وقوله: «إني لَبِعُقْرِ حوضي»؛ هو بضم العين، وسكون القاف، وهو مؤخره حيث تقف الإبل إذا وردته، وتُسكَّن قافه وتضم، فيقال: عُقْر وعُقُر، كعُسْر (1) وعُسُر، قاله في الصحاح. قال غيره: عُقْر الدار: أصلها - بفتح العين وقد (2) تضم -. %(3/942)%
__________
(1) قوله: «كعسر» لم تتضح في (أ).
(2) في (ح): «قد» بلا واو.(3/942)
وقوله: «أذود الناس لأهل اليمن»؛ يعني: السابقين من أهل اليمن الذين نصره الله بهم في حياته، وأظهر الدِّين بهم بعد وفاته، وقد تقدَّم أن المدينة من اليمن (1) ، وأنهم أحق بهذا الإكرام من غيرهم، لما ثبت لهم من سابق النُّصرة، والأثرة؛ ولذلك قال للأنصار: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض» (2) .
وأذود: أدفع؛ فكانه يطرِّق لهم مبالغة في إكرامهم حتى يكونوا أوَّل شارب، كما يفعل &(6/77)&$ بفقراء المهاجرين؛ إذ ينطلق بهم إلى الجنة، فيدخلهم الجنة قبل الناس كلهم (3) ؛ كما قد ثبت في الأحاديث (4) ، ولا يظن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يلازم المقام عند الحوض دائمًا، بل يكون عند الحوض (5) تارة، وعند الميزان أخرى، وعند الصراط أخرى، كما قد صحَّ عنه: أن رجلاً قال: أين أجدك يا رسول الله يوم القيامة ؟ قال (6) : «عند الحوض، فإنَّ لم تجدني (7) ، فعند الميزان، فإنَّ (8) لم تجدني، فعند الصراط، فإني لا أخطيء هذه =(6/96)=@ المواطن الثلاث (9) » (10) . وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يفارق أصحابه، ولا أمته في تلك الشدائد سعيًا في تخليصهم منها، وشفقة (11) عليهم - صلى الله عليه وسلم - ، ولا حالَ بيننا وبينه في تلك المواطن !
وقوله: «أضرب بعصاي حتى يرفضَّ»؛ بالمثناة من (12) تحت؛ أي: يضرب من أراد من الناس الشرب من الحوض قبل أهل اليمن، ويدفعهم عنه حتى يصل (13) أهل اليمن، فيرفضُّ الحوض عليهم؛ أي: يسيل، يقال: ارفضَّ الدمع: إذا سال.
وقوله: «يشخب (14) فيه ميزابان من الجنة»؛ أي: يسيل (15) ، وهو بالشين والخاء المعجمتين، والشخب - بالفتح في الشين - المصدر، وهو السيلان، وبالضم: الاسم. يقال %(3/943)%
__________
(1) في كتاب الإيمان، باب الإيمان يمان والحكمة يمانية. وقال النووي في "شرح مسلم" (15/62): «والأنصار من اليمن».
(2) تقدم في الزكاة، إعطاء المؤلفة قلوبهم، وفي الإمارة والبيعة، باب يصبر على أذاهم وتؤدى حقوقهم .
(3) قوله: «كلهم» سقط من (ح).
(4) إشارة إلى ما رواه مسلم في "صحيحه" (2979) من حديث عبداللع بن عمرو: إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا .
(5) قوله: «عند الحوض» سقط من (ك).
(6) قوله: «قال» مطموس في (ح).
(7) في (ح): «تجدني عند الحوض».
(8) في (ق): «وإن».
(9) في (ق): «الثلاثة».
(10) أخرجه أحمد في "المسند" (3/178) قال المحقق: رجاله رجال الصحيح، ومتنه غريب. ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (3/166/مخطوط)، والمزي في "تهذيب الكمال" (5/538). وأخرجه الترمذي في "سننه"(4/537 رقم2433) كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الصراط. واخرجه ابن ماجه في "التفسير" كما في "تهذيب الكمال" (5/538)، وأخرجه ابن عساكر أيضًا في "تاريخ دمشق" (3/165-166/مخطوط) من طرق. جميعهم من حديث حرب بن ميمون، عن النضر بن أنس، عن أنس بن مالك قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قال: قلت: يا رسول الله! فأين أطلبك؟ قال: «اطلبنى أول ما تطلبني على الصراط»، قال: قلت: فإن لم ألقاك على الصراط؟ قال: «فاطلبنى عند الميزان»، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: «فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطيء هذه الثلاث المواطن». هذا لفظ الترمذي .
قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه الا من هذا الوجه».
والحديث ذكره الخطيب البغدادي في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (1/100-101) عن علي بن المديني .
وكذا ذكره عبدالغني بن سعيد المصري في تعليقاته على "التاريخ الكبير" للبخاري .
وانظر تعليق الشيخ المعلمي رحمه الله على "التاريخ الكبير" (3/65-66).
تنبيه: سقط من "تاريخ دمشق" في الإسناد المتقدم (3/165-166/مخطوط) فجاء فيه: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدثنا حرمي بن حفص بن ميمون .... والصواب: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدثنا حرمي بن حفص، نا حرب بن ميمون .
وذلك من وجوه: الأول: أنه لا يوجد ترجمة لحرمي بن حفص بن ميمون هذا. الثاني: أن حرمي بن حفص وهو العتكي القسملي يروي عن حرب بن ميمون، كما في "تهذيب الكمال" (5/554) وغيره. الثالث: أن قريبًا من هذا الإسناد جاء على الصواب في"تاريخ دمشق" في عدة مواضع؛ منها (11/414/مخطوط). والله أعلم.
الفقرة التي جاء فيها المواطن الثلاثة جاء قريبًا منها في حديث أخرجه ابن الجوزي في "ألموضوعات" (2/29-36 رقم559) عن جابر بن عبدالله، وابن عباس رضي الله عنهما .
(11) في (ك): «وشفقته».
(12) في (أ) و(ح) و(ك): «المعجمة بالياء باثنتين من تحتها».
(13) في (ح): «يصل إلى».
(14) في (ق): «شخب»
(15) في (ك): «تسيل».(3/943)
في المثل: شُخب في الأرض وشُخب في الإناء. وأصل ذلك في الحالب المفرط. وفي الرواية الأخرى:«يَغُتُّ» (1) بالغين المعجمة، وبالمثناة فوق (2) ؛ هي الرواية المشهورة، ومعناه (3) : الصبُّ المتوالي، المتتابع. وأصله: إتباع الشيء الشيء (4) ؛ يعني: أنه يصب دائمًا متتابعًا صبًا شديدًا سريعًا، وقد رواه العذري: «يَعُبُّ» بالعين المهملة، وبالموحدة (5) ، وكذا ذكره الحربي (6) ، وفسَّره بالعَبِّ، وهو شرب الماء جرعة بعد جرعة، ورواه ابن ماهان: «يثعب» بثاء مثلثة قبل العين المهملة، ومعناه (7) : يتفجَّر ويسيل (8) ، ومنه: وجرحه (9) يثعب دمًا. =(6/97)=@
وقوله: «يَمُدَّانه (10) من الجنة»؛ فصيحه: يمدانه (11) بفتح الياء (12) ، وضم الميم ثلاثيًّا من مدَّ النهر، ومدَّه نهرٌ آخر. فأمَّا (13) الرباعي فقولهم: أمددت الجيش بمدد، وقد &(6/78)&$ جاء الرباعي في الأول. ومعناه: الزيادة على الأول فيهما.
واختُلِجُوا: أخرجوا من بين الواردين. وأُصيحابي (14) : تصغير أصحاب (15) على غير قياس. ولابتا الحوض: جانباه اللذان من خارجه حيث يكون (16) شدَّة الحر والعطش، وأصل اللابة: الْحَرَّة؛ وهي أرض ألبست حجارة سودًا، ومنه: لابتا المدينة، كما تقدَّم. وسُحقًا سُحقًا: بُعدًا بُعدًا. والسحيق (17) : المكان البعيد (18) (19) . =(6/98)=@ %(3/944)%
__________
(1) مسلم (4/1799 رقم230) باب اثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وصفاته، من كتاب الفضائل .
(2) في (أ) و(ح) و(ك): «والتاء باثنتين من فوقها».
(3) في (ك): «ومعناها».
(4) قوله: «الشيء» الثانية سقط من (ك) وفي (ح): «الشيء بالشيء»..
(5) في (أ) و(ح) و(ك): «وباء بواحدة».
(6) في (ح): «البخاري».
(7) في (ك): «ومعناها».
(8) في (ب) و(ح): «تتفجر وتسيل»، وفي (ق) و(م): «تنفجر وتسيل».
(9) من قوله: «يثعب بثاء مثلثة ....» إلى هنا سقط من (أ).
(10) في (ق): «تمدانه».
(11) في (ق): «تمدانه».
(12) في (ق): «التاء».
(13) في (ك): «وأما».
(14) في (أ): «وأصيحابه».
(15) في (ح): «أصحابي».
(16) في (أ): «تكون».
(17) في (ك): «والسحق».
(18) زاد بعدها في (أ): «كمل السفر السادس بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد نبيه وعبده يتلوه في السابع ومن باب شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك عشية السابع من شهر جمادي للهجرة من سنة تسع وعشرين وسبع ماية على يد كاتبه لنفسه العبد الفقير إلى عفو ربه محمد بن عبد الرحمن ابن عوض بن عبد الخالق بن عبد المنعم بن يحيى بن حسن البكري القرشي الصديقي غفل الله لكاتبه ولوالده- ولجميع المسلمين آمين وذلك بدهر وطرق صعيد مصر حرس الله الجميع وهماه من جميع الأعداء بحمد الله وأصحابه.
(19) إلى هنا انتهت نسخة (أ).(3/944)
- - - - -
ومن باب: شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوده وحُسن خلقه
قوله (1) : «فزع أهل المدينة»؛ أي: ذعروا من عدوٍّ دهمهم، وقد قدمنا أن الفزع يقال على أوجه متعددة، و «لم تراعوا»؛ أي: لم يصبكم روعٌ، أو لا روع عليكم.
وقوله: «وجدناه بحرًا»؛ يعني: الفرس؛ أي: وجدناه (2) يجري كثيرًا جريًا (3) متتابعًا كالبحر. وقد تقدَّم: أن أصل البحر: السَّعة، والكثرة. ويقال: فرس سحبٌ (4) ، وبحرٌ، وسكب وسحَّ (5) ، وفيض، وغمر: إذا كان سريعًا، كثير الجري، شديد العدو .
وقوله: «وكان فرسًا يُبَطَّأ»؛ أي: يُنسب البطء إليه، ويعرف به، فلما ركبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدركته بركته؛ فسابق الجياد، وصار (6) نعم العتاد. والرواية =(6/99)=@ المشهورة: يبطأ بالمثناة تحت والموحدة (7) ، من البطء: ضد السرعة، وعند الطبري &(6/79)&$ :«ثبطا (8) »؛ أي: ثقيلاً. وهو بمعنى الأول. والفرس العري (9) الذي لا سرج عليه (10) ، يقال: فرس عري وخيل أعراء. ويقال: رجل عريان، ورجال عرايًا .
وفي هذا الحديث ما يدلُّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد جمع له من جودة ركوب الخيل، والشجاعة، والشهامة، والانتهاض الغائي في الحروب، والفروسية وأهوالها (11) ، ما لم يكن عند أحد من الناس، ولذلك (12) قال أصحابه عنه: إنه كان أشجع الناس، وأجرأ الناس في حال (13) الباس، ولذلك(2) قالوا: إن الشجاع منهم كان الذي يلوذ بجنابه إذا التحمت الحروب (14) ، وناهيك به؛ فإنَّه ما ولَّى قطٌّ منهزمًا، ولا تحدَّث أحد (15) عنه قط (16) بفرار.
ومندوب: اسم علم لذلك الفرس. وقيل: %(3/945)%
__________
(1) في (ك): «وقوله».
(2) من قوله: «بحرًا ....» إلى هنا سقط من (ك).
(3) في (ك): «جريًا كثيرًا».
(4) قوله: «سحب» سقط من (ب) و(ح) و(ك).
(5) قوله: «وسح» سقط من (ق) و(م).
(6) قوله: «الجياد وصار» لم يتضح في (ح).
(7) في (ح) و(ك): «بالياء باثنتين من تحتها والباء بواحدة».
(8) في (ق): «ثبط».
(9) في (ح): «العربي».
(10) قوله: «عليه» لم يتضح في (ح).
(11) في (ح) و(ق): «وأحوالها».
(12) في (ك): «وكذلك».
(13) في (ح) و(ك): «حالة».
(14) تقدم في الجهاد والسير، باب غزوة حنين .
(15) قوله: «أحد» سقط من (ق).
(16) قوله: «قط» سقط من (ح).(3/945)
إنه سُمِّي بذلك لأنه كان يسبق، فيجوز النَّدب، وهو: الخطر الذي يجعل للسابق، وكأنه إنما حدث له هذا الاسم بعد أن رَكِبَهُ رسول (1) الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد ذكر أنه كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرس يسمى مندوبًا (2) ، فيحتمل أن يكون هذا الفرس انتقل من ملك أبي طلحة إلى ملك النبي - صلى الله عليه وسلم - إما بالهبة، أو بالابتياع (3) ، ويحتمل أن يكون فرسًا آخر وافقه في ذلك الاسم، والله تعالى أعلم.
وقول سعد: «رأيت عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما (4) ثياب بياض (5) ، يقاتلان عليه كاشدِّ القتال». قال، يعني: جبريل وميكائيل =(6/100)=@ &(6/80)&$ صلَّى الله عليهما وسلم. رؤية سعد رضي الله عنه لهذين الملكين في ذلك اليوم (6) : كرامة من الله تعالى خصَّه بها، كما قد خصَّ عمران بن حصين بتسليم الملائكة عليه (7) ، وأسيد بن حضير برؤية الملائكة الذين تنزلوا لقراءة (8) القرآن، وقتال الملائكة للكفار (9) يوم بدر، ويوم?أحد لم يخرج (10) عن عادة القتال المعتاد بين الناس، ولو أذن الله تعالى لملك من أولئك الملائكة بأن يصيح صيحة واحدة (11) في عسكر العدو لهلكوا (12) في لحظة %(3/946)%
__________
(1) في (ق): «النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(2) ذكر ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/489) أسماء خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يذكر منها مندوبًا هذا. كما ذكرها الطبري في "تاريخه" (2/218) باب أسماء خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يذكر مندوبًا. زكذلك ذكرها الكتاب في "التراتيب الإدارية" (1/331)، ولم يذكر مندوبًا منها.
(3) في (ق): «وإما بالإنتفاع».
(4) في (ق): «رجلين يوم أحد وعليهما».
(5) في (ك): «بيض»، وهي رواية أخرى عند مسلم (2306).
(6) في (ح): «الوقت».
(7) تقدم في الحج، باب الاختلاف في أي أنواع الإحرام أفضل .
(8) قوله: «لقراءة» سقط من (ك).
(9) في (ك): «الكفار».
(10) في (ق): «لم تخرج».
(11) قوله: «واحدة» من (ق) و(م) فقط وليس في (ح) .
(12) في (ق): «فيهلكوا».(3/946)
واحدة، أو لخسف بهم (1) موضعهم، أو أسقط عليهم قطعة من الجبل المطل (2) عليهم، لكن لو كان (3) ذلك: لصار (4) عيانًا، والإيمان بالغيب مشاهدة، فيبطل في التكليف (5) ، فلا يتوجَّه لوم، ولا تعنيف، كما قد صرَّح الله تعالى بذلك قولاً وذكرًا (6) ؛ إذ قال : } يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا { (7) .
- - - - -
وقوله: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أجود الناس»؛ أي: أكثرهم جودًا وسخاءً. =(6/101)=@ هذا هو المعلوم من خُلُقِه ؟ فإنَّه ما سئل (8) شيئًا فمنعه إذا كان مما يصح بذله وإعطاؤه.
وقوله: «وكان أجود ما (9) يكون في رمضان»؛ إنما كان ذلك لأوجه: &(6/81)&$
أحدها: رغبته (10) في ثواب (11) شهر رمضان، فإنَّ أعمال الخير فيه مضاعفة الأجر (12) ، وليعين الصائمين على صومهم، وليفطرهم، فيحصل له مثل أجورهم كما قال (13) ، ولأنه كان يلقى فيه جبريل لمدارسة القرآن، فكان يتجدد إيمانه، ويقينه، وتعلو مقاماته، وتظهر عليه بركاته، فيا له من لقاء ما أكرمه، ومن مشهد (14) ما أعظمه ! وقيل: إنما كانت عطاياه تكثر في رمضان؛ لأنَّه كان يقدَّم الصدقات بين يدي مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى : } إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة { (15) ، وفيه بُعد؛ لأنه قد كان (16) نسخ ذلك، ولاستبعاد دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : } يا أيها الذين آمنوا { الآية. لبُعد دخول جبريل في قوله تعالى: } إذا ناجيتم الرسول { .
و «أجود»: قيل (17) بالنصب %(3/947)%
__________
(1) في (ك): «ولخسف بهم في».
(2) في (ق): «المظل».
(3) قوله: «كان» سقط من (ك).
(4) في (ق): «الخير».
(5) في (ح) و(ق): «فيبطل سر التكليف».
(6) في (ك): «أو ذكرًا».
(7) الآية (158) من سورة الأنعام .
(8) في (ح) و(ق): «ما سئل قط شيئًا».
(9) في (ق): «مما».
(10) في (ق) و(م): «رغبة».
(11) قوله: «ثواب» سقط من (ك).
(12) لم أجد فيه سوى حديثين؛ أحدهما رواه ابن خزيمة (3/191) باب فضائل شهر رمضان إن صح الخبر: حدثنا علي بن حجر السعدي، ثنا يوسف بن زياد، ثنا همام بن يحيى، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر يوم من شعبان فقال: أيها الناس! قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك ...، إلى ان قال: من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ... .
وفيه: يوسف بن زياد البصري، قال عنه البخاري: منكر الحديث، كما في "الكامل" لابن عدي (7/170 برقم 2077). وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(9/222 رقم928): سمعت أبي يقول: هو منكر الحديث. وقال الخطيب في "تاريخ بغداد" (14/296): يوسف بن زياد البصري سكن بغداد وحدَّث بها عن إسماعيل بن خالد، روى عنه علي بن حجر المروزي. قلت وهو السعدي كما في "الكاشف. ثم روى الخطيب عن النسائي، عن أبيه؛ أنه ليس بثقة. وروى عن الساجي؛ أنه منكر الحديث. وفيه علي بن زيد بن جدعان، قال عنه الحافظ في "التقريب": ضعيف .
والحديث الثاني رواه رواه الطبراني في "الصغير"(2/16) فقال: حدثنا عبد الملك بن محمد أبو نعيم الجرجاني ببغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين، حدثنا عمار بن رجاء الجرجاني، حدثنا أحمد بن أبي طيبة، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أم هانئ قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن أمتي لن تخزى ما أقاموا شهر رمضان ...، فإن الحسنات تضاعف فيه ما لا تضاعف فيما سواه، وكذلك السيئات».
ثم قال: «لم يروه عن الأعمش إلا بن أبي طيبة، ولا عنه إلا ابنه، ولا يروى عن أم هانئ إلا بهذا الإسناد، تفرد به عمار بن رجاء».
روى ابن عدي في "الكامل" (5/256) بسنده عن يحيى بن معين قال: أحمد بن أبي طيبة الجرجناني ثقة، وأبوه أبو طيبة ضعيف. ثم أورد ابن عدي أحاديث من مناكيره منها هذا الحديث. وذكر أنه روي عن أبي هريرة بسند مظلم أيضًا .
وأورده ابن أبي حاتم في "العلل" (1/266 برقم 783) ثم قال: فسمعت أبي يقول: هذا حديث موضوع عندي، يشبه أن يكون من حديث الكلبي.
وقال ابن عبدالبر في "جامع العلوم والحكم" (1/352) الحديث (37): وقد روي في حديثين مرفوعين: أن السيئات تضاعف في رمضان، ولكن إسنادهما لا يصح. ولعله يشير إلى هذين الحديثين. والله أعلم .
(13) تقدم تخريجه في الجهاد والسير، باب فضل الحمل في سبيل الله، ومن دال على خير .
(14) في (ك): «شهر».
(15) الآية (12) من سورة المجادلة .
(16) في (ك) و(ح): «كان قد».
(17) في (ح) و(ق): «قيد» بدل «قيل».(3/947)
على أنه خبر كان، وفيه بُعد؛ لأنَّه يلزم منه: أن يكون خبرها هو اسمها، وذلك: لا يصح إلا بتأويل بعيد، والرفع أولى؛ لأنَّه يكون مبتدأ مضافًا إلى المصدر، وخبره: في رمضان، وتقديره: أجود أكوانه في رمضان، ويعني (1) بالأكوان: الأحوال، والله أعلم.
وقوله: «إن جبريل - صلى الله عليه وسلم - كان يلقاه في كل سنة في رمضان»؛ يصلح الكسرفي «إن» على الابتداء، والفتح فيه (2) أولى، فيكون تعليلاً لجود (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، وكان هذا الوجه أولى. والله أعلم. ولا أذكر الآن (4) كيف قيَّدتها (5) على من قرأتُه عليه. =(6/102)=@
وقوله: «كان أجود من الريح المرسلة»؛ أي: بالمطر، وفيه جواز المبالغة، والإغياء (6) في الكلام. و «أف» كلمة ذم وتحقير (7) واستقذار، وأصل الأفِّ والتفِّ: &(6/82)&$ وسخ الأظفار، وفيها (8) : عشر لغات: أفّ بغير تنوين بالفتح والضم والكسر، وبالتنوين للتنكير (9) مع الأوجه الثلاثة (10) ، وبكسر الهمزة وفتحها، ويقال: أُفِّي وأُفِّه. وفي الصحاح، يقال: كان ذلك على إفّ ذلك، وإفَّانِه (11) - بكسرهما -؛ أي: في (12) حينه، وأوانه. %(3/948)%
__________
(1) في (ح): «ونعني».
(2) في (ك): «فيها». ومن قوله: «والله أعلم ...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ق): «يجود».
(4) في (ح): «الا ان» بدل «الآن».
(5) في (ك): «قيدته».
(6) في (ك): «والإعياء».
(7) في (ح): «وتحقر».
(8) في (ك): «وفيه».
(9) في (ح) يشبه «للتكثير».
(10) قوله: «الثلاثة» سقط من (ك).
(11) في (ك): «وإبانه».
(12) قوله: «في» سقط من (ح) وق).(3/948)
وقول أنس: «والله لا أذهب (1) ! وفي نفسي أن أذهب»؛ هذا القول: صدر عن =(6/103)=@ أنس في حال (2) صغره، وعدم كمال تمييزه؛ إذ لا يصدر مثله ممن كمل تمييزه. وذلك: أنه حلف بالله على الامتناع من فعل ما أمره به (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشافهة، وهو عازمٌ على فعله، فجمع بين مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الإخبار بامتناعه، والحلف بالله على نفي ذلك مع العزم على أنه كان (4) يفعله، وفيه ما فيه، ومع ذلك فلم يلتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء من ذلك، ولا عرَّج عليه، ولا أدبه. بل داعبه، وأخذ بقفاه، وهو يضحك رفقًا به، واستلطافًا له، ثم قال: «يا أنيس (5) ! اذهب حيث أمرتك»، فقال له (6) : أنا أذهب. وهذا كله مقتضى (7) خلقه الكريم، وحلمه العظيم.
وقد (8) اختلفت الروايات في مدَّة خدمة أنس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل: عشر. وقيل: تسع، وذلك بحسب اختلافهم في سَنَةِ مقدم (9) النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة (10) . فقال الزهري: عن أنس (11) - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وأنا ابن عشر، وتوفي وأنا ابن عشرين (12) سنة. &(6/83)&$
قال الشيخ رحمه الله: فعلى هذا خدمه عشر سنين، إن قلنا: أنه خدمه من أول مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ويحتمل: أن تكون تأخرت خدمته عن ذلك سنة فتكون مدة =(6/104)=@ خدمته له: تسع سنين. وقيل: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - (13) وأنس ابن ثماني (14) سنين. %(3/949)%
__________
(1) في (ح): «والله لأذهب».
(2) قوله: «حال» سقط من (ك).
(3) في (ك): «ما أمر به».
(4) قوله: «كان» سقط من (ح) و(ك).
(5) في (ح): «يا نيس».
(6) قوله: «له» سقط من (ح).
(7) في (ح): «بمقتضى».
(8) في (ك): «ولقد».
(9) في (ح): «في مقدم» وفي (ق): «فقدم».
(10) قوله: «المدينة» سقط من (ك).
(11) أخرجه الطبراني ف ي"الكبير" (1/248 رقم705)، والحاكم (3/573)، والبيهقي (7/285). ثلاثتهم عن سفيان الزهري: عن أنس - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وأنا ابن عشر سنين، وتوفي وأنا ابن عشرين. وسنده صحيح .
(12) في (ك): «عشرون».
(13) في (ح) و(ك): «قد النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة».
(14) في (ح): «ثمان».(3/949)
وقوله: «فأعطاه غنمًا بين جبلين»؛ يعني: ملء ما بين جبلين كانا هنالك، وكان هذا - والله أعلم - يوم حنين لكثرة ماكان (1) هنالك من غنائم الإبل، والبقر، والغنم (2) ، والذراري، ولأن هذا الذي اعطي هذا القدر كان من المؤلفة قلوبهم؛ ألا ترى أنه رجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام لأجل العطاء.
وقوله: «إن كان الرجل ليسلم ما يريدإلا الدنيا»؛ يعني: أنهم كان منهم (3) من ينقادُ فيدخلُ في الإسلام لكثرة ما كان يعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - من يتألفه (4) على الدخول فيه، فيكون قصده بالدخول فيه الدنيا، وهذا كان (5) حال الطلقاء يوم حنين على ما مرَّ . &(6/84)&$
وقوله: «فما يسلم حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها»؛ ظاهر =(6/105)=@ مساق هذا الكلام أن إسلامه الأول لم يكن إسلامًا صحيحًا؛ لأنَّه كان يبتغي به الدنيا؛ وإنما يصحُّ له الإسلام إذا استقر (6) الإسلام بقلبه، فكان آثر عنده، وأحبّ إليه من %(3/950)%
__________
(1) قوله: «كان» سقط من (ح).
(2) انظر ما تقدم في كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم .
(3) في (ح): «يستألفه».
(4) في (ق): «أن منهم».
(5) في (ح): «وهكذا كان».
(6) قوله: «استقر» لم يتضح في (ح).(3/950)
الدنيا وما عليها، كما قال تعالى : } قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا { (1) . وهذا معنى صحيح، ولكنه (2) ليس بمقصود الحديث؛ وإنما مقصود أنس من الحديث: أن الرجل كان يدخل في دين الإسلام رغبة في كثرة العطاء، فلا يزال يُعطى حتى ينشرح صدره للإسلام، ويستقر فيه، ويتنور بأنواره، حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما فيها، كما (3) صرَّح بذلك صفوان حيث قال: والله &(6/85)&$ لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليَّ. وهكذا اتفق لمعظم المؤلفة قلوبهم (4) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لجابر: «لو قد جاءنا مال البحرين لأعطيناك (5) هكذا، وهكذا، =(6/106)=@ وهكذا» وقال بيديه جميعًا؛ هذا يدلّ على سخاوة نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمال (6) ، وأنه ما %(3/951)%
__________
(1) الآية (24) من سورة التوبة .
(2) في (ح) و(ق): «لكنه» بلا واو.
(3) في (ح): « كما قد».
(4) قوله: «قلوبهم» سقط من (ح).
(5) في (ح) و(ق): «لأعطيتك».
(6) قوله: «بالمال» سقط من (ح).(3/951)
كان لنفسه به تعلق، فإنَّه كان (1) لا يعدُّه بعدد، ولا يقدره (2) بمقدار، لا عند أخذه، ولا عند بذله. وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - كان (3) وعدًا لجابر رضي الله عنه، وكان المعلوم من خلقه الوفاء بالوعد، ولذلك نفذه له أبو بكر رضي الله عنه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهكذا كان (4) خلق أبي بكر، وخلق الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم، ألا ترى أبا بكر رضي الله عنه كيف نفذ عدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجابر بقول جابر، ثم إنه دفعها له على نحو ما قال من غير تقدير ؟ ! وأخبارهم في ذلك معروفة، وأحوالهم موصوفة، وكفى بذلك ما سار مسير (5) المثل الذي لم يزل (6) يجري على (7) قول علي (8) - رضي الله عنه - : يا صفراء ويا بيضاء غري غيري (9) . =(6/107)=@ %(3/952)%
__________
(1) في (ح): «ما كان لا».
(2) في (ق): «ولا يقدر».
(3) قوله: «كان» سقط من (ح).
(4) في (ح) و(ك) و(ق): «كانت».
(5) في (ح): «ما سار سير» وفي (ق): «ما صار مصير».
(6) قوله: «يزل» سقط من (ح).
(7) قوله: «على» سقط من (ب) و(ك).
(8) قوله: «علي» سقط من (ح).
(9) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1/531-532 رقم884) عن وهب بن إسماعيل، عن محمد بن قيس، عن علي بن ربيعة الوالبي، عن علي بن أبي طالب، قال: جاءه بن التياح، فقال: يا أمير المؤمنين! امتلأ بيت مال المسلمين من صفراء وبيضاء، قال: الله أكبر! قال: فقام متوكيًا على بن التياح، حتى قام على بيت مال المسلمين، فقال: هذا جناي وخياره فيه، وكل جان يده إلى فيه، يا ابن التياح! علي بأشياخ الكوفة، قال: فنودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت المسلمين، وهو يقول: يا صفراء يا بيضاء غري غيري ... حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم، ثم أمر بنضحه، وصلى فيه ركعتين .(3/952)
- - - - -
ومن باب: رحمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصبيان والعيال
قوله: «وأملك أن كان الله (1) نزع الرَّحمة من قلبك ؟!» كذا وقع هذا اللفظ محذوف همزة الاستفهام، وهي مرادة، تقديره: أو أملك ؟ وكذا جاء هذا اللفظ في البخاري بإثباتها، وهو الأحسن؛ لقلة حذف همزة الاستفهام. و «أن» مفتوحة، وهي مع الفعل بتأويل المصدر، تقديرها: أو أملك كون الله نزع الرَّحمة من قلبك ؟! وقد أبعد من كسرها، ولم تصح رواية الكسر. ومعنى الكلام: نفي &(6/86)&$ قدرته - صلى الله عليه وسلم - عن الإتيان بما نزع الله تعالى من قلبه من الرحمة. والرحمة في حقِّنا: هي رقَّة (2) وحُنُوّ يجده الإنسان من (3) نفسه عند مشاهدة مبتلى، أو ضعيف، أو صغير، يحمله على الإحسان إليه، واللطف به، والرفق، والسعي في كشف ما به. وقد جعل الله تعالى هذه الرحمة في الحيوان كله - عاقله وغير عاقله - فبها تعطف الحيوانات على نوعها، وأولادها، فتحنو عليها، وتلطف بها في حال ضعفها وصغرها. وحكمة هذه الرحمة تسخير القوي للضعيف، والكبير للصغير حتى ينحفظ نوعه، وتتم مصلحته، وذلك تدبير اللطيف الخبير. وهذه الرحمة التي جعلها (4) الله تعالى في القلوب في =(6/108)=@ هذه الدار، وتحصل عنها هذه المصلحة العظيمة هي رحمة واحدة من مائة رحمة ادَّخرها الله تعالى ليوم القيامة (5) ؛ فيرحم بها عباده المؤمنين وقت أهوالها، وشدائدها حتى يخصَّهم (6) منها، ويدخلهم في جنته، وكرامته. ولا يفهم من هذا أن الرحمة التي وصف الحقُ بها نفسه هي رقَّة وحُنُو، %(3/953)%
__________
(1) لفظ الجلالة ليس في (ك)، وشطب من (ح).
(2) في (ك): «الرقة».
(3) في (ق): «في» بدل «من».
(4) في (ح): «جعل» بدل «جعلها».
(5) سيأتي في الرقاق، باب في رجاء مغفرة الله تعالى .
(6) في (ح) و(ق): «يخلصهم».(3/953)
كما هي في حقِّنا؛ لأنَّ ذلك تغيُّر (1) يوجب للمتصف به الحدوث، والله تعالى منزه ومقدَّس عن ذلك، وعن نقيضه الذي هو القسوة، والغلظ؛ وإنما ذلك راجعٌ في حقه (2) إلى ثمرة تلك الرأفة، وفائدتها، وهي: اللطف بالمبتلى، والضعيف، والإحسان إليه، وكشف ما هو فيه من البلاء، فإذا هي في حقه سبحانه وتعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات، وهذا كما تقدَّم في غضبه تعالى ورضاه (3) في (4) غير موطن (5) . وإذا تقرر هذا؛ فمن خلق الله تعالى فى قلبه هذه الرحمة الحاملة له على الرفق، وكشف ضر &(6/87)&$ المبتلى، فقد رحمه الله سبحانه وتعالى (6) بذلك في الحال، وجعل ذلك علامة على رحمته إياه في المآل، ومن سلب الله تعالى ذلك المعنى منه (7) ، وابتلاه بنقيض ذلك من القسوة والغلظ، ولم (8) يلطف بضعيف، ولا أشفق على مبتلى، فقد أشقاه في الحال، وجعل ذلك علمًا على شقوته في المآل، نعوذ بالله من ذلك، ولذلك قال النبي (9) - صلى الله عليه وسلم - : «الراحمون يرحمهم الرحمن» (10) . وقال: «لا يرحم الله من عباده إلا الرحماء» (11) . وقال: «لا تنزع =(6/109)=@ الرحمة إلا من شقي» (12) ، وقال: «من لا يَرحم لا يُرحم» (13) .
وفي هذه الأحاديث ما يدلّ على جواز تقبيل الصغير على جهة الرحمة. والشفقة، وكراهة (14) الامتناع من ذلك على جهة الأنفة. وهذه القبلة هي (15) على الفم، ويكره مثل ذلك (16) في الكبار؛ إذ (17) لم يكن ذلك معروفًا في الصدر الأول، ولا يدل (18) على شفقة. فإما تقبيل الرأس فإكرام عند من جرت عادتهم بذلك كالأب والأم. وأما (19) تقبيل اليد فكرهه مالك، ورآه (20) من باب الكبر، وإذا كان ذلك (21) مكروهًا في اليد كان أحرى وأولى في الرِّجْل، وقد أجاز تقبيل اليد والرِّجل بعض الناس، مستدلاً بأن اليهود قبَّلوا يد (22) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجليه حين سألوه عن مسائل، فأخبرهم بها (23) ، ولا حجة في ذلك؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نزهه الله (24) عن الكبر، وأمن ذلك &(6/88)&$ عليه، وليس كذلك غيره؛ ولأن (25) ذلك أظهر من اليهود تعظيمه، واعتقادهم صدقه، فأقرَّهم على ذلك ليتبيِّن للحاضرين - %(3/954)%
__________
(1) في (ح): يشبه «تغيير».
(2) في (ق): «حقنا».
(3) قوله: «ورضاه» سقط من (ح).
(4) في (ح): «من».
(5) هذا على مذهب الأشاعرة - أهل الكلام - المجانب لعقيدة السلف الصالح من الصحابة الكرام ومن تبعهم، الذين يثبتون صفات الله تعالى وأسماءه حقيقة لا مجازًا كما يليق به سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل، فالقول في الأسماء والفات كالقول في الذات، ووصف الله تعالى بالرحمة لا يوهم ما ذكره المصنف رحمه؛ لأنها رحمة مضافة إلى الله سبحانه الذي لا تشبه صفاته الصفات؛ لن ذاته لا تشبه الذوات، وصدق الله العظيم : } ليس كمثله شيء وهو السميع البصير { ، ويرد بهذا على كل تأويل لأسماء الله تعالى وصفاته بناءً على الأصول الفلسفية والكلامية الفاسدة .
(6) في (ح): «تعالى» بلا واو. وفي (ق): «رحمه الله تعالى».
(7) في (ح) و(ك): «عنه».
(8) قوله: «ولم» سقط من (ك) وفي (ح) «فلم».
(9) قوله: «النبي» ليس في (ح).
(10) أخرجه الحميدي (2/269 و269-270 رقم591 و592)، وعنه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/64)، وأخرجه ابن أبي شيبة (5/215 رقم25346) في الأدب، باب ما ذكر في الرحمة من الثواب، وأحمد (2/160)، وأبو داود (5/231 رقم4941) في الأدب، باب في الرحمة، والترمذي (4/285 رقم1924) في البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين، والحاكم (4/159)، والبيهقي (9/41)،والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (3/181 رقم2318). جميعهم من طريق سفيان، عن عمرو، عن أبي قابوس، عن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله».
قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في "الصحيحة" (2/594-596 رقم925)، وحكى تصحيحه عن الخرقي، والعراقي، وابن ناصر الدين الدمشقي .
وفي سنده: أبو قابوس، قال الذهبي في "الميزان" (4/563 رقم10522): «لا يعرف، تفرد به عن عمرو بن دينار ،وقد صحح خبره الترمذي».
وفي "التقريب" (ص1192 رقم8373: مقبول .
(11) تقدم في الجنائز، باب ما جاء في البكاء على الميت، بلفظ: «يرحم الله من عباده الرحماء»،وهو اللفظ المتفق عليه. أما الرواية التي أوردها المؤلف فهي إحدى روايات البخاري برقم (5655).
(12) أخرجه الطيالسي (ص330 رقم2529)، وابن أبي شيبة (5/215 رقم25321) في الأدب، باب ما ذكر في الرحمة من الثواب. وأحمد (2/30 و442 و461 و539)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1/466 رقم374)، وأبو داود (5/232 رقم4942) في الأدب، باب في الرحمة، والترمذي (4/285 رقم1923) في البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين، وأبو يعلى (10/526 رقم6141)، و(12/7 رقم6652)، وابن حبان (2/209 و213 رقم462 و466/الإحسان)، والحاكم (4/248-249)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (2/6 رقم772)، والبيهقي (8/161) جميعهم من طريق منصور بن المعتمر، عن أبي عثمان مولى المغيرة بن شعبة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي». قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال المنذري في "الترغيب" (3/150): وفي بعض النسخ: حسن صحيح .
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو عثمان هذا: هو مولى المغيرة، وليس بالنهدي، ولو كان النهدي لحكمت بصحته على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي .
وحسنه الألباني في "صحيح الدب المفرد" (ص149 رقم374), ونقل المناوي في "الفيض" (6/422) عن البيهقي وابن الجوزي أنهما قالا: إسناد صالح .
(13) هذا من أحاديث الباب .
(14) في (ك): «كراهية».
(15) قوله: «هي» سقط من (ق).
(16) في (ح): «ويكره مثلها».
(17) في (ك): «إذا».
(18) في (ح): «تدل».
(19) في (ك): «فأما».
(20) في (ك): «ورواه».
(21) قوله: «ذلك» سقط من (ح).
(22) في (ح): «يدى»، في (ك): «أيدى».
(23) سنده ضعيف، انظر "سنن سعيد بن منصور"(ق631-633 رقم1317) بتحقيقي.
(24) اسم الجلالة ليس في (ك).
(25) في (ح) و(ك): «لأن» بلا واو.(3/954)
بإذلالهم أنفسهم له - ما عندهم من معرفتهم بصدقه، وأن كفرهم بذلك عناد وجحد. ولو فهمت الصحابة - رضي الله عنهم - جواز تقبيل يده ورجله لكانوا أوَّل (1) سابق إلى ذلك، فيفعلون ذلك به دائمًا وفي كل وقت، كما كانوا يتبركون ببزاقه، ونخامته (2) ، ويدلكون بذلك وجوههم، ويتطيبون بعرقه (3) ، ويقتتلون على وضوئه(2)، ولم يرو قطُّ (4) عن واحد منهم بطريق صحيح أنه قبل له يدًا ولا رجلاً (5) ؛ فصحَّ ما قلناه، والله ولي التوفيق. =(6/110)=@
وقوله: «وكان ظئره قينا»؛ الظئر: أصله اسم للمرضعة. ثم قد (6) يقال على زوجها صاحب اللَّبن ذلك. قال الخليل: ويقال للمذكر والمؤنث. وقال أبو حاتم: الظُئْر من الناس والإبل: إذا عَطَفَت على ولد غيرها، والجمع (7) : ظُؤَار (8) . وقال (9) ابن السكيت: لم يأت فُعال بضم الفاء جمعًا إلا تُؤام جمع تَوْءَم (10) ، وظؤار جمع ظئر، وعراق جمع عرق، ورُخال جمع رِخْل (11) ، وفُرارٌ جمع فَرِير (12) : وهو ولد الظبية. وغنمٌ رُبابٌ: جمع شاة رُبَّى (13) . قال ابن ولاد: وهي حديثة (14) عهد بنتاج. وقال ابن الأنباري: تجمع الظئر: ظُؤَارًا (15) ، أظؤرًا (16) ، ولا يقال: ظؤرة. وحكى أبو زيد في (17) جمعه: ظؤرة. قال (18) الهروي: ولا يجمع على فُعْلةٍ إلا أربعة أحرف: ظِئْرٌ، وظُؤرة، وصاحبٌ، وصحبة، وفارِةٌ وفُرْهةٌ، ورائق وروقة. وفي الصحاح: الظئر - مهموز - والجمع ظُؤار على فعال بالضم. وظؤور وأظآر.
و «القين»: الحداد. و «القَيْن»: العبد. و «القيْنة»: الأمة؛ مغنية (19) كانت أو غير مغنية. وقد غلط من ظنها: المغنية فقط. والجمع: القيان. قال زهير (20) :
ردَّ القِيانُ جِمال الحيِّ فاحتَمَلُوا إلى الظَّهِيرة (21) أَمر بينهم (22) لَبِكُ
قال الشيخ رحمه الله: وأصل (23) هذه اللفظة من: اقتان (24) النبت (25) اقتنانًا؛ أي: حَسُنَ، واقتانت &(6/89)&$ الروضة: أخذت زخرفها، ومنه قيل للماشطة: قينة، ومُقيِّنَة؛ لأنَّها تزيِّن النساءَ، شُبهت بالأمة؛ لأنَّها تُصلح البيت وتزينه (26) . %(3/955)%
__________
(1) في (ح): «أول من».
(2) أخرجه البخاري (5/329-333 رقم2731 و2732) في الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط.
(3) سيأتي برقم (2243).
(4) قوله: «قط» سقط من (ك).
(5) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (2/23 و70)، والبخاري في "الأدب المفرد" (2/436-437 رقم972)، وابن ماجه (2/1221 رقم3704) في الأدب، باب الرجل يقبل يد الرجل، وأبو داود (3/106-107 رقم2647) في الجهاد، باب في التولي يوم الزحف، و(5/393-394 رقم5223) في الأدب، باب قبلة اليد. جميعهم من طريق يزيد بن أبي زياد: أن عبدالرحمن بن أبي ليلى حدثه: أن عبد الله بن عمر حدثه؛ أنه كان في سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، قال : فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فقلنا: ندخل المدينة فنتثبت فيها، ونذهب ولا يرانا أحد، قال: فدخلنا، فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا، قال: فجلسنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه، فقلنا: نحن الفرارون، فأقبل إلينا فقال: «لا بل أنتم العكارون»، قال: فدنونا فقبلنا يده، فقال: «أنا فئة المسلمين».
وهو عند الحميدي (2/302 رقم687)، وأحمد (2/58 و86 و99 و100 – 110 و111)، والترمذي (4/186-187 رقم1716) في الجهاد، باب ما جاء في الفرار من الزحف، وابن الجارود (3/305-306 رقم1050/غوث)، وأبو يعلى (9/446-447 رقم5596)، والبيهقي (9/76 و76-77). جميعهم من طريق يزيد بن أبي زياد بهذا الإسناد، دون قوله: «فقبَّلنا يده».
قال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد .
ومعنى قوله: فحاص الناس حيصة: يعني أنهم فروا من القتال. ومعنى قوله، العكار: الذي يفر إلى إمامه لينصره ليس يريد الفرار من الزحف. وضعفه الألباني في "الإرواء" (5/27 رقم1203).
(6) قوله: «قد» سقط من (ق).
(7) في (ح) و(ك): «تجمع».
(8) في (ح): «ظؤارًا».
(9) قوله: «قال» لم يتضح في (ح) وفي (ق): «قال» بلا واو.
(10) في (ح): «توام»، وفي (ك): «نوام».
(11) في (ك): «ورحل جمع رحل» وفي (ق): «ورحال جمع رحل».
(12) في (ب) و(ك): «وفدار جمع فدير»، وفي (ح): «وقرار جمع قرير»، والصحيح ما أثبت لأن ولد الظبية يسمى: فريرًا، كما في "اللسان" وفي (ق): «قدار جمع قدير».
(13) قال في القاموس المحيط في مادة: رأب. الرُّبَّى، كحُبلى: الشاة إذا ولدت، وجمعها رُباب بالضم نادر .
(14) في (ك): «حديث».
(15) في (ب): «أظوارًا» وفي (ح): «ظورًا»..
(16) قوله: «أظؤرًا» سقط من (ح) وفي (ق): «وأظوار».
(17) قوله: «في» سقط من (ح).
(18) في (ح): «وقال».
(19) في (ك): «المغنية».
(20) ....
(21) في (ح): «الظهيرة».
(22) في (ق): «أنبتهم».
(23) قوله: «أصل» سقط من (ك).
(24) في (ك): «أقنان».
(25) في (ح): «البيت».
(26) قوله: «وتزينه» سقط من (ك).(3/955)
وقوله: «إن إبراهيم ابني (1) قد مات في الثدي»؛ أي: في حال رضاعه؛ أي: =(6/111)=@ لم يكمل مدَّة رضاعه. قيل: إنه مات وهو ابن ستة عشر شهرًا، وهذا القول: أخرجه فَرْط الشفقة والرحمة والحزن .
وقوله: «إن له لظئرين يُكملان رضاعه في الجنة»؛ هذا يدلُّ على أن حكمه حكم الشهيد؛ فإنَّ الله تعالى قد أجرى عليه رزقه بعد موته، كما قد أجرى ذلك على الشهيد (2) ؛ حيث قال: } بل أحياء عند ربهم يرزقون { (3) ، وعلى هذا: فمن مات من صغار المسلمين بوجه من تلك الوجوه السبعة التي ذكرنا أنها (4) أسباب الشهادة (5) كان شهيدًا، ويلحق بالشهداء الكبار بفضل الله ورحمته إياهم؛ وإن لم يبلغوا أسنانهم، ولم يُكلَّفوا تكليفهم، فمن قتل من الصغار في الحرب كان حكمه: حكم الكبير فلا يغسَّل، ولا يصلَّى عليه، ويدفن بثيابه كما يفعل (6) بالكبير. وموافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - %(3/956)%
__________
(1) في (ك): «ابني إبارهيم».
(2) في (ك) و(ح): «كما أخبر بذلك عن الشهداء».
(3) الآية (169) من سورة آل عمران .
(4) في (ق): «ذكرناها أسباب».
(5) انظر كتاب الجهاد، باب في فضل الرباط، وكم الشهداء .
(6) في (ق): «تفعل».(3/956)
لمن يطلب منه (1) غمس يده في الماء، وللجارية التي كلَّمته: دليل =(6/112)=@ على كمال حسن خلقه وتواضعه، وإسعاف منه لمن طلب منه ما يجوز طلبه، وإن شق ذلك عليه، وليحصل لهم أجرٌ على نيَّاتهم، وبركة في أطعماتهم، وقضاء حاجاتهم، وقد كانت الأَمَة تأخذ بيده فتنطلق به (2) حيث شاءت من المدينة (3) ، وهذا كمالٌ لا يعرفه إلا الذي خصَّه به.
وقوله لأنجشة: «رويدك»؛ أي: رفقك، وهو منصوب نصب المصدر؛ أي: ارفق رفقَكَ.
وقوله في "الأم" (4) : «ويحك يا أنجشة ! رويدًا سوقَكَ بالقوارير»؛ ويحَ؛ قال سيبويه: ويحك: زجر لمن أشرف على الهلاك. و «ويل»: لمن وقع فيه. وقال الفراء: ويح ووشى (5) بمعنى: ويل. وقال غيرهما: ويح: كلمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها (6) فيرثى له ويرحم. وويل بضدِّه: وويس: تصغير. =(6/113)=@ &(6/90)&$
قال الشيخ رحمه الله: وهي كلمات منصوبة بأفعال مقدَّرة لا يستعمل إظهارها (7) . ويصح أن تكون رويدًا هنا: اسم فعل الأمر؛ أي: ارود، بمعنى: ارفق. و «سوقك»: مفعول به، أو بإسقاط حرف الجر؛ أي: في سوقك، وقد قال بعض الناس: إن القوارير يراد بها (8) هنا الإبل؛ أمره بالرفق بها لئلا يعنف عليها في السير %(3/957)%
__________
(1) قوله: «منه» سقط من (ق).
(2) في (ك): «به إلى».
(3) أخرجه أحمد (3/174 و215-216)، وابن ماجه (2/1398 رقم4177) في الزهد، باب البراءة من الكبر والتواضع. وأبو الشيخ في "أخلاق النبي" (ص30 و30-31). ثلاثتهم من طريق شعبة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس بن مالك قال: إن كانت الأَمَة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة ف يحاجتها .
قال البوصيري في "الزوائد" (3/288): هذا إسناد ضعيف؛ لضعف علي بن زيد بن جدعان».
(4) أي أصل"صحيح مسلم" (4/1811 رقم2323/71) في الفضائل، باب رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قوله: «في الأم» سقط من (ق). .
(5) في (ح): «وويس». وقوله: «ووشى» سقط من (ق).
(6) في (ق): «لا يستحقفها» كذا رسمت.
(7) في (ق): «لا تستعمل ظاهرها».
(8) في (ح) و(ك): «به».(3/957)
بطيب صوته فيهلكها، وتفسير الراوي أولى من تفسير هذا المتأخر، فإنه قد تقدَّم أن الصحابي قال: يعني به (1) ضعفة النساء، وشبَّهَهُنَّ بالقوارير لسرعة تأثرهنَّ (2) ، ولعدم تجلدهن، فخاف عليهن من حث السير وسرعته (3) سقوط بعضهن، أو تألمهن بكثرة الحركة، والاضطراب الذي يكون عن السرعة والاستعجال. وقيل: إنه خاف عليهن الفتنة، وحسن (4) الحدو وطيبه، كما قد (5) قال سليمان بن عبدالملك: يا بني أمية ! إياكم والغناء، فإنَّه رُقْية الزنى، فإنَّ كنتم ولا بدَّ فاعليه فجنبوه النساء .
- - - - -
ومن باب شدَّة حياء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحُسن خُلُقه
«الحياء»- ممدود -: انقباض يجده الانسان من نفسه يحمله على الامتناع من ملابسة ما يعاب عليه، ويُستقبح منه، ونقيضه الصَّلَفُ (6) : وهو التَّصَلُّفُ (7) في الأمور، وعدم المبالاة بما يستقبح ويعاب عليه منها، وكلاهما جبلي ومكتسب؛ غير أن &(6/91)&$ الناس منقسمون في القدر الحاصل منهما، فمن الناس من جبل على الكثير من =(6/114)=@ الحياء، ومنهم من جبل على القليل منه، ومن الناس من جبل على الكثير من الصلف (8) ، ومنهم من جبل على القليل منه (9) ، ثم إن أهل (10) الكثير من النوعين على مراتب، وكذلك أهل القليل، فقد يكثر (11) أحد النوعين حتى يصير نقيضه كالمعدوم. ثم هذا الجبلِّي سبب في تحصيل المكتسب، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جبل من الحياء على الحظ الأوفر، والنصيب الأكثر (12) ، ولذلك قيل فيه: إنه كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، ثم إنه كان يأخذ نفسه بالحياء ويستعمله، ويأمر به، ويحضُّ عليه، فيقول: «الحياء من الإيمان» (13) . و «الحياء لا يأتي إلا بخير» (14) . و «الحياء خير كله»(2). ويقول لأصحابه: «استحيوا من الله حق الحياء» (15) . وكان يُعرف الحياء في وجهه لما يظهر (16) عليه من الخفر (17) والخجل. وكان إذا أراد أن يَعتِب رجلاً معينًا أعرض عنه، ويقول: «ما بال رجال يفعلون كذا» (18) ؛ ومع هذا كله فكان لا يمنعه الحياء من حقٍّ يقوله، أو أمر ديني يفعله، %(3/958)%
__________
(1) قوله: «به» سقط من (ح).
(2) في (ك) و(ق): «تأثيرهن».
(3) في (ح): «وسرعة».
(4) في (ك): «من حسن».
(5) قوله: «قد» سقط من (ك).
(6) في (ح) و(ك) و(ق) و(م): «الصَّلب».
(7) في (ق) و(م) و(ح): «التصلب».
(8) في (ك): «الصلب».
(9) من قوله: «ومن الناس ....» إلى هنا سقط من (ح) و(ق) و(م).
(10) في (ك): «هذا».
(11) في (ق) و(م): «يكبر».
(12) في (ك): «الأكبر».
(13) تقدم في الإيمان، باب الإيمان شعب والحياء شعبة منها .
(14) تقدم في الإيمان، في الموضع السابق .
(15) تقدم تخريجه كتاب .... باب ......
(16) في (ق): «تظهر».
(17) في (ك): «الحقر» وفي (ق): «الحفر»..
(18) هو عند المصنف في النكاح، باب الترغيب في النكاح. ولفظه: «ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا». وسيأتي في كتاب ...، باب....، ولفظه: «ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه».(3/958)
تمسُّكًا بقول الحق : } والله (1) لا يستحيي من الحق { (2) . وهذا هو نهاية الحياء، وكماله، وحسنه، واعتداله، فإنَّ من يفرط عليه الحياء حتى يمنعه من الحق فقد ترك الحياء من الخالق، واستحيا من الخلق (3) ، ومن كان هكذا فقد حرم نافع الحياء، واتصف بالنفاق والرياء، والحياء من الله تعالى هو الأصل والأساس، فإنَّ الله تعالى أحق أن يستحيا منه من (4) الناس. &(6/92)&$
و «العذراء»: البكر التي (5) لم تنتزع عذرتها. و «الخدر»: أصله الهودج، وهو هنا: كناية عن بيتها الذي (6) هي ملازمة له إلى أن تخرج منه إلى =(6/115)=@ بيت زوجها.
و«الفاحش»: المجبول (7) على الفحش؛ وهو: الجفاء في الأقوال والأفعال. و «المتفحش»: هو المتعاطي لذلك، والمستعمل له. وقد برأ الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - عن جميع ذلك ونزَّهه، فإنَّه كان رحيمًا، رفيقًا (8) ، لطيفًا، سهلاً (9) ، متواضعًا، طَلِقًا، برًّا، وصولاً، محبوبًا، لا تقتحمه عين، ولا تمُّجه نفسٌ، ولا يصدر عنه شيء يكره؛ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّف، وكرَّم.
وقوله: «إن من خياركم (10) أحاسنكم أخلاقًا»؛ هو جمع أحسن على وزن أفعل التي للتفضيل، وهي إن قرنت بـ «من» كانت للمذكر، والمؤنث، والاثنين (11) ، والجمع (12) ، بلفظ واحد. وإن لم تقترن بـ «من» وعرفتها (13) بالألف واللام ذكرت، وأنثت وثنيت، وجمعت. وإذا أضيفت: ساغ فيها الأمران؛ كما جاء هنا :«أحاسنكم» (14) ، وكما قال تعالى : } أكابر مجرميها { (15) ، وقد قال تعالى: } ولتجدنَّهم أحرص الناس على حياة { (16) . وقد روي (17) هذا الحديث :«أحسنكم» (18) موحَّدًا.
و «الأخلاق»: جمع خُلُق، وهي عبارة عن أوصاف الإنسان التي بها يعامل %(3/959)%
__________
(1) في جميع النسخ: «إن» و(ح) و(ق).
(2) الآية (53) من سورة الأحزاب .
(3) في (ق): «المخلوق».
(4) في (ح): «لا من».
(5) في (ك): «الذي».
(6) في (ح): «التي».
(7) في (ق): «هو المجبول».
(8) قوله: «رفيقًا» سقط من (ك).
(9) في (ح): «سمحًا».
(10) في (ك): «أخياركم».
(11) في (ق): «وللاثنين».
(12) في (ب) و(ك): «لجميع».
(13) في (ك): «وعديتها».
(14) في (ح) و(ك): «أحاسنكم أخلاقًا».
(15) الآية (123) من سورة الأنعام .
(16) الآية (96) من سورة البقرة .
(17) في (ح): «روي من».
(18) أخرجه البخاري (6/566 رقم3559) في المناقب، باب صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (7/102 رقم 3759) في فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله ابن مسعود، و(10/452 و456 رقم6029 و6035) في الأدب، باب لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحشًا، وباب حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل .(3/959)
غيره، ويخالطه، وهي منقسمة: إلى محمود ومذموم. فالمحمود منها: صفات الأنبياء، والأولياء، والفضلاء، كالصبر عند المكاره، والحلم عند الجفاء، وتحمل الأذى، والإحسان للنَّاس، والتودُّد لهم، والمسارعة في حوائجهم، والرحمة، والشفقة، واللطف في المجادلة (1) ، والتثبت في الأمور، ومجانبة المفاسد والشرور. =(6/116)=@
وعلى الجملة: فاعتدالها (2) أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها، ولا تنتصف لها، فتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك. والمذموم منها (3) : نقيض ذلك كله (4) . &(6/93)&$
وقد جاء هذا الحديث في غير كتاب مسلم بزيادة حسنة (5) ، فقال: «خياركم أحاسنكم أخلاقًا، الموطَّؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون». فهذه الخلق، وهؤلاء المتخلقون.
وقد قدَّمنا في غير موضع: أن أصل الخلق جبلَّة في نوع الإنسان، غير أن الناس في ذلك متفاوتون، فمن الناس من يغلب عليه بعضها ويقف عن بعضها، وهذا هو المأمور بالرِّياضة والمجاهدة حتى يقوى ضعيفها، ويعتدل شاذُّها (6) ، كما هو مفصَّل في كتب الرياضات (7) .
وقد تقدَّم الكلام على كونه (8) - صلى الله عليه وسلم - كان (9) يجلس (10) في مصلاَّه حتى تطلع الشمس. =(6/117)=@ %(3/960)%
__________
(1) في (ح) و(ق): «المحاولة».
(2) في (ق): «واعتدالها».
(3) قوله: «منها» سقط من (ح).
(4) قوله: «كله» سقط من (ق).
(5) أخرجه البزار في "مسند" (5/135 رقم1723/البحر الزخار) من طريق حبان بن هلال، عن صدقة بن موسى، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: بلى، قال: خياركم أحسنكم أخلاقًا، الموطؤون أكنافًا».
قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبدالله إلا بهذا الإسناد .
وفي سنده: صدقة بن موسى، صدوق له اوهام، كما في "ألتقريب" (ص452 رقم2937) إلا أني لم أجد له رواية عن عاصم، ولم يرو عنه حبان بن هلال، كما في "تهذيب الكمال" (13/149-150 رقم2870). والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/190-191 رقم10424) من طريق حبان بن هلال، عن صدقة الزماني، عن عاصم، بهذا الإسناد .
وصدقة الزِّماني: هو صدقة بن هرمز، أبو محمد الزماني، ترجمه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/431 رقم1892)، وذكر له رواية عن عاصم، وروى عنه حبان بن هلال، ونقل تضعيفه عن ابن معين. وصححه الألباني في "الصحيحة" (2/380) وقال: وأظن أن «موسى» محرَّف من «هرمز» .
والحديث أورده الهيثمي في "المجمع" (8/21) وقال: وفي إسناد البزار: صدقة بن موسى وهو ضعيف، وفي إسناد الطبراني: عبدالله الرمادي ولم أعرفه. كذا قال، وصوابه: صدقة الزماني.
وله شاهد من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري :
وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه الطبراني في "الأوسط" (5/242 رقم2994/مجمع البحرين) من طريق صالح المري، عن سعيد الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقًا، الموطؤون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤلفون، وإن أبغضكم إليَّ المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبرآء العنت».
قال الطبراني: لم يروه عن الجريري إلا صالح .
قال الهيثمي في "المجمع" (8/21): وفيه صالح بن بشر المري، وهو ضعيف .
وأما حديث أبي سعيد الخدري: فأخرجه الطبراني في "الأوسط" (1/131 رقم105 ) و(5/243 رقم2995/مجمع البحرين)، وفي "الصغير" (1/362 رقم605) من يعقوب بن أبي عباد القلزمي، عن محمد بن عيينة، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي سعيد الخدري، فذكره. قال الطبراني: «لم يروه عن محمد أخي سفيان إلا يعقوب .
قال الهيثمي في "المجمع" (8/21): وفيه يعقوب بن أبي عباد القلزمي ولم أعرفه .
ويعقوب، قال أبو حاتم: محله الصدق، لا بأس به. "الجرح والتعديل" (9/203 رقم848). ومحمد بن عيينة: قال ابوحاتم: لا يحتج بحديثه، يأتي بالمناكير، وقال العجلي: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: وكان من العبَّاد. "الجرح والتعديل" (8/42 رقم192)، و"ثقات العجلي" (2/249 رقم1632)، و"الثقات" (7/416)، وفي "التقريب" (ص887 رقم6253): صدوق له أوهام. والحديث حسن بمجموع طرقه، كما قال الألباني .
(6) في (ك): «سنادها».
(7) في (ح): «الرياضيات».
(8) في (ب) و(ق): «كونه انه»، وفي (ك): «قوله».
(9) قوله: «كان» سقط من (ك).
(10) في (ب): «نقعد» وفي (ق): «يقعد».(3/960)
وقول عائشة رضي الله عنها: «ما خُيِّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما»؛ تعني (1) : أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذا (2) خيَّره أحد (3) في شيئين يجوز له (4) فعل كل واحد منهما، أو عرضت عليه مصلحتان؛ مال للأيسر (5) منهما، وترك الأثقل؛ أخذًا بالسُّهولة لنفسه، وتعليمًا لأمَّته. فإذا كان (6) في أحد الشيئين إثم تركه، وأخذ الآخر، وإن كان الأثقل. &(6/94)&$
وكونه (7) - صلى الله عليه وسلم - سقط إلى الأرض لما جعل إزاره على عنقه؛ يدلّ: على أن من - (8) الله تعالى حفظه من صغره، وتولى تأديبه بنفسه، ولم (9) يكله في شيء من ذلك لغيره، ولم يزل الله يفعل ذلك به حتى كره له أحوال الجاهلية، وحماه عنها، حتى لم يجر عليه شيء منها. كل ذلك (10) لطفٌ (11) به، وعطفٌ عليه، وجمع للمحاسن لديه.
وقولها: «ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى»؛ يعني (12) : أنه كان يصبر على جهل من جهل عليه، ويحتمل (13) جفاه، ويصفح عمَّن أذاه في خاصة نفسه، كصفحه عمَّن قال: يا محمد ! اعدل، فإنَّ هذه قسمة ما أريد بها وجه =(6/118)=@ الله تعالى، وما عدلت منذ اليوم (14) ! وكصفحه عن الذي جبذ رداءه (15) عليه حتى شقَّه، وأثر (16) في عنقه (17) . فإنَّ قيل: فأذاه انتهاك حرمة من حرم الله تعالى، فكيف يترك (18) الانتقام (19) لله تعالى فيها ؟ وكيف وقد قال الله تعالى : } والذين يؤذون رسول الله لهم عذابٌ أليم { (20) ؛ فالجواب: أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك الانتقام مِمَّن آذاه استئلافًا وتركًا لما ينفِّر عن الدخول في دينه، %(3/961)%
__________
(1) في (ك): «يعني»، ومهملة الأول في (ب) و(ح).
(2) في (ق): «أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا».
(3) قوله: «أحد» سقط من (ك).
(4) قوله: «له» سقط من (ق).
(5) في (ق): «للأصلح».
(6) في (ب) و(ح) و(ق): «فإن كان».
(7) ذهه الفقرة شرح للحديث الآتي بعد .
(8) قوله: «من» سقط من (ح) و(ق).
(9) في (ك): «فإن لم».
(10) قوله: «كل ذلك» سقط من (ح).
(11) في (ق): «الطف» كذا رسمت.
(12) في (ق): «تعني».
(13) في (ح): «ويتحمل».
(14) تقدم في الزكاة، باب يجب الرضا بما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبما أعطى.
(15) في (ح): «إزاره».
(16) في (ق): «وأثره».
(17) تقدم في الزكاة، باب إعطاء السائل ولو أفحش في المسألة.
(18) في (ك): «ترك».
(19) في (ك): «فكيف ترك الانتقام ممن آذاه».
(20) الآية (61) من سورة التوبة .(3/961)
كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «لئلا يتحدث الناس أن محمَّدًا يقتل أصحابه» (1) . وقد قال مالك: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعفو عمَّن شتمه؛ مشيرًا إلى ما ذكرنا. وإذا تقرر هذا فمراد عائشة رضي الله عنها بقولها: إلا أن تنتهك (2) حرمة الله: الحرمة التي لا ترجع لحق (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ كحرمة الله، وحرمة محارمه، فإنَّه كان يقيم حدود الله تعالى على من انتهك شيئًا منها، ولا يعفو عنها، كما قال في حديث السَّارقة: «لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها» (4) ، لكن ينبغي أن (5) يفهم: أن صفحه &(6/95)&$ عمَّن آذاه كان مخصوصًا به وبزمانه لما ذكرناه (6) ، وأما بعد ذلك فلا يُعفى عنه بوجه.
قال القاضي عياض رحمه الله: أجمع العلماء على أن من سَبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر. واختلفوا؛ هل حكمه حكم المرتد يُستتاب؟ أو حكم الزنديق لا يُستتاب؟ وهل قتله للكفر أو للحدِّ (7) ؟ فجمهورهم: على أن (8) حكمه حكم الزنديق، لا تقبل =(6/119)=@ توبته. وهو مشهور مذهب مالك، وقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق. ورأوا: أن قتله للحدِّ، ولا ترفعه (9) التوبة، لكن (10) تنفعه عند الله تعالى ولا يسقط حد القتل عنه. وقال أبو حنيفة والثوري: هي كفر وردَّة، وتقبل توبته إذا تاب. وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. %(3/962)%
__________
(1) تقدم في الزكاة، باب يجب الرضا بما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبما أعطى .
(2) في (ك): «ينتهك».
(3) في (ك): «بحق».
(4) تقدم في الحدود، باب النهي عن الشفعة في الحدود إذا بلغت الإمام .
(5) قوله: «ينبغي أن» سقط من (ق).
(6) في (ق): «لما ذكرنا».
(7) في (ك): «للجحد».
(8) قوله: «أن» سقط من (ك).
(9) في (ك): «ولا ينفعه».
(10) في (ح): «ولكن».(3/962)
واختلفوا?في الذمِّي إذا سبَّه بغير الوجه الذي به كَفَر؛ فعامَّة العلماء: على أنه يقتل لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - . وأبو حنيفة، والثوري، والكوفيون: لا يرون قتله. قالوا: ما (1) هو عليه من الكفر أشد.
واختلف أهل المدينة وأصحاب مالك في قتله إذا سبه بالوجه الذي به كَفَرَ؛ من تكذيبه، وجَحْد نبوَّته ؟ والأصح الأشهر قتله. واختلفوا في إسلام الكافر بعد سبِّه ؟ هل يسقط ذلك القتل عنه أم لا ؟ والأشهر (2) عندنا: سقوطه؛ لأنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله. وحكى أبومحمد بن نصر في درء القتل (3) عنه روايتين.
ويستفاد من حديث عائشة رضي الله عنها ترغيب الحكام، وولاة الأمور في الصفح عمن جهل عليهم، وجفاهم، والصبر على أذاهم، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل، وأن الحاكم لا يحكم لنفسه. وقد أجمع العلماء: على أن القاضي لا يحكم لنفسه، ولا لمن لا تجوز شهادته له؛ على ما حكاه عياض رحمه الله. =(6/120)=@ &(6/96)&$
__________
(1) قوله: «ما» سقط من (ك).
(2) في (ح): «الأشهر» بلا واو.
(3) في (ق): «الحد».(3/963)
ومن باب طيب رائحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،
وحسن شعره وشيبه، وحسن خَلْقِه
قول جابر رضي الله عنه: «صليت مع رسول الله في (1) صلاة الأولى»؛ هذا من باب إضافة الاسم (2) إلى صفته، كما قالوا: مسجد الجامع. وقد تقدم القول فيه، يعني (3) بالصلاة?الأولى: صلاة الظهر؛ فإنَّها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (4) . ويحتمل أن يريد بها صلاة الصبح؛ لأنَّها أول صلاة (5) النهار. %(3/963)%
__________
(1) قوله: «في» سقط من (ح) و(ق).
(2) في (ح): «الشيء».
(3) في (ح) و(ك): «ويعني».
(4) أخرجه عبدالرزاق (1/531 رقم2028)، وعنه أحمد (1/333)، وابن الجارود (1/149 – 150 رقم 149 – غوث)، والطبراني في "الكبير" (10/309-310 رقم 10753). وأخرجه ابن أبي شيبة (1/280 رقم3220) في الصلاة، باب في جميع مواقيت الصلاة، وأحمد (1/333 و354)، وعبد بن حميد (703)، وأبو داود (1/274-278 رقم393)، وابن الجارود (1/151 رقم150/غوث)، وأبو يعلى (5/134-135 رقم2760)، وابن خزيمة (1/168 رقم325)، والطحاوي (1/146)، والطبراني في "الكبير" (10/309 رقم 10752)، والدارقطني (1/258)، والحاكم (1/193)، والبيهقي في "شرح السنة" (1/364)، والبغوي (2/181-182 رقم348) جميعهم من طريق سفيان الثوري .
وأخرجه الترمذي (1/278-280 رقم149)، والطحاوي (147)، والطبراني في "الكبير" (10/310 رقم 10754). جميعهم من طريق عبدالرحمن بن أبي الزناد .
وأخرجه ابن خزيمة (1/168 رقم325) من طريق مغيرة بن عبدالرحمن .
وأخرجه والدارقطني (1/258)، والحاكم (1/193)، والبيهقي (1/364). ثلاثتهم من طريق عبدالعزيز بن محمد الدراوردي .
وأخرجه والدارقطني (1/258)، من طريق سليمان بن بلال .
خمستهم - الثوري، وعبدالرحمن بن أبي الزناد، ومغيرة بن عبدالرحمن، والدراوردي، وسليمان بن بلال -، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن نافع بن جبير، قال: أخبرني ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أمَّنِي جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك ....، الحديث.
قال الترمذي: حسن صحيح .
وصححه الحاكم، وأبو بن العربي، وابن عبدالبر، كما في "التلخيص الحبير: (1/173).
وفي سنده: عبدالرحمن بن الحارث بن عياش، صدوق له أوهام. كما في "التقريب" (ص574 رقم3855), وقد توبع على روايته: فأخرج الدارقطني (1/258) من طريق عبدالرحمن بن الحارث ،ومحمد بن عمرو بن حكيم، به. وأخرجه عبدالرزاق (1/531 -532 رقم2029) عن عبدالله بن عمر العمري، عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (10/310 رقم 10755).
قال الحافظ في "التلخيص" (1/173): قال ابن دقيق العيد: «هي متابعة حسنة». والحديث حسّنه الألباني في "الإرواء" (1/268) وقال: «والحديث صحيح لشواهده»، فانظرها هناك .
(5) في (ح): «صلاتي».(3/964)
وقوله: «فوجدت ليده بردًا أو ريحًا»؛ هذه «أو» الأَوْلَى أن تكون بمعنى الواو لا للشك؛ لأنَّها لو كانت شكًّا، فإذًا قدرنا إسقاط «أو ريحًا» لم يستقم تشبيه برودة يده بإخراجها من جُونة عطار؛ فإنَّ ذلك إنما هو (1) تشبية للرائحة، فإذا حملت «أو» على معنى الواو الجامعة استقام التشبيه للرائحة، والإخبار عن وجدان برودة اليد التي تكون عن صحة العضو، ويحتمل أن يريد بالبرودة (2) برودة الطيب، فإنَّهم يصفونه =(6/121)=@ بالبرودة (3) ، كما قال الشاعر (4) :
وتَبْرُدُ بَرْدَ رِداءِ العَرُوسِ بالصَّيفِ رَقْرَقت (5) فيه (6) العَبِيرا
و «الجونة»: بضم الجيم، وفتح النون: هي سفط يُحمل فيه (7) العطار متاعه، قاله الحربي (8) ، وهو مهموز وقد يسفل (9) ، وقال صاحب العين: هو سُليلةٌ مستديرة مُغشَّاة أُذمًا.
وقوله: «ما شممت عنبرًا ،?ولا مسكًا، ولا شيئًا أطيب من ريح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ هذا يدلّ على أنه كان طيِّب الريح وإن لم يتطيب، ثم إنه كان يستعمل الطيب، &(6/97)&$ ويعجبه (10) رائحته (11) ؛ لأنَّه كان يناجي الملائكة؛ ولأنه مُستلذٌ لحس الشمِّ كالحلاوة لحسِّ الذوق؛ ولأنه مقوٍّ للدماغ، ومحرِّك لشهوة الجماع؛ ولأنه مما يرضي الله تعالى إذا قصد به القربة، والتهيؤ للصلاة.
وقوله: «كان أزهر اللون»؛ يعني: أبيض اللون في صفاء، كما قال في الرواية الأخرى (12) : «ليس بالأبيض الأمهق»؛ أي: المتألق (13) البياض الذي صفته تشبه بياض الثلج، والجصِّ. %(3/964)%
__________
(1) قوله: «هو» سقط من (ك).
(2) في (ح) و(ك): «بالبرد».
(3) في (ح) و(ك): «بذلك».
(4) هو: الأعشى (....).
(5) في (ك): «رفرفت»، وفي "ديوان الأعشى" (ص85): «رقرقت بالصيف».
(6) في (ح) و(ك): «هذه».
(7) في (ك): «يحمل فيها».
(8) في (ق): «الحرير».
(9) في (ح) و(ق): «يسهل».
(10) في (ح) و(ك): «تعجبه»، ومهملة الحرف الأول في (ب).
(11) قوله: «رائحته» سقط من (ح).
(12) ستأتي في باب حسن أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(13) في جميع النسخ المتعلق و(ح) و(ق)!(3/965)
وقوله: «إذا مشى مشى تكفؤًا»؛ مهموزًا. قال شمر: أي: مال يمينًا وشمالاً. قال الأزهري: هذا (1) خطأ، وهذه صفة المختال. ولم تكن (2) صفته - صلى الله عليه وسلم - ؛ وإنما معناه: أنه (3) =(6/122)=@ يميل إلى سمته، ويقصد في مشيته (4) ؛ كما قال في الرواية الأخرى (5) : «كأنما (6) ينحط من صبب».
قال الشيخ رحمه الله: ويبيِّنه ما قد جاء في رواية ثالثةٍ (7) : «يمشي تقلعًا». &(6/98)&$
وقولها: «دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عندنا»؛ أي: نام عندهم (8) في القائلة؛ وفيه دليلٌ على دخول الرجل على ذوات محارمه في القائلة، وتبسُّطه معهنَّ، ونومه على فراشهنَّ، وكانت أمُّ سليم ذات محرم له من الرَّضاعة (9) . قاله القاضي عياض .
وقولها: فجعلت أسلتُ العرق فيها»؛ أي: تجمعه في القارورة، كما قد جاء في الرواية الأخرى.
وقولها: «أدوف به طيبي» بالدال المهملة ثلاثيًّا؛ أي: أخلطه، وهكذا صحيح الرواية فيه، وهو المشهور عند أهل اللغة، وحكي فيه: الذال المعجمة، ثلاثيًّا ورباعيًّا، وقد استوفيناه في كتاب الإيمان. =(6/123)=@ &(6/99)&$
- - - - -
وقوله: «كان أهل الكتاب يَسْدلون أشعارهم، وكان (10) المشركون يَفْرُقُون رؤوسهم»؛ قال القاضي: سدل الشعر: إرساله، والمراد به (11) هنا عند العلماء: إرساله على الجبين واتخاذه كالقَصَّة. يقال: سدل شعره وثوبه: إذا أرسله، ولم يضم جوانبه. والفرق: تفريق الشعر بعضه عن?بعض (12) . والفرق: تفريقك بين كل شيئين. قال الحربي: والمفرق: موضع الفرق، والفرق في الشعر سُنَّة؛ لأنَّه الذي رجع إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - . والظاهر أنه بوحي، لقول أنس رضي الله عنه: «أنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه %(3/965)%
__________
(1) في (ح) و(ك): «هذه».
(2) في (ح): يشبه «وكفى لم» وكتب في الهامش «ولم تكن».
(3) في (ق): «أن» بدل «أنه».
(4) في (ح) و(ك): «مشيه».
(5) رُوي من طريق علي رضي الله عنه، وله عنه أربعة طرق :
1 - طريق نافع بن جبير، عنه: وله ثلاثة طرق :
أ - عثمان بن عبدالله بن هرمز: أخرجه الطيالسي (ص24-25 رقم171)، وابن سعد (1/411)، وأحمد (1/96- و127)، والترمذي (5/558-559 رقم3637) في المناقب، باب ما جاء في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" (1/159-160)، والحاكم (2/605-606). جميعهم من طريق عثمان بن عبدالله بن هرمز، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن علي قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطويل ولا بالقصير، شثن الكفين والقدمين، ضخم الرأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة، إذا مشى تكفأ تكفؤًا، كأنما انحط من صبب ... .
قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وعثمان بن عبدالله بن هرمز ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عنه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، ومسعد ابن كدام، وقال النسائي: ليس بذاك. وفي "التقريب" (ص668 رقم4549): فيه لين.
ب - عبدالملك بن عمير: أخرجه ابن أبي شيبة (6/332 رقم3798) في الفضائل، باب ما أعطى الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ، عن شريك، عن عبدالملك بن عمير،عن نافع بن جبير، به. وعنه عبدالله بن أحمد في "زوائد المسند"(1/116)، وأبو يعلى (1/303-304 رقم369)، وابن حبان (14/216-217 رقم3611/الإحسان)، وهو عند البزار في "المسند" (2/118-119 رقم474) لكن أدخل شريكُ جبير بن مطعم بين نافع وعلي. وشريك: هو ابن عبدالله القاضي، صدوق يخطيء كثيرًا .
قال البزار عقب روايته: «وهذا الحديث يروى عن علي من غير وجه، ويروى عن علي بهذا الإسناد، وهذا أحسن إسنادًا يروى عن علي وأشده اتصالاً، ولا نعلم روى جبير بن مطعم عن علي إلا هذا الحديث». كذا قال، وقال الدارقطني في "العلل" (3/122): «والصواب قول من قال: عن نافع بن جبير، عن علي، ولم يذكؤ فيه جبيرًا».
ج - صالح بن سعيد: علَّقه البخاري في "تاريخه"(4/282) مختصرًا. ووصله عبدالله بن أحمد في "زوائد المسند"(1/116-117)، والنسائي في "مسند علي"، كما في "تهذيب الكمال" (13/53)، والمزِي في "تهذيبه" (13/53). أربعتهم من طريق ابن جريج، عن صالح بن سعيد - أو سُعيد -، عن نافع بن جبير، به .
وابن جريج مدلس، ولم يصرَّح بالسماع. وصالح بن سعيد روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وفي "التقريب" (ص445 رقم2879): مقبول .
2 - طريق محمد بن علي - ابن الحنفية -، عنه: أخرجه ابن سعد (1/410-411)، وأحمد (1/89-101)، والبخاري في "الأدب المفرد" (2/964 قم1315)، والبزار في "مسنده"(2/253 رقم660). أربعتهم من طريق حماد بن سلمة، عن عبدالله بن محمد بن عقيل .
وأخرجه البزار في "مسنده" (2/244 رقم645)، وأبو يعلى (1/304 رقم370). كلاهما من طريق الحاج بن أرطأة، عن سالم المكي. عبدالله بن محمد بن عقيل، وسالم المكي -، عن محمد بن الحنفية، فذكره بمعناه. وحسَّنه الألباني في "صحيح الأدب المفرد" (ص499 رقم1315).
3 - عن رجل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/411)، وعبدالله بن أحمد في "زوائد المسند" (1/151)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (1/216 و252). كلهم من طريق نوح بن قيس، عن خالد بن خالد، عن يوسف بن مازن: أن رجلاً سأل عليًّا، فقال: يا أمير المؤمنين! انعت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، صفه لنا، فذكره، وزاد: «وإذامشى يتقلع»، وفيه راوٍ لم يسم.
قال الألباني في "الصحيحة" (5/84): هذا الرجل لا يبعد أن يكون محمد بن الحنفية، فقد رواه عبدالله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن أبيه.
وخالد بن خالد: أورده الحافظ في "تعجيل المنفعة" (1/487 رقم257)، وقال: لا يعرف .
4 - طريق إبراهيم بن محمد: أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" (1/121)، وابن سعد (1/411-412)، والترمذي (5/559 رقم3638) في المناقب، باب ما جاء في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - . ثلاثتهم من طريق بن عبد الله مولى غفرة قال: حدثني إبراهيم بن محمد من ولد علي بن أبي طالب - وعند أبي عبيد: عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية، قال: كان علي؛ وهذا يدل على أنه مرسل، ليس بمتصل -، قال: كان علي رضي الله عنه إذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال، فذكره، وفيه: إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وليس إسناده بمتصل. وفي نسخة الترمذي عند المباركفوري في "التحفة" (10/121): «هذا حديث ليس إسناده بمتصل». قال المباركفوري: لأن إبراهيم بن محمد لم يسمع من جدِّه علي .
وضعفه الألباني في "مختصر الشمائل" (ص16 رقم5)، والحديث صححه الألباني بمجموع طرقه في "مختصر الشمائل" (ص15 رقم4).
(6) قوله: «كأنما» سقط من (ك).
(7) انظر الطريق الثالثة والرابعة من الحديث السابق في التخريج .
(8) قوله: «عندهم» سقط من (ك).
(9) انظر "التمهيد" لابن عبدالبر (1/226). وقال ابن قدامة في "المغني" (9/165): «لعلَّ هذا كان قبل نزول الحجاب».
(10) في (ك): «كان».
(11) قوله: «به» سقط من (ح).
(12) في (ك): «من بعض».(3/966)
بشيء»؛ فسدل، ثم فرق بَعْدُ، فظاهره: أنه لأمر (1) من الله تعالى، حتى جعله بعضهم (2) نسخًا، وعلى هذا لا يجوز السَّدل، ولا اتِّخاذ الناصية &(6/100)&$ والْجُمَّة. وقد روي: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسًا يجزون كل من لم يفرق شعره (3) . =(6/124)=@
قال الشيخ رحمه الله: وفيما قاله (4) القاضي رحمه الله وحكاه نظر. بل (5) : الظاهر من مساق الحديث أن السَّدل إنما كان يفعله لأجل محبته استئلاف أهل الكتاب بموافقتهم (6) ، لكنه كان يوافقهم فيما لم يشرع له (7) فيه، فلما استمروا (8) على عنادهم، ولم ينتفعوا بالموافقة، أحبَّ مخالفتهم (9) أيضًا فيما لم يشرع له، فصارت مخالفتهم محبوبة له لا واجبة عليه كما كانت موافقتهم.
وقوله: «فيما لم يؤمر»؛ يعني: فيما لم يُطلب (10) منه، والطلب يشمل الواجب والمندوب (11) كما قررناه في الأصول. وأما توهُّم النسخ في هذا، فلا يلتفت إليه لإمكان الجمع، كما قررناه، وهذا (12) بعد تسليم أن محبة (13) موافقتهم ومخالفتهم حكم شرعي، فإنَّه يحتمل أن يكون ذلك (14) أمرًا مصلحيًّا، هذا مع إنه لو كان السَّدل منسوخًا بوجوب الفرق لصار الصحابة رضي الله عنهم إليه، أو بعضهم، وغاية ما روي عنهم: أنه كان (15) منهم من فرق، ومنهم من سدل، فلم يعب السَّادل (16) على الفارق، ولا الفارق على السَّادل، وقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان له لِمَّةٌ (17) ، فإنَّ انفرقت فرقها، وإلا تركها. وهذا (18) يدلُّ على أن هذا كان غالب حاله؛ لأنَّ ذلك ذكره (19) مع جملة أوصافه الدائمة، وحِليته (20) التي كان موصوفًا معروفًا (21) بها، فالصحيح: أن &(6/101)&$ الفرق مستحبٌّ لا واجب، وهذا الذي اختاره مالك. وهو قول جل أهل المذاهب (22) . والله تعالى أعلم. %(3/966)%
__________
(1) في (ق): «للأمر».
(2) قوله: «بعضهم» سقط من (ك).
(3) أخرجه ابن عبدالبر في "التمهيد"(6/76-77) وفي سنده: أسامة بن زيد الليثي، صدوق لهم، كما في "التقريب" (ص124 رقم319).
(4) في (ح): «قال».
(5) قوله: «بل» سقط من (ك).
(6) في(ح): «لموافقتهم».
(7) قوله: «له» سقط من (ك).
(8) في (ح): «فلما ستمروا».
(9) في (ك): «مخالفته».
(10) في (ح): «لم يطلبه بطلب منه».
(11) كذا في (ق)، وفي باقي النسخ: «الندب» و(ح).
(12) في (ح) و(ك): «هذا» بلا واو.
(13) في (ق): «محبته».
(14) قوله: «ذلك» سقط من (ك).
(15) قوله: «أنه كان» سقط من (ح).
(16) في (ح): يشبه «المبادل».
(17) هذاالحديث التالي .
(18) في (ق): «هذا» بلا واو.
(19) في (ح) و(ك): «ذكر».
(20) في (ك): «حيلة».
(21) قوله: «معروفًا» سقط من (ق).
(22) في (ق): «العلم» بدل «المذاهب».(3/967)
وقوله: «كان يحبُّ موافقة أهل الكتاب»؛ قد قلنا: إن ذلك كان (1) في أوَّل الأمر (2) =(6/125)=@ عند قدومه على (3) المدينة في الوقت (4) الذي كان يستقبل قبلتهم، وإن ذلك كله كانت حكمته التأنيس لأهل الكتاب حتى يصغوا إلى (5) ما جاء به، فيتبين (6) لهم أنه الحق، والاستئلاف لهم ليدخلوا في الدين، فلما غلبت عليهم الشقوة، ولم ينفع معهم ذلك نسخ الله تعالى استقبال قبلتهم بالتوجه نحو الكعبة، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخالفتهم في غير شيء (7) ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» (8) . وذكر أبو عمر في "التمهيد" (9) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اخضبوا وفرقوا، خالفوا اليهود». قال (10) : إسناده حسن، ورجاله كلهم (11) ثقات؛ وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحائض (12) : «اصنعوا (13) كل شيء إلا النكاح» (14) . حتى قالت اليهود: ما يريد هذا الرجل أن (15) يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. فاستقر آخر أمره - صلى الله عليه وسلم - على مخالفتهم فيما لم يحكم عليه فيه بحكم، فإذا ثبت هذا فلا حجَّة في قول عائشة رضي الله عنها: «كان (16) - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب على أن شرعهم شرع له (17) »، فتأمَّل ذلك (18) . واختلاف هذه الأحاديث في كيفية شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو &(6/102)&$ اختلاف أحوال؛ إذ قد فعل ذلك كله، فقد سدل، وفرق، وكان شعره لِمَّة، ووفرة، وجُمَّة (19) .
وقد روى الترمذي (20) من حديث أم هانئ رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وله أربع غدائر. قال: هذا حديث حسن صحيح (21) . =(6/126)=@
قال الشيخ رحمه الله: والغدائر: الضفائر. قال امرؤ القيس (22) :
غدائره مُسْتَشْزِراتٌ (23) إلى العُلاتَضِلُّ المدارى في مُثَنًّى ومُرْسَلِ %(3/967)%
__________
(1) قوله: «كان» سقط من (ك).
(2) في (ق): «أمره».
(3) قوله: «على» سقط من (ق).
(4) في (ح): «الوقـ»
(5) في (ح): «يصغوالى».
(6) في (ح): «فتبين».
(7) في (ق): «في غير معنى» وكتب في الهامش «في غير شيء» ووضع (خ).
(8) تقدم في اللباس، باب ما جاء في صبغ الشعر .
(9) أخرجه ابن عدي (2/195)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (6/75-76) كلاهما من طريق الحارث بن عمران، عن محمد بن سوقة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اختضبوا، وفرقوا، وخالفوا اليهود».
وقول ابن عبدالبر: إسناد حسن، غير حسن؛ فالحارث بن عمران، كذاب يضع الحديث على الثقات. وأورده الذهبي في هذا الحديث في ترجمته من "الميزان" (1/439 رقم1637). وقال الألباني في "الضعيفة" (5/134-135 رقم2113): رأيت الحديث قد أخرجه ابن عبدالبر في التمهيد من هذاالوجه وقال: إسناد حسن ثقات كلهم، وأقرَّه عبدالحق الإشبيلي في الأحكام الصغرى (2/418) الذي اشترط فيه الصحة، وهذا من غرائبهما، فإن الحارث هذا متفق على تضعيفه، فلعلّه اشتبه عليهما بغيره .
(10) في (ق): «وقال».
(11) قوله: «كلهم» سقط من (ح).
(12) في (ق): «في الحائض» وكتب في الهامش «في النكاح» ووضع (خ).
(13) في (ق): «اصبغوا».
(14) تقدم في الطهارة، باب ما يحل من الحائض .
(15) قوله: «أن» سقط من (ك).
(16) في (ح): «كان رسول الله».
(17) في (ق): «لنا».
(18) في (ق): «هذا»
(19) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/429)، وأحمد (6/108 و118)، وأبو داود (4/407 رقم4187) في الترجل، باب ما جاء في الشعر، وابن ماجه (2/1200 رقم3635) في اللباس، باب اتخاذ الجمة والذوائب، والترمذي (4/205 رقم 1755) في اللباس، باب ما جاء في الجمة واتخاذ الشعر. جميعهم من طريق عبدالرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفرة.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روي عن غير وجه عن عائشة؛ أنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولم يذكروا فيه هذا الحرف: وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفرة. وعبد الرحمن بن أبي الزناد، كان مالك بن أنس يوثقه ويأمر بالكتابة عنه .
وصححه الألباني في "مختصر الشمائل" (ص34-35 رقم22)، وفي حديث أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رأيته فقال لي أبي: هل تدري من هذا؟ قلت: لا، فقال لي أبي: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاقشعررت حين قال ذاك، وكنت أني أظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لا يشبه الناس، فإذا بشر له وفرة، وبها ردع من حناء ...، الحديث. وقد تقدم (3/272).
(20) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/429)، وأحمد (6/341 و425)، وأبو داود (4/409 رقم4191) في الترجل، باب ما جاء في الرجل يقص شعره، وابن ماجه (2/1199 رقم3631) في اللباس، باب اتخاذ الجمة والذوائب، والترمذي (4/216 رقم 1781) في اللباس، باب دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة. جميعهم من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم هانئ قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وله أربع ضفائر. قال الترمذي: حسن غريب .
وفي "العلل الكبير" (ص294): سألت محمدًا، قلت له: مجاهد سمع من أم هانئ؟ قال: روي عن أم هانئ، ولا أعرف له سماعًا منها .
قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (5/478): «فإن قلت: كيف حسَّن الترمذي الحديث مع أنه قد نقل عن الامام البخاري أنه قال: لا أعرف لمجاهد سماعا من أم هانىء؟ قلت: لعله حسَّنه على مذهب جمهور المحدثين! فإنهم قالوا: إن عنعنة غير المدلس محمولة على السماع إذا كان اللقاء ممكنًا، وإن لم يعرف السماع».
والحديث صححه الألباني في "مختصر الشمائل" (ص35 رقم23). وقال الحافظ في "الفتح" (6/572): رجاله ثقات .
(21) قوله: «صحيح» سقط من (ح).
(22) "الديوان وشرح المعلقات السبع" (ص53) العِقاص .
(23) في (ب): «مستشزات»، وفي (ح): «مستزرات»، وفي (ك) و(ق): «مستنشرات» وكتب في هامش (ق): «مستشزرات» ووضع (نخـ).(3/968)
وقول (1) البراء رضي الله عنه: «ما رأيت من ذي لِمَّةٍ في حلة حمراء أحسن. من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ». قال شمر: الْجُمَّة أكثر من الوفرة، والْجُمَّة إذا سقطت على المنكبين، والوفرة إلى شحمة الأذن، واللمة التي ألمت بالمنكبين، وقد تقدم القول في الحلَّة.
وفيه دليل على جواز لباس الأحمر، وقد أخطا من كره لباسه =(6/127)=@ مطلقًا، غير أنه قد يختص (2) بلباسه في بعض الأوقات أهل الفسق والدعارة والمجون، فحينئذ يكره لباسه؛ لأنَّه إذ ذاك (3) تشبه بهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «من تشبَّه بقومٍ فهو منهم» (4) ، لكن ليس هذا مخصوصًا بالحمرة، بل هو جار في كل الألوان والأحوال، حتى لو اختص أهل الظلم والفسق بشيء مما أصله سُنَّة كالخاتم =(6/128)=@ والخضاب والفرق لكان ينبغي لأهل الدين ألا يتشبهوا بهم؛ مخافة الوقوع فيما كرهه الشرع من التشبه &(6/103)&$ بأهل الفسق، ولأنه قد يظن به من لا يعرفه (5) أنه منهم، فيعتقد ذلك فيه (6) ، وينسبه إليهم، فيظن به ظن السوء، فيأثم الظان بذلك والمظنون بسبب المعونة عليه. %(3/968)%
__________
(1) في (ب): «قوله».
(2) في (ك): «يخص».
(3) في (ح): «ذلك».
(4) روي من حديث ثلاثة من الصحابة :
1 - حديث ابن عمر: علَّقه البخاري في "صحيحه" (6/98) بصيغة التمريض. وأخرجه ابن أبي شيبة (4/218 رقم19394) في الجهاد، باب ما ذكر في فضل الجهاد والحث عليه، وأحمد (2/50 و92)، وعبد بن حميد (848)، وأبو داود (4/314 رقم4031)، وابن الأعرابي في "معجمه" (2/576-578 رقم1137)، والذهبي في "السير"(15/509). جميعهم من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، عن أبي منيب الجرشي، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم».
رواية أبي داود مختصرة على الشطر الأخير. وفي سنده: عبدالرحمنبن ثابت بن ثوبان، اختلف القول فيه، فوثقه أبو حاتم، ودحيم، وأبو زرعة الدمشقي. وقال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال مرة: لم يكن بالقوي في الحديث. وقال ابن معين: ضعيف، وقال مرة: صالح، وقال مرة: ليس به بأس. وذكره ابن الجوزي في جملة الضعفاء. وقال ابن المديني والعجلي وأبو زرعة الرازي وابن شاهين ويعقوب بن شيبة: ليس به بأس. وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال مرة: ليس بثقة، وقال مرة: ضعيف. وقال الذهبي: لم يكن بالمكثر، ولا هو بالحجة، بل صالح الحديث. "تهذيب الكمال مع حاشيته"(17/12-18 رقم3775). وفي "التقريب" (ص572 رقم3844): صدوق يخطيء، ورمي بالقدر، وتغير بآخرة .
وقد توبع على روايته، تابعه الأوزاعي، واختُلف عليه: فأخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (1/213 رقم231) عن أبي أمية، عن محمد بن وهب بن عطية، عن الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية، به.
والوليد بن مسلم ممن يدلس في التسوية، ولم يصرح بالسماع في جميع طبقات السند. وخالفه عيسى بن يونس، وابن المبارك في روايته: فأخرجه ابن أبي شيبة (4/222 رقم19430) في الموضع السابق، عن عيسى بن يونس. والقضاعي في "مسند الشهاب" (1/244 رقم390) من طريق ابن المبارك. كلاهما عيسى بن يونس، وابن المبارك، عن الأوزاعي، عن سعيد بن جبلة، عن طاووس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره .
قال الحافظ في "تغليق التعليق" (3/446): إسناده حسن، لكنه مرسل. وفي "العلل" لابن أبي حاتم (1/319 رقم956) قال أبو حاتم: قال دحيم: الحديث حديث الأوزاعي، عن سعيد بن جبلة، عن طاوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وسعيد بن جبلة: قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(4/10 رقم31): «روي عن طاوس، روى عنه الوزاعي». وحكى عنه أبيه أنه قال: هو شامي .
والحديث قال عنه الذهبي: إسناد صالح. وصحح العراقي إسناده في تخريج "الإحياء" (2/676). وجوَّد إسناده ابن تيمية في "الإقتضاء". وقال الحافظ ف ي"الفتح" (10/274): وقد ثبت أ،ه قال: من تشبه بقوم فهو منهم. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (7/121 رقم5114). والألباني في "الإرواء" (5/109-110 رقم1269)، و"جلباب المراة المسلمة" (ص203-204).
وهناك شاهد مرسل: أخرجه سعيد بن منصور (2/143-144 رقم2370) عن إسماعيل بن عياش، عن أبي عمير الصوري، عن الحسن، مرسلاً .
2 - حديث حذيفة: أخرجه البزار (7/368 رقم2966)، والطبراني في "الأوسط" (8/226 رقم5088/مجمع البحرين). كلاهما من طريق محمد بن مرزوق، عن عبدالعزيز بن الخطاب، عن علي بن غراب، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«من تشبه بقوم فهو منهم». قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن حذيفة مسندًا إلا?من هذا الوجه، وقد رواه غير علي بن غراب، عن هشام، عن محمد، عن أبي عبيدة، عن أبيه موقوفًا .
وقال الطبراني: لم يروه عن هشام إلا علي، ولا عنه إلا عبدالعزيز، تفرد به محمد بن مرزوق .
وقال الهيثمي في"مجمع الزوائد" (10/271): رواه الطبراني في الأوسط، وفيه علي بن غراب، وقد وثقه غير واحد، وضعفه بعضهم، وبقية رجاله ثقات .
3 - حديث عبدالله بن عمرو: أخرجه الترمذي (5/54 رقم2695) في الاستئذان، باب ما جاء في كراهية إشارة اليد بالسلام، عن قتيبة بن سعيد، عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا ...».
قال الترمذي: إسناده ضعيف، وروى بن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه .
وله طريق أخرى: قال الزبيدي في "الإتحاف" (3/1188/استخراج الحداد): قال الطبري: حدثنا محمد بن حبيب، عن عمرو بن شعيب، به .
والحديث ضعفه الألباني في "الإرواء" (5/111 رقم1270).
(5) في (ك): «لا يعرف».
(6) قوله: «فيه» سقط من (ك).(3/969)
%(3/969)%(3/970)
- - - - -
وقوله: «كان أحسن الناس (1) وجهًا، وأحسنه خَلْقًا»؛ الرواية بتوحيد ضمير =(6/129)=@ أحسنه، وبفتح الخاء وسكون اللام من خَلْقًا، فأما توحيد الضمير؛ فقال أبو (2) حاتم: العرب تقول: فلان أجمل الناس وأحسنه؛ يريدون: أحسنهم، ولا يتكلمون به. قال: والنحويون (3) يذهبون به إلى أنه أحسن مَن ثمَّة. وأما خَلْقًا: فأراد به (4) : حُسْن الجسم؛ بدليل قوله بعده: «ليس بالطويل الذاهب، ولا بالقصير». وأما في حديث أنس (5) ، فروايته: بضم الخاء واللام؛ لأنَّه يعني به حسن المعاشرة بدليل سياق ما بعده من الحديث .
وقوله: «كان أبيض مليحًا مُقَصَّدًا»؛ أبيض: يعني في صفاء، كما جاء أنه كان أزهر (6) ، وكما قال :«ليس بالأبيض الأمهق (7) » (8) . والملاحة: أصلها في العينين كما تقدَّم (9) . والمقصَّد: القصد في جسمه وطوله؛ يعني: أنه لم يكون (10) ضئيل الجسم، ولا ضخمه، ولا طويلاً ذاهبًا، ولا قصيرًا مترددًا، كان وسطًا فيهما. %(3/970)%
__________
(1) قوله: «الناس» سقط من (ك).
(2) في (ح): «ابن».
(3) في (ح): «النحويون» بلا واو.
(4) قوله: «به» سقط من (ق).
(5) تقدم في باب كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس .
(6) تقدم في باب طيب رائحة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(7) في (ح): «الأنهق».
(8) ستأتي هذه الرواية في باب حسن أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(9) قوله: «كما تقدم» سقط من (ح).
(10) في (ح) و(ق): «لم يكن».(3/971)
وقوله: «كان شعره رَجِلاً»؛ أي (1) : ليس بالجعد، ولا بالسَّبط. الرواية في رَجِلاً، بفتح الراء وكسر الجيم، وهي المشهورة. وقال الأصمعي: يقال: شعر رَجِل: بفتح الراء وكسر الجيم (2) ، ورَجَل: بفتح الجيم، ورَجْل: بسكونها، ثلاث لغات؛ إذ (3) كان بين السُّبوطة، والجعُودة، قال غيره: شعر مرجَّل؛ أي: مسرح .فكأن (4) شعره - صلى الله عليه وسلم - بأصل خِلْقته مُسَرَّحًا (5) . =(6/130)=@
وقول أنس رضي الله عنه – وقد (6) سئل عن خضاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لم ير من الشيب &(6/104)&$ إلا قليلاً». وفي الرواية الأخرى: «لو شئت أن أَعُدَّ شمطاتٍ في رأسه فعلت»؛ ظاهره: أنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يختضب، كما قد نصَّ عليه في بقية (7) الحديث. وبهذا الظاهر أخذ مالك فقال: لم يختضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإليه ذهب أبو عمر بن عبدالبر، وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أنه خضب، متمسِّكين في ذلك بما رواه أبو داود (8) عن أبي رمثة، قال: انطلقت مع أبي نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو ذو وفرة، وبها ردعٌ من حنَّاء، وعليه بُردان أخضران». وروى أبو داود (9) أيضًا عن زيد بن أسلم: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتليء ثيابه من الصفرة. فقال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها (10) ، ولم يكن شيء أحبَّ إليه منها، وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها حتى عمامته. ويعتضد هذا بأمره - صلى الله عليه وسلم - بتغيير الشيب، كما (11) قال (12) : «غيروا هذا الشيب واجتنبوا السواد» (13) ، وقال: «غيروا الشيب ولا تشبَّهوا باليهود» (14) . وما (15) كان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بشيء إلا كان أول آخذ به. ومما يعتضد به (16) لذلك ما رواه البخاري (17) عن عبدالله بن موهب، قال: دخلت على أم &(6/105)&$ سلمة، فأخرجت لي شعرات من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخضوبًا. زاد ابن أبي شيبة (18) : =(6/131)=@ بالحناء والكتم. والإسناد واحد. ومما يعتضد به هؤلاء خضاب الخليفتين رضي الله عنهما، فلو علما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يختضب قط (19) لما اختضبا، فإنَّهما ما كانا باللذين يعدلان عن سنَّته، ولا عن اتباعه، وانفصل (20) لهؤلاء من أحاديث (21) أنس، وما في معناها بأن الخضاب لم يكن منه - صلى الله عليه وسلم - دائمًا، ولا في كل حال؛ وإنَّما كان في بعض الأوقات، فلم يُلتفت (22) لهذه الأوقات القليلة، وأطلق القول، وأولى من هذا أن يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - لما لم يكن شيبه كثيرًا؛ وإنَّما كان في (23) لحيته وصدغيه %(3/971)%
__________
(1) قوله: «أي» سقط من (ك).
(2) قوله: «وكسر الجيم» سقط من (ق).
(3) في (ح) و(ق): «إذا» بدل «إذ».
(4) في (ق): «وكان».
(5) في جميع النسخ: «مسرح» و(ح) و(ق)!
(6) في (ح): «ولقد».
(7) في (ح): «بقيت» كذا رسمت.
(8) تقدم تخريجه في كتاب الحج، باب بيان المحل الذي أهل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(9) تقدم في الموضع السابق .
(10) قوله: «بها» سقط من (ك).
(11) قوله: «كما» مطموس في (ح).
(12) في (ح): «قالوا».
(13) تقدم في اللباس، باب ما جاء في صبغ الشعر .
(14) جاء هذاالحديث من رواية أبي هريرة والزبير وأنس وابن عمر رضي الله عنهم .
أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/439)، وأحمد (2/261)، وأبو يعلى (5977)، وابن حبان (5473)، والبغوي (3175). كلهم من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به. وأخرجه الترمذي (1752) من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه به. وأخرجه البيهقي (7/311) من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة به .
وأخرجه أحمد (1/165)، والنسائي (5074)، وأبو يعلى (681). كلهم من طريق محمد بن كناسة، ثنا هشام بن عروة، عن عثمان بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام به مرفوعًا .
وقد أعلَّه بالإرسال يحيى بن معين والدارقطني، وقالوا: الصواب عن عروة مرسلاً. "علل الدارقطني" (4/234).
(15) قوله: «ما» مطموس في (ح).
(16) قوله: «به» سقط من (ك).
(17) أخرجه البخاري (10/352 رقم5897) كتاب اللباس، باب ما يذكر في الشيب .
(18) "مصنف ابن أبي شيبة" (25009) بإسناد البخاري .
(19) قوله: «قط» سقط من (ق) و(م).
(20) في (ق) و(م): «والفصل».
(21) في (ح) و(ك): «عن أحاديث».
(22) في (ح) و(ق): «يلتفت أنس».
(23) قوله: «في» سقط من (ك).(3/972)
نحو العشرين شعرة بيضًا، لم يكن الخضاب يظهر فيها غالبًا، والله تعالى أعلم.
وقد اعتذر أصحاب القول الأول (1) عن حديث أبي رمثة وابن عمر بأن (2) ذلك لم يكن خضابًا بالحناء؛ بل (3) كان تغييرًا بالطيب، ولذلك (4) قال ابن عمر رضي الله عنهما: كان يصبغ بالصفرة، ولم يقل: بالحناء، وهذه الصفرة هي التي قال عنها أبو رمثة: ردع من حناء؛ لأنَّه شبهها بها، وأما حديث أم سلمة فيحتمل أن يكون ذلك (5) فعل بشعر (6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده بطيب أو غيره احترامًا وإكرامًا. والله تعالى أعلم. &(6/106)&$
والشَّمَطات: جمع شمطة، ويعني بها: الشعرات البيض المخالطة للشعر الأسود. قال الأصمعي: إذا رأى الرجل البياض؛ فهو أَشْمَط. وقد شَمِطَ. والكَتَم -بالتحريك -: نبت يخلط بالوسمة؛ يختضب به (7) . قاله في الصحاح. والبحت - بالموحدة (8) والحاء المهملة -: هو الخالص من الشيء، المنفرد عن غيره. وقال أبو حنيفة اللغوي: الوسمة: الحظر (9) ، والعِظْلِم، والثبلج (10) ، والتَّنومة (11) ، وكله يصبغ به. والحناء ممدودة (12) . قال أبوعلي: جمع (13) حناءة. والكتم -مخفف (14) التاء: هو المعروف. وأبو عبيد (15) يقولها بالتشديد. ونُبَذ (16) : الرواية فيه بفتح النون وسكون الباء (17) ؛ أي: شيء قليل متبدد. وبعض النَّاس يقوله: نبذ - بضم النون وفتح الباء -: جمع نُبْذة، كغرفة وغرف، وظلمة وظلم. وهذا لا يستقيم هنا؛ لأنَّه كان يلزم منه أن =(6/132)=@ يكون سببه نبذًا مجتمعة في أنفسها، متفرقة في مواضع عديدة، ويلزم (18) عليه أن يكون سببه كثيرًا، فيكون هذا مخالفا لما قاله أنس في الأحاديث الأخر.
وكراهته - صلى الله عليه وسلم - نَتْف الشيب إنَّما (19) كان لأنه وقارٌ، كما قد (20) روى مالك (21) : «أن أوَّل من رأى الشيب إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: يا رب! ما هذا؟ فقال: وقار. قال: يا رب زدني وقارًا»، ولأنه (22) نورٌ يوم القيامة، كما روى أبو داود (23) من حديث عمرو بن شعيبب عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تنتفوا الشيب! ما من مسلم يشيب شيبة في الاسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة». وفي?أخرى: «إلا كتب الله له حسنة، وحط عنه خطيئة». %(3/972)%
__________
(1) قوله: «الأول» سقط من (ك).
(2) في (ك): «فإن».
(3) في (ق) و(م): «وإنما».
(4) في (ح): «وكذلك».
(5) قوله: «ذلك » سقط من (ق).
(6) في (ق): «شعر».
(7) قوله: «به» سقط من (ق).
(8) في (ح) و(ك): «بالباء بواحدة».
(9) في (ب) و(ح) و(ك): «الخطر».
(10) تراجع النسخ والكلمة ومعناها! وفي (ح): يشبه «النبلج».
(11) في (ح): «والعنومة».
(12) في (ح) و(ك): «ممدود».
(13) في (ح): «هو جمع».
(14) في (ك): «بتخفيف».
(15) في (ح): «وأبو عبيدة».
(16) في (ح): يشبه «وقيد».
(17) في (ح): «الياء» بدل «الباء».
(18) في (ك): «ولم يلزم».
(19) في (ك): «إذا».
(20) قوله: «قد» سقط من (ح).
(21) أخرجه مالك (1642)، وابن أبي شيبة (26467 و31832 و35739)، وعبدالرزاق (20245)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1250). كلهم من طريق يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب مرسلاً .
(22) في (ق): «أو لأنه».
(23) أخرجه ابن أبي شيبة (5/268 رقم25942) في الأدب، باب في نتف الشيب، وعنه ابن ماجه (2/1226 رقم3721) في الأدب، باب نتف الشيب. وأخرجه أحمد (2/206-207)، والترمذي (5/115 رقم2821) في الأدب، باب ما جاء في النهي عن نتف الشيب. جميعهم من طريق محمد بن إسحاق .
وأخرجه أحمد (2/179) من طريق ليث بن أبي سليم. وأخرجه أحمد أيضًا (2/179)، وأبو داود في (4/414 رقم4202) في الترجل، باب في نتف الشيب. وابن عدي (3/204)، والبيهقي (7/311). جميعهم من طريق محمد بن عجلان. وأخرجه أحمد (2/212)، والحسن بن عرفة في "جزئه" (43)، والبيهقي (7/311)،جميعهم من طريق عبد الرحمن بن الحارث وأخرجه أحمد (2/210) جميعهم من طريق عبدالحميد بن جعفر. وأخرجه النسائي (8/136 رقم5065) في الزينة، باب النهي عن نتف الشيب، من طريق عمارة بن غزية.
وأخرجه والبيهقي (7/311) من طريق ابن لهيعة. جميعهم -محمد بن إسحاق، وليث بن أبي سليم، ومحمد بن عجلان، وعبدالرحمن بن الحارث، وعبدالحميد بن جعفر، وعمارة بن غزية، وابن لهيعة -، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب له بها حسنة، ورفع بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة».
قال الترمذي: هذا حديث حسن .
وله شواهد: منها ما أخرجه أحمد (4/113 و384)، وابن حبان (7/252 رقم2984/الإحسان)، والبيهقي (9/161) من طريق معدان بن أبي طلحة. وأخرجه أحمد (4/113 و386)، والنسائي (6/26 و27-28 رقم3140 و3143) في الجهاد، باب ثواب من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل، والبيهقي (9/272) من طريق شرتحيل بن السمط. وأخرجه أحمد (4/386)، والترمذي (4/148 رقم1635) في فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من شاب شيبة في سبيل الله، من طريق كثير بن مرة .
وأخرجه أحمد (4/386)، وعبد بن حميد (298) من طريق أبي أمامة .
وأخرجه أحمد (4/113 و386)، وعبد بن حميد (304) من طريق أبي ظبية .
وأخرجه أحمد (4/113) من طريق الصنابحي. جميعهم - معدان بن أبي طلحة، وشراحيل بن السمط، وكثير بن مرة، وأبو أمامة، وأبو ظبية، والصنابحي، عن عمرو بن عبسة، فذكره .
قال الترمذي: حسن صحيح غريب .
ومنها: ما أخرجه ابن حبان (7/253 رقم2985/الإحسان) من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فذكره .
وحسن إسناده اللباني في "الصحيحة" (3/247).
ومنها: ما أخرجه ابن حبان (7/251 رقم2983/الإحسان) من طريق الهيثم بن خارجة عن حمير، عن ثابت بن عجلان، عن سليم بن عامر، عن عمر بن الخطاب، فذكره. وانظر "الصحيحة" (3/247-248).(3/973)
وقول أنس رضي الله عنه (1) : «ما شانه الله بِبَيضاء (2) »؛ أي: لم يكن شيبه كثيرًا بيِّنًا حتى &(6/107)&$ تزول عنه بهجة الشباب، ورونقه، ويلحق بالشيوخ؛ الذين (3) يكون الشيبُ لهم عيبًا، فإنَّه يدلّ على ضعفهم، ومفارقة قوة الشباب ونشاطه. ويحتمل أن يريد: أن (4) ما ظهر عليه من الشيب اليسير زاده ذلك في عين الناظر (5) إليه أبهة، وتوقيرًا (6) ، وتعظيمًا.
