س): ((فيها)).
(16) قوله: ((به)) سقط من (ح) و(ي).
(17) في (ي): ((وإشراق)).
(18) قوله: ((له)) ليس في (ز) و(س) و(ي)، وفي (أ): وكأنه ضرب على ((له)) وتراجع.(3/81)
ولا ثواب صدقته، بل يتعب بجمعه (1) ، ويُذمّ بمنعه، ولا يصل إلى شيء من نفعه. ولا شك في أن الحرص على المال وعلى الحياة الدنيا مذموم، مفسد للدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة (2) غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف (3) لدينه)) (4) .
57- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (5) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ وَلا تُلامُ عَلَى كَفَافٍ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَأَنْ تُمْسِكَهُ (6) شَرٌّ لَكَ))، الفضل يعني به: الفاضل عن الكفاف (7) ، ولا شكَّ في أن إخراجه أفضل من إمساكه. فأما إمساكه عن الواجبات فشرٌّ على كل حال، وإمساكه عن المندوب إليه قد (8) يقال فيه شرٌّ؛ بالنسبة إلى ما فوَّت الممسك على نفسه من الخير. وقد تقدّم بيان هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وشرُّ (9) صفوف الرجال آخرها)) (10) ؛ وأن معنى ذلك: أنها أقل ثوابًا.
وقوله: ((وَلا (11) تُلامُ عَلَى كَفَافٍ))، يفهم منه بحكم دليل الخطاب: أن ما زاد على الكفاف يتعرض صاحبه للذمّ (12) . =(3/82)=@
__________
(1) في (ي): ((جمعه)).
(2) في (أ): ((زيبة)).
(3) في (ز) و(س): ((والسرق)) بالسين المهملة.
(4) جاء هذا الحديث عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم؛ منهم كعب بن مالك وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وأسامة وعاصم بن عدي وجابر.
وحديث كعب بن مالك أخرجه الترمذي (رقم 2376) كتاب الزهد، باب 43)، ولفظه: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)). وقال: ((هذا حديث حسن صحيح، ويروى في هذا الباب عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح إسناده)).اهـ. والنسائي في كتاب الرقائق من الكبرى كما في "تحفة الأشراف" (8/316)، و لم أقف عليه في المطبوعة، وأحمد في "المسند" (3/456 و460)، وغيرهم وسنده صحيح.
(5) أخرجه مسلم (2/718 رقم1036) في الزكاة، باب بيان أ، أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح.
(6) في (ح) و(ز) و(س): ((تمسك)).
(7) في (ز) و(س): ((الكفاية)).
(8) في (ز) و(س): ((فقد)).
(9) أشير لها بسهم في الهامش الجانبي للصفحة وكتب [تراج في (ز) التشكيل].
(10) يشير المؤلف رحمه الله بهذا إلى حديث أبى هريرة رضي الله عنه عند مسلم (1/326 رقم 440/132) كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، ولفظه: ((خير صفوف الرجال أوَّلها وشرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرُّها أولها)).
(11) في (ز): ((لا تلام)) بلا واو وفي (س): ((لم تتضح)).
(12) في (أ) و(ي): ((للوم)).(3/82)
58- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا تُلْحِفُوا بِي فِي الْمَسْأَلَةِ فَوَاللهِ لا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((لا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ))؛ هكذا صحيح الرواية، ومعناه (2) : لا تنزلوا في المسألة الملحف (3) فيها؛ أي: لا تُلِحُّوا علي في السؤال. والإلحاف: الإلحاح.
وإنما نهى عن الإلحاح؛ لما يؤدي إليه من الإبرام واستثقال السائل (4) ، وإخجال المسؤول، حتى أنه إن أخرج شيئًا أخرجه عن غير طيب نفس، بل على كراهة وتبرُّم، وما استخرج كذلك لم يبارك فيه؛ لأنه مأخوذ على غير وجهه، ولذلك قال: ((فَتُخْرِجَ له المسألة شيئًا وأنا كاره له)).
ثم قد كانوا - أعني المنافقين - يكثرون سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُبَخّلوه، فكان يعطي العطايا الكثيرة بحسب ما يُسأل (5) ؛ لئلا يتم لهم غرضهم من نسبته إلى البخل؛ كما قال: ((إن قومًا خيَّروني بين أن يَسألوني بالفحش، أو (6) يُبَخّلوني ولست بباخل))(5) (7) . =(3/83)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/718 رقم1038/19) في الزكاة، باب النهي عن المسألة.
(2) في (ز) و(س): ((ومعناها)).
(3) في (ب) و(ح): ((التلحف))، وفي (ر) و(س): ((الملحفة)).
(4) في (ح): ((والاستثقال للسائل)).
(5) ذكر المصنف هذا الحديث في أول باب إعطاء السائل ولو أفحش في المسألة من كتاب الزكاة، وسيرد هناك تخريجه والتعليق عليه.
(5) في (ز) و(س): ((سئل)).
(6) في (ح): ((وبين أن)) بدل ((أو)).
(7) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).(3/83)
(20 ) باب من أحق المسكنة وكراهة المسألة للناس
59- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ)) قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: ((الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَلا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من أحق باسم المسكنة
((الْمِسْكِينُ)) مِفْعِيل من السكون، فكأنه (2) من عدم المال سكن (3) حركاته ووجوه مكاسبه، ولذلك قال تعالى: {أو مسكينًا ذا متربة} (4) ؛ أي: لاصقًا بالتراب. وعند الأصمعي: أنه أسوأ حالاً من الفقير. وعند غيره: عكس ذلك. وقيل (5) : هما اسمان لمسمى واحد.
ومعنى قوله (6) : ((لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ عليكم...))، إلى آخره؛ أى: الأحق باسم المسكين هذا الذي لا يجد غنى، ولا يتصدّق عليه، وهذا كقوله (7) صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (8) ، ومثل هذا كثير. =(3/84)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/340 رقم1476) في الزكاة، باب قوله الله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافًأ}. مسلم (2/719 رقم1039/101) في الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنىً، ولا يفطن له فيصدق عليه.
(2) في (أ): ((وكأنه)).
(3) في (ح): ((سكتت)).
(4) سورة البلد؛ الآية: 16.
(5) في (ح): ((فقيل)).
(6) في (ز): ((وقوله)).
(7) في (أ): ((لقوله)).
(8) جاء هذا الحديث بهذا اللفظ وبنحوه، عن أبي هريرة وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما.
فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأخرجه البخاري (10/518 رقم6114) كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، بلفظه.
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فأخرجه مسلم (4/2014 رقم2608/106) كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، بنحوه، وفي أوله زيادة.(3/84)
60- وَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (1) ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ))؛ أي: قطعة لحم، ومنه: مَزَعَت المرأة الصوف، إذا قطعته لِتُهَيِّأَه (2) للغزل، وتمزَّع أنفه؛ أي: تشقَّق (3) . وهذا كما (4) في الحديث الآخر: ((المسائل كدوح (5) ، أو خدوش، يخدش بها الرجل وجهه يوم القيامة)) (6) . وهذا محمول على كل من سأل (7) سؤالاً لا يجوز له ، وخصَّ الوجه بهذا النوع؛ لأن الجناية به وقعت، إذ قد بذل من وجهه ما أُمر بصونه عنه، وتصرفه (8) (9) به في غيرما سوِّغ (10) له.
61- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (11) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ)).
62- وَعَنْهُ (12) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)).
63- وَعَنْ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ (13) قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً فَقال: ((أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ ؟)). وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ثُمَّ قال: ((أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟)) فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ثُمَّ قال: ((أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ ؟)). قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَعَلامَ نُبَايِعُكَ؟ قال: ((عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَتُطِيعُوا الله وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً. وَلا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا)) فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا (14) ))؛ أي: استكثارًا (15) منها من غير حاجة ولا ضرورة.
وقوله: ((فَإِنَّمَا (16) يَسْأَلُ جَمْرًا))؛ أي: يعذب بحسب (17) مسائله التي هي غير جائزة.
وقوله: ((فلِيَسْتَكْثِرْ من ذلك أو ليستقلل))، هو أمر (18) على جهة التهديد، أو على جهة الإخبار عن مآل حاله. ومعناه أنه (19) يُعاقب عن (20) القليل من ذلك والكثير. =(3/85)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/338 رقم1474) في الزكاة، باب من سأل الناس تكثرًا، ومسلم (2/720 رقم140/103) في الزكاة، باب كراهة المسألة للناس.
(2) في (أ): ((لتهيه))، وفي (ي): ((لنهبيه)).
(3) في (س) و(ز): ((انشق((.
(4) في (ح): ((كما قيل((.
(5) الكدوح: الخدوش: ركل أثر من خَدْش أو عض فهو كَدْح، ويجوز أن يكون مصدرًا سُمّي به الأثَر، والكَدح في غير هذا الحديث: السعى والحرص والعمل. "النهاية" (4/155).
(6) جات نحو هذا في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه ، أخرجه أبو داود (رقم 1639) كتاب الزكاة، باب ما يجوز فيه المسألة، ولفظه: ((المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدًّا))، والترمذي (رقم 681) كتاب الزكاة، باب ماجاء في النهي عن المسألة، بنحوه، وفيه: ((كدٌّ، يكد بها الرجل وجهه))، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، والنسائي (5/100) كتاب الزكاة، باب مسألة الرجل ذا سلطان، كما عند أي داود. باب مسألة الرجل في أمر لا بّد له منه، كما عند الترمذي، وأحمد في "المسند" (5/10) كما عند الترمذي وفيه قصة، و(5/22) كما عند أبي داود، و(5/19) باللفظين. وغيرهم، وإسناده صحيح.
(7) في (ي): ((يسأل)).
(8) كتب في هامش الورقة تعليقًا على كلمة تصرفه [هكذا جاء في الأصل وتراجع؛ لأن ما في المطبوع أنسب في السياق والله أعلم، وفي (ح): ((وتصرفه))].
(9) في (س): ((وتصرف))، وفي (ز): ((ويصرب)).
(10) في (ي): ((يسوغ)).
(11) أخرجه مسلم (2/720 رقم1041) في الزكاة، باب الاستعفاف من المسألة.
(12) أخرجه البخاري (3/335 رقم1470 ) في الزكاة، باب الاستعفاف في المسألة، ومسلم (2/721 رقم1042) في الزكاة، كراهية المسألة للناس.
(13) أخرجه مسلم (2/721 رقم1043) في الزكاة، باب كراهة المسألة للناس.
(14) في (س): ((تكثيرًا)).
(15) قوله: ((أي استكثارًا)) سقط من (ي).
(16) في (س) و(ز): ((إنما)).
(17) في (ز) و(س): ((بسبب)).
(18) في (ز) و(س): ((هذا هو على)).
(19) في (ح): ((ومعنى فإنه)).
(20) في (أ) و(ز) و(س): ((على)) بدل ((عن)).(3/85)
وأخذه صلى الله عليه وسلم على أصحابه في البيعة: ((ألا يسألوا أحدًا شيئًا))، حَمْلٌ منه على مكارم الأخلاق، والترفع عن تحمّل مِنَن الخلق وتعليم الصبر (1) على مضض الحاجات، والاستغناء عن الناس، وعزّة النفوس.
ولما أخذهم بذلك التزموه في جميع الأشياء، وفي كل الأحوال، حتى فيما لا يلحق (2) فيه مِنَّة، طردًا للباب، وحسمًا للذرائع (3) (4) . =(3/86)=@
__________
(1) في (ح): ((للصبر)).
(2) في (ز) و(س): ((تلحق)).
(3) أبان ذلك الراوي في آخر الحديث حيث قال: ((فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه))، وقد قال الإمام النووي في "المنهاج" (7/132): ((فيه التمسك بالعموم، لأنهم نُهوا عن السؤال، فحملوه على عمومه، وفيه الحث على التنزه عن جميع ما يسمى سؤالاً، وإن كان حقيرًا)).اهـ.
(4) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).(3/86)
*************
( 21 ) باب من تحل له المسألة؟
64- عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلالِيِّ (1) قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقال: ((أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا)) قَالَ: ثُمَّ قَالَ يَا قَبِيصَةُ: ((إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ، يَا قَبِيصَةُ! سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من تحلُّ له المسألة
قوله (2) : ((تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً))؛ أي: ألزمتها نفسي. والحمالة: ما لزم الإنسان تحمله من غرم أو دية.
وكانت العرب إذا وقعت بينهم ثائرة اقتضت غرمًا في دية أو غيرها، قام أحدهم فتبرّع بالتزام ذلك، والقيام به؛ حتى ترتفع تلك الثائرة، ولا شكّ أن هذا من مكارم الأخلاق، ولا يصدر مثله (3) إلا عن سادات الناس وخيارهم. وكانت العرب لكرمها إذا علمت بأن أحدًا تحمّل حمالة بادروا إلى معونته، وأعطوه ما يتمّ به وجه مكرمته، وتبرأ به ذمته، ولو سأل المتحمل في تلك الحمالة لم يُعَد ذلك نقصًا، بل شرفًا وفخرًا، ولذلك سأل هذا الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حمالته التي تحمّلها على عادتهم (4) ، فأجابه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بحكم المعونة على المكرمة، ووعده النبي صلى الله عليه وسلم بمال من الصدقة؛ لأنه غارم من جملة الغارمين المذكورين في آية الصدقات (5) .
وقوله: ((إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلا (6) لأَحَدِ ثَلاثَةٍ))؛ لما قرّر النبي صلى الله عليه وسلم منع (7) قاعدة المسألة من الناس، بما تقدّم من الأحاديث، وبمبايعتهم على ذلك، وكانت الحاجات والفاقات تنزل بهم، فيحتاجون إلى السؤال، بيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم من يَخْرج من عموم تلك القاعدة، وهم هؤلاء الثلاثة.
و((الجَائِحَة)): ما اجتاحت المال وأتلفته إتلافًا ظاهرًا، كالسيل (8) والمطر والحرق والسرق وغلبة العدو، وغير ذلك (9) مما يكون إتلافه للمال ظاهرًا.
و((الفَاقَة (10) )): الفقر. و((القوام))- بكسر القاف -: ما يقوم به =(3/87)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/722 رقم1044) في الزكاة، باب من تحمل له المسألة؟
(2) في (ز) و(س): ((وقوله)).
(3) في (ز) و(س): ((مثلها)).
(4) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): ((عاداتهم)).
(5) وهي قوله سبحانه وتعالى في سورة التوبة، آية: 6: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}.
(6) قوله: ((إلا)) سقط من (أ).
(7) في (ز) و(س): ((مع)) بدل ((منع)).
(8) في (أ): ((كالمسيل)).
(9) قوله: ((وغير ذلك)) سقط من (ح).
(10) في (ح): ((وبالفاقة)).(3/87)
العيش، وبفتحها: الاعتدال (1) . و((السِّداد))- بكسر السين -: ما يُسدّ به الشيء، كسداد لقارورة (2) ، وبفتحها: الإصابة.
وقوله: ((حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ (3) فُلانًا فَاقَةٌ))؛ أي: يقوم ثلاثة فيقولون: لقد... (4) ، وفي كتاب أبي داود: ((حتى يقول (5) )) باللام من القول، فلا يحتاج (6) إلى تقدير محذوف.
و((الْحِجَى)): العقل. واشترطه (7) (8) ؛ لأن من عُدِمَهُ لا يحصل بقوله ثقة، ولا يصلح للشهادة، أو لعلّه عبّر به عما يشترط في المخبر والشاهد من الأمور التي توجب الثقة بأقوالهم، ويكون الموصوف بها عدلاً (9) مرضيًا (10) .
وقوله: ((مِنْ قَوْمِهِ))؛ لأنهم أعلم بِدَخُلَةِ (11) أمره، واستظهر بالثالث ليلحق بالمنتشر. ولم يحتج فيمن أصابته الجائحة إلى مثل هذا؛ لظهور أمر الجائحة، فأما الفاقة فتخفى (12) .
وقوله: ((حَتَّى يُصِيْبُهَا ثَمَّ يُمْسِك (13) ، وحَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا))؛ فيه مدّ (14) الإباحة إلى زوال الموجب لها، ثم عوده (15) إلى الأصل السابق الممنوع.
وقوله: ((فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ، سُحْت))، السُّحت: الحرام، وسمي به؛ لأنه يسحت ويمحق، وفيه لغتان: سكون الحاء وضمها.
وروايتنا (16) في ((سُحْت)) الأول الرفع على أنه خبر (17) المبتدأ الذي هو((ما)) الموصولة.
وقد وقع لبعضهم ((سُحْتًا (18) )) =(3/88)=@
__________
(1) في "الصحاح" (5/2017): الاستقامة: الاعتدال، والقَوَام: العدل. قال تعالى: {وكان بين ذلك قوامًا}[سورة الفرقان؛ آية: 67].
(2) في (ح) و(ز) و(س): ((القارورة)).
(3) في (ز) و(س): ((أصاب)).
(4) أشير لها بسهم في جانب الورق وكتب [بياض في نسخة (ب)].
(5) في (س): ((أبي داود تقول)).
(6) في (س): ((تحتاج)).
(7) في (ح): ((واشتراطه)).
(8) كتب في جانب الورقة تعليقًا على كلمة (واشتراطه) ؟؟؟ في الأصل فتراجع إلا إن كانت جميع النسخ هكذا (ص898) (الأصل).
(9) قوله: ((عدلاً)) لم يتضح في (ي).
(10) " السنن" (2/290).
(11) كتب بجانب الورقة تعليقًا على كلمة (بدخله) [كذا في (ح) و(س) و(ز): ((بِدَخُلَهِ))].
(12) قال القاضي في "الإكمال" (3/577): ((اشتراطه ها هنا ثلاثة، وحكم الشهادة اثنان، والخبر واحد، ولعله أراد أن يخرج بالزيادة عن حكم الشهادة إلى طريق اشتهار الخبر، وانتشاره، وأن المقصد بالثلاثة هنا جماعة هي أقل الجمع لا نفس العدد؛ إذ ليس الثلاتة في هذا الباب أصل)). اهـ. وفي "المنهاج" (7/133-134) قال النووي: ((وأما اشتراط الثلاتة فقال بعض أصحابنا: هو شرط في بينة الإعسار، فلا يقبل إلا من ثلاتة لظاهر هذا الحديث، وقال الجمهور: يقبل من عدلين كسائر الشهادات غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب، وهذا محمول على من عرف له مال، فلا يقبل قوله في تلفه والإعسار إلاببينة، وأما من لم يعرف له مال فالقول قوله في عدم المال)).اهـ.
(13) في (ز) و(س): ((تمسك)).
(14) كتب تعليقًا عليها في جانب الورقة [كذا في (ح) و(س) و(ز) و(أ)].
(15) في (ز) و(س): ((عدوه)).
(16) الذي فى "صحيح مسلم": ((سحتًا))، وعند أبي داود: ((سحتٌ)).
قال النووي في "المنهاج" (7/134): «هذا هو في جميع النسخ: ((سحتًا))، ورواية غير مسلم ((سحت))، وهذا واضح، ورواية مسلم صحيحة، وفيه إضمار؛ أي اعتقده سحتا، أو يؤكل سحتًا)).اهـ. وقد بين القاضي في "الاكمال" (3/578) وجه رواية مسلم كما ذكر النووي هنا. فلا وجه لقول المصنف - رحمه الله تعالى - هنا: وليس وجهه بين. بل قد صحت به الرواية، وبين وجهه الأئمة رحمهم الله تعالى.
(17) قوله: ((خبر)) ليس في (ز).
(18) في (ز) و(س): ((سحت)).(3/88)
بالنصب، وليس وجهه بيِّن (1) .
و((هن)) عائدٌ على الحالات الثلاث (2) ، لا على لفظ الثلاثة (3) فإنها للذكور.
وقوله: ((فَمَا سِوَاهُنَّ سُحْت))؛ أي: ما سوى هؤلاء الثلاثة، ثم هو بعد ذلك مخصص (4) بحديث سمرة الذي خرّجه (5) أبو داود مرفوعًا: ((المسائل (6) كدوح يكدح الرجل بها وجهه، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدًّا)) (7) ، وما تدعو الحاجة والضرورة إلى المسألة فيه يزيد (8) على الثلاثة المذكورين (9) في هذا الحديث الذي نحن باحثون فيه (10) (11) .
*************
( 22 ) باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير سؤال ولا استشراف
65- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (12) قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالاً فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((خُذْهُ وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ. وَمَا لا، فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إباحة الأخذ من غير سؤال
قول عمر رضي الله عنه: ((أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي))؛ دليل: على زهده، وإيثاره لغيره على نفسه.
وقوله (13) : ((خُذْهُ))؛ أمرٌ على جهة الندب والإرشاد للمصلحة. =(3/89)=@
__________
(1) في (ح) و(ز) و(س): ((ببيّن)).
(2) في (ح): ((الثلاثة)).
(3) في (ح) و(ي): ((الثلاث)).
(4) في (س): ((مخصوص لحديث))، وفي (ز): ((ثم بعد ذلك هو مخصوص لحديث)). وكتب في جانب الورقة [كذا في (ح)].
(5) في (ز) و(س): ((أخرجه)).
(6) في (س): ((السائل)).
(7) في (ي): ((أوما)).
(8) في (أ): يشبه أن تكون ((مزيد)). [وتراجع] وفي (ي): ((يرند)).
(9) في (ح) و(ي): ((المذكورةين)).
(10) قال ابن زنجويه في كتاب "الأموال" (3/1134) بعدما ساق الروايات في ذكر من تحل له المسألة، قال: ((فهولاء جملة من تحل لهم المسألة، وهم ستة أصناف: صاحب الفتق؛ يعني به من تحمل حمالة، وصاحب الجائحة، وصاحب الفاقة، والذي يسأل محرمه، والذي يسأل السلطان، والذي قد اثقله الغريم)).اهـ. ثم بدأ في تفصيل حال كل واحد من هؤلاء الستة.
(11) زاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(12) أخرجه البخاري (3/337 رقم1473) في الزكاة، باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس، و(13/150 رقم7163) في الأحكام، باب رزق الحاكم والعاملين عليها...، ومسلم (2/723 رقم1045/110) في الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطى من غير مسألة ولا إشراف.
(13) في (ز) و(س): ((وقوله له)).(3/89)
وقوله: ((وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ (1) وَلا سَائِلٍ))؛ إشراف (2) النفس: تطلعها، وتشوُّفها، وشرهها لأخذ المال.
ولاشك أن هذه الأمور إذا كانت هي الباعثة على الأخذ للمال؛ كان ذلك من أدلِّ دليل على شدّة الرغبة في الدنيا والحب لها، وعدم الزهد فيها (3) ، والركون إليها، والتوسّع فيها، وكل ذلك أحوال مذمومة، فنهاه عن الأخذ على هذه الحال (4) ، اجتنابًا للمذموم، وقمعًا لدواعي النفس، ومخالفة لها في هواها، فإن (5) لم يكن ذلك (6) جاز له الأخذ للأمن من تلك العلل المذمومة.
قال الطحاوي: وليس (7) معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو (8) في الأموال التي يقسمها الإمام على أغنياء الناس وفقرائهم.
وقال الطبريّ: اختلف الناس فيما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به عمر رضي الله عنه من ذلك، بعد إجماعهم على أنه (9) أمر ندب وإرشاد؛ فقيل: هو (10) نذبٌ إلى عطية السلطان وغيره. وقيل: بل ذلك ندبٌ إلى عطية (11) غير السلطان. فأمَّا (12) عطية السلطان فقد حرمها قوم وكرهها آخرون. فأما من حمل الحديث على عطية السلطان، وأنها مندوبٌ إليها، فذلك (13) إنما يصحّ أن يقال: إذا كانت أموالهم كما كانت أموال سلاطين السلف؛ مأخوذة من وجوهها (14) ، غير ممنوعة من مستحقها (15) . فأما اليوم؛ فالأخذ إما حرام وإما مكروه، والله تعالى أعلم.
وقوله: ((فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ))؛ أي: لا (16) تُعَلِّقْها (17) ، ولا تُطمِعْها فيه (18) ، فاذا فعلت (19) ذلك بها (20) سكنت ويئست. وهذا النهي على الكراهة يرشد إلى المصلحة التي =(3/90)=@
__________
(1) في (ح): ((متشرف)).
(2) في (ح): ((استشراف)).
(3) في (ي): ((مها)) بدل ((فيها)).
(4) في (ح) و(ز) و(س): ((الحالة)).
(5) في (ح): ((فإن من)).
(6) في (ح) و(ي): ((كذلك)).
(7) في (ز) و(س): ((ليس)) بلا واو.
(8) في (ز) و(س): ((هي)) بدل ((هو)).
(9) قوله: ((أنه)) ليس في (ز) و(س).
(10) قوله: ((هو)) ليس في (ح).
(11) من قوله: ((السلطان وغيره...)) إلى هنا سقط من (ز) و(س).
(12) كتب تعليقًا عليها في جانب الورقة [كذا في (ح) و(ز) و(س)].
(13) في (ح): ((فذكل)).
(14) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((وجهها)).
(15) في (ح) و(ز) و(س): ((مستحقيها)).
(16) قوله: ((لا)) سقط من (أ).
(17) في (ح): ((تعقها)).
(18) في (ح): ((في ذلك)).
(19) كتب تعليقًا عليها [كذا في (ح)].
(20) في (ز) و(س): ((بها ذلك))(3/90)
في الأعراض (1) .
والعُمَالة: ما يعطاه العامل على عمله، وهي الأجرة، وعَمَّلَني: أعطاني أجر عملي.
66- وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ السَّعْدِيِّ الْمَالِكِيِّ (2) أَنَّهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللهِ، فَقَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((فَكُلْ وَتَصَدَّقْ))؛ يحصل منه أنه حلال طيب، يصلح للأكل والتصدق وغيرهما. فأما ما لا يكون كذلك، فلا يصلح لشيء من ذلك كما تقدّم، وحديث عبد الله بن السعدي هذا فيه انقطاع، فإن (3) مسلمًا رواه (4) من حديث السائب بن يزيد عن ابن السعدي، وبينهما رجل، وهو: حويطب بن عبد العزى، قاله النسائي وغيره (5) .
وفي هذا الإسناد أربعة من الصحابة، يروي (6) بعضهم عن بعض: السائب (7) ، وحويطب، وعبد الله بن السعدي (8) .
والسعدي اسمه: قدامة. وقيل: عمرو، وهو قُرَشي عامري، مالكي من بني مالك بن حسل (9) .
وهذا الحديث أصل في أن كل من عمل للمسلمين عملاً من أعمالهم العامة: كالولاية، والقضاء (10) ، والحسبة، والإمامة (11) ، فأرزاقهم في بيت مال المسلمين، وأنهم يُعطون ذلك بحسب عملهم. =(3/91)=@
__________
(1) في (ح) و(ي) و(أ) و(ز) و(س): ((الإعراض)).
(2) أخرجه البخاري (3/337 رقم1473) في الزكاة، باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس، و(13/150 رقم7163) في الأحكام، باب رزق الحاكم والعاملين عليها...، ومسلم (2/723 رقم1045/110) في الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطى من غير مسألة ولا إشراف.
(3) في (أ): ((فإن كان)).
(4) في "صحيحه" (2/723 رقم1045 [أشير إلى هذا الرقم وكتب في جانب الورقة 111 – مكرر1045]) قال: وحدثني أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهب. قال عمرو: وحدثني ابن شهاب بمثل ذلك عن السائب بن يزيد، عن عبدالله بن السعدي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(5) كأبي علي ابن السكن، كما تقدم نقله في التعليق المتقدم، وقد ذكر الانقطاع المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (2/242)، والحافظ في "الفتح" (13/151- 152) قال: ((سقط من السند حويطب بن عبد العزى)).اهـ. قلت: وعلى القول بالانقطاع فى سند هذا الحديث، وأن السائب بن يزيد لم يسمعه من عبد الله بن السعدي؛ فإن الخبر صحيح ثابت بالإسناد المتصل كما عند البخاري (13/150). وأيضًا على القاعدة عند جمهور أهل الحديث في الاحتجاج بمراسيل الصحابة فلا إشكال في ذلك إن شاء الله تعالى.
(6) في (ز) و(س): ((روى)).
(7) في (ي): ((السائب بن يزيد)).
(8) كذا في النسخ؛ والرابع هو: عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(9) في (أ): ((حنبل)).
(10) في (ز) و(س): ((والقضاة)).
(11) قوله: ((الإمامة)) ليس في (س) ومكانها لحق ولم يظهر إلا ((وإلا)).(3/91)
***************
( 23 ) باب كراهية الحرص على المال والعُمر
67- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ؛ أَنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: طُولُ الْحَيَاةِ، وَحُبُّ الْمَالِ)).
68- وَعَنْ أَنَسٍ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ)).
69- وَعَنْهُ (3) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كراهية الحرص على المال والعمر
أحاديث هذا الباب كلها متواردة على الإخبار عمّا جُبِل الإنسان عليه؛ من حب المال، والحرص على البقاء في الدنيا، وعلى أن ذينك (4) ليسا بمحمودين؛ بل مذمومين، ويحقق (5) الذمّ في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويتوب الله على من تاب)). وقد نص الله تعالى على ذم ذلك في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (6) ؛ وغيره مما في معناه.
وقوله (7) صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة (8) غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف (9) لدينه))، وقد تقدّم: أن القراء في الصدر الأول كانوا (10) الفقهاء؛ لأنهم إنما (11) كانوا يتفقهون في القرآن، وحديث أبي موسى هذا يدلّ عليه. =(3/92)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (11/239 رقم6420) في الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، ومسلم (2/724 رقم1046/110) في الزكاة، باب كراهية الحرص على الدنيا.
(2) أخرجه البخاري (11/239 رقم6421) في الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، ومسلم (2/724 رقم1047/115) في الزكاة، باب كراهية الحرص على الدنيا.
(3) أخرجه البخاري ( 11/353 رقم6439) في الرقاق، باب ما يتقي من فتنة المال، ومسلم (2/725 رقم1048/116) في الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين من لابتغى ثالثًا.
(4) في (س): ((ذنيك)).
(5) في (س): ((وتحقق)).
(6) سورة البقرة؛ الآية: 96.
(7) في (ز) و(س): ((وكقوله)).
(8) في (أ): ((زيبة)).
(9) في (ز) و(س): ((والسرف)) بالسين المهملة.
(10) في (ح) و(ي) و(أ): ((هم كانوا)).
(11) قوله: ((إنما)) سقط من (ح). [تراجع في غير (ح)]. [وقد شطب هذا الهامش في الورق المطبوع](3/92)
70- وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ (1) ، أَنَهُ بَعَثَ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلاثُمَائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ، فَاتْلُوهُ وَلا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا؛ غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: ((لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ))، وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا؛ غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((وَلا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ (2) فَتَقْسُوَ (3) قُلُوبُكُمْ))؛ يعني به: لا تستطيلوا (4) مدة البقاء في الدنيا، فإن ذلك مفسد للقلوب بما يجرُّه (5) إليها من الحرص والقسوة، حتى لا تلين لذكر الله تعالى، ولا تنتفع بموعظة ولا زجر، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أَشَرَّ (6) ما أخاف (7) على أمتي اتباع الهوى، وطول الأمل، فاتباع الهوى يصدف (8) بقلوبكم عن الحق، وطول الأمل يصرف هممكم إلى الدنيا، وما بعدهما لأحد خير من دنيا (9) ولا آخرة)).
وقوله: ((كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كنا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا (10) ))، هذا ضرب من النسخ، فإن النسخ على مانقله علماؤنا على ثلاثة أضرب: =(3/93)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (2/725 رقم1048/116) في الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين من لابتغى ثالثًا.
(2) في (ز) (س): ((الأمر)).
(3) في (س): ((فتقسوا))، وفي (ز): ((ففقسوا)).
(4) في (ز) و(س): ((لا تستطيبوا)). [كتب في جانب الورقة تعليقًا عليها تراجع في (ح)]
(5) في (ح): ((يجر)).
(6) في (ز) و(س): ((أشدَّ)).
(7) في (ح) زيادة: ((عليكم)). شطب على هذا الهامش وكتب بجانبه [هي مضروب عليها فلا يلزم قيد الفرق]
(8) في (ح) و(ز): ((يصرف)).
(9) في (ز): ((الدنيا)).
(10) في (ز) و(س): ((وأنسيتها)).(3/93)
أحدها: نسخ الحكم وبقاء التلاوة.
والثاني: عكسه، وهو نسخ التلاوة وبقاء الحكم.
والثالث: نسخ الحكم والتلاوة، وهو كرفع هاتين السورتين اللتين ذكرهما (1) أبو موسى، فإنهما رُفِعَ حُكْمَهُما وتلاوتُهما. وهذا النحو من النسخ هو الذي ذكر الله تعالى حيث قال: {مَا نَنْسخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا (2) } (3) ؛ على قراءة من قرأها (4) بضم النون، وكسر السين. وكذلك قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ (5) فَلا تَنْسَى( إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ} (6) ، وهاتان السورتان مما (7) شاء الله تعالى أن يُنْسِيَه بعد أن أنزله، وهذا لأن الله تعالى فعال لما يريد، قادر على ما يشاء؛ إذ (8) كل ذلك ممكن.
ولا يتوهم متوهم من هذا وشبهه أن القرآن قد ضاع منه شيء، فإن ذلك باطل؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزْلَنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) ، وبأن إجماع الصحابة ومن بعدهم انعقد (10) على أن القرآن الذي تُعبدنا بتلاوته وبأحكامه هو ما ثبت (11) بين دفتي المصحف من غير زيادة ولا نقصان، كما قررناه في أصول الفقه (12) (13) .
وقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} (14) ، هو استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله (15) . أما في الماضي فيكون كذبًا (16) ، أو في المستقبل فيكون خُلفًا، وكلاهما مذموم. وهذا في قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (17) ، =(3/94)=@
__________
(1) في (أ) و(ي) و(ز) و(س): ((ذكر)).
(2) في (أ): ((أو ننساها)).
(3) سورة البقرة؛ الآية: 106.
(4) في (ح): ((قرأ)).
(5) في (ي): ((ستقرئك)).
(6) سورة الأعلى؛ الآية: 6.
(7) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): ((مما قد)).
(8) ما بين المعكوفين سقط من (أ). [وكتب في جانب الورقة تعليقًا عليها موجودة في (ح) و(ز) و(س)]
(9) سورة الحجر؛ الآية: 9.
(10) في (ز) و(س): ((اتفقوا)) بدل (((انعقد)).
(11) في (ي): ((هو ثابت)).
(12) قوله: ((في أصول الفقه)) ليس في (ز) و(س).
(13) يشير رحمه الله إلى كتابه في هذا الموسوم بـ"الجامع لمقاصد الأصول".
(14) سورة الصف؛ الآية: 2.
(15) في (ح): ((يفعل)). [كتب في جانب الصفحة تعليقًا عليها تراجع في (ز) ل/126/أ آخر سطر].
(16) في (ح) و(ي): ((كذابًا)).
(17) سورة الصف؛ الآية: 3.(3/94)
وأما في هذا الحديث، فإنما يتناول أن يخبر عن نفسه بشيء فعله (1) فيما مضى (2) ، ويتمدح به فقط، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ((فَتُكْتَبُ شَهَادَةً (3) فِي أَعْنَاقِكُمْ)).
**************
( 24 ) باب الغنى غِنَى النفس وما يخاف من زهرة الدنيا وفضل التعفف والقناعة
71- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (4) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب: الغنى غنى النفس
قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ))- بفتح العين (5) والراء -، وهو: حُطام الدنيا ومتاعها. فأما ((الْعَرْض))- بفتح العين وسكون الراء -، فهو: ما خلا العقار والحيوان وما (6) يدخله الكيل والوزن، هذا قول أبي عبيد في العَرَض والعَرْض. وفي كتاب "العين" (7) : ((العَرَض)): ما نيل (8) من الدنيا (9) ، ومنه قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} (10) ، وجمعه (11) : عُروض (12) .
ومعنى هذا الحديث: أن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح، هو غنى النفس، وبيانه: أنه إذا استغنت (13) (14) نفسه كفّت (15) عن المطامع، فعزّت (16) وعظمت، فحصل (17) لها من الحظوة والنزاهة والتشريف والمدح أكثر ممن كان غنيًا بماله، فقيرًا بحرصه وشرهه (18) ، فإن ذلك يورطه في رذائل الأمور، وخسائس الأفعال، لبخله ودناءة همّته، فيكثر ذامُّه من الناس، ويصغر قدره فيهم (19) ؛ فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل صغير. =(3/95)=@
__________
(1) في (ح): ((بعد)) بدلاً من ((فعله)).
(2) كذا في النسخ، والعبارة بهذا السياق غير واضحة المعنى، ولعل هناك سقطًا فتكون العبارة بشيء لم يفعله فيما مضى.
(3) في (ي): ((شهادته)).
(4) أخرجه البخاري ( 11/271 رقم6446) في الرقاق، باب الغنى غنى النفس، ومسلم (2/726 رقم1051) في الزكاة، باب ليس الغنى عن كثرة العرض.
(5) في (ي): ((الغين)).
(6) كتب في جانب الورقة تعليقًا عليها [كذا في (ح)].
(7) في (ي): ((الغين)).
(8) في (ي): يشبه أن يكون ((ما يسل)).
(9) قوله: ((من الدنيا)) سقط من (ح).
(10) سورة الأنفال؛ الآية: 67.
(11) في (ي): ((وجمله)).
(12) قوله: ((وجمعه عُروض)) ليس في (ز) و(س).
(13) في (ي): ((اتسعت)).
(14) في (ح): ((اتسعت)). شطب عليها [وكتب بجانبها تراجع في نسخة غير (ح)]
(15) في (ي): ((كف)). وكتب تعليقًا عليها في جانب الورقة [كذا في (ح)].
(16) في (ي): تشبه أن تكون: ((كعزت)).
(17) في (ز) و(س): ((فجعل)). وكتب تعليقًا عليها في جانب الورقة [تشبه أن تكون كذلك في (ح)]
(18) في (ح): ((تشرهه)).
(19) في (ز) و(س): ((بينهم)) وفي (ي): ((مهم)) كذا رسمت.(3/95)
72- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا. قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: ((بَرَكَاتُ الأَرْضِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ قَالَ: لا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلا بِالْخَيْرِ، لا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلا بِالْخَيْرِ، لا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلا بِالْخَيْرِ.
وَفِي رِوَايَةٍ ((أَوْ خَيْر هُوَ))، إِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبِطاً أَوْ يُلِمُّ إِلا آكِلَةَ الْخَضِرِ فَإِنَّهَا تَأْكُلُ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ ثُمَّ اجْتَرَّتْ. وَبَالَتْ وَثَلَطَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ. وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ المسْلِمِ هُوَ لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و((زَهْرَةِ الدُّنْيَا)): زينتها، وما يزهر منها، مأخوذ من زهرة (2) الأشجار، وهو ما يصفر من نَوَّارها. و((النوْر)): هو الأبيض منه (3) ، هذا (4) قول ابن الأعرابي. وحكى أبو حنيفة: أن النوْرَ والزهر سواء. وقد فسّرها صلى الله عليه وسلم: بأنها بركات الأرض؛ أي: ما تزهر به الأرض من الخيرات والخصب.
وقول السائل: ((وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟)) سؤال من استبعد حصول شرّ من شيء سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم[: ((بركات))، وسماه الله تعالى (5) ] (6) : {خيرًا}؛ في قوله تعالى: {وإنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (7) ، وشبهه مما سُمِّي فيه (8) المال (9) : خيرًا. فلما فهم (10) صلى الله عليه وسلم من سؤاله ذلك (11) الاستبعاد أجابه جواب من بقي عنده اعتقاد (12) : أن الخير الذي هو المال قد (13) يعرض له أن يحصل عنه شر؛ إذا تعدى به حده (14) وأسرف (15) فيه، ومنع من حقه، ولذلك قال: ((أَوْ خَيْر هُوَ؟ (16) )) بهمزة الاستفهام، وواو (17) العطف الواقعة بعدها المفتوحة على الرواية الصحيحة، منكرًا على من توهم أنه لا يحصل منه شر أصلاً، لا بالذات، ولا بالعرض.
وقوله: ((إِنَّ كُلَّ مَا ينْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبِطاً (18) أَوْ يُلِمُّ))، الربيع: الجدول الذي يسقى به. والجمع: أربعاء. والجدول: النهر الصغير، الذي ينفجر من النهر =(3/96)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (2/402 رقم621) في الجمعة، باب يستقبل الإمام القدم..، و(6/48 رقم2842) كتاب الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله، بنحوه، و(11/244 رقم6427) في الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، ومسلم (2/727 رقم1052/121، 123) في الزكاة باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا.
(2) في (ح): ((زهر)).
(3) في (ح): ((منها))ك أنه ضرب على الألف لتصبح ((منه)) [تراجع (ل23/أ) وفي (ي) سقط قوله: ((منه)).
(4) في (ح): ((وهذا)).
(5) قوله: ((الله تعالى)) ليس في (س).
(6) ما بين المعكوفين سقط من (ح) و(ي) و(ط).
(7) سورة العاديات؛ الآية: 8.
(8) في (ح): ((في)).
(9) في (ز) و(س): ((المال فيه)).
(10) في (ي): ((فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
(11) في (ح) و(ي): ((هذا)).
(12) في (ي): (بقي اعتقاده)).
(13) قوله: ((قد)) ليس في (ز) و(س).
(14) تراجع الكلمتان في (ح) (ل/23/أ).
(15) تراجع الكلمتان في (ح) (ل/23/أ).
(16) أخرجه بهذا اللفظ البخاري في "الجهاد" (6/48).
(17) في (ح): ((وواو)).
(18) في (ز): ((خبطًا)).(3/96)
الكبير. و((الحبط (1) )): الانتفاخ (2) ، يقال: حبطت (3) الدابة تَحْبط، إذا انتفخ بطنها من كثرة الأكل، وربما تموت من ذلك، وأصل الحبط (4) : الإبطال (5) والإفساد.
ومنه: {حبطت أعْمَالُهم (6) } (7) ؛ أي: بطلت.
و((يُلِمُّ))؛ أي: يقرب من الموت، وأصله: من ألم بالمكان؟ إذا نزل به. ومنه قول الشاعر:
متى تأتنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا
أي: تنزل. قال الأزهرى: هذا الخبر إذا بتر (8) لم يكد يُفهم (9) ، وفيه مثلان، ضُرب (10) أحدهما للمفرط في جمع (11) الدنيا ومنعها من حقها، وضرب الآخر للمقتصد في أخذها والانتفاع بها.
فأما قوله: ((وَإِنَّ مَمَا (12) يُنْبَتَ الرَّبِيعُ ممَا (13) يَقْتُلُ حَبِطاً))، فهو مثل المفرط (14) الذي يأخذها بغير حق؛ وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول والعشب، فتستكثر منها الماشية، حتى تنتفخ بطونها لما جاوزت حدّ الاحتمال، فتنشق (15) أمعاؤها وتهلك، وكذلك (16) الذي يجمع (17) الدنيا من غير حلها، ويمنع ذا الحقّ حقه، يهلك (18) (19) في الآخرة بدخوله النار.
وأما مثل المقتصد فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إِلا آكِلَةَ الْخَضِرِ (20) ...)) إلى آخره، وذلك أن الْخَضِر ليست من أحرار البقول التي ينبتها (21) الربيع، لكنها (22) من الْجَنْبَة (23) (24) التي ترعاها المواشي بعد هيج (25) البقول، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم آكلة الخضر من المواشي مثلا لمن =(3/97)=@
__________
(1) في (ز) و(ي): ((والخبط)).
(2) في (ي): ((الانقاخ)).
(3) في (ز): ((خبطت)).
(4) في (ز): ((الخبط)).
(5) في (س): تشبه ((لإيطال)).
(6) كتب تعليقًا عليها في أعلى الورقة [كذا في (ح) و(ز) و(س) و(أ)].
(7) سورة البقرة؛ الآية: 217، وآل عمران؛ الآية: 22، و المائدة؛ الآية: 53، و الأعراف؛ الآية: 147، وسورة التوبة؛ الآية: 17، 69.
(8) في (أ): ((أبتر)).
(9) كتب في جانب الورقة تعليقًا عليها [كذا في (ح)].
(10) في (ز) و(س): ((ضربا)).
(11) في (س): ((جميع)).
(12) في (س) و(ز): ((وإن ما)).
(13) في (ح) و(ي): ((ما)).
(14) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): ((للمفرط)).
(15) في (ح): ((فتشق)).
(16) في (ي): ((كذلك)) بلا واو.
(17) في (ح): ((جمع)).
(18) في (ز) و(س): ((فيهلك)).
(19) في (ح): ((ما)). [شطب على هذا الهامش وكتب بجانبه [تراجع في غير (ح)]
(20) في (ز): ((الخضير)) [وتراجع].
(21) كتب تعليقًا على هذه الكلمة في أعلى الورقة مهملة في (ز) [وتراجع].
(22) في (ح) و(ز) و(س): ((ولكنها)).
(23) في (ح) و(ز): ((الجنة))، وفي (س): ((الجبنة)).
(24) الْجَنْبَةُ: عامة الشجر التي تَتَرَبَّل في الصيف، أو ما كان بين الشجر والبَقْل. "القاموس" (89).
(25) الْهَيْج: ومنه قوله سبحانه: {ثم يهيج فتراه مصفرًا}، يقال: هَاجَ النبت هِيَاجًا؛ إذا يَبِس واصفَّر، وأهاجته الريح."النهاية" (5/286).(3/97)
يقتصد (1) في أخذه الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر، ألا تراه صلى الله عليه وسلم قال: ((فإنها إذا أصابت من الخضر استقبلت عين الشمس، فثلطت (2) وبالت))؛ أراد (3) أنها إذا شبعت منها بركت مستقبلة الشمس؛ لتستمريء بذلك ما أكلت، وتجتر، وتثلط، وإذا ثلطته (4) فقد زال عنها الحبط (5) ، وإنما تحبط (6) الماشية لأنها لا تثلط، ولا تبول. هذا آخر كلام الأزهري (7) .
و((الثلط)): ما (8) تلقيه الماشية سهلاً رقيقًا، يقال منه: ثَلَطَ يثْلط ثلطًا.
و((اجترت))؛ أي: مضغت جرتها، وهو ما أخرجته من جوفها إلى فمها مما رعته. و((الْخَضِرِ)): كلأ الصيف. قال الأزهري: هو هنا ضرب من الْجَنْبة (9) . وهي من الكلأ ماله أصل غامض في الأرض، واحدتها خضرة.
ووقع في رواية العذري: ((إلا آكلة (10) الخَضِرة (11) - بفتح الخاء، وكسر الضاد - على الإفراد. كما قال الأزهري. وعند الطبري: الْخُضْرَة: بضم الخاء، وسكون الضاد. والرواية الصحيحة: ((إلا آكلة (12) الخضرة)) بـ((إلا)) المشددة (13) ، للاستثناء (14) ، وهو الواضح. ووقع لبعضهم: ((ألا))، التي للاستفتاح، وبُعْدُها واضح، وفيها تكلُّف.
وقوله: ((وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (15) ))؛ يحتمل البقاء على ظاهره، وهو أنه يجاء بماله (16) يوم القيامة فينطق الصامت منه بما فعل فيه، أو يمثل له أمثال حيوانات، كما جاءت (17) في مال مانع الزكاة من أنه يمثل له(4) شجاعًا أقرع(5)، أو يشهد عليه الموكلون بكتب الكسب والإنفاق وإحصاء ذلك، والله تعالى أعلم (18) . =(3/98)=@
__________
(1) في (ي): ((اقتصد)).
(2) في (أ): ((فتلطت)).
(3) أشير إليها بسهم في جانب الورقة وكتب [تراجع في (أ)].
(4) في (ح) و(ز) و(س): ((ثلطت)).
(5) في (ز): ((الخبط)).
(6) في (س): ((تخبط)).
(7) "تهذيب اللغة" (7/100).
(8) قوله: ((ما تلقيه)) غير واضحة في (ز) [وتراجع].
(9) في (س): ((الخببة)).
(10) في (ز): ((إلا كلة)).
(11) في (أ): ((الخَضِر)).
(12) في (أ): ((آكلته)).
(13) في (أ): ((المشدودة)).
(14) في (س): ((للانشاء)) ولم تتضح في (ز).
(15) جاءت هذه الجملة من الحديث عند البخاري (3/327)، (6/48).
(16) في (ي): ((يجاء به يوم)).
(17) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): ((جاء)). ... ... ...
(4) في (ح) و(ي) و(ز): ((له ماله)).
(5) تقدم سياق حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في ذلك، وقد شرحه المصنِّف رحمه الله.
(18) قوله: ((والله تعالى أعلم)) ليس في (أ).(3/98)
73- وَعَنْهُ (1) ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، قال: ((مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ))؛ أي: عن السؤال للخلق.
((يُعِفَّهُ (2) اللهُ))؛ أي: يجازه على استعفافه بصيانة وجهه، ورفع فاقته.
وقوله: ((وَمَنْ (3) يَسْتَغْنِ))؛ أي: بالله، وبما أعطاه.
((يُغْنِهِ))؛ أي: يخلق في قلبه غنىً، أو يعطيه (4) ما يستغنى به عن الخلق.
وقوله: ((ومن يتصبر))؛ أي: يستعمل الصبر.
و ((يُصَبِّرْهُ)): يقويه (5) ، ويمكنه من نفسه حتى تنقاد (6) له، وتذعن لتحمّل الشدائد، وعند ذلك يكون الله معه، فيظفره بمطلوبه، ويوصله إلى مرغوبه.
74- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (7) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا))؛ قد قدّمنا بيان الفلاح ما (8) هو لغةً وعرفًا في كتاب الإيمان (9) .
و((الكَفَاف)): ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يلحق بأهل الترفهات.
ومعنى هذا الحديث: أن (10) من فعل تلك الأمور، واتصف بها، فقد حصل على مطلوبه، وظفر بمرغوبه في الدُّنيا والآخرة. =(3/99)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/335 رقم1469) في الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، ومسلم (2/729 رقم1053) في الزكاة، باب فضل التعفف والصبر.
(2) قوله: ((يعفه الله)) مكرر في (ي).
(3) في (س) و(ز): ((من)) بلا واو.
(4) في (ح): ((يعطه)).
(5) في (ح) و(ز) و(س): ((يقوِّه))، وفي (ي): ((بقوة)).
(6) في (أ): ((ينقاد)).
(7) أخرجه مسلم (2/730 رقم1054) في الزكاة، باب في الكفاف والقناعة.
(8) في (ي): ((مما)).
(9) "المفهم" (1/111) كتاب الإيمان، باب وجوب التزام شرائع الإسلام.
(10) قوله: ((أن)) ليس في (ز).(3/99)
75- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((اللهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((اللهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا))؛ أي: ما يقوتهم ويكفيهم، بحيث لا يشوشهم الجهد (2) ، ولا تُرهقهم الفاقة، ولا تذلهم المسألة والحاجة، ولا يكون أيضًا (3) في ذلك فضول يخرج إلى الترف والتبسط في (4) الدنيا، والركون إليها.
وهذا يدل على زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وعلى تقلله منها، وهو حجة لمن قال: إن الكفاف أفضل من الفقر والغنى. وقد تقدم القول في هذه المسألة في كتاب الصلاة، ويأتي (5) (6) .
*************
( 25 ) باب إعطاء السائل ولو أفحش في المسألة
76- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (7) قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا فَقُلْتُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَغَيْرُ هَؤُلاءِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ قَالَ: إِنَّهُمْ خَيَّرُونِي بَيْن أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أَوْ يُبَخِّلُونِي فَلَسْتُ بِبَاخِلٍ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إعطاء السائل ولو أفحش في المسألة
قوله: ((قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا))، كذا رويناه بفتح القاف، وهو المصدر، ومعناه (8) : فعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل القسم، والقسم بالكسر: الحظ والنصيب، وهو غير مراد هنا، فإنه لم يقسم نصيب (9) أحد، وإنما فعل القسم في المقسوم. =(3/100)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (11/283 رقم6460) في الرقاق، باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، ومسلم (2/730 رقم1055) في الزكاة، باب في الكفاف والعفاف.
(2) كتب في جانب الورقة تعليقًا على هذه الكلمة [تراجع في (س)].
(3) في (ح) و(ز) و(س): ((أيضًا في ذلك)).
(4) من قوله: ((المسألة والحاجة...)) إلى هنا سقط من (ي).
(5) في (س): ((وستأتي)).
(6) في كتاب الإمارة، باب في جواز ترك الاستخلاف.
(7) أخرجه مسلم (2/730 رقم1056) في الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة.
(8) في (ي): ((معناه)) بلا واو.
(9) في (ي): ((نصب)).(3/100)
وقوله: ((إِنَّهُمْ خَيَّرُونِي...))، إلى آخره؛ معناه: إنهم ألَحُّوا عليَّ (1) في المسألة، واشْتَطُّوا في (2) المسؤول (3) ، وقصدوا (4) بذلك أحد شيئين؛ إما أن يصلوا إلى ما طلبوه، أو (5) ينسبوه إلى البخل، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم ما يقتضيه كرمه من إعطائهم (6) ما سألوه، وصبره على جفوتهم، فسلم من نسبة (7) البخل إليه؛ إذ لا يليق به، وحلم عنهم كي يتألفهم.
وكأن عمر رضي الله عنه عتب عليه في ذلك، نظرًا (8) إلى أن (9) أهل الدّين، والعَنَاء (10) فيه أحق بالمعونة عليه، وهذا هو الذي ظهر لسعد بن أبي وقاص (11) ، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بمصالح أخر لم تخطر لهم، هي أولى مما ظهر لهم.
77- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ جَبَذَهُ إِلَيْهِ جَبْذَةً رَجَعَ نَبِيُّ اللهِ فِي نَحْرِ الأَعْرَابِيِّ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَجَاذَبَهُ حَتَّى انْشَقَّ الْبُرْدُ وَحَتَّى بَقِيَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ))؛ أي (12) : من عمل أهل نجران (13) ، وهذا يدل على إيثاره صلى الله عليه وسلم التقلُّل (14) من الدنيا والتبلُّغ (15) فيها بما أمكن في (16) اللباس والمطعم وغيره، وأنه لم يكن بالذي يترفه في الدنيا، ولا يتوسع فيها.
وهذا الحديث يدل على ما وصف الله به تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم من أنه على خلق عظيم، وأنه رؤوف رحيم. فإن هذا الجفاء العظيم الذي صدر من هذا الأعرابي، لا يصبر عليه، ولا يحلم عنه مع القدرة (17) إلا مثله، ثم ضحكه صلى الله عليه وسلم عند (18) هذه الجبذة =(3/101)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((عليه)).
(2) في (ي): ((فيها)).
(3) في (ز) و(س): ((واشنطوا بالمسؤول)).
(4) في (س): ((وقعدوا)).
(5) في (ي): ((وأوينسبوه)).
(6) في (ز): ((من عطائهم))، وفي (س): فيها طمس وتشبه: ((عطائهم)).
(7) في (ح): ((نسبه إلى البخل إليه)).
(8) في (ز) و(س): ((نظر إلى)).
(9) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(10) في (ز) و(س): ((والغنا)).
(11) ينقل التخريج ص932.
(12) قوله: ((أي)) سقط من (ح) و(ي).
(13) قال ابن الأثير في"النهاية" (1/235): ((الْجَبْذُ لغة في الجذب، وقيل: هو مقلوب)). وقال النووي في "المنهاج" (7/147): ((يقال: جبذ وجذب لغتان مشهورتان)).اهـ.
(14) في (أ): ((التقليل)).
(15) [أشير بسهم وكتب تعليقًا على كلمة (التبلغ) تراجع في (ز)].
(16) في (ح): ((والتبليغ فيها من)).
(17) في (ح): ((ولا يحلم مع القدرة عليه))، وفي (ي): ((القدرة عليه)).
(18) في (ز) و(س): ((عن)).(3/101)
الشديدة التي انشق البُرد لها، وتأثر عنقه (1) بسببها، حتى انقلب عن وجهته، ورجع (2) إلى نحر (3) الأعرابي؛ دليل على أن الذي تَمَّ له من مقام الصبر والحلم ما تم لأحد، وهذا نظير صبره وحلمه يوم أحد؛ حيث كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وصرع على جنبه، وهو في هذا الحال يقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (4) ، صلى الله عليه وسلم، وشرّف وكرّم (5) .
************
( 26 ) باب إعطاء المؤلفة قلوبهم
78- عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ (6) قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْه شَيْئًا قَالَ: فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ فَخَرَجَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ، وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ وَهُوَ يَقُولُ: ((خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقال: ((رَضِيَ مَخْرَمَةُ)).
وَقَدْ تَقَدَمَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إَنِي لأُعْطِي الرَجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَُ فِي النَارِ عَلَى وَجْهِه)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إعطاء من يخاف على إيمانه
قوله: ((قَدِمَتْ أَقْبِيَةٌ، فَقَالَ أَبِي: انْطَلِقْ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْه شَيْئًا))؛ كذا وقع في (7) رواية: ((مِنْه)) بضمير الواحد، وكأنه عائد على نوع الأقبية في المعنى. ووقع في رواية (8) =(3/102)=@
__________
(1) في (ح): ((العنق)).
(2) قوله: ((ورجع)) سقط من (ي).
(3) في (س) و(ي) و(أ): ((نحو)). وكتب تعليقًا على كلمة (نحر) [تراجع في ز)]
(4) جاء هذا الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه حكاية عن نبي من الأنبياء صلى الله عليه وسلم شجه قومه، فقال ذلك عنهم، وقد تأول المصنف ذلك أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأنه هو الحاكي والمحكي، كما في "المفهم" كتاب الجهاد، باب في اقتحام الواحد العدو، وذكر غزوة أحد وما أصاب فيها النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري (6/514 رقم 3477) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (54)، ولفظه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلي النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )، و(12/282 رقم 6929) كتاب استتابة المرتدين، باب (5)، ومسلم (3/ 1417 رقم 1792/105) كتاب الجهاد، باب غزوة أحد.
وجاء الحديث حكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سهل بن سعد؛ أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (6/287 رقم2488)، والآجري في "الشريعة" (2/282 رقم1061/633)، والطبراني في "المعجم الكبير"(6/120 رقم5694)، وابن حبان(3/254 رقم973/الإحسان).
كلهم من طريق محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))، وزاد الآجري، والطبراني: ((يوم أحد)). وإسناده حسن.
(5) زاد بعدها في (ز): ((وعظّم وبَجّل والله أعلم)).
(6) أخرجه البخاري (5/222 رقم2599) في الهبة، باب كيف يقبض العبد والمتاع، بنحو الرواية الثانية، و(5/264 رقم2657) كتاب الشهادات، باب شهادة الأعمى وأمره ونكاحه وإنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره... بلفظه، و(6/226 رقم3127) كتاب فرض الخمس، باب قسمة الإمام ما يَقْدم عليه، ويخبأ لمن لم يحضره أو غاب عنه، (10/314 رقم5862) في اللباس، باب المزرّر بالذهب، بنحوه، ومسلم (2/731 رقم1058) في الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة، ومسلم (2/730 رقم1057 /128) في الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة.
(7) في (ح): ((من)).
(8) من قوله: ((منه بضمير الواحد...)) إلى هنا سقط من (ي).(3/102)
أخرى: (منها) وهي الظاهرة (1) .
و((الأقبية)): جمع قباء، وهو فارسي معرَّب، وقيل: هو (2) عربيّ، واشتقاقه: من القبو، وهو الضمُّ والجمع (3) . حكاه أبو الفرج الجوزي عن شيخه أبي منصور اللغوي.
وقوله: ((حين أفاء الله))؛ أي ردّ ورجع، والفيء: الرجوع، ومنه سُمّي الظل بعد الزوال: فيئًا؛ لأنه رجع من جانب المغرب إلى جانب المشرق.
وكأن الأموال التي بأيدي الكفار كانت بالأصالة للمؤمنين، إذ الإيمان هو (4) الأصل، والكفر طارىء عليه، فغلب الكفار على تلك الأموال، فإذا غنم المسلمون منها شيئًا رجعت إلى (5) من كان يملك أصلها (6) .
79- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (7) ، أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَحُدِّثَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ ؟)) فَقَالَ لَهُ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ: أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ قَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِهِ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالاً حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَفَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللهِ؟ فَوَاللهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ)). فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ! قَدْ رَضِينَا، قال: ((فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ)) قَالُوا: سَنَصْبِرُ.
وَفِي رِوَايَةٍ:جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَنْصَارَ فَقَالَ: ((أَفِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ؟)) فَقَالُوا: لا إِلا ابْنُ أُخْتٍ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ))، فَقال: ((إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ)).
وَفِي أُخْرَى: فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَقَسَمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ فَنَحْنُ نُدْعَى وَتُعْطَى الْغَنَائِمُ غَيْرَنَا، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ، فَقَالَ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ وَذَكَرَ نَحْوِ مَاتَقَدَمْ.
80- وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ (8) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الْغَنَائِمَ فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّ الأَنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ: ((قَالَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللهُ بِي؟)) وَيَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. فَقال: ((أَلا تُجِيبُونِي؟)) فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ فَقَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا كَذَا وَكَذَا وَكَانَ مِنَ الأَمْرِ كَذَا وَكَذَا لأَشْيَاءَ عَدَّدَهَا. زَعَمَ عَمْرٌو أَنْ لا يَحْفَظُهَا. فَقال: ((أَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالإِبِلِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ. إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم))؛ أي: جعل، وهي من أخوات ((كاد)) (9) ، إلا أنها =(3/103)=@
__________
(1) عند مسلم (2/732): منها، وكذا عند البخاري (5/264).
(2) قوله: ((هو)) سقط من (ي).
(3) قال القاضي فى "المشارق" (2/170): ((والأقيبة: ثياب ضيقة من ثياب العجم معلومة)). ونقل الحافظ في "الفتح" (10/269) عن المصنف قوله: ((القباء ثوب ضيق الكمين والوسط، مشقوق من خلف، يلبس فى السفر والحرب لأنه أعون على الحركة)). اهـ.
(4) في (ح): ((هي)).
(5) في (ح): ((إلى نوع)).
(6) في (س): ((يملكها))، وفي (ي): يشبه أن تكون ((أصلهما)).
(7) أخرجه البخاري (6/250 رقم3146) في فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، و(8/52 رقم4331) في مناقب الأنصار، باب غزوة الطائف..، ومسلم (2/733 رقم1059) في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه.
(8) أخرجه البخاري (8/47 رقم4330) في المغازي، باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، بنحوه، ومسلم (2/738 رقم1061) في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتعبد من قوى إيمانه.
(9) في (ح): ((كان)).(3/103)
متصلة بالفعل الذي هو خبرها، و((كاد)) مقاربة (1) مفارقة. وقد تقدم الكلام عليها. و((الأدم)): الجلد.
وقوله: ((فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً))، روي عن العذري (2) والطبري، وهي روايتنا: ((أَثَرَة))- بفتح الهمزة والثاء. قال أبو عبيد: أي: يُسْتَأْثر عليكم فيفضل غيركم نفسه عليكم في الفيء (3) . والأثرة: اسم من: آثر يؤثر إيثارًا. قال الأعشى (4) :
استأثر الله بالبقاء وبالعدل ... وولى الملامة الرجلا =(3/104)=@
__________
(1) يراجع في الأصل، معل يكتب الشر أم لا (ص942).
(2) في (ح): ((العدوي)).
(3) في (أ) و(ح): ((الغنى)).
(4) الرواية المشهورة: ((استأثر الله بالوفاء...))، انظر "مختار الشعر الجاهلي" (2/238)، وذكره عنه أبو عبيد الهروي في "الغريبين"(1/15).(3/104)
وقال: سمعت (1) الأزهري يقول: الأثرة (2) : الاستئثار. والجمع: الأُثُر (3) . وعند أبي بحر في هذا الحرف بضم الهمزة وسكون الثاء (4) . وأصل الأثرة: الفضل. قال أبو عبيد: يقال: له عليّ أثرة (5) ؛ أي: فضل، ومعناها قريب من الأولى (6) . وقيد علي أبي الحسين (7) بن سراج بالوجهين.
و((الوادي)): مجرى الماء (8) . و((الشعب)): الطريق في الجبل. و((الشعار)): الثوب الذي يلي (9) الجسد. و((الدثار)): الذى يلي الشعار. ومعناه: أن الأنصار هم خاصته صلى الله عليه وسلم وبطانته، وليس كذلك غيرهم.
و((الطُلَقاء)): هم الذين =(3/105)=@
__________
(1) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((قال: وسمعت)).
(2) في (ي): ((الإثرة)) كذا رسمت.
(3) في (ي): ((الإثر)).
(4) أشير لها بسهم في جانب الصفحة وكتب [تراجع في (أ)].
(5) في (ي): ((أثرة بضم الهمزة أي)).
(6) في (ز) و(س): ((الأول)).
(7) في (أ): ((أبي الحسن)).
(8) في (ز) و(س): ((الماء المتسع)).
(9) قوله: ((يلي)) ليس في (ز).(3/105)
مَنَّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلَّى سبيلهم (1) يوم فتح مكة (2) . وأصله: أنه أطلقهم، بعدما (3) حصلوا في وثاقه (4) .
وقوله: ((وَلَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ))؛ أي: أتسمى (5) باسمهم، وأنتسب إليهم، كما كانوا يتناسبون بالحلف. لكن خصوصية الهجرة ومرتبتها سبقت وعَلِقَت، فهي أعلى وأشرف، فلا تبدل بغيرها، ولا ينتفي منها من حصلت له. =(3/106)=@
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(2) يراجع في الأصل (ص946) لأن هناك إشارة صح في الحاشية على قوله: ((فتح مكة)).كذا في (ح)
(3) في (ز): ((بعد أن)) بدل ((بعد ما)).
(4) قال القاضي في "المشارق" (1/319): الطُّلقاء - بفتح اللام ممدود -، جمع طليق، يقال ذلك لمن أطلق من أسار وثقاف، وبه قيل لِمُسْلمة الفتح: الطلقاء لِمَنِّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم.اهـ. وانظر "النهاية" (3/136)، "الإكمال (3/602)، "المنهاج"(7/153)، "الفتح"(8/48).
(5) في (ز) و(س): ((أسمى)).(3/106)
وقول القائل في قسمة النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذه قسمة ما أريد بها وجه الله (1) ، أو: ما عدل فيها))؛ قول جاهل بحال النبي صلى الله عليه وسلم، غليظ الطبع، حريص (2) ، شره، منافق. وكان حقه أن يُقتل؛ لأنه آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ، وقد قال الله (4) تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) ، فالعذاب (6) في الدنيا هو: القتل، لكن لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم للمعنى الذي قاله، وهو من حديث جابر: ((لا (7) يتحدّث (8) الناس: أن محمدًا يقتل أصحابه))، ولهذه العلة امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين، مع علمه بأعيان كثير منهم، وبنفاقهم. ولا يلتفت لقول من قال بإبداء علة أخرى؛ لأن حديث جابر وغيره نصٌّ في تلك العلة، وقد أُمِنت تلك العلة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفاق بعده، وإنما هو الزندقة، كذلك قال مالك - رحمه الله (9) -، فمن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سبّه قتل ولا يستتاب، وهذا هو الحق والصواب.
واختلف في هذا العطاء الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء (10) المؤلفة قلوبهم. هل كان من الخمس، أو كان من صلب الغنيمة؟ والأحرى (11) على أصول الشريعة أن يكون من الخمس، ومنه أكثر عطاياه صلى الله عليه وسلم (12) . وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم)) (13) .
والظاهر من (14) مراجعة الأنصار، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاء (15) والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم (16) إلى رحالكم))؛ أنه (17) كان من صلب الغنيمة، وأن ذلك إنما كان لما يعلم (18) من رضى أصحابه بذلك، ولطيب قلوبهم به، أو يكون هذا مخصوصًا بتلك الواقعة، وله أن يفعل ما شاء في الأموال والرقاب.
والأصل: التمسك بقواعد الشريعة على ما تقررت، والله تعالى أعلم. =(3/107)=@
__________
(1) أشير لها بسهم وكتب [تراجع في (ر)].
(2) أشير لها بهامش وكتب [تراجع].
(3) في (ي): ((اذى النبي صلى الله عليه وسلم)).
(4) قوله: ((الله)) ليس في (ز) و(س).
(5) سورة التوبة، الآية: 61، وفي (أ) و(ح): {والذين يؤذون الله ورسوله} .
(6) في (ح) و(ي): ((والعذاب)).
(7) أشير لها بهامش في جانب الصفحة وكتب [والمثبت يوافق الحديث الذي أخرجه الترمذي برقم (3315) من حديث جابر].
(8) في (ح) و(ي): يشبه أن تكون: ((ألا ليحدث))، وفي (أ) و(ز) و(س): ((ألا يتحدث)).
(9) قوله: ((رحمه الله)) ليس في (أ).
(10) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((لهؤلاء)).
(11) في (ز) و(س): ((والأجرا)) كذا رسمت، وفي (ح) تشبه أن تكون ((الأحرى))، وفي (أ) و(ي): ((والأجرى)).
(12) صوب هذا الوجه القاضى في "الإكمال" (3/599) وقال: ((والمعروف من الأحاديث الأخرى أن إعطاءه صلى الله عليه وسلم لمن أعطاه، إنما كان من الخمس)).اهـ. واختاره أبوعبيد في كتاب "الأموال" (235)، وكذا ابن زنجويه في كتاب "الأموال" (2/703)، وساق الحافظ في "الفتح" (8/48) قول المصنف وتعقبه، فقال: ((قلت: الأول هو المعتمد - يعني أن هذا العطاء كان من صلب الغنيمة -، وسيأتى مايؤكده، والذي رجحه القرطي جزم به الواقدي، ولكنه ليس بحجة إذا انفرد فكيف اذا خالف)). اهـ.
(13) هذا اللفظ من الحديث جاء عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ منهم عمرو بن عبسة
والعرباض بن سارية وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعًا.
فأما حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه ، فأخرجه أبو داود (رقم2755) كتاب الجهاد، باب في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه، ولفظه: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: ((ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا، إلا الخمس، والخمس مردود فيكم))، والحاكم في "المستدرك" (3/616-617) كتاب معرفة الصحابة. وإسناده صحيح.
(14) في (ز) و(س): ((من هذا)).
(15) في (ز) و(س) و(ي): ((بالشاة)).
(16) أشير لها في جانب الصفحة وكتب [تراجع، موجودة في (ح) و(ز)].
(17) في (ز) و(س): ((وأنه)).
(18) في (س): ((للعلم)).(3/107)
81- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ مَسْعُودٍ (1) : لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ. وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللهِ. قَالَ فَقُلْتُ: وَاللهِ لاُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ قال: ((فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ؟)) ثُمَّ قال: ((يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ)) هو بكسر الصاد، وهو صبغ أحمر تصبغ (2) به الجلود، وقد يسمى (3) الدم: صرفًا، قاله ابن دريد.
*************
( 27 ) باب يَجِبُ الرضا بما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أعطى ويكفر من نَسبَ إليه جَوْرَاً وذكر الخوارج
82- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (4) قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ. وَفِي ثَوْبِ بِلالٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِي النَّاسَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ. فَقال: ((وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ))، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ. فَقال: ((مَعَاذَ اللهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب يجب (5) الرضا بما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما حكم
((الْجِعْرَانَةِ)): موضع خارج مكة، وهو ميقات من مواقيت العمرة (6) ، يقال: بكسر العين وتشديد الراء، وبسكون العين وتخفيف الراء.
و((مُنْصَرَفَهُ))- بفتح الراء -: وقت (7) انصرافه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لَقَدْ خِبْتَ (8) وَخَسِرْتَ))؛ رويت (9) بضم التاء وفتحها. فأما الضم، =(3/108)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (6/251 رقم3150) في فرض الخمس، باب ماكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (2/739 رقم1062) في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتعبد من قوى إيمانه.
(2) في (س): ((يصبغ)).
(3) في (س): ((سمى)). وأشير لها بسهم وكتب [تراجع في (أ)].
(4) أخرجه البخاري(6/238 رقم3138) في فرض الخمس، باب ومن الدليل على الخمس لنوائب المسلمين...، ومسلم (2/740رقم1063) في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم.
(5) في (ز) و(س): ((تجب)).
(6) أي من مواقيت العمرة لأهل مكة، ومن جاورها، لأن المكي يحرم بالعمرة من الحل، من أي جوانب الحرم شاء، وهي من الحل القريب من الحرم، وقد أحرم منها النبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من الطائف، ومن ثم استحب بعض أهل العلم لأهل مكة ومن جاورها أن يكون إحرامهم بالعمرة من الجعرانة. انظر "صحيح البخاري" مع "الفتح" (3/600)، و"المغني" (3/210)، و"معجم البلدان" (2/142).
(7) في (ح) و(ي): ((يعني وقت))، وفي (س): ((أي وقت)).
(8) في (ز): ((حيت)).
(9) في (ح): ((رويته)).(3/108)
فمعناه واضح. وأما الفتح: فعلى معنى: إني إن جُرت، فيلزم أن تجور أنت من جهة أنك مأمور باتباعي، فتخسر باتباعك (1) الجائر، هذا معنى ما قاله الأئمة (3).
قال الشيخ رضي الله عنه: ويظهر لي وجه آخر، وهو أنه كأنه قال (2) : لو كنتُ جائرًا لكنت أنت أحق الناس بأن يجار عليك (3) ، وتلحقك (4) بادرة الجور الذي صدر عنك، فتعاقب عقوبة معجلة في نفسك ومالك وأهلك (5) ، تخسر كلَّ ذلك بسببها، لكن العدل هو الذي منع من ذلك. وتلخيصه: لولا امتثال أمر الله تعالى في الرفق بك؛ لأدركك الهلاك والخسارة (6) .
83- وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ (7) ، أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَسَأَلاهُ عَنِ الْحَرُورِيَّةِ: هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُهَا؟ قَالَ: لا أَدْرِي مَنِ الْحَرُورِيَّةُ وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ - وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهَا - قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ، وصِيَامِكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، فَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُوقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ. هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَيْءٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و((يَمْرُقُونَ)): يخرجون، كما قد فسّره (8) في الحديث الآخر (9) ، وبهذا اللفظ سُمُّوا: المارقة والخوارج؛ لأنهم مرقوا عن (10) الدين، وخرجوا على خيار المسلمين. والخوارج: جمع خارجة؛ يعني به: الطائفة والجماعة.
و((الرَّمِيَّةِ)): المرمية، فعيلة؛ بمعنى مفعولة.
و((الحناجر)): الحلوق، جمع حنجرة، وهي الحلاقيم (11) أيضًا.
و((الضِئْضِئِ))- بضادين معجمتين-، وهو: الأصل، وله أسماء كثيرة: النَّجَار (12) ، والنَحاز (13) ، والسِّنْخ (14) ، والعنصر، والعيص، وغير ذلك مما ذكره (15) اللغويون.
ومعنى: ((لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)): لا يفهمونه، ولا يعملون بمعناه (16) .
((ونصل السهم)): حديدته، و((رصافه)): مدخل السهم في النصل. و ((نضيه (17) )): قدحه، وهو عوده. و ((قذذه (18) )): ريشه، جمع قُذَّة (19) . و ((فُوقه)): هو الْحَزّ الذي يدخل فيه الوتر. =(3/109)=@
__________
(1) في (ح): ((باتباع)).
(2) في (ز) و(س): ((قال له لو)).
(3) في (ز) و(س): ((عليه)).
(4) في (ح): ((وتلفحك))، وفي (ز): ((ويلحقك)).
(5) قوله: ((وأهلك)) سقط من (ح) و(ي).
(6) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): ((والخسار)). [وتراجع في (س)]
(7) أخرجه البخاري (6/376 رقم3344) في الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وإلى عاد أخاه هودًا قال ياقوم اعبدوا الله}، و(9/99 رقم5058) في فضائل القرآن، باب إثم من راءى بالقرآن أو تأكل به، ومسلم (2/743 رقم1064/147) في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم.
(3) نحو هذا قال المازري في "المعلم" (2/24) والقاضى في "الإكمال" (3/608)، وقال النووي في "المنهاج" (7/159): ((الفتح أشهر)).اهـ.، وقال العيني (13/206): ((والفتح أشهر وأوجه)).اهـ. وصوّب ابن القيم الفتح، وخطأ الضم، حيث قال في "تهذيب السنن" (7/149): ((والصواب في هذا فتح التاء من ((خبت وخسرت))، والمعنى أنك إذن خائب خاسر، إن كنت تقتدي في دينك بمن لا يعدل وتجعله بينك وبين الله، ثم تزعم أنه ظالم غير عادل، ومن رواه بضم التاء لم يفهم معناه هنا».اهـ. وانظر "الفتح" (6/243).
(8) في (س): ((كما فسّره)).
(9) يشير إلى حديث أبي سعيد الخدري المتقدم.
(10) في (ز) و(س): ((من)) بدل ((عن)).
(11) في (ز) و(س): ((الحلاقم)).
(12) في (أ): ((اليخار)).
(13) في (ح): ((النجاز)). [تراجع في (أ)]
(14) أشير لها بسهم وكتب [تراجع في (س)].
(15) في (ز) و(س): ((ذكر اللغويون)). وأشير لها بسهم وكتب [جميع النسخ].
(16) في (ح): ((معناه)).
(17) في (ز) و(س): ((ونضبه)).
(18) في (ز) و(س): ((وقذده))، وفي (ي)): ((قدده)).
(19) في (ي): ((قدة)).(3/109)
و ((العقبة))، التي تجمع الفوق (1) هي: الأُطْرَة.
قال ابن قتيبة: الرُّعْظُ (2) : مدخل النصل في السهم. والرصاف: العقب الذي فوق الرُّعظ (3) . قال الهروي: والرَّصَفَةُ: عقبة تلوى على مدخل النصل في السهم (4) .
قال الشيخ رحمه الله: ومقصود هذا التمثيل: أن هذه الطائفة خرجت من دين الإسلام، ولم يتعلَّق بها منه شيء، كما خرج هذا السهم من هذه المرمية (5) ، الذي لشدَّة النزع، وسرعة (6) السهم، سبق خروجُه خروج الدم، بحيث لا يتعلق به شيء ظاهر، كما قال: سبق الفرث والدم.
وبظاهر هذا التشبيه تمسّك من حكم بتكفيرهم من أئمتنا (7) ، وقد توقف في تكفيرهم كثير من العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وتَتَمَارَى فِي الْفُوقَ (8) ))، وهذا يقضي (9) بأنه يشك في أمرهم فيتوقف فيهم، وكأن القول الأول أظهر من الحديث.
فعلى القول بتكفيرهم يُقاتَلون ويُقتلون، وتُسبى أموالُهم، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج. وعلى قول من لا يكفرهم: لا يُجْهز على جريحهم، ولا يتبع (10) منهزمهم، ولا يُقتل أسراهم، =(3/110)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((القرن)).
(2) في (ز) و(س): ((الرُّعْط)).
(3) في (ز) و(س): ((الرُّعْط)).
(4) في (ز): ((على مدخل السهم في النصل)).
(5) في (ح): ((الرمية)).
(6) في (ي): ((وشدة)).
(7) اتفقت الأمة علي ذمّ الخوارج وتضليلهم، لكن تنازعوا في تكفيرهم - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (28/518) على قولين مشهررين في مذهب مالك والشافعي وأحمد، وقال رحمه الله تعالى (28/500-501): ((والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضًا...، لكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له)).اهـ.
(8) في (ز): تشبه أن تكون: ((في المقوف)). و[تراجع]
(9) في (ز): ((يفضي))، وفي (ي): ((يقتضي)).
(10) في (ي): ((ولا نتبع)).(3/110)
ولا تستباح أموالهم. وكل هذا إذا خالفوا المسلمين، وشقّوا عصاهم، ونصبوا راية الحرب.
فأما من اسْتَسَرَّ (1) ببدعته (2) منهم ولم ينصب راية الحرب، ولم يخرج عن الجماعة: فهل يُقتل بعد الاستتابة، أو لا يقتل؟ وإنما يجتهد في ردّ بدعته، وردّه عنها؟ اختُلف في ذلك، وسبب (3) الخلاف في تكفير من هذه حاله: وباب التكفير باب خطير (4) ، أقدم عليه كثير (5) من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل (6) بالسلامة شيئًا.
والحرورية: الخوارج. سُمّوا بذلك؛ لأنهم خرجوا بحروراء (7) ، وهي حرّة معروفة بالعراق.
84- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ (8) قَالَ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاءِ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقال: ((أَلا تَأْمَنُونِي؟ وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ مَسَاءً وَصَبَاحًا قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الإِزَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اتَّقِ اللهَ. فَقال: ((وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ؟)) قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ. فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقال: ((لا. لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي)) قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ)) قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقال: ((إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ رَطْبًا لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، قَالَ: أَظُنُّهُ قال: ((لَئِنْ أنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((بِذَهَبَةٍ (9) فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ (10) ))؛ الذهبة: تأنيث الذهب. وكأنه ذهب به إلى معنى القطعة، والجملة (11) . و((الأديم)): الجلد. و((المقروظ (12) )): المدبوغ بالقَرَظ (13) ، وهو شجر يدبغ به (14) .
وقوله: ((والرابع إِمَّا عَلْقَمَةُ، وَإِمَّا عَامِرُ))، هذا شكّ، وهو وهَمٌ. وذكر ((عامر)) هنا خطأ، فإن عامرًا (15) هلك قبل ذلك بسنتين (16) ، ولم يدرك هذا الحين (17) . والصواب: علقمة بن علاثة (18) ، كما جاء في الحديث الآخر (19) من غير شك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ))؛ لاحجة فيه (20) لمن يرى أن الله تعالى يختص (21) بجهة فوق؛ لما (22) تقدم من استحالة الجسمية، وأيضًا: فيحتمل أن يراد بـ (23) ((مَنْ =(3/111)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((استتر)). وأشير لها بسهم وكتب [تراجع، كذا في (ح) و(أ)].
(2) في (أ): ((بدعته)).
(3) في (أ) و(ي): ((وسببه)).
(4) في (ز) و(س): ((خطر)). [تراجع في (أ)]
(5) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(6) في (ز) و(س): ((ولا تعدل)).
(7) في (س): ((من حروراء)).
(8) أخرجه البخاري (8/67 رقم4351) في المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب...، وذكر أطرافه في (6/376 رقم334) في الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودًا قال ياقوم اعبدوا الله}، ومسلم (2/743 رقم1064/144) في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم.
(9) في (ي): ((يذهب)).
(10) في (ح): ((مقرو))، وفي (ز): ((مفروط)).
(11) في (ز) و(س) و(ي): ((أو الجملة)).
(12) في (ح): ((المقرظ))، وفي (ز): ((بالقرط)).
(13) في (ح) و(ي): ((بالقرض))، وفي (ز): ((بالقرط)).
(14) قوله: ((به)) سقط من (أ).
(15) في (س): ((عامر)) بلا تنوين.
(16) في (ز) و(س): (بسنين)).
(17) في (ح): ((الجيل)). [شطب على هذا الهامش وكتب في بجانبه تراجع غير (ح)].
(18) في (ز): ((علاقة)).
(19) تقدم تخريج الحديث قريبًا، وأما ما أشار له المصنف من رواية للحديث فيها ذكر علقمة بن علاثة دون عامر، فهي عند مسلم في "صحيحه" (2/741 رقم 143-1064) كتاب الزكاة باب [أشير لها بسهم وكتب (بابا) فتراجع] ذكر الخوارج وصفاتهم. وفيه: فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن بدر الفزاري، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وزيد الخير الطائي، ثم أحد بنى نبهان... الحديث. وعند مسلم (2/743) رواية أخرى لهذا الحديث برقم(145) فيها قال: وعلقمة بن علاثة، ولم يذكر عامر بن الطفيل.اهـ.
(20) قوله: ((فيه)) مطموس في (ز).
(21) في (أ) و(ي): ((مختص)).
(22) في (ي): ((كما)).
(23) في (ح): ((به))، وفي (ي): يشبه أن تكون ((بين)).(3/111)
فِي السَّمَاءِ)): الملائكة، فإنه (1) أمين عندهم، معروف بالأمانة. أو (2) السماء؛ بمعنى العلو والرفعة المعنوية. وهكذا القول في قوله تعالى: {أأمنتم (3) من في السماء (4) } (5) . وقد (6) تقدّم أن التسليم في المشكلات أسلم (7) .
و ((مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ)): مرتفعهما. و((كَثُّ اللِّحْيَةِ)): كثيفها، قصير شعرها، يقال: رجلٌ كث اللحية، بَيِّنُ الكثافة والكثوفة (8) ، وأَكَثّ. و((نَاشِزُ الْجَبْهَةِ)): باديها مرتفعها (9) . و ((مُقَفٍّ)): مولٍ قفاه (10) .
وفي هذا الحديث: أن خالدًا رضي الله عنه قال: يا رسول الله ! ألا أضرب عنقه؟ وفي حديث جابر: أن عمر بن الخطاب قال: دعني يا رسول الله، فأقتل هذا المنافق. لا إشكال فيه؛ إذ الجمع ممكن، بأن يكون (11) كل واحد منهما قال ذلك. وأجيب كل واحد! منهما بغير ما أجيب به الآخر، والله تعالى أعلم (12) . =(3/112)=@
__________
(1) في (ح): ((فإنهم)). شطب عليها وكتب بجانبها [تراجع في (ح)].
(2) في (ح): ((و)).
(3) في (أ) و(ح) و(س): ((أمنتم))، وفي (ز): ((آمنتم)).
(4) في (ي): ((في السماء أن يخسف)).
(5) سورة الملك؛ الآية: 16.
(6) في (س): ((تشبه أن تكون ((فقد)). [وتراجع]
(7) ليت الشيخ سلَّم لسَلِمَ، ولكنه تكلف وتعسف، وجرى على مذهب الأشاعرة في تأويل الصفات، ومذهب أهل الحق والتحقيق إثبات ما أثبته الله لنفسه من أنه في السماء؛ أي: في العلو، فهو العلي الأعلى جل وعلا، قال شيخ الاسلام: ((من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله جل وعلا في داخل السموات فهو جاهل ضال بالاتفاق، فإن حرف ((في)) متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه، وفرق بين قولنا الجسم في الحيز، والعرض في الجسم، والكلام في الورق، وإن كان حرف ((في)) مستعملاً فيها كلها. ولو قال قائل: العرش في السماء أم في الأرض؛ لقيل: في السماء، ولا يلزم من ذلك أنه داخل السموات، ولذا فالمفهوم من قوله: {من في السماء}؛ أنه في العلو وأنه فوق كل شيء. وكذلك الجارية لما قال لها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها، والعلو يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، وإذا قدر أن المراد بالسماء الأفلاك فالمراد أنه عليها، كما قال تعالى: {ولأُصلبنكم في جذوع النخل}، كما قال: {فسيروا في الأرض}»، انتهى مختصرًا من "التدمرية" (85-89). وانظر: "الرد على الجهمية" (20) و"الرد على بشر المريسي" (25). "مجموع الفتاوى" (5/12-14 و46-50 و69-70 و105-107 و136-153) و(3/219-227)، "التمهيد" (7/129) "الإبانة عن أصول الديانة" (106)، "شرح العقيدة الطحاوية" (315-327)، "الكواشف الجلية" (339، 469، 515)، "التحفة المهدية" (185) "مختصر العلو للعلي الغفار".
(8) في (س): ((الكثاثة والمكثوثة))، وفي (ز) و(ي): ((الكثاثة والكثوثة)).
(9) في (ح): ((ومرتفعها)). وأشير لها بسهم وكتب [كذا في (أ) و(ز) و(س)].
(10) قوله: ((قفاه)) سقط من (ح).
(11) في (ي): ((يقول)).
(12) كذا جمع بينهما القاضي في "الإكمال" (3/608)، وقد جاء هذا الوجه من الجمع صريحًا عند مسلم في "صحيحه" (3/743 رقم 1064/145) كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، ولفظه: فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول ا لله! ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، قال: ثم أدبر فقام إليه خالد، سيف الله، فقال: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: لا.... الحديث.(3/112)
وقوله: ((لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عاد))، وفي (1) الأخرى: ((قتل ثمود))، ووجه الجمع: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال كليهما، فذكر أحد الرواة أحدهما، وذكر الآخر الآخر. ومعنى هذا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقتلهم قتلاً عامًا؛ بحيث لا يبقى منهم أحدًا في وقت واحد، لا يؤخر قتل بعضهم عن بعض، ولا يقيل (2) أحدًا منهم، كما فعل الله تعالى بعاد؛ حيث أهلكهم بالريح العقيم، وبثمود حيث أهلكهم بالصيحة.
وقوله: ((لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي (3) ))؛ هو مردود للمعنى الذي قدّمناه؛ من أنه إنما امتنع من قتله؛ لئلا يُتَحدَّث: أنه يقتل أصحابه المصلّين، فيكون ذلك (4) مُنَفِّرًا، وإلا فقد صدر عنه ما يوجب قتله لولا المانع.
وقوله: ((لَمْ أُومَرْ (5) أَنْ أَنْقُبَ عَلى قُلُوبِ النَّاسِ))؛ أي (6) : إنما أُمرت أن آخذ بظواهر (7) أمورهم، وأكل (8) بواطنهم إلى الله تعالى. وهذا كما قال: ((أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا (9) مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)) (10) . =(3/113)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((في)) بلا واو.
(2) في (ز): ((ولا يقتل)).
(3) في (ي): ((هو يصلي)).
(4) في (ز) و(س): ((هذا)) بدل ((ذلك)).
(5) في (س): ((لو أومر)).
(6) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(7) في (ز) و(س): ((بظاهر)).
(8) في (أ): ((وأوكل)).
(9) في (س): ((فقد عصموا)).
(10) تقدم في أول كتاب الإيمان، باب يقاتل الناس إلى أن يوحدوا الله.(3/113)
وقوله: ((يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ رَطْبًا))؛ فيه ثلاثة أوجه (1) :
أحدها: أنه الحذق بالتلاوة، والمعنى: أنهم يأتون به على أحسن أحواله.
والثاني: يواظبون على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبة به.
والثالث: أن يكون من حسن الصوت بالقراءة.
وقوله: ((يقتلون (2) أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان))؛ هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار (3) عن أمر غيب وقع على نحو ما أخبر (4) عنه، فكان دليلاً من أدلة نبوّته صلى الله عليه وسلم، وذلك: أنهم (5) لما حكموا بكفر مَن خرجوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة، وقالوا: نَفِي لهم بذمتهم، وعدلوا عن قتال المشركين، واشتغلوا (6) بقتال المسلمين عن قتال المشركين.
وهذا كله من آثار عبادات الجهّال، الذين لم تنشرح صدورهم (7) بنور العلم، ولم يتمسكوا بحبل وثيق، ولا صحبهم في حالهم ذلك توفيق. وكفى بذلك أنّ مُقَدَّمهم ردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمْرَه، ونسبه إلى الجور، ولو تبصّر لأبصر عن قرب أنه لايتصوّر الجوّر (8) والظلم (9) في حق رسول (10) الله صلى الله عليه وسلم، كما لا يتصوّر في حق الله تعالى؛ إذ (11) الموجودات كلها ملك لله تعالى، ولا يستحق أحد عليه حقًّا، فلا يُتصوّر في حقه شيء من ذلك. والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ حكم الله تعالى، فلا (12) يُتصوّر في حقه (13) من ذلك ما لا يتصور في حق (14) مرسله. ويكفيك من جهلهم وغلوّهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحَّة إيمانه، وبأنه من أهل الجنة، كعليّ وغيره من صحابة =(3/114)=@
__________
(1) في (ح) و(ي) و(س): ((أقوال))، وفي (ز): (أقول)).
(2) في (ح): ((يختلفون)).
(3) في (ي): ((إخبارًا)).
(4) في (ز): ((أخر)).
(5) في (ز) و(س): ((لأنهم)).
(6) في (ز) و(س): ((واستقلوا)).
(7) في (ح): ((لم يشرح الله صدورهم)).
(8) أشير لها بسهم وكتب [تراجع في (س)].
(9) في (ح) و(ي) و(ز): ((الظلم والجور))، وفي (س): ((الظلم والجوز)).
(10) في (ز) و(س): ((الرسول صلى الله عليه وسلم)).
(11) في (ح): ((إلى)).
(12) في (ز) و(س): ((ولا)) بدل ((فلا)).
(13) في (ي): ((حقه شيء)).
(14) ما بين المعكوفين سقط من (أ) و(ز) و(س).(3/114)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما وقع في الشريعة، وعلم على القطع والثبات من شهادات الله ورسوله لهم، وثنائه على عليّ رضي الله عنه والصحابة عمومًا وخصوصًا(1).
85- وَعَنْهُ (1) قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اعْدِلْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ))، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللهِ ! ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْقِدْحُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَر، يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ)). قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَوُجِدَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَعَتَ.
86- وَعَنْهُ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ)).
وَفِي لَفْظٍ آخَر (3) : تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلاهُمْ بِالْحَقِّ)) قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَأَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله صلى الله عليه وسلم في صفة المخدّج (4) (5) : ((إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَر))، وفي رواية: ((طبي (6) (7) شاة، أو ضرع شاة)). والضرع: للشاة والبقرة. والخلف: للناقة. قال أبو عبيد: الأخلاف لذوات الخفّ، ولذوات الظلف، والثدي: للمرأة. والثندوة للرجل.
وتدردر؛ أي: تتحرك وتضطرب. قال ابن قتيبة: تذهب وتجيء. وصيغة ((تَفَعْلَل)) تنبيء (8) على التحريك (9) والاضطراب، مثل: تقلقل، وتزلزل، وتَدَهْدَهَ الحجر.
وفي "الأم" (10) : قال عليّ - وذكر الخوارج -: ((فيهم رجل مخدج اليد، أو مؤدن (11) اليد، أو مثدن (12) اليد))، على لفظ الشك (13) ، وقال بعضهم: مثدون (14) . وكذا هو عند العذري، والطبري، والباجي. فأما: ((مخدج اليد)): فناقصها. و((مثدن اليد ومثدونها)): صغيرها ومجتمعها (15) ، بمنزلة ثندوة الرجل. وكأن أصله مثند، فقدمت (16) الدال على النون، كما قالوا: جذب وجبذ (17) .
وقيل معناه: كثير اللحم. قال ابن دريد: ثدن الرجل ثدنًا، إذا كثر لحمه وثقل، وعلى (18) هذا لا (19) يكون في الحرف قلب. فأما مؤدن (20) ، فقال أبو مروان بن سراج: يهمز ولا يهمز. قال ابن دريد: رجل (21) =(3/115)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (6/376 رقم3344) في الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودًا قال ياقوم اعبدوا الله}، و(10/552 رقم6163) في الأدب، باب ما جاء في قول الرجل: ((ويلك))، ومسلم (2/744 رقم1064/148) في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم.
(2) أخرجه مسلم (2/745 رقم1065/150) في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم.
(3) أخرجه مسلم (2/745 رقم1065/151) في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم.
(4) في (أ) و(ز) و(س): ((المخرّج)).
(5) الخِدَاج: إلقاء الناقة ولدها قبل تمام الأيام... وأَخْدَجَت الناقة: جاءت بولد ناقص وإن كانت أيامه تامة، فهى مُخْدِج، والولد مُخْدَج... ورجل مُخْدَجُ اليد: ناقصها.أ. كذا جاء في" القاموس" (ص237).
والْمُخْدَج: هو نافع، ذو الثُّدْيَة، كما بينه الخطيب في"الأسماءالمبهمة في الأنباءالمحكمة"(312).
(6) في (ح) تشبه أن تكون: ((طبيي))، وفي (ز) و(س): ((ظبي)).
(7) الطُّبي: قال في "القاموس" (1684): بالكسر والضم، حَلَماتُ الضِّرع، التي من خُفٍّ وظِلفٍ وحافر وسبع، والجمع: أَطْبَاء.اهـ. قال النووي في المنهاج (7/147): هو بطاء مهملة مضمومة ثم باء موحدة ساكنة، والمراد به ضرع الشاة، وهو فيها مجاز واستعارة إنما أصله للكلبة والسباع.اهـ.
(8) في (ز): ((تبنى)).
(9) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((عن التحرك)).
(10) "صحيح مسلم" (2/747 رقم1066/155)، باب التحريض على قتل الخوارج.
(11) في (ح): ((مودى))، وفي (ز): ((مرذن)).
(12) في (ح): ((مئدن)).
(13) في (ح) و(ي) و(ز) و(س) زيادة: ((لجميع الرواة)).
(14) في (ز) و(س): ((مقدون)).
(15) في (ح) و(ي): ((مجتمعها)) بلا واو، وفي (س): ((ومجتمعهما)).
(16) في (ز): ((فقدم)).
(17) في (ح) و(ي): ((جبذ وجذب)).
(18) في (س): ((فعلى)).
(19) في (ح): ((فلا)).
(20) في (ز) و(ي): ((مؤذن)).
(21) قوله: ((ابن دريد رجل)) سقط من (ي).(3/115)
مؤدن (1) ، ناقص الْخَلق. وودين ومودون (2) ، وكله بالدال المهملة.
والذي يجمع شتات هذه الأحاديث في صفة يد هذا المخدج (3) ، ويبين صفتها ما جاء في حديث زيد بن وهب الذي قال فيه: ((وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد، ليس له ذراع، على رأس (4) عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض))، وهذه الرواية: هي أحسن الروايات و أكملها وأبينها.
وقوله: ((يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فُرْقَةٍ))؛ كذا لأكثر الرواة، وعند السمرقندي وابن ماهان: ((على حين فرقة))- بالنون والحاء - وكلاهما صحيح. فإنهم خرجوا حين افترق الناس فرقتين، فكانت فرقة مع (5) معاوية رضي الله عنه ترى رأيه، وتقاتل معه، وفرقة مع عليّ رضي الله عنه ترى رأيه، وتقاتل معه. وخرجت هذه الطائفة على عليّ رضي الله عنه ومعه (6) معظم الصحابة (7) رضي الله عنهم. ولا خلاف أنه الإمام العدل، وأنه أفضل من معاوية رضي الله عنه ومن (8) كل من كان معه، فقد صدق على فرقة علي رضي الله عنه أنهم =(3/116)=@
__________
(1) في (ز) و(ي): ((مؤذن)).
(2) في (ح): ((مودن))، وفي (س): ((ومودن))، وفي (ز): ((وموذن)).
(3) في (ز) و(س): ((المخرج)).
(4) في (ي): ((مثل)) بدل ((رأس)).
(5) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(6) في (ز) و(س): ((معه)) بلا واو.
(7) في (أ): ((الأصحاب))، وفي (ز) و(س): ((الصايحة)).
(8) قوله: ((من)) ليس في (ز) و(س).(3/116)
خير الفرق (1) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((تقتلهم أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ)) (2) ، ولا خلاف في أن عليًّا قتلهم، ففرقته خير فرقة. وهذا اللفظ يدل على أن ما وقع بين علي ومعاوية (3) فيه لله تعالى حكمٌ معين (4) ، وأن (5) عليًّا رضي الله عنه هو الذي أصابه، والله تعالى أعلم.
وقوله: ((سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ))، الفرث: ما يخرج من الكرش. وهذا لسرعة السهم وشدة النزع. وظاهره (6) : أنه لم يصبه (7) شيء إلا أنه مقيَّد بالحديث الآخر الذي قال (8) فيه: ((وتتمارى في الفُوق (9) )).
87- وَعَنْ عَلِيٍّ (10) قَالَ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
88- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ (11) أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلا صَلاتُكُمْ إِلَى صَلاتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لا تُجَاوِزُ صَلاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)) لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لاتَّكَلُوا عَلى الْعَمَلِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً لَهُ عَضُدٌ وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَتَتْرُكُونَ هَؤُلاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلاءِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللهِ.
قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: فَنَزَّلَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلاً. حَتَّى قَالَ: مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ فَقَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا الرِّمَاحَ وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلُّوا السُّيُوفَ وَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ. قَالَ: وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلا رَجُلانِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَقَامَ عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالَ: أَخِّرُوهُمْ فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الأَرْضَ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آلله الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ إِي وَاللهِ الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلاثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ.
89- وَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ (12) مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالُوا: لا حُكْمَ إِلا لِلَّهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: ((كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَ نَاسًا إِنِّي لأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلاءِ، يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ - وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ - مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ أَوْ حَلَمَةُ ثَدْيٍ))، فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: انْظُرُوا فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا فَقَالَ: ارْجِعُوا فَوَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ عُبَيْدُ اللهِ :وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِيهِمْ.
90- وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ (13) : يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((الْحَرْبَ خَدْعَةٌ))؛ اللغة الفصيحة في ((خَدْعة)) فتح الخاء وسكون الدال، وهو الذي حكاه ابن السكيت وأبو عبيد، وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى فيها بعض اللغويين ضم الخاء وسكون الدال، وحكي فيها لغة ثالثة، وهي أقلها : ((خُدَعَة (14) ))- بضم الخاء (15) ، وفتح الدال -، فـ((خدعة))- بالفتح-؛ أى: ذات خداع، فإنها مصدر محدود بالهاء. فأما ((خَدْعة)) و((خُدعة))، فنحو: ((ضَحكة)) و((ضُحكة))، كما تقدم.
وقوله: ((يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ))، قال بعض علمائنا (16) : يعني بذلك ما صدر عنهم من قولهم: ((لا حكم (17) إلا لله))، وذلك حين التحكيم، ولما سمعهم علي =(3/117)=@
__________
(1) في (أ): ((القرون)).
(2) جاء ذلك في حديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أخرجه مسلم في "صحيحه" (2/745-746 رقم 150-153).
(3) في (ح): ((وبين معاوية)).
(4) في (ح): ((متعين)).
(5) في (س): ((فإن)).
(6) في (ز): تشبه: ((فظاهره)).
(7) في (ز) و(س): ((لم يصب))
(8) قوله: ((قال) سقط من (ي).
(9) غير واضحة في (ح) ل/28/أ. وفي (ز): ((ويتمارى في الفُوق)).
(10) أخرجه البخاري (6/618 رقم3611) في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، و(12/283 رقم6930) في استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، ومسلم (2/746 رقم1066/154) في الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج.
(11) أخرجه مسلم (2/748رقم1066) في الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج.
(12) أخرجه مسلم (2/749 رقم1066/157) في الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج.
(13) أخرجه مسلم (2/750 رقم1067) في الزكاة، باب الخوارج شر الخلق والخليقة.
(14) قوله: ((خدعة)) سقط من (ح).
(15) في (ح): ((بضم الدال)).
(16) في (ح): ((العلماء)).
(17) في (س): ((لا حُلم)).(3/117)
رضي الله عنه قال: ((كلمةُ حقٍّ أريد بها باطل)).
وقوله: ((لا تُجَاوِزُ صَلاتُهُمْ (1) تَرَاقِيَهُمْ))؛ هو كناية عن أنها لا تقبل، ولا ينتفعون بها، أو يعني بذلك: أن دعاءهم لا يسمع، والله أعلم.
وقوله: ((لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِي (2) يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لاتَّكَلُوا عَلى الْعَمَلِ))، ((قُضِيَ)) معناه: حكم به، وأخبر عن ثوابه، والعمل يعني به: قتلهم، والألف واللام في العمل (3) للعهد، فكأنه قال: لاتَّكلوا على ثواب ذلك العمل، واعتَمدوا عليه في النجاة من النار والفوز بالجنة، وإن كانت الأعمال =(3/118)=@
__________
(1) في (ي): ((صلواتهم)).
(2) في (ز) و(س) و(ي): ((الذين)).
(3) قوله: ((في العمل)) ليس في (ز) و(س).(3/118)
لا تُحصّل ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لن ينجي أحدًا منكم عمله)) (1) ، لكن ذلك العمل الذي هو قتلهم عظيم، ثوابه (2) جسيم، بحيث لو اطلع عليه صاحبه؛ لاعتمد عليه، وظن أنه هو الذي ينجيه.
والرواية في ذلك اللفظ: ((لاتَّكَلُوا)) بلام ألف (3) ، وبالتاء باثنتين، من التوكُّل، وقد صحّفه بعضهم فقال: ((لنكلوا)) بالنون من النكول عن العمل؛ أي: لا يعملون شيئًا؛ اكتفاءً بما حصل لهم من ثواب ذلك. وهذا معنى واضح لو ساعدته الرواية.
و((العضد)): ما بين المنكب والمرفق. و((حلمة الثدي)): الأنبوبة التي يخرج منها اللبن، وتسمى السعدانة. و((سَرْحُ الناس)): مواشيهم.
وقول سلمة: ((فَنَزَّلَنِي زَيْدُ مَنْزِلاً (4) ))؛ أي: أخبرني بالمواضع التي نزلها عليٌ مع جيشه (5) واحدًا واحدًا، صوابه (6) : ((منزلاً منزلاً)) مرتين؛ لأن معناه: أخبرني بالمنازل مفصَّلة، فهو منصوب على الحال، كما تقول العرب: علّمته (7) الحساب بابًا بابًا (8) . ولا يكتفى في هذا (9) النوع بذكره (10) مرة (11) واحدة؛ لأنه لا يفيد ذلك المعنى، غير أنه وقع هنا ((منزلاً)) مرة واحدة، لجميع رواة مسلم فيما أعلم.
وقد جاء في (12) كتاب النسائي: ((منزلاً منزلاً))، وهو الصحيح.
وقول زعيم الخوارج: ((ألقُوا الرماح، وسُلُّوا السيوف))؛ فكان (13) في هذا الرأى فتح للمسلمين (14) ، وصيانة لدمائهم، وتمكين من ا لخوارج؛ بحيث تُمُكّنَ منهم بالرماح، فَطُعِنُوا ولم يكن لهم ما (15) يطعنون أحدًا، فَقُتِلوا عن بكرة أبيهم، [ولم] (16) يقتل من المسلمين سوى رجلين، فنعوذ بالله من تدبير يقود (17) إلى تدمير. =(3/119)=@
__________
(1) أخرج هذا الحديث من رواية أبى هريره رضي الله عنه البخاري (11/294 رقم6463) كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، ولفظه مرفوعًا: ((لن ينجي أحدًا منكم عمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة)). الحديث، و(10/127 رقم5673) كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، ومسلم (4/ 2169 رقم2816/71) كتاب صفات المنافقين، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمل، بل برحمة الله تعالى، ورقم ( 72-76) بألفاظ مختلفة، بمعنى الحديث.
(2) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((وثوابه)). وأشير لها بسهم في وكتب يراجع ليس في الأصل موجود في (ح) و(س) و(ز).
(3) في (ز) و(س): ((الألف)).
(4) قوله: ((منزلاً)) مكرر في (ي).
(5) زاد بعدها: ((منزلاً منزلاً)) وكأنه ضرب عليها.
(6) في (ي) و(أ) و(ز) و(س): ((وصوابه)).
(7) في (ز) و(س): ((علمت)).
(8) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(9) في (ح): ((ذلك)).
(10) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): ((بذكر)).
(11) قوله: ((مرة)) مكرر في (ي).
(12) في (ح): ((من)).
(13) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): ((كان)).
(14) في (ز) و(س): ((فتح المسلمين)).
(15) في (ح) و(ز) و(س): ((مما)) بدل ((ما))، وفي (ي): ((بما)).
(16) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(17) في (ز) و(س): ((يعود)).(3/119)
وقوله: ((فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ))؛ أي: رموها (1) ، أي صيّروها كالوحش بعيدة منهم، وقد جاء في حديث (2) : ((فوحّشوا (3) بأسنَّتِهم، واعتنق بعضهم بعضًا)). وهو مُشَدَّد الحاء، يقال: وحّش الرجل، إذا رمى بثوبه وسلاحه (4) مخافة أن يلحق، قال الشاعر:
فإن أنتم لم تطلبوا بأخيكم (5) ... فذروا السلاح، ووحِّشوا بالأبرق (6)
وقوله: ((وَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ))؛ أي: داخلوهم وطاعنوهم. قال ابن دريد: تشاجر القوم بالرماح، إذا تطاعنوا بها، ومنه: التشاجر (7) في الخصومة.
وعبيدة السلماني - بفتح العين وكسر الباء -، والسلماني - بفتح اللام وسكونها معًا، وبالسكون وحده -؛ ذكره الجيّاني قال: وهو منسوب إلى سلمان.
وقوله: ((آلله الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ))؛ تقييده بمدة وهمزة، فالهمزة عوض من باء =(3/120)=@
__________
(1) قوله: ((أي رموها)) سقط من (ح).
(2) في (ح) و(ز) و(س): ((حديث آخر)).
(3) في (ز): ((فوحشوها)).
(4) في (ح): ((وبسلاحه)).
(5) في (ح): ((لأخيكم)).
(6) ونسبه ابن منظور في "لسان العرب" (6/370) والزبيدي في "تاج العروس" (4/363) لأم عمرو بنت وقدان.
(7) في (ي): ((المشاجر)).(3/120)
القسم، وهو قسم أُقسم عليه به (1) ؛ لتزيد (2) طمأنينة قلبه، لا ليدفع شكًّا عن نفسه.
91- وَمِنْ حَدِيثِ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ (3) ، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((يَتِيهُ قَوْمٌ قِبَلَ الْمَشْرِقِ مُحَلَّقَةٌ رُءُوسُهُمْ يَقْرَءُونَ القُرْآن)) نَحْوَ مَاتَقَدَمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((يَتِيهُ قَوْمٌ قِبَلَ الْمَشْرِقِ))؛ أي: يتحيّرون (4) ويذهبون في غير وجه صحيح، يقال: تاه الرجل: إذا ذهب في الأرض غير مهتدٍ. ومنه تيه بني إسرائيل. و((قبل (5) المشرق))؛ يدل على صحة تأويل من تأول: ((قرن الشيطان)) بأنهم الخوارج، والفتن التي طلعت من هناك، والله تعالى أعلم. =(3/121)=@
__________
(1) في (ي): ((بذلك)) بدل ((به)).
(2) في (ز) و(س): ((يريد)).
(3) أخرجه البخاري (12/290 رقم6934) في استنابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب من ترك قتال الخداع للتأليف ولئلا ينفر الناس عنه، ومسلم (2/750 رقم1068) في الزكاة، باب الخوارج شر الخلق والخليقة.
(4) في (ح): ((يتخيرون)).
(5) في (ز): ((قيل)) بدل ((وقبل)).(3/121)
وقوله: ((مُحَلَّقَةٌ رُءُوسُهُمْ))، وفي حديث آخر: ((سيماهم التحليق))؛ أي: جعلوا ذلك علامةً لهم على رفضهم زينة الدنيا، وشعارًا ليعرفوا به، كما يفعل كثيرٌ من رهبان النصارى، يفحصون عن أوساط رؤوسهم. وقد جاء في وصفهم مرفوعًا: ((سيماهم (1) التسبيد)) (2) ؛ أي (3) : الحلق، يقال: سَبَّدَ رأسه، إذا حلقه.
وهذا (4) كلُّه منهم جهل بما يُزهد فيه، وما لا يُزهد فيه (5) ، وابتداع منهم في دين الله تعالى شيئًا كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون وأتباعهم على خلافه، فلم يُرو عن واحد منهم أنهم اتسموا بذلك، ولا حلقوا رؤوسهم، في غير إحلال ولا حاجة.
وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم شعر، فتارة فرقه (6) ، وتارة صيَّره جمَّة، وأخرى لِمَّة (7) .
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كانت له شعرة أو جمة فليكرمها)) (8) ، وقد كره مالك الحلاق (9) في غير (10) الإحرام (11) ، ولا حاجة ضرورية.
=(3/122)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((في وصفهم بسيماهم)).
(2) يشير بذلك إلى ما أخرحه البخاري وغيره، من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه (13/ 535 رقم 7562) كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق، وفيه: قيل: ما سيماهم؟ فال: سيماهم التحليق أو قال: التسبيد.
(3) في (ز) و(س): ((وهو)) بدل ((أي)).
(4) في (ح): ((وهكذا)).
(5) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(6) يشير بذلك لما ورد من أحاديث في فرق النبي صلى الله عليه وسلم شعره عن بعض الصحابة كابن عباس وعائشة وأنس رضي الله عنهم، فأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فأخرجه البخاري
(6/566 رقم58 35) كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب، فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، و(7/274 رقم 3944) كتاب مناقب الأنصار، باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، و(10/361 رقم5917) كتاب اللباس، باب الفرق، ومسلم (4/1817 رقم 2336) كناب الفضائل، باب في سدل النبي صلى الله عليه وسلم شعره وفرقه.
(7) جاء ذلك في بعض روايات حديث البراء رضي الله عنه، أخرجه مسلم (4/1818 رقم 2337/92) كتاب الفضائل، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان أحسن الناس وجهًا، ولفظه: ((ما رأيت من ذي لِمَّةٍ أحسن في حُلَّةٍ حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرُهُ يضرب مِنكبيه، بعيد ما بين المنكبين، ليس بالطويل ولا بالقصير)).
قال الجوهري في "الصحاح" (5/2032): اللَّمة- بالكسر-: الشعر يجاوز شحمة الأذن، فإذا بلغت المنكبين فهي جُمَّة، والجمع لِمَمٌ ولِمَامٌ.اهـ. وانظر "النهاية"(4/273) و"الفتح" (10/357).
(8) أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (رقم4163) كتاب الترجل، باب في إصلاح الشعر، مرفوعًا بلفظ. وإسناده صحيح.
(9) في (ز) و0س): ((الحلاقة)).
(10) أشير لها بسهم وكتب [تراجع في (أ)].
(11) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): ((إحرام)).(3/122)
*************
( 28 ) باب لا تَحِلُّ الصدقة لمحمد ولا لآلِ محمد
ومن يستعمل على الصدقة
92- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((كِخْ كِخْ، ارْمِ بِهَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ)).
93- وَعَنْهُ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَاللهِ إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي أَوْ فِي بَيْتِي فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا)).
94- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (3) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِتَمْرَةٍ بِالطَّرِيقِ فَقال: ((لَوْلا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد
قوله: ((كِخْ، كِخْ))؛ روايتنا فيه بكسر الكاف وسكون الخاء. وقد يقال بفتح الكاف وتسكين الخاء وتنوينها. وهي لغات، وهي كلمة يزجر (4) بها الصبيان (5) عن أخذ شيء، قال الداودي: هي كلمة (6) أعجمية عرّبتها العرب، وإلى هذا (7) أشار البخاري حيث ترجم على هذا الحديث: ((من تكلم بالفارسية)). والصحيح الأول.
وفي هذا الحديث ما يدل على أن الصغار يمنعون مما (8) يحرم على الكبار المكلَّفين حتى يُدرَّبوا (9) على آداب الشريعة، ويتأدبوا بها ويعتادوها. وعلى هذا فلا يلبس الذكور الصغار (10) الحرير، ولا يحلون الذهب (11) . ويخاطب الأولياء بأن يجنبوهم ذلك، كما =(3/123)=@
__________
(1) أخرجه البخاري (3/354 رقم1491) في ما يذكر في الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم ، و(3/350 رقم1485) في الزكاة، باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل...، و(6/183 رقم3072) كتاب الجهاد، باب من تكلم بالفارسية والرطانة، بنحوه، ومسلم (2/751 رقم1069/ 161) في الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم.
(2) أخرجه مسلم (2/751 رقم1070) في الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله...
(3) أخرجه البخاري (4/293 رقم2055) في البيوع، باب ما يتنزه من الشبهات، و(5/86 رقم2431) كتاب اللقطة، باب إذا وجد تمرة في الطريق، بلفظه، ومسلم (2/752 رقم1071) في الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله....
(4) في (س): ((تزجر)).
(5) ضبطت في (س) بالضم والكسر وكتب عليها ((معًا)).
(6) في (أ): ((كله)).
(7) قوله: ((هذا)) تكرر في (ح).
(8) في (ح): ((منها)).
(9) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): ((يتدربوا)).
(10) في (ز) و(س): ((الصغار والكبار)).
(11) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): ((بالذهب)). ... ...(3/123)
يخاطبون بأن يجنبوهم شرب الخمر (1) وأكل ما لا يحل.
وقوله صلى الله عليه وسلم - وقد وجد تمرة في الطريق -: ((لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها))؛ هذا منه صلى الله عليه وسلم ورع وتنزّه. وإلا فالغالب تمر غير الصدقة؛ لأنه الأصل، وتمر الصدقة قليل، والحكم للغالب في القواعد الشرعية.
وفيه دليل: على أن اللُّقَطَة اليسيرة التي لا تتعلّق (2) بها نفس فاقدها، أنها (3) لا تحتاج إلى تعريف. وأنها تستباح (4) من غير ذلك؛ لأنه علّل امتناعه من أكلها؛ لخوفه (5) أن تكون (6) من الصدقة، وظاهر دليل خطابه أنها لو سلمت من ذلك المانع لأكلها.
وهذه الأحاديث كلها مع قوله: ((إن الصدقة لا تنبغي لمحمد، ولا لآل محمد))؛ تدل على (7) أن الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله (8) محرّمة. وهل يعمّ التحريم (9) الواجبات وغيرها، أو تخص (10) الواجبة؟ اختلف فيه، فذهب مالك وأبو حنيفة في أحد قوليه إلى أن المحرّم الواجبة فقط.
وحكى ابن القصار عن بعض أصحابنا: أن المحرّم صدقة التطوع دون الفريضة؛ لأنها لا مِنَّةَ فيها.
وقال أبو حنيفة أيضًا: إنها كلّها حلال لبني هاشم وغيرهم. وإنما كان ذلك محرمًا عليهم؛ إذ كانوا يأخذون سهم ذي القربى (11) ، فلما قطع عنهم حلت لهم ، ونحوه عن الأبهري من شيوخنا. وروي عن أبي يوسف: أنها حرام عليهم من غيرهم، حلال لهم صدقة بعضهم على بعض.
قال الشيخ رضي الله عنه: والظاهر من هذه الأحاديث أنها محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، فرضُها ونفلُها؛ تمسُّكًا بالعمومات. ومن جهةِ المعنى فإن الصدقة أوساخ =(3/124)=@
__________
(1) في (ح): ((الخمور))، وفي (ز) و(س): ((يجنبوهم الخمر)). ...
(2) في (ز): ((يتعلق))، وفي (س): لم تنقط.
(3) قوله: ((أنها)) سقط من (ح) و(س) و(ز).
(4) في (ز): ((يستباح)).
(5) في (ز) و(س): ((لخوف))، وفي (ي): ((بخوفه)).
(6) في (ز): ((يكون)).
(7) في (ز): ((يدل)).
(8) قوله: ((وعلى آله)) ليس في (ز) و(س).
(9) في (ز) و(س): ((تحريم)).
(10) في (ح) و(ز): ((يخص)).
(11) في (ي): ((ذوي)).(3/124)
الناس، وبأن اليد العليا خير من اليد السفلى، ولا يد أعلى من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أيدي آله. فقد أكرمهم الله، وأعلى مقاديرهم، وجعل أيديهم فوق كل يد. وسهم ذى القربى واجب إخراجه وإيصاله إليهم على كل من ولي شيئًا من أمور المسلمين إلى يوم القيامة. فلو منعوا ولم يقدروا (1) على إيصالهم إلى حقوقهم وجب سدّ خلاتهم، والقيام بحاجاتهم على أهل
القدرة من المسلمين لا على وجه الصدقة، بل على جهة القيام بالحقوق الواجبة في الأموال، ويكون حكمهم كحكم الحقوق المرتبة على بيت مال المسلمين، فلا يوصل إليها كفكاك الأسارى ونفقة اللقطاء، وسدّ خلات الضعفاء والفقراء إذا لم يوصل إلى أخذ ذلك من بيت المال.
واختلف في مَن آل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال مالك وأكثر أصحابه: هم بنو هاشم خاصة، ومثله عن أبي حنيفة، واستثني آل أبي لهب. وقال الشافعي: هم بنو هاشم، ويدخل فيهم (2) بنو المطلب أخي هاشم دون سائر بني عبد مناف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا وبنو المطلب شيء واحد)) (3) ، ولقسم النبي صلى الله عليه وسلم لهم مع بني هاشم سهم ذوي (4) القربى دون غيرهم. ونحا إلى هذا بعض شيوخنا المالكية.
وقال أصبغ: هم عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم الأقربون الذي (5) أُمِر بإنذارهم: آل (6) قصي، قال (7) : وقيل: قريش كلّها.
قال الشيخ رضي الله عنه: وفي "الأم (8) ": أن زيد (9) بن أرقم سئل عن أهل بيت النبي (10) صلى الله عليه وسلم من هم؟ فقال: أهل بيته من حُرِمَ الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل عليٍّ، وآل =(3/125)=@
__________
(1) في (أ) و(ي): ((ولم يقدر)).
(2) في (ي): ((معهم)).
(3) جاء ذلك في حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه ، أخرجه البخاري (6/244 رقم3140) كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام، وأنه يعطي قرابته دون بعض، ما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني المطلب وبني هاشم من خمس خيبر، ولفظه: عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: مشيت أنا وعثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد)).
وقد رواه البخاري من طريق الليث، وقال عقب الحديث: قال الليث: حدثني يونس، وزاد: قال جبير: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل، وذكره موصولاً في المغازي، و(6/533 رقم3502) كتاب المناقب، باب مناقب قريش، و(7/484 رقم4229) كتاب المغازي، باب غزوة خيبر.
(4) في (ز) و(س) و(ي): ((ذي)).
(5) في (أ) و(ز) و(س) و(ي): ((الذين)).
(6) في (ز) و(س): ((إلى)).
(7) قوله: ((قال)) ليس في (س) و(ز).
(8) (4/1873 رقم 36- 2408) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في آخر حديث طويل.
(9) في (أ): ((يزيد)).
(10) في (ز): ((رسول الله صلى الله عليه وسلم)).(3/125)
عَقيل، وآل جعفر، وآل عباس رضي الله عنهم، فقال: كل هؤلاء حُرمَ الصدقة؟ قال: نعم. وهذا يؤيد قول مالك. فإن هؤلاء كلُّهم بنو هاشم.
واختلف في مواليهم، فمالك والشافعي يبيحها لهم، والكوفيون وكثير من أصحاب مالك يحرمها (1) عليهم.
95- وَعَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ (2) قَالَ: اجْتَمَع رَبِيعَةُ بْن ِالحَارِثِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالا: وَاللهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلامَيْنِ - قَالَ لِي وَلِلْفَضْلِ بْنِ العَبَّاسٍ - إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَاهُ فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ وَأَصَابَا مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا. فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ عَلِيُّ: لا تَفْعَلا. فَوَاللهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ فَانْتَحَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلا نَفَاسَةً مِنْكَ عَلَيْنَا، فَوَاللهِ لَقَدْ نِلْتَ صِهْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْكَ. قَالَ عَلِيٌّ أَرْسِلُوهُمَا فَانْطَلَقَا. وَاضْطَجَعَ عَلِيٌّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ سَبَقْنَاهُ إِلَى الْحُجْرَةِ فَقُمْنَا عِنْدَهَا حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِآذَانِنَا ثُمَّ قال: ((أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ)) ثُمَّ دَخَلَ وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَ: فَتَوَاكَلْنَا الْكَلامَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ النَّاسِ وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ فَجِئْنَا لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَنُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلاً حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ قَالَ: وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ تُلْمِعُ إِلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ أَنْ لا تُكَلِّمَاهُ قَالَ: ثُمَّ قال: ((إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ادْعُوَا لِي مَحْمِيَةَ))، وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ: فَجَاءَاهُ فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: ((أَنْكِحْ هَذَا الْغُلامَ ابْنَتَكَ لِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ)) فَأَنْكَحَهُ، وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ: ((أَنْكِحْ هَذَا الْغُلامَ ابْنَتَكَ - لِي فَأَنْكَحَنِي، وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: ((أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُسِ كَذَا وَكَذَا)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلا لآلِ مُحَمَّدٍ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((فَانْتَحَاهُ (3) رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ))؛ أي: عرض له وقصده. والنحو: القصد، ومنه علم النحو.
وقوله: ((وَاللهِ مَا تَفعَلُ هَذَا (4) إِلا نَفَاسَةً مِنْكَ (5) عَلَيْنَا))، هذه يمين وقعت من ربيعة على اعتقاده، فهي من قبيل اللغو والنفاسة في الخير، ومنه قوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (6) .
وقوله: ((فَمَا نَفِسْنَاهُ (7) عَلَيْكَ))؛ أي: ما تمنينا أن يكون لنا دونك.
وقوله: ((أَخْرِجَا مَا تَصُرَّان (8) ))؛ أي: ما تجمعانه في صدوركما، وكل شيء جمعته فقد صررته، ومنه (9) : صرُّ الدراهم، وهو جمعها (10) في (11) الصرة (12) . =(3/126)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((يحرمونها))، وفي (ي): يشبه أن تكون ((يحرفها)).
(2) أخرجه مسلم (2/752 رقم1072/167) في الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله...
(3) في (ح): ((فانتجاه)).
(4) في (س): ((هذه)) بدل: ((هذا)).
(5) قوله: ((منك)) سقط من (ح) وفي (ي): ((منه)).
(6) سورة المطففين؛ الآية: 26.
(7) في (ي): ((نفسنا)).
(8) في (ح) و(ز) و(س): ((تُصَرران)).
(9) في (ز) و(س): ((ومنها)).
(10) قوله: ((وهو جمعها)) ليس في (ز) و(س).
(11) في (ي): ((من)) بدل ((في)).
(12) قال النووي في "المنهاج" (7/178): تصرران: هكذا هو في معظم الأصول ببلادنا، وهو الذي ذكره الهروي والمازري وغيرهما من أهل الضبط: تُصرران - بضم التاء وفتح الصاد وكسر الراء، وبعدها راء أخرى -، ومعناه: تجمعانه في صدوركما من الكلام، وكل شيء جمعته فقد صررته.
ووقع في بعض النسخ: ((تسرران))- بالسين -، من السر؛ أي ما تقولانه لي سرًّا، وذكر القاضى عياض فيه أربع روايات، هاتين الاثنتين. والثالثة: ((تصدران))- بإسكان الصاد وبعدها دال مهملة-، معناه: ماذا ترفعان إلي، قال: وهذه رواية السمرقندي. والرابعة: ((تصَوران))-بفتح الصاد، وبواو مكسورة - قال: وهكذا: ضبطه الحميدي، قال القاضي: وروايتنا عن أكثر شيوخنا -بالسين - واستبعد رواية الدال والصحيح ما قدمناه عن معظم نسخ بلادنا ورجحه أيضًا صاحب المطالع فقال: الأصوب تصرران بالصاد والرائين.اهـ.(3/126)
وقوله: ((وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ))؛ أي: الحلم، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (1) ، .
وقول علي في "الأم": ((أنا أبو حسن القَرْم (2) ، والله لا أَريم مَكَاني حتى يرجعَ إليكما (3) ابناكما بِحَور ما بَعَثْتُما به (4) ))؛ إنما قال: أنا (5) أبو حسن القرْم (6) ؛ لأجل الذي (7) كان عنده من علم ذلك، وكان رضي الله عنه يقول (8) هذه الكلمة عند الأخذ في قضية (9) تشكل على غيره وهو يعرفها، ولذلك (10) جرى كلامه هذا مجرى المثل، حتى قالوا: قضيةٌ (11) ولا أبا حسن؛ أي: هذه قضية (12) مشكلة، وليس هناك من يبينها، كما كان يفعل أبو حسن الذي هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأتوا بـ((أبي حسن)) بعد ((لا)) النافية المنكرة (13) على إرادة التنكير. أي: ليس هناك واحد ممن يسمى أبا حسن، كما قالوا :
أرى الحاجات عند أبي خُبَيب ... نُكِدْنَ (14) ولا أمية في البلاد (15)
أى: ولا (16) واحدٌ ممن يُسمى أمية.
و((القَرْم)): أصله الفحل من الإبل (17) ، ويستعار للرجل الكبير المجرّب للأمور (18) . وهذه رواية القاضي الشهيد - بالراء والرفع -، على النعت لأبي حسن. وقد روي: بالواو مكان الراء بإضافة ((حسن)) إليه، وهي رواية ابن أبي جعفر، ووجهها: كأنه قال: أنا عالم القوم (19) وذو رأيهم. وقد رُوي عن أبي بحر: ((أبو حسنٌ (20) ))، بالتنوين، وبعده: ((القوم (21) ))، بالرفع؛ أي: أنا من (22) علمتم أيها القوم، وهذه الرواية (23) أبعدها (24) .
وقوله: ((لا أريم))؛ أي: لا أزال (25) ولا أبرح من مكاني هذا. قال زهير (26) : =(3/127)=@
__________
(1) سورة النساء؛ الآية: 6.
(2) في (ز): ((المقدم)).
(3) في (ح): ((إلي)).
(4) في (س): ((يحونر ما بعثتمانه إنما))، وفي (أ): ((ما بعثتماته))، وفي (ز): ((بحون ما بعثتمانه)).
(5) قوله: ((انا)) ليس في (ح).
(6) من قوله: ((والله لا أريم مكاني...)) إلى هنا سقط من (ي).
(7) في (ز): ((لاجل ذا الذي)).
(8) في (ز) و(س): ((يفعل)) بدل ((يقول)).
(9) في (ي): ((قضيلة)).
(10) في (ح): ((فلذلك)).
(11) في (ي): ((أقضية)).
(12) زاد بعدها في (ي): ((ولا أبا حسن أي هذه قضية)).
(13) في (ز) و(س) و(ي): ((للنكرة)).
(14) في (ز): ((يكدن)).
(15) البيت لعبدالله بن فضالة الأسدي الولبي، كما في كتاب "الأغاني" (1/20).
(16) في (ح) و(ز) و(س): ((لا)) بلا واو.
(17) قوله: ((من الإبل)) سقط من (ي).
(18) في (ح): ((الأمور)).
(19) في (أ): ((القرم)).
(20) أشير بسهم للتنوين بالضم وكتب [تراجع].
(21) في (أ): ((القرم)).
(22) في (ح): ((من قد علمتم)).
(23) قوله: ((الرواية)) ليس في (ز) و(س).
(24) قال النووي (7/180): ((وهذا ضعيف؛ لأن حروف النداء، لا تحذف في نداء القوم ونحوه)).اهـ.
(25) في (ي): ((أزول)).
(26) في "ديوانه" (ص206) في ضمن قصيدة يمدح فيها هَرِم بن سنان.(3/127)
لِمَنْ طَلَلُ بِرَامَةَ لا يرَيم ... عَفَا وخَلا له حُقبٌ (1) قديم
و((بحور (2) ما بعثتما به (3) ))؛ أي: بجوابه. يقال: كلَّمتُه فما ردّ حورًا (4) ولا حويرًا؛ أي: جوابًا.