و «الشَّيْن (7) »: العيب. و «أبري النِّبل»: أنحته (8) ، و «أَرِيشُه»: أجعل فيها (9) الريش؛ ويعني (10) : أنَّه قد كان (11) كبر، وقوي، وعرف. وهذا حال المراهق.
وقوله: «قد شَمِطَ مُقَدَّمُ رأسه ولحيته»؛ أي: خالط الشيب ذينك (12) الموضعين. ومقدم اللحية: يعني به: العنفقة، كما قال أبو (13) جحيفة: رأيت هذه منه بيضاء. يعني: عنفقته. و «مقدمه (14) » يعني به: الصِّدغين، كما قال أنس: إنما كان البياض في عنفقته وصدغيه. وهذا يدلّ: على أن قول أنس في الرواية الأخرى: إنه كان في =(6/133)=@ لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه عشرون شعرة بيضاء، إنَّما كان ذلك منه تقديرًا (15) على جهة التقريب والتقليل (16) لا التحقيق.
وقوله: «وكان إذا ادَّهن (17) لم تتبيَّن، وإذا شعث تبيَّن»؛ يعني: أنه كان إذا تطيَّب بطيب يكون فيه دهن فيه (18) صفرة خفي شيبه؛ وهذه هي الصفرة التي رأى عليه ابن عمر، وأبو رمثة (19) . والله أعلم.
وشعث الرأس: انتفاش الشعر (20) لعدم تسريحه، وأراد به هنا: إذا لم يتطيَّب.
وقوله :«كان وجهه مثل السيف»؛ يحتمل (21) هذا التشبيه (22) وجهين:
أحدهما: أن السيوف كانت عندهم مستحسنة محبوبة يتجمَّلون بها، ولا يفارقونها، فشبه وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - به؛ لأنَّه مستحسن محبوب يُتجمل به حين المجالسة، ولا يُستغنى عنه. &(6/108)&$ %(3/973)%
__________
(1) قوله: «أنس رضي الله عنه» سقط من (ك).
(2) في (ق): «ببياض».
(3) في (ح): «الذي».
(4) قوله: «أن» سقط من (ق).
(5) في (ح): «الناظرين».
(6) قوله: «وتوقيرًا» سقط من (ك).
(7) في (ح): «والشيب».
(8) في (ح): «أنحته وأهيئه».
(9) في (ح): «فيه».
(10) في (ك): «يعني».
(11) في (ح): «أنه كان قد».
(12) في (ح): «ذلك».
(13) قوله: «أبو» سقط من (ك).
(14) في (ح): «ومقدمته».
(15) قوله: «تقديرًا» سقط من (ح).
(16) في (ح): «التعليل».
(17) في (ق): «دهن».
(18) قوله: «دهن فيه» سقط من (ك).
(19) تقدم تخريجهما في كتاب الحج، باب بيان المحل الذي أهل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(20) في (ق) و(م): «شعره».
(21) في (ح): «تحتمل».
(22) في (ح): يشبه «التنبيه».(3/974)
وثانيهما: أنه كان - صلى الله عليه وسلم - أزهر (1) ، صافي البياض، يبرق وجهه، وقد روي: أنه كان يتلألأ (2) وجهه (3) في الجدر (4) ؛ فشبَّه وجهه بالسيف في صفاء بياضه وبريقه. والله تعالى أعلم.
وقوله: «لا! بل: مثل الشمس والقمر»؛ هذا نفيٌ لتشبيه وجهه بالسيف، لما في السيف من الطول، فقد يحتمل (5) أن وجهه كان طويلاً؛ وإنَّما كان مستديرًا في تمام خَلْق، ولأنه تقصير في التشببه، فأضرب عن ذلك، وذكر من التشبيه ما هو أوقع، وأبلغ؛ فقال: بل مثل الشمس والقمر»؛ وهذا التشبيه: هو الغاية في =(6/134)=@ الحسن (6) ؛ إذ ليس فيما نشاهده من هذه الوجوه (7) أحسن، ولا أرفع، ولا أنفع منهما، وهما اللذان جرت عادة الشعراء والبلغاء بأن يشبهوا بهما ما يستحسنونه.
وقوله: «وكان كثير شعر اللحية»؛ لا يفهم من هذا أنه كان طويلها، فإنَّه قد صحَّ أنه (8) كان كثَّ اللحية (9) ؛ أي: كثير شعرها غير طويلة، وكان يخلل لحيته (10) .
وقوله: «ورأيت الخاتم عند كتفه (11) مثل بيضة الحمامة»؛ الألف واللام في الخاتم لتعريف العهد؛ أي: خاتم النبوة الذي (12) من علاماته المعروفة له في الكتب السابقة، وفي صدور علماء الملل (13) السالفة، ولذلك لما حصل عند سلمان الفارسي رضي الله عنه العلم بصفاته، وأحواله، وعلاماته وموضع مبعثه، ودار هجرته (14) ؛ جدَّ في الطلب حتى ظفر بما طلب، ولما لقيه جعل يتأمل ظهره، فعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه يريد أن يقف على ما يعرفه من خاتم النبوة (15) ، فنزع رداءه من على ظهره، فلما رأى سلمان الخاتم أكبَّ عليه يقبله، وهو يقول: أشهد أنك رسول الله.
وروى الترمذي (16) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام، ونزلوا بصومعة راهب كان هنالك، وقد سُمِّي في غير هذا الخبر (17) «بحيرًا»، فخرج إليهم ذلك الراهب (18) ، وكان قبل (19) لا يخرج إليهم، ولا يلتفت (20) إليهم، فلما خرج جعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - &(6/109)&$ فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر، ولا %(3/974)%
__________
(1) في (ح): «أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أزهر».
(2) في (ب) و(ح): «تتلألأ».
(3) قوله: «وجهه» سقط من (ك).
(4) أخرجه عبد الرزاق (20490)، وعنه الذهلي كما في "البداية والنهاية" لابن كثير (6/19) عن معمر، عن الزهري قال: سئل أبو هريرة عن صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال، فذكره. وهذا مرسل .
قال ابن كثير (6/19): وقد رواه محمد بن يحيى من وجه آخر متصل، فقال: ثنا إسحاق بن ابراهيم؛ يعني الزبيدي، حدثني عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن سالم، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فذكر نحو ما تقدم .
(5) في (ك): «يتخيل».
(6) في (ك): «هو في الغاية والحسن».
(7) في (ح): «هذا الوجود». وفي (ق): يشبه «الوجود».
(8) في (ح): «عنه» بدل «أنه» وي (ق): «صح عنه أنه».
(9) أخرجه النسائي (8/183 رقم5229) في الزينة، باب اتخاذ الجمة، من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً مربوعًا، عريض ما بين المنكبين، كث اللحية ...، الحديث .
وهو عند المصنف (2253) دون قوله: كث اللحية .
(10) أخرجه عبدالرزاق (1/41 رقم125)، وعنه ابن ماجه (1/148 رقم430) في الطهارة، باب ما جاء في تخليل اللحية، والحاكم (1/148 - 149)، والبيهقي (1/54).
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/21 رقم113) في الطهارة، باب في تخليل اللحية في الوضوء، وعنه ابن حبان (3/362-363 رقم1081/الإحسان)، والدارقطني (1/86)، وأخرجه الدارمي (1/178-179) في الطهارة، باب في تخليل اللحية، والترمذي (1/46 رقم31) في الطهارة، باب ما جاء في تخليل اللحية، وابن الجارود (1/72 رقم72/غوث)، وابن خزيمة (1/78 و78-79 و86 رقم 151 و152 و167)، والدارقطني (1/86 و91)،، والبيهقي (1/54 و63).
جميعهم من طريق إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان بن عفان: أنه توضأ فغسل وجهه ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا، ومضمض ثلاثًا، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما ورجليه ثلاثًا، وخلل لحيته وأصابع الرجلين، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ .
قال الترمذي :«حسن صحيح. ثم قال: وقال بهذا أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم، رأوا تخليل اللحية، وبه يقول الشافعي».
وفي "سننه" (1/45): «وقال محمد بن إسماعيل: أصح شيء في هذا الباب حديث عامر ابن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان».
وفي "العلل الكبير" .(....): قال محمد - يعني البخاري -: أصح شيء في التخليل عندي، حديث عثمان. قلت: إنهم لا يتكلمون فيه؟ قال: هو حسن .
وفي "مسائل أبي داود" (ص309): قال أحمد: أحسن شيء في تخليل اللحية، حديث شقيق، عن عثمان .
وقال الحاكم: وهذا إسناد صحيح، قد احتجا بجميع رواته غير عامر بن شقيق، ولا أعلم في عامر بن شقيق طعنًا بوجه من الوجوه .
فتعقبه الذهبي بقوله: ضعفه ابن معين .
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/45): سمعت أبي يقول: لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تخليل اللحية حديث. وفي "التلخيص" (1/87): قال عبدالله بن أحمد، عن أبيه: ليس في تخليل اللحية شيء صحيح.
وقال الزيلعي في "نصب الراية" (1/24) عن ابن دقيق العيد قوله: «وقد أخرج الشيخان حديث عثمان في الوضوء من عدة طرق، وليس في شيء منها ذكر التخليل».
وللحديث شواهد كثيرة، توسع في ذكرها أخونا أبو إسحاق الحويني في تعليقه على "جنة المرتاب" (ص 205-224).
(11) في (ق): «كتفيه».
(12) في (ح): «الذي هو».
(13) في (ك): «الأمم».
(14) صحيح لغيره، انظر "مختصر استدراك الذهبي" (5/2318-2322 رقم798) بتحقيقي .
(15) في (ق): «خاتم نبوته».
(16) أخرجه ابن أبي شيبة (6/322 رقم 31724) في الفضائل، باب ما أعطى الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ، والترمذي (5/550-551 رقم3620) في المناقب، باب ما جاء في بدء نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والبزار في "مسنده" (8/97-98 رقم3096)، والخرائطي كما في "البداية والنهاية" (2/284-285)، والحاكم (2/615-616)، وأبو نعبم في "دلائل النبوة" (1/170-172 رقم109)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/24-25)، وأوب القاسم الأصبهاني في "دلائل النبوة" (1/381-383 رقم26)، جميعهم من طريق قراد أبي نوح، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج مع أبي طالب إلى الشام في تجارة، فلقيه راهب ... الحديث مطولاً .
قال الترمذي: «هذا الحديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه».
قال البزار: «وهذا الحديث لا نعلم رواه عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه إلا يونس ابن أبي إسحاق، ولا عن يونس إلا عبد الرحمن بن غزوان المعروف بقراد».
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه».
وقال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/285): «وهكذا رواه غير واحد من الحفاظ من حديث أبي نوح عبدالرحمن بن غزوان الخزاعي مولاهم، ويقال له: الضبي، ويعرف بقراد، سكن بغداد، وهو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري، ووثقه جماعة من الأئمة والحفاظ، ولم أر أحدًا جرَّحه، ومع هذا في حديثه هذا غرابة قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه».
ثم قال: فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة، فإن أبا موسى الأشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة، ولا يلتفت إلى قول ابن اسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة، وعلى كل تقدير فهل مرسل فإن هذه القصة كانت، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون أبلغ، أو من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم، أو كان هذا مشهورًا مذكورًا أخذه من طريق الاستفاضة .
الثاني: أن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا .
الثالث: أن قوله: وبعث معه أبو بكر بلالاً؛ إن كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك ثنتي عشرة سنة، فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة، وعمر بلال أقل من ذلك، فأين كان أبو بكر إذ ذاك؟ ثم أين كان بلال؟ كلاهما غريب؛ اللهم! إلا أن يقال: إن هذا كان ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبيرًا. إما بأن يكون سفره بعد هذا، أو إن كان القول بأن عمره كان إذ ذاك ثنتي عشرة سنة غير محفوظ؛ فإنه إنما التعليق ذكره مقيَّدًا بهذا الواقدي، وحكى السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك تسع سنين، والله أعلم».
وقال الحافظ في "الفتح" (8/716): «وهو عند الترمذي بإسناد قوي عن أبي موسى».
وقال في "الإصابة" (1/293): « وقد وردت هذه القصة بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي موسى الأشعري؛ أخرجها الترمذي وغيره، ولم يسم فيها الراهب، وزاد فيها لفظة منكرة، وهي قوله: واتبعه أبو بكر بلالاً، وسبب نكارتها أن أبا بكر حينئذ لم يكن متأهلاً ولا اشترى يومئذ بلالاً إلا أن يحمل على أن هذه الجملة الأخيرة منقطعة من حديث آخر ُدرجت في هذا الحديث، وفي الجملة هي وَهْمٌ من أحد رواته».
وقال المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (10/93): «قال الجزري: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، أو أحدهما، وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ، وعدَّة أئمتنا وهمًا، وهو كذلك». ثم قال: «ووقع في كتاب الترمذي وغيره: أنه بعث معه بلالاً، وهو من الغلط الواضح، فإن بلالاً إذ ذاك لعله لم يكن موجودًا، وإن كان فلم يكن مع عمه، ولا مع أبي بكر، وذكر البزار في مسنده هذا الحديث ولم يقل: وأرسل معه عمه بلالاً، ولكن قال: رجلاً».اهـ.
وقد استنكر الإمام الذهبي هذه القصة، فقال في "الميزان" (2/581)- في ترجمة عبدالرحمن بن غزوان -: «أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبي موسى في سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام، وقصة بحيرا، ومما يدل على بطلانه قوله: وردَّه أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وبلال لم يكن خلق بعد، وأبو بكر كان صبيًّا».
وقال في "السير"(9/519): «له حديث لا يُحتمل قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبحيرا بالشام». وفي "تاريخ الإسلام" (26 و28).
(17) في (ح): «الحديث»، وكذا كانت في (ك) ثم عدلها: «الخبر».
(18) قوله: «الراهب» سقط من (ك).
(19) في (ق): «قبل ذلك».
(20) في (ب) و(ح) و(ق): «يلتفتهم فلما».(3/975)
شجر إلا خرَّ ساجدًا له، ولا يسجدان (1) إلا لنبي، وإني أعرفه (2) بخاتم النبوة أسفل من غضروفه (3) مثل التفاحة ...، وذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: حديث حسن =(6/135)=@ غريب. وعلى هذا؛ فخاتم النبوة معناه: علامةُ نبوَّةِ (4) محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ وقد اختلفت ألفاظ النقلة في صفة ذلك الخاتم، فروى جابر بن سمرة، وأبو موسى ما ذكرناه (5) آنفًا، وروى السائب (6) بن يزيد: أنه مثل زرِّ الحجلة. وروى عبدالله بن سرجس: أنه رأى (7) جُمْعًا عليه خِيلان مثل: الثآليل. وروى الترمذي (8) عن جابر بن سمرة، قال: كان خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني: الذي بين كتفيه - غدَّة حمراء مثل بيضة (9) الحمامة، وقال: حسن صحيح.
قال الشيخ رحمه الله: وهذه الكلمات كلها متقاربة المعنى مفيدة: أن خاتم النبوة كان نتوءًا قاتمًا أحمر تحت كتفه الأيسر قدره إذا قُلِّل: بيضة الحمامة، وإذا كُثِّر (10) : جمع اليد، وقد جاء في البخاري: كان بضعة ناشزة (11) ؛ أي: مرتفعة.
وقوله: «زرِّ الحجلة» الرواية المعروفة فيه (12) : «زر» بتقديم الزاي. قال أبو الفرج الجوزي (13) : الحجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب، ويجعل له باب من جنسه، فيه زرّ وعروة، تشدُّ إذا أغلق. وقال القاضي أبو الفضل: الزرُّ: الذي يعقد به النساء عرى أحجالهن (14) كأزرار القميص. والحجلة هنا: واحدة الحِجال (15) ، وهي (16) ستور ذات (17) سُجوف. وقال غيرهما (18) : الحجلة: هي الطائر المعروف، وزرَّها: بيضتها؛ كما قال جابر: بيضة الحمامة.
قال الشيخ: والأول: أشهر في الزر، والثاني: أشبه (19) بالمعنى، وقد أبعد الخطابي فرواه: رز الحجلة بتقديم الراء، أراد (20) : بيضة الحجلة. يقال: أرزت الجرادة؛ أي: أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض. &(6/110)&$
قال الشيخ: وهذا لا يلتفت إليه؛ لأنَّ العرب لا تسمى البيضة رزة، ولا تؤخذ (21) =(6/136)=@ اللغة قياسًا. قال القاضي أبو الفضل: وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه (22) .
قال الشيخ: هذه غفلة من هذا الإمام، فإنَّ الشق إنما كان في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أثره (23) إنما كان خطًّا واضحًا من صدره إلى مراق بطنه، كما هو منصوص عليه في %(3/975)%
__________
(1) في (ك): «تسجد».
(2) في (ق): «لأعرفه».
(3) في (ح) و(ك): «عرضوفه».
(4) في (ح) و(ق): «نبوة نبينا».
(5) في (ك): «ما ذكرنا».
(6) في (ك): «للسائب».
(7) في (ب) و(ح) و(ق): «رآه».
(8) في "سننه" (5/562 رقم3644) في المناقب، باب في خاتم النبوة .
(9) في (ح): «بيض».
(10) في (ح) و(ك): «كبر».
(11) ظاهر كلام المؤلف وصريح كلام النووي في "شرح مسلم" (15/98) أنه أخرجه البخاري في "صحيحه"، وليس الأمر كذلك، وإنما أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/85)، و(4/24). وأخرجه أيضًا الترمذي في "الشمائل" (22)، وابن حبان في "تاريخ أصبهان" (210)، والطبري في "تاريخه" (2/222) عن بشر بن وضاح، عن بشير بن عتبه، عن أبي نضرة، سألت أبي سعيد الخدري عن خاتم النبوة فقال... فذكره. قال ابن حجر (6/563): وعند الترمذي كبضعة ناشزة من اللحم .
(12) قوله: «فيه» سقط من (ق).
(13) كذا في جميع النسخ! بدون «ابن».
(14) في (ح) و(ك) و(ق): «حجالهن».
(15) في (ك): «الحجل».
(16) في (ك): «وهو».
(17) في (ح): «ذوات».
(18) في (ق): «غيره».
(19) في (ق): «أشهر وأشبه».
(20) في (ح): «وأراد».
(21) في (ق): «ولا توجد».
(22) انظر كتاب الإيمان، باب شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صغره، وباب في شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثانية .
قال الحافظ في "الفتح" (6/561-562): «?وقد وقفت على مستند القاضي وهو حديث عتبة بن عبد السلمي الذي أخرجه أحمد والطبراني وغيرهما عنه؛ أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف كان بدء أمرك؟ فذكر القصة في ارتضاعه في بني سعد، وفيه: أن الملكين لما شقا صدره قال أحدهما للآخر: خِطه فخاطه، وختم عليه بخاتم النبوة انتهى. فلما ثبت أن خاتم النبوة كان بين كتفيه حمل ذلك عياض على أن الشق لما وقع في صدره ثم خيط حتى التأم كما كان، ووقع الختم بين كتفيه، كان ذلك أثر الشق ...، هذا مستند القاضي فيما ذكر».
(23) في (ح): «وأثره وفي (ق): «وأثر» وكتب في الهامش «وآخر» ووضع (نخـ)(3/976)
الأحاديت السالفة في كناب الإيمان من كتاب مسلم، وفي البحاري وغيرهما (1) ، ولم يثبث قط في رواية صحيحة، ولا حسنة، ولا غريبة أنه بلغ بالشق حتى نفذ من وراء (2) ظهره، ولو قدرنا أن ذلك الشق، كان نافذًا إلى ظهره (3) ، وأن ذلك أثره؛ للزم عليه أن يكون مستطيلاً من بين كتفيه (4) إلى قطنته؛ لأنَّه الذي يحاذي الصدر من مسربته إلى مراق بطنه، فهذه غفلة منه رحمه الله تعالى. ولعل هذا غلط وقع من بعض الناسخين لكتابه، فإنَّه لم يُسمع عليه فيما علمت.
وناغض الكتف: هو ما رق منه ولان، سُمِّي بذلك لنغوضه؛ أي: حركته، يقال: نغض رأسه؛ أي: حركه. ونغضت القناة: هززتها. ومنه قوله تعالى: } فسينغضون إليك رؤسهم { (5) ؛ أي: يحركونها استهزاء. ويُسمَّى الناغض: الغضروف (6) ، وكذا جاء في رواية أخرى.
وقوله: «جُمْعًا عليه خيلان»؛ هو منصوب على الحال؛ أي: نظرت إلى خاتم النبوة مثل الجمع. قال ابن قتيبة: هو جُمع الكف. يقال: ضربه بِجُمع كفه؛ إذا جمعها (7) فضربه بها. وهو بالضم، ويقال بكسرها. والخِيلان (8) : جمع خال، وهي (9) نقط سودٌ كانت على الخاتم، شبهها لسعتها بالثآليل؛ لا أنها كانت ثآليل، وهي جمع ثؤلول: وهي(2) حبيبات تعلو (10) الجلد.
وقوله: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضليع الفم»؛ فسَّره سماك في الأصل: بأنه =(6/137)=@ عظيم (11) الفم (12) ، وهو بمعنى واسع الفم كما قاله ثعلب. والعرب تتمدَّح بسعة الفم، وتكره صغره.
قال الشيخ رحمه الله: وكأنهم يتخيَّلون أن سعة الفم يكون عنها: سعة الكلام، والفصاحة، وأن ضيق الفم يكون عنه قلَّة الكلام واللكُنة، وقد وُصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان (13) &(6/111)&$ يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه (14) ؛ أي لسعة شدقيه، وعدم تصنعه، ومن هذا المعنى سُمي الرجل أشدق. %(3/976)%
__________
(1) في (ح): يشبه «وغيرها».
(2) قوله: «وراء» سقط من (ك).
(3) قوله: «إلى ظهره» سقط من (ح).
(4) قوله: «من بين كتفيه» سقط من (م).
(5) الآية (51) من سورة الإسراء .
(6) في (ح): «الغضروف والغرضوف»، في (ك): «الغضروف والغضروف».
(7) في (ك): «جمعه».
(8) في (ك): «والخيلان هو».
(9) في (ك): «وهو».
(10) في (ح): «تعلق».
(11) في (ح): «عظم».
(12) مسلم (4/1820 رقم2339) في الفضائل، باب في صفة فم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعينيه، وعقبيه .
(13) قوله: «كان» سقط من (ك).
(14) جاء هذا في حديث علي رضي الله عنه ،وقد تقدم تخريجه في هذا الباب .(3/977)
وقوله: «أشكل العينين»؛ قال أبو عبيد: الشُّهلة (1) : حمرة في سواد (2) العين، والشُّكلة: حمرة في بياضها، وهو محمودٌ. قال الشاعر:
ولا عَيْبَ فِيها غَيْرَ شُكْلَة عَيْنِها كذاك (3) عِتاقُ (4) الْخَيْلِ شُكْلٌ عُيُونها (5)
قال صاحب "الأفعال": شَكِلَت العين - بكسر الكاف -، شُكْلَة، وشُكْلاً: إذا (6) خالط بياضها حمرة.
قال الشيخ رحمه الله: ونحو هذا في الصحاح، وزاد: عين (7) شَكْلاء: بينة (8) الشَّكَل. ورجل أشكل، ودمٌ أشكل: إذا كان فيه بياض وحمرة، وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، فأمَّا ما فسَّره به سماك من أنه طويل (9) شق العين، فغير معروف عندهم، ولم أقف على من قاله غيره.
وقوله: «منهوس العقبين (10) »؛ يروى بالسين المهملة والمعجمة. قال (11) ابن الأعرابي: يقال رجل منهوس القدمين، ومنهوش القدمين (12) ؛ أي: قليل لحمهما؛ كما قال سماك، وهو مأخوذ من النهس والنهش (13) . قال أبو العباس: النهس (14) أخذٌ بأطراف الأسنان، والنهش بالأضراس. =(6/138)=@
وقوله: «ليس بالطويل البائن»؛ أي: الذي يباين الناس بزيادة طوله، وهو الذي عبَّر عنه في الرواية الأخرى :«بالمشذب (15) » (16) ، وفي الأخرى (17) : «بالممغط» (18) بالعين والغين؛ أي: المتناهي في الطول، وهو عند العرب: العَشَنَّقُ (19) ، والعَشَنَّط.
وقوله: «ولا بالقصير المتردِّد»؛ أي: الذي تداخل (20) بعضه في بعض، وهو المسمَّى عند العرب: بحنبل (21) ، وأقصر منه: الحنتل. وكلا الطرفين &(6/112)&$ مستقبح عند العرب، وخير الأمور أوساطها. وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع أحواله.
وقوله: «ليس بالأبيض الأمهق»؛ أي: الشديد البياض؛ الذي لا يخالط بياضه حمرة، ولا غيرها. والعرب تكرهه؛ لأنَّه يشبه البرص (22) .
وقوله: «ليس (23) بالآدم»؛ أي (24) : الذي تغلب سمرته السواد، فإنَّ السُّمرة بياضٌ يميل إلى سواد، والسَّحْمُة - بالسين (25) - فوقه، ثم الصَّحْمة فوقه - بالصاد - (26) ، وهو غالب لون %(3/977)%
__________
(1) في (ك): «شهلة».
(2) في (ك): «سوداء».
(3) في (ق): «كذلك».
(4) في (ح): «عناق».
(5) البيت في "غريب الحديث" (3/28)، و"لسان العرب" (11/358) غير منسوب، وفيهما: وعتاق الطير .
(6) قوله: «إذا» سقط من (ح).
(7) في (ح): «غير».
(8) في (ح): يشبه «بيناه».
(9) قوله: «طويل» مكرر في (ح).
(10) في (ك) و(ق): «منهوش القدمين».
(11) في (ح) يشبه «فقال» وكأنه ضرب على الفاء.
(12) في (ق): «منهوش القدمين ومنهوس القدمين».
(13) في (ح) و(ق): «من النهش والنهش».
(14) في (ق): «النهش».
(15) في (ك): «بالمشرب».
(16) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/422)، والترمذي في "الشمائل" (13-16)، والفسوي في "المعرفة" (3/284)، وابن عدي في "الكامل" (2/167)، والطبراني في "الكبير" (22/414)، وفي الطوال (25/245)، والحاكم في "المستدرك" (2/640)، والبيهقي "شعب الإيمان" (1362)، وفي "دلائل النبوة" (1/285). كلهم من طريق جميع بن عمر بن عبدالرحمن العجلي، عن رجل بمكة، عن ابن أبي هالة التميمي، عن الحسن بن علي، قال: سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي وكان وصَّافًا عن حلية النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث .
وهذا إسناد ضعيف لجهالة بعض رواته .
(17) في (ك): «أخرى».
(18) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/411)، والترمذي (5/559 رقم3638)، ابن أبي شيبة (31805)، والفسوي في "المعرفة" (3/283)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - " (ص50-51)، وابن عبد البر في "التمهيد" (3/29). كلهم من طريق عيسى بن يونس، عن عمر ابن عبد الله مولى غفرة، حدثني إبراهيم بن محمد - وهو من ولد علي بن أبي طالب -، قال: كان علي رضي الله عنه إذا نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال، فذكره، وإسناده ضعيف من أجل عمر مولى غفرة، وإبراهيم بن محمد لم يدرك عليًّا .
(19) في (ح): «العشق»، وفي (ك): «العسنق».
(20) في (ك): «تداخل خلفه»، وفي (ق): «داخل خلقه»، وفي (م): «تداخل خلقه».
(21) قوله: «بحنبل» مهمل النقط في (ك).
(22) في (ح): «المرض».
(23) في (ق): «اليس».
(24) قوله: «أي» سقط من (ح).
(25) في (ح): «والشحمة بالشين».
(26) في (ك): «فوق بالصاد».(3/978)
الحبش (1) ، ثم الأدمة فوقه، وهو غالب ألوان العرب. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان بياضه مشربًا بحمرة في صفاء، فصدق عليه أنه أزهر. وأنه مشرب، وهذا اللون: هو أعدل الألوان وأحسنها.
وقوله: «ولا بالجعد القطط»؛ يروى بفتح الطاء وكسرها، وهو الشديد الجعودة الذي لا يطول إلا باليد، وهو حال شعور السودان.
وقوله: «ولا بالسَّبط»؛ يعني المسترسل (2) الذي لا تكسر فيه، وهو غالب شعور الروم، والرَّجِلُ هو الوسط بين ذينك. =(6/139)=@
وقول أنس :«بعثه الله على رأس أربعين سنة»؛ يعني: من مولده؛ أي عند كمالها بعثه الله رسولاً. وهذا هو أكثر الأقوال، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه بعث على رأس ثلاث وأربعين سنة (3) ؛ وهو قول سعيد (4) بن المسيب (5) .
وقوله: «فأقام بمكة عشرًا (6) »؛ يعني: بعد البعث وقبل الهجرة. وهذا مما اختلف فيه. فقيل: عشر، وقيل: ثلاث عشرة (7) ، وقيل: خمس عشرة، ولم يُختلف أنه أقام بالمدينة عشرًا.
وقوله: «وتوفَّاه الله تعالى على رأس ستين سنة»؛ هذا أحد قولي أنس، وفي الرواية الأخرى عنه (8) : «ثلاث (9) وستين» (10) . ووافقه على ذلك: عبدالله بن عباس (11) ومعاوية(8) &(6/113)&$ وعائشة (12) ، وهو أصحُّ الأقوال، وأصحُّ الروايات على ما ذكره البخاري (13) . وقد ذُكر عن أنس (14) : خمس وستين سنة، وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس (15) ، ولا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - ولد عام الفيل (16) .
وقوله: «وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء»؛ قد قلنا إن هذا منه تقدير على جهة التقليل، وذكرنا (17) : أن شيبه كان أكثر من هذا (18) . %(3/978)%
__________
(1) في (ق) و(م): «الحبشة».
(2) في (ق): «المترسل».
(3) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/228)، والطبري في "تاريخه" (1/527) عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس به. وقد وهم فيه يحيى بن سعيد إذ رواه عن هشام بن حسان.
يزيد بن هارون، والنضر بن شميل، وابن أبي عدي ثلاثتهم قالوا: عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين .
(4) في (ح): «سعد».
(5) قال الحافظ في "الفتح" (6/570): «ومن الشاذ أيضًا ما رواه الحاكم (2/610) من طريق يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وأربعين، وهو قول الواقدي .
(6) في (ب): «عشرة».
(7) في (ك): «عشر».
(8) قوله : «عنه» سقط من (ق).
(9) في (ب) و(ق): «ثلاثة».
(10) سيأتي بعد باب، في باب كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قبض. وكم أقام بمكة؟
(11) في الباب بعد الآتي .
(12) أخرجه البخاري (6/559 رقم3536) في المناقب، باب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و(8/150 رقم4466) في المغازي، باب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(13) لعله يشير إلى إخراجه لحديث عائشة المتقدم، لكن قال الحافظ في "الفتح" (6/559): «والذي يظهر أن المصنف قصد بإيراد حديث عائشة هنا بيان مقدار عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط، لا خصوص زمن وفاته».
(14) قال ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (1/52): «وقد روى حميد عن أنس قال: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس وستين سنة، ذكره أحمد بن زهير، عن المثنى بن معاذ، عن بشر بن المفضل، عن حميد، عن أنس، وهو قول دغفل بن حنظلة السدوسي النسَّابة. ورواه معاذ، عن هشام، عن قتادة، عن أنس .
(15) سيأتي في الباب بعد الآتي .
(16) أخرجه أخرجه الإمام أحمد (4/215)، والبخاري في "الكبير"(7/145)، ويعقوب ابن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/296)، والترمذي (3619)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1/478)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (5968)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (2/349)، والطبراني في "الكبير" (18/872) والحاكم (2/603)، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" (85) والبيهقي في "الدلائل" (1/76). كلهم من طريق محمد بن إسحاق، ثني المطلب بن عبدالله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن جده قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل، فنحن لِدان، ولدنا مولدًا واحدًا.?
والمطلب هذا ذكره ابن حبان في الثقات، ولم أر فيه جرحًا ولا تعديلاً، ولم يروي عنه غير ابن إسحاق. وقد رواه ابن سعد فس "الطبقات" (1/101) عن حكيم بن محمد بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن قيس بن مخرمة. وإسناده لا بأس به .
وقال خليفة بن خياط بعد ذكر الأقوال في ولادته (1/52): «والمجمع عليه عام الفيل».
وقال ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (1/30): «ولا خلاف أنه ولد عام الفيل».
وقال ابن الجوزي في "مسائل الإمام أحمد" (1/14): «اتفقوا على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم الإثنين في شهر ربيع الأول عام الفيل». "تحفة الأحوذي" (10/63).
قال النووي (15/100): وولد عام الفيل على الصحيح المشهور، وقيل بعد الفيل بثلاثين سنة وقيل بأربعين سنة وادعى القاضي عياض الإجماع على عام الفيل وليس كما ادعى .
قال ابن القيم في "زاد المعاد" (1/76): «لا خلاف أنه ولد بجوف مكة، وأن مولده كان عام الفيل .
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/261): «هذا هو المشهور عند الجمهور ».
وقال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري رحمه الله: لا شك فيه أحد من العلماء، ونقل غير واحد فيه الإجماع، وقال: كل قول يخالفه وهم .
(17) في (ق): «وذكر».
(18) في (ق): «من ذلك».(3/979)
%(3/979)%(3/980)
وقول عمرو في الأصل لعروة: «كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة؟ قال: عشرًا» (1) ؛ =(6/140)=@ كذا وقع لبعض الرواة؛ معناه: كم مدَّة كونه وإقامته بها؛ أي: بعد المبعث، وقد روي: لبثَ (2) ، بمعناه (3) .
وقوله: «فإنَّ (4) ابن عباس يقول: بضع عشرة»؛ قد تقدَّم أن الأشهر في =(6/141)=@ البضع أنه من الثلاث إلى التسع، فيصلح البضع هنا لقول ابن عباس الثلاث عشرة والخمس عشرة، فأنكر عروة ذلك.
وقوله: «فغَفَّرَ» من المغفرة (5) ، وهي رواية الجلودي؛ أي: قال غفر الله له (6) . وفي رواية ابن ماهان: فصغَّره (7) من الصغر؛ أي (8) : أشار إلى أن (9) ابن عباس كان صغيرًا في ذلك الوقت، %(3/980)%
__________
(1) مسلم (4/1825-1826 رقم2350) في الفضائل، باب كم أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة والمدينة .
(2) في (ح) و(ك): «ليث».
(3) الموضع السابق .
(4) في (ق): «فإذا».
(5) في (ك): «الغفرة».
(6) في (ح): «لك».
(7) في (ح): «فصغر»، وفي (ك): «فضعر».
(8) قوله: «أي» سقط من (ح) و(ك).
(9) قوله: «أن» سقط من (ك).(3/981)
فلم يضبطه (1) لصغره، وقيل (2) : إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين (3) ، وهذا هو المناسب لقول عروة.
وقوله: «إنما أخذه من قول الشاعر»؛ يعني به: قول أبي قيس بن صَرْمَة:
ثَوَى في قريش بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّة يُذَكِّر لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا (4) مُواتِيًا (5) (6) =(6/142)=@
وقول ابن عباس رضي الله عنهما: «خمس عشرة سنة (7) ، يأمن، ويخاف»؛ يعني: أنه كان في تلك الحال غير مستقلٍّ لإظهار (8) أمره، فكان إذا أخفى أمره تركوه، فأمن (9) على نفسه، وإذا أعلن أمره وأفشاه، بأن يدعوهم إلى الله تعالى، ويفتح عليهم، تكالبوا (10) عليه، وهمُّوا بقتله، فيخاف على نفسه إلى أن أخبره (11) الله تعالى بعصمته منهم، فلم يكن يبالي بهم (12) كما قدمناه .
وقوله: «يسمع الصوت، ويرى الضوء سبع سنين»؛ أي: أصوات الملائكة &(6/114)&$ والجمادات والحجارة، فيسلمون عليه بالرسالة، كما خرَّجه الترمذي (13) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع النبي (14) - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل، ولا شجر، إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله. قال: هذا حديث حسن غريب. ويعني بالضوء: نور الملائكة، ويحتمل أن يكون أنوارًا (15) تنوِّر بين يديه (16) في أوقات الظلمة، يحجب عنها غيره. ولذلك نقل: أنه كان يبصر بالليل كما يبصر بالنهار (17) ، ويعني: أن هذه الحالة ثبتت عليه سبع سنين، ثم بعد ذلك أوحى الله إليه؛ أي: جاءه الوحي (18) ، وشافهه (19) بالخطاب ثماني سنين، وعلى هذا: فكمل (20) له بمكة خمس عشرة سنة. =(6/143)=@ %(3/981)%
__________
(1) في (ح) و(ك): «يضبط».
(2) في (ب) و(ك) و(ق): «قيل» بلا واو.
(3) قال الواقدي: «لا خلاف أنه ولد في الشعب وبنو هاشم محصورون، فولد قبل خروجهم منه بيسير، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، نقلاً عن "سير أعلام النبلاء" (3/335).
وقال ابن حجر في "الفتح" (11/90): «المحفوظ الصحيح :أنه ولد بالشعب، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة، وبذلك قطع أهل السير، وصححه ابن عبد البر». وانظر "الاستيعاب" (1/37)، و"تاريخ بغداد" (1/173).
(4) في حاشية (ك): «خليلاً»، وعليها «صح».
(5) زاد بعدها في (ح): «فألقى صديقًا فاستقرت به النوى وأصبح مسرورًا بطيبه وأطيبا».
(6) من قصيدة لأبي قيس صرمة بن أبي أنس، حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآمن به، وقد ذكرها الطبري في "تاريخه" (1/573)، وابن عبدالبر في "الاستيعاب" (1/32) وغيرهما .
(7) قوله: «سنة» سقط من (ح).
(8) في (ح) و(ق): «بإظهار».
(9) في (ك): «وأمن».
(10) في (ح): «تكالفوا».
(11) في (ح): «أخير».
(12) في (ك): «منهم».
(13) تقدم في كتاب الإيمان، باب كيف كان ابتداء الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهاؤه .
(14) في (ح): «مع رسول الله» وكتب فوقها «النبي».
(15) في (ح) و(ك): «أنوار».
(16) قوله: «بين يديه» مطموس في (ك).
(17) قال ابن حجر في "فتح الباري" (1/515): «وحكى بقي بن مخلد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء».
(18) في (ح) و(ق): «بالوحي».
(19) في (ق): «ويشافهه».
(20) قوله: «هذا فكمل» مطموس في (ك).(3/982)
وقول معاوية: «مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وستين سنة (1) ، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما هما (2) معطوفان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويحتمل أن يرفعا بالابتداء، وخبرهما محذوف؛ أي: وهما كذلك.
وقوله: «وابن (3) ثلاث وستين (4) »؛ الواو للحال، فيحتمل أن يريد أنه كان وقت توفي?رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن ثلاث وستين، ويحتمل أن يكون كذلك وقت حدث بهذا (5) الحديث، والحاصل: أنه وصل إلى ثلاث وستين سنة (6) ، وقد قيل في هذا: إن معاوية استشعر أنه يوافقهم في السن فيموت وهو ابن ثلاث وستين سنة(2)، وليس بصحيح عند أحد من علماء التاريخ، فإنَّ أقل ما قيل في عمره يوم توفي: أنه كان ثمانيًا وسبعين سنة (7) ، وأكثر ما قيل (8) فيه: ست وثمانون (9) ، وقيل: اثنان وثمانون سنة، وكانت وفاته بدمشق، وبها دفن سنة ستين في النصف من رجبها. قال ابن إسحاق: كان معاوية أميرًا عشرين سنة (10) ، وكان خليفة عشرين سنة، وقال غيره: كانث خلافته تسع عشرة سنة وستة أشهر وثمانية وعشرين يومًا. =(6/144)=@ &(6/115)&$ %(3/982)%
__________
(1) قوله: «سنه» سقط من (ح).
(2) قوله: «هما» سقط من (ك).
(3) في (ق): «وأنا ابن».
(4) في (ح): «وأنا ابن ثلاث سنين».
(5) في (ق): «بعد».
(6) قوله: «سنة» سقط من (ك).
(7) قوله: «ستة» سقط من (ح).
(8) قوله: «قيل» سقط من (ح).
(9) في (ك): «ثمان».
(10) من قوله: «وكانت وفاته ....» إلى هنا سقط من (ح).(3/983)
- - - - -
ومن باب عدد أسماء رسول الله (1) - صلى الله عليه وسلم -
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أنا محمد، وأنا أحمد»؛ كلاهما مأخوذ من الحمد، وقد تكلَّمنا على الحمد في أول الكتاب. فمحمَّد: مفعل من حَمَّدت الرجل مشددًا (2) : إذا نسبت الحمد إليه، كما يقال: شجَّعت الرجل، وبخَّلته (3) : إذا نسبت ذلك إليه، فهو بمعنى المحمود. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أحق الخلق بهذا الاسم، فإنَّ الله تعالى قد حمده بما لم يَحمد به أحدًا من الخلق، وأعطاه من المحامد ما لم يعط مثله أحدًا من الخلق، ويلهمه يوم القيامة من محامده تعالى ما لا (4) يلهمه أحدًا (5) من الخلق (6) (7) ، وقد حمده أهل السموات والأرض والدنيا والآخرة، حمدًا لم يحمد به أحدٌ (8) من الخلق، فهو أحمد المحمودِين، وأحمد الحامدِين.
وقوله: «وأنا الماحي الذي يُمحى بي الكفر (9) »؛ أي: من الأرض التي زويت له (10) ، وأري أن مُلك أمته سيبلغه (11) ، أو يعني بذلك: أنه محي (12) به معظم الكفر (13) وغالبه بظهور دينه على كل الأديان بالحجج الواضحة، والغلبة العامة الفادحة، كما قد (14) صرَّح به الحق بقوله (15) : } ليظهره على الدِّين كله { (16) .
وقوله: «وأنا الحاشر الذي يحشر (17) الناس على عقبي (18) »؛ الحاشر: اسم =(6/145)=@ فاعل &(6/116)&$ من حشر؛ أي: جمع. فيعني به: أنه الذي (19) يحشر الخلق يوم القيامة على أثره؛ أي (20) : ليس بينه وبين القيامة نبي آخر، ولا أمة أخرى (21) ، وهذا كما قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين»؛ وقرن (22) بين أصبعيه: السبابة والوسطى (23) . %(3/983)%
__________
(1) في (ح): «النبي» بدل «رسول الله».
(2) قوله: «مشددًا» سقط من (ك).
(3) في (ق): «ونحلته».
(4) في (ق) و(م): «ما لم».
(5) في (ح): «أحد».
(6) زاد بعده في (ح): «ويكون يوم القيامة»، وبعدها كلمة لم تتضح وكأنه ضرب عليها.
(7) "صحيح مسلم" (193).
(8) في (ق) و(م): «أحدًا»، ولم تتضح في (ب).
(9) في (ق): «يمحى به من الكفر».
(10) قوله: «له» سقط من (ك).
(11) سيأتي في الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى تقتل فئتان عظيمتان .
(12) في (ح): «يمحى».
(13) زاد بعده في (ك): «أي الأرض التي زويت»، وبعدها كلمة مطموسة.
(14) قوله: «قد» سقط من (ح).
(15) في (ح): «في قوله».
(16) الآية (33) من سورة التوبة .
(17) في (ح): «تحشر».
(18) كذا في "التلخيص" و"الأم"، وفي باقي النسخ و(ح) و(ق): «قدمي»، والمثبت هو الصحيح، لأنه شرح في الفقرة القادمة رواية: «قدمي».
(19) قوله: «الذي» سقط من (ك).
(20) في (ك): «الذي».
(21) قوله: «ولا أمة أخرى» سقط من (ك).
(22) في (ح): «وفرق».
(23) سيأتي في الفتن وأشراط الساعة، باب كيف انقراض هذا الخلق .(3/984)
وقوله في الرواية الأخرى: «على قدمي»؛ قيل (1) فيه: على سابقتي، كما قال تعالى : } أنَّ لهم قدم صدق عند ربهم { (2) ؛ أي: سابقة خير وإكرام. وقيل: على سُنَّتي. وقيل: بعدي؛ أي: يتبعوني إلى يوم القيامة. وهذا أشبهها؛ لأنَّه يكون معناه معنى عقبي؛ لأنَّه وقع موقعه في تلك الرواية، ووجه توسُّعه فيه: كأنه قال: يحشر الناس على أثر قدمي؛ أي: بعدي. والله أعلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «وأنا العاقب»، وفي الرواية الأخرى: «المقفّي»، ومعناهما واحد، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء، وخاتمهم، وأكرم أعقابهم، وأفضل من قفَّاهم (3) . وقفاهم؛ أي: كان بعدهم، واتبع آثارهم. قال ابن الأنباري (4) : المقفي: المتَّبع للنبيين قبله، يقال: قَفَوتُه (5) ، أَقْفُوه، وقَفَيتُه: إذا تبعته (6) ، ومثله: قُفْتُه (7) ، أقُوفُه، ومنه قوله تعالى: } ثم قفيناعلى آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم { (8) ، } ولا تقف ماليس لك به علم { (9) . وقافية كل شيء: آخره. =(6/146)=@
وقوله: «ونبي التوبة»؛ أي: الذي تكثر (10) التوبة في أمته، وتعم حتى لا يوجد فيما ملكته أمته إلا تائب من الكفر، فيقرب معناه على هذا (11) من «الماحي»؛ إلا أن ذلك يشهد بمحو (12) ما ظهر من الكفر، وهذا يشهد بصحَّة ما يخفى من توبة أمته منه، ويحتمل أن يكون معناه: أن أمته لما كانت أكثر الأمم كانت توبتهم أكثر من توبة غيرهم، ويحتمل أن تكون توبة أمته أبلغ حتى يكون التائب منهم كمن لم يذنب، ولا يؤاخذ لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ويكون غيرهم يؤاخذ في الدنيا، وإن لم يؤاخذ في الآخرة، والله أعلم. والذي أحوج إلى هذه الأوجه: اختصاص نبينا - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم مع أن كل نبي جاء بتوبة أمته، فيصدق (13) أنه نبي التوبة، فلا بدَّ من إبداء مزيِّة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - يختصُّ بهاكما بيَّنا (14) . &(6/117)&$ %(3/984)%
__________
(1) في (ح): «وقيل».
(2) الآية (2) من سورة يونس .
(3) في (ك): «فقاهم»، في (ق) و(م): «قبلهم».
(4) في (ح) و(ك): «ابن الأعرابي».
(5) في (ح): «فقوته».
(6) في (ح): «إذا اتبعته».
(7) في (ق): «قفته».
(8) الآية (27) من سورة الحديد .
(9) الآية (36) من سورة الإسراء .
(10) في (ك): «يكثر».
(11) قوله: «على هذا» سقط من (ك).
(12) في (ك): «بمحوه».
(13) في (ح) و(ك): «فيصدق عليه».
(14) في (ح): «بيناه».(3/985)
وقوله: «ونبي الرحمة»، وفي أخرى: «المرحمة» (1) ، وفي أخرى: «الملحمة» (2) ؛ فأمَّا الرحمة، والمرحمة فكلاهما بمعنى واحد، وقد تقدَّم أن الرحمة إفاضة النعم على المحتاجين (3) ، والشفقة عليهم، واللطف بهم، وقد أعطى الله تعالى نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأمته منها ما لم يُعْطِه (4) أحدًا من العالمين، ويكفي من ذلك قوله تعالى: } وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين { (5) ، فهو أعظم كل رحمة، وأمته القابلة لما جاء به قد حصلت (6) على أعظم حظ من هذه الرحمة، وشفاعته يوم القيامة لأهل الموقف أعمُّ كل رحمة (7) ، ولأهل الكبائر أجل كل نعمة (8) ، وخاتمة ذلك شفاعته في ترفيع منازل أهل الجنة (9) .
وأما رواية من روى: «نبي الملحمة»: فهذا صحيح في نعته، ومعلوم في الكتب القديمة من وصفه، فإنَّه قد جاء فيها: أنه نبي الملاحم، =(6/147)=@ وأنه يجيء بالسيف والانتقام ممن خالفه من جميع الأنام، فمنها ما جاء في صحف حبقوق (10) ، قال (11) :«جاء الله من التين، وتقدس من فاران، وامتلأت (12) الأرض من تحميد أحمد وتقديسه، وملأ الأرض من هيبته. وفيها أيضًا: تضيء الأرض بنورك (13) ، وستنزع (14) في قوسك إغراقًا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء». ويعني بالتين الجبال التي تنبته، وهي جبال بيت المقدس، ومجيء الله تعالى منها عبارة عن إظهار كلامه الذي هو الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام. وفاران: مكة، كما قال (15) تعالى في التوراة :«إن الله أنزل (16) هاجر وابنها (17) إسماعيل فاران»، %(3/985)%
__________
(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" (217) من طريق إبراهيم بن أحمد الوكيعي، حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا مسعر بن كدام، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى به مرفوعًا .
قال الطبراني: «لم يروه عن مسعد إلا جعفر بن عون، تفرد به إبراهيم بن أحمد بن عمر عن أبيه».
(2) أخرجه الطيالسي (492)، وابن أبي شيبة (31693)، وأحمد (4/395 و404)، والبخاري في "الصغير" (22)، والبزار (3022 و3023)، وأبو يعلى (7244)، وابن حبان في "صحيحه" (6314)، والروياني (583)، والطبراني في "الصغير" (1726 و4338 و4417)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/100). كلهم من طريق عمرو بن مرَّة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى الأشعري به .
(3) في (ك): «المخلصين».
(4) في (ح) و(ق): «يعط».
(5) الآية (107) من سورة الأنبياء .
(6) في (ح): «جعلت»، وفي (ك): «حصل».
(7) تقدم في الشفاعة .
(8) أخرجه الطيالسي (2026)، وأحمد (3/213)، والبخاري في "الكبير" (2/126)، والترمذي (2435)، وأبو داود (4739)، وابن أبي عاصم في "السنة" (831 و832)، والبزار (3469)، وأبو يعلى (3284 و4105 و4115)، وابن خزيمة في "التوحيد" (2/651 و653 و656)، وابن حبان (6468)، والطبراني في "الصغير" (448)، والآجري في "الشريعة" (338) من طريق أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
وله شاهد من حديث جابر: أخرجه الترمذي (2436)، وابن ماجه (4310)، وابن حبان في "صحيحه" (6467)، والآجري في "الشريعة" (338)، والحاكم (1/69)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/200) من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر به مرفوعًا. وإسناده صحيح .
وله شاهد أيضًا من حديث ابن عمر وابن عباس:
فحديث ابن عمر: أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (830)، والبزار كما في "تفسير ابن كثير" (1/512)، والطبراني في "الأوسط" (5942)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (19/69و70).
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/5): «رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير حرب بن سريج وهو ثقة».
وأما حديث ابن عباس: فأخرجه الطبراني في "الكبير" (11454).
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/378): «رواه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار عنه، وفيه موسى بن عبدالرحمن الصنعاني وهو وضاع».
(9) ......؟؟
(10) من أنبياء بني إسرائيل. "سير أعلام النبلاء" (1/204).
(11) قوله: «قال» سقط من (ك).
(12) في (ح): «فامتلأت».
(13) في (ح) و(ك): «تضيء بنورك الأرض».
(14) في (ح): «وتستنزع».
(15) في (ح): «قال الله».
(16) في (ك): «نزل».
(17) قوله: «ابنها» سقط من (ح).(3/986)
يعني: مكة بلا خلاف بينهم. وفي التوراة قال (1) :«قد (2) جاء الله من سيناء، وأشرق (3) من ساعير (4) ، واستعلى من فاران»؛ فمجيئه تعالى من سيناء: كناية عن ظهور موسى - صلى الله عليه وسلم - بها (5) ، وإشراقه من ساعير (6) : وهي جبال الروم من (7) أدوم (8) : كناية عن ظهور عيسى - صلى الله عليه وسلم - . واستعلاؤه من فاران: كناية عن القهر (9) الذي يقهر به نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - (10) الكفر كلَّه بالقتل والقتال. وقال في التوراة: «يا موسى! إني أقيم (11) لبني إسرائيل من إخوتهم نبيًا مثلك، أجعل كلامي على فيه، فمن عصاه انتقمت (12) منه»، وإخوة بني إسرائيل (13) العرب؛ فإنَّهم ولد إسماعيل - صلى الله عليه وسلم - ، وهم (14) المعنيون هنا. وقوله: «أجعل كلامي على فيه»؛ يعني به: القرآن، والانتقام ممن عصاه: هو القتل والقتال الذي جاء به، ومثل هذا كثير. وقد (15) ذكرنا منه مواضع كثيرة جاءت في كتب أنبياء بني إسرائيل في كتاب "الأعلام". =(6/148)=@ &(6/118)&$
وقد قال النبي (16) - صلى الله عليه وسلم - : «يا معشر قريش! لقد جئتكم بالذبح» (17) . وقال (18) : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به» (19) ، فهو (20) نبي الملحمة التي بسببها عمَّت الرحمة وثبتت المرحمة. وقد تتبَّع القاضي أبو الفضل ما جاء (21) في كتاب الله تعالى، وفي (22) سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ومما نقل في الكتب القديمة. وإطلاق الأمَّة أسماء كثيرة، وصفات عديدة للنبي - صلى الله عليه وسلم - صدقت عليه مسمَّياتها (23) ، ووجدت فيه معانيها، وعرَّف (24) بها في كتاب "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى". وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام" من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعة (25) وستين اسمًا، من أرادها وجدها هنالك (26) .
وقوله: «وقد سَمَّاه الله رؤوفًا رحيمًا»؛ ليس هذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بل من (27) قول غيره، وهو الصحابي، والله تعالى أعلم، ألا تراه كيف أخبر عنه بخطاب الغيبة (28) ، ولو كان من قوله - صلى الله عليه وسلم - لقال: وقد سماني (29) الله (30) : رؤوفًا رحيمًا. هذا الظاهر، ويحتمل أن يكون ذلك من قوله. وقد يخرج المتكلم من الحضور إلى الغيبة كما قال تعالى : } حتى إذا كنتم في %(3/986)%
__________
(1) قوله: «قال» سقط من (ق).
(2) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ك).
(3) في (ح): «أشرف».
(4) في (ح): «ساعر».
(5) في (ح): «موسى بها عليه الصلاة والسلام».
(6) في (ح): «ساعر».
(7) في (ك): «ومن».
(8) في (ح): «أذم»، وفي (ك): «أذوم».
(9) في (ق): «قهر».
(10) في (ح): «يقهر نبينا - صلى الله عليه وسلم - به».
(11) في (ح): «أقم».
(12) في (ح): «انتقم».
(13) من قوله: «من إخوتهم ....» إلى هنا سقط من (ك).
(14) في (ح) و(ك): «فهم».
(15) في (ح) و(ك): «قد» بلا واو.
(16) قوله: «النبي» ليس في (ح) و(ق)
(17) علَّقه البخاري في "صحيحه" (7/166) في مناقب الأنصار، باب ما لقى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة، قال: وقال محمد بن عمرو، عن أبي سلمة،: حدثني عمرو بن العاص. ووصله في "خلق أفعال العباد" (ص97 رقم 308).
وأخرجه ابن أبي شيبة (7/332 رقم36550) في المغازي، باب في أذى قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - وما لقى منهم، وأبو يعلى (13/324-325 رقم7339)، وعنه ابن حبان (14/529 رقم6569/الإحسان)،وأخرجه أبو نعيم في "دلائل النبوة" (1/208-209 رقم159). جميعهم من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عمرو بن العاص قال: ما رأيت قريشًا أرادوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يومًا رأيتهم وهم جلوس في ظل الكعبة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة بن أبي معيط فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه ساقطًا، وتصايح الناس، فظنوا أنه مقتول، فأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ورائه، وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، ثم انصرفوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى، فلما قضى صلاته مر بهم وهم جلوس في ظل الكعبة، فقال: «يا معشر قريش! أما والذي نفس محمد بيده! ما أرسلت إليكم إلا بالذبح»، وأشار بيده إلى حلقه. فقال له أبو جهل: يا محمد! ما كنت جهولاً. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أنت منهم».
وسنده حسن، محمد بن عمرو بن علقمة: صدوق حسن الحديث .
قال الهيثمي في "المجمع" (6/16): «رواه أبو يعلى والطبراني، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رجال الطبراني رجال الصحيح».
(18) في (ك): «وقد».
(19) تقدم في الإيمان، باب يقاتل الناس إلى أن يوحدوا الله ويلتزموا شرائع دينه .
(20) في (ق): «فهي» بدل «فهو».
(21) قوله: «جاء» سقط من (ك).
(22) قوله: «في» سقط من (ح) و(ق).
(23) في (ك): «على مسماتها»وفي (ق): «صدقت مسمياتها»..
(24) في (ك): «وعرفت بها».
(25) في (ق): «سنة» وكتب في الهامش «تسعة» ووضع (خ).
(26) في (ح) و(ق): «هناك».
(27) في (ق): «بل هو من».
(28) في (ك): «الغيب».
(29) في (ك): «سمى نبي».
(30) اسم الجلالة ليس في (ح).(3/987)
الفلك وجرين بهم بريح طيبة (1) { (2) . وفي هذا إشارة إلى قوله تعالى: } بالمؤمنين رؤوف رحيم { (3) . والرؤوف: الكثير الرأفة. والرحيم: الكثير الرحمة؛ فإنَّها (4) للمبالغة. وقد جاء في الصحيح: «لي خمسة أسماء» (5) ؛ فحصرها (6) بالعدد، وذكر الأسماء المتقدِّمة. وقد يقال: ما وجه تخصيص هذه الأسماء الخمسة بالذكر مع أن أسماءه أكثر من ذلك؛ ويجاب عنه: بأن هذه =(6/149)=@ الخمسة الأسماء هي الموجودة في الكتب المتقدِّمة، وأعرف عند الأمم السالفة، ويحتمل أن يقال: إنه في الوقت الذي أخبر بهذه الأسماء الخمسة لم يكن أوحي إليه في غيرها بشيء، فإنَّ أسماءه إنَّما تلقاها من الوحي، ولا يسمَّى إلا بما سَمَّاه الله تعالى به، وهذا أسدُّ (7) الجوابين إن شاء الله تعالى. &(6/119)&$
- - - - -
ومن باب كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بالله وأشدهم له خشية
إنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بالله؛ لما خصَّه الله تعالى به في أصل الخلقة من كمال الفطنة، وجودة القريحة، وسداد النظر، وسرعة الإدراك، ولما رفع الله تعالى عنه من موانع الإدراك، وقواطع النظر قبل تمامه،?ومن اجتمعت له هذه الأمور سهل عليه الوصول إلى العلوم النظرية، وصارت في حقه كالضرورية، ثم إن الله تعالى قد أطلعه من علم صفاته وأحكامه، وأحوال العالم كله على ما لم يطَّلع عليه غيره، وهذا كلُّه معلوم من حاله - صلى الله عليه وسلم - بالعقل الصريح، والنقل (8) الصحيح، وإذا كان في علمه بالله تعالى أعلم الناس لزم أن يكون أخشى الناس لله تعالى؛ لأنَّ الخشية منبعثة عن العلم، %(3/987)%
__________
(1) قوله: «بريح طيبة» مثبت من (ح) فقط .
(2) الآية (22) من سورة يونس .
(3) الآية (128) من سورة التوبة .
(4) في (ح): «فإنهما».
(5) أخرجه البخاري (6/554 رقم3532) في المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(6) في (ك): «فحصوها».
(7) في (ك): «أشد».
(8) قوله: «الصريح والنقل» سقط من (ح).(3/988)
وبحسبه، كما قال تعالى: } إنما يخش الله من عباده العلماء { (1) . وقد أشار بعض المتصوفة إلى أن علوم الأنبياء ضرورية، وسماها: كشفًا، وهذا كلام فيه إجمالٌ، ويحتاج إلى استفصال، فيقال لقائله: إن أردت بكونها ضرورية أنها حاصلة في أصل فطرتهم، وأنهم جبلوا عليها، بحيث =(6/150)=@ &(6/120)&$ لم يستعملوا في شيء منها أفكارهم (2) ، ولا حدقوا نحوها بصائرهم، ولا أنظارهم (3) ، فهو قول باطل؛ لما يعلم (4) قطعًا أنهم مكتفون (5) بمعرفة الله، ومعرفة صفاته وأحكامه، ومأمورون بها، والضروري لا يكلَّف به؛ لأنَّه حاصل، والحاصل لا يطلب، ولا يبتغى، ولأن الإنسان لا يتمكن?من ترك ما جبل عليه، ولا من فعله، وما كان كذلك لم يقع في الشريعة التكليف به بالنص والإجماع. وإنما الخلاف في جوازه عقلاً، وإن أراد به (6) أن تلك العلوم تصير في حقهم ضرورية بعد تحصيلها بالطرق النظرية، والقيام بالوظائف التكليفية، فتتوالى (7) عليهم تلك العلوم، فلا يتأتى لهم التشكك فيها (8) ، ولا الانفكاك عنها، فنقول: ذلك صحيح في حق الأنبياء قطعًا، وخصوصًا في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو المعلوم من حاله وحالهم صلى الله عليه وعليهم أجمعين، وأما غيرهم فيجوز أن يكرم الله تعالى بعض أوليائه بشيء من نوع (9) ذلك، لكن على وجه الندور والقلة، وليس مُطردًا في كل الأولياء، ومن فُتِح (10) له في شيء (11) من ذلك ففي بعض الأوقات وبعض المعلومات، ويكون ذلك خرقًا للعادات، فإنَّ سنه الله تعالى في العلوم النظرية: أنها لا تتوالى (12) ، ولا تدوم (13) ، ويمكن أن يُشكِّكَ (14) فيما كان منها معلومًا، هذه سنة الله الجارية، وحكمته الماضية، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولا تحويلاً.
وقول عائشة رضي الله عنها: «صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرًا فترخص فيه»؛ أي: فعل أمرًا ترك فيه (15) التشديد لأنه رخص له فيه، كما قال في طريق آخر: «ما بال رجال يرغبون عما رُخِّص لي فيه» (16) ، ولعل هذا من عائشة رضي الله عنها إشارة لحديث النَّفر الذين (17) استقلوا عبادة النبي (18) - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أحدهم: أما (19) أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: وأنا(2) أصوم (20) ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا لا أنكح النساء، فلما بلغ =(6/151)=@ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك (21) ، قال: «وأما (22) أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني». وقد تقدَّم (23) في النكاح (24) . &(6/121)&$
وقوله: «ما بال رجال بلغهم عني أني ترخصت في أمر فكرهوه، وتنزهوا عنه»؛ هذا منه - صلى الله عليه وسلم - عدول عن مواجهة هؤلاء القوم بالعتاب، وكانوا (25) معينين عنده، لكنه فعل ذلك لغلبة الحياء عليه، ولتلطُّفه (26) في التأديب، ولسَتْر (27) المعاتب. وتنزه هؤلاء عما ترخص به (28) النبي - صلى الله عليه وسلم - غلط أوقعهم فيه ظن أن المغفور له يسامح في بعض الأمور، وتسقط (29) عنه بعض التكاليف، والأمر بالعكس لوجهين:
أحدهما: أن المغفور له يتعيَّن (30) عليه وظيفة الشكر، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «أفلا أكون عبدًا شكورًا» (31) .
وثانيهما: أن الأعلم بالله تعالى وبأحكامه: هو الأخشى له، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «إني لأعلمكم بالله تعالى (32) ، وأشدكم له خشية» (33) ، وقال في موضع آخر: «وأعلمكم بما أتقي (34) » (35) .
ويُستفاد من هذا الحديث النهي عن التنطع في الدين (36) ، وعن الأخذ بالتشديد =(6/152)=@ في جميع الأمور، فإنَّ دين الله يسر (37) ، وهو:الحنيفية السَّمحة (38) ، وإنَّ (39) الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه (40) .
وحاصل الأمر: أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فما شدَّد فيه التزمناه على شدَّته، وفعلناه على مشقته، وما ترخص فيه أخذنا برخصته، وشكرنا الله تعالى على تخفيفه ونعمته، ومن رغب عن هذا، فليس على سُنَّته، ولا على منهاج شريعته .
وفيه حجَّة على القول بمشروعية الاقتداء به في جميع أفعاله، كما نقوله في جميع أقواله (41) ، إلا ما دلَّ دليل على: أنه من خصوصياته، وقد أوضحنا هذا في الأصول. &(6/1222)&$ %(3/989)%
__________
(1) الآية (28) من سورة فاطر .
(2) في (ق): «في شيء من ذلك أفكارهم».
(3) في (ق): «ابصايرهم ولا ابصارهم».
(4) في (ق): «بما».
(5) في (ح) و(ق): «مكلفون».
(6) في (ق): «وان أراد الله به».
(7) في (ح): «فتنزل».
(8) في (ك): «التشكيك»، وسقط قوله :«فيها».
(9) في (ق): «نوع من».
(10) في (ك): «فتح الله».
(11) في (ك): «تي».
(12) في (ح): «لا تتول».
(13) قوله: «لا تدوم» سقط من (ك).
(14) في (ق): «يتشكك».
(15) في (ح): «منه»، وفي (ك): «فيه».
(17) في (ك): «الذي».
(18) في (ح): «رسول الله».
(19) في (ك): «فأنا».
(20) في (ح): «فأصوم».
(21) قوله: «ذلك» سقط من (ك).
(22) في (ح): «أما» بلا واو.
(23) في (ك): «تقدم القول».
(24) باب الترغيب في النكاح .
(25) قوله: «وكانوا» سقط من (ك).
(26) في (ح): «تلطفه».
(27) في (ق): «وليستر».
(28) في (ق) و(م): «فيه».
(29) التاء مهملة في (ب)، وفي (ق): «يسقط».
(30) في (ك): «المغفر تتعين».
(31) سيأتي في الزهد، باب الاجتهاد في العبادة .
(32) قوله: «تعالى» ليس في (ح).
(33) "صحيح مسلم" (2356).
(34) في (ق): «اتقى الله» وكأنه ضرب على لفظ الجلالة.
(35) "صحيح مسلم" (1110).
(36) سيأتي في القتن وأشراط الساعة، باب قوله عليه الصلاة والسلام لتتبعن ... .
(37) أخرجه البخاري (1/93 رقم39) في الإيمان، باب الدين يسر .
(38) أخرجه أحمد (6/116) عن سليمان بن داود، ثنا عبدالرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: قال لي عروة: إن عائشة رضي الله عنها قالت، فذكرته مرفوعًا.
قال الحافظ في "تغليق التعليق" (2/43): هذا الإسناد حسن .
وله شاهد من حديث ابن عباس: أخرجه عبد بن حميد (569)، وأحمد (1/236)، والبخاري في "الأدب المفرد" (287) من طريق محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي الأديان أحب إلى الله؟ قال الحنيفية السمحة .
وفيه ابن إسحاق لم يصرح بالتحديث .
وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1/243)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (977)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2791)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/214): رجاله موثقون، وعبد العزيز بن أبي رواد ينسب إلى الإرجاء .
وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة: عند الطبراني في "المعجم الأوسط" (7351)، وفي إسناده عبد الله بن إبراهيم الغفاري متروك .
وله شاهد من حديث أبي أمامة الباهلي أخرجه أحمد (5/266)، والطبراني في "الكبير" (7868). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/279): وفيه علي بن زيد الألهاني وهو ضعيف. وهو كما قال .
وأخرجه الروياني (1279)، والطبراني في "الكبير" (7715) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا عفير ابن معدان، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة به. وعفير بن معدان ضعيف .
وله شاهد آخر من حديث جابر: اخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (7/209) من طريق مسلم بن عبد ربه، عن سفيان بن وكيع، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير، عن جابر .
وسفيان بن وكيع ضعيف، ومسلم بن عبد ربه قال ابن حجر في "اللسان" (6/30) هو الطالقاني، قال الأزدي: ضعيف .
(39) في (ق): «فإن».
(40) ....؟
(41) في (ك): «أحواله».(3/989)
- - - - -
ومن باب وجوب (1) الإذعان لحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قوله: «إن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير رضي الله عنه في شِراجِ الحرَّة»؛ قيل (2) : إن هذا الرَّجل كان من الأنصار نسبًا، ولم يكن منهم نصرة ودينًا، بل كان منافقًا؛ لما صدر عنه من تهمة رسول الله (3) - صلى الله عليه وسلم - بالجوَّر في الأحكام لأجل قرابته، ولأنه (4) لم يرض بحكمه، ولأن الله تعالى قد أنزل فيه: } فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم { الآية (5) . هذا هو الظاهر من حاله، ويحتمل: أنه لم يكن منافقًا، لكن أصدرَ (6) ذلك منه بادرةُ نفس، وزلَّةُ شيطان، كما قد (7) اتَّفق لحاطب بن أبي بلتعة (8) ، ولحسَّان (9) ، ومسطح، وحَمْنَة في قضية (10) الإفك (11) ، وغيرهم مِمَّن =(6/153)=@ بدرت منهم بوادر (12) شيطانية، وأهواء نفسانية، لكن لُطِفَ بهم حتى رجعوا عن الزَّلة، وصحَّت لهم التوبة، ولم يؤاخذوا بالحوبة .
و «الشِّراج (13) » بالشين والجيم المعجمتين؛ جمع شَرِجَة (14) ، وهي مسيل الماء إلى النخل والشجر. وإضافتها إلى الحرَّة لكونها فيها .
والمخاصمة إنما كانت في السَّقي بالماء الذي يسيل فيها، وكان الزبير يتقدم (15) شربه على شرب الأنصاري، فكان الزبير يمسك الماء لحاجته، فطلب الأنصاري أن يسرحه له قبل استيفاء (16) حاجته، فلما ترافعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سلك النبي - صلى الله عليه وسلم - معهما (17) مسلك %(3/990)%
__________
(1) قوله: «وجوب» سقط من (ك).
(2) قوله: «قيل» سقط من (ق).
(3) في (ق): «النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(4) في (ح): «وأنه».
(5) الآية (65) من سورة النساء .
(6) في (ح): «صدر».
(7) قوله: «قد» سقط من (ك).
(8) سيأتي في باب قصة حاطب بن أبي بلتعة وفضل أهل بدر وأصحاب الشجرة .
(9) في (ك): «وحسان».
(10) في (ك): «قصة».
(11) ستأتي في التفسير، باب ومن سورة النور .
(12) في (ق): «ندرت منهم نوادر».
(13) في (ح): «والسراج».
(14) قوله: «جمع شرجة» سقط من (ك).
(15) في (ح): «تقدم».
(16) في (ق): «استفاء».
(17) قوله: «معهما» سقط من (ك).(3/990)
الصُّلح، فقال له: «اسق يا زبير! ثمَّ أرسل الماء إلى جارك»؛ أي: تساهل &(6/123)&$ في سقيك، وعجل في (1) إرسال الماء إلى جارك، يحضه على المسامحة (2) والتيسير. فلما سمع الأنصاري هذا (3) لم يرض بذلك، وغضب لأنه (4) كان يريد ألا يمسك الماء أصلاً، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة (5) الفاقرة، فقال :«آن كان ابن عمتك؟» بمدِّ همزة «أن» المفتوحة؛ لأنَّه استفهام على جهة الإنكار؛ أي: أتحكم له علي لأجل أنَّه قرابتك؟ ! وعند ذلك تلوَّن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6) غضبًا عليه وتألُّمًا من كلمته. ثمَّ أنَّه بعد (7) ذلك حكم للزبير باستيفاء حقه، فقال: «اسق يا زبير، ثم أمسك (8) الماء حتى يرجع إلى الجدر». وفي غير هذه الرواية: «فاستوعى للزبير حقَّه» (9) . =(6/154)=@
و «الجَدْر» بفتح الجيم وسكون الدال هي روايتي، ويجمع (10) : جُدورًا. وهو الأصل؛ ويعني به: حتى يصل الماء إلى أصول النَّخل والشجر، وتأخذ منه حقها. وفي بعض طرقه: «حتى يبلغ الماء إلى الكعبين» (11) ؛ فيعني به- والله تعالى أعلم-: حتى يجتمع الماء في الشَّرِبات (12) ؛ وهي الحفر التي تحفر في أصول النخل والشجر إلى أن تصل (13) من الواقف فيها إلى الكعبين.
وقد روي «الِجدْر» (14) بكسر الجيم، وهو الجدار (15) ، ويجمع (16) على «جُدُر»؛ ويعني به: جدران الشَّربات، فإنَّها تُرفع حتى تكون تشبه (17) الجدار. فإن قيل: كيف كان (18) حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير على الأنصاري في حال غضبه وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا يقضي القاضي وهو غضبان » (19) ؟
فالجواب: أنا (20) قدَّمنا أن هذا النهي (21) معلَّل بما يخاف على القاضي من التشويش المؤدِّي به إلى الغلط في الحكم، والخطأ فيه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام، بدليل العقل الدَّالِّ على صدقه فيما يبلغه عن الله &(6/124)&$ تعالى وفي أحكامه، ولذلك (22) قالوا: أنكتب (23) عنك في الرضا والغضب؟ قال: «نعم» (24) . فدلَّ ذلك: على أن المراد بالحديث: من يجوز عليه الخطأ من القضاة، فلم يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك العموم. %(3/991)%
__________
(1) قوله: «في» سقط من (ح).
(2) في (ق): «على المسامحة» وكتب في الهامش على المساهلة» ووضع (خ).
(3) في (ك): «بهذا».
(4) في (ح): «ولأنه».
(5) في (ق): «المهملة».
(6) في (ق): «النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(7) في (ح) و(ق): «عند».
(8) في (ك): «احبس».
(9) أخرجه البخاري (5/39 رقم2362) في المساقاة، باب شرب الأعلى إلى الكعبين.
(10) في (ح) و(ك): «وتجمع».
(11) علَّقه البخاري في "صحيحه" (5/39) في المساقاة، باب شرب الأعلى إلى الكعبين، عقب الحديث (2362) قال: قال لي ابن شهاب: فقدَّرت الأنصار والناس قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «اسق ثم احبس حتى يرجع إلى الجدر»، وكان ذلك إلى الكعبين .
قال الحافظ: قوله: قال لي ابن شهاب، القائل هو ابن جريج راوي الحديث .. وأخرج عبدالرزاق هذا الحديث المرسل بإسناد آخر موصول .
وله شاهد: منها: ما أخرجه أبو داود (4/53 رقم3639) في الأقضية، باب أبواب من القضاء، وابن ماجه (2/830 رقم2482) في الرهون، باب الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء. كلاهما عن أحمد بن عبدة، عن المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث، عن أبي عبدالرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في السيل المهزور: أن يمسك حتى يبلغ إلى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل .
وفي سنده المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث المخزومي، وثقه ابن معين، ويعقوب بن شيبة، وقال ابو زرعة: لا بأس به. وقال أبو داود: ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات (7/466-467) وقال: ربما أخطأ. "تهذيب الكمال" (28/381-383 رقم6135). وفي "التقريب" (ص965 رقم6891): صدوق فقيه، كان يهم». وعبدالرحمن بن الحارث بن عبدالله بن أبي عياش، والد المغيرة بن عبدالرحمن، قال ابن معين: صالح، وقال مرة: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: شيخ، وقال النسائي: ليس بالقوي، وضعفه ابن المديني، ووثقه ابن سعد والعجلي، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء. "تهذيب الكمال مع حاشيته" (17/37-39 رقم3787).وفي "التقريب"(ص574رقم3855):صدوق له أوهام.
ومنها: ما أخرجه ابن ماجه (2/830 رقم2483) في الموضع السابق، وعبدالله بن أحمد في "زوائد المسند" (5/326-327 و327)، والبيهقي (6/154).
ثلاثتهم من طريق فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد، عن عبادة بن الصامت، فذكره بمعناه .
قال البوصيري في "الزوائد" (2/270): «هذا إسناد ضعيف، إسحاق بن يحيى لم يدرك عبادة بن الصامت، قاله البخاري والترمذي وابن عدي».
ومنها ما أخرجه ابن ماجه (2/829 رقم2481) في الموضع السابق، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي قال: حدثنا زكريا بن منظور بن ثعلبة بن أبي مالك، قال: حدثني محمد بن عقبة بن أبي مالك، عن عمه ثعلبة بن أبي مالك، قال: فذكره .
قال البوصيري في "الزوائد" (2/269): «وإسناد حديثه ضعيف، زكريا بن منظور متفق على ضعفه، رواه البيهقي في الكبرى -(6/154)- من طريق الوليد بن كثير، عن أبي مالك بن ثعلبة، عن أبيه ثعلبة به، وسياقه أتم، وهذا الحديث مرسل لأن ثعلبة ليست له صحبة. قال العجلي: مدني تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: هو من التابعين».اهـ.
وهو عند أبي عاصم في "الآحاد والمثاني " (4/215 رقم2200)، والطبراني في "الكبير" (2/86 رقم1387). كلاهما من طريق يعقوب بن حماد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن صفوان بن سليم، عن ثعلبة، به .
قال الألباني في "الصحيحة" (1/503): «وإسحاق بن إبراهيم لم أعرفه».
ومنه ما أخرجه الحاكم (2/62) من طريق الحسين بن الجنيد، عن إسحاق بن عيسى، عن مالك بن أنس، عن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في سيل مهزور ... الحديث.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي .
(12) في (ب) و(ك): «السربات».
(13) في (ق) و(م): «تصل»، و(ك): «يصل الماء».
(14) عند مسلم ....؟
(15) في (ك): «وهي الجدر».
(16) في (ك): «وتجمع».
(17) في (ح): «شبه».
(18) قوله: «كان» سقط من (ح).
(19) تقدم في الأقضية، باب لا يقضي القاضي وهو على حال تشوش عليه فكره .
(20) في (ح): «أنا قد».
(21) في (ك): «النهي إنما هو».
(22) في (ك): «وفي ذلك».
(23) في (ح): «قالوا له أنكتب».
(24) تقدم تخريجه في الجهاد والسير، باب الإمام مخير في الأسارى، وذكر وقعة بدر، وتحليل الغنيمة.(3/991)
وقوله: «والله إني لأحسب (1) هذه (2) الآية نزلت في ذلك : } فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم (3) { (4) ، هذا أحدُ ما قيل في سبب نزول هذه الآية. =(6/155)=@ وقيل: نزلت في رجلين تحاكما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحكم على أحدهما فقال له (5) : ارفعني إلى عمر بن الخطاب (6) ، وقيل: إلى أبي بكر (7) ، وقيل: حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليهودي على منافق، فلم يرض المنافق، وأتيا (8) عمر بن الخطاب فأخبراه، فقال: أمهلاني حتى أدخل بيتي، فدخل بيته فأخرج السيف، فقتل المنافق، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنه (9) ردَّ حكمك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «فرَّقت بين الحق والباطل» (10) . وقال مجاهد نحوه؛ غير أنه قال: إن المنافق طلب أن يردَّ إلى حكم الكاهن، ولم يذكر قضية قتل عمر بن الخطاب (11) المنافق، وقال الطبري: لا ينكر أن تكون (12) الآية نزلت في الجميع (13) ، والله تعالى أعلم.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه؛ فمنها: الاكتفاء من الخصوم (14) بما يفهم عنه (15) مقصودهم، وألا (16) يكلَّفوا النص على الدعاوي، ولا تحديد (17) المدعى فيه، ولا حصره (18) بجميع صفاته، كما قد تنطَّع في ذلك قضاة الشافعية.
ومنها: إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم، فإنَّ (19) اصطلحوا، وإلا استوفي لذي الحق حقه، وبتَّ الحكم.
ومنها: أن الأولى بالماء الجاري: الأول فالأول (20) حتى يستوفي حاجته (21) . وهذا ما لم يكن أصله ملكًا للأسفل مختصًا به، فليس للأعلى أن يشرب منه شيئًا؛ وإن كان يمرُّ عليه.
ومنها: الصَّفح عن جفاء الخصوم ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع، والاستهانة بالأحكام، فإنَّ كان ذلك فالأدب (22) ، وهذا الذي صدر من &(6/125)&$ خصم =(6/156)=@ الزبير أذى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم (23) يقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدَّمناه من عظيم حلمه وصفحه، ولئلا يكون قتله منفرًا لغيره %(3/992)%
__________
(1) في (ق): «إني أحسب».
(2) في (ح): «أن هذه».
(3) قوله: «بينهم» سقط من (ك).
(4) الآية (65) من سورة النساء .
(5) قوله: «له» سقط من (ح) وفي (ق): «فقال له الآخر».
(6) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (.....)، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، قال: أخبرني عبدالله بن لهيعة، عن أبي الأسود قال: اختصم رجلان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى بينهما، فقال المقضي عليه ردَّنا إلى عمر بن الخطاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «نعم، إنطلقا إليه»، فلما أتيا إليه قال الرجل: يا ابن الخطاب! قضى لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا فقال: ردَّنا إلى عمر بن الخطاب، فردَّنا إليك، فقال: أكذاك؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما، فخرج إليهما مشتملاً على سيفه فضرب الذي قال ردَّنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! قتل عمر والله صاحبي، ولولا أني أعجزته لقتلني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن»، فأنزل الله : } فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك { الآية، فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله، فكره الله أن يُسن ذلك بعد، فأنزل: } ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ... { الآية .
قال ابن كثير: «وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به، وهو أثر غريب مرسل، وابن لهيعة ضعيف».
وقال السيوطي في "الدر المنثور" (2/585) أخرجه ابن أبي حاتم في إسناده ابن مردوية من طريق ابن لهيعة .
وقال في "لباب النقول" (1/73) مرسل غريب في إسناده ابن لهيعة، وله شاهد أخرجه دحيم في تفسيره من طريق عتبة بن ضمرة، عن أبيه .
(7) قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (1/522): «قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره: حدثنا شعيب بن شعيب، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن ضمرة، حدثني أبي: أن رجلين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضي عليه: لا أرضى، فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن تذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قضى له: قد اختصمناه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى لي، فقال أبو بكر: أنتما على ما قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأبى صاحبه أن يرضى، فقال: نأتي عمر بن الخطاب ...، فذكر نحو ما سبق. وهذا مرسل .
ضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي، قال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال ابن حبان: مات سنة ثلاثين ومائة، وكان مؤذن مسجد دمشق، وذكره خليفة في الطبقة الثالثة .
(8) في (ك): «فأتيا».
(9) في (ك): «له».
(10) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (....) إلى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول".
(11) قوله: «ابن الخطاب» ليس في (ك) و(ق).
(12) في (ك): «يكون».
(13) انظر "تفسير الطبري" (5/157-159).
(14) في (ك): «الاكتفاء بالخصوم».
(15) في (ك) و(ق) و(ح): «عنهم».
(16) في (ك): «ولا».
(17) في (ق): «تحديد».
(18) في (ك): «حضره».
(19) في (ك): «وإن».
(20) قوله: «فالأول» سقط من (ق).
(21) في (ق): «حقه».
(22) في (ح): «بالأدب».
(23) في (ح) و(ق): «للنبي - صلى الله عليه وسلم - عظيم ولم».(3/992)
عن الدخول في دين الإسلام، فلو صدر اليوم مثل هذا من أحد في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتل قتلة (1) زنديق، وقد أشبعنا القول في ذلك.
ومنها: أن القَدْر الذي يستحق الأعلى من الماء: كفايته، وغاية ذلك: أن يبلغ الماء إلى الكعبين، فقيل: في الشَّرَبَة، كما قلنا، وقيل: في أرض الحائط، وفيه بُعدٌ .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ما (2) نهيتكم عنه فاجتنبوه»؛ أي: لا تقدموا على فعل شيء من المنهي عنه، وإن قلَّ؛ لأنَّه تحصل بذلك المخالفة؛ لأنَّ النهي: طلب الانكفاف المطلق، والأمر المطلق على النقيض من ذلك؛ لأنَّه يحصل الامتثال بفعل أقل ما ينطلق عليه الاسم المأمور به (3) على أي وجه فُعِلَ، وفي أي زمان فعل، ويكفيك من ذلك (4) مثال بقرة بني إسرائيل؛ فإنَّهم لما أمروا بذبح بقرة، فلو بادروا وذبحوا بقرة (5) - أي بقرة كانت - لحصل لهم (6) الامتثال، لكنهم كثَّروا الأسولة (7) فكثرت أجوبتهم، فقل الموصوف، فعظم الامتحان عليهم، فهلكوا، فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن أن يقعوا في =(6/157)=@ مثل ما وقعوا فيه، فلذلك قال: «إنما أهلك الذين قبلكم (8) كثرة مسائلهم (9) »، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله عن تكرار الحج بقوله (10) : أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: «لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم» (11) ، وذكر نحو (12) ما تقدَّم، فالواجب هذا الأصل أن على السامع لنهي الشارع الانكفاف مطلقًا، وإذا سمع الأمر: أن يفعل منه ما يصدق عليه ذلك الأمر، ولا يتنطَّع (13) ؛ فيكثر من السؤال، فيحصل على الإصر والأغلال، وقد استوفينا هذا المعنى في الأصول. &(6/126)&$ %(3/993)%
__________
(1) في (ق): «قتل».
(2) كتب قبلها في (ق): قوله «فقل».
(3) قوله: «به» سقط من (ك).
(4) قوله: «من ذلك» سقط من (ك).
(5) قوله: «بقرة» سقط من (ك).
(6) في (ب) و(ك): «منهم» وفي (ح): يشبه «منهم».
(7) قال في "اللسان" في مادة "سوال": وحكى ابن جني: سوالٌ وأسْوِله .
(8) في (ح): «من قبلكم».
(9) في (ق) و(م): «سؤالهم».
(10) قوله: «بقوله» سقط من (ح).
(11) تقدم في الحج، باب فرض الحج مرة في العمر .
(12) في (ك): «نحوه».
(13) في (ح) و(ك): «ينتطع».(3/993)
ومن باب ترك الإكثار من مساءلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توقيرًا له واحترامًا
قوله: «سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحفوه في المسألة»؛ أي: حتى ألحوا عليه. يقال: أحفى في المسألة، وألَحَّ بمعنى واحد. وقد أشبعنا القول فيه فيما تقدَّم في حديث أبي موسى رضي الله عنه. =(6/158)=@
وقوله: «فلما أُكْثِرَ عليه غضب»؛ يحتمل أن يكون غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - من إكثارهم (1) عليه من المسائل؛ فإنَّ ذلك: يُقلِّل (2) حرمة العالم (3) ، ويُجرئ على الإقدام عليه، فتذهب أبهة العالم، ووقاره، فإنَّه إذا كثرت المسائل: كثرت الأجوبة، فحصل جميع ما ذكرناه من المفاسد. ويحتمل أن يكون غضبُه بسبب أنه تحقَّق أنَّه كان هنالك من يسأل تعنيتًا وتبكيتًا، قصدًا للتعجيز والتنقيص (4) ، كما كان يفعل المنافقون، واليهود، ويدلُّ على هذا قوله: «سلوني، سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا»؛ فإنَّ هذا يصلح أن يكون جوابًا لمن قصد التعجيز والتبكيت حتى يبطل زعمه (5) ، ويظهر خرقه (6) وذمه، ويحتمل أن يكون من تلك المسائل ما يكره، كما قال في حديث أبي موسى: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء كرهها (7) ، وكما دلَّ عليه قوله تعالى : } لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم { (1) ، ويحتمل أن يكون غضبه لمجموع تلك الأمور كلها، والله تعالى أعلم. &(6/127)&$ %(3/994)%
__________
(1) الآية (101) من سورة المائدة .
__________
(1) في (ح) و(ق): «من أجل إكثارهم».
(2) في (ق): «تقل».
(3) في (ك): «العالم ووقاره».
(4) في (ح): «للتنقيض» وفي (ق): «والتفقيص».
(5) في (ك) و(ق): «وهمه»، وفي (م): «فهمه».
(6) في (ق): «وتظهر حرقه».
(7) في (ك): «كرها».(3/994)
وقوله: «فأرمَّ القوم»؛ أي: سكتوا، وأصله من المرمَّة، وهي: الشَّفة، فكأنهم أطبقوا مرمَّاتهم (1) فلم يحركوها بلفظة .
وقوله: «ورهبوا أن يكون من أمرٍ (2) قد حضر»؛ أي: خافوا أن تقع (3) بهم عقوبة عند غضبه . =(6/159)=@
وقوله: «فجعلت ألتفت يمينًا وشمالاً، فإذا كل إنسان لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي»؛ هذه حالة العارفين بالله تعالى، الخائفين (4) من سطوته وعقوبته، لا كما تفعله (5) جُهَّال (6) العوام، والمبتدعة الطَّغام (7) من الزعيق والزفير، ومن النهيق (8) الذي يشبه نهاق الحمير (9) . فيقال لمن تعاطى (10) ذلك،?وزعم أن ذلك وجد وخشوع: إنك لم تبلغ حالك أن (11) تساوي حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى، والخوف منه، والتعظيم لجلاله، ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن (12) الله تعالى، والبكاء خوفًا من الله، والوقار حياءً من الله، وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة (13) فقال : } إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون { (14) ، فصدَّر (15) الله تعالى الكلام في هذه الآية بـ «إنما» الحاصرة (16) لما بعدها، المحققة له (17) ، فكأنه قال: المؤمنون على التحقيق هم الذين تكون أحوالهم هكذا عند سماع ذكر الله تعالى، وتلاوة كتابه (18) ، ومن لم كذلك فليس على هديهم، ولا على طريقتهم، وكذلك قال الله تعالى في الآية الأخرى : } وإذا (19) سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين { (20) ، فهذا وصف حالهم، وحكاية مقالهم (21) ، فمن كان مُستنًّا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والمجون (22) ، فهو من أخسَّهم حالاً، والجنون فنون. فإن قيل: فقد صحَّ عن (23) جماعة من السلف أنهم صرخوا عند سماع القرآن، والمواعظ، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع قارئًا يقرأ : } إن عذاب ربك لواقع - ما له من %(3/995)%
__________
(1) في (ك): «مراماتهم».
(2) في (ح) و(ك): «بين أمر»، وفي التلخيص ومسلم: «بين يدي أمر».
(3) في (ق): «مخافة أن يقع».
(4) في (ك): «والخائفين».
(5) في (ح): يشبه «يفعله».
(6) في (ك): «بجاهل».
(7) في (ك): «العظام».
(8) كذا في (ب) و(ق) و(م)، وفي باقي النسخ: «النهاق».
(9) في (ق): «الحمار».
(10) في (ق): «تعالى».
(11) في (ق) و(م): «تبلغ ذلك أي».
(12) في (ك): «من».
(13) في (ح): «المعرفة به».
(14) الآية (2) من سورة الأنفال .
(15) في (ك): «فصدق».
(16) في (ك): «الحاضرة».
(17) قوله: «له» سقط من (ك).
(18) قوله: «كتابه» لم يتضح في (ح).
(19) في (ق): «فإذا».
(20) الآية (83) من سورة المائدة .
(21) في (ق): «مقالهم» وكتب في الهامش «فعالهم» ووضع (خ).
(22) في (ك): «الجنون».
(23) في (ك): «عند».(3/995)
دافع { (1) ، فصاح صيحة خرَّ مغشيًا عليه، فحمل إلى أهله، فلم يزل مريضًا شهرًا (2) . وروي أن زرارة بن أوفى (3) قرأ: } فإذا نقر في &(6/128)&$ الناقور { (4) ، فصعق ومات في محرابه (5) . وقرأ صالح المرِّي (6) على أبي جهين (7) فمات (8) ، وسمع الشافعي قارئًا يقرأ : } هذا يوم =(6/160)=@ لا ينطقون - ولا يؤذن لهم فيعتذرون { (9) ، فغشي عليه. وسمع علي بن الفضل قارئًا يقرأ : } يوم يقوم الناس لربِّ العالمين { (10) ، فسقط مغشيًّا عليه.
فالجواب: أين الدرُّ من الصدف، والمسك من الجيف؟ هيهات (11) قياس الملائكة بالحدَّادين، والمحقِّقين بالممخرقين (12) . فإنَّ كنت - يا من لُبِّس عليه (13) - تدَّعي أنك على نعتهم فمت كموتهم، فتنبَّه لبهرجتك؛ فإنَّ الناقد بصير، والمحاسب (14) خبير. ثم يقال لمن صرخ في حال خطبة الجمعة: إن كنت قد ذهب عقلك حال صعقتك، فقد خسرت في صفقتك (15) ؛ إذ قد سلب عقلك، وذهب فهمك، ولحقت بغير المكلفين، وصرت كالصبيان، والمجانين، وحُرِمت سماع الموعظة، وشهود الخطبة. وقد قال مشايخ الصوفية: مهما كان الوارد مانعًا من القيام بفرض، ومانعًا من الخير (16) فهو من الشيطان. ثم يلزم من ذهب عقله أن ينتقض وضوؤه، فإنَّ صلى بعد تلك الغشية الجمعة ولم يتوضأ، كان كمن لم يشهد (17) الخطبة، ولا صلى، فأي (18) صفقة أخسر ممن هذه صفقته، وأي مصيبة أعظم ممن هذه مصيبته؛ إن (19) كان وقت صراخه في عقله (20) نقد تكلم في حال الخطبة، وشوش على الحاضرين سماعها (21) ، وأظهر بدعة في مجتمع الناس، وعرضهم لأن يجب عليهم تغييرها، فإنَّ لم يفعلوا (22) عصوا، فقد عصى الله من جهات متعددة، وحمل الناس على المعصية، إلى ما ينضاف (23) إلى ذلك من رياء كامنٍ (24) في القلب، وفِسق ظاهر على الجوارح. فنسأل الله تعالى الوقاية من الخذلان، وكفاية أحوال الجهَّال والمجَّان (25) .
وقوله: «ثم أنشأ رجل من المسجد كان يُلاحَى فَيُدْعَى لغير أبيه»؛ أنشأ: أخذ في الكلام، وشرع فيه، ويُلاحَى: يُعيَّرُ ويُذَُّم، بأن يُنْسَبَ إلى غير أبيه، ويُنفى =(6/161)=@ عن أبيه %(3/996)%
__________
(1) الآية (7-8) من سورة الطور .
(2) قال ابن كثير رحمه الله (4/241): قال الحافظ ابن أبي الدنيا: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن داود، عن صالح المري، عن جعفر بن زيد العبدي، قال: خرج عمر يعس المدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائمًا يصلي، فوقف يستمع قراءته، فقرأ : } والطور { حتى بلغ } إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع { قال: قسم ورب الكعبة حق، فنزل عن حماره وأستند، فمكث مليًا ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرًا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي الله عنه .
وقال الإمام أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص137): ثنا محمد بن صالح، ثنا هشام بن حسان، عن الحسن: أن عمر قرأ : } إن عذاب ربك لواقع { ، فرتا لها رتوة عيد منها عشرين يومًا .
(3) زرارة بن أوفى العامري الحرشي ت (93 هـ).
(4) الآية (8) من سورة المدثر .
(5) أخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" (1/247)، وابن حبان في "الثقات" (4/266)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/258). كلهم من طريق هدبة بن خالد، ثنا أبو خباب القصاب قال: قال أمنا زرارة بن أوفى في مسجد بنى قشير، فلما بلغ } فإذا نقر في الناقور { خر ميتًا .
(6) في (ق): «المزني».
(7) في (ح): «جهيم».
(8) قوله: «فمات» سقط من (ق).
(9) الآية (35-36) من سورة المرسلات .
(10) الآية (6) من سورة المطففين .
(11) قوله: «هيهات» سقط من (ك).
(12) في (ك): «بالمحرقين» وفي : «بالمخرقين».
(13) في (ك): «عليهم».
(14) في (ك): «الحاسب».
(15) في (ب): «صفتك».
(16) في (ح): «من خير».
(17) في (ب) و(ك) و(م): «لم يشاهد»، وفي (ق) «كمن ليشهد».
(18) في (ق): «وأي».
(19) في (ح) و(ق): «وإن».
(20) في (ح): يشبه «غفلة».
(21) قوله: «سماعها» سقط من (ح).
(22) في (ح): «يفطنوا».
(23) في (ك): «يضاف».
(24) في (ك): «كان».
(25) في (ك): «الجهال المجان».(3/996)
- وسببُ هذا ما كانت أنكحة الجاهلية عليه (1) ؛ فإنَّها (2) كانت على ضروب كما &(6/129)&$ ذكرناه (3) في النكاح، وكان منها: أن المرأة يطؤها جماعة؛ فإذا حملت، فولدت دُعي لها كل من أصابها، فتُلحق الولد بمن شاءت، فيَلحق به. فربما يكون الولد من (4) خسيس القدر، فلتحقه بكبير القدر، فإذا نفي عمن له مقدار، وألحق بمن لا مقدار له لحقه من ذلك نقص وعار. فكانوا (5) يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تحقيق ذلك لينسب (6) لأبيه الحقيقي الذي ولد من نطفته، وتزول عنه تلك المعرَّة. فسأل هذان الرجلان النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن (7) ذلك، فقال لأحدهما (8) : «أبوك حذافة»، وقال للآخر: «أبوك سالم»؛ فتحقَّق نسبهما (9) ، وزالت معرَّتهما.
وقول عمر رضي الله عنه: «رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً»؛ كلام يقتضي إفراد الحق بما يجب له تعالى من الربوبية، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - الرسالة (10) اليقينية، والتسليم لأمرهما، وحكمهما بالكلية، والاعتراف لدين الإسلام بأنه (11) أفضل الأديان. وإنما صدَّر عمر رضي الله عنه كلامه بنون الجمع (12) ؛ لأنه متكلِّم عن نفسه، وعن كل من حضر هنالك من المسلمين.
وقوله: «عائذٌ بالله من الفتن (13) »؛ كذا صحَّت الرواية «عائذٌ» بالرفع؛ أي أنا عائذ؛ أي (14) : مستجير. والفتن: جمع فتنة، وقد تقدَّم: أن أصلها الاختبار، و «أنا (15) » تنصرف (16) على أمور متعددة، ويعني بها هنا (17) : المحن، والمشقات، والعذاب ولذلك (18) قال: «من (19) سوء الفتن»؛أي: من سيئها ومكروهها. ولما قال ذلك عمر وضم إلى ذلك (20) قوله: «إنا نتوب إلى الله عز وجل»؛ كما جاء في الرواية الأخرى؛ =(6/162)=@ سكن غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (21) . ثم أخذ يُحدِّثهم بما أطلعه الله عليه من أمور (22) الآخرة، فقال: «لم أر كاليوم قطّ (23) في الخير والشر»؛ هذا الكلام محمول على الحقيقة لا التوسع والمجاز فإنَّه: لا خير مثل خير الجنَّة، ولا شرَّ مثل شرِّ النار. وقط: هي الظرفية الزمانية، ورويناها (24) مفتوحة %(3/997)%
__________
(1) أخرجه البخاري (9/182-183 رقم5127) في النكاح، باب من قال: لا نكاح إلا بولي .
(2) في (ق): «فإنهما».
(3) في (ك): «ذكرنا».
(4) قوله: «من» سقط من (ح).
(5) في (ق) و(م): «وكانوا».
(6) في (ك): «لينتسب».
(7) في (ق): «عن تحقيق».
(8) في (ك): «لاحداهما».
(9) في (ك): «بنسبهما».
(10) في (ح) و(ق): «من الرسالة».
(11) في (ك): «فإنه».
(12) في (ح): «الجموع».
(13) قوله: «من الفتن» سقط من (ح)، وفي التلخيص: «من سوء الفتن».
(14) قوله: «أي» سقط من (ح).
(15) في (ح) و(ق): «وأنها».
(16) في (ق): «تتصرف».
(17) في (ق): «ها هنا».
(18) في (ك): «وكذلك».
(19) قوله: «من» سقط من (ح).
(20) في (ح): «قولها» وكأنه عدلها إلى قوله.
(21) انظر حدث أبي موسى التالي .
(22) في (ح): «علوم».
(23) قوله: «قط» سقط من (ح).
(24) في (ق): «ورويناها هنا».(3/997)
القاف، مضمومة الطاء مشدَّدة، وهي إحدى لغاتها، وتقال (1) بالتخفيف، وتقال (2) : بضم القاف على إتباع حركتها لحركة (3) الطاء، وذلك مع التشديد والتخفيف، فأمَّا «قط» بمعنى حسب فبتخفيف (4) الطاء وسكونها (5) ، وقد تزاد (6) عليها نون بعدها. فيقال: قطني (7) ، وقد تحذف النون فيقال: &(6/130)&$ قَطي، وقد تحذف الياء، فيقال: قَط، بكسر الطاء، وقد تبدل (8) من الطاء دال مهملة، فيقال: قد (9) ، ويقال (10) على تلك الأوجه كلها، كله من الصحاح.
وقوله: «إني صوِّرت لي الجنة والنار فرأيتهما دون هذا الحائط»، وفي البخاري (11) : «لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط»، وفي البخاري (12) في هذا الحديث: «لقد رأيت الآن - منذ (13) صليت لكم (14) الصلاة - الجنة والنار ممثلتين (15) في قبلة هذا الجدار»؛ ظاهر هذه الروايات -وإن اختلفت ألفاظها (16) -: أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى مثال (17) الجنة والنار في الجدار الذي استقبله مصوَّرتين فيه، وهذا لا إحالة فيه، كما تتمثل المرئيات في الأجسام الصقيلة. يبقى أن يقال: فالحائط ليس بصقيل. ويجاب: بأن اشتراط الصقالة في ذلك: ليس بشرط عقلي، بل: عادي، وذلك محل خرق العادة ووقتها، فيجوز أن يمثلها (18) الله تعالى فيما ليس بصقيل، هذا =(6/163)=@ على مقتضى ظاهر هذا الحديث، وأما على مقتضى ظاهر أحاديث الكسوف (19) فيكون رآهما حقيقة، ومد يده (20) ليأخذ قطفًا من الجنة، ورأى النار وتأخر مخافة أن يصيبه لفحها (21) ، ورأى فيها فلانًا وفلانة. وبمجموع (22) الحديثين تحصل (23) أن الله تعالى أطلع نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - على الجنة والنار مرتين:
أحداهما (24) : في صلاة الكسوف إطلاع رؤية كما فصلناه في الكسوف. %(3/998)%
__________
(1) في (ق): «ويقال».
(2) قوله: «وتقال» لم يتضح في (ق).
(3) في (ك): «بحركة».
(4) في (ك): «بتخفيف».
(5) في (ح): يشبه «سكونهما».
(6) في (ق): «زاد».
(7) قوله: «قطني» لم يتضح في (ح).
(8) في (ق): «يبدل».
(9) في (ح): «وقد».
(10) في (ق): «وتقال».
(11) (2/21 رقم540) في مواقيت الصلاة، باب وقت الظهر عند الزوال، و(13/265 رقم7294) في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه .
(12) (2/232 رقم749) في الأذان، باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، و(11/295 رقم6468) في الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل .
(13) في (ك): «مذ».
(14) في (ق) و(م): «بكم»، وعند البخاري: «لكم».
(15) في (ح) و(ق) و(م): «ممتثلتين».
(16) في (ح): «ألفاظهما»
(17) في (ح): «مثل».
(18) في (ح) و(ك): «يمثلهما».
(19) تقدم في أبواب كسوف الشمس والقمر، باب كيفية العمل فيها، وأنها ركوعان في كل ركعة. وفي (ق): «الكشوف».
(20) في (ق): «ويؤيده».
(21) في (ك): «نفحها».
(22) في (ح) و(ق): «ومجموع».
(23) في (ك): «يحصل».
(24) في (ح): «إحديهما».(3/998)
وثانيهما: هذه الإطلاعة، وكانت في صلاة الظهر، كما قد جاء في بعض طرق حديث أنس رضي الله عنه: أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم بعدما زاغت الشمس (1) ، فصلَّى بهم الظهر، ثم قام فخطب (2) ، وذكر نحو ما تقدَّم. وقد نصَّ عليه البخاري (3) كما نقلته عنه آنفا.
وعُرْض الشيء - بالضم-: جانبه، وصفحه (4) . والعَرْض -بالفتح-: خلاف الطول.
وقوله: «أولى» هي (5) كلمة تهديد ووعيد، وإذا كررت كان التهديد أعظم، كما قال تعالى: } أولى لك فأولى (6) { (7) ، وهذا المقام الذي قامه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مقامًا هائلاً مخوفًا (8) ، ولذلك قال أنس في بعض الطرق الواقعة في "الأم" (9) : بلغ رسول &(6/131)&$ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصحابه شيء، فخطب فقال: "عرضت علي الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا». =(6/164)=@ قال: فما أتى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أشدُّ (10) منه. قال: غطوا رؤوسهم، ولهم خنين (11) ، والرواية المشهورة بالخاء المعجمة، وقد (12) رواه العذري بالحاء المهملة، فالمعجمة (13) : معناها البكاء مع تردُّد الصوت، وقال أبو زيد: الخنين: ضرب من الحنين، وهوالشديد من البكاء (14) .
وقوله في هذه الرواية: «إنه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصحابه (15) شيء»؛ أي: عن بعض أصحابه، وذلك أنه بلغه -والله تعالى أعلم -: أن بعض من دخل في أصحابه، ولم يتحقق إيمانه: همَّ أن يمتحن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسولة، ويكثر عليه منها ليعجزه، وهذا كان دأب المنافقين وغيرهم من المعادين (16) له ولدين الإسلام؛ فإنَّهم كانوا : } يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم بنوره ولو كره الكافرون { (17) ، ولذلك لما فهم %(3/999)%
__________
(1) قوله: «الشمس» سقط من (ك).
(2) مسلم (4/1832-1833 رقم2359/136) في الفضائل، باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - ، وترك إكثار مساءلته عما لا ضرورة فيه ... .
(3) (13/265 رقم7294) في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه .
(4) في (ك): «صحفه».
(5) في (ق): «هذه».
(6) زاد بعدها في (ح): «ثم أولى لك فأولى».
(7) الآية (34) من سورة القيامة .
(8) قوله: «مخوفًا» سقط من (ح).
(9) مسلم (4/1832 رقم2359/134) في الموضع السابق .
(10) في (ك): «شر منه».
(11) في (ك): «حنين».
(12) قوله: «وقد» سقط من (ك).
(13) قوله: «فالمعجمة» سقط من (ح)، وفي (ك): «والمعجمة».
(14) في (ح): «الشديد بالبكاء»، وفي (ك): «التشديد بالبكاء».
(15) قوله: «عن أصحابه» سقط من (ك).
(16) في (ح): «المعاندين».
(17) الآية (32) من سورة التوبة .(3/999)
النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك قال لهم في هذا المجلس: «سلوني، سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به »؛ فكل من سأله في ذلك المقام عن شيء أخبره به - أحبَّه أو كرهه -، ولذلك أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى : } يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم (1) عفا الله عنها والله غفور حليم (2) { (3) ، فأدَّبهم الله تعالى بترك السؤال عما ليس بِمُهم، وخصوصًا عما (4) تقدَّم من أحوال الجاهلية التي قد عفا الله عنها، وغفرها، ولما (5) سمعت الصحابة =(6/165)=@ رضي الله عنهم هذا كله انتهت عن سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في أمر لا يجدون منه بدًّا، ولذلك قال أنس - فيما تقدم -: نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع (6) . &(6/132)&$
وقوله (7) - صلى الله عليه وسلم - : «إن أعظم المسلمين جُرْمًا في المسلمين أن (8) من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرِّم عليهم من أجل مسألته»؛ قال أبو الفرج الجوزي: هذا محمولٌ على أن (9) من سأل عن الشيء عنتًا وعبثًا، فعوقب لسوء (10) قصده بتحريم ما سأل عنه، والتحريم يعم.
قال الشيخ رحمه الله: والجرم والجريمة: الذنب. وهذا صريحٌ في أن السؤال الذي يكون على هذا الوجه، ويحصل للمسلمين عنه هذا الحرج: هو من أعظم الذنوب، والله تعالى أعلم (11) . =(6/166)=@ %(3/1000)%
__________
(1) زاد بعدها في (ق) قوله: «الآية».
(2) قوله: «عفا الله عنها والله غفور حليم» ليس في (ك) و(ق).
(3) الآية (101) من سورة المائدة وزاد بعد.
(4) في (ح): «كما».
(5) في(ح): «فلما».
(6) تقدم في باب الإيمان، باب وجوب التزام شرائع الإسلام .
(7) في (ك): «قوله».
(8) قوله: «أن» سقط من (ح) و(ك).
(9) قوله: «أن» سقط من (ح).
(10) في (ك): «لبس».
(11) قوله: «والله تعالى أعلم» سقط من (ح) و(ك).(3/1000)
- - - - -
ومن باب عصمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن (1) الخطأ فيما يبلغه (2) عن الله تعالى
معنى (3) هذه الترجمة معلوم من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعًا بدليل المعجزة، &(6/133)&$ وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال للناس: أنا رسول الله إليكم، أبلغكم ما أرسلني به إليكم من الأحكام (4) والأخبار عن الدار الآخرة وغيرها، وأنا صادق في كل ما أخبركم به عنه (5) ، ويشهد لي على ذلك (6) ما أيَّدني به من المعجزات (7) . ثم وقعت المعجزات مقرونة بتحدِّيه، علمنا على القطع والبتات (8) استحالة الخطأ والغلط عليه فيما يبلغه (9) عن الله، إما لأن المعجزة تنزلت (10) منزلة قول الله تعالى لنا: صدق، أو لأنها تدل على أن الله تعالى أراد تصديقه فيما قاله (11) عنه، دلالة على (12) قرائن الأحوال، وعلى الوجهين فيحصل العلم الضروري بصدقه، بحيث لا يجوز عليه شيء من الخطأ في كل ما يبلغه عن الله تعالى بقوله، وأما أمور الدنيا التي لا تعلق لها بالدِّين فهو فيها واحد من البشر، كما قال: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون» (13) ، وكما قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم، وأنا أعلم بدينكم» (14) . وقد تقدم القول في الإبار.
ويلقِّحون (15) مضارع =(6/167)=@ ألقحَ الفحلُ الناقة، والريحُ السحابَ (16) ، و: رياحٌ لواقحُ، ولا يقال: ملاقح، وهو من النوادر، وقد قيل: الأصل (17) فيه: منقحة (18) ، ولكنها لا تنقح (19) إلا وهي في نفسها لاقح، ويقال: لقحت الناقة - بالكسر - لقحًا ولَقَاحًا بالفتح، فهي لاقح، واللقاحُ أيضًا -بالفتح - ما تُلْقَحُ به النخل (20) .
وقوله: «ما أظن ذلك يغني شيئًا»؛ يعني به الإبار، إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا؛ لأنه لم يكن عنده علم باستمرار هذه العادة، فإنَّه لم يكن ممن عانى الزراعة، ولا الفلاحة، ولا باشر شيئًا من ذلك، فخفيت عليه تلك الحالة، وتمسك بالقاعدة الكلية المعلومة التي هي: أنه %(3/1001)%
__________
(1) في (ق): «من».
(2) في (ح): «بلغه».
(3) في (ك): «ومعنى».
(4) قوله: «من الأحكام» سقط من (ح).
(5) قوله: «عنه» سقط من (ح).
(6) في (ق): «بذلك» بدل «على ذلك».
(7) هذا على مذهب الأشاعرة المتكلمين الذين يحصرون دلائل النبوة بالمعجزة، خلافًا لأهل السنة والجماعة الذين يجعلون المعجزة إحدى الدلائل. انظر التعليق المفصل (.... ).
(8) في (ك): «الثبات».
(9) في (ب) و(م): «بلغه».
(10) في (ح): «نزلت»، وفي (ك): «تنزل».
(11) في (ح): «قال».
(12) قوله: «على» سقط من (ق).
(14) في "التلخيص" دون قوله: «وأن اأعلم بدينكم»، باب ...
(15) في (ك): «فيلحقون».
(16) في (ق): «السحابة».
(17) في (ح): «للأصل».
(18) في (ح) و(ق): «ملقحة».
(19) في (ح) و(ق): «لا تلقح».
(20) في (ح): «النخلة».(3/1001)
ليس في الوجود ولا في الإمكان فاعل، ولا خالق، &(6/134)&$ ولا مؤثر إلا الله تعالى، فإذا نسب (1) شيء إلى غيره نسبة التأثير فتلك النسبة مجازية عرفيَّة (2) لا حقيقيَّة، فصدق (3) قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ما أظن ذلك يغني شيئًا»؛ لأن الذي يغني في الأشياء عن (4) الأشياء بالحقيقة هو الله تعالى، غير أن الله تعالى قد أجرى عادته بأن ستر تأثير (5) قدرته في بعض الأشياء بأسباب معتادة، فجعلها (6) مقارنة لها، ومغطاة بها ليؤمن من سبقت له السعادة بالغيب، وليضل من سبقت له الشقاوة بالجهل، والرَّيب (7) : } ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة { (8) .
وقوله: «إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن»، وقوله في الأخرى: «إنما أنا لبشر (9) »؛ هذا كله منه - صلى الله عليه وسلم - اعتذار لمن ضعف عقله مخافة أن يزله الشيطان فيكذب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكفر، وإلا فما جرى شيء يحتاج فيه إلى عذر، غاية (10) ما جرى: =(6/168)=@ مصلحة دنيوية، خاصَّة بقوم مخصوصين لم يعرفها من لم يباشرها، ولا كان من أهلها المباشرين لعملها (11) ، وأوضح ما في هذه الألفاط المعتذر بها في هذه القصة قوله: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»، وكأنه قال: وأنا أعلم بأمر دينكم.
وقوله: «إذا حدثتكم عن الله فخذوا به (12) »؛ أمر?جزم بوجوب الأخذ عنه في كل أحواله: من الغضب والرضا، والمرض والصحة.
وقوله: «فلن أكذب على الله»؛ أي: لا يقع منه فيما يبلغه عن الله كذب، ولا غلط؛ لا (13) سهوًا ولاعمدًا، وقد قلنا: إن صدقه في ذلك هو مدلول المعجزة (14) ، &(6/135)&$ وأما الكذب العمد المحض فلم يقع قط منه في خبر من الأخبار، ولا جرب عليه شيء من ذلك منذ أنشأه (15) الله تعالى، وإلى أن توفاه الله تعالى، وقد كان في صغره معروفًا بالصدق والأمانة، ومجانبة أهل الكذب، والخيانة، حتى إنه كان يسمى بالصادق الأمين، يشهد له بذلك كل من عرفه وان كان من أعدائه، وقد خالفه.
وقوله: «إذا أمرتكم بشيء من رأيي»؛ يعني به في مصالح الدنيا كما دل =(6/169)=@ عليه بساط هذه القصة، ونصُّه على ذلك، ولم يتناول هذا اللفظ ما يحكم فيه باجتهاده (16) إذا تنزلنا على (17) ذلك؛ لأنَّ ذلك أمر ديني تجب (18) عصمته فيه، كما إذا بلغه نصًّا؛ إذ كل ذلك تبليغ شرعه، وبيان حكم دينه، وإن اختلفت مآخذ الأحكام، كما قد (19) أوضحناه في الأصول.
وقوله: «فإنما أنا بشر»؛ أي: واحد منهم في البشرية، ومساوٍ لهم فيما ليس من الأمور الدينية، وهذه إشارة إلى قوله تعالى : } قل إنما (20) أنا بشرمثلكم يوحى إلي { (21) ، فقد ساوى البشر في البشرية، وامتاز عنهم بالخصوصية الإلهية التي هي: تبليغ الأمور الدينية.
وقوله: «فنفضت (22) أو نقصت (23) »؛ ظاهره أنه شك من بعض الرواة في أي اللفظين قال: ويحتمل أن يكون «أو» بمعنى الواو؛ أي: نفضت (24) ثمرها (25) ونقصت في حملها، وقد دلَّ على هذا قوله في الرواية الأخرى: «فخرج شيصًا»، وهو البلح الذي لا ينعقد نواه، ولا يكون فيه حلاوة إذا أبسر، ويسقط أكثره فيصير حشفًا . =(6/170)=@ &(6/136)&$ %(3/1003)%
__________
(1) في (ك): «نسبت».
(2) في (ق): «عرضية» وكتب في الهامش «عرفية» ووضع (خ)..
(3) في (ق): «بصدق».
(4) في (ح) و(ق): «وعن».
(5) قوله: «تأثير» سقط من (ح).
(6) في (ك): «جعلها».
(7) هذا أيضًا على مذهب الأشاعرة الفلسفي في نفي أي تأثير للأسباب في المسببات وعدم جوزا نسبتها إليها؛ لأن الفاعل هو الله وحده، وما السبب إلا حدث متزامن مع المسبب لا نتيجة له. وهذا مخالف للنصوص المتكاثرة في الكتاب والسنة التي بُني عليها مذهب أهل السنة. راجع التعليق (...)،و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية رحمه الله (8/121 و123 و134 و13 و389 و390 و487 و488) وغيرها .
(8) الآية (42) من سورة الأنفال .
(9) في (ح) و(ق): «بشر».
(10) في (ح) و(ق): «وغاية».
(11) في (ق): «لعلمها».
(12) في (ح): «به عني».
(13) قوله: «لا» سقط من (ح) و(ك).
(14) راجع التعليق السابق .
(15) في (ق): «أنشأ».
(16) في (ح): «باجتهاد».
(17) في (ك): «عن».
(18) في (ك): «يجب».
(19) قوله: «قد» سقط من (ح).
(20) من قوله: «أنا بشر ...» إلى هنا سقط من (ح).
(21) الآية (110) من سورة الكهف .
(22) في (ح): «نفضت».
(23) مهملة النقط في (ح) وفي (ك): «نقضت » وفي (ق): «فنقصت أو نفضت»..
(24) مهملة النقط في (ح) وفي (ك): «نقصت » وفي (ق): «نقضت».
(25) في (ح) و(ك): «ثمرتها».(3/1002)
- - - - -
ومن باب كيف كان يأتيه الوحي
قد تقدَّم الكلام (1) على الوحي لغة.
وقوله (2) : «كيف يأتيك (3) الوحي؟ » سؤال عن كيفية تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي عن الملَك، والمراد بالوحي هنا: ما يُلقى للنبي (4) - صلى الله عليه وسلم - من القرآن والأحكام، فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك يأتيه على حالتين:
إحداهما: أن يسمع صوتًا شديدًا متتابعًا يشبه صلصلة الجرس، وهو الناقوس، أو شبهه، وهو الذي تعلقه العرب في (5) أعناق الإبل لصوته، وقال بعض العلماء (6) : وعلى هذا النحو (7) تتلقى الملائكة الوحي عن الله تعالى، كما جاء في الحديث الصحيح: «إذا قضى الله (8) الأمر في السماء ضربت الملائكة الأرض (9) بأجنحتها خَضعانًا لقوله، كأنه (10) سلسلة على (11) صفوان (12) .
قال الشيخ رحمه الله: والذي عندي في هذا الحديث: أن هذا تشبية لأصوات خفق أجنحة، الملائكة، فيعني: أنها متتابعة متلاحقة، لا أن (13) الله تعالى يتكلم (14) بصوت، فإنَّ كلامه تعالى ليس بحرف، ولا صوت (15) ، كما هو مبرهن عليه في موضعه، فإنَّ أراد هذا القائل: أن كلام الله تعالى القائم به صوت يُسمع بحاسة الأذن، فهو غلط فاحش، وما هذا اعتقاد أهل الحق (16) ، وإن أراد: أن الملائكة تسمع كلام ملك آخر &(6/137)&$ يبلغهم عن =(6/171)=@ الله بصوتٍ فصحيحٌ (17) ، كما تقرر ذلك في حق جبريل، فيما كان يبلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: «وهو أشدُّه (18) عليَّ»؛ إنما كان أشد عليه لسماعه (19) صوت الملك الذي هو غير معتاد، وربما كان شاهد (20) الملك على صورته التي خلق عليها، كما أخبر بذلك عن نفسه في غير هذا الموضع (21) ، وكان يشتد عليه أيضًا؛ لأنَّه كان يريد أن يحفظه ويفهمه مع كونه صوتًا متتابعًا مزعجًا، ولذلك كان يتغيَّر لونه (22) ، ويتفصَّد عرقه (23) (24) ، ويعتريه مثل حال المحموم، ولولا أن الله تعالى قوَّاه على ذلك، ومكّنه منه بقدرته لما استطاع شيئًا من ذلك، ولهلك عند مشافهة الملك؛ إذ ليس في قوى البشر المعتادة تحمّل ذلك بوجه. %(3/1004)%
__________
(1) في (ح): «القول».
(2) في (ح) و(ك) و(ق): «قوله» بلا واو.
(3) في (ك): «يأتيه».
(4) في (ك): «ما تلقى النبي».
(5) قوله: «في» سقط من (ح).
(6) في (ح): «الحكماء».
(7) قوله: «على هذا النحو» مكانه خرم في (ك).
(8) قوله: «إذا قضى الله» مكانه خرم في (ك).
(9) قوله: «الأرض» سقط من (ح).
(10) كذا في جميع النسخ! وفي "صحيح البخاري" وغيره: «كأنه»، أو «كأنها» وفي (ح) و(ق): «كأن».
(11) قوله: «سلسلة على» مكانه خرم في (ك).
(12) أخرجه البخاري (8/380 و537-538 رقم4701 و4800) في التفسير، باب } إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين { ، وباب } حتى إذا فزع عن قلوبهم ... { ، و (13/453 رقم7481) في التوحيد، باب قول الله تعالى : } ولا تنفع الشفاعة عنده إلا من أذن له ... { .
(13) في (ك): «كأن» بدل «لا أن».
(14) في (ح): «متكلم».
(15) قوله: «صوت» سقط من (ك).
(16) وهذا أيضًا من مذاهب الأشاعرة الكلامية التي يتوهمونها تنزيهًا لله تعالى فيقعون في تعطيل صفات الله تعالى وتحريفها ورد نصوص الكتاب والسنة التي دلت على أن كلام الله تعالى بحرف وصوت كما هو اعتقاد أهل السنة والجماعة، فقد قال الله تعالى : } تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله { [البقرة:235]، و } وكلم الله موسى تكليمًا { [آل عمران:164]، وفي الحديث: ان الله تعالى ينادي بصوت، وثبت نداؤه للأنبياء، كقوله سبحانه: } وإذ نادى ربك موسى { [الشعراء: 10]، كما ذكر الحرف في كلام الله كحديث: من قرأ حرفًا من كتاب الله ..، وحديث: إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف ...، ومثل هذا كثير. انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (6/513 و518)، و(12/37 و130) وغيرها. و"التسعينية" لابن تيمية (94 و95 و131).
(17) في (ق): «فصيح».
(18) في (ك): «أشد».
(19) في (ق): «لسماع».
(20) في (ك): «يشاهد».
(21) تقدم في الإيمان، باب هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه .
(22) في (ح) و(ك): «وجهه».
(23) في (ق): «عرقًا».
(24) أخرجه البخاري (1/18 رقم2) في بدء الوحي، باب .(3/1003)
والحالة الثانية: وهي أن يتمثل له الملَك (1) في صورة رجل، فيكلمه بكلامه المعتاد، فلا يجد لذلك (2) شيئًا من المشقات، والشدائد، وهذا كما اتَّفق له معه حيث تمثل له في صورة الأعرابي (3) ، فسأله عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وكما كان يأتيه في صورة دحية بن خليفة (4) ، وكانت صورته حسنة، والحاصل من هذا الحديث، ومن قوله تعالى: } فتمثل لها بشرًا سويًّا { (5) ، ومن (6) غير ذلك من الكتاب والسنه: أن الله تعالى (7) قد مكَّن الملائكة، والجن من التمثيل (8) في الصور المختلفة، والتمثيل بها (9) ؛ مع أن للنوعين في أنفسهما خلقًا خاصة بهما، خلقهما الله تعالى عليها، كما قال (10) - صلى الله عليه وسلم - : «لم (11) أر جبريل - صلى الله عليه وسلم - على صورته التي خلق عليها غير (12) مرتين» (13) . والبحث عن كيفية ذلك التمثيل بحث ليس وراءه تحصيل، والواجب التصديق بما جاء من ذلك، ومن أنكر وجود الملائكة والجن وتمثلهم في الصور فقد كفر . =(6/172)=@
وقوله: «فيفصم عني، وقد وعيت عنه»؛ أي: يذهب عني، ويُقلع. يقال &(6/138)&$ منه: فصم، وأفصم بالفاء، ومنه قوله تعالى : } لا انفصام لها (14) { (15) ؛ أي: لا انقطاع، والفصم (16) – بالفاء (17) -: انصداع من غير بينونة، وبالقاف (18) : انصداع مع بينونة. هذا أصلهما (19) ، ثم قد يتوسَّع في كل واحد منهما.
و «وعيت»: فهمت وحفظت. تقول العرب: وعيت العلم-ثلاثيًّا - وأوعيت المتاع في الوعاء - رباعيًّا - وأصلهما: من جعلت الشيء في الوعاء، غير أن استعمالهم فرق بينهما كما قلناه (20) .
وقد اقتصر (21) في هذا الحديث على ذكر طريقي (22) الوحي، ولم يذكر الرؤيا، وهي من الوحي (23) كما تقدم؛ لأنَّه فهم عن السائل: أنه إنما سأل عن كيفية تلقيه (24) الوحي من الملك، والله أعلم.
وقوله: «كان إذا أنزل (25) عليه الوحي كرب لذلك»؛ وجدناه بتقييد من يوثق بتقييده مبنيًا لما لم يسم فاعله؛ أي: أصيب بالكرب، وهو الألم والغم.
و «تربَّد (26) وجهه (27) »: علته زُبدة (28) %(3/1005)%
__________
(1) قوله: «الملك» سقط من (ك).
(2) في (ق) و(م): «إلى ذلك».
(3) تقدم في الإيمان، باب معاني الإيمان والإسلام والإحسان .
(4) تقدم في الإيمان، باب رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء .
(5) الآية (17) من سورة مريم .
(6) قوله: «ومن» سقط من (ك).
(7) قوله: «أن الله تعالى» في مكانه خرم في (ك).
(8) في (ح) و(ق): «التشكل».
(9) قوله: «والتمثيل بها» في مكانه خرم في (ك)، وفي (ح): «والتمثيل لها».
(10) قوله: «عليها كما قال» في مكانه خرم في (ك).
(11) قوله: «لم» سقط من (ك).
(12) في ق): «إلا» بدل «غير».
(13) تقدم في الإيمان، باب هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه .
(14) زاد في (ق) و(م): «والله سميع عليم».
(15) الآية (256) من سورة البقرة .
(16) في (ح) و(ق): «الفصيم».
(17) قوله: «والفصيم بالفاء» مكرر في (ق).
(18) قوله: «وانصداع من غير بينونة وبالقاف» سقط من (ك).
(19) في (ق): «أصلها».
(20) في (ح): «قلنا».
(21) في (ح): «اختصر».
(22) في (ح): «طريق».
(23) تقدم في الإيمان، باب كيف كان ابتداء الوحي .
(24) في (ك): «تلقينه».
(25) في (ك): «نزل».
(26) في (ك): «يريد».
(27) في (ك) و(ح): «وجهه بالراء».
(28) في (ق): «ربدة».(3/1004)
وهي: لون بين السواد والغبرة، ومنه قيل للنعام: رُبدٌ، جمع ربداء، كحمراء وحُمْر. وتنكيس النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه لثقل ما يلقى عليه، ولشدة ما يجده من الكرب. وتنكيس أصحابه رؤوسهم عند ذلك استعظام لذلك الأمر، وهيبة له . =(6/173)=@
وقوله: «فلما أُتْلِي (1) عنه رفع رأسه»؛ اختلف (2) الرواة في هذا الحرف. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى (3) : قيَّده شيخنا أبو عبدالله محمد (4) بن عيسى الجياني بضم الهمزة، وتاء باثنتين من فوقها ساكنة (5) ، ولام مكسورة، مثال (6) : أُعْطِي، وعند الفارسي مثله، إلا أنه بثاء مثلثة، وعند?العذري من طريق شيخه الأسدي: بكسر الثاء المثلثة: أُثِلَ مثل: ضرب. وكان عند شيخنا الحافظ أبي علي :«أُجْلِي» بالجيم مثل: أُعْطِي أيضًا، وعند ابن ماهان (7) :«انجلى» بالنون، وكذا رواه البخاري (8) ، وهاتان الروايتان لهما وجه؛ أي (9) : انكشف عنه وذهب، وفُرِّج عنه. يقال: انجلى عنه الغم، وأجليته؛ أي: فرجته (10) فتفرج، وأجلوا عن قتيل؛ أي: برحوا (11) عنه وتركوه، &(6/139)&$ ورواه البخاري (12) في كتاب الاعتصام: فلما صعد الوحي. وهو صحيح، وفي البخاري (13) في سورة سبحان: فلما نزل الوحي. وكذا في مسلم (14) في حديث سؤال اليهودي، وهذا وهم بيِّنٌ، ورواه ابن أبي خيثمة: فلما أعلى عنه؛ أي: نَحَّي عنه. كما قال أبوجهل: اعلُ عني (15) ؛ أي: تنحَّ. نقلته من كتاب "مشارق الأنوار" (16) للقاضي.
وقوله: «والذي نفس محمد بيده! ليأتين على أحدكم يوم لا (17) يراني، ثم لأن =(6/174)=@ يراني أحبَّ إليه من أهله وماله معهم (18) »؛ كذا صحيح الرواية، ومعنى هذا الحديث: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأنه اذا فُقِد تغيَّرت الحال على أصحابه من عدم مشاهدته، وفقد عظيم فوائدها، ولِما طرأ %(3/1006)%
__________
(1) في (ك): «أبلى».
(2) في (ح): «اختلفوا».
(3) قوله: «رحمه الله تعالى» سقط من (ح) و(ك).
(4) قوله: «محمد» سقط من (ح) و(ك).
(5) في (ق): «ومثناة فوق ساكنة».
(6) في (ق): «مثل».
(7) قوله: «ابن ماهان» سقط من (ك) لخرم فيها .
(8) أخرجه البخاري (1/223-224 رقم125) في العلم، باب قول الله تعالى : } وما أوتيم من العلم إلا قليلاً { ، من حديث ابن مسعود .
(9) قوله: «وجه أي» سقط من (ك) لخرم فيها .
(10) قوله: «أي فرجته» سقط من (ك) لخرم فيها .
(11) في (ك): «فرجوا».
(12) (13/265 رقم7297) في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه .
(13) (8/401 رقم4721) في التفسير، باب } ويسألونك عن الروح { .
(14) سيأتي في باب ومن سورة الإسراء .
(15) ...
(16) ....
(17) في (ك): «لأن».
(18) قوله: «معهم» سقط من (ك).(3/1005)
عليهم من الاختلاف (1) والمحن (2) ، والفتن. وعلى الجملة: فساعةَ موته اختلفت الآراء، ونجمت الأهواء، وكاد (3) النظام ينحل (4) لولا أن الله تبارك وتعالى تداركه بثاني (5) اثنين، وأهل العقد والحل، وقد عبَّر الصحابة عند (6) مبدأ ذلك التغيُّر لنا بقولهم :«ما سؤينا التراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنكرنا قلوبنا (7) ، فكلما حصل واحدٌ منهم في كربة من تلك الكرب، ودَّ أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل ما معه من أهل ومال ونشب (8) ، وذلك لتذكره (9) ما فات من بركات مشاهدته، ولما حصل بعده من فساد الأمر، وتغيُّر حالته. والله أعلم (10) . &(6/140)&$
- - - - -
__________
(1) في (ق) و(م): «الخلاف».
(2) في (ح) و(ق): «والمحن والكرب والفتن»، وفي (ك): «والمحن والكذب».
(3) في (ق): «وكان».
(4) في (ك): «أن ينحل».
(5) في (ق): «ثاني» وكتب في الهامش «بثاني» ووضع (خ).
(6) في (ح) و(ق): «عن» بدل «عند».
(7) أخرجه ابن سعد (2/274)، وأحمد (3/221 و268)، وعبد بن حميد (1289)، وابن ماجه (1/522 رقم 1631) في الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه - صلى الله عليه وسلم - ، والترمذي (5/549 رقم3618) في المناقب، باب في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو يعلى (6/51 و110 رقم3296 و3378)، وابن حبان (14/601 رقم6634/الإحسان) جميعهم من طريق جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وقال: ولما نفضنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأيدي وإنا في دفنه حتى أنكرنا قلوبنا .
قال الترمذي: غريب صحيح. وصححه الألباني في "الشمائل" (ص196 رقم329)، وقد تُوبع جعفر بن سليمان على روايته: فأخرجه أحمد (3/240)، والدارمي (1/41) في المقدمة، باب في وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والحاكم (3/57). ثلاثتهم من طريق حماد بن سلمة، بهذا الإسناد. ليس فيه: حتى أنكرنا قلوبنا .
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي .
قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (10/88): حتى أنكرنا قلوبنا: قال التوربشتي: يريد أنهم لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من الصفاء والألفة؛ لانقطاع مادة الوحي، وفقدان ما كان يمدهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التأييد والتعليم، ولم يرد أنهم لم يجدوها على ما كانت عليه من التصديق». اهـ.
(8) في (ق) و(م): «من مال وأهل ونشب».
(9) في (ك): «لتذكر».
(10) قوله: «والله أعلم» من (ق) فقط وليس في (ح) .(3/1006)
ومن باب ذكرعيسى صلوات الله عليه وسلم
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم»؛ أي: أخص، وأقرب، وأقعد، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : «فَلأِولى عصبة» (1) ؛ أي: لأقرب، وأحقّ. =(6/175)=@
وقوله: «في الأولى والآخرة»؛ أي: في (2) الدنيا وفي الدار الآخرة.
وقوله: «كيف يا رسول الله؟» سؤال (3) عن وجه الأولوية. فقال في الجواب: «الأنبياء إخوة من عَلاَّت (4) ، أُمَّهاتهم شتى، ودينهم واحد، وليس بيني وبينه نبي». وفي لفظ آخر: «أولاد (5) عَلاَّت» (6) . وفي الصحاح: بنو العلاَّت: هم (7) أولاد الرجل من نسوة شتى، سميت بذلك لأن الذي يتزوجها (8) على أولى كانت قبلها، ثم علَّ من هذه، والعَلَلُ: الشرب الثاني. يقال: عَلَلٌ بعد (9) نهلٍ، وعلَّه يعله: إذا سقاه السُّقية الثانية، وقال غيره: سُمُّوا بذلك لأنهم أولاد ضرائر، والعلاَّت الضرائر. وشتَّى: مختلفون، ومنه قوله تعالى: %(3/1007)%
__________
(1) تقدم تخريجه في كتاب الوصايا والفرائض، باب: ألحقوا افرائض بأهلها، ولا يرث المسلم الكافر .
(2) قوله: «أي في» سقط من (ك) لخرم فيها .
(3) قوله: «سؤال» سقط من (ك) لخرم فيها .
(4) قوله: «من علاَّت» سقط من (ك) لخرم فيها .
(5) قوله: «أولاد» سقط من (ك) لخرم فيها .
(6) مسلم (4/1837 رقم2365/143) في الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام .
(7) قوله: «هم» سقط من (ح).
(8) في (ح): يشبه «تزوجها».
(9) قوله: «بعد» مكرر في (ق).(3/1007)
} تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى { (1) .
قال القاضي أبو الفضل عياض (2) : معناه: أن الأنبياء مختلفون في أزمانهم، &(6/141)&$ وبعضهم بعيد الوقت من بعض، فهم أولاد علاَّت؛ إذ لم يجمعهم زمان واحد، كما لم يجمع أولاد العلاَّت بطن واحد، وعيسى عليه السلام لما كان قريب الزمان منه - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن بينهما نبي، كانا كانهما في زمان واحد، فكانا بخلاف غيرهما.
قال الشيخ: هذا أشبه ما قيل في هذا الحديث، ويستفاد منه: إبطال قول من قال: إنه كان بعد عيسى أنبياء ورسل، فقد قال بعض الناس: إن الحواريين كانوا أنبياء، وأنهم أرسلوا إلى الناس بعد عيسى، وهو قول أكثر النصارى، كما ذكرناه في كتاب "الإعلام".
وقوله (3) : «ودينهم واحد»؛ أي: في (4) توحيدهم، وأصول أديانهم، وطاعتهم =(6/176)=@ لله تعالى، واتباعهم لشرائعه، والقيام بالحق، كما قال تعالى: } شَرَعَ لكم من الدين ما وصى به نوحًا (5) ... { الآية (6) ، ولم يُرِد فروع الشرائع؛ فإنَّهم مختلفون فيها كما قال تعالى: } لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا { (7) .
وقوله: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان»؛ يعني به: أول وقت الولادة حين يستهل أوَّل استهلال، بدليل قوله في الرواية الأخرى: «يوم يولد (8) » (9) ؛ أي: حين يولد(2). والعرب قد تطلق اليوم وتريد به الوقت والحين. كما قال تعالى: } كأنَّهم (10) يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا { (11) ؛ أي: حين يرون (12) ، %(3/1008)%
__________
(1) الآية (14) من سورة الحشر .
(2) قوله: «عياض» سقط من (ح) و(ك).
(3) في (ح): «قلت».
(4) قوله: «في» سقط من (ح) و(ق).
(5) في (ك): «نوحُا والذي».
(6) الآية (13) من سورة الشزرى
(7) الآية (48) من سورة المائدة .
(8) في (ك) و(ح): «ولد».
(9) لم أجده بهذا اللفظ، ولكن ورد: حين يولد، وهو في "مسلم" (4/1838 رقم 2366/146) في الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام .
(10) قوله: «كأنهم» سقط من (ك) لخرم فيها .
(11) الآية (35) من سورة الأحقاف .
(12) في (ح): «يروه».(3/1008)
كما (1) تقدَّم في الحديث (2) قبل (3) هذا: «ليأتين على أحدكم يوم لا (4) يراني» (5) ؛ أي: زمن (6) ووقت، وهو كثير. وكان النَّخس من الشيطان إشعار منه بالتمكن والتسليط، وحفظ الله تعالى لمريم وابنها من نخسته تلك التي هي ابتداء التسليط ببركة إجابة دعوة أمها حين قالت: } وإني أعيذها بكَ وذريتها من الشيطان الرجيم { (7) ، فاستجاب الله لها لما حضرها في ذلك الوقت من صدق الالتجاء إلى الله تعالى (8) ، وصحة التوكل، وأمها هي امرأة عمران، واسمها حنَّه بنت فاقود، وكانت لما حملت نذرت، وأوجبت على نفسها: أن تجعل ما تلده (9) منزهًا منقطعًا للعبادة، لايشتغل بشيء مما في الوجود، على شريعتهم في الرهبانية، وملازمتهم (10) الكنائس، وانقطاعهم فيها إلى الله تعالى بالكلية. ولذلك لما ولدتها أنثى قالت (11) : } وليس الذكر كالأنثى { (12) ؛ أي: فيما (13) نذرته له من الرهبانية . =(6/177)=@ &(6/142)&$
وقوله: «كل مولود» (14) ، و «ما من مولود»؛ ظاهر قوي في العموم والإحاطة، ولما استثنى منه مريم وابنها التحق بالنصوص لا سيما مع النظر الذي ابديناه (15) ، فأفاد (16) هذا: أن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء، والأولياء، إلا مريم وابنها، وإن لم يكن كذا بطلت الخصوصية?بهما، ولا يفهم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال المنخوس (17) وإغواؤه؛ فإنَّ ذلك فاسد (18) ، فكم (19) قد تعرض الشيطان للأنبياء، والأولياء بأنواع الإفساد، %(3/1009)%
__________
(1) في (ك): «وكما».
(2) قوله: «الحديث» سقط من (ك) لخرم فيها .
(3) قوله: «قبل» لم يتضح في (ق).
(4) في (ك): «لأن».
(5) تقدم في النبوات، باب كيف كان يأتيه الوحي .
(6) في (ك): «زمان».
(7) الآية (36) من سورة آل عمران .
(8) قوله: «إلى الله تعالى» سقط من (ح) و(ك).
(9) في (ح): «ما تلد».
(10) في (ق): «أيدناه».
(11) في (ك): « قالت: ربي إني وضعتها أنثى».
(12) الآية (36) من سورة آل عمران .
(13) في (ك): «مما».
(14) عند أحمد في "مسنده" (2/288 و292 و319).
(15) في (ق): «أيدناه».
(16) في (ك): «فأما».
(17) في (ك): «الممسوس» وفي (ح): «المنخوس» وكتب في الهامش «الممسوس»..
(18) في (ح) و(ق): «أيدناه».
(19) في (ح) و(ق) و(م): «وكم».(3/1009)
والإغواء، ومع ذلك يعصمهم (1) الله مما يرومه الشيطان، كما قال: } إن عبادى ليس لك عليهم سلطان { (2) ، هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وُكِّل به قرينُه من الشياطين (3) ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى هذا فمريم وابنها - وإن عصما من نخسه - فلم يعصما من ملازمته لهما ومقارنته. وقد خصَّ الله تعالى نبينا - صلى الله عليه وسلم - بخاصيَّة كَمُلَ عليه بها إنعامه بأن (4) أعانه على شيطانه (5) حتى صحَّ إسلامه، فلا يكون عنده شرٌّ، ولا يأمره إلا بخير، وهذه خاصَّة لم يؤتها أحدٌ غيره، لا عيسى، ولا أمه. وفي غير كتاب مسلم: «فذهب الشيطان ليطعن في خاصرته فطعن في الحجاب» (6) ؛ أي: في الحجاب الذي حجب به عيسى - صلى الله عليه وسلم - ، فأمَّا حجاب مهده، وإما (7) حجاب بيته.
وقوله: «صياح المولود نزغة من الشيطان»، الرواية المعروفة: نزغة =(6/178)=@ - بالنون والزاي ساكنة والغين المعجمة - من النزغ: وهو الوسوسة (8) ، والإغراء بالفساد، ووقع لبعض الرواة: فزعة - بالفاء والعين المهملة -: من الفزع.
وقوله: «رأى عيسى ابن مريم (9) رجلاً يسرق فقال: سرقت. قال: كلا (10) والذي &(6/143)&$ لا إله إلاهو»؛ ظاهر قول عيسى لهذا الرجل: سرقت أنه خبر عما فعل الرجل من السرقة، وكأنه حقق السرقة عليه (11) ؛ لأنَّه راه قد أخذ مالاً لغيره من حرز في خفية، ويحتمل أن يكون مستفهمًا له عن تحقيق ذلك، فحذف همزة الاستفهام، وحذفها قليل .
وقول الرجل: «كلا»؛ أي: لا. نفى ذلك، ثم أيده (12) باليمين.
وقول عيسى: «آمنت بالله، وكذبت نفسي»؛ أي: صدَّقت من حلف بالله، =(6/179)=@ وكذبت ما ظهر (13) من ظاهر السَّرقة، فإنَّه يحتمل: أن يكون الرجل أخذ ماله فيه حق، أو يكون صاحبه قد أذن له في ذلك، ويحتمل أن يكون أخذه ليقلبه، وينظر إليه.
ويستفاد من هذا الحديث (14) درء الحد بالشبهة (15) . %(3/1010)%
__________
(1) في (ك): «فعصمهم».
(2) الآية (65) من سورة الإسراء .
(3) سيأتي في التفسير، باب ومن سورة ق .
(4) في (ق): «أن».
(5) قوله: «على شيطانه» سقط من (ك) لخرم فيها .
(6) البخاري (6/337 رقم3286) في بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده .
(7) في (ح) و(ك): «أو».
(8) في (ك): «السوسة».
(9) قوله: «ابن مريم» سقط من (ح) و(ق).
(10) قوله: «كلا» ضرب عليها في (ق).
(11) قوله: «عليه» سقط من (ح).
(12) قوله: «عليه» سقط من (ح).
(13) في (ح): «ما ظهر لي».
(14) قوله: «الحديث» سقط من (ح) و(ك).
(15) في (ح) و(ك): «الشبهات».(3/1010)
- - - - -
ومن باب ذكر إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -
قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له: يا خير البرية: "ذاك إبراهيم ") البريّة: الخلق، وتهمز، ولا تهمز (1) ، وقد قرىء بهما، واختلف في اشتقاقها، فقيل: هي مأخوذة (2) من البراء، وهو (3) : التراب. فعلى هذا لا تهمز. وقيل: هي مأخوذة(2) من برأ (4) الله تعالى الخلق - بالهمز -؛ أي: خلقهم، وعلى هذا فيهمز، وقد يكون من هذا، وتسهَّل &(6/144)&$ همزتها، كما سهَّلوا همزة خابية، وهي من: خبأت مهموزًا. والبرية في الوجهين: فعيلة بمعنى مفعولة، وقد عارض هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أنا سيِّد ولد آدم» (5) . وما علم من غير ما موضع من الكتاب والسُّنَّة، وأقوال السلف والأمَّة: أنه أفضل ولد آدم، وقد انفصل عن هذا بوجهين:
أحدهما (6) : أن ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - على جهة التواضع، وترك التطاول على الأنبياء، كما قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أكرم ولد آدم على =(6/180)=@ ربي يوم القيامة ولا فخر» (7) . وخصوصًا على إبراهيم؛ الذي هو أعظم آبائه و أشرفهم.
وثانيهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلم بمنزلته عند الله تعالى، ثم إنه أعلم (8) بأنه أكرم وأفضل، فأخبر به كما أمر، ألا ترى أنه كان في أول أمره يسأل أن يبلغ درجة (9) إبراهيم من الصلاة عليه والرحمة، والبركة، والخلة، ثم بعد ذلك أخبرنا (10) بأن (11) الله تعالى قد أوصله إلى ذلك لما قال: «إن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً (12) » (13) ، ثم بعد ذلك زاده الله (14) من فضله، فشرَّفه، وكرَّمه، وفضله على جميع خلقه، وقد أورد (15) على كل واحد من هذين الوجهين استبعاد. قالوا (16) : رُدَّ على (17) الأول؛ أن قيل: كيف يصح من الصادق (18) المعصوم أن يخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه لأجل التواضع والأدب، والوارد على الثاني: أن ذلك خبر عن أمر وجودي، والأخبار الوجودية لا %(3/1011)%
__________
(1) في (ح): «ولا يهمز».
(2) في (ك): «هو مأخوذ».
(3) في (م): «وهي».
(4) رسمت في (ك): «بري».
(5) تقدم في كتاب النبوات وفضائل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، باب كونه مختارًا من خيار الناس في الدنيا وسيدهم يوم القيامة .
(6) قوله: «أحدهما» مكرر في (ح).
(7) طرف من حديث تقدم تخريجه في الموضع السابق وهو حديث حسن لغيره، دون قوله: «وأنا أكرم ولد آدم على ربي»، فلم أجد له ما يقويه .
(8) في (ك): «ثم لما أعلم».
(9) في (ق): «في درجة» وكأنه ضرب على قوله «في».
(10) في (ك): «أخبر».
(11) في (ق) و(م): «أن».
(12) قوله: «كما اتخذ إبراهيم خليلاً» سقط من (ح).
(13) تقدم في الصلاة، باب تحويل القبلة من الشام إلى الكعبة .
(14) اسم الجلالة ليس في (ك).
(15) في (ق): «ورد».
(16) في (ق) و(م): «قال».
(17) قوله: «على» سقط من (ك).
(18) في (ح): «العارف».(3/1011)
يدخلها النسخ. والجواب عنهما (1) : أن يقال (2) : إن ذلك ليس إخبارًا عن الشيء بخلاف ما هو عليه، فإنه تواضع يمنع إطلاق ذلك اللفظ عليه، وتأدب مع أبيه بإضافة ذلك اللفظ إليه، ولم يتعرض للمعنى، فكأنه (3) قال: لا تطلقوا هذا اللفظ علي، وأطلقوه على أبي (4) إبراهيم أدبًا معه، واحترامًا له. ولو صرَّح بهذا لكان صحيحًا غير مستبعد، لا عقلاً، ولا نقلاً، وهذا كما قال: «لا تفضلوني (5) على موسى» (6) ؛ أي: لا تقولوا (7) : محمد أفضل من موسى &(6/145)&$ مخافة أن يُخيَّل نقص في المفضول ،كما (8) قدَّمناه ويأتي. فقد (9) أظهر هذا البحث (10) : أن ذلك راجع إلى =(6/181)=@ منع إطلاق لفظ وإباحته، فذلك خبر عن الحكم الشرعي، لا عن المعنى الوجودي، وإذا ثبت ذلك جاز رفعه، ووضعه، وصحَّ الحكم به، ونسخه من غير تعرُّض للمعنى، والله تعالى أعلم.
سلَّمنا (11) أنه خبر عن أمر وجودي، لكن (12) لا نسلم أن كل أمر وجودي لا يتبدل، بل: منها ما يتبدل، ولا يلزم من تبدله (13) تناقض، ولا محال، ولا نسخ؛ كالإخبار عن الأمور الوضعية. وبيان ذلك: أن معنى كون (14) الإنسان مكرَّما مفضلاً (15) ؛ إنما ذلك بحسب ما يُكرَّم به، ويُفضل على غيره، ففي وقت يُكرَّم بما يُساوي (16) فيه (17) غيره، وفي وقت يزاد على ذلك الغير، وفي وقت يُكرَّم بشيء لم يُكرَّم به أحد، فيقال: غلبه في المنزلة الأولى مُكرَّم مُقرَّب، وفي الثانية مُفضل بقيد (18) . وفي الثالثة، مُفضل مطلقًا، ولا يلزم من ذلك تناقض، ولا نسخ (19) ، ولا مُحال، وهذا واضح وحسن جدًّا فاغتبط به (20) ، وشدَّ عليه يدًا.
وقوله: «اختتن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بالقدوم، وهو ابن ثمانين سنة»؛ اختلف الرواة في تخفيف دال القدوم وتشديدها، واختلفوا أيضًا في معناها. فالذي عليه أكثر الرواة التخفيف، ويعني به: آلة النَّجَّار، وهو قول أكثر أهل اللغة في آلة النجارة. %(3/1012)%
__________
(1) قوله: «عنهما» سقط من (ك).
(2) في (ب) و(ح): «نقول»، وفي (ك): «تقول» وقوله: «أن يقال» مكرر في (ق).
(3) في (ك): «وكأنه».
(4) قوله: «أبي» سقط من (ق).
(5) قوله: «تفضلوني» لم يتضح في (ح).
(6) سيأتي في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا تخيروا بين الأنبياء».
(7) في (ح): «تقول».
(8) في (ح): «كما قد قدمناه».
(9) في (ق) و(م): «بهذا» بدل «فقد».
(10) في (ق) و(م): «اللفظ».
(11) في (ك): «سلمناه».
(12) في (ك): «لكنا».
(13) في (ك): «تبديله».
(14) في (ح): «أن كون».
(15) في (ك) و(ق): «ومفضلاً».
(16) في (ح): «يتساوي».
(17) في (ك): «به».
(18) في (ح): «معتد».
(19) قوله: «ولا نسخ» سقط من (ك).
(20) في (ق) و(م): «عليه».(3/1012)
ورواه بعضهم مشدَّدًا. وفسَّره (1) بعض اللغويين: بأنه موضع معروف بالشام، ومنهم من قال: بالسَّرَاة، وحكي عن أبي جعفر اللُّغوي: قدُّوم: المكان (2) مشدَّد (3) ، معرفة، لا يدخله الألف واللام، قال: ومن رواه في حديث إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مخففًا فإنما يعني بها (4) الآلة التي ينجر بها، وفي الصحاح: القدوم: =(6/182)=@ الذي ينحت به مخففًا. قال ابن السِّكيت: لا تقل: قُدُومٌ بالتشديد، والجمع: قدم. قال الأعشى (5) : &(6/146)&$
أقام به (6) شاهَبُورُ الجنُود (7) حَوْلَين يَضرِب (8) فيها (9) القُدُم
وجمع القُدُم: قدائم، مثل: قُلُص وقلائص (10) ، والقدوم أيضًا: اسم موضع مخفَّف.
قال الشيخ: ويحصل من أقوالهم: أن القدوم إذا أريد به (11) الآلة فهو مخفف، وإذا أريد به الموضع ففيه التشديد والتخفيف، ويحتمل أن يراد بالقدوم في الحديث: الآلة والموضع.
وقوله: «وهو ابن ثمانين سنة»، وفي غير كتاب مسلم: أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة، وعاش مائة وعشرين سنة (12) .
قال القاضي عياض رحمه الله: قد (13) جاء هذا الحديث من رواية مالك، والأوزاعي، وفيه: اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة. ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة. إلا أن مالكًا ومن تابعه وقفوه على أبي هريرة.
قال الشيخ رحمه الله: قد تقدَّم (14) : أن إبراهيم أوَّل من اختتن، وأن ذلك لم يزل (15) سُنَّة عامة معمولاً بها في ذريته وأهل الأديان المنتمين إلى دينه. وهو حكم التوراة على بني إسرائيل كلهم، ولم تزل أنبياء بني إسرائيل يختتنون حتى عيسى - صلى الله عليه وسلم - ، غير أن طوائف من النصارى تأوَّلوا ما جاء في التوراة من ذلك، بأن المقصود زوال غُلْفَة القلب (16) ، لا جلدة الذكر، فتركوا المشروع من الختان بضرب من الهذيان، وليس هذا بأوَّل جهالاتهم، فكم لهم منها وكم! ويكفيك من ذلك: أنّهم زادوا على أنبيائهم في الفهم، وغلَّطوهم فيما عملوا عليه، وقضوا به من الحكم. وقد أشبعنا (17) القول في هذا في كتاب (18) "الإعلام". =(6/183)=@ %(3/1013)%
__________
(1) قوله: «وفسره» لم يتضح في (ح).
(2) قوله: «المكان» لم يتضح في (ح).
(3) في (ح): «مشددة».
(4) في (ح): «به».
(5) .....
(6) في (ك): «بها».
(7) في (ح): «شاهبوو الجنود»، وفي (ك): «شاهبوا الجنود».
(8) في (ك): «تضر» وفي (ح): «تضرب»..
(9) في (ق): «فيه».
(10) في (ق): «فلوص وفلايص».
(11) في (ك): «بها».
(12) يرويه يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، واختلف عليه في رفعه ووقفه. فأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (2/647 رقم1250) عن سليمان بن حرب، عن حماد بن سلمة .
وأخرجه الحاكم (2/551) من طريق أبي معاوية، وحماد بن سلمة .
ثلاثتهم - حماد بن زيد، وأبي معاوية، وحماد بن سلمة -، عن عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: اختتن إبراهيم وهو ابن عشرين ومائة سنة، ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة .
وخالفهم الأوزاعي وابن جريج: فأخرجه ابن عساكر (15/247/2-كما في الضعيفة 2112) من طريق الوليد بن مسلم، وابن حبان (14/84 رقم6204/الإحسان) من طريق أبي قرة عن ابن جريج. كلاهما ابن جريج، والوليد بن مسلم -، عن يحيى بن سعيد، به مرفوعًا.
والوليد بن مسلم وابن جريج، مدلسان، ولم يصرحا بالسماع، على أن تدليس الوليد أقبح.
وقد توبع على روايتهما: فأخرجه ابن حبان (14/86 رقم6205/الإحسان) من طريق قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن ابن عجلان، عن أبيه، به مرفوعًا، لكن أخرجه أحمد (2/435) عن يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، به مرفوعًا، لكن قال: وهو ابن ثمانين سنة .
وأخرجه ابن أبي عاصم في "الأوائل" (19)، والطبراني في "الأوائل" (11). كلاهما من طريق سلمة بن رجاء، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، مرفوعًا، بلفظ: «على رأس عشرين ومائة سنة». هذا لفظ الطبراني .
وعند أبي عاصم: «على رأس ثلاثين ومائة سنة».
فإما يكون تصحيفًا، أو خطأ مطبعي، أو هكذا وقعت الرواية .
وقد خولف سلمة بن رجاء في روايته: فأخرجه ابن عساكر (2/167/ب) من طريق حماد بن أسامة، وأبو يعلى (10/383 رقم5981) من طريق محمد بن عمرو، بهذا الإسناد، لكن قالا: «على رأس ثمانين سنة».
وقد حكى الدارقطني في "العلل" (7/281-282 رقم1352) الاختلاف في هذا الحديث، ولم يجزم بشيء. انظر "الضعيفة" (5/129-134 رقم2112)، وقارن بـ"صحيح ابن حبان"(6204 و6205).
(13) في (ح) و(ك): «وقد».
(14) في (.... ).
(15) في (ق): «لم تزل».
(16) في (ق): «علقة القلب» وكتب في الهامش «غفلة القلب» ووضع (خ).
(17) في (ك) و(م): «أسبغنا».
(18) في (ق): «كلاب» كذا رسمت.(3/1013)
وقوله: «لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط (1) إلا ثلاث كذبات، اثنتن (2) في ذات الله؛ قوله: } إني سقيم { (3) ، وقوله: } بل فعله كبيرهم هذا { (4) ، وواحدة في شأن سارة»؛ قد (5) تقدَّم الكلام على هذه الكذبات في كتاب الإيمان (6) (7) ، وذكرنا (8) هناك: أنها أربع، زيد فيها قوله للكوكب: } هذا ربي { (9) ، ولم يذكرها في هذا &(6/147)&$ الحديث، مع أنه قد (10) جاء بلفظ الحصر، فينبغي ألا يقال عليها: كذبة في حق إبراهيم؛ إذ قد نفاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحصر؛ وإنَّما لم تعد عليه كذبة وهي أدخل في الكذب من هذه الثلاث؛ لأنَّه - والله أعلم - حين (11) قال ذلك في حال الطفولية، وليست حال تكليف، ويقوي هذا المعنى قول من حكى عنه ذلك، كما تقدَّم في الإيمان .
وقوله: «اثنتين في ذات الله»؛ أي: في الدفع عن وجود الله تعالى، وبيان حجته على أن المستحق للألهية هو الله تعالى لا غيره، فاعتذر عمَّا دعوه إليه من الخروج معهم بأنه سقيم، فورَّى بهذا اللفظ، وهو يريد خلاف ما فهموا عنه (12) - كما بيَّناه في الإيمان - حتى يخلو بالأصنام فيكسرها، ففعل ذلك، وترك كبير الأصنام لينسب إليه كسرها بذلك (13) ، قولاً يقطعهم به، فإنَّهم لما رجعوا من عيدهم فوجدوا الأصنام مكسَّرة: } قالوا من فعل هذا بألهتنا إنه لمن الظالمين { (14) ، فقال بعضهم: } سمعنا فتًى يذكرهم يقال له إبراهيم { (15) ، وكان هذا الذكر هو قول إبراهيم لهم: } وتالله (16) لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين { (17) ، فلما أحضروه: } قالوا ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم (18) { (19) ، %(3/1014)%
__________
(1) في (ق): «النبي قط - صلى الله عليه وسلم - إلا».
(2) في (ق): «اثنتان».
(3) الآية (89) من سورة الصافات .
(4) الآية (63) من سورة الأنبياء
(5) في (ك): «وقد».
(6) في (ب) و(ح) و(ك): «في كتاب الإيمان على هذه الكذبات» بالتقديم والتأخير .
(7) باب ما خص به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من الشفاعة العامة .
(8) في (ح): «وذكر هناك».
(9) الآية (77-78) من سورة الأنعام .
(10) قوله: «قد» سقط من (ح).
(11) في (ح) و(ك): «كان حين».
(12) في (ح): «منه».
(13) قوله: «بذلك» سقط من (ق).
(14) الآية (59) من سورة الأنبياء .
(15) الآية (60) من سورة الأنبياء .
(16) في (ح) و(ك): «تالله» بدون الواو .
(17) الآية (57) من سورة الأنبياء .
(18) قوله: «يا إبراهيم» ليس في (ح).
(19) الآية (62) من سورة الأنبياء .(3/1014)
فأجابهم بقوله: =(6/184)=@ } بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون { (1) ، } فرجعوا إلى أنفسهم { (2) ؛ أي: رجع بعضهم إلى بعض رجوع القطع (3) عن حجَّته المتفطِّن (4) لحجَّة (5) خصمه: } فقالوا إنكم أنتم الظالمون { (6) ؛ أي: بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، فكيف (7) ينفع عابديه، ويدفع عنهم البأس (8) من لا يردُّ عن رأسه الفأس: } ثم نُكسوا على رؤسهم { (9) ؛ أي: عادوا إلى جهلهم وعنادهم، فقالوا: } لقد علمت ما هؤلاء ينطقون { (10) ، فقال قاطعًا لما به يهذون، ومفحمًا لهم فيما يتقولون (11) : } أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم - أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون { (12) . &(6/148)&$
وقوله: «ذات الله»؛ يعني به: وجود الله المنزه عن صفات المخلوقات، والمقدَّس عن ذوات المحدثات (13) ، وفيه دليل على جواز إطلاق لفظ الذات على وجود الله تعالى المقدس (14) ، فلا يُلتفت لإنكار من أنكر إطلاقه على المتكلمين (15) .
وقوله: «وواحدة في شأن سارة»؛ هذه الواحدة هي من إبراهيم عليه السلام مدافعة عن حكم الله تعالى الذي هو: تحريم سارة على الجبَّار، والثنتان المتقدِّمتان مدافعة عن وجود الله تعالى، فافترقا، فلذلك فرَّق في الإخبار بين النوعين.
وقوله: «إن يعلم أنك امرأتي يغلبني (16) عليك»؛ قيل: إن ذلك الجبَّار كانت سيرته: أنه لا يغلبُ الأخ على أخته، ولا يظلمه فيها، وكان يغلب الزوج على زوجته، وعلى هذا يدلّ مساق (17) هذا الحديث، وإلا فما الذي فرَّق بينهما في حق جبَّار ظالم؟. =(6/185)=@ %(3/1015)%
__________
(1) الآية (63) من سورة الأنبياء .
(2) الآية (64) من سورة الأنبياء .
(3) في (ح) و(ق): «المنقطع».
(4) في (ق) و(م): «حجة المنقطعين».
(5) في (ق): «بحجة».
(6) الآية (64) من سورة الأنبياء .
(7) في (ح): «وكيف».
(8) في (ح): «الناس».
(9) الآية (65) من سورة الأنبياء .
(10) الآية (65) من سورة الأنبياء .
(11) في (ق): «يقولون».
(12) الآية (66-67) من سورة الأنبياء .
(13) قوله: «والمقدس عن ذوات المحدثات» سقط من (ق).
(14) قوله: «المقدس» سقط من (ق) و(م).
(15) تأويل ذات الله بوجوده جريٌ على طريقة الأشاعرة المتكلمين المغايرة لطريقة السلف الصالح الذين يثبتون لله سبحانه ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوجه اللائق به سبحانه من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل. فكما أن لله ذاتًا لا تشبه الذوات فله صفات لا تشبه الصفات } ليس كمثله شيء وهو السميع البصير { ، فنفي سبحانه المماثلة وأثبت الصفات. انظر (ص .....).
(16) في (ق): «يقتلني».
(17) في (ق): «ما في» بدل «مساق».(3/1015)
وقوله: «فإنَّ سألك فأخبريه: أنك (1) أختي، فإنك أختي (2) في الإسلام»؛ هذا صحيح ليس فيه من الكذب شيء، وهذا كقوله تعالى: } إنما المؤمنون إخوة { (3) ، لكن لما كان الأسبق للفهم من لفظ الأخوة إنما هي (4) أخوَّة النسب، كان من باب المعاريض؛ لأنَّ ظاهر اللفظ يوهم (5) شيئًا، ومراد المتكلم غيره. وقيل عليه كذب توسُّعًا، وأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها كذبًا؛ لأنَّ الله تعالى قد أعلمه: أن إبراهيم يطلق ذلك على نفسه يوم القيامة كما تقدم في كتاب الإيمان، وأيضًا: فليُنبَّه (6) بذلك على أن الأنبياء عليهم السلام منزهون عن الكذب الحقيقي؛ لأنَّهم إذا كانوا يَفْرَقُون من مثل هذه المعاريض التي يجادلون بها عن الله تعالى، وعن دينه، وهي من باب الواجب وتعد عليهم؛ كان أحرى وأولى أن لا يصدر عنهم شيء من الكذب الممنوع، وفي هذا ما يدلّ على جواز المعاريض والحيل في التخلص (7) من الظَّلمة. بل نقول: إنه إذا لم يُخلِّص من الظالم (8) إلا الكذب الصَّراح جاز أن يكذبَه، بل قد (9) يجب في (10) بعض الصور بالاتفاق بين الفِرَق؛ ككذبة تنجّي نبيًّا، أو وليًّا ممن (11) يُريد قتله، أو &(6/149)&$ أمنًا من المسلمين من عدوهم .
وفيه: ما يدل على أن العمل بالأسباب المعتادة التي يرجى بها دفع مضرَّة، أو جلب منفعة لا يقدح (12) في التوكل، خلافًا لما ذهب إليه جُهَّال المتوكِّلة، وقد تقدَّم كثير من نحو هذا .
وقول الجبَّار (13) لسارة حين قبضت يده عنها: «ادعي الله لي»؛ يدلّ على أن هذا الجبَّار كان عنده معرفة بالله تعالى، وبأن لله (14) من عباده من إذا دعاه أجابه، ومع =(6/186)=@ ذلك (15) فلم يكن مسلمًا؛ لأنَّ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - قد قال لسارة: «ما أعلم على الأرض مسلمًا غيري وغيرك».
وقول الجبَّار: «لك الله ألا (16) أضرك»؛ الرواية فيه بالنصب، لا يجوز غيره، وهو قسم، ومقسم به، ومقسم عليه، وفيه حذف يتبيَّن بالتقدير، وتقدير ذلك (17) : أقسم %(3/1016)%
__________
(1) في (ح): «أنكي» . كذا رسمت.
(2) قوله: «فإنك أختي» سقط من (ح).
(3) الآية (10) من سورة الحجرات .
(4) في (ق) و(م): «هو».
(5) في (ق): «توهم».
(6) في (ح): «فليتنبه».
(7) في (ح): «التخليص».
(8) في (ح): «الظلم».
(9) في (ك): «وقد».
(10) قوله: «في» بياض في (ح).
(11) في (ح): «من» بدل «ممن».
(12) في (ق): «لا تقدح».
(13) قوله: «الجبار» بياض في (ح).
(14) في (ق): «الله» كذا رسمت.
(15) قوله: «ذلك» سقط من (ك).
(16) في (ح): «لا» بدل «ألا».
(17) في (ك): «وتقدير لك».(3/1016)
بالله على ألا أضرك، فحذف الخافض، فتعدَّى الفعل فنصب، ثم حذف فعل القسم، وبقي المقسم به - وهو الله تعالى - منصوبًا، وكذلك المقسم عليه وهو: ألا أضرك، يعني (1) مفتوح همزة ألا، ويجوز في أضرك (2) رفع الراء على أن تكون أن (3) مخففة من الثقيلة، ويجوز فيها النصب على أن تكون أن الناصبة للفعل المضارع.
وقول الجبَّار للذي جاءه بسارة: «إنما أتيتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان»؛ كلام يناقض قوله لها (4) : «ادعي الله لي»، فيكون ذمُّه لها عنادًا، بعد أن ظهر له كرامتها على الله، أو إخفاه (5) لحالها لئلا يُتحدَّثَ (6) بما ظهر عليها (7) من الكرامة، فتعظم في نفوس الناس وتُتَّبع، فلبَّس على السامع بقوله: «إنما أتيتني بشيطان». &(6/150)&$
وقول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : «مَهْيَمْ»؛ قال الخليل: هي كلمة لأهل اليمن خاصة. معناها: ما هذا ؟ وفي الصحاح: هي كلمة يستفهم بها، معناها: ما حالك ؟ وما شأنك ؟ ونحوه قال الطبري.
وقوله: «قالت: خيرًا»؛ هو منصوب بفعل مضمر؛ أي: فعل الله خيرًا. ثم =(6/187)=@ فسَّرت الخير بقولها: «كبت (8) الله يد الفاجر، وأخدم خادمًا»؛ أي: عصمها الله منه بما أظهر من كرامتها، وأعطاها الله خادمًا، وهي: هاجر. ويقال: آجر - بالهمزة يبدلونها من الهاء -.
وفيه: جواز قبول هدية المشرك، وقد تقدم القول فيها. %(3/1017)%
__________
(1) في (ح): «بقي يعني».
(2) قوله: «أضرك» بياض في (ح).
(3) قوله: «أن» سقط من (ح).
(4) قوله: «لها» سقط من (ب) و(ق) و(م).
(5) في (ق): «إخفا لحالها».
(6) في (ح): يشبه «يحدث».
(7) في (ك): «عليه».
(8) في (ك): «كف».(3/1017)
وقول أبي هريرة رضي الله عنه: «فتلك أُمُّكم يا بني ماء السَّماء»؛ فتلك: إشارة إلى هاجر، والمخاطب: العرب. قال الخطابي: سُمُّوا بذلك لانتجاعهم المطر، وماء السماء للرعي. وقال (1) غيره: سُمُّوا بذلك لخلوص نسبهم، وصفائه. وشبَّهه (2) بماء السماء (3) . قال القاضي أبوالفضل: والأظهر عندي: أن (4) المراد به الأنصار. نسبهم إلى جَدِّهم عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وكان يعرف بماء السماء، وهو مشهور. والأنصار كلهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور، والله أعلم (5) . =(6/188)=@
- - - - -
ومن باب ذكر موسى - صلى الله عليه وسلم -
قوله: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض»؛ إنما كانت بنو إسرائيل تفعل ذلك (6) معاندة للشرع، ومخالفة لموسى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو من جملة عتوِّهم، وقلة مبالاتهم باتباع شرع موسى، ألا ترى أن &(6/151)&$ موسى - صلى الله عليه وسلم - كان يستتر عند الغسل، فلو كانوا أهل توفيق وعقل اتبعوه، ثم لم يكفهم مخالفتهم له حتى آذوه بما نسبوا إليه من آفة الأُدْرة، فأظهر الله تعالى براءته مما قالوا بطريق خارق للعادة، زيادة في أدلة صدق موسى عليه السلام، ومبالغة في قيام الحجة عليهم .
وفي هذا الحديث ما يدلُّ على أن الله تعالى كمَّل أنبياءه خلقًا وخُلُقًا، ونزههم في أزل (7) خلقهم من (8) المعايب، والنقائص المنفرة عن الاقتداء بهم المبعدة عنهم، ولذلك لم يسمع (9) أنه كان في الأنبياء والرسل من خلقه الله تعالى اعمى، ولا أعور (10) ، ولا أقطع، ولا أبرص، ولا أجذم، ولا غير ذلك من العيوب والآفات التي تكون نقصًا، ووصمًا يوجب (11) %(3/1018)%
__________
(1) في (ك): «قال».
(2) في (ح): «شبهه» بلا واو.
(3) في (ق): «المطر».
(4) في (ق): «في أن المراد».
(5) قوله: «والله أعلم» سقط من (ح) و(ك).
(6) في (ح): «هذا».
(7) في (ق): «أول».
(8) في (ح): «عن» بدل «من».
(9) في (ق): «لم يسمع».
(10) في (ق): «ولا أعرج» بدل «ولا أعور».
(11) في (ح): «وتوجب».(3/1018)
لمن اتَّصف بها شينًا وذمًّا، ومن تصفَّح أخبارهم، وعلم أحوالهم علم ذلك على القطع. وقد ذكر القاضي (1) رحمه الله في الشفاء (2) من هذا جملة وافرة، ولا يعترض عليها بعمى يعقوب (3) ، وبابتلاء أيوب (4) ؛ فإنَّ ذلك كان طارئًا عليهم محبَّةً لهم، وليقتدى بهم من ابتلي ببلاء في حالهم (5) =(6/189)=@ وصبرهم، وفي أن ذلك لم يقطعهم عن عبادة ربهم. ثم إن الله تعالى أظهر كرامتهم، ومعجزاتهم (6) بأن أعاد يعقوب بصيرًا عند وصول قميص يوسف له، وأزال (7) عن أيوب جذامه وبلاءه عند اغتساله من العين التي أنبع الله تعالى له عند رَكْضِه الأرض برجله، فكان (8) ذلك زيادة في معجزاتهم، وتمكينا في كمالهم، ومنزلتهم. والآدر - بمد الهمزة -: هو ذو الأُدْرة، بضم الهمزة، وسكون الدال، وهي عظم ا لخصيتين، وانتفاخهما (9) .
وقوله: «فجمح موسى بأثره»؛ أي: أسرع في مشيه (10) خلف (11) الحجر ليأخذ ثوبه. والجموح من الخيل: هو الذي يركب رأسه في إسراعه، ولا يَثْنيه شيء، &(6/152)&$ وهو عيب فيها؛ وإنَّما أطلق على إسراع موسى خلف الحجر جماحًا؛ لأنَّه اشتدَّ خلفه (12) اشتدادًا لا يثنيه شيء عن (13) أخذ ثوبه، وهو مع ذلك ينادي: «ثوبي حجر! ثوبي حجر!»؛ كل ذلك استعظام لكشف عورته، فسبقه الحجر إلى أن وصل إلى جمع بني إسرائيل، فنظروا إلى موسى، فكذبهم (14) الله في قولهم، وقامت حجته عليهم.
وقول موسى - صلى الله عليه وسلم - : «ثوبي حجر! ثوبي حجر !» منصوب بفعل مضمر، وحجر مناد (15) مفرد محذوف حرف النداء، وتقدير (16) الكلام: أعطني ثوبي يا حجر! أو (17) : اترك ثوبي يا حجر! فحذف الفعل لدلالة الحال عليه (18) . وحذف حرف النداء هنا استعجالاً للمنادى، وقد جاء في كلام العرب حذف حرف النداء مع النكرة، كما قالوا: اطرق كرا (19) ، وافتدِ (20) مخنوق، وهو قليل. وإنما نادى موسى - صلى الله عليه وسلم - الحجر نداء من يعقل؛ لأنَّه صدر عن الحجر فعل من يعقل .
وفي وضع موسى - صلى الله عليه وسلم - ثوبه على الحجر، ودخوله في الماء عريانًا: دليلٌ على جواز ذلك، =(6/190)=@ وهو مذهب الجمهور. ومنعه %(3/1019)%
__________
(1) في (ح): «القاضي عياض».
(2) في (ح): «في كتاب الشفاء».
(3) إشارة إلى قوله تعالى: } وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم { [يوسف: 84].
(4) أخرجه البزار (3/107-108 رقم2357/كشف)، والطبري في تفسيره (23/167)، وابن أبي حاتم (4/39-40) كما في تفسير ابن كثير، وابن حبان (7/157-159 رقم2898/266الإحسان)، والحاكم (2/581-582)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/374-375)،والضياء في "المختارة" (7/184-185 رقم2617). جميعم من طريق نافع بن يزيد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أيوب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لبث في بلائه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه: وذاك؟ قال: منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راح إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول أن الله يعلم أني كنت أمرُّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهية أن يذكر الله إلا في حق ...، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه: } اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب { ...، وكان له أندران أندر القمح وأندر الشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاضت، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاضت».
قال البزار: لا نعلم رواه عن الزهري، عن أنس إلا عُقيل، ولا عنه إلا نافع، ورواه عن نافع غير واحد .
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي .
وقال أبو نعيم: غريب من حديث الزهري، لم يروه عنه إلا عقيل، ورواته متفق على عدالتهم، تفرد به نافع .
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/223): وهذا غريب رفعه جدًّا، والأشبه أن يكون موقوفًا». وصححه الألباني في "الصحيحة" (1/53-54 رقم17).
(5) من قوله: «ومن باب ذكر موسى ...» إلى هنا سقط من (ك).
(6) في (ح) و(ق): «ومعجزتهم».
(7) في (ح): «فأزال».
(8) في (ح): «وكان».
(9) في (ق): «وانتماءهما» وكتب في الهامش «وانتفاخهما».
(10) في (ح): «مشيته».
(11) من قوله: «وصبرهم، وفي أن ذلك ....» إلى هنا سقط من (ك).
(12) قوله: «خلفه» سقط من (ح).
(13) في (ق): «على».
(14) في (ق): «وكذبهم».
(15) في (ح): «منادى».
(16) في (ح) و(ك): «تقدير» بلا واو.
(17) في (ك): «و».
(18) قوله: «عليه» بياض في (ح).
(19) في (ق): «كذا».
(20) في (ح): «افتدى».(3/1019)
ابن أبي ليلى، واحتج بحديث لم يصح، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تدخلوا (1) الماء إلا بمئزر، فإنَّ للماء عامرًا» (2) .
قال القاضي: وهو ضعيف عند أهل العلم. وجاء في "الأم" قال: «فاغتسل (3) عند (4) مُوَيْه» (5) ، وهو تصغير ماء، هكذا (6) في رواية (7) العذري، ورواها أكثر الرواة: المشربة - بفتح الميم والراء - وأصله: موضع الشرب، وأراد به الماء. والمشربة -بفتحها أيضًا -: الأرض اللَّينة، فأمَّا المشربة التي (8) هي الغرفة فتقال: بفتح الراء وضمها، كما تقدم. وطفق من أفعال المقاربة، كجعل وأخذ، ويقال: بفتح الفاء وكسرها، والندب: الأثر وهو بفتح الدال . =(6/191)=@
وقوله: «مررت على موسى ليلة أسري بي عند (9) الكثيب الأحمر، وهو يصلِّي في قبره»؛ الكثيب: هو الكوم من الرمل ويجمع (10) كُثُبًا، وهذا الكثيب هو بطريق بيت المقدس، كما سيأتي. وهذا الحديث يدلّ بظاهره على: أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى &(6/153)&$ موسى (11) رؤية حقيقية في اليقظة، وأن موسى كان في قبره حيًّا (12) ، يصلي فيه الصلاة التي كان له يصليها (13) في الحياة، وهذا كله ممكن لا إحالة في شيء منه، وقد صحَّ أن الشهداء أحياء يرزقون، ووجد منهم من لم يتغير في قبره من (14) السنين كما ذكرناه (15) . وإذا كان هذا في %(3/1020)%
__________
(1) قوله: «تدخلوا» لم يتضح في (ح).
(2) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (7/194)، وذكره ابن حجر في "اللسان" (6/258)، وفيه يحيى بن سعيد الشيرازي المدني التميمي الجزري متروك الحديث .
(3) قوله: «فاغتسل» لم يتضح في (ح).
(4) في (ق): «في» بدل «عند».
(5) مسلم (4/1842 رقم2371/156) في الفضائل، باب من فضائل موسى - صلى الله عليه وسلم - .
(6) في (ق): «كذا».
(7) في (ح): «رواه»، وقوله: «في» سقط من (ك).
(8) من قوله: «وأصله ....» إلى هنا سقط من (ح).
(9) في (ح) يشبه «وعند».
(10) في (ح): «وتجمع».
(11) قوله: «رأى موسى» لم يتضح في (ح).
(12) في (ك): «حيًّا في قبره».
(13) قوله: «له يصليها» بياض في (ح) وقوله: «له» سقط من (ق).
(14) في (ب): «متى»، وفي (ح): «بعد مى»، وفي (ك): «بعد مى».، وفي (م): «مى».
(15) في (ك): «قد ذكرناه».(3/1020)
الشهداء كان في الأنبياء أحرى وأولى (1) ، فإنَّ قيل: كيف يصلون بعد الموت وليس تلك الحال حال تكليف؛ فالجواب: أن ذلك ليس بحكم التكليف وإنَّما ذلك بحكم الإكرام لهم (2) والتشريف، وذلك أنهم كانوا في الدنيا حبِّبت لهم عبادة الله تعالى. والصلاة بحيث كانوا يلازمون ذلك، ثم توفوا وهم على ذلك، فشرَّفهم الله تعالى بعد موتهم بأن أبقي عليهم ما كانوا يحبون (3) ، وما عُرفوا به، فتكون عبادتهم إلهاميِّة كعبادة الملائكة، لا تكليفية، وقد وقع مثل هذا لثابت البناني (4) رضي الله عنه؛ فإنَّه حُبِّبت الصلاة إليه (5) حتى كان يقول: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا يصلِّي لك في قبره، فأعطني ذلك. فرآه مُلْحِدُه، بعدما سوَّى عليه لحده قائمًا يصلِّي في قبره، وقد (6) دلَّ على صحة ذلك كله (7) قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - : «يموت المرء على ما عاش (8) =(6/192)=@ عليه، ويحشر على ما مات عليه» (9) . وقد جاء في الصحيح (10) : «أن أهل الجنَّة يلهمون (11) التسبيح كما تلهمون (12) النَّفس)). &(6/154)&$
- - - - -
ومن باب قصَّة موسى مع الخضر صلى الله عليهما وسلم
قوله: «إن نَوْفًا البكالي (13) »؛ لم يختلف (14) في أن نوفًا هو بفتح النون، وإسكان (15) الواو (16) وفتح الفاء منوَّنة، وأما البكالي: فروايتي فيه بكسر الباء، وفتح الكاف (17) وتخفيفها على كل من قرأتُه عليه في البخاري ومسلم، وهي المعروفة (18) ، وقد ضبطها الخشني، وأبو بحر بفتح الباء والكاف، وتشديد الكاف، والأول الصواب. وبكال: بطن من حِمْيَر، وقيل من (19) هَمْدان، وإليهم ينسب نوف هذا، وهو (20) نوف (21) بن فضالة على ما قاله ابن دريد، وغيره. يكنى (22) بأبي زيد، وكان عالِمًا فاضلاً، وإمامًا لأهل دمشق، وقيل: هو ابن امرأة كعب الأحبار، وقيل: ابن أخته (23) .
وقول ابن عباس رضي الله عنهما: «كَذَبَ عدو الله»؛ قول أصدره غضب على من يتكلم بما لم يصح، فهو إغلاظ، وردع، وقد صار غير نوفٍ إلى ما قاله نوف، لكن الصحيح ما قاله ابن عباس على ما حكاه في الحديث. =(6/193)=@ %(3/1021)%
__________
(1) قوله: «أحرى وأولى» بياض في (ح).
(2) قوله: «لهم» سقط من (ك).
(3) في (ك): «يحبون من ذلك».
(4) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/319)، وفي سنده من لا يعرف.
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (7/233) عن عفان بن مسلم قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، قال: إن كنت أعطيت أحدًا الصلاة في قبره، فأعطني الصلاة في قبري .
قال الذهبي: فيقال: إن هذه استجيبت له، وإنه رُئي بعد موته يصلي في قبره، فيما قيل. انظر "السير" (5/222).
(5) في (ك): «حببت إليه الصلاة».
(6) قوله: «في قبره وقد» في مكانه بياض في (ك).
(7) قوله: «كله» سقط من (ح)
(8) قوله: «على ما عاش» في مكانه بياض في (ك).
(9) لم أقف على هذا اللفظ، وهو عند المصنف في ذكر الموت وما بعده، باب الأمر بحسن الظن بالله عند الموت برقم (2719).
(10) سيأتي في ذكر الموت وما بعده، باب في الجنة أكل وشرب ونكاح حقيقة .
(11) قوله: «الجنة تلهمون» في مكانه بياض في (ك).
(12) في (ح) و(ك): «يلهمون».
(13) في (ح): «البيكالي».
(14) ي (ق): «لم يختلفا» وكأنه أصلحها إلى «لم يختلف».
(15) في (ح): «وسكون».
(16) قوله: «وإسكان الواو» في مكانه بياض في (ك).
(17) قوله: «وفتح الكاف» في مكانه بياض في (ك).
(18) قوله: «وهي المعروفة» في مكانه بياض في (ك).
(19) قوله: «من» سقط من (ك).
(20) في (ح): يشبه «وهنا».
(21) قوله: «نوف» سقط من (ح).
(22) في (ك): «ويكنى».
(23) في (ك): «أخيه».(3/1021)
وقوله: «قام موسى خطيبًا، فسُئِل أي الناس أعلم ؟ فقال: أنا، فعَتَب الله &(6/155)&$ عليه إذ لم يردَّ العلم إليه»؛ مساق هذه الرواية هو أكمل ما سيق هذا (1) الحديث عليه فلنبحث فيه، وظاهر (2) هذا اللفظ: أن الذي عتب الله تعالى على موسى إنما هو أن قال: أنا أعلم. فأضاف الأعلمية إليه، ولم يقل: الله أعلم بمن هو أعلم الناس، فيفوَّض ذلك إلى الله، فيكون هذا من نوع ما عتبه (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - على لوط - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: } قال (4) لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد { (5) ، وسيأتي (6) تكميل هذا المعنى في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. فكان الأولى بموسى - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: الله أعلم بمن هو أعلم الناس، لكن لما لم يعلم في زمانه رسولاً أتاه الله كتابًا فيه علم كل شيء وتفصيل الأحكام سواه، قال ذلك حسب ما كان في علمه. لكنه تعالى لم يرض منه بذلك لكمال معرفته بالله تعالى، ولعلوِّ منصبه. وفي بعض طرق البخاري (7) : أن السائل قال لموسى: هل في الأرض أعلم منك ؟ قال: لا، فعتب (8) الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه.
قال الشيخ رحمه الله: وهذان اللفظان هما اللذان يتوجَّه العتب على موسى فيهما، وقد روي بألفاظ أخر، يبعد توجُّه (9) العتب عليها (10) ، فقد روي أنه قال (11) : لا أعلم في الأرض خيرًا ولا أعلم (12) مني (13) . وفي (14) أخرى قيل له: هل تعلم أحدأ أعلم منك ؟ فقال: لا (15) . فهذان اللفظان قد نفى فيهما العلم فيما (16) سئل عنه (17) عن نفسه، وهو حق صحيح وتبرؤ صريح (18) ، فكيف يتوجه على من قال مثل ذلك (19) عتب (20) ، أو ينسب إلى (21) تقصير؛ فالصحيح من حيث المعنى أن (22) الذي صدر من موسى عليه السلام معنى اللفظين السابقين؛ فإنَّه جزم فيهما بأنه أعلم أهل الأرض، وهذا محل العتب على مثله، =(6/194)=@ فإنَّه كان الأولى به أن يفوِّض علم ذلك إلى الله تعالى، وهذا يدل على صحة ما قلناه فيما تقدَّم من أن %(3/1022)%
__________
(1) في (ح): «في هذا».
(2) في (ك): «فظاهرا».
(3) في (ك): «عتب».
(4) قوله: «قال» سقط من (ح) و(ق).
(5) الآية (80) من سورة هود .
(6) في كتاب التفسير، باب ومن سورة البقرة .
(7) (8/411 رقم4726) في التفسير، باب } فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما { .
(8) في (ق): «قال لا قال فعتب».
(9) في (ح): «توجيه».
(10) في (ك): «عليهما».
(11) قوله: «قال» بياض في (ح).
(12) قوله: «ولا أعلم» سقط من (ح).
(13) مسلم (4/1850-1852 رقم2380/172) في الفضائل، باب من فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(14) في (ك): «وفي رواية».
(15) مسلم (4/1852-1853 رقم2380/174) في الموضع السابق .
(16) في (ح): «بما».
(17) قوله: «عنه» سقط من (ح).
(18) قوله: «وتبرؤ صريح» سقط من (ح).
(19) في (ق): «هذا».
(20) في (ك): «عتبت».
(21) في (ك): «إليه».
(22) قوله: «أن» سقط من (ق) و(م).(3/1022)
الذنوب المنسوبة إلى الأنبياء المعدَّدة (1) عليهم إنما ير (2) من باب ترك الأولى، وعوتبوا عليها بحسب مقاديرهم، فإنَّ حسنات الأبرار سيئات ا لمقرَّبين (3) .
وقوله تعالى: «إن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك»، وفي &(6/156)&$ الرواية الأخرى (4) : «بل عبدنا الخضر»؛ اسم الخضر: بليا (5) بن مَلْكان على ما قاله بعض المفسرين، وسُمِّي (6) الخضر، لأنه كان أينما صلَّى اخضر ما حوله (7) ، وفي الترمذي (8) من حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما سُمِّي الخضر (9) لأنه جلس على فروة (10) بيضاء فاهتزت تحته (11) خضراء». وقال (12) : هذا حديث حسن صحيح.
و «مجمع البحرين»: ملتقاهما (13) . قال قتادة: هما بحرا فارس والروم (14) . السُّدِّي: هما الكد (15) . والدس (16) بأرمينية (17) (18) ، أبي: وهما (19) بإفريقية. القرطبي: بطنجة. وحُكي عن ابن عباس (20) رضي الله عنهما: إن بحريْ (21) في العلم: الخضر وموسى، وكأنَّ هذا لا يصح عنه، والله أعلم.
وقوله: «هو أعلم منك»؛ أي: بأحكام وقائع (22) مفصَّلة، وحكم نوازل معيَّنة، لا مطلقًا، بدليل قول الخضر لموسى: إنَّك على علم علَّمكه الله لا أعلمه أنا (23) ، وأنا على علم علَّمنيه الله لا تعلمه أنت. وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما: أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما، ولا يعلمه الآخر .
فلما سمع موسى هذا (24) تشوَّفت (25) نفسه الفاضلة، وهمَّته العالية لتحصيل علم ما لم (26) يعلم، وللقاء =(6/195)=@ من قيل فيه: إنه منك (27) أعلم، فعزم فسأل سؤال الدَّليل (28) : كيف (29) السبيل ؟ فأمر بالإرتحال على كل حال، وقيل له: احمل معك حوتًا مالِحًا في مِكتل (30) ، وهو الزنبيل. فحيث يحيا وتفقده فثمَّ السبيل، فانطلق مع فتاه لما واتاه، مجتهدًا طلبًا قائلاً: } لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبًا { (31) . والْحُقُب: بضم الحاء والقاف: الدهر، والجمع أحقاب، %(3/1023)%
__________
(1) في (ح): «المعدودة».
(2) في (ح) و(ق): «هي» بدل «ير».
(3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية "الفتاوى"(8/383)، "جامع الرسائل" (251-252)، "رسالة التوبة": «هذا ليس محفوظًا عمن قوله حجة، لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإنما هو كلام لبعض الناس، وله معنى صحيح، وقد يحمل على معنى فاسد».
(4) مسلم (4/1852-1853 رقم2380/174) في الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام .
(5) في (ح): «بالنا».
(6) في (ح): «ويسمى».
(7) سنده ضعيف، انظر "سنن سعيد بن منصور" رقم (1346) بتحقيقي .
(8) في "سننه" (5/293 رقم3151) في التفسير، باب ومن سورة الكهف، وفات المؤلف أنه عند البخاري مع موسى عليهما السلام، من حديث أبي هريرة .
(9) من قوله: «لأنه كان ....» إلى هنا سقط من (ح).
(10) في (ق): «قرورة» وكتب في الهامش «فروة» ووضع (خ).
(11) قوله: «تحته» سقط من (ح) و(ك) و(ق).
(12) في (ح) و(ك) و(ق): «قال» بلا واو.
(13) في (ق) و(م): «ملقاهما».
(14) أخرجه عبدالرزاق في "تفسيره" (2/405) عن معمر. والطبري في "تفسيره" (15/ 271) عن بشر، عن زيد، عن سعيد. كلاهما - معمر، وسعيد بن أبي عروبة-، عن قتادة، في قوله: } مجمع البحرين { قال: بحر فارس والروم .
(15) في (ق) و(م): «الكدى».
(16) في (ك): «والرس».
(17) في (ح): «بأرمانة»، وفي (ب) و(ك) و(ق): «بأرمانية».، و في (م): «بأرمانيية».
(18) علقه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (2376 رقم12887).
(19) في (ح): «هما» بلا واو.
(20) قال الحافظ في "الفتح" (8/410): «وهذا غير ثابت، ولا يقتضيه اللفظ».
(21) قوله: «في» سقط من (ح) و(ق).
(22) قوله: «وقائع» سقط من (ق) و(م).
(23) قوله: «أنا» سقط من (ك).
(24) أي: قول الله تعالى له.
(25) في (ك): «تشوقت».
(26) في (ح): «ما لا».
(27) قوله: «منك» سقط من (ق).
(28) في (ح) : «الذليل».
(29) في (ح): «بكيف».
(30) في (ك): «مكيل».
(31) الآية (60) من سورة الكهف .(3/1023)
وبضم الحاء وسكون القاف، ثمانون سنة، ويقال أكثر من ذلك، والجمع حقاب (1) ، والحقبة (2) بكسر الحاء، واحدة الحقب، وهي: السنون. من الصحاح. &(6/157)&$
وفيه من الفقه: رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم (3) ، والاستعانة على ذلك بالخادم، والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء، والعلماء، وإن بَعُدَت أقطارهم، وذلك كان دأب السَّلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح، وحصلوا على السعي الناجح، فرسخت في العلوم لهم (4) أقدام، وصحَّ لهم من الذكر والأجر (5) أفضل الأقسام. ثم إن موسى عليه السلام أزعجه القلق، فانطلق مغمورًا بما عنده من الشوق والحرق، يمشي مع فتاه على الشط، ولا يبالي بمن حطَّ، لا يجد نصبًا، ولا يخطيء سببًا. إلى أن أويا إلى الصخرة فناما (6) في ظِلِّها. قال بعض المفسرين: وكانت على مجمع البحرين، وعندها ماء الحياة، حكى معناه (7) الترمذي (8) عن سفيان بن عيينة فانتضح منه على الحوت فحيي واضطرب، فخرج من المكتل يضطرب (9) حتى سقط في البحر (10) ، فأمسك الله جرية الماء عن موضع دخوله حتى كان مثل الطاق، وهو النَّقْب الذي يدخل منه . =(6/196)=@
وقوله: «فكان للحوت سربًا»؛ أي: مسلكًا. عن مجاهد (11) قال قتادة (12) : جمد (13) الماء فصار كالسِّرب.
وقوله: «وكان لموسى وفتاه عجبًا»؛ لما (14) تذكرا، فرجعا، تعجبًا من قدرة الله تعالى على إحياء الحوت، ومن (15) إمساك جري الماء حتى صار بحيث يسلك فيه.
وقوله: «فانطلقا بقية يومهما وليلتهما»؛ يعني (16) : بعد أن قاما من نومهما، ونسيا حوتهما؛ أى: غفلا عنه، ولم يطلباه لاستعجالهما. وقيل: نسي يوشع الحوت، وموسى أن يامره فيه بشيء. وقيل: نسي يوشع فنسب النسيان إليهما للصحبة، كقوله تعالى: } يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان { (17) ؛ وعلى هذا القول يدل قوله في الحديث: «ونسي صاحب موسى أن يخبره»، ويظهرمنه: أن يوشع أبصر ما كان من الحوت ونسي %(3/1024)%
__________
(1) من قوله: «وبضم الحاء وسكون القاف...» إلى هنا سقط من (ق).
(2) في (ق): «والحقيبة».
(3) في (ح): «الازدياد من طلب».
(4) في (ك): «لهم في العلوم».
(5) قوله: «الأجر» لم يتضح في (ح).
(6) في (ق): «قياما».
(7) في (ق) و(م): «معناها».
(8) ....
(9) في (ق): «مضطرب».
(10) في (ب) و(ق) و(م): «الماء».
(11) أخرجه الطبري (15/273) عن القاسم، عن الحسين، عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: } فاتخذ سبيله في البحر سربًا { ، قال: الحوت اتخذ، ويعني بالسرب: المسلك والمذهب، يسرب فيه: يذهب فيه ويسلكه.
وسنده ضعيف، ابن جريج مدلس، ولم يصرح بالسماع .
القاسم: هو ابن بشر بن أحمد بن معروف، وثقه الخطيب في "تاريخه" (12/427).
والحسين: هو ابن بشر الطرسوسي: لا بأس به. كما في "التقريب" (1315).
وحجاج: هو ابن محمد المصيصي: ثقة ثبت، اختلط بآخره. "التقريب" (1144).
(12) أخرجه الطبري (15/274) عن بشر، عن يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قال: سرب من الْجَرّ حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك، فجعل لا يسلك فيه طريقًا إلا صارمًا جامدًا .
(13) في (ق): «خمد».
(14) في (ك) و(ق) و(ح): «يعني لما».
(15) قوله: «من» سط من (ق).
(16) قوله: «يعني» سقط من (ق).
(17) الآية (22) من سورة الرحمن .(3/1024)
أن يخبر موسى في ذلك الوقت.
وقوله: «فلما أصبح قال موسى: } لفتاه آتنا (1) غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا &(6/158)&$ نصبًا { (2) ؛ هذا يدلّ على أنهما كانا تزوَّدا (3) ، وقيل: كان زادهما الحوت، وكان مملَّحًا.
وقال الشيخ رحمه الله: والظاهر من الحديث: أنه إنما حمل الحوت معه؛ ليكون فقده دليلاً على موضع الخضر، كما تقدَّم من قوله تعالى لموسى: «احمل معك حوتًا في مكتل، فحيث تفقد الحوت فهو ثمَّ»؛ وعلى (4) هذا فيكون (5) تزوَّدا شيئًا آخر غير الحوت. والنصب: التعب والمشقة. وقيل: عنى به (6) هنا: الجوع.
وفيه دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الآلالم (7) والأمراض، وأن ذلك لا يقدح في الرّضا، ولا في التسليم للقضاء، لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا تسخُّط . =(6/197)=@
وقوله: «ولم ينصب حتى جاوز المكان الذي أُمر به»؛ أي (8) : لم يجد موسى ألم النَّصب إلا بعد أن جاوز موضع فقد الحوت، وكان (9) الله تعالى جعل وجدان النصب سبب (10) طلب الغداء، وجعل طلب الغداء (11) سبب تذكر ما كان من الحوت. ومن هنا قيل: إن النَّصب هنا هو الجوع (12) .
وقوله: «أرأيت إذ أوينا إلى الصَّخرة فإنى نسيت الحوت { (13) ؛ هذا قول يوشع جوابًا لموسى، وإخبارًا له عما جرى. ومعنى } أوينا { : انضممنا، وهي هنا بقصر الهمزة لأنه لازم، وقد تقدَّم ذكر الخلاف في المتعدي في قصره ومده. ونسبة الفتى النسيان إلى نفسه نسبة عادية لا حقيقية. %(3/1025)%
__________
(1) في (ح): «آتينا».
(2) الآية (62) من سورة الكهف .
(3) في (ك): «تزودوا».
(4) في (ك): «فعلى».
(5) في (ك) و(ق): «يكون».
(6) قوله: «به» سقط من (ح).
(7) في (ق) و(م): «الألم».
(8) في (ك): «إذ».
(9) في (ق): «وأن».
(10) في (ق) و(م): «بسبب».
(11) قوله: «وجعل طلب الغداء» سقط من (ب) و(ق) و(م).
(12) الطبري (15/274) وفي (ح): «هاهنا الجوع» بدل «هنا هو الجوع».
(13) الآية (63) من سورة الكهف .(3/1025)
وقوله: } وما أنسنيه (1) إلا الشيطان أن أذكره { (2) ؛ أن مع الفعل بتأويل المصدر، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في أنسانيه، وهو بدل الظاهر من المضمر، وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار، وذلك أن في البخاري (3) : أن موسى قال لفتاه: «لا أُكلِّفك إلا أن تُخبرني بحيث يفارقك الحوت، فاعتذر بذلك القول»؛ ونجي (4) بذلك: أن الشيطان سبب للنسيان، والغفلة، بما يورده على القلب من الخوض في غير المعنى المطلوب، ومن المعلوم أن النسيان لا صنع فيه للإنسان، وأنه مغلوب عليه، ولذلك لم يؤاخذ الله تعالى به؛ وإنَّما &(6/159)&$ محل المؤاخذة الإهمال والتفريط. والانصراف عن (5) الأمور المهمة إلى ما ليس بمهم حتى ينسى المهم، وهذا هو فعل الشيطان المذموم أن يُشغل (6) ذكر الإنسان بما ليس بمهم، ويزحمه (7) له حتى ينصرف عن المهم فيذم (8) على ذلك ويُعاقب، فيحصل مقصود الشيطان من الإنسان.
وقوله: } واتخذ سبيله فى البحر عجبًا (9) { (10) ؛ أي: اتخذ الحوت =(6/198)=@ طريقه في البحر سربًا (11) ، تعجب (12) منه يُوشع، ويتعجب به غيره ممن شاهده، أو سمع قضيته (13) .
و } نبغ (14) { : نطلب. و } ارتدا { : رجعا. و } قصصا { : تتبعًا لآثار طريقهما. و } الصخرة { : هي التي كان (15) أويا إليها. و «المسجَّى»: المغطى. و «مُستلقيًا على القفا»؛ أي: مباشرًا بظهره وقفاه الأرض مستقبلاً بوجهه السماء كهيئة الميت.
وقوله: «أو على حلاوة القفا»؛ شك من بعض الرواة. و «حلاوة القفا (16) »؛ يعني بها –والله تعالى أعلم -: أن هذه الضجعة مما تستحلى (17) ؛ لأنَّها ضجعة استراحة، فكأنه قال: أو حلاوة ضجعة القفا (18) ، ويقال بضم الحاء وفتحها، وحلاء (19) بالضم والمد، وبه وبالقصر، وكأن هذه الضجعة من الخضر كانت (20) بعد تعب عبادة. وآثر هذه الضجعة لما فيها من تردُّد البصر في المخلوقات، ورؤية عجائب السماوات، فكان (21) الخضر في (22) هذه الضجعة %(3/1026)%
__________
(1) في (ق): «أنسانيه».
(2) الآية (63) من سورة الكهف .
(3) (2726).
(4) في (ح) و(ق): «ويعني».
(5) في (ق): «على».
(6) في (ك): «شغل».
(7) في (ح) و(ق): «ويزينه».
(8) في (ك): «فيندم».
(9) قوله: «عجبًا» سقط من (ح).
(10) الآية (63) من سورة الكهف .
(11) في (ب): «سبيا»، وفي (ك): «بيسا»، وفي (م) و(ح): «سببا».
(12) في (ك): «فتعجب»، وفي (ب) و(ق) و(م): «فعجب».
(13) في (ك): «قصته».
(14) في (ق): «ينبغي»، وفي بقية النسخ و(ح): «نبغي»، والمثبت هو الصواب.
(15) في (ح) و(ق): «كانا».
(16) قوله: «القفا» سقط من (ك) وفي (ق): «القفها».
(17) في (ح): «تستخل».
(18) في (ق): «القفها».
(19) في (ك): «وحلاوة» وفي (ح) و(ق): «وحلاوا».
(20) في (ح): «كان».
(21) في (ح): «وكان».
(22) في (ح): «في حال».(3/1026)
متفرغ (1) عن الخليقة، مملوء بما لاح له من الحق والحقيقة، ولذلك لما سلَّم عليه موسى - صلى الله عليه وسلم - كشف الثوب عن وجهه، وقال: وعليك (2) السلام، من أنت (3) ؟
وقوله: «أنَّى بأرضك (4) السَّلام»؛ معناه: من أين تعرف السلام بهذه (5) الأرض التي أنت فيها ؟! وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن ذلك الموضع كان قفرًا لم يكن به أحدٌ يصحبه، ولا أنيس (6) فيكلمه، ويحتمل أن يكون أهل ذلك الموضع لا يعرفون السلام الذي سلم به موسى عليه (7) ، إما لأنهم ليسوا على دين موسى، وإما لأنه ليس من كلامهم (8) .
و«أنى» &(6/160)&$ تأتي بمعنى: حيث، وكيف، وأين، ومتى. حكاه القاضي. وفي هذا من الفقه: تسليم القائم على المضطجع، وهذا القول من الخضر كان (9) بعد أن ردَّ عليه (10) السلام، =(6/199)=@ لا قبله، كما قد (11) ذكرناه، ومساق هذه الرواية يدل (12) : على أن اجتماع موسى - صلى الله عليه وسلم - بالخضر كان في البر عند الصخرة، وهو ظاهر قوله: «حتى إذا (13) أتى الصخرة فرأى رجلاً مسجَّى»، وفي بعض طرق البخاري (14) : «حتى أتى الصخرة (15) ، فإذا رجل مسجَّى»، فعطفه بالفاء المعقبة، وإذا المفاجئة، غير أنه قد ذكر البخاري (16) ما يقتضي أنه رآه في كبد البحر، وذلك أنه قال فيها (17) : فوجد (18) خضرًا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجَّي بثوبه، وجعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه. و «كبد البحر»: وسطه. وهذا يدلّ على أنه اجتمع به في البحر، ويحتمل أن (19) موسى مشى على الماء، وتلاقيا عليه، وهذا لا يستبعد على موسى والخضر، فإنَّ الذي خرق لهما من العادة أكثر من هذا وأعظم. وعلى هذا فهذه الزيادة (20) تُضم إلى الرواية المتقدِّمة، ويجمع بينهما بأن يقال: إن وصول موسى للصخرة، واجتماعه مع الخضر كان في زمان متقارب، أو وقت واحد لطيِّ الأرض، وتسخير البحر، والقدرة صالحة، وهذه الحالة خارقة للعادة؛ ولما كان كذلك (21) عبَّر عنها بصيغ التعقيب والاتصال، والله تعالى أعلم.
وقوله: «نعم»؛ هو حرف جواب في الإيجاب، فكأنه قال: أنا موسى بني إسرائيل، فهو نصٌّ في الرد على نوفٍ، وعلى من قال بقوله: وهم أكثر اليهود. &(6/161)&$ %(3/1027)%
__________
(1) في (ح): «متفرغًا».
(2) في (ح): «عليك» بلا واو.
(3) مسلم (4/1850-1852 رقم2380/172) في الفضائل، باب من فضائل الخضر عليه السلام .
(4) قوله: «أنى بأرضك» لم يتضح في (ح).
(5) في (ق): «بهذا».
(6) في (ك): «إنسى».
(7) قوله: «موسى» سقط من (ب) و(م) وقوله: «عليه» سقط من (ق).
(8) قوله: «كلامهم» بياض في (ح).
(9) في (ك): «كان من الخضر».
(10) في (ق): «أن عليه السلام» كذا رسمت
(11) قوله: «قد» سقط من (ح).
(12) قوله: «يدل» سقط من (ك).
(13) ...
(14) (1/317-318 رقم122) في العلم، باب بما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله .
و(6/431-433 رقم47263401) في أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر وموسى عليهما السلام .
و(8/409-410 و422-424 رقم4725 و4727) في التفسير، باب،[وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين...] وباب } فلما جاوزا قال لفتاه ... { .
(15) من قوله: «فرأى رجلاً ....» إلى هنا سقط من (ح).
(16) (8/411-412 رقم4726) في التفسير، باب } فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما { .
(17) في (ح): يشبه «فيما».
(18) في (ق): «فوجدا».
(19) في (ح): «أن يكون».
(20) في (ك): «وعلى هذا فالزيادة».
(21) في (ح): «ذلك».(3/1027)
وقوله: «مجيء (1) ما جاء بك»؛ قيَّدها ابن ماهان بالهمز والتنوين، وعلى هذا تكون «ما» نكرة صفة لمجيء، وهي التي تكون للتفخيم والتعظيم، كقولهم: لأمر ما يسوَّدَ من يسوَّدَ (2) ، ولأمر ما تدرَّعت الدروع. فيكون معناه: مجيءٌ عظيمٌ، وأمرٌ مهمٌ حملك على أن تركت ما كنت عليه من أمر بني إسرائيل، واقتحمت الأسفار، =(6/200)=@ وقطعَ المفاوز والقفار. وقد زاد فيه بعض الرواة: «أن الخضر قال له: وعليك السلام، أنَّى بأرضنا (3) يا نبيَّ بني إسرائيل، أما كان لك فيهم شغل ؟! قال: بلى ولكني أمرت أن أصحبك، مستفيدًا منك (4) » (5) . فأجاب بجواب المتعلم المسترشد بين يدي العالم المرشد ملازمًا (6) للأدب والحرمة ،?ومعظمًا (7) لمن شرَّفه الله تعالى بالعلم، وأعلى رسمه فقال: جئتُك (8) لتعلمني مما عُلمت رُشْدًا. قرأه الجماعة بضم الراء وسكون الشين، وقرأه يعقوب وأبو عمرو بالفتح فيهما (9) ، وهما لغتان، ويقال: رَشَدَ: بالفتح يرشد رُشدًا بالضم، ورَشِد بالكسر يرشَد رَشدًا (10) بالفتح، ومعنى الرشد: الاستقامة في الأمور، وإصابة وجه السداد (11) ، والصواب فيها (12) ، وضده (13) الغيُّ. وهو منصوب على المصدر، ويكون في موضع الحال، ويصح أن يكون مفعولاً من أجله، وفيه من الفقه التذلل، والتواضع للعالم، وبين يديه، واستئذانه في سؤاله، والمبالغة في احترامه وإعظامه، ومن لم يفعل هكذا (14) فليس على سنة الأنبياء، ولا على هديهم، كما قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - : «ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه» (15) .
وقوله: «إنك على علم من علم الله علَّمكه الله (16) ، لا أعلمه (17) ، وأنا على علم من علم الله علَّمنيه لا تعلمه أنت»؛ ظاهر هذا: أن الخضر كان لا يعلم التوراة، ولا ما علمه موسى من الأحكام، وقد جاء هذا الكلام في بعض روايات البخاري (18) بغير هذا اللفظ، وبزيادة فيه؛ فقال (19) : «أما يكفيك أن التوراة بين يديك، وأن الوحي &(6/162)&$ يأتيك يا موسى ؟ إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه» (20) . =(6/201)=@
قال الشيخ رحمه الله: ولا بُعد فيما ظهر من رواية مسلم؛ لأنَّ الخضر إن كان نبيًا فقد اكتفى بما تعبَّده الله به من الأحكام، وإن كان غير نبي فليس متعبدًا بشريعة %(3/1028)%
__________
(1) في (ح): يشبه «بمجيء».
(2) في (ق): «ما تسوَّد من تسوَّد».
(3) قوله: «أنى بأرضنا» سقط من (ك).
(4) من قوله: «بلى ولكني ....» إلى هنا مكرر في (ك).
(5) أخرجه عبدالرزاق في "تفسيره" (1/342) عن معمر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما اقتص موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل راقد، قد سجي عليه ثوبه، فسلم عليه موسى، فكشف الرجل عن وجهه الثوب، فرد عليه السلام، ثم قال له: من أنت؟ قال: موسى، قال: صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: أو ما كان لك في بني إسرائيل شغل؟ قال: بلى، ولكن أمرت أن آتيك وأصحبك ... الحديث .
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/417) إلى الروياني، وابن عساكر .
(6) في (ح): «لازمًا».
(7) في (ح) و(ك): «معظمًا».
(8) في (ح): «جئت».
(9) قوله: «فيهما» سقط من (ح).
(10) قوله: «رشدًا» سقط من (ح).
(11) في (ح): «السدائد».
(12) في (ك): «فيهما».
(13) في (ك): «وضد».
(14) في (ك): «هذا».
(15) روي من حديث جماعة من الصحابة:
1 - حديث عبدالله بن عمرو: أخرجه أحمد (2/207)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1/447-448و449 رقم35 و358)، وأحمد (2/207)، والترمذي (4/284 رقم 1920) باب ما جاء في رحمة الصبيان. ثلاثتهم من طريق محمد بن إسحاق.
وأخرجه أحمد (2/185)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1/459 رقم 363)، كلاهما من طريق عبدالرحمن بن الحارث .- محمد بن إسحاق، وعبدالرحمن بن الحارث -، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه .?
وأخرجه الحميدي (2/268 رقم 586)،وابن أبي شيبة (5/215 رقم 25350) في الأدب، باب ما ذكر في الرحمة من الثواب، و أحمد (2/222)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1/447 رقم 354)، وأبو داود (5/232-233 رقم4943) في الأدب، باب في الرحمة .?
جميعهم من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، قال: أخبرني عبيدالله بن عامر.
كلاهما - شعيب، و عبيدالله بن عامر -، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا».?
قال الترمذي: «وحديث محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب حسن صحيح، وقد روي عن عبد الله بن عمرو من غير هذا الوجه أيضًا».
2 - حديث عبادة بن الصامت: أخرجه أحمد (5/323)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3/365 رقم1328)، والحاكم 1/122).
كلاهما من طريق ابن وهب، عن مالك بن خير الزيادي، عن أبي قبيل المعافري، عن عبادة بن الصامت، فذكره، وزاد: «ويعرف لعالمنا».?
قال الحاكم: «ومالك بن خير الزيادي مصري ثقة، وأبو قبيل تابعي كبير». ووافقه الذهبي. وقال الذهبي في "الميزان": محله الصدق .
وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (4/31): «روت عنه جماعة منهم: ابن وهب، وحيوة بن شريح، وزيد بن الحباب ...، وهو ممن لم تثبت عدالته».
فعقب الذهبي قائلاً: «يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة، وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحدًا نص على توثيقهم، والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة، ولم يأت بما ينكر عليه: أن حديثه صحيح».
"الثقات" (7/460)، "التاريخ الكبير" (7/312 رقم1329)، "الجرح والتعديل" (8/208 رقم915)، "الميزان" (3/426 رقم7015).
وأبو قبيل: هو حيي بن هانئ، وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وقال أبو حاتم: «صالح الحديث». ووثقه الفسوي، والعجلي، وأحمد بن صالح المصري. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: «كان يخطيء».
"تهذيب الكمال" (7/490-493 رقم1586)، و"تهذيب التهذيب" (1/510)، وفي التقريب (ص 282 رقم 1616): «صدوق يهم». والراجح أنه ثقة. والحديث ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/127) وقال: «رواه أحمد، والطبراني في الكبير، وإسناده حسن».
(16) قوله: «الله» ليس في (ح).
(17) في (ب) و(ح): «لا أعلمه أنا».
(19) في (ح): «فيقال».
(20) ( 8/411-412 رقم4726) في التفسير، باب } فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما { .(3/1028)
بني إسرائيل؛ إذ يمكن أن لا (1) يكون منهم. والله أعلم، وسيأتي القول في نبوته. وأما مساق رواية البخاري، فهو مساق حسن لا يرد عليه من هذا الاستبعاد شيء؛ لأنَّ مقتضاه: أن لكل واحد منهما علما خاصًا به لا يعلمه الآخر، ويجوز أن يشتركا في علم التوراة، أو غيرها (2) مما شاء الله أن يشركهما فيه من العلوم، ويظهر لي أن الذي خصَّ به موسى - صلى الله عليه وسلم - : العلم بالأحكام، والمصالح الكلية التي تنتظم بها مصالح الدنيا؛ لأنَّه أرسل إلى عامة بني إسرائيل.
وقول موسى: } هل اتبعك على أن تعلمن { (3) ؛ سؤال ملاطفة؛ أي: هل يمكن كوني معك حتى أتعلم منك ؟ فأجابه بما يقتضي أن ذلك ممكن لولا المانع الذي من جهتك، وهو عدم صبرك، فقال جازمًا في قضيته، لما علمه من حالته: } إنك لن تسطيع معي صبرًا { (4) ، ثم بيَّن وجه عذره عن ذلك بقوله: } وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا { (5) ؛ معناه: إنك لا تصبر عن (6) الإنكار والسؤال، وأنت في ذلك كالمعذور؛ لأنَّك تشاهد أمورًا ظاهرة، ولا تعرف بواطنها وأسرارها. وانتصبت (7) } خُبْرًا { على التمييز المنقول عن الفاعل، وقيل على المصدر الملاقي في المعنى؛ لأنَّ قوله: } لم تحط { معناه: لم تُخبره (8) ، فكأنه (9) قال: لم تخبره (10) خبرًا، وإليه أشار مجاهد. والخبير بالأمور: هو العالم بخفاياها، وبما يختبر (11) منها. &(6/163)&$
وقوله: } قال (12) ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا { (13) ؛ =(6/202)=@ هذا تفويض (14) إلى الله تعالى في الصبر، وجزمٌ بنفي المعصية؛ وإنما كان منه ذلك؛ لأن الصبرَ أمر مستقبل، ولا يدري كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزومٌ عليه حاصل في %(3/1029)%
__________
(1) في (ح): «ألا أن يكون»..
(2) في (ك): «أو غيرهما» وفي (ق): «وغيرها».
(3) الآية (66) من سورة الكهف .
(4) الآية (67) من سورة الكهف .
(5) الآية (68) من سورة الكهف .
(6) في (ح): يشبه «عن».
(7) في (ق): «وانتصب».
(8) في (ق): «لم يخبره خبرا».
(9) في (ك): «وكأنه».
(10) في (ق): «لم يخبره».
(11) في (ك): «وما يختبر» وفي (ق): «وبما يختر».
(12) قوله: «قال» سقط من (ك).
(13) الآية (69) من سورة الكهف .
(14) في (ق): «هو نص» وكتب في الهامش «تفويض» ووضع (خ).(3/1029)
الحال، فالاستثناء فيه يُنافي العزمَ عليه والله تعالى أعلم. ويُمكن أن يفرَّق بينهما بأن الصبرَ ليس مُكتسبًا لنا بخلاف فعل المعصية وتركها، فإن ذلك كله مكتسب لنا (1) .
وقوله: } فَإنِ أتبعْتَني فَلا تسألنِي عَن شَيءٍ حَتى أحدِثَ لَكَ مِنْهُ ذكرًا { (2) ؛ هذا من الْخَضِر تأديبٌ، وإرشادٌ لما يقتضي دوامَ الصُّحبة، ووعدٌ بأنه يُعرِّفه بأسرار (3) ما يراه من العجائب ،?فلو صبرَ ودَأبَ (4) لرأى العجبَ، لكنَّه أكثر من الاعتراض، فتعيَّن الفِراق والإعراض.
وقوله: «فانطلقا (5) يمشيان على ساحل البحر»؛ يعني: الخضر وموسى، ولم يذكر معهما فتى موسى، فدلَّ (6) على أنه لم يكن معهما، أو أنه (7) تخفَف (8) عنهما، ويحتمل أنه (9) اكتفى بذكر المتبوع عن التابع.
وقوله: «فعرفوا الخَضِر، فحملوهما بغير نَول (10) »؛ أي: بغير شيء ناله أصحابُ السفينة منهما؛ أي: بغير جُعل، والنَّولُ والنَّالُ والنَّيْلُ: العطاء. وفيه ما يدلُ على قَبُول الرجل الصالح ما يُكرمُه به من يعتقدُ فيه صلاحًا، ما لم يتسبَّب هو بإظهار صلاحه لذلك، فيكون قد أَكَلَ بدينه وذلك مُحرَّم وربا. =(6/203)=@
وقوله: } لِتُغرق أهْلَهَا (11) { (12) ؛ قرأه حمزة والكسائي (13) بالمثناة تحت (14) مفتوحهَ. وأهلُها بالرفع على أنه فاعل يَغرَق، والباقون بالمثناة (15) فوق (16) مضمومة. أهلَها: بالنصب، %(3/1030)%
__________
(1) الصحيح أن جميع أفعال العباد من الصبر والفعل والترك مكتسبة لهم، وأن الله خالقهم وخالق أفعالهم ومقدرها عليهم، والعباد لهم أيضًا قدرة وإرادة خاصة مخلوقة بهذه الأفعال .
(2) الآية (70) من سورة الكهف .
(3) في (ق): يشبه «وباسرار».
(4) في (ح): «وتأدب».
(5) كذا في جميع النسخ! وفي "صحيح مسلم" و"التلخيص": «فانطلق الخضر وموسى يمشيان على ساحل البحر».
(6) في (ك): «يدل».
(7) في (ك) و(ح): «وأنه».
(8) في (ح) و(ق): «تخلف».
(9) في (ح) و(ك): «أن يكون» بدل «أنه».
(10) في (ق): «نوال».
(11) قوله: «لتغرق أهلها» سقط من (ك).
(12) الآية (71) من سورة الكهف .
(13) في (ك): «قرأ حمزة والكسائي: ليَغرَق أهلُها» .
(14) في (ح) و(ك): «بالياء باثنتين من فوقها».
(15) في (ق): «بمثناة».
(16) في (ح) و(ك): «بتاء باثنتين من تحتها».(3/1030)
فعلى الأول تكون اللام للمآل، كما قال تعالى: } فالتَقَطهُ آلُ فِرعونَ لِيكونَ لَهُم عَدُوًّا وَحَزَنًا { (1) . وعليها: فلم يَنسبْ له أنه أراد (2) الإغراق، وعلى القراءة الثانية: تكون اللام: لام كي، ويكون نَسبَ إليه: أنه قصد &(6/164)&$ بفعله ذلك إغراقهم، وحملَه على ذلك فرطُ الشفقة عليهم ومراعاة حقهم (3) ؛ ولأنهم قد أحسنوا فلا يُقابلون (4) بالإساءة، ولم يقل: لتغرقني؛ لأن الذي غلب عليه في الحال: فَرطُ الشفقة عليهم، ومراعاة حقهم.
وقوله: } لَقَد جِئتَ شيَئًا نكرًا (5) { ؛ أي: ضعيف الحجة، يُقال: رجل إمرٌ (6) : أي: ضعيف الرأي ذاهبُه (7) ، يحتاج إلى أن يُؤمر، قال معناه أبو عبيد. مجاهد: منكرًا (8) . مقاتل: عجبًا. الأخفش: يُقال أَمِرَ أَمْرُهُ، يأمر أمْراً؛ أي: اشتد، والاسم: الإمْرُ. قال الراجز (9) :
قَد (10) لَقِيَ الأقرَانُ مِنِّي نُكرًا داهِيَةَ دَهيَاءَ إِدًّا (11) إِمرا
وفيه من الفقه: العمل بالمصالح؛ إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح (12) كل المال بفساد بعضه.
وقوله: } لا تُؤاخِذني بِمَا نَسِيتُ { (13) ؛ أي: من عهدك، فتكون «ما » مع الفعل بتأويل المصدر؛ أي: سهوي (14) وغفلتي. وصدقَ، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كانت الأولى من موسى نسيانًا».
وقول: } وَلا تُرهقني مِن أَمرِى عُسرًا { (15) ؛ أي: لا تفندني (16) فيما =(6/204)=@ تركته. قاله الضحَّاك. وقال مقاتل: لا تكلِّفني ما لا أقدر عليه من التحفُّظ عن السهو .
وقوله: «فإذا غلام يلعب مع الغلمان»؛ قد تقدم: أن الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ، ويُقابله (17) الجارية في النساء. قال الكلبي: اسم هذا الغلام: شمعون. %(3/1031)%
__________
(1) الآية (8) من سورة القصص .
(2) في (ح): «ينسب له إرادة».
(3) قوله: «ومراعاة حقهم» من (ح) و(ك) فقط وليس في (ق).
(4) في (ق): «يقابلوا».
(5) في (ح) و(ق): «إمرا» بدل «نكرا».
(6) في (ح): «إمرًا».
(7) في (ك): «داهية».
(8) أخرجه الطبري (15/284) عن محمد بن عمرو، عن أبي عاصم، عن عيسى، وعن الحارث، عن الحين، عن ورقاء. كلاهما - عيسى، وورقاء -، عن ابن نجيح، عن مجاهد، قوله: } لقد جئت شيئًا إمرا { قال: منكرًا .
(9) "غريب الحديث" للخطابي (2/145)، و"لسان العرب" (4/33) ولم يعز .
(10) في (ح): «ولقد».
(11) في (ح): «إذا».
(12) في (ك): «صلاح».
(13) الآية (73) من سورة الكهف .
(14) في (ح): «بسهوي».
(15) الآية (73) من سورة الكهف .
(16) في (ك) و(ح): «أي تفندي».
(17) في (ق): «وتقابله».(3/1031)
وقال الضحَّاك: خشود (1) . وقال وهب: اسم أبيه سلاس، واسم أمه: رُحمى، وقال ابن عباس: كان شابًّا يقطع الطريق (2) . &(6/165)&$
قال الشيخ: ويظهر من كلام (3) ابن (4) عباس هذا: أنه كان بالغًا، وأنه بلغ سن التكليف، وليس هذا معروفًا في إطلاق اسم الغلام في اللغة، ومساق الحديث يدلّ على أنه لم يبلغ سن التكليف (5) ، فلعل (6) هذا القول لم يصح عن ابن عباس. بل الصحيح عنه: أنه كان لم يبلغ، كما يأتي.
وقوله: «فذُعِرَ موسى عندَ هذا (7) ذَعْرَةً شديدة»؛ أي: فَزِعَ فَزَعًا شديدًا عند هذه الفعلة (8) التي هي قتله الغلام، وعند ذلك لم يتمالك (9) موسى أن بادر (10) بالإنكار، تاركًا للاعتذار، فقال: } أقتلت نفسًا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئًا نكرًا { (11) ؛ هذه قراءة العامة، وقرأه الكوفيون، وابن عامر: } زكيَّة { بغير ألف، وتشديد الياء. قال ثعلب: الزكية (12) أبلغ (13) . قال أبو عبيد: الزكية في الدين، والزاكية في البدن. قال الكسائي: هما بمعنى واحد؛ كقاسية وقسيَّة. ابن عباس: مسلمة (14) . أبو عمرو: التي =(6/205)=@ ما حلَّ ذنبها. ابن جبير (15) : يريد (16) على الظاهر.
وقوله: } بغير نفس { ؛ يعني: لم تقتل نفسًا فتستحق القتل و«النُّكر»: أشدُّ المنكر، وأفحشه، قاله قتادة (17) . وفيه لغنان: ضم الكاف، وسكونها، وقريء بهما (18) . وهذه بادرة من موسى - صلى الله عليه وسلم - ترك بها كل ما كان التزم (19) له من الصبر، وترك المخالفة؛ لكن حمله على ذلك: استقباح ظاهر الحال، وتحريم ذلك في شرعه، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «وهذه (20) أشدُّ من الأولى».
وقوله: «رحمة الله علينا وعلى موسى»؛ قال الراوي: وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه. هذا إنما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - (21) في الأدعية وأشباهها، مما يعود عليه بالثواب والأجر الأخروي، حرصًا على تحصيل المنازل الرفيعة عند الله &(6/166)&$ تعالى، كما قال %(3/1032)%
__________
(1) في (ق) و(م): «حسود». ونقل الطبري في "التفسير" (15/286)، والسيوطي في "الدر المنثور" (5/428) عن شعيب الجبائي: أن اسمه: (جيسور)، وذكر الحافظ في "الفتح" (8/420) أنها رواية أبي ذر عن الكشميهني لـ"صحيح البخاري".
(2) لم أقف عليه مسندًا .
(3) في (ح): «قول».
(4) في (ح): «ان» بدل «ابن».
(5) من قوله: «وليس هذا معروفًا» إلى هنا سقط من (ق).
(6) في (ق): «وقيل» بدل «فلعل».