قال الشيخ: وأصل الحور: الرجوع، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ طَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} (5) ؛ أي: أن لن (6) يرجع. و((إبناكما)) (7) على التثنية هو الصحيح، ووقع لبعض الشيوخ: ((أبناؤكما)) على الجمع، وهو وهم، فإنه قد نصّ على أنهما اثنان.
وقوله: ((فَتَوَاكَلْنَا الْكَلامَ))؛ أي: وكل (8) بعضهم إلى بعض الكلام (9) ، فكأنهما (10) توقفا قليلاً إلى أن بدر أحدهما فتكلم.
وقوله: ((فَجَعَلَتْ زَيْنَبُ تُلْمِعُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ))؛ أي: تشير، يقال: ألمع بثوبه وبيده، وأومأ برأسه، وأومض بعينه.
وقوله: ((وإِنَّمَا (11) هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ))، إنما كانت الصدقة كذلك؛ لأنها تطهرهم من البخل، وأموالهم من إثم الكنز، فصارت كأنها (12) الغسالة التي تُعاف (13) .
ومساق هذا (14) الحديث والتعليل يقتضي أنها لا تحل لأحد من آل النبي صلى الله عليه وسلم على ما قدمناه، وإن كانوا عاملين عليها، وهو رأي الجمهور (15) وقد ذهب إلى جوازها لهم إذا كانوا عاملين عليها (16) ؛ أبو يوسف (17) والطحاوي (18) ، والحديث ردّ عليهم.
و((محمية)) - مخففة الياء - وزن (19) مَفْعِلة، من ((حميت المكان، أحميه)). وهو ابن جَزْء (20) - بهمزة بعد =(3/128)=@
__________
(1) في (س): ((عُقبٌ)).
(2) في (ي): ((ويجوز)).
(3) في (أ) و(ز) و(س): ((بعثتما نه)) بدل ((بعثتما به)).
(4) في (س): لم تتضح.
(5) سورة الإنشقاق؛ الآية: 14.
(6) قوله: ((أن لن)) ليس في (ز) و(س)، وقوله: ((أن)) سقط من (ي).
(7) أشير لها بسهم وكتب (تراجع).
(8) قوله: ((وكل)) لم تتضح في (ز).
(9) قوله: ((الكلام)) سقط من (ح).
(10) في (ي) و(أ) و(ح): ((وكأنهما)).
(11) في (س): ((إنما)) بلا واو.
(12) في (ح): ((كماء)). قوله: ((كأنها)) ليس في (س) و(ز).
(13) في (ز) و(س): ((تُعاب)).
(14) قوله: ((هذا)) ليس في (ز) و(س).
(15) زاد في (ز) بعد قول ((الجمهور)) قوله: ((وقد ذهب إلى حوازها لهم إذا كانوا عاملين عليها وهو رأي الجمهور)) وأشار إليه بقوله تكرر في البداية وفي النهاية إلى. وأشير إليها بسهم على كلمة (الجمهور) وكتب [تراجع في الأصل (ص1025) لأن السقط من (وهو رأي الجمهور إلى عاملين عليها)].
(16) من قوله: ((وهو رأي الجمهور)) إلى هنا سقط من (ح).
(17) لعل هذا وهم من المصنِّف رحمه الله تعالى، فإن الذي وقفت عليه عن أبي يوسف رحمه الله، أنه قال: بالقول الأول كما ذكر ذلك عنه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/12) قال: وقد كان أبو يوسف رحمه الله يكره لبني هاشم أن يعملوا على الصدقة، إذا كانت جعالتهم منها... وخالف أبو [أشير لهذه الكلمة بسهم وكتب [تراجع في الأصل كذا ولكن الأولى في السياق (أبا يوسف)] يوسف رحمه الله في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس أن يجتعل منها الهاشمي، لأنه إنما يجتعل على عمله وذلك قد يحل للأغنياء. اهـ. وكذا ذكر عنه ذلك القاضي في الإكمال" (3/629)
(18) في "شرح معاني الآثار" (2/11-13)، ومما جاء في ذلك: فإن قال قائل: أفتكره للهاشمي أن يعمل على الصدقة؟ قلت: لا... فلما كان ما تصدق به على بريرة جائزًا للنبي صلى الله عليه وسلم أكله؛ لأنه إنما ملكه بالهدية، جاز أيضًا للهاشمي أن يجتعل من الصدقة؛ لأنه إنما يملكه بعمله لا بالصدقة، فهذا هو النظر، وهو أصح مما ذهب إليه أبو يوسف رحمه الله في ذلك. اهـ. وبه قال مالك والشافعي في رواية وأحمد في رواية ومحمد بن الحسن. انظر: "الفتح" (3/357).
(19) في (ز) و(س) و(ي): ((على وزن)).
(20) في (س): ((جرى)).(3/128)
الزاي (1) الساكنة - على وزن: كلب، كذا قاله الحفاظ المتقنون (2) . قال عبد الغني: ويقال: جَزِيء - بكسر الزاي -، وقال أبو عبيد: هو عندنا: جزّ مشدد الزاي، وقال مسلم رضي الله عنه: إنه من بني أسد. والمشهور المحفوظ: أنه من بني زبيد (3) .
*************
( 29 ) باب الصدقة إذا بلغت مَحِلَّها جاز لمن كان قد حَرُمت عليه أن يأكل منها
96- عَنْ جُوَيْرِيَةَ (4) زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَقال: ((هَلْ مِنْ طَعَامٍ ؟)) قَالَتْ: لا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ إِلا عَظْمٌ مِنْ شَاةٍ أُعْطِيَتْهُ مَوْلاتِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقال: ((قَرِّبِيهِ قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الصدقة إذا بلغت محلها
قوله (5) صلى الله عليه وسلم: ((قَرِّبِيهَا فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا))؛ يعني: أن المتصدق عليها قد (6) ملكت تلك =(3/129)=@
__________
(1) في (ح): ((الزا))، وفي (س) و(ز): ((الراء)) بدل ((الزاي))، وفي (ي): ((الزاء)).
(2) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(3) في (س): ((يزيد))، وفي (ز): ((زيد)). وأشير لهذه الكلمة بسهم وكتب [تراجع في (أ)]
(4) أخرجه مسلم (2/754 رقم1073) في الزكاة، باب إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم ولبني هاشم وبني المطلب....
(5) في (أ) و(ح): ((قوله)) بلا واو.
(6) قوله: ((قد)) سقط من (ي).(3/129)
الصدقة بوجه صحيح جائز، فقد صارت كسائر ما تملكه بغير جهة الصدقة، وإذا كان كذلك، فمن تناول ذلك الشيء المتصدَّق به من يد المتصدَّق عليه بجهة جائزة غير الصدقة، جاز له (1) ذلك، وخرج ذلك الشيء عن كونه صدقة بالنسبة إلى الآخذ من يد المتصدَّق عليه، وإن كان ممن لا تحل له الصدقة في الأصل (2) ، ويُخَرَّج عليه صحة أحد القولين فيمن تُصُدِّق عليه بلحم ضحية (3) ، فإنه يجوز له أن يبيعه.
والقول الثاني: لا يجوز فيه ذلك؛ لأن أصل مشروعية الأضحية أن لا يباع منها شيء مطلقًا.
وقوله (4) صلى الله عليه وسلم لجويرية رضي الله عنها: ((قَرِّبِيهِ))، إنما قال ذلك فيه (5) لعلمه بطيب قلب المولاة بذلك، أو تكون المولاة قد أهدت ذلك لجويرية، كما جاء في حديث بريرة رضي الله عنها الآتي بعد هذا.
97 - وَعَنْ عَائِشَةَ (6) قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاثُ قَضِيَّاتٍ: كَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا وَتُهْدِي لَنَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقال: ((هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَكُمْ هَدِيَّةٌ فَكُلُوهُ)). وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَلَنَا هَدِيَّةٌ)).
98- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ (7) قَالَتْ: بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مِنَ الصَّدَقَةِ فَبَعَثْتُ إِلَى عَائِشَةَ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَائِشَةَ قال: ((هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟)) فَقَالَتْ: لا إِلا أَنَّ نُسَيْبَةَ بَعَثَتْ إِلَيْنَا مِنَ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتُمْ بِهَا إِلَيْهَا. قال: ((إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا)).
99- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (8) : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ أَكَلَ مِنْهَا، وَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي حديث عائشة رضي الله عنها ما يدل على جواز الصدقة على موالي قريش؛ لأن عائشة تيمية، وتيم من قريش، وجويرية (9) مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم (10) مولاتها حكمها. =(3/130)=@
__________
(1) قوله: ((له)) سقط من (ح)، وفي (ي): ((جاز لذلك)).
(2) قال الحافظ في "الفتح" (3/357): ((وقوله: ((بلغت محلها))؛ أي أنها لما تصرفت فيها بالهدية لصحة ملكها لها، أنتقلت عن حكم الصدقة فحلت محل الهدية، وكانت تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الصدقة... وهذا تقرير ابن بطال بعد ضبط ((محلها)) بفتح الحاء، وضبطه بعضهم بكسرها من الحلول؛ أي بلغت مستقرها، والأول أولى، وعليه عول البخاري في الترجمة)).اهـ. وترجمة الباب عنده: ((باب إذا تحولت الصدقة)).
(3) في (ح) و(ي) و(س): ((أضحية)).
(4) في (أ): ((قوله)) بلا واو.
(5) قوله: ((فيه)) سقط من (ح) و(أ) و(ي).
(6) أخرجه البخاري (9/138 رقم5097) في النكاح، باب الحرة تحت العبد، وذكر أطرافه في (1/550 رقم456) في الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، مسولم (2/755 رقم1075/171) في الزكاة، باب إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم ولبني هاشم وبني المطلب...
(7) أخرجه البخاري (3/309 رقم1446) في الزكاة، باب قدر كم يعطى من الزكاة والصدقة ومن أعطى شاة، ومسلم (2/756 رقم1076) في الزكاة، باب إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم ولبني هاشم وبني عبدالمطلب...
(8) أخرجه البخاري (5/203 رقم2576) كتاب الهبة، باب قبول الهدية بنحوه، مسلم (2/756 رقم1077) في الزكاة، باب قبول النبي صلى الله عليه وسلم الهدية ورده الصدقة.
(9) في (ي): ((جويرة)).
(10) في (أ): ((وبحكم)).(3/130)
والثلاث القضيات التي كانت في بريرة إحداها (1) : ما ذكره في هذه الطريق.
والثانية: قوله: ((إنما الولاء لمن أعتق (2) )).
والثالثة: تخييرها في زوجها (3) . وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى (4) .
وكونه صلى الله عليه وسلم يسأل عن الطعام، هل هو صدقة أو (5) هدية؟ يدل على أن للمتقي (6) أن يسأل عما (7) خفي عليه من أحوال الهدية والْمُهدِي؛ حتى يكون على بصيرة من أمره، لكن هذا ما لم يؤذ المهدي والْمُطعم، فإن أدّى إلى ذلك فالأولى ترك السؤال إلا عند الريبة.
وهذا الحديث يدل (8) على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان (9) يأكل صدقة التطوّع، كما كان لا يأكل صدقة الواجب، وأنها لا تحلُّ له كما قدمناه (10) .
**************
( 30 ) باب دعاء المصدق لِمن جاء بصدقته والوصاة بالمصدق
100- عَنْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى (11) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: ((اللهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ)) فَأَتَاهُ أَبِي، أَبُو أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: ((اللهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الدعاء للمتصدق وإرضاء (12) المصدق (13)
لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأخذ الصدقة من الأموال والدعاء للمتصدق بقوله تعالى :{خذ من أموالهم صدقة...})) الآية (14) ، وامتثل (15) ذلك، فكان يدعو =(3/131)=@
__________
(1) في (ي): ((إحديها)).
(2) في (س): ((أعثق)).
(3) هذه القضيات الثلاث التي ذكرتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن بريرة رضي الله عنها، جاءت مجتمعة في بعض روايات الحديث، ومفرقة في روايات أخر.
ومن الروايات التي ورد فيها ذكر القضيات الثلاث ما أخرجه البخاري (5/203 رقم 2578) كتاب الهبة، باب قبول الهدية، ولفظه: عن عائشة -رضي الله عنها- أنها أرادت أن تشتري بريرة، وأنهم اشترطوا ولاءَها، فذُكِر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اشتريها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن اعتق)). وأُهدى لها لحم، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا تُصدِّق به على بريرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هو لها صدقة ولنا هدية)). وخُيّرت - قال عبدالرحمن، يعني ابن القاسم راوي الحديث، عن عائشة -: زوجها حر أوعبد؟ قال شعبة: سألت عبد الرحمن عن زوجها. قال: لا أدري أحر أم عبد. ومسلم (2/1143-1144 رقم 10-12 و14 و1504) كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق.
قال الحافظ في "الفتح" (1/551): ((وحديث عائشة هذا في قصة بريرة... اعتنى به جماعة من الأئمة، فأفردوه بالتصنيف.اهـ.
(4) "المفهم" كتاب العتق، باب: كان في بريرة ثلاث سنن.
(5) في (ح): ((أم هو)).
(6) في (ح): ((للمفتي)).
(7) في (ي): ((عنها)).
(8) قوله: ((يدل)) سقط من (ح).
(9) في (أ): ((ما يا كان)).
(10) في (ي) و(ز) و(س): ((قدمنا)) وزاد بعدها في (ز): ((والله أعلم)).
(11) أخرجه البخاري (3/361 رقم1497) في الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة...، ومسلم (2/756 رقم1078) في الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقة.
(12) أشير لها بسهم وكتب [تراجع في (س) ل/112/أ].
(13) في (ز): ((المتصدق)).
(14) سورة التوبة؛ الآية: 103. قال تعالى: { خذ من أموالهم صدقة تُطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم والله سميع عليم }.
(15) في (ز) و(س): ((امتثل)) بلا واو.(3/131)
من (1) أتاه بصدقته، ولذلك كان يقول لهم: ((اللهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ))؛ أي: ارحمهم، وقال: ((اللهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى)).
وقال كثير من علمائنا إنه أراد بـ((آلِ أَبِي أَوْفَى)) نفس أبي أوفى، وجعلوا هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى (2) : ((لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود)) (3) ، إنما (4) أراد داودَ نفسه، وهو محتمل لذلك (5) . ويحتمل أن يريد به: مَن عمل مثل عمله من عشيرته وقرابته، فيكون مثل: ((اللهُمَّ صَلِّ عَلَى محمد وعلى آل محمد))، والله أعلم.
وهل يتعدى الأمر لكل مصدق عند أخذه الصدقة، أو هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قولان لأهل العلم، فذهب الجمهور إلى أنهم يندبون إلى ذلك؛ للإقتداء بفعل النبي (6) صلى الله عليه وسلم، ولما (7) يحصل عند ذلك من تطيب (8) قلوب المتصدقين.
وقال أهل الظاهر: هو واجب؛ أخدًا بظاهر قول الله تعالى: {وصل عليهم} ولا يُسلُّم لهم ذلك (9) ؛ لأن قوله تعالى: {إن صلاتك سكن لهم} (10) يشعر بخصوصيته صلى الله عليه وسلم بالدعاء. وقوله تعالى: { (11) إن صلاتك (12) سكن لهم} تعليل للأمر بالدعاء، لا لأخذ الصدقة كما قد توهمه أهلُ الردة الذين تقدَّم ذكرهم في كتاب الإيمان.
وعلى هذا فلا يكون للظاهرية مُتمسَّكٌ في الآية، ويتجه قولُ =(3/132)=@
__________
(1) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((لمن)).
(2) قوله: ((لأبي موسى)) ليس في (ز) و(س).
(3) يشير رحمه الله تعالى إلى ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه حين سمعه وأنصت له وهو يرتل كلام الله عز وجل، وقد جاء ذلك في حديث عن أبي موسى، وآخر عن بريدة وغيرهما.
فأما حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فأخرجه البخاري (9/ 92 رقم 5048) كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا أبا موسى! لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود))، ومسلم (1/546 رقم 793م/236) كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، وفيه: ((لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت...)). الحديث.
وأما حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه ، فأخرجه مسلم (1/546 رقم 793/ 235) كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، ولفظه: ((أن عبدالله ابن قيس، أو الأشعري، أعطى مزمارًا من مزامير آل داود)).
(4) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((وأنما)).
(5) نحو هذا قال الطحاوي في "مشكل الآثار" (3/203) فما بعده، وقال الحافظ في "الفتح" (9/93): ((قال الخطابي: قوله ((آل داود)) يريد داود نفسه؛ لأنه لم ينقل أن أحدًا من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي)).اهـ. ثم ذكر الحافظ تأييده لما ذهب إليه الخطابي.
(6) في (ح): ((للإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم)).
(7) في (ز) و(س): ((لما)) بلا واو.
(8) في (س): ((تطييت)) ونقطت الباء من فوق باثنتين، ومن تحت بواحدة، وفي (ي): ((تطييب)).
(9) قوله: ((ذلك)) سقط من (ح) و(ي).
(10) في (ح) و(ي): ((وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)).
(11) في (ح) زيادة: ((وصل عليهم)).
(12) في (ز) و(س) و(ي): ((صلواتك)).(3/132)
من ادّعى خصوصية ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال كثير من المفسرين في معنى {سكن لهم}؛ أي: طمأنينة وتثبيت (1) وبركة وتزكية.
101- عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (2) قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُصَدِّقِينَ يَأْتُونَنَا فَيَظْلِمُونَنَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ)). قَالَ جَرِيرٌ: مَا صَدَرَ عَنِّي مُصَدِّقٌ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلا وَهُوَ عَنِّي رَاضٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: ((إِذَا أَتَاكُمْ المُصَدِّق فليَصِدُر عَنْكُمْ وَهوَ عَنْكُم رَاضٍ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول جرير: ((جَاءَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ))؛ يريد: أهل البادية (3) . وقد ذكرنا الفرق بين الأعرابي والعربي، ولا شك في (4) أن أهل البادية أهل جفاء وجهل غالبًا، ولذلك قال الله (5) تعالى: {الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} (6) ، ولذلك (7) نسبوا الظلم إلى مُصَدِّق (8) النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى فضلاء أصحابه، فإنه ما كان يستعمل على ذلك إلا أعلم الناس وأعدلهم، لكن لجهل (9) الأعراب بحدود الله ظنوا: أن ذلك القدر الذي كانوا يأخذونه منهم هو ظلم، فقال لهم النبي (10) صلى الله عليه وسلم: ((أرضوا مصدِّقيكم وإن ظُلِمْتم))؛ أي على (11) زعمكم وظنكم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم سوّغ (12) للعمال الظلم، وأمر الأعراب بالانقياد لذلك؛ لأنه كان يكون ذلك منه إقرارًا على =(3/133)=@
__________
(1) في (أ): ((وتثبت)).
(2) أخرجه مسلم (2/685-686 رقم989/29) في الزكاة، باب إرضاء السعادة. وهذه الرواية التي أشار إليها المصنف في "صحيح مسلم" (2/757 رقم989/177) في الزكاة، باب إرضاء الساعي مالم يطلب حرامًا.
(3) في الأصل (ص1045) هناك عبارة لم تشطب هل تكتب أولا؟ [يراجع]
(4) قوله: ((في)) سقط من (ح) و(ز) و(س).
(5) لفظ الجلالة ليس في (ح) و(س) و(ز) و(ي).
(6) سورة التوبة؛ الآية: 79.
(7) أشير لها بسهم وكتب [تراجع في (ز) ل/135/ب].
(8) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): ((مصدقي)).
(9) في (أ): ((بجهل)).
(10) قوله: ((النبي)) ليس في (ز) و(س) و(ي).
(11) في (ز): ((أي علي)).
(12) في (ز) و(س): ((شرع)).(3/133)
منكر، وإغراءً بالظلم، وذلك محال قطعًا.
وإنما سلك النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء هذا الطريق دون أن يبين لهم: أن ذلك الذي أخذه المصدقون ليس ظلمًا؛ لأن هذا يحتاج إلى تطويل وتقرير، وقد لا يفهم ذلك أكثرهم.
وأيضًا فليحصل منهم الانقياد الكلي والتسليم (1) وترك الاعتراض الذي لا يحصل الإيمان إلا بعد حصوله، كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} (2) ، والله تعالى أعلم (3). =(3/134)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((بالتسليم)).
(2) سورة النساء؛ الآية: 65.
(3) قوله: ((والله تعالى أعلم)) ليس في (ز).(3/134)
[لاحظ أن هذا الملف ليس فيه كلام التلخيص فيوضع قبل تسليمه
كتاب الصيام
قد (1) تقدَّم الكلامُ على الصومِ اللُّغويِّ (2) ، وأنه الإمساكُ مطلقًا، وهو في (3) العرفِ الشرعيِّ: إمساكٌ مخصوصٌ عن أشياءَ مخصوصةٍ، في زمنٍ (4) مخصوصٍ، بشرط مخصوصٍ. وهذه القيودُ تحتاج إلى تفصيلٍ (5) يذكر في كتب الفقه. والجملة: فهذه القيودُ منها متفقٌ عليه، ومنها مختلفٌ فيه. فأما حدُّه على (6) مذهب مالكٍ: فهو إمساكُ جميعِ أجزاءِ اليومِ عن أمورٍ مخصوصةٍ، بنيّةٍ موقعةٍ (7) قبل الفجرِ (8) .
قوله (9) صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء (10) رمضان» دليلٌ على من قال: إنه لا يقال إلا «شهر رمضان»، متمسكًا بأنه صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُولُوا: رَمَضَانُ؛ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ =(3/135)=@
__________
(1) قوله: ((قد)) سقط من (ز).
(2) تقدم في كتاب الإيمان، باب: معاني الإيمان والإسلام والإحسان شرعًا.
(3) توثيق فقهي. وعلق على هذه الكلمة بقوله: [يشار إ لى موضع يوثق التقدم]
(4) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): «زمان».
(5) في (ح): «تطويل».
(6) قوله: ((فأما حده على)) في (ز) و(س): ((فعلى)).
(7) في (ز) و(س): ((متوقعة))، وفي (ي): ((معروفة)).
(8) يشير إلى أن مالكًا يشترط إيقاع النية قبل الفجر في الفرض. ينظر: "المدونة" (1/207)، ويأتي خلاف في المسألة في باب صدقة عاشوراء.
(9) في (أ): ((وقوله)).
(10) في (ز): ((دخل)).(3/135)
اللهِ تعالى»؛ وليس بصحيحٍ؛ فإنه من حديثِ أبي معشرٍ نَجيحٍ؛ وهو ضعيف (1) .
و«رمضان» مأخوذٌ من: رَمِضَ الصائُم، يَرْمَضُ (2) : إذا حَرَّ جوفُه من شدة العطش، والرَّمضاء: شدَّةُ الحرِّ؛ قاله (3) أبو عبيد الهروي (4) .
وقوله: «فُتِّحت أبوابُ الجنةِ، وغلقتْ أبوابُ النارِ، وصُفِّدت الشياطينُ»، ((فُتِّحت)): بتخفيف التاء وبتشديدها (5) . ويصحُّ حملُه على الحقيقةِ؛ ويكونُ معناه: أن الجنةَ قد فتحت وزخرفت لمن مات في شهر رمضان؛ لفضيلةِ هذه العبادةِ الواقعةِ فيه، وغلقت عنهم أبواب النَّار؛ فلا يدخلُها منهم أحدٌ مات فيه (6) .
((وصفدت الشياطين)): غُلِّلت وقُيِّدت؛ والصَّفَد: الغُلُّ؛ وذلك لئلا تفسد الشياطين على الصائمين.
فإن قيل: فنرى الشرور (7) والمعاصيَ تقعُ في رمضان كثيرًا؛ فلو كانت (8) الشياطينُ مصفدةً لما وقع شرٌّ؟
فالجوابُ (9) من أوجهٍ:
أحدُها: إنما تغل عن الصائمين الصومَ الذي حُوفظ على شروطهِ ورُوعيت آدابُه، أما ما لم يحافظْ عليه فلا يُغَلُّ عن فاعلهِ الشياطينُ (10) .
والثاني (11) : أنا (12) لو سلَّمنا أنها (13) مصفدة (14) عن كلِّ صائمٍ، لكن لا يلزمُ من تصفيدِ جميعِ (15) الشياطين، ألَّا يقعَ (16) شرٌّ؛ لأن لوقوع الشرِّ أسبابًا أُخَرَ غير الشياطين؛ وهي: النفوسُ الخبيثةُ، والعاداتُ الرَّكيكةُ، والشياطينُ الإنسيَّةُ.
والثالثُ: أن يكون هذا الإخبارُ عن غالب الشياطين (17) ، والمردةِ منهم، وأما من ليس من المردة فقد لا يُصفَّدُ.
والمقصودُ: تقليلُ الشرورِ والفواحشِ (18) ، وهذا موجودٌ في شهر رمضان (19) ؛ فإن (20) وقوعَ الشرورِ والفواحشِ فيه قليلٌ بالنسبة إلى غيره من الشهورِ (21) (22) . =(3/136)=@
__________
(1) تقدم تخريجه في كتاب الإيمان، باب معاني الإيمان والإسلام والإحسان شرعًا، وينظر: "فتح الباري" (4/113).
(2) قوله: ((يرمض)) سقط من (ي).
(3) في (ز): يشبه أن تكون ((قال)) لعله صوبها إلى ((قاله)) فإن فيها رسم الهاء.
(4) ينظر: "الغريبين في القرآن والحديث" (3/777).
وقيل في اشتقاق رمضان أقوال، ذكرها النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (3/126)، أحدها، حكاه الشارح. والثاني: أنه مأخوذ من الرميض وهو من السحاب والمطر، كان في آخر القيظ وأول الخريف، سمي رميضًا؛ لأنه يدرأ سخونة الشمس فسمي هذا الشهر رمضان لأنه يغسل الأبدان من الآثام. والثالث: أنه من قولهم رَمَضْتُ النصل أرْمُضِه رَمْضًا: إذا دققتَه بين حجرين ليرقَّ؛ فسمي هذا الشهر رمضان؛ لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم فيه ليقضوا منها أوطارهم في شوال قبل دخول الأشهر الحرم. "جمهرة اللغة" (2/751)، "م ؟؟؟" (2/399)
(5) في (ي) و(أ) و(س) و(ز): «وتشديدها».
(6) قوله: ((فيه)) سقط من (ز).
(7) في (ح): «الشرود».
(8) في (ح): «كان».
(9) في (أ) و(ح): ((والجواب)).
(10) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): «الشيطان».
(11) في (أ): «الثاني».
(12) سقط في (ز) و(س).
(13) مطموس في (ي).
(14) في (ز) و(س): ((صفدت)).
(15) سقط في (ي).
(16) في (ح): «يكون ».
(17) من قوله: «الإنسية والثالث....» إلى هنا سقط من (ح).
(18) قوله: «والفواحش» سقط من (أ).
(19) غير واضحة في (ز).
(20) في (س): ((بأن)) وهي غير واضحة في (ز).
(21) ينظر: "الاستذكار" (10/252).
(22) في (ح): «الشرور».(3/136)
وقيل: إن فتح أبوابِ الجنة وإغلاقَ (1) أبوابِ النارِ علامةٌ على دخولِ هذا (2) الشهرِ العظيمِ للملائكةِ (3) لأهل (4) الجنةِ؛ حتى يستشعروا عظمةَ هذا الشهرِ (5) ، وجلالتَهُ.
ويحتملُ أن يقالَ: إن هذه الأبوابَ المفتَّحةَ في هذا الشهرِ هي: ما شرع الله تعالى فيه من العباداتِ، والأذكارِ، والصَّلواتِ، والتلاوةِ؛ إذ هذه كلُّها تؤدي إلى فتحِ أبوابِ الجنةِ للعاملين فيه، وغَلْقِ أبوابِ النارِ عنهم. وتصفيدُ (6) الشياطين: عبارةٌ عن كسرِ شهواتِ النفوسِ التي بسببها تتوصَّلُ الشياطينُ إلى الإغواء (7) والإضْلالِ، ويشهدُ لهذا قولُه: «الصَّوْمُ جُنَّة» (8) ، وقولُه: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ» (9) ، على ما قد ذُكِرَ.
وقد تقدَّم اشتقاقُ الشيطان (10) .
وقوله: «فإن أُغمي عليكم فاقدروا له»، في ((أُغمي)) ضميرٌ يعودُ على الهلالِ، فهو (11) المغمى عليه لا الناظرون. وتقديره: فإن أغمي الهلالُ عليكم. وأصلُ الإغماءِ: التغطيةُ، والغمُّ. ومنه: المغمى عليه؛ كأنه غُطِّي عقلُه عن مصالحه (12) . ويقال: أغمي الهلالُ، وغُمِّي - مشددَ الميمِ - وكلاهما مبنيٌّ لما لم (13) يُسمَّ فاعلُه. ويقال (14) أيضًا: غُمَّ؛ مبنيًّا لما لم يُسمَّ فاعلُه مشددًا، وكذلك جاءت روايةُ أبي هريرة. فعلى هذا يقال: أُغمي، وغُمِّي: مخففًا ومشددًا، رباعيًّا (15) وثلاثيًّا، وغُمَّ (16) ، فهو أربع =(3/137)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((غلق)). ويقال: غَلَقَ البابَ وأغلقه وغلَقه، والأوكى نادرة "اللسان" (غلق).
(2) قوله: «هذا» سقط من (ح) و(ي).
(3) من قوله: ((العظيم للملائكة...)) إلى هنا سقط من (ز) و(س).
(4) في (ح) و(ي): ((أو لأهل)).
(5) ينظر: "الاستذكار" (10/252).
(6) في (ي): ((وبتصفيد)).
(7) في (ز): ((الإغراء)).
(8) أخرجه البخاري (4/103 و118 رقم1894 و1904) في الصوم، باب فضل الصوم، وباب هل يقول: إني صائم إذا شتم. و(13/464 رقم7492) في التوحيد، باب قول الله تعالى:{يريدون أن يبدلوا كلام الله} من حديث أبي هريرة.
(9) سيأتي تخريجه في كتاب الأدب، باب اجتناب ما يوقع في التهم ويجر إليه. وأما زيادة: «فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش»، فقد قال الألباني في "الضعيفة" (3/79): ولا أصل لها في شيء من كتب السنة التي وقفت عليها، وإنما هي في كتاب "الإحياء" للغزالي فقط». اهـ.
ولذا قال الزبيدي: «وأنا أظن أن هذه الزيادة وقعت تفسيرًا للحديث من بعض رواته، فألحقها به من روى عنه».اهـ.
انظر "تخريج أحاديث الإحياء" (2/607/استخراج الحدّاد).
(10) تقدم (ص؟؟؟).
(11) في (ح): «وهو».
(12) ينظر: "الفائق في غريب اللغة" (3/76).
(13) سقط من (ز).
(14) في (ح): «وكذلك يقال».
(15) في (ز) و(س): ((ورباعيا)).
(16) قوله: ((وغم)) ليس في (ز) و(س).(3/137)
لغات. ويقال: قد غامت السَّماءُ، تَغيم، غيمومةً (1) ، فهي (2) غائمةٌ، وغَيْمَةٌ، وأَغَامَتْ، وغَيَّمَتْ (3) ، وَتغيَّمتْ، وَأُغَمَّتْ، وَغَمَّتْ (4) .
وفي حديث أبي هريرة: «فإن وعَمِي (5) »؛ أي: خَفِي؛ يقال: عمي (6) عليَّ الخبر (7) ؛ أي: خفي. وقيل (8) : هو مأخوذٌ من العماء (9) ، وهو السَّحاب الرقيق (10) . وقد وقع للبخاري: «غَبِي» بالباء، وفتح الغين ؛ أي: خفي؛ ومنه: الغَباوة.
وقوله: «فاقدروا له»؛ أي: قدِّروا تمام الشهرِ بالعددِ ثلاثين يومًا؛ يقال: قَدَّرْتُ الشيءَ أقدُرُه وأَقْدِره (11) ؛ بالتخفيف، بمعنى: قدَّرته؛ بالتشديد؛ كما تقدَّم في أول كتاب الإيمان.
وهذا مذهب الجمهور في معنى هذا (12) الحديث؛ وقد دلَّ على صحته (13) ما رواه أبو هريرة مكان: ((فاقدروا له)): «فأكملوا العدَّة ثلاثين».
وهذا الحديثُ حجةٌ على من حمل: «فاقدروا له» على معنى: تقدير (14) المنازل، القمريةِ واعتبارِ حسابها، وإليه (15) صار ابنُ قتيبة من اللُّغويين، ومطرِّفُ بن عبدالله بن الشِّخِّير من كبراء (16) التابعين (17) .
ومن الحجَّة أيضًا على هؤلاء قولهُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا أَمٌّة أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ (18) »، فألغى الحسابَ، ولم يجعلْه طريقًا لذلك (19) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» يقتضي لزومَ حكمِ الصومِ =(3/138)=@
__________
(1) كذا في جميع النسخ، وتبع فيها ما في "المعلم" (2/29)، و"الإكمال" (4/8)، وما في "الصحاح" (1/203): غامت السماء تغيم غيومة.
(2) قوله: ((وغم)) ليس في (ز) و(س).
(3) سقط من (ز) و(س).
(4) في (ح) و(ي): «وغِيمَت». ولعلها: ((وَغِينَتْ)) وينظر فيما ذكره من هذه اللغات: "العين" (4/450)، و"اللسان" (12/44، 446)، (13/316)، و"أفعال ؟؟؟" (2/1، 5، 21).
(5) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((غمي)).
(6) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((غمي)).
(7) في (أ) و(ز) و(س): «الخير».
(8) في (ح) و(ي): «ويقال».
(9) في (أ): ((الغمام)).
(10) ينظر: "النهاية" (3/304)، "اللسان" (/).
(11) قوله: «وأقدره» سقط من (ح).
(12) قوله: «هذا» سقط من (أ).
(13) في (س): ((صحة)).
(14) في (ي): ((تقدر)).
(15) في (ح): «وإليها» وعليها علامة تضبيبي. (استشكال).
(16) في (ح): «كبار».
(17) ينظر: "التمهيد" (14/350 وما بعدها)، و"الاستذكار" (10/17- 19)، و"الفتح" (4/122)، وينظر: "لسان العرب" (قدر)، و"غريب ابن قتيبة" (؟؟؟).
(18) في (أ): «لا نحسب ولا نكتب ».
(19) ينظر: "القبس" (2/123- 124)، و"المدونة" (1/193)، و"التمهيد" (14/355)، و"الاستذكار" (10/25- 26)، و"المغني" (4/416، 420)، و"الأم" (2/95)، "الهداية شرح البداية" (1/120).(3/138)
والفطر ِلمن صحَّت له الرؤيةُ، سواءٌ شورك (1) في رؤيته (2) ،أو انفرد بها؛ وهو مذهبُ الجمهورِ. وذهب عطاءٌ وإسحاقُ: إلى أنه لا يلزمه حكمُ شيءٍ من ذلك (3) إذا انفرد بالرؤي،. وهذا الحديثُ ردٌّ عليهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»؛ أي: لم نكلف في تعرف مواقيت صومنا ولا (4) عبادتِنا ما نحتاجُ فيه إلى معرفةِ حسابٍ ولا كتابةٍ، وإنما رُبطتْ عباداتُنا بأعلامٍ واضحةٍ وأمورٍ ظاهرةٍ، يستوي في معرفةِ ذلك الْحُسَّابُ وغيرهُم. ثم تمَّم هذا المعنى وكمَّله حيثُ بيَّنه بإشارته بيده (5) ، ولم يتلفَّظْ بعبارةٍ عنه (6) ؛ نزولاً إلى ما يفهمُه الْخُرْصُ (7) والعُجْم. وحَصَلَ من إشارته بيده (8) ثلاثَ مراتٍ (9) : أن الشهرَ يكونُ ثلاثين، ومن خَنْسِهِ إِبْهامَّهُ في الثالثةِ: أن الشهرَ يكونُ تسعًا وعشرين؛ كما قد نصَّ عليه في (10) الحديث الآخر (11) .
وعلى هذا الحديث: من نذر (12) أن يصومَ شهرًا غيرَ معيَّنٍ؛ فله (13) أن يصوم (14) تسعًا وعشرين؛ لأن ذلك يقالُ عليه: شهر، كما أن من نذر صلاةً أجزأه من ذلك ركعتان؛ لأنه أقل ما يَصْدُق عليه الاسم، وكذلك من نذر صومًا فصام يومًا أجزأه. وهو خلاف ما ذهب إليه مالكٌ. فإنه قال: لا يجزئه إذا صامه بالأيام إلا ثلاثون يومًا؛ فإن صامه بالهلالِ (15) فعلى ما يكونُ ذلك الشهرُ من رؤيةِ هلاله (16) . =(3/139)=@
__________
(1) في (ز): ((سورك)) موضع علامة إهمال على الحرف الأول.
(2) في (ز): ((ريته)).
(3) قوله: ((شيء من ذلك)) سقط من (ي).
(4) قوله: ((ولا)) في (ح): ((و)).
(5) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): «بيديه».
(6) قوله: «عنه» سقط من (ح).
(7) كذا في جميع النسخ ! ولعلها: «الخرس» بالسين، وقد نقل النص في "عمدة القاري" (10/287) على الصواب بالسين.
(8) في (ز) و(س) و(أ): «بيديه».
(9) في (ز): ((مراتب)).
(10) قوله: ((في)) ليس في (س).
(11) يأتي هذا الحديث (ص؟؟؟).
(12) في (س): ((نذير)).
(13) في (ز): ((له)).
(14) في (س): ((شهرًا معينًا أن يصوم)).
(15) في (ز) و(س): ((بالهلالي)).
(16) "المدونة" (1/214).(3/139)
وفيه من الفقه: أن يومَ الشكِّ محكومٌ له بأنه من شعبان، وأنه لا يجوزُ صومُه عن رمضان؛ لأنه (1) علَّق صوم رمضان بالرؤية، ولَمْ فلا (2) .
وقول عائشة رضي الله عنها: «لما مضت تسع وعشرون ليلة» هذا الحديث هو جزءٌ من حديثٍ طويلٍ (3) يتضمَّن: أن نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم كَثُرْنَ عليه، وطالَبْنَه بتوسعةِ النفقةِ، فاجتمعن (4) في ذلك وخُضْن (5) فيه، فَوَجَدَ (6) عليهن، فأدَّبهن بأنْ أقسم ألَّا يدخلَ عليهنَّ شهرًا، فاعتزلهنَّ في غرفةٍ تسعًا وعشرين، فدخل عليه عمرُ رضي الله عنه في ذلك، وتلطِّف (7) فيه، إلى أن زالت مَوْجِدَتُه عليهن، وأنزل الله تعالى آيةَ التخييرِ (8) ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ثلاثين، فبدأ بعائشة، فذكَّرته بمقتضى يمينه وأنه أقسم على شهر، ظانَّةً أن الشهرَ لا يكون أقلَّ من ثلاثين، فبيَّن لها النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن الشهر يكون تسعًا وعشرين. وظاهره (9) : أنه اعتزلهن في (10) أول ليلةٍ من ذلك ا لشهر، وأن ذلك الشهرَ كان تسعًا وعشرين؛ ويشهدُ له قولُه: «إن الشهر تسع وعشرون»؛ أي: هذا الشهر؛ لأنه هو المتكلِّم فيه. ويحتملُ أن يكون اعتبر أولَ زمانِ اعتزالهِ بالأيام، وكمَّل تسعًا وعشرين بالعدد، واكتفى بأقلِّ ما ينطلقُ عليه اسم الشهر. وعليه يخرجُ الخلافُ فيمن نذر صومَ شهرٍ غير معين، فصامه بالعدد؛ فهل يصوم ثلاثين، أو =(3/140)=@
__________
(1) في (ي): ((لأن)).
(2) كتب في حاشية (أ): «لعله: وإن لم ير».
(3) يأتي بطوله في الطلاق، باب إيلاء الرجل من نسائه وتأديبهن باعتزالهن مدة.
(4) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): «واجتمعن».
(5) في (ز): ((وخضن)).
(6) وَجَد عليه في الغضب يَجُد ويَجِد وَجْدًا وجَدَة ومَوْجِدة ووجْدَانًا: غضب. "اللسان" (وجد).
(7) في (س): ((وتطلف)).
(8) وهي قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا} [الأحزاب، الآيتان: 28 و29].
(9) في (ح): «وظاهر».
(10) في (ح): «من».(3/140)
يكفيه (1) تسع وعشرون كما تقدَّم؟
وإخبارُ عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم بعدد تلك الليالي، يفهمُ منه: أنها (2) اعتبرت ذلك (3) الشهرَ بالعدد، واعتناؤها (4) بعددِ الأيام استطالةٌ لزمانِ الهجرِ؛ وذلك يدلُّ على فرط محبتها وشدة شوقها للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان عندها من ذلك ما لم يكن عند غيرها (5) ؛ وبذلك استوجبت أن تكون أحبَّ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إليه؛ كما قد صرَّح به النبي (6) صلى الله عليه وسلم؛ حيث قيل له: مَنْ أحبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ (7) : «عَائِشَةُ» (8) ، رضي الله عنها وعن أبيها (9) .
ومن باب لأهل كل بلد رؤيتهم عند التباعد
قوله: «واستُهلَّ عليَّ (10) هلال رمضان» مبنيًّا لما لم يُسمَّ فاعلُه. أصل ((استهل)): من الإهلال الذي هو رفعُ الصوتِ عند رؤيةِ الهلال، ثم غلب عرفُ الاستعمالِ =(3/141)=@
__________
(1) في (أ): «تكفيه»، وهي مهملة النقط في (ح)، وفي (ي): يشبه أن تكون ((يكفته)).
(2) في (ح): «إنما».
(3) في (ح) و(ي) و(أ): ((في ذلك)).
(4) في (أ) و(ز) و(س): «واعتبارها».
(5) في (ح) تشبه أن تكون: «عند أحد غيرها».
(6) قوله: ((النبي)) ليس في (ح) و(س) و(ز) و(ي).
(7) في (ح) و(ي): «قال».
(8) سيأتي في كتاب النبوات، باب فضائل أبي بكر الصديق واستخلافه رضي الله عنه.
(9) قوله: ((رضي الله عنها وعن أبيها)) زيادة في (ز).
(10) قوله: «علي» سقط من (أ).(3/141)
فصار يفهم منه رؤيةُ الهلال، ومنه سُمِّي الهلال لَمَّا كان يُهَلُّ عنده (1) .
وقول ابن عباس: «فلا نزال نصوم (2) حتى نكمل ثلاثين أو نراه» ثم قال في آخره: «هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم»؛ كلمةُ تصريحِ برفعِ (3) ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وبأمره (4) به، فهو حجَّةٌ على أن البلادَ إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز أو ما قارب ذلك، فالواجبُ على أهلِ كلِّ بلدٍ أن يعمل (5) على رؤيته دون رؤية غيره وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم، ما لم يحملِ الناسَ على ذلك فلا تجوزُ (6) مخالفتهُ؛ إذ المسألةُ اجتهاديةٌ مختلفٌ فيها، ولا يبقى مع حكم الإمام اجتهادٌ، ولا تحلُّ مخالفتُه. ألا ترى أن معاوية أمير المؤمنين رضي الله عنه قد صام بالرؤية وصام الناسُ بها بالشام، ثم لم يلتفت ابنُ عباسٍ إلى ذلك، بل بقي على حكم رؤيته هو (7) .
ووجه هذا يعرف (8) من علم الهيئة والتعديل؛ وذلك أنه يتبيَّنُ فيها: أنَّ ارتفاعاتِ الأقاليمِ مختلِفةٌ؛ فتختلفُ مطالعُ الأهلَّةِ ومغاربُها؛ فيطلعُ (9) الهلالُ، ويغربُ على قومٍ قبل طلوعه (10) وغروبه على آخرين. وعلى هذا: فلا يظهرُ (11) تأثيرُ هذا إلا فيما بَعُدَ جدًّا، لا فيما قَرُبَ، والله =(3/142)=@
__________
(1) ينظر: ((المغرب)) (2/388).
(2) في (ح): ((يزال نصوم))، وفي (ز) و(س): ((تزال تصوم)).
(3) في (أ) و(ز) و(س): «يرفع».
(4) في (ز) و(س): ((ويأمره به)).
(5) في (س) و(ز): ((تعمل)).
(6) في (أ): «يجوز».
(7) ينظر ((التمهيد)) (14/357).
(8) في (ز) و(س): ((العرف)).
(9) في (ي): ((فتطلع)).
(10) في (أ): ((ظلوعه)).
(11) في (ي): ((فلا تظهر)).(3/142)
تعالى أعلم.
وإلى هذا (1) صار ابن عباس، وسالمٌ، والقاسمُ، وعكرمةُ، وبه قال إسحاق. وإليه أشارَ الترمذيُّ؛ حيث بوَّب: لأهل كلِّ بلدٍ رؤيتُهم (2) . وحكى أبو عمر ابن عبدالبرِّ الإجماعَ على أنه لا تراعى (3) الرؤيةُ فيما بَعُد من البلدان كالأندلس من خراسان؛ قال: ولكلِّ بلد رؤيتهُم، إلا ما كان كالمصر الكبير، وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين (4) .
قلت (5) : وهذا الإجماعُ الذي حكاه أبو عمرَ يدلُّ على أن الخلاف الواقع في هذه المسألةِ إنما هو فيما تقارب من البلاد، ولم يكنْ في (6) حكمِ القطرِ الواحدِ، ونحنُ نذكره إن شاء الله تعالى.
قال ابنُ المنذر (7) : اختُلِفَ في الهلال يراه (8) أهلُ بلدٍ ولا يراه (9) غيرهُم: فقال قومٌ: لأهلِ كلِّ بلد رؤيتُهم، وذكر من تقدَّم ذكرُ أكثرهم.
وقال آخرون: إذا ثبت أن أهلَ بلدٍ رأوه فعليهم قضاءُ ما أفطروا. وهو قولُ الليثِ، والشافعيِّ، وأحمد، ولا أعلمه (10) إلا قولَ المزنيِّ والكوفي (11) .
وقال شيوخنا (12) (13) : إذا كانت رؤيةُ الهلالِ ظاهرةً قاطعةً بموضعٍ، ثم نقل إلى غيرهم بشهادةِ شاهدين، لزمهم الصومُ. وقال عبدُ الملكِ (14) : أما (15) ثبوتهُ بالشهادةِ فلا يلزمُ بها (16) الصومُ إلا لأهلِ البلدِ الذي ثبتت (17) فيه الشهادةُ، إلا أن تثبتَ عندَ الإمام الأعظمِ؛ فيلزمُ الناسَ كلَّهم الصيامُ. وعلل هذا: بأن البلاد كلها كبلدٍ واحدٍ (18) ؛ إذ حكمهُ (19) نافذٌ في الجميعِ.
قلت (20) : هكذا (21) وقع نقلُ المشايخ لهذه المسألة، ولم يفرِّقوا بين البعيد والقريب من الأقاليم، والصوابُ الفرقُ؛ بدليل الإجماعِ الذي حكاه أبو عمر (22) ، فيحملُ =(3/143)=@
__________
(1) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): «ذلك».
(2) ((سنن الترمذي)) (3/76).
(3) في (أ): «لا يراعى».
(4) ينظر: ((الاستذكار)) (3/283)، وينظر: ((الفتح)) (4/123).
(5) قوله: «قلت» سقط من (ح)، وفي (ز) و(س): ((قال الشيخ)).
(6) قوله: «يكن في» في (أ): ((يذكر فيه)).
(7) يوثق.
(8) في (ح) و(ي): ((رآه)).
(9) قوله: ((ولا يراه)) في (ي) و(ح): «وما رآه».
(10) في (ز): يشبه أن تكون ((أعلم)).
(11) ينظر: ((الاستذكار)) (10/28- 29).
(12) هي رواية ابن القاسم والمصريين عن مالك، وهو قول الليث والشافعي والكوفيين وأحمد.
((الاستذكار)) (10/29). ولفظ: ((وقال شيوخنا)) قاله القاضي عياش في ((الإكمال)) (4/11)، وقد نقل الشارح كلامه بالمعنى.
(13) في (أ): «وشيوخنا».
(14) وهذه رواية المدنيين عن مالك، وهو قول المغيرة وابن دينار. ((الاستذكار)) (10/29).
(15) في (ح) و(أ) و(ي): ((أما في)).
(16) في (ز) و(س): ((فيها)).
(17) في (ز) و(س): ((ثبت)).
(18) أي في حق الإمام.
(19) في (ز): يشبه أن تكون ((حكم)).
(20) في (ز) و(س): ((قال الشيخ)).
(21) في (ي): ((وهكذا)).
(22) في (ز): ((عمرو)).(3/143)
إطلاقُ المشايخ على البلادِ المتقاربة. والله تعالى أعلم.
وقوله (1) : «صوموا لرؤيته»؛ دليلٌ على أن يوم الشكِّ لا يلزمُ صومُه. وهو مذهبُ الجمهورِ، خلافًا لأحمد بن حنبل، فإنه أوجب صومه احتياطًا، فإن صح أنه من رمضان أجزأه، ونحوه قال الكوفيون، إلا أنهم لم يوجبوا صومه. والجمهور على أنه لا يصومهُ عن رمضان، ولا يجزئه إن صامه. وكان بعضُ الصحابةِ (2) رضي الله عنهم يأمرُ بالفصلِ ما بين رمضان وشعبان بفطرِ (3) يومٍ أو يومين. وكره محمدُ بن مسلمة (4) تحرِّيَ فطرِه، كما يكره (5) تحرِّي صومهِ (6) .
قلت (7) : والأصلُ: أنه (8) محكومٌ له بأنه من شعبان حتى يدلَّ الدليلُ على أنه من رمضان. والأدلَّة الناقلةُ عن حكم شعبان: الرؤيةُ، أو الشهادةُ، أو إكمالُ (9) عدة شعبان ثلاثين (10) ، ولم يوجدْ واحدٌ منها (11) في يوم الشكِّ. غير أنه يستحبُّ أن يمسك فيه من غيرِ (12) صومٍ ليسلمَ من الأكلِ في زمان رمضان (13) .
ثم قولهُ: «صوموا لرؤيته»؛ يقتضي وجوبَ الصَّومِ حينَ الرؤيةَ متى وُجدت، لكن منعَ الإجماعُ من الصوم حينئذٍ (14) ؛ فكانَ محمولاً على اليومِ المستقبلِ؛ لأنه هلالُ ليلةِ ذلك اليومِ.
ولا فرقَ بين رؤيته قبلَ الزوال أو بعده، وهو المشهورُ من مذاهبِ (15) العلماء، ومن مذهبِ مالكٍ (16) . وقال ابنُ وهبٍ، وابنُ حبيبٍ، وعيسى بنُ دينارٍ: إذا رئي (17) قبل الزوال فهو للَّيلةِ الماضيةِ، ويفطرون ساعةَ رؤيته إن كان هلالَ شوَّالٍ (18) .
وقال بعضُ أهل الظاهر: أما في الصوم فيُجعلُ للماضية، وأما في الفطر فيُجعلُ للمستقبلة (19) . وهو أخذٌ بالاحتياط منهم. والحديث المتقدِّم حجة عليهم (20) على ما قررناه.
و«بطن نخلة»: موضع (21) معروفُ بذاتِ عرقٍ؛ ولذلك قال في رواية أخرى في الأصل: قال أبو البختري (22) (23) : أهللنا رمضان ونحن بذات عرق. =(3/144)=@
__________
(1) في (ز) و(ي): ((وفي قوله)).
(2) منهم ابن عباس: أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/285 برقم 9022): حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا تصلوا رمضان بشيء ولا تقدموا قبله بيوم أو يومين.
وأخرج عبدالرزاق في "المصنف" (4/ 158 برقم 7311) عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء قال: كنت عند ابن عباس قبل رمضان بيوم أو يومين، فقرب غداؤه، فقال: أفطروا أيها الصيام، لا تواصلوا رمضان شيئًا، وافصلوا. وقال: وكان ابن عبدٍ القاري صائمًا فحسبت أنه أفطر.
وأخرج عبدالرزاق في "المصنف" (4/ 158 برقم 7312) عن ابن جريج قال: أخبرني عمر وبن دينار قال: كان ابن عباس يأمر بفصل بينهما.
وإسناد ابن أبي شيبة فيه حجاج ابن أرطأة صدوق كثير الخطأ والتدليس، يرتفع حديثه برواية ابن جريج في مصنف عبدالرزاق. فهذه أسانيد يعضد بعضها بعضًا.
عن عليٍّ: أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/286 برقم 9029): حدثنا هشيم قال: أنا مجالد، عن الشعبي، عن علي؛ أنه كان يخطب إذا حضر رمضان، فيقول: ألا لا تقدموا الشهر، إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتم الهلال فأفطروا، فأن غُمَّ عليكم فأتموا العدة، قال: كان يقول ذلك بعد صلاة العصر، وبعد صلاة الفجر.
عن عمر: أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/286 برقم 9030): حدثنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي، عن عمر؛ مثل ذلك، أي مثل ما روي عن علي.
(3) في (ز): ((يفطر)).
(4) في (أ): «مسلم».
(5) في (ز) و(س): ((يكره)).
(6) حكاه عنه القاضي في ((الإكمال)) (4/13).
(7) في (ز) و(س): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(8) في (ز): ((بأنه)).
(9) في (ز): ((كمال)).
(10) في (ز) و(س): ((بثلاثين)).
(11) في (س): ((منها)) بدل: ((منها))، وفي (ي): ((منهم)).
(12) في (ح): ((مستحب فيه أن يمسك فيه غير أن غير)).
(13) ؟؟؟.
(14) في حاشية (ح) ما نصه: ((حاشية لطيفة: ولم يمنع الإجماع من الصوم على الرأي فقط، بل والنص الصريح؛ بدليل قوله عليه السلام: ((إذا أقبل الليل من ههنا فقد أفطر الصائم وقد تحققنا أن الهلال لا يرى غالبًا إلا في حين حصول الليل، فهو محل الفطر؛ فتعين الفطر)).
(15) في (ز): ((مذهب)).
(16) قوله: ((ومن مذهب مالك)) ليس في (أ).
(17) في (ز) و(س): ((رأى)) كذا رسمت.
(18) ينظر: "التمهيد" (2/43) وما بعدها، و"الكافي" (1/120).
(19) ينظر: "المحلى" (6/239).
(20) قوله: ((عليهم)) سقط من (ح).
(21) ؟؟؟.
(22) في (س) و(ي): ((البحتري)).
(23) تخرج رواية أبي البختري.(3/144)
وقوله: فقال (1) : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله مدَّه (2) للرؤية»؛ هكذا صحَّت روايَتُنا فيه، وهكذا الأصولُ الصحيحةُ، والنسخُ المقيَّدَةُ (3) ، وقد سقط (4) في بعضِ النسخ لمن لا يضَبطُ ولا يَحفظُ: «قال: إن الله تعالى»، فيبقى (5) اللفظ: «إن رسول الله مدَّه للرؤية»؛ وهو خطأ صُراح، لا يقبلُ الإصلاح.
ووقع في إحدى الروايتين: «مدَّه» ثلاثيًّا، وفي الأخرى: «أمَدَّه» رباعيًّا.
قال القاضي أبو الفضل عياضٌ (6) : هما بمعنى: أطال له (7) مدَّة الرؤية، ومنه قولهُ تعالى: {وإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغّيِّ (8) } (9) ، وقُرئ بالوجهين (10) ؛ أي: يطيلون (11) لهم. وقال غيره: ((مدَّ)) (12) : من الامتداد. و((أمدَّ)): من الإمداد؛ وهو الزيادة؛ ومنه: أمددتُ الجيشَ بمددٍ. ويجوزُ أن يكونَ (13) : ((أمدَّه)) من الْمُدَّة (14) ؛ قال صاحب "الأفعال": أمددْتُكَ مَدةً: أعطيُتَكها (15) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((شهرا عيدٍ لا ينقصان» قيل فيه أقوالٌ (16) :
أحدُها: لا ينقصان من الأجر، وإن نقصا في العدد. =(3/145)=@
__________
(1) في (ح): ((وقال)).
(2) في (ح): «مد».
(3) في (ي): ((المفيدة)).
(4) في (ز) و(س): ((وقع)) بدل ((سقط)).
(5) في (ز): ((فيبغى)).
(6) ينظر: "مشارق الأنوار" (1/375- 376)، "الإكمال" (4/23).
(7) في (ح): ((الله)) بدل له، وفي (ي): سقط قوله: ((له)).
(8) قوله: ((في الغي)) ليس في (ز) و(س).
(9) سورة الأعراف؛ الآية: 202.
(10) قرأ نافع بضم الميم وكسر الميم، وباقي السبعة بفتح الياء وضم الميم "السبعة في القراءات" (ص301)، "حجة القراءات" لابن زنجلة (ص306).
(11) في (ز): ((يطلبون))، وفي (ي): ((تطيلون)).
(12) في (أ): «مديته».
(13) قوله: «أن يكون» سقط من (ح).
(14) قال القاضي، والمشارقة:من المدة، أي: أعطاه مدة وقدرا. وقال في "الإكمال": من المدة التي جعلت له.
(15) ينظر: "الأفعال" لابن القوطية (ص149)، و"الأفعال" للسرقسطي (4/147)، و"الأفعال" لابن القطاع (3/197) والعبارة بنصها في ثلاثة الكتب. [وتراجع المراد منهم].
(16) ينظر: "التمهيد" (2/45- 46)، "الفتح" (4/124)، و"شرح النووي" (7/199).(3/145)
وثانيها: لا ينقصان في عام بعينه (1) .
وثالثها: لا يجتمعان (2) ناقصين في سنةٍ واحدة في غالب الأمر.
ورابعها: ما قاله الطَّحاويُّ: لا ينقصان في الأحكام، وإن نقصا في العددِ؛ لأنَّ في أحدِهما الصيامَ، وفي الآخرِ الحجَّ، وأحكام ذلك كلِّه (3) كاملةٌ غيرُ ناقصةٍ (4) .
وخامسها: ما قاله الخطَّابيُّ: لا (5) ينقصُ أجرُ ذي الحجَّةِ عن أجر رمضان؛ لفضل العمل في العشر (6) .
وقوله: «لا تقدموا (7) رمضان بصوم يوم ولا يومين» هذا النهيُ لما يُخافُ من الزيادةِ في شهر رمضان، وهو من أدلَّةِ مالكٍ على قوله بسدِّ الذرائع، لا سيما وقد وقع لأهلِ الكتابين من الزيادةِ في أيامِ الصومِ غلط (8) ، حتى أنهوا (9) ذلك إلى ستين يومًا، كما هو المنقولُ عنهم (10) . وقد وسَّع في المنع في الحديث الذي خرَّجه الترمذيُّ عن أبي هريرة وصحَّحه (11) فقال (12) : قال رسول صلى الله عليه وسلم: «إِذَا بَقِيَ (13) نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَأَمْسِكُوا عَنْ الصَّوْمِ حَتَّى يَأْتِي رَمَضَانُ» (14) .
ومَحْمَلُ هذا النهي ما يخاف من الزيادة =(3/146)=@
__________
(1) قال في "الفتح" (4/125): ((وهو العام الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة)).
(2) زاد بعده في (ح): ((في العام)).
(3) سقط في (ز) و(س).
(4) ينظر: "شرح معاني الآثار" (2/58)، و"أحكام القرآن" (1/442- 443).
(5) في (ح): ((أي لا)).
(6) يوثق.
(7) في (س): ((لا تصوموا)).
(8) ليس في (أ) و(ح) و(ي).
(9) في (أ): ((انهو)).
(10) ينظر: "أحكام القرآن الكريم" للطحاوي (1/420)، "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (1/269- 270، 364)، "إعلام الموقعين" (3/143)، "نواسخ القرآن" (1/63- 64).
(11) أخرجه عبدالرزاق (4/161 رقم7325)، وابن أبي شيبة (2/285 رقم9026) في الصلاة، باب من كره أن يتقدم شهر رمضان بصوم، وأحمد (2/442)، والدارمي (2/17) في الصيام، باب النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان، وابن ماجه (1/528 رقم1651) في الصيام، باب ما جاء في النهي عن أن يتقدم رمضان بصوم...، وأبو داود (2/751 رقم2337) في الصوم، باب في كراهية ذلك، والترمذي (3/115 رقم738)، في الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان، والنسائي في "الكبرى" (2/172 رقم2911)، والطحاوي (2/82)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (3/354)، وابن حبان (8/355-356 و358 رقم3589 و3591/الإحسان)، وابن عدي (1/225)، و(2/44)، والدارقطني (2/191-192 و192)، وتمّام (2/202 رقم594/الروض البسام)، والبيهقي (4/209). جميعهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا»، زاد بعضهم: «ومن كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه».
قال أبو داود عقب روايته: «وكان عبدالرحمن لا يحدث به، قلت لأحمد: لم؟ قال: لأنه كان عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان. وقال: عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه. قال أبو داود: وليس هذا عندي خلافه ولم يجئ به غير العلاء، عن أبيه».اهـ.
وقال الترمذي: «حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ. ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم: أن يكون الرجل مفطرًا، فإذا بقي من شعبان شيء أخذ في الصوم لحال شهر رمضان. وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشبه قولهم؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تقدموا شهر رمضان بصيام إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه أحدكم»، وقد دل في هذا الحديث إنما الكراهية على من يتعمد الصيام لحال رمضان».اهـ.
وقال النسائي: «لا نعلم أحدًا روى هذا الحديث غير العلاء بن عبدالرحمن».اهـ.
وقال الذهبي في "السير" (6/187): «ومن أغرب ما أتى به عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا.. .اهـ. الحديث»
وقال الزيلعي (2/441): «وروي عن أحمد أنه قال: هذا الحديث ليس بمحفوظ. قال أحمد: والعلاء ثقة لا ينكر من حديثه إلا هذا».اهـ.
ونقل الحافظ في "التلخيص" (2/395) عن ابن القطان أنه حديث حسن ،وأن أبا حاتم أنكر هذا الحديث بعينه على عبدالرحمن.
وقال ابن القيم في "تهذيب السنن"، كما في "عون المعبود" (6/460-462): «الذين ردُّوا هذا الحديث لهم مأخذان:
أحدهما: أنه لم يتابع العلاء عليه أحد، بل انفرد به عن الناس، وكيف لا يكون هذا معروفا عند أصحاب أبي هريرة، مع أنه أمر تعم به البلوى ويتصل به العمل؟
والمأخذ الثاني: أنهم ظنوه معارضًا لحديث عائشة وأم سلمة في صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله، أو قليلاً منه، وقوله: « إلا أن يكون لأحدكم صوم فليصمه »، وسؤاله للرجل عن صومه سرر شعبان. قالوا: وهذه الأحاديث أصح منه.
وأما المصححون له فأجابوا عن هذا: بأنه ليس فيه ما يقدح في صحته، وهو حديث على شرط مسلم، والتفرد الذي يعلل به هو تفرد الرجل عن الناس بوصل ما أرسلوه، أو رفع ما وقفوه، أو زيادة لفظة لم يذكروها. وأما الثقة العدل إذا روى حديثًا وتفرد به، لم يكن تفرده علّة، فكم قد تفرد الثقات بسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم عملت بها الأمة!
قالوا: وأما ظن معارضته بالأحاديث الدالة على صيام شعبان فلا معارضة بينهما؛ وإن تلك الأحاديث تدل على صوم نصفه مع ما قبله، وعلى الصوم المعتاد في النصف الثاني، وحديث العلاء يدل على المنع من تعمد الصوم بعد النصف، لا لعادة، ولا مضافًا إلى ما قبله.
(12) في (ح): «قال».
(13) في (ز): ((أبقي)).
(14) قال: وسألت عنه ابن مهدي؟ فلم يصححه ولم يحدثني به، وكان يتوقَّاه.(3/146)
في شهر (1) رمضان، فإن أُمِنَ ذلك جاز؛ بدليل قولِهِ: «إلا رجلٌ كان (2) يصومُ صومًا فليصمه»، وبدليل ما قالت عائشةُ رضي الله عنها: «كان صلى الله عليه وسلم يصومُ شعبانَ كلَّه»، «كان يصومُ شعبان (3) إلا قليلاً» (4) ، وسيأتي الكلام على هذا الحديث إن شاء الله تعالى (5) .
وفي هذا الحديث ما يدلُّ على أن صومَ يومِ الشكِّ جائزٌ، وقد اختلف في ذلك (6) .
ومن باب: قوله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض
من الخيط الأسود}
حديث عديٍّ هذا يقتضي أن قوله تعالى: {من الفجر} نزل (7) متصلاً بقوله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} (8) ، وأن عديَّ بَن حاتم حملَ الخيطَ على حقيقته، وفهم من قوله: {من الفجر}: من أجل الفجر؛ ففعل ما فعل بالعقال الأبيض والأسود. وهذا بخلاف حديث سهلِ بنِ سعدٍ، فإنَّ فيه: أن الله تعالى لم يُنزل {من الفجر} إلا منفصلاً عن قوله: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود}، ولما وقع لهم الإشكال؛ حينئذٍ أنزل الله تعالى: =(3/147)=@
__________
(1) قوله: «شهر» سقط من (ح).
(2) قوله: ((كان)) مطموس في (ح).
(3) قوله: «كان يصوم شعبان» سقط من (أ).
(4) سيأتي في باب كيف كان يصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التطوع.
(5) في باب كيف صومُ رسول الله في التطوع.