(7) في (ح) و(ك): «عندها» بدل «عند هذا».
(8) في (ق): «الغفلة».
(9) في (ك): «لم يملك».
(10) في (ك): «يبادر».
(11) الآية (74) من سورة الكهف .
(12) في (ح): «الزاكية».
(13) في (ق): «أغلب».
(14) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/426) إلى ابن أبي حاتم .
(15) في (ق): يشبه «ابن الجبير».
(16) في (ك): «يزيد».
(17) أخرجه الطبري في "تفسيره" (15/287) عن بشر، عن يزيد، عن سعيد، عن قتادة: } لقد جئت شيئًا نكرا { : والنكر: أشد من الإمر .
(19) في (ق): «المتزم».
(20) في (ح) و(ك): «فهذه».
(21) في (ك): «النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله».(3/1032)
في الوسيلة: «إنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو» (1) .
وحاصله: أن القرب من الله تعالى، وثوابه ليس مما يُؤثر الغير به بل تنبغي المنافسة فيه، والمسابقة إليه، بخلاف أمور (2) الدنيا، وحظوظها؛ فإنَّ الفضل في (3) تركها، وإيثار الغير بما يحوز (4) منها.
وقوله: «ولكنه أخذته ذمامةٌ من صاحبه»؛ هو بالذال المعجمة مفتوحة، وهي بمعنى: المذمَّة - بفتح الذال وكسرها - وهي: الرقة، والعار من ترك الحرمة. يُقال: أخذتني (5) منه مذمّةٌ ومذِمَّة، وذمامة (6) ، بمعناه، وكأنه استحيا من تكرار مخالفته، ومما (7) صدر عنه من تغليظ الإنكار.
قوله (8) : } قال (9) ألم أقل لك (10) إنَّك لن تستطيع معي صبرًا { (11) ؛ إنما =(6/206)=@ ذكر } لك (12) { في هذه المرة (13) ، ولم يذكرها في الأولى مقابلة له على قلَّة احترامه في هذه الكرَّة (14) ؛ فإنَّ مقابلته بـ } لك (15) { مع كاف خطاب المفرد (16) يشعر بقلة احترامه. والله أعلم.
وقوله: } إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني { (17) ؛ هذا القول أبرزه (18) من موسى استحياؤه من كثرة المخالفة، وتهديده لنفسه عند معاودتها للاعتراض بالمفارقة.
وقوله: } قد بلغت من لدنِّي عذرًا { (19) ؛ أي: قد صرت عندي معذورًا، وقد تقدَّم الفرق بين لدنِّي (20) وعندي (21) ، وأن في لدنِّي (22) لغات، وقرئت: } من (23) لَدُنْي { بضم الدال، وتخفيف (24) النون، وسكون (25) الدال، وإشمامها الضم (26) ، وتخفيف النون لأبي بكر عن عاصم. وبضم الدال، وتشديد النون (27) ، والأولى (28) لنافع والثالثة (29) للباقين. &(6/167)&$ %(3/1033)%
__________
(1) تقدم في الصلاة، باب إذا سمع المؤذن قال مثل ما قال ... .
(2) في (ك): «أحوال».
(3) في (ك): «في قد».
(4) في (ح): يشبه «يجوز».
(5) في (ك): «أخذته».
(6) في (ح): «وذماة».
(7) في (ق): «وبما».
(8) في (ح) و(ق): «وقوله».
(9) قوله: «قال» سقط من (ك) و(ح) و(ق).
(10) قوله: «لك» سقط من (ك).
(11) الآية (75) من سورة الكهف .
(12) في (ق): «ذلك».
(13) في (ح) و(ك): «الكرة».
(14) من قوله: «ولم يذكرها ....» إلى هنا سقط من (ك).
(15) في (ح) و(ق): «مقابلته بتلك»، و في (ك): «مقابلته تلك».
(16) في (ك): «الخطاب للمفرد».
(17) الآية (76) من سورة الكهف .
(18) في (ق): «أبرز».
(19) الآية (76) من سورة الكهف .
(20) في (ق): «لدي».
(21) في (م): «وعند».
(22) في (ق): «لدي».
(23) قوله: «من» سقط من (ك).
(24) في (ح) و(ك): «وتشديد».
(25) في (ب) و(ك) و(م) و(ح): «وبسكون».
(26) قوله: «وإشمامها الضم» سقط من (ك) و(ح).
(27) من قوله: «لأبي بكر ....» إلى هنا سقط من (ك) و(ح).
(28) في (م): «والأول» وفي (ق): «الأولى» بلا واو.
(29) في (ك): «والثانية»، وفي (ح): «والثاني».(3/1033)
وقوله: } فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية { لئام فـ } استطعما أهلها { (1) ؛ قال قتادة: القرية أيلة. وقيل: أنطاكية. و «لئام» هنا: بخلاء، واللؤم في الأصل: هو البخل مع دناءة الآباء. و «الاستطعام»: سؤال الطعام، والمراد به هنا: أنهما سألا الضيافة?بدليل قوله تعالى: } فأبوا أن يضيفوهما { ؛ فاستحق أهل القرية أن يُذمُّوا وينسبوا إلى اللؤم كما وصفهم بذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، ويظهر من ذلك: أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما يجب لهما من الضيافة. وهذا هو الأليق بحال الأنبياء والفضلاء، وبعيد أن يذم?من ترك المندوب هذا الذم، مع أنه يحتمل أن يقال: إن الضيافة لما كانت من المكارم المعروفة (2) المعتادة عند أهل البوادي، ذم المتخلف عنها عادة، كما قد قالوا (3) : «شرٌّ =(6/207)=@ القُرى التي تبخل بالقِرى»، ويحتمل أن يكون سؤالهما الضيافة عند حاجتهما إلى ذلك، وقد بيَّنَّا: أن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرو (4) به جوعه، ففيه ما يدل (5) : على جواز المطالبة بالضيافة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «إذا نزلتم بقوم فلم يضيفوكم فاطلبوا منهم حق الضيف» (6) . وقد تقدَّم القول في الضيافة وأحكامها، ويعفو الله عن الحريري؛ فإنَّه تسخَّف في هذه الآية وتمَجَّن، فاستدل بها على الكُدْيَةِ (7) والإلحاح فيها؛ وأن ذلك ليس بعيب على فاعله ولا منقصة عليه فقال (8) :
فإن رُددت فما بالردِّ (9) منقَصَةٌ عليك قد رُدَّ موسى قبل (10) والخضر
وهذا لعبٌ بالدِّين، وانسلال عن احترام النبيين، وهي (11) : شنشنة أدبية وهفوة سخافية، ويرحم الله السَّلف الصالح فإنَّهم (12) بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، ، فقالوا: مهما كنت لاعبًا بشيء، فإياك أن تلعب بدينك.
وقوله: } فوجدا فيها (13) جدارًا يريد أن ينقض فأقامه { (14) ؛ الجدار: الحائط. وينقض: يسقط. ووصفه بالإرادة مجاز مستعمل، وقد (15) فسره في الحديث &(6/168)&$ بقوله: %(3/1034)%
__________
(1) الآية (77) من سورة الكهف .
(2) في (ح): «المعروفة المعلومة المعتادة».
(3) في (ق): «كما قالوا».
(4) في (ح) و(ق): «يرد».
(5) في (ك): «ففيه دليل».
(6) تقدم في الأقضية، باب الأمر بالضيافة .
(7) حرفة السائل الملح .
(8) في (ق): «يقال».
(9) في (ق): «في الردِّ».
(10) في (ق): «قيل».
(11) في (ق): «فهي».
(12) في (ق): «فقد».
(13) قوله: «فيها» ليس في (ق).
(14) الآية (77) من سورة الكهف .
(15) في (ح): «وهو قد».(3/1034)
«يقول: مائل (1) »، فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن (2) ، وهو مذهب الجمهور، ومما يدلّ على استعمال ذلك المجاز وشهرته، قول الشاعر:
يُريد الرُّمح (3) صَدْرَ أبي بَراءٍ ويَرْغَبُ عن دِماء بَنِي عَقِيل (4)
وقال آخر:
إنَّ دَهْرًا يَلُفُّ (5) شَمْلِي بِسَلْمى (6) لَزَمانٌ يَهُمُّ بالإحسانِ (7) =(6/208)=@
وقال آخر:
في مَهْمَهٍ فُلِقَت به هاماتُنَا فَلْقَ الفُؤوسِ إذا أردن (8) نُصُولا
والنصول هنا: الثبوت في الأرض، من قولهم: نصل السَّهم: إذا ثبت في الرَّميَّة، فشبَّه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع (9) الفؤوس في الأرض الشديدة؛ فإنَّ الفأس يقع فيها ويثبت (10) ، ولا (11) يكاد يخرج (12) . والمجاز موجود في القرآن والسُّنَّة كما هو موجودٌ في كلام العرب، وقد استوفينا مباحث هذه المسألة (13) في الأصول.
وقوله: «قال الخضر بيده - هكذا - فأقامه»؛ يعني به (14) أنه أشار إليه بيده، فقام (15) . فيه (16) دليل على كرامات الأولياء، وكذلك كل ما وصف (17) من أحوال الخضر في هذا الحديث، وكلها (18) أمور خارقه للعادة. هذا (19) إذا تنزلنا (20) على أنه ولي لا نبي، وقد اختلف فيه أئمة أهل السُّنَّة. والظاهر من مساق قصته واستقراء أحواله، مع قوله: } وما فعلته عن أمري { ؛ أنه نبي يوحى إليه بالتكاليف (21) والأحكام، كما أوحي إلى الأنبياء، غير أنه ليس برسول. %(3/1035)%
__________
(1) في (ك): «بقوله قائل» بدل: «يقول مائل».
(2) الصواب: أن القرآن ليس فيه مجاز، وأن ألفاظه كلها حقيقة في سياقها. وأما المجاز في اللغة فمحل خلاف بين أهل السنة، والمجيزون للمجاز في القرآن إنما أرادوا التوصل به لنفي الصفات الإلهية وتأويلها، ولفظ الإرادة هنا ليس دليلاً كما ذكر المؤلف إذ الإرادة في اللغة تطلق على الحي والجماد بمعنى أن هناك إرادة تختص بالجماد كقولهم: الأرض تريد الماء، والسقف يريد أن ينقض، والبيت يريد الإصلاح، وهكذا، وهو إستعمال سائغ مشهور في اللغة العربية. "الغرب" (1/300)، و"دلائل الإعجاز" (1/246).
(3) في (ك): «الرجح».
(4) "لسان العرب" (3/189).
(5) في (ق): «تلف».
(6) قوله: «بسلمى» سقط من (ك) وفي (ح): «بشملى».
(7) البيت لبشار بن برد المتوفى سنة 167 هـ. "ديوانه" (ص620).
(8) في (ق) و(م): «أردنا».
(9) في (ح): «بوقوع».
(10) في (ق): «فيثبت».
(11) في (ح): «لا يكاد» بلا واو.
(12) في (ح): «يخرج منها».
(13) في (ك): «المسائل».
(14) قوله: «به» سقط من (ق).
(15) في (ق): «فقال».
(16) في (ح) و(ك): «ففيه».
(17) في (ك): «وصف به».
(18) في (ب) و(ك) و(ق): «كلها» بلا واو وفي (ح): يشبه «فكلها».
(19) في (ح): «وهذا».
(20) في (ق): «نزلنا».
(21) في (ق): «يوحى بالتكليف».(3/1035)
وقوله: } لوشئت لَتَخِذْتَ (1) عليه أجرًا (2) { ؛ هذه قراءة ابن كثير، وأبي عمرو ويعقوب، وقراءة غيرهم: } لاتَّخَذْتَ { ، وهما لغتان بمعنى واحد من =(6/209)=@ الأخذ، وهذه صدرت من موسى سؤالاً على جهة (3) العرض، لا الاعتراض، فعند ذلك قال له الخضر: } هذا فراق بيني وبينك { (4) ؛ أي: هذا وقت ذلك، بحكم ما شرطتَ (5) على نفسكَ، ثم وعدَه بأن يُخبرَه بحكم تلك الأحكام، فقال (6) : } أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر { (7) ؛ القراءة المتواترة بتخفيف السين، جمع مسكين. سُمُّوا بذلك على جهة الشفقة والترحُّم (8) ، وقيل: كانوا فيها أجراء، وروي عن ابن عباس أنه قرأها: ( مسَّاكين ) (9) بتشديد السين؛ جمع مسَّاك؛ &(6/169)&$ لإمساكهم السفينة، قيل: كانوا عشرة، خمسة منهم (10) يعملون في البحر، وخمسة منهم زَمنى (11) ، وقد تقدَّم الفرق بينَ المسكين والفقير في كتاب (12) الزكاة.
وقوله: } وَكاَنَ وراءهُم مَلِك يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا { (13) ؛ وراء في أصلها: بمعنى خلف، فقال بعض المفسرين: إنه كان خلفهم، وكان رجوعهم عليه، والأكثر على أن معنى (14) وراءَ هنا: أمام، وهذا القول أولى لقراءة سعيد (15) : ( وكان أمامَهم )، ولما يأتي في بقية الحديث، وقال بعضهم: وراء (16) : يكون (17) من الأضداد. قال الشاعر:
أَترجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتي وقَومِي تَمِيمٌ وَالفَلاةُ وَرَائيا (18)
أي: أمامي. وأصل هذا: أن كل (19) ما توارى عنك فهو وراء، وقيل: اسم هذا المَلِك: عدد بن بدد (20) بن جُريج. وقال الكلبيُّ: الجَلَنْدى (21) . والغصْب: أخذ مال (22) الغير على جهة القهر (23) والمجاهرة. وقد بيَّن (24) وجهَ الحكمة في خرق السفينة الرواية (25) الأخرى بقوله: «فإذا جاءَ الذي يُسَخِّرُها وجدَها منخرقةً فيجاوزها (26) ، فأصلحوها بخشبةٍ، ويحصلُ من هذا: الحضُّ على الصبر في الشدائد، فكم في =(6/210)=@ ضمن ذلك المكروه من الفوائد، وهذا معنى قوله تعالى: } وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم { (27) . %(3/1036)%
__________
(1) في (ك): «لاتخذت».
(2) الآية (77) من سورة الكهف .
(3) قوله: «على جهة» مكرر في (ح).
(4) الآية (78) من سورة الكهف .
(5) في (ك) و(ق): «شرطته».
(6) في (ح): «فقال له».
(7) الآية (79) من سورة الكهف .
(8) في (ق): «والرحمة».
(9) "تفسير القرطبي (11/34)، و"فتح القدير" (3/304)، و"روح المعاني" (16/9).
(10) قوله: «منهم» سقط من (ق).
(11) الزَّمِن: هو كبير السن، وصاحب العاهة والمرض الدائم .
(12) قوله: «كتاب» سقط من (ق).
(13) الآية (79) من سورة الكهف .
(14) قوله: «معنى» سقط من (ق).
(15) في (ح): يشبه «سعد».
(16) في (ك): «وراه».
(17) في (ق): «تكون».
(18) البيت لسوار بن الْمُضرِّب. "مجاز القرآن" (1/421) لأبي عبيدة، و"لسان العرب" (15/390)، ونسبه ياقوت في "معجم البلدان" (2/448) للفرزدق في قصيدة حين هروبه من الحجاج .
(19) قوله: «كل» سقط من (ق).
(20) في (ق) و(م): «برد».
(21) في (ق): «الجلند».
(22) في ح): «ملك».
(23) في (ق) و(م): «القهر والغلبة».
(24) في (ك): «تبين».
(25) في (ح) و(ق): «في الرواية».
(26) في (ح): «فتجاورها».
(27) الآية (216) من سورة البقرة .(3/1036)
وقوله: « وأما الغلام فكان كافرًا»؛ هذا حديث مرفوع من رواية أُبَيِّ، كما قال في الرواية الأخرى: «طُبِع يوم طُبِع كافرًا»، وقد روي أن أبيًّا كان يقرأ: ( أما الغلام فكان كافرًا، وكان أبواه مؤمنين ) (1) ؛ وهذا (2) محمول على أن أبيًّا فسَّر، لا أنه قرأ كذلك (3) ؛ لأنَّها لم يثبتها في المصحف، وهو من جُملة كَتَبتِه. والجمهور على أن هذا الغلام لم يكن بلغ من التكليف، وقد ذهب ابن جبير، إلى أنه بلغ سنَّ التكليف، وقد حكي ذلك عن ابن عباس كما تقدَّم. والصحيح عنه أنه (4) كان صغيرًا لم يبلغ كما تقدَّم من (5) كتابه إلى نجدة الحروري، كما ذكرناه في الجهاد (6) ، وهذا (7) هو المعروف من اسم الغلام كما قد (8) تقدَّم. وإنما صار ابن جبير إلى ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - كان كافرًا، والكفر والإيمان من صفات المكلَّفين، ولا يطلق على غير مكلَّف &(6/170)&$ إلا بحكم التبعية لأبويه، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص، فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعيَّن أن يصار إليه، وقد يُطلق الغلام على الكبير إذا كان قريبًا من زمان (9) الغلومية توسُّعًا، وهو موجود في كلام العرب، كما قالت ليلى الأخيلية (10) :
شفاها من الداءِ العضال الذي بها غلامٌ إذا (11) هَزَّ القَنَاةَ شَفَاها
وقال صفوان لحسَّان:
تلقَّ ذُبابَ السَّيف عنِّي فإنَّنِي غلامٌ إذا هُوجيت ليس بشاعر (12) =(6/211)=@
قال الشيخ رحمه الله: وما صار إليه الجمهور أولى تمسُّكًا بحقيقة لفظ الغلام، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «وأما الغلام فطبع يوم طُبع كافرًا»؛ أي: خلق قلبه على صفة قلب الكافر من القسوة، والجهل، ومحبَّة الفساد، وضرر العباد، ولقوله: «ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا»؛ أي: لو بلغ. ولَمَّا عَلِمَ الله تعالى ذلك منه، أعلم الخضر بذلك، وأمره %(3/1037)%
__________
(1) أخرجه عبدلرزاق كما في "البدر المنير" (5/428)، ومن طريقه الطبري في "تفسيره" (18/85) عن معمر، عن قتادة قال: «وأما الغلام فكان كافرًا» في حرف أبي، «وكان أبواه مؤمنين».
وذكره السيوطي في "الدر" (5/428)، وعزاه لابن المنذر وعبدالرزاق. وهو منقطع .
(2) في (ح): «وهو».
(3) في (ح): «بذلك».
(4) قوله: «أنه» سقط من (ق).
(5) في (ح): «في» بدل «من».
(6) باب لا يسهم للنساء في الغنيمة بل يحذين منها .
(7) في (ق): «هذا» بلا واو.
(8) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ك).
(9) في (ح): «زمن».
(10) في (ك): «الإحليل له».
(11) في (ق): «إذ» بدل «إذا».
(12) "ديوان ليلى الأخيلية" (ص112) من قصيدة تمدح فيها الحجاج بن يوسف الثقفي، وفيه «سقاها» بدل «شفاها».(3/1037)
بقتله، فيكون قتله من باب دفع الضرر، كقتل الحيَّات، والسِّباع العادية، لا من باب القتل المترتب على التكليف، وهذا لا إشكال (1) على أصول أهل السُّنَّة فيه (2) ؛ فإن (3) الله تعالى الفعَّالُ لما يريد، القادر على ما يشاء لا يتوجه عليه وجوبٌ، ولا حق، ولا يثبت عليه (4) لوم ولا حكم، وأما على أصول أهل البدع القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين (5) وما يتولَّد (6) على ذلك من الأصول الفاسدة من التجويز، والتعديل، والإيجاب على الله تعالى، فلا يلتفت إليها، ولا يُعرج عليها، لظهور فسادها، كما بيَّنَّاه في الأصول (7) .
وقوله: «وكان أبواه قد عطفا عليه»؛ أي: أحبَّاه، وأقبلا عليه بشفقتهما (8) ، وحنوِّهما، فخاف الخضر، لما أعلمه الله تعالى بمآل (9) حاله أنه إن عاش لهما حتى =(6/212)=@ يكبر ويستقل بنفسه حملهما (10) بحكم محبتهما له أن يُطيعاه (11) ويُوافقاه على ما يصدر عنه من الكفر والفساد، فيكفران بذلك، وهذا معنى قوله: } فخشينا أن يرهقهما طغينًا وكفرًا { (12) ، وعلى هذا فيكون: } فخشينا { من كلام الخضر، وهو الذى يشهد له مساق الكلام، وهو قول كثير من المفسرين، وذهب بعضهم إلى أنه من كلام الله تعالى، وفسَّر } فخشينا (13) { بمعنى: علمنا، وحكى (14) أن أُبي (15) قرأها: ( فعلم ربُّك ) (16) . ومعنى &(6/171)&$ } يرهقهما { : يلحق بهما ما يشق عليهما، ويتعبهما، والطغيان هنا: الزيادة في المفاسد. %(3/1038)%
__________
(1) في (ح): «الإشكال» بدل «لا إشكال».
(2) في (ح): «فيه نظر».
(3) في (ك): «لأن».
(4) في(ح): «لأحد عليه».
(5) قوله: «العقليين» سقط من (ق).
(6) في (ح): «بنوا»، ومطموسة في (ك).
(7) في (ح): «الأصولين».
(8) في (ق): «لشفقتهما».
(9) في (ح): «بذلك بمآل».
(10) في (ق) و(م): «جبلهما».
(11) في (ك): «يطغياه».
(12) الآية (80) من سورة الكهف .
(13) في (ح) و(ق): «خشينا».
(14) في (ح): «وحكوا».
(15) في (ح) و(ق): «أبيًا».
(16) ذكره السيوطي في "التفسير" (11/36).(3/1038)
وقوله: } فأردنا أن يُبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا { (1) ، وهذا قول الخضر قطعًا، وهو يشهد بأن قوله: } فخشينا { من قوله، و } يبدلهما { ، قريء مشدَّدًا ومخففًا، وهما لغتان. و } زكاة { : منصوب على التمييز؛ يعني: نماءً وصلاحًا، ودينًا. و } رُحْمًا (2) { : معطوف على زكاة (3) ؛ أي: رحمة، يقال: رحمه (4) رحمة، ورحْمَى (5) ، وألفه للتأنيث، ومذكَّرُه رحم (6) ، وقيل: إن الرُّحمى هنا بمعنى: الرَّحم، قرأها ابن عباس، وأوصل رُحْمًا (7) ؛ أي: رَحِمًا. وحكي عنه: أنهما رزقا جارية ولدت نبيًّا (8) . وقيل: كان من نسلها (9) سبعون نبيًا، ويفيد هذا تهوين المصائب بفقد الأولاد؛ وإن كانوا قطعًا من الأكباد، ومن سلم للقضاء سفرت عاقبته عن اليد البيضاء.
وقوله: } وأمَّا الجدار فكان لغلمين (10) في المدينة { (11) ؛ قيل: =(6/213)=@ اسمهما أصرم وأُصيرم، وقد تقدَّم: أن اليُتْم (12) في الناس من قبل (13) فقد الأب، وفي غيرهم من الحيوان من قبل الأم.
وقوله: } وكان تحته كنزٌ لهما { (14) ؛ أي: تحت الجدار، وظاهر الكنز أنه مال مكنوز؛ أي مجموع. وقال ابن جبير (15) : كان صُحفَ العلم. وقال ابن عبَّاس (16) : كان لوحًا من ذهب مكتوبًا (17) فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف (18) يحزن! عجبت لمن يؤمن (19) بالرزق كيف يتعب! عجبت لمن يؤمن (20) بالموت كيف يفرح! عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل! عجبت لمن يعرف الدنيا وتقليبها (21) بأهلها كيف يطمئن إليها (22) ! لا إله إلا الله محمد رسول الله. %(3/1039)%
__________
(1) الآية (81) من سورة الكهف .
(2) في (ح): «رحمى».
(3) قال العكبري في "إعراب القرآن" (2/107): زكاة: تمييز، والعامل: } خيرًا منه { ، } ورحمًا { كذلك .
(4) قوله: «رحمه» سقط من (ق) و(م).
(5) في (ق): «رحمًا».
(6) في (ق) و(م): «رحيم».
(7) في (ك): «رحمى».
(8) قال البخاري في "صحيحه" (4726) بعد روايته للحديث بطوله: قال غير سعيد - يعني ابن جبير -: أنهما أبدلا جارية. وأما دواد بن أبي عاصم فقال عن غير واحد: إنها جارية .
قال ابن حجر في "الفتح" (8/422): هو - أي أنهما أبدلا جارية - قول ابن جريج، وروى ابن مردويه من وجه آخر عن ابن جريج قال: وقال يعلى بن مسلم أيضًا، عن سعيد بن جبير: إنها جارية، وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه قال: ويقال أيضًا عن سعيد بن جبير: إنها جارية، وللنسائي من طريق أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: فأبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة قال: أبدلهما جارية فولدت نبيًا من الأنبياء. وللطبري من طريق عمرو بن قيس نحوه .
(9) في (ح): «نسلهما»
(10) في (ح) و(ق): «لغلامين يتيمين في».
(11) الآية (82) من سورة الكهف .
(12) في (ك) و(م): «اليتيم».
(13) في (ح): يشبه «قبيل».
(14) الآية (82) من سورة الكهف .
(15) أخرجه الطبراني (16/5) من طريق شعبة، وسفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: } كان تحته كنز لهما { ، قال: عِلم .
أبو حصين: هو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي، ثقة ثبت سني، وربما يدلس. كما في "التقريب" (ص664 رقم4516).
(16) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (1/393) من طريق الحسن بن عرفة، عن كثير بن مروان الفلسطيني، عن أبين بن سفيان، عن أبي حازم، عن ابن عباس، فذكره .
قال ابن عدي: «وأبين بن سفيان له غير ما ذكرت شيء يسير، ومقدار ما يرويه محفوظ، وما يرويه عن من رواه منكر كله».
وأخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" (2/308) كما في تخريج الكشاف للزيلعي، عن محمد بن صالح بن فيروز، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: سئل ابن عباس عن هذه الآية ... فذكره .
قال الدارقطني: «هذا باطل عن مالك، وجعفر بن عون، ومحمد بن صالح مجهولان».
(17) في (ح): «مكتوب».
(18) في (ح): «حيث».
(19) في (ح) و(ك): «آمن».
(20) في (ح): «آمن».
(21) في (ح) و(ك): «تقلبها».
(22) قوله: «إليها» سقط من (ك).(3/1039)
وقوله: } وكان أبوهما صالِحًا { (1) ؛ قال أهل التفسير: إنه كان، جدَّهما السابع، وكان يُسمَّى كاسحًا (2) . ففيه ما يدلّ: على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بَعُدوا عنه، وقد روي: أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذويه. وعلى هذا يدل قوله تعالى: } وإن (3) وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين { (4) . &(6/172)&$
وقوله: } فأراد ربك أن يبلغا أشدَّهما { (5) ؛ أي: قوتهما وهو ما بين ثماني (6) عشرة إلى ثلاثين سنة. واختلف النحويون؛ هل هو واحد على بناء الجمع؛ كأنعم، ولا نظير لهما من لفظهما. وكان سيبويه يقول: هو جمع، واحده: شِدةٌ. قال الجوهري: وهو صحيح في المعنى، لأنَّه يقال: بلغ الغلام شدَّته. ولكن (7) لا تجمع فِعْلةٌ على أَفْعُل، وأما أنْعُمٌ: فهو جمع: نُعْم من قولهم: يومٌ بُؤسٌ، ويومٌ نُعْمٌ. وأما قول من قال: واحده شَدٌّ مثل كَلْبٍ وأَكْلَب؛ فإنما هو قياس، كما قالوا في واحد الأبابيل: أبُّول، قياسًا على: عَجُّول، وليس هو شيء (8) سمع من العرب.
وقد أضاف الخضر عليه السلام قضية استخراج كنز الغلامين لله تعالى، وأضاف عيبَ السفينة إلى نفسه تنبيهًا على التأدُّب في إطلاق الكلمات =(6/214)=@ على الله تعالى (9) ، فيضاف إليه ما يستحسن منها، ويطلق عليه، ولا يضاف ما يستقبح منها إليه، وهذا كما قاله تعالى: } بيدك الخير { (10) ، واقتصر عليه، ولم ينسب إليه (11) ، وإن كان بيده الخير والشَّر، والنَّفع والضر؛ إذ هو على كل شيء قدير، وبكل شيء خبير.
وقوله: «وجاء عصفورٌ حتى وقع (12) على حرف السَّفينة، ثم نقر في البحر، فقال الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر (13) »؛ وحرف السفينة: طرفها. وحرف كل شيء: طرفه، وشفيره، وحدُّه. ومنه حرف الجبل: وهو أعلاه المحدَّد. والحرف: واحد حروف التَّهجي. والحرف: الكلمة. والحرف: اللغة، كما تقدَّم. والحرف: الناقة الضامرة. والحرف: الجهة الواحدة. ومنه %(3/1040)%
__________
(1) الآية (82) من سورة الكهف .
(2) في (ح): «كاشحًا»، وفي (ك): «كاشجًا».
(3) في (ح) و(ق): «إن» بلا واو.
(4) الآية (196) من سورة الأعراف .
(5) الآية (82) من سورة الكهف .
(6) في (ح) و(ق): «ثمان».
(7) في (ق) و(م): «ولكنه».
(8) في (ح): «بشيء».
(9) سبق الحديث عن عقيدة إنكار أثر الأسباب في المسببات عند الأشاعرة. راجع (ص .....).
(10) الآية (26) من سورة آل عمران .
(11) في (ح) و(ق): «الشر إليه».
(12) في (ق): «وقف».
(13) قوله: «من البحر» سقط من (ك).(3/1040)
قوله تعالى: } ومن النَّاس من يعبد الله على حرف { (1) ؛ أي: يعبده في الرَّخاء، ولا يعبده في الشدَّة. والحرف: مأخوذ من الانحراف، وهو الميل.
والعلم ها (2) هنا: بمعنى: المعلوم، كما قال تعالى (3) : } ولا يحيطون بشيء من علمه { (4) ؛ أي: من معلوماته. وهذا من الخضر عليه السلام تمثيل؛ أي: معلوماتي ومعلوماتك في علم الله تعالى لا أثر لها، كما أن ما أخذ (5) هذا العصفور &(6/173)&$ من هذا البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر. وإنما مثَّل له ذلك بالبحر (6) ؛ لأنه أكبر (7) ما نشاهده (8) مما بين أيدينا. وهذا نحو مما (9) قاله تعالى: } قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي { (10) . وإطلاق لفظ النقص هنا تجوُّز قُصدَ به التمثيل، والتَّفهيم (11) ؛ إذ لا نقص في علم الله تعالى ولا نهاية لمعلوماته. وقد أورد البخاري (12) هذا اللفظ من رواية ابن جريج على لفظ أحسن مساقًا من هذا وأبعد عن الإشكال، فقال: «ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا =(6/215)=@ كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من البحر»؛ وهو مفسِّر للفظٍ كتاب (13) مسلم. والله تعالى أعلم.
وفي هذا الحديث تنبية على أصول عظيمة:
منها: أن لله (14) تعالى بحكم مِلْكه ومُلْكه أن (15) يفعل ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء مما ينفعنا، أو يضرنا، فلا مدخل لعقولنا في أفعاله، ولا معارضة لأحكامه، بل يجب علينا الرضا والتسليم، فإنَّ إدراك العقل لأسرار أحكام الربوبية قاصر سقيم، فلا يتوجه عليه في فعله لِمَ ؟ وكيف؟ كما لا يتوجه عليه في وجوده أين (16) ؟ وحيث.
ومنها: أن العقل لا يُحسِّن، ولا يقبح، وأن ذلك راجع إلى الشرع، فما حسَّنه بالثناء عليه فهو حسن، وما قبَّحه بالذم عليه فهو القبيح (17) .
ومنها: أن لله تعالى فيما يجريه حكمًا وأسرارًا راعاها، ومصالح راجعة إلى خلقه اعتبرها. كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه، ولا حكمًا (18) عقلي يتوجَّه إليه، بل ذلك بحسب ما سبق في علمه، ونافذ حكمه، فما اطلع عليه من تلك %(3/1041)%
__________
(1) الآية (11) من سورة الحج .
(2) قوله: «ها» سقط من (ح).
(3) في (ح): «كما قال ولا يحيطون».
(4) الآية (255) من سورة البقرة .
(5) في (ق): «كما أخذ».
(6) قوله: «وإنما مثل له ذلك بالبحر» سقط من (ح).
(7) في (ك) و(ق): «أكثر».
(8) في (ح) و(ق): «يشاهده».
(9) في (ك): «ما».
(10) الآية (109) من سورة الكهف .
(11) في (ق) و(م): «التفهم».
(12) (8/411-412 رقم4726) في التفسير، باب } فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما { .
(13) قوله: «كتاب» سقط من (ك) و(ق).
(14) في (ق): «أن الله».
(15) قوله: «أن» سقط من (ك).
(16) الصواب أنه يجوز السؤال عن الله بأين؟ كما ثبت ذلك في "صحيح مسلم" من حديث معاوية بن الحكم السلمي في قصة الجارية إذ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجارية: «أين الله؟ » قالت: في السماء، قال: «اعتقها فإنها مؤمنة».
(17) الشرع الصحيح لا ينافي العقل السليم، فكل ما جاء به الشرع يوافق الفطر السليمة والعقول التي لم تتلوث، فالشرع يأمر دائمًا بالحسن وينهى عن القبيح، وإذا اختل العقل او تلوث اضطرب عنده ميزان التقبيح والتحسين .
(18) في (ق): «حكم».(3/1041)
الأسرار عرف، وما لا فالعقل عنده يقف. وحذار من الاعتراض (1) والإنكار! &(6/174)&$ فإنَّ ذلك (2) إلى الخيبة وعذاب النَّار.
ومنها: أنَّه عالم بما كان، وبما يكون، وبما لا يكون: أن لو كان كيف كان يكون. وفوائد هذا الحديث كثيرة، وعلومه غزيرة، وفيما ذكرناه كفاية. والله الموفق للهداية.
تنبيه على مَغْلَطتين:
الأولى: وقع لبعض الجهَّال: أن الخضر أفضل من موسى عليهما السلام (3) ؛ متمسِّكًا بهذه القصة، وبما اشتملت عليه. وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة، ولم ينظر (4) في شيء من أحوال موسى - صلى الله عليه وسلم - ، ولا فيما خصَّه الله تعالى به (5) من الرسالة، وسماع كلام الله تعالى المنزه عن الحروف والأصوات (6) ، وإعطائه التوراة التي فيها علم كل شيء، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته، ومخاطبون بأحكام توراته حتى عيسى =(6/217)=@ - صلى الله عليه وسلم - ، ألا ترى: أن الله تعالى قال: } إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا (7) { (8) ، والإنجيل وإن كان هدى فليس فيه من الأحكام إلا قليل، ولم يجيء عيسى - صلى الله عليه وسلم - ناسخًا لأحكام التوراة، بل معلمًا لها، ومبيِّنًا أحكامها، كما قال تعالى حكاية عنه: } ويعلمه (9) الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل { (10) . وعلى هذا فهو أَمَامَهم، و (11) إِمامهم، وأعلمهم، وأفضلهم. ويكفي من ذلك قوله تعالى: } يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي { (12) ، وأن موسى من أولي العزم من الرسل، وأن أول من ينشق (13) عنه القبر (14) نبينا - صلى الله عليه وسلم - (15) ، فيجد موسى - صلى الله عليه وسلم - متعلقًا (16) بساق العرش (17) ، وأنه ليس في محشر يوم القيامة أكثر (18) من أمَّته بعد أمَّة نبينا - صلى الله عليه وسلم - (19) ، إلى غير ذلك من فضائله.
فأما الخضر - صلى الله عليه وسلم - فلم يُتَّفق على أنَّه نبي، بل هو أمرٌ مختلف فيه؛ هل هو نبي أو ولي، فإنَّ (20) كان نبيًا فليس برسول بالاتفاق؛ إذ لم يقل أحدٌ: أن الخضر - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى أمَّة، والرَّسول أفضل من نبي ليس برسول. وإن (21) تنزلنا على أنه رسول؛ فرسالة موسى أعظم، وأمَّته أكثر (22) ، فهو أفضل. وإن قلنا: إن %(3/1042)%
__________
(1) قوله: «و» مطموس في (ح).
(2) في (ح) و(ق): «فإن مآل ذلك».
(3) في (ق): «موسى عليه أفضل الصلاة والسلام».
(4) في(ح): «يتطرق».
(5) قوله: «به» سقط من (ب) و(ق) و(م).
(6) أهل السُّنة والجماعة على إثبات الحرف والصوت في كلام الله سبحانه وتعالى. راجع صفحة (....).
(7) قوله: «للذين هادو» سقط من (ك).
(8) الآية (44) من سورة المائدة .
(9) في (ك): «ونعلمه».
(10) الآية (48) من سورة آل عرمان .
(11) قوله: «أمامهم و» سقط من (ك).
(12) الآية (144) من سورة الأعراف .
(13) في (ق): «تنشق».
(14) في (ق): «الأرض».
(15) تقدم باب في فضائل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
(16) في (ق): «معلقًا».
(17) سيأتي في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تخيروا بين الأنبياء .
(18) في (ك): «أكبر».
(19) تقدم في باب الإيمان، باب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر الأنبياء اتباعًا .
(20) في (ق): «وإن».
(21) في (ح) و(ك): «ولو» بدل «وإن».
(22) في (ك): «أكبر».(3/1042)
الخضر كان (1) &(6/175)&$ وليًا؛ فلا إشكال أن النبي أفضل من الولي. وهذا أمرٌ مقطوع به عقلاً ونقلاً، والصائر إلى خلافه كافر، فإنَّه أمرٌ معلوم من الشرائع بالضرورة؛ ولأنه واحد من أمَّة موسى، أو غيره من الأنبياء، ونبي كل أمَّة أفضل منها قطعًا، آحادًا وجمعًا؛ وإنَّما كانت قصة (2) موسى مع الخضر امتحانًا لموسى ليتأدَّب ويعتبر، كما قد ابتلي غيره من الأنبياء بأنواع من المحن والبلاء.
المغلطة (3) الثانية: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق يلزم منه هَدُّ (4) الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية (5) إنما يحكم بها على الأغنياء (6) =(6/217)=@ والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل: إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. قالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوّها (7) عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون (8) بها عن أحكام الشرائع والكليات (9) ، كما اتَّفق للخضر؛ فإنَّه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم عما (10) كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك (11) المفتون (12) .
قال الشيخ: وهذا القول زندقة، وكفر يُقتل قائله، ولا يستتاب؛ لأنَّه إنكار ما علم من الشرائع، فإنَّ الله تعالى قد أجرى سُنَّته، وأنفذ حكمته؛ بأنَّ أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه، وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالاته وكلامه، المبينون (13) شرائعه وأحكامه، اختارهم (14) لذلك وخصَّهم بما هنالك، كما قال الله (15) تعالى: } الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس { (16) ، وقال: } الله أعلم حيث يجعل رسالته { (17) ، وقال تعالى: } كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق (18) ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه { (19) ، وأمر (20) بطاعتهم في كل ما جاؤوا %(3/1043)%
__________
(1) قوله: «كان» سقط من (ق).
(2) في (ح): «قضية».
(3) في (ق): «الغلطة».
(4) في (ح): «هذا»، وفي (ك): «هذه».
(5) في (ح): «الشرعية العامة»، وفي (ك): «الشرعية والعامة».
(6) في (ح) و(م): «الأغبياء».
(7) في (ك): «وجلوها».
(8) في (ق): «فيسعنون».
(9) في (ح) و(ك): «الكليات»، بدون واو .
(10) في (ق): «كما».
(11) تصحفت في (ك): «وإلى أفتان».
(12) رُوي من حديث: 1 - وابصة بن معبد: وله طريقان: أ - أيوب بن عبدالله بن مكرز، عنه: أخرجه أحمد (4/228)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/144-145)، والدارمي (2/245-246) في البيوع، باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وأبو يعلى (3/160-161 و162 رقم1586 و1857)،?والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (5/386-387 رقم2139)، والطبراني في "الكبير" (22/148-149 رقم 403)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/24)، و(6/255) جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله بن مكرز، عن وابصة قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أريد أن لا ادع شيئًا من البر والإثم إلا سألته عنه، فانتهيت إليه وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه، فجعلت أتخطاهم لأدنو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتهرني بعضهم وقال: إليك يا وابصة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت: فقلت: دعوني فوالله إن أحب الناس إلي أن أدنو منه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: «دعوا وابصة»، ثم قال: «ادن يا وابصة! ادن يا وابصة !» فأدناني حتى قعدت بين يديه، فقال: «سل أو أخبرك»، فقلت: لا، بل أخبرني قال: «جئت تسألني عن البر والإثم؟ » قلت: نعم، فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري ويقول: «يا وابصة! استفت نفسك - قالها ثلاثًا -، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك».
في إحدى روايات أحمد: أن الزبير لم يسمع من أيوب، قال: وحدثني جلساؤه، وقد رأيته .
قال الحافظ ابن رجب في " جامع العلوم والحكم" (2/94): ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما ضعفه أحدهما: الانقطاع بين أيوب والزبير، فإنه رواه عن قوم لم يسمعهم. والثاني: ضعف الزبير هذا، قال الدارقطني: روى أحاديث مناكير، وضعفه ابن حبان أيضًا.?
وأعله البخاري في "تاريخه" (....) فقال عقب روايته: ولم يذكر سماع بعضهم من بعض .
وقال أبو نعيم: غريب من حديث الزبير أبي عبدالسلام، لا أعرف له راويًا غير حماد.
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/175): رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه: أيوب بن عبدالله بن مكرز، قال ابن عدي: لا يتابع على حديثه، ووثقه ابن حبان .?
والزبير أبو عبدالسلام: روى عن أيوب بن عبدالله بن مكرز، روى عنه حماد بن سلمة، ذكره أبو أحمد الحاكم في "الكنى"، ونقل عن ابن معين أنه ذكره برواية حماد بن سلمة فقط، ولم يذكر فيه جرحًا، وذكره ابن حبان في الثقات (4/26، وفي "التقريب" (ص160 رقم622): مستور. وانظر "تعجيل المنفعة" (1/544 رقم331).?
ب - أبو عبدالله السلمي، عنه: أخرجه أحمد (4/227)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/144)، والطبراني في "الكبير" (22/147-148 رقم 402). ثلاثتهم عن معاوية بن صالح، عن أبي عبدالله الأسدي، عن وابصة، به .?
قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/94): والسلمي هذا ما قال علي بن المديني: هو مجهول .
وسماه بعضهم: أبو عبدالله الأسدي.
وقد تحرف عند الإمام أحمد إلى: أبو عبدالرحمن السلمي، والتصويب من أطراف المسند (5/438رقم7499)، ولم أجد للسلمي ترجمة في تعجيل المنفعة، وهو على شرطه.
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/175): رواه أحمد والبزار، وفيه: أبو عبدالله السلمي، وقال في البزار: الأسدي، عن وابصة، وعنه معاوية بن صالح، ولم أجد من ترجمه .
والحديث حسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1/224 رقم948).
2 - حديث أبي ثعلبة الخشني: أخرجه أحمد (4/194) عن زيد بن يحيى الدمشقي، عن عبدالله بن العلاء - تحرف في المطبوع إلى: عبدالعلاء، والتصويب من "أطراف المسند"(6/116 رقم7894)-، قال: سمعت مسلم بن مشكم، قال: سمعت الخشني يقول: قلت: يا رسول الله! أخبرني بما يحل لي ويحرم علي؟ قال: فصعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصوَّب فيَّ النظر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وان أفتاك المفتون».?
قال الحافظ ابن رجب في " جامع العلوم والحكم" (2/95): وهذا أيضًا إسناد جيد، وعبدالله بن العلاء بن زبر ثقة مشهور، ومسلم بن مشكم ثقة مشهور أيضًا .
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/176): رواه أحمد والطبراني، وفي الصحيح طرف من أوله، ورجاله ثقات .
(13) في (ق): «البينون».
(14) في (ك): «أخبارهم».
(15) قوله: «الله» ليس في (ح).
(16) الآية (75) من سورة الحج .
(17) الآية (124) من سورة الأنعام، وفي (ح): «رسالاته» .
(18) قوله: «بالحق» ليس في (ح).
(19) الآية (213) من سورة البقرة .
(20) في (ك): «ولما مر».(3/1043)
به، وأخبر: &(6/176)&$ أن الهدى في طاعتهم، والاقتداء بهم، في غير موضع من كتابه، وعلى ألسنة (1) رسله، كقوله (2) تعالى: } وأطيعوا (3) الله وأطيعوا الرسول { (4) ، وكقوله (5) : } وما أرسلنا من رسولٍ إلا ليطاع بإذن الله { (6) ، وقال: } أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده { (7) ، وقال: } وإن تطيعوه تهتدوا { (8) ، وقال في (9) - صلى الله عليه وسلم - : «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكم بهما، كتاب الله، وسُنَّة نبيه» (10) . ومثل هذا لا يُحصى كثرة. =(6/218)=@
وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، وإجماع السَّلف، والخلف: على ألاَّ (11) طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل (12) الكرام (13) . فمن قال: إن هناك طريقًا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يُستغنى بها (14) عن الرسل، فهو كافر، يقتل (15) ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب (16) ، ثم هو قول بإثبات أنبياء (17) بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي (18) بعده ولا رسول، وبيان ذلك: أنه (19) من قال: يأخذ عن قلبه (20) ، وإن ما وقع فيه هو (21) حكم الله، وأنه (22) يعمل (23) بمقتضاه، وإنه لا يحتاج في ذلك إلى كتاب (24) ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإنَّ هذا نحو مما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن روح القدس نفث في روعي» (25) ، ولقد سمعنا (26) عن بعض الممخرقين المتظاهرين بالدِّين (27) أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى؛ وإنَّما آخذ عن الحي الذي لا يموت، وإنما أروي عن قلبي عن ربي، ومثل هذا كثير، فنسأل الله الهداية، والعصمة، وسلوك طريق سلف هذه الأمَّة، ولا حول ولا قوة إلا بالله . =(6/219)=@ &(6/177)&$ %(3/1044)%
__________
(1) قوله: «ألسنة» بياض في (ح).
(2) في (ح): «كما قال» بدل كقوله.
(3) في (ح) و(ق): «أطيعوا» بلا واو.
(4) الآية (92) من سورة المائدة .
(5) في (ك): «وبقوله».
(6) الآية (64) من سورة النساء .
(7) الآية (90) من سورة الأنعام .
(8) الآية (54) من سورة النور .
(9) قوله: «في» سقط من (ح). و(ق).
(10) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/899) بلاغًا .
قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (24/331): «وهذا أيضًا محفوظ معروف مشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم شهرة يكاد يستغني بها عن الإسناد، وروي في ذلك من أخبار الآحاد أحاديث من أحاديث أبي هريرة وعمرو بن عوف».?
أما حديث أبي هريرة: فأخرجه الدارقطني (4/245)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/250)، والحاكم (132)، والبيهقي (10/114)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (24/331)، في "الجامع" (1/111)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/56). كلهم من طريق صالح بن موسى الطلحي، عن عبد العزيز?بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به مرفوعًا .?
وأما حديث عمرو بن عوف: فأخرجه ابن عبدالبر في "التمهيد" (24/331)، وفي "جامع بيان العلم" (1389) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده مرفوعًا. وكثير هذا ضعيف .
والحديث له شواهد كثيرة جدًّا منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (8/12) من حديث جابر الطويل في صفة الحج، وفيه: وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ... الحديث .?
ومنها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (2740) من حديث ابن أبي أوفى، وفيه: أوصى بكتاب الله .?
وانظر ما جمعه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسة الصحيحة (1761) حول حديث العترة وطرقه...
(11) قوله: «ألا» بياض في (ح).
(12) قوله: «الرسل» بياض في (ح).
(13) قوله: «الكرام» سقط من (ك).
(14) قوله: «بها» سقط من (ح).
(15) قوله: «يقتل» بياض في (ح).
(16) في (ق): «وجواب»
(17) في (ح): «نبوة».
(18) في (ق): «ولا نبي».
(19) في (ك): «أن».
(20) قوله: «عن قلبه» سقط من (ح).
(21) في (ق): «فهو».
(22) في (ك): «وأن».
(23) في (ق): «يعلم».
(24) في (ح): «من» بدل «عن».
(25) روي من حديث جماعة من الصحابة منهم: عبدالله بن مسعود: أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/4) من طريق الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن سعيد بن أبي أمية الثقفي، عن يونس بن بكير، عن ابن مسعود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... إن جبريل عليه السلام ألقى في روعي: أن أحدًا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه ...، الحديث .
وفي سنده: سعيد بن أمية لم أجد من ترجم له .
ويونس بن بكير: صدوق يخطيء، كما في "التقريب" (ص1098 رقم 7957).
وله طريق أخرى: يرويه إسماعيل بن أبي خالد واختلف عليه. فأخرجه القضاعي (2/185 رقم1151)، والبغوي (14/304 رقم4112). كلاهما من طريق هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن زبيد اليامي، عمن أخبره عن ابن مسعود، فذكره .
وخالفه أبو أسامة، وأبو حمزة: فاخرجه البغوي (14/303-304 و303 و304 رقم4111 و4113) من طريق أبي أسامة، وأبي حمزة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زبيد، وعبد الملك بن عمير، عن ابن مسعود، فذكره .
(26) في (ح): «من» بدل «عن».
(27) قوله: «بالدين» سقط من (ق).(3/1044)
- - - - -
ومن باب وفاة موسى - صلى الله عليه وسلم -
قوله: «جاء ملك الموت إلى موسى - صلى الله عليه وسلم - فقال: أجب ربَّك، فلطم (1) موسى عين ملك الموت ففقأها، فرجع (2) إلى ربِّه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت»؛ ظاهر هذا الحديث: أن ملك الموت تمثل لموسى في صورة لها عين، وأنه دعاه لقبض (3) روحه، وأن موسى عرف أنه ملك الموت، وأنه لطمه (4) بيده على عينه (5) ففقاها، ولما ظهر هذا من (6) هذا الحديث شنَّعته (7) الملحدة، وقالوا: إن هذا =(6/220)=@ كله محال، ولا يصح .
وقد اختلفت أقوال علمائنا في تأويل هذا الحديث. فقال بعضهم: كانت عينًا (8) متخيَّلة لا حقيقية (9) . ومنهم من قال: هي عين (10) معنوية. وإنما فقأها (11) بالحجَّة، وهذان القولان لا يلتفت إليهما لظهور فسادهما، وخصوصًا الأول؛ فإنَّه يؤدي إلى: أن (12) ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له (13) ، وهو قول باطل بالنصوص المنقولة، والأدلة المعقولة. ومنهم من قال: كان ذلك ابتلاء وامتحانًا لملك الموت؛ فإنَّ الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء. وهذا ليس بجواب، فإنَّه إنما وقع الإشكال في صدور سبب هذا %(3/1045)%
__________
(1) في (ح) و(ك): «قال فلطم».
(2) قوله: «فرجع» لم يتضح في (ح).
(3) في (ح) و(ك): «ليقبض».
(4) قوله: «لطمه» مطموس في (ك).
(5) قوله: «بيده على عينه» لم يتضح في (ح).
(6) في (ك): «من هذا».
(7) في (ب) و(ق) و(م): «شعثته».
(8) قوله: «عينًا» سقط من (ك).
(9) في (ك): «حقيقة».
(10) في (ك): «غير».
(11) في (ك): «فعلها».
(12) قوله: «أن» سقط من (ق).
(13) قوله: «له» بياض في (ح).(3/1045)
الإمتحان من موسى، وكيف يجوز وقوع مثل هذا؟ وأشبه ما قيل فيه: ما قاله الشيخ (1) الإمام أبو بكر بن خزيمة؛ وهو أن موسى - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف ملك الموت، وأنه رأى رجلاً دخل في (2) منزله بغير إذنه يريد نفسه، فدافع عن نفسه، فلطم عينه، ففقاها. وتجب المدافعة في مثل (3) هذا بكل ممكن. وهذا وجه حسن، غير أن هذا اعترض عليه بما في الحديث، وهو أن &(6/178)&$ ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال: «يا رب! أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت»، فلو لم يعرفه موسى - وإنما دفعه (4) عن نفسه - لما صدق هذا القول من ملك الموت.
قال الشيخ رحمه الله: وقد أظهر لي ذو (5) الطول (6) والإفضال وجهًا حسنًا يحسم مادة الإشكال؛ وهو أن موسى عَرَف ملك الموت، وأنه جاء (7) ليقبض روحه، لكنه جاء مجيء الجازم (8) بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - من: «أن الله تعالى لا يقبض روح نبي حتى يخيره» (9) ؛ فلمَّا جاءه على غير الوجه الذي عَلِم (10) به، بادر بشهامته، وقوة نفسه إلى أدب ملك الموت، فلطمه فانفقأت عينه امتحانًا لملك الموت؛ إذ لم يصرح له بالتخيير، ومما يدل على صحة هذا: أنه لما رجع إليه ملك الموت، فخيَّره بين الحياة (11) والموت؛ اختار الموت واستسلم، وهذا الوجه - إن شاء الله تعالى - أحسن ما قيل فيه وأسلم، وقد تقدَّم القول =(6/221)=@ في تمثل الملائكة في الصور المختلفة عقلاً، وثبوت وقوع ذلك نقلاً.
وقوله: «قال: أي رب! ثم مه ؟ قال ؟ ثم الموت. قال: فالآن»؛ «مه»: هي ما الاستفهامية، لما وقف عليها زاد عليها هاء السكت وهي: لغة العرب إذا وقفوا على أسماء %(3/1046)%
__________
(1) قوله: «الشيخ» سقط من (ك).
(2) قوله: «في» سقط من (ق) و(م).
(3) قوله: «مثل» سقط من (ح) و(ك).
(4) في (ح): «دافعه».
(5) في (ق): «ذوا» كذا رسمت.
(6) قوله: «الطول» سقط من (ك).
(7) في (ك): «جاءه».
(8) في (ك): «الخاذم».
(9) سيأتي في باب فضائل عائشة ومريم وآسية .
(10) في (ح) و(ق): «اعلم».
(11) قوله: «الحياة» لم يتضح في (ح).(3/1046)
الاستفهام، نحو: عمه، ولمه، وفيمه (1) ، فإذا (2) وصلوا حذفوها (3) . و«فالآن»: ظرف زمان غير متمكن، وهو اسم لزمان الحال الذي يكون المتكلم عليها، وهو الزمان الفاصل بين الماضي والمستقبل، وهذا يدلّ على: أن موسى لما خيَّره الله تعالى بين الحياة والموت؛ اختار الموت شوقًا (4) للقاء الله عز وجل، واستعجالاً لما له (5) عند الله من الثواب (6) والخير (7) ، واستراحة من الدنيا الكدره. وهذا كما خُيِّر نبينا - صلى الله عليه وسلم - عند موته، فقال: «اللهم الرفيق الأعلى» (8) .
وقوله: «فسأل الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدسة (9) رمية بحجر»؛ أي: &(6/179)&$ مقدار رمية بحجر، فهو منصوب على أنه ظرف مكان. والأرض المقدسة: هي البيت (10) المقدَّس؛ وإنَّما سأل موسى - صلى الله عليه وسلم - ذلك تبركًا بالكون في تلك البقعة، وليدفن مع من فيها من الأنبياء، والأولياء؛ ولأنها أرض المحشر على ما قيل (11) .
وقوله: «ولو كنتُ ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر»؛ ثمَّ - مفتوحة الثاء (12) -: اسم يشار به إلى موضع، فأمَّا ثمَّ -بضم الثاء -: فحرف عطف. ويعني بالطريق: طريق بيت المقدس، وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ في طريقه إلى بيت المقدس - ليلة أسري به - بقبر موسى - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم يصلي فيه (13) ، وهذا يدل على أن قبر موسى أخفاه الله تعالى عن الخلق، ولم يجعله مشهورًا عندهم، ولعل ذلك لئلا يُعْبَد، والله أعلم. وقد وقع في الرواية الأخرى (14) : «إلى جانب الطور» =(6/222)=@ مكان: «الطريق». والطور: الجبل بالسريانية، وقال أيضًا في الرواية الأخرى: «فما توارت يدك» (15) مكان: «غطَّت (16) يدك (17) »، وهو بمعناه. والتاء فيه زائدة؛ لأنَّ معناه: وارت، والله أعلم (18) . %(3/1047)%
__________
(1) في (ح) و(ق): «عم ولم وفيم».
(2) في (ح): «وإذا».
(3) في (ق): «خذفوها».
(4) في (ح): «تشوفًا»، وفي (ك): «تشوقًا».
(5) قوله: «له» سقط من (ك).
(6) في (ح): «المواهب».
(7) في (ك): «الأجر».
(8) سيأتي في باب فضائل عائشة ومريم وآسية .
(9) في (ق): «المقدسية».
(10) في (ك): «بيت».
(11) أخرجه أحمد (6/463)، وابن ماجه (1/451 رقم1407) في الإقامة، باب ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس، وأبو يعلى (2/73 رقم1353/كما في المطالب العالية)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/69-70 رقم610)، جميعهم من طريق عيسى بن يونس، عن ثور بن يزيد، عن زياد بن أبي سودة، عن أخيه عثمان بن أبي سودة، عن ميمونة مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: قلت يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟ قال: «أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره». قلت: أرأيت إن لم استطع أن أتحمل إليه، قال: «فتهدي له زيتَا يسرج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه».
ورواه أبو داود (1/315 رقم457) في الصلاة، باب في السرج في المساجد، عن النفيلي، عن مسكين، عن سعيد بن عبد العزيز، عن زياد بن أبي سودة، عن ميمونة مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكرته. ولم يذكر فيه: «عثمان بن أبي سودة».
قال البوصيري في "الزوائد" (1/454): روى أبو داود بعضه من حديث ميمونة أيضًا عن النفيلي، عن مسكين بن بكير ... وإسناد طريق ابن ماجه صحيح رجاله ثقات، وهو أصح من طريق أبي داود، فإن بين زياد بن سودة وميمونة: عثمان بن أبي سودة كما صرح به ابن ماجه في طريقه، وكما ذكره العلائي صلاح الدين في المراسيل .
ووقع عند أبي يعلى: عن ميمونة بنت الحارث زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو خطأ نبه عليه البوصيري، والحافظ ابن حجر .
وسيأتي عند المصنف في الفتن وأشراط الساعة، باب الآيات العشر التي تكون قبل الساعة، من حديث حذيفة بن أسيد: وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. باب .... رقم ....
(12) في (ح): «الفاء».
(13) تقدم في باب ذكر موسى عليه السلام .
(14) ابن حبان في "صحيحه" (6223). وإسناده صحيح .
(15) مسلم (4/1843 رقم2372/158) في الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام .
(16) في (ق): «عظت» كذا رسمت.
(17) قوله: «يدك» سقط من (ح).
(18) قوله: «والله أعلم» سقط من (ح) و(ك).(3/1047)
- - - - -
ومن باب ذكر يونس ويوسف وزكريا صلى الله عليهم وسلم
قوله: «لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى»؛ أي لا يصلح، ولا يجوز. و «لعبدٍ»: منوَّن مُنكَّر؛ أي: لعبد من عباد الله، وفي الرواية الأخرى: &(6/180)&$ «لعبدي» بإضافته إلى ياء المتكلم، وهو الله تعالى في هذه الرواية، فيحتمل أن يراد به النكرة (1) ، فتكون إضافته غير محضة، كما قال الشاعر:
وسائلي بمزعجي (2) عن وطني ما ضاقَ بي جنابُه ولا نبا (3)
فأدخل «ربَّ» على « سائلي»؛ مع أنه مضاف إلى ياء المتكلم، فدل على: أنه لم يرد به سائلاً واحدًا، فكأنه قال: ورب سائل (4) ، وكذلك الوطن في قوله: عن وطني؛ =(6/223)=@ لأن الجملة التي (5) بعده صفة له؛ أي: عن وطن لم ينب بي جنابه؛ أي: غير ناب. ويصح أن تكون (6) إضافة «عبدي» محضة ومعرفة، ويعني به: عبدي المكرم عندي، كما قال: } إن عبادي ليس لك عليهم سلطان { (7) ؛ أي: عبادي (8) المكرمون عندي، والمشرفون لدي، وقد شهد لهذا المعنى ما قد روي في كتاب أبي داود (9) في هذا الحديث: «لا ينبغي لنبي أن يقول: أنا خير من يونس»؛ كما قد روي أيضًا ما يشهد بتنكير «عبد» في كتاب مسلم: «لا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس» (10) ، وعلى هذا فيقيد مطلق الرواية الأولى بمقيد هذه الرواية، فيكون معناه: لا ينبغي لعبد نبي أن يقول: أنا خير من يونس. وهذا هو الأولى؛ لأنَّه (11) من ليس بنبي لا يمكنه بوجه أن يقول: أنا أفضل من النبي؛ لأنه من المعلوم (12) الضروري عند المتشرعين: أن درجة النبي لا يبلغها وليٌّ، ولا غيره؛ وإنما يمكن ذلك في الأنبياء، لأنهم صلوات الله وسلامه عليهم قد تساووا في النبوة، وتفاضلوا فيما (13) بينهم بما خصَّ به بعضهم دون بعض؛ فإنَّ منهم من اتخذه (14) الله خليلاً، ومنهم من اتخذه حبيبًا (15) ، ومنهم %(3/1048)%
__________
(1) من قوله: «وهو الله تعالى...» إلى هنا سقط من (ق).
(2) في (ق) و(م): «بمعجزي».
(3) "ديوان ابن دريد" قصيد المقصورة (ص123).
(4) في (ك): «وسائل لي».
(5) قوله: «التي» سقط من (ح).
(6) في (ق): «يكون»
(7) الآية (42) من سورة الحجر .
(8) قوله: «عبادي» سقط من (ح).
(9) في "سننه" (5/51 رقم4670) في السنة، باب في التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
(10) سيأتي في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تخيروا بين الأنبياء .
(11) في (ك): «هو الأول لأن» وفي (ق): «هو الأولى لأن».
(12) في (ك): «من باب المعلوم».
(13) في (ك): «فيها».
(14) في (ق): «اتخذه الله حبيبا».
(15) يشير إلى ما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «وأنا حبيب الله ولا فخر». وهو حديث ضعيف، تقدم تخريجه ....(3/1048)
أولو العزم، ومنهم من كلَّم الله على ما هو المعروف من أحوالهم، &(6/181)&$ وقد قال الله تعالى: } تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض { (1) ، فإن قيل: إذا (2) كانوا متفاضلين في أنفسهم فكيف ينهي عن التفضيل؟ وكيف لا يقول (3) من هو في درجة عليا: أنا خير من فلان، لمن هو دونه، على جهة الإخبار عن المعنى الصحيح ؟ فالجواب: أن مقتضى هذا الحديث المنع من إطلاق ذلك (4) اللفظ، لا المنع من اعتقاد معناه أدبًا مع يونس، وتحذيرًا من أن يفهم في يونس نقص من إطلاق ذلك اللفظ. وإنما خصَّ يونس - صلى الله عليه وسلم - بالذكر في هذا الحديث؛ لأنَّه لما دعا قومه للدخول (5) في دينه، فأبطؤوا عليه ضجر، واستعجل بالدعاء عليهم، ووعدهم بالعذاب بعد =(6/224)=@ ثلاث، وفرَّ منهم، فرأى قومه دخانًا، ومقدمات (6) العذاب الذي وعدهم به، فآمنوا به، وصدَّقوه، وتابوا إلى الله تعالى، فردُّوا (7) المظالم حتى ردُّوا حجارة مغصوبة كانوا بنوها، ثم إنهم فرقوا بين الأمهات وأولادهم، ودعوا الله تعالى، وضجُّوا بالبكاء والعويل، وخرجوا طالبين يونس فلم يجدوه، فلم يزالوا كذلك (8) حتى كشف الله تعالى عنهم العذاب، ومتعهم إلى حين، وهم أهل نينوى من بلاد الموصل على شاطىء دجلة، ثم إن يونس ركب في سفينة فسكنت ولم تجر، فقال أهلها: فيكم آبق. فقال: أنا هو. فأبوا أن يكون هو الآبق فقارعهم، فخرجت القرعة عليه، فرمي في البحر، فالتقمه حوت كبير، فأقام في بطنه ما شاء الله، وقد اختلف في عدد ذلك من يوم إلى أربعين، وهو في تلك المدة يدعو الله تعالى، ويسبحه إلى أن عفا الله عنه، فلفظه الحوت في ساحل لا نبات فيه، وهو كالفرخ، فأنبت الله تعالى عليه من حينه شجرة اليقطين، فسترته بورقها. وحكى أهل التفسير (9) : أن الله تعالى: قيض له أروى (10) ترضعه إلى أن قوي، فيبست الشجرة، فاغتم لها وتألم، فقيل (11) له: أتغتم وتحزن (12) لهلاك (13) شجرة، ولم (14) تغتم على هلاك (15) مائة ألف أو يزيدون ؟ وقد دلَّ على صحَّة ما ذكر قوله تعالى: } وإن &(6/182)&$ يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون ... { الآيات إلى آخرها (16) ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن للنبوة أثقالاً، كاد (17) يونس (18) يتفسخ (19) تحتها تفسُّخَ الرُّبَع (20) » (21) ، أو كما قال. %(3/1049)%
__________
(1) الآية (253) من سورة البقرة .
(2) في (ك): «فإذا».
(3) في (ق): «لا نقول».
(4) في (ح): «تلك».
(5) في (ق): «في الدخول» بدل «للدخول».
(6) في (ك): «أو مقدمات».
(7) في (ح): «وردوا».
(8) في (ح): «على ذلك».
(9) في (ح): «التصنيف».
(10) أروى: للجمع الكثير من إناث الوعول، واولاحدة: أُروِيَّة. "القاموس"(1291).
(11) في (ح): «وقيل».
(12) في (ح): «أتحزن وتغتم».
(13) في (ق): «بهلاك».
(14) في (ح): «ولا».
(15) قوله: «هلاك» سقط من (ق).
(16) (139-148) من سورة الصافات .
(17) في (ب) و(م): «كان».
(18) في (ح): «انقافا كاد يونس أن».
(19) يتفسخ: أي يضعف ويعجز .
(20) في (ح): «الرنع». والرُّبَع: هو ولد الناقة في الربيع .
(21) أخرجه الحاكم (2/584-585) عن وهب بن منبه، ولم يصح مرفوعًا .(3/1049)
قال الشيخ رحمه الله: ولما جرى هذا ليونس - صلى الله عليه وسلم - ، وأطلق الله تعالى عليه: أنه =(6/225)=@ } مليم { ؛ أي: أتى بما يلام عليه. قال الله تعالى على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - : «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس»؛ لأن ذلك يوهم نقصًا في نبوته، وقدحًا في درجته، وقد بيَّنَّا أن «لعبد» هنا بمعنى لنبي (1) ، وقد قيل: إنه محمول على غير الأنبياء، ويكون معناه: لا يظن أحد ممن ليس بنبي - وإن بلغ من العلم والفضل والمنازل الرفيعة، والمقامات الشريفة الغاية القصوى - أنه (2) يبلغ مرتبة يونس عليه السلام؛ لأنَّ أقل مراتب النبوة (3) لا يلحقها من ليس من الأنبياء، وهذا المعنى صحيح، والذي صدرنا به الكلام أحسن منه (4) ، والله تعالى أعلم.
وقول السائل: «من أكرم الناس ؟» معناه: من أولى بهذا الاسم؛ ولذلك أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواب كُلِّي، فقال: «أتقاهم»، وهذا منتزع من قوله تعالى: } إن أكرمكم عند الله أتقاكم { (5) ، فلما قالوا: ليس عن (6) هذا نسألك، نزل عن ذلك إلى ما يقابله، وهو الخصوص بشخص معين، فقال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ لأنَّه نبي بن نبي بن نبي بن نبي (7) ، فإنَّ هذا لم يجتمع لغيره من ولد آدم، فهو أحق الناس المعنيين بهذا الاسم. فلما قالوا: ليس عن هذا نسألك تبين له: أنهم سألوه عمن هو أحق بهذا الاسم من العرب (8) ، فأجابهم =(6/226)=@ بقوله: «فعن معادن العرب تسألوني ؟» أي: عن أكرم أصولها، وقبائلها ؟ وقد تقدَّم أن المعدن هو مأخوذ من عَدَن؛ أي: أقام، والعَدْن: الإقامة، ولما كانت أصول قبائل العرب ثابتة سميت معادن. ثم قال: «خيارهم في الجاهلية خيارهم %(3/1050)%
__________
(1) في (ق): «ليس» بدل «لنبي».
(2) في (ك): «أن».
(3) في (ق): «الأنبياء».
(4) قوله: «منه» سقط من (ق).
(5) الآية (13) من سورة الحجرات .
(6) قوله: «عن» سقط من (ق).
(7) قوله: «بن نبي» الأخير سقط من (ك) و(ق).
(8) في (ح): «القرب».(3/1050)
في الإسلام إذا فقهوا»؛ فمعنى هذا: أن?من اجتمع له خصال شرف زمن (1) الجاهلية من: شرف الآباء، ومكارم الأخلاق، وصنائع المعروف، مع شرف دين الإسلام، &(6/183)&$ والتفقه فيه، فهو الأحق بهذا الاسم، وقد تقدَّم أن الكرم: كثرة الخير والنفع، ولما كان تقوى الله تعالى هو الذي يحصل به خير الدنيا والآخرة مطلقًا كان المتصف به أحق؛ فإنَّه (2) أكرم الناس، لكن هذه قضية عامة، فلما نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن تعيّن في الوجود بهذه الصفة، ظهر له أن الأنبياء أحق بهذا المعنى؛ إذ لا يبلغ أحد درجتهم، وإن أحقَّهم بذلك من كان مُعْرِقًا (3) في النبوة، وليس ذلك إلا ليوسف، كما ذكر. ويخرج منه الرد على من قال: إن إخوة يوسف كانوا أنبياء؛ إذ لو كانوا كذلك لشاركوا يوسف في ذلك المعنى، ثم إنه لما نظر النبي (4) - صلى الله عليه وسلم - بين الأعم والأخص ظهر أن الأحق بذلك المعنى: نوع من الأنواع المتوسطة بين الجنس الأعم، والنوع الأخص، وظهر له (5) أنهم أشراف العرب، ورؤساؤهم إذا تفقهوا في الدين، وعلموا وعملوا، فحازوا كل الرتب الفاخرة؛ إذ اجتمع لهم شرف الدنيا والآخرة.
وفيه ما يدلّ على شرف الفقه في الدين، وأن العالم يجوز له أن يجيب بحسب ما يظهر له، ولا يلزمه أن يستفصل السائل عن تعيين (6) الاحتمالات (7) ، إلا إن خاف على السائل غلطًا، أو سوء فهم، فيستفصله، كما قررناه في الأصول.
وقوله: «كان زكريا نجارًا»؛ يدل: على شرف النجارة، وعلى أن التحرُّف بالصناعات (8) لا يغض (9) من مناصب أهل الفضائل، بل نقول: إن الحرف والصناعات =(6/227)=@ غير الركيكة زيادة في فضيلة أهل الفضل، يحصل (10) لهم بذلك التواضع في أنفسهم، والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخليّ عن الامتنان الذي هو خير المكاسب، كما قد نصَّعليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «إن خير ما أكل المرء من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (11) . وقد نقل عن كثير من الأنبياء أنهم كانوا يحاولون الأعمال. فأولهم آدم - صلى الله عليه وسلم - علَّمه الله صناعة الحراثة، ونوح - صلى الله عليه وسلم - علمه الله صناعة النجارة، وداود - صلى الله عليه وسلم - علَّمه الله صناعة (12) الحدادة، وقيل: إن موسى - صلى الله عليه وسلم - كان كاتبًا، كان يكتب التوراة بيده، وكلهم قد رعى الغنم كما قال - صلى الله عليه وسلم - (13) وعليهم أجمعين (14) . &(6/184)&$ %(3/1051)%
__________
(1) في (ك): «في».
(2) في (ح): «بأنه».
(3) في (ك): «معروفا».
(4) قوله: «النبي» ليس في (ح).
(5) في (ح): «فظهر لهم».
(6) في (ك): «نفس».
(7) في (ك): «الاحمالات».
(8) في (ح): يشبه «والصناعات».
(9) في (ك): «لا يغض شيئًا».
(10) في (ك): «فحصل».
(11) أخرجه البخاري (4/303 رقم2072) في البيوع،باب كسب الرجل وعمله بيده.
(12) قوله: «وعليهم أجمعين» سقط من (ح).
(13) ....
(14) في (ق): «علمه صناعة».(3/1051)
- - - - -
ومن باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا تخيروا بين الأنبياء».
أى: لا تقولوا فلان خير من فلان، وفي الرواية الأخرى: «لا تفضلوا»؛ أي: لا تقولوا فلان أفضل من فلان. يقال: خيَّر فلان بين فلان وفلان. وفضَّل (1) - مشدَّدًا -: إذا قال ذلك. واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث على أقوال، فمنهم من قال: إن (2) هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، ويتضمَّن هذا الكلام: أن =(6/228)=@ الحديث معارض لقوله تعالى: } تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض { (3) ، ولِمَا في معنى ذلك من الأحاديث، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وهذا لا يصح حتى تتحقق المعارضة حيث (4) لا يمكن الجمع (5) بوجه، وحتى يُعرف التاريخ، وكل ذلك غير صحيح على ما يأتي، فليس هذا القول بصحيح (6) ، ومنهم من قال: إنما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - على جهة التواضع، والأدب مع الأنبياء، وهذا &(6/185)&$ فيه بُعد؛ لأنَّ السبب الذي خرج عليه (7) هذا النهي يقتضي خلاف ذلك، فإنَّه إنما قال ذلك ردعًا وزجرًا للذي فضَّل. ألا ترى أنه قد (8) غضب عليه حتى احمر وجهه، ونهى عن ذلك، فدلَّ على أن التفضيل يحرم. ولو كان من باب الأدب والتواضع لما صدر منه ذلك. ومنهم من قال: إنما نهى عن الخوض في ذلك؛ لأنَّ ذلك ذريعة إلى الجدال في ذلك، فيؤدى إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر، ويقل احترامهم عند المماراة، وهذا كما نهي (9) عنه من الجدال في القرآن والمماراة. ومنهم من قال: مقتضى (10) هذا النهي: إنما هو المنع من تفضيل معيَّن من الأنبياء على معيَّن، أو على ما يقصد به معيَّن، وإن كان اللفظ عامًا؛ لأنَّ ذلك قد يفهم منه نقص في المفضول كما بيَّنَّاه، فيما تقدَّم. %(3/1052)%
__________
(1) قوله: «وفضل» سقط من (ك).
(2) قوله: «إن» سقط من (ك).
(3) الآية (253) من سورة البقرة .
(4) في (ح): «بحيث».
(5) في (ح): «تجمع».
(6) في (ح): يشبه «صحيح».
(7) في (ح): «على».
(8) قوله: «قد» سقط من (ك).
(9) في (ح): «قد نهي».
(10) قوله: «مقتضى» لم يتضح في (ح).(3/1052)
قال الشيخ رحمه الله: ويدلّ على ذلك: أنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث في "الأم": «ألا (1) تفضلوني على موسى» (2) ، وبدليل قوله: «ولا أقول إن أحدًا أفضل من يونس بن متى»، فإنَّ قيل: فالحديث يدلّ على خلاف هذا، فإنَّ اليهودي فضل موسى على البشر. والمسلم قال: والذي اصطفى محمدًا على البشر. وعند ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا تفضلوا بين الأنبياء، ولا تخيروا بين الأنبياء (3) » (4) ؛ فاقتضى ذلك المنع من التفضيل مطلقًا معينًا (5) وغير معين، فالجواب: أن مراد اليهودي كان (6) إذ ذاك (7) أن =(6/229)=@ يصرح بأن موسى أفضل من محمد، لكنَّه لم يقدر على ذلك خوفًا على نفسه، ألا ترى أن المسلم فهم ذلك عنه، فأجابه بما يقتضي أن محمدًا أفضل من موسى، غير أنَّه قابل لفظ اليهودي بمثله، وقد بيَّن ذلك غاية البيان قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تفضلوني على موسى»؛ فنهاهم عن ذلك، ثم إنا قد وجدنا نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا أكرم ولد آدم على ربي» (8) ، و «أنا سيد ولد آدم» (9) ، ولم يذهب أحدٌ من العلماء إلى أن هذا منسوخ، ولا مرجوح.
قال الشيخ رحمه الله: وهذا الوجه كان (10) حسنًا، فأولى منه أن يحمل الحديث على ظاهره &(6/186)&$ من منع إطلاق لفظ (11) التفضيل بين الأنبياء، فلا يجوز في المعين منهم (12) ، ولا في (13) غيره، فلا (14) يقال: فلان النبي أفضل من الأنبياء كلهم، ولا من فلان، ولا خير (15) ، كما هو ظاهر هذا النهي (16) ، لما ذكر من توهم النقص في (17) المفضول، وإن كان غير معين؛ ولأن النبوة خصلة واحدة لا (18) تفاضل فيها؛ وإنَّما (19) تفاضلوا بأمور غيرها كما بيَّناه قبل هذا الباب. ثم إن (20) هذا النهي يقتضي منع (21) إطلاق ذلك اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإنَّ الله تعالى قد أخبرنا (22) بأن الرسل متفاضلون كما قال تعالى: } تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض { (23) ، %(3/1053)%
__________
(1) في (ح) و(ق): «لا».
(2) مسلم (4/1844 رقم2373/160) في الفضائل، باب من فضائل موسى - صلى الله عليه وسلم - ، ولفظه: «لا تخيروني على موسى».
(3) قوله: «بين الأنبياء» سقط من (ح) و(ك).
(4) أخرجه البخاري (5/70 رقم2412) في الخصومات، باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهود، من حديث أبي هريرة .
وهو عند مسلم (4/1845 رقم2374/163) في الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام، من حديث أبي سعيد الخدري .
(5) في (ك): «ومعينًا».
(6) قوله: «كان» سقط من (ك).
(7) في (ح): «إذ ذاك».
(8) حديث ضعيف، تقدم تخريجه ....
(9) تقدم في فضائل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، باب كونه مختارًا من خيار الناس في الدنيا وسيدهم يوم القيامة .....
(10) في (ح) و(ق): «وإن كان».
(11) قوله: «لفظ» سقط من (ح).
(12) في (ب) و(ق) و(م): «فيهم».
(13) قوله: «في» سقط من (ح) و(ق).
(14) في (ق): «ولا».
(15) قوله: «ولا خير» سقط من (ح).
(16) في (ك): «الحديث».
(17) في (ح): «من» بدل «في».
(18) في (ك): «ولا».
(19) في (ق): «وإن» بدل «وإنما».
(20) قوله: «إن» سقط من (ح) و(ك).
(21) في (ح) يشبه: «بمنع».
(22) في (ح) و(ك): «أخبر».
(23) الآية (253) من سورة البقرة .(3/1053)
وكما قد علمنا أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد خُصَّ بخصائص من الكرامات والفضائل بما لم يُخصّ به أحدٌ منهم، ومع ذلك فلا نقول: نبينا خير من الأنبياء، ولا من فلان النبي اجتنابًا لما نهى عنه، وتأدبًا =(6/230)=@ بأدبه (1) ، وعملاً باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، ورفعا لما يتوهم (2) من المعارضة بين السُّنَّة والتنزيل.
وقوله: «إنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله»؛ أصل الصعق، والصعقة: الصوت الشديد المنكر، كصوت الرعد، وصوت الحمار، وقد يكون معه موت لشدَّته. وهو المراد بقوله تعالى: } فصعق من في السموات ومن في الأرض { (3) ، وقد تكونمعه غشية، وهو المراد بقوله تعالى: } وخرَّ موسى صعقًا { (4) ، فإنَّ كان معه نار فهو الصاعقة، والعرب كلها تقدم (5) العين على القاف إلا بني تميم؛ فإنَّهم يقدمون القاف على العين، فيقولون: الصاقعة، حكاها (6) القاضي عياض (7) .
وقد اختلف في المستثنى: من هو ؟ فقيل: الملائكة، وقيل: الأنبياء، وقيل: الشهداء. والصحيح: أنه لم يرد في تعيينهم (8) خبر صحيح، والكل محتمل، والله تعالى أعلم.
و «الصُّور» قيل: إنه جمع صورة، والصحيح ما قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الصُّور قرن ينفخ فيه» (9) . وسياتي له مزيد بيان. واختلف في عدد &(6/187)&$ النفخات، فقيل: ثلاثة (10) : نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث. وقيل: هما نفختان: نفخة الفزع هي نفخة الصعق؛ لأنَّ الأمرين لازمان (11) لها. والله تعالى أعلم.
وقوله: «ثم ينفخ (12) فيه أخرى، فأكون أول من يبعث (13) ، أو: في (14) أول من يبعث»؛ هذا (15) من الراوي تزيله الرواية الأخرى التي قال فيها: «فأكون أول من يفيق»، وكذلك الحديث (16) المتقدم الذي (17) قال فيه: «أنا أول من ينشق عنه القبر =(6/231)=@ ويبعث» (18) ؛ يعني به: %(3/1054)%
__________
(1) قوله: «بأدبه» سقط من (ق).
(2) في (ك): «توهم».
(3) الآية (68) من سورة الزمر .
(4) الآية (143) من سورة الأعراف .
(5) في (ك): «يقدمون».
(6) في (ح): «حكاه».
(7) في (ق): «عياض».
(8) في (ق): «تعينهم».
(9) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (ص558 رقم1599)، وعنه الترمذي (4/536 رقم2430) في صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الصور، والنسائي في "الكبرى" (6/448 رقم11456).
وأخرجه أحمد (2/162 و192)، والدارمي (2/352) في الرقاق، باب في نفخ الصور، وأبو داود (5/107 رقم4742) في السنة، باب في ذكر البعث والصور، الترمذي (5/348 رقم3244) في التفسير، باب ومن سورة الزمر، والنسائي في "الكبرى" (6/392 و424 و448 رقم11312 و11381 و11456)، وابن حبان (16/303 رقم7312/الإحسان)، والحاكم (2/436 و506) و(4/560)، وأبو نعيم في "الحلية" (7/243) جميعهم من طريق سليمان التيمى، عن أسلم العجلي، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمر: أن أعرابيًّا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما الصور؟ قال: «قرن ينفخ فيه».
قال الترمذي: هذا حديث حسن، إنما نعرفه من حديث سليمان التيمي .
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في "الصحيحة" (3/68-69 رقم1080).
وفي الباب من حديث أبي هريرة: أخرجه ابن منده في "الإيمان" (2/794 رقم811)، والبيهقي في "البعث" (ص325 رقم668)، وعن ابن مسعود موقوفًا، عن الطبراني في "الكبير" (9/353 رقم9755).
(10) في (ك) و(ح): «ثلاث».
(11) في (ك): «لازمين».
(12) في (ح) و(ك): «نفخ».
(13) في (ق): «أول من يبعث» وألحق في الهامش«من أبعث» ووضع (خ).
(14) في (ق): «من» بدل «في».
(15) في (ح) و(ق): «هذا شك».
(16) قوله: «الحديث» لم يتضح في (ح).
(17) في (ح): يشبه «والذي».
(18) تقدم في فضائل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، باب كونه مختارًا من خيار الناس في الدنيا وسيدهم يوم القيامة .....(3/1054)
يحيا بعد موته، وهو الذي عبر عنه في الرواية الأخرى بـ«أفيق (1) »، وإن كان المعروف: أن الإفاقة (2) إنما هي من الغشية، والبعث من الموت، لكنهما لتقارب معناهما أطلق أحدهما مكان (3) الآخر، ويحتمل أن يراد بالبعث الإفاقة على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وقوله: «فإذا موسى متعلِّق بالعرش (4) »؛ هذا من موسى تعلق نزع (5) لهول المطلع، وكأنه متحرِّم بذلك المحل (6) الشريف، ومتمسك بالفضل المنيف.
وقوله: «فلا أدرى أحوسب بصعقة الطور، أو بعث قبلي»؛ هذا مشكل (7) بالمعلوم من الأحاديث الدَّالة على أن موسى - صلى الله عليه وسلم - ، قد توفي وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رآه في قبره، وبأن المعلوم المتواتر: أنه توفي بعد أن ظهر (8) دينه، وكثرت أمَّته، ودفن بالأرض، ووجه الإشكال: أن نفخة الصَّعق إنما (9) يموت بها من كان حيًّا في هذه الدار، فأمَّا (10) من مات فيستحيل أن يموت مرة أخرى؛ لأنَّ الحاصل لا يستحصل، ولا يبتغى؛ وإنما ينفخ في الموتى نفخة البعث، وموسى قد مات، فلا يصحُّ أن يموت مرَّة أخرى، ولا يصحُّ أن يكون مستثنى ممن صُعق؛ لأنَّ الممستثنين (11) أحياء لم يموتوا، ولا يموتون، فلا يصحُّ اسثناؤهم (12) من الموتى، وقد =(6/232)=@ رام بعضهم الإنفصال عن هذا الإشكال، فقال: يحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا قول باطل قطعًا (13) بما ذكرناه. قال القاضي عياض (14) : يحتمل أن المراد بهذه الصعقة: صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السموات والأرضون (15) ، قال (16) : فتستقل الأحاديث والآيات . &(6/188)&$
قال الشيخ رحمه الله: وهذه غفلة عن (17) مساق الحديث؛ فإنَّه يدلّ على بطلان ما ذكر دلالة واضحة، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنه حين يخرج من القبر فيلقى موسى، وهو متعلق بالعرش، وهذا كان عند نفخة البعث، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يرى (18) موسى يقع له تردد في موسى على ظاهر هذا (19) الحديث، هل مات عند نفخة الصعق المتقدِّمة على نفخة البعث، فيكون قد بعث قبله، أو لم يمت عند نفخة الصعق (20) لأجل الصعقة التي صعقها على الطور، جعلت له تلك عوضًا من هذه الصعقة (21) ، وعلى هذا فكان (22) حيًّا حالة نفخة الصعق، ولم يصعق، ولم يمت، وحينئذ يبقى الإشكال إذ لم يحصل عنه انفصال. %(3/1055)%
__________
(1) في (ك): «فأفيق».
(2) قوله: «أن الإفاقة» سقط من (ك).
(3) في (ح): «على» بدل «مكان».
(4) في (ق) و(م): «بساق العرش».
(5) في (ح) و(ق): «فزع».
(6) في (ح): «الحرم».
(7) في (ك): «يشكل» وفي (ق): «مشكل» وألحق في الهامش «يشكل» ووضع (نخـ).
(8) في (ح): «أظهر».
(9) قوله: «إنما» سقط من (ح).
(10) في (ق): «وأما».
(11) في (ح): «المسثنى» وفي (ق): «المستثنيين».
(12) في (ح): يشبه «استثناؤهم».
(13) قوله: «قطعًا» من (ح) و(ك) وليس في (ق).
(14) قوله: «عياض» سقط من (ق).
(15) في (ك): «والأرض».
(16) قوله: «قال» سقط من (ك).
(17) في (ك): «من».
(18) في (ك): «يلقى».
(19) قوله: «هذا» سقط من (ح).
(20) من قوله: «المتقدمة على ....» إلى هنا سقط من (ك).
(21) قوله: «الصعقة» من (ح) و(ك) فقط وليس في (ق).
(22) في (ح): «فيكون».(3/1055)
قال الشيخ: والذي يُزيحه -إن شاء الله تعالى - أن يقال: إن الموت ليس بعدم؛ وإنَّما هو انتقال من حالٍ إلى حال، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدَّم، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين، فهذه صفات الأحياء في الدُّنيا، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه =(6/233)=@ قد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء» (1) ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس (2) ، وفي السماء، وخصوصًا بموسى عليه السلام. وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يقتضي أن الله تعالى يرد عليه روحه حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه (3) ، إلى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى، وهو كثير بحيث يحصل من جملته (4) القطع (5) بأن (6) موت الأنبياء إنما هو راجع (7) إلى أنهم (8) غيبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة فإنَّهم موجودون (9) أحياء، ولا يراهم أحدٌ من نوعنا إلا من خصَّه الله بكرامة من أوليائه، وإذا تقرر أنهم أحياء فهم فيما بين السماء (10) والأرض؛ فاذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق كل من في السموات والأرض إلا من شاء الله، &(6/189)&$ فأمَّا صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء، فالأظهر أنه غشية، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث ممن (11) مات حيي، ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «فأكون أول من يفيق»؛ وهي رواية صحيحة وحسنة (12) . فهذا الذي ظهر لي، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وقد تحصل من هذا الحديث: أن نبينا محمدًا (13) - صلى الله عليه وسلم - مُحَقَّقٌ (14) أنه أول من يفيق، وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم؛ الأنبياء وغيرهم، إلا موسى عليه السلام فإنَّه حصل له فيه تردد: هل بعث قبله، أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق، وعلى أي الحالين كان فهي فضيلة عظيمة لموسى - صلى الله عليه وسلم - ليست لغيره، والله تعالى أعلم . =(6/234)=@ %(3/1056)%
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (2/254 رقم8697) في الصلاة، باب في ثواب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعنه ابن ماجه (1/345 و524 رقم1085 و 1636) في الصلاة، باب في فضل الجمعة، وفي الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه - صلى الله عليه وسلم - . وأخرجه أحمد (4/8)، والدارمي (1/369) في الصلاة، باب في فضل الجمعة، وأبو داود (1/635 رقم1047) في الصلاة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، و(2/184 رقم1531) في الوتر، باب في الاستغفار، وإسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص119-120 رقم22)، والنسائي (3/91-92 رقم 1372) في الجمعة، باب إكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وابن خزيمة (3/118 رقم1733 و1734)، وعنه ابن حبان (3/190-191 رقم910/ الإحسان). وأخرجه الطبراني في "الكبير" (1/216-217 رقم589)، والحاكم (1/278)، والبيهقي (3/248-249) جميعهم من طريق حسين بن علي الجعفي، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، فقال رجل: يا رسول الله! كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ يعني: بليت، فقال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء».
قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. ووافقه الذهبي .
وصححه النووي في "الأذكار" رقم (333).
وقال ابن كثير في "تفسيره" (6/493): وقد صحح هذا الحديث: ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والنووي في الأذكار .
وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة (1/430 رقم1361). وانظر "جلاء الأفهام" (ص150-158) ت مشهور سلمان .
(2) تقدم في الإيمان، باب ما خص الله به نبينا - صلى الله عليه وسلم - من كرامة الإسراء، وباب رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء ووصفه لهم ...
(3) أخرجه أحمد (2/527)، 333)، وأبو داود (2/534 رقم2041) في المناسك، باب زيارة القبور، والطبراني في "الأوسط" (4/262 رقم 3092)، والبيهقي (5/245) جميعهم من طريق عبد الله بن يزيد، عن حيوة بن شريح، عن حميد بن زياد، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من أحد يسلم علي إلا ردَّ الله إلي روحي حتى أردَّ عليه السلام».
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن يزيد إلا أبو صخر، ولا عن أبي صخر إلا حيوة، تفرد به: عبد الله بن يزيد .
قال الألباني في "الصحيحة" (5/338 رقم2266): قلت: وهو المقرئ، ثقة من رجال الشيخين، وكذلك من فوقه غير أبي صخر - وهو حميد بن زياد - مختلف فيه، والراجح عندي أنه حسن الحديث .
وجود العراقي إسناده في تخريج الإحياء (1/279). وصححه النووي في "رياض الصالحين (1410).
(4) في (ك): «جهته».
(5) القطع والعلم يتحقق بحديث آحاد، ولا يلزم لذلك التواتر. انظر (ص ...).
(6) في (ح): «لأن».
(7) قوله: «راجع» سقط من (ك).
(8) في (ح): «أن».
(9) في (ق): «موجودين».
(10) في (ح): «السموات».
(11) في (ح) و(ق): «فمن».
(12) في (ح): «صحيحة حسنة».
(13) قوله: «محمدًا» ليس في (ح) وفي (ق): «محمد».
(14) في (ح) و(ك): «تحقق».(3/1056)
ومن باب (1) فضائل (2) أبي بكر الصديق رضي الله عنه
واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمر (3) بن كعب بن سعد بن تيم بن مرَّة بن كعب بن لؤي (4) . يجتمع نسبه مع (5) نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6) في مرَّة بن كعب، وسَمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصِّدِّيق، رواه عنه علي بن أبي طالب (7) رضي الله عنه، وسَمَّاه بذلك لكثرة تصديقه . ويُسمَّى (8) بعتيق، وفي تسميته بذلك ثلاثة أقوال: &(6/190)&$
أحدها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أراد أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر»؛ روته عائشة (9) .
والثاني: أنه اسم سمَّته به أمُّه، قاله موسى بن طلحة .
والثالث: أنه سُمِّي بذلك لجمال (10) وجهه، قاله الليث بن سعد، وقال ابن قتيبة: لقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك لجمال وجهه (11) ، =(6/236)=@ وهو أول من أسلم من الرجال، وقد أسلم على يديه (12) من العشرة المشهود لهم بالجنة خمسة: عثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم. %(3/1057)%
__________
(1) في (ح): «بسم الله الرحمن الرحيم، رب يسر وأعن . كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، ومن باب ...»، وفي (ك): «كتاب مناقب الصحابة رضي الله عنهم، ومن باب ...».
(2) في (ح): «فضل».
(3) في (ح) و(ق): «عمرو».
(4) في (ك): «لؤي بن غالب».
(5) في (ك) و(ح): «و» بدل «مع».
(6) في (ق): «النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(7) أخرجه الطبراني في "الكبير" (1/55 رقم14) عن معاذ بن المثنى، عن علي بن المديني، عن إسحاق بن منصور، عن محمد بن سليمان العبدي، عن هارون بن سعد، عن عمران بن ظبيان، عن أبي يحيى حُكيم بن سعد قال: سمعت عليًّا - رضي الله عنه - يحلف: لله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق .
قال الحافظ في"الفتح" (7/9): ورجاله ثقات .
وفي سنده محمد بن سليمان العبدي؛ مجهول، كما في "الجرح والتعديل" (7/269). وعمران بن ظبيان: ضعيف، ورمي بالتشيع، كما في "التقريب" (ص751 رقم5193). وحكيم بن سعد: ذكره ابن حبان في "الثقات" (4/182)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/94) وسكت عنه .
وفي حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدًا، فتبعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل، فقال: «اسكن، عليك نبي، أو صديق، أو شهيدان».
وهو عند البخاري (7/22 و42 و53 رقم3675 و3686 و3699) في فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو كنت متخذًا خليلاً، وباب مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وباب مناقب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - .
(8) في (ق): «وسمي».
(9) صحيح لغيره، انظر "مختصر استدراك الذهبي" (3/1137-1139 رقم484 بتحقيقي .
(10) في (ق): «بجمال».
(11) من قوله: «قاله الليث ... إلى هنا» سقط من (ق).
(12) في (ح): «يده».(3/1057)
قال الإمام الحافظ أبو الفرج الجوزي: جملة ما حفظ له من الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة واثنان وأربعون حديثًا، أخرج له منها في الصحيحين ثمانية عشر حديثًا (1) .
قال الشيخ رحمه الله: ومن المعلوم القطعي، واليقين (2) الضررري أنه حفظ من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يحفظ أحدٌ من الصحابة، وحصل له (3) من العلم ما لم يحصل لأحد منهم؛ لأنَّه كان الخليل المباطن (4) ، والصَّفي الملازم، لم يفارقه سفرًا ولا حضرًا، ولا ليلاً ولا نهارًا، ولا شدَّة ولا رخاءً؛ وإنَّما لم يتفرغ للحديث، ولا للرواية؛ لأنَّه (5) اشتغل بالأهم فالأهم (6) ؛ ولأن غيره قد (7) قام عنه من الرواية بالمهم .
وإذا تقرر (8) ذلك فاعلم: أن الفضائل جمع فضيلة، كرغائب جمع رغيبة، وكبائر جمع كبيرة، وهو كثير، وأصلها الخصلة الجميلة التي بها يحصل للانسان شرف، وعلو منزلة وقدر، ثم ذلك (9) الشَّرف (10) ، وذلك الفضل إما عند الخلق، وإما عند الخالق، فأمَّا الأول: فلا يلتفت إليه إن لم يوصل إلى الشرف المعتبر (11) عند الخالق . فإذًا: الشرف المعتبر، والفضل المطلوب على التحقيق، إنما هو الذي هو شرفٌ (12) عند الله تعالى . وإذا تقرر هذا (13) ؛ فاذا قلنا إن أحدًا من الصحابة رضي الله عنهم فاضل، فمعناه أن له منزلة شريفة عند الله &(6/191)&$ تعالى، وهذا (14) لا يتوصل إليه بالعقل قطعًا، فلا بدَّ أن يرجع ذلك إلى النقل، والنقل إنما يُتلقى من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا أخبرنا (15) =(6/237)=@ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - بشيء من ذلك تلقيناه بالقبول؛ فإنَّ كان قطعيًا حصل لنا العلم بذلك، وإن لم يكن قطعيًا كان ذلك كسبيل المجتَهَدات على ما تقدَّم، وعلى ما ذكرناه في الأصول، وإذا لم يكن لنا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالخبر، فلا يقطع أحد بأن من صدرت منه أفعال دينية وخصال محمودة، بأن (16) ذلك قد بلَّغه عند الله %(3/1058)%
__________
(1) قوله: «حديثًا» سقط من (ح) و(ك).
(2) في (ق): «والمتعين» بدل «واليقين».
(3) في (ح) و(ق): «عنده».
(4) في (ح): يشبه «المابطن».
(5) في (ح): «لأنه كان قد اشتغل».
(6) قوله: «فالأهم» سقط من (ح) و(ك).
(7) في (ح): «غيره كان قد».
(8) في (ح): «قرر».
(9) في (ق): «ثم إن ذلك».
(10) زاد بعدها في (ق): «عند الخالق فإذًا الشرف المعتبر».
(11) قوله: «عند الخالق فإذا الشرف المعتبر» سقط من (ق).
(12) في (ق): «إذا هو شرف».
(13) في (ق): «ذلك» بدل «هذا».
(14) في (ك): «ولهذا».
(15) في (ك): «أخبر».
(16) في (ق): «فإن».(3/1058)
تعالى منزلة الفضل والشرف، فإنَّ ذلك أمر غيب، والأعمال بالخواتيم، والخاتمة مجهولة، والوقوف (1) على المجهول مجهول، لكنَّا إذا رأينا من أعانه الله على الخير، ويسر له أسباب الخير رجونا له حصول تلك (2) المنزلة عند الله تمسُّكًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله في الخير، ووفقه لعمل صالح» (3) . وبما جاء في الشريعة من ذلك، ومن كان كذلك: فالظَّنُّ أنه لا يخيب، ولا يقطع على المغيب، وإذا تقرر هذا فالمقطوع بفضله، وأفضليته بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أهل السُّنَّة - وهو الذي يقطع به من الكتاب والسُّنَّة - أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، ثم عمر الفاروق، ولم يختلف في ذلك أحدٌ (4) من أئمة السَّلف، ولا (5) الخلف، ولا مبالاة بأقوال (6) أهل الشيع، ولا أهل البدع (7) ، فإنهم بين مُكفَّر تُضرب (8) رقبته، وبين مبتدع مُفسَّق لا تُقبل كلمته، وتدحض حُجَّته .
وقد اختلف أئمة أهل السُّنَّة (9) في علي وعثمان رضي الله عنهما؛ فالجمهور منهم على تقديم عثمان، وقد روي عن مالك أنه توقف في ذلك، وروي عنه (10) أنه رجع إلى ما عليه الجمهور، وهو الأصح إن شاء الله تعالى، والمسألة (11) اجتهادية لا قطعية، ومستندها الكلِّي أن هؤلاء الأربعة: هم الذين اختارهم الله تعالى لخلافة نبيَّه، &(6/192)&$ ولإقامة دينه، فمراتبهم عنده بحسب ترتيبهم في الخلافة، إلى ما ينضافُ إليه (12) =(6/238)=@ مما (13) يشهد لكل واحدٍ منهم من شهادات النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك تأصيلاً وتفصيلاً، على ما يأتي إن شاء الله تعالى . وهذا الباب بحر لا يدرك قعره، ولا يُنزف غمره، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق للهداية .
وقول أبي بكر رضي الله عنه :«نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار»؛ كان من قصته: أن المشركين اجتمعوا لقتل رسول %(3/1059)%
__________
(1) في (ح) و(ق): «والموقوف».
(2) في (ك): «ذلك».
(3) رُوي من حديث جماعة من الصحابة :
1 - حديث أنس بن مالك: أخرجه أحمد (3/230) عن محمد بن عبدالله الأنصاري، والترمذي (4/392 رقم1142) في القدر، باب ما جاء أن الله كتب كتابًا لأهل الجنة وأهل النار، وابن حبان (2/53 رقم341/الإحسان)، والحاكم (1/399-400)، والبغوي (14/290 رقم 4098). جميعهم من طريق إسماعيل بن جعفر .?
وأخرجه أحمد (3/120)، وعبد بن حميد (ص410 رقم1393)، وأبو يعلى (6/452 رقم3840)، والضياء في "المختارة" (6/26 رقم1980) جميعهم من طريق يزيد بن هارون .
وأخرجه ابن أبي عاصم في الموضع السابق (رقم 394). والضياء في المختارة (6/26 - 27 رقم 1981). كلاهما من طريق وهيب بن خالد.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (1/174 رقم393 و395)، وأبو يعلى (6/401-402 و440 رقم3756 و3821) كلاهما من طريق خالد الواسطي، وعبدالوهاب الثقفي . وأخرجه ابن أبي عاصم في الموضع السابق رقم (396 و398) من طريق خالد بن الحارث، والحارث بن عمير .
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (2/266 رقم 1941) من طريق أسامة بن زيد الليثي، والحاكم (1/399-400) من طريق معتمر بن سليمان . وأخرجه أحمد (3/106)، والمروزي في "زوائد الزهد" لابن المبارك (ص354 رقم970)، وابن أبي عاصم في الموضع السابق رقم (399). ثلاثتهم من طريق ابن أبي عدي .
جميعهم محمد بن عبد الله الأنصاري وإسماعيل بن جعفر ويزيد بن هارون... من طريق يزيد بن هارون، ووهيب بن خالد وخالد الواسطي، وعبدالوهاب الثقفي، وخالد بن الحارث، والحارث بن عمير، و أسامة بن زيد الليثي، ومعتمر بن سليمان، وابن أبي عدي -، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله»، فقيل: كيف يستعمله؟ قال: «يوفقه لعمل صالح قبل الموت».
وفي لفظ آخر: «لا عليكم أن لا تعجبوا بأحدٍ حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زمانًا من عمره، أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه لدخل الجنة، ثم يتحول فيعمل بعمل سيء، وإن العبد ليعمل زمانًا من عمره بعمل سيء لو مات عليه لدخل النار، ثم يتحول فيعمل بعمل صالح، وإذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله»، قالوا: يا رسول الله! وكيف يستعمله ... الحديث .
وأخرجه أحمد (3/223) عن ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس موقوفًا عليه. ثم قال: وقد رفعه حميد مرة ثم كفَّ عنه.
وأخرجه الضياء (5/239 رقم (1865) من طريق موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن حميد، عن الحسن عن أنس، فذكره مرفوعًا قال الضياء: هكذا رواه موسى بن إسماعيل، عن حماد وقدخولف موسى بن إسماعيل في روايته. وأخرجه أحمد (3/257) عن عفان، وأبو يعلى (6/443-444 رقم3829) عن إبراهيم بن الحجاج . كلاهما - عفان، وإبراهيم بن الحجاج -، عن حماد، عن حميد، عن أنس مرفوعًا، ليس فيه: الحسن . ورواية هذين أرجح، لموافقتها لرواية الجماعة . والحديث قال عنه الترمذي: حسن صحيح . وصححه لحاكم على شرط الشيخين . ووافقه الذهبي . وصححه الألباني في الصحيحة" (3/323 رقم1334)، وتعليقه على "المشكاة" (3/1454 رقم5288)، والسنة لأبي عاصم (1/174 و175). ثم وجدت الحديث في البيهقي في "الأسماء والصفات" (1/386 رقم312) من رواية محمد بن جعفر، عن حميد الطويل؛ انه سمع أنس بن مالك، فالحمد لله على توفيقه.
2- حديث عمرو بن الحمق الخزاعي :
أخرجه أحمد (5/224)، والبزار في "مسنده" (6/286-387 رقم2310)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (7/53 رقم 2641)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (1/250 رقم235)، وابن حبان (2/54 و55 رقم342 و343/الإحسان)، والحاكم (1/340)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (ص 308 رقم818).
جميعهم من طريق معاوية بن صالح، عن عبدالرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عمرو بن الحمق قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ...، فذكره?.
صححه الحاكم ووافقه الذهبي . وقال الألباني في "الصحيحة" (3/108): وقال هبة الله الطبري: حديث صحيح على شرط مسلم?.
وقد توبع معاوية بن صالح على روايته: فأخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (7/52 رقم2640)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/387 رقم313)، والخطيب في "تاريخه" (11/434). ثلاثتهم من طريق عبدالله بن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه، عن جبير بن نفير به . وقد وقع في هذا الإسناد تحريف، فانظر مصادر التخريج .
(4) في (ق): «واحد».
(5) في (ح): «أو».
(6) في (ق): «بأحوال» وكتب في الهامش «بأقوال» ووضع (نخـ).
(7) قوله: «ولا أهل البدع» سقط من (ح).
(8) في (ك): «مضروب».
(9) في (ح): «السلف».
(10) قوله: «عنه» سقط من (ك).
(11) في (ح) و(ك): «وهذه المسألة».
(12) في (ق) و(م): «إلى ذلك».
(13) في (ق) و(م): «بما».(3/1059)
الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبيتوه (1) في داره، فأمر عليًّا رضي الله عنه فرقد (2) على فراشه، وقال له: «إنهم لن يضروك»، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم على بابه، فأخذ الله أبصارهم عنه (3) ، ولم يروه، ووضع على رأس كل واحد منهم ترابًا (4) ، وانصرف عنهم خارجًا إلى غار ثور، فاختفى فيه، فأقاموا كذلك حتى أخبرهم مُخْبِرٌ أنه قد خرج عليهم، وإنه وضع على رؤوسهم التراب، فمدُّوا أيديهم إلى رؤوسهم فوجدوا التراب، فدخلوا الدَّار، فوجدوا عليًّا على الفراش، فلم يتعرضوا له، ثم خرجوا في كل (5) وجه يطلبون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقتضون (6) أثره بقائف كان معروفًا عندهم، إلى أن وصلوا إلى الغار، فوجدوه قد نسجت عليه العنكبوت من حينه (7) ، وفرَّخت فيه الحمام بقدرة الله تعالى (8) ، فلما رأوا (9) ذلك قالوا: إن هذا الغار ما دخله أحدٌ، ثم إنهم صَعِدوا إلى (10) أعلى الغار، فحينئذ رأى أبو بكر رضي الله عنه أقدامهم، فقال بلسان مقاله مُفْصِحًا عن مضعف (11) حاله: لو نظر أحدهم إلى قدميه أبصرنا، فأجابه من تدلَّى فدنا (12) بما يُذهب عنه الخوف والضَّنى بقوله: } لا تخزن إن الله معنا { (13) ؛ أي: بالحفظ والسلامة، والصَّون والكرامة . ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام في الغار ثلاثة (14) حتى تجهَّز (15) . ومنه هاجر =(6/239)=@ إلى المدينة، وكل (16) ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثقة بوعد الله تعالى، &(6/193)&$ وتوكل (17) عليه، ودليل على خصوصيَّة أبي بكر من الخلَّة، وملازمة الصُّحبة في أوقات الشدة بما لم (18) يُسبق إليه .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «عبدٌ خيَّره الله تعالى بين أن يؤتيه (19) زهرة الدنيا وبين (20) ما عنده فاختار ما عنده»؛ هذا قول فيه إبهام، قَصَدَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - اختبار أفهام أصحابه، وكيفية تعلق قلوبهم به، فظهر أن أبا بكر كان عنده من ذلك (21) ما %(3/1060)%
__________
(1) في (ح): «وبيتوه».
(2) في (ح): «أن يرقد» وفي (ق): «فأمر عليا يرقد».
(3) في (ح): «بأبصارهم» بدل «أبصارهم عنه».
(4) في (ح) «تراب».
(5) قوله: «كل» لم يتضح في (ح).
(6) في (ح) و(ق): «ويقتصون».
(7) أخرجه عبد الرزاق (5/389 رقم9743) عن معمر، عن عثمان الجزري، عن مقسم، عن ابن عباس، في قوله : } وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك { قال: تشاورت قريش بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: أن أخرجوه، فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات علي على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا... الحديث . وفيه: فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن بنسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثًا .
ومن طريق عبدالرزاق أخرجه أحمد (5/348)، والطبراني في "الكبير" (11/321-322 رقم12155)، والخطيب في "تاريخه" (13/191). وحسَّن إسناده ابن كثير في "البداية والنهاية" (...)، وقال: وهو من أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار، وذلك من حماية الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وحسَّنه الحافظ في "الفتح" (7/236).
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/27): رواه أحمد والطبراني، وفيه: عثمان بن عمرو الجزري وثقه ابن حبان وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح .
وقال الألباني في تعليقه على "السيرة" للغزالي (ص113): وفي تحسينه نظر، فإن عثمان الجزري، وهو ابن عمرو بن ساج، قال العقيلي: لا يتابع على حديثه، ولهذا قال ابن حجر في "التقريب": فيه ضعف .
وقال أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (5/87): في إسناده نظر، من أجل عثمان الجزري .
وعثمان هذا: أورده البخاري في "التاريخ الكبير" (6/258) وسكت عنه، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 174) وقال: عثمان الجزري، ويقال له: عثمان المشاهد، روى عن مقسم، روى عنه معمر والنعمان بن راشد، سمعت أبى يقول ذلك "، ثم روى عن أحمد بن حنبل أنه قال: روى أحاديث مناكير، زعموا أنه ذهب كتابه، وعن أبيه أنه قال: لا أعلم روى عنه غير معمر والنعمان .
وأما قول الهيثمي وأحمد شاكر، والألباني، أنه عثمان بن عمرو بن ساج فليس بصواب.
وقد فات الحسيني في "الإكمال" وابن حجر في "تعجيل المنفعة" أن يترجما له، مع أنه على شرطهما .
(8) أخرجه ابن سعد (1/228-229)، والبزار (2/299 رقم1741/كشف)، والعقيلي (3/422-423)، والبيهقي في "الدلائل" (2/481-482). ثلاثتهم من طريق عون بن عمرو القيسي - ويقال: عوين - بن عمرو القيسي، عن أبي مصعب المكي، قال: أدركت أنس بن مالك، وزيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، فسمعتهم يتحدثون: أن النبي? - صلى الله عليه وسلم - ?ليلة الغار أمر الله عز وجل شجرة فنبتت في وجه النبي? - صلى الله عليه وسلم - ?فسترته، وأمر الله العنكبوت فنسجت على وجهه فسترته، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقعتا بفم الغار ...، الحديث .
قال البزار: لا نعلم رواه إلا عوين بن عمرو، وهو بصري مشهور، وأبو مصعب فلا نعلم حدث عنه إلا عوين .
وقال العقيلي في ترجمة عوين: لا يتابع عليه، وأبو مصعب رجل مجهول .
وعوين بن عمرو: قال ابن معين، لا شيء، وقال البخاري: منكر الحديث مجهول، الميزان (3/306 رقم 6535)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/53): رواه البزار والطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم .
(9) في (ح): «رأو» كذا رسمت.
(10) في (ك): «على».
(11) في (ح) و(ق): «ضعف».
(12) يعني الله عز وجل .
(13) الآية (40) من سورة التوبة .
(14) في (ح) و(ق): «ثلاثة أيام».
(15) أخرجه البخاري (4/443 رقم 2264) في الإجارة، باب إذا استأجر أجيرًا ليعمل له بعد ثلاثة أيام، أو بعد شهر، أو بعد سنة جاز...، و(7/230-232 رقم4905) في مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، و(10/273-274 رقم5807) في اللباس، باب التقنع .
(16) في (ق): «وكان» بدل «وكل».
(17) في (ك): «وتوكلاً».
(18) في (ك): «ليس».
(19) في (ك) و(ق): «يؤتيه الله».
(20) في (ح): «أو» بدل «وبين».
(21) في (ح): «في ذلك».(3/1060)
لم يكن عند أحد منهم، ولما فهم من ذلك ما لم يفهموا?بادر بقوله :«فديناك بآبائنا وأمهاتنا»، ولذلك قالوا: «فكان أبو بكر أعلمنا». وهذا يدلّ من أبي بكر رضي الله عنه على (1) أن قلبه ممتليء من محبة (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومستغرق فيه، وشديد الاعتناء بأموره كلِّها من أقواله وأحواله بحيث لا يشاركه أحدٌ منهم (3) في ذلك . ولما (4) علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك منه، وصدر منه (5) في ذلك الوقت ذلك (6) الفهم عنه (7) اختصَّه بالخصوصيَّة العظمى التي لم يظفر بمثلها بشري (8) في الأولى ولا (9) في الأخرى. فقال: «إن أَمَنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت مئخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً»؛ فقد تضمن =(6/240)=@ هذا الكلام: أن لأبي بكر من الفضائل، والحقوق ما لا يشاركه فيها (10) مخلوق . ووزن أمَنَّ: أفعل، من المنَّة بمعنى الامتنان؛ أي: أكثر منَّة، ومعناه: أن أبا بكر رضي الله عنه له من الحقوق ما لو كانت لغيره لامتن بها، وذلك: أنه رضي الله عنه بادر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتَّصديق، والناس كلهم مكذبون، وبنفقة (11) الأموال العظيمة، والناس يبخلون، وبالملازمة والمصاحبة، والناس ينفرون، وهو مع ذلك بانشراح صدره، ورسوخ علمه يعلم: أن لله ولرسوله الفضل والإحسان، والمنة والامتنان، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكرم خُلقه، وجميل معاشرته (12) اعترف بالفضل لمن صدر عنه، %(3/1061)%
__________
(1) قوله: «على» سقط من (ق).
(2) في (ح): «ممتليء بمحبة».
(3) قوله: «منهم» سقط من (ح).
(4) في (ق): «لا يشاركه في ذلك أحد ولما».
(5) قوله: «منه» سقط من (ح).
(6) قوله: «ذلك» سقط من (ك).
(7) قوله: «عمه» سقط من (ك).
(8) في (ق): «بشر» بدل «بشري».
(9) قوله: «ولا» سقط من (ك).
(10) في (ق): «فيه».
(11) في (ك): «وشفقة».
(12) في (ح) و(ق): «عشرته».(3/1061)
وشكر الصنيعة لمن وجدت منه، عملاً بشكر المنعم، لِيَسُنَّ، وليعلم، وهذا مثل ما جرى له يوم حنين (1) مع الأنصار (2) ، حيث جمعهم فذكَّرهم بما (3) عليهم من المنن، ثم اعترف لهم بما لهم (4) من الفضل الجميل الحسن (5) ، وقد تقدم في الزكاة . وقد ذكر الترمذي (6) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه &(6/194)&$ عليها (7) ما خلا (8) أبا بكر (9) ، فإنَّ له عندنا يدًا يكافئه الله تعالى بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد كما نفعني مال أبي بكر ...»، وذكر الحديث، وقال: هو حسن غريب .
وقوله: «ولو كنت متخذًا خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً»؛ متخذًا: اسم فاعل من اتَّخذ، وهو فعل يتعدَّى إلى مفعولين، أحدهما بحرف الجر، فيكون =(6/241)=@ بمعنى: اختار واصطفى، كما قال تعالى : } واتَّخذ قوم موسى من بعده (10) من حليهم عجلاً جسدًا له خوار (11) { (12) ، وقد سكت هنا عن أحد مفعوليها، وهو الذي دخل عليه حرف الجر، فكأنه قال: لو كنت متخذًا من النَّاس خليلاً لاتخذت منهم أبا بكر . ولبسط الكلام في ذلك علم النحو، وحاصله: أن «اتَّخذ» استعملت على ثلاثة أنحاء،
أحدها: تتعدى (13) لمفعولين بنفسها .
وثانيها: تتعدى (14) لأحدهما بحرف الجر .
وثالثها: تتعدى (15) لمفعول واحد، وكل ذلك موجود في القرآن .
ومعنى هذا الحديث: أن أبا بكر رضي الله عنه كان قد (16) تأهل لأن يتخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - خليلاً، لولا المانع %(3/1062)%
__________
(1) في (ح) و(ق): «بما له».
(2) تقدم في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم .
(3) في (ق): «يوم خبير».
(4) في (ح): «عليه».
(5) في (ح) و(ك): «من الفعل الحسن».
(6) أخرجه الترمذي (5/568-569 رقم3661) في المناقب، باب مناقب أبي بكر الصديق، عن علي بن الحسن الكوفي، عن محبوب بن محرز القواريري، عن داود بن يزيد الأزدي، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما لأحدٍ عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله به يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن صاحبكم خليل الله».
قال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه .
وقال الألباني في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" (ص17): كذا قال، وإسناده ضعيف، فإن داود بن يزيد ضعيف، والقواريري؛ لين الحديث، كما في التقريب .
(8) في (ح): «عليها إلا».
(10) في (ح): «من بعدهم».
(11) قوله: «له خوار» سقط من (ح).، و قوله: «جسدًا له خوار» سقط من (ك).
(12) الآية (148) من سورة الأعراف .
(13) في (ق): «يتعدى».
(14) في (ق): «يتعدى».
(15) في (ق): «يتعدى».
(16) في (ح) و(ق): «قد كان».(3/1062)
الذي منع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه لما امتلأ قلبه بما تخلَّله من معرفة الله تعالى، ومحبته، ومراقبته، حتى كأنه مزجت أجزاء قلبه بذلك، لم يتسع قلبه لخليل آخر يكون كذلك فيه، وعلى هذا فلا يكون الخليل إلا واحدًا، ومن لم ينته إلى ذلك ممن تعلَّق القلب (1) به فهو حبيب؛ ولذلك أثبت لأبي بكر وعائشة رضي الله عنهما أنهما أحبُّ الناس إليه (2) ، ونفى عنهما الخلَّة، وعلى هذا فالخلَّة فوق المحبة، وقد اختلف أرباب القلوب في ذلك؛ فذهب الجمهور: إلى أن الخلَّة أعلى، تمسُّكًا بما ذكرناه، وهو متمسَّك قوي ظاهر، وذهب أبو بكر بن فورك إلى أن المحبة أعلى، واستدل على ذلك: بأن الاسم الخاص بمحمد - صلى الله عليه وسلم - : الحبيب (3) ، وبإبراهيم (4) : الخليل. &(6/195)&$ ودرجة نبينا - صلى الله عليه وسلم - أرفع، فالمحبة أرفع . وقد (5) ذكر القاضي عياض هذه المسألة في كتاب "الشفا"، واستوفى فيها البحث، فتنظر (6) =(6/242)=@ هناك (7) ، وقد ذكرنا اختلاف الناس في الخلة في كتاب الإيمان .
وقوله: «إلا إني أبرأ إلى كل خليل (8) من خلِّه»؛ الرواية المعروفة: بكسر الخاء من خِلَّة . قال القاضي: والصواب - إن شاء الله - فتحها، والخلَّة، والْخلُّ، والمخاللة، والمخالَّة، والخلالة (9) ، والخلولة: الإخاء والصَّداقة .
قال الشيخ رحمه الله: يعني: أن خَلَّة في الأصل: هي مصدر، ومصادر هذا الباب: هي التي ذكروها (10) ، وليس فيها ما يقال: بكسر الخاء، فتعين الفتح فيها، ومعنى هذا الكلام: قد جاء بلفظ آخر يفسره فقال: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل». (11) . وهذا (12) واضح. %(3/1063)%
__________
(1) في (ك): «قلبه».
(2) هو الحديث الآتي .
(3) ورد في ذلك حديث: وأنا حبيب الله ولا فخر. إلا أنه حديث ضعيف . تقدم ...
(4) في (ق): «وإبراهيم».
(5) في (ق): «بالمحبة وقد».
(6) في (ق): «فلتنظر».
(7) في (ك): «هنالك».
(8) في (ح) و(ك): «خلٍّ».
(9) قوله: «والخلالة» سقط من (ح).
(10) في (ح): «ذكرها».
(11) تقدم في الصلاة، باب تحويل القبلة من الشام إلى الكعبة .
(12) في (ح) و(ك): «وهو».(3/1063)
وقوله: «وقد اتَّخذ الله صاحبكم خليلاً»؛ في غير كتاب مسلم: «كما اتخذ إبراهيم خليلاً» (1) ؛ وهذا يدلّ على أن الله تعالى رفع (2) درجة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الخلة بإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - غير أنَّه مكَّنه فيها ما لم يمكَّن (3) فيها إبراهيم (4) ، بدليل قول إبراهيم: «إنما كنت خليلاً من وراء وراء» (5) ؛ كما تقدَّم في (6) الإيمان .
وقوله: «لا تُبْقَيَن (7) في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر»؛ الخوخة - بفتح الخاء المعجمة -: باب صغير بين مسكنين، وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فتحوا بين مساكنهم وبين المسجد خوخات اغتنامًا لملازمة المسجد، وللكون (8) فيه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ كان فيه غالبًا؛ إلا أنه لما كان ذلك يؤدي (9) إلى اتخاذ المسجد طريقًا، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بسدِّ كل خوخة كانت (10) هنالك (11) ، واستثنى خوخة أبي بكر رضي الله =(6/243)=@ عنه؛ إكرامًا له، وخصوصية به؛ لأنَّهما كانا لا يفترقان غالبًا، وقد استدل بهذا الحديث على صحَّة إمامته، واستخلافه للصلاة، وعلى خلافته بعده .
وقوله: «من أحبُّ الناس إليك ؟» هذا السُّؤال: أخرجه الحرص على معرفة &(6/196)&$ الأحب (12) إليه؛ ليقتدي به في ذلك، فيحب ما أحب، فإنَّ المرء مع من أحب. %(3/1064)%
__________
(1) تقدم في الصلاة، باب تحويل القبلة من الشام إلى الكعبة .
(2) في (ح) و(ق): «بلغ».
(3) في (ح): «لم يكن».
(4) في (ق) و(م): «إبراهيم فيها».
(5) أخرجه مسلم (195) في قصة استفتاح الجنة .
(6) في (ح): «في كتاب».
(7) في (ح) و(ك): «لا يبقين».
(8) في (ق): «والكون».
(9) في (ك): «يؤدي ذلك».
(10) قوله: «كانت» سقط من (ح).
(11) في (ح): «هناك».
(12) في (ح): «أحب الناس».(3/1064)
وقوله في الجواب: «عائشة»؛ يدلّ على جواز ذكر مثل ذلك، وأنه لا يعاب على من ذكره إذا كان المقول له من أهل الخير والدِّين، ويقصد بذلك مقاصد (1) الصَّالحين؛ وإنَّما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكر محبة عائشة أولاً؛ لأنَّها محبة جبلية ودينية (2) ، وغيرها دينية لا جبلية، فسبق الأصل (3) على الطَّارئ .
وقوله: «ثم أبو بكر، ثم عمر»؛ يدلّ على: تفاوت ما بينهما في الرتبة والفضيلة، وهو يدلّ على صحَّة ما ذهب إليه أهل السُّنَّة .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من أصبح منكم اليوم صائمًا ؟ قال أبوبكر: أنا ...» الحديث يدلّ =(6/244)=@ على ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه (4) من التفقد لأحوال أصحابه، وإرشادهم إلى فعل الخير على اختلاف أنواعه، وعلى ما كان عليه أبو بكر من الحرص على فعل جميع أنواع الطاعات (5) ، وتتبعه (6) أبوابها، واغتنام أوقاتها، وكأنه ما كان له هم إلا في طلب ذلك، والسَّعي في تحصيل ثوابه .
وقوله: «ما اجتمعن (7) في امرىء إلا دخل الجنة»؛ ظاهره: أن من اجتمع له فعل هذه الأبواب في يومٍ واحد دخل الجنة؛ فإنَّه قال فيها كلها: اليوم، اليوم، ولما أخبره أبو بكر رضي الله عنه أنه فعل تلك الأمور كلها في ذلك اليوم بشَّره بأنه من أهل الجنة لأجل تلك الأمور، والمرجو (8) من كرم الله تعالى أن من اجتمعت له تلك الأعمال في عمره، وإن لم تجتمع في يوم واحد أن يدخله الله الجنَّة بفضله، ووعده الصَّادق. %(3/1065)%
__________
(1) في (ح): «مقصد».
(2) قوله: «وغيرها دينية» سقط من (ح).
(3) في (ح) و(ق): «الأصلي».
(4) قوله: «عليه» سقط من (ق).
(5) في (ق): «الطاعة» وكتب في الهامش «الطاعات» ووضع (خ).
(6) في (ق): «وتتبع».
(7) في (ق): «ما اجتمع».
(8) في (ح): «فالمرجو».(3/1065)
وقول البقرة للذي (1) حمل عليها: «إني لم أُخلق لهذا، إنما خلقت للحرث»؛ دليل: على أن البقر لا يحمل عليها ولا تركب (2) ؛ وإنَّما هي للحرث، وللأكل (3) ، والنسل (4) ، والرِّسْلِ (5) . وفيه ما يدلّ على وقوع (6) خرق العوائد، على جهة الكرامة، أو =(6/245)=@ على جهة التنبيه لمن أراد الله تعالى به الاستقامة، وفيه ما يدلّ على علم النبي - صلى الله عليه وسلم - &(6/197)&$ بصحَّة إيمان أبي بكر وعمر، ويقينهما، وأنه كان ينزلهما منزلة (7) نفسه، ويقطع على يقينهما، وهذه خصوصيّة عظيمة (8) ، ودرجة (9) رفيعة .
وقول الذئب: «من لها (10) يوم السَّبُع»؛ الرواية الصحيحة التي قرأناها وقيدناها على مشايخنا بضم الباء لا غير، ومعناه مفسَّر بباقي الحديث؛ إذ قال فيه: «يوم (11) ليس لها راعٍ غيري»، فإنه أبدل «يوم ليس لها راع غيري (12) » من «يوم السَّبُع»، وكأنه (13) قال: من يستنقذ هذه الشاة يوم ينفرد السَّبُع بها، ولا يكون معها راع، ولا من يمنعها (14) ؟! وكأنه- والله أعلم - يشير إلى نحو مما تقدَّم في الحج (15) من حديث أبي هريرة مرفوعًا قال: «يتركون (16) المدينة على %(3/1066)%
__________
(1) في (ح): «التي».
(2) في (ق): «لا تحمل ولا تركب».
(3) في (ك) و(ق): «والأكل».
(4) في (ق): «وللنسل».
(5) أي: اللبن .
(6) قوله: «وقوع» سقط من (ك).
(7) في (ح): يشبه «بمنزلة».
(8) في (ح): «عظيمة بهم».
(9) في (ك): «منزلة».
(10) في (ح): يشبه «لما» بدل «لها».
(11) قوله: «يوم» سقط من (ح).
(12) قوله: «غيري» سقط من (ب) و(ق) و(م).
(13) في (ح) و(ك): «فكأنه».
(14) في (ك): «ولا يمنعها» وفي (ح) و(ق): «ولا من يمنعها منه».
(15) في (ح): «في كتاب الحج».
(16) في (ق): «تتركون».(3/1066)
خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي - يريد السِّباع والطير -، ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة، فينعقان بغنمهما، فيجدانها وحشًا، حتى إذا بلغا ثنية (1) الوداع (2) خرَّا على وجوههما» (3) . فحاصل هذا: أن أهل المدينة ينجلون عنها، فلا يبقى فيها إلا السِّباع، ويهلك من حولها من الرُّعاة فتبقى الغنم متوحشة منفردة، فتأكلُ الذئابُ ما شاءت، وتترك ما شاءت، وهذا لم يُسمع =(6/246)=@ أنَّه وقع (4) ، ولا بدَّ من وقوعه .
وقد قيده بعض اللغويين بسكون الباء (5) ، وليست برواية صحيحة، ولكن اختلف في معنى (6) ذلك على أقوال (7) يطول ذكرها، ولا معنى لأكثرها (8) ، وأشبه ما قيل في ذلك، ما حكاه الحربي: أن سكون الباء لغة فيه، قال (9) : وقرأ الحسن :( وما أكل السَّبْعُ ) (10) بسكونها .
وقول السائل لعائشة رضي الله عنها: «من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفًا لو استخلف ؟» يدلّ على: أن (11) من المعلوم عندهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف أحدًا، وكذلك (12) قال عمر رضي الله عنه لما طعن، وقيل له: ألا تستخلف ؟ فقال: إن أتركهم (13) ؟ فقد تركهم (14) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن أستخلف فقد استخلف أبو بكر (15) رضي الله عنه، وهذا بمحضر &(6/198)&$ من (16) الصحابة، وعلي والعباس رضي الله عنهم، ولم ينكر أحدٌ منهم على عمر، ولا ذكر أحدٌ من الناس نصًّا باستخلاف (17) على أحد، فكان ذلك دليلاً على كذب من ادَّعى شيئًا من ذلك؛ إذ العادات تحيل أن يكون عندهم نصٌّ على أحد في ذلك الأمر العظيم المهم، فيكتموه، مع تَصَلُّبِهم (18) %(3/1067)%
__________
(1) في (ك): «بنية».
(2) في (ح) و(ك): «الوادي».
(3) تقدم في الحج، باب إثم من أراد بأهل المدينة بسوء، برقم (1242).
(4) في (ك): «واقع».
(5) أي قوله: السبع .
(6) في (ح): «معناها».
(7) في (ق): «قوال».
(8) من قوله: «ذلك على أقوال ...» إلى هنا سقط من (ح).
(9) في (ح): «وقال».
(10) الآية (3) من سورة المائدة . ولم ترد هذه القراءة عند أحدٍ من القراء العشرة .
(11) قوله: «أن» سقط من (ك).
(12) في (ق): «وكذا».
(13) في (ح): «أترك».
(14) في (ح): «ترككم».
(15) تقدم في الإمارة، باب في جواز ترك الاستخلاف، وفي (ح): «أبو بكر على». .
(16) قوله: «من» سقط من (ق).
(17) في (ح) و(ك): «لاستخلاف» وفي (ق): «باستخلافه».
(18) في (ك): «فضلهم».(3/1067)
في الدِّين، وعدم تقيَّتهم (1) ، فإنَّهم كانوا لا تأخذهم (2) في الله لومة لائم، وكذلك اتفق لهم عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّهم اجتمعوا لذلك (3) (4) ، وتفاوضوا فيه مفاوضة من لا يتقي شيئًا، ولا يخاف أحدًا، حتى قالت الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، ولم يذكر أحدٌ (5) منهم (6) نصًّا، ولا ادَّعى أحدٌ منهم أنه نصَّ عليه، ولو كان عندهم من ذلك شيء لكانوا هم أحق بمعرفته، ونقله، ولَمَا اختلفوا في شيء من ذلك . ومن العجب ألاَّ (7) يكون عند أحدٍ من هؤلاء نصٌّ على ذلك، ولا يذكره (8) مع قرب العهد، وتوفر الدِّين والجدّ، ودعاء الحاجة الشديدة إلى (9) ذلك، ويأتي بعدهم بأزمان متطاولة، وأوقات =(6/247)=@ مختلفة، وقلة علم، وعدم فهم من يدَّعي: أن عنده من العلم بالنصِّ على واحد معين ما (10) لم يكن عند أولئك الملأ الكرام، ولا سُمِعَ (11) منهم . هذا محض الكذب الذي لا يقبله سليم العقل (12) ؛ لكن غلبة التعصُّب والأهواء تورِّط صاحبها في الظلماء، وقد ذهبت الشيعة على اختلاف فرقها إلى: أنه نصَّ على خلافة علي رضي الله عنه وذهبت الراوندية إلى أنه نصَّ على خلافة العباس رضي الله عنه واختلق كل واحد (13) منهما من الكذب، والزور، والبهتان ما لا يرضى به من (14) في قلبه حبة خردل من الإيمان، وما ذكرناه من عدم النَّص على واحد بعينه هو مذهب جمهور أهل السُّنَّة من السَّلف والخلف، لا على أبي بكر، ولا غيره (15) ، غير أنهم استندوا في استحقاق أبي بكر رضي الله عنه للخلافة (16) إلى أصول &(6/199)&$ كليِّة، وقرائن حاليَّة، ومجموع ظواهر جليِّة حصَّلت لهم العلم بأنه أحق بالخلافة، وأولى بالإمامة، يعلم ذلك من استقرأ أخباره، وخصائصه، وسيقع التنبيه على بعضها إن شاء الله تعالى. %(3/1068)%
__________
(1) لم تنقط الياء والتاء بعدها في (ك).
(2) في (ح): «لا يأخذهم».
(3) قوله: «لذلك» سقط من (ق).
(4) البخاري (12/144-145 رقم6830) في الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت .
(6) قوله: «منهم» سقط من (ح).
(9) في (ك): «على».(3/1068)
وقول عائشة رضي الله عنها في جواب السَّائل: «أبوبكر، ثم عمر، ثم أبوعبيدة»؛ هذا قالته عن نظرها، وظنها، لا أن ذلك كان بنصٍّ عندها عن النبي (1) - صلى الله عليه وسلم - ، ولعلها استندت في عمر وأبي (2) عبيدة لقول أبي بكر يوم السقيفة: رضيت =(6/248)=@ لكم أحد هذين الرَّجُلَين عمر وأبي عبيدة (3) . وفي حق أبي عبيدة شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه (4) أمين هذه الأمة (5) ، ولذلك قال عمر رضي الله عنه حين جعل الأمر شورى: لو أن أباعبيدة حيٌّ لما تخالجني فيه شك، فلو سألني ربي عنه قلت: سمعت نبيك يقول: «لكل أمة أمين، وأميننا -?أيتها الأمة - أبو عبيدة بن الجراح» (6) ، ويفهم من قول عمر وعائشة: جواز انعقاد الخلافة للفاضل مع وجود الأفضل، فإنَّ عثمان وعليًّا رضي الله عنهما أفضل من أبي عبيدة رضي الله عنه بالاتفاق، ومع ذلك فقد حكما بصحَّة إمامته عليهما – أن (7) لو كان حيًّا -.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، ومذهب الجمهور: أنها تنعقد له - أعني (8) للمفضول (9) - وخالف في ذلك: عباد بن سليمان، والجاحظ، فقالا: لا ينعقد (10) للمفضول على الفاضل، ولا يعتد بخلافهما لما ذكرنا (11) في الأصول، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور .
وقوله (12) - صلى الله عليه وسلم - للمرأة: «إن لم تجديني (13) فأتي أبا بكر»؛ زعم من لا تحقيق عنده من المتأخرين: أن هذا نصٌّ على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وليس كذلك؛ وإنَّما يتضمن الخبر عن أنَّه يكون هو الخليفة بعده؛ لكن %(3/1069)%
__________
(1) في (ح): «كان عندها بنص النبي».
(2) في (ق): «وأبا عبيدة».
(3) المصدر السابق .
(4) في (ك): «له بأنه».
(5) سيأتي في باب فضائل طلحة والزبير وأبي عبيد .
(6) أخرجه أحمد (1/18) عن أبي المغيرة، وعاصم بن خالد، قالا: حدثنا صفوان، عن شريح بن عبيد، وراشد بن سعد، وغيرهما، قالوا: لما بلغ عمر بن الخطاب سرْغ حدِّث أن بالشام وباءً شديدًا، قال: بلغني أن شدة الوباء في الشام، فقلت: إن أدركني أجلي، وأبو عبيدة بن الجراح حيٌّ، استخلفته، فإن سألني الله: لم استخلفته على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ قلت: إني سمعت رسولك - صلى الله عليه وسلم - يول: إن لكل أمة أمينا، وأميني أبو عبيدة بن الجراح...» الحديث.
وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن شريح بن عبيد، وراشد بن سعد لم يدركا عمر . قاله أحمد شاكر في تعليقه على المسند (1/201) وله طرق أخرى.
فأخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» 2/742 – 743 رقم 1287).
وعمر بن شبة في «تاريخ المدينة» (3/886).
كلاهما من طريق مروان بن معاوية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن شهر بن حوشب عن عمر، فذكره.
وهذا منقطع، شهر لم يدرك عمر.
وأخرجه ابن سعد (3/413).
وأحمد في «فضائل الصحابة» (2/742 رقم 1285».
والحاكم (3/268).
ثلاثتهم من طريق كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، قال: بلغني أن عمر بن الخطاب قال، فذكره.
وهذا منقطع أيضًا.
(7) في (ق): تشبه «إذ».
(8) في (ك): «أي» وفي (ق): «أعينى».
(9) في (ح): «المفضول».
(10) في (ح): «لا تنعقد».
(11) في (ك) و(ق): «لما ذكرناه».
(12) في (ك): «وقل النبي».
(13) في (ق): «تجدينني».(3/1069)
بأي طريق تنعقد له؛ هل (1) بالنصِّ عليه، &(6/200)&$ أو بالاجتهاد؛ هذا هو المطلوب، ولم ينص عليه في الحديث، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ادعي لي (2) أبا بكر أباك، وأخاك حتى أكتب كتابًا ...» الحديث إلى قوله: «يأبى الله والمؤمنون: إلا أبا بكر»؛ ليس نصًّا في استخلافه؛ وإنما يدل على إرادة استخلافه، ولم ينص عليه، ألا ترى أنه لم يكتب، ولم ينص .
والحاصل: أن هذه الأحاديث ليست نصوصًا في ذلك، لكنها ظواهر قويه (3) إذا انضاف إليها استقراء ما في الشريعة مِمَّا يدلّ على ذلك المعنى علم استحقاقه =(6/249)=@ للخلافة، وانعقادها له ضرورة (4) شرعيه، والقادح في خلافته مقطوع بخطئه، وتفسيقه (5) . وهل يكفر أم لا ؟ مختلف فيه، والأظهر: تكفيره لمن استقرأ ما في الشريعة، مما يدلّ على استحقاقه لها (6) ، وأنه: أحق وأولى بها، سيما وقد انعقد إجماع الصحابة على ذلك، ولم يبق منهم مخالف في شيء (7) مِمَّا جرى هنالك .
وكانت وفاة أبي بكر رضي الله عنه على ما قاله ابن إسحاق: يوم الجمعة لسبع (8) ليالٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة . وقال غيره: إنه مات عشية (9) يوم الاثنين . وقيل: عشية (10) يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة . هذا قول أكثرهم . قال ابن إسحاق: وتوفي على رأس سنتين وثلاثة أشهر واثنتي عشرة ليلة من متوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال غيره: وعشرة أيام . وقيل: وعشرين يومًا (11) . ومكث في خلافته سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس (12) ليال . وقيل: وثلاثة أشهر وسبع ليال .
واختلف في سبب موته؛ فقال الواقدي: أنه اغتسل في يوم بارد فحُمَّ، ومرض خمسة عشر يومًا . وقال الزبير بن بكار: كان به طرف من السِّلِّ . وروي عن سلام ابن أبي (13) مطيع: أنه سُمَّ . والله أعلم . وقد تقدَّم: أنه مات وهو ابن ثلاث وستين سنة (14) . =(6/250)=@ &(6/201)&$ %(3/1070)%
__________
(1) قوله: «هل» سقط من (ح).
(2) قوله: «لي» سقط من (ق).
(3) في (ق): «قوله».
(4) في (ك): «ضرورية».
(5) في (ك): «فسقه».
(6) في (ح): «الخلافة».
(7) قوله: «في شيء» سقط من (ك).
(8) في (ح) و(ك): «لتسع».
(9) في (ح) و(ك): «عشى».
(10) في (ح): «عشى».
(11) قوله: «يومًا» سقط من (ك) و(ق).
(12) في (ح): «خمسة».
(13) قوله: «أبي» سقط من (ك).
(14) زاد بعدها في (ق): «رضي الله عنه وعن جميع أصحاب رسول الله أجمعين».(3/1070)
- - - - -
ومن باب فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ويُكنَّى: أبا حفص، وهو ابن الخطاب بن نفيل (1) بن عبد العزى بن رياح (2) بن عبدالله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، يجتمع نسبه مع نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) في كعب. أسلم سنه ست من النبوَّة وقيل: سنة خمس بعد أربعين رجلاً، وإحدى عشرة امرأة . وقيل: بعد ثلاث (4) وثلاثين رجلاً . وقيل: إنه تمام الأربعين (5) . وسُمِّي الفاروق؛ لأنَّه فرَّق بإظهار إسلامه بين الحق والباطل (6) . وقتال (7) الكفار عليه يوم أسلم، ونزل جبريل عليه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا محمد ! استبشر أهل السماء بإسلام عمر» (8) . حُفِظ له من الحديث خمسمائة وسبعة (9) وثلاثون حديثًا (10) ، أخرج له منها في الصحيحين أحد وثمانون حديثًا (11) ، توفي رضي الله عنه مقتولاً . قتله أبو لؤلؤة (12) فيروز غلام المغيرة بن شعبة، لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، طعنه العلج بسكين في يده ذات طرفين، وطعن معه اثني عشر رجلاً، مات منهم ستة (13) ، ثم رَمَى على العلج رجلٌ من أهل العراق برنسًا، فحبسه، فوجأ نفسه، وكانت خلافة عمر رضي الله عنه عشر سنين وستة أشهر، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة (14) كما تقدَّم . &(6/202)&$
وقوله: ووضع عمر رضي الله عنه على سريره، فتكنفه النَّاس؛ يعني: بعد موته وتجهيزه للدَّفن . والسَّرير هنا: هو (15) النَّعش، وتكنَّفه الناس: %(3/1071)%
__________
(1) في (ق): «مقبل».
(2) في (ح) و(ق): «رباح».
(3) في (ق): «نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(4) في (ح) و(ق): «ثلاثة».
(5) في (ح) و(ق): «أربعين».
(6) قال الحافظ في "الإصابة" (7/76): وأخرج محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه بسند فيه إسحاق بن أبي فروة، عن ابن عباس؛ أنه سأل عمر عن إسلامه، فذكر قصته بطولها، وفيها: أنه خرج ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين حمزة وأصحابه الذين كانوا اختلفوا في دار الأرقم، فعلمت قريش أنه امتنع، فلم تصبهم كآبة مثلها، قال: فسماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ الفاروق . وهذا إسناد تالف .?
وأخرج ابن سعد في "الطبقات" (3/270-271) من طريق الواقدي، عن أبي حزرة يعقوب بن مجاهد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي عمرو ذكوان قال: قلت لعائشة: من سمى عمر الفاروق؟ قالت: النبي عليه السلام .
وهذا إسناد كسابقه .
وعند ابن سعد (3/270) عن أحمد بن محمد الأزرقي المكي، عن عبد الرحمن بن حسن، عن أيوب بن موسى قال: قال رسول الله? - صلى الله عليه وسلم - إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق، فرَّق الله به بين الحق والباطل .?
وهذا مرسل، أو معضل . وانظر "الفتح" (7/44).
(7) في (ح): «وقال».
(8) ضعيف جدًّا، انظر مختصر استدراك الذهبي بتحقيقي (3/1227 – 1228 رقم 512).
(9) في (ق) و(م): «وتسعة». وفي (ب): «وسعه» كذا مهملة .
(10) قوله: «حديثًا» سقط من (ح) و(ك).
(11) قوله: «حديثا» سقط من (ح).
(12) أخرجه البخاري (7/59-62 رقم3700) في فضائل الصحابة، باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان - رضي الله عنه - ، وفيه مقتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .
(13) في (ق) و(م): «تسعة».
(14) قوله: «سنة» سقط من (ح) و(ك).
(15) قوله: «هو» سقط من (ك) و(ق).(3/1071)
أي (1) صاروا =(6/251)=@ بكنفيه (2) ؛ أي: جانبيه . والكنف والكنيف: الجانب.
و «يصلون عليه»؛ أي (3) : يترحمون عليه . و «لم يرعني»؛ أي: يفزعني (4) فينبهني (5) وأصل الرَّوع: الفزع . وهذا الحديث ردٌّ من عليّ رضي الله عنه على الشيعة فيما يتقوَّلونه (6) عليه من بُغضه للشيخين، ونسبته إياهما إلى الجور في الإمامة، وأنهما غصباه . وهذا كله كذب وافتراء؛ عليٌّ (7) رضي الله عنه منه (8) براء . بل المعلوم من حاله معهما تعظيمه ومحبَّته لهما، واعترافه بالفضل لهما عليه وعلى غيره . وحديثه هذا (9) ينصُّ على هذا المعنى، وقد تقدَّم ثناء عليٍّ على أبي بكر رضي الله عنهما، واعتذاره عن تخلفه عن بيعته، وصحَّة مبايعته له، وانقياده له مختارًا طائعًا سرًّا وجهرًا، وكذلك فعل مع عمر رضي الله عنهم أجمعين (10) ، وكل ذلك يُكذِّب الشيعة والروافض في دعواهم، لكن الهوى (11) والتعصب أعماهم. %(3/1072)%
__________
(1) قوله: «أي» سقط من (ك).
(2) في (ب): «بكنفتيه»، وفي (ك): «بكفيته».
(3) قوله: «أي» سقط من (ح) و(ك)، و(ق) و(م).
(4) في (ك): «ترعني أي تفزعني».
(5) في (ب): «فتنبهني»، وفي (ح): «وينبهني»، وفي (ك) مهملة .
(6) في (ح): «يتقوله» وفي (ق): «تتقوله» وكتب في الهامش «فيما يتقولونه» ووضع (خ).
(7) في (ق): «على عليٌّ».
(8) قوله: «منه» سقط من (ق).
(9) في (ق): «على هذا».
(10) قوله: «رضي الله عنهم أجمعين» ليس في (ح).
(11) في (ب) و(ق) و(م): «الأهواء».(3/1072)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «بينا أنا نائم، والناس يعرضون عليّ ...» الحديث . هؤلاء الناس =(6/252)=@ المعروضون (1) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم هم من دون عمر في الفضيلة، فلم يدخل فيهم أبو بكر، ولو عرض أبو بكر رضي الله عنه عليه في هذه الرواية (2) لكان قميصه أطول، فإنَّ فضله أعظم، ومقامه أكبر على ما تقدَّم . وتأويل (3) القميص بالدين مأخوذ من قوله تعالى : } ولباس التقوى ذلك خير { (4) ، والعرب تكني عن الفضل والعفاف بالثياب، كما قال شاعرهم :
ثياب بني عوف طهارى نقيَّة (5)
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان رضي الله عنه: «إن الله سيلبسك قميصًا، فإنَّ أرادوك (6) أن تخلعه فلا تخلعه» (7) . فعبَّر عن الخلافة بالقميص . وهي استعارة حسنة =(6/253)=@ معروفة. &(6/203)&$ وتأويله - صلى الله عليه وسلم - اللبن بالعلم تأويل حسن ظاهر المناسبة؛ %(3/1073)%
__________
(1) في (ق): «المعروضون».
(2) في (ك): «الرؤيا» وفي (ق): «الرويه».
(3) في (ق): «وتأويله».
(4) الآية (26) من سورة الأعراف .
(5) في (ك): «تقية». والبيت لامرئ القيس في "ديوانه" (ص169). وعجزه: وأوجبهم عند المشاهد غُرَّانُ
(6) في (ك): «راودوك».
(7) صحيح بمجموع طرقه . انظر "مختصر استدراك الذهبي" (3/1266-1270 رقم524).(3/1073)
وذلك: أن اللبن غذاء مستطاب، به صلاح الأبدان، ونموها من أول فطرتها ونشوئها، خلا (1) عن الأضرار والمفاسد . والعلم كذلك يحصل به (2) صلاح الأديان (3) والأبدان، ومنافع (4) الدنيا والآخرة مع استطابته في نفسه . وقد يدل في التعبير على دوام الحياة؛ إذ به كانت . وقد يدلّ على الثواب؛ لأنَّه مذكور في أنهار الجنَّة .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أُريتُ أني أنزع في دلو بكرة على قليب»؛ أنزع: أستقي . وأصل النزع: الجذب (5) . والقليب: البئر غير المطويَّة، وهي التي عبر عنها في الرواية الأخرى بالحوض . والحوض: مجتمع الماء . والبكرة: الخشبة المستديرة التي تدور بالحبل .
وقوله: «فجاء أبو بكر فنزع ذنوبًا أو ذنوبين فنزع وفي نزعه ضعف، والله يغفر له»؛ الذَّنوب: الدَّلو، والغرب أكبر منها .
وقوله: «ذنوبًا أو ذنوبين (6) »؛ هو شك من بعض الرُّواة، وقد جاء بغير (7) شك: «ذنوبين (8) » في الرواية الأخرى . وهي أحسن . وهذه الرُّؤيا (9) هي مثال لما فتح الله تعالى على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدي الخليفتين بعده من الإسلام والبلاد والفيء، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو مبدأ الأمر وممكَّن منه، وأبو بكر رضي الله عنه بعده، غير أن مقدار ما فتح الله على يديه من بلاد الكفر قليل؛ لأن مدَّة خلافته كانت سنتين وثلاثة أشهر؛ اشتغل في معظمها بقتال أهل الرِّدَّة، ثم لما فرغ منها (10) أخذ في قتال أهل الكفر، ففتح (11) في تلك (12) المدَّة بعض العراق وبعض الشام، ثمَّ مات (13) رضي الله عنه، ففتح الله (14) على يدي عمر رضي الله عنه %(3/1074)%
__________
(1) في (ح) و(ق): «خلى».
(2) في (ق): «يصلح فيه».
(3) في (ك): «الأبدان».
(4) في (ق): «وشافع».
(5) في (ق): «الخوف».
(6) من قوله: «فنزع وفي نزعه...» إلى هنا سقط من (ق).
(7) في (ك): «من غير».
(8) قوله: «ذنوبين» سقط من (ك).
(9) في (ق): «الروايات».
(10) في (ح): «منهم».
(11) في (ح): «ففتحت»، وفي (ك): «فتحت له».
(12) في (ق): «وفي تلك».
(13) في (ح): «مات أبو بكر».
(14) لفظ الجلالة ليس في (ك).(3/1074)
سائر =(6/254)=@ البلاد، واتَّسعت خطَّة الإسلام شرقًا وغربًا (1) وشامًا، وعظمت الفتوحات، وكثرت الخيرات والبركات التي نحن فيها (2) حتى اليوم . فعبَّر عن سنتي خلافة (3) أبي بكر رضي الله عنه بالذَّنوبين، وعن قلَّة الفتوحات فيها بالضعف، وليس ذلك وهنًا في عزيمته، ولا نقصًا في فضله (4) على ما هو المعروف من همَّته، والموصوف من حالته .
وقوله: «والله يغفر له»؛ لا &(6/204)&$ يظن جاهل بحال أبي بكر رضي الله عنه: أن هذا الاستغفار لأبي بكر كان لذنب صدر عنه، أو لتقصير حصل منه؛ إذ ليس في المنام ما يدلّ على شيء من ذلك؛ وإنما هذا دعامٌ للكلام (5) ، وسنادٌ، وصلة، وقد تقدَّم في الحديث: أنها كانت كلمة يقولها (6) المسلمون: افعل كذا والله يغفر لك . وهذا نحو قولهم: تربت يمينك، وألَّت (7) ! وقاتله الله! ونحو ذلك مما تستعمله العرب في أضاف (8) كلامها على ما تقدَّم .
وقوله: «فاستحالت في يده غربًا»؛ أي: الدَّلو الصغيرة عادت في يده دلوًا كبيرة .
وقوله: «فلم أَرَ عبقريًّا من الناس يفري فريه»؛ قال الأصمعي: سألت أبا (9) عمرو بن العلاء عن العبقري فقال: يقال: هذا عبقري قومه، كقولهم: سيد قومه وكبيرهم وقويُّهم . قال أبو عبيد (10) : وأصله: أنه نسبة (11) إلى أرض تسكنها الجن، فصارت مثلاً لكل منسوب لشيء رفيع . ويقال: بل هي أرض يعمل فيها الوشي والبرود، ينسب إليها الوشي العبقري، ومنه قوله تعالى : } وعبقري حسان { (12) ، وقال أبو عبيد: العبقري: الرجل الذي (13) ليس فوقه شيء .
و«يفري فريه»: الرواية المشهورة بكسر الراء وتشديد الياء، وتروى (14) بتسكين الراء وتخفيف =(6/255)=@ الياء، وأنكر الخليل التثقيل، وغلَّط قائله، ومعناه: يعمل عمله، ويقوى قوته، وأصل الفري: القطع. %(3/1075)%
__________
(1) في (ح): «وعراقًا»، وفي (ك): «وغربًا وعراقًا».
(2) في (ك): «بها».
(3) في (ح): «خلافته».
(4) في (ح) و(ك): «فضيلته».
(5) في (ك): «الكلام».
(6) في (ق): «تقولها».
(7) في (ق): «واللت».
(8) في (ح) و(ق): «أضعاف».
(9) في (ك): «أنا و».
(10) في (ح): «عبيدة».
(11) في (ح): «ينسب»، وفي (ك): «نسب».
(12) الآية (76) من سورة الرحمن .
(13) قوله: «الذي» سقط من (ك).
(14) في (ح) و(ق): «ويروى».(3/1075)
يقال: فلان يفري الفري؛ أي: يعمل العمل البالغ، ومنه قوله تعالى : } لقد جئت شيئًا فَرِيًّا { (1) ؛ أى: عظيمًا بالغًا في فنِّه (2) . يقال: فريت الأديم إذا قطعته على جهة الإصلاح، وأفريته: إذا قطعته على جهة الإفساد (3) .
وقوله: «حتى رُويَ الناس، وضربوا العطن»؛ رَويَ - بكسر الواو وفتح الياء -: فعل ماض، ومضارعه يروى - بفتج الواو - من الرِّي: وهو الامتلاء من &(6/205)&$ الشراب (4) ، ومعناه: أنهم رووا في أنفسهم . وضربوا العطن؛ أي: رووا إبلهم، وأصله أنهم يسقون (5) الإبل، ثم يعطنونها (6) ؛ أي: يتركونها حول الحياض لتستريح (7) ، ثم يعيدون شربها، يقال منه: عطنت الإبل، عاطنة (8) ، وعواطن، وأعطنتها أنا . حكاه ابن (9) الأنباري . وفي الصحاح: عطنت الجلد، أعطنه عطنًا، فهو (10) معطون (11) : إذا =(6/256)=@ ألقيته في الماء والملح والعَلْقى %(3/1076)%
__________
(1) الآية (27) من سورة مريم .
(2) في (ح): يشبه «فيه» بدل «في فنه».
(3) في (ك): «الفساد».
(4) في (ك): «التراب».
(5) في (ق): «يسبقون».
(6) في (ق): «يقطنونها».
(7) في (ك): «تستريح».
(8) في (ح) و(ق): «فهي عاطنة».
(9) قوله: «ابن» سقط من (ق).
(10) في (ك): «فهي».
(11) في (ح): «عطن».(3/1076)
ليتفسخ صوفه ويسترخي، وعطن الإهاب -بالكسر- يعطن عطنًا فهو عطن: إذا (1) أنتن وسقط في العطن وقد انعطن . والعَطن والْمُعْطِن واحد الأعطان والمعاطن، وهي مَبَارِك الإبل عند الماء لتشرب عَلَلاً بعد نهل، وعَطَنت الإبل - بالفتح - تَعْطُن، وتَعْطِن عُطُونًا: إذا رَوِيَت ثم بَرَكَت (2) ، فهي: إبل عَاطِنة، وعَوَطِن (3) ، وقد ضَرَب بعطن؛ أي: بركت إبله . قال ابن السِّكيت: وكذلك تقول: هذا عطن الغنم ومعطنها: لمرابضها حول الماء .
قال الشيخ: وقد جاء معنى هذه الرواية مفسَّرًا في الرواية الأخرى التي قال فيها: «فجاء عمر فأخذه منِّي؛ يعني: الدلو، فلم أَرَ نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآنٌ يتفجر». وفي هذه من الزيادة ما يدلّ على أن عمر رضي الله عنه يُتَوَفَّى ويبقى (4) النصر والفتع بعده متصلاً، وكذلك كان رضي الله عنه .
وقوله في الأصل: «دخلت الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصرها» (5) ، كذا (6) الرواية الصَّحيحة المعروفة، وقد ذكره ابن قتيبة، وقال: امرأة «( شوهاء» مكان «تتوضأ»، وفسَّرها بالحسنة . وذكر (7) ثعلب عن ابن الأعرابي: أن الشوهاء: الحسنة والقبيحة (8) ، فهو من الأضداد. ووضوء (9) هذه المرأة في الجنة إنما هو لتزداد حسنًا =(6/257)=@ ونورًا، لا لتزيل وسخًا، ولا قذرًا؛ إذ الجنة منزة عن ذلك، وهذا كما قال في الحديث الآخر: «أمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوَّة (10) » (11) ؛ على ما يأتي. &(6/207)&$ %(3/1077)%
__________
(1) من قوله: «ألقيته في الماء ....» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح) و(ق): «تركت».
(3) في (ح) و(ق): «وعواطن».
(4) في (ق): «فيبقى».
(5) مسلم (4/1863 رقم2395) في فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر - رضي الله عنه - .
(6) في (ح) و(ق): «قصر هكذا».
(7) في (ك): «وقد ذكر».
(8) في (ق): «الشوهاء والقبيحة» ووضع علامة لحن ولم يتضح شيء في الهامش.
(9) في (ح): «وضوء» بلا واو.
(10) في (ك): «اللؤلؤ».
(11) سيأتي في كتاب ذكر الموت وما بعده، باب في الجنة أكل وشرب ونكاح حقيقة، ولا قذر فيها ولا نقص .(3/1077)
وقوله: «استأذن عمر رضي الله عنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونسوة من قريش يكلِّمنه، ويستكثرنه»؛ أي (1) : من مكالمته، ويحتمل: أنهن يسألنه (2) حوائج كثيرة .
وقوله: «عاليةً أصواتهنَّ»؛ قيل: يحتمل أن يكون هذا قبل نزول قوله تعالى : } لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي { (3) ، وقيل: يحتمل أن ارتفاع أصواتهن لكثرتهن، واجتماع كلامهن، لا أنهن (4) رفعن أصواتهن .
قال الشيخ: ويحتمل أن يكون فيهنَّ من كنَّ جهوريات (5) الأصوات (6) ، لا يقدرنَّ على خفضها، كما كان ثابت بن قيس بن شماس (7) ، والله تعلى أعلم . =(6/258)=@ %(3/1078)%
__________
(1) قوله: «أي» سقط من (ك).
(2) في (ح) و(ك): «سألنه».
(3) الآية (2) من سورة الحجرات .
(4) في (ح): يشبه «لأنهن».
(5) في (ق): «جوهريات» وألحق في الهامش «جهوريات» وكتب فوقها «لعل».
(6) قوله: «الأصوات» سقط من (ق).
(7) سيأتي في التفسير، باب ومنسورة الحجرات .(3/1078)
وقوله: «ما لقيك الشيطان قط (1) سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا (2) غير فجِّك»؛ الفج: الطريق الواسع، وهو أيضًا: الطريق بين جبلين، والظاهر: بقاء هذا اللفظ على ظاهره، ويكون معناه (3) : أن الشيطان يهابه ويجانبه، لما يعلم من هيبته، وقوَّته في الحق، فيفرُّ منه إذا لقيه، ويكون (4) هذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: «إن الشيطان ليفرق (5) منك يا عمر» (6) . ويعني (7) بالشيطان: جنس الشياطين، ويحتمل أن يكون ذلك مثلاً (8) لبُعده عنه، وأنه لا سبيل له عليه، والأوَّل أولى .
وقوله: «قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحدَّثون»؛ «كان» الأولى: بمعنى الأمر والشأن؛ أي: كان الأمر (9) والشأن، وهي نحو ليس في قولهم: ليس خلق الله مثله . وتكون الثانية ناقصة، واسمها محدَّثون، وخبرها في المجرور، ويصح (10) أن تكون تامَّة، وما بعدها أحوال . ومحدَّثون - بفتح الدال - هي الرواية اسم مفعول، وقد فسَّر ابن وهب المحدَّثين بالملهمين؛ أي: يُحدَّثون في ضمائرهم بأحاديث صحيحة، هي من نوع الغيب، فيظهر (11) على نحو ما وقع لهم (12) ، وهذه كرامه يكرم الله تعالى بها من يشاء (13) من صالحي عباده (14) ، ومن هذا النوع ما يقال عليه: فراسه وتوسُّم، كما قد رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري (15) رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله &(6/208)&$ - صلى الله عليه وسلم - : «اتَّقوا فراسة المؤمن، فإنَّه ينظر بنور الله»؛ ثم قرأ: } إن فى ذلك لآيات للمتوسمين { (16) ، وقد تقدَّم القول في نحو هذا، وقد قال =(6/259)=@ بعضهم: إن معنى محدَّثين: مكلَّمون (17) ؛ أي: تكلِّمهم الملائكة. %(3/1079)%
__________
(1) قوله: «قط» سقط من (ق).
(2) قوله: «فجًا» سقط من (ق).
(3) في (ح): «ويكون هذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر إن الشيطان».
(4) في (ح): «ويكون مثل هذا مثل قوله».
(5) في (ك): «ليفر» وفي (ق): «ليفزق».
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (6/358 رقم31986) في الفضائل، باب ما ذكر في فضل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وأحمد (5/353 و356)، والترمذي (5/579-580 رم3690) في المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وابن حبان (15/315 رقم6892/الإحسان)، والبيهقي (10/77). جميعهم من طريق الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إني لأحسب الشيطان يفرق منك يا عمر».
قال الترمذي: حسن صحيح غريب من حديث بريدة .
وقال الألباني في "الصحيحة" ؛4/142 رقم1609): وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وفي الحسين كلام لا يضر .?
(7) في (ح): «يعني» بلا واو.
(8) في (ق): «مثالا» وكأنه أصلحها إلى «مثلا».
(9) في (ق): «أو» بدل «و».
(10) في (ق): «ويحتمل».
(11) في (ق): «فتظهر».
(12) قوله: «لهم» سقط من (ك).
(13) في (ح): «من شاء».
(14) في (ق): «عبيده».
(15) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/354)، والترمذي (5/278 رقم(3127) في التفسير، باب ومن سورة الحجر . كلاهما من طريق مصعب بن سلام، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله،ثم قرأ: } إن في ذلك لآيات للمتوسمين { .?
قال الترمذي: هذا حديث غريب؛ إنما نعرفه من هذا الوجه، وقد روي عن بعض أهل العلم .
ومصعب بن سلام صدوق له أوهام . كما في "التقريب" (6735).
وله طريق أخرى: أخرجه الطبري في "تفسيره" (17/121)، والعقيلي في "الضعفاء" (4/129)، وابن أبي حاتم (4/461) كما في تفسير بن كثير، وأبو نعيم في "الحلية" (10/281282 و282)، والخطيب في "تاريخه" (3/191)، و(7/242). جميعهم من طريق محمد بن كثير مولى بني هاشم، عن عمرو بن قيس، به .
ومحمد بن كثير قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن المديني: كتبنا عنه عجائب، وخططت على حديثه . "الميزان" (4/17 رقم8098). وعدَّ الذهبي هذا الحديث من مناكيره . وقد خالفه الثوري، فرواه عن عمرو بن قيس، قال: كان يقال، فذكره .?
وخرجه العقيلي (4/129)، والخطيب في "تاريخه" (3/191-192).
قال العقيلي: وهذا أولى . وقال الخطيب: وهو الصواب .
وانظر ما علَّقه المعلمي اليماني في تعليقه على "الفوائد المجموعة" للشوكاني (ص 244-245)، والضعيفة للألباني (4/299-302 رقم1821).
(16) الآية (75) من سورة الحجر .
(17) في (ق): «يتكلمون».(3/1079)
قال الشيخ رحمه الله: وهذا (1) راجعٌ لما ذكرته، غير أن ما ذكرته أعم، فقد يخلق الله تعالى الأحاديث بالغيب في القلب ابتداءً من غير واسطة مَلَك، وقال بعضهم: إن معناه (2) أنهم مصيبون فيما يظنُّونه، وإليه ذهب البخاري (3) ، وهذا نحو?من الأول، غير أن الأوَّل أعم، والله أعلم .
وقوله: «فإنَّ يكن في أمتي أحدٌ منهم فعمر»؛ دليلٌ على قلَّة وقوع هذا وندوره، وعلى أنه ليس المراد بالمحدَّثين المصيبون فيما يظنون؛ لأنَّ هذا (4) كثير (5) في العلماء والأئمة الفضلاء (6) ؛ بل (7) : وفي عوام الخلق كثير ممن يقوى حدسه (8) فتصح إصابته فترتفع خصوصية الخبر، وخصوصية (9) عمر رضي الله عنه بذلك، ومعنى هذا الخبر قد تحقق، ووجد في عمر قطعًا؛ وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجزم (10) فيه بالوقوع، ولا صرَّح فيه بالإخبار؛ لأنَّه إنما ذكره بصيغة الاشتراط (11) ، وقد دلَّ على وقوع ذلك لعمر رضي الله عنه حكايات كثيرة عنه، كقصَّة: الجبل يا سارية (12) ، وغيره، وأصح (13) ما يدلّ على ذلك: شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك، كما رواه الترمذي (14) عن ابن عمر مرفوعًا: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه»، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما =(6/260)=@ نزل بالناس أمرٌ قط (15) قالوا فيه، وقال فيه عمر إلا نزل القرآن على نحو ما قال فيه عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن (16) صحيح . ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: «وافقت ربي في ثلاث ...» الحديث . وقد ادعى هذا الحال كثير من أهل المحال، لكن تشهد (17) بالفضيحة (18) شواهد صحيحة. %(3/1080)%
__________
(1) في (ك) و(ح): «وهو».
(2) قوله: «إن معناه» سقط من (ق).
(3) (.....).
(4) قوله: «هذا» سقط من (ك).
(5) في (ح): يشبه «قليل».
(6) في (ك): «في العلماء والفضلاء».
(7) قوله: «بل» سقط من (ق).
(8) في (ح) و(ك): «حديثه».
(9) قوله: «الخبر وخصوصية» سقط من (ح).
(10) في (ق): «لم يجز».
(11) في (ح): «الاشراط».
(12) تقدم تخريجه ....
(13) في (ق): «واضح» بدل «وأصح».
(14) تقدم تخريجه ....
(15) في (ح): «قط إلا».
(16) قوله: «حسن» سقط من (ح).
(17) في (ك): «يشهد».
(18) قوله: «بالفضيحة» مطموس في (ح).(3/1080)
وقوله: «وافقت ربي في ثلاث»؛ يعني: أنَّه وقع له في قلبه حديث عن تلك &(6/209)&$ الأمور، فأنزل الله تعالى القرآن على نحو ما وقع له، وذلك: أنَّه وقع له: أن مقام إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - محل شرَّفه الله تعالى وكرَّمه؛ بأن قام فيه إبراهيم عليه السلام للدُّعاء والصَّلوات، وجعل فيه آيات بينات، وغفر لمن قام فيه الخطيئات، وأجاب فيه الدَّعوات، وقد تقدَّم في الحج ذكر الخلاف فيه، وكذلك وقع له شرف أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلوِّ مناصبهنَّ، وعظيم حرمتهنَّ، وأن الذي يناسب حالهنَّ: أن يحتجبن عن الأجانب؛ فإنَّ اطلاعهم عليهنَّ ابتذاذ (1) لهنَّ، ونقصٌ من (2) حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحرمتهن، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : «احجب نساءك، فإنَّهن يراهنَّ البر والفاجر» (3) . وقد استوفينا الكلام على هذا في النكاح . ووقع له أيضًا قتل (4) أسارى بدر (5) ، وأشار على النبي - صلى الله عليه وسلم - به، وأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه بالإبقاء والفداء، فمال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما قال أبو بكر رضي الله عنه، فأنزل الله تعالى القرآن على نحو ما وقع لعمر (6) رضي الله عنه في الأمور الثلاثة، فكان ذلك دليلاً قاطعًا على: أنه محدَّث (7) =(6/261)=@ بالحق، ملهم لوجه الصَّواب، وقد تقدَّم القول في الصلاة على عبد الله بن أبي، وفي قضية بدر في الجهاد. %(3/1081)%
__________
(1) في (ح): «ابتذال» وفي (ق): «ابتذالهن».
(2) في (ك): «في».
(3) تقدم في الأدب، باب احتجاب النساء .
(4) في (ح): «قتلى».
(5) تقدم في الجهاد والسير، باب الإمام مخير في الأسارى .
(6) في (ك): «لهم» بدل «عمر».
(7) في (ك): «يحدث».(3/1081)
- - - - -
ومن باب فضائل عثمان رضي الله عنه
وهو عثمان بن عفان (1) بن أبي العاص (2) بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي (3) ، يُكنى أبا عمرو، وأبا عبد الله، وأبا ليلى بأولادٍ وُلِدوا له، وأشهر كناه: أبو عمرو، ولقب بذي النُّورين؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - زوَّجه ابنتيه؛ رقية، وأم &(6/210)&$ كلثوم واحدة بعد أخرى، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «لو كانت عندي (4) أخرى لزوَّجتها له» (5) ؛ أسلم قديْمًا قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر إلى أرض الحبشة، وإلى المدينة، ولما خرج رسول الله (6) - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر خلَّفه على ابنته رقية يمرضها، وضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه، وأَجْره، فكان كمن شهدها، وقيل: كان هو في نفسه مريضًا بالجدري، وبايع عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده في يده في بيعة الرضوان، وقال: «هذه لعثمان (7) » (8) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وجهه إلى أهل (9) مكة ليكلمهم في (10) أن يُخلُّوا بين =(6/262)=@ النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين العمرة، فأُرجف بأن قريشًا قتلته، فبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بسبب ذلك .
وفي بقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - منكشف الفخذ حتى اطلع عليه أبو بكر وعمر دليلٌ على أن الفخذ ليس بعورة، وقد تقدَّم الكلام فيه (11) ، وفيه دليل على جواز معاشرة كل واحد من الأصحاب بحسب حاله . ألا ترى انبساطه، واسترساله (12) مع العمرين على %(3/1082)%
__________
(1) قوله: «بن عفان» سقط من (ح) و(ك).
(2) في (ق): «العاصي».
(3) يجتمع نسبه مع نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في: عبد مناف .
(4) في (ق): «لو كان عندنا».
(5) ذكره ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (3/1039)، وابن الجوزي في "الصفوة" (1/194)، والمزني في "تهذيب الكمال" (19/449).
(6) في (ك): «ولما هاجر النبي».
(7) قوله: «لعثمان» سقط من (ك).
(8) البخاري (7/54 رقم3698) في فضائل الصحابة، باب مناقب عثمان بن عفان .
(9) قوله: «أهل» سقط من (ق)
(10) قوله: «في» سقط من (ق).
(11) انظر ما علَّقناه (4/137).... !! الكتاب، والباب .
(12) في (ح): «واسرساله» كذا رسمت.(3/1082)
الحالة التي كان عليها مع أهله، لم يُغيِّر منها شيئًا، ثم إنه لما دخل (1) عثمان رضي الله عنه غيَّر تلك (2) التي كان عليها، فغطى فخذيه (3) ، وتهيَّأ (4) له، ثم لما سُئل عن ذلك، قال (5) : «إن عثمان رجل حيي وإنيِّ خشيت إن (6) أذنت له على تلك الحال ألا (7) يَبْلُغ إليَّ (8) في حاجته». وفي الرواية الأخرى: «ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة ؟!» أي: حياء التوقير والإجلال، وتلك منقبة عظيمة، وخصوصيَّة شريفة ليست لغيره، أعرض قَتَلَةُ عثمان عنها، ولم يُعرِّجوا عليها .
وقولها: «دخل أبو بكر فلم تهتشَّ له، ولم تباله»؛ يروى: تهتش بالتاء باثنتين من فوقها، ويروى بحذفها، وفتح الهاء، وهو من الهشاشة، وهي الخمة (9) والاهتزاز والنشاط عند لقاء من يفرح بلقائه . يقال: هشَّ وبشَّ (10) ، وتبشبش (11) : &(6/211)&$ كلها بمعنى . ولم (12) تباله؛ أي: لم تعتني بأمره (13) ، وأصله من البال، وهو الاحتفال بالشيء، والاعتناء به، والفكر فيه . يقول (14) : جعلته من بالي وفكري، وهو المعبَّر عنه في الرواية الأخرى =(6/263)=@ بقولها: لم أرك فزعت له؛ أي: لم تقبل عليه، ولم تتفرغ (15) له. %(3/1083)%
__________
(1) في (ح): «دخل عليه».
(2) في (ح) و(ق): «تلك الحالة».
(3) في (ح): «فخذه».
(4) قوله: «وتهيأ» لم يتضح في (ح).
(5) في (ك): «فقال».
(6) في (ق): «إذا» بدل «إن».
(7) في (ك): «لا».
(8) في (ك): «التي».
(9) في (ق): «الخفة».
(10) في (ق): «ونش».
(11) في (ق): «ويبشبش».
(12) قوله: «ولم» سقط من (ك).
(13) في (ك): «يعتني به» وفي (ح): «تعتن بأمره».
(14) في (ق): «تقول».
(15) في (ق): «تتفزع».(3/1083)
وقوله: «خرج وجَّه ها هنا»؛ الرواية المشهورة: وجَّه بفتح الجيم مشدَّدة على أنه فعل ماضٍ، وضبطه أبو بحر: وجه - بسكون الجيم - على أن يكون ظرفًا (1) ، والعامل (2) فيه خرج؛ أي: خرج في هذه الجهة.
وقوله: «فإذا هو قد جلس (3) على بئر أريس (4) ، وتوسط قُفَّها، وكشف عن ساقيه، ودلاَّهما في البئر»؛ والقُفُّ -بضم القاف-: أصله: الغليظ من الأرض، قاله ابن دريد وغيره، وعلى هذا: القف: الذي يتمكن (5) الجماعة (6) أن يجلسوا عليه، ويدلوا أرجلهم في البئر، وهو (7) جانبها المرتفع عن الأرض، وكل ما قيل فيه خلاف هذا فيه بُعد، ولا يناسب مساق الحديث .
وقوله: «على رِسلك»؛ هو بكسر الراء، وهو المعروف، ويقال بفتحها؛ أي: اسكن وارفق، كما يقال: على هينتك (8) . =(6/264)=@ %(3/1084)%
__________
(1) في (ق): «ظرف».
(2) في (ق): «العامل» بلا واو.
(3) في (ح): «فإذا هو جالس».
(4) في (ح): «الأريس».
(5) في (ق): «يمكن».
(6) في (ح) و(ق): «للجماعة».
(7) في (ح): «هو».
(8) في (ح): «هيتك».(3/1084)
وقوله: «فجلس وِجَاهه»؛ هو بكسر الواو، ويقال بضمها؛ أي: مقابله وقبالته، وهذا الحديث نصٌّ في أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في الجنة، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة وحسنة (1) يفيد (2) مجموعها القطع بأن الخلفاء الأربعة مقطوع لهم بأنهم من أهل الجنة .
وقوله: «على بلوى تصيبه»؛ هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - إعلام لعثمان رضي الله عنه بما يصيبه من البلاء والمحنة في حال خلافته، وقد جاء من (3) الأخبار ما يدلّ على تفصيل ما يجري عليه من القتل وغيره، فمن ذلك ما خرَّجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يا عثمان ! لعل الله يقمِّصك قميصًا، فإنَّ أرادوك على خلعه &(6/212)&$ فلا تخلعه لهم» (4) . وقال: حديث حسن غريب . وفيه عن =(6/265)=@ ابن عمر (5) رضي الله عنهما قال: ذكر رسول (6) الله - صلى الله عليه وسلم - فتنةً (7) ، فقال: «يقتل فيها مظلومًا» لعثمان رضي %(3/1085)%
__________
(1) في (ح): «وحسنة في الأمهات».
(2) في (ح): «تفيد».
(3) في (ح): «في» بدل «من»
(4) تقدم تخريجه قريبًا في باب فضائل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .
(5) أخرجه أحمد (2/115)، وفي "فضائل الصحابة" (724)، والترمذي (3708) من طريق سفيان بن هارون، عن كليب بن وائل، عن ابن عمر به مرفوعًا. وسفيان بن هارون، وكليب بن وائل مختلف فيهما جرحًا وتعديلاً .?
وله شاهد من حديث مرة بن كعب، أو كعب بن مرة أخرجه أحمد (4/236)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1381)، وفي "السنة" (1295)، والطبراني في "الكبير" (20 رقم753) من طريق معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر، عن جبير بن نفير قال: كنا معسكرين مع معاوية بعد قتل عثمان رضي الله عنه، فقام مرة بن كعب البهزي فقال: أما والله لولا شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قمت هذا المقام، قال: فلما سمع معاوية ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجلس الناس، فقال: بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوس إذ مرَّ عثمان مرجلاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتخرجن فتنة من تحت رجلي، أو من تحت قدمي، هذا ومن اتبعه يومئذ على الهدى، فقام عبد الله بن حوالة الأنصاري من عند المنبر، فقال: إنك لصاحب هذا؟ قال: نعم. قال: أما والله إني حاضر ذلك المجلس، ولو علمت أن لي في المجلس مصدقًا كنت أول من تكلم به . وإسناده صحيح .
(6) في (ح): «لرسول».
(7) في (ق): «فتنته».(3/1085)
الله عنه (1) ، وقال: حديث حسن غريب.
وروى أبو (2) عمر ابن عبد البر عن عائشة (3) رضي الله عنها قالت (4) : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ادعوا لي بعض أصحابي»، فقلت (5) : أبو بكر ؟ فقال (6) : «لا»، فقلت: فعمر (7) ؟ فقال (8) : «لا»، قالت: قلت (9) : ابن (10) عمك عليًّا؟ فقال (11) : «لا»، فقلت له: عثمان (12) ؟ قال (13) : «نعم»، فلما جاءه، فقال لي (14) بيده، فتنحَّيت (15) ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يساره، ولون عثمان يتغيَّر، فلما كان يوم الدار وحصر قيل له: ألا نقاتل عنك ؟ قال: لا، إن (16) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلي عهدًا وأنا صابرٌ عليه (17) . فهذه الأحاديث وغيرها مما يطول تتبعه: تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره بتفصيل ما جرى عليه، وأنه سلَّم نفسه لما علم من (18) أن ذلك قدر سبق وقضاء وجب، ولذلك (19) منع كل من أراد القتال دونه، والدفع عنه - ممن كان معه في الدار، وفي المدينة - من نصرته . وتفصيل كيفية قتله، وما جرى لهم معه مذكور في التواريخ . وجملة الأمر أن قومًا من أهل مصر وغيرهم غلب عليهم الجهل، والهوى، والتعصب، فنقموا عليه أمورًا أكثرها كذب، وسائرها له فيها أوجة من المعاذير، وليس فيها شيء (20) يوجب خلعه، ولا قتله، فتحزَّبوا، واجتمعوا بالمدينة، وحاصروه في داره، فقيل: شهران، وقيل: تسعة وأربعون (21) يومًا، وهو في كل ذلك يعظهم، ويذكرهم بحقوقه، ويتنصل مما (22) نسبوه إليه، ويعتذر منه، ويصرح بالتوبة، ويحتج عليهم بحجج صحيحة لا مخلص لهم عنها، ولا جواب عليها، لكن أعمتهم الأهواء ليغلب القضاء، فدخلوا عليه وقتلوه مظلومًا كما شهد له (23) النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماعة أهل &(6/213)&$ السنة، وألقي (24) على مزبلة، فأقام فيها ثلاثة أيام لم يقدر أحدٌ على دفنه حتى جاء جماعة بالليل خفية، وحملوه (25) على لوح، وصلوا عليه، =(6/266)=@ ودفن في موضع من البقيع يسمى: «حش (26) كوكب»، وكان مما حبَّسه هو، وزاده في البقيع، وكان إذا مر فيه (27) %(3/1086)%
__________
(1) قوله: «لعثمان - رضي الله عنه - » سقط من (ح) و(ك).
(2) قوله: «أبو» سقط من (ك).
(4) قوله: «قالت» سقط من (ق).
(5) في (ح): «فقالت».
(6) في (ح): «قال».
(7) في (ق): «بعمر»، وفي (ك): «لعمر».
(8) في (ح) و(ك): «قال».
(9) في (ح) و(ك): «فقلت»، وسقط منهما قوله :«قالت».
(10) في (ح): «فابن».
(11) في (ح): «قال».
(12) في (ح): «فقلت فعثمان».
(13) في (ق) و(م): «فقال».
(14) قوله: «لي» سقط من (ح).
(15) في (ك): «فتجنبت».
(16) في (ح): «فإن».
(17) ....
(18) قوله: «من» سقط من (ك).
(19) في (ق): «وكذلك».
(20) في (ق): «شيئًا».
(21) في (ق): «تسعة أشهر وأربعون».
(22) في (ق): «بما» بدل «مما».
(23) في (ح) و(ق): «له بذلك».
(24) في (ق): «فألقي».
(25) في (ح) و(ق): «فحملوه».
(26) في (ق) و(م): «حوش».
(27) في (ح): «به» بدل «فيه».(3/1086)
يقول: يدفن فيك رجل صالح (1) ، فكان هو المدفون فيه، وعُمِّي قبره لئلا يعرف، وقد نسب أهل الشام قتله إلى علي (2) رضي الله عنهما، وهي نسبة كذب وباطل، فقد صحَّ عنه: أنه كان في المسجد، وقت دُخِل عليه في الدار، ولما بلغه ذلك قال لقتلته: تبًا لكم آخر الدهر، ثم إنه قد تبرأ من ذلك، وأقسم عليه، وقال: من &(6/214)&$ تبرأ من دين عثمان، فقد تبرأ من الإيمان، والله ما أعنت على قتله، ولا أمرت، ولا رضيت . لكنه لم يقدر على المدافعة بنفسه . وقد كان عثمان منعهم من ذلك . وكان مقتل عثمان في أوسط (3) أيام التشريق على ما قاله أبو عثمان النهدي (4) . قال ابن إسحاق: على رأس إحدى عشرة سنة، وأحد عشر شهرًا، واثنين وعشرين يومًا من مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وعلى رأس خمس وعشرين سنة من متوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال الواقدي: قتل يوم الجمعة لثمان ليالٍ خلت من ذي الحجة؛ يوم التروية سنة خمس وثلاثين، وقيل: لليلتين بقيتا (5) من ذي الحجة . قال ابن إسحاق: وبويع له بالخلافة يوم السبت غرَّة محرم سنة أربع وعشرين؛ بعد دفن عمر بثلاثة أيام، فكانت خلافته إحدى عشرة سنة إلا أيامًا اختلف فيها حسب (6) ما بيَّناه . وقد كان (7) انتهى من الفضل، والعلم، والعبادة إلى الغاية القصوى، كان يصوم الدهر، ويقوم الليل يقرأ القرآن كله في ركعة الوتر رضي الله عنه . وروى الترمذي، عن ابن عمر (8) رضي الله عنهما قال: كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي: أبو بكر (9) وعمر وعثمان، وقال فيه: حديث (10) صحيح حسن، وقد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه شهيد، ومن أهل الجنة، وقتلته مخطئون قطعًا، وقد (11) قدموا على ما قَدِموا عليه (12) . &(6/215)&$ %(3/1087)%
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (1/78-79 رقم109) من طريق عبدالملك الماجشون، قال: سمعت مالكًا يقول: قُتل عثمان - رضي الله عنه - فأقام مطروحًا ... .
قال الهيثمي في "المجمع" (9/95): ورجاله ثقات .
وسنده ضعيف لإعضاله، وفي متنه نكارة .
(2) في (ح): «علي بن أبي طالب رضي الله عنه».
(3) في (ق): «أواسط».
(4) في (ك): «الهندي».
(5) في (ق): «بقين».
(6) في (ق): «على حسب».
(7) قوله: «كان» سقط من (ح).
(8) أخرجه الترمذي (5/588 رقم3707) في المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - . وهو عند لبخاري (7/16 و53-54 رقم3655 و3697) في مناقب الصحابة، باب فضل أبي بكر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وباب مناقب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - .
(9) في (ح): «وأبو بكر».
(10) قوله: «حديث» سقط من (ك) و(ق).
(11) في (ك) و(ق): «قد» بلا واو.
(12) قوله: «عليه» سقط من (ح).(3/1087)
وقول عثمان: «اللهم صبرًا، والله المستعان»؛ أي: اللهم صبَّرني صبرًا، وأعني =(6/267)=@ على ما قدرت علي، فيه: استسلام لأمر الله تعالى، ورضا (1) بما قدره (2) الله تعالى .
وقوله: «فجلس وجاههم من الشق الآخر»؛ الشق: الجانب؛ يعني: أنه جلس في (3) مقابلة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر .
وقول سعيد: «فأوَّلت ذلك قبورهم»؛ هذا من سعيد من باب الفراسة، ومن باب ما يقع في قلوب المحدَّثين الذين قدَّمنا ذكرهم لا من باب تأويل الرؤيا؛ إذ (4) كان ذلك في اليقظة، وذلك أنه لما حدَّث بكيفية جلوس الثلاثة في جهة واحدة من القُفِّ، وعثمان في (5) مقابلتهم وقع في قلبه: أن ذلك كان إشعارًا بكيفية دفنهم، كما كان . والله تعالى أعلم.
- - - - -
ومن باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
هو علي بن أبي طالب (6) بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويكنى: أبا الحسن رضي الله عنه، واسم أبي طالب: عبد مناف، وقيل: اسمه كنيته، واسم =(6/268)=@ هاشم عمرو، وسُمِّي هاشِمًا؛ لأنَّه أوَّل من هشم الثريد، وأم علي فاطمة %(3/1088)%
__________
(1) في (ح): «ورضاه».
(2) في (ق): «قدر الله».
(3) قوله: «في» سقط من (ح) و(ك).
(4) في (ك): «إذا».
(5) قوله: «في» سقط من (ك).
(6) قوله: «رضي الله عنه هو علي بن أبي طالب» سقط من (ك).(3/1088)
بنت (1) أسد ابن هاشم، وهي أوَّل هاشمية ولدت لهاشمي، توفيت مسلمة قبل الهجرة، وقيل: إنها هاجرت (2) ، وكان علي أصغر ولد أبي طالب، كان أصغر من جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أصغر من عقيل بعشر سنين (3) . وكان عقيل أصغر من &(6/216)&$ طالب بعشر سنين . وروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من أسلم (4) -يعنون من (5) الرجال - وإلا فقد اتفق الجمهور على أن أول من أسلم وأطاع النبي (6) - صلى الله عليه وسلم - خديجة بنت (7) خويلد، وقد تقدَّم من قال: إن أول من أسلم أبو بكر رضي الله عنهم .
وقد روى أبو عمر بن عبد البر (8) عن سلمان الفارسي (9) رضي الله عنه قال: قال لي (10) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أولكم واردًا على الحوض أولكم إسلامًا: علي بن أبي طالب». قيل: أسلم وهو ابن سبع سنين، وقيل: ابن ثمان (11) . وقيل: ابن عشر . وقيل: ابن ثلاث عشرة (12) . وقيل: ابن خمس عشرة (13) . وقيل: ابن ثمان عشرة (14) .
وروى سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين العرني (15) قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: أنا أوَّل مَن صلَّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (16) ، ولقد عبدت الله قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأمة خمس سنين .
وروي عن علي رضي الله عنه؛ أنه (17) قال: مكثت كذا وكذا (18) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا يصلِّي معه أحد غيري إلا خديجة .
وأجمعوا: على أنه رضي الله عنه صلَّى إلى (19) القبلتين، وأنه شهد بدرًا وأحدًا، ومشاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها، إلا غزوة تبوك، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتخلَّف في أهله، وقال له: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟». وزوَّجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدة نساء أهل الجنة؛ =(6/269)=@ فاطمة، وآخى بينه وبينه، وقال - صلى الله عليه وسلم - (20) : «لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق». وقال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إنه يحبُه الله ورسوله، وأنَّه يحبُّ الله ورسوله». %(3/1089)%
__________
(1) في (ك) و(ق): «ابنة».
(2) نقلاً عن "الاستيعاب" (3/1089). قال ابن عبدالبر في "الإستيعاب" (4/1891): قيل إنها ماتت قبل الهجرة وليس بشيء، والصواب أنها هاجرت إلى بالمدينة وبها ماتت .
وقال ابن حجر في "الإصابة" (8/60): قيل أنها توفيت قبل الهجرة، والصحيح أنها هاجرت وماتت بالمدينة، وبه جزم الشعبي، قال: أسلمت وهاجرت وتوفيت بالمدينة . اهـ
(3) قوله: «بعشر سنين» سقط من (ح).
(4) النص بتمامه نقلاً عن "الاستيعاب" لابن عبدالبر (3/1090)، وعنه نقله المزي في "تهذيب الكمال" (20/480)، ونقله ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (7/295)، وقال السيوطي في "تدريب الراوي" (2/226): وروي ذلك أيضًا عن أبي أيوب وأنس ويعلى بن مرَّة وعفيف الكندي وخزيمة بن ثابت .
وحديث سلمان: أخرجه ابن أبي شيبة (32112)، وعند ابن أبي عاصم في "الآحاد" (181)، وفي "الأوائل" (69)، والطبراني في "الأوائل" (51)، والحاكم في "المستدرك" (3/136). من طريق سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، عن عكيم، عن سلمان به .
حديث أبي ذر: أخرجه الطبراني (6 رقم6184)، والبزار كما في "مجمع الزوائد" (9/102)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (42/41). وفي إسناده إسماعيل السدي وهو كذاب، وقال الهيثمي: فيه عمرو بن سعيد المصري وهو ضعيف .
وأخرجه البزار في "مسنده" (9 رقم3898) عن عباد بن يعقوب الرواجلي بإسناده عن أبي ذر . وعباد رافضي خبيث . وقال ابن حجر في "مختصر الزوائد"(2/301): وهذا الإسناد واهي .
حديث المقداد: لم أقف عليه .
حديث خباب: لم أقف عليه .
حديث جابر: ذكره ابن حجر في "الإصابة" (4/207) معزوًّا لابن شاهين في الصحابة من طريق إبراهيم بن جعفر، عن أبيه جعفر بن عبدالله بن سلمة، عن عمرو بن مرة الجهضمي، وعبدالله بن فضالة المزني وكانت لهما صحبة، عن جابر: أنهم كانوا يقولون: علي بن أبي طالب أول من أسلم .
قال ابن حجر: قلت: في إسناده من لا يعرف .
حديث أبي سعيد الخدري: لم أقف لأبي سعيد في تقديم علي في إسلامه شيء، والمشهور عنه ما أخرجه الترمذي (3667)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (18)، والبزار (35)، وابن حبان (6863) وغيرهم من حديث عقبة بن خالد، ثنا شعبة، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال أبو بكر: أنا أحق الناس بها، ألست أول من أسلم؟ ... الحديث .
ورجاله ثقات إلا أن عقبة بن خالد أخطأ فيه فوصله وأصحاب شعبة يروونه عن شعبة، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي بكر مرسلاً، ليس فيه أبو سعيد، وهو الصواب .
حديث زيد: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/21)، وابن أبي شيبة (32106 و33867 و35765 و35910 و36594)، وأحمد في "المسند"(4/368 و370 و371)، وابن أبي عاصم في "الآحاد" (180)، وفي "الأوائل" (70)، والترمذي (3735)، والنسائي في "الكبرى" (8137 و8392 و8393)، والطبراني في "الأوائل" (53)، والحاكم في "المستدرك" (3/147)، والخلال في "السنة" (385) من طرق عن شعبة، عن عمرو بن مرَّة، عن أبي جمرة مولى الأنصار، عن زيد بن أرقم به . وإسناده صحيح .
(5) قوله: «من» سقط من (ك).
(6) قوله: «وأطاع النبي» سقط من (ك) وفي (ح): «أسلم من النساء خديجة».
(7) في (ح): «ابنة» وفي (ق): «بنة» كذا رسمت.
(8) قوله: «ابن عبدالبر» سقط من (ح).
(9) ..... تخريج .
(10) في (ق): «قا لي» كذا رسمت.
(11) في (ح): «ثمان عشر».
(12) في (ح): «عشرة سنة».
(13) في (ح): «عشرة سنة».
(14) في (ح): «ثماني عشرة».
(15) في (ح): يشبه «الغدني».
(16) في (ق): «مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(17) قوله: «أنه» سقط من (ك).
(18) قوله: «كذا وكذا» سقط من (ك) و(ق).
(19) قوله: «إلى» سقط من (ح) و(ق).
(20) في (ح): «وقال - صلى الله عليه وسلم - فيه».(3/1089)
وكان رضي الله عنه قد خُصَّ من العلم، والشجاعة، والحلم، والزهد، والورع، ومكارم (1) الأخلاق ما (2) لا يسعه كتاب، ولا يحويه حصر حساب . بويع (3) له بالخلافة يوم مقتل عثمان، واجتمع على بيعته أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار؛ إلا نفرًا منهم، فلم يكرههم، وسئل عنهم فقال: أولئك قوم خذلوا الحق، ولم &(6/217)&$ يعضدوا بباطل (4) . وتخلف عن بيعته معاوية ومن معه من أهل الشام، وجرت عند ذلك خطوب لا يمكن حصرها، والتحمت حروب لم يسمع في المسلمين بمثلها، ولم تزل ألويته (5) منصورة عالية على الفئة الباغية إلى أن جرت قضيه التحكيم، وخدع (6) فيها ذو القلب السليم، وحينئذ خرجت الخوارج، فكفَّروه (7) وكلَّ من معه، وقالوا: حكَّمت الرجال فى دين الله، والله تعالى يقول: } إن الحكم إلا لله { (8) ، ثم اجتمعوا وشقُّوا عصا المسلمين، ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الدماء، وقطعوا السبيل، فخرج إليهم (9) علي بمن معه، ورام رجوعهم فأبوا إلا القتال، فقاتلهم بالنهروان، فقتلهم (10) واستأصل جميعهم، ولم ينج منهم إلا اليسير، وقد تقدَّم قوله - صلى الله عليه وسلم - : «يقتلهم أولى الطائفتين بالحق»، ثم انتدب إليه رجل من بقايا الخوارج يقال له: عبد الرحمن بن ملجم . قال الزبير (11) : كان من حِمير فأصاب دماء (12) فيهم، فلجأ إلى مراد، فنسب إليهم، فدخل على علي في (13) =(6/270)=@ مسجده بالكوفة . فقتله ليلة الجمعة ،وقيل (14) : في صلاة صبحها، وقيل: لإحدى عشرة ليلة خلت من رمضان . وقيل: لثلاث عشرة . وقيل: لثمان عشرة . وقيل: في أول ليلة (15) من العشر الآخر (16) من رمضان (17) سنة أربعين . واختلف في موضع قبره اختلافًا كثيرًا يدلّ (18) على عدم العلم به، وأنه مجهول . وكذلك اختلف في سِنِّه يوم قتل . فقيل: ابن (19) سبع وخمسين إلى خمس وستين سنة . وكانت مدة خلافته أربع سنين وستة أشهر، وستة أيام . وقيل: ثلاثة. وقيل: أربعة عشر يومًا. %(3/1090)%
__________
(1) في (ح) و(ق): «وكرم».
(2) في (ح): «بما».
(3) في (ح): «وتوقع».
(4) في (ح) و(ق): «الباطل».
(5) في (ك): «فئته».
(6) في (ق): «وجذع».
(7) في (ك): «وكفروه».
(8) الآية (57) من سورة الأنعام .
(9) في (ق): «عليهم» بدل «إليهم».
(10) في (ق): «وقاتلهم».
(11) في (ق): «الزبيري».
(12) في (ق): «دمًا» وأثبت تنوين النصب.
(13) في (ق): «فدخل عليه في».
(14) قوله: «وقيل في صلاة صبحها وقيل» سقط من (ق).
(15) في (ق): «أو ليلة».
(16) في (ك): «الأواخر».
(17) من قوله: «وقيل لثلاث عشر ....» إلى هنا سقط من (ح).
(18) في (ق): «فدل».
(19) في (ح): «من» بدل «ابن».(3/1090)
فأُخِذ (1) عبدالرحمن بن ملجم، فقُتِل أشقى هذه الأمة . وكان علي رضي الله عنه (2) إذا رآه يقول:
أريدُ حَيَاتَهُ ويُرِيدُ قَتْلِي عَذِيرَكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرادِ (3)
وكان يقول: ما يمنع (4) أشقاها، أو: ما ينتظر أشقاها أن يخضبَ هذه من هذا، والله ليخضبنَّ هذه من دم هذا - ويشير إلى لحيته ورأسه - خضاب دمٍ، لا خضاب حناء ولا عبير (5) (6) .
وقد روى النسائي (7) وغيره (8) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه &(6/218)&$ قال لعلي رضي الله عنه: «أشقى الناس الذي عقر الناقة، والذي يضربك على هذا- ووضع يده على رأسه - حتى يخضب هذه»، يعني: لحيته .
وتأخر موته رضي الله عنه، ولا رضي عن قاتله (9) - عن ضربه نحو الثلاثة الأيام. جملة ما حفظ له من الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة حديث (10) وسبعة وثلاثون حديثًا، =(6/271)=@ مثل أحاديث عمر رضي الله عنهما، أخرج له منها في الصحيحين أربعة وأربعون حديثًا.
وقول معاوية لسعد (11) بن أبي وقاص:«ما منعك أن تسبَّ (12) أبا تراب»؛ يدل: على أن مقدم (13) بني أميَّة كانوا يسبُّون عليًّا وينتقصونه، وذلك كان منهم لما وقر في أنفسهم من أنه أعان على قتل عثمان، وأنه أسلمه لمن قتله، بناء منهم على أنه كان بالمدينة، وأنه كان متمكنًا من نصرته . وكل ذلك ظن كذب، وتأويل باطل غطَّى التعصُّب منه وجه الصَّواب. وقد %(3/1091)%
__________
(1) في (ح): «وأخذ».
(2) قوله: «علي - رضي الله عنه - » سقط من (ك).
(3) البيت لعمرو بن معدي كرب ."الطبري" (3/365)، و"الأغاني" (15/218).
(4) في (ح): «ما منع».
(5) في (ك): «ولا غير».
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (14/596)، وأحمد (1/130)، وأبو يعلى (341) من طريق وكيع، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن عبدالله بن سَبُع، عن علي - رضي الله عنه - ، به . وأخرجه النسائي في "مسند علي" من طريق الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن سالم بن أبي الجعد، عن عبدالله بن سَبيع . ورواه أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن عبدالله بن سبع . وأخطأ فيه ابن عياش، رواه أحمد (1/156).
وبالجملة إسناده جيد غير أن عبدالله بن سبع لم يوثقه غير ابن حبان أحد، ولم يرو عنه غير سالم بن أبي الجعد .
(7) أخرجه أحمد (4/264)، وابن أبي عاصم في "الآحاد" (175)، والنسائي في "الكبرى" (8538)، والطبراني في "التاريخ" (2/408)، والطحاوي في "المشكل" (811)، وأبو نعيم في الحلية" (1/141)، وفي "دلائل النبوة" (490) من طرق عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يزيد بن خثيم، عن محمد بن كعب القرضي .
ووقع عند النسائي والطحاوي: يزيد بن محمد بن خثيم وهو الصواب .
فقد أخرجه أحمد (4/263)، وفي "فضائل الصحابة"(1132)، والحاكم (3/140)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (675)، من طريق علي بن بحر ثنا عيسى بن يونس، وأخرجه البزار في مسنده (1417) من طريق بكر بن سليمان، والدولابي في الكنى (2/163) من طريق سيعيد بن زُريع، والطحاوي في "مشكل الآثار" (811) من طريق يونس بن بكير . أربعتهم عن محمد بن إسحاق، ثنا يزيد بن محمد بن خثيم المحاربي، عن محمد بن كعب القرظي، عن محمد بن خثيم أبي يزيد، عن عمار به .
وأخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" (92)، والطبراني في "الكبير" (173)، والحاكم في "المستدرك" (3/113)، وابن أبي نعيم في "الآحاد والمثاني" (174)، وأبو يعلى (569) من طرق عن زيد بن أسلم: أن أبا سنان الدؤلي عاد عليًّا - رضي الله عنه - في شكوة اشتكاها فقال له: تخوفنا عليك، فذكر الحديث بمعناه .
(8) قوله: «وغيره» سقط من (ح).
(9) قوله: «ولا رضي عن قاتله».
(10) قوله: «حديث» سقط من (ح) و(ك).
(11) في (ح): يشبه «لسعيد».
(12) في (ك): «تنسب».
(13) قوله: «مقدم» سقط من (ح).(3/1091)
قدمنا: أن عليًّا رضي الله عنه أقسم بالله: أنه ما قتله، ولا مالأ على قتله، ولا رضيه . ولم يقل أحدٌ من النقلة (1) قط، ولا سمع من أحد: أن عليًّا كان مع القتلة، ولا أنه دخل معهم الدَّار عليه . وأما ترك نصرته؛ فعثمان رضي الله عنه أسلم نفسه، ومنع من نصرته، كما ذكرناه في بابه . ومِمَّا تشبَّثوا (2) به: أنهم نسبوا عليًّا إلى ترك أخذ القصاص من قتلة عثمان، وإلى أنه منعهم منهم، وأنَّه قام دونهم . وكل ذلك أقوال كاذبة أنتجت ظنونًا غير صائبة (3) ، ترتب عليها ذلك البلاء كما سبق به القضاء .
وقوله: «في بعض مغازيه»؛ قد قلنا: إنها كانت غزوة تبوك خلَّفه النبي (4) - صلى الله عليه وسلم - في أهله، واستخلفه على المدينة، فيما قيل . ولما صعب على علي رضي الله عنه تخلَّفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشق عليه، سكَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - (5) وآنسه بقوله: «أما ترضى أن =(6/272)=@ تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟» وذلك: أن موسى - صلى الله عليه وسلم - لما عزم على الذهاب لما وعده الله به من المناجاة قال لهارون عليه السلام : } اخلفني في قومي وأصلح { (6) . &(6/219)&$
وقد استدل بهذا الحديث الرَّوافض، والإمامية (7) ، وسائر فرق الشيعة: على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف عليًّا رضي الله عنه على جميع الأمة . فأمَّا الرَّوافض فقد كفَّروا الصَّحابة كلهم؛ لأنَّهم عندهم تركوا العمل بالحق (8) الذي هو النَّصُّ على استخلاف علي رضي الله عنه واستخلفوا (9) غيره %(3/1092)%
__________
(1) في (ك): «أهل العلم».
(2) في (ك) و(ح): «شببوا».
(3) في (ح): «صادقة»، وفي (ك): «صابتة».
(4) في (ح): «رسول الله».
(5) قوله: «وشق عليه سكَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - » سقط من (ح).
(6) الآية (143) من سورة الأعراف .
(7) في (ق): «الإمامية».
(8) في (ك): «تركوا الحق».
(9) في (ح): «فاستخلفوا».(3/1092)
بالاجتهاد . ومنهم من كفَّر عليًّا رضي الله عنه؛ لأنه (1) لم يطلب (2) حقَّه . وهؤلاء لا يشك (3) في كفرهم؛ لأنَّ من كفر الأمَّة كلها والصَّدر الأول؛ فقد أبطل نقل الشريعة، وهدم الإسلام . وأما غيرهم من الفرق فلم يرتكب أحدٌ منهم هذه المقالة الشنعاء القبيحة القصعاء (4) ، ومن ارتكبها منهم ألحقناه بمن تقدَّم في التكفير ومأواه جهنم وبئس المصير، وعلى الجملة فلا حجَّة لأحدٍ منهم في هذا الحديث، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما استنابه في أمر خاص وفي (5) وقت خاص، كما استناب موسى هارون عليهما السلام في وقت خاص، فلما رجع موسى عليه السلام من مناجاته، عاد هارون (6) إلى أول حالاته، على أنه قد كان هارون شُرك مع موسى في أصل الرسالة، فلا يكون (7) لهم فيم (8) راموه دلالة . وغاية هذا الحديث أن يدلّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما استخلف عليًّا رضي الله عنه على المدينة فقط، فلما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك قعد مقعده، وعاد علي رضي الله عنه (9) إلى ما كان عليه قبل . وهذا كما استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (10) على المدينة ابن أم مكتوم (11) وغيره، ولا يلزم من ذلك استخلافه دائمًا بالاتفاق . =(6/273)=@
وقوله: «غير (12) أنه لا نبي بعدي»؛ إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - تحذيرًا مما وقعت فيه طائفة من غلاة الرَّافضة؛ فإنَّهم قالوا: إن عليًّا نبي يوحى إليه. وقد تناهى بعضهم في الغلو إلى أن صار في علي إلى ما صارت إليه (13) النصارى في المسيح، فقالوا: إنه الإله (14) . وقد حرَّق علي رضي الله عنه من قال ذلك (15) ، فافتتن (16) بذلك جماعه منهم، وزادهم ضلالاً (17) ، وقالوا (18) : الآن تحققنا: أنه الله؛ لأنَّه لا يعذب بالنار إلا الله . وهذه كلها أقوال عوام، جهَّال، سخفاء العقول، لا يُبالي (19) أحدهم بما يقول، فلا (20) ينفع سهم (21) البرهان، لكن السَّيف والسَّنان. &(6/220)&$ %(3/1093)%
__________
(1) في (ح): «أنه».
(2) في (ك): «يقم يطلب».
(3) في (ك) و(ق): «شك».
(4) في (ك): «الغضاء».
(5) في (ك): «في».
(6) في (ق): «رجع موسى هارون إلى أول» بدل «عاد هارون إلى أول».
(7) في (ق): «تكون».
(8) في (ك): «فيه على ما» وفي (ح): «عليه على ما».
(9) قوله: «علي - رضي الله عنه - » سقط من (ك).
(10) في (ح) و(ق): «النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(11) أخرجه أبو يعلى (4456)، وابن حبان في "صحيحه" (2134 و2135)، والطبراني في "الأوسط" (2723)، وابن عدي في "الكامل" (2/410). كلهم من طريق حبيب المعلم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف ابن أم مكتوم على المدينة يصلي بالناس .
وإسناده صحيح .
وأخرجه أحمد (3/132)، وأبوداود (595 و2931)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (831)، وأبو يعلى (3110 و3138)، وابن الجارود (310)، وأبو نعيم في الحلية" (9/45)، والبيهقي (3/88). كلهم من طريق عبدالرحمن بن مهدي، ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين، ولقد رأيته يوم القادسية ومعه راية سوداء . وإسناده لا بأس به.
وقال خليفة بن خياط في "تاريخه" (1/96): استخلف على المدينة ابن مكتوم ثلاث عشر مرة في غزواته .
وكذا قال ابن عبدالبر في "الإستيعاب" (3/1998) نقلاً عن الواقدي .
(12) في (ح): «إلا».
(13) قوله: «إليه» سقط من (ح)
(14) في (ح): «إله».
(15) قال الحافظ في "فتح الباري" (12/270): «أصله ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلّص من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي أن هنا قومًا على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم! إنما أنا عبد مثلكم أكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فأتقوا الله وأرجعوا، فأبوا، فلما كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: ادخلهم، فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فقال: يا قنبر! ائتني بفعلة معهم مرورهم فخد لهم أخدودًا بين باب المسجد والقصر، وقال: أحفروا فابعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال: إني إذا رأيت أمرًا منكرًا أوقدت ناري ودعوت قنبرًا . وهذا سند حسن».اهـ.
(16) في (ح): «فافتتن».
(17) في (ح): «ضلالة».
(18) في (ح): «فقالوا».
(19) في (ك): «يتأتى».
(20) في (ح): «ولا».
(21) في (ح) و(ق): «معهم».(3/1093)
وقوله: «لأعطين الرَّاية رجلاً يفتح الله على يديه (1) ، يحب الله ورسوله»؛ الكلام إلى آخره فيه دليلان (2) على صحة نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي: إخباره عن فتح خيبر، ووقوعه على نحو ما أخبر . وبرء رمد عين علي رضي الله عنه على =(6/274)=@ فور دعاء النبي (3) - صلى الله عليه وسلم - . وفي غير كتاب مسلم: أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح على عيني علي رضي الله عنه ورقاه (4) .
وفيه من الفقه: جواز المدح بالحق إذا لم تخش (5) على الممدوح فتنة . وقد تقدَّم القول في محبة الله .
وفيه ما يدل: على أن الأولى بدفع الراية إليه من اجتمع له الرئاسة، والشجاعة ،?وكمال العقل .
وقوله: «فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها»؛ أي: يتفاوضون بحيث اختلطت أقوالهم فيمن يعطاها. يقال: بات القوم يدوكون دوكًا؛ %(3/1094)%
__________
(1) قوله: «يفتح الله على يديه» سقط من (ح) و(ق).
(2) في (ح): «دليل».
(3) في (ح): «رسول الله».
(4) أخرجه النسائي في "الكبرى" (8151)، وفي فضائل الصحابة (48) من طريق يعلى ابن عبيد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة . وإسناده صحيح .
(5) في (ق): «يخشى».(3/1094)
أي: في اختلاط ودوران، ووقعوا في دوكة - بفتح الدَّال وضمها - وإنما فعلوا ذلك حرصًا على نيل (1) هذه الرتبة الشريفة، والمنزلة الرَّفيعة؛ التي لا شيء أشرف منها .
وقول علي رضي الله عنه: «أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟» معناه: حتى يدخلوا (2) في ديننا فيصيروا مثلنا فيه .
وقوله: «انفذ (3) على رسلك حتى تنزل بساحتهم»؛ أى: امض (4) لوجهك مُترفقًا متثبِّتًا . وقد جاء مفسَّرًا في رواية أخرى (5) قال فيه (6) : «امش ولا تلتفت»، وقد تقدَّم القول في «رَسْلك». والسَّاحة: الناحية . =(6/275)=@ &(6/221)&$
وقوله: «ثمَّ ادعهم إلى الإسلام، وأعلمهم بما يجب عليهم من حق الله فيه»؛ هذه الدَّعوة قبل القتال؛ التي تقدَّم القول فيها في الجهاد، وقد فسَّرها في الرواية الأخرى في "الأم" قال: فصرخ علي: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس (7) ؟ قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسول الله، فإذا فعلوا (8) فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» (9) ؛ فهذا هو حق الله المذكور في الرواية المتقدِّمة. %(3/1095)%
__________
(1) في (ق): «مثل».
(2) في (ك): «تدخلوا».
(3) في (ق): «انفد».
(4) في (ق): «امضي».
(5) في (ح): «الرواية الأخرى».
(6) قوله: «قال فيه» سقط من (ق).
(7) قوله: «الناس» سقط من (ح).
(8) في (ح): «فعلوا ذلك».
(9) "صحيح مسلم" (2405).(3/1095)
وقوله: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعم»؛ حضٌّ عظيم على تعليم العلم وبثه في?الناس، وعلى الوعظ والتذكير بالدار الآخرة والخير، وهذا كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: «إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير» (1) .
والهداية: الدَّلالة والإرشاد . والنَّعم: هي الإبل، وحمرها هي خيارها حُسنًا وقوة ونفاسة؛ لأنَّها أفضل عند العرب، ويعني به – والله تعالى أعلم – أن (2) ثواب تعليم (3) رجل واحد، وإرشاده للخير أعظم من ثواب هذه (4) الإبل النفيسة لو كانت لك فتصدقت بها؛ لأنَّ ثواب تلك الصدقة ينقطع بموتها، وثواب العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من (5) ثلاثه»، فذكر منها: «علم (6) ينتفع به» (7) .
وفي نوم علي رضي الله =(6/276)=@ عنه في المسجد، وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له على ذلك: دليل على جواز ذلك للمتأهل الذي له منزل، وبه قال بعضُ أهل العلم، وكرهه مالك من غير ضرورة، وأجازه للغرباء؛ لأنَّهم في حاجة وضرورة، وقد تقدَّم ذلك في كتاب الصلاة . ومسح النبي - صلى الله عليه وسلم - جَنب علي رضي الله عنه من التراب، وهو يقول: «قم أبا?التراب، قم أبا التراب (8) »؛ &(6/222)&$ دليل على محبته له، وشفقته عليه، ولطفه به، ولذلك كان ذلك الاسم أحب إلى علي رضي الله عنه من كل ما يدعى به، فيا عجبًا من بني أمية كيف صيَّروا الفضائل رذائل، والمناقب معايب، لكن غلبة الأهواء تعوِّض الظلمة من الضياء، وقد ذكر?أبو عمر بن عبد البر %(3/1096)%
__________
(1) أخرجه الترمذي (2685)، والطبراني في "الكبير" (8 رقم7912) من طريق الوليد بن جميل، ثنا القاسم أبو عبدالرحمن، عن أبي أمامة به مرفوعًا .
قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (13/1131): هذا حديث غريب، والوليد صاحب مناكير، وقال في "سير أعلام النبلاء" (18/162): تفرد به الوليد، وليس بمعتمد .اهـ.
قلت: الوليد رضيه ابن المديني وقال أبو داود: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري: مقارب الحديث، فلا بأس به إن شاء الله، وله شاهد من حديث عائشة مرفوعًا: «معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر».
أخرجه البزار وفي إسناده محمد بن عبدالملك وهو كذاب "مجمع الزوائد" (1/134)، وأخرج الدارمي (343) من طريق الأعمش، عن شمر بن عطية، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر .
(2) قوله: «أن» سقط من (ق).
(3) في (ح): «تعلم».
(4) قوله: «هذه» سقط من (ح).
(5) قوله: «من» سقط من (ك).
(6) في (ح): «فذكر فيها علمًا» وفي (ق): «علمًا».
(7) "صحيح مسلم" (1631).
(8) قوله: «قم أبا التراب» الثانية سقط من (ق).(3/1096)
بإسناده إلى ضرار الصُّدائي (1) (2) : وقال له معاوية: صف لي عليًّا، فقال: اعفني يا أمير المؤمنين ! قال: صفه . قال: أما إذ ولا بد من وصفه، فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً (3) ، ويحكم عدلاً، يتفجَّر (4) العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس من الليل (5) ووحشته، وكان غزير الدَّمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويفتينا إذا استفتيناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يُعظم أهل الدِّين، ويُقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد (6) لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضًا على لحيته يتملل تملل (7) السَّليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غُرِّي غيري، =(6/277)=@ إليَّ تعرضت؟ أم إلي تشوَّفت (8) ، هيهات هيهات! قد بتتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك قليل، آه من قلة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق؛ فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا حسن! كان والله كذلك، كيف حزنك عليه (9) يا ضرار ؟ قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها (10) . %(3/1097)%
__________
(1) في (ق): «الصيداني» وكتب في الهامش «الصدائي» ووضع فوقها (خ).
(2) "الاستيعاب" لابن عبدالبر (3/1107)، وفي إسناده مجهول، واخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/84)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (24/401) من طريق محمد بن السائب الأيلي، عن أبي صالح به .
ومحمد بن السائب رافضي كذاب .
(3) في (ح): «فضلاً».
(4) في (ك): «ينفجر».
(5) في (ق): «بالليل».
(6) قوله: «واشهد» سقط من (ك).
(7) في (ح) و(ق): «يتململ تململ» وكتب في هامش (ق): «يتمايل تمايل».
(8) في (ق): «تشوقت».
(9) قوله: «عليه» سقط من (ك).
(10) في (ق): «في حجرها» وكتب في الهامش «في صدرها» ووضع (نخ).(3/1097)
قال الشيخ رحمه الله: وهذا الحديث: يدل على معرفة معاوية رضي الله عنه بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته، وعظيم (1) حقه، ومكانته، وعند ذلك يبعد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبه؛ لما &(6/223)&$ كان معاوية موصوفًا به من الفضل والدين، والحلم، وكرم الأخلاق، وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح . وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا التراب (2) ؟ وهذا ليس بتصريح بالشيء (3) ؛ وإنَّما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج (4) ما عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد (5) ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية (6) سكت، وأذعن، وعرف الحق لمستحقه، ولو سلمنا: أن ذلك من معاوية حمل على السَّب، فإنَّه يحتمل أن يكون طلب منه أن يسبَّه بتقصير في اجتهاد، في إسلام عثمان لقاتليه (7) ، أو في إقدامه على الحرب والقتال للمسلمين، وما أشبه ذلك (8) مما يمكن أن يقصر بمثله من أهل الفضل، وأما (9) =(6/278)=@ التصريح باللعن، وركيك القول، كما قد اقتحمه جهَّال بني أمية وسفلتهم، فحاشا معاوية منه، ومن كان على مثل حاله من الصحبة، والدين، والفضل، والحلم، والعلم (10) ، والله تعالى أعلم .
- - - - -
ومن باب فضائل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
واسمه (11) : مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرَّة (12) ، يكنى: أبا إسحاق، أسلم قديمًا، وهو ابن سبع عشرة سنة، وقال: مكثت ثلاثة أيام، وأنا ثلث الإسلام (13) . وقال: أنا (14) أول من رمى بسهم في سبيل الله (15) . شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولي الولايات العظيمة من قبل عمر %(3/1098)%
__________
(1) في (ك): «عظم».
(2) في (ق): «أبا تراب».
(3) في (ح) و(ق): «بالسب».
(4) في (ق): «يستخرج».
(5) قوله: «قد» سقط من (ك).
(6) في (ق): «معاوية ذلك».
(7) في (ق): «لقاتليه» وكتب في الهامش «لقاتله» ووضع (نخ).
(8) في (ح): «هذا».
(9) في (ق): «فأما».
(10) في (ك): «والعلم والحلم».
(11) أي: أبو قاص، والد سعد .
(12) جده وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأم: عبد مناف، ويجتمع نسبه مع نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلاب بن مرة .
(13) أخرجه البخاري (7/83 و170 رقم3727 و3858) في فضائل الصحابة، باب مناقب سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ، وباب إسلام سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - . ولفظه: ولقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام .
(14) في (ح): «وأنا».
(15) أخرجه البخاري (7/83 رقم3728) في فضائل الصحابة، باب مناقب سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - . و(11/282 رقم6453) في الرقاق، باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا .(3/1098)
وعثمان رضي الله عنهم . وهو أحد &(6/224)&$ أصحاب الشورى، وأحد المشهود لهم بالجنة (1) . توفي في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وصلَّى عليه مروان بن الحكم، ومروان إذ ذاك والي المدينة، ثم صلى عليه أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ دُخِل (2) بجنازته في المسجد، فصلين عليه في حجرهن، وكفن في جبة صوف، لقي المشركين فيها يوم بدر، فوصى أن يكفن فيها، ودفن بالبقيع سنة خمس وخمسين، ويقال سنة خمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة (3) ، ويقال: ابن اثنين وثمانين، وروي عنه من الحديث مائتان وسبعون، أخرج له منها في الصحيحين ثمانية وثلاثون (4) .
وقوله: «أَرِقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمه المدينة (5) ليلة»؛ أي: سهر عند (6) أول =(6/279)=@ قدومه على المدينة في ليلة من الليالي، فقال: «ليت رجلاً صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة». قيل: كان هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر، قبل أن ينزل عليه : } والله يعصمك من الناس { (7) .
قال الشيخ رحمه الله: ويحتمل أن يقال: إن قوله : } والله يعصمك من الناس { ليس فيه ما يناقض احتراسه من الناس، ولا ما يمنعه، كما أن إخبار الله تعالى عن نصره، وإظهاره لدينه (8) ليس فيه ما يمنع الأمر بالقتال، وإعداد العَدَد والعُدَد، والأخذ بالجد والحزم، والحذر (9) ، وسر ذلك: أن هذه أخبار (10) عن عاقب الحال (11) ، ومآله، لكن هل تحصل تلك العاقبة عن سبب معتاد، %(3/1099)%
__________
(1) روي من حديث عبدالرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد .
1 - حديث عبدالرحمن بن عوف :
يرويه عبدالرحمن بن حميد، عن أبيه، واختلف عليه: فأخرجه أحمد (1/196)، والترمذي (5/605 رقم 3747) في المناقب، باب مناقب عبد الرحمن بن عوف، والنسائي في "الكبرى" (5/56 رقم8194)، وأبو يعلى (2/147-148 رقم835)، وابن حبان (15/463 رقم 7002)، والبغوي (14/128 رقم3925) جميعهم من طريق قتيبة بن سعيد .
وأخرجه البغوي (3926) من طريق يحيى الحمَّاني، والبزار (3/231 رقم1020) من طريق إبراهيم بن أبي الوزير. ثلاثتهم - قتيبة بن سعيد، ويحيى الحماني، وإبراهيم بن أبي الوزير -، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عبدالرحمن بن حميد، عن حميد بن عبدالرحمن، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة». هكذا موصولاً . وأخرجه الترمذي في الموضع السابق، عن أبي مصعب، والبزار (1021) عن أحمد بن أبان القرشي . كلاهما - أبو مصعب، وأحمد بن أبان القرشي -، عن الدراوردي، عن عبد الرحمن بن حميد، عن حميد بن عبدالرحمن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا مرسلاً .
وأخرجه الترمذي في الموضع السابق (3748)، والنسائي في "الكبرى" (8195)، وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (1436)، والحاكم (3/440). جميعهم من طريق عمرو ابن سعيد، عن عبد الرحمن بن حميد، عن حميد بن عبدالرحمن، عن سعيد بن زيد، فذكره مرفوعًا .
وقد ذهب إلى ترجيح رواية سعيد بن زيد جماعة، وهم: البخاري، والترمذي، فقالا: هو أصح من الحديث الأول - أي حديث عبدالرحمن بن عوف -.
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/366 رقم2613): « سألت أبي عن حديث رواه عبدالعزيز الدراوردي، عن عبدالرحمن بن حميد، عن ابن - تصحف في المطبوع: عن - عبدالرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده عبدالرحمن بن عوف، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عشرة في الجنة؛ ورواه موسى ابن يعقوب الزمعى، عن عمر بن سعيد بن شريح، عن عبدالرحمن بن حميد، عن أبيه، عن سعيد بن زيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . قلت لأبي: أيهما أشبه؟ قال: حديث موسى أشبه؛ لأن الحديث يروى عن سعيد من طرق شتى، ولا يعرف عن عبدالرحمن بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا شيء» .اهـ.
وخالفهم الدارقطني في "العلل" (4/416-418) فرجح حديث عبدالرحمن بن عوف الموصولة، فقال: هو حديث يرويه عبد الرحمن بن حميد بن عبدالرحمن، عن أبيه، واختلف عنه؛ فرواه عمر بن سعيد بن شريح، عن عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه، عن سعيد بن زيد . ورواه الدراوردي، عن عبد الرحمن بن حميد، واختلف عنه؛ فرواه مروان بن محمد الطاطري، عن الدراوردي، عن عبدالرحمن بن حميد، عن أبيه، عن سعيد بن زيد، وخالفه جماعة منهم سعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد، ويحيى الحماني، وضرار بن صرد، وإسحاق بن أبي إسرائيل؛ فرووه عن الدراوردي، عن عبدالرحمن بن حميد، عن أبيه، عن جده عبدالرحمن بن عوف . واجتماعهم على خلاف مروان بن محمد يدل على أن قولهم أصح من قوله، وقد روي عن الدراوردي، عن عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه مرسلاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ».اهـ.
2 - حديث سعيد بن زيد: وله عنه ثلاثة طرق :
أ - عبدالرحمن بن الأخنس: أخرجه الطيالسي (ص32 رقم236)، وأحمد (1/188)، وأبو داود (5/39 رقم4649) في السنة، باب في الخلفاء، والترمذي (5/610 رقم3757) في المناقب، باب مناقب سعيد بن زيد، والنسائي في"الكبرى" (5/60 رقم8210)، وأبو يعلى (2/259-260 رقم971)، وابن حبان (15/454 رقم6993/الإحسان). جميعهم من طريق شعبة .
وأخرجه ابن أبي شيبة (6/354 رقم31944) في الفضائل، باب ما ذكر في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، والنسائي في"الكبرى" (5/47 و58 رقم8156 و8204) كلاهما من طريق الحسن بن عبيدالله . - شعبة، والحسن بن عبيدالله -، عن الحر بن الصياح، عن عبدالرحمن بن الأخنس، عن سعيد بن زيد، فذكره .
ب - رياح بن الحارث: أخرجه وأحمد (1/187)، وأبو داود (5/39-40 رقم4650) في الموضع السابق، وابن ماجه (1/48 رقم133) في المقدمة، باب فضائل العشرة رضي الله عنهم، والنسائي في"الكبرى" (5/56 و62 رقم 8193 و8219). جميعهم من طريق صدقة بن المثنى، عن رياح بن الحارث، عن سعيد بن زيد، فذكره . وانظر "تلخيص المستدرك" (4/1986-1988).
(2) في (ب) و(ق) و(م): «ودخل».
(3) قوله: «سنه» سقط من (ق).
(4) في (ق): «مائة وثلاثون» وألحق في الهامش «ثمانية وثلاثون» ووضع فوقها (خ) وكتب تحتها (هو أصل).
(5) في (ق): «بالمدينة».
(6) قوله: «عند» سقط من (ق).
(7) الآية (67) من سورة المائدة .
(8) في (ح) و(ك): «وإظهار دينه».
(9) ألحق ناسخ (ق): بعدها في الهامش «والحرب»
(10) في (ح): «اخباره عن عاقبة الحال» وفي (ق): «عن عاقبة الحال».
(11) في (ح): «اخباره عن عاقبة الحال» وفي (ق): «عن عاقبة الحال».(3/1099)
أو عن غير سبب؟ لم يتعرض ذلك الأخبار له، فليبحث عنه في موضع آخر، ولما (1) بحثت (2) عن ذلك وجدت الشريعة طافحة بالأمر له ولغيره بالتحصن، وأخذ الحذر من الأعداء، ومدافعتهم بالقتل والقتال، وإعداد الأسلحة والالات، وقد عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وأخذ به، فلا تعارض في ذلك، والله الموفق لفهم ما هنالك .