(6) تقدم ص؟؟؟.
(7) قوله: «نزل» سقط من (ح).
(8) سورة البقرة، الآية: 187.(3/147)
{من الفجر} دافعًا لذلك الإشكال، وكأنَّ (1) الحديثين واقعتان (2) في وقتين.
ويصحُّ الجمعُ بأن يكون (3) حديثُ عديٍّ متأخرًا عن حديث سهلٍ، وأن عديًّا لم يسمع ما جرى في حديث سهل، وإنما سمع الآية مجرَّدةً، ففهمها على ما قررناه، فبين (4) له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أن الخيطَ الأبيضَ كنايةٌ عن بياض الفجر، والخيطَ الأسودَ كنايةٌ عن سواد الليل، وأن معنى ذلك أن ينفصل (5) أحدُهما عن الآخر؛ وعلى هذا فيكونُ {من الفجر} متعلقًا بـ{ يتبين}، وعلى مقتضى حديث سهلٍ يكون في موضع الحال متعلقًا بمحذوف، وهكذا هو معنى جوابهِ في حديث سهل. ويحتملُ أن يكونَ الحديثان قضيةً واحدةً، وذكرَ بعضُ الرواةِ: {من الفجر} متصلاً بما قبله، كما ثبت في القرآن وإن كان قد نزل متفرقًا؛ كما بينه حديثُ سهلٍ، والله تعالى أعلم (6) .
وقوله: «إني جعلت تحت وسادي (7) عقالين» إنما جعلهما تحت وسادِهِ لاعتنائه بهما، ولينظرَ إليهما وهو على فراشه من غير كلفةِ قيامٍ ولا طلبٍ، فكان يرفعُ الوساد إذا أراد أن ينظرَ إليهما. و((العقال)): الخيط؛ سُمِّي بذلك ولأنه يُعْقُل به؛ أي: يُرْبَطُ به ويحبس.
وقوله: «إن وسادك لعريض» حمله بعضُ الناس على الذمِّ له على ذلك الفهم، وكأنه فهم منه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نسبه إلى الجهل والجفاء وعدم الفقه؛ وربما عضدوا هذا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم (8) قال له (9) : «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا» (10) ، وليس الأمر =(3/148)=@
__________
(1) في (ح): ((فكأن)).
(2) في (ح): ((واقعان)).
(3) قوله: ((يكون)) سقط من (ز).
(4) في (ح): ((فتبين)).
(5) قوله: ((ينفصل)) لم تتضح في (س).
(6) نقل الحافظ في "الفتح" (4/134) كلام الشارح هنا، وقال: ((قلت: وهذا الثاني (أي: احتمال أن يكون الحديثان قصة واحدة) ضعيف؛ لأن قصة عدي متأخرة؛ لتأخر إسلامه)) ثم قال: ((وأما عدي فكأنه لم يكن في لغة قومه استعارة الخيط [الأبيض] للصبح، وحمله قوله: {من الفجر} على السببية؛ فظن أن الغاية تنتهي إلى أن يظهر أحد الخيطين من الآخر بضياء الفجر. أو نسي قوله: {من الفجر} ذكره به النبي صلى الله عليه وسلم.اهـ.
(7) في (ز) و(س): ((وسادتي)).
(8) من قوله: «نسبه إلى الجهل....» إلى هنا سقط من (ح).
(9) سقط من (س) و(ز).
(10) أخرجه البخاري (8/282رقم4510) في التفسير، باب{وكلوا واشربوا}.(3/148)
كذلك؛ فإنه حملَ اللفظَ على حقيقتِه اللسانيةِ التي (1) هي الأصلُ؛ إذ لم يتبينْ له دليلُ التجوُّزِ، ومن تمسَّك بهذا الطريق لا (2) يستحقُّ الذمّ (3) ، ولا ينسبُ إلى جهلٍ، وإنما عنى بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم - والله تعالى أعلم (4) -: أن وسادك إن غطى الخيطين اللذين أراد الله، اللذين هما الليل والنهار، فهو إذن وسادٌ عريضٌ واسعٌ؛ إذ قد شملهما وعلاهما؛ ألا تراه قد قال على إثر ذلك: «إنما (5) هو سوادُ الليل وبياضُ النهار»؛ كأنه (6) قال: فكيف (7) يدخلان تحت وسادٍ؟! وإلى هذا يرجع قولُه: «إنك لعريض القفا»؛ لأن هذا الوساد الذي قد غَطَّى الليل والنهار بعرضه (8) ، لا يرقد عليه ولا يتوسده إلا قفًا عريضٌ، حتى يناسبَ عرضُه عرضَه. وهذا عندي أشبه ما قيل فيه وأليق. ويدل أيضًا عليه ما زاده البخاري (9) قال: «إن وسادك إذن لعريض، إن كان الخيطُ الأبيضُ والأسودُ تحت وسادك (10) »، وقد أكثر الناس فيه.
وقوله: «حتى يتبين له (11) رِئْيُهما» بكسر الراء وهمزة ساكنة، وياء باثنتين من أسفل مرفوعة؛ وهو المنظر؛ ومنه (12) : {أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} (13) . قال في كتاب "العين": الرِّيُّ: ما رأيتَه من حالٍ حسنةٍ (14) . وربما صحَّف بعضُ الناس فقال (15) : رَئِيُهما (16) ، بفتح الراء (17) وكسر (18) الهمزة، ولا وجه له عندي (19) ؛ لأن الرَّئيَّ (20) هو التابع من الجن (21) ، يقال فيه بفتح الراء وبكسرها (22) .
وقوله: «فأنزل الله تعالى بعد ذلك {من الفجر}، روي: أنه كان بينهما (23) =(3/149)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((إذا((.
(2) في (ز) و(س) و(ح) و(ي): ((لم)).
(3) في (ح) و(ز) و(س): «ذمًّا».
(4) قوله: «والله تعالى أعلم» ليس في (أ).
(5) في (أ): ((وإنما)).
(6) في (ي) و(ح) و(أ): ((وكأنه)).
(7) في (ر) و(ي): ((كيف)(.
(8) في (ح): ((بعرضيه)).
(9) في التفسير (8/182 رقم4509) باب: {وكلوا واشربوا}.
(10) من قوله: «ويدل أيضًا عليه....» إلى هنا سقط من (أ) و(ز) و(س).
(11) في (ح): ((لكم)).
(12) في (ح): ((فيه)).
(13) سورة مريم؛ الآية: 74.
(14) "العين" (8/307). و"الرِّيّ" بتخفيف الهمز. وقرئ بهما في قوله تعالى: {هم أحسن أثاثا ورئيا}. ينظر السبعة (ص411)، "اللسان" (14/295).
(15) قوله: ((فقال)) ليس في (ز) و(س).
(16) في (ي): ((رئيها)).
(17) قوله: «بفتح الراء» سقط من (ح) و(ي).
(18) في (ح): ((بكسر)).
(19) قوله: «عندي» سقط من (ح).
(20) في (ز): ((الذي))، وفي (ي): ((الرتي)).
(21) في (أ): ((لأن الرّئي اليانع من الحق)).
(22) ينظر: "مشارق الأنوار" (1/276)، و"اللسان" (14/298).
(23) يخرج.(3/149)
عام.
والفجر مأخوذٌ من تفجَّرِ الماءِ؛ لأنَّه يتفجر (1) شيئًا بعد شيء.
وقوله: «إن بلالاً ينادي بليل»؛ هذا النداء، هو أذان الفجر عند الجمهور، وحكمته عندهم: الهبوب من النوم والتأهُّب لصلاة (2) الصبح، واختَصَّت الصبحُ بذلك؛ لأن الأفضلَ فيها إيقاعُها في (3) أولِ وقتها مطلقًا، فيلزمُ من المحافظةِ على إيقاعها في أول وقتها التأهُّبُ لها قبل وقتها، وقبلها نومُ الليلِ المستصحَبُ، فاقتضى مجموعُ ذلك أن يُنْصَب من يوقظُ الناسَ قبلَ وقتها؛ فكان ذلك بالأذان.
وذهب أبو حنيفة والثوريُّ: إلى أن هذا الأذان إنما فائدته ما نص عليه في الحديث الآخر: «ليوقظ نائمكم (4) ، ويرجع قائمكم»، والإعلامُ بوقت السّحور، ولا يكتفى به للفجرِ، بل لابدَّ من أذانٍ آخر إذا طلع الفجر، كما كان يؤذن ابنُ أم مكتوم. ومُتَمسَّكُهما من حديثِ بلالٍ وابن أم مكتوم واضحٌ، غير أن العملَ المنقولَ بالمدينةِ على تقديمِ أذان الفجر قبله.
ثم اختلف الجمهورُ في الوقت الذي تؤذن فيه للفجر: فأكثرهم قال: السدسُ الآخر من الليل. وقيل: النصفُ. وقيل: بعدَ خروج وقت العشاء الآخرة. وهذه الأقاويل الثلاثة (5) في مذهبنا (6) .
وقوله: «ولم يكن بينهما إلا أن يرقى هذا وينزل (7) هذا». وفي ((البخاري)) (8) من حديث عائشة رضي الله عنها - عن ابن أم مكتوم (9) -: ((فَإنَّهُ لا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ)) وقال فيه: قال القاسم: ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا (10) .
وفي "الموطأ" (11) : وكان ابنُ أم مكتوم رجلاً أعمى، لا يؤذن حتى يقال له: أصبحتَ، أصبحتَ! (12) . ومثله في "البخاري" (13) أيضًا (14) . =(3/150)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((ينفجر)).
(2) في (ي): ((للصلاة)).
(3) في (ح): ((من)).
(4) في (س): ((تايمكم)).
(5) في (ز): ((الثلا)).
(6) ما ذكره الشارح هنا حكاه القاضي في "الإكمال" (4/28).
والقول بأنه السدس الآخر من الليل قول ابن وهب، وغير عنه بالسحر. وقول الشارح: ((وقيل النصف. وقيل: بعد خروج وقت العشاء الآخرة))). قال ابن عبد البر: قال ابن حبيب: يؤذن لها بعد خروج وقت العشاء وذلك نصف الليل.اهـ. وقد اختلف في آخر وقت العشاء الآخرة، فقيل: ثلث الليل، وقيل: نصفه، وقيل: إلى طلوع الفجر. فكأن القولين اللذين ذكرهما الشارح قول واحد هو قول ابن حبيب. والقول الثالث في المسألة أنه آخر الليل غير محدود ذكره في "الذخيرة" (2/70) وقد وصف القاضي القول بأنه بعد خروج وقت العشاء والآخرة بأنه قولة شاذة، وينظر: "الاستذكار" (1/202- 204)، (4/71).
(7) في (ح): ((أو ينزل)).
(8) (4/136 رقم1918 و1919) في الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال».
(9) أي: عن أذان ابن أم مكتوم.
(10) في (ح): «يرقى هذا وينزل هذا».
(11) (1/74-75) في الصلاة، باب قدر السحور من النداء.
(12) قوله: «أصبحت» الثانية سقط من (ح).
(13) (2/99 رقم617) في الأذان، باب إذان الأعمى إذا كان له من يخبره، و(5/264 رقم2656 ) في الشهادات، باب شهادة الأعمى.
(14) قوله: ((أيضًا)) سقط من (أ).(3/150)
قلت (1) : وقد أَشْكَلَ قولُ القاسم مع مسَاقِ حديث بلال وابن أم مكتوم؛ وذلك أن حديثَ بلالٍ يقتضي: أن بين وقت أذانه وطلوع الفجر زمانًا طويلاً يتسع لصلاةِ الليل والسّحور (2) ، وأذان (3) ابن أم مكتوم يقتضي: أنه كان لا يؤذِّنُ حتى يطلعَ الفجرُ، ثم قال القاسم: ((لم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا))، وهذا الوقت لا يتسع لشيء من الصلاة، ولا من السّحور، فتناقضا.
وقد انفُصلَ عنه من وجهين:
أحدهما: أن هذا كان من بلالٍ في بعض الأوقات، لا في غالبها، بل كان غالب أحواله (4) : أن يوسِّع بين أذانه وبين طلوع الفجر؛ وقد روي: أنه أذن عند طلوع الفجر (5) .
وثانيهما - وهو الأشبه -: أن بلالاً كان يؤذِّن قبلَ طلوعِ الفجرِ، فيجلسُ في موضعِ أذانه يذكرُ الله تعالى (6) ويدع وحتى ينظرَ إلى تباشير الفجر ومقدماته، فينزل، فيُعلِمُ ابنَ أمِّ مكتومٍ بالفجر - ولعله هو الذي كان يقول له: أصبحت، أصبحت؛ أي: قاربت الصباح - وعند ذلك يرقى (7) ابن أم مكتوم، فيؤذن. والله تعالى أعلم (8) .
فقولُ القاسم في رواية البخاري: «بين أذانهما» معناه: بينهما؛ كما قال في حديث ابن عمر: «ولم يكن بينهما»؛ أي: لم يكن بين نزولِ بلالٍ وصعود ابن أم مكتوم طويلُ زمنٍ، بل بنفس ما ينزلُ أحدُهما يصعدُ الآخرُ من غير تراخٍ. والله تعالى أعلم.
وقوله: «إن بلالاً ينادي (9) بليل» دليلٌ على أن ما بعد الفجر لا يقال عليه ليل، بل (10) هو أول اليوم المأمور بصومه.
وقوله: «حتى يؤذن ابن أم مكتوم»؛ أي: حتى يشرع (11) في الأذان، وهذا =(3/151)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(2) أي: ما روي عن أذان ابن أم مكتوم.
(3) في (ز) و(س)ك ((وللسحور)).
(4) في (ي): ((حاله)).
(5) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (4/233 برقم 7616): عن ابن جريج، عن يزيد بن أبي زياد مولى آل علي: أن ناسًا من ثقيف قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلهم بالمقبرة، وذلك في رمضان، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم بسحورهم بعد أذان بلال بعد طلوع الفجر الأول وأسفر جدًّا...، الحديث.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/194 برقم2221): حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن طلحة، عن سويد، عن بلال قال: كان لا يؤذن حتى ينشق الفجر.
(6) قوله: «الله تعالى» سقط من (ح).
(7) في (ي): ((ترقى)).
(8) ذكر هذا التأويل القاضي في "الإكمال" (4/28)، وذكره النووي في "شرح مسلم" (7/204) قائلاً: ((قال العلماء...)) وقد تعقبه الحافظ في "الفتح" (2/106)، فقال: ((وهذا مع وضوح مخالفته لسياق الحديث يحتاج إلى دليل خاص حتى يسوغ له التأويل)).اهـ.
(9) في (س): ((يؤذن)).
(10) في (ح): ((بل يقال هو)).
(11) في (أ): ((أي بسرع)).(3/151)
ظاهره. ويحتمل: حتى يفرغ من الأذان؛ ويؤيد (1) هذا الاحتمال: ما ذكره أبو داود (2) من حديث أبي هريرة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمع أحدُكم النداء والإناءُ على يده فلا يضعْه حتى يقضيَ حاجتهَ منه (3) »؛ وهذا هو أذان ابن أم مكتوم؛ فإنه مشعرُ بأن هذا إنما يُفعل عند ضيق الوقت، ولا يصحُّ أن يُردَّ إلى حديث ابن عمر؛ لأن ذلك صرَّح فيه بالتراخي والتوسعة. فيقتضي (4) أكثرَ من هذا الوقتِ؛ وعلى هذا: فيكونُ قولُه في أذانِ ابن أم (5) مكتوم: «حتى (6) يطلع الفجر»؛ أي: يقارب، وكذلك «أصبحتَ»؛ أي: قاربتَ الدخولَ في الصباح.
وهذا التأويل على ما قررناه في حدِّ الصوم؛ من أن الواجب إمساك جميع أجزاء اليوم، وحالة طلوع الفجر: من اليوم، فلابد من إمساكها، ويلزم من إمساكها: إمساك جزء من الليل حتى يأمن من الأكل فيما هو جزء من اليوم (7) ، وعلى هذا فأول التبين هو المحرِّم بنفسه، لكن اختلف في هذا التبين بالنسبة إلى ماذا يكون :
فذهب الجمهور (8) وفقهاء الأمصار والأعصار: إلى أنه أول تبين الفجر في الأفق الذاهب فيه عرضًا.
وروي عن عثمان (9) ، وحذيفة (10) ، وابن عباس (11) ، وطلق بن علي (12) ، وعطاء بن أبي رباح، والأعمش، وغيرهم: أن الإمساك يجب بتبين (13) الفجر في الطرق وعلى رءوس الجبال.
وقد قيل لحذيفةَ: أيَّ (14) حينٍ تسحَّرتَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو النهار إلا أن الشمسَ لم تَطلُعْ (15) .
وروي عن علي (16) رضي الله عنه: أنه صلَّى الصبح بالناس، ثم قال: الآن تبيَّن الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ.
قال الطبريُّ (17) : ومما قادهم إلى هذا القول: أن الصومَ إنما هو في النهار، والنهارُ عندهم: من طلوع الشمس، وآخرهُ غروبها (18) . =(3/152)=@
__________
(1) في (ي): ((ومؤيد)).
(2) أخرجه أحمد (2/423 و510)، وأبو داود (2/761-762 رقم2350) في الصوم، باب في الرجل يسمع النداء والإناء في يده، والطبري في "تفسيره" (3/526 رقم3015)، والدارقطني (2/165)، والحاكم (426)، والبيهقي (4/218).
جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه».
قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». ووافقه الذهبي.
قال الألباني في "الصحيحة" (1394): «وفيه نظر، فإن محمد بن عمر وإنما أخرج له مسلم مقرونًا بغيره، فه وحسن. نعم لم ينفرد به ابن عمرو؛ فقد قال حماد بن سلمة أيضًا: عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وزاد فيه: «وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر». أخرجه أحمد (2/510)، وابن جرير (3/527 رقم3016)، والبيهقي (4/218)، قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وله شواهد كثيرة».اهـ.
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/123-124 و256-257): «سألت أبي عن حديث رواه روح بن عبادة، عن حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم... الحديث، قلت لأبي: وروى روح أيضًا عن حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وزاد فيه: وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر؟ قال أبي: هذان الحديثان ليسا بصحيحين؛ أما حديث عمار: فعن أبي هريرة موقوف، وعمار ثقة، والحديث الآخر ليس بصحيح». اهـ.
وقال ابن القيم في "تهذيب السنن" (6/475-476/كما في عون المعبود): «هذا الحديث أعله ابن القطان بأنه مشكوك في اتصاله؛ قال: لأن أبا داود قال: أنبأنا عبد الأعلى بن حماد، أظنه عن حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي هريرة، فذكره».اهـ.
وللحديث شواهد يتقوى بها؛ انظر "الصحيحة" (3/382-384).
(3) قوله: ((منه)) ليس في (ز) و(س).
(4) في (ز) و(س): ((تقتضي)).
(5) قوله: «أم» سقط من (ح).
(6) في (ح): «حين».
(7) في (ز) و(س): ((جزء اليوم)).
(8) ينظر: "الأوسط" (/)، و"الفتح" (4/36- 137).
(9) لم أجده.
(10) يأتي قريبًا.
(11) أخرجه عبدالرزاق (3/54 رقم4765)، والطبري في "تفسيره" (3/514 رقم2994). كلاهما من طريق ابن جريج، قال: أخبرني عطاء؛ أنه سمع ابن عباس يقول: هما فجران، فأما الذي يسطع في السماء، فليس يحل ولا يحرم شيئًا، ولكن الفجر الذي يستبين على رءوس الجبال هو الذي يحرم الشراب.
وسنده صحيح، انظر "صحيح ابن خزيمة" (3/210) عن ابن عباس مرفوعًا.
(12) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/289 رقم9069): حدثنا ملازم بن عمرو، عن عبدالله بن النعمان، عن قيس بن طلق قال: حدثني أبي طلق بن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا ولا يَهِيدنكم الساطع المصعد، كلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر»، وقال هكذا بيده.
وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (3/211 برقم1930): حدثنا أحمد بن المقدام، نا ملازم بن عمرو، بنفس السند لدى ابن أبي شيبة، وقال ابن خزيمة: «فإن صح الخبر فإني لا أعرف عبدالله بن النعمان هذا بعدالة ولا جرح، ولا أعرف له عن ملازم بن عمرو».
وأخرجه أحمد في "المسند" (4/23) في حديث طلق بن علي رضي الله عنه: حدثنا عبدالله، حدثني أبي، ثنا موسى، ثنا محمد بن جابر، عن عبدالله بن النعمان، عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعًا بنحوه.
وقول ابن خزيمة: «لا أعرف له عن ملازم بن عمرو» لا يقدح فيه؛ فقد أثبت أبو حاتم أن ملازمَ ابن عمر وروى عنه؛ انظر "الجرح والتعديل" (5/186 رقم865). وقد ذكره العجلي في "الثقات" (2/64 رقم985).
وقد أخرج الحديث الطبراني في "الكبير" (8/331 رقم8236) بالإسناد رقم (8235): حدثنا بشر بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعًا بنحوه.
ولا يضره ضعف محمد بن جابر؛ فقد أورده الطبراني في "الكبير" (8/336 برقم8257): حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن محمد العسكري، ثنا ملازم بن عمرو، عن عبدالله بن النعمان، عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعًا؛ فالحديث صحيح.
(13) في (ز) و(س): ((بتبيين)).
(14) في (ز) و(س): ((إني)) بدل ((أي)).
(15) رُوي عن حذيفة من طريق زر بن حبيش، وصلة بن زفر: أما طريق زر، فرواه عنه عاصم بن بهدلة، وعدي بن ثابت.
1 - طريق عاصم:
أخرجه أحمد (5/396) عن عفان، والطحاوي (2/52)، وابن حزم في "المحلى" (6/231-232) من طريق روح بن عبادة؛ كلاهما عن حماد بن سلمة.
وأخرجه أحمد (5/400)، والنسائي (2/142 رقم2152) كتاب الصيام، باب تأخير السحور، وذكر الاختلاف على زر فيه، والطبري في "تفسيره" (3/525 رقم3013) من طريق سفيان.
وأخرجه ابن ماجه (1/541 رقم1695) كتاب الصيام، باب ما جاء في تأخير السحور، والطبري (3/524 و525 رقم 3011و3012) من طريق أبي بكر بن عياش.
وأخرجه أحمد (5/405) عن يزيد بن هارون، عن شريك بن عبدالله القاضي.
وأخرجه الطبري (3/525-526 رقم3014) عن ابن حميد، عن الحكم بن بشير، عن عمر وبن قيس، وخلاد الصفار.
ستتهم عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع.
2 - طريق عدي بن ثابت:
أخرجه النسائي (2/142 رقم2153) الموضع السابق، عن محمد بن بشار، عن محمد، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، به، ولفظه: تسحرت مع حذيفة، ثم خرجنا إلى الصلاة، فلما أتينا المسجد صلينا ركعتين، وأقيمت الصلاة، وليس بينهما إلا هنيهة».
وأما طريق صلة بن زفر:
فأخرجه النسائي (2/142-143 رقم2154) في الموضع السابق، عن محمد بن فضيل، عن أبي يعفور، عن إبراهيم، عن صلة، به، بمعناه، وهذا حديث صحيح.
وانظر "شرح معاني الآثار" (2/52-54).
(16) أخرجه الطبري (3/524 رقم3010) عن ابن حميد، عن جرير، عن منصور، عن أبي إسحاق، عن أبي السفر قال: صلى علي بن أبي طالب الفجر، ثم قال: هذا حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
وسنده ضعيف؛ ابن حميد هو محمد بن حميد الرزاي: حافظ ضعيف، كما في "التقريب" (5871)، وأبو السفر هو سعيد بن يحمد: تابعي ثقة، يروي عن متوسطي الصحابة، ولم يدرك عليًّا.
وقد روي من وجه آخر: أخرجه الطبري أيضًا (3/519 رقم3001) عن هارون بن إسحاق الهمداني، عن مصعب بن المقدام، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عن علي، بمعناه. وفي سنده مصعب بن المقدام: وثقه الدارقطني، وقال أبو حاتم: صالح، وقال أبو داود: لا بأس به. وضعفه ابن المديني والساجي. وقال أحمد: «كان رجلاً صالحًا، رأيت له كتابًا فإذا هو كثير الخطأ...». "تهذيب الكمال" (28/45)، و"تهذيب التهذيب"(4/87)، وفي"التقريب"(6741):« صدوق له أوهام».
والحديث أورده السيوطي في "الدر المنثور" (1/481)، وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد.
(17) ينظر: "تفسير الطبري" (3/524).
(18) زاد بعده في (أ) و(س) و(ز): قوله: «فأوله طلوعها».(3/152)
وحكى النقَّاشُ (1) عن الخليل: أن النَّهار من طلوع الفجر (2) ؛ ويدل على ذلك قولُه تعالى: {أقم الصلاة طرفي النهار} (3) .
قلت: وما حكاه (4) الطبري ليس بصحيح؛ لأن الله تعالى إنما أمر بصوم ما يقال عليه يوم، لا ما يقال عليه نهار، وكأنه لم يسمع قوله تعالى: {أيامًا معدودات} (5) !
وقوله: «لا يمنعنَّكم (6) أذان بلال من سحوركم»؛ السَّحور - بفتح السين -: هو ما يُؤكلُ في السَّحَر، وقد تقدَّم (7) في أول كتاب الطهارة: أن الفتح للاسم (8) ، والضم للمصدر.
وقوله: «فإنه يؤذن (9) ليَرْجع قائمكم»؛ أي: ليردَّ قائمَكم إلى راحته وجَمام نفسِه، كي ينشط (10) لصلاة الصبح.
«ويوقظ نائمكم»؛ أي ينبِّه (11) منِ استولى عليه النومُ؛ لئلَّا تفوته (12) .
وقوله: «ليس أن يقول هكذا؛ وصوَّب يده ورفعها»؛ أي: مدَّ يده؛ صَوْبَ مخاطبه، ثم رفعها نحوَ السماء. وفي الرواية الأخرى: «إن الفجر ليس الذي يقول هكذا، وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض».
وتحصَّلَ من الروايتين: أنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن الفجرَ الأولَ يطلُع في السماءِ، ثم يرتفعُ طرفُه الأعلى وينخفضُ طرفُه الأسفل؛ وقد بيَّن هذا بقوله: «ولا بياض الأفق المستطيل»؛ يعني: الذي يطلُع =(3/153)=@
__________
(1) ؟؟؟.
(2) ينظر: "العين" (4/44)، و"اللسان" (5/238)، و"المصباح" (ص323).
(3) سورة هود؛ الآية: 114.
(4) في (ز) و(س): ((قال الشيخ: وما قاله)).
(5) سورة البقرة؛ الآية: 184.
(6) في (أ): «لا يمنعكم» وهي رواية بسكون العين. ينظر "الفتح" (4/136).
(7) يحال إلى موضعه.
(8) في (ح): ((الأسم)).
(9) في (ح): «يقول».
(10) في (أ) و(ح): ((ينبسط))، وفي (ي): ((تنبسط)).
(11) في (ز) و(س): ((ينتبه)).
(12) في (س): ((يفوته)).(3/153)
طويلاً؛ فهذا البياض هو المسمى بالفجر الكاذب، وشبه بذنب السِّرْحان؛ وهو الذئب، وسُمِّي به. وهذا الفجر لا يتعلَّقُ عليه حكم؛ لا من الصيام، ولا من الصلاة، ولا من غيرهما (1) .
وأما الفجرُ الصادقُ: فهو (2) الذي أشار إليه (3) النبي صلى الله عليه وسلم حيث وضع المسبِّحَةَ على المسبحة (4) ، ومدَّ يديه؛ وهي (5) إشارة إلى أنه (6) : يطلع معترضًا ثم يعمُّ الأفق ذاهبًا فيه عرضًا.
ويستطير؛ أي: ينتشر والله أعلم (7) . =(3/154)=@
__________
(1) في (ح): ((غيرها)).
(2) في (ح): ((وهو)).
(3) قوله: ((إليه)) ليس في (ز) و(س).
(4) قوله: ((على المسبحة)) ليس في (أ).
(5) في (ز) و(س): ((وهو)).
(6) في (ح): ((أن)).
(7) قوله: ((الله أعلم)) زيادة من (ز).(3/154)
ومن باب الحث على السُّحور
قوله: «تسحروا فإن في السُّحور بركة»؛ هذا الأمر على جهة الإرشاد إلى المصلحة؛ وهي حفظُ القوةِ التي يُخافُ سقوطُها مع الصومِ الذي لا يُتسحَّر فيه؛ وقد نبَّه على ذلك بقوله (1) : «فإن في السُّحور بركةً»؛ وهي: القوةُ على الصيام، وقد جاء مفسَّرًا في بعض الآثار، وقد لا يبعدُ أن يكونَ من جملةِ بركةِ السحور ما يكونُ في ذلك الوقتِ من ذكرِ المتسحرين لله تعالى، وقيامِ القائمين، وصلاة المتهجدين؛ فإن الغالبَ ممَّن قام ليتسحَّرَ أن (2) يكونَ منه ذكرٌ ودعاءٌ، وصلاةٌ واستغفارٌ، وغيرُ ذلك مما يفعلُ في رمضانَ.
وقوله: «فصلُ ما بين صيامنا وصيامِ أهل الكتاب أَكلةُ السَّحَر (3) »، روايتنا عن مُتقني شيوخنا: ((أَكْلة))، بفتح الهمزة، وهي مصدر: أكل أكلة، كَ((ـضَرب ضربةً)). =(3/155)=@
__________
(1) زاد بعده في (س): ((تسحروا)) وضرب عليها.
(2) في (ح) و(ز) و(س): «أنه».
(3) في (ح) و(ز) و(س): «السحور».(3/155)
والمراد بها: أَكْلُ ذلك الوقتِ. وقد رُوي: ((أُكلة))، بضمِّ الهمزة، وفيه بُعدٌ؛ لأن ((الأُكلة)) بِالضمَ، هي (1) اللقمة (2) (3) ، وليس المراد: أن المتسحِّر يأكلُ لقمةً واحدةً. ويصحُّ أن يقال: إنه عبَّر عما يُتسحَّر به باللقمةِ؛ لقِلَّته. والله تعالى أعلم.
و«الفصل»: الفَرْقُ. و«أهلُ الكتابِ»: اليهودُ والنصارى.
وهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ السُّحورَ من خصائصِ هذه الأمةِ، ومما خُفِّف به عنهم.
وقول زيدِ (4) بن ثابتٍ: «تسحَّرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة»؛ يعني: صلاةَ الفجر.
وقوله: «خمسين آية» كذا الروايةُ بالياء لا بالواو، وهو على حذف المضاف وإبقاء (5) المضاف إليه مخفوضًا (6) ، وهو شاذٌّ، لكن سوَّغه دلالةُ السؤالِ المتقدِّم؛ لأنه لما قال: كم قَدرُ ما بينهما؟ فقال: خمسين - كأنه قال: قدر خمسين -. فحذف: ((قدر))، وبقي ما بعده مخفوضًا (7) على حاله معه (8) .
وهذا الحديثُ يدلُّ على أنه كان يَفرُغ من السحورِ قبل طلوع الفجر، وهو معارضٌ =(3/156)=@
__________
(1) قوله: «هي» سقط من (أ).
(2) ينظر: "العين" (5/408).
(3) "المغرب" (1/42).
(4) في (ح): ((وقوله لزيد)).
(5) في (ح): «وإنما».
(6) في (ي): ((مخفوظًا)).
(7) قوله: «مخفوضًا» سقط من (ح)، وفي (أ): ((مخفوظًا)).
(8) ينظر: "شرح التسهيل" (3/265- 272).(3/156)
بظاهر (1) حديث حذيفة؛ حيث قال: «هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع»، فيمكن أن يُجملَ حديثُ حذيفةَ على أنه قصد الإخبارَ بتأخيرِ السُّحورِ، فأتى بتلك ا لعبارةِ.
وقوله (2) : «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر»؛ إنما كان ذلك لأن التعجيل أحفظ للقوَّة، وأدفعُ (3) للمشقةِ، وأوفقُ للسنة (4) ، وأبعد عن الغل والبدعة، وليظهرَ (5) الفرقُ بين الزمانين في حكمِ الشرعِ. وأما تعجيلُ المغربِ: فقد تقدَّم (6) الكلامُ عليها في (7) الأوقاتِ والله أعلم (8) . =(3/157)=@
__________
(1) في (ي): ((بظاهره)).
(2) في (ز) و(س): ((قوله)) بلا واو.
(3) في (ح): «وأرفع».
(4) قوله: ((فأوفق للسنة)) سقط من (ح) و(ي).
(5) في (ي): ((ولبظهر)).
(6) يوثق.
(7) في (ح): ((أن)).
(8) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/157)
ومن باب: إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس (1) ،
فقد أفطر الصائم
هذه الثلاثةُ الأمور متلازمةٌ؛ إذا حصل الواحد منها حصل سائرُها. وإنما جمعها في الذكر - والله أعلم- لأن الناظر قد لا يرى عينَ غروب (2) الشمسِ لحائلٍ. ويرى ظلمةَ الليلِ في المشرقِ، فيحلُّ له إذ ذاك الفطرُ.
وإقبالُ الليل (3) : إقبالُ ظلمته، وإدبارُ النهار (4) : إدبار ضوئه، ومجموعُهما (5) : إنما يحصلُ بغروبِ الشمسِ.
وقوله: «فقد أفطر الصائم» يحتملُ أن يكونَ معناه: دخل في وقتِ الفطرِ. كما تقولُ (6) العرب: أظهر: دخل في وقت الظهر، وأشهر: دخل في الشهر، وأنجد وأتهم: إذا دخل فيهما؛ أعني: الموضعين. وعلى هذا: لا يكون فيه تعرُّضُ للوصالِ، لا بنفيٍ ولا بإثباتٍ. ويحتمل أن يكونَ معناه: فقد صار مفِطرًا حكمًا؛ ومعنى هذا: أن زمان الليل يستحيلُ فيه الصومُ الشرعيُّ.
وعلى هذين التأويلين يخرَّج (7) خلافُ العلماءِ: هل يصحُّ إمساكُ ما بعد الغروبِ؟ فمنهم من قال: لا يصحُّ، وهو كيوم الفطر، ومَنَعَ الوصالَ، وقال: لا يصحُّ. ومنهم من جوَّز إمساك ذلك الوقتِ، ورأى: أن له أجرَ الصائمِ؛ محتجًّا بأحاديثِ الوصالِ (8) ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «فَأَيَّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلَ (9) حَتَّى السَّحَرِ» (10) . قالوا: وإنما نهاهم عن الوصال رحمةً لهم =(3/158)=@
__________
(1) قوله: «وغربت الشمس» سقط من (أ) و(ز) و(س).
(2) سقط من (أ).
(3) قوله: «إقبال الليل» سقط من (أ).
(4) في (س): ((الليل)) بدل ((النهار)).
(5) في (ح): ((ومجموعها)).
(6) في (ح): «تقول».
(7) في (ي): ((خرج)).
(8) يشار إلى أحاديث الوصال.
(9) في (ز): ((يوا فليواصل)) كذا رسمت.
(10) أخرجه البخاري (4/202 و208 رقم1963 و1967) في الصوم، باب الوصال.(3/158)
ورفقًا بهم؛ لما يخافُ من الضعف فيه، ولما (1) يوجد من مشقته. وسيأتي لهذا مزيد، إن شاء الله تعالى (2) .
قوله (3) : «يا فلان ! انزل فاجْدَحْ لنا»؛ أي: اخلِطِ اللبنَ بالماء؛ والجَدْحَ: خلطُ الشيء (4) بغيره، والمِجْدَح: المِخْوَض (5) ؛ وهو عود في طرفه عودان (6) .
وقوله: «إن عليك نهارًا»؛ أي: إن النهارَ باقٍ عليك؛ وإنما قال له ذلك؛ لأنه رأى ضوء الشمس ساطعًا، وإن كان جِرْمُها غائبًا، فأعرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الضوءِ، واعتبرَ غيبوبةَ جِرْمِ الشمسِ، ثم بيَّن ما يعتبره من لم يتمكَّنْ من رؤية جرم (7) الشمسِ؛ وهو: إقبال الظلمةِ من المشرقِ والله أعلم (8) . =(3/159)=@
__________
(1) في (ي): ((وما)).
(2) قوله: ((إن شاء الله تعالى)) زيادة من (ز). وسيأتي في الباب التالي. [وينظر حكاية هذا الخلاف في "الفتح" (4/204)]
(3) في (ز) و(س) و(ي): ((وقوله)).
(4) في (ي): ((اللبن)) بدل من ((الشيء)).
(5) في (ح): ((المحوض)). وفي (ز) و(س): ((المخوص قالوا))، وفي (ي): ((المحوض قالوا)).
(6) ينظر: "العين" (3/73)، (4/283)، و"اللسان" (2/422)، (7/147).
(7) قوله: ((جرم)) سقط من (ي).
(8) قوله: ((والله أعلم)) زيادة في (ز).(3/159)
ومن باب النهي عن الوصال
اختُلِفَ في نهي النبي (1) صلى الله عليه وسلم عن الوصالِ: فذهب قومٌ: إلى أنه يحرمُ (2) . وهو مذهبُ بعض أهل الظاهر في علمي (3) . وذهب الجمهور: مالكُ (4) ، والشافعيُّ، وأبو حنيفة، والثوريُّ، وجماعة من أهل الفقه: إلى كراهته (5) . وقد واصل جماعةٌ من السَّلف، منهم: ابن الزبير (6) وغيره. وأجازه (7) ابنُ وهبٍ وإسحاقُ وابن حنبلٍ، من سحرٍ إلى سحرٍ.
وسببُ هذا الخلاف هو: هل (8) محملُ هذا النهي على الظاهر وهو التحريم، أو يصرف عن (9) ظاهره إلى الكراهيةِ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد واصلَ بأصحابه بعد أن نهاهم فلم ينتهوا. ثم إذا حملناه على الكراهةِ (10) فإنما هي لأجل ما يلحقُ من المشقةِ والضعفِ، فإذًا أمن من (11) ذلك، فهل يجوز، أم تُسدُّ الذريعة (12) فلا يجوز؟!
وأما من خَصَّ (13) جوازه بالسَّحر؛ فلما جاء في الحديث المذكور في الأصل، ولأن (14) أَكْلَةَ السحر يُؤْمَنُ معها الضعف والمشقة التي لأجلها كره الوصال.
وقوله: «إني أبيتُ يُطعمُني ربي ويَسَقيني» حمله قوم على ظاهره؛ وهو: أن الله تعالى يطعمه طعامًا ويسَقيه شرابًا، حقيقةً من غيرِ تأويلٍ. وليس بصحيح؛ لأنه لو كان (15) كذلك لما صدق عليه (16) قولُهم: «إنك تواصل»، ولارتفع (17) اسمُ الوصال عنه؛ لأنه حينئذٍ كان يكون (18) مفطرًا، وكان يخرج كلامه (19) عن أن يكون جوابًا لما سُئل عنه؛ ولأن =(3/160)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((رسول الله)).
(2) في (ح) و(ي): «محرم».
(3) قال الحافظ في "الفتح" (4/204): "وأغرب القرطبي فنقل التحريم عن بعض أهل الظاهر على شك منه ي ذلك، ولا معنى لشكه؛ فقد صرح ابن حزم بتحريمه، وصححه ابن العربي من المالكية)).اهـ. ينظر: "المحلى" (7/21).
قلت: لم يصحح ابن العربي التحريم، وإنما صحح الكراهة؛ فقال: ((والصحيح أنه مكروه)) ثم ذكر حديث نهي النبي عن الوصال، ثم قال: ((وهذا يدل على أن ذلك لم يكن محرمًا)). ينظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/121) وما بعدها.
(4) في (ز): ((ومالك)).
(5) في (ح): «كراهيته».
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (2/331 رقم9599) في الصوم، باب من رخص في الوصال للصائم، عن وكيع، عن الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، قال: دخلت على ابن الزبير صبيحة خمسة عشر من الشهر، وهو مواصل.
وصحح الحافظ إسناده في "الفتح" (4/204).
(7) في (أ): ((وأجاز)).
(8) في (ز) و(س): ((هل هو)).
(9) في (ي): ((علي)) بدل ((عن)).
(10) في (ح) و(ي): ((الكراهية)).
(11) قوله: ((من)) سقط من ذلك.
(12) في (ز): ((الذيعة)) وفي (ي): ((الدزيعة)).
(13) في (أ): «حصر».
(14) في (ح) و(ي): «لأن».
(15) في (ح): ((كان ذلك كذلك)).
(16) قوله: ((عليه)) سقط من (ي).
(17) في (أ) و(ز): ((ولا ارتفع)).
(18) قوله: «حينئذ كان» في (أ): ((كان حينئذٍ)).
(19) قوله: ((كلامه)) ليس في (ح) و(ي).(3/160)
في بعض ألفاظ هذا الخبر: «إني أظلُّ عند ربي يطعمني ويسقيني» (1) ؛ و«ظل (2) » إنَّما تقالُ فيمن فعل الشيء نهارًا، و«بات» فيمن فعله ليلاً؛ وحينئذ كان يلزمُ عليه فسادُ صومه، وذلك باطل بالإجماع (3) .
وكذلك قيل في معنى الحديث: إن الله تعالى يَخلقُ فيه من الشِّبعِ والرِّي (4) مثل ما يخلقُه فيمن أكل وشرب. وهذا القولُ يُبعده - أيضًا - النظرُ إلى حاله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يجوعُ أكثر مما يَشبعُ، ويربطُ على بطنه الحجارةَ من الجوع، وكان يقولُ: «الجوعُ حرفتي (5) » (6) ؛ على ما روي عنه. ويبعده (7) - أيضًا - النظر إلى المعنى، وذلك أنه لو خُلِقَ فيه الشِّبعُ والرِّيُّ لما وَجَدَ لعبادة الصوم روحَها الذي هو الجوعُ والمشقة؛ وحينئذ كان يكونُ تركَ الوصال أولى.
وقيل: معنى ذلك: أن الله تعالى يحفظُ عليه قُوَّتَه من غير طعام ولا شراب، كما يحفظُها بالطَّعام والشَّراب، فكأنه قال: إن الله تعالى يحفظُ عليَّ قُوَّتي بقدرته (8) ، كما يحفظها بالطعام والشراب (9) ، والله تعالى أعلم (10) .
وقوله: «واصلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في آخرِ شهرِ رمضان» كذا الصواب، =(3/161)=@
__________
(1) أبو نعيم في "المستخرج" (3/179 رقم2487) بطرق إلى عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رفعته.
وأبو يعلى في "المسند" (7/342 رقم4378): حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رفعته.
أحمد في "المسند" (2/377 رقم8889): حدثنا عبدالله، حدثني أبي، حدثنا أسود بن عامر، قال: أنبأنا أبو بكر، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رفعه.
وأحمد في "المسند" (2/495 رقم10437): بإسناد (10433)، وهو: حدثنا عبدالله، حدثني أبي، ثنا ابن نمير قال: أنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رفعه. وانظر "الفتح" (4/207).
(2) في (ز): ((وظال)).
(3) ينظر مثل هذا البحث في المسألة في "المغني" لابن قدامة (3/55)، و"الإكمال" للقاضي (4/39).
وقد نقل ابن حجر في "الفتح" (4/207): وتعقب هذا التأويل عن ابن بطال ومن تبعه ثم قال: ((وأجيب بأن الراجح من الروايات لفظ "أبيت" دون "أظل"، وعلى تقدير الشبهة فليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى له من حمل لفظ "أظل" على المجاز، على التنزيل فلا يضر شيءٌ من ذلك؛ لأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه...)) إلخ.
(4) قوله: ((مثل)) سقط من (ي).
(5) في (ح): ((حرقني)).
(6) لم أجده. ويردُّ معناه حديث أبي هريرة: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع». أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بسند صحيح. انظر "صحيح الجامع" (1/275).
(7) في (ز): ((ويبعد)).
(8) سقط من (س).
(9) من قوله: «فكأنه قال....» إلى هنا سقط من (ح).
(10) قوله: «والله تعالى أعلم» سقط من (أ).
وقد ذكر القاضي عياض هذين التأويلين أيضًا في "الإكمال" (4/39)، وذكرهما الحافظ في "الفتح" (4/208)، وذهب إلى ما ذهب إليه الشارح من ترجيح التأويل الثالث، ونقل كلام الشارح هنا في نقد التأويل الثاني.(3/161)
وكذلك رواه الهوزني (1) ، ووقع (2) للعذريِّ، والطبريِّ، والسِّجْزيِّ، والباجي، وفي أكثر النسخ: «أول شهر رمضان»، وهو وهمٌ، والصحيحُ ما تقدم؛ بدليل قولهِ في الرواية الأخرى عن أنسٍ: «وذلك في آخرِ الشهر» (3) .
والتعمقُ: الانتهاء إلى عمق الشيء وغايته؛ مأخوذٌ (4) من عمق البئر، وهو أقصى قعرها (5) .
وكونُه صلى الله عليه وسلم واصل بهم يدلُّ على أن الوصالَ ليس بحرامٍ ولا مكروهٍ، من حيث هو وصال، لكن من حيث يذهبُ بالقوةِ، وكان نهيُه صلى الله عليه وسلم رحمةً لهم ورفقًا بهم؛ كما نصَّت عليه عائشةُ رضي الله عنها.
وقوله: «لو مُدَّ لنا الشهر»؛ أي: لو كمل ثلاثين، لزاد اليوم الآخر إلى اليومين المتقدمين، ولو واصل بهم باقي ذلك الشهر لظهر ضعفه عليهم لصدق حجته صلى الله عليه وسلم والله أعلم (6) . =(3/163)=@
__________
(1) في (ح) و(ز) و(س): «الهروي» وقد نقل الشارح هنا كلام القاضي في "الإكمال" (4/40)، "مشارق الأنوار" (1/23) بتصرف، وفيهما: ((الهوزني)) وهو راوي "صحيح مسلم" عن الباجي عن ابن ماهان.
(2) في (ي): ((وقع في للعذري)).
(3) تخرج.
(4) قوله: ((مأخوذ)) سقط من (ح) و(ي).
(5) ينظر: "اللسان" (10/271) [عمق].
(6) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/162)
ومن باب القبلة للصائم
قولُ عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني وهو صائم»؛ هذا الحديث - وحديث عمر (1) الآتي بعد هذا، وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حيث سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن القبلةِ؟ فقال له: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ مِنَ الْمَاءِ (2) وَأَنْتَ صَائِمٌ؟» قال: لا بأس به. قال: «فَمَهْ؟!» (3) - يدل (4) على إباحةِ القبلةِ للصائمِ مطلقًا (5) ؛ وهو مذهب جماعةٍ من (6) الصحابة والتابعين، وأحمد، وإسحاق، وداود. وكرهها قوم مطلقًا؛ وهو مشهورُ مذهبِ مالكٍ رحمه الله. وفرَّق قوم: فكرهوها للشَّاب، وأجازوها للشيخ؛ وهو مرويُّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما (7) ، وإليه ذهب أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، والثوريُّ، والأوزاعيُّ، وحكاه الخطابيُّ عن مالك.
وقد روى ابنُ وهبٍ عن مالك: أنه أباحها (8) في النفل، ومنعها في الفرض. وسببُ هذا الخلافِ معارضةُ تلك الأحاديث لقاعدةِ سدِّ الذريعةِ؛ وذلك أن القبلة قد يكونُ معها الإنزالُ؛ فيفسدُ الصومُ، فينبغي أن يمنعَ ذلك حمايةً للبابِ (9) .
ووجه الفرق بين الشيخ والشاب: أن المَظِنةَ في حق الشابِّ مُحَققةٌ غالبًا، فترتَّب (10) الحكم عليها (11) ، ويشهَدُ لصحةِ (12) الفرقِ (13) : ما رواه أبو داود (14) من حديث قيسٍ (15) مولى تُجِيب (16) : أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في قبلة الصائم للشيخ ونهى عنها =(3/163)=@
__________
(1) في جميع النسخ: «ابن عمر»، والمثبت هو الصواب، وهو: عمر بن أبي سلمة، والآتي حديثه بعد هذا.
(2) قوله: «من الماء» سقط من (ح).
(3) أخرجه أحمد (1/21 و52)، وعبد بن حميد (21)، والدارمي (2/13) في الصوم، باب الرخصة في القبلة للصائم، وأبو داود (2/779-780 رقم2385) في الصوم، باب القبلة للصائم، والنسائي في "الكبرى" (2/198-199 رقم3048)، وابن خزيمة (1999)، والطحاوي (2/89)، وابن حبان (8/313-314 رقم3544/ الإحسان)، والحاكم (1/431)، والبيهقي (4/218و261)، وابن حزم في "المحلى" (6/209).
جميعهم من طريق الليث بن سعد، عن بكير بن عبدالله بن الأشج، عن عبدالملك بن سعيد الأنصاري، عن جابر بن عبدالله: أن عمر بن الخطاب قال: هششت يومًا فقبلت وأنا صائم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لقد صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، قال: «وما هو ؟» قلت: قبلت وأنا صائم. قال: «أرأيتلو تمضمضت من الماء؟» قلت: إذًا لا يضر. قال: «ففيم».
قال النسائي: «هذ حديث منكر، وبكير مأمون، وعبد الملك بن سعيد رواه عنه غير واحد، ولا يدري ممن هذا». اهـ. "تحفة الأشراف" (8/17 رقم10422).
وقال البزار (1/353 رقم236/البحر الزخار): «وهذا الحديث لا نعلمه يروى إلا عن عمر من هذا الوجه».اهـ. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي. وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (1/138)، وقال- عن قول النسائي: إنه منكر-: «وما أدري ما وجه النكارة فيه؟».اهـ.
(4) في (ي): ((يدلان)).
(5) تنظر المسألة في "المدونة" (1/165)، و"التمهيد" (5/109) وما بعدها، و"مسائل الإمام أحمد رواية صالح" (2/151)، و"المغني" (3/20)، و"الأم" (2/98)، و"المبسوط" (3/58).
(6) سقط من (ز).
(7) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/293 رقم648) كتاب الصوم، باب ما جاء في التشديد في القبلة للصائم، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن عبدالله بن عباس [في الأصل ابن عباس] سُئل عن القبلة للصائم، فأرخص فيها للشيخ، وكرهها للشاب.
وأخرجه الشافعي في "المسند" (ص104) من طريق مالك بنفس الإسناد. وهو إسناد صحيح ورجاله في "الصحيحين". وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/232 رقم7876) بسنده إلى مالك كما في "الموطأ" و"مسند الشافعي".
(8) في (أ): «كرهها». ... ...
(9) قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا رخص في القبلة للصائم إلا وهو يشترط السلامة مما يتولد منها، وأن من يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه وجب عليه اجتنابها. "التمهيد" (5/114)، و"الاستذكار" (10/58).
(10) في (ح): «فيرتب»، وفي (ز) و(ي) و(س): ((فيترتب)).
(11) قوله: ((عليها)) ليس في (س) و(ز).
(12) في (ح): ((بصحة)).
(13) قد يوهم قول الشارح قبلُ: ((ويشهد لصحة الفرق...)) إلخ، تصحيحه للقول بالفرق بين الشيخ والشاب في حكم القبلة، ويرفعه قوله بعد: ((ولا يصح منها شيء)). وقد تقدم نقل كلام ابن عبد البر في أن من أباح القبلة اشترط السلامة مما يفسد الصوم. وقال ابن عبد البر أيضًا في حديث أم سلمة عند مالك في "الموطأ" (1/291) (13). أن رجلاً قبل امرأته وهو صائم في رمضان... فأرسل امرأته تسأل عن ذلك...إلخ.
قال: وفيه من الفقه أن القبلة للصائم جائزة في رمضان وغيره، شابا كان أو شيخًا مع عموم الحديث وظاهره؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل للمرأة: هل زوجك شيخ أو شاب، ولو ورد الشرع بالفرق بينهما لما سكت عنه عليه السلام.
ثم استدل على أن الشيخ والشاب عندها سواء وأن قولها وأيكم يملك إربه. خرج مع الإشفاق والاحتياط بما في "الموطأ" (1/292) أنها قالت لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكرة ما يمنعك أن تدنوا من أهلك وتقبلها وتلاعبها؟ فقال: أقبلها وأنا صائم؟ فقالت: نعم. "الاستذكار" (10/55- 56).
(14) أخرجه أبو داود (2/780-781 رقم2387) في الصوم، باب كراهيته للشاب، من طريق إسرائيل، عن أبي العنبس، عن الأغر، عن أبي هريرة: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم؟ فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب.
ومن طريقه البيهقي (4/231-232).
وسنده ضعيف؛ أبو العنبس العدوي الكوفي، قال عنه الحافظ في "التقريب": مقبول. وحكم عليه ابن حزم في "المحلى" بأنه مجهول. ونقل ابن القيم في "تهذيب السنن" (7/14/عون المعبود) عن عبدالحق قوله: «ولم أجد أحدًا ذكره ولا سماه».
(15) يخرج.
(16) قال ابن حزم في "المحلى" (6/208): وهو مجهول لا يدري من هو.اهـ. ونقل تجهيله في "لسان الميزان" (4/480).(3/163)
للشاب، وفي معناه عن أبي هريرة، ولا يصح منها شيء.
وقولها: «وأيكم (1) يَملكُ إِرْبَهُ كما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يملك إرْبَه (2) »؛ وقد (3) تقدم الكلام في الإرْب، وأنه يقال: بفتح الهمزة وكسرها، وأن أصله: العُضو. وهو هنا كنايةٌ عن الجماع (4) . وهذا يدل على أن مذهبها منع القبلة مطلقًا في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها فهمت خصوصيته بجواز ذلك، وهو خلاف ما في حديث أم سلمة (5) ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سوَّى بينه وبين غيره في إباحة ذلك، والأخذ بحديث أم سلمة أولى؛ لأنه مبين للقاعدة، ونص في الواقعة، وقول عائشة اجتهاد منها (6) .
وقوله: «قد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك»؛ قولُ من خطر بباله: أنه يلزمُ من كونهِ مغفورًا له مسامحتُه في بعضِ الممنوعاتِ، وهذا الخاطرُ مهما أُصغي إليه =(3/164)=@
__________
(1) قوله: «وأيكم» سقط من (ح).
(2) قوله: ((كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه)).
(3) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): «قد» بلا واو.
(4) ينظر: "اللسان" (أرب) وتقدم الكلام عليه ص؟؟؟.
(5) يخرج في مسلم فقط.
(6) قال الحافظ في "الفتح" (4/150) بعد أن نقل كلام الشارح: قلت: قد ثبت عن عائشة صريحًا إباحة ذلك. (يعني في جوابها لمن سألها: ما يحرم على من امرأتي؟ قالت: فرجها. وفي حديث آخر قالت: كل شيء إلا الجماع). وجمع الحافظ بين قوليها بحمل النهي على كراهة التنزيه فإنه لا ينافي الإباحة.(3/164)
لزم منه إسقاطُ التكاليفِ (1) ، وكذلك قد يقعُ مثله أيضًا (2) عند سماعِ قوله صلى الله عليه وسلم (3) في حقِّ التائبِ بعدَ الثالثةِ: «اعْمَلْ (4) مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ» (5) . وهذا الخاطرُ باطلٌ؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأتقاكم لله وأشدُّكم له خشيةً»، وبدليل الإجماع المعلوم على أن التكاليفَ لا تسقطُ عَمَّن حصلتْ له شروطُها.
وإنما محملُ (6) هذه الظواهرِ الموجبة للغفران في المستقبلِ، على المعونةِ على الطاعاتِ والحفظِ عن المخالفاتِ، بحيثُ لا تقع (7) الذنوبُ منه فيما يأتي، ويصحُّ أن يعبرَ عن هذا المعنى بالمغفرةِ؛ لأن المغفرةَ هي السترُ، وهذا قد ستر بالطاعاتِ عن المعاصي؛ بحيث لا تقعُ منه، أو لأنَّ حالَه (8) حالُ المغفورِ له، من حيثُ إنه (9) لا ذنب له. والله تعالى أعلم (10) .
وقوله: «إنِّي لأتقاكم لله وأخشاكم له»؛ أي: لأكثركم (11) تقوى. وقد قدمنا: أن التقوى بمعنى الوقاية. والخشية: الخوف، وقد فرق بعض الناس بينهما؛ فقال: الخشية أشد الخوف. وقيل: الخوف: التطلع لنفس الضرر، والخشية: التطلُّع لفاعل الضرر (12) . وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس (13) لله خشية؛ لأنه أعظمهم له (14) معرفة والله أعلم (15) . =(3/165)=@
__________
(1) وإذا صحَّ هذا لم يصحَّ الاقتداء بأفعاله وجوبًا أو ندبًا أو إباحة؛ إذ لا يتميز لنا ذلك من المحظور والمكروه. ذكر ذلك الباجي (/)، والقاضي في "الإكمال" (4/46)، وينظر "شرح الزرقاني على الموطأ" (2/212).
(2) قوله: «أيضًا» سقط من (ح) و(ي).
(3) في (ز) و(س): ((عليه السلام)).
(4) في (ح) و(ي: ((افعل)).
(5) حديث قدسي، يأتي في الرقاق، باب من عاد إلى الذنب فليعد إلى الاستغفار.
(6) في (ز): ((تحمل)).
(7) في (ز): ((يقع)).
(8) قوله: ((حال)) سقط من (ح).
(9) قوله: ((من حيث إنه)) في (أ): ((حيث)).
(10) في "شرح الزراقاني" (2/213): لأن الغفران ستر، وهو إما بين العبد والذنب، وإما بين الذنب وعقوبته، فاللائق بالأنبياء الأول، وبأمههم الثاني.
(11) في (أ): «أكثركم».
(12) ينظر: "الفروق اللغوية" للعسكري (ص270)، و"التعريفات" (ص133، 137).
(13) قوله: ((لله)) ليس في (ح) و(أ) و(ي).
(14) قوله: ((له)) سقط من (ح)، و(ي).
(15) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).(3/165)
ومن (1) باب صوم من أدركه الفجرُ وهو جنب
قوله: «سمعت أبا (2) هريرة يقصُّ (3) »؛ أي: يتتبع الأحاديث والأخبار، ويذكرها، ويُعلِّم العِلم.
وقوله: «من أدركه الفجر جنبًا فلا صوم له»؛ هذه فتيا من (4) أبي هريرة رضي الله عنه، وهو قولُه الأول.
وقد اخُتِلفَ في ذلك: فرُوِيَ عن الحسن بن صالح مثلُ قول أبي هريرة. وعن الحسنِ والنَّخَعيِّ: لا يجزئه إذا أصبح عالِمًا بجنابته، وإن لم يعلم أجزأه (5) . ورُوِي عن الحسنِ والنخعيِّ (6) : لا يجزئُه في الفرضِ، ويجزئهُ في النفلِ. ورُوِي عن الحسنين (7) : يصومُه (8) ويقضيه.
ومذهبُ الجمهورِ - وهو الصحيحُ (9) - الأخذُ بحديث أم سلمة وحديثي عائشة الآتيين. ومقتضاها: أن صومَ الجنبِ صحيحٌ، وهو الذي يُفهم من ضرورة قوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} (10) ؛ فإنه لما مدَّ (11) إباحةَ الجماعِ إلى طلوعِ الفجرِ، فبالضرورة يُعلم أن الفجرَ يطلُع عليه وهو جُنُبٌ، وإنما يتأتَّى الغسلُ بعدَ الفجرِ.
وفي معنى هذه المسألة: الحائضُ تطَهُر قبلَ الفجرِ، وتتركُ التطهُّرَُ حتَّى تصبحَ، فجمهورُهم على وجوبِ تمام الصومِ عليها وإجزائه، سواءٌ تركته عمدًا أو سهوًا. وشذَّ محمدُ بن مسلمةَ فقال: لا يجزئُها، وعليها القضاءُ والكفارةُ. وهذا في المفرِّطة المتوانية.
فأما التي رأتِ الطهرَ =(3/166)=@
__________
(1) قوله: ((ومن)) سقط من (ح).
(2) في (أ): ((أبي)) بدل ((أبا)).
(3) في (ح): «يقضي».
(4) قوله: ((من)) سقط من (ز).
(5) في (أ): «أجازه».
(6) في (ي): ((وعن النخعي)).
(7) كذا في (ز) و(س) و(ح)، وفي (أ): «الحسنين»، وفي (ي): ((الحسن)). والمراد بالحسنين: الحسن البصري والحسن بن صالح اللذين مضى ذكرهما؛ كما نقله النووي في "شرح مسلم" مصرحًا باسميهما (7/222)، وينظر "التمهيد" (17/424)، وفي النسخة (ح) كتب فوق ((الحسنين)) كلمة لعلها: ((بعيد))، ولعل الناسخ يستشكل هذا التعبير من المصنف. والله أعلم.
(8) قوله: ((يصومه)) غير واضح في (ح).
(9) انظر: "الاستذكار" (10/47).
(10) سورة البقرة؛ الآية: 187.
(11) في (ز): ((مر)).(3/166)
فبادرتْ فطلع الفجرُ (1) قبل تمامهِ، فقد قال مالكٌ: هي كمن طلع عليها وهي حائضٌ؛ يومها يوم فطر، وقاله عبدالملك، وقد ذكر بعضهم قول عبدالملك هذا في المتوانية، وهو أبعدُ من قولِ ابن مسلمةَ.
وقولُهما (2) : «كان يصبحُ جنبًا من غير (3) حلمٍ» يفيدُ فائدتين :
إحداهما: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يجامعُ ويؤخِّر غسلَه حتى يطلعَ (4) الفجرُ؛ ليبينَ المشروعيةَ؛ كما قال: «عَمْدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ» (5) .
وثانيهما: دفع توهم من يتوهَّم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتلمُ في منامهِ؛ فإن الحلمَ من الشيطانِ، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: «الحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ» (6) . والله تعالى قد (7) عصمه منه.
وقول أبي هريرة: «هما أعلم» يدُّل على رجوعهِ في قولهِ الأولِ، وقد صرَّح بالرُّجوعِ في آخرِ الحديثِ (8) . =(3/167)=@
__________
(1) في (ح): ((الحي)).
(2) أي عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، وفي (أ) و(ح) و(ي): ((وقولها)).
(3) قوله: «غير» سقط من (أ).
(4) في (ح): «تطلع».
(5) تقدم في كتاب الطهارة، باب فعل الصلوات بوضوءٍ واحد.
(6) يأتي في كتاب الرؤيا، باب الرؤيا الصادقة من الله والحلم من الشيطان.
(7) قوله: ((قد)) سقط من (ز).
(8) الذي صرح برجوع أبي هريرة هو راوي الحديث عن أبي هريرة وهو أبي بكر بن عبد الرحمن بقوله في آخر الحديث: ((فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك)).(3/167)
وقوله: «ثم رده إلى الفضل»؛ يعني بذلك: أنه سمعه من الفضلِ، كما قد نصَّ عليه بعدُ. وفي ((النسائي)) (1) : أنه سمعه من أسامةَ بن زيدٍ. وهذا محمولٌ على أنه سمعه منهما. وحديثُ الفضلِ وأسامةَ كان متقدِّمًا.
قال بعضُ العلماء: كان ذلك في أولِ الإسلامِ، في الوقت الذي كان الحكمُ فيه: أنَّ الصائمَ إذا نام بالليلِ حَرُمَ عليه الأكلُ والشربُ والنكاحُ؛ أن يمدَّ ذلك إلى طلوعِ الفجرِ؛ كما جاء في ((البخاري)) (2) من حديث البراء بن عازب في قصةِ قيسِ بن صِرْمَة (3) . وعلى الجملة؛ =(3/168)=@
__________
(1) في "الكبرى" (2/178-179 رقم2931 و2932) كتاب الصيام، باب صيام من أصبح جنبًا.
(2) (4/129 رقم1915) كتاب الصوم، باب قول الله جل ذكره: {أحل لكم ليلة الصيام...} سورة البقرة؛ الآية: 187. و(8/181 رقم4508) كتاب التفسير، باب {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم...} الآية. وينظر: "تفسير الطبري" (2/135) وما بعدها.
(3) ينظر: "الفتح" (4/147).(3/168)
فذلك الحكم متروكٌ عند جمهورِ العلماءِ بظاهرِ القرآن وبصحيح الأحاديثِ، والخلافُ فيه من قبيلِ الخلافِ الشاذِّ المتقدِّم (1) والله أعلم (2) .
ومن باب كفارة من أفطر متعمدًا في رمضان
قول المجامع في رمضان: «هلكت (3) !» «احترقت!»؛ استدل به الجمهورُ على أنه كان (4) متعمدًا، وقصروا الكفارة على المتعمد دون الناسي، وهو مشهورُ قولِ مالكٍ وأصحابهِ.