وخشخشة السَّلاح وقعقعته: صوت ضرب بعضه في بعض (3) . &(6/225)&$
وقول سعد: «وقع في نفسي خوف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت أحرسه»؛ دليل على مكانة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وكرامته على الله (4) ، فإنَّه قضى أمنيته، وحقق في الحين طِلْبَته (5) . وفيه دليل على أن سعدًا رضي الله عنه من عباد الله الصالحين المحدَّثين الملهمين (6) ، وتخصيصه بهذه الحالة كلها، وبدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له من أعظم =(6/280)=@ الفضائل، وأشرف المناقب، وكذلك جَمعُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له أبويه، وفداؤه (7) بهما خاصَّةٌ (8) مِن خصائصه؛ إذ لم يُروَ، ولا سُمع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فدى أحدًا من الناس بأبويه جميعًا غير سعد هذا، وغير ما يأتي في حديث ابن الزبير رضي الله عنهما (9) ، وقد تقدَّم أن النَّواجذَ آخر (10) الأضراس، وأنها تقال على الضواحك (11) ، وأنها المعنيَّة (12) في هذا الحديث، فإنها هي التي يمكنُ أن ينظر إليها غالبًا في حال الضحك، وكان - صلى الله عليه وسلم - جُلّ ضحكه التبسُّم، فإذا استغرب (13) ، فغايةُ (14) ما يظهر منه ضواحكه مع ندور ذلك منه وقِلَّته. %(3/1100)%
__________
(1) في (ق): «ولما» وألحق في الهامش «وأنا» ووضع فوقها (نخ).
(2) في (ح): «بحث».
(3) في (ح): «بعضه ببعض».
(4) زاد في (ح): «من ربه وكرامته عليه».
(5) في (ق): «ظنيته».
(6) في (ك): «المهيمن».
(7) في (ح): «وفداه».
(8) في (ح): «خاصية».
(9) سيأتي في فضائل طلحة والزبير وأبي عبيدة .
(10) في (ك): «أحد».
(11) في (ك): «الطواحل».
(12) في (ح): «المعنيه».
(13) تقدم تخريجه من حديث هند بن أبي هالة .... وهو حديث ضعيف .
(14) في (ق): «نهاية».(3/1100)
وقوله: «كان رجلٌ (1) من المشركين قد أحرق (2) في المسلمين»؛ أي: أصاب منهم كثيرًا، وآلمهم، حتى كأنه فعل فيهم ما تفعله النار من الإحراق .
وقوله: «فنزعت له بسهم (3) ليس فيه نصل»؛ أي: رميتُه (4) بسهم (5) لا حديدة (6) فيه، وقد تقدَّم: أن أصلَ النَّزع: الجذب والجبذ، وكان ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - سرورًا بإصابته (7) العدو، لا بانكشاف العورة، فإنه المنزَّهُ عن ذلك .
وقوله: «فأصبتُ جنبه»؛ بالجيم والنون، كذا كثر (8) الرواة، وكذا رويته، &(6/226)&$ وقيَّده القاضي الشهيد حبَّته - بالحاء المهملة والباء الموحدة (9) -؛ يعني به: حبة قلبه، وفيه بُعد . =(6/281)=@
وقوله: «فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها (10) بعصى، ثم أوجروها (11) »- بالشين والجيم -؛ أي: فتحوا فمها، وأدخلوا فيه العصا؛ لئلا تغلقه حتى يوجروها الغذاء . والوَجُور :- بفتح الواو - ما يُصَبُّ في (12) وسط الفم، واللَّدود - بفتح اللام -: ما يُصَبُّ من (13) جانب الفم . ويقال: وجرته، وأوجرته - ثلاثيًّا ورباعيًّا - وقد رواه بعضُهم: شحُّوا فاها - بحاء مهملة، وواو من غير راء - وهو قريب من الأول؛ أي: وسَّعوه بالفتح (14) ، والشحو: التوسع في المشي، والدابة الشحواء: الواسعة الخطو. ويقال: شحا فاه، وشحا فوه - معدَى ولازمًا -؛ أي: فتحه، ووصية الله تعالى بمبرَّة الوالدين المشركين، والإحسان إليهما وإن كانا كافرين، وحريصين على حمل الولد على الكفر . ويدلُّ (15) دلالةً قاطعة (16) على عظيم (17) حرمة الآباء، وتأكُد حقوقهم. %(3/1101)%
__________
(1) في (ق): «رجلاً» وكتب في الهامش «رحل» ووضع (نخ).
(2) في (ح): «أخرق» وفي (ق): «أحزق».
(3) في (ق): «لبسهم»
(4) في (ك): «رميت» وفي (ح): «رمت».
(5) من قوله: «ليس فيه ....» إلى هنا سقط من (ق).
(6) في (ب) و(م): «حديث» وفي (ح) و(ق): «حديد».
(7) في (ب): «سرورًا بإصابة»، وفي (ق) و(م): «بإصابة العدو سرورًا».
(8) في (ح) و(ق): «لأكثر».
(9) في (ح) و(ك): «الباء بواحدة تحتها»، وقوله «الباء» سقط من (ب) و(م).
(10) في (ح): «فمها».
(11) في (ك): «أحروا».
(12) في (ك): «من».
(13) في (ق): «في» بدل «من».
(14) قوله: «بالفتح» سقط من (ق).
(15) في (ح): «يدل» بلا واو.
(16) في (ق): «قطعية».
(17) في (ق): «عظم».(3/1101)
وقوله تعالى : } وَإن جَاهَدَاكَ على أَن تُشركَ بي مَا ليسَ لَكَ به عِلم فَلا تُطِعهُمَا { (1) ؛ أي: إن (2) حاولاك (3) على الشرك والكفر، فلا تطعهما؛ وإن بالغًا في =(6/282)=@ ذلك، وأتعبا أنفسهما فيه؛ فإن الشرك بالله تعالى باطل ليس له حقيقة فتعلم (4) ، كما قال تعالى : } أَتنبئون الله بما (5) لا يعلَمُ في السَّمَوات وَلا في الأرضِ سُبحَانَه وَتعالى عَمَا يشركون { (6) ، والقَبَضُ - بفتح الباء -: اسم لما يُقبض، وكذلك هو هنا، والقَبْض بسكونها: مصدر قبضت . وقد تقدم في الجهاد الكلامُ على قوله تعالى: } يسئلونَكَ عَنِ الأَنفَالِ { (7) ، وفي الوصايا على وصية سعدِ، وما يتعلق بها . والْحُشُ: بستان النخل، ويقال: %(3/1102)%
__________
(1) الآية (15) من سورة لقمان .
(2) قوله: «إن» سقط من (ح).
(3) في (م): «جاولاك» وفي (ق): «جادلاك» وكتب في الهامش: «أي إن حاولاك» ووضع فوقها (خ).
(4) في (ك): «فيعلم».
(5) في (ح) و(ك): «اتنبئونه بما».
(6) الآية (18) من سورة يونس .
(7) الآية (1) من سورة الأنفال .(3/1102)
بضم الحاء وفتحها، ويُجمع على حشَّان (1) ، وقد يُكنى بالحش عن موضع الخلاء، لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في البساتين . وحائش النخل: جماعة النخل. &(6/227)&$
وقوله: «ففزره (2) ، وكان أنفُه مفزورًا (3) هو بتقديم الزاي (4) مخفَّفةً؛ أي: شقَّه، =(6/283)=@ والمفزور (5) : المشقوق، ولَحيُ الجمل- بفتح اللام (6) -: هو أحَدُ فكي فمه، وهما: لحيان، أعلى وأسفل، والذي يمكن أن يؤخذ ويضرب به: هو الأسفل، وقد تقدم القولُ في قوله تعالى : } يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس { (7) الآية في الأشربة .
وقول المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - : «اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا»؛ كان هؤلاء المشركون أشرافَ قومهم، وقيل: كان منهم (8) : عُيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، أنِفُوا من مجالسة ضعفاء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كصهيب، %(3/1103)%
__________
(1) في (ح): «حشاش».
(2) في (ق): «ففرزه»، وفي (ك): «ففرره»، وفي (م): «فغزره».
(3) في (ح) و(ق): «مفروزا»، وفي (ك): «مقررا»، وفي (م): «مغزورا».
(4) في (ق) و(ك) و(م): «الراء».
(5) في (ق): «المغروز»، وفي (ك): «المعزور»، وفي (م): «المغزور» وفي (ح): «المعزوز».
(6) في (ق): «الحاء».
(7) الآية (90) من سورة المائدة . وزاد بعدها في (ح): «من عمل الشيطان».
(8) في (ح): «معهم».(3/1103)
وسلمان، وعمار، وبلال، وسالم، ومِهجَع، وسعد هذا، وابن مسعود، وغيرهم ممن كان على مثل (1) حالهم استصغارًا لهم، وكِبرًا عليهم، واستقذارًا لهم؛ فإنهم قالوا: يُؤذوننا بريحهم، وفي بعض كتب التفسير أنهم لما (2) عرضوا ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - أبى، فقالوا له: اجعل لنا يومًا ولهم يومًا، وطلبوا أن يكتبَ لهم بذلك، فهمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، دعا (3) عليًّا ليكتب، فقام الفقراء وجلسوا ناحية، فأنزل الله تعالى الآية (4) . &(6/228)&$
قال الشيخ: ولهذا أشار سعد بقوله: فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما مال إلى ذلك طمعًا في إسلامهم، وإسلام قومهم، ورأى أن ذلك لا يفوتُ أصحابه شيئًا، ولا ينقصُ لهم قدرًا، فمال إليه، فأنزل =(6/284)=@ الله تعالى : } ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه { (5) ؛ فنهاه عما همَّ به من الطرد، لا أنه أوقع الطرد، ووصف أولئك بأحسن أوصافهم، وأمره أن (6) يصبر نفسه معهم بقوله: } واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي { (7) ، فكان (8) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رآهم بعد ذلك (9) يقول: «مرحبًا بقوم عاتبني الله فيهم» (10) ، وإذا جالسهم لم يقم عنهم حتى يكونوا هم الذين يبدؤون حوله (11) بالقيام. %(3/1104)%
__________
(1) في (ك): «مثال».
(2) قوله: «لما» سقط من (ق).
(3) في (ح) و(ق): «ودعا».
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (6/418-419 رقم32508) في الفضائل، باب ما جاء في بلال وصهيب وضباب، وابن ماجه (2/13821383 رقم (4127) في الزهد، باب مجالسة الفقراء، والبزار في "مسنده" (6/69 و69- 71 رقم2129 و2130)، وأبو يعلى في "المطالب العالية" (....)، والطبري في "تفسيره" (7/201)، و(15/235 و236)، والطحاوي في "المشكل" (1/339-340 رقم367)، وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" (2/134-135)، والطبراني في "الكبير" (4/75-77 رقم3693). جميعهم من طريق أسباط بن نصر. وأخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (1/352 – 353) من طريق حكيم بن زيد كلاهما - أسباط بن نصر، وحكيم بن زيد -، عن السدي، عن أبي سعد الأزدي، عن أبي الكنود، عن خباب في قوله تعالى } ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي { الآية، قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري، فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي - صلى الله عليه وسلم - حقروهم، فأتوه فخلوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منا مجلسًا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك كتابًا، قال: فدعا بصحيفة ودعا عليًّا ليكتب، ونحن قعود في ناحية، فنزل جبرائيل عليه السلام فقال : } ولا تطرد الذين يدعون ربهم ... { الآية . ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقال : } وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين { ...، الحديث .
قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/277): هذا إسناد صحيح ... وأصله في صحيح مسلم وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص .
وفي تصحيحه نظر، فأبو سعد الأزدي، ويقال: أبو سعيد، روى عنه ثلاثة، وذكره ابن حبان في الثقات (5/568)، وفي "التقريب" (1151 رقم8178): مقبول .
وأبو الكنود الأزدي الكوفي روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في الثقات (5/44)، وقال ابن سعد (6/177)/ وكان ثقة وله أحاديث يسيرة . وفي "التقريب" (ص1197 رقم8393): مقبول .
وأعلَّه ابن كثير في "تفسيره" (2/135) بقوله: وهذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر .
(5) الآية (52) من سورة النعام .
(6) في (ق): «بأن».
(7) الآية (28) من سورة الكهف .
(8) كتب قبلها في (ح): «قيل معناه يدعون ربهم بالغداة والعشي فكان».
(9) في (ح) و(ق): «بعد ذلك إذا رآهم».
(10) لم أقف عليه بهذا اللفظ . وقد أخرجه الطبري (15/235)، والطبراني كما في "تفسير ابن كثير" (3/81). كلاهما من طريق ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبدالرحمن بن سهل بن حنيف قال: نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بعض أبياته : } وأصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي { الآية، فخرج يلتمسهم ، فوجد قومًا يذكرون الله تعالى منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم، وقال الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم .
قال ابن كثير: عبد الرحمن هذا، ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة، وأما أبوه فمن سادات الصحابة رضي الله عنهم .
وقال الحافظ في "الإصابة" (7/216): «قال ابن منده ذكره بن أبي داود في الصحابة ولا يصح، ولأبيه صحبة، ولأخيه أبي امامة أسعد رؤية . قلت: وذكره ابن قانع أيضًا في الصحابة، وأخرج هو وابن منده من طريق أبي حازم، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: لما نزلت هذه الآية : } واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة { ?الآية، فذكر قصة . قال العسكري: أحسبه مرسلاً . قلت: لا يبعد أن يكون له رؤية، وإن لم يكن له صحبة . اهـ.
وأخرجه الطبري (15/236)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7/336-337 رقم 10494)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/345). ثلاثتهم الوليد بن عبد الملك، أبو وهب الحراني، عن سليمان بن عطاء، عن مسلمة بن عبد الله الجهني، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي، عن سلمان الفارسي . فذكره بمعناه .
وفي سنده: سليمان بن عطاء بن قيس القرشي، أبوعمرو الجزري الحراني، قال البخاري: في حديثه مناكير، وقال أبو زرعة: منكر الحديث . وذكره ابن حبان في المجروحين وقال: يروي عن مسلمة بن عبدالله الجهني، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي بأشياء موضوعة، لا تشبه حديث الثقات، فلست أدري التخليط منه أو من مسلمة بن عبدالله».
وقال الذهبي: هالك اتهم بالوضع، وقال مرة: متهم بالوضع واه . "تهذيب الكمال" مع حاشيته (12/43-44 رقم2550)، وفي "التقريب"(ص411 رقم2609): منكر الحديث .
(11) قوله: «حوله» سقط من (ح) و(ق).(3/1104)
وقوله : } يدعون ربهم بالغداة والعشي { ، قيل معناه (1) : يدعون ربهم بالغداة بطلب التوفيق والتيسير، وبالعشي: قيل معناه (2) : بطلب العفو عن التقصير، وقيل معناه: يذكرون الله بعد (3) صلاة الصبح (4) ، وصلاة العصر . وقيل: يصلون الصبح والعصر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يصلون الصلوات الخمس (5) ، وقال يحيى بن أبي كثير: هي مجالس الفقه بالغداة والعشي، وقيل يعني به: دوام أعمالهم وعباداتهم؛ وإنَّما خصَّ طرفي النهار بالذكر؛ لأنَّ من عمل في وقت الشغل كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل .
وقوله : } يريدون وجهه { ؛ أي: يخلصون في عباداتهم وأعمالهم لله تعالى . ويتوجهون إليه بذلك لا لغيره، ويصح أن يقال: يقصدون بأعمالهم رؤية وجهه الكريم؛ أي: وجوده المنزه المقدس عن صفات المخلوقين (6) . =(6/285)=@
وقوله : } ما عليك من حسابهم من &(6/229)&$ شيء { (7) ؛ أي: من جزائهم، ولا كفاية رزقهم؛ أي: جزاؤهم ورزقهم، وجزاؤك ورزقك على الله تعالى، لا على غيره، فكأنه يقول: وإذا كان الأمر كذلك: فاقبل عليهم وجالسهم، ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدِّين والفضل . فإنَّ فعلت كنت ظالِمًا، وحاشاه من وقوع ذلك منه؛ وإنَّما هذا بيان للأحكام، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل الإسلام . وهذا نحو قوله تعالى : } لئن أشركت ليحبطن عملك { (8) ، وقد علم الله منه: أنه لا يشرك، ولا يحبط عمله .
وقوله : } فتكون من الظالمين { (9) ، نصب بالفاء في جواب النفي، وقد تقدم: أن الظلم أصله (10) وضع الشيء في غير موضعه، ويحصل من فوائد الآية والحديث: النهي عن أن يُعظم أحدٌ لجاهه، وأبويه (11) ، وعن أن يحتقر أحذ لخموله، ورثاثة ثوبيه (12) (13) . %(3/1105)%
__________
(1) قوله: «معناه» سقط من (ق).
(2) قوله: «قيل معناه» سقط من (ح) و(ق).
(3) في (ح) و(ق): «من بعد».
(4) في (ح) و(ق): «الفجر».
(5) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/382) إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، ولكن لفظه: الذين يشهدون الصلوات المكتوبة .
(6) صرف معنى الوجه إلى الوجود تكلف في تأويل الوجه دون مسوغ شرعي أو عقلي، وهو اعتقاد الأشاعرة . أما أهل السنة فيصفون الله تعالى بما وصف به نفسه أووصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفًا حقيقيًّا على الوجه الذي يليق به سبحانه .
(7) الآية (52) من سورة الأنعام .
(8) الآية (65) من سورة الزمر .
(9) الآية (52) من سورة الأنعام .
(10) قوله: «أصله» سقط من (ك).
(11) في (ق) و(م): «وأثوابه».
(12) في (ق): «ثوبيه». وكتب في الهامش «أثوابه» ووضع فوقها (نخـ).
(13) إلى هنا انتهت نسخة (ق) وزاد بعدها « تم الجزء الثالث بحمد الله وعونه وحسن توفيقه وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وكان الفراغ منه في يوم الخميس المبارك ثامن شهر صفر الخير من شهور سنة ثمان وسبعين وتسعمايه وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم يتلوه في الجزء الرابع ومن باب فضائل طلحة.(3/1105)
ومن باب فضائل طلحة بن عبيد الله (1)
طلحة بن عبيدالله (2) بن عثمان بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي . شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها إلا بدرًا؛ فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بعثه =(6/286)=@ &(6/230)&$ وسعيد بن زيد يتجسَّسان خبر عير قريش (3) ، فلقيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منصرفه من بدر، فضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمهما وأجرهما (4) ، فكانا كمن شهدها (5) ، وسَمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ: طلحة الخير، ويوم ذات العشيرة: طلحة الفياض، ويوم حنين: طلحة الجود (6) . وثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، ووقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فشلت إصبعاه (7) ، وجرح يومئذ أربعًا وعشرين جراحة (8) ، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة (9) . وجملة ما روي (10) عنه من الحديث: ثمانية وثلاثون حديثًا، أخرج له منها في الصحيحين سبعة، وقتل يوم الجمل، وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ويقال: إن سهمًا غَربًا (11) أتاه فوقع في حلقه فقال: بسم الله } وكان أمر الله قدرًا مقدورًا { (12) . ويقال: إن مروان بن الحكم قتله (13) . ودفن بالبصرة، وهو ابن ستين سنة، وقيل: ابن (14) اثنتين وستين سنة، وقيل: ابن أربع. %(3/1106)%
__________
(1) في (ك): «عبدالله».
(2) قوله: «طلحة بن عبيد الله» سقط من (ق).
(3) الخبر عند ابن سعد (3/216-217)، والطبري في "تاريخه" (2/478)، والحاكم في "المستدرك"( 3/369-370) من طريق الواقدي .
(4) أخرجه الطبراني في "تاريخه" (1/110 رقم189)، والحاكم (3/368) كلاهما من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير قال: طلحة بن عبيدالله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة كان بالشام، فقدم وكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سهمه، فضرب له بسهمه . قال: وأجري يا رسول الله؟ قال: «وأجرك»، يعني يوم بدر .
وهذا إسناد ضعيف مرسل . أخرجه الحاكم (3/368-369) من طريق موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: قدم طلحة ... فذكره . وهذا أيضًا مرسل .
(5) في (ك): «شهد».
(6) أخرجه الطبراني في الكبير (1/112 و117 رقم197 و218)، والحاكم في "المستدرك" (3/374) كلاهما من طريق سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى ابن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي، عن جدي، عن موسى بن طلحة، عن أبيه طلحة بن عبيد الله قال: سماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: طلحة الخير، وفي غزوة العشيرة: طلحة الفياض، ويوم حنين: طلحة الجواد .
قال الذهبي في "السير" (1/30): إسناده لين .
وقال الهيثمي في "المجمع" (9/148): وفيه من لم أعرفهم، وسليمان بن أيوب الطلحي وثق وضعف .
وأخرجه الطبراني في الموضع السابق (198)، والحاكم (3/347) كلاهما من طريق إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن طلحة، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمه موسى بن طلحة: أن طلحة نحر جزورًا وحفر بئرًا يوم ذي قرد، فأطعمهم وسقاهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «يا طلحة الفياض»، فسمي طلحة الفياض .
قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي .
وقال الهيثمي في "المجمع" (9/148): رواه الطبراني وفيه إسحاق بن يحيى بن طلحة وقد وثق على ضعفه .
وأخرجه الزبير بن بكار، كما في "الإصابة" (5/232) قال: حدثني إبراهيم بن حمزة، عن إبراهيم بن بسطام، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذي قرد على ماء يقال له: بيسان مالح، فقال: هو نعمان، وهو طيب، فغيَّر اسمه، فاشتراه طلحة ثم تصدق به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما أنت يا طلحة إلا فياض»، فبذلك قيل له: طلحة الفياض .
وأخرجه ابن سعد (3/221)، والطبراني في "الكبير" (1/111 رقم194)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/88) ثلاثتهم من طريق سفيان بن عيينة، عن مجالد، عن الشعبي، عن قبيصة بن جابر قال: ما رأيت رجلاً أعطى لجزيلٍ من المال من غير مسألة من طلحة بن عبيدالله .
زاد الطبراني: قال سفيان: وكان أهله يقولون: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماه الفياض .
قال الهيثمي في "المجمع" (9/147): رواه الطبراني وإسناده حسن .
(7) أخرجه البخاري (7/82 و359 رقم3724 و4063) في فضائل الصحابة، باب ذكر طلحة بن عبيدالله - رضي الله عنه - . وفي المغازي، باب } إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ... { الآية .
(8) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/217-128) عن سعيد بن منصور، عن صالح ابن موسى، عن معاوية بن إسحاق، عن عائشة وأم إسحاق ابنتي طلحة قالتا: جرح أبونا يوم أحد أربعًا وعشرين جراحة، وقع منها في رأسه شجة مربعة، وقطع نساه؛ يعني: عرق النسا، وشلّت إصبعه، وسائر الجراح في سائر جسده، وقد غلبه الغشي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكسورة رباعيتاه، مشجوج في وجه، قد علاه الغشي، وطلحة محتمله يرجع به القهقري، كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه، حتى أسنده إلى الشعب .
هذا إسناد ضعيف جدًّا، صالح بن موسى بن إسحاق بن طلحة التيمي متروك، كما في "التقريب" (ص448 رقم2907).
(9) تقدم تخريجه قبل قليل .
(10) في (ح): «روي له عنه».
(11) "صفوة الصفوة" (1/341).
(12) الآية (38) من سورة الأحزاب .
(13) أخرجه ابن سعد (3/223-224)، والطبراني في "الكبير" (1/113 رقم201)، والحاكم في "المستدرك" (3/370). ثلاثتهم من طريق وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت مروان بن الحكم حين رمي طلحة يومئذ بسهم فوقع في عين ركبته، فما زال ينسحُّ حتى مات .
صححه الذهبي في "تلخيص المستدرك"، والحافظ في "الإصابة" (5/235).
(14) قوله: «ابن» سقط من (ك).(3/1106)
وأما الزبير رضي الله عنه فيكنى أبا عبد الله بولده عبد الله؛ لأنَّه كان (1) أكبر أولاده، وهو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أمه: صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلمت وأسلم الزبير، وهو ابن ثمان سنين، وقيل: ابن ست عشرة سنة، فعذَّبه عمُّه بالدخان لكي يرجع عن الاسلام فلم يفعل (2) . هاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين (3) ، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أول من سل سيفًا في سبيل الله (4) ، وكان عليه يوم بدر ريطة صفراء قد اعتجر بها، وكان على الميمنة فنزلت الملائكة على سيماه (5) ، وثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وبايعه على الموت (6) ، فقتل (7) يوم الجمل، وهو ابن خمس (8) وسبعين سنة . وقيل: خمس وستين . وقيل: بضع وخمسون (9) . قتله =(6/287)=@ ابن جرموز، وكان من (10) أصحاب علي، فأُخبر عليٌّ بذلك فقال: بشِّر قاتل ابن صفية بالنار (11) . وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة (12) (13) ، وروي عنه من الحديث مثل ما روي عن طلحة، وله في الصحيحين مثل ما له سواء. &(6/231)&$
وأما أبو عبيدة (14) رضي الله عنه فاسمه: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال ابن أهيب بن ضبَّة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، أسلم قديمًا مع عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وهاجر إلى الحبشة (15) الهجرة الثانية (16) ، وشهد بدرًا، والمشاهد كلها، وثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، ونزع يومئذ بثنيتيه الحلقتين اللتين دخلتا في وجنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوقعت ثنيتاه (17) ، فكان أهتم (18) ، وكان من أحسن الناس هتمًا، يزينه هتمه، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة (19) ، وولي فتح الشام وحروبها، ومات في طاعون عمواس بالأردن (20) ، وقبر (21) ببيسان وهو ابن ثمان وخمسين سنة. %(3/1107)%
__________
(1) قوله: «كان» سقط من (ك).
(2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (1/122 رقم239)، والحاكم (3/360). كلاهما من طريق الليث بن سعد، عن أبي الأسود قال: أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثمان سنين، وهاجر وهو ابن ثمان عشرة، وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار وهو يقول: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا . قال الهيثمي في المجمع (9/151): «ورجاله ثقات، إلا أنه مرسل».
(3) انظر "طبقات ابن سعد" (3/102)، و"المستدرك" (3/360).
(4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (1/119 رقم226)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/89) كلاهما من طريق حماد بن أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: إن أول رجل سل سيفه الزبير بن العوام، سمع نفحة نفحها الشيطان: أُخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج الزبير يشق الناس بسيفه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكة، فلقيه فقال: «مالك يا زبير !» قال: أُخبرت أنك أخذت، قال: فصلى عليه، ودعا له ولسيفه .
وهذا مرسل صحيح . وهو عند الحاكم (3/360-361) من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، فذكره . وهذا مع إرساله، ضعيف .
(5) أخرجه ابن سعد" (3/103) عن عمرو بن عاصم الكلابي، عن همام، والطبراني في "الكبير" (1/120 رقم230) من طريق حماد بن سلمة . كلاهما - همام، وحماد بن سلمة -، عن عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كانت على الزبير ريطة صفراء معتجرًا بها يوم بدر،فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن الملائكة نزلت على سيماء الزبير».
وصححه الحافظ في "الإصابة" (4/8).
وأخرجه الحاكم (3/36) من طريق أبي إسحاق الفزاري، عن هشام بن عروة، عن عباد بن عبدالله بن الزبير، فذكره .
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/103) عن كيع، عن هشام بن عروة، عن رجل من ولد الزبير، قال مرة: عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، وقال مرة: عن حمزة بن عبد الله، فذكره .
(6) "الطبقات الكبرى" (3/104)، و"صفوة الصفوة" (1/342).
(7) في (ح): «قتل».
(8) في (ح): (خمسين» بدل «خمس».
(9) في (ح): «وخمسين».
(10) في (ح): «في» بدل «من».
(11) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/110) عن الحسن بن موسى الأشيب، عن ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أنه أتى الزبير فقال: أين صفية بنت عبد المطلب حيث تقاتل بسيفك علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، قال: فرجع الزبير، فلقيه ابن جرموز فقتله، فأتى ابن عباس عليًّا فقال: إلى أين قاتل بن صفية؟ قال علي: إلى النار .
وصححه الحافظ في "الإصابة" (4/9).
(12) في (ح): يشبه «الجنة».
(13) تقدم تخريجه في باب فضائل سعد بن أبي وقاص .
(14) في (ح): «أبو عبيدة» وكتب في الهامش «أبو عبيدة بن الجراح».
(15) في (ح): «أرض الحبشة».
(16) قال الذهبي في "السير" (1/8): قاله ابن إسحاق، والواقدي، ثم قال: إن هاجر إليها، فإنه لم يطل بها اللبث .
(17) قوله: «فوقعت ثنيتاه» سقط من (ح).
(18) أخرجه الطيالسي (ص3/6)، وابن سعد (3/110)، والحاكم (3/266) ثلاثتهم من طريق إسحاق بن يحيى، عن عيسى بن طلحة، عن عائشة قالت: سمعت أبا بكر يقول: لما كان يوم أحد ورمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهه حتى دخلت في أجنتيه حلقتان من المغفر، فأقبلت أسعى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانًا، فقلت: اللهم اجعله طاعة حتى توافينا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ** ليست في الأصل ** فإذا أبو عبيدة بن الجراح قد بدرني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر ألا تركتني فأنزعه من وجنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...، الحديث .
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .
(19) تقدم تخريجه في باب فضائل سعد بن أبي وقاص .
(20) انظر "الإصابة" (5/289)، و"الإستيعاب" (5/296) بهامش الإصابة .
(21) في (ح): «وقبره».(3/1107)
وقول أبي عثمان النهدي: «لم يبق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) غير طلحة وسعد»؛ يعني بذلك: يوم أحد، وقد قدمنا: أن طلحة ثبت يومئذ، ووقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فشلَّت إصبعاه، وجرح يومئذ أربعًا وعشرين جراحة .
وقوله: «عن حديثهما»؛ هذا (2) من قول الراوي عن أبي عثمان، وهو: المعتمر بن سليمان؛ ويعني به: أن أبا (3) عثمان إنما حدَّث بثبوت طلحة وسعد عنهما، لا أنه شاهد هو ثبوتهما، فإنَّه (4) تابعي لا صحابي، ولا أنه حدَّث بذلك عن غيرهما، بل عنهما . هما حدَّثاه بذلك . واتفق لطلحة في (5) ذلك اليوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثقل بالجراح، وكان عليه درعان، فنهض ليصعد على صخرة كانت هنالك (6) ، فلم يستطع، فحنى =(6/288)=@ طلحة ظهره لاصقًا بالأرض حتى صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظهره حتى رقي على الصخرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أوجَبَ طلحة» (7) ؛ أي: أوجب له ذلك الفعل الثواب الجزيل عند الله تعالى، والمنزلة الشريفة . وروى (8) جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من سرَّه أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة بن &(6/232)&$ عبيد الله» (9) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «طلحة بن عبيد الله ممن قضى نحبه» (10) ؛ أي: ممن وفَّى بنذره، وقام بواجباته (11) . %(3/1108)%
__________
(1) من قوله: «في بعض ....» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «لهذا هو».
(3) قوله: «أبا» سقط من (ك).
(4) في (ك): «وإنه».
(5) قوله: «في» سقط من (ك).
(6) في (ح): «هناك».
(7) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/218)، وابن أبي شيبة (6/379 رقم32515) في الفضائل، باب ما حفظت في طلحة بن عبيدالله - رضي الله عنه - . وأحمد (1/165)، والترمذي (4/174 رقم1692)، و(5/601-602 رقم3738)، والبزار في "مسنده" (3/188 رقم972)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/1397 و1398)، وأبو يعلى (2/33 رقم670)، والطبري في "تاريخه" (2/522)، وابن حبان (15/436 رقم6979/الإحسان)، والحاكم (3/373-374)، والبغوي (14/119-120 رقم3915). جميعهم من طريق محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعدين في أحد، فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ظهره لينهض على صخرة فلم يستطع، فبرك طلحة بن عبيد الله تحته، فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ظهره حتى جلس على الصخرة، قال الزبير: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أوجب طلحة»،
قال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق .
وقال في الموضع الثاني: حسن صحيح غريب .
قال الألباني في "مختصر الشمائل" (ص65): فلعل لفظه صحيح . مقحمة من بعض النساخ، فإن ابن إسحاق فمه خلاف معروف، لاسيما إذا عنعن كما هنا، لكن قد صرح بالتحديث عند غيره .
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم .
وقد وقع تصريح ابن إسحاق بالتحديث عند بعضهم .
(8) في (ح): «وروي عن».
(9) ضعيف جدًّا . انظر "مختصر استدراك الذهبي" (4/2099-2100 رقم726) بتحقيقي .
(10) أخرجه الطيالسي (1051)، وابن سعد (3/218)، والترمذي (3202)، وابن ماجه (126 و127)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1401 و1402)، والطبري في "التفسير" (21/93)، والطبراني في "الكبير" (19 رقم739)، وفي "الأوسط" (5000)، وابن عساكر (25/82) كلهم من طريق إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عيسى بن طلحة قال: سمعت معاوية، فذكره مرفوعًا . وإسحاق بن يحيى متفق على ضعفه .
قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذاالوجه، وإنما روي عن موسى بن طلحة، عن أبيه .
وأخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1297)، والترمذي (3203 و3742)، وأبو يعلى (663)، والبزار(943)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1399) من طريق يونس بن بكير، عن طلحة بن يحيى، عن موسى بن عيسى بن طلحة، عن أبيهما طلحة به. قال الترمذي: وقد رواه غير واحد من كبار أهل الحديث عن أبي كُريب بهذا الحديث، وسمعت محمد بن إسماعيل يُحدّث بهذا الحديث عن أبي كُريب، ووضعه في كتاب الفوائد. اهـ. وله طريق آخر..
وأخرجه ابن سعد (3/218)، وأبو يعلى (4898)، والطبراني في "الأوسط" (9382)، وابن عدي (4/69)، والحاكم (2/424 و450)، 373وأبو نعيم في "الحلية" (1/88) من طريق عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها به مرفوعًا، وله قصة .
(11) في (ك): «بواجدانه».(3/1108)
وقوله: «ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فانتدب الزبير»؛ أي: رغبهم في الجهاد، وحضهم عليه، فأجاب الزبير ثلاث مرات، وعند ذلك قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لكل نبي حواري، وحواري الزبير» (1) . أي (2) : خاصتي، والمفضل عندي، وناصري، وقد تقدم إيعاب القول فيه في الإيمان . والأطم: بضم الهمزة، والطاء المهملة: هوا الحِصن، ويجمع: آطام (3) ، بمد الهمزة، وبكسرها . مثل: آكام وإكام. =(6/289)=@
وقوله: لقد جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبويه يومئذ فقال: «فداك أبي وأمي»؛ هو بفتح الفاء والقصر (4) ، فعل ماض، فإن كسرت مَدَدْت، وهذا الحديث يدل على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع أبويه لغير سعد بن أبي وقاص، وحينئذ يشكل بما رواه الترمذي من قول علي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جمع أبويه لأحد (5) إلا لسعد، وقال (6) له يوم أحد: «فداك (7) أبي وأمي» (8) . ويرتفع الإشكال بأن يقال: إن عليًّا أخبر بما في علمه ويحتمل أن يريد به أنه لم يقل ذلك في يوم أحد لأحد غيره، والله تعالى أعلم .
وحراء: جبل بمكة، وهو بكسر الحاء ممدود، ويُذَكَّر فيصرف، ويؤنَّث فلا يصرف، وقد أخطأ من فتح حاءه، ومن قصره .
وقوله: «فتحركت الصخرة، فقال: اهدأ فما عليك»؛ كذا صحَّ هذا النَّص (9) هنا بسكون الهمزة على أنه أمر من «هدأ (10) » المذكر، وعليك: بفتح %(3/1109)%
__________
(1) حسن لغيره . انظر "مختصر استدراك الذهبي" (4/2091-2098 رقم725) بتحقيقي .
(2) قوله: «أي» سقط من (ك).
(3) في (ك): «آطامًا».
(4) من قوله: «وقوله لقد جمع لي رسول الله ...» إلى هنا مكرر في (ح).
(5) قوله: «لأحد» سقط من (ك).
(6) في (ك): «قال».
(7) في (ح): «إرم فداك».
(8) الحديث عند مسلم (2411 و2412)، وعند البخاري ......
(9) في (ح): «اللفظ».
(10) في (ح): «هذا» بدل «هدأ».(3/1109)
كاف خطاب &(6/233)&$ المذكر، مع أنه افتتح الكلام بذكر الصخرة، فكان حق خطابها أن يقال: اهدئي فما عليك، فتخاطب خطاب المؤنث، لكنه لما كانت تلك الصخرة جبلاً خاطب (1) خطاب المذكر، وقد تقدَّم مثل هذا كثيرًا.
وقوله: «فما عليك إلا نبي، أو صدِّيق، أو شهيد»؛ بأو التي هي للقسم (2) =(6/290)=@ والتنويع، فالنبي: رسول الله (3) - صلى الله عليه وسلم - ، والصِّدِّيق: أبو بكر، والشهيد: من بقي رضي الله عنهم، وهذا من دلائل صحة نبوَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنَّ هؤلاء كلهم قتلوا شهداء . فأمَّا (4) عمر: فقتله العلج، وأما عثمان فقتل مظلومًا، وعلي: غيلة، وأما طلحة والزبير: فقتلا يوم الجمل منصرفين عنه تاركين له، وأما أبو عبيدة (5) فمات بالطاعون، والموت فيه شهادة .
وقول عائشة لعروة: «كان أبوك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح»؛ استجابوا: أجابوا، والسين والتاء: زائدتان؛ كما قال الشاعر:
وداعٍ دعا يا من يُجيب إلى الندا فلم يَستجِبهُ عند ذاك مجيبُ (6)
&(6/234)&$
أي: لم يجبه . والقرح: الجراح . وإشارة (7) عائشة رضي الله عنها إلى ما جرى في غزوة حمراء الأسد، وهو موضع على نحو ثمانية أميال من المدينة، وكان من حديثها (8) : %(3/1110)%
__________
(1) في (ح): «خاطبها».
(2) في (ح): «للتقسيم».
(3) قوله: «رسول الله» سقط من (ح).
(4) في (ك): «وأما».
(5) المذكور في حديث متن "التلخيص": «سعد بن أبي وقاص»، لا أبو عبيدة رضي الله عنهما . وكذا في "صحيح مسلم"، فلا أدري من أين جاء الشارح رحمه الله بأبي عبيدة - رضي الله عنه - هنا . قال النووي (15/190 رقم2417)بعد ما شرح هذا الحديث: وأما ما ذكر سعد بن أبي وقاص في الشهداء في الرواية الثانية، فقال القاضي: إنما سمي شهيدًا؛ لأنه مشهود له بالجنة . ولم يرد ذكر أبي عبيدة أيضًا في روايات الحديث عند أحمد والترمذي وغيرهما . انظر تعليق محقق "مسند أحمد" (15/252 رقم 9430).
(6) البيت لكعب بن سعد الغنوي يرثى أخاه، وهو في الأصمعيات (ص77)، وهو من الشعر الجاهلي .
(7) في (ح): «واشارت».
(8) انظر "تفسير ابن جرير" (4/176)، و"تاريخه" (2/75)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (4/49)، و"تفسير ابن كثير" (1/429).(3/1110)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع إلى المدينة من أحد بمن بقي من أصحابه، وأكثرهم جريح، وقد بلغ منهم الجهد، والمشقة نهايته، أمرهم بالخروج في أثر العدوِّ مرهبًا لهم، وقال: «لا يخرجن إلا من كان شهد أحدًا»؛ فخرجوا على ما بهم من الضَّعف =(6/291)=@ والجراح، وربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي، ولا (1) يجد مركوبًا، فربما يحمل على الأعناق، كل ذلك امتثالٌ لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغبة في الجهاد والشهادة حتى وصلوا إلى حمراء الأسد، فلقيهم نعيم بن مسعود، فأخبرهم: أن أبا سفيان بن حرب، ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم، وأجمعوا رأيهم على أن يرجعوا إلى المدينة، فيستأصلوا أهلها، فقالوا ما أخبرنا الله به عنهم : } حسبنا الله ونعم الوكيل { (2) ، وبينا قريش قد أجمعوا على ذلك؛ إذ جاءهم معبد الخزاعي، وكانت خزاعة حلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وعيبة نُصحه ،?وكان قد رأى حال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وما هم عليه، ولما رأى (3) عزم قريش على الرجوع، واستئصال أهل المدينة احتمله (4) خوف ذلك، وخالص نصحه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على أن خوَّف قريشًا بأن قال لهم: إني قد تركت محمدًا وأصحابه بحمراء الأسد في جيش عظيم، قد اجتمع له كل من تخلف عنه، وهم قد تحرَّقوا عليكم، وكأنهم قد أدركوكم، فالنجاء النجاء، وأنشدهم شعرًا، يعظِّم فيه جيش محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ويكثرهم، وهو مذكور (5) في كتب السير، فقذف الله في قلوبهم الرُّعب، ورجعوا إلى مكة مسرعين خائفين، ورجع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه إلى المدينة مأجورًا منصورًا، كما قال تعالى : } فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم %(3/1111)%
__________
(1) في (ح): «فلا».
(2) الآية (173) من سورة آل عمران .
(3) قوله: «رأى» سقط من (ك).
(4) في (ق) و(م): «حمله».
(5) قوله: «مذكور» مطموس في (ح).(3/1111)
سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضلٍ عظيم { (1) ، وقوله تعالى: } الذين قال لهم الناس إن الناس قد &(6/235)&$ جمعوا لكم فاخشوهم (2) { (3) ؛ يعني به نعيم بن مسعود الذي خوَّف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقوله : } إن الناس قد جمعوا لكم (4) { ؛ يعني به (5) : قريشًا .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن (6) لكل أمة أمينًا وأميننا - أيتها الأمة- أبو عبيدة بن الجراح»؛ الأمانة: ضد الخيانة، وهي عبارة عن: قوَّة الرجل على القيام بحفظ ما يوكل إلى =(6/292)=@ حفظه، ويخلِّي بينه وبينه . وهي مأخوذة من قولهم: ناقه أمون؛ أي: قوية على الحمل والسير، فكان الأمين هو الذي يوثق به في حفظ ما يوكل إلى أمانته حتى يؤدِّيه لقوَّته على ذلك . وكان أبو عبيدة قد خصَّه الله تعالى من هذا بالحظ الأكبر، والنصيب الأكثر، بحيث شهد له بذلك المعصوم، وصار له ذلك الاسم، والعلم (7) المعلوم، وقد ظهر ذلك من حاله للعيان حتى استوى في معرفته كل إنسان؛ وذلك أن عمر رضي الله عنه لما قدم الشام متفقِّدًا أحوال الناس والأمراء، ودخل منازلهم، وبحث عنهم أراد أن يدخل منزل أبي عبيدة، وهو أمير على الشام، قد فتحت (8) عليه بلاده وترادفت عليه فتوحاته، وخيراته، واجتمعت له كنوزه، وأمواله، فلما كلَّمه عمر رضي الله عنه في ذلك، قال له: يا أمير المؤمنين! والله لئن دخلت منزلي لتعصرن عينيك، فلما دخل منزله لم يجد فيه شيئًا يردُّ البصر أكثر من سلاحه وأداة رحل بعيره، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أنت أمين هذه الأمَّة»، أو كما قال (9) .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر عن كل واحد من أعيان أصحابه %(3/1112)%
__________
(1) الآية (173) من سورة آل عمران .
(2) قوله: «فاخشوهم» سقط من (ح).
(3) الآية (173) من سورة آل عرمان .
(4) من قوله: «يعني به نعيم ....» إلى هنا سقط من (ح).
(5) قوله: «به» سقط من (ك).
(6) قوله: «إن» سقط من (ك).
(7) في (ح): «العلم» بلا واو.
(8) قوله: «فتحت» لم يتضح في (ح)
(9) أخرجه أبو داود في "الزهد" (ص137-138 رقم123) عن أحمد بن عمرو بن السرج، عن ابن وهب، عن عبدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن عمر حين قدم الشام قال لأبي عبيدة: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما تصنع بمنزلي؟ قال: اذهب بنا إليه ما تريد إلا أن تعصر عينيك عليَّ . قال: فدخل منزله فلم ير شيئًا، فقال عمر: أين متاعك؟ لا أرى إلا لبدًا وصحفة وشنًّا وأنت أمير، أعندك طعام، فقام أبو عبيدة إلى جونة فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال له أبو عبيدة: قد قلت لك: إنك ستعصر عينيك عليَّ يا أمير المؤمنين، يكفيك من الدنيا ما يبلغك المقيل، قال عمر: غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة.
وسنده ضعيف، عبدالله بن عمر، هو العمري المدني، ضعيف عابد، كما في "التقريب" (ص528 رقم3513).
وله طريق أخرى: أخرجه ابن المبارك في "الزهد" )ص207-208 رقم586)، وعبدالرزاق (11/311 رقم20628). كلاهما من طريق معمر . وابن أبي شيبة (7/132 رقم34608) في الزهد، باب كلام أبي عبيدة بن الجراح، عن أبي خالد الأحمر . كلاهما - معمر، وأبو خالد الأحمر -، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قدم عمر الشام ...، فذكره بمعناه . وهذا مرسل .
قال ابن أبي حاتم في "المراسيل" (ص149 رقم542): قال أبو زرعة: عروة بن الزبير، عن عمر، مرسل. وهذه طرق يشدُّ بعضها بعضًا، ويكون الحديث حسنًا لغيره .(3/1112)
رضي الله عنهم بما غلب عليه من أوصافه، وإن كانوا كلهم فضلاء، &(6/236)&$ علماء، حكماء، مختارين لمختار، فقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي (1) من حديث أنس بن مالك: «أرحم أمي بأمتي: أبو بكر، وأشدهم في أمر الله: عمر، وأصدقهم حياءً: عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام: معاذ، وأفرضهم: زيد، وأقرؤهم: أُبي، ولكل أمَّة أمين. وأمين هذه الأمَّة: أبو عبيدة». ومن حديث عبد الله بن عمرو (2) : «ما أظلت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر».
وقوله: «أيتها الأمَّة»؛ هو منادى مفرد محذوف حرف النداء. والأمَّة: نعته (3) =(6/293)=@ مرفوعًا، والأفصح: نصبها على الاختصاص، وحكى سيبويه: اللهم اغفر لنا أيتها العِصابةَ بالنصب.
وقوله: «لأبعثن إليكم رجلاً أمينًا حق أمين»؛ هو بنصب «حق أمين» على أنه مصدر مضاف، وهو في موضع الصِّفة تقديره (4) أمينًا محققًا في أمانته .
وقوله: «فاستشرف لها الناس»؛ أي: تشوَّفوا، وتعرَّضوا لمن هو الموجَّه معهم، وكلُّهم يحرصُ على أن يكون هو الْمَعْنِيُّ؛ إذ كل واحد منهم أمين. =(6/294)=@ %(3/1113)%
__________
(1) تقدم تخريجه ...
(2) صحيح لغيره، انظر "مختصر استدراك الذهبي" (4/2042-2049 رقم712) بتحقيقي .
(3) في (ك): «نعت».
(4) في (ك): «وتقديره».(3/1113)
ومن باب فضائل الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم
وأمهما: فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يُكنى الحسن: أبا محمد، والحسين: &(6/237)&$ أبا عبد الله . ولد الحسن في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة . هذا أصحُّ ما قيل في ذلك، وولد الحسين لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة . وقيل: سنة ثلاث، هذا قول الواقدي . وقال: علقت به فاطمة رضي الله عنها بعد مولد الحسن بخمسين ليلة، ومات الحسن مسمومًا (1) في ربيع الأول من سنة خمسين بعدما مضى من خلافة معاوية عشر سنين . وقيل: بل مات سنة إحدى وخمسين، ودفن ببقيع الغرقد إلى جانب قبر أمه، وصلَّى عليه سعيد بن العاص، وكان أمير المدينة، قدَّمه الحسين، وقال: لولا أنَّها سُنَّة لما (2) قدَّمتك (3) ، وقد كان (4) وصى أن يدفن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5) ، إن أذنت في ذلك عائشة فأذنت في ذلك، ومنع (6) من ذلك مروان، وبنو أمية .
وروى أبو عمر بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: لما ولد الحسن جاءه (7) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أروني ابني، ما سميتموه ؟ قلت: حربًا . قال: «بل (8) هو: حسن»، فلما ولد الحسين، قال: «أروني ابني، ما سميتموه؟»، قلت: حربًا، قال: «بل (9) هو: حسين»، فلما (10) ولد الثالث، قال: «أروني ابني، ما ستيتموه ؟» قلت: حربًا، قال: «بل هو: محسِّن» (11) .
وعقَّ =(6/295)=@ %(3/1114)%
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/246 كما في الإصابة)، وابن أبي الدنيا، كما في "البداية والنهاية" لابن كثير (8/42)، والحاكم (3/176)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/38)، وابن عبدالبر في "الاستيعاب" (3/110/كما في هامش الإصابة). جميعهم من طريق ابن عون، عن عمير بن إسحاق قال: كنا عند الحسن بن علي، فدخل المخرج ثم خرج فقال: لقد سُقيت السم مرارًا، وما سقيته مثل هذه المرة، لقد لفظت طائفة من كبدي، فرأيتني أقلبها بعود معي، فقال له الحسين: يا أخي! من سقاك؟ قال: وما تريد إليه؟ أتريد أن تقتله؟ قال: نعم، قال: لئن كان الذي أظن فالله أشد نقمة، ولئن كان غيره ما أحب أن تقتل بي بريئًا .
وعمير بن إسحاق، لم يرو عنه سوى عبدالله بن عون، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم والنسائي: لا نعلم روى عنه غيره . وقال ابن معين: لا يساوي شيئًا، ولكن يكتب حديثه، وقال الدارمي: قلت ليحيى: كيف حديثه؟ قال: ثقة؟ وقال النسائي: ليس به بأس . وذكره العقيلي وابن عدي وابن الجوزي في جملة الضعفاء . وقال ابن عدي: وهو ممن يكتب حديثه، وله من الحديث شيء يسير . "تهذيب الكمال مع حاشيته" (22/369-371 رقم4512)، وفي "التقريب" (ص753 رقم5214): مقبول!
والأقرب أن يقال: لا بأس به . وأما ما قيل من أن الذي دسَّ إليه السم معاوية، أو ابنه يزيد فقد قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (8/43): «وعندي أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى».
(2) في (ح): «ما».
(3) أخرجه عبدالرزاق (3/471-472 رقم6369)، والبزار في "مسنده" (4/187 رقم1345)، والطبراني في "الكبير" (3/136 رقم 2913)، والحاكم (3/171)، والبيهقي (4/28-29). جميعهم من طريق سالم بن أبي حفصة، عن أبي حازم قال: إني لشاهد يوم مات الحسن بن علي - رضي الله عنه - ، فرأيت الحسين بن علي - رضي الله عنه - يقول لسعيد بن العاص ويطعن في عنقه ويقول: تقدم، فلولا أنها سنة ما قدمت، وكان بينهم شيء، فقال أبو هريرة: أتنفسون على ابن نبيكم بتربة تدفنونه فيها، وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني».
قال الحاكم " صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي .
وحسَّنه الألباني في "أحكام الجنائز" (ص129).
(4) في (ح): «وكان قد».
(5) انظر "السير" (3/275-276)، و"الاستيعاب" (3/112-114)، و"أسد الغابة" (2/15-16).
(6) في (ح): «فمنع».
(7) في (ح): «جاء».
(8) قوله: «بل» سقط من (ح).
(9) قوله: «بل» سقط من (ح).
(10) في (ح): «ولما».
(11) هو عند ابن عبد البر في الاستيعاب (3/100 - بهامش الإصابة) أخرجه الطيالسي (ص19 رقم129)، وأحمد (1/98 و118)، والبخاري في "الأدب المفرد" (2/287-288 رقم 823)، والبزار في "مسنده" (2/314-315 رقم 742 و743)، وابن حبان (15/409-410 رقم6958)، والطبراني في "الكبير" (3/96و96-97 رقم2773-2776)، والحاكم (3/165 و168 و180)، والبيهقي (6/166). جميعهم من طريق أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي قال: لما وُلِد الحسن جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أروني ابني، ما سميتموه؟ » قلت: سميته حربًا. قال: «بل هو: حسن»، فلما وُلد الحسين، قال: «أروني ابني، ما سميتموه؟»، قلت: سميته حربًا، قال: «بل هو: حسين»، فلما وُلد الثالث، جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: « أروني ابني، ما سميتموه؟ » قلت: حربًا، قال: «بل هو: محسِّن»، ثم قال: «سميتهم باسم ولد هارون: شبَّر، وشبِير، ومُشبِّر».
زاد بعضهم: «وكنت أحب أن أكتني بأبي حرب». وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حنَّك الحسن والحسين .
قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحسن من هذا الإسناد بهذا اللفظ، على أن هانئ بن هانئ قد تقدم ذكرنا له أنه لم يحدث عنه غير أبي إسحاق، وقد روى عنعلي من وجه آخر، وروي عن سلمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحديث هانئ أحسن ما يروى في ذلك».
وقال الحاكم " صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي .
وقال الهيثمي في "المجمع" (8/52): «ورواه البزار والطبراني بنحوه بأسانيد، ورجال أحدهما رجال الصحيح».
وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (2/115 رقم769).
وقال الألباني في "ضعيف الأدب المفرد" (ص78): ضعيف !
وفي سنده هانئ بن هانئ الهمداني الكوفي، لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي. وذكر ابن حبان في الثقات . وقال ابن المديني: مجهول . وقال الذهبي: ليس بمعروف . وقال ابن سعد: كان يتشيع، وكان منكر الحديث . وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة . وقال الشافعي: لا يعرف، وأهل العلم بالحديث لا ينسبون حديثه لجهالة حاله . "تهذيب التهذيب(4/...)، "المغني في الضعفاء" (2/365 رقم6726)، وفي التقريب (ص 1018 رقم 7314): ومستور.
وقد صحح له الترمذي حديثًا رواه عن علي في مناقب عمار بن ياسر: «ائذنوا له مرحبًا بالطيب المطيب» (3798). وقا ل: حسن صحيح . وصحح له ابن حبان والحاكم، كما هنا، فمثله يكون حسن الحديث .
وقد جاء في سبب التسمية حديث آخر: أخرجه أحمد (1/159)، والبزار في "مسنده" (2/251 رقم657)، وأبو يعلى (1/384 رقم 498)، والطبراني في "الكبير" (3/98 رقم2780). أربعتهم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن علي قال: لما ولد الحسن سَمَّاه: حمزة، فلما ولد الحسين سَمَّاه بعمه: جعفر، قال: فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إنى أمرت أن أغير اسم هذين»، فقلت: الله ورسوله أعلم، فسماهما حسنًا وحسينًا .
وفي سنده: عبد الله بن محمد بن عقيل «صدوق، في حديثه لين»، ويقال: تغير بآخره، كما في "التقريب" (ص542 رقم3617).(3/1114)
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كل واحدٍ من الحسن والحسين يوم سابعه بكبش كبش (1) ، وأمر أن يحلق كل واحد &(6/238)&$ منهما، وأن يتصدَّق بوزن شعرهما فضة. وقال علي رضي الله عنه: «الحسين (2) رضي الله عنه أشبه الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين الصدر إلى الرأس، والحسن أشبه الناس للنبي (3) ما كان أسفل من ذلك (4) . وتواردت الآثار الصِّحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الحسن: «إن ابني هذا سيِّد، وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (5) . ولا أسود ممن سوَّده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وشهد له بذلك، وكان حليمًا، ورِعًا، فاضلاً، دعاه ورعه وفضله إلى أن ترك الْمُلك والدنيا رغبة فيما عند الله . ومما يدلّ على صحة ذلك وعلى صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وصحة نبوته ما قد اشتهر من حال الحسن، وتواتر من قضيَّة (6) خلافته، واصلاحه بين المسلمين، وذلك (7) : أنه لما قُتِل علي رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفًا (8) ، وكثير ممن تخلَّف عن أبيه، وممن نكث بيعته، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق، وما وراءها من خراسان، ثم سار إلى معاوية في (9) أهل الحجاز والعراق، وما وراءها من خراسان، ثم سار (10) إليه معاوية في أهل الشام، فلما تراءى الجمعان بموضع يقال له: مَسْكَن، من أرض السواد بناحية الأنبار، كره الحسن القتال لعلمه أن إحدى الطائفتين لا تغلب حتى يهلكَ أكثر الأخرى، فيهلك المسلمون، فسلَّم الأمر لمعاوية على شروط شرطها عليه، منها: أن يكون الأمر له من بعد معاوية، فالتزم كل (11) ذلك معاوية، واجتمع الناس على بيعته في النصف من جمادى الأولى من سنة إحدى وأربعين . هذا أصح ما قيل في ذلك، ولما فعل ذلك الحسن عتب عليه أصحابه، ولاموه على ذلك؛ حتى قال له بعض أصحابه: يا عار =(6/296)=@ المؤمنين ! فقال: العار خير من النار . وقال له شيخ من أهل الكوفة يكنى أبا عامر (12) لما قدمها: السلام عليك يا &(6/239)&$ مُذِل (13) المؤمنين، فقال له: لا تقل ذلك %(3/1115)%
__________
(1) صحيح بمجموع طرقه . انظر "مختصر استدراك الحاكم" للذهبي (6/2829-2831 رقم954) بتحقيقي . و"الإرواء" (4/379-384).
(2) في (ح): «كان الحسين».
(3) في (ح): «بالنبي».
(4) أخرجه الطيالسي (ص19-20 رقم130)، وأحمد (1/99 و108)، والترمذي (5/618 رقم3779) في المناقب، في مناقب الحسن والحسين، وابن حبان (15/430-431 رقم6974/الإحسان). جميعهم من طريق أبي إسحاق قال: قال علي رضي الله عنه: الحسن - رضي الله عنه - أشبه الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان أسفل من ذلك .
قال الترمذي: حسن صحيح غريب . والذي في "تحفة الأشراف" (7/454): حسن غريب . وكذا في نسخة الترمذي من "تحفة الأحوزي" (10/282).
وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (2/118 رقم774). وقال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (3/1738 رقم6170): «وفي سنده ضعيف»!
(5) أخرجه البخاري (5/306-307 رقم2704) في الصلح، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي . و(6/628 رقم3629) في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام . و(7/94 رقم3746) في فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما . و(13/61-62 رقم 7109) في الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي«سيّد ...»: «إن ابني هذا السيِّد».
(6) في (ح): «قصة».
(7) في (ك): «ولذلك».
(8) انظر "صحيح البخاري مع الفتح" (13/61-67).
(9) في (ح): «من».
(10) في (ح): «خراسان وسار».
(11) قوله: «كل» سقط من (ح).
(12) في (ح): «أبا عمرو».
(13) في (ك): «أمير».(3/1115)
يا أبا عامر! فإني لم (1) أذل المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم في طلب الملك، فقد ظهر ما قاله سيد المرسلين من أن الحسن سيِّد، وأن الله أصلح به بين فئتين من المسلمين، لكن خُشي من طول عمره فسُمَّ فمات من فوره، ونقل الثقات: أنه لما سُمَّ لفظ قطعًا من كبده، وحينئذ قال: لقد سُقيتُ السُّمَّ ثلاث مرات لم أسق مثل هذه المرة، فقال له الحسين: يا أخي من سقاك ؟ قال: وما تريد إليه ؟ أتريد أن تقتله ؟ قال: نعم . قال: لئن كان الذي أظن؛ فالله أشد نقمة، ولئن كان غيره فما أحب أن يقتل بي بريء (2) (3) . ولما ورد البريد بموته على معاوية قال: يا عجبًا من الحسن شرب شربة من عسل بماء رومة فقضى نحبه (4) .
وأما الحسين رضي الله عنه، فكان فاضلاً، ديِّنًا، كثير الصوم، والصلاة، والحج، قال مصعب الزبيري: حجَّ الحسين خمسًا وعشرين حجَّة ماشيًا (5) ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه وفي الحسن: «إنهما سيِّدا شباب أهل الجنة» (6) . وقال: «هما ريحانتاي من الدنيا» (7) . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رآهما هشَّ لهما، وربما أخذهما، كما روى أبو داود: أنهما دخلا المسجد وهو يخطب فقطع خطبته ونزل فأخذهما، وصعد بهما، وقال: «رأيت هذين، فلم أصبر» (8) . وكان يقول فيهما: «اللهم إني أحبهما فأحبهما (9) ، وأحِبَّ من يحبهما» (10) . وقُتل رحمه الله، ولا رحم قاتله يوم الجمعة لعشر خلون من محرم سنة إحدى وستين بموضع يقال له: كربلاء، بقرب موضع يقال له: الطفُّ بقرب من الكوفة . قال أهلُ التواريخ: لما مات معاوية، =(6/297)=@ وأفضت الخلافة إلى يزيد، وذلك في سنة ستين، وردتْ بيعته &(6/240)&$ على الوليد بن عتبة بالمدينة ليأخذ البيعة على أهلها، أرسل إلى الحسين بن علي، وإلى عبدالله بن الزبير ليلاً فأُتي بهما فقال: بايعا. فقالا: مثلنا لا يبايع سرًّا، ولكنا نبايع على رؤوس الناس إذا أصبحنا، فرجعا إلى بيوتهما، وخرجا من ليلتهما إلى مكة، %(3/1116)%
__________
(1) قوله: «لم» سقط من (ك).
(2) في (ك): «أن تقتل بريء».
(3) تقدم تخريجه قريبًا .
(4) "الاستيعاب" (3/110).
(5) أخرجه الطبراني في "الكبير" (3/115 رقم2844)، وسنده منقطع كما قال الهيثمي في "المجمع" (9/201).
(6) صحيح بمجموع طرقه . انظر "مختصر استدراك الحاكم" للذهبي (4/1646- 1655 رقم606 و607) بتحقيقي .
(7) أخرجه البخاري (7/95 رقم 3753) في فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما . و(10/426 رقم 5994) في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته .
(8) أخرجه ابن أبي شيبة (6/382 رقم32179) في الفضائل، باب ما جاء في الحسن والحسين رضي الله عنهما، وأحمد (5/354)، وأبو داود (1/663-664 رقم1109) في الصلاة، باب الإمام يقطع الصلاة الخطبة للأمر يحدث، وابن ماجه (2/1190 رقم3600) في اللباس، باب لبس الأحمر للرجال، والترمذي (5/616-617 رقم 3600) في اللباس، باب مناقب الحسن والحسين، والنسائي (3/108 و192 رقم1413 و1585) في الجمعة، وصلاة العيدين، باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة، وابن خزيمة (2/355 رقم1456)، و(3/151-152 رقم1801)، وابن حبان (13/402 و403 رقم6038 و6039/الإحسان)، والحاكم (1/287)، والبيهقي (3/218)، و(6/165). جميعهم من طريق الحسين بن واقد، عن عبدالله بن بريدة: سمعت أبي بريدة يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا؛ إذ جاء الحسن والحسين عليهما السلام عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: «صدق الله } إنما أموالكم وأولادكم فتنة { ، فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما».
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث الحسين بن واقد .
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي .
(9) في (ح): يشبه «فأحببهما».
(10) أخرجه البخاري و(7/88 و94 رقم3746) في فضائل الصحابة، باب ذكر أسامة بن زيد، وباب في مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما . و(10/434 رقم 6003) في الأدب، باب وضع الصبي على الفخذ .(3/1116)
وذلك ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب، فأقام الحسين بمكة شعبان ورمضان وشوال (1) وذا القعدة، ثم خرج يوم التروية يريد الكوفة، فبعث عبيدُالله بن زياد خيلاً لقتل الحسين، وأمَّر عليهم عمر بن سعد، فأدركه بكربلاء فقتل الحسين، وقتل معه من ولده وإخوته وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلاً، وسبي نساؤه، وذلك في (2) يوم عاشوراء من السنة المذكورة . وكان من قضاء الله تعالى وتعجيل عقوبته لعبيدالله بن زياد: أن قتل يوم عاشوراء سنة سبع وستين . قتله إبراهيم بن الأشتر في الحرب، وبعث برأسه إلى المختار، وبعث به المختار إلى ابن الزبير، فبعث به إلى علي بن حسين .
واختلف في سن الحسين يوم قتل . فقيل: سبع وخمسون. وقيل: ثمان . وقيل: أربع . وقال جعفر بن محمد: توفي علي بن أبي طالب وهو ابن ثمان وخمسين . وقتل الحسين وهو ابن ثمان وخمسين، وتوفي علي بن الحسين، وهو ابن ثمان وخمسين، وتوفي محمد بن علي، وهو ابن ثمان وخمسين . قال سفيان: قال (3) لي جعفر بن محمد، وأنا بهذه السنة في ثمان وخمسين، وتوفي فيها، رحمة الله عليهم أجمعين .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) فيما يرى النائم نصف النهار، وهو قائم أشعث، أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا ؟ قال: هذا دم الحسين، لم أزل ألقطه منذ اليوم، فوجد قد (5) قتل في ذلك اليوم (6) .
وأما الحسن فكان سنَّه يوم مات ستًّا (7) وأربعين سنة، وقيل: سبعًا وأربعين سنة (8) . وروى (9) الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث (10) =(6/298)=@ الدعاء في القنوت (11) .
وقوله: «إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة» (12) . &(6/241)&$ وروى الحسين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (13) : «من (14) حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (15) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في ابن صائد (16) : «اختلفتم وأنا بين أظهركم ؟ فأنتم بعدي أشدُّ اختلافًا» (17) .
وقوله: «حتى أتى خباء فاطمة»؛ أي: بيتها، وأصل الخباء: ما يخبأ فيه، وقد صار بحكم العرف العربي عبارة عن بيوت الأعراب. %(3/1117)%
__________
(1) في (ح): «وشولاً».
(2) قوله: «في» سقط من (ح).
(3) في (ح): «وقال».
(4) في (ح): «رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
(5) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ك).
(6) أخرجه أحمد (1/242 و283)، والطبراني في "الكبير" (3/110 رقم2822)، و(12/143-144 رقم12837)، والحاكم (4/397-398) ثلاثتهم من طريق حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرى النائم بنصف النهار، وهو قائم أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا؟ قال: «هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل ألتقطه منذ اليوم»، فوجدوه قتل في ذلك اليوم .
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم . ووافقه الذهبي .
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية": إسناده قوي .
وصحح إسناده الألباني في تعليقه على "المشكاة" (3/1742 رقم6181).
(7) في (ب) و(ك) و(م): «ستة».
(8) قوله: «سنة» سقط من (ب) و(ك) و(م).
(9) في (ح): «روى» بلا واو.
(10) قوله: «حديث» سقط من (ح).
(11) أخرجه الطيالسي (1179)، وأحمد (1/200)، والدارمي (1/373) في الصلاة، باب الدعاء في القنوت، وأبو يعلى (12/127 و132 رقم6759 و6762)، وابن خزيمة (2/152 رقم 1096)، وابن حبان (2/498-499 رقم 722)، و(3/255 رقم945)، والطبراني في "الكبير" (3/75 رقم2707). جميعهم من طريق شعبة، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء السعدي، قال: قلت للحسن بن علي: ما تذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: كان يعلمنا هذا الدعاء: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت». ليس فيه ذكر قنوت في الوتر .
ورواه شعبة عن جماعة وهم: الطيالسي، ويحيى بن سعيد، ومحمد بن جعفر، ويزيد بن زريع، وعثمان بن عمر، وعمرو بن مرزوق، وغيرهم .
قال أحمد شاكر في تعليقه على "المحلى"(4/147): وهذا إسناد صحيح متصل بالسماع.
وأخرجه أحمد (1/200)، والدارمي (1/373 و373-374) في الموضع السابق، وأبو داود (2/133-134 و134 رقم 1425 و1426) في الوتر، باب القنوت في الوتر، وابن ماجه (1/372-373 رقم 1178) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، والترمذي (1/328 رقم 464) في الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، والنسائي (3/248 رقم 1745) في قيام الليل، باب الدعاء في الوتر، وابن الجارود (1/239-240 رقم373/غوث)، وابن خزيمة (2/151-152 رقم 1095)، والطبراني في "الكبير" (3/73-74-75 و75 رقم2702 و2704 -2706). جميعهم من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن بريد، بهذا الإسناد، إلا أنه قال: علمني جدي كلمات أقولهن في قنوت الوتر ... .
ورواه عن أبي إسحاق جماعة، وهم: الثوري، وإسرائيل، وزهير، وأبي الأحوص، وشريك .
قال الترمذي: «هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي، واسمه: ربيعة بن شيبان، ولا يعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت شيئًا أحسن من هذا».
وقد تُوبع السبيعي على روايته: فأخرجه ابن الجارود (1/238-239 رقم372/ غوث)، والطبراني في "الكبير" (3/77 رقم 2712) كلاهما من طريق يونس بن أبي إسحاق . وأخرجه والطبراني في الموضع السابق (2708) من طريق الحسن بن عبيدالله، والبيهقي (2/209) من طريق العلاء بن صالح .
وقد توقف ابن حزم في تصحيح هذا الحديث، فقال في "المحلى" (4/147)- بعد أن رواه من طريق أبي داود -: «وهذا الأثر وإن لم يكن مما يحتج بمثله، فلم نجد فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ضعيف الحديث أحب إلينا من الرأي».
قال أحمد شاكر في تعليقه على "المحلى": «نقل ابن حجر في التهذيب (3/256) كلام ابن حزم هذا، ولم يتعقبه بشيء، ولكن الحديث صحيح كما ترى».
وصحح إسناده أيضًا الألباني في تعليقه على ابن خزيمة (2/151). وأما الإمام ابن خزيمة فقال في "صحيحه" (2/152): «وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس بن أبي إسحاق، وأبو إسحاق لا يعلم أسمع هذا الخبر من بريد أو دلسه عنه، اللهم إلا أن يكون كما يدعي بعض علمائنا: أن كل ما رواه يونس عن من روى عنه أبوه أبو إسحاق هو مما سمعه يونس مع أبيه ممن روى عنه، ولو ثبت الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالقنوت في الوتر، أو قنت في الوتر، لم يجز عندي مخالفة خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولست أعلمه ثابتًا».
قال الحافظ في "تلخيص الحبير" (1/247): «ونبَّه ابن خزيمة وابن حبان على أن قوله :" في قنوت الوتر" تفرد بها أبو إسحاق عن بريد بن أبي مريم وتبعه ابناه يونس وإسرائيل، كذا قال، قال: ورواه شعبة وهو أحفظ من مائتين مثل أبي إسحاق وابنيه، فلم يذكر فيه القنوت ولا الوتر، وإنما قال: كان يعلمنا هذا الدعاء . قلت: ويؤيده ما ذهب إليه ابن حبان؛ أن الدولابي رواه في "الذرية الطاهرة" له، والطبراني في "الكبير" من طريق الحسن بن عبيدالله، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء به؛ وقال فيه: وكلمات علمنيهن، فذكرهن، قال بريد: فدخلت على محمد بن علي في الشعب فحدثته، فقال: صدق أبو الحوراء، هن كلمات علمناهن نقولهن في القنوت، وقد رواه البيهقي من طرق، قال في بعضها: قال بريد بن أبي مريم: فذكرت ذلك لابن الحنفية، فقال: إنه للدعاء الذي كان أبي يدعو به في صلاة الفجر، ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر أيضًا». اهـ.
(12) أخرجه الطيالسي (ص163 رقم1177)، وأحمد (1/200)، والدارمي (1/373) في الصلاة، باب الدعاء في القنوت، وأبو يعلى (12/132 رقم6762)، وابن خزيمة (4/59 رقم 2347 و2348)، والطحاوي في "شرح المعاني" (2/6)، و(3/297)، وابن حبان (2/498-499 رقم 722/الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (3/76 رقم2710). من طريق شعبة .
وأخرجه أحمد (1/200)، والطبراني في "الكبير" (2714). كلاهما من طريق العلاء بن صالح . - شعبة، والعلاء -، عن بريدة بن أبي مريم .
وأخرجه أحمد (1/200)، وابن خزيمة (4/60 رقم 2349)، والطحاوي (2/7)، و(3/397). ثلاثتهم من طريق ثابت بن عمارة .
- بريد بن أبي مريم، وثابت بن عمارة -، عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما تذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: أذكر إني أخذت تمرة من تمر الصدقة، فجعلتها في فِيَّ، فأنتزعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلعابها، فألقاها في التمر، فقيل: يا رسول الله! ما عليك من هذه التمرة لهذا الصبي؟ قال: «إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة».
صححه ابن خزيمة، وابن حبان، كما هنا .
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/90): رواه أحمد ورجاله ثقات .
وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (3/169).
(13) من قوله: «الدعاء في القنوت ....» إلى هنا سقط من (ح).
(14) ألحق ناسخ (ح) في الهامش قبلها قوله «قوله».
(15) يرويه الزهري، واختلف عليه في وصله وإرساله:
فأخرجه مالك (2/689) في حسن الخلق باب ما جاء في حسن الخلق، عن الزهري، عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
ومن طريق مالك؛ أخرجه:
وكيع في "الزهد" (2/654 رقم364)، البخاري في "التاريخ الكبير" (4/220)، وابن الجعد (2/1048 رقم3033)، الترمذي (4/484 رقم2318) في الزهد، باب منه، والفسوي (1/360)،والعقيلي (2/9)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1/144 رقم193)، والبغوي (14/321 رقم4133).
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (9/195): «هكذا رواه جماعة رواة الموطأ عن مالك فيما علمت، إلا خالد بن عبدالرحمن الخراساني، فإنه رواه عن مالك، عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين، عن أبيه، وكان يحيى بن سفيان يثني على خالد بن عبدالرحمن الخراساني خيرًا، وقد تابعه موسى بن داود الضبي قاضي طرسوس فقال فيه أيضًا: عن أبيه، وهما جميعًا لا بأس بهما، إلا أنهما ليسا بالحجة على جماعة رواة الموطأ الذين لم يقولوا فيه عن أبيه».
وقد توبع مالك على إرساله :
فأخرجه: عبدالرزاق (11/307-308 رقم20617)، والبيهقي في "شعب الإيمان". كلاهما من طريق معمر . وأخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" (ص55 رقم103)، وابن عبد البر في "التمهيد" (9/197) كلاهما من طريق زياد بن سعد . وأخرجه القضاعي (193) من طريق يونس بن يزيد .
ثلاثتهم - معمر، وزياد بن سعد، ويونس -، عن الزهري بهذا الإسناد، وخالفهم عبدالله بن عمر العمري، فوصله .
أخرجه أحمد (201)، وعنه والطبراني في "الكبير" (3/128 رقم2886). وأخرجه العقيلي (2/9)، وتمام (3/327 و327-328 رقم1096 و1097/الروض البسام)، والقضاعي رقم (194)، وابن عبد البر في "التمهيد" (9/197). جميعهم من طريق عبدالله بن عمر العمري، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن أبيه، فذكره .
عبدالله بن عمر العمري ضعيف، كما في "التقريب" (ص528 رقم3513). وقد تابعه على وصله: شعيب بن خالد: أخرجه أحمد (201)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/220). كلاهما من طريق حجاج بن دينار، عن شعيب بن خالد، عن الحسين بن على، فذكره .
قال أبو حاتم كما في "العلل" لابنه (2/242): «إن كان شعيب بن خالد الرازى، فبينهما الزهري، ولا أدري هو أو لا؟ ».
ورواه قرة بن حيوئيل، عن الزهري، فجعله في مسند أبي هريرة! أخرجه ابن ماجه (2/1315-1316 رقم3976) في الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، والترمذي (4/484 رقم2318) في الزهد، باب منه، وابن حبان (1/466 رقم229)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (ص91/92 رقم54)، والقضاعي (192)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/255 رقم 4987). وابن عبد البر في "التمهيد" (9/198)، والبغوي في "شرح السنة" (14/320 رقم4132). جميعهم من طريق الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، فذكره .
وقد أعلَّ هذه الطريق الإمام البخاري فقال في "التاريخ الكبير" (4/220): «وقال بعضهم: عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح إلا عن علي بن حسين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وكذا قال الترمذي (4/484). وقال الدارقطني في "العلل" (3/110): «والصحيح قول من أرسله عن علي بن الحسين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
وقال العقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/10): والصحيح حديث مالك .
وقال البيهقي في "شعب الإيمان" (4/255): وإسناد الأول - يعني: المرسل - أصح .
قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص287 - 288): «وممن قال إنه لا يصح إلا عن على بن حسين مرسلاً، الإمام أحمد، ويحيي بن معين، والبخاري، والدارقطني، وقد خلَّط الضعفاء في إسناده عن الزهري تخليطًا فاحشًا، والصحيح فيه المرسل ...، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخر، وكلها ضعيفة».
وله شاهد من حديث زيد بن ثابت :
أخرجه الطبراني في "الصغير" (2/118 رقم884) عن محمد بن عبدة المصيصي، عن محمد بن كثير بن مروان، عن عبدالرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، فذكره .
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/18): «وفيه محمد بن كثير بن مروان وهو ضعيف، وعبدالرحمن بن أبي الزناد فيه كلام».
ومحمد بن كثير هذا، قال ابن معين: ليس بثقة، وقال ابن الجنيد: منكر الحديث، وقال الأزدي: متروك، وقال ابن عدي: روى بواطيل والبلاء منه، وقال أيضًا: وسمعت البغوي ذكره يومًا فأساء الثناء عليه . "تهذيب التهذيب" (....)، وفي "التقريب" (ص891 رقم6295): متروك .
فلا يصلح هذا شاهدًا لتقوية الحديث . ومن تأمل عبارة الحافظ ابن رجب آنفًا: «وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخر، وكلها ضعيفة» تعجب ممن ذهب إلى تصحيح هذا الحديث أو تحسينه من المعاصرين، اعتمادًا منهم على شواهد لا ينجبر بها ضعف الحديث، فانظر مثالاً على ذلك: الروض البسام على فوائد تمام (3/331)، صحيح ابن حبان (229)، صحيح الأذكار للنووي، تحقيق سليم الهلالي (2/820-821)، الزهد لوكيع (ص647-648).
(16) في (ح): «صياد».
(17) أخرجه عبد الرزاق (11/389-390 رقم20818) عن معمر، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان: أنه سمع حسين بن علي - رضي الله عنه - يحدِّث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبأ لابن صائد دخانًا، فسأله عما خبأ له، فقال: دخ، فقال: اخسأ، فلن تعدو قدرك»، فلما ولَّى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ما قال؟ » فقال بعضهم: دخ، وقال بعضهم: بل قال: ريح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «قد اختلفتم وأنا بين أظهركم، فأنتم بعدي أشدُّ اختلافًا».
ومن طريقه الطبراني في "المعجم الكبير" (3/134-135 رقم2908).
وأخرجه الطبراني في الموضع السابق رقم (2909) عن عقيل بن شهاب، عن سنان بن أبي سنان، به . قال الهيثمي في "المجمع" (8/5): «رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح».
وسنده صحيح، سنان بن أبي سنان، ثقة، كما في "التقريب" (ص417 رقم2656).(3/1117)
وقوله عليه السلام للحسن: «أثمَّ لُكَع ؟» يعني به: الصغير، وهي لغة بني تميم، وسئل ابن جرير (1) عن اللكع، فقال: هو الصغير في لغتنا، وأصل هذه الكلمة: أنها تستعمل للتحقير، والتجهيل، واللكع: العبد الوغد، والقليل العقل، ويقال للأنثى: لكعاء، ويعدل به في النداء إلى لَكاعٍ، وقد تقدم القول فيه . ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - مُمازحًا له بذلك اللفظ، ومؤنسًا كما يقول الرجل لابنه الصغير: تعال يا كُليب (2) ، وكما قالت العربية لابنها وهي تُرَقِّصه (3) : حُزُقَّة عين (4) بقَّة .
والسِّخاب: خيط فيه خرز ينظم، ويجعل في عنق الصبيان، والسِّخاب مأخوذ من السَّخَب (5) ، وهو اختلاط الأصوات، وارتفاعها، وكأن هذه الخرزات لها أصوات مختلفة عند احتكاك بعضها مع البعض، وقيل: السِّخاب من القلائد: ما اتخذ من القرنفل، والمسك، والعود وشبهه، دون الجوهر .
وفيه من الفقه: المحافظة على النظافة، وعلى تحسين الصغار، وتزيينهم (6) ، وخصوصًا عند لقاء من يُعظم ويحترم. =(6/299)=@
وقوله: «حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه»؛ فيه ما يدل على تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورحمته بالصغار، وإكرامه ومحبَّته للحسن، ولا خلاف - فيما أحسب - في جواز عناق الصِّغار كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ وإنَّما اختلف في عناق الكبير في حالة السلام، وكرهه (7) مالك، وأجازه سفيان بن عيينة (8) ، وغيره، واحتج سفيان على &(6/242)&$ مالك في ذلك (9) بعناق النبي - صلى الله عليه وسلم - جعفرًا لما قَدِم عليه (10) ، فقال مالك: ذلك مخصوصٌ بجعفر . فقال سفيان: ما يخص جعفرًا يعمَّنا، %(3/1118)%
__________
(1) في (ح): «بلال بن جرير».
(2) في (ح): «يا كلب».
(3) في (ك): «ترضعه».
(4) في (ك): «خرقة عين».
(5) في (ح): يشبه «والسخيب».
(6) في (ك): «وتربيتهم».
(7) في (ح): «فكرهه».
(8) قوله: «سفيان بن عيينة» سقط من (ك).
(9) قوله: «في ذلك» سقط من (ح).
(10) حسن لغيره، انظر "مختصر استدراك الذهبي" (6/1825-1829رقم646) بتحقيقي .(3/1118)
فسكت مالك، ويدل سكوت مالك على أنه ظهر له ما قاله سفيان من جواز ذلك. قال القاضي عياض (1) : وهو الحق حتى يدلّ دليل على تخصيص جعفر بذلك .
والعاتق: ما بين المنكب إلى العنق، وقيل: هو موضع الرداء من المنكب .
وفيه من الفقه ما يدل على: جواز حمل الصِّبيان، وترك التعمُّق في التحفظ (2) مما يكون منهم من المخاط والبول، وغير ذلك، فلا يجتنب من ذلك إلا ما ظهرت عينه، أو تحقق، أو تفاحش، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (3) يعملون على مقتضى الحنيفية السَّمحة، فيمشون (4) حفاة في الطِّين، ويجلسون بالأرض، وتكون عليهم الثياب الوسخة التي ليست بنجسة، =(6/300)=@ ويلعقون أصابعهم، والقصعة عند الأكل، ولا (5) يعيبون شيئًا من ذلك، ولا يتوسوسون فيه، وكل ذلك ردٌّ على غلاة متوسوسة الصوفية اليوم؛ فإنَّهم يبالغون في نظافة الظواهر والثياب، وبواطنهم وسخة خراب.
وقوله: «لقد قدتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحسن والحسين بغلته»؛ هذا يدل على جواز ركوب ثلاثة على دابة؛ لكن إذا لم يثقلوها، وقد روي عن علي وغيره: كراهة ذلك (6) ، وروي في ذلك نهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (7) ، لكن محله (8) - والله تعالى أعلم - على ما إذا أثقلها وفَدَحها (9) . &(6/243)&$ %(3/1119)%
__________
(1) قوله: «عياض» سقط من (ح).
(2) في (ك): «الحفظ».
(3) قوله: «وأصحابه» سقط من (ك).
(4) في (ك): «يتمشون».
(5) في (ح): «لا» بلا واو.
(6) قال ابن حجر في "فتح الباري" (10/396): «أخرج الطبري عن علي قال: إذا رأيتم ثلاثة على دابة فارجموهم حتى ينزل أحدهم».
(7) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7512) من طريق سليمان الشاذكوني، ثنا أبو أمية بن يعلى، ثنا محمد بن المنكدر، عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يركب ثلاثة على دابة .
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/109): فيه سليمان بن الشاذكوني، وهو متروك .
وقال ابن حجر في "الفتح" (10/395): سنده ضعيف .
(8) في (ب) و(م): «محمله».
(9) في (ك): «وقدحها».(3/1119)
ومن باب فضائل أهل البيت
قوله: «مرط مُرَحَّل»؛ المرط: الكساء، وجمعه: مروط. والمرحَّل: يروى بالحاء يعني: فيه صور الرِّحال، ويُروى (1) بالجيم؛ أي: فيه صور الرجال، أو صور =(6/301)=@ المراجل، وهي: القدور، يقال: ثوب مراجل، وثوب مرجَّل: هذا قولُ ا لشارحين.
قلت: ويظهر لي أن المرجَّل هنا: يُراد به الممشوط خَمَلُه (2) وزُبْرُه (3) . كما (4) قال امرؤ القيس:
خَرَجْتُ بها تمشي (5) تَجُرُّ وراءَنا على أثَرَيْنا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرجَّل (6)
&(6/244)&$
وهذا أولى؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف يلبس الثوب الذي فيه صور الرِّجال؛ مع أنه قد نهى عن الصور، وهتك السِّتر الذي كانت فيه، وغضب عند رؤيته، كما تقدَّم في اللباس.
وقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: } إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا { (7) ؛ دليل على: أن أهل البيت المعنيون (8) في =(6/302)=@ الآية: هم المغطون بذلك المرط في ذلك الوقت. %(3/1120)%
__________
(1) في (ك): «يروى».
(2) في (ك): «حمله».
(3) في (ك): «ذبره»، وفي (ح) لم تتضح.
(4) قوله: «كما»سقط من (م).
(5) في (م): «نمشي».
(6) كذا في جميع النسخ! بالجيم، انظر "اللسان" (5/246)، ورويت بالحاء المهملة، انظر "العين" (3/208)، و"الغريب" لابن قتيبة (2/454)، و"الديوان" (ص52).
(7) الآية (33) من سورة الأحزاب .
(8) كذا في جميع النسخ! والصواب: «المعنيين». تراجع لغويًّا(3/1120)
والرجس: اسم لكل ما يستقذر، قاله الأزهري. والمراد بالرجس الذي أُذهب عن أهل البيت: هو مستخبث الخلق المذمومة، والأحوال الركيكة، وطهارتهم: عبارة عن تجنبهم ذلك، واتصافهم با لأخلاق الكريمة، والأحوال الشريفة.
وقوله: «قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا بماء يدعى خُمًّا»؛ هو بضم الخاء المعجمة، وهو موضع معروف، وهو الذي أكثرت الشيعة وأهل الأهواء فيه من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في استخلافه عليًّا، ووصيته إياه، ولم يصح من ذلك كله شيء إلا هذا الحديث.
وقوله: «وأنا تارك فيكم ثقلين»؛ يعني: كتاب الله، وأهل بيته. قال ثعلب. &(6/245)&$ سَمَّاهما ثقلين؛ لأنَّ الأخذ بهما، والعمل بهما ثقيل، والعرب تقول لكل شيء خطير نفيس: ثقيل.
قلت: وذلك لحرمة الشيء النَّفيس، وصعوبة روم الوصول إليه، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما سمَّى كتاب الله، وأهل بيته: ثقلين لنفاستهما، وعظم حرمتهما (1) ، وصعوبة القيام بحقهما. %(3/1121)%
__________
(1) من قوله: «وصعوبة روم ....»إلى هنا سقط من (ح).(3/1121)
وقوله في كتاب الله: «هو حبل الله»؛ أي: عهد الله الذي عهده لعباده (1) ، =(6/303)=@ وسببه القوي الذي من تمسك به وصل إلى مقصوده، وقد ذكر هذا المعنى بأشبع من هذا فيما تقدَّم.
وقوله: «وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي - ثلاثا -»؛ هذه الوصية، وهذا التأكيد العظيم يقتضي: وجوب احترام آل (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، وإبرارهم، وتوقيرهم، ومحبتهم وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها. هذا مع ما علم من خصوصيتهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبأنَّهم جزء منه، فإنَّهم أصوله التي نشأ منها، وفروعه التي تنشأ (3) عنه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها» (4) ، ومع ذلك فقابل بنو أمية (5) عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق، فسفكوا من أهل البيت دماءهم، وسبوا نساءهم، وأسروا صغارهم، وخرَّبوا ديارهم، وجحدوا شرفهم، وفضلهم، واستباحوا سَبَّهم، ولَعْنَهم، فخالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وصيته، وقابلوه بنقيض مقصوده وأمنيته، فواخجلهم إذا وقفوا بين يديه! ويا فضيحتهم يوم يعرضون عليه! &(6/246)&$ %(3/1122)%
__________
(1) في (ك): «لعبادنه».
(2) قوله: «آل»سقط من (ب)، وفي (ك): «آل محمد».
(3) في (ح): ((نشؤوا)).
(4) سيأتي في باب فضائل فاطمة بنت النبي r .
(5) الإنصاف يقتضي عدم التعميم؛ لأن منهم صالحون ورعون كعمر بن عبدالعزيز، وليس كل ما يُروى يثبت .(3/1122)
وقوله: «من أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟»هذا سؤال من (1) تمسك =(6/304)=@ بظاهر لفظ البيت، فإنَّ الزوجة: هي أصل بيت الرجل؛ إذ هي التي تعمره، وتلازمه، وتقوم بمصالحه، وكذلك إجابة زيد بأن قال: نساؤه من أهل بيته؛ أي: بيته المحسوس، وليس هو المراد هنا، ولذلك قال في الرواية الأخرى في جواب السائل: لا! أي: ليس نساؤه من أهل بيته، المعنى هنا: ولكن هم أصله وعصبته، ثم عيَّنهم بأنهم: هم الذين حرموا الصدقة (2) ؛ أي الذين تحرم عليهم الصدقات الشرعية على الخلاف الذي ذكرناه (3) في كتاب: الزكاة، وقد عينهم زيد تعيينًا يرتفع معه الإشكال (4) ، فقال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس رضي الله عنهم، فقيل له: أكلَّ هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم. وقد ذهب بعض المتأولين البيت (5) في هذا اللفظ إلى أن مراد زيد به: الذين منعهم خلفاء بني أمية صدقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بما كان خصَّه الله تعالى به التي كانت?تقسم عليهم أيام الخلفاء الأربعة. وهذا فيه بُعد، والأول أظهر. =(6/305)=@ %(3/1123)%
__________
(1) قوله: «سؤال من»سقط من (ح).
(2) قوله: ((الصدقة)) سقط من (ح).
(3) في (ك): «المذكور».
(4) في (ك): «يرتفع الإشكال معه».
(5) قوله: ((البيت)) سقط من (ح).(3/1123)
- - - - -
ومن باب فضائل زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب الكلبي
مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ويكنى: أبا أسامة بابنه أسامة بن زيد، وكان أصابه سباءٌ في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لخديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فوهبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك قبل النبوَّة بمكة، وزيد ابن ثماني (1) سنين، فأعتقه (2) ، وتبناه النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يطوف به على &(6/247)&$ حلق قريش ويقول: «هذا ابني وارثًا، وموروثًا» (3) ؛ يُشهدهم على ذلك. وذكر عن الزهري: أنَّه قال: ما علمت أحدًا أسلم قبل زيد. وروي عن الزهري من وجوه: أن أوَّل من أسلم خديجة. وقُتِل (4) زيذ بمؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّره في تلك الغزاة، وقال: «إن قُتِل زيدٌ فجعفر، فإنَّ قُتِل جعفر فعبد الله بن رواحة»؛ فقُتِل الثلاثة (5) في تلك الغزاة (6) ، ولما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعي زيد، وجعفر بكى، وقال: «أخواي، ومؤنساي، ومحدثاي» (7) .
وقوله: «ما كنَّا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمَّد»؛ كان التبنِّي معمولاً به في الجاهلية والإسلام، يُتوارث به، ويُتناصر؛ إلى أن نسخ الله تعالى ذلك كله بقوله: } ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله { (8) ؛ أي: أعدلُ. فرفع الله تعالى =(6/306)=@ حكم التبني، ومنع من إطلاق لفظه، وأرشد بقوله إلى (9) الأولى والأعدل أن %(3/1124)%
__________
(1) في (ح): ((ثمان)).
(2) انظر "سيرة ابن هشام" (1/247-248)، و"المستدرك" (3/213-214)، و"الإصابة" (4/47).
(3) ذكره ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (4/48).
(4) في (ك): «وقيل».
(5) في (ك): «الثلاث».
(6) أخرجه البخاري (7/510 رقم4261) في المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام، وتقدم...
(7) انظر "الاستيعاب" (4/53).
(8) الآية (5) من سورة الأحزاب .
(9) قوله: «إلى»سقط من (ك).(3/1124)
يُنسب (1) الرَّجل إلى أبيه نسبًا، فلو (2) نسب إلى أبيه من التبني؛ فإنَّ كان على جهة الخطأ - وهو أن يسبق اللسان إلى ذلك من غير قصد- فلا إثم، ولا مؤاخذة، لقوله تعالى: } وليس عليكم جناحٌ (3) فيما أخطأتم به { (4) ؛ أي: لا إثم فيه، ولا يجري هذا المجرى إطلاق ما غلب عليه اسم التبني، كالحال في المقداد بن عمرو (5) ؛ فإنَّه قد غلب عليه نسب التبني، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود، فإنَّ الأسود (6) بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية، وعرف به، فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو، ومع ذلك فبقي ذلك الإطلاق عليه، ولم يسمع فيمن مضى من عصَّى مُطْلِق ذلك عليه، وإن كان متعمدًا. وليس كذلك الحال (7) في زيد بن حارثة؛ فإنَّه لا يجوز أن يقال فيه: زيد بن محمَّد، فإن قاله أحدٌ متعمِّدًا عَصَى، لقوله تعالى: } ولكن ما تعمدت قلوبُكم { (8) ؛ أي: فعليكم فيه &(6/248)&$ الجناح. والله تعالى أعلم. ولذلك قال بعده: } وكان الله غفورًا رحيمًا { (9) ؛ أي: غفورًا للعمد ورحيمًا برفع إثم الخطأ.
ومعنى قوله تعالى: } ادعوهم لآبائهم { (10) ؛ أي: انسبوهم إليهم، ولذلك عدَّاه باللام (11) ، ولو كان الدُّعاء بمعنى: النداء لعدَّاه بالباء.
وقوله: } فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدِّين ومواليكم { (12) ؛ أي: فانسبوهم إليكم نسبة الأخوة الدينية التي قال الله تعالى فيها: } إنما المؤمنون إخوة { (13) ، والمولويَّة التي قال فيها: } والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (14) { (15) . وقد تقدَّم: أنَّه يقال: مولى على الْمُعْتِق، والْمُعْتَق، وابن العم، والناصر. =(6/307)=@ %(3/1125)%
__________
(1) في (ك): «فرفع الله»بدل «ينسب».
(2) في (ح): «ولو».
(3) في (ك): «ولا جناح عليكم».
(4) الآية (5) من سورة الأحزاب .
(5) أورده الحافظ في "الإصابة" (9/273).
(6) قوله: «فإن الأسود»سقط من (ح).
(7) في (ح) و(ك): «معتمدًا وذلك كالحال».
(8) الآية (5) من سورة الأحزاب .
(9) الآية (5) من سورة الأحزاب .
(10) الآية (5) من سورة الأحزاب .
(11) في (ح): ((بالام)).
(12) الآية (5) من سورة الأحزاب .
(13) الآية (10) من سورة الحجرات .
(14) في (ح): ((أولى ببعض)).
(15) الآية (71) من سورة التوبة .(3/1125)
وقوله: «بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثًا، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا البعث - والله تعالى أعلم - هو الذي جهَّزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أسامة، وأمُّره عليهم، وأمره (1) أن يغزو (2) أُبنى (3) ، وهي القرية التي هي (4) عند مؤتة - الموضع الذي قتل فيه زيد أبو أسامة -، فأمره (5) أن يأخذ بثأر أبيه. فطعن (6) من في قلبه ريبٌ في إمارته؛ من حيث: أنه من الموالي، ومن حيث: إنه كان صغير السِّن؛ لأنَّه كان إذ ذاك ابن ثماني (7) عشرة سنة، فمات النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد برز هذا البعث عن المدينة، ولم ينفصل بعد عنها، فنفَّذَه أبو بكر رضي الله عنه بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: «إن تطعنوا في إمرته؛ فقد كنتم طعنتم في إمرة أبيه قبل»؛ هذا خطاب منه - صلى الله عليه وسلم - لمن وقع له ذلك الطعن، لكنه على كريم خلقه لم يعيِّنهم سترًا لهم؛ إذ مَعْتبتُه (8) كانت كذلك، كما تقدَّم، وكان الطعن في إمارة زيد من حيث أنه كان مولًى، فشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة وأبيه رضي الله عنهما؛ بأنَّهما صالحان للإمارة، لما يعلم من أهليتهما لها، وأن كونهما موليين لا يغضُّ من مناصبهما، ولا يقدح في أهليتهما للإمارة.
ولا خلاف أعلم في جواز إمارة المولى والمفضول، وقد تقدَّم القول في استخلاف المفضول.
و «الإمرة»رويناها بالكسر بمعنى: الولاية، وقال (9) أبو عبيد: يُقال: لك عليَّ أمرةٌ مطاعة - بفتح الهمزة -، وكذلك حكاه القتبي (10) ، وهي واحدة (11) الأمر. &(6/249)&$
قلت: وهذا على قياس: جَلسة، وجِلسة - بالفتح للمصدر والكسر للهيئة .
والخليق، والحريُّ، والقَمِنُ، والحقيقُ: كلُّها بمعنى واحد. =(6/308)=@ %(3/1126)%
__________
(1) في (ك): «وأمرهم».
(2) في (ك): «يغزوا».
(3) أخرجه أحمد (5/205 و209)، وأبو داود (3/88 رقم2616)، وابن ماجه (2/948 رقم2843)، والطحاوي (3/208). جميعهم من طريق صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسامة بن زيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان وجهه وجهة، فقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله أبو بكر رضي الله عنه: ما الذي عهد إليك؟ قال: عهد إليَّ أن أغير على أُبنى صباحًا ثم أحرق .
صالح بن أبي الأخضر: ضعيف، كما في "التقريب" (ص443 رقم2860). قال أبو داود: «قال عبدالله بن عمرو الغزي: سمعت أبا مسهر قيل له: أُبنى، قال: نحن أعلم، هي يبنى فلسطين». وقال ياقوت في "معجم البلدان" (1/101): موضع بالشام من جهة البلقاء، وفي كتاب نصر، أُبنى: قرية بمؤتة».
وانظر "طبقات ابن سعد" (2/189-192)، و(4/67-68).
(4) قوله: «هي»سقط من (ك).
(5) في (ك): «وأمره».
(6) في (م): «وطعن».
(7) في (ح): ((ثمان)).
(8) في (ح): «معيبته».
(9) في (ك): «قال».
(10) في (ك): «القيتبي».
(11) في (ك): «واحد» وفي (ح): يشبه ((واحد في الأمر)).(3/1126)
وقوله: «وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ»، «إن»عند البصريين مخففة من الثقيلة، واللام الداخلة بعدها هي المفرقة بين «إن»المخففة وبين «إن»الشرطية. وعند الكوفيين: «إن»نافية، واللام (1) بمعنى: إلا. وهذا (2) نحو قوله:
شَلَّت يَمِينُك إن قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا ... حَلَّت عَلَيك عقوبةُ الْمُتَعَمِّدِ (3)
تقديرها عند البصريين: إنك قتلت مسلمًا. وعند الكوفيين: ما قتلت إلا مسلمًا.
وهذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر عن محبته لزيد رضي الله عنه، ثمَّ أخبر عن محبته (4) لأسامة فقال: «وإن هذا لمن (5) أحب الناس إلي بعده». فكان أسامة (6) الحبُّ ابن الحبِّ. وبذلك كان يُدعى. ورضي الله عن عمر بن الخطاب؛ لقد قام بالحق، وعرفَه لأهله، وذلك: أنَّه فرض لأسامةَ في العطاء خمسة آلاف (7) ، ولابنه عبد الله ألفين. فقال له عبد الله: فضلت عليَّ أسامة، وقد شهدت ما لم يشهد ؟! فقال رضي الله عنه: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبيك. ففضل محبوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على محبوبه، وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبغض ما أبغض، وقد قابل مروان هذا الحب الواجب بنقيضه، وذلك: أنَّه مرَّ بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له مروان: إنَّما أردت أن يُرى مكانك فقد رأينا مكانك، فعل الله بك وفعل - قولاً قبيحًا - فقال له أسامة: إنَّك آذيتني، وإنَّك فاحش متفحش، =(6/309)=@ وقد (8) سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يبغض الفاحش المتفحش» (9) . فانظر ما بين الفعلين، وقس ما بين الرَّجلين، فلقد آذى بنو أمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحبابه، وناقضوه في مَحابِّه. %(3/1127)%
__________
(1) قوله: «واللام»سقط من (ك).
(2) في (ك): «فهذا».
(3) البيت لعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ترثي زوجها الزبير بن العوام رضي الله عنه في قصيدة. "الطبقات الكبرى (3/112).
(4) من قوله: «لزيد ....»إلى هنا سقط من (ك).
(5) في (ك): «من».
(6) من قوله: «فقال ....»إلى هنا سقط من (ك).
(7) "الاستيعاب" (1/145)، و"الإصابة" (1/45).
(8) في (ح): «وإني».
(9) أخرجه أحمد (5/202) عن حسين بن محمد، عن أبي معشر، عن سليم مولى ليث، عن أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لا يحب كل فاحش متفحش». وفي سنده أبو معشر، نجيح بن عبدالرحمن السندي، ضعيف، كما في "التقريب" (ص998 رقم7150).
وسُليَم مولى ليث لا يُعرف، كما في "تعجيل المنفعة" (1/160 رقم413).
وله طريق أخرى: أخرجه ابن حبان (12/506-507 رقم5694)، والطبراني في "الكبير"(1/166 رقم405)، والمقدسي في "المختارة" (5695)، جميعهم من طريق وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، يحدِّث عن صالح بن كيسان، عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة قال: رأيت أسامة بن زيد عند حجرة عائشة يدعو، فجاء مروان فأسمعه كلامًا، فقال أسامة: فذكره .
قال الهيثمي في "المجمع" (8/64):«رجاله ثقات».
وقال الألباني في "الإرواء" (7/210): «ورجال ثقات إلا أن محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعنه». ولكنه صرح بالسماع كما ترى، فالحديث حسن .
وله طريق ثالثة: أخرجه الطبراني في الموضع السابق (399 و404)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (13/188)، من طريق عثمان بن حكيم، عن محمد بن أفلح مولى أبي أيوب، عن أسامة، فذكره. وفي سنده: محمد بن أفلح مولى أبي أيوب، لم يرو عنه غير عثمان بن حكيم الأنصاري، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/380). وفي "التقريب" (ص827 رقم5783): «مقبول».
وللحديث شاهد من حديث عائشة عند مسلم (2165/11)، وهو عند المصنف (2078) مختصرًا، فالحديث صحيح لغيره .(3/1127)
تنبيه: روى موسى بن عقبة عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله &(6/250)&$ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أحبُّ الناس إليَّ أسامة»؛ فما حاشا فاطمة ولا غيرها (1) . وهذا يعارضه ما تقدَّم من قوله - صلى الله عليه وسلم - إن أحبَّ الناس إليه (2) عائشة، ومن الرِّجال أبوها (3) ؛ ويرتفع التعارض من وجهين:
أحدهما: أن الأحاديث الصحيحة المشهورة إنما جاءت في حبِّه لأسامة بـ «من»التي للتبعيض، كما قد نصَّ عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنه لمن أحب الناس إلي».
وقد رواه هشام بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أسامة بن زيد أحب الناس إليَّ»، أو «من أحب الناس إلي» (4) ، فعلى هذا يحتمل (5) أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن (6) من أحب الناس إلي أسامة»، فاسقطها بعض الرواة .
والوجه الثاني: على تسليم أن صحيح الرواية بغير «من»، فيرتفع التعارض بأن كل واحد من هؤلاء أحب بالنسبة إلى عالمه .
وبيان ذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يحب هؤلاء من حيث الصور (7) الظاهرة، فإنَّ أسامة كان أسود أفطس؛ وإنَّما كان يحبهم من حيث المعاني، والخصائص التي كانوا موصوفين بها .
فكان أبو بكر رضي الله =(6/310)=@ عنه أحب إليه من حيث إنه كان له من أهلية (8) النيابة عنه، والخلافة في أمته ما لم يكن لغيره .
وكانت عائشة رضي الله عنها أحب النساء إليه من حيث أن لها من العلم والفضيلة ما استحقت به أن تفضل على سائر النساء، كما فضل الثريد على سائر الطعام (9) .
وكان أسامة رضي الله عنه أيضًا أحب إليه من حيث إنه كان قد خص بفضائل ومناقب استحق بها أن يكون أحب الموالي إليه، فإنَّه أفضلهم وأجلهم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «أوصيكم به خيرًا، فإنَّه من صالحيكم»، فأكد (10) الوصية به، ونبَّه على الموجب لذلك، وهو ما يعلمه من صلاحه وفضله، وقد ظهر ذلك عليه، فإنَّه (11) لم يدخل في شيء من الفتن فسلَّمه الله %(3/1128)%
__________
(1) أخرجه الطيالسي (1812)، وابن سعد في "الطبقات" (2/250)، و(4/66)، وأحمد (2/96 و106)، والنسائي في "فضائل الصحابة" (83)، والطبراني في "الكبير" (372)، والحاكم (3/596) كلهم من طريق موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر به .
وأخرجه البخاري في "صحيحه"(4468) من طريق الفضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر به، بدون ذكر: «ما حاشا فاطمة».
ومن رواية أحمد الثانية والنسائي: يتبين أن قوله: «ما حاشا فاطمة»ليس من كلام النبي r؛ إذ فيه هناك عندهما قال سالم: فما سمعت عبدالله بن عمر يحدث بهذا الحديث فقط إلا قال: «ما حاشا فاطمة».
(2) في (ك): «إلي».
(3) تقدم في فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
(4) أخرج ابن سعد في "الطبقات" (4/67) نحوه مطولاً، وابن أبي شيبة (رقم 32295 و36969)، وابن عبدالبر في "الاستيعاب" (1/76) به، وزاد: «وأنا أرجو أن يكون من صالحيكم فاستوصوا به خيرًا»، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (8/62)، نحوه مطولاً كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه. وهذا حديث مرسل .
(5) في (ح): يشبه ((يحتمل)).
(6) قوله: ((إن)) سقط من (ح).
(7) في (ك): «الصورة».
(8) في (ك): «أهله»، وفي (ح): «أهل».
(9) سيأتي في فضائل عائشة ومريم وآسية .
(10) في (ح): ((وأكد)) بدل ((فأكد)).
(11) في (ك): «وإنه».(3/1128)
تعالى من تلك المحن، إلى أن توفي في خلافة معاوية سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة أربع وخمسين رضي الله عنه. &(6/251)&$ %(3/1129)%(3/1129)
ومن باب فضائل عبدالله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما
يكنى: أبا جعفر، وأمه: أسماء بنت عميس، ولدته بأرض الحبشة، وهو أول مولود من المسلمين وُلد بها، وتوفي بالمدينة سنة ثمانين، وهو ابن تسعين سنة، وكان عبد الله كريمًا جوادًا، طريفًا، حليمًا، عفيفًا، سخيًّا، يُسمَّى: بحر الجود. يقال: إنه لم يكن في الإسلام أسخى منه، وعوتب في ذلك فقال: إن الله عوَّدني عادة، وعوَّدت الناسَ عادة، وأنا أخاف إن قطعتها قُطِعَتْ عني. وأخباره في إلجود شهيرة، وفضائله كثيرة، وجملة ما روى (1) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وعشرين (2) حديثًا. أخرج له منها في الصحيحين حديثان. =(6/311)=@
وقوله: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بصبيان أهل بيته»؛ إنما كانوا يتلقونه بصبيان بيته لما يعلمونه من محبته لهم، ومن تعلق قلبه بهم، ولفرط فرح الصغار برؤيته، ولتنالهم بوادر بركته. &(6/252)&$
وعنه؛ قال": أردفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم خلفه. فأسر إلي حديثًا. لا أحدث به أحد من الناس. %(3/1130)%
__________
(1) في (ح): «روي له».
(2) كذا في جميع النسخ! والصحيح: «عشرون»؛ لأنه معطوف على الخبر المرفوع .(3/1130)
وقوله: «فَسُبِق بي إليه، فحملني بين يديه»؛ يدل على: أن عبدالله (1) من أهل البيت الذين (2) أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرًا، ويدل على محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله وعلى شدة تهمُّمه (3) به، وإكرامه له، وكان - صلى الله عليه وسلم - يخصُّ ولد جعفر بزيادة احترام وإكرام جَبْرًا لهم، وشفقة عليهم؛ إذ كان أبوهم جعفر قتل بمؤتة شهيدًا رضي الله عنه، وقد تقدَّم القول على ركوب ثلاثة على دابة.
وقوله: «أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلفه ذات يوم فأسرَّ إلي حديثًا لا أحدث به أحدًا»؛ دليل (4) على علو مكانته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكمال فضله، وأهليته لأن يتخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - موضع سرِّه، وهذه أهلية شريفة، وفضيلة منيفة. =(6/312)=@ %(3/1131)%
__________
(1) في (ك): «عبدالله بن جعفر».
(2) في (ك): «الذي».
(3) في (ح): ((تهمه)).
(4) في (ك): «يدل».(3/1131)
- - - - -
ومن باب فضائل خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية رضي الله عنها
كانت تُدعى في الجاهلية: الطاهرة، تزوَّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة ثيبًا بعد زوجين: أبي هالة؛ هند بن النباش التميمي، فولدت له هندًا، وعتيق بن عائذ المخزومي، ثم تزوَّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي بنت أربعين سنة، وأقامت معه أربعًا وعشرين سنة، وتوفيت وهي بنت أربع وستين سنة وستة أشهر، وكان رسول الله &(6/253)&$ - صلى الله عليه وسلم - إذ تزوج خديجة ابن إحدى وعشرين سنة. وقيل: ابن خمس وعشرين سنة وهو الأكثر. وقيل: ابن ثلاثين. وأجمع أهل النقل: أنها ولدت له أربع بنات كلهن أدركن (1) الإسلام، وأسلمن، وهاجرن: زينب، وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم. وأجمعوا أنها ولدت له ابنًا يُسمَّى: القاسم، وبه كان يكنى، واختلفوا هل ولدت له ذكرًا غير القاسم؛ فقيل: لم تلد له ذكرًا غيره. وقيل: ولدت له ثلاثة (2) ذكور: عبد الله، والطيب، والطاهر. وقيل: بل ولدت له: عبدالله، والطيب والطاهر: اسمان له. والخلاف في ذلك كثير، والله تعالى أعلم (3) .
ومات القاسم بمكة صغيرًا. قيل: إنه بلغ إلى أن مشى، وقيل: لم يعش إلا أيامًا يسيرة، ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولد من غير خديجة إلا إبراهيم، ولدته مارية القبطية بالمدينة، وبها توفي وهو رضيع، ومات بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهن قبل موته إلا فاطمة، فإنَّها توفيت بعده بستة أشهر .
وكانت خديجة (4) %(3/1132)%
__________
(1) في (ح): ((أدرك)).
(2) في (ك): «ثلاث».
(3) نقلاً عن "الاستيعاب" لابن عبدالبر (1818-1819).
(4) قوله: «خديجة»سقط من (ك).(3/1132)
رضي الله عنها امرأة شريفة عاقلة فاضلة حازمة ذات =(6/313)=@ مال، وقد تقدَّم أنها أول من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - نُبِّئ يوم الإثنين فصلت معه آخر ذلك اليوم. وكانت (1) عونًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - على حاله كله، وردءًا له تثبِّتُه (2) على أمره، وتصدقه فيما يقوله، وتصبِّره على ما يلقى من قومه من الأذى والتكذيب، وسلَّم عليها جبريل عليه السلام وبشرها بالجنة (3) .
وروي من طرق صحيحة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: «خير نساء العالمين أربع: مريم بنت (4) عمران، وآسية ابنة مزاحم &(6/254)&$ امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة - رضي الله عنهن -» (5) .
ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» (6) .
وفي (7) طريق آخر عنه: «سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم: فاطمة وخديجة» (8) . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبها ويقول: «رزقت حبها» (9) . ولم يتزوج عليها إلى أن ماتت. قيل: كانت وفاتها قبل مهاجر (10) النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بسبع سنين. وقيل: بخمس (11) . وقيل: بأربع. وقيل: بثلاث، وهو أصحها، وأشهرها - إن شاء الله تعالى - وتوفيت هي وأبو طالب - عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة واحدة. قيل: كان بينهما ثلاثة أيام، وتوفيت في رمضان، ودفنت بالحجون.
وقوله: «خير نساءها: مريم ابنة عمران»؛ هذا الضمير عائد على غير مذكور؛ لكنه تفسره الحال والمشاهدة؛ يعني به: الدنيا، وفي رواية: وأشار وكيع =(6/314)=@ إلى السماء والأرض - يريد الدُّنيا - كأنه يفسر ذلك الضمير، فكأنه قال: خير نساء في (12) الدنيا: مريم بنت عمران. وهذا نحو حديث ابن عباس المتقدِّم، الذي قال فيه: "خير نساء العالمين: مريم ". ويشهد لهذه الأحاديث %(3/1133)%
__________
(1) في (ك): «كانت».
(2) في (ح): ((تثيبه)).
(3) متفق عليه وسيأتي في هذا الباب .
(4) في (ك): «ابنة».
(5) أخرجه عبدالرزاق في "المصنِّف" (20919)، وفي "التفسير" (1/121)، ومن طريقه أخرجه أحمد في "المسند" (3/135)، وفي "فضائل الصحابة" (1325 و1337)، والترمذي (3878)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2960)، وأبو يعلى في "مسنده"(3039)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (147)، وابن حبان في "صحيحه"(6951 و7003)، والطبراني في "الكبير" (22/1003)، و (23/3)، والحاكم (3/ 157)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/344)، والبغوي في "شرح السنة"(3955)، وفى"التفسير"(1/301) عن معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك به مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وفي بعض ألفاظه: «حسبك من نساء العالمين».
(6) أخرجه أحمد في "المسند" (1/293)، وفي "فضائل الصحابة" (250 و252 و259)، وأبو يعلى (2722)، وعبد بن حميد (597)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (148)، وابن حبان في "صحيحه"(7010)، والطبراني (11928)، و(22/1019)، و(23/1)، والحاكم (2/594)، و(3/160 و 185) من طرق عن داود بن أبي الفرات، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض خطوطًا أربعة، قال: «أتدرون ما هذا ؟»قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أفضل نساء أهل الجنة ... الحديث .
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذا اللفظ».
(7) في (ك): «ومن».
(8) أخرجه ابن أبي شيبة (32270)، ومن طريقه أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (6952)، وابن أبي عاصم في"الآحاد والمثاني" (2963)، والطبراني في "الكبير" (22/1034) عن علي بن مسهر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن عائشة به، وليس فيه ذكر خديجة. وإسناده حسن لا بأس به .
(9) انظر "صحيح مسلم" (2430/69).
(10) في (ح): «مهاجره».
(11) في (ح): «بخمس سنين».
(12) قوله: ((في)) سقط من (ح).(3/1133)
في تفضيل مريم: قول الله تعالى حكاية عن قول الملائكة لها: } إن الله اصطفاك وطهرك وأصطفاك على نساء العالمين { (1) .
فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي: أن مريم أفضل من جميع نساء (2) العالم، من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة، ويعتضد (3) هذا الظاهر (4) : بأنها صديقة &(6/255)&$ ونبية بلَّغتها الملائكةُ الوحي عن الله تعالى بالتكليف، والإخبار، والبشارة، وغير ذلك؛ كما بلَّغته سائر الأنبياء، فهي إذًا نبيَّة، وهذا أولى من قول (5) من قال: إنها غير نبيَّة، وإذا ثبت ذلك، ولم يسمع في الصحيح أن في النساء نبئة غيرها فهي أفضل من كل النساء الأولين والآخرين؛ إذ النبي أفضل من الولي بالإجماع، وعلى هذا فهي أفضل مطلقًا، ثم بعدها (6) في الفضيلة فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية، وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سيدة نساء العالمين: مريم، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية» (7) ، وهذا حديث حسن، رافع لإشكال هذه الأحاديث، فأمَّا من يرى: أن مريم صديقة وليست بنبيَّة (8) فلهم في تأويل هذه الأحاديث طريقان:
أحدهما: أن معناها (9) أن كل واحدة من أولئك النساء الأربع خير عالم زمانها، وسيدة وقتها.
وثانيهما (10) : أن هؤلاء النسوة (11) الأربع هن (12) أفضل نساء العالم؛ وإن كنَّ في =(6/315)=@ أنفسهن على مزايا متفاوتة (13) ، ورتب متفاضلة، وما ذكرناه: أوضح وأسلم. والله أعلم. %(3/1134)%
__________
(1) الآية (42) من سورة آل عمران .
(2) في (ك): «نساء جميع».
(3) في (ح): ((ويعضد)).
(4) في (ك): «للظاهر».
(5) قوله: «من قول»سقط من (ك).
(6) في (ك): «بعد هذا».
(7) أخرجه الطبراني في "الكبير" (23 رقم2) عن الزبير بن ثابت، والذي أخرجه في "المنتخب" (1/33-34)، وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/223).
وقال الطبراني: «وفيه محمد بن الحسن بن زبالة وهو متروك».
(8) في (ح): «نبية».
(9) في (ح): «معناه».
(10) في (ك): «ثانيها».
(11) في (ك): «النساء».
(12) في (ك): «من».
(13) في (ك): «متقاربة».(3/1134)
وقوله: «بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب»؛ قال الهروي وغيره: القصب - هنا -: اللؤلؤ المجوَّف (1) المستطيل، والبيت: هو القصر.
قلت: وهذا نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: «إن في الجنة لخيمة من لؤلؤة (2) مجوَّفة عرضها ستون ميلاً» (3) ، وفي لفظ آخر: «من درَّة بيضاء طولها ستون ميلاً (4) »وسيأتي - إن شاء الله تعالى -. والصخب: اختلاط الأصوات، ويقال: بالسين والصاد، والنصب: التعب والمشقة. ويقال: نُصْبٌ، ونَصَبٌ، كحُزْن وحَزَن؛ أي: لا يصيبها ذلك؛ لأنَّ الجنة منزهه عن ذلك، كما قال تعالى: } لا &(6/256)&$ يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين { (5) ، وقيل: معناه أن هذا البيت خالص لها، لا تنازع فيه فيصخب عليها فيه، وذلك من فضل (6) الله تعالى عليها لا بنصبها في العبادة، ولا اجتهادها في ذلك.
وإبلاغ الملك لها: أن الله يقرأ عليها السَّلام؛ فضيلة عظيمة، وخصوصية شريفة لم يُسمع بمثلها لمن ليس بنبي إلا لعائشة رضي الله عنها على ما يأتي. =(6/316)=@
قول (7) عائشة رضي الله عنها: «ما غِرْتُ على امرأة ما غِرْت على خديجة (8) ، لِمَا كنت أسمعه (9) يذكرها»؛ أي: يمدحها ويثني عليها، ويذكر فضائلها، وذلك لفرط على (10) محبته إياها، ولِما اتصل له من الخير بسببها، وفي %(3/1135)%
__________
(1) في (ك): «المخرق».
(2) في (ك): «لؤلؤة بيضاء».
(3) سيأتي في ذكر الموت وما بعده، باب في خيام الجنة .
(4) من قوله: «وفي لفظ ....»إلى هنا سقط من (م).
(5) الآية (48) من سورة الحجر .
(6) في (ح): «وذلك بفضل».
(7) في (ح): ((وقول)).
(8) قولها: «ما غرت على خديجة»تريد: «من خديجة»، فأقامت «على»مقام «من»، وحروف الجر تتناوب، أو «على»سببية؛ أي: بسبب خديجة. انظر "فتح الباري" (1/435).
(9) في (ك): «أسمع».
(10) قوله: ((على)) سقط من (ح).(3/1135)
بيتها، ومن أحبَّ شيئًا أكثر من ذكره؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إني رزقت حبها»، وكونه - صلى الله عليه وسلم - يُهدي لخلائل (1) خديجة: دليل على كرم خلقه، وحسن عهده، ولذلك كان يرتاح لهالة بنت خويلد إذا رآها، وينهض (2) إكرامًا لها، وسرورًا بها.
وقولها: «فعرف استئذان خديجة»؛ أي تذكر عند استئذان هالة خديجة، وكأن نَغْمةَ هالة كانت تشبه نَغْمةَ خديجة، وأصلُ هذا كله: أن (3) من أحب محبوبًا أحبَّ محبوباته، وما يتعلق به وما يشبهه.
وقوله: «اللهم! هالة»؛ يجوز في هالة الرفع على خبر الابتداء؛ أي: هذه =(6/317)=@ هالة فأكرمها وأحسن إليها. والنَّصب على إضمار فعل؛ أي: أَكْرِم هالة واحفظها، وما أشبه ذلك من التقدير الذي يليقُ بالمعنى. %(3/1136)%
__________
(1) في (ح) و(ك) و(م): «لحلائل»، والصحيح بالمعجمة، كما في "ألمختصر" و"الأم" والبخاري وغيرها .
(2) في (ح): «ويهش»، وفي (ك): «وهش».
(3) قوله: «أن»سقط من (ح).(3/1136)
وقول عائشة رضي الله عنها: «وما (1) تذكر من عجوز من عجائز قريش ...» الحديث إلى آخر (2) ؛ قولٌ أخرجه من عائشة فرط الغيرة، وخِفَّة الشباب، والدَّلال، ولذلك لم ينكر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا (3) مما قالت، وقد أخذ بعض العلماء من هذا الحديث: أن الغَيْرى لا تُؤاخذ (4) بما يصدرُ عنها في حال غيرتها، وليس ذلك أخذًا صحيحًا؛ لأنَّ الغيرة هنا جزءُ السَّبب، لا كل السَّبب، وذلك أن عائشة رضي الله عنها اجتمع فيها تلك الأمور الثلاثة: الغيرة والشباب - ولعل ذلك كان قبل بلوغها - والدَّلال، وذلك أنها: كانت أحب نسائه إليه بعد خديجة، فإحالة الصَّفح عنها على بعض هذه الأمور دون بعض تحكُّم، لا يقال: إنما يصحُّ إسناد الصَّفح إلى الغيرة؛ لأنَّها هي التي نصَّت عليها عائشة &(6/257)&$ فقالت: فغرت؛ لأنَّا نقول: لو سلمنا أن غيرتها وحدها أخرجت منها ذلك القول لما لزم (5) أن تكون (6) غيرتها وحدها هي الموجبة للصفح عنها، بل يحتمل: أن تكون الغيرة وحدها، ويحتمل أن تعتبر (7) باقي الأوصاف، لا سيما ولم ينص النبي - صلى الله عليه وسلم - على المسقط ما هو، فبقي الأمر محتملاً للأمرين، فلا تكون فيه حجَّة على ذلك، والله تعالى أعلم.
وقولها: «حمراء الشِّدقين»؛ قيل (8) معناه: أنها بيضاء الشدقين، والعرب تسمي الأبيض: أحمر، كراهة في اسم البياض؛ لأنَّه يشبه البرص، وهذا كما قاله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: «يا حميراء! لا تأكلي (9) الطين فإنَّه يذهب بهاء الوجه» (10) . يعني يا بيضاء. =(6/318)=@ %(3/1137)%
__________
(1) في (ك): «ما».
(2) في (ح): ((إلى آخره)).
(3) قوله: «شيئًا»سقط من (ح).
(4) في (ح): ((يؤاخذ)).
(5) في (م): «شرح».
(6) قوله: «تكون»سقط من (ك) و(ح).
(7) في (ك): «يعتبر».
(8) قوله: «قيل»سقط من (ك).
(9) في جميع النسخ و(ح): «تأكل»، والمثبت من مصادر التخريج .
(10) أورده ابن الجوزي في "ألموضوعات" (3/33) وقال: فيه يحيى بن هشام: قال أحمد: لا يكتب عنه، وقال يحيى: هو دجال هذه الأمة، وقال ابن عدي: كان يضع الحديث، وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل ولا يحفظ من وجهٍ يثبت، وقال أحمد بن حنبل: ما أعلم في الطين شيئًا يصح، وقال مرة: ليس فيه شيء يثبت إلا أنه يضر بالبدن. وانظر "المنار المنيف" (ص61).(3/1137)
قلت: وهذا فيه بُعدٌ في هذا الموضع، فلو كان الأمر كذلك لقالت عائشة بدل: حمراء الشدقين: بيضاء الشدقين، فإنه كان يكون أبلغ في التقبيح، وعائشة إنما ذكرت هذا الكلام تقبيحًا لمحاسن خديجة وتزهيدًا فيها؛ وإنَّما معنى هذا عندي - والله تعالى أعلم - أنها نسبتها إلى أنها (1) حمراء الشدقين من (2) الكِبَر، وذلك: أن من جاوز سن الكهولة، ولحق سن الشيخوخة، وكان قويًّا في بدنه صحيحًا غلب على لونه الحمرة المائلة إلى السُّمرة، والله تعالى أعلم.
وقولها: «قد أبدَلَكَ الله (3) خيرًا منها»؛ تعني بخير أجمل وأشب-وتعني نفسها-، لا أنها خير منها عند الله، وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما تقدَّم من الأحاديث التي ذكرناها في صدر الكلام، وكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج على خديجة إلى أن ماتت: يدلّ على عظيم قدرها عنده، ومحبته لها، وعلى فضل خديجة أيضًا؛ لأنها اختصَّت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يشاركها فيه أحد؛ صيانة لقلبها من التَّغيير والغَيْرة، ومن مناكدة الضرة. =(6/319)=@ &(6/258)&$ %(3/1138)%
__________
(1) قوله: «أنها»سقط من (ك).
(2) قوله: ((من)) لم يتضح في (ح).
(3) لفظ الجلالة ليس في (ح).(3/1138)
- - - - -
ومن باب فضائل عائشة ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
تكنى: بأم عبدالله - ابن الزبير، وهو ابن أختها: أسماء - أباح لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تكتنيَ به (1) . تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد موت خديجة، وقبل الهجرة بثلاث سنين، وهو أولى ما قيل في ذلك، وهي بنت ست سنين. وابتنى بها بالمدينة، وهي بنت تسع سنين (2) . وقال (3) ابن شهاب: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج بها في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين، وأعرس بها في المدينة في شوال على رأس ثمانية عشر شهرًا من مهاجره إلى المدينة، وقد روي عنها أنها قالت: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنا بنت ست، وبنى بي وأنا بنت تسع، وقُبِض عني، وأنا بنت ثماني عشرة (4) .
وتوفيت سنة ثمان وخمسين ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت (5) من رمضان، وأمرت أن تدفن ليلاً (6) ، فدفنت بعد الوتر بالبقيع، وصلَّى عليها أبو هريرة رضي الله عنه. ونزل في قبرها خمسة (7) : عبد الله وعروة ابنا الزبير، والقاسم ومحمد ابنا محمد بن أبي بكر، وعبدالله بن عبد الرحمن بن أبي بكر (8) (9) ، وكانت فاضلة، عالمة، كاملة. قال &(6/259)&$ مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكابر يسألونها عن الفرائض، وقال عطاء: كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامَّة، وقال عروة: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه، ولا طبٍّ، ولا شعرٍ من عائشة، وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدًا أروى لشعرٍ (10) من عروة، فقيل له: ما أرواك يا أبا %(3/1139)%
__________
(1) تقدم في كتاب الأدب، باب قول النبي r: «تسموا باسمي».
(2) قوله: «سنين»سقط من (ب) و(ح).
(3) في (ك): «قال».
(4) تقدم في النكاح، باب استئمار الثيب، واستئذان البكر .
(5) قوله: «خلت»سقط من (ح) و(ك).
(6) انظر "طبقات ابن سعد " (8/74 و76-77)، والمستدرك" (4/4 و6).
(7) أخرجه ابن سعد في "ألكبقات" (8/77) من طريق الواقدي .
(8) قوله: «وعبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر»سقط من (ح).
(9) نقلاً عن "الاستيعاب" لابن عبدالبر (4/1885).
(10) في (ك): «بشعر».(3/1139)
عبدالله! قال (1) : وما =(6/320)=@ روايتي في رواية عائشة؟! ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت (2) فيه شعرًا. قال الزهري: لو جُمع علم عائشة إلى علم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل. وجملة ما روت عن النبي (3) - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديث، ومئتا حديث، وعشرة أحاديث. أخرج منها في الصحيحين ثلاثمئة إلا ثلاثة (4) أحاديث.
وقوله: «جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك»: السَّرَقة - بفتح الراء -: واحدة السَّرق (5) ، وهي شقق الحرير البيض. وقيل: الجيد من الحرير. وقال (6) أبو عبيد: وأحسبها (7) فارسيه، وأصلها سَرَة، وهو: الجيد. وأنشد غير أبي عبيد (8) للعجاج (9) :
ونَسَجَتْ لَوَامِعُ الْحَرُورِ سَبَائِبًا (10) كَسَرَقِ الْحَرير
والسَّبائب - بالهمز والباء (11) -: هي ما رَقَّ من الثياب كالْخُمُر، ونحوها. قال المهلَّب: السَّرَقَةُ: كالكلَّة والبرقع، والأول: هو المعروف، وفيه دليل على أن للرؤيا ملكًا يمثل الصور (12) في النوم، كما قدحكيناه عن بعض العلماء.
وقوله: «إن يك من عند الله يُمضِه»؛ ظاهره: الشَّك في صحة هذه الرؤيا، فإنَّ كان هذا منه - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة، فلا إشكال فيه؛ لأنَّ حكمه حكم البشر، وأما (13) إن كان بعد النبوة فهو مشكل؛ إذ رؤيا الأنبياء وحي كما تقدَّم، والوحي (14) لا يشك فيه، وقد انفصل عن هذا: بأن قيل: إن شكَّه لم يكن في صحة أصل الرؤيا، وإن ذلك من الله، ولكن في كون هذه الرؤيا على ظاهرها، فلا تحتاج (15) إلى تعبير، أو المقصود بها معناها فتحتاج إلى تعبير، أو في كونها امرأته في الدنيا، أو %(3/1140)%
__________
(1) في (ك): «فقال».
(2) في (ك): «اشتدت».
(3) في (ح): ((رسول الله)).
(4) في (ك): «ثلاث».
(5) في (ك): «الشرق».
(6) في (ح): ((قال)) بلا واو.
(7) في (ك) و(م): «أحسنها».
(8) أنشد هذا البيت أبو عبيد القاسم بن سلام ف ي"غريب الحديث" (2/307). وأورده صاحب "صلاح المنطق" (1/334).
(9) في (ح): «العجاج».
(10) في (ح): «سوائبا».
(11) في (ح): «والواو».
(12) في (ح): «الصورة».
(13) قوله: «وأما»سقط من (ح).
(14) قوله: ((والوحي)) سقط من (ح).
(15) في (ك): «يحتاج».(3/1140)
في الآخرة. وقيل: لم يكن عنده شك في ذلك، بل (1) : =(6/321)=@ محققًا له، لكنه (2) أتى به على صورة الشك، وهو غير مراد، كما قال الشاعر (3) : &(6/260)&$
أيا ظَبْيَة الوَغْساءِ بَيْنَ حَلاحِل وبَيْنَ النَّقا آنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمِ ؟
وهذا نوع من أنواع البلاغة معروف عند أهلها يسمى: تجاهل العارف، وقد سُمِّي مزج الشك باليقين، ونحو منه قوله (4) تعالى: } فإن كنت فى شكٍّ مما انزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك { (5) ، ونحوه (6) ، وقوله (7) تعالى: } وإن أدرى لعلَّه فتنة لكم (8) ومتاعٌ (9) إلى حين { (10) ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشك في شيء من ذلك، لكن أتى به على التقدير (11) لا التحقيق.
وقوله: «فإذا هي أنت»؛ أي (12) : إنه رآها في النوم كما رآها في اليقظة، فكان المراد بالرؤيا ظاهرها.
وقوله: «إني لأعلم إذا كنت عليَّ (13) راضية، وإذا كنت علي غضبى»؛ غضب عائشة على النبي - صلى الله عليه وسلم - للأسباب التي ذكرناها (14) في حديث خديجة، أو لبعضها (15) ، والغالب: أنها كانت (16) للغيرة التي لا تتمالك (17) المرأة معها (18) .
قال القاضي عياض: يُعض عن النساء في كثير من الأحكام لأجل الغيرة، حتى قد ذهب مالك وغيره من علماء المدينة إلى إسقاط الحد عن المرأة إذا رمت زوجها بالزنى. %(3/1141)%
__________
(1) في (ح): «بل كان».
(2) في (ك): «لكنه منه» وفي (ح): ((ولكنه أنى)).
(3) هو ذو الرمة. انظر "الأغاني" (18/9 و28).
(4) في (ك): «وقوله».
(5) الآية (94) من سورة يونس .
(6) في (ح): «وبنحوه».
(7) في (ب) و(ح): «قوله».
(8) قوله: ((لكم)) ليس في (ح).
(9) في (ك): «أو متاع»وهو خطأ .
(10) الآية (111) من سورة النبياء .
(11) في (ك): «التقرر».
(12) في (ح): ((انى)) بدل ((أي)).
(13) قوله: «علي»سقط من (ح).
(14) في (ك): «ذكرنا».
(15) في (ك): «لبغضها».
(16) في (ح): «أنه كان».
(17) في (ح): يشبه ((تمالك)).
(18) في (م): «فيها».(3/1141)
وقولها: «أجل والله! ما أهجر إلا اسمك»؛ أجل: يعني (1) : نعم. وتعني بذلك =(6/322)=@ أنها، وإن أعرضت عن ذكر اسمه في حالة غضبها ،?فقلبها مغمور بمحبته - صلى الله عليه وسلم - لم يتغيَّر منها شيء. وفي هذا ما يدلّ على ما كانا عليه من صفاء (2) المحبة وحُسن العشرة، وفيه ما يدلّ على: أن الاسم غير المسمَّى، وهي مسألة اختلف فيها أهل اللسان والمتكلمون، وللكلام فيها مواضع (3) أخر.
وقولها: «كنت ألعب بالبنات - وهن اللعب - في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ اللُّعَبُ (4) : جمع لُعْبة، وهو ما يُلْعَبُ به. والبنات: جمع بنت، وهنَّ الجواري، وأضيفت اللُّعب للبنات (5) ؛ لأنهنَّ هنَّ (6) اللواتي يصنعنها (7) ، ويلعبن بها، وقد تقدَّم القول &(6/261)&$ في جواز ذلك، وفي فائدته، وأنه مستثنى من الصور الممنوعة؛ لأنَّ ذلك من باب تدرب (8) النساء من صغرهن على النظر لأنفسهن و بيوتهن (9) ، وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن غير مالك فإنَّه كره ذلك، وحمله بعض أصحابه على كراهية (10) الاكتساب بذلك (11) .
وقولها: «فكن ينقمعن (12) من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ تعني (13) : صواحبها كنَّ ينقبضن ويستترن بالبيت حياءً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهيبة له.
وقولها: «فكان يُسرِّبهنَّ إلي»؛ أي: يرسلهن إليها (14) ، ويسكِّنهنَّ (15) ، ويؤنسهنَّ =(6/323)=@ حتى يزول عنهنَّ ما كان أصابهنَّ منه، فيرجعنَّ يلعبن معها كما %(3/1142)%
__________
(1) في (ح): «بمعنى».
(2) قوله: «صفاء»سقط من (ك).
(3) في (ح): «موضع».
(4) في (ح): «وهن اللعب».
(5) يعني تقدير العبارة: «كنت ألعب بلعب البنات».
(6) في (ك): «هي».
(7) في (ك): «بصيغها».
(8) في (ح): ((تدريب)).
(9) في (ح): «وبيوتهن وأبنائهن».
(10) في (ح): ((كراهة)).
(11) ولعل المقصود اللعب التي على خلقة ترمز للجواري وغيرهن، ولا تصل إلى حد التماثيل الكاملة المحرمة جميعًا بين الأدلة كما ذكر بعض المحققين. انظر "الفتح" (10/527).
(12) في (ك): «يتقبضن» وفي (ح): لم تتضح.
(13) في (ك): «يعني».
(14) في (ك): «إلىّ».
(15) في (ح): ((ويسكتهن)).(3/1142)
كنَّ.
ودخول فاطمة وزينب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مع عائشة في مرطها؛ دليل على جواز مثل ذلك؛ إذ ليس فيه كشف عورة، ولا ما يستقبح على من فعل ذلك مع خاصته وأهله. وطلب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - منه العدل بينهن وبين عائشة رضي الله عنها؛ ليس على معنى أنه جار عليهن، فمنعهن حقًّا هو لهنَّ؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - منزه عن ذلك؛ ولأنه لم يكن العدل بينهن واجبًا عليه كما قدَّمناه في كتاب (1) النكاح. لكن صدر ذلك منهنَّ بمقتضى الغيرة والحرص على أن يكون لهنَّ مثل ما كان لعائشة رضي الله عنها؛ من إهداء الناس له إذا كان في بيوتهنَّ، فكأنهنَّ أردن أن يأمر من أراد أن يهدي له شيئًا ألا يتحرى يوم عائشة رضي الله عنها، ولذلك قال: وكان الناس يتحرون =(6/324)=@ بهداياهم يوم عائشة، ويحتمل أن يقال: إنهنَّ %(3/1143)%
__________
(1) قوله: «كتاب»سقط من (ك).(3/1143)
طلبن منه أن يسوي بينهن في الحب، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة رضي الله عنها: «ألست تحبين من أحب ؟»قالت: بلى. قال: «فأحبي هذه»، وكلا الأمرين لا يجب العدل فيه بين النساء (1) . أما الهدية فلا تطلب من المهدي، فلا يتعين لها وقت، وأما الحب: فغير داخل تحت قدرة الإنسان ولا كسبه .
وقولها: «وهي التي كانت تساميني في المنزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ تعني: زينب. وتساميني؛ أي: تطاولني وترافعني، وهو مأخوذ من السُّموِّ، وهو العلو والرفعة. تعني: أنها كانت تتعاطى أن يكون (2) لها من الحظوة والمنزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل &(6/262)&$ ما كان لعائشة عنده، وقيل: إنه مأخوذ من قولهم: سامه خطّة خسف؛ أي: كلفه ما يشق عليه ويذله، وفيه بُعد من جهة اللسان والمعنى.
وقولها: «ولم أر امرأة خيرًا في الدين من زينب ...»الكلام إلى قولها (3) : «... ولا أشد ابتذالاً لنفسها في العمل»؛ الابتذال: مصدر ابتذل من البذلة، وهي الامتهان بالعمل والخدمة، فكانت زينب تعمل (4) رضي الله عنها بيديها (5) عمل النساء من الغزل والنسيج، وغير ذلك مما جرت عادة النساء بعمله، والكسب به، وكانت تتصدق بذلك، وتصل به ذوي رحمها، وهي التي كانت أطولهن يدًا بالعمل والصَّدقة، وهي التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أسرعكن لحاقًا بي أطولكن يدًا»، وسيأتي (6) .
وفيه ما يدلّ على جواز صدقة المرأة مما تكتسبه في بيت زوجها من غير أمره. %(3/1144)%
__________
(1) في (ح): ((بين النساء فيه)).
(2) في (ح): ((يكن)).
(3) في (ح): ((آخره)) بدل ((قولها)).
(4) في (ك): «تعمل زينب».
(5) في (م): «بيدها».
(6) في فضائل ام سلمة وزينب زوجي النبي r .(3/1144)
وقولها: «ما عدا سودة من حدَّة كانت فيها، تسرع منها الفيئة (1) »؛ ما عدا، =(6/325)=@ وما خلا: من صيغ الاستثناء، وهما مع ما فعلان ينصبان ما بعدهما في المشهور والأفصح (2) . ومع عدم «ما»، يخفضان ما بعدهما؛ لأنَّهما حرفان من حروف الخفض على الأعرف الأشهر، والسَّوْرة -بفتح السين -: الشِّدَّة، والثوران، ومنه: سَوْرَةُ الشراب؛ أي: قوته وحِدَّته؛ أي: يعتريها ما يعتري الشارب من الشراب، ويروى هذا الحرف: ما (3) عدا سَوْرَة حَدٍّ - بفتح الحاء من غير تاء تأنيث -؛ أي: سرعة غضب (4) . والفيئة (5) : الرجوع: تريد أنها سريعة الغضب سريعة الرجوع (6) ، ولأجل هذه الحدَّة، وقعت بعائشة، واستطالت عليها؛ أي: أكثرت (7) عليها من القول والعتب، وعائشة رضي الله عنها ساكتة تنتظر الإذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الانتصار، فلما علمت أنه لا يكره ذلك من قرائن أحواله انتصرت لنفسها فجاوبتها، وردَّت عليها قولها (8) حتى أفحمتها، وكانت زينب لما بدأتها بالعتب واللَّوم، كانت كأنها ظالمةٌ، فجاز! لعائشة أن تنتصر (9) ، لقوله تعالى: } ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل { (10) .
وقولها: «وقعت فيَّ»؛ هو مأخوذ من الوقيعة التي هي: معركة الحرب، وقيل: هو مأخوذ من الوقع، وهو ألم الرَّجل من المشي، ومنه قولهم: كل الحِذَا يحتذي الحافي الوَقِع - بكسر القاف -. &(6/263)&$ %(3/1145)%
__________
(1) في (ك): «الغيبة».
(2) في (ح): ((الأفصح)) بلا واو.
(3) في (ك): «مما».
(4) في (ك): «غضبه».
(5) في (م): «والغيبة».
(6) من قوله: «تريد أنها ....»إلى هنا سقط من (ك).
(7) في (ك): «كثرت».
(8) في (ك): «وقولها».
(9) في (ك): «تنتظر».
(10) الآية (41) من سورة الشورى .(3/1145)
وقولها: «فلم أنشب أن أنحيت عليها»؛ كذا الرواية الثابتة هنا بالنون والحاء المهملة، والياء باثنتين من تحتها، ومعناه: إني أصبت منها بالذمِّ ما يُؤلمها، =(6/326)=@ فكأنها أصابت منها مقتلاً. وفي الصحاح: أنحيت على حلقه بالسكين؛ أي: عَرَضْتُ، وحينئذ يرجع معنى هذه الرواية لمعنى الرواية الأخرى التي هي: «أثخنتها (1) »)؛ أي: أثقلتها بجراح الكلم. وهو مأخوذ من قوله تعالى: } حتى إذا أثخنتموهم فشدُّوا الوثاق { (2) ؛ أي: أثقلتموهم بالجراح، أو أكثرتم فيهم القتل، ولم أنشبها؛ أي: لم أمهلها، ولم أتلبث حتى أوقعت بها، وأصله: من نَشِبْت (3) بالشيء، أو في الشيء إذا نَشِبَ (4) به (5) ، واحتبس فيه (6) أو بسببه.
وقوله: «إنها ابنة أبي بكر»؛ تنبيه على أصلها الكريم الذي نشأت عنه، واكتسبت الجزالة والبلاغة، والفضيلة منه، وطيب الفروع بطيب (7) عروقها (8) . وغذاؤها من عروقها. كما قال (9) :
طِيبُ الفُرُوع من الأصُولِ وَلَمْ يُرَ فرعٌ يَطِيبُ وأصْلُهُ الزَّقُّومُ
ففيه مدح عائشة وأبيها رضي الله عنهما. %(3/1146)%
__________
(1) في (ك): «أنحتها»، ولم تنقط في (ح).
(2) الآية (4) من سورة محمد .
(3) في (ح): «نشيب»، وفي (ك): «نشب».
(4) في (ح) و(ك): «نشبت».
(5) في (ح): «فيه».
(6) في (ح): «به».
(7) في (ب) و(م): «تطيب».
(8) في (ح): «عذوقها»، وفي (ك): «غدوقها».
(9) لم أجد هذا البيت .(3/1146)
وقولها: «فلما كان يوم توفي (1) ؛ قبضه (2) الله تعالى بين سَحْري ونحري»؛ الرواية =(6/327)=@ الصحيحة: سَحْري (3) بسين مفتوحة غير معجمة، والسَّحر: الرئة، والنَّحر: أعلى الصدر. وأرادت أنه - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو مستند إلى موضع سحرها، وهو الصدر، كما جاء في الرواية الأخرى: وهو مستند إلى صدرها. وحكي عن عمارة بن عقيل بن بلال أنه قال: إنما هو شَجْري -بالشين المعجمة والجيم - وشبَّك بين أصابعه، وأوما إلى أنها (4) ضمَّته إلى صدرها مشبِّكة يديها عليه. وقد تقدَّم القول في الرفيق (5) ، وأن الأولى فيه: أنه الذي دلَّ عليه قوله تعالى: } فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا { (6) ، وتخيير الله تعالى للأنبياء عند الموت (7) مبالغة في إكرامهم، وفي ترفيع (8) مكانتهم (9) عند &(6/264)&$ الله تعالى، وليستخرج منهم شدَّة شوقهم (10) ، ومحبتهم له تعالى، ولما عنده. وقد تقدَّم من هذا شيء في باب ذكر موسى عليه السلام. =(6/328)=@ %(3/1147)%
__________
(1) كذا في جميع النسخ! وفي"التلخيص" و"صحيح مسلم":«فلما كان يوم قبضه الله».
(2) في (ك): «وقبضه».
(3) قوله: «ونحري الرواية الصحيحة سحري»سقط من (ح).
(4) في (ح): ((أن)) بدل ((أنها)).
(5) في (ح): «الرفيق الأعلى».
(6) الآية (69) من سورة النساء .
(7) قوله: «عند الموت»سقط من (ك).
(8) في (ح): ((ترفع)).
(9) في (ب) و(م): «مراتبهم».
(10) في (ك): «تشوقهم».(3/1147)
وقولها: «فأشخص بصره»؛ أي: حدَّد نظره (1) إلى سقف البيت كما تفعل ا لموتى .
وقولها: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج أقرع بين نسائه»؛ تعني: إذا خرج إلى سفر؛ وإنَّما كان النبي (2) - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك مبالغة في تطييب قلوبهن إذ لم يكن القسم عليه واجبًا على الخلاف المتقدِّم، وليست القرعة في هذا واجبة عند مالك?؛ لأنَّه قد يكون - صلى الله عليه وسلم - لبعض نساءه (3) من الغَنَاء في (4) السفر والمنفعة، والصلاحية ما لا يكون لغيرها. فتتعين الصالحة لذلك، ولأن من وقعت القرعة عليها لا تجبر على السفر مع الزوج إلى الغزو والتجارة، وما أشبه ذلك، إنَّما القرعة بينهن من باب تحسين العشرة إذا أردن ذلك، وكن صالحات له، وقال أبو حنيفة بايجاب القرعة في هذا، وهو أحد قولي الشافعي ومالك أخذًا بظاهر هذا (5) الحديث.
وقولها (6) : «وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بالليل سار مع عائشة رضي الله عنها»؛ ظاهره: أنه لم يكن يقسم بين عائشة وحفصة في المسير والحديث، وأن ذلك كان مع عائشة دائمًا دون حفصة، ولذلك تحيَّلت %(3/1148)%
__________
(1) في (ك): «بصره».
(2) قوله: ((النبي)) ليس في (ح).
(3) في (ح): ((النساء)).
(4) في (ح): «في الغناء من».
(5) قوله: «هذا»سقط من (ك).
(6) في (ح) و(ك): «وقوله».(3/1148)
حفصة حتى سار وتحدَّث =(6/329)=@ معها، فيحتمل أن هذا القدر لا يجب القسم فيه؛ إذ الطريق ليس محلَّ خَلْوة، ولا يحصل لها به اختصاص، ويحتمل أن يقال: إن القدر (1) الذي يقع به (2) التسامح من السير والحديث مع إحداهما (3) هو الشيء اليسير، كما يفعل في الحضر، فإنَّه يتحدث ويسأل وينظر في مصلحة بيت التي لا يكون في يومها، ولكن لا يُكثر من ذلك، ولا يُطيله، وعلى هذا فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أدام ذلك؛ لأنَّ أصل القسم لم يكن عليه واجبًا، والله تعالى أعلم.
ولم يختلف الفقهاء في أن الحاضرة لا تحاسب المسافرة فيما (4) مضى لها مع زوجها في السفر، وكذلك لا يختلفون في: أنه يقسم بين الزوجات في السفر كما &(6/265)&$ يقسم بينهن في الحضر. وقد ذكرنا الاحتمال الذي في السير والحديث، وقول حفصة لعائشة رضي الله عنهما: ألا تركبين بعيري، وأركب بعيرك فتنظرين (5) وأنظر. حيلة منها تمت لها على عائشة لصغر سنِّ عائشة، وسلامة صدرها عن المكر (6) والحيل؛ إذ لم تجرب الأمور بعد، ولا دَرْك على حفصة فيما فعلت من جهة أنها أخذت حقًّا هو لعائشة؛ لأنَّ السير والحديث؛ إن لم يدخل في القسم فهي وعائشة فيه سواء، فأرادت حفصة أن يكون لها: حظ من الحديث والسير معه، وإن كان ذلك واجبًا فقد توصلت إلى ما كان لها، وإنَّما يكون عليها الدَرْك من حيث إنها خالفت مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه، فقد يريد أن يحدِّث عائشة حديثًا يُسِرُّ به إليها، أو يختص بها فتسمعه حفصة، وهذا لا يجوز بالاتفاق، لكن حملها على اقتحام ذلك الغيرة التي تورث صاحبها الدَّهَشَ و الْحَيْرة. =(6/330)=@ &(6/266)&$
وقول عائشة: «يا رب! سلِّط عليَّ عقربًا يلدغني (7) »؛ دعاءٌ منها على نفسها بعقوبة لما لحقها من النَّدم على ما فعلت، ولما تم عليها من الحيلة، ولما حصل لها من الغَيْرة، وهو دعاء باللسان غير مراد بالقلب. %(3/1149)%
__________
(1) من قوله: «لا يجب القسم ....»إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ك): «فيه».
(3) في (ح) و(ك): «أحدهما».
(4) في (ح): ((بما)) بدل ((فيما)).
(5) في (ح): ((تنظرين)).
(6) قوله: ((المكر)) سقط من (ح).
(7) في (ح): ((تلدغني)).(3/1149)
وقولها: «رسوُلك، ولا أستطيع أن أقول له شيئًا»؛ ظاهره (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف القصة (2) ؛ وإنَّما تمَّت لحفصة حيلتها عليها، والله تعالى أعلم، مع أنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم ذلك بالوحي أو بالقرائن، وتغافل عمَّا جرى من ذلك؛ إذ لم يجر منهما شيء يترتب عليه حكم، ولا يتعلق به إثم، والله تعالى أعلم.
ورسولك: منصوب بإضمار فعل تقديره: انظر رسولك، ويجوز الرفع على الابتداء، وإضمار الخبر (3) .
وقوله: «كَمَل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم وآسية»؛ الكمال: هو التناهي والتمام، ويقال في ماضيه «كمل»بفتح الميم وضمها، ويكمُل النساء (4) =(6/331)=@ في مضارعه بالضم، وكمال كل شيء بحسبه، والكمال المطلق: إنما هو لله تعالى خاصة، ولا شك أن أكمل (5) نوع الإنسان: الأنبياء، ثم تليهم الأولياء، ويعني بهم: الصديقين والشهداء الصالحين (6) . وإذا تقرر هذا، فقد قيل: إن الكمال المذكور في الحديث، يعني به: النبوة، فيلزم أن تكون مريم وآسية نبيَّتين، وقد قيل بذلك، والصحيح: أن مريم نبيَّة؛ لأنَّ الله تعالى أوحى &(6/267)&$ إليها بواسطة الملك، كما أوحى إلى سائر النبيين، وأما آسية، فلم يرد ما يدلّ على نبوتها دلالة واضحة. بل على صديقيتها وفضيلتها. فلو صحَّت لها (7) نبوتها لما كان في الحديث إشكال. فإنَّه (8) يكون %(3/1150)%
__________
(1) في (ح): «ظاهر في».
(2) في (ح): ((القضية)) بدل (القصة))
(3) قوله: ((الخير)) لم يتضح في (ح).
(4) قوله: ((النساء)) سقط من (ح).
(5) في (ح): «كمال».
(6) في (ح): ((والصالحين)).
(7) في (ح): «لنا».
(8) في (ح): ((فإنه كان يكون)).(3/1150)
معناه: أن الأنبياء في الرجال كثير، وليس في النساء نبي إلا هاتين المرأتين. ومن عداهما من (1) فضلاء النساء صديقات لا نبيَّات، وحينئذ يصحُّ أن تكونا أفضل نساء العالمين .
والأولى أن يقال: إن الكمال المذكور في الحديث ليس مقصورًا على كمال الأنبياء، بل يندرج معه كمال الأولياء، فيكون معنى الحديث: إن نوعي الكمال وجد في الرجال كثيرًا، ولم يوجد منه في النساء المتقدِّمات (2) على زمانه - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هاتين المرأتين، ولم يتعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث لأحد من نساء زمانه، إلا لعائشة خاصة، فإنَّه فضلها على سائر النساء، ويُستثنى منهن الأربع المذكورات في الأحاديث المتقدِّمة، وهنَّ: مريم بنت عمران (3) ، وخديجة، وفا طمة، وآسية؛ فإنَّهن أفضل من عائشة، بدليل الأحاديث المتقدِّمة في باب خديجة، وبهذا يصحُّ الجمع، ويرتفع التعارض إن شاء الله تعالى. وإنما كان الثريد أفضل الأطعمة ليسارة مؤنته، وسهولة إساغته، وعظيم بركته؛ ولأنه كان جلَّ (4) أطعمتهم، وألذَّها بالنسبة لهم (5) ولعوائدهم، وأما غيرهم فقد يكون غير الثريد عنده أطيب وأفضل، وذلك بحسب العوائد في الأطعمة، والله تعالى أعلم. &(6/268)&$
وقوله: «إن جبريل يقرأ عليك السلام»؛ يقال: أقرأته السلام، وهو يقرئك =(6/332)=@ السلام - رباعيًّا - فتضم (6) ياء (7) المضارعة منه، فإذا (8) قلت: يفرأ عليك السلام (9) -كان (10) مفتوح حرف المضارعه (11) ؛ لأنَّه ثلاثي، وهذه فضيلة عظيمة لعائشة، غير أن ما ذكر من تسليم الله عز وجل على خديجة أعظم؛ لأنَّ ذلك سلام من الله، وهذا سلام من جبريل .
وقولها: «وعليه السلام ورحمة الله (12) »؛ حجَّة لمن اختار أن يكون رد السَّلام هكذا، وإليه ذهب ابن عمر رضي الله عنهما. &(6/269)&$ %(3/1151)%
__________
(1) قوله: «من»سقط من (ك).
(2) في (ح): ((المقدمات)).
(3) قوله: ((بنت عمران)) سقط من (ح).
(4) في (ح): ((أجل)).
(5) في (ب) و(م): «إليهم».
(6) في (ح): «فنضم».
(7) في (ب) و(ح) و(ك): «تاء».
(8) في (ح): «وإذا».
(9) قوله: «السلام»سقط من (ب).
(10) قوله: «كان»سقط من (م).
(11) في (ك): «المضارعة منه».
(12) زاد في (ح): «وبركاته».(3/1151)
- - - - -
حديث أم زرع
الصَّحيح في هذا الحديث: أنه كله من قول عائشة رضي الله عنها، إلا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: «كنتُ لكِ كأبي زرع =(6/333)=@ لأم زرع». هذا هو المتفق عليه عند أهل التَّصحيح (1) . وقد رواه سعيد بن مسلم المديني، عن هشام بن عررة، عن أخيه عبدالله، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كنت لك كأبي زرع لأم زرع». ثم أنشأ يحدِّث بحديث أم زرع وصواحبها، قال: اجتمع إحدى عشرة امرأة ... وذكر الحديث. فتوهم بعض الناس: أن هذا الحديث كلُّه (2) مرفوعٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنسبه إليه، وجعله من قوله. وهو وهم محض (3) ؛ فإنَّ القائل: ثم أنشأ يحدِّث؛ هو: هشام يخبر بذلك، عن أخيه، عن أبيه: أنه أنشأ (4) بعد ذلك القول المتقدِّم: يحدَّث (5) بالحديث.
وقولها: «جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن ،?وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا»؛ هكذا صحيح الرواية ومشهورها، وعند الطبري: «جلسنَّ إحدى عشرة امرأة»، بالنون التي هي علامة المؤنث (6) على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وعليها قوله - صلى الله عليه وسلم - : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار» (7) . &(6/270)&$ وقد حُمِل عليها قوله تعالى: } وأَسروا النجوى الذين %(3/1152)%
__________
(1) في (ح): ((الصحيح)).
(2) في (ح): «كله هو».
(3) انظر لزامًا "الفتح" (9/256-257).
(4) قوله: «أنشأ»سقط من (ك).
(5) في (ح): ((بحديث)) بدل ((يحدث)).
(6) في (ح): ((الجمع المؤنث)).
(7) تقدم في الصلاة، باب المحافظة على الصبح والعصر .(3/1152)
ظلموا (1) ، وقوله: } ثمَّ عموا (2) وصموا كثير منهم { (3) ، وعليها قول الشاعر:
ولكن دِيَافِيٌّ (4) أَبُوه وأُمُّه بِحَوْرَانَ يِعْصِرْنَ (5) السَّلِيطَ أَقَاربُه
وقد تكلف بعض النحويين ردَّ هذه اللغة إلى اللغة الفصيحة، وهي ألا تلحق هذه العلامة (6) في الفعل إذا تقدَّم الأسماء، وردَّ هذه اللغة (7) ، ولا معنى لهذا كله، ولا يحتاج إليه؛ إذ قد صحَّت هذه اللغة نقلاً واستعمالاً، ثم إنها جارية على قياس إلحاق علامة تأنيث الفاعل بالفعل على ما يتحقق (8) في علم النحو.
وقول الأولى: «زوجي لحم جمل غَثٌّ على رأس جبل وَعْرٍ (9) - في غير كتاب مسلم: وعث (10) - لا سهل فيُرتقى، ولا سمين فيُنْتَقَل»؛ وفي غير كتاب مسلم: «فيُنْتَقَى» (11) =(6/334)=@ بدل: «فينتقل»، الرواية الصحيحة بخفض غثّ؟ على الصِّفة للجمل، وقد قيَّده بعضهم بالرفع على الصِّفة لِلَّحم، والغَثُّ: الشديد الهزال، الذي يُستغثُّ من هزاله (12) ؛ أي: يُستترك (13) ويُستكره، مأخوذٌ من غث الجرح غثًّا وغثيثًا؛ إذا سال منه الْمِدَّة والقيح، واستغث (14) صاحبه. والوعث من الجبال: الصَّعب المرتقى لوعوثته (15) ، وهو أن يكون بحيث توحل (16) فيه الأقدام، فلا يكاد يتخلَّص منه.
وقد فسَّرته بقولها: «لا سهل فيرتقى (17) »؛ أي: لا يصعدُ فيه لصعوبته. وينتقل: من الانتقال؛ أي: هذا الجمل لهزالته (18) لا ينقله أحدٌ زهدًا فيه، ولكونه بموضع لا يتخلَّص منه، ويُنتقى؛ أي: لا نِقْيَ له، والنِّقْيُ: المخ. يقال منه: نقوت العظم (19) ، ونقيته، وانتقيته، إذا استخرجت مُخَه. قال الخطابي: وصفت زوجها بسوء الخلق، وقلة الخير، ومنع الرِّفد، وبالأذى في المعاشرة. %(3/1153)%
__________
(1) الآية (3) من سورة الأنبياء .
(2) في (ح): ((فعموا)) بدل ((ثم عموا)).
(3) الآية (71) من سورة المائدة .
(4) في (ك): «ديادي».
(5) في (ك): «يجوزان يعرصن».
(6) يعني علامة الجمع والتثنية والتأنيث.
(7) من قوله: «الفصيحة وهي ....»إلى هنا سقط من (ح).
(8) في (ح): يشبه «تحقق».
(9) قوله: «وعر»سقط من (ح) و(ك).
(10) نسبها الحافظ في "الفتح" (9/259) للزبير بن بكار .
(11) أبو عبيد في "غريب الحديث" (2/286).
(12) في (ك): «هزالته».
(13) في (ك): «يدكر».
(14) في (ح): «استغثه».
(15) في (ك): «لوعثته».
(16) في (ك): «يوحل».
(17) في (ك): «فيرقى».
(18) في (ح): ((لهزاله)).
(19) في (ح): ((العلم)).(3/1153)
وقول الثانية: «زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره، أذكر (1) عجره وبجره»؛ بثُّ الخبر: نشره وإظهاره. ومعنى أذره: أدعه، ولم تستعمل العرب من هذين الفعلين إلا مضارعهما، فلا يقال منهما (2) : فعل ولا أَفْعَلَ، ولا &(6/271)&$ فَاعَلَ، ولا فَعْلَى (3) . استغنوا (4) عن ذلك بـ «ترك»غير أنه قد سمع: وَدَعَ، وَوَدْعٌ، وهو قليل. والعُجَر: جمع عُجْرَة. والبُجَر: جمع بُجْرَةٍ؛ تعني بذلك: عيوبه. قال الأصمعي في تفسير قول علي رضي الله عنه: «أشكو إلى الله عُجَرِي وبُجَرِي»؛ أي: همومي وأحزاني، وأصل البُجَر: العروق المنعقدة في البطن خاصَّة، وقال ابن الأعرابي: العُجَرة: نفخةٌ في الظهر، فإذا كانت في السُّرَةِ فهي: البُجْرة، ثم يُنْقَلان إلى الهموم والأحزان، والضمير في خَبَرْه. وفي أَذَرَهُ: على الزوج، وكذلك هو ظاهر الضميرين =(6/335)=@ في عجره وبجره (5) .
وتعني: أنها إن (6) وصفت حال زوجها ذكرت عيوبه، وإن فعلت ذلك خافت من فراقه، وهي تكره فراقه للعِلَق التي بينهما. وعلى هذا فتكون «لا»التي في «أن لا أذره»زائدة، كما زيدت في قوله تعالى: } ما منعك ألا تسجد { (7) . ويحتمل (8) أن يقال: «لا (9) »ليست بزائدة، وإنها تخاف ألا تتركه معها ممسكًا لها في صحبتها. وقيل: إن الضمير في عجره وبجره عائدٌ إلى الخبر؛ تعني: أن حديثه حديث طويل، فيه عقد لو تحدَّث به، لكنها لم تتحدَّث به (10) لخوفها، ولم تسكت عن حال زوجها بالجملة للعقد الذي (11) جعلت على نفسها، لكنها أومأت إلى شيء من ذلك، وعلى القول الأول: صرحت بأن له أمورًا تعاب. %(3/1154)%
__________
(1) في (ح): ((أن أذكر)).
(2) في (ك): «منه».
(3) في (ح): «فعال»، وفي (ك): «فعل».
(4) في (ك): «امتنعوا».
(5) قوله: «في عجره وبجره»سقط من (ك)، وجاء فيها بدلاً منه: «فإذا كانت في السرة»وهو تكرار لما سبق .
(6) قوله: «إن»سقط من (ك).
(7) الآية (12) من سورة الأعراف .
(8) في (ح): ((أي أن تسجد ويحتمل)).
(9) في (ح): ((أن يقال أن لا)).
(10) قوله: «به»سقط من (ك).
(11) في (ح): «التي».(3/1154)
وقول الثالثة: «زوجي العشنَّق، إن أنطق أُطلَّق، وإن أسكت أُعَلَّق»؛ العشنَّقُ: الطويل الخارج بطوله إلى الحد المستكره، ويقال أيضًا عليه (1) : العشنّط - بالطاء - تقول: ليس عنده أكثر من طوله بلا نفع، فهو منظرٌ بلا مخبر، إن ذكرت عيوبه طلقني، وإن سكت عن ذلك؛ تركني مُعَلَّقة، لا أيِّمًا، ولا ذات زوج، كما قال تعالى: } فتذروها كالممعلَّقة { (2) .
وقول الرابعة: «زوجي كلَيْلِ تِهامة، لا حرٌّ، ولا قرٌّ»؛ هو مدح منها لزوجها؛ لأنَّها ضربت له مثلاً بليل تهامة؛ لأنَّه معتدل؛ إذ ليس فيه حرٌّ يؤذي، ولا بردٌ يُرْدِي. وكذلك كان زوجها. والقرُّ: البرد . &(6/272)&$
وقولها: «ولا مخافة، ولا سآمة»؛ أي: لا أخاف منه أذى، وليس فيه سآمة؛ أي: ملال. والرواية المشهورة: فتح ما بعد «لا»وبناء ما (3) بعدها معها، وقد رواه أبو عبيد برفع ما بعدها وتنوينه في المواضع كلها على الابتداء وإضمار الخبر (4) ، وهذا نحو قوله تعالى: } لا بيعٌ فيه?ولا خلَّة ولا شفاعة { (5) ، وكنحو =(6/336)=@ قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنَّه يجوز فتحهما ورفعهما (6) ، وفتح الأول، ورفع الثاني، وعكس ذلك، وبسط ذلك في كتب النحو.
وقول الخامسة: «زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد»؛ الرواية (7) فهد وأسد -بكسر العين وفتح اللام - على أنهما فعلان ماضيان مأخوذان من اسم الفهد والأسد، تريد أن حاله إذا دخل بيته نام نوم الفهد، تصفه بكثرة النوم. يقال في المثل: هذا أنوم من فهد، %(3/1155)%
__________
(1) في (ح): ((عليه أيضًا)).
(2) الآية (129) من سورة النساء .
(3) في (ك): «وبناؤها»وفي (ح): ((وبناها)).
(4) باعتبارها «لا»التبي تعمل عمل «ليس».
(5) الآية (254) من سورة البقرة .
(6) في (ك): «فتحها ورفعها».
(7) قوله: «الرواية»سقط من (ك).(3/1155)
وأما إذا خرج للحرب، فيفعل فعل الأسد تصفه بالشجاعة. يقال: أسد الرجل واستأسد إذا تشجَّع، وقال إسماعيل بن أبي أويس: إن دخل فهد؛ أي: وثب عليّ (1) كما يثب الفهد، فيحتمل أن تريد بذلك ضربها، أو المبادرة لجماعها.
قلت: والأول أظهر.
وقولها: «ولا يسأل عما عهد»؛ أي: لا يبحث عما له من مال ولا طعام في بيته، فيحتمل أن يكون ذلك عن كرم نفس، وحسن خلق فيكون مدحًا، ويحتمل أن يكون ذلك عن غفلة وقلة مبالاة (2) فيكون ذمًّا.
وقول السادسة: «زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف»؛ تصفه بكثرة الأكل مع التخليط في المأكول، فهو يلف كل ما يجده من الأطعمة، ويشرب كل ما يجده من الأشربة. يقال: اشتف ما في الإناء إذا شرب ما فيه، من الشفافة وهي (3) : البقية، وهذا وصف ذم.
وقولها: «وإذا (4) اضطجع التف»؛ تعني: أنه ينام وحده ملتفًا في ثوبه، =(6/337)=@ فيحتمل &(6/273)&$ أن يكون ذلك منه إعراضًا عنها؛ إذ لا أرب له فيها، فهي لذلك كئيبة حزينة، ويناسبه قولها بعده: «ولا يولج الكف ليعلم البث»؛ أي: لا يمد يده إلي (5) ليعلم ما أنا عليه من الحزن لإعراضه عنها فيزيله. ويحتمل أنه: إنما يفعل ذلك فشلاً وعجزًا؛ فإنَّ هذه نومة العجزان الكسلان، وعلى هذا فيجتمع فيه: أنه أكول، شروب، نؤوم، لا رغبة له في شيء غير ذلك.
واختلف في معنى قولها: «ولا يولج الكفّ ليعلم البث»، فأشار ابن الأعرابي إلى الأول، فإنَّه قال: إنما أرادت أنه (6) إذا رقد التفّ في ناحية من البيت، ولم يضاجعني ليعلم ما عندي من محبتي لقربه. ولا بثَّ لها إلا محبَّتُها للدنوِّ منه، %(3/1156)%
__________
(1) قوله: «علي»سقط من (ك).
(2) في (ح): ((مبالات)) كذا رسمت.
(3) في (ح): «وهو».
(4) في (ك): «إذا».
(5) قوله: «إلي»سقط من (ك).
(6) قوله: «أنه»سقط من (ك).(3/1156)
فسمت ذلك بثًّا؛ لأنَّ البث من جهته يكون. قال أبو عبيد: أحسب أنها كان بجسدها عيب، فكان لا يدخل يده في ثوبها كرمًا (1) . وقال غيره: لا يمسنُّ عورتها؛ لأن ذلك قد يشق عليها في بعض الأوقات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: «حتى تستحدَّ المغيبة» (2) ، وقال أحمد بن عبيد: معناه: لا يتفقد أموري فيعلم ما أكرهه فيزيله، يقال: ما أدخل يده في هذا الأمر؛ أي: لم يتفقَّده .
قلت: وقول ابن الأعرابي: أشبهها، وما ذكرته أنسبها، وعلى هذه الأقوال كلها فحديثها كله ذمٌّ، وأما على قول أبي عبيد، فإنَّها تكون قد مدحته بالإعراض والتغافل عن الاطلاع على ما يحزنها من عيب جسدها، وقد استبعد ابن قتيبة أن تكون تذمُّه بالوصفين المتقدِّمين وتمدحه بثالث.
قلت: وهذا لا بُعد فيه، فإنَّهن (3) تعاقدن ألا يكتمن من أحوال أزواجهن شيئًا، فمنهن من كان زوجها مذموم الأحوال كلها، ومنهن من كان زوجها ممدوح الأوصاف كلها، ومنهم (4) من جمع الأمرين، فأخبرت كل واحدة بما علمت. &(6/274)&$
وقول السَّابعة: «زوجي غياياء - أو عياياء (5) - طباقاء»؛ الرواية التي لا يعرف =(6/338)=@ غيرها بالعين (6) المهملة، وغياياء: بالغين المعجمة، و «أو»للشك، وهو شك وقع من بعض الرواة، وقد أنكر أبو عبيد وغيره الغين المعجمة، وقالوا: صوابه: عياياء. وقالوا: هو العنين: وهو الذي تغلبه مباضعة النساء، وكذلك هو في الإبل التي (7) لا تضرب ولا تلقح. %(3/1157)%
__________
(1) في (ك): «كرها».
(2) تقدم في النكاح، باب من قدم من سفر فلا يعجذِل بالدخول إلى أهله، فإذا دخل فالكيس الكيس .
(3) في (ح): «فإنهن كن»، وفي (ك): «فإنهن أن».
(4) في (ك): «منهن».
(5) قوله: «غياياء أو»سقط من (ح) و(ك).
(6) في (ح): «عيايا بالعين».
(7) في (ك): «الذي».(3/1157)
قلت: ويظهر من كلام هؤلاء الأئمة: أنهم قصروا عياياء على الذي يعجز عن الجماع والضِّراب، والصحيح من اللسان: أنه يقال على ذلك، وعلى من لم يقم بأموره. ففي الصحاح: يقال جمل عياياء؛ أي (1) : لم يهتد للضراب، ورجل عياياء: إذا عَيي بالأمر والمنطق، وعلى هذا (2) فتكون هذه المرأة قد وصفته بكل ذلك، وأما إنكار غياياء فليس بصحيح.
قال القاضي أبو الفضل: وقد يظهر له وجهٌ حسن، ولا سيما (3) وأكثر الرواة أثبتوه، ولم يشكُّوا فيه، وهو أن يكون مأخوذًا من الغياية، وهو كل ما أظل الإنسان فوق رأسه، فكأنه غطي عليه وسترت أموره ،?ويكون من الغي: وهو (4) الانهماك في الشر، أو من الغي: وهو الخيبة (5) . قال الله تعالى: } فسوف يلقون غيًّا { (6) ؛ أي: خيبة.
والمعروف في الطباقاء: أنه بمعنى: العياياء؛ وهو الذي تنطبق عليه الأمور، وأنشد الجوهري قول جميل بن مَعْمَر:
طباقاء لم يشهد خُصُومًا ولم يَقُدْ رِكابًا إلى أَكْوارِها حين تُعلف (7)
قال: ويُروى عياياء، وهو بمعنى واحد.
قال القاضي: وحكى أبو علي - وأظن (8) البغدادي - عن بعضهم أنه قال: الثقيل (9) الصدر؛ الذي ينطبق صدره على صدر المرأة عند الحاجة إليها، وهو من مذام الرجال. وقال الجاحظ: عياياء، طباقاء: أخبرت عن جهله بإتيان النساء، وعيِّه، وعجزه، وأنه إذا سقط عليها انطبق عليها، والنساء يكرهن صدور الرجال على صدورهن.
وقولها: «كل داء له داء»؛ أي: هو موصوف بجميع الأدواء مع عيه وعجزه (10) . =(6/339)=@ %(3/1158)%
__________
(1) في (ك): «إذا».
(2) في (ك): «هذه».
(3) في (ح): ((لا سيما)) بلا واو.
(4) في (ح): «الذي هو» بدل ((وهو)).
(5) في (ك): «الحبية».
(6) الآية (59) من سورة مريم .
(7) كذا في جميع النسخ! وفي مصادر التخريج: «تُعْكَف». وانظر "غريب الحديث" لابن سلام (2/295)، و"الفائق"(3/51)، و"غريب الحديث" للحربي (2/863)، و"لسان الميزان" (10/214).
(8) قوله: «وأظن»سقط من (ك) وفي (ح): ((وأظنه)).
(9) في (ح): «هو الثقيل».
(10) في (ح): «عجره وعبيه».(3/1158)
وقولها: «شجَّك، أو فلَّك، أو جمع كلاً لكِ»؛ الشجاج: الجراح في الرأس، &(6/275)&$ وتعني بفلَّك؛ أي (1) : أثَّر في جسدك بالضرب، مأخوذ من فلَّ السيف فلولاً إذا انثلم، وقيل معناه: كسر أسنانها (2) ، و «أو»هنا للتقسيم؛ تعني: أنه في وقت يضربها فيشج رأسها، وفي وقت يؤثر في جسدها، وفي آخر يجمع كل ذلك عليها.
وقول الثامنة: «الريح ريح زرنب، والمس مس أرنب»؛ الأرنب: واحد الأرانب (3) ؛ تعني به: أنه لين الجسد عند المس، ناعمه كمسِّ جلد الأرنب، ويحتمل: أن يُكنى بذلك عن طيب خلقه، وحسن معاشرته. والزرنب: بتقديم الزاي على الراء: ضرب من النبات طيب الرائحة، ووزنه: فعلل. وأنشدوا:
... يا بأبي أنت وفوكِ الأشنبُ
... ... كأنَّما ذُرَّ عليه الزَّرنبُ (4) أو زنجبيلٌ عاتقٌ (5) مُطيَّب (6)
وظاهره: أنها أرادت: أنه يستعمل الطيب كثيرًا تظرُّفًا ونظافة، ويحتمل أن تكني بذلك عن طيب الثناء عليه، أو عن طيب حديثه، وحسن معاشرته.
وقول التاسعة: «زوجي رفيع العماد، طويل النجاد»؛ وظاهره (7) : أنها وصفته بطول البيت وعلوه؛ فإنَّ بيوت الأشراف والكرماء (8) كذلك، فإنَّهم يعلونها، ويضربونها في المواضع المرتفعة ليقصدهم الطارقون والمعتفون (9) ، وبيوت غيرهم: قصار، وربما هُجي بذلك فقيل (10) : %(3/1159)%
__________
(1) قوله: «أي»سقط من (ح).
(2) في (ح): ((أسنانهما)).
(3) في (ح): ((الأربت واحد الأرابت)).
(4) في (ك): «الأرنب».
(5) في (ك): «عابق».
(6) "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (3/51) قال: وروى ابن الأعرابي قول القائل ...، فذكره .
(7) في (ح): «ظاهره».
(8) في (ك): «الكرماء».
(9) المعتفون: جمع عاف ومُعتف، الأضياف وطلاب المعروف: "اللسان"...
(10) قوله: «قصار وربما هجي بذلك فقيل»سقط من (ك).(3/1159)
قِصارُ البيوتِ لا تُرى صهواتها (1) من اللُّؤمِ حشَّامُون عندَ الشدائد (2)
وقيل: كنت بذلك عن شرفه ورفعة قدره. والنجاد: حمالة السيف، تُريد: أنه طويل القامة، كما قال شاعرهم: =(6/340)=@
قَصُرَتْ حَمائِلُهُ عَلَيْهِ فَقَلَصَتْ ولَقَد تَمَطَّطَ بَيْنَها فَأَطَالَها (3)
وكانت العرب تتمادح بالطول وتذم بالقصر، وذلك موجود في أشعارهم.
وقولها: «عظيم الرَّماد»؛ تعني: أن نار قِراه للأضياف لا تُطفأ، فرماد ناره كثير عظيم، كما قال: &(6/276)&$
مَتَى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِه تَجِدْ حَطَبًا جَزْلاً ونارًا تَأَجَّجا (4)
وقال آخر:
لَهُ نارٌ تُشَبُّ عَلَى يَفَاعٍ إِذَا (5) النِّيرانُ أُلْبِسَتِ القِنَاعا (6)
وقولها: «قريب البيت من النادي (7) »؛ النادي، والنديُّ، والمنتدى (8) : مجلس القوم، ومنه قوله تعالى: } فليدع ناديه { (9) ؛ أي: أهل مجلسه. تصفه بالشرف والسؤدد في قومه، فهم إذا تفاوضوا (10) أو اشتوروا في أمر أتوه فجلسوا قريبًا من بيته، فاعتمدوا (11) على رأيه، وامتثلوا (12) أمره. ويحتمل أن تريد: أن النادي إذا أتوه لم يصعب عليهم لقاؤه؛ أي (13) : لا يحتجب عنهم (14) ، ولا يتباعد منهم، بل: يقرب منهم، ويتلقاهم مرحبًا بهم، ومبادرًا لإكرامهم. ومقتضى حديثها: أنها وصفته بالسيادة والكرم، وحسن الخلق، وطيب المعاشرة.
وقول العاشرة: «زوجي مالك، وما مالك ؟»هذا تعظيم لزوجها، وهذا على (15) نحو قوله تعالى: } وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين { (16) ، و } الحاقة - ما الحاقة { (17) . %(3/1160)%
__________
(1) في (ح): «سهوتها».
(2) البيت ......
(3) في (ك): «فأطاها». والبيت للشاعر الأموي مروان بن أبي حفصة، وهو في "ديوانه" (ص103)، لكن عجزه: «ولقد تحفظ قينها فأطالها».
وانظر أيضًا "غريب الحديث" لابن سلام (1/370).
(4) "لسان العرب" (5/242) نقلاً عن ابن سيده مع اختلاف في صد رالبيت .
(5) في (ح): ((إذ)) بدل ((إذا)).
(6) البيت لأبي زياد الأعرابي الكلابي. "ديوان الحماسة" (2/69).
(7) في (ح): ((الناد)).
(8) في (ح): ((الندا والندي)) بدل ((والندي والمنتدى)).
(9) الآية (17) من سورة العلق .
(10) في (ح): «تقاوموا».
(11) في (ح): «واعتمدوا».
(12) في (ح) ((فامتثلوا)).
(13) في (ح): «إذ»، وفي (ك): «و»بدل «أي».
(14) في (ك): «عليهم».
(15) قوله: «على»سقط من (ك).
(16) الآية (27) من سورة الواقعة .
(17) الآية (1-2) من سورة الحاقة .(3/1160)
وقولها: «مالك خير من ذلك»؛ أي: هو أجل من أن أصفه لشهرة فضله، وكثرة خيره. =(6/341)=@
وقولها: «له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح»؛ مبارك الإبل: مواضع بروكها. واحدها: مبرك، ومسارحها: مواضع رعيها، واحدها مسرح، واختلف في معناه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أكثر بروكها وأقل تسريحها مخافة أن ينزل به ضيف وهي غائبة، ذكره أبو عبيد .
والثاني: أنها إذا بركت كانت كثيرة لوفر عددها، وإذا سرحت كانت قليلة لكثرة ما يجزر منها للضيفان. قاله ابن أبي أويس.
وثالثها: أنها إذا بركت كانت كثيرة لكثرة من ينضم إليها ممن يلتمس لحمها ولبنها، وإذا سرحت كانت قليلة لقلة من ينضم إليها منهم.
وقولها: «إذا سمعن صوت الْمِزهَر أيقن أنهنَّ هوالك»؛ المزهر -بكسر الميم -: هو (1) عود الغناء، وهو معروف عند العرب ومذكور في أشعارها، وقد أخطأ من قال: إنه مُزهِر بضم الميم وكسر الهاء، وفسَّره: بموقد النار في الرواية والمعنى. أما الرواية: &(6/277)&$ فلا يصحُّ منها إلا ما ذكرناه، وهو كسر الميم، وفتح الهاء، وأما المعنى؛ فقيل فيه قولان:
أحدهما: أنه يتلقى ضيفانه بالغناء مبالغة في الترحيب والإكرام، وإظهار الفرح.
والثاني: أنه يأتي ضيفانه بالشراب والغناء، فإذا سمعت الإبل صوت الِمِزْهر والغناء أيقنَّ بنحرهنَّ للأضياف، وكلا القولين: أمدح، ومعناهما أوضح.
وقول الحادية عشرة (2) : «أناس (3) من حُليِّ أذني»؛ تريد: حلاني قِرَطَةً وشنوفًا تنوسُ بأذني؛ أي: تتحرك، والنَّوْسُ: حركة كل شيء متدلٍّ، يقال فيه (4) : ناسَ ينوسُ نوسًا، وأناسَه غيرَه إناسةً، وسُمِّي ملكُ اليمن ذا نُواس؛ لضفيرتين كانتا له تنوسان على عاتقه. %(3/1161)%
__________
(1) قوله: ((هو)) سقط من (ح).
(2) في (ح) و(ك): «عشر».
(3) في (ك): «وأناس».
(4) في (ح): ((منه)).(3/1161)
وقولها: «ملأ (1) من شحم عضدي»؛ أي: سَمَّنني بالإحسان، وكثرة المال، =(6/342)=@ وخضَّت العضدين؛ لأنهما إذا سمنا سَمِنَ جميع الجسد.
وقولها: «فبجَحني فبجحت إليَّ نفسي»؛ الرواية المعروفة: «فبَجَحَتْ»بفتح الجيم والحاء وسكون تاء الفرق، وألف (2) مشدد الياء، وتكون «نفسي»فاعلة بجحت، وقد رواه أبو عبيد: «فَبَجُحْتُ»، بضم الجيم، وسكون الحاء وتاء مضمومة، هي ضمير المتكلم الفاعل، و «إلى»ساكنة: حرف جر ،«نفسي»: مجرورة، ومعنى: «بجحني»: فرحني ورفعني، ففرحت، وترفعت. يقال: فلان يتبجَّح بكذا؛ أي: يترفع ويفتخر، قال الشاعر وهو الراعي:
وَما الفَقْرُ من أَرْضِ العَشِيرَةِ سَاقَنا إِلَيْك وَلكنَّا بِقُربِكَ نَبْجَحُ (3)
أي: نترفع، ونفتخر.
وقولها: «وجدني في أهل غنيمة بشِقّ»؛ الأكثر الأعرف في الرواية بكسر الشين، وقد ذكره أبو عبيد بفتح الشين. قال: والمحدِّثون يقولونه بالكسر، والفتح الصواب، وهو موضع. وقال ابن الأنباري: هو بالفتح والكسر، واختلف الذين كسروه، فمنهم من قال: هو شق جبل؛ أي: غنمهم قليلة، ومنهم من قال: هو الجهد والمشقة. كما قال تعالى: } إلا بشق الأنفس { (4) . &(6/278)&$
وقولها: «فجعلني في أهل صهيل وأطيط»؛ الصهيل: حمحمة الخيل، والأطيط: صوت الرَّحل والإبل من ثقل أحمالها. يقال: لا آتيك ما أطَّت الإبل، وكذلك صوت الجوف من الجَوَى (5) . %(3/1162)%
__________
(1) في (ح): «وملأ».
(2) في (ح): ((والي)).
(3) "غريب الحديث" لابن سلام (1/372).
(4) الآية (7) من سورة النحل .
(5) الجوى: الحرقة وشدة الوجد من عشق أوحُزن. وكل داء في الجوف .(3/1162)
وقولها: «ودائسٍ ومُنقٍّ»؛ دائس: اسم فاعل من داس الطعام يدوسه دياسة فانداس (1) هو، والموضع: مداسة. والمدوس: ما يداس به؛ أي: يدق ويُدْرَس. =(6/343)=@ ويقال: داس الشيء برجله يدوسه دوسًا إذا وطئه.
ومُنْق: صحيح الرواية فيه بضم الميم وفتح النون: اسم فاعل (2) من نقى الطعام والشيء ينقيه تنقية، وهو مُنَق؛ يعني: أن لهم زرعًا يداس وينقى، وقاله (3) ابن أبي أويس بكسر النون، قال: وهو نقيق أصوات المواشي والأنعام.
قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّه لا يقال لشيء من ذلك: نَقٌّ؛ وإنما يقال: نقُّ العقرب والضفدع والدجاجة، وقد يقال: نق الهر، وهو قليل، ولذلك قال النيسابوري: تريد (4) الدجاج، وهو بعيد؛ لأنَّ الدجاج لا تتمدح بها العرب، ولا تذكرها في الأموال، ومقصود قولها هذا: أنها كانت في قوم ضعفاء فقراء، فنقلها إلى قوم أقوياء أغنياء.
وقولها: «فعنده أقول فلا أُقَبِّح»؛ أي: لا يعاب لها قول، ولا يرد بل يستحسن ويمتثل.
وقولها: «وأرقد (5) وأتصبح»؛ أي: أديم النوم إلى الصباح، لا يوقظها أحدٌ؛ لأنَّها مكرَّمة، مكفية الخدمة والعمل.
وقولها: «فأتقَنَّح (6) »؛ يروى بالميم والنون (7) مكانها. والروايتان معروفتان، غير أن أبا عبيد لم يعرف رواية النون وأنكرها، فأمَّا أتقمح بالميم؛ فمعناه: أتروى حتى أمجَّ الشراب من الرِّي. يقال: ناقةٌ قامح، وإبل قماح: إذا رفعت رؤوسها عند الشراب (8) ، ونحو (9) قوله تعالى: } فهم مقمحون { (10) . وأما بالنون فمعناه: &(6/279)&$ الزيادة على الشرب بعد الرِّي. يقال: قنحت من الشراب، %(3/1163)%
__________
(1) في (ك): «وانداس».
(2) قوله: ((اسم فاعل)) سقط من (ح).
(3) في (ح): يشبه ((وقال)).
(4) في (ح): ((يريد)).
(5) في (ح): «فأرقد».
(6) في (ح): «فأنقخ».
(7) في (ح): ((وبالنون)).
(8) في (ح): ((الشرب)).
(9) في (ح): ((ونحوه)).
(10) الآية (8) من سورة يس .(3/1163)
أقنح قنحًا إذا شربت بعد الرِّي، وقال ابن السكيت: معناه أقطع الشرب وأشرب قليلاً قليلاً.
وقولها: «عكومها رداح»؛ العكوم: جمع عكم، وهو العذل. ورداح: =(6/344)=@ مملوءة من الأمتعة، تعني: أنها كثيرة القماش والأثاث. ويقال: امرأة رداح؟ إذا كانت عظيمة الكفل.
وقولها: «وبيتها فساح»؛ أي: واسع. يقال: بيت فسيح، وفساح، وظاهره: أنه فسيح الفناء، ويحتمل أن يكون كناية عمَّا يفعل فيه من الخير، والمعروف.
وقولها: «مضجعه كمثل شطبة»؛ الشَّطبة: هي بفتح الشين، وأصلها ما شطب من جريد النخل، وذلك: أنه يُشَقُّ منه قضبان دقاق (1) تنسج منها الحصر. وقال ابن الأعرابي وغيره: الشَّطبة هنا: السيف يسل من غمده.
وقولها: «وتشبعه ذراع الجفرة»؛ وهي: الأنثى من ولد المعز، والذكر: جفر، وإذا أتى على ولد المعز أربعة أشهر، وفصل عن أمه، وأخذ في الرعي قيل عليه (2) : جفر. مدحته بقلَّة أكله، وقلَّة لحمه، وهما وصفان ممدوحان في الرجال. قال الشاعر:
تَكْفِيه حُزَّةُ (3) فِلْذٍ إن أَلَمَّ بِهَا مِنَ الشِّواءِ ويُروِي (4) شُرْبَهُ الغُمَرُ (5)
وقولها: «ملء كسائها»؛ أي: ممتلئة الجسم.
وقولها: «صفر ردائها»؛ أي: خاليته (6) ، والصفر: الشيء الفارغ. قال الهروي: أي: ضامرة البطن، والرداء ينتهي إلى البطن. وقال غيره: يريد أنها %(3/1164)%
__________
(1) في (ح): «رقاق».
(2) في (ك): «له».
(3) في (ك): «حرة».
(4) في (ح): «وتروي».
(5) "ديوان الأعشى"(ص268).
(6) في (ك): «خليه».(3/1164)
خفيفة أعلى البدن، وهو موضع الرداء ممتلئة أسفله، وهو موضع الكساء والأزرة، ويؤيده (1) قولها في بعض روايات الحديث: «مِلءُ إزارها» (2) .
قال القاضي: والأولى: أنه أراد: =(6/345)=@ أن امتلاء منكبيها، وقيام نهديها يرفضان الرداء عن أعلى جسدها، فهو لا يمسه (3) كالفارغ منها بخلاف أسفلها، كما قال الشاعر:
أَبَتِ الرَّوادِفُ والثُّدِيُّ لِقُمْصِهامَسَّ البُطُونِ وأَنْ تَمَسَّ ظُهُورا (4)
وقولها: «وغيظ جارتها»؛ تريد أن ضرتها يغيظها (5) ماتراه من حسنها، وجما لها، وعفافها. &(6/280)&$
وقولها: «وعقر جارتها (6) »؛ الرواية الصحيحة: بعين مهملة مفتوحة، وقاف من العقر، وهو الجرح، أو الهلاك؛ تعني: أن ضرتها تموت من أجلها حسدًا وغيظًا، أو ينعقر (7) قلبها، وفي قولها: «ملء كسائها، وصفر ردائها، وغيظ جارتها»؛ دليل لسيبويه: على صحة ما أجازه من قوله: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وجهه، وهو ردٌّ على المبرّد والزجَّاج؛ فإنَّهما منعا ذلك، وعلَّل الزجاجي المنع بإضافة الشيء إلى نفسه، وخطَّأَ سيبويه في إجازة ذلك، وقال: إنما أجازه سيبويه وحده، وقد أخطأ الزجَّاجي في هذا النقل في مواضع، أخطأ في المنع، وأخطأ (8) في التعليل، وفي تخطئته (9) سيبويه (10) ، وفي قوله: إنه لم يقل به غير سيبويه. وقد قال أبو الحسن بن خروف: أنَّه قال به طائفة لا يحصون، وفي قوله: إن (11) جميع الناس خطَّؤوا سيبويه؛ وليس بصحيح. وكيف يخطأ في اللسان من تمسك بالسَّماع الصحيح، كما جاء في هذا (12) الحديث المتفق على صحته. وقد جاء عن بعض (13) الصَّحابة رضي الله عنهم في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «شَثَنٌ (14) أصابعه» (15) ، وقد اتفق أهل اللسان على صحة قول الشاعر (16) : =(6/346)=@ %(3/1165)%
__________
(1) في (ح): «ويؤيدها».
(2) النسائي في "الكبرى" (5/358-361 رقم9138).
(3) في (ح): ((لا يمسه فهو)).
(4) البيت لعمر بن أبي ربيعة. انظر "ديوانه" (ص192/الكتاب العربي)
(5) في (ك): «تغيظها».
(6) في (ك): «جارتك».
(7) في (ك): «ينعقد».
(8) قوله: «أخطأ»سقط من (ح).
(9) في (ح): ((تخطية)).
(10) في (ك): «لسيبويه».
(11) قوله: ((إن)) سقط من (ح).
(12) قوله: «هذا»سقط من (ح) و(ك).
(13) قوله: «بعض»سقط من (ح).
(14) في (ح): ((شنن)).
(15) أخرجه الطيالسي (171)، وأحمد (1/96)، والترمذي (3637)، وفي "الشمائل" (5)، وابن سعد (1/411) من طريق المسعودي، عن عثمان بن هرمز، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن علي رضي الله عنه في وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه: شثن الكفين والقدمين .?
وأخرجه ابن أبي شيبة (11/514)، وأحمد (1/116)، وأبو يعلى (369)، وابن حبان (6311)، والبزار (474)، والبيهقي في "الدلائل" (1/245) من طريق شريك النخعي، عن عبدالملك بن عمير، عن نافع بن جبير، عن علي رضي الله عنه به .?
وذكر البخاري معلَّقًا في "صحيحه" (10/357) قال: وقال هشام عن معمر، عن قتادة، عن أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شثن القدمين والكفين .
قال ابن حجر (10/359): وصله الإسماعيلي من طريق علي بن بحر، عن هشام بن يوسف به سواء .
(16) هو: الشماخ، وانظر"ديوانه" (ص108) مع اختلاف يسير .(3/1165)
أَمِنْ دِمِنتين عرَّج الركبُ فيهما بحقل الرُّخامى قد عفا طللاهُما
أقامَتْ عَلَى رَبْعَيهِما جارَتا صَفًا كُميتا الأعالي جونتا مصطلاهما
وقد تعسَّف المانع في تأويل هذا السماع بما تمجُّه الأسماع، ولتفصيل ذلك مبسوطات النحو، ومن تمسك بالسماع فرد حجَّته لا يستطاع.
وقولها: «لا تبثُّ حديثنا تبثيثًا (1) »؛ يُروى بالباء بواحدة، من البث: وهو الاظهار والإشاعة، فتصفها بكتمان ما تسمعه من الحديث، وهذا يدلّ على عقلها، وأمانتها، ويُروى بالنون، وهو بمعنى الأول. يقال: بثَّ الحديث إذا أنثاه (2) ، وفي الصحاح: بث (3) الخبر، وأبثه: إذا أفشاه، ونثَّه بالنون ينثّه بالضم كذلك، وأنشد:
إذا جاوَزَ الاثنين سرٌّ فإنَّهُ بِنَثٍّ (4) وتكْثِيرِ الوُشَاةِ قَمينُ (5)
وقولها: «ولا تنقَّث (6) ميرتنا (7) تنقيثًا»؛ أصل (8) التنقيث (9) : الإسراع. يقال: خرجت &(6/281)&$ أنقث (10) - بالضم -؛ أي: أسرع السير، وكذلك أنتقث (11) . والميرة: ما يمتار من موضع إلى موضع من الأطعمة، وأرادت: أنها أمينةٌ على حفظ طعامنا وحافظة له.
وقولها: «ولا تملأ بيتنا تعشيشًا»؛ يُروى هذا (12) بالعين المهملة والمعجمة، فعلى المهملة فسَّره الخطابي بأنها لا تفسد الطعام المخبوز، بل تتعهده بأن تطعمنا منه أولاً فأولاً، وتلاه على هذا التفسير المازري، وهذا إنما يتمشَّى على رواية من رواه: ولا تفسد ميرتنا تعشيشًا. وأما على رواية ما صح هنا من قولها: ولا تملأ، فلا يستقيم؛ وإنَّما معناه: أنها (13) تتعهَّد بيتها بالنظافة والكَنْس، ولا تترك كناسة في البيت، حتى يصير كعش الطائر، وأما رواية الغين المعجمة فهو من الغش والخيانة؛ أي: لا تخوننا في شيء من ذلك، ولا %(3/1166)%
__________
(1) في (ح): ((يتثيثًا)).
(2) في (ح): ((أفشاه)).
(3) في (ح): يشبه ((يبث)).
(4) في (ك): «ينث».
(5) ولجميل بثينة بيت شبيه به مع فرق سير. انظر "ديوانه" (ص45).
(6) في (ح) و(ك): مهملة التاء والنون .
(7) في (ح): «ميرتها»، وفي (ك): «مترتها».
(8) قوله: ((أصل)) سقط من (ح).
(9) في (ح) و(ك): «التنفيث».
(10) في (ح): «أنفث».
(11) في (ح): «النقث».
(12) قوله: «هذا»سقط من (ك).
(13) في (ك): «أن».(3/1166)
تترك النصيحة في صنعة. والأوطاب: جمع وطب، وهو من الجموع النادرة، فإنَّ «فَعْلاً»في الصحيح قياسه =(6/347)=@ أن يأتي في القلة على أفعل، وفي الكثرة على فُعُول، وفِعَال، وهي: أسقية اللبن، وتُمَخَّض (1) : تحرِّك ليخرج (2) زبدها .
وقولها: «يلعبان من تحت خصرها برمَّانتين»؛ قال ابن أبي أويس: تعني بالرمانتين: ثدييها. قال أبو عبيد: ليس هذا موضه (3) ؛ وإنَّما معناه (4) : أنها عظيمة الكفل، فهي (5) فإذا استلقت صار بينها وبين الأرض فجوة يجرى فيها الرُّمان، قال القاضي: وما أنكره أبو عبيد أظهر وأشبه، لا سيما وقد روي: من تحت صدرها، ومن تحت درعها، ولأن العادة لم تجر برمي الصبيان الرمان تحت (6) أصلاب أمهاتهم، ولا باستلقاء النساء كذلك (7) ، حتى يشاهد ذلك منهن الرجال، والأشبه: أنهما رمانتا الثدي، شبههما بذلك (8) لنهودهما، ودلَّ على ذلك (9) صغر سنها.
وقولها: «فنكحتُ بعده رجلاً سريًا، ركب شريًا، وأخذ خطيًا، وأراح عليَّ نَعَمًا ثريًا السري - بالسين المهملة -: هو السيِّد الشريف، ومنه قوله تعالى: } قد جعل ربك تحتك سريًّا { (10) ؛ على قول الحسن (11) ، وسراة كل شيء: خياره، وسروات الناس: كبراؤهم، وحكى يعقوب فيها الشين المعجمة .
وقولها: «وركب شريًّا»؛ أى: فرسًا سريعًا. يُقال: استشرى الفرس؛ إذا لَجَّ في سيره ومضى فيه، وقال يعقوب: فرس شري: خيارٌ، وهو بالمعجمة لا غير. والخطي: الرمح؛ منسوب إلى &(6/282)&$ موضع بالبحرين يقال له: الخط. والنعم: الإبل. وثريًّا: كثيرة كالثرى، وهو التراب. وأراحها: أتى (12) بها إلى مراحها، وهو موضع مبيتها. %(3/1167)%
__________
(1) في (ك): «تحمص».
(2) في (ح): ((ليستخرج)).
(3) في (ح): ((موضعه)).
(4) في (ح): ((معناها)).
(5) قوله: «فهي»سقط من (ح) و(ك).
(6) في (ح): ((من تحت)).
(7) في (ح): «لذلك».
(8) في (ك): «بذلك».
(9) في (ح) و(ك): «ذلك على».
(10) الآية (24) من سورة مريم .
(11) في (ح) يشبه: ((الحسين)).
(12) في (ك): «أي أتى».(3/1167)
وقولها: «وأعطاني من كل رائحة زوجًا»؛ رائحة - بالراء -: هو اسم فاعل من =(6/348)=@ راح، تعني: أنه أعطاها من كل صنف من الإبل، والغنم، والبقر (1) . والزوج: الصِّنف، كما قال تعالى: } وكنتم أزواجًا ثلاثة { (2) . وقد يراد بالزوج: اثنان. يقال فرد وزوج، وزوج المرأة: بعلها، وهي زوجٌ له. وقد جاء زوجه، ويقال: هما زوجان للاثنين، وهما زوج، كما يقال: هما سيّان، وهما سواء، قاله الجوهري. وقال غيره: ولا يوضع الزوج على الاثنين أبدًا. قال الله تعالى: } وأنَّه خلق الزوجين الذكر والأنثى (3) { (4) ، وقد رويت هذه الكلمة: ذابحة بالذال المعجمة، من الذبح، وتكون فاعلة بمعن مفعولة؛ كـ } عيشة راضية { (5) ؛ أي (6) : مرضية؛ يعني: أنه أعطاها من كل شيء يذبح.
وقوله: «فكلي أم زرع، ومِيري أَهْلَكِ»؛ أباح لها أن تأكل ما شاءت من طعامه، وأن تبعث منه بما شاءت لأهلها، مبالغة في إكرامها، وفي الاحتفال بها، ومع ذلك كله، فكانت أحواله كلها عندها محتقرة بالنسبة %(3/1168)%
__________
(1) في (ك): «والبقر والغنم».
(2) الآية (7) من سورة الواقعة .
(3) في (ك): «والأنثى من».
(4) الآية (45) من سورة النجم .
(5) الآية (7) من سورة القارعة .
(6) في (ك): «بمعنى»بدل «أي».(3/1168)
إلى أبي زرع، ولذلك قالت: فلو جمعت كل شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية (1) أبي زرع، وسبب ذلك: أن أبا زرع كان الحبيب الأول. كما قال الشاعر (2) :
نقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوىما الحبُّ إلا للحبيب الأوَّلِ (3)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع»؛ تطييب لقلبها، ومبالغة في حسن عشرتها، ومعناه: أنا لك، وهذا نحو قوله تعالى: } كنتم خير أمَّة أخرجت { (4) ؛ أي: أنتم، ويمكن بقاؤها على ظاهرها؛ أي: كنت لك في علم الله =(6/349)=@ السَّابق، ويمكن (5) أن تكون مِمَّا أريد بها الدوام، كما قال تعالى: } وكان الله سميعًا بصيرًا { (6) .
وحديث أم زرع هذا فيه أحكام:
منها: جواز محادثة الأهل، ومباسطتهن بما لا ممنوع فيه.
وفيه: جواز إعلام الزوج زوجته بمحبته إياها بالقول إذا لم يؤد &(6/283)&$ ذلك إلى مفسدة في حاله بحيث تهجره، وتتجرَّأ (7) عليه.
وفيه: ما يدل على أن ذكر عيوب من ليس بمعين لا يكون غيبة، وفيه جواز الانبساط بذكر طُرَفِ الأخبار، ومُستطابات الأحاديث، وتنشيط النفوس بذلك، وجواز ذكر (8) محاسن الرجال للنساء (9) ، ولكن إذا كانوا مجهولين بخلاف المعيَّن، فإنَّ ذلك هو المنهي عنه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها» (10) .
وفيه: ما يدل على جواز الكلام بالألفاظ الغريبة والأسجاع، وأن ذلك لا يكره؛ وإنَّما يكره تكلف ذلك في الدُّعاء. =(6/350)=@ %(3/1169)%
__________
(1) في (ك): «أبيه».
(2) هو: أبو تمام الطائي، والبيت في "ديوانه" (2/290).
(3) قوله: ((الأول)) سقط من (ح).
(4) الآية (110) من سورة آل عمران .
(5) من قوله: «بقاؤها ....»إلى هنا سقط من (ح).
(6) الآية (134) من سورة النساء .
(7) في (ك): «وتجني»، وتشبه ذلك في (ت).
(8) قوله: «ذكر»سقط من (ك).
(9) في (ك): «محاسن النساء للرجال، وذكر محاسن الرجال للنساء».
(10) أخرجه البخاري (9/338 رقم5240 و5241) في النكاح، باب لا تباشر المراة المرأة فتنعتها لزوجها .(3/1169)
- - - - -
ومن باب فضائل فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
سيدة نساء العالمين رضي الله عنها، وقد اختلف في أصغر بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) . قال أبو عمر (2) : والذي تسكن (3) النفس إليه: أن زينب هي الأولى، ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ولدت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنه إحدى وأربعين من مولده - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها علي رضي الله عنهما بعد وقعة أحد (4) . وقيل: بعد أن (5) ابتنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة رضي الله عنها بأربعة أشهر ونصف شهر، وبنى بها عليٌّ بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف، وكان سِنُّها يوم تزوجها رضي الله عنهما خمس (6) عشرة سنة وخمسة أشهر ونصفًا، وسِنُّ علي يومئذ: إحدى وعشرون (7) سنة وستة أشهر، فولدت له الحسن والحسين، وأم كلثوم، وزينب، وتوفيت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيسير. قيل: بثمانية أشهر (8) . وقيل: بستة أشهر (9) . وقيل: بثلاثة أشهر(5). &(6/284)&$ وقيل: بسبعين يومًا. وقيل: بمئة يوم. وهي أحبُّ بناتِ رسول الله (10) - صلى الله عليه وسلم - إليه، وأكرمهن عنده، وسيدة نساء أهل الجنة على ما تقدَّم في باب خديجة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر يبدأ بالمسجد فيصلِّي فيه، ثم يبدأ ببيت فاطمة فيسال عنها، ثم يدور على سائر نسائه (11) ، إكرامًا لها، واعتناء بها، وهي أوَّل من سُتِر =(6/351)=@ نعشُها في الإسلام (12) ، وذلك أنها لما احتضرت قالت لأسماء %(3/1170)%
__________
(1) في (ح): ((النبي صلى الله عليه وسلم)).
(2) "الاستيعاب" (13/112).
(3) في (ح): ((الذي)) بلا واو.
(4) قال الحافظ في "الإصابة" (13/73): «وفي الصحيحين عن علي قصة الشارفين لما ذبحهما حمزة، وكان علي أراد أن يبني بفاطمة، فهذا يدفع قول من زعم أن تزويجه بها كان بعد أحد، فإن حمزة قتل بأحد».
(5) قوله: «أن»سقط من (ك).
(6) في (ك): «خمسة».
(7) في (ك): «عشرين».
(8) قوله: «أشهر»سقط من (ك).
(9) قوله: ((أشهر)) سقط من (ح).
(10) في (ح): ((النبي)) بدل ((رسول الله)).
(11) أخرجه العقيلي (3/351)، والطبراني في "الكبير" (22/225-226 رقم595 و596)، والحكام (3/155)، وابو نعيم في "الحلية" (2/30)، و(6/123-124) جميعهم من طريق أبي فروة يزيد بن سنان الرهاوي، عن عقبة بن رويم، عن أبي ثعلبة الخشني قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رجع من غزاة أو سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم ثنى بفاطمة، ثم يأتي أزواجه ... الحديث .
وهو حديث حسن لغيره، انظر "مختصر استدراك الذهبي" (3/1602-1604 رقم 594) بتحقيقي .
(12) أخرجه الحاكم (3/162) من طريق الواقدي، وهو متروك .(3/1170)
بنت عُميس: إني قد استقبحتُ ما يُفْعَلُ بالنساء؛ إنه يُطْرَحُ على المراة الثوبُ يصفها، فقالت أسماء: يا بنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! ألا أريكِ شيئًا رأيتُه في الحبشة (1) ؟! فدعت بجرائد رطبةٍ، فَحَنَتْها، ثم طرحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله تُعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا مِتُّ، فاغسليني أنت وعليٌّ، ولا تُدْخلي أحدًا. فلما توفيت جاءت عائشة لتدخل، فقالت أسماء: لا تدخلي. فشكت إلى أبي بكر وقالت: إن هذه الخثعمية تحول بيننا وبين بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد جعلت لها مثل هودج العروس، فجاء أبو بكر فوقف على الباب، فقال: يا أسماء! ما حَمَلَكِ على (2) أن منعت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلن على بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وجعلت (3) لها مثل هودج العروس؟ فقالت: أمرتنى ألاَّ يدخل عليها أحد، وأريتها هذا الذي صنعتُ، فأمرتني أن أصنع ذلك بها. قال أبو بكر رضي الله عنه: اصنعي ما أمرتك، ثم انصرف (4) . وغسَّلها عليٌّ، وأشارث أن يدفنها ليلاً، وصلَّى عليها العباس، ونزل في قبرها هو وعلي والفضل، وتوفيت وهي بنت ثلاثين سنة، وقيل: بنت خمس وثلاثين.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها»؛ البضعة - بفتح الباء -: القطعة من اللحم، وتجمع بضاع، كقصعة وقصاع، وهي مأخوذة من البضع، وهو القطع، وقد سَمَّاها في الرواية الأخرى: «مُضْغَة»، وهي قَدْرُ ما يمضغه الماضغ، ويعني بذلك: أنَّها كالجزء منه يؤلمه ما آلمها (5) . و «يريبني ما رابها (6) »: أي يشق على ويؤلمني. يقال: رابني فلان: إذا رأيت منه %(3/1171)%
__________
(1) في (ك): «رأيته بالحبشة».
(2) قوله: «على»سقط من (ك).
(3) في (ح): ((وجعلتي)).
(4) أخرجه الحاكم (3/163-164)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/43)، وابن عبدالبر في "الاستيعاب" (13/121-122). ثلاثتهم من طريق محمد بن موسى، عن عون بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أمه أم جعفر بنت محمد بن جعفر، وعن عمارة بن المهاجر، عن أم جعفر: أن فاطمة قالت لأسماء بنت عميس: يا اسماء إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها ، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله! ألا أريك شيئًا رأيته بأرض الحبشة فدعت بجرائد رطبة فحنتها، ثم طرحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله تعرف به المرأة من الرجال، فإذا أنا مت فاغسليني أنت وعلي، ولا تدخلي علي أحدًا، فلما توفيت جاءت عائشة تدخل ...، الحديث .?
هذا لفظ ابن عبدالبر .?
قال الحافظ في "الإصابة" (13/57): «واستبعده بن فتحون، فإن أسماء كانت حينئذ زوج أبي بكر الصديق، قال: فكيف تنكشف بحضرة علي في غسل فاطمة، وهو محل الاستبعاد».?
وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (3/396): «في سنده من يحتاج إلى كشف حاله، ثم الحديث مشكل، ففي الصحيح أن عليًّا دفنها ليلاً، ولم يعلم أبا بكر، فكيف يمكن أن يغسلها زوجه أسماء وهو لا يعلم، ووزع أسماء يمنعها أن لا تستأذنه، ذكر ذلك البيهقي في الخلافيات، واعتذر عنه بما ملخصه أنه يحتمل أن أبا بكر علم ذلك، وأحب أن لا يرد غرض علي في كتمانه، انتهى كلامه».
وقال ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (12383): «فاطمة رضي الله عنها أول من غطي نعشها من النساء في الإسلام على الصفة المذكورة في هذا الخبر، ثم بعدها زينب بنت جحش رضي الله عنها، صُنع ذلك بها أيضًا».
وفي سند الحديث: أم جعفر، وهي أُم عون بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب، ويقال لها: أم جعفر، روت عن أسماء، وروى عنها ابنها عون، وأم عيسى الجزار. وفي "التقريب" (ص1383 رقم8849): مقبولة. وعون بن محمد بن علي بن أبي طالب: بيض له البخاري في "تاريخه" (7/16 رقم71)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل" (6/386 رقم2147)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (7/279).
(5) في (ك): «ما يؤلمها».
(6) قوله: «ما رابها»سقط من (ح) و(ك).(3/1171)
ما تكرهه - ثلاثيًّا - والاسم منه: &(6/285)&$ الرِّيبة. =(6/352)=@ وهذيل تقول فيه: أرابني - رباعيًّا- والمشهور: أن أراب: إنما هو بمعنى صار ذا ريبة، فهو مريب، وارتاب بمعنى: شك، والرَّيب: الشك.
وقولها (1) : «هذا علي ناكحًا ابنة أبي جهل»؛ كذا الرواية: ناكحًا بالنصب على الحال؛ لأنَّ الكلام قبله مستقل بنفسه؛ لأنَّ قولها(4):«هذا علي»، كقولك: هذا زيد، لكن رفعه (2) أحسن لو روي؛ لأنَّه هو المقصود بالإفادة، و «علي»توطئة له.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن»؛ تأكيد لمنع الجمع بين فاطمة، وبين ابنة أبي جهل، لما خاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على فاطمة من الفتنة من أجل الغَيْرة، ولما توقع من مناكدة هذه الضَّرَّة؛ لأنَّ عداوة الآباء قد تؤئر في الأبناء.
وقوله: «وإني لست أحرم حلالاً، ولا أحل حرامًا»؛ صريح في أن الحكم بالتحليل والتحريم من الله تعالى؛ وإنَّما الرسول مُبلغ، ويُستدلُ به في (3) منع اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام، ومن منع جواز تفويض الأحكام إلى %(3/1172)%
__________
(1) في (ك): «وقوله».
(2) في (ح): ((الرفع)).
(3) في (ح): «من».(3/1172)
النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا حُجَّة فيه؛ لأنَّ اجتهاد المجتهد لا يوجب الأحكام، ولا ينشئها؛ وإنَّما هو مُظْهِر لها (1) ، =(6/353)=@ كما أوضحناه في الأصول.
ويفيد (2) هذا: أن حكم الله على عليٍّ، وعلى غيره التخيير في نكاح ما طاب له من النساء إلى الأربع، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما منع عليًّا من ذلك لما خاف على ابنته من المفسدة في دينها من ضرر عداوةٍ تَسري إليها، فتتأذى في نفسها، فيتأذى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسببها، وأذى النبي - صلى الله عليه وسلم - حرام، فيحرم ما يؤدي إليه. ففيه القول بسد الذرائع، وإعمال المصالح، وأن حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من حرمة غيره، وتظهر فائدة ذلك: بأن من فعل منا ما يجوز له فعله لا يمنع منه، وإن تأذى بذلك الفعل غيره، وليس ذلك (3) حالنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يحرم علينا مطلقًا (4) فعل كل شيء يتأذى به النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان في أصله مباحًا، لكنه إن أدَّى إلى أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتفعت الإباحة، ولزم التحريم.
وفيه: ما &(6/286)&$ يدلّ على جواز غضب الرَّجل لابنته وولده وحرمه، وعلى الحرص (5) في (6) دفع ما يؤدي إلى ضررهم؛ إذا كان ذلك بوجه جائز .
وفيه ما يدلّ على جواز خطبة الإمام الناس وجمعهم لأمر (7) يحدث.
وقوله: «والله لا تجتمع ابنة نبي الله وابنة عدوِّ الله عند رجل واحد أبدًا»؛ دليل على أن الأصل أن ولد الحبيب حبيب، وولد العدو عدوّ، إلى أن يتبين خلاف ذلك، وقد استنبط بعض الفقهاء من هذا منع نكاح الأَمَة على الحرَّة، وليس بصحيح؛ لأنَّه يلزم منه (8) منع نكاح الحرَّة الكتابية على المسلمة، ومنع نكاح ابنة المرتد على من ليس أبوها كذلك، ولا قائل به فيما أعلم. فدلَّ ذلك على أن (9) ذلك الحكم مخصوص بابنة أبي جهل وفاطمة رضي الله عنها. %(3/1173)%
__________
(1) قوله: «لها»سقط من (ح).
(2) في (ك): «ويفسر».
(3) في (ح): «كذلك».
(4) قوله: «مطلقًا»سقط من (ك) و(ح).
(5) في (ك): «الحرض».
(6) في (ك): «على».
(7) في (ح): ((للأمر)).
(8) في (ك): «عليه».
(9) قوله: «أن»سقط من (ك).(3/1173)
وقوله: «فترك عليٌّ الخطبة»؛ يعني: لابنة أبي جهل وغيرها، ولم يتزوَّج عليها، ولا تسرَّى حتى ماتت رضي الله عنها. =(6/354)=@
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن أبا العاص بن الربيع حدَّثني فصدقني، ووعدني فوفى لي»؛ أبو العاص هذا: هو زوج ابنة رسول الله (1) - صلى الله عليه وسلم - زينب رضي الله عنها، واسمه: لقيط -على الأكثر -. وقيل: مهشم بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة لأبيها، وكان (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنكحه زينب، وهي أكبر بناته وذلك بمكة فأحسن عشرتها، وكان مُحِبَّا لها، وأرادت منه قريش أن يطلقها فأبى، فشكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ثم أنَّه حضر مع المشركين ببدر فأُسِر، وحُمل إلى المدينة، فبعثت فيه زينبُ قلادتها، فردت عليها، وأُطلق لها، &(6/287)&$ وكان وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرسلها إليه ففعل، وهاجرت زينب، وبقي هو بمكة على شِرْكِه إلى أن خرج في عير لقريش تاجرًا، وذلك قبيل الفتح بيسير، فعرض لتلك (3) العير زيد بن حارثة في سرية من المسلمين (4) من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذها، وأفلت أبو العاص هاربًا إلى أن جاء إلى المدينة، فاستجار بزينب فأجارته، وكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس (5) في رد جميع (6) ما أُخذ من تلك (7) السَّرية، ففعلوا، وقال: إنه يردُّ أموال قريش، ويسلم، ففعل ذلك، فلذلك شكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «حدَّثني فصدقني، ووعدني فوفى لي». &(6/288)&$
وقول عائشة: «كن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده لم (8) يغادر منهن واحدة»؛ أي: لم يترك، ولم يغفل عن واحدة منهن، وهذا كان (9) لما اشتدَّ مرضُه، ومُرِّض في بيت عائشة. والسِّرار: السرُّ. يقال: سارره (10) يسارره سرًّا، وسرارًا، %(3/1174)%
__________
(1) في (ح): ((النبي)) بدل ((رسول الله)).
(2) في (ك): «كان».
(3) في (ح): يشبه ((لذلك)).
(4) قوله: «من المسلمين»سقط من (ح) و(ك).
(5) قوله: «الناس»سقط من (ك).
(6) قوله: ((جميع)) سقط من (ح).
(7) قوله: «تلك»سقط من (ك).
(8) في (ك): «ولم».
(9) قوله: «كان»سقط من (ك).
(10) في (ك): «سارّه».(3/1174)
ومُسارَّة. وبكاء فاطمة في أول مرَّة كان حزنًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أعلمها بقرب أجله، وضحكها ثانية =(6/355)=@ فرحًا (1) بما بشرها به من السلامة من هذه الدار، ولقرب الاجتماع به، وبالفوز بما لها عند الله من الكرامة، وكفى بذلك: أن قال لها: إنها سيدة نساء أهل الجنة، وقد تقدَّم الكلام على هذا في باب: خديجة .
وكونه - صلى الله عليه وسلم - كان جبريل يعارضه بالقرآن (2) كل سنة مرَّة؛ يدل على استحباب عرض القرآن على الشيوخ ولو مرَّة في السَّنة، ولما عارضه جبريل القرآن في آخر سنة مرتين استدل النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك على قرب أجله من =(6/356)=@ حيث مخالفة العادة المتقدِّمة، والله تعالى أعلم.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثر عليه الوحي في السنة التي توفي فيها حتى كمَّل الله من أمره ووحيه ما شاء أن يكمله. %(3/1175)%
__________
(1) قوله: «فرحًا»سقط من (ك).
(2) في (ح): ((القرآن)).(3/1175)
ومن باب فضائل أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)
واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر (2) بن مخزوم، واسم أبيها: حذيفة، يعرف بزاد الراكب، وكان أحد أجواد العرب المشهورين بالكرم، وكانت قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، وأسلمت هي وزوجها، &(6/289)&$ وكان (3) أول من هاجر إلى أرض الحبشة، ويقال: إن أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة. قال أبو عمر: وتزوج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد سنتين من الهجرة، بعد وقعة بدر، وعقد عليها في شوال، وابتنى بها في شوال. قال أبو محمد عبدالله بن علي الرَّشاطي: هذا وَهْمٌ شنيع، وذلك: أن زوجها أبا سلمة شهد أحدًا، وكانت أحد في شوال سنة ثلاث، فجرح فيها جرحًا اندمل، ثم انتقض (4) به فتوفي منه لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة أربع (5) ، وانقضت عدَّة أم سلمة منه في شوال سنة أربع، وبنى بها عند انقضائها. قال: وقد ذكر أبو عمر هذا (6) في صدر الكتاب، وجاء به على الصواب. وتوفيت أم سلمة في أول خلافة يزيد بن معاوية سنة ستين. وقيل: توفيت في شهر رمضان، أو شوال (7) سنة تسع وخمسين، وصلَّى عليها أبوهريرة، وقيل: سعيد بن زبد، ودفنت بالبقيع .
وأما زينب: فهي ابنة جحش بن رِئاب بن يعمر بن صَبِرة بن مرة بن كثير بن =(6/357)=@ غنم بن دُودان بن أسد بن خزيمة، وهي التي كانت تسامي عائشة في المنزلة عند رسول - صلى الله عليه وسلم - وقد أثنت عليها عائشة بأوصافها الحسنة %(3/1176)%
__________
(1) قوله: «رضي الله عنها زوج النبي r»سقط من (ح) و(ك).
(2) في (ك): «عمرو».
(3) في (ح): ((وكانا)).
(4) في (ك): «انقبض».
(5) قوله: «سنة أربع»سقط من (ح).
(6) قوله: «هذا»سقط من (ح).
(7) قوله: «أو شوال»سقط من (ك) و(ح).(3/1176)
المذكورة في باب عائشة، وكانت تفخر (1) على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول لهنَّ: أنكحكن أولياؤكن، وإن (2) الله أنكحني نبيه من فوق سبع سموات؛ تعني بذلك قوله تعالى: } زوجناكها (3) { (4) .
توفيت سنة عشرين في (5) خلافة عمر رضي الله عنه، وفي هذا العام استفتحت مصر. وقيل: توفيت سنة إحدى وعشرين، وفيها فتحت الإسكندرية، وكانت زينب هذه أوَّل أزواجه اللائي توفي عنهنَّ لحاقًا به، وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - زوجة (6) أخرى تسمَّى زينب بنت خزيمة الهلالية، وتدعى أم المساكين لحنوِّها عليهم، وهي من بني عامر، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث، ولم تلبث عنده &(6/290)&$ إلا يسيرًا؛ شهرين (7) أو ثلاثة، وتوفيت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت قبله تحت عبدالله بن جحش، قتل عنها يوم أحد .
وقول سلمان: «لا تكونن إن استطعت أول من يدخل (8) السوق، ولا آخر من يخرج منها، فإنَّها معركة الشيطان». كذا روى مسلم هذا الحديث موقوفًا (9) على سلمان من قوله. وقد رواه أبو بكر البزار (10) مرفوعًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق صحيح، وهو الذي يليق بمساق الخبر؛ لأنَّ معناه ليس مما يدرك بالرأي والقياس، وإنما يدرك بالوحي، وأخرجه الإمام أبو بكر البرقاني في كتابه مسندًا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم، عن (11) أبي عثمان النَّهدي عن سلمان. قال (12) : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تكن أوَّل من يدخل السوق، ولا آخر من بخرج منها؛ فإنَّها معركة الشيطان (13) ، فيها باض الشيطان وفرَّخ». والمعركة: موضع القتال، سُمِّي بذلك لتعارك (14) الأبطال فيه، ومصارعة بعضهم بعضا، فشبه =(6/358)=@ السوقَ، وفعل الشيطان بأهلها ونيله منهم بما يحملهم عليه من المكر، والخديعة، والتساهل في البيوع الفاسدة %(3/1177)%
__________
(1) في (ح): ((تفتخر)).
(2) في (ك): «فإن».
(3) في (ح): ((فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها)).
(4) الآية (37) من سورة الأحزاب .
(5) في (ك): «من».
(6) في (ك): «وكان النبي r له زوجة».
(7) في (ح): ((بشهرين)).
(8) في (ح): «تدخل».
(9) في (ك): «مرفوعًا».
(10) أخرجه البزار في "مسنده" (6/502 رقم2541)، والطبراني في "الكبير" (6/248 رقم6118)، والخطيب في "تاريخه" (12/426). ثلاثتهم من طريق القاسم بن يزيد ابن كليب، عن محمد بن فضيل، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن سلمان، مرفوعًا .
والقاسم بن يزيد: هو الوزان أبو محمد المقرئ، نقل الخطيب عن ابن أبي سعد أنه قال عنه: كان شيخ صدوق من الأخيار .اهـ.
ومحمد بن فضيل ثقة ثبت، وكذلك عاصم، وأبو عثمان هو النهدي.
(11) في (ح): «ابن».
(12) قوله: ((قال)) سقط من (ح).
(13) قوله: «فإنها معركة الشيطان»سقط من (ح) و(ك).
(14) في (ك): «لتعارض».(3/1177)
والكذب، والأيمان الكاذبة، واختلاط الأصوات، وغير ذلك بمعركة الحرب، وبمن يصرع فيها.
وقوله: «وبها ينصب رايته»؛ إعلام بإقامته في الأسواق، وجمع أعوانه إليه . فيها .
ويفيد هذا الحديث (1) : أن الأسواق إذا كانت موطن الشياطين ومواضع لهلاك الناس، فينبغي للانسان ألا يدخلها إلا بحكم الضرورة، ولذلك قال: «لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها»؛ ولأن من كان أول داخل فيها وآخر خارج منها كان ممن استحوذ عليه الشيطان، وصرفه عن أمور دينه، وجعل همَّه (2) السوق، وما يُفعل فيها (3) فأهلكه. فحق من ابتلاه الله تعالى بالسوق أن يخطر بباله: أنه قد دخل محل الشيطان، ومحل جنوده، وأنه إن أقام هنالك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز &(6/291)&$ من سوء عاقبته، وبليته. وقد تقدَّم القول في تمثل (4) الملائكة والجن في الصور المختلفة، وأن لهم في أنفسهم صورًا خلقهم الله تعالى عليها، وأن الإيمان بذلك كله واجب؛ لما دل عليه من السمع الصادق، وكان دحية بن خليفة رجلاً حسن الصورة، فلذلك تمثل بصورته جبريل عليه السلام، وهو دحية بن خليفة ابن فروة الكلبي، وكان من كبار =(6/359)=@ الصحابة، لم يشهد بدرًا، شهد أحدًا وما بعدها، %(3/1178)%
__________
(1) في (ح): «وهذا الحديث يفيد».
(2) في (ك): «همته».
(3) في (ك): «فيه».
(4) في (ك): «تمثيل».(3/1178)
وبقي إلى خلافة معاوية، وأرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر في سنة ست من الهجرة فآمن قيصر، وأبت بطارقته أن تؤمن، فأخبر دحية (1) بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ثبت ملكه» (2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أسرعكن لحاقًا بي أطولكن يدًا»؛ هذا خطاب منه لزوجاته - خاصة، ألا ترى أنه قال لفاطمة رضي الله عنها: «أنت أوَّل أهل بيتي لحوقًا بي» (3) ، فكانت زبنب أوَّل أزواجه (4) وفاة بعده، وفاطمة أوَّل أهل بيته وفاة، ولم يرد باللحاق به الموت فقط، بل: الموت والكون معه في الجنة والكرامة .