وذهب أحمدُ، وبعضُ أهل الظاهر، وعبدُالملك، وابنُ حبيب: إلى إيجابها على الناسي، وروي ذلك عن عطاء ومالك؛ متمسكين بترك استفسارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم السائلَ، وإطلاقِ الفتيا مع هذا الاحتمال، وهذا كما قاله الشافعي في الأصول: تَرْكُ الاستفصال مع الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال. وهذا ضعيف؛ لأنه يمكن أن يقال: إنه ترك استفصاله لأنه قد تبين حاله؛ وهو أنه كان عامدًا، كما يدل عليه ظاهر قوله: «هلكتُ! » و«احترقتُ». =(3/169)=@
__________
(1) تأول بعض العلماء حديث أبي هريرة بأوجه من التأويلات: منها: أنه إرشاد إلى الأفضل بأن يغتسل قبل الفجر، وإنما فعل النبي خلافه لبيان الجواز. قال ابن حجر: ويعكر عليه التصريح من أبي هريرة في كثير من طرق الحديث بالأمر بالفطر والنهي عن الصوم. ومنها: أن يكون محمولاً على من استدام الجماع بعد الفجر عالمًا؛ قاله الخطابي: قال ابن حجر: ويعكر عليه رواية النسائي عن أبي هريرة: ((من احتلم وعلم باحتلامه ولم يغتسل حتى أصبح فلا يصوم)). ومنها: أن ((لا)) سقطت من حديث الفضل وكان في الأصل: ((فلا يفطر))، فصار ((فليفطر)). قال ابن حجر: وهذا بعيد بل باطل؛ لأنه يستلزم عدم الوثوق بكثير من الأحاديث وأنها يطرقها مثل هذا الاحتمال. ومنها: أنه منسوخ؛ قال ابن خزيمة عن حديث أبي هريرة: لم يفهم معناه بعض العلماء فأنكر الخبر وتوهم أن أبا هريرة - مع جلالته ومكانه من العلم – غلط في روايته، والخبر ثابت صحيح من جهة النقل، إلا أنه منسوخ.اهـ. ثم ذكر نحو ما ذكره الشارح.
قال ابن حجر: وهذا - سلوك طرق النسخ- أولى من الترجيح بين الخبرين. قال ويقويه – أي: النسخ- أن في حديث عائشة ما يشعر بأنه ذلك كان بعد الحديبية للإشارة فيه إلى آية الفتح، وإنما نزلت عام الحديبية سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، وإلى دعوى النسخ فيه ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد. ينظر: "صحيح ابن خزيمة (3/249- 250)، "سنن البيهقي" (4/215)، "معالم السنن" (3/266)، "شرح النووي" (7/221)، "فتح الباري" (4/147- 148). وينظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد (ص38- 42).
(2) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).
(3) سقط في (ح) و(أ).
(4) قوله: ((كان)) سقط من (ز).(3/169)
وقوله: «هل تجد ما تعتق رقبة»، رقبةً (1) : نصبُ على البدل من «ما» الموصوفة (2) ، وهي مفعول (3) بـ((تجد)). وإطلاق الرقبة يقتضي جوازَ الكافرة؛ وهو مذهبُ أبي حنيفةَ، وجوازَ المعيبة؛ وهو مذهبُ داود، والجمهورُ على خلافهما؛ فإنهم شرطوا في إجزاءِ الرقبةِ الإيمان (4) ، بدليل تقييدها به في كفارةِ القتلِ، وهي مسألةُ حملِ المطلقِ على المقيدِ، المعروفةُ في الأصول (5) ، وبدليلِ: أن مقصودَ الشرعِ الأولَ بالعتقِ تخليصُ الرِّقابِ من الرِّقِّ؛ ليتفرَّغوا إلى عبادةِ الله تعالى، ولنصرِ المسلمين، وهذا المعنى مفقودٌ في حقِّ الكافر، وقد دلَّ على صحةِ هذا المعنى قولُه في حديثِ السوداءِ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» (6) .
وأما العيبُ: فنقصٌ في المعنى وفي القيمةِ، فلا يجوز ؛ لأنه في معنى عتق الجزءِ؛ كالثلثِ والربع، وهو ممنوعٌ بالاتفاق.
وقوله: «فهل (7) تستطيعُ أن تصومَ شهرين متتابعين؟» تستطيع: تقوى وتقدرُ. والتتابعُ: التَّوالي. وهو حجَّةٌ للجمهور في اشتراط (8) التتابعِ في الكفارةِ على ابن أبي ليلى؛ إذ لم يشترطْه.
وقوله: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا»؛ حجةٌ للجمهورِ في اشتراط عدد الستين على الحسنِ؛ إذ قال: يطعمُ أربعين. وعلى أبي حنيفة؛ إذ يقول يجوز (9) إعطاء طعامٍ ستين مسكينًا لمسكينٍ واحدٍ، وهو أصلُه في هذا الباب. =(3/170)=@
__________
(1) سقط من (ح) و(أ).
(2) في (ز) و(س): ((الموصولة)).
و((الموصولة)) و((الموصوفة)) قسمان من أقسام ((ما)) الاسمية، غير أن الموصولة تكون معرفة ناقصة، والموصوفة تكون نكرة ناقصة مجردة عن معنى الحرف وكلاهما يصلح هنا. ويختلف موقوع جملة ((تعتق)) حسب هذين القسمين: فمع الموصولة تكون جملة ((تعتق)) صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، وحذف العائد من الصلة إلى الموصول، ومع الموصوفة تكون في محل نصب صفة لـ((ما))، وحذف أيضًا العائد من الصفة إلى الموصوف، والتقدير في الحالين: ((ما تعتقه)) أو ((ما)) في الحالين مفعول به لـ((تجد)) و(((رقبة)) نصب على البدلية من ((ما)) كما قال الشارح.
ولا يبعد أن تكون ((رقبة)) مفعولاً به لـ((تعتق)) ويكون التقدير ((ما تعتق به رقبةً)) وذلك على الحالين أيضًا. وينظر: "مغني اللبيب" (ص292- 296).
(3) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): «مفعولة».
(4) في (س): ((بالإيمان)).
(5) ؟؟؟.
(6) تقدم في كتاب الصلاة، باب نسخ الكلام في الصلاة.
(7) سقط في (ز).
(8) في (ح): «إشراط».
(9) في (ح) و(ز) و(س): ((بجواز)).(3/170)
وقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابيِّ: «اجلس»؛ انتظارٌ منه لوجهٍ يتخلَّصُ به (1) مما حصل فيه، أو ليُوحَى إليه في ذلك.
وقوله: «فَأتِيَ بِعَرَقٍ فيه (2) تَمْرٌ (3) »؛ ((العرَق))، بفتحِ الراء لا غيرُ، وسُمِّي بذلك (4) لأنه جمع عَرَقَةٍ، وهي الضفيرة (5) من الخُوصِ. وهو الزِّنبيل - بكسر الزاي على رواية الطبري، وبفتح الزاي لغيره - وهما صحيحان (6) ، وسُمِّي بذلك لأنه يُحمل فيه (7) الزِّبْل، ذكره ابنُ دريدٍ (8) .
وهذا العَرَقُ تقديرُه عندهم: خمسةَ عشرَ صاعًا، وهو مفسَّرٌ في الحديث، وقد تقدَّم: أن الصَّاع أربعةُ أمدادٍ؛ فيكون مبلغُ أمدادِ العَرَقِ ستين مُدًّا؛ ولهذا قال الجمهور: إن مقدار ما يدفع لكل مسكينٍ من الستين: مُدّ (9) .
وفيه حجَّةٌ للجمهور على أبي حنيفة، والثوري؛ إذ قالا (10) : لا يجزئ أقلُّ من نصفِ صاعٍ لكلِّ مسكينٍ.
وقوله له (11) : «تصدَّق بهذا»؛ يلزمُ منه أن يكونَ قد ملَّكه إياه ليتصدَّقَ به عن كفارته (12) ، ويكون هذا كقول القائل: ((أعتقتُ عبدي عن فلانٍ)) فإنه يتضمَّنُ سبقية الِملْكِ عند قومٍ، وأباه (13) أصحابنا، مع الاتفاقِ على أنَّ الولاءَ للمعَتقِ عنه، وأنَّ الكفارةَ تسقطُ بذلك.
وقوله: «على أفقرَ منا؟» هو محذوفُ همزةِ الاستفهامِ؛ تقديرُه: أَعَلَى أفقرَ منا؟ والمجرورُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ، تقديره: أنتصدَّقُ (14) به على أحدٍ أفقرَ منا؟
وقد جاء في طريق أخرى (15) : بحذف ((على))، والروايةُ فيه حينئذٍ بالنصبِ على إضمارِ الفعل؛ تقديرُه: أتجدُ أفقرَ منا؟ وقد يجوزُ رفعهُ على خبر المبتدأ؛ أي: أأحدٌ (16) أفقر منا؟
واللابتان (17) : حرَّتا المدينة، وقد تقدم.
وضَحِكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم تعجُّبًا (18) من حاله، وسرعة =(3/171)=@
__________
(1) سقط في (ز).
(2) سقط من (أ).
(3) ينظر: "العين" (1/154)، و"اللسان" (10/245، 246).
(4) في (ح): «ذلك».
(5) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((الظفيرة)).
(6) فسر مسلم في "صحيحه" العرق المذكور في الحديث بـ((الزنبيل)).
قال في "مشارق الأنوار": ((الزَّبيل...)) بفتح الزاي وكسر الياء، وفي رواية: ((الزِّنبيل)) معروف؛ فإذا كسرته شددت فقلت: ((زِبِّيل))، أو: ((زِنْبيل))؛ لأنه ليس في الكلام: ((فَعليل)) بالفتح.اهـ. وقال في"اللسان" (11/300): ((وقيل: الزَّنبيل خطأ)). وقال في (11/312): ((م الزِّنبيل م الزَّنبيل لغة في الزبيل)).
والطبري المذكور هو أبو عبد الله الحسين بن علي الحسين الطبري، راوي "صحيح مسلم" عن أبي الحسين عبد الغافر الفارسي، توفي 498هـ. "سير أعلام النبلاء" (19/203).
(7) في (ي): ((منه)).
(8) ينظر: "جمهرة اللغة" (1/334).
(9) في (.) و(س): ((مُدًّا)).
(10) قوله: ((قالا)) سقط من (ر).
(11) قوله: ((له)) سقط نم (ز) و(س).
(12) قوله: «عن كفارته» سقط من (ح).
(13) قوله: ((قوم وأباه)) غير واضح في (ح).
(14) في (س): ((أيتصدق)).
(15) في (ز) و(س): ((آخر)).
(16) في (أ) و(ح) و(ي): ((أحد)).
(17) في (ح): ((ولللابتان)).
(18) في (أ) و(ز) و(س) و(ي): ((تعجب)).(3/171)
قسمه، وإغيائه (1) في ذلك.
والأنياب: جمع نابٍ؛ وهي الأسنان الملاصقة (2) للثنايا (3) ، وهي أربعة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «اذهب فأطعمه أهلك»؛ تخيلَ قومٌ من هذا الكلام سقوطَ الكفارةِ عن هذا الرجل؛ فقالوا: هو خاصٌّ به، وليس فيه ما يدلُّ على ذلك (4) ، بل نقولُ: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما بَيَّنَ له ما يترتَّبُ على جنايته من الكفارة، لزم الحكم وتقرر في الذمَّةِ، ثم لما تبيَّن من حال هذا: أنه عاجزٌ عن الكفارةِ، سقط عنه القيامُ بما لا يقدرُ عليه في تلك الحالِ، وبقي الحكمُ في الذمةِ (5) على ما رتبه أولاً؛ فبقيتِ الكفارةُ عليه إلى أن يستطيعَ شيئًا من خصالها. وهذا مذهبُ الجمهورِ وأئمةِ الفتوى.
وقد ذهب الأوزاعىُّ، وأحمدُ: إلى أن حكمَ من لم يجدِ الكفارةَ من سائرِ الناسِ سقوطُهَا عنه (6) .
ولم يتعرَّضِ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لقضاءِ ذلك اليوم، ولذلك قال بسقوطِ القضاءِ عنه طائفةٌ من أهل العلم، وأنه ليس عليه إلا الكفارةُ. والجمهورُ على لزومِ القضاءِ مع الكفارةِ؛ إذ الصومُ المطلوبُ منه لم يفعلْه، وهو (7) باقٍ عليه، كالصلواتِ وغيرِها إذا لم تُفْعَل بشروطِها.
ويتمُّ النظُر في هذا الحديثِ برسمِ مسائلَ اختُلفَ فيها :
الأولى: أنَّ هذه الكفارةَ هل هي (8) عن (9) الجاني وحدَه (10) ؛ كما هو مذهبُ الجمهور؟ أو عنه وعن موطوءته؛ كما صار إليه الشافعيُّ وأهلُ الظاهرِ؟ وليس في الحديث ما يدلُّ على ذلكِ، لكنَّ الحديثَ إنما تعرَّض للرَّجلِ، وسكتَ عن المرأةِ؛ فيؤخذُ حكمُها من دليلٍ آخر. أو لعله (11) إنما سكت عنها؛ لأنها كانت غيرَ صائمةٍ؛ لأنها طَهُرت من حيضتِها (12) في أضعافِ اليومِ، أو كتابيةً (13) .
وعلى الجملةِ: فحالُها مجهولٌ، ولا سبيلَ إلى التحكُّمِ بأنها كانت مكرهةً، أو مختارةً، أو غيرَ ذلك. =(3/172)=@
__________
(1) قوله: ((إغيائه)) في (س): ((واعتتايه)، وفي (ز: ((واعتنايه)). وأغيا: بلغ الغاية. "اللسان" (/). [يراجع مع الشيخ حسني فقدم عليها مثلها ؟؟؟]
(2) في (س) و(ح) و(أ): ((المتلاصقة)).
(3) قول الشارح: ((وهي الأسنان الملاصقة للثنايا)) في "المصباح" (ص152): لإنسان اثنتان وثلاثون سنًّا: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، وأربعة نواجذ، وستة عشر ضرسًا)). فهي إذن ملاصقة للرباعيات والنواجذ، والثنايا هي الأسنان المتقدمة في الفم.
(4) أخرجه عبد الرزاق (4/194) (1457)، وينظر "شرح السنة" (6/287).
(5) من قوله: «ثم لما تبين من حال....» إلى هنا سقط من (أ).
(6) قوله: «عنه» سقط من (ح).
(7) في (ح) و(ز) و(س): «فهو».
(8) قوله: ((هل هي)) ليس في (ح).
(9) في (أ) و(ح): ((على)).
(10) قوله: ((وحده)) في (ز) و(س): «وهذا».
(11) في (ي): ((ولعله)).
(12) في (ح): ((حيضها)).
(13) نقل هذا الكلام صاحب "الفتح" (4/170) وقرره.(3/172)
ومشهورُ مذهبِ مالكٍ في المكرهَةِ (1) : أن مكرِهَها يكفِّرُ عنها؛ لأنه هتكَ صومين بالنسبة إليها وإليه، فكأنه هتك يومين وقال (2) سُحنون: لا شيء عليه لها ولا عليها، وبه قال أبو ثور، وابنُ المنذر. ولم يختلف المذهبُ في أنَّ عليها القضاءُ.
المسألة الثانية: أن قولَه: «هل تجد...» وبعده: «فهل تستطيع؟» وبعده: «فهل تجد ما تطعم...» ظاهرُ هذا: الترتيبُ في هذه الخصالِ. بدليلِ عطفِ الجملِ بالفاء المرتِّبِة المعقِّبِة. وإليه ذهب الشافعيُّ، والكوفيُّون، وابنُ حبيبٍ من أصحابنا. وذهب مالكٌ وأصحابه: إلى التخيير في ذلك، إلا أنه استحب الإطعامَ لشدَّةِ الحاجة إليه، وخصوصًا بالحجاز.
واستدلَّ أصحابنا لمذهبهم بحديث أبي هريرة الآتي بعد هذا، وهو: أنه قال: أفطرَ (3) رجلٌ في رمضان فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُعْتقَ رقبةً، أو يصومَ شهرين، أو يطعمَ ستين مسكينًا. فخيره بـ «أو» التي هي موضوعةٌ للتخيير (4) .
المسألةُ الثالثةُ: هذه الكفارةُ، هل هي خاصَّةٌ بمن أفطر بالجماعِ؟ وهو مذهبُ الشافعيِّ، وأحمدَ، وجماعةٍ من (5) السَّلف، أو هل يلحقُ بذلك كلُّ هاتكٍ لصومِ نهارِ رمضانَ (6) بأيِّ وجهٍ كانِ؛ من أكلٍ، أو شربٍ (7) ، أو غيره، وهو مذهب مالك وجماعة.
واستدلَّ أصحابنُا بحديثِ أبي هريرة الآتي، وبالنظرِ (8) إلى المعنى، وتحقيقُه في الفروعِ (9) ، وبسطُ ذلك في الفقهِ.
المسألةُ الرابعةُ: ذهب جمهورُهم: إلى أنَّ (10) الكفارةَ ثلاثةُ أنواعٍ؛ كما جاء في الحديث.
وذهب الحسنُ وعطاءٌ: إلى أن المكفِّرَ إن لم يجدْ رقبةً أهدى بدنةً إلى مكةَ، قال عطاء: أو بقرةً (11) . وتمسَّكوا بما رواه مالكٌ في "الموطأ" (12) من مرسلِ سعيدِ بن المسيِّب؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «هل (13) تَسْتَطِيُع أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ تَسْتطِيعُ أَنْ (14) تُهْدِيَ بَدَنَةً (15) ؟» قَالَ: لَا. والصحيحُ: المسنَدُ من الأحاديث، وليس =(3/173)=@
__________
(1) ينظر: "المدونة" (1/218)، و"الاستذكار" (10/108).
(2) في (ز) و(س): ((قال)) بلا واو.
(3) قوله: ((وهو: أنه قال أفطر)) تكرر في (ح).
(4) وذكر ابن عبد البر خبرين بالتخيير عن الزهري والشعبي، ثم قال: وفي قول الشعبي والزهري ما يقضي الرواية بالتخيير في هذا الحديث، وهو حجةُ مالك. "الاستذكار" (10/97).
(5) قوله: ((من)) سقط من (ي).
(6) في (ز): ((لكل هاتك الصوم)).
(7) في (ح): ((من أكل وشرب)).
(8) في (ز): ((وبالنطر)).
(9) في (ح) و(ز) و(س) و(ي): ((الفرع)).
(10) قوله: ((أن)) ليس في (س) ومكانها إشارة لَحق، ولم يظهر شيء في الهامش.
(11) ينظر: "الاستذكار" (10/101- 102- 112- 115)، "الفتح" (4/167).
(12) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/297) كتاب الصيام، باب كفارة من أفطر في رمضان، عن عطاء بن عبدالله الخراساني، عن سعيد بن المسيب؛ أنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب نحره وينتف شعره، ويقول: هلك الأبعد... الحديث، وفيه: فقال: «هل تستطيع أن تُهدي بدنة؟».
قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (21/8): «هكذا هذا الحديث في "الموطأ" عند جماعة الرواة مرسلاً، وقد روي معناه متصلاً من وجوه صحاح، وقد ذكرناها في باب ابن شهاب...، إلا أن قوله في هذا الحديث: « هل تستطيع أن تَهدي بدنة» غير محفوظ في الأحاديث المسندة الصحاح، ولا مدخل للبدن أيضًا في كفارة الواطئ في رمضان عند جمهور العلماء، وذكر البدنة هو الذي أنكر على عطاء في هذا الحديث».اهـ. وقال الحافظ في "الفتح" (4/167) من نقله عنه. المسيِّب وكذب رده سعيد بن وهو مع إرساله.
(13) قوله: ((هل)) سقط نم (ي) ويوجد إشارة لحق مكانها ولم يظهر شيء في الهامش.
(14) من قوله: «أن تعتق رقبة...» إلى هنا سقط من (ح).
(15) من قوله: «قال لا...» إلى هنا سقط من (أ).(3/173)
فيه شيء من ذلك.
وقوله: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة (1) ، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينًا»؛ هذا هو متمسَّكُ أصحابنا: على أنَّ الكفارةَ معلَّقةٌ على كلِّ فطرٍ قُصد به هتكُ الصيامِ (2) ، على ما تقدَّم.
ووجه استدلالهم: أنه علَّق الكفارةَ على من أفطر مجردًا عن القيودِ، فلزم (3) مطلقًا، وهذا على قولِ (4) الشافعيِّ في مسألةِ تركِ الاستفصالِ (5) . فإن قيل: فهذا الحديثُ هو الحديثُ الأولُ، والقضيةُ واحدةٌ؛ فترد (6) إليها، قلنا: لا نسلم، بل هما قضيتان مختلفتان؛ لأن مساقهما مختلفٌ، وهذا هو الظاهرُ، والله تعالى أعلم (7) .
وقوله عليه السلام في حديث عائشة رضي الله عنها: «تصدق»، ولم يذكر غيره - دليلٌ لمالكٍ على اختيارهِ الطعامَ، بل وظاهرُ هذا الحديثِ: الاقتصارُ عليه، وهو أيضًا ظاهرُ قولِ مالكٍ في "المدونة"؛ فإنه قال: قلتُ: وكيف الكفارةُ في قول مالكٍ؟ قال: الطعام، لا يعرفُ (8) غير الطعام، لا يأخذُ مالكٌ بالعتقِ ولا بالصيامِ (9) . =(3/174)=@
__________
(1) قوله: «رقبة» سقط من (ح) و(ي).
(2) في (ح): ((الصوم)).
(3) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): «فيلزم».
(4) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): «وهذا على قول».
(5) تقدم ص48.
(6) في (ز) و(س) و(أ) و(ح): ((وليس))
(7) تعقبه في "الفتح" (4/165)، فقال: ((والجمهور حملوا)). قوله: ((أفطر)) هنا على المقيد في الرواية الأخرى وهو قوله: ((وقعت على أهلي) وكأنه قال: أفطر بجماعٍ. وهو أولى من دعوى القرطبي وغيره تعدد القصة.
(8) في (ي): ((لا نعرف)).
(9) ينظر "المدونة" (1/218). قال ابن دقيق العيد في "الإحكام" (ص410) بعد أن نقل قول مالك: ((فإن أخذ على ظاهره من عدم جريان العتق م الصوم في كفارة الفطر والصوم في كفارة الفطر، فهي معضلة زباء فوات وبر لا يهتدي إلى توجيهها مع مخالفة الحديث، غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الإطعام على غيره، وذكروا وجوها في ترجيح الإطعام على غيره... قال: وهذه الوجوه لا تقادم ما دل عليه الحديث من البدعة بالعتق ثم بالصوم ثم بالإطعام، فإن هذه العبارة لم تقتض وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه.اهـ. وينظر: "الاستذكار" (10/97)، "الفتح" (4/166- 167).(3/174)
وقوله (1) : «أَغَيْرَنَا؟» منصوب بفعل مضمرٍ؛ تقديره: أتعطيه غيرنا؟ والله أعلم (2) .
ومن باب جواز الصوم والفطر في السفر
«الكَدِيدُ» ماءٌ بينه وبين مكة: اثنان وأربعون ميلاً. و«عُسفان» قريةٌ جامعة على ستة ٍوثلاثين ميلاً من مكة. وفي الحديثِ الآتي: «كُرَاعُ الْغَمِيمِ». فالغَميم (3) - بفتح الغين -: وادٍ أمامَ عُسفان بثمانيةِ أميالٍ (4) . و«كُراع»: جبلٌ أسودُ هناك يضافُ إلى الغميم. والكُراع لغةً: هو كلُّ أنفٍ مالَ من جبلٍ أو غيره.
وهذه الأحاديثُ المشتملُة على ذكرِ هذه المواضعِ الثلاثةِ كلُّها ترجعُ (5) إلى معنًى واحدٍ؛ وهي حكايةُ حالِه صلى الله عليه وسلم عن سفره في قدومِه إلى فتحِ مكةَ. وكان في رمضان في ستة عشر (6) منه؛ كما جاء (7) في حديث أبي سعيدٍ. وهذه المواضع متقاربةٌ؛ ولذلك عبَّر كلُّ واحدٍ من الرواةِ بما حضر له من تلكَ المواضع لتقاربها (8) .
واختُلفَ في حكمِ الفطرِ في السفرِ (9) ؛ فالجمهورُ على أن المسافرَ إن صام في سفره أجزأه. وذهب بعضُ أهلِ الظاهرِ: =(3/175)=@
__________
(1) في (أ) و(ز) و(س): ((وقوله)).
(2) قوله: ((والله أعلم)) زيادة في (ز).
(3) في (ز) و(س): ((والغميم)).
(4) تنظر هذه المواضع في "معجم البلدان" (4/121- 122، 214، 442)، "معجم ما استعجم" (3/1006)، (4/1119).
قد ذكر القاضي عياض هذه المواضع في "الإكمال" (4/64)، و"المشارق" (1/46، 350، 351)، (2/108، 198)، وتابعه الشارح هنا. ونقلها النووي في "شرح مسلم" (7/230) من القاضي ثم قال: ((هذا كلام القاضي، وهو كما قال إلا في مسافة عسفان؛ فإن المشهور أنها على أربعة بُرُد من مكة، وكل بريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال؛ فالجملة ثمانية وأربعون ميلاً، هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الجمهور.اهـ.
قلت: وفي "معجم البلدان" (4/122) أن عسفان على مرحلتين من مكة - والمرحلتان: ثمانية وأربعون ميلاً – وأنه قيل: إنها على ستة وثلاثين ميلاً منها. ويشهد لما قاله النووي ما روي عن ابن عباس: ((يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من عسفان إلى مكة)) صححه الحافظ في "التلخيص" (2/46) من قول ابن عباس ويروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) في (ي): ((يرجع)).
(6) في (أ) و(ي) و(ح): ((ست عشرة)).
(7) قوله: «جاء» سقط من (ح).
(8) ذكره ذلك القاضي عياش في "الإكمال" (4/64) وقال: إن كانت عسفان متباعدة شيئًا عن المواضع، فكلها مضافة إليها ومن عملها فاشتمل عليها اسمها. وقد يكون الجمع بين هذين أنه كُلِّم بعسفان بحال الناس ومشقة ذلك عليهم، وكان قطرهم بالكديد.
(9) ينظر المسألة في: "المدونة" (1/201)، و"التمهيد" (2/170)، و"الاستذكار" (10/169) وما بعدها، و"القبس" (2/136)، و"المغني" (4/345، 406)، و"الأم" (2/102)، "المجموع) (6/269)، و"بدائع الصنائع" (2/152)، "المحلى" (6/243)، "الفتح" (4/180، 183).(3/175)
إلى أنه لا يجزئه، ولا ينعقد، وعليه القضاءُ أبدًا. وحكي عن ابنِ عمرَ (1) رضي الله عنهما: أنه قال: من صام في السفرِ قضى في الحضرِ. وحُكي أنه مذهبُ عمرَ (2) . ومُتمسَّكُ هؤلاء: ظاهرُ قولِه تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر} (3) ؛ أي: فعليه عدةٌ، أو: فالواجبُ عدةٌ. وتأوَّله الجمهور: بأن (4) هناك محذوفًا، تقديره: فأفطر (5) . واستدلوا على صحته (6) بما يأتي بعد هذا من الأحاديثِ الآتيةِ في هذا البابِ.
وكره أحمدُ بن حنبل الصومَ في السَّفرِ، ولم يأمر بالقضاء.
واختلف الجمهور في الأفضلِ: هل الصوم أفضل أو الفطر أفضل أو لا فضيلة (7) لأحدهما على الآخر؟ (8)
وممن ذهب إلى الأولِ أنسُ بنُ مالكٍ (9) ، ومالكٌ في المشهور عنه، والشافعيُّ رضي الله عنهما، على أن الفطرَ من بابِ الرُّخَصِ، وأن فعل الصومِ مبادرةٌ إلى (10) تخليصِ الذممِ، ومسابقةٌ إلى الخيرات، وقد أمر الله تعالى بذلك في (11) قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} (12) .
وإلى الثاني ذهب ابن عباس (13) ، وابن عمر (14) (15) ، وغيرهما.
وعلى الثالث جُلُّ أهلِ المذهبِ؛ وهو التخييرُ، وعليه تدلُّ الأحاديثُ المذكورةُ في هذا البابِ (16) .
ثم هل هذا في كلِّ سفرٍ: طاعةً كان أو معصيةً، طويلاً كان أو قصيرًا؟ قد (17) تقدَّم ذكر الخلاف فيه في باب: قصر الصلاةِ في السفرِ (18) .
وقوله: «خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَامَ الفُتْحِ في رَمَضَانَ؛ فَصَامَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ» هذا حجّةٌ على من يقول: إن الصومَ لا ينعقدُ في السَّفر؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد صام من خروجهِ من المدينة إلى أن بلغ الكديدَ، وصام الناسُ معه.
وهو حجَّةٌ لمن يقولُ: إن مَن بَيَّت (19) الصومَ في السفر فله أن يفطرَ، وإن لم يكن له عذرٌ، وإليه ذهب مطرِّفٌ (20) ، وهو أحدُ قولَيِ الشافعيِّ، وعليه جماعةٌ من أصحابِ الحديثِ.
والجمهورُ على منع ذلك إلا للعذر، متمسِّكين بأنه قد شَرَعَ في أَحَدَ (21) ما خُيِّر فيه؛ فيلزمُه المُضيُّ فيه؛ إذ قد عَيَّنه بفعلهِ، وحملوا فِطرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على (22) وجودِ العذرِ المسوِّغِ؛ من حصولِ الضعفِ بالصومِ عن مقاومةِ العدوِّ، وعن القيامِ بوظائفِ =(3/176)=@
__________
(1) لم أجده.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/283 رقم8998) في الصيام، باب من قال: إذا صام في السفر لم يجزه، عن يزيد بن هارون، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن رجل، عن أبيه: أن رجلاً صام رمضان في السفر، فأمره عمر رضي الله عنه أن يعيد. وفي سنده مجهولان.
وأخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (4/270 رقم7763) عن ابن عيينة، قال: أخبرني عاصم بن عبيدالله بن عاصم، عن عبدالله بن عامر بن ربيعة: أن عمر بن الخطاب أمر رجلاً صام رمضان في السفر أن يقضيه. وفي سنده: عاصم بن عبيدالله بن عاصم: قال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال النسائي: لا نعلم مالكًا روى عن إنسان ضعيف مشهور بالضعف، إلا عاصم بن عبيدالله. وفي "التقريب" (ص؟؟؟): ضعيف. ثم أخرجه عبدالرزاق ضمن الحديث السابق، عن عمر وبن دينار، عن كلثوم بن جبر، عن عمر، به. وفي سنده: كلثوم بن جبر: قال النسائي: ليس بالقوي. ووثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في "الثقات، وفي "التقريب" (ص؟؟؟): صدوق يخطئ.
(3) سورة البقرة؛ الآية: 184.
(4) في (ح): ((أن)).
(5) ينظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/265، 270، "أحكام القرآن" لابن العربي (1/112)، الطبري (2/149).
(6) في (ي): ((على صحة)).
(7) في (س): ((فضيلة)) وفي (ز): ((أفضلية)).
(8) قوله: «على الآخر» سقط من (أ).
(9) أخرجه ابن أبي شيبة (2/281 رقم8974) في الصيام، باب من كان يصوم في السفر، ويقول: هو أفضل، والطبري في "تفسيره" (3/466-467 رقم2874) كلاهما من طريق أبي معاوية ومروان ابن معاوية، عن عاصم قال: سُئل أنس عن الصوم في السفر، فقال: من أفطر فبرخصة الله، ومن صام فالصوم أفضل.وسنده صحيح.
أبو معاوية: هو محمد بن خازم الضرير. وعاصم: هو ابن سليمان الأحول.
(10) قوله: ((إلى)) ليس في (أ).
(11) في (ي): ((من)).
(12) سورة البقرة؛ الآية: 148.
(13) في (ز) و(س): ((ابن عمر وابن عباس)).
أما عن ابن عباس: فأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/280 رقم8966) في الصيام، باب من كره صيام رمضان في السفر، والطبري في "تفسيره" (3/460 رقم2857)، والبزار (1/468 رقم986/كشف).ثلاثتهم من طريق سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس؛ قال: الافطار في السفر عَزْمَة. وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن قتادة مدلس وقد عنعن. وسعيد: هو ابن أبي عروبة.
وقال البزار: «لا نعلمه بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، ولم نسمع أحدًا يحدث به إلا أبا موسى».اهـ. وأبو موسى: هو محمد بن المثنى شيخ البزار.
وأما عن ابن عمر: [يضاف هنا هامش 3 في الصفحة القادمة]
(14) في (ي) و(أ) و(ح): ((ابن عمر وابن عباس)).
(15) أخرجه الطبري في "تفسيره" (3/460 رقم2858)، والدولابي في "الكنى" (1/154-155)، كلاهما من طريق شعبة، عن يعلى، عن يوسف بن الحكم، قال: سألت ابن عمر - أو سئل - عن الصوم في السفر؟ فقال: أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردها عليك، ألم تغضب؟ فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم وسنده صحيح.
وأخرجه ابن أبي شيبة (2/280 رقم8667) في الصيام، باب من كره صيام رمضان في السفر، من طريق سعيد، عن قتادة، عن ابن عمر، بمعناه. إلا أنه منقطع؛ قتادة لم يسمع من ابن عمر.
(16) وهناك قول رابع: أن الأفضل الأيسر والأسهل منهما، حكاه في شرح السنة (6/307) عن مجاهد، وعمر بن عبد العزيز وقتادة.
قال النووي في "المجموع" (6/307): قال ابن المنذر: وبه أقول.
(17) في (س): ((وقد)).
(18) تقدم ص؟؟؟.
(19) في (ز): ((بتت)).
(20) بعده في (ح): «بن عبدالله» لكن يبدو أنه ضرب عليها. [يحدد من هو (التابعي أو صاحبة مالك)].
(21) في (ز) و(س): ((احل)).
(22) قوله: ((على)) ليس في (س).(3/176)
الجهادِ، ولما حصل لهم من الجهد والمشقَّةِ بالصومِ؛ كما قال: ((فسقط الصُّوَّام))، وقد روى البزَّار (1) من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما رأى ما هم فيه (2) ، ووصل إلى الماء، قال لهم: «اشْرَبُوا»، فَقَالوا: لا نشربُ (3) حتى تشربَ. قال: «إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي رَاكِبٌ وأَنْتُمْ مُشَاةٌ»، فقالوا: لا نشربُ حتى تشربَ، فشرب وشربوا (4) .
وعلى مذهبِ المنعِ: فلو أفطرَ من غيرِ عذرٍ فهل تلزمُه الكفارةُ، أو لا تلزمه؟ ثلاثةُ أقوالٍ؛ يفرَّق في الثالثِ بين أن يفطرَ بجماعٍ؛ فتجبُ، أو بغيره؛ فلا يجب. وكذلك اختُلِفَ فيمن طرأ عليه السفرُ، وقد بيَّت الصومَ في الحضرِ. فالجمهورُ على أنه لا يجوزُ له (5) أن يفطرَ إلا مع العذرِ. فلو أفطرَ من غير عذرٍ ففي الكفارةِ ثلاثةُ أقوالِ (6) ؛ يفرَّقُ (7) في الثالثِ بين المتأوّل فتسقط (8) عنه، وبين غيره فلا تسقط (9) .
وقوله: «وكان صحابته صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره» وهو (10) قول الزُّهْريِّ كما فسَّره (11) في الرواية الأخرى ونسبه إليه. ولذلك (12) ذكره مسلم بعده.
وظاهرُ =(3/177)=@
__________
(1) في (ي): ((البرا)) لم أجده في"كشف الأستار"، وقد أخرجه أحمد (3/21و46) من طريق يزيد بن هارون، وعبدالوارث بن سعيد، وابن حبان (8/319 و323 رقم3550 و3556/ الإحسان) من طريق عبدالله بن المبارك، وخالد بن عبدالله الواسطي؛ أربعتهم عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهر من ماءٍ، وهو على بغلته له، والناس صيام والمشاة كثير فقال: «اشربوا» فجعلوا ينظرون إليه، فقال: «اشربوا، فإني آمركم»، فجعلوا ينظرون إليه، فحول وركه، فشرب، وشرب الناس. وسنده صحيح.
(2) قوله: ((ما هم فيه)) في (ي): ((ما هم))، وفي (ح): ((منهم فيه)).
(3) سقط من (أ) و(س) و(ز) و(ي).
(4) في (ح): «فشربوا».
(5) قوله: «له» سقط من (ح) و(س) و(ز) و(ي).
(6) هذه الأقوال في الكفارة إن أفطر قبل أن يخرج إلى سفره، فعن ابن الماجشون: إن سافر فلا كفارة عليه، وإن لم يسافر فعليه الكفارة. وقال أشهب: لا كفارة عليه سافر أو لم يسافر. وعن ابن القاسم: أنه لا كفارة عليه لأنه متأوِّل في فطره. قال ابن عبد البر: وهذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة فلأنه غير منتهك لحرمة الصوم وإنما هو متأول. ((الاستذكار)) (10/8988).
(7) في (ح): ((يعرف)).
(8) في (ز)((فيسقط)).
(9) في (ز): ((يسقط)).
(10) في (ز) و(ي): ((وهو)).
(11) في (ح) و(ي): «وقد فسره».
(12) في (أ): ((وكذلك)).(3/177)
كلامِ ابن شهابٍ (1) : أن الذي استقر عليه أمرُه صلى الله عليه وسلم إنما كان الفطر في السفر، وأن الصومَ السابقَ منسوخٌ. وهذا الظاهرُ ليسَ بصحيحٍ (2) ؛ بدليلِ الأحاديثِ الآتيةِ بعد هذا؛ فإنها تدلُّ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صام بعد ذلك في السفر، وأصحابهُ كذلك، وخيَّر فيه (3) . ومن أدلِّ (4) ذلك قولُ أبي سعيدٍ: ثم لقد رأيتُنا نصومُ بعد ذلك في السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) ، وما خرَّجه النسائيُّ (6) عن عائشةَ: أنَّها سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرته، فقالت: يا رسول الله! قَصَرْتَ وأتممتُ، وأفطرتَ وصُمتُ! فقال: «أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ»، وما عابه عليَّ.
ويمكنُ أن يُحمَل قولُ الزهريِّ على أنه أراد أن يخبَر بقاعدتِهمُ الكليَّةِ الأصوليةِ في الاقتداءِ بأفعالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما تحققتْ فيه المعارضةُ (7) ، لا في هذا الموضعِ؛ فإنه لم تتحقَّق (8) فيه المعارضةُ. والله تعالى أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم لحمزةَ بنِ عمروٍ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ (9) ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»؛ نصٌّ في =(3/178)=@
__________
(1) قوله: «وظاهر كلام ابن شهاب» لم يتضح في (ح).
(2) ينظر: "الاستذكار" (10/81)، و"القبس" (2/136- 140)، و"الفتح" (4/184)، وممن قال بالنسخ: ابن حزم في "المحلى" (6/250- 253)؛ لأنهم يمنعون الصوم في السفر أصلاً ولا يجوزونه، وسيأتي للشارح مزيد تحقيق في دفع ما يتوهم من المعارضة ودعوى النسخ.
(3) قوله: «وأصحابه كذلك وخير فيه» سقط من (ح).
(4) بعده في (س): ((على)).
(5) يأتي في باب الفطر أفضل لمن تأهب للقاء العد و.
(6) تقدم تخريجه في أبواب قصر الصلاة في السفر.
(7) قوله: ((في الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم...)) إلخ. كذا في جميع النسخ، والمراد: الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي تنسخ أفعاله الأوائل إذا تحققت المعارضة وتعذر الجمع. وينظر "المعلم" (2/36).
(8) في (ز) و(س): ((لم يتحقق)).
(9) في (ح) و(س) و(ز) و(ي): ((صم)) .(3/178)
التخيير. ولا يقال: يحتملُ (1) أنه سأله عن سردِ صومِ (2) التطوُّع (3) ؛ لوجهين:
أحدهما: قوله له (4) في الرواية الأخرى: «هي رخصةٌ من الله تعالى، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه» ولا يقال في التطوُّع مثلُ هذا.
والثاني: أن حديثه (5) هذا خرَّجه أبو داود (6) ، وقال فيه: يا رسول الله! إني صاحبُ ظهرٍ أسافر عليه، وأُكْريه في هذا الوجه، وأنه (7) ربما صادفني هذا الشهر - يعني: رمضان - وأنا (8) أجدُ القوَّةَ، وأنا شابٌّ، وأجدُني (9) أن أصومَ أَهْونُ من أن أؤخِّرَه فيكون دينًا عليَّ، أفأصومُ يا رسول الله! فيكون ذلك (10) أعظمَ لأجري، أو أفطر؟ فقال: «أَيَّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزةُ (11) ». وهذا نصٌّ في أنه صومُ رمضانَ.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «هو رخصة من الله تعالى»؛ دليلٌ على أنَّ الخطابَ بالصومِ متوجِّهٌ لجميعِ المكلِّفينَ؛ المسافرين وغيرِهم، ثم رُخِّصَ لأهل الأعذارِ بسببها. وبيانُ ذلك: أن الرخصةَ حاصلُها راجعٌ إلى تخلُّفِ الحكمِ الجَزْمِ مع تحقُّقِ سببِهِ لأمرٍ خارجٍ عن ذلك السببِ؛ كما تقولُه في إباحةِ الميتةِ عندَ الضرورةِ. وبهذا يتحقَّقُ بطلانُ قولِ من قال: إن صومَ المسافِر لا ينعقدُ، والله تعالى أعلم (12) .
وقوله: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لستَّ عشرة من رمضان»؛ قد اختلف الرواةُ في هذا؛ ففي (13) حديث (14) التيميِّ، وعمر بن عامرٍ، وهشامٍ: «لثمان عشرة خلت من =(3/179)=@
__________
(1) في (ح): ((يحمل)).
(2) في (ز): ((الصوم)).
(3) ذكر نحو ذلك ابن دقيق العيد في "الإحكام" (ص416)، ورد عليه ابن حجر في "الفتح" (4/180)، بنحو ما سيذكر الشارح هنا.
(4) قوله: ((له)) سقط من (ح) و(س) و(ز).
(5) في (ي): ((حديث)).
(6) في "سننه" (2/794 رقم2403) كتاب الصوم، باب الصوم في السفر. وفي سنده حمزة بن محمد بن عمرو الأسلمي مجهول الحال من السادسة. "التقريب" (180 برقم1531).
(7) قوله: ((أنه)) سقط من (ي).
(8) قوله: ((أنا)) مطموس في (ز).
(9) في (ح): «وأجد».
(10) قوله: ((فيكون ذلك)) ليس في (أ) و(ي) و(س) و(ز).
(11) كذا في (أ) بحذف التاء على الترخيم، وفي (ح): «يا حمزة».
(12) قوله: ((والله تعالى أعلم)) ليس في (ي).
(13) في (ح): «يعني».
(14) في (ز): ((حديثا)).(3/179)
رمضان (1) »، وفي حديث سعيد: «في (2) ثنتي عشرة»، وفي حديث شعبة: «لسبع عشرة، أو: تسع عشرة». وقال الزهري: «صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكةَ لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلتْ من رمضان».
وهذه أقوال مضطربة. والذي أطبق عليه أصحابُ السيرِ: أن خروجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لغزوةِ الفتحِ كان لعشرٍ خلوْنَ من رمضان، ودخولُه (3) مكةَ كان في تسعَ عشرةَ، وهو أحسنها (4) . والله تعالى أعلم.
ومن باب مِنْ أجهده وأضعفه الصومُ وَجَبَ عليه الفطرُ
هذه الترجمةُ معضودةٌ بقاعدةِ الشريعةِ المقرَّرةِ في رفعِ ما لا يطاقُ، وبأنَّ للمريضِ أن يفطرَ، ومن أجهده (5) الصومُ مريضٌ (6) ؛ فإن خاف على نفسه التلف (7) =(3/180)=@
__________
(1) قوله: ((من رمضان)) ليس في (أ) و(ي) و(ح).
(2) سقط من (س).
(3) في (ح): ((دخول)).
(4) ينظر: "السيرة النبوية" (2/398)، و"تاريخ الطبري" (3/292)، و"المنتظم" (3/326، 329)، و"الكامل" (2/119)، و"البداية والنهاية" (4/2850- 286)، و"الفتح" (4/181).
(5) تنظر مسألة التكليف بما لا يطاق والخلاف فيها في: "المحصول" لابن العربي (ص24)، و"البرهان" (1/105)، و"المسودة" (ص80)، "مجموع فتاوى ابن تيمية" (1/344)، (22/100)، "بدائع الفوائد" (4/175)، "إرشاد الفحول" (1/29).
(6) في (ز) و(س): ((وهو مريض)).
(7) في (ي): ((التلق)).(3/180)
من الصومِ عصى بصومهِ، وعلى هذا يحمل قولْه صلى الله عليه وسلم: ((أُولَئِكَ العُصَاةُ»، وقولُه: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ»؛ فإنه خرج على قومٍ سقطوا من جهدِ الصومِ، حتى ظُلِّل (1) عليهم، فيتناولُ من كان على مثل حالهِم. وأمَّا من لم يكن كذلك، فحكمُه ما تقدّم من التخييرِ. وبهذا يرتفعُ التعارضُ بين الأحاديثِ، وتجتمعُ الأدلةُ كلَّها، ولا يحتاج إلى فرضِ النسخِ؛ إذ لا تعارض (2) ، والله تعالى أعلم.
وقولُه: «ليس من البر الصيام في السفر»، هذا القولُ، وقولُه: «أولئك العصاة» من حديث جابرٍ، والظاهرُ أن القضيةَ واحدةٌ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال القولين في تلك القضيةِ الواحدةِ (3) . وقد تأوَّل بعضُ علمائنا قولَه: «ليس من البر»؛ أي: ليس (4) البر الواجب. وهذا التأويلُ إنما يَحْتاج (5) إليه مَنْ قطعَ الحديثَ عن سببِه، وحَملَه على عمومِهِ، وأما على ما قررناه فلا حاجةَ إليه (6) .
وروي (7) هذا الحديثُ هنا: «ليس البر» بغيرِ «من»، وقد روي من طريقٍ أخرى: «ليس من البر (8) »، وهي «من» الزائدةُ التي تُزاد لتأكيدِ النفيِ (9) .
وقد ذهب بعضُ الناسِ إلى أنها مبعِّضةٌ هنا، وليس بشيءٍ.
وقد روى أهلُ الأدب: «لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامُ فٍي امْسِفَرِ (10) »، فأبدلوا (11) من اللام ميمًا، وهي لغةُ قومٍ من العربِ، وهي قليلةٌ (12) . والله تعالى أعلم. =(3/181)=@
__________
(1) في (ح): «ظل».
(2) تقدم للشارح كلام في رفع دعوى النسخ ووهم التعارض! وقال ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" (ص417- 418): أخذ من هذا أن كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة... والظاهرية المانعون من الصوم في السفر يقولون: إن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويجب التنبيه للفرق بين دلالة السياق والقرائن الدالة على تخصيص ال عام وعلى مراد المتكلم، وبين مجرد ورود العام على سبب، ولا نجريهما مُجرًى واحدًا؛ فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به... أما السياق والقرائن؛ فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات.
(3) أكد ذلك الحافظ في "الفتح" (4/185).
(4) سقط من (س).
(5) في (ح): ((تحتاج)).
(6) ينظر: "التمهيد" (10/81)، و"الأحكام" (ص557- 558)، و"شرح معاني الآثار": (2/62- 64)، و"الفتح" (4/184- 185).
(7) يراجع التخريج المتن المشروح فيها ((من)) ويخرج الطرق الأخرى.
(8) وكذا قال القاضي في "الإكمال" (4/66)، ولعل ذلك في رواية الصحيح لمسلم؛ فإن الرواية في "صحيح مسلم": ((ليس من البر)) بإثبات ((من))، وكذلك في "التلخيص"، وقد جرى عليها الشارح في شرحه، ووردت ((ليس البر)) في "المستخرج على صحيح مسلم" (3/195)، و"المسند" (3/299، 367، 352)، وابن خزيمة (3/254)، و"الأوسط" (9/83)، و؟؟؟ للنسائي (2/39، 100)، وابن حبان (8/320، 321)، وعبد بن حميد (10/326)، والبزار (9/302).
(9) ذكر ذلك ابن عبد البر في "التمهيد" (2/175)، والقاضي في "الإكمال" (4/66-67) ومن هنا ليست زائدة إلا على مذهب من يجيز زيادتها مع المعرفة، أو يجيز زيادتها بلا شروط؛ فإن جمهور النحاة على أنها لا تزاد إلا مع النكرة وبشروط؛ وحاصل ذلك أن ((من)) الزائدة نوعان: الأولى: يكون دخولها كخروجها، وهي الزائدة للاستغراق لتوكيد الاستغراق وتدخل على الأسماء الموضوعة للعموم وهي كل نكرة مختصة بالنفي؛ نحو ((ما قام من أحد))؛ فهي هنا زائدة لمجرد التوكيد.
والثانية: أن تكون زائدة لتنفيذ التنصيص على العموم وتسمى الزائدة لاستغراق الجنس؛ وهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي نحو: ((ما جاء في من رجلٍ)) لأن ((ما جاء في رجل)) تحتمل نفي الوحدة، بمعنى أنه يمكن أن تقول: ((ما جاء في رجل بل رجلان)) فلما دخلت ((من)) الزائدة صارت نصًّا في العموم وانتفى الاحتمال.
ويشترط لزيادتها شرطان: أن تكون مسبوقة بنفي أو نهي أو استفهام، وأن يكون مجرورها نكرة. وحكى ابن يعيش عن سيبويه شرطًا ثالثًا: أن تكون النكرة عامة. قال المرادي: وفيه نظر؛ لأنها قد تزاد مع النكرة التي ليست من ألفاظ العموم. وهناك شرط آخر ذكره ابن هشام: أن يكون المجرور بها فاعلاً أو مفعولاً به أو مبتدأ. واشترط هذه الشروط وهو مذهب سيبويه وجمهور البصريين، وجمهور الكوفيين يشترط تنكير مجرورها فقط. والكسائي وهشام يريان زيادتها بلا شرط، وهو مذهب أبي الحسن الأخفش وإليه ذهب ابن مالك؛ لورود السماع بها؛ نحو: {ولقد جاءك من نباء المرسلين}، {يحلون فيها من أساور}. وفي "المغني" أن الزمخشري جوز زيادتها مع المعرفة، والفارسي جوزها مع الإيجاب. ينظر: "الجنى الداني" (ص316- 320)، و"مغني اللبيب" (ص316- 319). أشير بسهم إلى الهامش وقيل [يختصر]
(10) في "مسند الشافعي" (1/157) من كتاب الصيام: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن صفوان بن عبدالله، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من امبر امصيام في امسفر».
وأخرج هذه الرواية الإمام أحمد في "المسند" (5/217 رقم6977) من حديث كعب بن عاصم الأشعري رضي الله عنه: حدثنا عبدالله، حدثني أبي، ثنا عبدالرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن صفوان بن عبدالله، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم الأشعري، وكان من أصحاب السقيفة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من أمبر أمصيام في أمسفر».
وفي "مسند الحميدي" حديث كعب بن عاصم الأشعري رضي الله عنه، (2/381 رقم864): حدثنا الحميدي قال: ثنا سفيان قال: سمعت الزهري يقول: أخبرني صفوان بن عبدالله بن صفوان، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم الأشعري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من البر الصيام في السفر»، قال سفيان: وذكر لي أن الزهري كان يقول فيه، ولم أسمعه أنا: «ليس من امبر امصيام في امسفر».
الطبراني في "الكبير" (19/172 برقم387) حديث كعب بن عاصم الأشعري بإسناد عبدالله بن أحمد في "مسند أحمد"، و"التلخيص الحبير" (2/205).
(11) في (ي): ((وأبدلوا)).
(12) تنسب هذه اللغة إلى بعض أهل اليمن وهم حمير ومنهم طيء، ينظر: "سر صناعة الإعراب" (1/423)، "المفصل" (1/449، 511)، "شرح الأشموني" (1/108)، "المغني" (1/71)، "شرح قطر الندى" (ص125)، و"النهاية" (3/42، 303)، "اللسان" (4/52)، (12/26).(3/181)
ومن باب: الفطرُ أفضلُ لمن تأهَّبَ للقاءِ العدوِّ
قوله: «أكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء»؛ يعني: أنهم لم يكن لهم فَسَاطيطُ (1) ولا أخبيةٌ. و«يتقي الشمس بيده» (2) : يستتر منها (3) . و«الأبنية»: جمعُ بناءٍ (4) ؛ يعني بها: الخُصوص (5) . و«الرِّكابُ»: الإبلُ.
وقوله: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر»؛ يعني: أنهم لما قاموا (6) بوظائف ذلك الوقتِ، وما يُحتاجُ إليه فيه؛ كان أجرُهم على ذلك أكثرَ من أجرِ مَنْ صام ذلك اليوم ولم يقم بتلك الوظَائفِ (7) .
وفيه ردٌّ على من يقول: إن المسافرَ لا يصحُّ صومُه (8) . =(3/182)=@
__________
(1) الفساطيط: فُسطاط، وهو نوع من الأبنية، والفسطاط بيت من شعر. "الصحاح" (3/150)، و"اللسان" (7/371).
(2) قوله: ((بيده)) سقط من (ح).
(3) في (أ) و(ي): ((يتستر)).
(4) في (س): ((والأنبية جمع نبا)).
(5) الخصوص جمع خُص وهو البيت من القصب أو المبيت يسقف بخشبه. ويجمع أيضًا: خصاص. "القاموس" (ص617).
(6) في (أ): «أقاموا».
(7) قال ابن العربي "القبس" (2/140): وإنما أراد صلى الله عليه وسلم أن أجر الخدمة في السفر والقدرة على العدو أفضل من أجر الصائم؛ لأنه يتقوى لعدوه، ولأنه يحصل له مثل أجر الصائم لخدمته له؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من فطر صائمًا فله مثل أجره)).
(8) تقدم (ص؟؟؟).(3/182)
وقوله: «إنكم قد دنوتم من عدوِّكم والفطر أقوى لكم» دليلٌ على أن حفظَ القوةِ بالفطرِ أفضلُ لمن هو منتظرٌ (1) للقاء العدوِّ.
وقوله: «فكانت رخصةً»؛ يعني: أنهم لم يفهموا من هذا الكلامِ الأمرَ بالفطر ولا الجزمَ به، وإنما نبَّه به على أنَّ الفطرَ أولى لمن خاف الضعفَ.
وسُمِّي هذا؛ ((رخصةً)) بناء على أنَّ كلَّ مكلَّفٍ مخاطبٌ بصومِ رمضان؛ كما قد أفهمه قولُه تعالى: {كتب عليكم الصيام} (2) ، أو بالنسبِة إليهم؛ إذ كان (3) النبي صلى الله عليه وسلم قد (4) صام من (5) حين خروجه من المدينة، وصام الناسُ معه، إلى أن بلغ (6) الكَديدَ - كما تقدَّم (7) - فلما خاف عليهم الضعفَ نبههم على جوازِ الفطرِ، وأنه الأفضلُ؛ فسُمي ذلك رخصةً بالنسبةِ إلى تركِ ما كانوا قد اختاروه من الصومِ، ولما فهموا أن هذا من باب الرُّخَصِ كان منهم من هو موفورُ القوةِ فصام، وكان منهم من خاف على نفسهِ فأفطر.
ثم بعد ذلك قال لهم: «إنكم مُصَبِّحو عدوِّكم، والفطرُ أقوى لكم، فأفطروا». قال: «وكانت عزمَةً (8) »؛ أي: أنهم فهموا من أمرِه بالفطر أنه جَزم، ولابدَّ منه، وأنه واجب، فلم يصم منهم أحدٌ عندَ ذلك فيما بلَغَنا، ولو قدرُ هنالك (9) صائمٌ لاستحقوا (10) أن يُقالَ لهم : «أولئك العصاةُ». وقد حمل (11) بعضُ علمائنا قولَه: «أولئك العصاةُ» على هذا؛ بناءً (12) على أن منهم من صام بعد الأمر بالفطر، ولم يسَمْع ذلك في حديثٍ مرويٍّ، وإنما هو تقديرٌ من هذا القائلِ (13) . =(3/183)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((مستنظر)).
(2) سورة البقرة؛ الآية: 183.
(3) في (أ): «قد كان».
(4) ليس في (أ) و(ي) و(ح).
(5) ليس في (أ).
(6) في (أ): ((بلغوا)).
(7) ؟؟؟.
(8) قوله: ((قال وكانت)). في (ي): ((ثم بعد ذلك!)).
(9) في (ز) و(س): ((هناك)).
(10) في (ح): «لاستحق».
(11) في (ي): ((حصل)).
(12) زاد بعده في (أ): ((منهم)).
(13) ذكر ذلك ابن العربي في "القبس" (2/139). وفي حديث جابر المتقدم تصريح بأن بعض الناس قد صام، فقال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((أولئك العصاةِ)). والحديثان (حديث جابر، وحديث أبي سعيد) في سفر "الفتح"!. وقال ابن حجر في "الفتح" (4/184) بعد أن ساق حديث أبي سعيد: ((ويؤخذ منه الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان؛ لأنه عزم عليهم فخالفوا)).(3/183)
وقولُه: ((ثم لقد رأيتُنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر)).
دليلٌ على أنَّ الصومَ هو الأصلُ والأفضلُ، وأن الفطرَ إنما كان لعلَّةٍ وسببٍ، ولما زال ذلك رجع (1) إلى الأفضل. والله أعلم (2) .
وقوله: «وما منا (3) من أحدٌ صائمٌ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبدالله بن رواحة» يدلُّ على أنَّ الصومَ أفضلُ؛ كما قد صار إليه مالك ومن سمينا معه (4) . =(3/184)=@
__________
(1) قوله: ((رجع)) سقط من (ح).
(2) تقدم (ص؟؟؟).
(3) زاد بعده في (أ): ((من)).
(4) تقدم (ص؟؟؟).(3/184)
ومن باب فضل (1) صيامِ يومِ عرفةَ
قولُ أبي قتادة: «سُئل رَسُولُ اللهِ عَنْ صَوْمِهِ فَغَضِبَ»؛ غضبُه عند هذا السؤال يحتملُ أوجهًا :
أحدُها: أنه فهم عن السائلِ أنه إنما (2) سأل عن صومهِ ليلتزمَه، وربما يعجز عنه؛ فغضبَ لذلك ولم يجبْه (3) .
وثانيها: أنه فهم أن السَّائلَ إنما سأل ليعلمَ مقدارَ ذلك فيزيد (4) عليه (5) ، كما قد سأل نفر عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقالّوها (6) ، وقالوا: قد (7) غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبِكَ. فقال أحدُهم: أما أنا فأصومُ ولا أفطرُ. وقال الآخرُ: أما أنا فأصلي الليل لا أنامُ (8) . وقال الآخر: أما أنا فلا أنكح النساء. فقال النبيُّ (9) صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا أَنَا فَأَصلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ (10) رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (11) .
وثالثُها: لعلَّه إنما غضب لما يؤدِّي إليه من إظهارِ عملِ السرِّ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ المْجُاهِرِينَ»؛ قيل: وَمَنْ هُمْ؟ قال: «الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ بِاللَّيْل، فَيَقُولُ: يَا فُلاَنُ! عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا. فَيَبِيتُ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبحُ فَيَكْشِفُ سِتْر اللهِ عليه (12) » (13) .
وقد ذكر في ذلك أوجهٌ (14) هذه أقربها (15) . والله تعالى أعلم. =(3/185)=@
__________
(1) قوله: «فضل» سقط من (أ).
(2) في (ي): ((إن)).
(3) ذكره ابن حبان في ((صحيحه)) (8/401)، وقال: أو خشي على السائل وأمته جميعًا أن يفرض عليهم ذلك فيعجزوا عنه. وذكره أيضًا الخطابي في ((المعالم)) (3/302) عن النبوي في ((شرح السنة)) (6/343).
(4) في (أ) و(ي) و(ح): ((ويزيد)).
(5) ؟؟؟.
(6) في (أ): «فتثاقلوها».
(7) قوله: ((وقالوا قد)) في (ز) و(س): ((وقد)).
(8) قوله: ((فأصلي الليل لا أنام)) في (ز) و(س): ((فأصلي ولا أنام)). [تراجعا لروايات للترجيح بين النسخ!]
(9) قوله: ((النبي)) ليس في (أ) و(ح) و(ي).
(10) في (أ) و(ز) و(س): ((ومن)).
(11) يأتي في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح وكراهة التبتل.
(12) في (ح): ((عنه)).
(13) يأتي في كتاب البر والصلة، باب التحذير من الرياء والسمعة ومن كثرة الكلام ومن الاجهار بنحو هذا اللفظ.
(14) في (س): ((أوجها)).
(15) ؟؟؟.(3/185)
وقول عمر: «رضينا بالله (1) ...» إلى آخره؛ يقتضي تسكينَ غضبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من حيث (2) إنه يقتضي الطواعيةَ الكليةَ، والانقيادَ التامَّ (3) ، ويتضمُّن ذلك: مُرْنَا بأمرك ننفذْه على أيِّ وجهٍ كان (4) ، وفي أيِّ محلٍّ، ومن حيثُ: التعوذ ُباللهِ وبرسولهِ (5) ، وهو الالتجاةَ إليهما والاستجارةُ بهما من غضبِهما.
وقد كان عمرُ رضي الله عنه جعلَ هذا الكلامَ هِجِّيراه (6) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّما غضب؛ فإنه قد رُوي أنه قال له (7) هذا الكلامَ مرارًا في مواطنَ متعددة (8) .
وقوله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن صيام الأبد فقال: «لا صام ولا أفطر»؛ يحتمل أن يكون دَعا عليه، لا أنه (9) أخبر عنه. ويحتمل أن يكون خبرًا عن أنه لم يأتِ بشيءٍ (10) ؛ ووجه ذلك: أن من سرد الصومَ صار له عادةً، ولم يجدْ له مشقةً، فيعودُ (11) النهار في حقِّه كالليلِ في حقِّ غيره، فكأنه ما صام؛ إذ لم يجدْ ما يجدُه الصائمُ، ولا أفطر؛ لصورةِ الصومِ، وتكونُ (12) «لا» بمعنى «ما»؛ كما قال تعالى: {فلا صدّق ولا صلى} (13) .
وحملَ كثيرٌ من العلماء هذا على ما إذا صام الأيامَ المحرمةَ، فأما لو أفطرها فكرهه قوم، وأجازه آخرون (14) ، وقال أبو الطاهرِ بنُ بشيرٍ (15) : وهو (16) مستحبٌّ. وهذا (17) أبعدها.
وقوله - وقد سئل عن صوم يوم وإفطار يومين -: «ليت أن الله قوَّانا على ذلك»؛ يُشِكلُ مع وصالِه، وقولِهِ: «إِنِّي أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى».
ويرتفع الإشكال: بأن =(3/186)=@
__________
(1) قوله: «بالله» ليس في (أ) و(س) و(ز) و(ي).
(2) سقط من (أ).
(3) في (أ): ((التمام)).
(4) قوله: ((كان)) ليس في (ح) و(ز) و(س)، وضرب عليها في (ي).
(5) في (ح): ((ورسوله)) وليس في الحديث استعاذة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فيه: «نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله»، وهذه استعاذة بالله سبحانه وتعالى وحده!
(6) أي: دأبه وشأنه. "غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام (3/318).
(7) سقط من (ي).
(8) يخرج أو يشار إلى أمثلة لهذا الأمر!!.
(9) قوله: ((لا أنه)). في (ح): «لأنه أخبر عنه».
(10) ذكر الاحتمالين الخطابيُّ في "معالم السنن" (3/303).
(11) في (ح): ((يعود)).
(12) في (س): ((تكون و)). وزاد بعدها في (ح: ((معنى)).
(13) سورة القيامة؛ الآية: 31. وينظر "معالم السنن" (3/303)، و"شرح السنة" (3/343).
(14) ينظر: ((الاستذكار)) (1/142، 146)، ((القبس)) (2/156). [يراجع]
(15) في (ح): «بشر». وهو إبراهيم بن عبد الصمد أبو الطاهر بن بشير، من أصحاب مالك من الطبقة الوسطى، توفي 526هـ. "الديباج المذهب" (1/4، 87). قولة هذا حكاه عنه صاحب "الذخيرة" (2/532).
(16) ؟؟؟.
(17) في (س): ((وهو)).(3/186)
هذا كان منه صلى الله عليه وسلم في أوقاتٍ مختلفةٍ: ففي وقتٍ يواصلُ الأيامَ بحكمِ القوَّة الإلهيةِ، وفي آخر (1) يضعف؛ فيقولُ هذا بحكمِ الطباعِ البشريةِ.
ويمكنُ أن يقالَ: تمنَّى ذلك دائمًا، بحيثُ لا يخلُّ بحقٍّ من الحقوقِ التي يخلُّ بها مَنْ أدام (2) صومَه؛ من القيامِ بحقوقِ الزوجاتِ، واستيفاء القوة على (3) الجهادِ، وأعمالِ الطاعاتِ، والله تعالى أعلمُ (4) .
وقوله في يوم الاثنين: «فِيهِ وُلِدتُّ، وَفِيهِ أُنْبِئتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ».
قلت (5) : وفيه مات. وكلُّ هذا دليلٌ على فضلِ هذا اليومِ، مع ما قد ثبت: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصومُ يومَ الخميسِ، ويقول فيه وفي يوم الاثنين: «إِنَّهُمَا (6) يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِما الأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالمِيَنَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» (7) .
وقوله: «صيام (8) ثلاثة أيام من كل شهر، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر»؛ هذا (9) إنما كان لأنَّ الحسنةَ بعشرِ أمثالها؛ فثلاثةٌ (10) من كلِّ شهرٍ كالشهرِ بالتضعيف، ورمضانُ بغيرِ تضعيفٍ شهرٌ، فيكمل دهرُ السنةِ. فإن اعتُبر رمضانُ بتضعيفه (11) كان بإزاءِ عشرةِ أشهرٍ، فإذا أضيفت إليه (12) ستةُ أيام شوال كَمَلَ صومُ السنةِ بالتضعيفِ. فعلى هذا: من صام ثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهرٍ ورمضانَ وستةَ أيامٍ من شوالٍ (13) ، كان له صومُ سنتينِ بالتضعيفِ.
وعلى مقتضى مساق هذا الحديث، وعلى ما تقرر من معناه: تستوي أيامُ الشهرِ كلُّها، ولا فرق بين أن يصومَ هذه الثلاثةَ الأيامَِ (14) أولَ الشهر، أو وسطَه، أو آخرَه؛ وكذلك قالت عائشةُ: لم يكن يبالي من أيَّ (15) أيامِ الشهرِ كان يصومُها (16) . غير أن =(3/187)=@
__________
(1) في (ي): ((وقت)).
(2) في (ز): ((دام)).
(3) في (أ): ((في)).
(4) ذكر مثل هذا الاحتمال الخطابيُّ في "معالم السنن" (3/304).
(5) في (ز) و(س): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(6) في (ح): «إنها».
(7) أخرجه الترمذيُّ (3/122 رقم747) كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الإثنين والخميس، وفي "الشمائل" (ص252 رقم308) عن محمد بن يحيى، عن أبي عاصم، عن محمد بن رفاعة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم». قال الترمذي: «حديث أبي هريرة في هذا الباب حديث حسن غريب».
ومن طريق الترمذي أخرجه البغوي في "شرح السنة" (6/354 رقم1799).
وأخرجه أحمد (2/329)، والدارمي (2/20) كتاب الصيام، باب في صيام الإثنين والخميس، وابن ماجه (1/553 رقم1740) كتاب الصيام، باب صيام يوم الإثنين والخميس.
ثلاثتهم من طريق أبي عاصم، عن محمد بن رفاعة، به، بمعناه.
وفي سنده محمد بن رفاعة القرظي؛ لم ير وعنه غير أبي عاصم الضحاك بن مخلد، وذكره ابن حبان في "الثقات" (7/423)، وقال الحافظ في "التهذيب" (3/562): قال الأزدي: منكر الحديث. وفي "التقريب" (5879): مقبول. قال الألباني في "الإرواء" (4/105): فمثله لا تساعد القواعد العلمية على تحسين حديثه، بله تصحيحه.اهـ.
وأما قول البوصيري في "الزوائد" (؟؟؟): ((إسناده صحيح غريب)) - فليس بصحيح.
وقد خولف محمد بن رفاعة في متنه: فأخرجه أحمد (2/389) من طريق وهيب، و(2/268) من طريق معمر.
وأخرجه مالك (2/908) كتاب حسن الخلق، باب ما جاء في المهاجرة، ومن طريقه أحمد (2/400 و465)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1/504 رقم411) باب الشحناء، ومسلم (4/1987 و1988 رقم2565) كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الشحناء والتهاجر. [كتب تحت الهامش يختصر تخريج هذا الحديث]
وأخرجه مسلم في الموضع السابق، والترمذي (4/327 رقم2023) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في المتهاجرين، كلاهما من طريق عبدالعزيز بن محمد الدراوردي.
وأخرجه مسلم في الموضع السابق من طريق جرير. وأخرجه أبو داود (5/216 رقم4916) كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم، من طريق أبي عوانة.
ستتهم - وهيب، ومعمر، ومالك، والدراوردي، وجرير، وأبو عوانة - عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: مرفوعًا ولفظه: «تفتح أبواب السماء يوم إثنين وخميس، فيغفر ذلك اليوم لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا امرأً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا». ليس فيه ذكر الصيام.
وأخرجه مالك (2/909) الموضع السابق، عن مسلم بن أبي مريم، عن أ[ي صالح، عن أبي هريرة، موقوفًا عليه.
وأخرجه مسلم في الموضع السابق، وابن خزيمة (3/299-300 رقم2120) من طريق مالك، لكن روياه مرفوعًا.
قال ابن خزيمة عقب روايته: «هذا الخبر في "موطأ مالك" موقوف غير مرفوع، وهو في "موطأ ابن وهب" مرفوع صحيح».اهـ.
لكن لحديث محمد بن رفاعة، شاهد من حديث أسامة بن زيد وعائشة: أما حديث أسامة بن زيد فروي عنه من طرق:
الطريق الأول: أخرجه الطيالسي (ص87-88 رقم632)، وعنه البيهقي (4/293). وأخرجه ابن أبي شيبة (2/301-302 رقم9234) كتاب الصيام، باب ما ذكر في صوم الإثنين والخميس، وأحمد (5/200 و204 و208)، والدارمي (2/19-20) كتاب الصيام، باب في صيام الإثنين والخميس، وأبو داود (2/814 رقم2436) كتاب الصوم، باب في صوم الإثنين والخميس، والنسائي في "الكبرى" (2/149-150 رقم2781 و2782) كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على قتادة في هذا الحديث.
جميعهم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عمر بن أبي الحكم بن ثوبان، عن مولى قدامة بن مظعون، عن مولى أسامة بن زيد؛ أنه انطلق مع أسامة إلى وادي القرى في طلب مال له، فكان يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس، فقال له مولاه: لم تصوم يوم الإثنين ويوم الخميس وأنت شيخ كبير؟! فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس، وسُئل عن ذلك؟ فقال: «إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس».
وقد صرح يحيى بن أبي كثير بالتحديث في رواية أحمد، والنسائي، لكن مولى قدامة، وشيخه مجهولان.
الطريق الثاني: أخرجه أحمد (5/201 و206)، والنسائي (4/201-202 رقم2358) كتاب الصيام، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم، كلاهما من طريق ثابت بن قيس أبي الغصن، عن أبي سعيد المقبري، عن أسامة، بمعناه.
وأخرجه عبدالرزاق (4/314-315رقم7917)، والنسائي (4/202 رقم2359) الموضع السابق، من طريق ثابت بن قيس، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن أسامة، بمعناه. ولفظ رواية النسائي: كان يسرد الصوم فيقال: لا يفطر، ويفطر فيقال: لا يصوم.
وثابت بن قيس وثقه أحمد، وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال مرة: حديثه ليس بذاك، وهو صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: وهو ممن يكتب حديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات" (؟؟؟)، ثم عاد وذكره في "المجروحين" (؟؟؟)، وقال: وكان قليل الحديث، كثير الوهم فيما يرويه، لا يحتج بخبره إذا لم يتابعه غيره عليه.اهـ. ثم نقل عن ابن معين تضعيفه. وفي "التقريب" (828): صدوق يهم. "تهذيب الكمال" (4/374).
الطريق الثالث: أخرجه ابن خزيمة (3/299 رقم2119) من طريق أبي بكر بن عياش، عن عمر بن محمد، عن شرحبيل بن سعد، عن أسامة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين والخميس، ويقول: «إن هذين اليومين تعرض فيهما الأعمال».
وفي سنده: أبو بكر بن عياش: ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح؛ كما في "التقريب" (7985). ولم يتبين لنا أن هذا من صحيح كتابه.
وشرحبيل بن سعد: ضعفه ابن معين، والنسائي، والدارقطني، وأبو حاتم، وقال أبو زرعة: فيه لين. وقال ابن عدي: له أحاديث وليست بالكثيرة، وفي عامة ما يرويه إنكار... وهو إلى الضعف أقرب.اهـ. "تهذيب الكمال" (12/416-417)، و"الجرح والتعديل"(4/؟؟؟ رقم1486)، وفي "التقريب"(2764): صدوق اختلط بأخرة.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها، فله عنها طرق:
أخرجه ابن ماجه (11/553 رقم1739) كتاب الصيام، باب صيام يوم الإثنين والخميس، والترمذي (3/121 رقم745) كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الإثنين والخميس، وفي "الشمائل" (ص250-251 رقم306)، والنسائي (4/153 و202-203) كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على خالد بن معدان في هذا الحديث، وباب صوم النبي صلى الله عليه وسلم..، وأبو يعلى (8/192 رقم4751)، وابن حبان (8/404-405 رقم3643).
جميعهم من طريق ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن ربيعة بن الغاز الجرشي؛ عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم الإثنين والخميس.
قال الترمذي: «حسن غريب من هذا الوجه».
لكن أخرجه أحمد (6/80 و106)، والنسائي (4/203) كتاب الصيام، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم، كلاهما من طريق سفيان، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عائشة. ليس فيه: ربيعة الجرشي.
وأخرجه أحمد (6/89)، والنسائي (4/152-153 و201 و202 رقم2186 و2356 و2360) كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على بقية خالد بن معدان، وباب صوم النبي صلى الله عليه وسلم، كلاهما من طريق بقية، قال: حدثنا بحير، عن خالد، عن جبير بن نفير؛ أن رجلاً سأل عائشة عن الصيام؟ فقالت: كان يصوم شعبان كله، ويتحرى صيام الإثنين والخميس.
لكن بقية ممن يدلس تدليس التسوية، ولم يصرح بالسماع في جميع طبقات السند.
وأخرجه النسائي في "الكبرى" (2/148 رقم2786) كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على عاصم في خبر عائشة...، وابن خزيمة (3/298 رقم2116) كلاهما من طريق يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، عن سواء الخزاعي، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الإثنين والخميس.
وفي سنده يحيى بن يمان العجلي، قال أحمد: لس بحجة. وقال ابن معين: ليس بثبت، لم يكن يبالي أي شيء حدث، كان يتوهم الحديث. وقال ابن المديني: صدوق وكان قد فُلج فتغير حفظه. وقال أبو داود: يخطئ في الأحاديث ويقلبها. وقال النسائي: ليس بالقوي. "تهذيب الكمال" (32/57-59). وفي "التقريب" (7679): صدوق عابد يخطئ كثيرًا وقد تغير.
وسواء الخزاعي: روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وفي"التقريب": (2677): مقبول.
وقد اختلف فيه على عاصم من وجهين:
الوجه الأول: أخرجه أحمد (6/287)، وعبد بن حميد (ص445و446 رقم 1544)، وأبو داود (2/822 رقم2451) كتاب الصوم، باب من قال الإثنين والخميس، والنسائي (4/203 رقم2366) كتاب الصيام، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم.
جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن سواء الخزاعي، عن حفصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: الإثنين والخميس، والإثنين من الجمعة الأخرى. فصار الحديث من مسند حفصة، ليس فيه: المسيب بن رافع.
الوجه الثاني: أخرجه أحمد (6/287)، وعبد بن حميد (ص446 رقم1545)، والنسائي (4/203-204 رقم2367) الموضع السابق.
ثلاثتهم من طريق حسين بن علي، عن زائدة، عن عاصم، عن المسيب، عن حفصة، فذكرته. ليس فيه: سواء الخزاعي.
لكن الحديث صحيح بمجموع طرقه. انظر "الإرواء" (4/104- 106 رقم949).
(8) في (ي): ((صام)).
(9) في (ي): ((وهذا)).
(10) في (س) و(ز) و(ي) و(أ): ((فثلاث)).
(11) في (ح): ((بتضعيفٍ)).
(12) قوله: «إليه» سقط من (أ) و(س) و(ز).
(13) من قوله: ((كمل صوم السنة...)) إلى هنا مثبت من (ي) فقط.
(14) في (س): ((أيام)).
(15) قوله: «أي» سقط من (أ).
(16) سيأتي في باب فضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر.(3/187)
النسائيَّ (1) روى هذا الحديثَ عن جابرٍ، وقال فيه: ((صِيَامُ ثَلَاثَة أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ؛ أَيَّامُ الْبِيضِ: صَبِيحَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ)).
وهذا يقتضي تخصيصَ الثلاثةِ بأيامِ الليالي البيضِ، وهذا - والله أعلم- لأن اللياليَ البيضَ وقتُ كمالِ القمرِ، ووسطُ الشهرِ، وخيرُ الأمورِ أوساطها (2) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: «هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَّةِ شَعْبَانَ شَيْئًا؟» يعني: وسطَه (3) ، وفي روايةٍ أخرى: «من سُرَر»، مكان «سُرة»، وسيأتي.
وقال ابنُ حبيبٍ (4) : تصامُ الثلاثةُ الأيام: أولَ يومٍ من الشهرِ، والعاشرَ، والعشرين. قال: وبلغني أن هذا صومُ مالكٍ (5) .
وفي تسمية (6) عرفة ((بعرفة)) (7) قولان :
أحدُهما: أن جبريلَ كان يُري إبراهيمَ عليهما السلام المناسكَ، فيقولُ: عرفت، عرفت (8) .
وثانيهما: أن آدم وحواء (9) تعارفا هناك (10) .
وقوله في صيام يوم (11) عرفة: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ التَّيِ قَبْلَهُ»؛ يعني: السنة التي هو =(3/188)=@
__________
(1) أخرجه النسائي (4/221 رقم2420) في الصيام، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأبو يعلى (13/492 رقم7504)، والطبراني في "الكبير" (2/356 رقم2499)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3/390 رقم3853).
جميعهم من طريق عبيدالله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن جرير بن عبدالله البجلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر؛ أيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة».
قال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/266-267): «سمعت أبا زرعة وذكر حديثًا رواه أبو إسحاق السبيعي واختلف عليه فيه، فروى زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق، عن جرير بن عبد الله البجلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «صوم ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر؛ الأيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة». فرواه زيد بن أبي أنيسة مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم - ورواه المغيرة بن مسلم، عن أبي إسحاق، عن جرير موقوفًا - فقال أبو زرعة: حديث أبي إسحاق عن جرير مرفوعًا أصح من موقوفًا؛ ولأن زيد بن أبي أنيسة أحفظ من مغيرة بن مسلم».اهـ.
والحديث صححه الحافظ في "الفتح" (4/266).
(2) في (أ) و(ز): ((أوسطها)).
(3) يأتي في باب فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر وسرر شعبان.
(4) قوله: ((وقال ابن حبيب)) غير واضح في (ح).
(5) ينظر: "الذخيرة" (2/531)، وسيأتي الكلام على ذلك في باب فضل صوم ثلاثة أيام. وينظر: "الفتح" (4/227).
(6) في (ح) و(ز): ((تسميته)).
(7) سقط من (أ).
(8) أخرجه ابن أبي شيبة (3/262 رقم14127) في الحج، باب لم سُميت بعرفة؟ والفاكهي في "أخبار مكة" (5/9 رقم2724)؛ كلاهما من طريق سليمان التيمي، عن أبي مجلز قال: انطلق جبرئيل عليه السلام بإبراهيم عليه السلام إلى عرفات، فقال: عرفت؟ قال: نعم. قال: فمن ثم سميت عرفات. وهذا إسناد منقطع.
وأخرجه ابن أبي شيبة (3/262 رقم14128) في الموضع السابق، وابن جرير (4/174 رقم3796)، والفاكهي في "أخبار مكة" (5/9 رقم2725)؛ ثلاثتهم من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، بنحوه. وهذا إسناد منقطع أيضًا.
وأخرجه ابن جرير الطبري (4/173 رقم3794) من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فذكره بمعناه.
وأخرجه عبدالرزاق في "تفسيره" (1/79) عن معمر وأيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عبدالله بن عمرو، فذكره بمعناه.
(9) رسمها في (س): ((وحوي)).
(10) في (ح): ((هنالك)) وهذا القول أخرجه ابن سعد (1/40) عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، فجاء في طلبها، حتى أتى جمعًا فازدلفت إليه حواء؛ فلذلك سميت مزدلفة، واجتمعا بجمع، فلذلك سميت جمعًا.
ومن طريقه أخرجه الطبري في "تاريخه" (1/121-122)، وفيه: وتعارفا بعرفات؛ فلذلك سميت عرفات. وهذا إسناد ضعيف جدًّا؛ هشام وأبوه متروكان.
(11) قوله: «صيام يوم» سقط من (ح) و(ي).(3/188)
فيها؛ لأنه في أواخر السَّنة، ((التَّيِ بَعْدَهُ)) (1) : يعني: التي تأتي متصلةً بشهرِ يومِ (2) عرفة.
وعاشوراء يكفر السَّنة التي بعده؛ لأنه في أوائلِ السَّنة الآتيةِ.
وقول أم الفضل: «إن ناسًا (3) تماروا يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) »؛ معنى تماروا: اختلفوا وتجادلوا. وسببُ هذا الاختلافِ: أنه تعارض عندهم ترغيبُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صومِ يومِ عرفةَ، وسببُ الاشتغالِ بعبادةِ الحجِّ (5) ؛ فشكُّوا في حالهِ، فارتفع الشكُّ لمَّا شَرِبَ، وفهم منه (6) : أن صوم يوم (7) عرفة إنما يكون فيه ذلك الفضلُ بغيرِ عرفةَ، وأنَّ الأولى تركُ صومِه بعرفةَ؛ لمشقَّة عبادةِ الحجِّ (8) . وقد روى النسائيُّ (9) عن أبي هريرةَ قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن صيامِ يومِ عرفةَ بعرفةَ (10) . وهذا لما قلناه. والله تعالى أعلم. =(3/189)=@
__________
(1) في النسخ: ((بعدها)). والمثبت كما في متن الحديث: ((والسنة التي بعده)) "صحيح مسلم" (1162- 169).
(2) قوله: ((بشهر يوم)) في (ح): ((بيوم)).
(3) في (ز) و(س): ((الناس)).
(4) بعده في (أ) و(ح) و(ي): ((يوم عرفة)).
(5) في (أ): «في عبادة الحج».
(6) قوله: ((منه)) سقط في (ح)، وفي (أ): «منهم».
(7) قوله: ((يوم)) مثبت ليس في (أ) فقط و(س) و(ي).
(8) ينظر "التمهيد" (21/157)، و"الاستذكار" (12/230).
(9) أخرجه أحمد (2/304 و446)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (7/424 و425)، وأبو داود (2/816 رقم2440) في الصوم، باب في صوم يوم عرفة بعرفة، وابن ماجه (1/551 رقم1732) في الصيام، باب صيام يوم عرفة، والنسائي في "الكبرى"(2/155 و155-156 رقم2830و2831) في الصيام، باب النهي عن صوم يوم عرفة بعرفة، وابن خزيمة (3/292 رقم2101)، والطحاوي (2/72)، والبيهقي (4/284) و(5/117) من طريق أبي داود والحاكم.
جميعهم من طريق حوشب بن عقيل، عن مهدي الهجري، عن عكرمة، قال: كنا عند أبي هريرة في بيته، فحدثنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي.
قال الألباني في "الضعيفة" (1/581 رقم404): «وهذا من أوهامهما الفاحشة، فإن حوشب بن عقيل، وشيخه مهدي الهجري، لم يخرج لهما البخاري، بل إن الهجري مجهول، كما قال ابن حزم في "المحلى" (7/18)، وأقره الذهبي في "الميزان" (4/195 رقم8824) وذكر عن أبي حاتم نحوه، وفي "التهذيب" (4/165) عن ابن معين مثله، فأنَّي للحديث الصحة، وفيه هذا الرجل المجهول؟! ولذلك ضعف هذا الحديثَ ابنُ حزم، فقال: لا يحتج بمثله. وكذلك ضعفه ابن القيم في "الزاد" (1/161 و237»).اهـ.
(10) ؟؟؟.(3/189)
ومن باب صيام عاشوراء
وزنه (1) : ((فاعولاء)) ، والهمزة فيه للتأنيث، وهو معدولٌ عن ((عاشرة)) للمبالغةِ والتعظيمِ (2) .
وهو في الأصل: صفةٌ لليلةِ العاشرةِ؛ لأنه مأخوذٌ من العَشْر الذي هو اسم للعقد (3) الأول، واليومُ مضافٌ إليها، فإذا قلت: ((يوم عاشوراء)). فكأنك (4) قلت: ((يومُ الليلةِ العاشرة))، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفةِ غلبت عليه الاسمية؛ فاستغنوا عن الموصوفِ، فحذفوا الليلةَ. وعلى هذا: فيومُ عاشوراء هو العاشرُ (5) ؛ قاله الخليلُ وغيرُه (6) .
وقيل: هو التاسع، وَسُمِّي (7) ((عاشوراء)) على عادةِ العربِ في الأظماءِ؛ وذلك أنهم: إذا وردوا الماء لتسعة (8) سموه: عِشْرًا؛ وذلك أنهم: يَحْسُبون في الأظماءِ (9) يومَ الورودِ، فإذا أقامتِ الإبلُ في الرعيِ يومين، ثم وردت في الثالثِ (10) ، قالوا: وَرَدَتْ رِبْعًا، وإذا وردت في الرابع قالوا: وردت خِمْسًا؛ لأنهم حَسبوا في كلِّ هذا بقيةَ اليومِ الذي وردت فيه قبلَ الرعي، وأولَ اليوم الذي تردُ فيه بعده (11) . وهذا فيه بُعْد؛ إذ لا يمكنُ أن يعتبرَ في عددِ ليالي (12) العشر وأيامه ما يعتبر في الإظماء، فتأمله (13) .
وعلى القولِ الأولِ سعيدٌ، والحسنٌ، ومالكٌ، وجماعةٌ من السَّلف. وذهب قومٌ إلى أنه التاسعُ، وبه قال الشافعيُّ؛ متمسِّكًا بما ذكر في الأظماء، وبحديث ابن عباسٍ الآتي إن شاء الله تعالى (14) .
وذهب جماعةٌ من السَّلفِ إلى الجمعِ بين صيامِ التاسعِ والعاشر، وبه قال الشافعيُّ في قولهِ الآخرِ (15) ، وأحمدُ، وإسحاقُ (16) ، وهو قولُ مَنْ أشكلَ عليه التعيين، فجمع بين الأمرين احتياطًا.
وقولُ عائشةَ رضي الله عنها: «كانت قريشٌ تصومُ عاشوراء في الجاهلية»؛ يدلُّ على أنَّ صومَ هذا اليومِ كان عندهم معلومَ المشروعيَّةِ والقدْرِ، =(3/190)=@
__________
(1) في (أ) و(ي) و(ح): ((ووزنه)).
(2) ؟؟؟ [يراجع].
(3) في (أ) و(ي): «العقد».
(4) في (ح) و(ي) و(س) و(ز): «كأنك».
(5) قوله: «هو العاشر» في (ح): «كأنك قلت يوم الليلة».
(6) "العين" (1/249)، و"الجمهرة" (2/727، 1207)، و"اللسان" (4/569)، (8/34).
(7) في (ح): «ويسمي».
(8) في (ح) و(ي): ((تسعة)).
(9) ((الأظماء)) جمع ((ظِمْءٍ)) وهو ما بين الشربين والوردين، في ورد الإبل، وهو حبسها عن الماء إلى غاية الورد. ينظر: "اللسان" (1/116).
(10) في (ز) و(س): ((الثلاث)).
(11) "العين" (1/246)، و"اللسان" (8/34).
(12) في (أ): ((الليالي)).
(13) ؟؟؟.
(14) ؟؟؟.
(15) تقدم التنبيه على أن ما صح عن الشافعي أنه العاشر.
(16) وممن روي عنه ذلك أيضًا: ابن عباس، وأبو رافع صاحب أبي هريرة، وابن سيرين. ينظر: "الاستذكار" (10/138)، و"المجموع" (6/433)، و"المغني" (4/440- 441).(3/190)
ولعلَّهم كانوا يستندون في صومه إلى أنه من شريعةِ إبراهيمَ وإسماعيلَ، صلوات الله وسلامه عليهما؛ فإنهم كانوا ينتسبون (1) إليهما، ويستندون في كثيرٍ من أحكامِ الحجِّ وغيرهِ إليهما.
وصومُ رسول الله صلى الله عليه وسلم له يحتملُ أن يكونَ بحكمِ الموافقةِ لهم عليه، كما وافقهم على أن يحجِّ (2) معهم على ما كانوا يحجُّون - أعني: حَجَّتَه (3) الأولى التي حجَّها قبل هجرتِه، وقبلَ (4) فرضِ الحجِّ (5) -؛ إذ كلُّ ذلك فعلُ خيرٍ.
ويمكن أن يقال: أذن الله تعالى له في صيامه، فلما قدَم المدينةَ وجد اليهودَ يصومونه، فسألهم عن الحاملِ لهم على صومِه؟ فقالوا ما ذكره ابن عباس: إنه يومٌ عظيمٌ؛ أنجى الله تعالى فيه موسى وقومَه، وغرَّق فرعونَ وقومَه، فصامه موسى عليه السلام شكرًا؛ فنحن نصومُه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»؛ فحينئذ صامه بالمدينة، وأمر بصيامه (6) أي: أوجبَ صيامَه وأكَّد أمرَه؛ حتى كانوا صَوِّمون الصغارَ (7) ، فالتزمه صلى الله عليه وسلم وألزمه أصحابه إلى أن فُرض شهرُ رمضان، ونُسخ وجوبُ صومِ يومِ عاشوراء، فقال إذ ذاك: «إِنَّ الله لم يَكْتُبْ عَلَيْكُمْ صِيَامَ هَذَا الْيَوْمِ»، ثم خَيَّر في صومهِ وفطرهِ، وأبقى عليه الفضيلةَ بقولِهِ: «وأنا صائمٌ»، كما جاء في حديثِ =(3/191)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((ينسبون)).
(2) في (ح) و(ي) و(ز) و(س): «حج».
(3) في (ز) و(س): ((حجة)).
(4) في (ز): ((وقيل)).
(5) أخرجه الترمذي (3/178-189 رقم815) في الحج، باب ما جاء: كم حج النبي صلى الله عليه وسلم ،وابن خزيمة (4/352 رقم3056)، والدارقطني (2/278)، والحاكم (1/470)، والبيهقي (5/12) من طريق الدارقطني.
جميعهم من طريق زيد بن الحباب، عن سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر إلى المدينة، وقرن مع حجته عمرة....
قال الترمذي: «هذا حديث غريب من حديث سفيان، لا نعرفه إلا من حديث زيد بن حباب، ورأيت عبدالله بن عبدالرحمن روى هذا الحديث في كتبه عن عبدالله بن أبي زياد. وسألت محمدًا عن هذا، فلم يعرفه من حديث الثوري، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورأيته لم يعد هذا الحديث محفوظًا، وقال: إنما يروى عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن مجاهد مرسلاً».اهـ.
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: «وكيف يكون هذا صحيحًا، وقد روى من أوجه عن جابر في إحرام النبي صلى الله عليه وسلم خلاف هذا... قال البخاري: «وكان زيد بن الحباب إذا روى حفظًا ربما غلط في الشيء».اهـ. ثم قال البيهقي: «وقد روي في حديث ابن عباس، وليس بمحفوظ».اهـ.
وقد توبع زيد بن الحباب على روايته:
أخرجه ابن ماجه (2/1027 رقم3076) في المناسك، باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحاكم (3/55)، كلاهما من طريق القاسم بن محمد بن عباد المهلبي، عن عبدالله بن رواد الخريبي، عن سفيان، به. وهذا إسناد صحيح.
ولذا قال الحافظ ابن كثير في "البدابة واالنهاية" (5/134): «وهذه طريق لم يقف عليها الترمذي ولا البيهقي، وربما ولا البخاري، حيث تكلم في زيد بن الحباب ظانًّا أنه انفرد به وليس كذلك».اهـ.
وقال الحافظ في "الفتح" (8/107): «بل حج قبل أن يهاجر مرارًا، بل الذي لا ارتاب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط؛ لأن قريشًا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، وإنما يتأخر منهم عنه من لم يكن بمكة، أو عاقه ضعف، وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب؛ فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يتركه، وقد ثبت من حديث جبير بن مطعم؛ أنه رآه في الجاهلية واقفًا بعرفة، وأن ذلك من توفيق الله له، وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية؛ كما بينته في الهجرة إلى المدينة».اهـ.
(6) قال الحافظ في "الفتح" (4/274): ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه صلى الله عليه وسلم، وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى عليه السلام لإضلالهم اليوم المذكور وهادية الله المسلمين له... وفي "المعجم الكبير" للطبراني - (5/138) - ما يؤيده؛ وهو ما أخرجه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقوله الناس، إنما كان يوم تستر فيه الكعبة، وكان يدور في السنة، وفي الآثار القديمة للبيروني: أن معناه: أن جهلة اليهود يعتمدون في صيامهم وأعيادهم حساب النجوم، فالستة عندهم شمسية لا هلالية. قال الحافظ: فمن ثم احتاجوا إلى من يعرف الحساب ليعتمدوا عليه في ذلك.اهـ. بتصرف يسير.
(7) في (ي): ((النهار)).(3/191)
معاويةَ.
وعلى هذا، فلم يصمِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عاشوراء اقتداءً باليهودِ؛ فإنه (1) كان يصومه قبلَ قدومِه عليهم، وقبلَ علمِه بحالهِم، لكنَّ الذي حدَث له عند ذلك إلزامُه والتزامُه استئلافًا لليهودِ واستدراجًا لهم (2) ، كما كانت الحكمةُ في استقبالِه قبلتَهم، وكان هذا الوقتُ هو الوقت (3) الذي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحبُّ فيه موافقةَ أهلِ الكتابِ فيما لم يُنْهَ عنه (4) .
وقولُ معاوية لأهل المدينة: «أين علماؤكم؟» إنما خصَّ العلماء بالنداء لِيَلْقَنُوا (5) عنه وليصدِّقوه؛ إذ قد كان عِلْمُ ذلك عندَ كثيرٍ منهم؛ وذلك لأنهم أعلمُ بأحاديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأحوالِه من غيرهم (6) .
وسؤال النبيِّ صلى الله عليه وسلم لليهود عن يوم (7) =(3/192)=@
__________
(1) في (س): ((إنه))
(2) ليس في (أ) و(ي) و(ح)
(3) سقط من (ح).
(4) يخرج.
(5) لقِنَ - كـ"فرح"-: فََهِم وحَفِظَ بسرعة. ينظر: "القاموس" (1231) (لقن).
(6) قال القاضي في "الإكمال" (4/81- 82): ((وقول معاوية: ((أين علماؤكم)).. ظاهر كلامه هذا أنه سمع من يوجب صيامه أو يمنعه... فأخبرهم بما سمع منه – عليه السلام... فهذا الحديث رد على الفريقين.اهـ. وقال الحافظ في "الفتح" (4/274): ((فيه إشعار بأن معاوية لم ير لهم اهتمامًا بصيام عشوراء؛ فلذلك سأل عن علمائهم أو بلغه عمن يكره صيامه أو يوجبه.اهـ.
(7) في (ي): ((صوم)).(3/192)
عاشوراء إنما كان ليستكشفَ السببَ الحاملَ لهم على الصومِ، فلما علم ذلك قال لهم كلمةَ حقٍّ تقتضي (1) تأنيسَهم واستجلابَهم؛ وهي: «نَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»؛ ووجه هذه الأولويةِ (2) : أنه عَلِم من حالِ موسى صلى الله عليه وسلم وعظيمِ (3) منزلتِه عند الله تعالى، وصحة رسالته وشريعته - ما لم يعلموه هم ولا أحدٌ منهم.
وفي حديثِ ابن عباسٍ الآخرِ قولُ الصحابة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إن يوم عاشوراء يوم تعظِّمه اليهودُ»؛ كان هذا القولُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد أن تمادى على صومِه عشرَ سنين أو نحوها؛ بدليل: أن أَمْرَه بصومِه إنما كان حين قَدِمَ المدينةَ، وهذا القولُ الآخر كان في السَّنةِ التي تُوفي فيها في يوم عاشوراء من محرم تلك السنة، وتُوفي هو صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأولِ منها، لم يُختلفْ في ذلك؛ وإن كانوا (4) اختلفوا في أيٍّ يومٍ منه، وأصحُّ الأقوالِ: في الثاني عشر منه. والله تعالى أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان العام المقبل صمنا اليوم (5) التاسع» إنما قال هذا صلى الله عليه وسلم =(3/193)=@
__________
(1) في (ز): ((يقتضي)).
(2) في (س): ((الأولية)).
(3) ؟؟؟.
(4) في (ح): ((كان)).
(5) سقط من (ح).(3/193)
لحصولِ فائدةِ الاستئلافِ (1) المتقدمِ، وكانت فائدته: إصغاءَهم لما جاء به حتى يتبين (2) لهم الرشدُ من الغيِّ، فيحيا من حَيَّ عن بينةٍ ويَهْلِكَ من هلك عن بينةٍ. ولما ظهر عِنَادهُم كان يجب مخالفتَهم – أعني (3) : أهل الكتاب - فيما لم يؤمرْ به.
وبهذا النظرِ، وبالذي تقدَّم، يرتفعُ التعارضُ المتوهَّمُ في كونِه صلى الله عليه وسلم كان يحبُّ موافقةَ أهلِ الكتابِ، وكان يحبُّ مخالفتَهم. وأن (4) ذلك في وقتين وحالتين، لكن الذي استقرَّ حالُه عليه: أنه كان يحبُّ مخالفتَهم؛ إذ قد وضح الحقُّ، وظهر الأمرُ ولو كره الكافرون!
وقوله: «لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسع» ظاهره: أنه كان قد (5) عزم على أن يصومَ التاسعَ بدلَ العاشرِ، وهذا هو الذي فهمه (6) ابنُ عباسٍ رضي الله عنه حتى قالَ للذي سأله عن يومِ عاشوراء: إذا رأيتَ هلالَ المحرمِ فاعددْ وأَصْبِحْ يومَ التاسعِ صائمًا. وبهذا تمسَّك من رآه التاسعَ.
ويمكنُ أن يقول (7) مَنْ رأى صومَ التاسعِ والعاشر: ليس فيه دليلٌ على أنه يتركُ صوم العاشرِ، بل (8) وَعَدَ بأن يصومَ التاسعَ مضافًا إلى العاشر. وفيه بُعدُ عندَ تأملِ (9) مساقِ الحديثِ مبنيًّا على أنه جوابُ سؤالٍ سبق، فتأمَّلْه.
وقول ابن عباس: «هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومُه»؛ يعني: أنه لو عاش =(3/194)=@
__________
(1) في (ي): ((الاستكناف)).
(2) في (أ): ((يبين)).
(3) في (ز) و(س): ((يعني)).
(4) في (أ): ((وكان)) وغير واضح في (ح).
(5) قوله: ((قد)) زيادة في (ح).
(6) في (أ) و(ي) و(ز) و(س): ((فهم)).
(7) في (ز) و(س): ((يقال)).
(8) في (ز) و(س): ((بلى)).
(9) قوله: ((عند تأمل)) في (س): ((عندنا بل)).(3/194)
لصامه كذلِك؛ لِوَعْدِه الذي وعد به (1) ، لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام اليوم (2) التاسع بدلَ العاشرِ؛ إذ لم يُسمع ذلك عنه (3) ولا رُوي قط.
وقول الرِّبَيْع: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار»؛ أي: إلى (4) قرى المدينة. وإنما خصَّ هذا الوقت بالإرسال؛ لأنه الوقت الذي أوحي إليه فيه في شأنِ صومِ عاشوراء. وهذا مما يدلُّ على أنه كان واجبًا (5) ؛ إذ لا ينتهي الاعتناءُ بالندبِ غالبًا إلى أن يفعلَ فيه هكذا (6) من الإفشاءِ، والأمرِ به، وبيانِ أحكامهِ، والإبلاغِ لمن بَعُدَ، وشدةِ التهمُّم (7) .
ولما فهمت الصحابةُ هذا التزموه، وحملوا عليه صغارَهم الذين ليسوا بمخاطَبين بشيءٍ من التكاليفِ؛ تدريبًا وتمرينًا، ومبالغةً في الامتثالِ والطواعيةِ. على أن جمهورَ من قال من العلماء: إن الصِّغارَ يؤمرون بالصلاة وهم أبناءُ سبعٍ، ويضربون عليها وهم أبناءُ عشرٍ ذهبوا إلى (8) أنهم لا يؤمرون بالصومِ لمشقتِه عليهم بخلاف الصلاة (9) .
وقد شذَّ عروةُ فقال: إن من أطاق الصومَ منهم وجب عليه (10) . وهذا مخالف لما عليه جمهورُ المسلمين؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفُيِقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» (11) ، ولقوله تعالى:{وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا (12) } (13) .
وقوله في (14) حديث سلمة بن الأكوع: «من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل فليتم صومه إلى الليل» (15) ظاهرُ هذا: جوازُ إحداثِ نية الصومِ في أضعافِ =(3/195)=@
__________
(1) في (أ): ((وعده)) بدل: ((وعد به))، وفي (ي): سقط قوله: ((به)).
(2) قوله: ((اليوم)) سقط من (ي).
(3) قوله: ((عنه)) ليس في (ز) و(س).
(4) أليس في (أ) و(ي) و(ح).
(5) تقدم الكلام على هذه المسألة، وبيان الاختلاف العلماء فيها: ص84.
(6) في (ح): «هذا».
(7) التهمُّم: الطلب. "القاموس" (1171). والمراد: انتظاره وطلب بلوغه [يراجع ويعلق].
(8) قوله: «إلى» سقط من (ح).
(9) في "المدونة": ((وسألت مالكًا عن الصبيان متى يؤمرون بالصيام؟ قال: إذا حاضت الجارية واحتمل الغلام، قال: ولا يشبه الصيام في هذا الصلاة.اهـ. هذا هو مشهور مذهب المالكية. وقال ابن الماجشون: إذا أطاق الصبيان الصيام ألزموه؛ فإن أفطروا لغير عذرٍ فعليهم القضاء. واستحب ابن سيرين والزهري وعطاء وقتادة والشافعي وأحمد، وكذلك عند الحنفية، أن يؤمروا به للتمرين إذا أطاقوه. وهو مقيس عندهم على الصلاة إلا أن الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة.. وقال الأوزاعي: إن أطاق صوم ثلاثة أيام تباعًا لا يضعف فيهن حمل على الصوم، ينظر: "المدونة" (1/209)، و"المغني" (4/412- 413)، و"المجموع" (6/254)، و"حاشية ابن عابدين" (2/409)، و"الفتح" (4/200- 201).
(10) حكاه القاضي عياض عنه في "الإكمال" (4/91).
(11) أخرجه أحمد (6/100 و101 و144)، والدارمي (2/171) في الحدود، وأبو داود (4/558 رقم4398) في الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا، وابن ماجه (1/658 رقم2041) في الطلاق، باب طلاق المعتوه، والصغير، والنائم، والنسائي (6/156 رقم3432) في الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، وابن الجارود (1/149 رقم148)، وأبو يعلى (7/366 رقم 4400)، وابن حبان (1/355 رقم142)، والحاكم (2/59).
جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل، وعن الصبي حتى يكبر».
قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي.
وقال الألباني في "الإرواء" (2/4-5 رقم297): «وهو كما قالا؛ فإن رجاله كلهم ثقات احتج بهم مسلم برواية بعضهم عن بعض، وحماد هو ابن أبي سليمان، وإن كان فيه كلام من قبل حفظه فه ويسير لا يسقط حديثه عن رتبة الاحتجاج به، وقد عبر عن ذلك الحافظ بقوله: فقيه، ثقة، صدوق له أوهام».
والذي في "التقريب" (1508): «فقيه صدوق، له أوهام».
وله شاهد من حديث عليّ رضي الله عنه، وقد اختلف في رفعه ووقفه: فأخرجه أبو داود (4/559 رقم4401) في الموضع السابق، والنسائي في "الكبرى" (4/323 رقم 7343)، وابن خزيمة (2/102 رقم1003)، و(4/348 رقم3048)، والدارقطني (3/138-139)، والحاكم (1/258)، و(2/59)، وعنه البيهقي (8/264).
جميعهم من طريق ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: مَرَّ علي بن أبي طالب بمجنونة بني فلان زنت، فأمر عمر أن ترجم، فردَّها علي بن أبي طالب، وقال: يا أمير المؤمنين ! أمرت برجم هذه؟ قال: نعم، قال: وما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم...» ؟! الحديث، قال: صدقت، قال: فخلَّى عنها.
لكن قد خولف جرير بن حازم: فأخرجه أبو داود (4/559 رقم2399) في الموضع السابق، من طريق وكيع، وجرير بن عبدالحميد، والحاكم (4/388-389 و389) من طريق شعبة، وجعفر بن عون، والبيهقي (8/264) من طريق ابن نمير.
خمستهم - وكيع، وجرير بن عبدالحميد، وشعبة، وجعفر بن عون، وابن نمير- عن الأعمش، عن أبي ظبيان موقوفًا.
وقد رجح النسائي وقفه، كما في "السنن الكبرى" (4/323-324 رقم7345)، وللحديث طرق أخرى، فانظرها في "نصب الراية" (4/164-165)، و"الإرواء" (2/4-7 رقم297). وقد صحح الألباني هذا الحديث في "الإرواء" وبيَّن أن لرواية الوقف حكم الرفع، فانظره.
(12) زاد بعده في (ح): ((كما استأذن)).
(13) سورة النور؛ الآية: 59.
(14) في (ح): ((من)).
(15) أخرجه مسلم (2/798 رقم1135) في الصيام، باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه.(3/195)
النهارِ، ولا يلزم التبييتُ.
وقد اختلف في ذلك:
فذهب أبو حنيفةَ، والثوريُّ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ: إلى جواز ذلك في النفل. وخصَّت (1) طائفةٌ منهم (2) جوازَ ذلك بما قبلَ الزوالِ؛ منهم: الشافعىُّ في أحد قوليه.
وذهب مالكٌ، وابنُ أبي ذئبٍ، والليثُ، والمُزَنُّي: إلى أنه لا يصحُّ صومٌ (3) إلا بنيةٍ من الليل.
وذهب الكوفيون: إلى أن كلَّ ما فُرِضَ من الصومِ في وقتٍ معينٍ؛ فإنه لا يحتاجُ إلى تبييتِ نيةٍ، ويُجزئه إذا نواه قبلَ الزوال. وهو قولُ الأوزاعيِّ، وإليه ذهب عبدُ الملك بن الماجشون، ورواه عن مالك فيمن لم يعلمْ برمضان إلا في يومهِ.
وذهب مالكٌ في المشهورِ عنه (4) ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وعامتُهم: إلى أن الفرضَ لا يجزئ إلا بنيةٍ من الليل، وهذا هو الصحيح؛ بدليلِ ما رواه النسائيُّ عن حفصة (5) ، والدارقطني عن عائشة (6) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مَنَ اللَّيْلِ».
وغاية ما قيل في هذا الحديث: أنه روي موقوفًا، والمسندون له ثقاث (7) .
ولا حجة فيما تقدم من ابتداء الصيامِ في يومِ عاشوراء؛ لأنه (8) كان ذلك في أولِ الأمرِ، وهو منسوخٌ (9) كما قد تقدم (10) . ولو سُلِّم أنه ليس بمنسوخٍ لأمكن أن يقال (11) بموجَبِه؛ فإنَّ من تذكَّر فرضَ صومِ يومٍ هو فيه (12) ، أو ثبت أنه يومُ صومِهِ (13) لزمه إتمام صومه، وهذا مما (14) لا يختلف فيه، لكن عليه قضاؤه؛ إذ الصومُ المطلوبُ منه لم يأتِ به؛ فإنه طُلب منه صوم يومٍ كاملٍ، وهذا بعضُ يومٍ (15) . هذا مع ما قد رواه أبو داود (16) من أنه قال صلى الله عليه وسلم: «فَأَتُّمِوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَاقْضُوهُ»؛ يعني: عاشوراء.
وقولها: «ونصنع (17) لهم اللعبة من العهن» ((اللعبة)): ما يُلعب (18) به. و((العهن)): =(3/196)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((وذهبت)).
(2) بعده في (ز): ((إلى)).
(3) قوله: ((لا يصح صوم إلا بنية...إلخ)). وفي "الإكمال" (4/88): ((لا يصح صوم نافلة...)) والتقييد بالنافلة مراد هنا، وإن كان حكمهما عند مالك واحدًا، وسيذكر الشارع الخلاف في الفرض.
(4) يعني في المشهور في مذهب مالك، وخلاف المشهور هو قول ابن الماجشون الذي ذكره الشارح!
(5) هذا الحديث يرويه الزهري، واختلف عليه: فرواه أصحاب الزهري المتقنين موقوفًا: منهم مالك، وعقيل، والزبيدي، ومعمر، وابن عيينة، ويونس، وعبيدالله، وعبدالرحمن بن إسحاق، وإسحاق بن راشد، كلهم عن الزهري، عن حمزة - والبعض يجعله عن سالم، عن أبيه عبدالله بن عمر - والبعض يزيد عن حفصة موقوفًا، والبعض جمع بين ابن عمر وحفصة موقوفًا -.
انظر "التاريخ الصغير" للبخاري (1/160 و161)، والنسائي (4/197 و197-198 رقم2335-2343) في الصوم، باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك، و"الموطأ" (1/288 رقم5) في الصيام، باب من أجمع الصيام قبل الفجر، والطحاوي (2/55)، والدارقطني (2/173)، وابن ماجه (1/542 رقم1700) في الصيام، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل، والخيار في الصوم.
وخالفهم آخرون، فرووه مرفوعًا، على اختلاف عنهم، وهم: عبدالله بن أبي بكر بن عمر وبن حزم، وإسحاق بن حازم، ويحيى بن أيوب، والليث بن سعد.
انظر "مسند أحمد" (6/287)، والدارمي (2/6-7) في الصيام، باب من لم يجمع الصيام من الليل، وابن ماجه (1/542 رقم1700) في الصيام، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل، والخيار في الصوم، وأبو داود (2/823-824 رقم2454) في الصوم، باب النية في الصيام، والترمذي (3/108 رقم730) في الصوم، باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل، والنسائي (4/196و196-197 رقم2331 - 2334) في الموضع السابق، وابن خزيمة (3/212 رقم1933)، والطحاوي (2/54)، والبيهقي (4/202).
وقد رجح الموقوف جماعة؛ وهم:
1 – البخاري؛ قال في "التاريخ الصغير" (1/161): «غير المرفوع أصح». وقال في "العلل الكبير" (ص118): «والصحيح عن ابن عمر موقوف».
2 – وقال أبو حاتم في "العلل" (1/225): «... وقد روي هذا عن الزهري، عن حمزة، عن حفصة قولها، وهو عندي أشبه».
3 – وقال النسائي: «والصواب عندنا موقوف، ولم يصح رفعه».
4 - وقال الترمذي: «وقد روي عن نافع، عن ابن عمر قوله، وهو أصح».
5 - وقال الدارقطني في "العلل" (5/163ق/أ): «ورفعه غير ثابت».
6 - وقال ابن التركماني: «اضطرب إسناده اضطرابًا شديدًا، والذين وقفوه
أجل وأكثر من ابن أبي بكر».
وعمل بظاهر إسناده جماعة، فقبلوا المرفوع وصححوه:
قال البيهقي: «وهذا حديث اختلف على الزهري في إسناده، وفي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعبدالله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه، وهو من الثقات الأثبات».اهـ.
وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن حزم.
وقال الألباني في "الإرواء" (4/30): «وجملة القول أن هذا الحديث ليس له إسناد صحيح يمكن الاعتماد عليه سوى إسناد عبدالله بن أبي بكر، وهذا قد عرض له من مخالفته الثقات وفقدان المتابع المحتج به ما يجعل النفس تكاد تميل إلى قول من ضعف الحديث، واعتبار رفعه شذوذًا، لولا أن القلب يشهد أن جزم هذين الصحابيين الجليين حفصة وعبدالله بن عمر وقد يكون معهما عائشة رضي الله عنها جميعًا بمعنى الحديث وإفتائهم: بدون توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إياهم عليه، إن القلب ليشهد أن ذلك يبعد جدًّا صدوره منهم، ولذلك فإني أعتبر فتواهم به تقوية لرفع من رفعه كما سبق عن ابن حزم، وذلك من فوائده، والله أعلم». اهـ.
(6) أخرجه الدارقطني في "سننه" (2/171-172)، والبيهقي (4/203) كلاهما من طريق روح بن الفرج، عن عبدالله بن عباد، عن المفضل بن فضالة، عن يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له».
قال الدارقطني: «تفرد به عبد الله بن عباد، عن المفضل، بهذا الإسناد، وكلهم ثقات».
قال الزيلعي في "نصب الراية" (2/434-435): «أقره البيهقي في "سننه" وفي "خلافياته"، وفي ذلك نظر، فإن عبدالله بن عباد مشهور، ويحيى بن أيوب ليس بالقوي. وقال ابن حبان: عبدالله بن عباد البصري يقلب الأخبار، روى عن المفضل، عن فضالة، عن يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة: «حديث من لم يبيت الصيام» وهذا مقلوب؛ إنما هو: عن يحيى بن أيوب، عن عبدالله بن أبي بكر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة. روى عنه روح بن الفرج نسخة موضوعة».اهـ..
(7) قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/37) عن حديث حفصة: لم يخصَّ في هذا فرضًا ولا سنة من نفل، وهذا حديث فرد في إسناده، ولكنه أحسن ما روي مرفوعًا في هذا الباب!.
(8) قوله: ((لأنه)) في (س): ((إلا أنه)).
(9) أي: أن تجويز صيام الفرض بنية من النهار مستنبط من حديث صيام عاشوراء، وأنه من لوازمه، فلما نسخ صوم عاشوراء نسخت معه لوازمه ومتعلقاته. قال المجوزون: الحديث دل على شيئين: إجزاء الصوم الواجب بنية من النهار. والثاني: بتعيين الصوم الواجب بنية من النهار، فنسخ تعيين الواجب برمضان وبقي الحكم الآخر لا معارض له، فلا يصح دعوى نسخ. ويجاب: بأن صوم يوم عاشوراء الواجب إنما صح بنية من النهار.
(10) قوله: «كما قد تقدم» سقط من (أ).
(11) في (ح) و(ي): «يقول» غير منقوطة.
(12) قوله: «هو فيه» سقط من (ح).
(13) قوله: « يومه صومه» في (ح) و(ز) و(س): ((صوم يومه))، وفي (ي): ((يوم صومه)).
(14) في (ز) و(س): ((فيما)).
(15) ينظر "المدونة" (1/207)، و"الفتح" (4/141- 142).
(16) أخرجه أحمد (5/409)، وأبو داود (2/820 رقم2447) في الصوم ،باب في فضل صومه، والنسائي في"الكبرى"(2/160رقم2851و2852)، والبيهقي (4/221).
جميعهم من طريق سعيد بن أبي عروبة.
وأخرجه أحمد (5/29 و367 و368)، والنسائي في "الكبرى" (2/160 رقم 2850)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (6/44-45 رقم2272 و2273).
جميعهم طريق شعبة؛ كلاهما - سعيد، وشعبة - عن قتادة، عن عبدالرحمن بن المنهال بن سلمة الخزاعي، عن عمه: أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «صمتم يومكم هذا؟» قالوا: لا، قال: «فأتموا بقية يومكم». زاد أبو داود والبيهقي: «واقضوه».
وقد اختلف في اسم عبدالرحمن بن المنهال بن سلمة، فقال بعضهم: ابن سلمة، وقيل: عبدالرحمن بن مسلمة وقد حكى الحافظ في "التهذيب" (2/552) الخلاف في اسمه، ورجح أنه: عبدالرحمن بن المنهال.
ثم هو مجهول؛ قال ابن القطان: «حاله مجهول». وقال الذهبي في "الميزان" (2/567): «لا يعرف». ونقل ابن القيم في "تهذيب السنن" (3/325) عن عبدالحق الإشبيلي قوله: «ولا يصح هذا الحديث في القضاء».اهـ.وقال البيهقي في "نعرفة السنن والآثار" (6/361): «ه ومجهول، ومختلف في اسم أبيه، ولا يُدرى من عمه».اهـ.
(17) في (ز): ((ويصنع)).
(18) في (ز): ((يلعبه)).(3/196)
الصوف الأحمر (1) . و((نلهِّيهم)): نشغلهم. وهذا أمر تفَعَلَه (2) النساء بأولادهن، ولعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يعرف بذلك (3) ، وبعيدٌ (4) أن يأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأنه تعذيبُ صغيرٍ بعبادةٍ شاقَّةٍ غيرِ متكررةٍ في (5) السَّنة والله أعلم (6) (7) .
ومن بابِ النهيِ عن صيامِ يومِ الفطرِ ويومِ الأضحى
نهيه صلى الله عليه وسلم عن صيامِ يوم الفطرِ ويومِ الأضحى محمولٌ على التحريمِ عندَ كافَّةِ العلماءِ؛ فلا يجوزُ الإقدامُ على صومِهما؛ أيَّ نوعٍ من أنواعِ الصيام (8) كان، لا يختلفُ في ذلك. ثم لا ينعقدُ صومه إن أُوقع (9) عند عامِتهم غيرَ أبي حنيفة؛ فإنه ينعقدُ عنده إذا أوقع.
واخُتلف فيمن نَذَرَهما، هل يلزمُه قضاؤهما (10) أو لا يلزمه (11) ؟ قولان (12) . وبالأول قال أبو حنيفة وصاحباه، والشافعيُّ والأوزاعيُّ (13) في أحدِ قوليهما (14) . =(3/197)=@
__________
(1) قوله: «العهن: الصوف الأحمر» فيه تقييد؛ فالعهن: هو الصوف الملون، وقيل: المصبوغ بأي لون كان. على الإطلاق "لسان العرب" (13/297).
(2) في (ي) و(أ) و(ح): ((يفعله)).
(3) في (ز) و(س): ((ذلك)).
(4) في (ح) و(ي): ((وهو بعيد)).
(5) ؟؟؟.
(6) قوله: ((والله أعلم)) زيادة في (ز).
(7) قوله: ((ولعل النبيَّ لم يعرف بذلك...)) إلخ. الحافظ في"الفتح" (4/201-202) ((وفي الحديث حجة على مشروعية تمرين الصبيان على الصيام... لأن من كان في مثل السن الذي تذكر. في هذا الحديث فهو غير مكلف وإنما صنع لهم ذلك للتمرين. وأغرب القرطبي... (ثم نقل كلام الشارح) ثم قال: «مع أن الصحيح عند أهل الحديث وأهل الأصول: أن الصحابي إذا قال: فعلنا كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حكمه الرفع الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك،وتقريرهم عليه مع توفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، مع أن هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه، فما فعلوه إلا بتوقيف».اهـ.
(8) في (ز) و(س): ((الصوم)).
(9) في (أ) و(ز) و(س): ((وقع)).
(10) في (أ) و(ح) و(ي): ((أم)).
(11) زاد في (ح): ((طولاً قضاؤهما أم لا يلزمه)).
(12) سقط من (ي).
(13) في (ز) و(س): ((والأوزاعي والشافعي)).
(14) في (ح) و(ي): ((قولهما)).(3/197)
وبالثاني قال مالكٌ، وزفرٌ، وهو قولُ الشافعيِّ (1) .
وسببُه: هل النهيُ عن صومِهما راجعٌ إلى ذاتِ المنهيِّ عنه، أو إلى وصفٍ فيه، كما يعرفُ في الأصول (2) .
وقول عمر: «يومُ فطرِكم من صيامِكم، ويومٌ تأكلُون فيه من نسكِكم» تنبيهٌ على الحكمةِ التي لأجلها حرم صومُ (3) هذين اليومين؛ أما يومُ الفطر: فيتحقَّق به انقضاءُ زمانِ (4) مشروعيةِ الصومِ، ويومُ النحر: فيه إجابة (5) دعوة الله تعالى التي دعا عباده إليها من تضييفه (6) وإكرامهِ لأهلِ منى وغيرهم، بما شَرَعَ لهم من ذبحِ النسكِ والأكلِ منها؛ فمن يصومُ (7) هذا اليوم كأنه (8) ردَّ على الله تعالى كرامتَه، وإلى هذا أشار أبو حنيفة. والجمهورُ على أنه شرعٌ غيرُ معلَّلٍ (9) . =(3/198)=@
__________
(1) جمهور العلماء على عدم انعقاد نذرهما، وعدم وجوب القضاء، ولم يخالف إلا أبو حنيفة رحمه الله، ووردت عنه رواية موافقة للجمهور؛ لذا فإن هذا الخلاف والأقوال التي ساقها الشارح ليست فيمن نذر صوم يومي العيدين بعينهما – كما هو ظاهر عبارته، وقد تابع فيها القاضي عياضًا في "الإكمال" (4/96) – وإنما هي فيمن نذر صوم يوم بعينه فوافق يوم عيد، أو نذر صوم وسنة بعينها ماذا يفعل في يومي العيدين. واختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أوجه – كما ذكر ابن عبد البر- أحدهما: لا يقضي والثاني: يقضي إلا أن ينوي ألا يقضي. والثالث: لا يقضي إلا إذا نوى صومهما. وقال أبو حنيفة وصاحباه: يقضيهما، وإن صامهما أجزأه. وقال زفر: لا يقضي. وروى عن أبي حنيفة: لا يقضي. وعن أحمد: لا يصومه، ويقضي ويكفر. وعنه: لا يصوم ويقضي ولا كفارة عليه. وعنه إن صامه صح صومه. وقال الشافعي في "الأم": أفطر وقضى. قال الربيع: وقد قال الشافعي مرة من نذر صوم يوم يقدم فلان فوافق يوم عيد لم يكن عليه شيء. قال المزني: لا قضاء أشبهُ بقوله . وقال النووي: الأصح أنه لا قضاء. وعن الأوزاعي: يقضيهما. وروى عنه: يقضيهما إلا أن ينوي ألا يقضيهما ولا يصومهما.
ينظر: "المدونة" (1/216- 217)، "التمهيد" (13/26)، "الاستذكار" (10/142- 144)، "المعلم" (2/40)، "المغني" (4/424)، (13/645- 648)، "الأم" (2/104)، (7/70)، و"الحاوي" (15/498)، "المبسوط" للسرخسي (3/95- 96)، و"الفتح" (4/239).
(2) النهي يقتضي الفساد وأكثر أصحاب الشافعي وأبي حنيفة:
1- يقتضيه مطلقًا.
2- لا يقتضيه مطلقًا.
3- يقتضي شبهة الفساد في العقود إن كان النهي عنها لعينها. حكاه القرافي من المالكية.
4- يقتضي الصحة إذا كان النهي عنه لوصفه، ولم يكن من الأفعال الحسية.
5- يقتضي الفساد في العبادات دون العقود. الغزالي والآمدي.
"ش المستنقع" (1/64)، "تحقيق المراد" (ص74)، "روضة الناظر" (1/43)، "أصول البزدوي" (ص50)، "أصول السرخسي" (1/78)، "الشاش" (ص165)، "إرشاد الفحول" (1/192)، "ح الفصول" (2/172)، "؟؟؟" عبد الله (ص71)، "الموافقات" (2/319)، "القبس" (2/155)، "الأحكام" (ص579)، "الذخيرة" (/)، "الفتح" (4/239)، "المجموع" (29/280).
(3) في (ز): ((وصوم)).
(4) في (ز) و(س): ((زمن)).
(5) قوله: «إجابة» سقط من (أ).
(6) في (ح): ((تضيفه)).
(7) في (ي): ((تصوم)).
(8) في (أ) و(ز) و(س): ((فإنه)).
(9) ينظر: "القبس" (2/155).(3/198)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلحُ الصيامُ في يوم الأضحى ويوم الفطر»؛ حجَّةٌ للجمهورِ على أن الصوم فيهما لا ينعقدُ.
((نُبَيشة الهُذلي)): بالنون المضمومةِ، والباءِ الموحدة المفتوحة (1) ، وياء التصغير؛ كأنه تصغير ((نُبْشَة)) (2) ، وهو صحابيٌّ معروفٌ، وهو ابنُ عمِّ سلمةَ بنِ المحبِّقِ (3) ، وهو نُبَيْشَةُ بن عمرِو بن سلمةَ الهذلي، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: نبيشةَ الخير (4) .
ووقع في نسخة ابن ماهان: ((الهذلية))، تخيَّلَه امرأةً، وهو وهمٌ (5) ، وليس في الصحابياتِ من تسمى (6) بهذا الاسم، وإنما فيهنَّ: ((نسيبة))، بتقديم السين المهملة (7) .
وقوله: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله (8) » هذا المساق يدلُّ على أن صومها (9) ليس محرَّمًا؛ كصومِ يوم العيدين؛ إذ لم يَنْهَ عنها كما نهى عن صومِ يومي (10) العيدين؛ ولذلك قال بجواز صومِهِا (11) مطلقًا بعضُ السَّلف، ومنع أبو حنيفة صومهًا (12) حتى للمتمتِع الذي لا يجدُ الهَدْيَ، وروي عن الشافعي مثلُ ذلك.
وأجاز مالكٌ والشافعيُّ - في أشهر قوليه- والأوزاعيُّ، صومهَا (13) للمتمتعِ خاصةً، وهو الصحيحُ؛ لما رواه البخاريُّ (14) عن عائشة، وابنِ عمر: أنهما قالا: لم يرَّخصْ في أيامِ التشريقِ أن يُصَمْنَ (15) إلا لمن لم (16) يجدِ الهديَ.
وفي مذهبِ مالكٍ خلافٌ فيمن (17) نذرها، أو =(3/199)=@
__________
(1) قوله: «والباء المفتوحة» في (أ): ((والباء الموحدة)) في باقي النسخ: ((والباء المفتوحة)).
(2) في "اللسان" (6/350): ((ونُبْشة ونُباشة ونابش: أسماء)).
(3) في (ز) و(س): ((المحتو)).
(4) "الإصابة" (6/421)، "الإكمال" لابن ماكولا (7/259).
(5) ينظر: "مشارق الأنوار" (2/35)، و"إكمال المعلم" (4/95).
(6) في (ز) و(س): ((يسمى)).
(7) في الصحابيات: ((نُسيبة)) بضم النون ومصغرًا، و((نسية)) بضم النون مصغرًا، و((نسيبة)) بفتح النون، أشهرهن: نُسيبة بنت الحارث أم عطية، وأم عمارة نَسيبة بنت كعب، أنصاريتان من كبار نساء الصحابة. "الإصابة" (8/140، 261، 265)، "الإكمال" لابن ماكولا (7/259).
(8) في (ي): ((الله)) بدل ((لله)).
(9) في (ز) و(س): ((صومهما)).
(10) في (س): ((يوم)).
(11) في (ز) و(س): ((صومهما)).
(12) في (ز) و(س): ((صومهما)).
(13) في (ز) و(س): ((صومهما)).
(14) أخرجه البخاري في الصوم، باب صيام أيام التشريق (4/242 رقم1997 و1998).
(15) في (أ): «تصم».
(16) قوله: ((لم)) سقط من (ح).
(17) في (ز) و(س): ((لمن)).(3/199)
نذر صومًا هي فيه؛ هل يصومُها أو (1) لا؟ فإذا لم يصمْها، فهل يلزمُه قضاؤها أم لا؟ كل ذلك مفصل في كتب مذهبه (2) .
وقوله: «وذكر لله (3) » فيه (4) حجةٌ لنُدْبيَّةِ التكبيرِ في أيامِ العيدِ (5) .
وسميتْ "أيام التشريق"؛ لأن لحومَ الأضاحيِّ تشرَّقُ فيها (6) . وأضافها إلى «منى»؛ لأن الحاج فيها (7) في منى.
وإنما أَمَرَ النبيُّ (8) صلى الله عليه وسلم بأن (9) يُنادىَ في الموسم (10) : «لا يدخلُ الجنَّةَ إلا مؤمن»؛ ليسمعَ من لم يحضرْ خطبةَ النبي صلى الله عليه وسلم، وليسمعَ من كان هنالك (11) مِن المنافقين؛ حتى يحققوا (12) إيمانهَم، ويجددوا يقينهَم والله أعلم (13) .
ومن بابِ النهيِ عن اختصاصِ يومِ الجمعةِ بصومٍ
قوله: «لا يصم (14) أحدُكم يوم الجمعة إلا أن (15) يصوم قبله، أو يصوم (16) بعده» =(3/200)=@
__________
(1) في (ز) و(س) و(ي): ((أم)).
(2) ينظر: "المدونة" (1/211، 214- 217)، (3/122)، و"التمهيد" (12/122- 127)، و"الكافي" (3/20)، و"المنتقى" (2/307)، و"جامع ؟؟؟" (ص174)، و"الذخيرة" (2/497)، و"التاج والإكليل" (2/452- 453)، و"حاشية الدسوقي" (1/536)، "ورسالة القيرواني" (1/60، 61).
(3) في (ح) و(ي): «الله».
(4) قوله: «فيه» سقط من (أ) و(س) و(ز).
(5) ينظر: "الاستذكار" (12/245)، (13/170) وما بعدها. [يراجع ولعله يأتي في الحج!]
(6) تشريق اللحم: تقطيعه وتقديده وبسطه ليجف. وقيل في تسمية أيام التشريق بذلك أقوال غير ما ذكره الشارح؛ قيل: لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس. وقيل: لأن هذه الأيام أيامُ تشريقٍ لصلاة يوم النحر، فصارت هذه الأيام تبعًا ليوم النحر والتشريق: صلاة العيد، لبروز الناس إلى المشرَّق وهو مصلى العيدين. ذكرها أبو عبيد. وقيل: لأنهم كانوا يقولون في الجاهلية: ((أشرِقْ ثبير كيما نُفير)) والإغارة: الدفع. حكاه يعقوب. وقال أبو حنيفة: التشريق التكبير. وأنكره أبو عبيد القاسم. "العين" (5/538)، "غريب الحديث" (4/344- 347)، "اللسان" (10/176).
(7) قوله: ((فيها)) سقط من (ز) و(س).
(8) قوله: ((النبي)) من (ي) فقط.
(9) في (ز) و(س): ((أن)).
(10) في (ح): ((المواسم)).
(11) في (ز) و(س): ((هنالك)).
(12) في (ز): ((تحققوا)).
(13) قوله: ((والله أعلم)) من (ز) فقط.
(14) في (أ): ((لا يصوم)).
(15) قوله: ((إلا أن)) سقط من (ح).
(16) قوله: ((يصوم)) لم يتضح في (ي).(3/200)
بظاهر هذا الحديثِ قال الشافعيُّ وجماعةٌ.
وأما مالكٌ فقال في "موطئه": ((لم أسمعْ أحدًا من أهلِ العلمِ والفقهِ ومن يُقتدى به، ينهى عن صيامِ يومِ الجمعةِ، وصيامُه حسنٌ، وقد رأيتُ بعضَ أهلِ العلمِ يصومُه وأُراه كان يتحرَّاه (1) ))، وقيل: إنه محمدُ بنُ المنكدرِ (2) .
قال الداودُيُّ: لم يبلغْ مالكًا هذا الحديثُ، ولو بلغه لم يخالفْه (3) (4) .
قلت (5) : ومقصودُ هذا الحديثِ: ألا يُخصَّ بصومٍ يُعتقدُ وجوبُه، أو لئلا يَلتزمَ (6) الناسُ من تعظيمِه ما التزمه (7) اليهودُ في سبتهم؛ من تركِهمُ الأعمالَ كلَّها؛ يعظمونه بذلك (8) .
والحديثُ الثاني نصٌّ في النهيِ عن خصوصيةِ يوم الجمعةِ وليلته بصيامٍ وقيامٍ، فليعملْ عليه. =(3/201)=@
__________
(1) قال في "الاستذكار" (10/261): يقولون: إنه محمد بن المنكدر، وقيل: إنه صفوان بن سليم..
(2) ينظر: "الموطأ" (1/311). قال الباجي في "المنتقى" (2/77): هذا مذهب مالك... أن صيام يوم الجمعة ليس بممنوع وأنه يجوز صومه لمن أراد صيامه... مفردًا ومتصلاً.
قال: وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه كره للرجل أن يجعل على نفسه صيام يوم يؤقته أو شهر. ويحتمل أن يكون هذا رواية عن مالك في المنع من قصد يوم الجمعة بصوم. ثم ذكر مذهب من كره إفراده وتعلقه بهذا الحديث.
وقال: والحديث صحيح والتعلق واجب، ولعله معنى رواية ابن القاسم عن مالك. قال: وقوله: ((ورأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه)) على وجه الإخبار عن ظنه بالرجل لا على معنى الاختيار لفعله وتحريه.اهـ. بتصرف يسير. وذكر نحو هذا القاضي عياض في "الإكمال" (4/97) وتحريه.اهـ. بتصرف يسير.
وذكر نحو هذا القاضي عياض في "الإكمال" (4/97): قال الزرقاني (أ/272) بعد أن ذكر كلام القاضي وكلام الداودي: قال الأبي فالحاصل أن المازري والداودي فهما من "الموطأ" الجواز، وعياض رده إلى ما علم من مذهبه، من كراهة تخصيص يوم بالصوم، وعضد ذلك بما أشار إليه الباجي (قلت: ما ذكره من القاضي هو نفس كلام الباجي وفكرته، لكنه لم يصرح بالنقل عنه) وأكثر الشيوخ إنما يحكي عن مالك الجواز وهو ظاهر قول ابن حبيب: ورد الترغيب في صيام يوم الجمعة.
(3) نقله عنه في"الإكمال" (4/97). وهو أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي الأسدي له. "النصيحة في شرح البخاري" ت402هـ. ينظر: "ترتيب المدارك" (7/؟؟؟).
(4) في (أ): «لم يخالف».
(5) في (ز) و(س): ((قال الشيخ)).
(6) في (ز) و(س): ((يلزم)).
(7) في (أ): «التزمته».
(8) ذكر ابن العربي في "القبس" (2/155) في علة النهي عن صوم يوم الجمعة: أنه يوم عيد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة: ((هذا عيدنا أهل الإسلام))، ((ولا صيام يوم عيد)) قال: أصله الفطر والأضحى.اهـ.
وذكر النووي في "المجموع" (6/481) نحو التعليلين اللذين ذكرهما الشارح، واعتراضهما، فقال عن خوف اعتقاد وجوبه: وهذا باطل منتقض بيوم الاثنين.... ويقوم عرفة وعاشوراء وغير ذلك.اهـ. وقال عن خوف تعظيمه والتشبه باليهود: وهذا باطل منتقض بصلاة الجمعة وسائر ما شرع في يوما لجمعة وليس في غيره من التعظيم والشعائر.اهـ.
قال: فالصواب أنه يوم ذكر ودعاء وعبادة وصلاة الجمعة، فاستحب الفطر فيه ليكون أعون على هذه الطاعات وأدائها بنشاط. فإن قيل: لو كان ذلك ثم نزل الكراهة بصيام قبله أو بعده لبقاء المعنى الذي نهى بسببه. فالجواب أنه يحصل له بفضيلة الصوم قبله أو بعده ما يجبر ما يحصل من فتور أو تقصير فيه بسبب صومه.اهـ بتصرف.(3/201)
ومن بابِ نَسْخِ الفديةِ
قولُه تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين (1) } (2) ، اختُلف في قراءتها، وفي معناها:
فأمَّا قراءتُها (3) : فالجمهورُ على: {يُطِيقُونَه} (4) بكسرِ الطاءِ وسكونِ الياءِ، وأصلُه: ((يُطْوِقُونه)) (5) ، وكذلك قراءةُ حميدٍ (6) .
ومشهورُ قراءةِ ابن عباسٍ: {يُطَوَّقُونَه} بفتحِ الطاءِ مخففةً وتشديدِ الواوِ (7) ، وقد رُوي عنه: {يطَّيَّقُونَه} بفتحِ الطاءِ والياءِ (8) مشددتين (9) .
وقرأتْ عائشةُ رضي الله عنها (10) – رضي الله عنها- وطاووسٌ وعمرُو بن دينارٍ: {يَطَّوَّقُونَه}بفتحِ الياءِ وتشديدِ الطاءِ وفتحِها (11) .
فأما قراءةُ الجمهورِ فمعناها: يقدرون عليه. وعلى هذا تكون الآيةُ منسوخةً (12) كما قال سَلَمةُ بن الأكَوْع، وابنُ عمر (13) ، ومعاذُ بن جبل (14) ، وعلقمةُ، والنخعيُّ، والحسنُ، والشعبيُّ، وابنُ شهابٍ (15) .
وقال السُّدِّيُّ: هم الذين كانوا يُطيقونه وهم بحالِ الشبابِ ثم استحالُوا بالشَّيَخ (16) ، فلا يستطيعون الصومَ (17) . وهي عنده محكمةٌ، وتلزمُ الشيوخَ عنده الفديةُ. ونحوهُ عن ابنِ عباسٍ (18) ، وزاد: المريض الذي لا يقدرُ على الصوم (19) . وعضد هذا بقراءته المذكورةِ قبلُ (20) .
قال القاضي أبو محمدِ بنُ عطيةَ (21) : الآيةُ عند مالكٍ إنما هي فيمن يدركُه رمضانُ وعليه صومٌ من رمضان (22) المتقدمِ، فقد كان يطيقُ في تلك المدةِ الصومَ، فترك، فعليه الفديةُ (23) .
وحكى الطبريُّ عن عكرمةَ: أنه كان يقرؤها: (وعلى الذين يطيقونه فأفطروا) (24) . =(3/202)=@
__________
(1) في (ز) و(س): ((مساكين)).
(2) سورة البقرة؛ الآية: 184.
(3) ؟؟؟.
(4) هي قراءة العشرة؛ لم يختلفوا فيها. ينظر: "القراءات العشر" (ص142)، و"النشر" (2/270)، وينظر: "البحر المحيط" (2/41)، و"الدر المصون" (2/272)، "معجم القراءات" عبد اللطيف الخطيب (1/250).
(5) قوله: «بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه» سقط من (ح). وقال في "البحر المحيط" (2/41): مِنْ ((أَطُوق)) وهو الأصل، وصحة حرف العلة في هذا النحو شاذة من الواو والياء، ومن المسموع عنه ((أجْوَدَ)) وأَعْوَل. وقد جاء الإعلال في جميعها وهو القياس.
(6) ينظر: "البحر المحيط" (2/41)، و"المحرر" (؟؟؟/؟؟؟)، و"إعراب النحاس" (1/285) غير منسوبة، و"الدر" (2/272)، وهو حميد بن قيس الأعرج أبو صفوان المكي قارئ مكة، قرأ على مجاهد ثلاث مرات، وروى عنه القراءة أبو عمر بن العلاء، وسفيان بن عيينة. قال ابن عيينة: قال حميد: كل شيء أقرؤه فهو قراءة مجاهد. توفي 130هـ ينظر: "معرفة القراء الكبار" (1/219)، "غاية النهاية" (1/265).
(7) أخرجه البخاري (8/179 رقم4505) في التفسير، باب {أيامًا معدودات فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر...}، و((يُطَوَّقونه)) أيضًا لابن مسعود وابي بكر الصديق وعائشة وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأيوب السختياني وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب. ينظر: "البحر المحيط" (2/41)، "المحرر" (2/106)، و"مختصر ابن خالويه" (ص11)، و"زاد المسير" (1/186)، و"المحتسب" (1/118)، و"الدر المصون" (2/272)، و"الكشاف" (1/380)، وغير منسوبة في "إعراب القراءات الشواذ" (1/231).
(8) في (ح): «بفتح الطاء وياء».
(9) لم يشر الشارح إلى ضبط ياء المضارع في هذه القراءة، وقد ذكر في "البحر المحيط"، و"الدر المصون" أن ابن عباس وعكرمة ومجاهدًا يقرءون: ((يطيقونه)) قال في "الدر": بفتح الياء (أي الأولى) وتشديد الطاء والياء.اهـ. قال في "البحر": وقرئ أيضًا هكذا لكن بضم ياء المضارع على البناء للمفعول.اهـ. ونحوه في "الدر". فهناك قراءتان: ((يَطيَّقُونَه)) و((يُطَّيَّقونه)) الأولى منسوبة لابن عباس وعكرمة ومجاهد كما في "البحر" و"الدر" و"المحتسب"، والثانية في "البحر" و"الدر" غير منسوبة، وينظر: "البحر" (2/41- 42)، و"مختصر ابن خالديه" (ص11)، و"المحتسب" (1/118)، و"الكشاف" (1/380)، و"الدر" (2/272).
(10) أخرجه عبدالرزاق (4/222 رقم7576) عن ابن جريج، قال: أخبرني محمد ابن عباد بن أبي جعفر، عن أبي عمر ومولى عائشة: أن عائشة كانت تقرأ: {يطوقُونه}. وسنده صحيح.
ومن طريق عبدالرزاق أخرجه الطبري في "تفسيره" (3/430 رقم2772)، والبيهقي (4/272). ورويت أيضًا عن عطاء وابن عباس ومجاهد وعكرمة. ينظر: "البحر" (2/41)، "المحرر" (2/106)، "مختصر خالويه" (ص11)، "المحتسب" (1/118)، "الدر" (2/272)، و"الكشاف" (1/380)، وغير منسوبة في "إعراب القراءات الشواذ" (1/231).
(11) وفي هذه اللفظة قراءات أخر: ((يُطَيَّقُونَهُ)) منسوبة لابن عباس في "المحتسب" (1/118- 119)، و"مختصر ابن خالويه" (ص11)، وغير منسوبة في "إعراب القراءات الشواذ" (1/231- 232)، و"الكشاف" (1/380).
وقرئ ((يُطَيِّقُونه)) منسوبة لابن عباس وسعيد بن المسيِّب. ينظر "روح المعاني" (2/58)، و"مختصر ابن خالوية) (ص11).
وقرئ ((يَطِيقُونه)) نسبت لابن عباس ومجاهد. "المحرر" (1/511)، و"الجامع لأحكام القرآن" (2/287). وقرئ ((يَتَطَوَّقُونَه)) رويت عن عطاء وابن عباس. "مختصر ابن خالويه" (ص12)، و"روح المعاني" (2/59)، و"الكشاف" (1/380)، و"تاج العروس" (طوق). وينظر "معجم القراءات" لأحمد مختار، و"معجم القراءات" لعبد اللطيف الخطيب (1/250).
(12) الذين اتفقوا على هذه القراءة، وهذا المعنى، اختلفوا في الحكم الناسخ والحكم المنسوخ فيها، فقال بعضهم: إنها كانت للجميع ممن يقدرون على الصوم، إذا أرادوا أفطروا وأطعموا، ثم نسخ هذا الحكم في حق القادرين، وبقي في حق فغير القادرين، وذكر الطبري في "تفسيره" فيمن قال بذلك سلمة وابن عمر، وغيرهما ممن ذكره الشارح وزاد ابن أبي ليلى وعكرمة وابن عباس وعطاء وعبيدة والضحاك.
وقال بعضهم: إنها كانت في الأصل للشيخ والعجوز؛ رخص لهما أن يفتديا وهما يقدران على الصوم، ثم نسخ في حقهما، إلا أن يعجزا عن الصوم، فيفتديان. وذكر الطبري فيمن قال بذلك ابن عباس وعكرمة وقتادة والربيع.
(13) أخرجه البخاري (4/187 رقم1949) في الصوم، باب {وعلى الذين يطيقونه فدية}، و(8/180-181 رقم4506) في التفسير، باب {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}.
(14) أخرجه أحمد (5/246 و246-247)، وأبو داود (1/347-349 رقم 507) في الصلاة، باب كيف الأذان، وابن خزيمة (1/197-198 رقم381)، والبيهقي (4/200).
جميعهم من طريق عمر وبن مرة، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصوم ثلاثة أحوال... الحديث، وفيه: ((وقال في الصوم: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويصوم يوم عاشوراء، فأنزل الله تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} إلى قوله: {طعام مسكين}، فكان من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا أجزأه ذلك؛...)).
قال البيهقي: «هذا مرسل؛ عبدالرحمن لم يدرك معاذ بن جبل».
لكن أورده البخاري في "صحيحه" (4/187) تعليقًا مجزومًا به، قال: «وقال ابن نمير: حدثنا الأعمش، عن عمر وبن مرة، عن ابن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: نزل رمضان فشق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينًا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك، فنسختها {وأن تصوموا خير لكم}، فأمروا بالصوم.
ووصله البيهقي (4/200)، وأبو نعيم في "مستخرجه".
قال الحافظ في "الفتح" (4/188): «وهذا الحديث أخرجه أبو داود من طريق شعبة والمسعودي عن الأعمش مطولاً في الأذان والقبلة والصيام، واختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا، وطريق ابن نمير هذه أرجحها».
وقال في "التلخيص" (1/363): «ولهذا صححها ابن حزم، وابن دقيق العيد».
انظر "سنن سعيد بن منصور" (2/688-691 رقم268).
(15) ينظر ما روي عن علقمة والنخعي والحسن والشعبي وابن شهاب في "تفسير الطبري" (3/420- 424)، وعن علقمة وابن شهاب في "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد (ص42).
(16) يريد: انحناء ظهورهم من الكبر. في "القاموس": كل ما تغيَّر من الاستواء إلى العوج فقد حال واستحال. وفيه: الشَّيْخ: من استبانت فيه السن. وشاخ يشيخ شَيَخًا محركةً. "القاموس" (شيخ)، (حول).
(17) ذكر نحو ذلك عن السدي، الطبريُّ في "تفسيره" (3/427).
(18) أخرجه البخاري (8/179 رقم4505) في التفسير، باب {أيامًا معدوادت فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر...}.
(19) أخرجه ابن جرير (3/431 رقم2777 و2778)، والدارقطني (2/205)، والحاكم (1/440)، والبيهقي (4/271) جميعهم من طريق عطاء، عن ابن عباس، في قول الله: {وعلى الذين يطيقونه} قال: يكلفونه {فدية طعام مسكين} واحد، قال: فهذه آية منسوخة لا يرخص فيها إلا للكبير الذي لا يطيق الصوم، أو مريض يعلم أنه لا يشفى. وصححه الدارقطني، والحاكم، ووافقه الذهبي. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (1/432)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(20) يريد قراءته رضي الله عنه: ((يُطَوَّقُونه)) فإنها بمعنى ((يكلفون))، وقد فسر رضي الله عنه ((يُطِيقونه)) بـ((يكلفونه)). كما جاء في تخريج الأثر. أول ما يريد ما روي عنه من قراءة ((يُطَيَّقونه)) فإنها بنفس المعنى أيضًا.
(21) في (أ) و(ز) و(س): «أبو بكر بن عطية»، والصواب المثبت من (ح) و(ي). فأبو بكر هو غالب بن عبدالرحمن بن غالب بن تمام بن عطية المحاربي الأندلسي الغرناطي المالكي. توفي (518هـ) ترجم له الحافظ الذهبي في "السير" (19/586).
أما القاضي أبو محمد بن عطية فهو: عبدالحق بن أبي بكر غالب المذكور، ولي قضاء المرية في سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وهو صاحب التفسير "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز"، والذي أثنى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (2/194). توفي (541هـ) وانظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (19/587).
(22) قوله: «وعليه صوم من رمضان» سقط من (أ).
(23) ينظر: "المحرر الوجيز" (2/106)، وينظر: "الاستذكار" (10/212- 213).
(24) ينظر: الطبري (3/433) (2787).(3/202)
وأما قراءة: {يُطَوَّقُونه} فمعناه: يُكَلَّفونه مع المشقَّةِ اللاحقةِ لهم؛ كالمريضِ والحاملِ؛ فإنهما (1) يقدران عليه، لكن بمشقةٍ تَلْحقُهم في أنفسهم، وكالمرضِعِ؛ فإنها تقدر عليه (2) ، لكن بمشقةٍ تلحقُ رضيعَها، فذهب بعضُ الناسِ إلى أنها محكمةٌ لهؤلاء، فإن صاموا أجزأهم، وإن افتدوا فلَهُمْ ذلك، وقاله (3) ابنُ عباس (4) فيما حكاه عنه (5) البخاريُّ (6) وأبو داود (7) ، ورأيا أنها ليستْ بمنسوخةٍ؛ لكنها مثبتةٌ للشيخِ والمرأةِ الكبيرةِ اللذين لا يستطيعان أن يصومَا، وللحبلى (8) والمرضعِ (9) .
و{ يُطيَّقونه} - بالياء مكانَ الواوِ مشددةً، مبنيًّا للمفعول (10) - مثلُ: «يُطَوَّقُونَهُ» في المعنى (11) .
فأما قراءةُ عائشةَ: فأصلُها: «يَتَطَوَّقُونه» فأُدغمتِ التاءُ في الطاءِ، ومعناها: يتكلَّفون ذلك بأنفسِهم مع المشقةِ، ويرجعُ ذلك لما تقدَّم؛ كالمريضِ (12) ومن ذُكرَ معه.
فأما قولُه تعالى: {فدية طعام مسكين}، فـ((فدية)): مرفوعٌ بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ؛ أي: فعليهمْ فديةٌ (13) . أو خبرُ مبتدأٍ؛ أي: فحكمُهم فديةٌ (14) .
وقراءة نافعٍ وابنِ عامرٍ (15) : {فديةُ (16) طعامِ مساكين (17) } بإضافةِ {فدية} إلى {طعام} وجمعِ {مساكين (18) }. وقرأ هشام (19) : {فديةٌ (20) طعامُ}، بتنوين {فديةٌ} ورفع {طعامُ} على أن الطعامَ بدلٌ منها (21) . وقرأ بقيةُ السبعةِ كذلك، إلا أنهم وحَّدوا {مساكين} (22) . وهي قراءةٌ حسنةٌ؛ لأنها بيَّنت أن الواجبَ في فطرِ يومٍ إطعامُ مسكينٍ واحدٍ، فأما الجمعُ فلا يعرفُ من (23) مساقِ الآيةِ: هل هم - أعني (24) : المساكين - بإزاءِ يومٍ واحدٍ، أو بإزاءِ أيامٍ؟ وإنما يعلمُ ذلك من دليلٍ آخر (25) (26) . =(3/203)=@
__________
(1) في (ح) و(ي): ((وإنهما)).
(2) من قوله: ((لكن بمشقة تلحقهم...)) إلى هنا – ساقط من (ز) و(س).
(3) في (ح) و(ي): ((وقال)).
(4) الآثار مضطربة عن ابن عباس الطبري والتاريخ والاستذكار.
(5) قوله: «عنه» سقط من (ح) و(ي).
(6) تقدم عند البخاري.
(7) (2/738-739 رقم2318) في الصوم، باب من قال: هي مثبتة للشيخ والحبلى.
(8) في (ز) و(س): ((وللحامل)).
(9) ينظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد (ص67).
(10) ظاهر ما ذكره الشارح هنا أن الطاء مخففة، ولم يذكر هذه القراءة فيما ذكر من القراءات، وإنما ذكر ((يَطَّيَّقُونَهُ)) بفتح الياء الأولى مبنيًا للفاعل، و((يُطَّيَّقُونه)) بضمها مبنيًا للمفعول، وأصلها ((يَتَطَيْوَقُونَه)). وقد ذكرنا القراءات الثلاث ومن قرأ بهن. ويرجح أنه يريد ((يُطّيَّقُونه)) وإن سها عن ذكرها قبل؛ فإن معناها ((يُكلفونه))، وهو معنى ((يطوقونه))، أما الأوليان فمعناهما: ((يتكلفونه)). وقد رد بعضهم القراءة بتشديد الياء، وقال ابن عطية: تشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف. قال في "البحر": وإنما ضعف هذا أو امتنع عند هؤلاء؛ لأنهم بنوا على أن الفعل على وزن ((تفعَّل)) فأشكل ذلك عليهم. وليس كما ذهبوا إليه، بل هو على وزن ((تفعيل)) من الطوق. ينظر: "المحرر الوجيز" ( / )، و"البحر المحيط" (2/42)، و"الدر المصون" (2/272- 274).
(11) قوله: «في المعنى» سقط من (ح).
(12) في (ح): «من المريض».
(13) قوله: ((والخبر محذوف؛ أي: فعليهم فدية)).
والأولى أن يقال: إن الخبر غير محذوف وهو الجار والمجرور ((على الذين يطيقونه)) أو يقال: محذوف وهو متعلق هذا الجار والمجرور؛ ويكون التقدير: ((والفدية مستقرة على الذين يطيقونه)) أو نحوه. وقد و قع مثل عبارة الشارح في "الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكي بن أبي طالب القيسي (1/283) قال: ((وتقديره: فعليه فدية)). ولا يبعد أن يكون أحدهما أو كلاهما – الشارح أو مكي- قد توهم أنه يعرب قوله تعالى: {ففدية من صيام} [البقرة: 196] فإن ما قدَّراه يصلح فيها؛ ويؤيد هذا الاحتمال أنهما عبرا بالفاء فقالا: ((فعليه)) ((فعليهم)) وليس في ((وعلى الذين يطيقونه فدية)) فاء كما هو واضح. والله أعلم. وينظر: ((البيان)) لابن الأنباري (1/133)، و"الدر المصون" (2/274، 317)، و"اللباب" لابن عادل (3/269)، و"مغني اللبيب" (ص415) وما بعدها.
(14) هذا بناء من الشارح على ما توهمه من تقدير الخبر فيما سبق، وهذا التقدير لا يصلح هنا أيضًا، إنما يصلح في الآية المشار إليها، وانظر: التعليق السابق.
(15) كذا في "السبعة" (ص176)، و"الحجة" لأبي علي (2/273)، و"المبسوط في القراءات العشر" (ص142). والأولى أن يقال: ((وابن عامر في رواية ابن ذكوان))، أو: ((وابن ذكوان)) بدل: ((وابن عامر))؛ وابن ذكوان هو الراوي الثاني عن ابن عامر (في ترتيب الشاطبي). وهشام (وهو الراوي الأول) يقرأ عن ابن عامر بتنوين ((فدية)) ورفِع ((طعام)) مع و((مساكين)) بالجمع – كما سيذكر الشارح -. ينظر: "غاية الاختصار" (2/423)، "الكشف" لمكي (1/282)، و"النشر" (2/170).
(16) في (ح) و(ز) و(س): ((ففدية)).
(17) ((مساكين)) ليس في (ز) و(س).
(18) ووافقهما من الثلاثة المكملين للعشرة أبو جعفر المدني. "غاية الاختصار" (2/423)، "المبسوط" (ص142)، و"النشر" (2/170).
(19) في (أ): ((هاشم)).
(20) من قوله: «أ وخبر مبتدأ....» إلى هنا سقط من (ح).
(21) وقرأ هشام ((مساكين)) بالجمع؛ كشيخه ابن عامر. "غاية الاختصار" (2/423)، "النشر" (2/170).
(22) وقرأ بها يعقوب الحضرمي من العشرة "غاية الاختصار" (2/423)، "المبسوط" (ص142)، و"النشر" (2/170).
(23) في (ي): ((في)).
(24) في (ح): «يعني».
(25) تعليق من "الناسخ والمنسوخ".
(26) فتح معقوفًا في هامش الورقة الجانبي وكتب خارجه (هذا كلام ابن عطية).(3/203)
ثم اختلفوا في مقدارِ هذا الطعامِ حيثُ يجبُ: فذهب مالكٌ وجماعةٌ من العلماءِ: إلى أنه مُدٌّ لكلِّ مسكينٍ بمدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد تقدَّم في الزكاةِ (1) .
وقال أشهبُ: مُدٌّ وثلثٌ بمدِّ أهلِ المدينةِ (2) . وقال قومٌ: قوتُ (3) يومٍ؛ عشاءٌ وسحور (4) . وقال سفيان الثوريُّ وأبو حنيفة: نصفُ صاعٍ من قمحٍ، وصاعٌ من تمرٍ أو زبيبٍ.
وقولُه: {فمن تطوع خيرًا فهو خير له} (5) ؛ أي: مَنْ تطوع بزيادةٍ على إطعامِ مسكينٍ؛ قاله ابنُ عباسٍ (6) وجماعةٌ. وقال ابن شهابٍ: مَنْ أراد الإطعامَ مع الصومِ (7) . وقال مجاهدٌ (8) : من زاد في الإطعامِ على المدِّ (9) .
و{خير} الأولُ والثاني بمعنى: ((أَخْيَر))، وأفضل، ومعناه (10) : من تطوَّع بأكثرَ من ذلك فهو أفضلُ له عندَ الله تعالى (11) .
وقوله: {وأن تصوموا خير لكم} (12) ؛ أي: فالصومُ خير لكم (13) . وكذلك قرأها أُبَيٌّ (14) . ومعناه: أن الصومَ أفضلُ وأولى من الفديةِ (15) .
وقولُ سَلَمَةَ بن الأكوعِ (16) : إنَّ ذلك نُسِخَ بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (17) ، هذا مقبولٌ من الصحابيِّ (18) ؛ لأنه أعلمُ بالمقالِ، وأقعدُ بالحالِ، كما إذا قال: ((أَمَرُ)) و((نَهَى)). ووجهُ النسخِ في هذا واضحٌ؛ وهو: أنَّ آية الفديةِ تقتضي التخييرَ (19) بين الفديةِ والصومِ مطلقًا، كما قال سلمةُ، وهذه الآيةُ الأخرى جاءتْ جازمةً آمِرَةً بالصومِ لمن شهد الشهرَ، رافع-ةً لذلك التخييرِ (20) .
ومعنى: «شهد الشهر» أي: حَضَرَ فيه مقيمًا في المصر؛ هذا قولُ جمهورِ العلماءِ؛ وعلى هذا يكونُ {الشهر} منصوبًا على الظرفِ، ويكونُ معناه عندَهم: أَنَّ من دخل عليه الشهرُ وهو مسافرٌ، أو طرأ عليه فيه سفرٌ؛ لم يجبْ عليه صومه (21) .
وروي عن عليٍّ (22) ، وابنِ عباسٍ (23) – رضي الله عنهم-، وعَبيدَةَ السَّلْمَانيِّ: أن معنى {من شهد}: من حضر دخولَ الشهرِ وكان مقيمًا في أولهِ، فليكملْ صيامهَ، سافر بعد ذلك أو أقام؛ وإنما يفطرُ في السفرِ مَنْ دخل عليه رمضانُ وهو في السفرِ.
قلتُ (24) : وهذا القولُ يردُّه (25) فطرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهُ في السَّفرِ الطارئِ عليهم لفتح مكة، على ما تقدَّم (26) ، وقد كانوا ابتدأوا الصومَ في الحضرِ. وقال أبو حنيفةَ: من =(3/204)=@
__________
(1) ؟؟؟.
(2) قوله: ((بمد أهل المدينة)) كذا في جميع النسخ، والصواب ما في "الإكمال" (4/100): ((لغير أهل المدينة)). ونقله النووي عن القاضي في "شرح صحيح مسلم" (3/21)، وفي "شرح الزرقاني" (2/257): ((وأشهب: بالمدينة مد، وبغيرها مد وثلث)). وفي "المنتقى" (2/71): وقال أشهب: يطعم في غير المدينة ؟؟؟ ونصف، وهو قدر شبع أهل مصر. وفي "التاج" (4/416- 417) في كفارة اليمين: ((وندب بغير المدينة زيادة نصف أو ثلثه. أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف، وأشهب بمد وثلث)).
(3) سقط من (أ).
(4) وهو قول ابن عباس. "شرح السنة" (2/318).
(5) سورة البقرة؛ الآية: 184.
(6) أخرجه ابن جرير (3/441 رقم2795 و2796)، وسنده صحيح. وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/309)، وذكره أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (ص45)، عن مجاهد وطاوس قال: إطعام مسكينين. وذكر ابن جرير وابن أبي حاتم أيضًا نحو قول ابن عباس، عن عطاء وطاوس ومجاهد والحسن والسدي ومقاتل بن حيان.
(7) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (ص45)، وابن جرير في "تفسيره" (3/442) (2806)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/309)، وذكره في "البحر المحيط" (2/44).
(8) أخرجه ابن جرير (3/441 رقم2797)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/309)، ولفظه: من أطعم المسكين صاعًا، وفي سنده: خصيف بن عبدالرحمن الجزري؛ صدوق سيِّئ الحفظ، خلط بأخرة. كما في "التقريب" (1728). قال ابن جرير بعد أن ذكر الاختلاف في تأويل ((فمن تطوع خيرًا)): والصواب... عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله: ((فمن تطوع خيرًا)) فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض... وجائز أن يكون تعالى ذكره عني بقوله: ((فمن تطوع خيرًا)) أيّ هذه المعاني تطوع به المفتدي من صدق فهو خير له؛ لأن كل ذلك من تطوع الخير ونوافل الفضل.اهـ.
(9) في (ي): ((الأول)).
(10) في (ز) و(س): ((معناه))، بلا واو.
(11) ينظر: "البحر المحيط" (2/44).
(12) سورة البقرة؛ الآية: 184.
(13) ((لكم)) سقط من (ز) و(س).
(14) رواه أبو عبيد وابن جرير عن ابن شهاب. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد، وزاد ابن أبي حاتم عن طاوس ومقاتل بن حيان. وروى ابن جرير، عن السدّي: من تكلف الصيام فهو خير له. ونحوه عن الحسن وقتادة عند ابن أبي حاتم. وذكر ابن أبي حاتم، عن عكرمة: الصوم خير لمن استطاع، ينظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد (ص45)، "تفسير ابن جرير" (3/443- 444)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (1/309- 310).
(15) قَرأ أبي ((والصوم خير لكم)) ذكرها ابن عطية في "المحرر الوجيز" (2/110)، ونقلها في "البحر" (2/44)، وذكر الزمخشري في "الكشاف" (1/381) أن قراءة أبي: ((والصيام خير لكم)).
(16) قوله: «بن الأكوع» سقط من (ح) و(ي).
(17) سورة البقرة؛ الآية: 185.
(18) قوله: ((من الصحابي)) في (أ): «من الصحابة»، وفي (ح): ((من قول الصحابي)).
(19) قوله: ((تقتضي التخيير)) في (ز): ((يقتضي التخير)).
(20) ينظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد (ص47-48)، و"تفسير ابن جرير" (3/434)، و"تفسير القرطبي" (2/283- 284).
(21) ينظر: "تفسير الطبري" (3/449- 456)، و"تفسير البغوي" (1/154)، و"البحر المحيط" (2/48)، و"الدر المصون" (2/283- 284)، ويكون مفعول ((شهد)) على هذا التأويل محذوف تقديره: ((المصر)) أو ((البلد)). وقد تقدم الكلام على صوم من كان مقيمًا ثم سافر في باب جواز الصوم والفطر في السفر.
(22) أخرجه عبدالرزاق (4/269 رقم7761)، وابن أبي شيبة (2/283 رقم9001) في الصيام، باب ما قالوا في الرجل يدركه رمضان فيصوم ثم يسافر، وابن جرير (3/450 رقم2832). جميعهم من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن علي كان يقول: إذا أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر، فعليه الصوم. وهو مرسل.
(23) أخرجه ابن جرير (3/449 رقم2824) من طريق الحسن بن يحيى، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، قال: هو إهلال بالدار، يريد: إذا هلّ وهو مقيم.
وسنده ضعيف؛ الضحاك بن مزاحم لم يسمع من ابن عباس. وفي" التقريب" (2995): «صدوق كثير الإرسال».
وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (1/458)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
(24) في (ز) و(س): ((قال الشيخ)).
(25) في (أ): «يرد».
(26) في باب جواز الصوم والفطر في السفر. وينظر: "تفسير ابن جرير".(3/204)
شهدَ الشهرَ بشروطِ التكليفِ فليصمْه. ومن دخلَ عليه وهو مجنونٌ، وتمادى به (1) طولَ الشهر، فلا قضاء عليه؛ لأنه لم يشهدِ الشهرَ (2) بصفةٍ يجبُ بها الصيامُ. ومن جُنَّ أولَ الشهرِ، أو آخرَه، فإنه يقضي أيامَ جنونِه.
قال القاضي أبو محمدِ (3) بنُ عطيةَ: ونصبُ «الشهر» على هذا التأويلِ على المفعولِ الصريحِ: بـ«شهد» (4) .
قلت (5) : وتكميلُه أن يكونَ {شهد} بمعنى: «شَاهَدَ» (6) .
وقولُ عائشةَ رضي الله عنها: «أنها يكون (7) عليها الصومُ فما (8) تستطيعُ أن تقضيَه حتى يأتيَ شعبانُ»؛ فيه حجَّةٌ على أنَّ قضاءَ رمضانَ ليسَ على الفورِ؛ خلافًا لداودَ في إيجابِه إياه ثانيَ شوالٍ، ومن لم يصمْه كذلك فهو آثمٌ عندَه. وهذا الذي صار إليه داود خلافًا (9) لما يُفْهَمُ من هذا الحديثِ، ومن قولِهِ تعالى: {فعدة من أيام أخر} (10) ؛ فإنَّه (11) لم يعيِّنْها، ولا قيدها (12) بقيدٍ، فتعيينُها تحكُّمٌ بغيرِ دليلٍ (13) .
وحديثُ عائشةَ هذا وإن لم تصرح فيه (14) برفعِه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يُعْلَمُ أنه لا يَخْفَى مثلُه عنه، ولا أنَّ (15) أزواجَهُ يَنْفَرِدْنَ بآرائهنَّ في مثلِ هذا الأمرِ المهمِّ الضروريِّ، فالظاهِرُ: أن ذلك عن إذنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتسويغِهِ لهن ذلك.
فوقتُ قضائِه على هذا: من شوالٍ إلى شعبانَ، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ، فله أن يوقعَه في أيِّ وقتٍ من أوقاتِ المدةِ المذكورةِ شاء، وحينئذٍ يأثمُ مؤخِّرهُ عن شعبانَ؛ لتفريطِه (16) . ثم هلْ تلزمُه كفارةٌ لذلك، أو (17) لا تلزمُه؟ فالأولُ قولُ مالكٍ والشافعيِّ ومعظُمِهم (18) . وقال به (19) ابنُ عباسٍ (20) ، وعائشةُ (21) . وذهب أبو حنيفةَ، وأصحابهُ، وداودُ: إلى أنه لا كفارةَ عليه (22) (23) .
ثم اختلفَ أصحابُنا فيما به يكون مفرِّطًا: فمعظمُ الشيوخِ على أنَّه لا يكون مفرِّطًا إلا بترِكِ القضاءِ عندَ خروجِ (24) مقدارِ ما عليه من أيامِ الصومِ من شعبانَ. ولو صحَّ من سَنِتِه، ثم جاءه (25) ما مَنَعه حتى دخلَ عليه رمضانُ؛ لم تلزمْه الكفارةُ (26) .
وقال بعضُهم: إنه تراعى صحتُه وإقامته (27) من أولِ عامِهِ، فمن صحَّ من =(3/205)=@
__________
(1) سقط من (ي).
(2) سقط من (ح).
(3) في (أ): «أبو بكر».
(4) ينظر: "المحرر الوجيز" ( / ). ونصبه على المفعولية هذا بتقدير مضاف، اختلف في تقديره؛ قال في "الدر المصون" (2/283): فالصحيح أن تقديره: «دخول الشهر». وقال بعضهم: هلال الشهر، وهذا ضعيف لوجهين أحدهما: أنك لا تقول: شهدت الهلال؛ إنما تقول شاهدت الهلال. والثاني: أنه كان يلزم الصوم كل من شهد الهلال. وليس كذلك.اهـ. وينظر: "البحر المحيط" (2/48).
(5) في (ز) و(س): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(6) هذا التفسير من الشارح على أن نصب الشهر على المفعولية بتقدير مضاف هو «هو هلال الشهر» وقد تقدم نقل تضعيفه على صاحبي "البحر المحيط" و"الدر المصون"!.
(7) في (ح): «تكون».
(8) في (ح): «وما».
(9) كذا في النسخ، وهي غير واضحة في (ز)، والأولى هنا: «خلافٌ».
(10) سورة البقرة؛ الآية: 184.
(11) في (ح): «وإنه».
(12) في (ي): ((قيدناها)).
(13) في "أحكام القرآن" للجصاص (1/263) بعد ذكر مذهب داود: «فخرج بذلك عن اتفاق السلف والخلف معًا...»إلخ.
(14) غير واضحة في (ح).
(15) قوله: ((ولا أن)) في (ز): ((ولأن)). والعبارة مع كليهما مضطربة؛ والصواب: ((وأن أزواجه لا ينفردن)) أو: ((ولأن أزواجه لا ينفردن)).
(16) وهو مذهب أحمد،و لا توقيت للقضاء عند الحنفية. ينظر: "المدونة" (1/290- 220)، و"المنتقى" (2/71 – 72)، و"الأم" (2/103)، و"المجموع" (6/409)، و"المغني" (4/400)، و"المبسوط" (3/77).
(17) في (س): ((أم)).
(18) وهو مذهب أحمد وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والثوري والأوزاعي وإسحاق. وينظر: "المنتقى" 2/71- 72، و"الأم" (2/103)، و"المجموع" (6/409- 410)، و"المغني" (4/400).
(19) قوله: «وقال به»، وفي (س): «وقال»، وفي (ي): «وبه قال».
(20) أخرجه عبدالرزاق (4/236 رقم7628)، وعلي بن الجعد في "مسنده" (ص53 رقم 235). كلهم والبيهقي (4/253) من طريق ميمون بن مهران، عن ابن عباس، في رجل أدركه رمضان وعليه رمضان آخر؟ قال: يصوم هذا، ويطعم عن ذاك كل يوم مسكينًا ويقضيه. وسنده صحيح، وهذا اللفظ للبيهقي.
(21) لم أجده.
(22) وبه قال الحسن والنخعي. ينظر: "المبسوط" (3/77)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/292- 293)، و"المحلى" (6/260).
(23) في هذه الموضع حاشية في هامش (ي) نصها: «ومما ينسب إلى هذا المعنى... إذ الحج على مذاهب الشافعي و... في حق المستطيع على التراخي... ومما في ... ثم يأثم تاركه إذا مات... لقوله صلى الله عليه وسلم....».
(24) قوله: «عند خروج مقدار ما عليه...» كذا العبارة، ولعل الصواب العبارة: «عند بقاء ما عليه».
(25) في (ح) و(ز) و(ي): ((جاء)).
(26) في (أ) و(ح): «كفارة». قال في "المنتقى" (2/72): وهذا قول البغداديين من أصحابنا، ويرونه معنى قول ابن القاسم في "المدونة.اهـ. ونحوه في "الإكمال" (4/101)، وينظر "المدونة" (1/219- 220).
(27) في (ي): ((وأفاقته)).(3/205)
شوالٍ فما بعده مدةً يمكنُه فيها قضاءُ ما عليه، فلم يفعل حتى جاءه (1) ما منعه حتى دخل عليه رمضانُ - فقد لزمتْه الكفارةُ. ونحوه في «المدنية» (2) .
قلت (3) : والقولُ الأولُ جارٍ على القياسِ في التوسيعِ لوقتِ الصلاةِ؛ فإنه لو صحَّ في أولِ وقتِ الصلاةِ، ثم أُغمي عليه مثلاً حتى خرج الوقت - أعني: وقت الضرورة عند أصحابنا - لم يلزمْه قضاءْ. وعلى ذلك القياسِ:لو مات في أثناءِ السنةِ لم يُقْضَ (4) . وقد حكى أبو حامدٍ: إجماعَ السَّلفِ على ذلك (5) في الصلاةِ، اللهمَّ إلا أن يخافَ الفوتَ لحضورِ سبَبِه؛ فيتعيَّن الفعلُ إذ ذاك، فإن أخَّره أَثِمَ.
وأما القولُ الثاني: فإنما (6) يتمشَّى على مذهبِ من يقولُ: إنه مُوسَّعٌ بشرطِ سلامةِ العاقبةِ، كما يقولُه (7) الكرخيُّ. ولا نعلمُ أحدًا من أصحابِنا قال به، غير أن هذا الفرع يقضي بمراعاة (8) ذلك الأصل. والله تعالى أعلم (9) .
ثم اختُلف في قضاءِ رمضانَ: هل من شرطِه التتابعُ. وبه قال جماعةٌ من الصحابة، والتابعين، وأهلِ الظاهر. أو ليس من شرطه ذلك؟ وهو مرويُّ أيضًا عن جماعةٍ من الصحابِة (10) ، والتابعين، وكافَّةِ علماءِ الأمصارِ متمسكين بإطلاقِ قولهِ تعالى: {فعدةٌ من أيام أخر}، والتقييد لابُدَّ فيه من دليلٍ، ولا حجةَ في قراءةِ عبدِالله {متتابعات}؛ إذ ليست تلك الزيادةُ بقرآنٍ متواترٍ، ولا مرفوعةٍ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يعمل بها، وهي محمولةٌ (11) على أنها من تفسيرِ ابنِ مسعودٍ لرأيٍ رآه (12) . والله تعالى أعلمُ.
وقولُها: «الشُّغْلُ مِنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - » و«لِمَكَانِ رَسُولِ الله (13) »، وفي الرواية =(3/206)=@
__________
(1) في (ح): «جاء».
(2) ينظر "المنتقى" (2/72). و"المدينة" كتب فيها روايات عن الإمام مالك كـ"المدونة"؛ نسبة إلى«المدينة المنورة»، نقلها إلى الأندلس عبد الرحمن بن دينار ورواها عنه أخوه عيسى بن دينار، وعرضها على ابن القاسم، وقيل: عرضها دينار. وفي "منح الجليل": أن المدينة ألفها عبد الرحمن بن دينار. ينظر: "ترتيب المدارك" (4/104- 105)، و"منح الجليل" (4/198). وقد تصحفت في بعض المراجع إلى «المدينة» وأثبتها "محقق الإكمال" (4/102) في هذا الموضع في الحاشية، وأثبت في المتن "المدونة".
(3) في (ز) و(س): ((قال الشيخ رضي الله عنه)).
(4) في (ي): «لم يعص» لعلها أصوب. [تراجع].
(5) في (ز) و(س): «ذلك القياس».
(6) في (ح): «بأنه». وفي (ي): «فإنه».
(7) في (أ): «يقول».
(8) في (ز) و(س): «مراعاة».
(9) ينظر ما مضى كتاب الصلاة في باب من أدرك ركعة من فعل الصلاة فقد «أدركها» وينظر: "المنتقى" (1/24- 25).
(10) انظر "مصنف عبدالرزاق" (4/243 رقم7664 و7665)، وابن أبي شيبة (2/293 و294 رقم9115 و9116 و9119 و9132 و9133) في الصيام، باب ما قالوا في تفريق رمضان.
(11) في (أ): «مجملة».
(12) زيادة «متتابعات» في هذه الآية هي قراءة أبيِّ بن كعب، وليست قراءة عبد الله بن مسعود. وزادها أبي وابن مسعود والنخعي في آية كفارة اليمين في المائدة «فصيام ثلاثة أيام متتابعات». تنظر آية سورة البقرة في "تفسير الفخر الرازي" (5/67)، و"البحر" (2/41)، و"اللباب" (3/268)، و"الكشاف" (1/380)، و"أحكام القرآن للجصاص" (1/259)، وتنظر آية المائدة في الطبري (10/559- 560)، و"البحر" (4/14).
وقراءة أبي في آية البقرة غير مشهورة، وعند الدارقطني (2/192)، والبيهقي (4/258)، وعبدالرزاق (4/241)، وعزاه في "الدر" (1/464) لابن المنذر، وذكره في "المحلى" (6/261)... عن عائشة رضي الله عنها قالت: «نزلت: «فعدة من أيام أخر متتابعات» فسقطت «متتابعات». قال البيهقي: قولها: «سقطت» تريد: نسخت، لا يصح له تأويل غير هذا.اهـ. وينظر "الفتح" (4/189). وإن صح هذا، وأنها كانت ثم نسخت، فلا حاجة إلى ما ذكره الشارح – بعدُ – من أنها ليست مرفوعة إلى النبي صلى وحَمْلِها على تفسير قارئها.
(13) قوله: «ولمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم» في (ح) جاء بعد قوله: «فما نقدر أن نقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم».(3/206)
الثالثة: «فما تقدر أن تقضيه (1) مع رسول الله»؛ كل هذه الألفاظ محوِّمَةٌ على أنَّ مراعاةَ حقوقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في أزواجهِ كانتِ الموجِبَةَ لتأخيرِ (2) قضاءِ رمضانَ إلى شعبانَ (3) . وتفيد أنَّ تأخيرَ القضاءِ إلى شعبان مسوَّغٌ، وأن المبادرةَ به أولى، وأن ذلك التأخيرَ كان عن إذنِه - صلى الله عليه وسلم - .
وارتفع «الشغلُ» في الروايةِ الأولى على أنه فاعل بفعلٍ (4) مضمرٍ، دلَّ عليه المساقُ؛ كأنها قالت: منعني الشغلُ.
وظاهُر مساقِ هذه الألفاظِ: أنها من قولِ عائشةَ، وخصوصًا في الروايةِ الثالثة؛ فإن ذلك نصٌّ، غير (5) أن البخاريَّ ذكر الروايةَ الأولى، ثم قال: «قال يحيى: الشغلُ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم»؛ فقال لذلك بعضُ علمائنا: إن ذلك القولَ (6) في الروايةِ الأولى ليس من قولِ عائشةَ، وإنما هو من قولِ غيرِها، وسكتَ عنه (7) .
قلت (8) : وَهَبْكَ أن الروايةَ الأولى قابلةٌ للاحتمالِ، لكنَّ الثالثةَ لا تقبلُ شيئًا من ذلك، فتأمَّلْها (9) .
وقولها (10) : «إن كانت إحدانا لتفطرُ في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم» يفيد هذا اللفظُ أن التأخيرَ لأجلِ الشغلِ لم يكن لها وحدَها، بل لها ولغيرها من أزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم.
وقولها: «فما تقدر على أن تقضيه (11) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ يعني: أنها كانت تتوقع حاجته (12) إليها على الدوامِ. فإن قيل: وكيف لا تقدرُ على الصومِ لحقِّه فيها وقد كان له تسعُ نسوةٍ، وكان يَقْسِمُ بينهنَّ، فلا تصلُ النوبةُ لإحداهنَّ إلا بعدَ ثمانٍ (13) ، فكان (14) يمكنُها أن تصومَ في هذه الأيامِ التي يكونُ فيها عندَ غيرها (15) ؟
فالجوابُ: أن القَسْمَ لم يِكنْ عليه واجبًا لهنَّ، وإنما كان يفعلُه بحكمِ (16) تطييبِ قلوبهنَّ، ودفعًا لما =(3/207)=@
__________
(1) قوله: «فما تقدر أن تقضيه» في (أ)، (س): «فما تقدر أن نقضيه»، وفي (ز): «نقضيه» غير منقوطة النون.
(2) في (ز): «لتأخر».
(3) سيأتي الكلام عن هذه العبارة ومعناها بعد صفحات.
(4) في (ح): «فعل».
(5) في (ز): «عن».
(6) سقط من (ي).
(7) لعله يعني ابن عبد البر؛ ذكر حديث عائشة عَرَضًا، واعترض على من أدخله في المسند قال: «ولا وجه له عندي إلا وجه بعيد، وذلك أنه زعم أن ذلك كان لحاجة رسول الله إليها».اهـ. وناقش هذا التعليل في "الاستذكار" (10/229) بما سيذكره الشارح ويجيب عنه.
(8) في (ز) و(س): «قال الشيخ».
(9) يعني قولها رضي الله عنها: «إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان». وفيها ما يدل على أن الزيادة في الرواية الأولى وإن كان لفظها مدرجًا فإن معناها ثابت النسبة إلى عائشة رضي الله عنها، من لفظها، وفهمه الراوي عنها وعبر عنه، حتى قال القاضي عياض في "الإكمال" «وقولها: «الشغل برسول الله» نصٌّ منها لعلة ذلك».اهـ.
(10) في (ح): ((وقوله)).
(11) قوله: «تقدر أن تقضيه» في (س): «نقدر أن نقضيه».
(12) في (ح): «حاجة».
(13) قوله: «إلا بعد ثمان» في (أ): «إلا بعد الا ثمان».
(14) في(أ): «وكان».
(15) قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/229): ((وقد قيل: إن ذلك كان لشغلها برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بشيءٍ.اهـ. ثم ذكر نحو ما ذكره الشارح. وذكر نحوه ابن العربي في "القبس" (2/164)، ومن نفي هذه العلة قال: إنما فعلته للرخصة. وذكر مثله أيضًا الحافظ في "الفتح" (4/191)، وضعف به كون الزيادة المذكورة في الحديث من كلام عائشة رضي الله عنها، لكنه لم يذكر جواب القرطبي عن هذا الاعتراض.
(16) في (ح): «بمحكم».(3/207)
يتوقَّعُ من الشرورِ وفسادِ القلوبِ. ألا ترى قولَ الله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} (1) ، فلما عَلِمَ نساؤه هذا - أو من سألتْه منهنَّ – كُنَّ (2) يتهيَّأْنَ له دائمًا، ويتوقَّعْنَ حاجتَه إليهنَّ في أكثرِ الأوقاتِ. والله تعالى أعلم (3) .
ويُستفادُ من هذا: أنَّ المرأةَ لا تصومُ القضاء وزوجُها شاهدٌ إلا بإذنهِ (4) ، إلا أن تخافَ الفواتَ؛ فيتعيَّنُ وترتفعُ التوسعةُ (5) .
وقد قال بعضُ شيوخنا: لها أن تصومَ القضاءَ بغيرِ إذنهِ؛ لأنه واجبٌ؛ وإنما محملُ الحديثِ المقتضِي لنهيِها عن الصومِ إلا بإذنِه على التطوُّعِ، فأمَّا الواجباتُ فلا يُحْتاجُ (6) فيها إلى إذنِ أحدٍ (7) .
وَمن بابِ قضاءِ الصِّيامِ (8) عن الميتِ
قولُه: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»؛ بظاهرِه (9) قال جماعةٌ منهم: إسحاقُ، وأبو ثورٍ، وأهلُ الظاهر. وقال به أحمدُ، والليثُ، وأبو عبيدٍ، إلا أنهم خصَّصُوه بالنذرِ. ورُوي مثلُه عن الشافعيِّ (10) رحمه الله ورحمهم. وأما قضاءُ رمضانَ فإنه يطعمُ عنه من رأسِ مالهِ، ولا يصامُ عنه (11) ، وهو قولُ جماعةٍ من العلماءِ. ومالكٌ لا يوجبُ عليه إطعامًا (12) إلا أن يُوصِيَ به؛ فيكونُ من الثلثِ، كالوصايا.
وأجمع المسلمون بغير خلافٍ: أنه لا يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ في حياتِه ولا موتِه، وأجمعوا (13) : =(3/208)=@
__________
(1) سورة الأحزاب؛ الآية: 51.
وينظر: الطبري (7/291- 295)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (3/599، 603- 605)، و"أحكام القرآن" للجصاص (5/241)، "تفسير البغوي" (3/575- 576)، والقرطبي (14/214- 215)، و"شرح السنة" (6/319).
(2) في (ي): «كل».
(3) هذا جواب الشارح عن الاعتراض الذي ذكره ابن عبد البر، وقد ذكر الحافظ في "الفتح" الاعتراض ولكنه لم يذكر جواب الشارح عنه، ولم يناقشه.
لكن قال: «وأخرجه مسلم... بدون الزيادة لكن فيه ما يشعر بها؛ فإنه قال فيه ما معناه: «فما أستطيع قضاءها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» ويحتمل أن يكون المراد بالمعية: الزمان؛ أي أن ذلك كان خاصًّا بزمانه.اهـ. لكن في الرواية أنها قالت: «... في إمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...» فقد عبرت عن كون ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرت علة ذلك بقولها: «مع رسول الله» ولو كان معنى المعية هنا مجرد الزمان لما ذكر الحافظ كان في كلامها تكرار؛ فصح أنها أرادت التعليل بمعية رسول الله والشغل به. والقول بأن علة تأخيرها القضاء: الشغل برسول الله وحاجته إليها، لا يلزم منه تقييد الجواز بالعذر والضرورة؛ بل هو يفيد أن قضاء رمضان واجب موسع على التراخي، فقدم عليه حق الزوج، ولو كان مضيقًا على الفور ما قدم عليه حق أحد. وممن أقر أن هذه علة تأخيرها للقضاء: الخطابي في "السنن" (3/278)، والباجي في "المنتقى" (2/71- 72)، والسرخسي في "المبسوط" (3/77)، وابن العربي في "أحكام القرآن" (1/113)، والقرافي في "الذخيرة" (2/523)، والقاضي عياض في "الإكمال" (4/102)، والبغوي في "شرح السنة" (6/319)، والنووي في "شرح الصحيح" (8/22). [يراجع الشيخ].
(4) .
(5) من قوله: «القضاء وزوجها شاهد...» إلى هنا سقط من (ح). وينظر: "الحاوي" (11/443)، و"شرح النووي" (7/115)، و"الفتح" (9/296).
(6) قوله: «الواجبات فلا يحتاج» في (ي): «الواجب فلا تحتاج».
(7) في "المنتقى" (2/72): «وهل يكون للزوج جبر المرأة على تأخير القضاء إلى شعبان أو لا؟ قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه الظاهر عندي أنه ليس له ذلك إلا باختيارها؛ لأن لها حقا في إبراء أمتها من الغرض الذي لزمها، وأما التنفل فإن له منها لحاجته إليها».اهـ. وقال في (2/67): «فأما قضاء رمضان فلا إذن لأحد فيه على زوجة، ولا عبد وإن أضعفه؛ قاله مالك في المجموعة. ووجه ذلك أنه صوم لزم بالشرع كصوم شهر رمضان».اهـ. ونحو ذلك في "مواهب الجليل" (2/454). لكنه فرق بين ما أوجعته على نفسها كالنذر فله حكم التطوع، وبين قضاء رمضان.
(8) في (أ): «الصوم».
(9) في (ح): «وبظاهره».
(10) قول الشارح: ((وروي مثله عن الشافعي)) ظاهره أنه روي عن الشافعي تخصيص الحديث بالنذر، وليس ذلك كذلك؛ فإن في "الحاوي" (3/452) أن مذهب الشافعي في الجديد والقديم فيمن وجب عليه صيام أيام من نذر أو كفارة أو قضاء، ففرط ومات قبل القضاء بعد إمكانه: أنه يجب عليه الكفارة في ماله ولا يجوز صوم وليه عنه. وحكى إنكار أكثر الأصحاب أن يكون للشافعي قول ثان والقديم بجواز الصيام. وذكر النووي القولين في "شرح مسلم" (8/25- 26) وفي "المجموع" (6/414 – 415)، وقال عن القول الجديد: إنه الأشهر والأصح عند الشيرازي والجمهور. ونقل عن القاضي أبي الطيب أنه المنصوص في كتب الشافعي الجديدة، وأكثر القديمة. قال النووي: والثاني وهو القديم وهو الصحيح عند جماعة من محققي أصحابنا وهو المختار: أنه يجوز لوليه أن يصوم عنه، ويصح ذلك، ويجزئه عن الإطعام وتبرأ ذمته الميت، لكن لا يلزم الولي ذلك بل هو إلى خيرته.اهـ. ثم ذكر أدلة تصحيح هذا القول ونسبته إلى الشافعي؛ نقلاً عن البيهقي والمحققين من أصحابهم.
(11) في (ح): ((عليه)).
(12) في (أ): ((طعامًا)).
(13) من قوله: ((بغير خلاف...)) إلى هنا سقط من (ب).(3/208)
على (1) أنه لا يصومُ أحدٌ عن أحدٍ في حياتِه (2) ؛ وإنما الخلافُ (3) في ذلكَ بعدَ موتِه.
وإنَّما لم يقل (4) مالكٌ بالخبرِ لأمورٍ:
أحدُها: أنه لم يجدْ عملَهم عليه (5) .
وثانيها: أنه اختُلف واضطُرب (6) في إسنادِه (7) .
وثالثها: أنه رواه أبو بكرٍ البزارُ (8) ، وقال في آخرِه: لمن شاء، وهذا يرفعُ الوجوبَ الذي قالوا به (9) .
ورابعُها: أنه معارِضٌ بقولِهِ (10) تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} (11) ، ولقوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (12) .
وخامسُها: أنه معارض لما (13) خرَّجه النسائيُّ (14) عن ابنِ عباسٍ – رضي الله عنهما- عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا يُصَلِّي (15) أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ».
وسادسُها: أنه معارِضٌ للقياسِ الجليِّ؛ وهو: أنه عبادةٌ بدنيةٌ لا مدخلَ للمالِ فيها (16) ؛ فلا تُفْعلُ (17) عمَّنْ وجبتْ عليه؛ كالصلاةِ. ولا يُنقَضُ هذا بالحجِّ؛ لأنَّ للمالِ فيه مدخلاً. =(3/209)=@
__________
(1) ليس في (ز) و(س).
(2) من قوله: «ولا موته وأجمعوا....» إلى هنا، سقط من (ح).
(3) قوله: ((وإنما الخلاف)) في (ي): ((والخلاف)).
(4) في (ح) و(ي): ((يفعل)) وهي غير منقوطة في (ح).
(5) أي عمل أهل المدينة. وقال الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (6/176، 180). لا تكلم أنه روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك (أي صيام الولي عن الميت)، إلا... من جهة ابن عباس وعائشة، ثم وجدنا ابن عباس وعائشة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركا ذلك وقالا بضده... فقلنا أنهما لم يتركا ما قد سمعاه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى ما هو أولى، مما قد سمعا، من النبي فيه. وقال في موضع آخر: ((ولا يكون ذلك منهما إلا بعد ثبوت نسخ ما سمعاه من النبي فيه)). ونحوه قال ابن عبد البر (9/29). وقال الحافظ في ؟؟؟: ((إلا أن الآثار المذكورة عن عائشة وابن عباس فيها مقال، وليس فيها ما يمنع الصيام إلا لأثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جدًّا.اهـ. قال البيهقي: ((وفيما روى عنها في النهي عن الصوم عن الميت نظر، والأحاديث المرفوعة أصح إسنادًا وأشهر رجالاً وقد أودعها صاحبا الصحيحين كتابيهما.اهـ. قال الحافظ. والراجح أن المعتبر ما رواه لا ما رآه؛ لاحتمال أن يخالف ذلك لاجتهاد ومستنده فيه لم يتحقق ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تحققت صحة الحديث لم يترك المحقق للمظنون!.اهـ. وينظر "التمهيد" (9/29)، و"سنن البيهقي" (4/257)، و"الفتح" (4/194).
(6) قوله: ((واضطراب)) ليس في (ح) وهي (ي).
(7) يعني الشارح ما ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" (9/26) و(4/105)؛ أن من الرواة من قال: إن السائل امرأة ومنهم من قال : رجل، ومنهم من قال إن السؤال وقع عن نذر، وكذلك اختلف عدة الأيام؛ فقيل: ((صوم شهر)) وقيل: ((خمسة عشر يومًا)) وقيل: ((شهر متتابعين))، وقيل أن المسئول عنه ((أم)) وقيل: «أخت» قال النووي في "شرح مسلم" (8/26): فلا تعارض بينهما، قال تارة رجل وتارة امرأة، وتارة عن شهر وتارة عن شهرين.اهـ. قال الحافظ في "الفتح" (4/194): «وادَّعى القرطبي تبعًا لعياض أن الحديث مضطرب، وهذا لا يتأتى إلا في حديث ابن عباس ثاني حديثي الباب (وهو أيضا ثاني أحاديث "التلخيص") وليس الاضطراب فيه مسلمًا كما سيأتي، وأما حديث عائشة فلا اضطراب فيه».اهـ.
(8) أخرجه البزار (1/481-482 رقم1023/"كشف الأستار") عن بشر بن آدم ابن بنت أزهر، عن يحيى بن كثير الزيادي، عن ابن لهيعة، عن عبيدالله بن أبي جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام فليصم عنه وليه إن شاء».
قال البزار: «لا نعلمه عن عائشة إلا من حديث عبيدالله، ورواه عنه يحيى بن أيوب، وابن لهيعة».اهـ.
وقال الهيثمي: «ه وفي "الصحيح" خلا قوله: إن شاء». وقال في "المجمع" (3/416): «ورواه البزار وإسناده حسن».اهـ.
وفي سنده ابن لهيعة، ضعيف اختلط، ثم هو مدلس ولم يصرح بالسماع.
والحديث أخرجه أحمد في "المسند" (6/69) من طريق ابن لهيعة وموسى بن داود. ورواية يحيى بن أيوب أخرجها البيهقي في "السنن الكبرى" (4/255 رقم8011) عقب روايته لحديث عمر وبن الحارث الذي أخرج في الصحيحين.
(9) قال الحافظ في "الفتح" (4/194): ((واحتج القرطبي بزيادة ابن لهيعة المذكورة لأنها تدل على عدم الوجوب. وتعقب: بأن معظم المجيزين لم يوجبوه... وإنما قالوا: يتخير الولي بين الصيام والإطعام)).
(10) في (ز) و(س): ((بقوله)). قال ابن حزم – وهو ممن قال بالصوم عن المبيت، بل بوجوبه- في الاعتراض على الاستدلال بهذه الآيات – ما معناه أنه إذا صح الحديث فقد حكم الله تعالى أو ورسوله أن له من سعى غيره عنه، والصوم عنه من جملة ذلك. وقد قال البيهقي: وكان الشافعي رحمه الله قال في كتابه القديم: وقد روى في الصوم عن الميت شيء؛ فإن كان ثابتًا صيم عنه كما يحج عنه...
قال البيهقي: ولو وقف الشافعي على جميع طرقها وتظاهرها (أي الأحاديث المرفوعة في الصوم من الميت) لم يخالفها إن شاء الله تعالى!
ينظر: "المحلى" (7/4)، "سنن البيهقي" (4/256)، و"الاستذكار" (10/؟؟؟).
(11) سورة الأنعام؛ الآية: 164. وفي (ح) و(ي): ((ولا تزر وازرة وزر أخرى ولا تكسب كل نفس إلا عليها)). ولعله يحمل على إرادة آيتين منفصلتين، فالمعنى موجود فيهما، وقد تكرر قوله: ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)) في القرآن الكريم في مواضع، لكن أثبتا ما في أكثر النسخ.
(12) سورة النجم؛ الآية: 39.
(13) في (ز) و(س): ((بما)).
(14) أخرجه النسائي في "الكبرى" (2/175 رقم2918) في الصيام، باب صوم الحي عن الميت...، عن محمد بن عبدالأعلى، عن يزيد بن زريع، عن حجاج الأحول، أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مُدًّا من حنطة: موقوفًا عليه1.
وصحح الحافظ إسناده في "الدراية" (1/283).
قال البيهقي في "السنن" (4/257): « بعد أن ذكر تضعيف بعضهم لحديث ابن عباس بهذا الحديث وبعده، وتضعيفهم حديث عائشة كذلك: ((وليس فيما ذكروا ما يوجب للحديث ضعفًا، فمن يجوز الصيام عن الميت يجوز الإطعام عنه، وفيما روي عنهما في النهي عن الصوم عن الميت نظر، والأحاديث المرفوعة أصح إسنادًا وأشهر رجالاً، وقد أودعها صاحبا الصحيح كتابيهما».
(15) في (ح) و(ز): ((يصل)).
(16) قوله: «لا مدخل للمال فيها» سقط من (ح) و(ي).
(17) في (ز) و(س): ((يفعل)).(3/209)
وقولُه: «لو كان على أمكَ دين أكنتَ قاضيه (1) ؟» مشعِرٌ بأنَّ ذلك على الندبِ لمن طاعت به نفسُه؛ لأنه لا يجبُ على وليِّ الميتِ أن يؤدِّيَ من مالهِ عن الميتِ دينًا بالاتفاقِ، لكن من تَبرَّع به انتفع به الميتُ، وبرئتْ ذمتُه (2) .
ويمكنُ أن يقالَ: إن مقصودَ الشرعِ أنَّ وليَّ الميتِ إذا عَمِلَ العملَ بنفسِه؛ من صومٍ أو حجٍّ، أو غيره، فصيَّره للميتِ (3) - انتفع به الميتُ ووصل إليه ثوابُه. ويَعتضدُ ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم شبَّه قضاءَ الصومِ عن الميتِ بقضاءِ الدَّيْنِ عنه، والدَّيْنُ إنما يقضِيه الإنسانُ عن غيرِه من مالٍ حصَّله لنفسِه، ثم بعدَ ذلك يقضيه عن غيرِه، أو يهبُه له. =(3/210)=@
__________
(1) في (ح) و(ي): ((قاضيته)).
(2) قوله: «وبرئت ذمته» سقط من (ح).
(3) في (أ): ((الميت)).(3/210)
وقولْه: «وَجَبَ أَجْرُكِ»؛ أي: في الصدقِة، «وردَّها»؛ أي: إلى ملكِكِ (1) ؛ وهذا لأنَّ ملكَ الميراثِ جبريٌّ، بخلافِ غيرِه من جميعِ التمليكاتِ؛ ولذلك جعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المشتريَ لصدقتِه كالعائِد فيها (2) . وسيأتي الكلامُ على قولِه: «حُجِّي عنها» في الحجِّ (3) .
وَمن بابِ فضلِ الصِّيامِ
قوله: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي»؛ اختُلِفَ في معنى هذا على أقوالٍ: =(3/211)=@
__________
(1) قوله: ((أي إلى ملكك)) في (أ): ((إلى ملكها))، وفي (ز) و(س): ((أي إلى ملكه)).
(2) يأتي في كتاب الصدقة والهبة، باب النهي عن العود في الصدقة.
(3) في باب الحج عن المغصوب والصبيِّ.(3/211)
أَحدُها: أنَّ أعمالَ بني آدمَ يمكنَ الرِّياءُ فيها، فيكونُ (1) لهم، إلا الصيامَ؛ فإنه لا يمكنُ فيه إلا الإخلاصُ؛ لأن حالَ الممسِكِ شِبَعًا، كحِالِ الممسِكِ تقرُّبًا. وارتضاه ا لمازري (2) .
وثانيها: أنَّ أعمالَ بني آدمَ كلَّها لهم فيها حظٌّ، إلا الصيامَ، فإنَّه (3) لا حظّ لهم فيه؛ قاله الخطابىُّ (4) .
وثالثهُا: أنَّ أعمالَهم هي أوصافُهم، ومناسبةٌ لأحوالهِم، إلا الصيامَ؛ فإنه استغناءٌ عن الطعامِ، وذلك من خواصِّ أوصافِ الحقِّ سبحانه وتعالى (5) .
ورابعُها: أنَّ أعمالَهم مضافةٌ إليهم إلا الصيامَ؛ فإنَّ الله تعالى (6) أضافَه إلى نفسِه تشريفًا، كما قال: «بيتي» و«عبادي (7) ».
وخامسُها: أنَّ أعمالَهم يُقْتَصُّ منها يومَ القيامةِ فيما عليهم، إلا الصيامَ؛ فإنّه لله تعالى، ليسَ لأحدٍ من أصحابِ الحقوقِ أن يأخذَ منه شيئًا. قاله ابنُ العربيِّ (8) . وقد كنت استحسنْتُه (9) إلى أَنْ فكرتُ (10) في حديثِ المقاصَّةِ، فوجدتُ فيه ذكرَ الصومِ في جملِة الأعمالِ المذكورةِ للأخذِ منها؛ فإنه قال فيه (11) : «أتدرون مَنِ المُفْلِسُ؟» قَالوا (12) : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَال: «المُفْلِسُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي يوم الْقِيَامَة بِصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ (13) شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا (14) ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ (15) حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ (16) مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرح عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» (17) . وهذا يدلُّ على أن الصيامَ (18) يؤخذُ كسائرِ الأعمالِ (19) . =(3/212)=@
__________
(1) كذا في (ز)، وفي باقي النسخ دون نقط الياء. والأولى: ((فتكون)) أي: الأعمال.
(2) في "المعلم" (2/41) وأشار إليه أبو عبيد في "الغريب" (3/330).
(3) في (ز) و(س): ((فإنهم)).
(4) في "أعلام الحديث" (2/946).
(5) ذكره أيضًا الخطابي في "أعلام الحديث" (2/947) وعبارته: ((وقد قيل: معناه أن الاستغناء عن الطعام صفة لله تبارك وتعالى فإنه يطعم ولا يطعم، كأنه قال: إن الصائم إنما يتقرب إليّ بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي، وهذا على معنى تشبيه الشيء (كذا). في بعض معانيه، وإن كان لا يجوز أن يكون لله شريك في كنه صفاته كما لا شريك له في ذاته عز وجل.اهـ.
(6) في (ح): «فإنه لله تعالى».
(7) قوله: «بيتي وعبادي» في (أ): «بيني وبين عبادي» وهذا القول ذكره ابن العربي في "القبس" (2/119).
(8) في "القبس" (2/120).
(9) في (أ): ((استحسنه)).
(10) في (ح) و(ز): ((أفكرت)).
(11) ((فيه)) ليس في (أ) و(ح) و(ي).
(12) في (ي) و(ز) و(ي): ((قال)) بلا واو.
(13) في (أ): «قد».
(14) قوله: «وضرب هذا» سقط من (ح) و(ي).
(15) قوله: ((هذا من)) في (ح): ((من هذا من)).
(16) في (س): ((يقص)) والمثبت من باقي النسخ، وهي رواية الترمذي (4/217- 218) (2418)، ورواية مسلم (رقم 2581): ((يقضي)).
(17) يأتي في كتاب البر والصلة، باب من استطال حقوق الناس اقتص من حسناته.
(18) في (ز) و(س): ((الصوم)).
(19) ذكر الحافظ في "الفتح" (4/109) هذا الوجه واستدل بما رواه البيهقي عن ابن عيينة قال: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة.اهـ. ثم ذكر الحافظ كلام الشارح هنا وأنه رجع عن استحسانه ثم قال: إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصوم من ذلك.(3/212)
وسادسُها: أنَّ الأعمالَ كلَّها ظاهرةٌ للملائكةِ فتكتُبُها (1) ، إلا الصومَ، فإنَّما (2) هو نيةٌ وإمساكٌ، فالله تعالى يعلمُه، ويتولَّى جزاءَه؛ قاله أبو عبيدٍ (3) .
وسابعُها: أنَّ الأعمالَ قد كُشِفَتْ لبني آدمَ مقاديرُ ثوابِها وتضعيفُهَا، إلا الصيامَ؛ فإنَّ الله تعالى يثيبُ عليه بغيرِ تقديرٍ (4) . ويشهدُ (5) لهذا مساقُ الروايةِ الأخرى التي فيها: «كلُّ عَملِ ابن آدمَ يُضَاعَفُ؛ الْحَسَنَةُ عشْر (6) أَمْثَالِها إلى سَبْعِمِائةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ: إلا الصَّومَ، فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»؛ يعني - والله تعالى أعلم-: أنه يجازِي عليه جزاءً كثيرًا من غيرِ أن يُعَيِّنَ مقدارَهُ ولا تضعيفَه، وهذا كما قال الله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (7) ، وهم الصائمون (8) في أكثرِ (9) أقوالِ المفسرين. وهذا قولٌ ظاهرُ (10) الحسنِ، غيرَ أنه قد تقدَّم - ويأتي في غيرِ ما حديثٍ (11) : أنَّ صومَ اليومِ بعشرةٍ، وأن صيامَ ثلاثِة أيامٍ من كلِّ شهرٍ وصيامَ رمضانَ: صيامُ الدهرِ. وهذه نصوصٌ في إظهارِ التضعيفِ؛ فَبَعُدَ هذا الوجهُ، بل بَطَلَ (12) .
والأولى حملُ الحديثِ على أحِد الأوجهِ الخمسةِ المتقدمةِ؛ فإنها أبعدُ عن الاعتراضاتِ الواقعةِ. والله تعالى أعلمُ (13) .
وقوله :«يَذَرُ (14) شَهْوَتَه وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»؛ تنبيهٌ على الجهةِ التي بها يستحقُّ الصومُ أن يكونَ كذلك، وهو الإخلاصُ الخاصُّ به (15) ، كما قدَّمناه في الوجهِ الأولِ.
وقولُه :«الصِّيَامُ جُنَّةٌ»، مادَّةُ (16) هذه اللفظةِ، التي هي: الجيمُ والنونُ، كيفما دارت صُورُها بمعنى: السترة؛ كالجنِّ، والجنَّةِ، والجنونِ، والمِجَنِّ (17) ؛ فمعناه: أنَّ الصومَ سترةٌ؛ فيصحُّ أن يكونَ «جُنَّةً» بحسبِ مشروعيتهِ؛ أي: ينبغي للصائمِ أن يُعرِّيَه (18) مما يفسدُه ومما يَنْقصُ ثوابَه، كمنُاقِضاتِ الصيامِ، ومعاصي اللسانِ؛ وإلى هذه الأمور وقعتِ الإشارة بقولِه: «فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ (19) ،وَلَا=(3/213)=@
__________
(1) في (ز): ((فيكتبها)).
(2) في (ز): ((وإنما)).
(3) في "غريب الحديث" (3/329). قال الحافظ في "الفتح" (4/109): ويكفي في رد هذا القول الحديثُ الصحيح في كتابه الحسنة لمن هم بها ولم يعملها.اهـ.
(4) ذكر هذا الوجه أبو عبيد في "غريب الحديث" (3/329) عن سفيان ابن عيينة. والخطابي في "أعلام الحديث" (2/941)، وذكره ابن العربي في "القبس" (2/120) ولم ينسبه.
(5) في (ز): ((يشهد)) بلا واو.
(6) في (ز): ((بعشر)).
(7) سورة الزمر؛ الآية: 10.
(8) أخرجه ابن أبي حاتم (1/102) عن مجاهد، في قوله: {واستعينوا بالصبر} [البقرة: 45]، قال: الصبر: الصيام. وسنده صحيح.
وأخرجه أيضًا (1/102) عن محمد بن طلحة الأسدي يقول: واستعينوا بالصبر، على الصيام. وسنده حسن إلى محمد بن طلحة.
وانظر "تفسير الطبري" (2/11)، و"تفسير القرطبي" (1/415)، (15/211).
(9) قوله: «أكثر» سقط من (ح).
(10) قوله: ((قول ظاهر)) في (س): ((ظاهر قول)).
(11) تقدم في باب فضل صيام يوم عرفة، ويأتي في باب فضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر.
(12) قال في "الفتح" (4/108): لا يلزم من الذي ذكره بطلانه؛ بل المراد بما أورده أن صيام اليوم الواحد يكتب بعشرة أيام وأما مقدار ثواب ذلك فلا يعلمه إلا الله تعالى. ويؤيده أيضًا العرف المستفاد من قوله: ((أنا أجزي به)) لأن الكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي، كان في ذلك إشارة إلى تعظيم العطاء وتفخيمه.اهـ.
(13) زاد ابن العربي "القبس" (2/120) وجها: أي: من صفة ملائكتي. ووجها أخر: أي: يقمع عدوي وهو الشيطان. وذكر الأول الحافظ في "الفتح" (4/108). وزاد: أي: أنه أحب العبادات إلي والمقدم عندي. ووجها أخر: أن سبب الإضافة إلى الله أن الصيام لم يعبد به غير الله، بخلاف غيره، ثم اعترض عليه بأنه وقع من بعض الناس التعبد لغير الله بالصيام.
(14) كذا في النسخ، والرواية في "صحيح مسلم و"التلخيص": ((يدع)) هنا رواية "الموطأ" (13/6) وما ذكره الشارح.
(15) سقط من (ي).
(16) سقط من (ز).
(17) في (ز): ((والجن)). والمِجَنُّ: التُّرْسُ. "القاموس المحيط" (1187).
(18) في (أ): «يعيره».
(19) كذا في النسخ والرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((فلا يرفث يومئذ)).(3/213)
يَسْخَبْ...» إلى آخرِهِ، ويصحُّ أن يسمَّى «جُنَّةً» بحسَبِ فائدتِه؛ وهو إضعافُ شهواتِ النفسِ؛ وإليه الإشارةُ بقولِهِ :«يَذَرُ (1) شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي». وَيَصِحُّ أنْ يكونَ بحسَبِ ثوابِه؛ وإليه التصريحُ بقولِه :«مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ (2) عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» (3) .
وقولُه: «فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ (4) أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ (5) ، وَلَا يَسْخَبْ»، لا يُفهَمُ من هذا الشرطِ: أنَّ غيرَ يومِ الصيامِ (6) يُبَاحُ فيه الرَّفثُ والسَّخَبُ؛ فإنهما ممنوعان على الإطلاقِ، وإنما تأكَّد منعُهما بالنسبةِ إلى الصومِ.
والرَّفَثُ: الفُحْشُ من الكلام، والسُّخف (7) منه؛ يقال: «رَفَثَ» بفتحِ الفاءِ، «يَرْفُثُ»، بضمِّها وكسرِها، و«رَفِثَ» بكسرِها في الماضي «يَرْفَث» بفتحِها في المستقبل «رَفْثًا» بسكونِها (8) في المصدرِ، وفتحِها في الاسمِ، ويقالُ: «أَرْفَثَ» أيضًا، وهي قليلةٌ.
و«السَّخبُ»: اختلاطُ الأصواتِ وكثرتُها (9) ، ورفعُها بغيرِ الصوابِ. يُقالُ بالسينِ والصادِ.
وعندَ الطَّبَريِّ: مكان «لا يَسْخَبْ» «لا يَسْخَرْ»؛ يعني: السخريةَ بالناسِ (10) . والأولُ هو المعروفُ (11) .
والجهلُ في الصَّومِ: هو العملُ فيه على خلافِ ما يقتضيهِ العلمُ؛ وقد روى النَّسائيُّ (12) من حديثِ أبي هريرةَ، مرفوعًا: «مَنْ (13) لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ فِي الصَّوْمِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي تَرْكِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ».
وقوله: «فَإنْ أَحَدٌ سَابَّهُ (14) أَوَ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ (15) »؛ المسابَّةُ والمقاتلُة مما لا يكونُ (16) إلا منِ اثنينِ غالبًا، ولم تقعْ هنا إلا منْ أحدِهما، لكنه لما عَرَّضَ أحدُهما =(3/214)=@
__________
(1) في (ز): ((ويذر)) ومضت الإشارة إلى أنها في الرواية: ((يدع)).
(2) كذا في النسخ، والرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص" دون قوله: ((بذلك اليوم)).
(3) يأتي في آخر الباب.
(4) قوله: ((يوم صوم)) في (أ): ((صوم يوم)).
(5) مرت الإشارة إلى أن الرواية: ((فلا يرفث يومئذ)).
(6) في (ح) و(ز) و(س): «الصوم».
(7) في (أ) و(ز) و(س): ((السخب))، وكأنها في (ح): ((المستخف)).
(8) في (ي): ((بسكونهما)).
(9) من قوله: ((ورفث بكسرها في الماضي...)) إلى هنا، سقط من (ز).
(10) في حاشية (أ) قوله: «بلغ».
(11) ينظر "مشارق الأنوار" (2/210) قال القاضي: والباء هنا أوجه وأظهر وأوفق لـ((يرفث)) و((يجهل)).
(12) في هامش (أ): ((حاشية: قد روى هذا الحديث البخاري)).اهـ. وهو صوب فهو عند البخاري (4/116 رقم 1903) في الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم. و(10/473 رقم6057) في الأدب، باب قول الله تعالى: {واجتنبوا قول الزور} والحديث عند النسائي في "الكبرى" (2/238 رقم3245).
(13) .
(14) قوله: ((فإن أحد سابه)) كذا في النسخ، والرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((فإن سابه أحد)).
(15) قوله: ((فإن أحد سابه أو قاتله فليقل إني صائم)) كذا في النسخ، والرواية في "صحيح مسلم" وفي "التلخيص" ((فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)).
(16) في (ز): ((تكون)).(3/214)
الآخرَ لذلك، صَدَقَ اللفظُ عليهما.
وظاهرُه: أنَّ الصائمَ يقولُ ذلك القولَ المأمورَ به، للسابِّ ليُسمعَهُ، ولُيعْلِمَهُ اعتصامهَ بالصومِ، فينكفَّ عن سبِّهِ. ويحتملُ أن يرادَ أنه يقولُ ذلك لنفسِه مُذكِّرًا لها بذلك، وَزَاجرًا (1) عن السِّبابِ (2) .
واختلُف إذا سَبَّ الصائمُ أحدًا أو اغتابه: فالجمهورُ على أنَّ ذلك ليسَ بمفسدٍ للصوم. وذهب الأوزاعيُّ: إلى أنَّ ذلك مفطرٌ مُفسِدٌ، وبه قال الحسنُ فيما أحسبُ.
وقولُه: «لَخُلُوفُ فُم الصَّائم»، هكذا الروايةُ الصحيحةُ؛ بضمِّ الخاءِ، ومَنْ لا يحقِّقُ يَقولُه (3) بفتحِ الخاء (4) . قال (5) الخطابيُّ: وهو خطأٌ (6) . قال الهرويُّ: خَلَفَ فوه: إذا تغيَّر، يَخْلُفُ خُلُوفًا. ومنه: حديثُ عليٍّ (7) وسُئلَ عن قبلةِ الصائمِ قَالَ (8) : «وَمَا أَرَبُكَ (9) إلى خُلُوفِ فيها؟! (10) ».
ويقال: نَوْمَةُ الضُّحى مَخْلَفَةٌ للفمِ؛ أي: مُغَيِّرةٌ. قال صاحب "الأفعال": خَلَفَ فُوهُ، وَأَخْلَفَ (11) .
وقد أخذ (12) الشافعيُّ من هذا الحديثِ مَنْعَ الصائمِ من السِّواكِ بعدَ (13) الزوالِ؛ قال: لأنَّ ذلك الوقتَ مبدأُ الخُلوفِ، قال: والسِّواكُ يُذْهبهُ. وربما نظم بعضُ الشافعيةِ في هذا قياسًا، فقال: أثرُ عبادةٍ (14) ؛ فلا يُزَالُ (15) ؛ كدمِ الشهيِد (16) .
وهذا القياسُ تَرِدُ (17) عليه أسئلةُ (18) من جملِتها: القولُ بموَجِبِه، ومَنْعُ أنَّ السِّواكَ يُزيلُ الخُلوفُ، فإنه من المعدةِ والحلقِ، لا من محلِّ السِّواكِ؛ وحينئذٍ لا يلزمُ شيءٌ من ذلك. وقد أجاز كافةُ العلماءِ للصائمِ أن يتسوَّكَ بسواكٍ لا طعمَ له، في أيِّ أوقاتِ النهارِ شاءَ.
وقولُه: «أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ (19) مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»؛ لا يُتَوَهَّمُ: أَنَّ الله تعالى يَستطيبُ الروائحَ ويَستلذُّها، كما يقعُ لنا من اللذةِ والاستطابةِ؛ إذ ذلك (20) من صفاتِ افتقارِنا واستكمالِ نقصِنا، وهو الغنيُّ بذاتِه، الكاملُ بجلالِه وتقدسِه (21) .
على أنَّا نقولُ: إنَّ الله تعالى يُدركُ المدركَاتِ، ويبصرُ المبصَراتِ، ويسمَعُ المسموعاتِ، على الوجهِ اللائقِ بجمالِه وكمالِه وتقدسِه عن شِبْهِ مخلوقاتِه. وإنما معنى (22) هذه الأطيبيَّةِ عندَ الله تعالى راجعةٌ إلى أنَّ الله تعالى يثيبُ على خُلُوفِ فمِ الصائمِ ثوابًا =(3/215)=@
__________
(1) في (أ): «وزجرًا».
(2) ذكر الاحتمالين الخطابي في "أعلام الحديث" (2/940).
(3) في (ي): ((لقوله)).
(4) هذا الكلام إلى آخر النقل عن الخطابي كلام القاضي في "الإكمال" (4/111). وقال في "مشارق الأنوار" (1/239): ((أكثرا لمحدثين يرويه بالفتح، وبعضهم يرويه بالفتح والضم معًا في الخاء، وبالوجهين ضبطناه عن القابسي، وبالضم صوابه، وكذا سمعناه وقرآناه على متقنيهم في هذه الكتب)).اهـ.
(5) في (ح): «وقال».
(6) "غريب الحديث" للخطابي (3/239- 240). وعبارته: أصحاب الحديث يقولون: ((خلوف))، بفتح الخاء، وإنما هو ((خُلوف)) مضمومة الخاء.
(7) أخرجه عبدالرزاق (4/187 رقم8428) عن إسرائيل، وابن أبي شيبة (2/316 رقم9411) في الصيام، باب: من كره القبلة للصائم ولم يرخص فيها، عن أبي الأحوص، كلاهما - إسرائيل، وأبو الأحوص - عن أبي إسحاق، عن عمر بن سعيد، قال: قال رجل لعلي: أيقبل الرجل امرأته وهو صائم؟ فقال علي: وما أربك إلى خلوف فم امرأتك؟!
وفي سنده: عمر بن سعيد، ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/110)، وقال: «روى عن علي، وروى عنه أبو إسحاق».اهـ.
وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب" (3/229): «عمر بن سعيد يروي المقاطيع، روى عنه أبو إسحاق... وأخلق به أن يكون عمر بن سعيد بن سريح أحد الضعفاء الراوي عن الزهري، ضعفه ابن عدي وغيره، وهو مشهور في كتب الضعفاء».
(8) في (ز): ((ثم قال)).
(9) في (أ) و(ز): ((أريد)).
(10) ينظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (3/331). وقد نقل هذا الكلام عنه "صاحب المعلم" (2/41) وعنه القاضي عياض في "الإكمال" (4/111). الْمُجد
(11) ينظر: "الأفعال" لابن القوطية (ص30)، "الأفعال" للسرقسطي (1/436)، "الأفعال" لابن القطاع (1/280). والأقرب إلى ما ذكره الشارح عبارة السرقسطي: ((وخلف الفم واللحم خلوفًا وأخلفا: أَرْوَحَا)). ولم يذكر ابن القوطية وابن القطاع ((وأخلفا)) ولعلهما يريدانها!
(12) قوله: ((وقد أخذ)) في (أ): «وأخذ».
(13) في (ح) و(ز) و(ي): «من بعد الزوال».
(14) في (ز): ((عبادته)).
(15) في (أ) و(ز) و(ي): ((تزال)).
(16) ينظر: "المجموع" (1/329- 330).
(17) في (أ): ((يرد)).
(18) رسمت في (أ) و(ح) و(ز): ((أسولة)).
(19) الرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((أطيب عند الله يوم القيامة)).
(20) في (ح) و(ي): ((ذاك)).
(21) في (ح) و(ي): «وتقديسه».
(22) في (ح): ((يعني)).(3/215)
أكثرَ مما يثيبُ على استعمالِ روائحِ المسكِ، حيث نَدَبَ الشَّرْعُ إلى استعمالِه فيها، كالجُمَعِ والأعيادِ وغيرِ ذلك. ويحتملُ أن يكونَ ذلكَ في حقِّ الملائكةِ (1) ، فيستطيبونَ ريحَ الخُلُوفِ أكثرَ مما يستطيبون ريحَ المسكِ (2) .
وقولُه: «وَللصَّائِمِ فَرْحَتَانِ (3) : إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ»؛ أي: فرح بزوالِ جوعِه وعطشِه (4) حين (5) أُبيح له الفطرُ، وهذا الفرحُ طبيعيٌّ، وهو السابقُ للفهمِ. وقيل: إنَّ فرحَه بفطرِه (6) إنما هو من حيثُ إنَّه تمامُ صومِه، وخاتمةُ عبادتِه (7) ، وتخفيف رَبِّه وَمَعُوَنةٌ (8) على مستقبلِ صومهِ (9) .
وأَمَّا قولُه: «وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ»؛ أي: بجزاءِ صومِه وثوابِه.
وقولُه: «إِنَّ فِي الجنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ»، وَزْنُ ((الرَّيَّان)): ((فَعْلَانَ))، وهو الكثيرُ الرِّيِّ، الذي هو نقيضُ العطشِ. وسُمِّيَ هذا البابُ بهذا الاسمِ؛ لأنه جزاءُ الصائمين على عطشِهم وجوعِهم، واكتفى بذكرِ الرِّيِّ عن الشبعِ؛ لأنه يدلُّ عليه من حيثُ إنه يَستلزمُه. =(3/216)=@
__________
(1) في (ح) و(ي): ((ملائكته)).
(2) هذا تأويل من الشارح بصفة من صفات الله عز وجل ثبتت بهذا الحديث الصحيح، ونحو ما قاله عندا لمازري في "المعلم" (2/41)، والقاضي في "الإكمال" (4/112)، والحافظ في "الفتح" (4/105- 106) وغيرهم.
وقد تأولها بعضهم بالرضا والثناء على الصائم، و"الاستطابة لرائحة خلوف فم الصائم من جنس سائر الصفات العلي يجب الإيمان بها مع عدم مماثلة صفات المخلوقين ومع عدم التكلف بتأويلها بآراء العقول ومستبعدات النقول والذي يفضي بها إلى تعطيلها عن الله)). "التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري" (ص36- 37). قال ابن القيم في "الوابل الصيب" (1/45- 46): ((وأي ضرورة تدعو إلى تأويل كونه أطيب عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله والرضا بفعله، وإخراج اللفظ عن حقيقته، وكثير من هؤلاء ينشئ للفظ معنى ثم يدعي إرادة ذلك المعنى بلفظ النص، من غير نظر منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عينه أو احتمال اللغة له. ومعلوم أن هذا يتضمن الشهادة على الله تعالى ورسوله بأن مراده من كلامه كيت وكيت، فإن لم يكن ذلك معلومًا بوضع اللفظ لذلك المعنى أو عرف الشارع وعادته المطردة أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى أو تفسيره له به، وإلا كانت شهادة باطلة. ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك، فمثل النبي هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عند نا وأعظم، ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه؛ فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكرايته وحبه وبغضه، لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقن, صفاته لا تشبه صفاتهم وأفعالهم، وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه والعمل الصالح فيرفعه، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا. ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال؛ إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله الرضا، فإن قال: رضا ليس كرضا المخلوقين، فقولوا: استطابة ليست كاستطابة المخلوقين، وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب.
(3) الرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((فرحتان يفرحهما)).
(4) في (ز): ((عطشه وجوعه)).
(5) في (أ): «حتى».
(6) في (ز): ((يفطره)).
(7) في (ح): ((عبادة)).
(8) قوله: ((ومعونةٌ)) في (ح): ((معونته)) وفي (أ): ((ومعونته)) ونقل الحافظ في "الفتح" (4/118) هذا الكلام من الشارح وفيه: ((وتخفيف من ربِّه)).
(9) قوله: «صومه» سقط من (أ).(3/216)
وقولُه: «مَنْ صَامَ يَوْمًا في سَبِيل الله»؛ أيْ: في طاعةِ الله؛ يعني بذلك: قاصِدًا به (1) وَجْهَ اللهِ تعالى. وقد قيل فيه (2) : إنه الجهادُ في سبيلِ الله.
وقوله: «سبعين خريفًا»؛ أي: سنَةً، وهو على جهةِ المبالغةِ في البُعدِ عن النارِ، وكثيرًا ما تجيءُ «السبعون (3) »عبارةً (4) عن التكثيرِ؛ كما قال تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} (5) .
و«الخريفُ»: ((فعيلٌ)) بمعنى (6) ((مَفْتَعَلٍ))؛ أي: مُخْتَرَف، وهو الزَّمانُ الذي تُخْتَرفُ فيه الثمارُ (7) . =(3/217)=@
__________
(1) قوله: ((قاصدًا به)) سقط من (ز).
(2) قوله: ((وقد قيل فيه)) في (أ) و(ي): ((وقيل))، وفي (ح): ((قال وقيل)).
(3) في (أ): «السبعين».
(4) في (ح) و(ز): ((عبادة)).
(5) سورة التوبة؛ الآية: 80.
(6) سقط من (ي).
(7) في "اللسان" (9/62، 64): ((والخريف أحد فصول السنة... وسمي خريفًا لأنه تُخْرَف فيه الثمار؛ أي: تجنى، والاختراف: لقط النخل)).(3/217)
ومِنْ بابِ مَنْ أصبح صائمًا مُتطوِّعًا ثم يُفْطِرُ
قولُه - وقد سَألَ -: هل عِنْدَهُمْ (1) طعام؟ فَقيلَ: لا (2) -: «إِنِّي صَائِمٌ (3) »؛ حجَّةٌ لمن قال: إنَّ صومَ التطوُّعِ يصحُّ بغيرِ نية تَبَيَّتَتْ (4) ، كما قدَّمنا الخلافَ فيه (5) . ولا حجَّةَ فيه؛ إذ يحتملُ أنَّ سؤالَه أولًا: «هل عِنْدَكُمْ (6) شَيْءٌ» كان لضعفِه عن الصومِ، فاحتاجَ إلى الفطرِ فسأل، فلمَّا لم يجدْ بقيَ على ما قدَّم من صومِه (7) . أو سأل عن ذلك وهو صائمٌ ليعلمَ هل عندهم ما يحتاجُ إليه عندَ إفطارِه فتسكنَ نفسُه إليه (8) ؛ فلا يحتاجُ إلى تكلُّفِ اكتسابِه. ويحتملُ أن يكونَ قولُه: «أنا صائِمٌ (9) »؛ أيْ: لَمْ آكلْ بعدُ (10) شيئًا، فيكونُ صائمًا لغةً (11) .
والزَّوْرُ: والزُّوَّارُ (12) ، قال ابنُ دريدٍ (13) : وهو ممَّا (14) يكونُ الواحدُ والجماعةُ فيه سواءً. وقيل: ((الزَّوْرُ)) المصدرُ، وبه سُمِّي الواحدُ والاثنان والجميعُ (15) ؛ كما قالوا: رجلٌ صومٌ، وقومٌ صومٌ، وعدلٌ (16) . ونحوُه للخطَّابيِّ (17) .
و«الحَيْسُ (18) » قال فيه الهرويُّ: هو ثَريدةٌ من أخلاطٍ (19) . قال ابنُ دريدٍ (20) : هو (21) التَّمرُ مع الأَقِطِ والسَّمْنِ؛ قال الشاعرُ: =(3/218)=@
__________
(1) في (أ): ((عندكم)).
(2) سقطت من (ح)، وبعدها في (س): ((فقال)) زادها في الحاشية.
(3) قوله: ((إنِّي صائم)) كذا في النسخ، والرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص" ((فإني صائم)).
(4) في (أ): ((تبيت)) وفي (ز): ((تبييت)) وفي (ي): ((بتبييت)).
(5) في باب صيام عاشوراء.
(6) في (ز): ((عندهم)).
(7) من قوله: «عن الصوم فاحتاج....» إلى هنا سقط من (ح). وقال النووي عن هذا التأويل: ((وهذا تأويل فاسد وتكلف بعيد)) "شرح النووي" (8/35).
(8) سقط من (أ).
(9) تقدمت الإشارة إلى أن الرواية: ((فإني صائم))! وفي "الإكمال" (4/116): ((إني صائم)).
(10) سقط من (ي).
(11) يبعد هذا الاحتمال قوله في الرواية الأخرى: ((فإني إذن صائم)).
(12) في (ح): «والزوار».
(13) في "الجمهرة" (2/711)، (3/1251).
(14) في (ز): ((ما)).
(15) في (ز): ((والجمع)).
(16) العبارة عن "الإكمال" (4/118)، وفيها: ((ورجل عدل)).
(17) في "أعلام الحديث" (2/972).
(18) في (ح): ((والحسين)) وفي (ي): ((والجنس)).
(19) في "الغريبين في القرآن والحديث" (2/516) وتحرفت في المطبوع منه ((ثريدة)) إلى ((شَرْدِهِ)). والحيسُ في الأصل: الخلْط. "الصحاح" (3/920).
(20) "الجمهرة" (1/536)، (2/1049)، (3/1270).
(21) في (ح) و(ي): ((وهو)).(3/218)
التَّمْرُ والسَّمْنُ جِمَيعًا وَالْأَقِطْ ... اَلْحَيْسُ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِطْ (1)
وقولُها في هذه الرواية: «فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأُهْدِيَتْ لنَا هَدِيَّةٌ»؛ ظاهرُه أنَّ هذا وما قبله كان في يومٍ واحدٍ، وليس كذلك؛ بدليلِ ما جاء في الروايةِ الأخرى الآتيةِ: «ثم أتانا يومًا آخرَ...»، وذكرَ نحَوه.
وقولُه: «قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» فأكل (2) ، حجَّةٌ لمن قال: إن صائمَ النافلِة يجوزُ لَهُ، وأن يفطرَ فيه، وأن يخرجَ منهِ، وهو قولُ الشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ مع جماعةٍ (3) من الصحابةِ (4) ، مع استحبابِهم له إتمامَه من غيرِ وجوبٍ. ومنعَه ابنُ عمرَ (5) وقال: هُو كاللاعبِ (6) بدينِه. وهو (7) مذهبُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ، والحسنِ، والنخعيِّ، ومكحولٍ، وألزموه إتمامهَ إذا دخل فيه.
فإن أفطرهُ (8) متعمدًا قضاه على =(3/219)=@
__________
(1) من مشطور الرجز، وهو بلا نسبة في "جمهرة اللغة" (1/536)، (2/1049)، (3/1270)، و"المخصص" (4/147) - والرواية فيهما كما ساقها الشارح- وفي "الصحاح" (3/920، 921)، و"اللسان" (6/61)، و"التاج العروس" (8/255) والرواية في هذه الثلاثة: ((معًا ثم)) بدل: ((جميعا و)). وذكره في "الإكمال" (4/118)، و"الفتح" (1/482). قال في "التاج": ((قال شيخنا: هذا البيت مشهور تنشده الفقهاء أو المحدثون ومفهومه أن هذه الأجزاء وإذا اخلطت لا تكون حيسًا، وهو ضد المراد... والظاهر أنه يريد إذا حضرت هذه الأشياء الثلاثة فهي حيس بالقوة لوجود مادته، وإن لم يحصل فيما عناه)).
والأقط: شيء يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى يحصل؛ أي: يقطر ماؤه. "اللسان" (7/257)، (11/624).
(2) ما في مسلم و"التلخيص": ((...فأكل، ثم قال: قد كنت أصحبت صائمًا)).
(3) في (ز): ((مع جماعة)).
(4) تخريج.
(5) ذكره ابن عبدالبر في "التمهيد" (12/81)، و"الاستذكار" (10/210) وفيه: ((ذاك اللاعب بدينه)) أو قال: ((بصومه))، ولم أجده مسندًا بهذا اللفظ.
لكن أخرج عبدالرزاق (4/275 رقم7785) عن معمر، عن الزهري، عن سالم: أن ابن عمر كان إذا حدَّث نفسه بالصيام لم يفطر، وإذا حدَّث نفسه بالإفطار لم يصم. وسنده صحيح.
(6) في (ح) و(ي): ((الملاعب)) وفي (ز).
(7) في (ح) و(ز) و(ي): ((وهذا)).
(8) في (ح) و(ز): ((أفطر)).(3/219)
مذهبِ الملزِمين لإتمامِه. فلو أفطره (1) ناسيًا، أو مغلوبًا، أو لِعُذرٍ - لم يلزمِ القضاءُ. وأسقط أبو حنيفة القضاءَ عن الناسي خاصَّةً، وأوجبَه عليه ابنُ عُلَيَّة.
وحكى ابنُ عبدِ البرِّ الإجماعَ على أنَّ المفطرَ فيه لعذرٍ لا قضاءَ عليه (2) ؛ وكأنَّه لم يقفْ على ما ذُكِرَ عن ابنِ عُلَيَّة (3) ، فإنه خلافٌ شاذٌ.
ومحمُلُ (4) الحديثِ عندَ هؤلاءِ على أنه - صلى الله عليه وسلم - كانَ مَجْهُودًا.
وممَّا يستدلُّ به لمالكٍ ومَنْ قال بقولِهِ: حديثُ النسائيِّ (5) عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالتْ: أصبحتُ صائمةً أنا وحفصةُ، فأُهِديَ لنا طعامٌ فَأَعْجَبَنَا، فَأَفْطَرْنَا، فدخلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبَدَرَتْنِي حَفْصَةُ فسألَتْه، فقال: «صُومَا يَوْمًا مَكَانَهُ».
وقولُ مجاهدٍ: ((ذلك بمنزلِة الرَّجُلِ (6) يُخْرِجُ الصَّدَقَةَ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا – قياسٌ (7) ليس بصحيحٍ، فإن الذي يُخرجُ الصدقةَ من مالِه (8) ولم يعطِها للفقيرِ، ولم يعيِّنْها، لم يدخلْ في عملٍ يجبُ إتمامُه، بخلافِ الصَّائمِ؛ فإنه قد دخل في عملِ الصومِ، وقد تناولَه نهيُ قوله تعالى: {ولا تبطلوا (9) أعمالكم} (10) ؛ وإنما يدخلُ في عملِ الصدقةِ بِدَفْعِها (11) لمستحقِّها أو بتعييِنها؛ وحينئذٍ تجبُ للفقيرِ (12) ، ويحرمُ على مُخْرِجِها الرُّجوعُ فيها وأخذُها منه، فأما قبلَ =(3/220)=@
__________
(1) في (ز): ((أفطر)).
(2) في "الاستذكار" (10/202).
(3) قوله: ((وكأنه لم يقف على ما ذكر عن ابن علية)) بل ذكره في "التمهيد" (12/72)، و"الاستذكار" (10/203)، وحكى الإجماع أيضًا ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/606)، وذكر قول ابن علية في (2/607)! ونقله الإجماع على ذلك عن ابن عبد البر، النووي في "شرح مسلم" (8/35) وسكت عنه.
قال في "الفتح" (4/212)، بعد أن ذكر أن أبا حنيفة يلزم بالقضاء مطلقًا من أفطر في التطوع: وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على عدم وجوب القضاء عمن أفسد صومه بعذرًا. وينظر "شرح معاني الآثار" (2/107- 111).
(4) في (ز): ((ويحمل)).
(5) أخرجه أحمد (6/263)، والترمذي (3/112 رقم735) كتاب الصوم، باب ما جاء في إيجاب القضاء عليه، والنسائي في "الكبرى" (2/247 رقم3291) كتاب الصيام، باب الاختلاف على الزهري في هذا الحديث، من طريق جعفر بن برقان،، وأخرجه أحمد (6/14)، والنسائي في "الكبرى" (2/247 رقم3292) في الموضع السابق، من طريق سفيان بن حسين،، وأخرجه النسائي في "الكبرى" (2/248 رقم3293) في الموضع السابق، والبيهقي (4/280)، من طريق صالح بن أبي الأخضر،، وأخرجه النسائي في "الكبرى" (2/248 رقم3294 و3295) في الموضع السابق، من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وصالح بن كيسان، ويحيى بن سعيد،، ستتهم - جعفر بن برقان، وسفيان بن حسين، وصالح بن أبي الأخضر، وإسماعيل بن إبراهيم، وصالح بن كيسان، ويحيى بن سعيد -، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام فاشتهيناه فأكلنا منه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة، وكانت ابنة أبيها [فقالت يا رسول الله، إنا كنا صائمتين، فعرض لنا طعام فاشتهيناه فأكلنا منه، قال: ((اقضيا يومًا آخر مكانه)) يراجع]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقضيا يومًا آخر مكانه».
وقد توبع الزهري على روايته؛ فأخرجه أبو داود (2/826 رقم2457) كتاب الصوم، باب من رأى عليه القضاء، والنسائي في "الكبرى" (2/247 رقم3290) في الموضع السابق، من طريق ابن الهاد، عن زميل مولى عروة، عن عروة، عن عائشة، فذكره. وزميل هذا مجهول، كما في "التقريب" (2036).
عقب روايته لحديث الزهري: «وروى صالح بن أبي الأخضر ومحمد بن أبي حفصة هذا الحديث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مثل هذا. ورواه مالك بن أنس ومعمر وعبيدالله بن عمر وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ، عن الزهري، عن عائشة، مرسلاً، ولم يذكروا فيه: ((عن عروة))، وهذا أصح؛ لأنه روي عن ابن جريج قال: سألت الزهري قلت له: أحدثك عروة، عن عائشة؟ قال: لم أسمع من عروة في هذا شيئًا، ولكني سمعت في خلافة سليمان بن عبدالملك من ناس، عن بعض من سأل عائشة، عن هذا الحديث، حدثنا بذلك علي بن عيسى بن يزيد البغدادي، حدثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج، فذكر الحديث».
وانظر "السنن الكبرى" للنسائي (2/248-249 رقم3296-3299)، و"سنن البيهقي" (4/280-281)، و"تهذيب السنن" (3/335-336)، و"نصب الراية" (2/466-467).
(6) في (أ): «رجل».
(7) سقط من (أ) و(ح) و(ي).
(8) من قوله: «فإن شاء أمضاها....» إلى هنا سقط من (أ).
(9) في (ح): «{صدقاتكم بالمن}».
(10) سورة محمد؛ الآية: 33.
(11) في (أ): ((يدفعها)).
(12) سقط من (أ) و(ز).(3/220)
ذلك فغايةُ ما عندَه نيَّةُ الصدقةِ؛ لا الدخولُ فيها؛ فافترق الفرْعُ من الأصل؛ فَفَسَدَ القياسُ.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ (1) ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِم صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ»؛ احتجَّ به مَنْ أسقط القضاءَ عمَّن أفطر ناسيًا في رمضان، وهو الشافعيُّ وغيرُه.
وخالفهم في ذلك مالكٌ وغيره، ولهؤلاء أن يقولوا بموجَبِ ذلك؛ إذ لم يتعرَّضْ فيه للقضاءِ، بل الذي تعرَّض له: سقوطُ المؤاخذةِ عمَّن أفطر ناسيًا، والأمرُ بمضيِّه على صومِه وإتمامِه، وهم يقولون بكلِّ ذلك، فأمَّا القضاء فلا بدَّ له (2) منه؛ إذ المطلوبُ صيامُ يومٍ تامٍّ لا يقعُ فيه خَرْمٌ، ولم يأتِ به؛ فهو باقٍ عليه.
هذا عذرُ أصحابِنا عن هذا الحديثِ الذي جاء بنصِّ كتابِ مسلمٍ، وفي كتابِ الدارقطنِّي (3) لهذا الحديثِ مساقٌ أنصُّ من هذا، عن أبي هريرةَ مرفوعًا، قال: «إِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ نَاسِيًا أَوْ شَربَ ناسِيًا، فَإِنَّما هُوَ رِزْقٌ (4) سَاقَهُ الله تعالى إِلَيْهِ، =(3/221)=@
__________
(1) قوله: «وهو صائم» سقط من (أ).
(2) سقط من (ي).
(3) أخرجه الدارقطني في "سننه" (2/178) من طريق محمد بن عيسى بن الطباع، عن ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل الصائم ناسيًا أو شرب ناسيًا؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه».
قال الدارقطني عقبه: «إسناد صحيح، وكلهم ثقات».اهـ.
قال الحافظ في "الفتح" (4/157): «قلت: لكن الحديث عند مسلم وغيره من طريق بن علية، وليس فيه هذه الزيادة، وروى الدارقطني أيضًا إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وأبي سعيد المقبري والوليد بن عبدالرحمن وعطاء بن يسار كلهم، عن أبي هريرة. وأخرج أيضًا من حديث أبي سعيد رفعه: من أكل في شهر رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه، وإسناده وأن كان ضعيفًا لكنه صالح للمتابعة، فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة: أن يكون حسنًا، فيصلح للاحتجاج به، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوة، ويعتضد أيضًا بأنه قد أفتي به جماعة من الصحابة مخالفة لهم منهم، كما قاله بن المنذر وابن حزم وغيرهما: على بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وابن عمر، ثم هو موافق لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}، فالنسيان ليس من كسب القلب، وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه، فكذلك الصيام».اهـ.
(4) في (ي): ((وزق))!.(3/221)
وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ»، قال الدارقطنُّي في إسنادِه: إسنادٌ صحيحٌ، وكلُّهم ثقاتٌ. وفي طريق آخرَ: «مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةً»، وهو صحيحٌ أيضًا (1) .
وهذه النصوصُ لا تقبلُ ذلك الاحتمالَ. والشأنُ في صحتَّهِا؛ فإن صحَّتْ وجبَ الأخذُ بها (2) ، وحُكِمَ بسقوطِ القضاءِ.
وقولُه: «فَإِنَّما أَطْعَمَهُ الله تُعالى وَسَقَاهُ»؛ يَعْني: أنَّه لما أفطر ناسيًا لم يُنْسَبْ إليه من ذلكَ الفطرِ شيءٌ، وتمحَّضَتْ نسبةُ الإطعامِ والسقيِ إلى الله تعالى؛ إذْ هو فِعْلُه؛ ولذلك (3) قال في بعضِ رواياتِه: ((فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ (4) سَاقَه الله إليهِ)) (5) . والله أعلم (6) .
ومن بابِ كيفَ صومُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في التَّطَوُّعِ (7)
سؤالُ شقيقٍ (8) لعائشةَ إنما كان عن زمنِ صومِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن مقدارِه؛ ولذلك أجابته بهما؛ فقالت (9) : «كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ، قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، قَدْ أَفْطَرَ». ومعنى هذا: أنه كان (10) يصومُ متطوِّعًا، فيُكثرُ، ويُوالي حتى تتحدَّثَ نساؤه وخاصَّتُه بصومِه، ويفطرُ كذلك. ومثلُ هذا حديثُ ابنِ عبَّاسٍ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى يَقُولَ القائلُ: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ القَائِلُ: لا يَصُومُ)) (11) .
وبمثل هذا أخبرَ - صلى الله عليه وسلم - بِهِ عن نفسِه؛ فقال: «بَلْ أَصُومُ وأَفْطِرُ، وَأَقُومُ، وَأَنَامُ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)) (12) . =(3/222)=@
__________
(1) أخرجه الدارقطني (2/178) من طريق محمد بن مرزوق الأنصاري، عن محمد بن عبدالله النصاري، محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أفطر في شهر رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولاكفارة».
ثم قال: تفرد به محمد بن مرزوق، وهو ثقة عن الأنصاري».اهـ.
وقد توبع، فأخرجه ابن خزيمة (3/339 رقم1990؟) عن محمد وإبراهيم ابني محمد بن مرزوق الباهلي.
ومن طريقه ابن حبان (8/28-29 رقم3521/الإحسان).
وأخرجه الحاكم (1/430) من طريق محمد بن إدريس، وعنه البيهقي (4/229).
كلاهما - إبراهيم بن محمد بن مرزوق، ومحمد بن إدريس -، عن محمد بن عبدالله، به.
فصار التفرد من محمد بن عبدالله، ولذا قال البيهقي عقب روايته: «تفرد به الأنصاري، عن محمد بن عمرو».
قال الحافظ في "الفتح" (4/157): «قال الدارقطني: تفرد به محمد بن مرزوق عن الأنصاري، وتعقب بأن ابن خزيمة أخرجه أيضًا عن إبراهيم بن محمد الباهلي، وبأن الحاكم أخرجه من طريق أبي حاتم الرازي، كلاهما عن الأنصاري، فه والمنفرد به، كما قال البيهقي وهو ثقة، والمراد أنه انفرد بذكر إسقاط القضاء فقط لا بتعيين رمضان، فإن النسائي أخرج الحديث من طريق على بن بكار، عن محمد بن عمرو، ولفظه: في الرجل يأكل في شهر رمضان ناسيًا، فقال: الله أطعمه وسقاه».اهـ.
وقوله: فإن النسائي أخرج الحديث؛ أي في "السنن الكبرى" (2/244 رقم3277) كتاب الصيام، باب في الصائم يأكل ناسيًا.
(2) في (ح): «وجب العمل به».
(3) في (أ): ((وكذلك)).
(4) في (ي): ((وزق)).
(5) أخرجه الترمذي (3/100 رقم721) كتاب الصوم، باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسيًا، من طريق حجاج بن أرطأة، عن قتادة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل أو شرب ناسيًا فلا يفطر، فإنما هو رزق رزقه الله». وفي سنده الحجاج بن أرطأة، أحد الفقهاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس. كما في "التقريب" (1119). وقتادة مدلس ولم يصرح بالسماع.
وله شاهد من حديث أم إسحاق الغنوية: أخرجه أحمد (6/367)، وعبد بن حميد (ص460 رقم1590)، والطبراني في "الكبير"(25/169 رقم411) من طريق بشار بن عبد الملك، عن أم حكيم بنت دينار، عن مولاتها أم إسحاق الغنوية، قالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتي بخبز ولحم، قالت: وكنت أشتهي أن آكل من طعام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «هلمي يا أم إسحاق فكلي»، قالت: فأكلت، ثم ناولني عرقًا فرفعته إلى فِيّ، فذكرت أني صائمة، فبقيت يدي لا أستطيع أن أرفعها إلى فِيّ، ولا أستطيع أن أضعها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالك يا أم إسحاق؟!» قلت: يا رسول الله ! إني كنت صائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتمي صومك»، فقال ذ واليدين: الآن حين شبعتِ؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هو رزق ساقه الله إليها».
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/373): «رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، وفيه: أم حكيم، ولم أجد لها ترجمة».
وبشار بن عبدالملك، ضعفه ابن معين، كما في "الجرح والتعديل" (2/415 رقم 1641).
(6) قوله: ((والله أعلم)) زيادة من (ز).
(7) في (ح): «في التطوع».
(8) قوله: ((شقيق)) كذا في النسخ، وإنما الذي سأل عائشة هو عبد الله بن شقيق، وانظر: "صحيح مسلم" ومصادر التخريج. [يراجع الشيخ في إثبات الفرق]
(9) قوله: ((فقالت)) في (ز) و(س): ((فلذلك قالت)).
(10) سقط من (ح) و(ي).
(11) قوله: ((كان يصوم حتى يقول...)) كذا في النسخ، والرواية في "صحيح مسلم" وفي "التلخيص" هكذا: ((وكان يصوم إذا صام حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر إذا أفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم)).
(12) يأتي في النكاح، باب الترغيب في النكاح وكراهية التبتل.(3/222)
وقولها: «كان يصومُ شعبانَ كلَّه، كان يصومُ (1) شعبانَ إلا قليلاً». قيل: إن الكلامَ الأولَ يُفسِّرُهُ الثاني، ويُخصِّصُه، وحينئذٍ يَتَوافقُ قولُها هذا مع قولِها: «ما رأيتُه أكثرَ صومًا منه في شعبان (2) ». وكذلك قال ابنُ عبَّاسٍ: ((إنه - صلى الله عليه وسلم - ما صام شهرًا غيرَ رمضانَ)) (3) . وقيل: معنى ذلك أنه كان يصومُه مرةً كلَّه، ومرةً ينقصُ منه؛ لئلا يُتَوَهَّمَ وجوبُه.
وقيل في (4) قولها: «كان يصومُ شعبانَ كلَّه»؛ أي: يصومُ في أوَّلِه، ووسطِه، وآخرِه، ولا يخصُّ شيئًا منه، ولا يعمُّه بصيامِهِ (5) . وهذا أبعدُها. وقد مضى القولُ على ما تضمَّنه أكثرُ هذا الحديثِ (6) . =(3/223)=@
__________
(1) من قوله: «حتى يقول القائل لا يفطر...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) كذا في النسخ، والرواية في "صحيح مسلم" وفي "التلخيص": ((ولم أره صائمًا من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان)) وفي رواية في "صحيح مسلم": ((وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان)).
(3) قول ابن عباس في "صحيح مسلم" و"التلخيص" هكذا ((ما صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا كاملاً قط غير رمضان)).
(4) سقط من (أ).
(5) في (ز) و(س): ((بصيام)).
(6) ؟؟؟. يراجع لم يمض كثير كلام بل ربما يأتي في باب صيام ثلاثة أيام.(3/223)
ومن بابِ كراهِة (1) سَرْدِ الصَّومِ
حديثُ عبدِ الله بن عمرٍو اشتهر وكَثُر رواتُه، فكثُر اختلافُه، حتى ظنَّ مَنْ لا بصيرةَ عندَه: أنه مضطربٌ، وليس كذلك؛ فإنه إذا تُتُبِّعَ اختلافُه، وضُمَّ بعضُه إلى بعضٍ، انتظمت (2) صورتُه، وتَنَاسَبَ مساقُه؛ إذ ليس فيه اختلافُ تناقُضٍ ولا تَهَاتُرٍ، بل يرجعُ اختلافُه إلى أَنْ ذَكَرَ بعضُهم ما سكت عنه غيرُه، وفصَّل بعضٌ ما أجملَه غيرُه (3) . وسنشيرُ إلى بعضِه إن شاء الله تعالى.
وقوله (4) : «أَلَم أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ وَلَا تُفْطِرُ، وَتُصَلِّي (5) ...» هذا إنَّما فعله عبدُالله بعدَ أنِ التزمه بقولِه: «لأصومنَّ النهارَ، ولأقومنَّ الليلَ ما عشتُ» (6) ؛ كما جاء في الروايةِ الأخرى، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ فحكى بعضُ الرواةِ الفعلَ، وحكى بعضُهم القولَ.
وقولُه: «لَا تَفْعَلْ»؛ نهيٌ عن الاستمرارِ في فعلِ ما التزمه؛ لأجلِ ما يؤدِّي إليه من المفسدةِ التي نبَّه عليها بقولِه: «فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنَاكَ»؛ قال المفسِّرون: أي: غارتا ودخلتا (7) .
قلت (8) : وتحقيقُه: هجمتْ على الضررِ دفعةً واحدةً؛ فإن الهَجْمَ هو: أخذُ الشيءِ بسرعةٍ بغتةً. ويحتملُ أن يكونَ معناه: هَجَمَتِ العينُ عليه بغلبةِ (9) النومِ؛ لكثرةِ السَّهرِ السابقِ؛ فينقطعُ عمَّا التزم؛ فيدخلُ في ذمِّ مَنِ ابتدع رهبانيةً ولم يَرْعَهَا، وكما قال له: «يَا عَبْدَاللهِ! لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ (10) ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ الليَّلِ» (11) . =(3/224)=@
__________
(1) .
(2) في (أ) و(ز): ((انتضمت)).
(3) في (ز): ((غير)).
(4) في (ح) و(ي): ((قوله)) دون واو.
(5) الرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((ألم أخبرك بك أنك تصوم ولا تفطر وتصلي الليل)).
(6) الرواية في "صحيح مسلم" و"التلخيص": ((لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت)).
(7) ينظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/143).
(8) في (ز): ((قال الشيخ)).
(9) في (ز): ((فعليه)) وفي (ي): ((فعلبه)).
(10) قوله: ((مثل فلان)) في (ي): ((كفلان)).
(11) هو في إحدى روايات حديث الباب عند مسلم (2/814 رقم1159/185) في الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به. ولم يذكرها الشارح في "التلخيص".(3/224)
وقولُه: «ونَفِهَت (1) نَفْسُكَ»؛ ((نَفِهَتْ)) – بالكسرِ- أي: أَعْيَتْ وَكَلَّتْ (2) وضَعُفَت عن القيامِ بذلك، كما قال في لفظٍ آخرَ: «نَهَكَتْ نفسُك» (3) .
وقولُه: «فَإِنَّ لِعَيْنِكَ (4) حَظًّا (5) ، وَلِنَفْسِكَ حَظًّا (6) » أي: من الرِّفقِ بهما، ومراعاةِ حقِّهما، وقد في الروايةِ الأخرى الحظَّ: «حقًّا»؛ إذ هو بمعناه، وزاد: «فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»، وفي لفظٍ آخرَ: «وَلأَهِلْكَ» مَكَانَ «ولزَوْجِك».
وأَمَّا حقُّ الزوجةِ فهو في الوطْءِ، وذلك (7) أنه (8) إذا سرد الصومَ ووالى القيامَ بالليلِ، منعها بذلك (9) حقَّها منه.
وأما حقُّ الزَّوْرِ - وهو الزائرُ والضَّيفُ - فهو القيامُ بإكرامِه وخدمتِه، وتأنيسِه بالأكلِ معه.
وأما ((الأهلُ)) فيعني به (10) هنا: الأولاد والقرابةَ، وحقُّهم هو في الرفقِ بهم، والإنفاقِ عليهم، ومؤاكلتِهم وتأنيسِهم. وملازمةُ ما التزم من سردِ الصومِ وقيامِ الليلِ، يؤدِّي إلى امتناعِ تلك الحقوقِ كلِّها.
ويفيدُ أنَّ الحقوقَ إذا تعارضت (11) قُدَّمَ الأولى.
وقولُه: «صُمْ (12) مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ يَوْمًا» (13) ؛ هذا في المعنى موافقٌ للروايةِ التي قال فيها: «صُمْ (14) من كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيامٍ (15) ؛ فإنَّ الحسنةَ بعشرِ أمثالِها»؛ وكذلك قولُه في الروايةِ الأخرى: «صُمْ يومًا ولكَ أجرُ ما بَقِيَ»، على ما يأتي. وهذا الاختلافُ وشبهُه من بابِ النقلِ بالمعنى.
وقولُه: «فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ» (16) ؛ هكذا جاء في هذه الرواية؛ سكت فيها عن المراتبِ التي ثَبتتْ (17) في الروايةِ الآتيةِ بعدَ هذا؛ وذلك أنَّ فيها أنَّه (18) نقلة من صيامِ ثلاثِة =(3/225)=@
__________
(1) في (أ) و(ز) و(ي): ((ونقهت)).
(2) قوله: ((نفهت بالكسر أي أعيت وكلت)) في (أ) و(ز): ((أي أعيت))، وفي (ي): ((أي نقهت بالكسر أعيت وكلت)) والمثبت لحق في حاشية (ح).
(3) قوله: ((نهكت نفسك)) كذا في النسخ، والرواية التي في "صحيح مسلم" برقم (1159/187). ((هجمت له العين ونهكت)).
قال النووي: ونهكت بفتح النون وبفتح الهاء وكسرها، والتاء ساكنة؛ نهكت العين؛ أي: ضعفت. وضبطه بعضهم ((نُهِكْتَ)) بضم النون وكسر الهاء وفتح التاء، أي نُهكتَ أنت؛ أي: ؟؟؟ وهذا ظاهر كلام القاضي.اهـ. وكلام القاضي في "المشارق": ((ونهكت كذا جاء على ما لم يسم فاعله ولا ذكر للمفعول، وهو مختل، ولعله: نهكت نفسك أي أثر فيها ذلك وأضعفه)). "مشارق الأنوار" (2/13)، "شرح النووي" (8/45).
(4) في (أ): ((لعينيك)) وهي كذلك في نسخة من "صحيح مسلم" مثبتة في حاشية نسخة (3/161).
(5) في (ز): ((خطا)).
(6) في (ز): ((خطا)).
(7) في (ي): ((وذاك)).
(8) سقط من (ز).
(9) سقط من (ز).
(10) في (ي): ((فيه)).
(11) في (ز): ((تعرضت فيه)).
(12) قوله: «صم» سقط من (أ).
(13) الرواية: ((وصم من كل عشرة أيام يومًا)).
(14) في (ح): ((الصوم)).
(15) الرواية: ((وصم من الشهر ثلاثة أيام)).
(16) الرواية: ((فصم صوم داود نبي الله...)).
(17) في (ز): ((تثبت)).
(18) سقط من (ز).(3/225)
أيامٍ في الشهرِ إلى أربعةٍ فيه (1) ، ومنها إلى صومِ يومين وإفطارِ يومين، ثم منها إلى صومِ يومٍ وإفطارِ يومٍ. وهذا محمولٌ على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَرَّجَهُ في (2) هذه المراتبِ هكذا، لكنَّ بعضَ الرواةِ سكتَ عن ذِكِر بعضِ المراتبِ: إما نسيانًا، أو اقتصارًا على قدرِ ما يحتاجُ إليه في ذلك (3) الوقتِ، ثم في وقتٍ آخر ذكر (4) الحديثَ بكمالِهِ.
وقولُه: «فَصُمْ (5) صومَ داودَ (6) ؛ فإنَّه كان أَعْبَدَ النَّاسِ»؛ إنما أحَاله (7) على صومِ داودَ، ووصفه بأنه كان أعبدَ الناسِ؛ لقوله تعالى: {واذكر عَبْدَنَا داود ذا الأيد إنه أواب} (8) ، قال ابن عباسٍ: «الأيد» ههنا (9) : القوة على العبادةِ (10) ، و«الأوَّابُ»: الرجَّاعُ إلى اللهِ تعالى وإلى عبادتِه وتسبيحِه.
وقولُه: «وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى»؛ تنبيهٌ على أَنَّ صومَ يومٍ، وإفطارَ يومِ، لا يُضعفُ مُلْتزمَهُ، بل تَنْحفظُ (11) قوتُهُ، ويجدُ من الصَّومِ مشقَّته (12) ، كما قدمناه (13) ، وذلك بخلافِ سردِ الصومِ؛ فإنه يَنْهَكُ البدنَ والقوةَ، ويزيلُ رُوحَ الصومِ؛ لأنه يعتادُه؛ فلا يبالي به ولا يجدُ له معنًى.
وقولُ عبدِالله بنِ عمرٍو: «مَنْ لِي بِهذِهِ (14) ؟!»؛ إشارةٌ إلى استبعادِ عدمِ الفرارِ (15) ، وتمنيِّ (16) أنْ لو كانت له تلك القوةُ. ومعنى قولهِ: «مَنْ لِي بهذا الشيءِ»؛ أي: مَنْ يتكفَّلُ لي به، أو مَنْ يحصِّلُه لي.
وقولُ عطاءٍ: «فلا أدري كيف ذكر صيامَ الأبدِ» هو (17) شكٌّ عَرَضَ للراوي، ثم =(3/226)=@
__________
(1) في (ز): ((فيها)).
(2) قوله: «في» سقط من (أ).
(3) في (ي): ((ذاك)).
(4) في (ح) و(ي): ((تذكر)).
(5) في (ح) و(ي: ((وصم)).
(6) الرواية: ((فصم صوم داود نبي الله...)).
(7) في (أ): «أحاده»، وفي (ز): ((حاله)).
(8) سورة ص؛ الآية: 17.
(9) في (ز): ((ههنا)).
(10) أخرجه ابن جرير (21/166) قال: حدثني محمد بن سعد، ثني ابي، ثني عمي، ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {داود ذا الأيد}؛ قال: ذا القوة.
وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء. انظر "سنن سعيد بن منصور" (3/988).
(11) كذا في جميع النسخ! ولم تنقط كاملة إلا في (س).
(12) في (أ): ((مشقة)).
(13) في (ز) و(ي): ((قدمنا)). وقد تقدم ذلك في باب النهي عن الوصال وباب فضل صيام يوم عرفة.
(14) رسمت في (ي): ((بهذ)).
(15) في (ي): ((القرار)).
(16) في (ح): ((وعن)).
(17) في (ح): «هو».(3/226)
قال بعدَ أن عرضَ ذلك الشكُّ: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ» فأتى بصومِ الأبدِ على هذا اللفظِ من غيرِ شكٍّ ولا تردُّدٍ، بل حقَّق نَقْلَه، وحررَّ لفظَهُ، بل سكت عنه (1) .
وأما الذي تقدَّم في (2) حديثِ أبي قتادةَ (3) : فإنه شكَّ في (4) أيِّ اللفظين قال، فذكرهما، فقال فيه: قال: يا رسول الله! كيف مَنْ يصومُ الدهر؟! قال: «لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ»، أَوْ: «لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ». وقد تقدم القولُ في (5) صومِ الدهرِ (6) .
و«الأبد»: من أسماءِ الدهرِ. والمرادُ به هنا: سردُ الصومِ (7) دائمًا. والله تعالى أعلم (8) .
وقولُه في صومِ داودَ: «هُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ (9) »؛ من جهةِ حفظِ القوةِ، ووِجْدانِ مشقَّةِ العبادةِ، وإذا كان أعدلَ في نفسِه فهو عند الله تعالى أفضلُ وأحبُّ، ولا صومَ فوقَه في الفضلِ؛ كما جاءت هذه الألفاظُ وهي كلُّها متقاربةٌ في مدلولِها، وهو بلا شكٍّ نقلٌ بالمعنى. ومضمونُ هذه الألفاظِ: أنَّ هذا الصومَ أعدلُ في نفسِه وأكثرُ في ثوابِه.
وقولُه: «لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاثَةَ الأيامَ أَحَبُّ إِلَيَ مِنْ أَهْلِي (10) » هذا إنما قاله =(3/227)=@
__________
(1) قوله: ((بل سكت عنه)) كذا في (ح) و(ي)، وهو ليس موجودًا في (أ) و(ز) و(س). ولعله محرف عن: ((بلا شك فيه)) وإن كان في الكلام تكرار. قال الحافظ في "الفتح" (4/221- 222) في قول عطاء هذا أي: أن عطاء لم يحفظ كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصة إلا أنه حفظ أن فيها أنه قال: ((لا صام من صام الأبد)).
(2) في (ح): «من».
(3) تقدم في باب فضل صوم يوم عرفة.
(4) في (ح): ((من)).
(5) في (ح) و(ز) و(ي): «على».
(6) في باب: فضل صام يوم عرفة.
(7) في (ح): ((الصيام)).
(8) قوله: ((والله تعالى أعلم)) ليس في (ز).
(9) قوله: ((أعدل الصيام)) غير واضح في (ز). والرواية: ((وهو أعدل الصيام)).
(10) الرواية: ((الثلاثة الأيام التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )).(3/227)