و «تطاول أزواجه بأيديهنَّ»مقايسة أيديهن بعضهن ببعض؛ لأنَّهن حملن الطول على أصله وحقيقته (5) ، ولم يكن مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ وإنَّما كان مقصوده: طول اليد بإعطاء الصدقات، وفعل المعروف، وبيَّن ذلك أنه: لما كانت زينب أكثر أزواجه فعلاً للمعروف والصدقات كانت أولهن موتًا، فظهر صدقه، وصح قوله - صلى الله عليه وسلم - . =(6/360)=@ &(6/292)&$ %(3/1179)%
__________
(1) قوله: «دحية»سقط من (ك).
(2) قصة إرسال دحية الكلبي لعظيم الروم أخرجها البخاري في "صحيحه" (7 و51 و2681 و2804 و2941 و2978 و3174 و4553 و5980 و6260 و7196 و7541، ومسلم (1773) من حديث أبي سفيان .
وقوله: «ثبت ملكه»ذكرها البيهقي في"الدلائل"(6/325)، وفي "السنن"(9/177).
(3) أخرجه مسلم (2450)، سيأتي في "التلخيص" برقم (2465) باب ....
(4) في (ك): «زوجاته».
(5) في (ك): «على حقيقته»، وسقط قوله: «أصله».(3/1179)
- - - - -
ومن باب فضائل أم أيمن رضي الله عنها
واسمها: بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين (1) بن مالك بن سلمة ابن عمرو بن النعمان، كنيت بابنها (2) أيمن بن عبيد (3) الحبشي، تزوجت بعد عبيدَ؛ زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد، كانت لأمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم صارث له بالميراث، وكان صلى الله عيه وسلم يقول: «أم أيمن أمي بعد أمي» (4) ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يُكْرِمها ويبرها مَبَرَّة الأم، ويكثر زيارتها، وكان - صلى الله عليه وسلم - عندها كالولد، ولذلك كانت تصخبُ عليه؛ أي: ترفع صوتها عليه. وتذمر؛ أي: تغضب وتضجر؛ فِعْل الوالدة بولدها، وقال الأصمعي: تذمَّر الرجل: إذا تغضب، وتكلم أثناء ذلك، وقال غيره: تذمَّر الرجل: إذا لام نفسه.
وزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما لها؛ دليل على فضلها، ومعرفتهم بحقها، وفيه دليل على زيارة النساء في جماعة. =(6/361)=@
وقول أم أيمن رضي الله عنها: «أبكي (5) أن الوحي قد انقطع من السماء»؛ «أن»مفتوحة؛ لأنَّها معمولة لأبكي بإسقاط حرف الجر، تقديره: أبكي لأن، أو: من أجل أن؛ تعني: أن الوحي لما انقطع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - %(3/1180)%
__________
(1) في (ب): «حضن».
(2) في (ك): «بأبيها».
(3) في (ك): «ابن عبيدالله».
(4) أخرجه ابن أبي خيثمة كما في "الإصابة" (8/169) عن سليمان بن أبي شيخ به مرسلاً، ومن طريقه أخرجه ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (7/1794)، والمزي في "تهذيب الكمال" (35/329). وذكره ابن الأثير في "أسد الغابة" (7/303)، وابن حجر في "الإصابة" (8/169)، وف ي"التهذيب" (12/486)، و"فتح الباري" (7/88)، وسليمان نب شيخ ولد سنة (151 هـ).
(5) قوله: ((أبكي)) سقط من (ح).(3/1180)
عمل الناس بآرائهم، فاختلفت مذاهبهم، فوقع التنازع والفتن، وعظمت المصائب والمحن، ولذلك (1) نجم بعده - صلى الله عليه وسلم - النفاق، وفشا الارتداد والشقاق، ولولا أن الله تعالى تدارك الدِّين بثاني اثنين لما بقي منه أثر ولا عين. &(6/293)&$
وقول أنس رضي الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل على النساء إلا على أزواجه إلا أم سليم»؛ إنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل على النساء؛ عملاً بما شرع من المنع من الخلوة بهنَّ، وليُقتدَى به في ذلك، ومخافة أن يقذف الشيطان في قلب أحد من المسلمين شرًّا (2) فيهلك، كما قال في حديث صفية المتقدِّم (3) ، ولئلا يجد المنافقون، وأهل الزيغ مقالاً؛ وإنما خصَّ أم سليم بالدُّخول عندها؛ لأنها كانت منه ذات محرمٍ بالرَّضاع كما تقدَّم، وليجبر قلبها من فجعتها بأخيها؛ إذ كان =(6/362)=@ قد قُتِل معه (4) في بعض حروبه (5) ، وأظنه يوم أحد (6) ، ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - من فضلها، كما دلَّ عليه رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها (7) في الجنة .
وأم سليم هذه هي: ابنةُ ملحان بن زيد (8) بن حرام (9) من بني النجار، وهي: أمُّ أنس بن مالك بن النَّضر، كانت أسلمت مع قومها، فغضب مالك لذلك، فخرج إلى الشام فهلك هنالك كافرًا، وقيل: قتل، ثم خطبها بعده أبو طلحة (10) ، وهو على شِركه، فأَبَتْ حتى يُسْلِم، وقالت: لا أريد منه صداقًا إلا الإسلام، فأسلم وتزوَّجها، وحسن إسلامه. فولدت له غلامًا كان قد أعجب به فمات صغيرًا، ويقال: إنه أبو عمير %(3/1181)%
__________
(1) في (ب): «وكذلك».
(2) في (ك): «شيئًا».
(3) في الأدب، باب اجتناب ما يوقع ف يالتهم .
(4) قوله: «معه»سقط من (ك).
(5) في (ب): «خروجه».
(6) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2801 و6146)، ومسلم (147) من كتاب الإمارة: أن حرام بن ملحان قُتل مع القراء يوم بئر معونة .
(7) في (ك): «لها».
(8) في (ك): «يزيد».
(9) في (ك): «حزام».
(10) أخرجه الطيالسي (ص273-274 رقم2056)، وعبدالرزاق (6/179 رقم 10417)، وابن سعد (8/426-427 و427)، والنسائي (6/114 رقم 3340 و3341) ف يالنكاح، باب التزويج على الإسلام. وسنده صحيح .(3/1181)
صاحب النُّغير، وكان أبو طلحة غائبًا حين مات، فغطته أم سليم (1) ، فجاء أبو طلحة، فسأل عنه، فكتمت (2) موته، ثم إنها تصنَّعت (3) له فأصاب منها، ثم أعلمته بموته، فشق ذلك &(6/294)&$ عليه، ثم إنه (4) أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فدعا لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما» (5) ، كما ذكر في "الأصل"، فبورك لهما بسبب تلك الدَّعوة، وولدت له: عبد الله بن أبي طلحة، وهو والد إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة الفقيه، إخوته (6) كانوا عشرة كلهم حمل عنه العلم، وإسحاق هو شيخ مالك رحمهما الله، واختلف في اسم أم سليم. فقيل: سهلة. وقيل: رملة. وقيل: مليكة. وهي النُّميصاء (7) المذكورة في الحديث، ويقال: الرُّميصاء، وقيل: إن الرميصاء (8) بالراء (9) هي: أم حرام (10) أختها، وخالة أنس.
والغميصاء: مأخوذ من الغمص، وهو ما سال من قذى العين عند البكاء والمرض، يقال بالصاد والسين، والرمص - بالراء -: ما تجمَّد (11) منه، قاله يعقوب وغيره.
وكانت أم سليم من عقلاء النساء وفضلائهن، شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا وحنينًا، روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، خُرج لها في الصحيحين أربعة أحاديث.
وقوله: «دخلتُ الجنة فسمعت خشفة»؛ هي بفتح الخاء وسكون الشين =(6/363)=@ المعجمتين، وهي صوتُ المشي، ويقال: خشخشة، كما جاء في الرواية الأخرى، وأصل الخشخشة: صوت الشيء (12) اليابس يحك بعضه بعضًا، ويتراجع، وكان هذا الدخول في الجنة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، كما قاله في حديث بلال المتقدِّم (13) ، ورؤياه حقٌ، فهي رضي الله عنها من أهل الجنة. &(6/295)&$ %(3/1182)%
__________
(1) يأتي في الباب الذي بعده .
(2) في (ب): «فكتمته».
(3) في (ك): «صنعت».
(4) قوله: «إنه»سقط من (ك).
(5) متفق عليه من حديث أنس، وسيأتي في باب .... .
(6) في (ح): ((وإخوته)).
(7) في (ح): ((العميصاء)).
(8) قوله: «إن» سقط من (ح).
(9) في (ب): «قالوا».
(10) في (ك): «حزام».
(11) في (ح): «هو ما تجمَّد».
(12) في (ك): «المشي».
(13) يأتي برقم (2368). ولم يسبق له ذكر .(3/1182)
- - - - -
ومن باب فضائل أبي طلحة رضي الله عنه
واسمه: زيد بن سهل من بني النجار، شهد المشاهد كلها، وكان أحد الرُّماة المذكورين من الصحابة رضي الله عنهم، وكان من الأبطال، قَتَل يوم حنين عشرين، وأخذ أسلابهم (1) ، وكان أبو طلحة يتطاول بصدره يوم أحد يقي =(6/364)=@ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النبل، ويقول: صدري دون صدرك (2) ، ونفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لصوت أبي طلحة في الجيش (3) خيرٌ من مئة رجل» (4) .
واختلف في وقت وفاته فقيل: سنة إحدى وثلاثين. وقيل: سنة أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان بن عفان، وروى حماد بن سلمة عن ثابت البناني، وعلي بن زيد، عن أنس: أن أبا طلحة سرد الصَّوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة (5) ، وأنه ركب البحر، فمات فدفن (6) في جزيرة (7) ، وقال المدائني: مات أبوطلحة سنة إحدى وخمسين، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك. روى (8) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستَّةً وعشرين حديثًا، أخرج له منها في الصحيحين أربعة أحاديث. &(6/296)&$ %(3/1183)%
__________
(1) أخرجه الطيالسي (ص276-277 رقم2079)، وابن سعد (3/505)، وابن أبي شيبة (6/482 رقم33074) في السير، باب من جعل السلب للقاتل. و(7/417 رقم36977) في المغازي باب غزوة حنين وما جاء فيها وأحمد (3/114 و123 و190 و279)، والدارمي (2/229) في كتاب السير، باب من قتل قتيلاً فله سلبه، وأبو داود (3/162 رقم2718) في الجهاد باب في السلب يعطى المقاتل، والطحاوي (3/227)، وابن حبان (11/166-167 و169-170 رقم4836 و4838/الإحسان)، والحاكم (3/353)، والبيهقي (3/306-307). جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حنين: «من قتل كافرًا فله سلبه»، فتل أبو طلحة يومئذٍ عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم .
قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في "الإرواء" (5/51-52 رقم1221).
تنبيه: وقع عند جميعهم: يوم حنين. وعند الحاكم: يوم أحد. وفي رواية الدارمي، لم يرد تعيين اليوم.
(2) تقدم في الجهاد، باب خروج النساء في الغزو .
(3) في (ك): «البيت».
(4) رواه ابن جدعان علي بن زيد، وثابت، وعبدالله بن محمد عقيل، ثلاثتهم عن أنس به.
وأما رواية ابن جُدْعان فأخرجه الحميدي (1202)، وعنه أبونعيم في "الحلية" (7/309)، وسعيد بن منصور في "سننه" (2898)، وأحمد (3/261)، والبخاري في "الأدب المفرد"(802)، وأبويعلى (3983 و 3993)، والحاكم في "المستدرك" (3/352)، والخطيب في "تاريخه" (13/224) كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن جدعان. وأخرجه أحمد(3/249) عن حماد بن سلمة، عن ابن جدعان .
وأما رواية ثابت البناني، فأخرجها ابن أبي شيبة (33412)، وعنه عبد بن حميد (1384)، وأحمد في "المسند" (3/203) من طريق يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ثابت به .?
وأما رواية عبدالله بن عقيل فأخرجها ابن سعد في "الطبقات" (3/505) عن محمد بن عبدالله الأسدي، وقبيصة بن عقبة، عن سفيان الثوري، عن عبدالله بن عقيل به، ولكن قال فيه: «عن جابر او أنس».
وأخرجها الحاكم (3/352)، والحارث بن أبي أسامة (1026) عن قبيصة به .
وعند الحاكم: عن جابر وأنس - وأظنه سقطت الألف من «أو»-. قال الحاكم: رواته عن آخرهم ثقات، وإنما يعرف هذاالمتن من حديث علي بن زيد بن جدعان، عن أنس .اهـ.
(5) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" (1/562 رقم1540)، والطبارني في "الكبير" (5/91 رقم4680)،، والحاكم (3/353).
ثلاثتهم من طريث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن أن أبا طلحة سرد الصَّوم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة، لا يفطر إلا يوم فطر أو أضحى .
قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم». ووافقه الذهبي. إلا أنه استغربه في السير (2/30) وقال في (ص29): «بل عاش بعده نيفًا وعشرين سنة».
وانظر "الإصابة" (4/56-57)، و"الاستيعاب" (4/64-65).
(6) قوله: «فدفن»سقط من (ح).
(7) أخرجه ابن سعد (3/507)، وأبو يعلى (6/138رقم3413)، وعنه ابن حبان (16/152 رقم7184/الإحسان). وأخرجه الطبراني في "الكبير" (5/92 رقم 4683)، والحاكم (3/353). جميعهم من طريق حماد بن سلمة - زاد بعضهم: وعلي بن زيد -، عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن أبا طلحة قرأ سورة هذه الآية: انفروا خفافًا وثقالاً، فقال: ألا أرى ربي يستنفرني شابًا وشيخًا، جهزوني، فقال له بنوه: قد غزوت مع رسول الله حتى قبض، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر، فنحن نغزو عنك. فقال: جهزوني، فجهزوه، فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، فلم يتغير .?
قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم». وصححه الحافظ في "الإصابة" (4/57).
(8) في (ك): «وروي».(3/1183)
وقوله: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما»؛ أى: في ماضيها، وقد تقدَّم أن غبر من الأضداد. يقال: غبر الشيء: إذا ذهب، وغبر: إذا بقي. وصنيع (1) أم سليم، =(6/365)=@ ووعظها له يدلّ على كمال عقلها وفضلها وعلمها. وملازمة أبي طلحة للكون (2) مع رسول الله (3) - صلى الله عليه وسلم - في سفره وحضره، ومدخله ومخرجه: دليل على كمال محبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصدق رغبته في الجهاد، والخير وتحصيل العلم.
ورفع وجع المخاض - وهو الولادة- عن أم سليم عند دعاء (4) أبي طلحة دليل على كرامات الأولياء، وإجابة دعواتهم، وأن أبا طلحة وأم سليم منهم. والطَّروق: هو المجيء بالليل. والميسم: المكوى الذي يُوسَم به الإبل؛ أي: تُعلَّم.
وفي هذا الحديث أحكام واضحة قد تقدَّم التنبيه على أكثرها. =(6/366)=@ &(6/297)&$ %(3/1184)%
__________
(1) في (ك): «وصنع».
(2) في (ب): «ليكون».
(3) في (ح): ((النبي)) بدل ((رسول الله)).
(4) قوله: «دعاء»سقط من (ك).(3/1184)
- - - - -
ومن باب فضائل بلال بن رباح (1) رضي الله عنه
وتُسمَّى أمُّه: حمامة، واختلف في كنيته، فقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو عبدالكريم (2) ، وقيل: أبو عبدالرحمن، وقيل: أبو عمرو، وكان (3) حبشيًّا. قال ابن (4) إسحاق: كان بلال لبعض بني جُمَح مُوَلَّدًا من مولّديهم، وقيل (5) من مُولَّدي مكة، وقيل: من مولدي السّراة، وقال عبدالله بن مسعود: أول من أظهر الإسلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وعمار، وأمه سُمَيَّة، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، وألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وأتاهم على ما أرادوه (6) منه إلا بلالاً، فإنَّه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: «أحد، أحد» (7) ، وفي رواية: وجعلوا الحبل في عنقه، وقال سعيد بن المسيِّب (8) : كان بلال شحيحًا على دينه، وكان يعذب على دينه، فإذا أراد المشركون أن يقاربهم قال: الله، الله. فاشتراه أبو بكر بخمس أواق، وقيل: بسبع. وقيل: بتسع، فاعتقه، فكان يؤذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يروح إلى الشام، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: بل (9) تكون عندي، فقال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله فذرني أذهب إليه، فقال: اذهب، فذهب إلى الشام، فكان بها حتى مات رضي الله عنه .
قلت: وظاهر هذا: أنَّه لم يؤذن لأبي بكر، وقد ذكر ابن أبي شيبة (10) عن حسين بن علي، عن شيخ يقال له: الحفصي، عن أبيه، %(3/1185)%
__________
(1) قوله: «ابن رباح»سقط من (ك).
(2) في (ك): «أبو عبيد الكريم».
(3) في (ب) و(ح): «كان» بلا واو.
(4) قوله: «ابن»سقط من (ك).
(5) في (ب) و(ح): «قيل» بلا واو.
(6) في (ك): «أرادوا».
(7) أخرجه ابن أبي شيبة (7/252 و338 رقم35784 و36582) في الأوائل، باب أول ما فعل ومن فعله. وفي المغازي، باب إسلام أبي بكر، وأحمد (1/404)، وابن حبان (15/558-559 رقم7083/الإحسان)، وابن ماجه (1/53 رقم150) في المقدمة، باب فضائل سلمان، والحاكم (3/284)، وابن عبدالبر في "الاستيعاب" (2/27-28)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/149) جميعهم من طريق زائد بن قدامة، عن عاصم، عن زر، عن عبدالله: إن أول من أظهر إسلامه سبعة ...، فذكره .
قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي .
وله طريق أخرى: أخرجه ابن سعد (3/233)، وابن أبي شيبة (6/399 رقم 32324) في الفضائل، باب في بلال رضي الله عنه وفضله، و (7/249 و337-238 رقم 35752 و36575) في الأوائل، باب أول من فعل ومن فعله، وفي المغازي، باب إسلام أبي بكر، كلاهما عن جرير بن عبدالحميد، عن منصور، عن مجاهد، قوله. وصححه الذهبي في "السير"(1/348)، والحافظ في "الإصابة" (12/316).
(8) ذكر الزيلعي في "نصب الراية" (1/295)، وابن حجر في "الدراية" (1/122)، وفي "التلخيص (1/199): أن أبا دواد روى في "سننة" عن عبدالرزاق، ثنا معمر، عن عطاء الخرساني، عن سعيد بن المسيب: أن بلالاً كان يؤذن لرسول الله r ...، فذكره. وهو مرسل. وأصل الحديث في "صحيح البخاري" (3755) عن ابن نمير، عن محمد بن عبيد، ثنا إسماعيل، عن قيس: أن بلالاً قال لأبي بكر: إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت اشتريتني لله فدعني وعمل الله .
(9) قوله: «بل»سقط من (ك).
(10) أخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده" كما في "إتحاف الخيرة" للبوصيري (1/ق/139/أ)، وعنه أخرجه عبد بن حميد (361)، وأبو يعلى في "المسند" كما في"إتحاف الخيرة" للبوصيري (1/ق/139/أ). وأخرجه الروياني في "مسنده" (734) عن سفيان بن وكيع. كلاهما ابن أبي شيبة، وسفيان بن وكيع، عن حسين بن علي به. وأخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب الذان، كما في "كنز العمال" (8/341) عن الحفصي رجل من الأنصار، عن أبيه، عن جده، به نحوه .
وله طريق أخرى: أخرجه ابن سعد (3/235-236)، والطبراني في "الكبير" (1/338 و353-354 رقم1013 و1076)، وابن الأثير في"أسد الغابة" (1/244). ثلاثتهم من طريق عبدالرحمن بن سعد بن عمار بن سعد بن عمار بن سعد المؤذن، عن عبدالله بن محمد بن سعد، وعمار بن حفص بن عمر بن سعد، وعمر بن حفص بن عمر بن سعد، عن آبائهم، عن أجداده: أنهم أخبروه ... الحديث. قال الهيثمي في "ألمجمع" (5/274): «ورواه الطبراني، وفيه عبدالرحمن بن سهل بن عمار، وهو ضعيف». وانظر "ألفتح" (7/99).(3/1185)
عن جده قال: أذن بلال &(6/298)&$ حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أذَّن لأبي بكر حياته، ولم يؤذِّن في زمان عمر، فقال له =(6/367)=@ عمر: ما منعك أن تؤذن؟ قال: إني أذنت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قبض، وأذنت لأبي بكر رضي الله عنه حتى قبض؛ لأنَّه كان ولي نعمتي، وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا بلال ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله» (1) . فخرج فجاهد. ويقال: إنه أذن لعمر رضي الله عنه إذ دخل الشام، فبكى عمر، وبكى المسلمون. وكان بلال خازنًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال عمر: أبو بكر سيدنا، وأعتق بلالاً سيدنا (2) . وتوفي بلال بدمشق، ودفن عند الباب الصغير بمقبرتها سنة عشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقيل: سنة إحدى وعشرين، وهو ابن سبعين (3) .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال: «حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة»؛ هذا السُّؤال إنما أخرجه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما اطَّلع عليه من كرامة بلال رضي الله عنه بكونه أمامه في الجنة، فسأله عن العمل الذي لازمه حتى أوصله إلى ذلك. وقد جاء هذا الحديث في كتاب الترمذي بأوضح من هذا من حديث بريدة بن الحصيب (4) ، قال: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا بلالاً، فقال: «يا بلال! بم سبقتني إلى الجنة؟ فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، دخلت البارحة الجنَّة فسمعت خشخشتك أمامي...»، وذكر الحديث. فقال بلال: يا رسول الله! ما أذنت (5) إلا صليت ركعتين، ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده، ورأيت أن لله تعالى علي ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بهما (6) ». قال (7) أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، فلنبحث في هذا الحديث. =(6/368)=@ %(3/1186)%
__________
(2) أخرجه البخاري (7/99 رقم3754) في فضائل الصحابة، باب مناقب بلال بن رباح رضي الله عنه .
(3) في (ك): «سبيعن سنة».
(4) أخرجه أحمد (5/354 و360)، والترمذي (5/579 رقم3689) في المناقب، باب في مناقب عمر، وابن خزيمة (2/213-214 رقم1209)، وابن حبان (15/561 و562 رقم7086 و7087/الإحسان)، والبغوي (4 رقم1012).
جميعهم من طريق الحسين بن واقد، عن عبدالله بن بريدة، قال: حدثني أبي ...، الحديث. قال الترمذي: «صحيح غريب».
وقال الألباني في "تمام المنة" (ص111): «وإسناده صحيح على شرط مسلم».
وصححه الحاكم (3/285) على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي .
(5) في (ح): ((ما أذنت قط إلا)).
(6) في (ب): «بهما بهما».
(7) في (ك): «فقال».(3/1186)
وقوله: «بم سبقتني إلى الجنة؟»لا يفهم من هذا أن بلالاً يدخل الجنة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنَّ ذلك ممنوع بما قد علم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو السابق إلى الجنة (1) ، وبما قد تقدَّم أنَّه أوَّل من يستفتح باب الجنة، فيقول الخازن: «بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك» (2) ؛ وإنما هذه رؤيا منام أفادت أن بلالاً من أهل الجنة، وأنه يكون فيها مع النبي &(6/299)&$ - صلى الله عليه وسلم - ومن ملازميه، وهذا كما قال في الغميصاء: «سمعت خشخشتك أمامي» (3) ، وقد لا يبعد (4) أن يقال في أسبقية (5) بلال أنها أسبقية (6) الخادم بين يدي مخدومه (7) ، والله تعالى أعلم.
وفيه ما يدلّ على أن استدامة بعض النوافل، وملازمتها في أوقات وأحوال (8) فضل فيه فضل عظيم، وأجر كثير، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدم عليها، ولا لازمها، ولا اشتهر العمل بها عند أصحابه رضي الله عنهم، وأن ذلك لا ينكر على من لازمه ما لم يعتقد أن ذلك سنه راتبة له ولغيره، وهذا هو الذي منعه مالك حتى كره اختصاص شيء من الأيام، أو الأوقات بشيء من العبادات، من الصوم، والصلاة، والأذكار، والدعوات، إلا أن يعينه الشارع، ويدوم عليه، فأمَّا لو دام الإنسان على شيء من ذلك في خاصة نفسه، ولم يعتقد شيئًا من ذلك، كما فعله بلال في ملازمة الركعتين عند كل أذان، وفي ملازمة الطهارة دائمًا ،?لكان ذلك يفضي (9) بفاعله إلى نعيم مقيم، وثواب عظيم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «بهما»؛ أي: بسبب ثواب ذينك (10) الأمرين وصلت إلى ما رأيتُ من كونك معي في الجنة (11) . =(6/369)=@ %(3/1187)%
__________
(1) في (ب): «السابق للجنة».
(2) تقدم في الإيمان، باب النبي R أكثر النبياء أتباعًا برقم (152).
(3) تقدم في باب فضائل أم أيمن وأم سليم .
(4) في (ح): ((ولا بعد)) بدل ((وقد لا يبعد)).
(5) في (ح): ((سبقية)).
(6) في (ح): ((سبقية)).
(7) ردَّ المناوي في "فيض القدير" (1/38) هذا الجمع؛ لأنه r قال في رواية بريدة عند الترمذي: «بم سبقتني ؟». ثم أورد جمعًا جيدًا بانه ثبت أن دخوله r يتعدد كما في الحديث الذي رواه ابن منده وفي البخاري نحوه: «أنا أول من تنشق الأرض عن جمجمتي ...»، وفيه أربع دخولات للجنة. فيكون الأول له وحده لا يسبقه إليه غيره، ويتخلل باقيها دخول غيره قبله .
(8) في (ب) و(ح): «أو أحوال».
(9) في (ك): «يفضي ذلك».
(10) في (ك): «ذلك» وفي (ح): ((ثواب فعل ذينك)).
(11) في (ب) و(ح): «في الجنة معي».(3/1187)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «حدِّثني بأرجى عمل عملته»؛ أي: بعمل (1) يكون رجاؤك لثوابه أكثر، ونفسك به أوثق. وفيه تنبية على: أن العامل لشيء من القرب ينبغي له (2) أن يأتي بها على أكمل وجوهها ليعظم (3) رجاؤه في قبولها، وفي فضل الله عليها، فيحسن (4) ظنه بالله تعالى، فإنَّ الله تعالى عند ظن عبده به، ويتضح لك هذا بمثل - ولله المثل الأعلى - أن الإنسان إذا أراد أن يتقرب إلى بعض (5) ملوك الدنيا بهدية أو تُحفة، فإنَّ أتى بها على أكمل وجوهها وأحسن حالاتها (6) ، قوي رجاؤه في قبولها، وحسن ظنه في إيصاله إلى ثوابها؛ لا سيما إذا كان المفدى (7) له موصوفًا بالفضل والكرم، وإن انتقص (8) شيئًا من كمالها (9) ضعف رجاؤه للثواب، وقد يتوقع الرد، لا سيما إذا علم أن المهدى له غني عنها (10) ، فأمَّا لو أتى بها واضحة النقصان؛ لكان ذلك من أوضح الخسران؛ إذ قد صار المهدى له كالمستصغر (11) المهان . &(6/300)&$
- - - - -
ومن باب فضائل عبدالله بن مسعود
ابن غافل بن حبيب بن شمخ بن مازن بن مخزوم الهذلي، يُكنى: أبا عبدالرحمن، وأمه: أم عبد بنت عبد ودّ الهذلية أيضًا، أسلم قديمًا وكان سبب إسلامه: أنه كان يرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط، فمرَّ (12) به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا غلام! هل من لبن ؟»قال: نعم! ولكني مؤتمن. قال: «فهل من شاة حائل لم ينز عليها الفحل ؟»فأتيتهُ بشاة شصوص (13) ، فمسح ضرعها (14) ، فنزل اللبن، فحلب في إناء وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: %(3/1188)%
__________
(1) في (ب): «عمل».
(2) قوله: «له»سقط من (ح).
(3) في (ك): «لتعظيم».
(4) في (ك): «فحسن».
(5) في (ب) و(ح): «بتقرب لبعض».
(6) في (ك): «حالتها».
(7) في (ح): ((المهدى)).
(8) في (ح) تشبه: «ينقض».
(9) في (ب) و(ح) و(ك): «ثوابها»، والمثبت من (م).
(10) في (ك): «عرير عليها»بدل: «غني عنها».
(11) في (ك): «على المستصغر».
(12) في (ك): «مر».
(13) في (ك): «سصوص».
(14) في (ك): «بضرعها».(3/1188)
«اقلص»فقلص، فقلت: يا رسول الله! =(6/370)=@ علمني من هذا القول. فقال (1) : «رحمك الله! إنك غُلَيِّمٌ معلَّمٌ» (2) ، فأسلم (3) ، وضمَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه. فكان يلج عليه، ويلبسه نعله، ويمشي أمامه ومعه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وقال له: «إذنك علي أن ترفع الحجاب، وأن تسمع سِوَادي حتى أنهاك» (4) ، وكان يعرف في الصحابة بصاحب السِّرار (5) ، والسَّواد، والسِّواك (6) ، هاجر هجرتين إلى أرض الحبشة، ثم من مكة إلى المدينة، قاله الجوزي (7) . وصلَّى (8) القبلتين، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشاهده كلها، وكان يشبه (9) في هديه وسمته برسول (10) الله - صلى الله عليه وسلم - (11) ، وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة (12) ، وشهد له كبراء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه (13) من أعلمهم بكتاب الله قراءة &(6/301)&$ وعلمًا، وفضائله كثيرة.
توفي بالمدينة سنة ثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع، وصلَّى عليه عثمان، وقيل: بل صلَّى عليه عمَّار، وقيل: بل (14) صلَّى عليه الزبير ليلاً بوصيته، ولم يعلم عثمان بذلك، فعاتب عثمان الزبير على ذلك، والله تعالى أعلم. روى (15) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمئة حديث، وثمانية وأربعين حديثًا، أخرج له منها في الصحيحين: مئة وعشرون حديثًا (16) .
وقوله: لما نزلت: } ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ... { (17) الآية، قد (18) ذكرنا سبب نزول الآية، وتكلمنا على معناها في الأشربة .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «قيل لي: أنت منهم»؛ الخطاب لابن مسعود؛ أي: أوحي إلي =(6/371)=@ أنك يابن مسعود من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهذه تزكية عظيمة، ودرجة رفيعة، قلَّ من ظفر بمثلها (19) . %(3/1189)%
__________
(1) في (ك): «قال».
(2) أخرجه الطيالسي (ص47 رقم353)، وابن سعد (3/150-151)،وابن أبي شيبة (6/331 رقم31792) في الفضائل، باب ما أعطى الله تعالى محمدًا، وأحمد (1/379 و462)، والحسن بن عرفة في "جزئه" (ص67-68 رقم46)، والفسوي (2/537)، والبزار في "مسنده" (5/219 رقم1824)، وأبو يعلى (8/402-403 رقم4985)، و(9/29-30 رقم5096)، وابن حبان (15/536-537 رقم7061/الإحسان)، الطبراني في "الكبير" (9/78-79 و79 رقم8455 و8456 و8457)، والبيهقي في "الدلائل" (6/84-85). جميعهم من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن بن مسعود قال: كنت غلامًا يافعًا أرعى غنمًا لعُقبة بن أبي معيط، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه، وقد فرَّا من المشركين، فقالا: يا غلام! هل عندك من لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن، ولست ساقيكما / فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل ؟»قلت: نعم، فأتيتهما بها، فأعتقلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسح الضرع ودعا، فحفل الضرع، ثم أتاه أبو بكر رضي الله عنه بصخرة منقعرة، فاحتلب فيها، فشرب، وشرب أبو بكر، ثم شربت، ثم قال للضرع: «اقلص»، فقلص، فأتيته بعد ذلك، فقلت: علمني من هذا القول؟ قال: «إنك غلامٌ معلَّم»، قال: فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد .
قال الذهبي في "السير" (1/465): «هذا حديث صحيح الإسناد».
وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (5/210 رقم3598).
(3) في (ك): «أسلم فأسلم».
(4) تقدم في الأدب، باب في احتجاب النساء. برقم (2081).
(5) في (ك): «السوار».
(6) البخاري (7/102 رقم3761) في فضائل الصحابة، باب مناقب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه .
(7) في (ك): «الحوري». ولعله يقصد: ابن الجوزي .
(8) في (ك): «وصلى إلى».
(9) قوله: «يشبه»سقط من (ك).
(10) في (ب): «لرسول».
(11) البخاري (7/102 رقم3762) في الموصع السابق، و(10/509 رقم6097) في الأدب، باب الهدي الصالح .
(12) أخرجه النسائي في الفضائل من "الكبرى" (ص105 رقم89). وعبدالله بن أحمد في "زوائده على الفضائل" (1/114 رقم84)، والحاكم (3/316-317)، وسنده ضعيف، انظر "مختصر استدراك الذهبي" (4/1979-1986 رقم694) بتحقيقي .
(13) في (ك): «أنه».
(14) في (ك): «كان»بدل «بل».
(15) في (ك): «وروي».
(16) قوله: «حديثًا»سقط من (ب) و(ح) و(ك).
(17) الآية (93) من سورة المائدة .
(18) في (ك): «وقد».
(19) في (ح): «بها».(3/1189)
وقول أبي موسى: «مكثنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ هذا يدلّ على صحَّة ما ذكرنا (1) : من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضمَّه إليه، واختصَّه بخدمته وملازمته، وذلك لما رأى من صلاحيته لقبول العلم وتحصيله له، ولذلك (2) قال له أول ما لقيه: «إنك (3) غُلَيْم مُعَلَّم»، وفي رواية أخرى: «لَقِنٌ مُفْهَم»؛ أي: أنت صالح لأن تُعَلَّم فتَعْلم، وتُلَفَّن فتفهم، ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ضمَّه لنفسه، وجعله في عداد أهل بيته فلازمه حضرًا وسفرًا، وليلاً ونهارًا ليتعلَّم منه، وينقل عنه.
وقول أبي موسى: «كان يشهد إذا غبنا»؛ أي: يحضر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غاب الناس عنه. =(6/372)=@
وقوله: «ويؤذن له إذا حُجِبْنا (4) »؛ يعني: أنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأذن له في الوقت الذي يحجب عنه الناس، وذلك في الوقت الذي كان فيه (5) مشتغلاً بخاصته. &(6/302)&$
وقول عبدالله: } ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة { (6) ... الحديث إلى آخره. قال القاضي أبو الفضل: هذا الحديث في "الأم" مختصر مبتور إنما %(3/1190)%
__________
(1) في (ك): «ما ذكرناه».
(2) في (ب): «وكذلك».
(3) في (ك): «أنت».
(4) في (ك): «غبنا».
(5) قوله: «فيه»سقط من (ك).
(6) الآية (161) من سورة آل عمران .(3/1190)
ذكر منه أطرافًا لا تشرح مقصد الحديث، وبيانه في سياق آخر، ذكره ابن أبي خيثمة بسنده إلى أبي وائل، وهو شقيق راوي الحديث في "الأم"؛ قال: لما أمر في المصاحف بما أمر؛ يعني: أمر (1) عثمان بتحريقها ما عدا المصحف المجتمع عليه، الذي وجَّه منه النسخ إلى الآفاق، ورأى هو والصحابة رضي الله عنهم: أن بقاء تلك المصاحف يدخل اللبس والاختلاف، ذكر ابن مسعود الغلول، وتلا الآية، ثم قال: غلُّوا المصاحف إني غالٌّ مصحفي، فمن استطاع أن يَغلَّ مصحفه (2) فليفعل، فإنَّ الله تعالى يقول: } ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة { ، ثم قال: على قراءة (3) من تأمرني أن أقرأ؛ على قراءة زيد بن ثابت؛ لقد أخذت القرآن (4) من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة، وزيد بن ثابت له ذؤابتان يلعب مع الغلمان، وفي أخرى: صبي من الصبيان، فتمام هذا الحديث يظهركلام عبدالله.
قلت: وقوله: «غلوا مصاحفكم ...»إلى آخره؛ أي: اكتموها ولا تسلموها، والتزموها إلى أن تلقوا الله تعالى بها، كما يفعل من غل شيئًا فإنه يأتي به يوم =(6/373)=@ القيامة، ويحمله (5) ، وكان هذا رأيًا منه (6) رآه انفرد به عن الصحابة رضي الله عنهم ولم يوافقه أحد منهم (7) عليه، فإنَّه كتم مصحفه، ولم يظهره، ولم يقدر عثمان ولا غيره عليه (8) أن يظهره، وانتشرت المصاحف التي كتبها عثمان، واجتمع عليها الصحابة في الآفاق، وقرأ المسلمون عليها، وترك مصحف عبدالله، وخفي إلى أن وجد في خزائن بني عبيد بمصر عند انقراض دولتهم، وابتداء دولة المعز (9) ، فأمر بإحراقه قاضي القضاة بها صدر الدين؛ على ما سمعناه من بعض مشايخنا (10) ، فأحرق. %(3/1191)%
__________
(1) قوله: «أمر»سقط من (ك).
(2) في (ك): «مصحفي».
(3) في (ك): «قراءة على».
(4) قوله: «القرآن»سقط من (ك)، وفي (ح): «القراءة».
(5) في (ب) و(ح): «يحمله» بلا واو.
(6) في (ح): ((منه رأيا)).
(7) في (ك): «منهم أحد».
(8) في (ك): «له».
(9) في (ح): ((الغز)).
(10) في (ح): «شيوخنا».(3/1191)
وقوله: «على قراءة من تأمرني أن أقرأ؟»إنكار منه على من يأمره بترك &(6/303)&$ قراءته، ورجوعه إلى قراءة زيد مع أنه سابق له (1) إلى حفظ (2) القرآن، وإلى أخذه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فصعب عليه أن يترك قراءة قرأها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقرأ بما قرأه زيد أو غيره (3) ، فتمسك بمصحفه وقراءته (4) ، وخفي عليه الوجه الذي ظهر لجميع الصحابة رضي الله عنه من المصلحة التي هي من أعظم ما حفظ الله تعالى بها القرآن عن الاختلاف المخل به، والتغيير (5) بالزيادة والنقصان. وقد تقدَّم القول في الأحرف السبعة، وفي كيفية الأمر بذلك، وكان من أعظم الأمور على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: أن الصحابة رضي الله عنهم لما عزموا على كتب المصحف. بِلُغَةِ قريش عيَّنوا لذلك أربعة (6) لم يكن منهم (7) : ابن مسعود، فكتبوه على لغة قريش، ولم يُعَرِّجوا (8) على ابن مسعود مع أنه أسبقهم لحفظ القرآن، ومن أعلمهم به، كما شهدوا له بذلك، غير أنه رضي الله عنه كان هُذليًا كما تقدم (9) ، وكانت قراءته على لغتهم، وبينها وبين لغة قريش تباين عظيم، فلذلك لم يدخلوه معهم، والله تعالى أعلم .
قلت: وقد تقدَّم أن أصل البضع ما بين الثلاثة إلى التسعة، وذكر اشتقاقه، والخلاف فيه. و «الحلق»: بفتع الحاء واللام: جمع حلقة بفتح الحاء واللام على =(6/374)=@ ما حكاه يونس عن أبي عمرو بن العلاء، %(3/1192)%
__________
(1) قوله: «له»سقط من (ك).
(2) في (ك): «ضبط».
(3) في (ك): «وغيره».
(4) في (ح): «وبقراءته».
(5) في (ب) و(ك): «التغير».
(6) في (ك): «أربعًا».
(7) في (ب) و(ح): «فيهم».
(8) في (ك): «يعرضوا».
(9) قوله: «كما تقدم»سقط من (ب) و(ك).(3/1192)
وقال أبو عمرو الشيباني: ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلا في قولهم: هؤلاء قوم (1) حلقة، للذين يحلقون الشعر، جمع حالق، وقال الجوهري: الحلقة للدروع (2) - بالسكون - وكذلك حلقة الباب، وحلقة القوم، والجمع: الحلق على غير قياس. &(6/304)&$
وقوله: «لقد علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أعلمهم بكتاب الله»؛ يعني: أنه أعلمهم بأسباب نزوله، ومواقع أحكامه، بدليل قوله في الرواية الأخرى: «ما من كتاب الله سورة إلا وأنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أعلم فيما أُنزلت (3) »، وسَبَبُ ذلك: ملازمته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومباطنته إيَّاه سفرًا وحضرًا؛ كما قدَّمنا. وأما في القراءة فأُبيٌّ أقرأ منه، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أقرؤكم أُبَيّ»، (4) ، والخطابُ للصحابة كلُّهم. =(6/375)=@
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «خذوا القرآن من (5) أربعة: من ابن أم عبد-فبدأ به (6) -»؛ ليس فيه دليل على أنه أقرأ من أُبي، فإنَّه قد بيَّن - صلى الله عليه وسلم - بالنص الجلي: أن أبيًّا أقرأ منه ومن غيره، فيحتمل أن يقال: إن الموجب لابتدائه (7) اختصاصه به (8) ، وملازمته إياه، وحضوره في ذهنه، لا أنه (9) أقرأ الأربعة. والله تعالى أعلم.
وهذا كل (10) بناء على: أن المقدَّم (11) من المعطوفات له مزيَّة على المتأخر، وفيه نظر قد تقدَّم في الطهارة وفي الحج. وتخصيص هؤلاء الأربعة بالذكر دون غيرهم ممن حفظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم وهم عدد كثير كما يأتي؛ لأنَّ هؤلاء الأربعة هم الذين تفرغوا لإقراء القرآن وتعليمه دون غيرهم ممن اشتغل (12) بغير ذلك من العلوم، أو العبادات (13) ، أو (14) الجهاد، وغير %(3/1193)%
__________
(1) قوله: «قوم»سقط من (ك).
(2) في (ك): «الدروع».
(3) في (ح): ((فيما نزلت)).
(4) تقدم تخريجه في كتاب الصلاة، باب في الإمامة، ومن أحق بها ؟
(5) في (ك): «عن».
(6) قوله: «فبدأ به»قول راوي الحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه .
(7) في (ك): «لابتدائه به» ويشبه كذلك في (ح).
(8) قوله: ((به)) سقط من (ح).
(9) في (ح): ((لا لأنه)).
(10) في (ح): ((كله)).
(11) في (ح) تشبه: «المتقدم».
(12) في (ك): «دون غيرهم عن الشغل».
(13) في (ك): «العبادات».
(14) في (ح) و(ك): «و».(3/1193)
ذلك، ويحتمل أن يكون ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه علم أنهم هم الذين ينتصبون لتعليم الناس القرآن بعده، وليؤخذ (1) عنهم؛ فأحال عليهم لما علم من مآل أمرهم، كما قد أظهر الموجود (2) من حالهم؛ إذ هم أئمة القرَّاء (3) ، وإليهم تنتهي في الغالب أسانيد الفضلاء، والله أعلم.
ومعاذ المذكور في الحديث: هو معاذ بن جبل بن أوس الأنصاري الخزرجي، يُكنى: أبا عبدالرحمن، قيل: بولد كان له (4) كبر إلى أن قاتل مع أبيه في اليرموك، ومات بالطاعون قبل أبيه بأيام، على ما ذكره محمد بن عبدالله الأزدي البصري &(6/305)&$ في "فتوح الشام" وغيره. وقال الواقدي: إنه لم يولد لمعاذ قط، وقاله المدائني. أسلم معاذ وهو ابن ثماني (5) عشرة سنة، وشهد العقبة مع السبعين، وشهد بدرًا، وجميع المشاهد، وولاَّه (6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عمل من أعمال اليمن (7) ، وخرج معه النبي - صلى الله عليه وسلم - مودِّعًا ماشيًا، ومعاذ راكب، منعه من أن ينزل (8) ، وقال فيه - صلى الله عليه وسلم - : =(6/376)=@ «أعلمكم بالحلال والحرام معاذ» (9) . وقال: «إنه يسبق العلماء يوم القيامة رتوة (10) بحجر» (11) ، وقال فيه ابن مسعود: «إنه كان أمة قانتًا لله (12) ، وقال: الأمة: هو الذي يُعلم الناس الخير، والقانت: هو المطيع لله عز وجل، وكان عابدًا، مجتهدًا، وَرِعًا، محققًا، كان له امرأتان، فإذا كان يوم إحداهما (13) : لم يشرب من بيت الأخرى، وماتتا بالطاعون في وقت واحد، فحفر لهما حفرة فأسهم بينهما أيتهما (14) تُقدَّم في القبر، وكان مجاب الدعوة؛ لما كان طاعون عمواس - وعمواس قرية من قرى الشام، وكأنها إنما نسب الطاعون إليها؛ لأنَّه أول ما (15) نزل فيها - فقال بعض الناس: هذا عذابٌ، فبلغ ذلك معاذًا فأنكر ذلك، وخطب فقال: أيها الناس! إن هذا الوجع رحمةُ ربكم (16) ودعوة نببكم، وموت الصالحين %(3/1194)%
__________
(1) في (ك): «وتؤخذ».
(2) في (ب) و(ح): «الوجود».
(3) في (ك): «القرآن».
(4) قوله: ((له)) سقط من (ح).
(5) في (ح): ((ثمان)).
(6) في (ك): «ولاه».
(7) تقدم ف يالأشربة، باب كل شراب مسكر خمر وحرام .
(8) أخرجه أحمد (5/235)، والبزار في "مسنده" (7/91-92 رقم2647)، وابن حبان (2/414-415 رقم647/الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (20/120-121 و121 رقم241 و242)، والبيهقي (10/86).
أربعتهم من طريق صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد السكوني، عن معاذ بن جبل قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن خرج معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصيه، ومعاذ راكب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت راحلته، فلما فرغ قال: «يا معاذ! إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، لعلك أن تمر بمسجدي وقبري»، فبكى معاذ خشعًا لفراق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم التفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو المدينة فقال: «إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي، وإن أولى الناس بي المتقون، من كانوا، أو حيث كانوا، اللهم إني لا أحل لهم فساد ما أصلحت، وأيم الله ليكفؤون أمتي عن دينها كما يكفأ الإناء في البطحاء».?
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/22): «رواه أحمد بإسنادين ...، ورجال الإسنادين رجال الصحيح غير راشد بن سعد وعاصم بن حميد وهما ثقتان».
وقال في (10/232): «رواه الطبراني وإسناده جيد».
هل سمع عاصم من معاذ ؟
وفي "تهذيب التهذيب" (2/251): «وقال البزار: روى عن معاذ ولا أعلمه سمع منه، ...، وقال أحمد في "مسنده": ثنا يزيد بن هارون، أنا حريز هو بن عثمان، ثنا راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد السكوني، وكان من أصحاب معاذ بن جبل، عن معاذ، فذكر حديثًا. وقال ابن سعد: كان من أصحاب معاذ، وذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة العليا من تابعي أهل الشام، وقال البرقاني: قلت للدارقطني: فعاصم بن حميد يروي عن معاذ؟ قال: هو من أصحابه».
(9) تقدم تخريجه في الأشربة، باب كل مسكر خمر حرام .
(10) الرتوة: الرمية .
(11) تقدم تخريج الحديث في الإمارة، باب النهي عن سؤال الإمارة .
(12) أخرجه الطبراني في "الكبير" (20/34 رقم47) من طريق عبيدالله بن عمرو، عن عبدالملك بن عمير، عن أبي الأحوص وغيره .
وأخرجه الحاكم (3/271-272)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/230) كلاهما من طريق إسماعيل بن عليه، عن منصور بن عبدالرحمن، عن الشعبي ـ عن فروة بن نوفل .
وأخرجه الحاكم (3/272) من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق .
ثلاثتهم (أبو الأحوص ،وفروة بن نوفل، ومسروق )، عن ابن مسعود قال: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله. قال الحاكم: «صحي على شرط الشيخين»، ووافقه الذهبي .
وانظر والذي قبله في الجزء الأخير من "سنن سعيد بن منصور" آخر سورة النحل .
(13) في (ح): ((أحدهما)).
(14) في (ك): «أيهما».
(15) في (ك): «من».
(16) في (ك): «بكم».(3/1194)
قبلكم. اللهم آت آل معاذ من هذه الرحمة النصيب الأوفى (1) . فما أمسى حتى طُعِن ابنه عبدالرحمن، وماتت زوجتاه، ثم طُعِن من الغد من دفن ولده، فاشتد وجعه فمات منه، وذلك في سنة سبع عشرة، وقيل: سنة ثمان عشرة، وسنُّه يومنذ ثمان وثلاثون سنة، وقيل: ثلاث وثلاتون سنة، روي (2) عنه من الحديث: مئة حديث، وسبعة وخمسون حديثًا، أخرج له منها في الصحيحين ستة أحاديث. &(6/306)&$
وسالم المذكور في الحديث، هو سالم بن معقل، مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، يُكنى سالم: أبا عبد الله، وكان (3) من أهل فارس من اصطخر، وكان من =(6/377)=@ فضلاء الموالي، ومن خيار الصحابة وكبرائهم، وهو معدودٌ في المهاجرين؛ لأنَّه لما أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة، وهي عمرة بنت يعار. وقيل: سلمى، وقيل - ?غير ذلك، تولى أبا حذيفة فتبنَّاه أبو حذيفة، وهو أيضًا معدودٌ في الأنصار؛ لعتق مولاته المذكورة له (4) وهي (5) أنصارية، وهو معدودٌ (6) في القرَّاء، قيل: إنه هاجر مع عمر ابن الخطاب ونفر من الصحابة من مكة رضي الله عنهم، فكان يؤمهم؛ لأنَّه كان أكثرهم قرانًا، وكان يؤم المهاجرين بقباء (7) فيهم عمر بن الخطاب، شهد سالم بدرًا، وقتل يوم اليمامة ومولاه أبو حذيفة. فوجد (8) رأس أحدهما عند رجلي الآخر، وذلك سنة اثنتي عشرة. %(3/1195)%
__________
(1) رواه عن معاذ إسماعيل بن عبدالله، وأبو منيب الأحدب، والحارث بن عميرة، وأبو قلابة: أما رواية إسماعيل: فأخرجها أحمد (5/241) عن أبي أحمد الزبيري، عن مسَّرة بنم معبد، عن إسماعيل .
وأما رواية أبي منيب: فرواه أحمد أيضًا (5/240) من طريق ثابت بن يزيد، عن عاصم، عن أبي منيب .
وأما رواية الحارث بن عميرة: فيرويها عنه شهر بن حوشب، وقد اختلف عليه فيها .
فأخرجها عبد بن حميد(129)، والطبراني في"الكبير"(20/رقم231) من طريق داود بن أبي هند. وأخرجها الطبراني في "الكبير" (20 رقم231) من طريق عبدالحميد بن بهرام، كلاهما داود وعبدالحميد، عن شهر بن حوشب، عن الحارث بن عميرة.
ورواه عبدالحميد بن بهرام نفسه، عن شهر بن حوشب، عن عبدالرحمن نن غنم، عن الحارث، فأضاف فيه عبدالرحمن بن غنم. أخرجه البزار (2671)، والحاكم (3/263).
وأما رواية أبي قلابة: فأخرجها أحمد في "المسند" (5/248) عن إسماعيل عن أيوب، عن أبي قلابة، به.
(2) في (ك): «وروى».
(3) في (ح): «كان» بلا واو.
(4) في (ك): «مولاته له المذكورة».
(5) في (ب): «فهي».
(6) في (ك): «معروف».
(7) أخرجه البخاري (2/184 رقم692) في الأذان، باب إمامة العبد والمولى ،و(13/167 رقم7175) في الأحكام، باب استقناء الموالي واستعمالهم ... .
(8) في (ب): «فوجدوا».(3/1195)
- - - - -
ومن باب فضائل أبي بن كعب
وابن (1) قيس بن عبيد بن زيد بن النجار الخزرجي رضي الله عنه أسلم قديمًا، وشهد (2) العقبة الثانية، وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، ثم شهد بدرًا، وجميع المشاهد، وهو أول من كتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من فقهاء الصحابة وقرائهم رضي الله عنهم، وكفى بذلك أن الله تعالى: أمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ عليه القرآن، وقد بيَّنَّا وجه ذلك فيما تقدَّم، وقد تقدَّم قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أقرؤكم أبي». وقال فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنه سيد المسلمين (3) ، وتوفي في خلافة عمر على الأكثر. قيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين، وقيل: سنة اثنتين وعشرين، وقد قيل: إنه مات في خلافة عثمان &(6/307)&$ سنة اثنتين وثلاثين. وجملة ما روي عنه (4) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث وأربعة وستون حديثًا، أخرج له منها في الصحيحين ثلاثة عشر.
وقول أنس رضي الله عنه: جمع القرآن على عهد رسول الله أربعة؛ =(6/378)=@ من الأنصار: معاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قد استشكل ظاهر هذا الحديث كثير من الناس حتى ظنوا أنه مما يطرق الطعن والقدح في تواتر القرآن، وهذا إنما نشأ ممن يظن أن لهذا الحديث دليل خطاب؛ فإنَّه لا يتم له ذلك حتى يقول بتخصيص (5) هؤلاء الأربعة بالذكر يدلّ على أنه لم يجمعه أحدٌ غيرهم، فمن ينفي (6) القول بدليل الخطاب قد سلم من ذلك، ومن (7) يقول به فأكثرهم يقول (8) : إن أسماء الأعداد %(3/1196)%
__________
(1) في (ح): ((ابن)) بلا واو
(2) في (ب) و(ك): «شهد».
(3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/499) عن إسماعيل بن أبي [قوله: "أبي" في المطبوع وهي زائدة ] إبراهيم الأسدي؛ عن الجريري، عن أبي نضرة قال: قال رجل منَّا يقال له: جابر أو جويبر: طلبت حاجة إلى عمر في خلافته، وإلى جنبه رجل أبيض الشعر أبيض الثياب، فقال: إن الدنيا فيها بلاغنا، وزادنا إلى الآخرة، وفيها أعمالنا التي نجازى بها في الآخرة، قلت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا سيد المسلمين أبي بن كعب .
وفي سنده: جابر أو جويبر العبدي، روى عنه أبو نضرة، قال ابن سعد: كان قليل الحديث، وضعفه ابن معين، وقال الذهبي: لا يعرف، وأورده الحافظ في "الإصابة"(2/121) وقال: كان في عهد عمر بن الخطاب رجلاً، فعلى هذا له إدراك. وفي "التقريب" (ص193 رقم888): مقبول. وسماع ابن علية من الجريري قبل اختلاطه، كما في "الكواكب النيرات" (ص183).
(4) قوله: ((عنه)) سقط من (ح).
(5) في (ح): ((تخصيص)).
(6) في (ح): ((نفى)).
(7) في (ب) و(ح): «الذي» بدل ((من)).
(8) في (ح): يشبه ((قول)).(3/1196)
لا دليل خطاب لها، فإنَّها تجري مجرى الألقاب، والألقاب لا دليل خطاب لها باتفاق أئمة أهل الأصول. ولا يلتفت لقول الدقاق في ذلك فإنَّه واضح الفساد كما بيَّنَّاه في الأصول، ولئن سلَّمنا أن لأسماء الأعداد دليل خطاب، فدليل الخطاب إنما يُصار إليه إذا لم يعارضه منطوق به، فإنه أضعف وجوه الأدلة عند القائلين به، وهنا أمران هما أولى منه - بالاتفاق -:
أحدهما: النقل الصحيح.
والثاني: ما يعلم من ضرورة العادة.
فأمَّا النقل فقد ذكر القاضي أبو بكر وغيره جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمعوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة. وقد سَمَّى أبو عبدالله المازري منهم (1) خمسة عشر.
وقد تواترت الأخبار بأنه قتل يوم اليمامة سبعون ممن جمع القرآن، وكان ذلك في سنة وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأول سني (2) خلافه أبي بكر رضي الله عنه، وإذا قتل في جيش واحد سبعون ممن جمع القرآن (3) ؛ فالذين بقوا (4) في ذلك الجيش منهم لم يقتلوا أكثر من أولئك (5) أضعافًا. وإذا كان ذلك (6) في جيش واحد! فانظر كم بقي في مدن الاسلام - إذ ذاك - وفي عساكر أخر من الصحابة رضي الله عنهم - ممن جمع القرآن. فيظهر =(6/379)=@ من هذا أن الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُحصيهم أحد، ولا يضبطهم عدد. &(6/308)&$
وأما الثاني وهو العادة: وذلك أنها تقتضي أن يجتمع الكثير (7) ، والجم الغفير على حِفظه ونقله، وذلك أن القرآن على نظم عجيب، وأسلوب %(3/1197)%
__________
(1) قوله: ((منهم)) سقط من (ح).
(2) في (ح): ((سنتي)).
(3) من قوله: «وكان ذلك ....»إلى هنا سقط من (ك).
(4) في (ب): «فالذي بقي».
(5) في (ك): «ذلك».
(6) قوله: ((ذلك)) سقط من (ح).
(7) في (م): «العدد الكثير».(3/1197)
-غريب، مخالف لأساليب كلامهم في نثرهم ونظامهم مع ما تضمَّنه من العلوم والأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، والقَصَص والأخبار، والتبشير والإنذار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مع ذلك يُشيعه في الناس، ويشافه به البلغاء الأكياس (1) ، وما كان هذا سبيله فالعادة تقتضي: أن تتوفر الدواعي على حفظ جميعه (2) ، والوقوف على ما تضمنه من أنواع حكمه وبدائعه، ومحاسن آدابه وشرائعه، ويحيل (3) انفراد الآحاد بحفظه كما يحيل انفرادهم بنقله، فقد ظهر من هذه (4) المباحث العجاب أن ذلك الحديث ليس له دليل خطاب، فإنَّ قيل: فاذا لم يكن له دليل خطاب فلأي شيء خصَّ هؤلاء الأربعة بالذكر دون غيرهم؛ فالجواب من أوجه:
أحدها: أنه يحتمل إن يكون ذلك لتعلُّق (5) غَرَض المتكلم بهم دون غيرهم كالحال في ذكر الألقاب.
وثانيها: لحضور هؤلاء الأربعة في ذهنه دون غيرهم.
وثالثها: أن (6) هؤلاء الأربعة قد اشتهروا بذلك في ذلك الوقت دون?غيرهم ممن (7) يحفظ جميعه.
ورابعها: لأن أنسًا سمع من هؤلاء الأربعة إخبارهم عن أنفسهم أنهم جمعوا القرآن، ولم يسمع مثل ذلك من غيرهم، وكلُّ ذلك محتمل، والله تعالى أعلم. =(6/380)=@
وقول قتادة (8) : «قلت لأنسٍ: من أبو زيد؟ قال: أحد عُمومتي»؛ أبو زيد هذا هو سعيد (9) بن عبيد بن النعمان الأوسي من بني عمرو بن عوف، يعرف بسعد القارئ، توفي شهيدًا بالقادسية سنة خمس عشرة (10) . قال أبو عمر: %(3/1198)%
__________
(1) في (ك): «والأكياس».
(2) في (ح): «جمعه».
(3) في (ح): يشبه «قليل».
(4) في (ب) و(ك): «بهذه».
(5) في (ك): «التعلق».
(6) في (ب) و(ك): «لأن».
(7) في (ح): يشبه ((فمن)).
(8) في (ح): «عبادة».
(9) في (ب) و(ح): «سعد».
(10) قوله: «سنة خمس عشرة»سقط من (ك).(3/1198)
هذا قول أهل الكوفة، وخالفهم غيرهم، فقال أبو زيد: هذا هو قيس بن السكن الخزرجي من &(6/309)&$ بني عدي بن النجار بدري. قال ابن شهاب: قُتِل أبو زيد قيس بن السَّكن الخزرجي (1) يوم جِسْر أبي عبيد (2) على رأس خمس عشرة (3) . وقد تقدَّم القول على حديث (4) قراءة النبي (5) - صلى الله عليه وسلم - على أبي رضي الله عنه في كتاب الصلاة في باب: ترتيل القراءة وكيفية الأداء. =(6/381)=@
- - - - -
ومن باب فضائل سعد بن معاذ
هو (6) ابن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية على يدي مصعب ابن عمير (7) ، وشهد بدرًا وأحدًا، ورمي يوم الخندق بسهم (8) ، فعاش شهرًا، ثم انتقض جرحه فمات منه. توفي في (9) سنة خمس من الهجرة، وقد تقدَّم حديثه في حكمه (10) في بني قريظة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للحاضرين من أصحابه: «قوموا إلى سيدكم»، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان في بني عبد الأشهل ثلاثة، لم يكن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين أحدٌ (11) أفضل منهم: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعبَّاد بن بشر (12) ؛ تعني: من %(3/1199)%
__________
(1) قوله: «الخزرجي»سقط من (ك) و(ح).
(2) هو يوم معركة الجسر بين الحيرة والقادسية، وجّه فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشًا عليهم أبو عبيد الثقفي، وحدث في المسلمين مقتلة عظيمة قبل وقعة القادسية. انظر "تاريخ الإسلام" للذهبي "عهد الخلفاء الراشدين" (ص126).
(3) في (ب): «عشرة سنة».
(4) قوله: «حديث»سقط من (ك).
(5) في (ح): ((رسول الله)).
(6) قوله: ((هو)) سقط من (ح).
(7) في (ك): «عمر».
(8) تقدم في كتاب الجهاد والسير، باب إذا نزل العدو على حكم الإمام .
(9) قوله: «في»سقط من (ح).
(10) في (ح): ((تحكمه)).
(11) قوله: «أحد»سقط من (ك).
(12) علّقه ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (4/165)،والحافظ في "الإصابة" (4/171).(3/1199)
الأنصار، والله أعلم. وقال (1) ابن عباس: قال سعد بن معاذ: ثلاثة (2) أنا فيهن (3) رجل كما ينبغي، وما سوى ذلك فأنا رجل من المسلمين. ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا إلا علمت أنه حق من الله، ولا دخلت (4) في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها &(6/310)&$ حتى قضيتها، ولا كنت في جنازة قط (5) فحدَّثت نفسي بغير (6) ما تقول، وما يُقال لها حتى أنصرفَ عنها (7) .
وقوله: «اهتز عرش الرحمن لجنازة سعد بن معاذ»؛ حمل بعض العلماء =(6/382)=@ هذا الحديث على ظاهره من الاهتزاز والحركة، وقال: هذا ممكن؛ لأنَّ العرش جسم، وهو قابل للحركة والسُّكون، والقدرة صالحة، وكانت (8) حركته علمًا على فضله، وحمله آخرون على حملة العرش، وحذف المضاف، وأقام (9) المضاف إليه مقامه، ويكون الاهتزاز منهم استبشارًا بقدوم روحه الطيبة، وفرحًا به، وحمله آخرون على تعظيم شأن وفاته، وتفخيمه على عادة العرب في تعظيمها الأشياء (10) ، والإغياء في ذلك، فيقولون (11) : قامت القيامة لموت فلان، وأظلمت الأرض، وما شاكل ذلك مِمَّا المقصود به التعظيم والتفخيم لا التحقيق، وإليه صار الحربي. وكل هذا مُنزَّل على: أن العرش هو المنسوب لله تعالى في قوله: } الرحمن على العرش استوى { (12) ، وهو ظاهر قوله: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد».
وقد روي عن ابن عمر (13) : أن العرش هنا سرير (14) الموت.
قال القاضي: وكذلك جاء في حديث البراء في الصحيح: «اهتز السَّرير (15) ، وتأوله الهروي: فَرِح بحمله عليه.
وقوله: «أُهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةُ حرير»؛ كذا جاء في حديث البراء: حلَّة بالحاء المهملة واللام، وفي حديث أنس: أن أُكَيْدر دومة %(3/1200)%
__________
(1) في (ح): ((قال)) بلا واو.
(2) في (ح) و(ك): «ثلاث».
(3) في (ح): «فهم».
(4) في (ح) و(ك): «كنت».
(5) قوله: «قط»سقط من (ك).
(6) في (ك): «بغيرها».
(7) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/233)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3/149)، وابن عبدالبر في "الاستيعاب" (2/605). كلهم من طريق زافر بن سليمان، عن عبدالعزيز بن أبي سلمة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس به .
وزافر بن سليمان كثير الأوهام، قال ابن عدي: كأن أحاديثه مقلوبة الإسناد مقلوبة المتن، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه، ويكتب حديثه مع ضعفه .
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (6 رقم5321)، والبيهقي في "الشعب" (3/149) من طريق محمد بن عمرو، عن الماجشون، عن سعد به. والماجشون لم يدرك سعدًا .
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (6 رقم5322) من طريق موسى بن عبيدة، حدثني محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن سعد به .
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/308): «رواه الطبراني بإسناين أحدهما عن ابن أبي سلمة مرسلاً، والآخر عن الماجشون منقطعًا، في إسناده من لم أعرفه».اهـ.
(8) في (ك): «فكانت».
(9) في (ك): «وأقيم».
(10) في (ح): ((للأشياء)).
(11) في (ح): «فيقول».
(12) الآية (5) من سورة طه .
(13) أخرجه ابن سعد (3/433)، وابن ابي شيبة (6/396 رقم32306) في الفضائل، باب ما ذكر في سعد بن معاذ. وعنه الحاكم (3/206). وأخرجه ابن حبان (15/506-507 رقم7034). ثلاثتهم من طريق محمد بن فضيل بن غزوان، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن بن عمر قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعدًا، قال: إنما يعني السرير، قال: تفسخت أعواده .?
قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي .?
قال الحافظ في "الفتح" (7/124): «وفي حديث عطاء مقال؛ لأنه ممن اختلط في آخر عمره».
قال الذهبي في "السير" (1/297): قلت: تفسيره بالسرير ما أدري أهو من قول ابن عمر، أو من قول مجاهد؟ وهذا تأويل لا يفيد، فقد جاء ثابتًا: عرش الرحمن، وعرش الله، والعرش خلقٌ لله مسخّر، إذا شاء أن يهتز اهتز بمشيئة الله، وجعل فيه شعورًا لحب سعد، كما جعل تعالى شعورًا في جبل أحد بحبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال تعالى: } يا جبال أوبي معه { [سبأ: 10]، وقال: } تسبح له السموات السبع والأرض { [ الاسراء: 44]، ثم عمم فقال: } وإن من شيء إلا يسبح بحمده { ، وهذا حق. وفي صحيح البخاري [3579] قول ابن مسعود: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وهذا باب واسع سبيله الإيمان».اهـ.?
وقد صح عن ابن عمر خلاف هذا: أخرجه ابن سعد (3/430)، والنسائي (4/100-101 رقم2055) في الجنائز، باب ضمة القبر وضغطته، والبيهقي في "دلائل النبوة" (4/28). ثلاثتهم من طريق عبدالله بن إدريس، عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذا الذي تحرَّك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضُم ضمَّة ثم فُرّج عنه».?
وانظر "مختصر استدراك الذهبي" (4/1800-1808 رقم 641) بتحقيقي .
(14) في (ح): ((هنا هو سرير)).
(15) أخرجه البخاري (7/122-123 رقم3803) في منافب النصار، باب مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه .(3/1200)
الجندل أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جُبَّة من سندس (1) . وهذه أوجه وأصوب؛ لأنَّ الحلة لا تكون عند العرب ثوبًا واحدًا؛ وإنما (2) هي لباس ثوبين، يحل أحدهما على الآخر، وأن الثوب الفرد (3) لا يُسمَّى حلة. وقد جاء في السِّير أنها: قباء من ديباج مخوَّص بالذهب (4) وقد تقدَّم الكلام على لبس الحرير في اللباس .
وأُكيدر: بضم الهمزة وفتح الكاف، =(6/383)=@ وياء التصغير بعدها: تصغير: أكدر، والكدرة: لون بين السواد والبياض، وهو الأغبر، &(6/311)&$ وهو: أكيدر بن عبد الملك الكندي. ودومة: بفتح الدال وضمها، وأنكر ابن دريد الفتح، وقال: أهل اللغة يقولونه بالضم، والمحدِّثون بالفتح، وهو خطأ، وقال: ودومة (5) الجندل: مجتمعه ومستداره، وهو من بلاد الشام قرب (6) تبوك، كان كيدر (7) ملكها، وكان خالد بن الوليد قد أسره في غزوة تبوك (8) وسلبه (9) قباء من ديباج مخوَّصًا بالذهب. فأمَّنَه النبي - صلى الله عليه وسلم - وردَّه إلى موضعه، وضرب عليه الجزية.
وقوله: «لمناديل سعد بن معاذ (10) في الجنة (11) خير منها وألين»؛ هذه إشارة إلى أدنى ثياب (12) سعد في الجنة؛ لأنَّ المناديل إنما هي ممتهنة متخذة لمسح الأيدي بها من الدَّنس والوسخ، وإذا كان هذا حال المنديل، فما ظنُّك بالعمامة والحلة ؟! ولا يظنُّ أن طعام الجنة وشرابها فيهما (13) ما يدنس يد المتناول حتى يحتاج إلى منديل؛ فإنَّ هذا ظن من لا يعرف الجنة ولا طعامها (14) ولا شرابها (15) ؛ إذ قد نزه الله تعالى الجنة عن ذلك كله، وإنما ذلك إخبارٌ بأن الله أعدَّ في الجنة كل ما كان يحتاج إليه في الدُّنيا، لكن هي على حالة هي (16) أعلى وأشرف، فأعدَّ فيها أمشاطًا، ومجامر، وأُلُوَّة، ومناديل، وأسواقًا (17) وغير ذلك مما تعارفناه في الدُّنيا، وإن لم نحتج (18) له (19) في الجنة؛ إتمامًا للنعمة، وإكمالاً للمنَّة. =(6/384)=@ %(3/1201)%
__________
(1) أخرجه مسلم (4/1916 و1917 رقم2469) في فضائل الصحابة، باب من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه. ولم يورد المصنف في التلخيص .
(2) في (ب) و(ك): «إنما».
(3) في (ح): «المفرد».
(4) أخرجه ابن سعد (3/435-436)، وابن ابي شيبة (6/397 رقم32309) في الفضائل، باب ما ذكر في سعد بن معاذ. وأحمد (2/121)، والترمذي (4/190-191 رقم1723) في اللباس، باب منه، والنسائي (8/199 رقم 5302) في الزينة، باب لبس الديباج المنسوج بالذهب، وابن حبان (15/509-510 رقم7037/الإحسان). جميعهم من طريق محمد بن عمرو، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن أنس قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أكيدر - صاحب دومة - بعثًا، فأرسل إليه بجبَّة ديباج منسوجة فيها الذهب، فلبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام على المنبر وقعد، فلم يتكلم ونزل، فجعل الناس يلمسونها بأيديهم، فقال: «أتعجبون من هذه ؟».... الحديث.
قال الترمذي: صحيح .
(5) في (ك): «دو الدومة».
(6) في (ح): «قريب من».
(7) في (ح): ((اكيدر))
(8) أخرجه أبو داود (3037)، والبيهقي (9/186) من طريق يحيى بن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن أنس رضي الله عنه، وعن عثمان بن أبي سليمان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، فأخذوه فأتوا به فحقن له دمه، وصالحه على الجزية .
قال ابن الملقن في "خلاصة البدر المنير" (2/359): «إسناده حسن».اهـ.
قلت: من أجل محمد بن إسحاق .
(9) في (ك) و(م): «وعليه».
(10) قوله: «بن معاذ» سقط من (ك) و(ح).
(11) قوله: ((في الجنة)) سقط من (ح).
(12) في (ب): «لباس».
(13) في (ب): «منها».
(14) قوله: «ولا طعامها»سقط من (م).
(15) قوله: «ولا شرابها»سقط من (ب) و(ح) و(ك).
(16) قوله: «هي»سقط من (ح).
(17) في (ك): «أشرافًا».
(18) في (ك): «يحتج».
(19) قوله: «له»سقط من ....(3/1201)
- - - - -
ومن باب فضائل أبي دجانة
هو (1) سماك بن خرشة بن لوذان الخزرجي الأنصاري، وهو مشهور بكنيته، شهد بدرًا وأُحُدًا، ودافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ هو ومصعب بن عمير، &(6/312)&$ وكثرت فيه الجراحة، وقُتِل مصعب .
وكان أبو دُجانة أحد الشجعان، له المقامات المحمودة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغازيه. استشهد يوم اليمامة، وقال أنس: رمى أبو دجانة بنفسه في الحديقة، فانكسرت رجله، فقاتل حتى قُتل (2) ، وقيل: إنه شارك وحشيًّا في قتل مسيلمة، وقد قيل: إنه عاش حتى شهد مع علي صفِّين (3) ، والله تعالى أعلم. قال أبو عمر (4) : وإسناد حديثه في الحرز المنسوب إليه فيه ضعف.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من يأخذ عني هذا السَّيف بحقه؟»يعني بالحق هنا (5) : أنه يقاتل بذلك السيف إلى أن يفتح الله تعالى على المسلمين أو يموت، فلما سمعوا (6) هذا أحجموا؛ أي: تأخروا، يقال: أحجم وأجحم بتقديم الحاء وتأخيرها. فأخذه أبو دجانة فقام بشرطه، ووَفَّى بحقه .
و «هام المشركين»مخففًا؛ يعني: رؤوسهم. قال: %(3/1202)%
__________
(1) قوله: ((هو)) سقط من (ح).
(2) انظر "الاستيعاب" (4/253)،وأسد الغابة (2/452).
(3) قال الحافظ: «ولم يشهد أبو دجانة صفِّين».
(4) انظر "الاستيعاب" (4/253)، و"تذكرة الموضوعات" (ص211-212).
قال الذهبي في "السير" (1/245): «وحرز أبي دجانة شيء لم يصح»، ما أدري من وضعه؟.
(5) في (ب): «هاهنا».
(6) في (ح) و(ك): «فهموا».(3/1202)
نضرب (1) بالسُّيوف رؤوس قومٍ أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المقيل
المقيل: أصول الأعناق. =(6/385)=@
وأما أبو جابر: ـ فهو عبدالله بن عمرو بن حزام (2) بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم (3) بن كعب بن سَلَمَة (4) الأنصاري السلمي، ، وهو (5) أحد النقباء، شهد العقبة وبدرًا، وقُتِل يوم أُحُد، ومُثِّل به.
روى بقي (6) بن مَخْلَد عن جابر رضي الله عنه قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا جابر! ما لي أراك منكسًا مهتمًا ؟»، قلت: يا رسول الله! استشهد أبي وترك عيالاً، وعليه دين. قال: أفلا أبشرك بما لقي الله عز وجل به أباك (7) ؟»قلت: بلى يا رسول الله! قال: «إن الله عز وجل أحيا أباك، وكلمه كفاحًا، وما كلَّم أحدًا قط إلا من وراء حجاب، فقال له: يا عبدي تَمَنَّ أعطك! قال: يا رب! تردّني إلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية فأبلِّغ من ورائي؛ فانزل الله تعالى: } ولا تحسبنَّ الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ ... { (8) الآية (9) . &(6/313)&$
قلت: وقد تضمَّن هذا الحديث فضيلة عظيمة لعبدالله لم يُسْمَع بمثلها لغيره، وهي (10) : أن الله تعالى كلَّمه مشافهة بغير حجاب حجبه به. ولا واسطة قبل يوم القيامة، ولم يفعل الله تعالى ذلك بغيره في هذه الدَّار، كما قال تعالى: } وما (11) كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً { (12) . وكما قال رسول الله (13) - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «وما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب». وظاهر (14) هذه الآية، وهذا الحديث: أن الله تعالى لم يفعل هذا في هذه الدَّار لحيٍّ ولا لميت (15) ، إلا %(3/1203)%
__________
(1) في (ح) و(ك): «يضرب».
(2) في (ح): ((حرام)).
(3) في (ح): «عثمان».
(4) في (ح) و(ك): «مسلمة».
(5) في (ب) و(ك): «هو».
(6) في (ب) و(ك): «بعي» وفي (ح): يشبه ((قفي))..
(7) في (ك): «أبوك».
(8) الآية (169) من سورة آل عمران .
(9) أخرجه أحمد (3/361)،والحميدي (2/532 رقم1265)، وأبو يعلى (4/6 رقم2002). ثلاثتهم من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل.
وأخرجه الترمذي (5/214-215 رقم3010) في التفسير، باب: ومن سورة آل عمران .
وابن ماجه (1/68 رقم190) في المقدمة، و(2/936 رقم2800) في الجهاد، وابن أبي عاصم قي "السنة" (1/267 رقم602).
ثلاثتهم من طريق موسى بن إبراهيم بن كثير، عن طلحة بن خراش، كلاهما عبدالله بن محمد بن عقيل، وطلحة بن خراش، عن جابر قال: لقيني رسول الله r ...، الحديث. وهو حسن لغيره، انظر "مختصر استدراك الذهبي (4/1792-1795).
(10) في (ك): «وهو».
(11) في (ح): ((ما)) بلا واو.
(12) الآية (51) من سورة الشورى .
(13) في (ح): ((النبي)) بدل ((رسول الله)).
(14) في (ب) و(ك): «ما».
(15) في (ب) و(ح): «ميت».(3/1203)
لعبدالله هذا خاصَّة، فيلزم (1) على هذا العموم: أنه قد خُصَّ من (2) ذلك بما لم يُخَصّ به أحدٌ من الأنبياء. وهذا مشكل بالمعلوم من ضرورة الشرع، ومن إجماع المسلمين على: أن درجة الأنبياء وفضيلتهم أعظم من درجة الشهداء والأولياء كما تقدم، فوجه التَّلفيق: أن =(6/386)=@ قوله - صلى الله عليه وسلم - : «وما كلَّم الله (3) أحدًا إلا من وراء حجاب»؛ إنما يعني به – والله تعالى أعلم -: أنه ما كلَّم أحدًا من الشهداء، وممن ليس بنبي بعد موته، وقبل يوم القيامة، إلا عبدالله، ولم يرد به الأنبياء، ولا أراد بعد يوم القيامة، لما قد علم أيضًا من الكتاب والسنة، وإجماع أهل السُّنَّة من: أن المؤمنين يرون الله تعالى في الجنة، ويُكلِّمهم بغير حجاب، ولا واسطة.
وأما الآية: فإنما مقصودها حَصْر أنواع الوحي الواصل إلى الأنبياء من الله تعالى، فمنه: ما يقذفهُ الله تعالى في قلب النبيِّ، وروعه، ومنه: ما يُسمعه الله تعالى للنبي (4) مع كون ذلك النبي محجوبًا عن رؤية الله تعالى، ومنه: ما يبينه (5) له الملك، وحاصلها (6) : الإعلام بأن الله تعالى لم يره أحدٌ من البشر (7) في هذه الدَّار؛ نبيًا كان أو غير نبي، ويشهد (8) لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: «اعلموا أنه لا يرى أحدٌ ربَّه حتى يموت» (9) .
وقد تقدَّم الخلاف في رؤية نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لربِّه، والصحيح أنه لم يأت قاطع بذلك، والأصل: بقاء ما ذكرناه على ما أصَّلناه، والله تعالى أعلم. %(3/1204)%
__________
(1) في (ب): «ويلزم».
(2) في (ك): «في».
(3) لفظ الجلالة ليس في (ب).
(4) في (ح): «لنبي».
(5) في (ح): ((يبلغه)).
(6) في (ك): «وحاصله».
(7) قوله: ((من البشر)) سقط من (ح).
(8) في (ح) و(ك): «وشهد».
(9) سيأتي في الفتن وأشراط الساعة، باب ما يذكر من أن ابن صياد: الدجال .(3/1204)
وقوله: «وجيء بأبي مُسجًّى، وقد (1) مُثِّل به»؛ أي: مُغطى بثوب ومُثِّل به؛ أي: جُدِع أنفه وأذناه. فعل ذلك به المشركون (2) . &(6/314)&$
وقوله (3) : «ولِمَ تبكي ؟»كذا صحَّت (4) الرواية بـ «لم»التي للاستفهام، «تبكي» =(6/387)=@ بغير نون؛ لأنَّه استفهام لمخاطب عن فعل غائبه، ولو خاطبها بالاستفهام خطاب الحاضرة، لقال: ولم تبكين؟ بإثبات النون، وكذلك جاء في رواية أخرى: «تبكيه (5) أو لا تبكيه؟ ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها»، هو إخبار عن غائبة، ولو كان خطاب الحاضرة لقال: تبكينه، أو لا تبكينه بنون فعل الواحدة المخاطبة، ويعني بهذا (6) الكلام: أن عبدالله مكرَّم محترم عند الملائكة سواء بُكِي عليه، أو لم يُنْكَ، وكون (7) الملائكة تظله بأجنحتها إنما ذلك لاجتماعهم عليه، وتراحمهم (8) على مبادرة لقائه، والصُّعود بروحه الكريمة الطيبة، ولتبشِّره بما له عند الله تعالى من الكرامة والدَّرجة الرفيعة، والله تعالى أعلم .
- - - - -
ومن باب فضائل جليبيب رضي الله عنه
وكان رجلآ من ثعلبة، وكان حليفًا في الأنصار، قال ابن سعد: سمعت من يذكر ذلك. روى أنس بن مالك قال: كان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له: جليبيب، وكان في وجهه دمامة، فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التزويج، فقال: إذن &(6/315)&$ =(6/388)=@ تجدني كاسدًا يا رسول الله! فقال: «إنك عند الله لست بكاسد» (9) ، وفي غير كتاب مسلم من حديث أبي برزة في تزويج جليبيب (10) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من الأنصار: «يا فلان زوجني ابنتك»، قال: نعم، ونعمة عين، قال: «إني لست لنفسي أريدها»، قال: فلمن؟ قال: %(3/1205)%
__________
(1) قوله: ((قد))سقط من (ح).
(2) في (ب): «ذلك المشركون به».
(3) في (ب) و(ك): «قوله».
(4) في (ح): ((صحيح)).
(5) في (ك): «تبكينه»، والمثبت من (ب)، وسقطت من باقي النسخ.
(6) في (ح): «بذلك».
(7) قوله: ((وكون)) لم يتضح في (ح).
(8) في (ب): «تراحمهم».
(9) أخرجه أبو يعلى (6/89 رقم3343) عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن ديلم بن غزوان، عن ثابت، عن أنس قال ...، فذكره .
وسند حسن. قال الهيثمي في "المجمع" (4/275):«رواه أبو يعلى ورجاله ثقات».
(10) أخرجه أحمد (4/422)، وابن حبان (9/343-344 رقم4035/الإحسان).
كلاهما من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن كنانة بن نعيم العدوي، عن أبي برزة الأسلمي: أن جلبيبًا كان امرءًا من الأنصار ...، فذكر الحديث. وفيه: قال حماد: قال إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة: هل تدري ما دعا لها به؟ قال: وما دعا لها به؟ قال: اللهم صب الخير عليهما صبًّا ...، الحديث .
قال الهيثمي (4/368): في الصحيح خاليًا عن الخطبة والتزويج، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح».
[[ أين مكان هذا التخريج الآتي ]]
أخرجه عبدالرزاق (6/155-156 رقم10333) عن معمر، عن ثابت، عن أنس قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال: حتى أستأمر أمها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «فنعم إذًا»، فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فقالت: لاها الله إذًا، ما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا جليبيب، وقد منعناها من فلان وفلان، قال: والجارية في سترها تسمع، قال: فانطلق الرجل وهو يريد أن يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره، إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه، فكأنها حلَّت عن أبويها، وقالا: صدقت، فذهب أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: إن كنت قد رضيته فإني قد رضيته، قال: فتزوجها، ثم فزع أهل المدينة، فركب جليبيب، فوجدوه قد قُتل، ووجدوا حوله ناسًا من المشركين قد قتلهم، قال أنس: فلقد رأيتها، إنها لأنفق بيت بالمدينة .
ومن طريق عبد الرزاق: أخرجه أحمد (3/136)، وعبد بن حميد (1245)، والبزار (2741/كشف)، وابن حبان (9/365-366 رقم4059/الإحسان).
قال الهيثمي في "المجمع" (9/368): «رواه أحمد، والبزار، إلا أنه قال: فكأنها حلَّت عن أبويها عقالاً، ورجاله رجال الصحيح».(3/1205)
«لجليبيب»، قال: حتى أستأمرَ أمَّها، فأتاها وأخبرها (1) بذلك، فقالت (2) : حلقى، ألجليبيب؟! لا لَعَمْرُ الله، لا أُزوِّج جُليبيبًا، فلما قام أبوها ليأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت الفتاة من خدرها لأبويها (3) : من خطبني إليكما؟ قالا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالت: أفتردَّان على رسول الله أمره؟! ادفعاني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه لن يُضيِّعني، فذهب أبوها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، وقال: شأنك بها؛ فزوَّجها جُليبيبًا، ودعا لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اللهم صُبَّ عليهما الرزقَ صبًّا صبًّا، ولا تجعل عيشهما (4) كدًّا كدًّا ...»، ثم ذكر باقي الحديث على ما في كتاب مسلم .
وقوله: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغزًى له»؛ أي: في غزوة.
وقوله: «هل تفقدون أحدًا ؟»هذا الاستفهام ليس مقصوده استعلام كونهم فقدوا أحدًا ممن يعزّ عليهم فَقْده؛ إذ ذاك كان معلومًا له بالمشاهدة؛ وإنما مقصوده التَّنويه (5) والتَّفخيم بمن لم يحفلوا به، ولا التفتوا إليه، لكونه كان غامضًا في الناس، =(6/389)=@ ولكون كل واحدٍ منهم أصيب بقريبه أو حبيبه، فكان مشغولاً بمصابه لم يتفرَّغ منه إلى غيره، ولَمَّا أطَّلع الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - على ما كان من (6) جليبيب من قتله السَّبعة الذين وجدوا إلى جنبه، نوَّه باسمه، وعرَّف بقدره، فقال: «لكني أفقدُ جُليبيبًا»؛ أي: فقده أعظم من فقد كل من فقد، والمصاب به أشد، ثم إنه أقبل بإكرامه &(6/316)&$ عليه، ووسَّده ساعديه (7) مبالغة في كرامته، ولتناله بركة ملامسته. وجليبيب: تصغير جِلباب، سُمِّي به الرجل. %(3/1206)%
__________
(1) في (ب): «فأخبرها».
(2) في (ح): ((فقال)) بدل ((فقالت)).
(3) في (ك): «لأبوها».
(4) في (ك): «عيشتهما».
(5) في (ك): «التنويه له».
(6) في (م): «من حال».
(7) في (ب): «وشده ساعديه»، وفي (م): «ووشده بساعديه».(3/1206)
- - - - -
ومن باب فضائل أبى ذز الغفاري
واسمه: جندب - على الأصح والأكثر - ابن جنادة بن قيس بن عمرو بن مليل بن حرام بن غفار، وغفار بن (1) كنانة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار (2) . هو من كبار الصحابة رضي الله عنهم، قديم الإسلام، يقال: أسلم بعد أربعة =(6/390)=@ فكان خامسًا (3) ، ثم انصرف إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى قدم على (4) النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، بعد أن مضت بدر، وأحد (5) ، والخندق، ويدل على كيفية إسلامه، وتفصيل أحواله: حديثه المذكور في الأصل، وكان قد غلب عليه التعبُّد والزهد، وكان يعتقد أن: جميع ما فضل عن الحاجة كنز وإمساكه حرام، ودخل &(6/317)&$ الشام بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقع بينه وبين معاوية نزاع في قوله تعالى: } والذين (6) يكنزون الذهب والفضة ... { (7) الآية (8) ، فشكاه معاوية (9) إلى عثمان، فأقدمه عثمان المدينة (10) ، فقدمها، فزهد أبو ذر في كل ما بأيديهم، واستأذن عثمان في سكنى الرَّبذة (11) ، فأذن له، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن له في البدو، فأقام (12) بالرَّبذة (13) في موضع منقطع إلى أن مات بها سنة اثنتين وثلاثين على ما قاله ابن إسحاق، وصلى عليه عبدالله بن مسعود (14) منصرفه من الكوفة في ركب، ولم يوجد له شيء يُكفن فيه، فكفَّنه رجل من أولئك (15) الركب في ثوب من غزل أمه، وكان قد وصَّى ألا يكفنه أحدٌ ولي شيئًا من الأعمال السلطانية، %(3/1207)%
__________
(1) في (ح) و(ك): «من».
(2) في (ك): «برار».
(3) أخرجه الطبراني في"الكبير" (2/147 رقم1617)، والحاكم (3/342)، كلاهما من طريق عبدالله بن الرومي اليماني، عن النضر بن محمد الجرشي، عن عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع، أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: السلام عليكم يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال: «من أنت ؟»فقلت: أنا جندب رجل من بني غفار، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - ارتدع وودّ أني كنت من قبيلة غير التي أنا منهم، وذاك أني كنت من قبيلة يسرقون الحاج بمحاجن لهم **[لم يصححه الحاكم ولكن في التلخيص (م)] **.
وصححه الذهبي على شرط مسلم .
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (2/148 رقم1618)، والحاكم (3/341-342) كلاهما من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبدالله، عن نصر بن علقمة، عن أخيه، عن ابن عائذ، عن جبير بن نفير قال: كان أبو ذر يقول: لقد رأيتني ربع الإسلام، لم يسلم قبلي إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو بكر، وبلال .
قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي
وصدقة بن عبدالله ضعيف كما في "التقريب"(ص451 رقم2929).
(4) قوله: «على»سقط من (ح).
(5) في (ك): «بدرًا وأحدًا».
(6) في (ب) و(ح): «الذين».
(7) الآية (34) من سورة التوبة .
(8) أخرجه البخاري (3/271 رقم1406) في الزكاة، باب ما أدَّى زكاته فليس بكنز، و(8/322-323 رقم4660) في التفسير .
(9) قوله: «معاوية»سقط من (ح).
(10) في (ح): «إلى المدينة».
(11) في (ح) و(ك): «الربدة».
(12) في (ك): «وأقام».
(13) في (ح): «في الربدة»،وفي (ك): «بالزبدة».
(14) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" كما عند ابن هشام (5/205)، ومن طريقه أخرجه الطبري في "تاريخه" (2/184)، وذكره الذهبي في "السير" (2/56)، وابن حجر في "الإصابة" (11/122) عن بريدة بن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن مسعود به مطولاً. وفي إسناده بريدة بن سفيان ضعفه البخاري والنسائي وأحمد وأبو وداود والدارقطني .
(15) في (ح): «أهل ذلك» بدل ((أولئك)).(3/1207)
وخبره بذلك معروف.
روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئتي حديث وواحدًا (1) وثمانين حديثًا. أخرج له منها في الصحيحين ثلاثة وثلاثون حديثًا .
غريب حديث أبي ذر رضي الله عنه: الشنة: السقاء البالي، والشنان: الأسقية، واحدها شنٌّ، وكل جلد بال: فهو شنٌّ. ويقال للقربة البالية: شنَّة، وهي (2) أشدُّ تبريدًا للماء من الجدد.
وقوله: «ما أنى للرجل»؛ أي: ما كان (3) ، يقال: أنى وآن بمعنى واحد، و «تقفوه (4) »: تتبعه.
وقوله: «لأصرخن بها»؛ أي: بكلمة التوحيد.
«بين ظهرانيهم»؛ يعني: المشركين بمكة. =(6/391)=@
وقوله: «فنثا علينا خالنا الذي قيل له»؛ أي (5) : أظهر (6) لنا بالقول، وإنما يقال: النثى - بتقديم النون، والقصر - في الشِّر والكلام القبيح، وإذا قَدَّمْتَ الثاء ومدَدَت فهو الكلام الحسن الجميل.
وقوله: «لا جماع لك»؛ أى: لا اجتماع يبقى (7) بيننا.
و «الصِّرْمَةُ»: القطعة من &(6/318)&$ الإبل، نحو الثلاثين، وقد تكون الصِّرْمَة في غير هذا: القطعة من النخل، والصّرم: القطع.
وقوله: «فنافر أُنَبْس عن صرمتنا، وعن مثلها»؛ أي: التزم أن من قضي له بالغلبة أخذ ذلك، قال أبو عبيد: المنافرة: أن يفتخر الرجلان كل واحد %(3/1208)%
__________
(1) في (ح): «وأحد»، و في (ك): «واحدًا».
(2) في (ك): «وهو».
(3) في (ح): ((حان)) بدل ((كان)).
(4) في (ب): «يعينوه».
(5) قوله: «أي»سقط من (ك).
(6) في (ب): «فأظهر».
(7) في (ح): «بقى».(3/1208)
منهما على صاحبه، ثم يحكما رجلاً بينهما، والنافر: الغالب، والمنفور: المغلوب (1) . يقال: نفره، ينفره، وينفره نفرًا: إذا غلب عليه.
وقوله (2) : «فإتيا الكاهن (3) فخيَّر أُنيسًا»؛ أي: غلبه، وقضى له، وكانت منافرته في الشعر: أيهما أشعر؟
وقوله: «وقد (4) صلَّيت قبل أن ألقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ هذا إلهام للقلوب الطاهرة، ومقتضى العقول السَّليمة؛ فإنَّها توفق للصواب، وتلهم للرشد. =(6/392)=@
قوله (5) : «أُلقيت كأني خِفَاءٌ»؛ الرواية في ألقيت بضم الهمزة وكسر القاف؛ مبنيًا لما لم يسم (6) فاعله. والخفاء: بكسر الخاء والمد: هو الغطاء، وكل شيء غطيته بكساء، أو ثوب، فذلك الغطاء خفاء، ويجمع أخفية، قاله أبو عبيد (7) . وقال (8) ابن دريد: الخفاء: كساء يطرح على السقاء.
وقوله: «فراث علي»؛ أي (9) : أبطأ.
وقوله: «وضعت قوله على أقراء الشعر»؛ قال ابن قتيبة: يريد أنواعه، وطُرقه، واحدها: قَرْء. فيقال (10) : هذا الشعر على قرء هذا. %(3/1209)%
__________
(1) من قوله: «قال أبو عبيد ....»إلى هنا سقط من (ح).
(2) قوله: «وقوله»سقط من (ح).
(3) في (ك): «الكاهن».
(4) في (ح): «قد».
(5) في (ح): ((وقوله)).
(6) قوله: ((يسم)) سقط من (ح).
(7) في (ح): «أبو عبيدة».
(8) في (ك): «قال».
(9) في (ك): «أبي».
(10) في (ح): ((يقال)).(3/1209)
وقوله: «فتضعَّفتُ رجلاً»؛ أي: رأيته ضعيفًا، فعلمت أنه لا ينالني بمكروه، ولا يرتاب بمقصدي.
وقوله: «كأني نصب أحمر»؛ أي: قمت كأني لجريان دمي من الجراحة التي أُصبت بها أحد الأنصاب، وهي الحجارة التي كانوا يذبحون عليها فتحمر بالدماء (1) . &(6/319)&$
فأمَّا زمزم، فقال ابن فارس: هو من قولهم: زممت (2) الناقة؛ إذا جعلت لها زمامًا تحبسها به، وذلك أن جبريل عليه السلام لما همز الأرض بمقاديم جناحيه، ففاض الماء زمتها هاجر فسُمِّيت: زمزم.
وقوله: «ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر»؛ كذا الرواية الصحيحة أقراء: =(6/393)=@ بالراء، جمع قَرْءٍ على ما تقدم، وقيَّده العذري: أقواء بالواو، ورواه بعضهم بالواو وكسر الهمزة. قال القاضي: لا وجه له.
وقوله: «فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر»؛ هكذا الرواية عند جميع الشيوخ. بعدي: بالباء بواحدة، والعين المهملة: بمعنى غيري. يقال: ما فعل هذا أحد بعدك؛ أي: غيرك. كما يقال ذلك في «دون»وهو كثيرٌ %(3/1210)%
__________
(1) في (ح): ((للدماء)).
(2) في (ك): «زمرت».(3/1210)
فيها. ومعنى الكلام: أنه لما اعتبر القرآن بأنواع الشعر تبيَّن له أنه ليس من أنواعه، ثم قطع: بأنه (1) لا يصح لأحد أن يقول: إنه شعر، ووقع في بعض النُّسخ: يَقْرِي بفتح الياء. قال القاضي: وهو جيد، وأحسن منه: يُقْرِي بضمها، وهو (2) مِمَّا تقدَّم، يقال: أقرأت في الشعر، وهذا الشعر على قَرْء هذا، وقرؤه (3) : أي قافيته، وجمعها: أقراء. وفي بعض النسخ أيضًا: «على لسان أحد يُعزى إلى شعر»؛ أي: ينسب إليه، ويوصف به. وللروايات كلها وجه.
وقوله: «فما وجدت على كبدي سخفة جوع»؛ قال الأصمعي: السخفة: =(6/394)=@ الخفة، ولا (4) أحسب قولهم: سخيف إلا من هذا.
وقوله: «في ليلة قمراء إضْحِيان»؛ القمراء: المقمرة (5) ، وهي التي يكون فيها قمر، ويُسمَّى الهلال قمرًا من أول الليلة الثالثة إلى أن يصير بدرًا، ثم إذا أخذ في النقص عاد عليه اسم القمر. وإضحيان - بكسر الهمزة والضاد المعجمة -: معناه كثير ضوء قمرها. قال ابن قتيبة: ويقال ليلة إضحيان، وإضحيانة، وضحيانة (6) : إذا كانت مضيئة. &(6/320)&$
وقوله: «ضرب على أصمختهم»؛ أي: ناموا، ومنه قوله تعالى: } فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عددًا { (7) ؛ أي: أنمناهم. الأصمخة: %(3/1211)%
__________
(1) في (ح): ((أنه)).
(2) قوله: «وهو»سقط من (ك).
(3) في (ح): ((وقريه)).
(4) في (ك): «لا».
(5) في (ك): «لمقمرة».
(6) قوله: «وضحيانة»سقط من (ك)، وفي (ب) و(ح): «وإضحيانة».
(7) الآية (11) من سورة الكهف .(3/1211)
جمع صماخ، وهو خُرق الأذن، وهو بالصاد، وقد أخطأ من قاله: بالسين. وإساف ونائلة: صنمان، وقد تقدَّم ذكرهما في كتاب الحج، وقد روى ابن أبي نجيح: أن إسافًا ونائلة كانا رجلاً وامرأة حجَّا من الشام، فقبَّلَها وهما يطوفان فمُسخا حجرين، فلم يزالا في المسجد حتى جاء الاسلام، فأخرجا منه.
وقوله: «فما تناهتا (1) عن قولهما»؛ أي: ما رجعتا عنه.
وقوله: «هن مثل الخشبة»؛ يعني به الذكر، وقد تقدَّم أن: هنا كناية عن النكرات، وأراد بذكره هنا سبّ (2) إساف ونائلة، وهو تقبيح، كقوله أولاً (3) : «أنكحا أحدهما ا لآخر». =(6/395)=@
وقوله: «تولولان (4) »؛ أي: تدعوان (5) بالويل، وترفعان (6) بذلك أصواتهما.
وقولهما (7) : «لو كان أحدٌ من أنفارنا»؛ أى: من قومنا، وهو جمع نفر، والنَّفر: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وجواب لو محذوف؛ أي: لنصرنا عليك ونحوه.
وقولهما: «الصابئ»؛ أي: الخارج عن دين قومه، ويهمز، ولا يهمز، وقد قريء بهما.
وقولهما: «قال كلمة تملأ الفم»؛ أي: عظيمة، حتى كان الفم يضيق عنها.
وقوله: «فكنت أول من حياه بتحيَّة الإسلام»؛ يعني به: السلام عليك يا رسول الله! وظاهره (8) : أنه ألهم (9) النُّطق بتلك التحية (10) ؛ إذ لم يكن سمعها قبل %(3/1212)%
__________
(1) في (ب): «فما تناهيا»، وفي (ك): «فما تناهينا».
(2) في (ك): «نسب».
(3) قوله: «أولاً»سقط من (ح)، وفي (ك): «ولا».
(4) في (ك): «يولولان».
(5) في (ك): «يدعوان».
(6) في (ب) و(ك): «يرفعان».
(7) في (ك): «قوله».
(8) في (ك): «فظاهره».
(9) في (ب): «أبهم».
(10) في (م): «الكلمة».(3/1212)
ذلك، وعلمه بكونه أوّل من حياه: يحتمل أن يكون إلهامًا، ويحتمل أن يكون علمه بعد ذلك (1) بالاستقراء، ثم أخبر عنه، والله تعالى أعلم. &(6/321)&$
وقوله: «فَقَدَعَنِي صاحبه»؛ أي: كفَّني ومنعني. يقال: قَدَعْتُ الرَّجَل، =(6/396)=@ وأقْدَعتُه: إذا كففته، ومنه قول الحسن: اقدعوا هذه الأنفس (2) ، فإنَّها طلعة»، وهو بالدال المهملة.
وقوله: «إنه (3) طعام طعم»؛ أي: يُشبع منه، ويُؤدُّ (4) الجوعَ. الرواية فيه: «طعامُ طعم»بالإضافة، والطعام: اسم لما يتطعَّم (5) ، فكأنه قال: طعام إشباع، أو طعام يشبع، فأضافه الى صفته، هذا على معنى ما قاله ابن شميل، فإنه قال: يقال: إن هذا لطعام طعمًا (6) ؛ أي: يطعم من أكله؛ أى: يشبع منه (7) الإنسان، وما يطعم أكلُ هذا الطعام؛ أى: ما يشبع منه، غير أنه قد (8) قال الجوهري: الطُّعْمُ بالضم: الطعام، وبالفتح: ما يُشتهَى منه. قال (9) : قال أبو خراش (10) :
أُرَدُّ شجاع البَطنِ لَوْ تَعْلَمينه ويُؤثَرُ غيري من عيالك بالطُّعمِ
وأَغْتَبِقُ الماء القَرَاحَ فَأَنْتَهِي (11) إذا (12) الزَّادُ أَمْسَى للمُزَلَّج ذَا طَعْمِ
قال: فأراد بالأول الطعام، وبالثاني ما يُشتهى. %(3/1213)%
__________
(1) من قوله: «وعلمه بكونه ....»إلى هنا سقط من (ك).
(2) في (ح): «النفوس».
(3) في "التلخيص": «إنها».
(4) في (ح): ((ويرد)).
(5) في (ح): «يطعم».
(6) في (ح): ((الطعام طعم)).
(7) في (ك): «من».
(8) قوله: «قد»سقط من (ك).
(9) قوله: ((قال)) سقط من (ح).
(10) البيتان في "الأغاني" (10/219).
(11) قوله: ((فأنتهي)) لم يتضح في (ح).
(12) في (ك): «إذ».(3/1213)
قلت: وعلى هذا فلا تصحُّ الإضافة من جهة المعنى؛ فإنَّه يكون (1) كقولك: طعامُ طعامِ (2) ، ولا يصحُّ؛ لأنَّه إضافة الشيء إلى نفسه؛ وإنَّما (3) يستقيم معنى الحديث على ما حكاه ابن شميل، ويحصل (4) من قولهما (5) : أن طعمًا يُستعمل بمعنى الاسم، كما قاله (6) الجوهري، وبمعنى الصفة، كما قاله (7) ابن شميل. والله تعالى أعلم.
وقد روى أبو داود الطيالسي (8) من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - =(6/397)=@ في زمزم: «إنها مباركةٌ، وهي طعام طعم، وشفاء سقم»؛ أي: طعام من جوع، وشفاء من سقم. &(6/322)&$
وقوله في هذا الحديث: «إنها مباركة»؛ أي: إنها تظهر بركتها على من صحَّ صدقه، وحسنت (9) فيها نيته، كما قد روى العقيلي (10) أبو جعفر من حديث أبي الزبير عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ماء زمزم لما شرب له» (11) . فينبغي أن يتبرك بها، ويحسن النية في شربها، ويحمل من مائها، فقد روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: أنهاكانت تحمل من ماء زمزم، وتخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحمله (12) . قال: حديث حسن غريب.
وقوله: «ثم غَبَرْت ما غَبَرْتُ»؛ أى: بقيت ما بقيت، وقد تقدَّم: أن غبر من الأضداد.
وقوله: «وقد وجهت إلى أرض ذات نخل»؛ أي: ذُهبَ بي إلى تلك الجهة وأُريتها. %(3/1214)%
__________
(1) في (ح): ((يقول)).
(2) قوله: «طعامِ»سقط من (ك).
(3) في (ك): «ولا».
(4) في (ك): «ويستعمل».
(5) في (ك): «قوليهما».
(6) في (ب): «قال».
(7) قوله: «قاله»سقط من (ك).
(8) (459): ثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن عبدالله بن الصامت، عن أبي ذر به .
وأخرجه بزيادة: «شفاء سقم»البزار (3929)، والطبراني في "الصغير" (1/106) من طريق حميد بن هلال به. وإسناده صحيح .
(9) في (ك): «وصحت».
(10) في (ب): «الفقيه».
(11) أخرجه أحمد (3/357 و372)، وابن ماجه (2/1018 رقم 3062) في المناسك، باب الشرب من زمزم، والعقيلي (2/303)، وابن عدي (4/136).
جميعهم من طريق عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ماء زمزم لما شرب له». قال العقيلي: «هذا الحديث يُعرف بابن المؤمل، عن أبي الزبير، وقد روي عن حمزة الزيات، عن أبي الزبير».?
ثم رواه ابن عدي في الموضع السابق من طريق علي بن سعيد، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الرحمن بن المغيرة، عن حمزة ،. ثم قال: «لم نكتبه من حديث حمزة إلا عنه».
وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة (3/34): «هذا إسناد ضعيف لضعف عبدالله بن المؤمل».
وقد توبع عبدالله بن المؤمل على روايته: فأخرجه البيهقي(5/202) من طريق خلاد بن يحيى، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، به .
قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (2/268): «ولا يصح عن إبراهيم، إنما سمعه: إبراهيم من ابن المؤمل».
وله طريق أخرى: أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان (3/481-482 رقم4128)، والخطيب في "تاريخه" (10/116). كلاهما من طريق سويد بن سعيد، عن ابن المبارك، عن ابن أبي الموال، عن محمد ابن المنكدر، عن جابر، فذكره .
قال البيهقي: «غريب من حديث ابن أبي الموال، عن المنكدر، تفرد به سويد عن ابن المبارك من هذا الوجه عنه».
وقال الحافظ في "تلخيص الحبير" (2/268): وقد خلَّط في هذا الإسناد وأخطأ فيه عن ابن المبارك - أي سويد -، وإنما رواه بن المبارك عن ابن المؤمل، عن أبي الزبير، كذلك رويناه في فوائد أبي بكر بن المقري من طريق صحيحة، فجعله سويد عن أبي الموال عن ابن المنكدر، واغتر الحافظ شرف الدين الدمياطي بظاهر هذا الإسناد فحكم بأنه على رسم الصحيح؛ لأن ابن أبي الموال انفرد به البخاري، وسويدًا انفرد به مسلم، وغفل عن أن مسلمًا إنما أخرج لسويد ما توبع عليه لا ما انفرد به؛ فضلاً عما خولف فيه».
وقد روي الحديث من وجهٍ آخر: فأخرجه الدارقطني (2/289)، والحاكم (1/473) كلاهما من طريق محمد بن هشام المروزي، عن محمد بن حبيب الجارودي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، فذكره .
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح إن سلم من الجارودي، ووافقه الذهبي».
قال الحافظ في "تلخيص الحبير" (2/268-269): «والجارودي صدوق إلا أن روايته شاذة، فقد رواه حفاظ أصحاب بن عيينة والحميدي وابن أبي عمر وغيرهما عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله، ومما يقوي رواية ابن عيينة ما أخرجه الدينوري في المجالسة من طريق الحميدي قال: كنا عند ابن عيينة، فجاء رجل فقال: يا أبا محمد! الحديث الذي حدثتنا عن ماء زمزم صحيح؟ قال: نعم. قال: فإني شربته الآن لتحدثني مائة حديث، فقال: اجلس، فحدثه مائة حديث».
وانظر "الصحيحة" (2/543-544)، و"الإرواء" (1123).
(12) أخرجه البخاري في "التاريح الكبير" (3/189)، والترمذي (3/295 رقم963) في الحج، باب منه، والحاكم (1/485)، وعنه البيهقي (5/202). ثلاثتهم من طريق خلاد بن يزيد الجعفي، حدثني زهير بن معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحمل من ماء زمزم، وتخبر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحمله. قال البخاري: «خلاد بن يزيد، لا يتابع عليه».?
وقال الترمذي: «حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه».?
وقال الحاكم: «صحيح الإسناد».
فتعقبه الذهبي بقوله: «خلاد بن يزيد، قال البخاري: لا يتابع على حديثه».?
وكذا قال البيهقي. وانظر "الصحيحة" (883)، و"الإرواء" (4/321)، و"مختصر استدراك الذهبي (1/364-365).(3/1214)
وقوله: «لا (1) أراها إلا يثرب»؛ هذا كان اسم المدينة قديمًا حتى قدمها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكره أن تُسمَّى يثرب؛ لأنَّه: مأخوذ من التثريب، وهو اللؤم والتقبيح، وسَمَّاها «طابة» (2) ، وقد تقدَّم هذا في الحج، وأيماء بن رحضة (3) يروى بفتح الهمزة وكسرها، ورحضة بفتح الحاء المهملة، والضاد المعجمة. =(6/398)=@
وقوله: «غفار، غفر الله لها، وأسلم سالمها الله»؛ إنما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لهاتين القبيلتين (4) ؛ لأنَّهما أسلمتا طوعًا من غير قتال، ولا إكراه، ويحتمل أن يكون ذلك خبرًا عما فعل الله تعالى بهاتين القبيلتين من المغفرة، والمسالمة لهما (5) . وكيف ما كان فقد حصل لهما (6) : فخر السابق، وأجر اللاحق، وفيه مراعاة التجنيس (7) في الألفاظ. &(6/323)&$
وقوله: «إنهم قد شَنِفُوا له، وتَجَهَّمُوا (8) »؛ (9) ؛ أي: أبغضوه، وعبسوا في وجهه، والشَّنَفُ: البغض، ويُقال: رجل جهم الوجه: إذا كان غليظه منعقده؛ كأنه يعبس وجهه لكل أحد. =(6/399)=@ %(3/1215)%
__________
(1) في (ك): «أن».
(2) تقدم في الحج، باب المدينة لا يدخلها الطاعون .
(3) في (ك): «رخصة».
(4) من قوله: «إنما دعا ....»إلى هنا سقط من (ح).
(5) قوله: «لهما»سقط من (ح) و(ك).
(6) في (ب) و(ح): «لهم».
(7) من قوله: «وكيف كان ....»إلى هنا سقط من (ك).
(8) في (ك): «أي تهجموا».
(9) هذه العبارة من "صحيح مسلم" (4/1932).(3/1215)
وقوله: «فلم يزل أخي أُنَيْس يمدحه حتى غلبه (1) »؛ كذا في رواية الشَّجْزيّ وغيره، وهي واضحة؛ أي: لم يزل ينشد شعرًا يقتضي المدح، حتى حكم له الكاهن بالغلبة على الآخر، وأنه أشعر منه، وكان هذا الكاهن كان شاعرًا، فقضى بينهما لذلك، وفي رواية العذري: «فلم يزل أخي أنَيْس يمدحه ويثني عليه»مكان: «حتى غلبه (2) »). قال: فأخذنا صِرْمَته، فضَمَمْناها (3) إلى صرمتنا، والرواية الأولى أولى؛ &(6/324)&$ لأنَّها أفادت معنى مناسبًا، به التأم الكلام بما بعده، وهو أنه إنما أخذ صِرْمته؛ لأنَّ الكاهن قضى له بالغلبة؛ ولأن قوله: «ويثني عليه»مكرر (4) ؛ لأنَّه قد فُهم ذلك من قوله: يمدحه، فحمل الكلام على فائدة جديدة أولى. إنَّما (5) ذكر هذا المعنى ليبين: أن أخاه أُنَيْسا كان شاعرًا مُفْلِقًا مُجيدًا، بحيث يحكم (6) له بغلبة الشعراء، ومن =(6/400)=@ &(6/325)&$ كان هكذا (7) علم أنه عالم بالشعر وأنواعه. فلما (8) كان كذلك وسمع القرآن علم %(3/1216)%
__________
(1) في (ب): «غلب».
(2) قوله: «مكان حتى غلبه»سقط من (ك).
(3) في (ب): «وضممناها».
(4) في (ح): يشبه ((يكرر)).
(5) في (ح): ((وإنما)).
(6) في (ح): ((مُفلقًا بمدحه يحكم)).
(7) في (ك): «هذا».
(8) في (ب) و(ك) و(ح): «ولما».(3/1216)
قطعًا: أنه ليس بشعر، ولذلك قال: لقد وضعته على أنواع الشعر فلم يلتئم، فكانت (1) هذه شهادة بأنه ليس بشعر، ولا أنه - صلى الله عليه وسلم - شاعر، فكان ذلك تكذيبًا لمن زعمه من جهَّال الكفار، ومن المعاندين الفجَّار.
قلت: وقد ظهر بين حديث عبدالله بن الصامت، وبين حديث عبدالله بن عباس تباعد واختلاف في موضع من حديث أبي ذر هذا بحيث يبعد الجمع بينهما فيه. وذلك: أن في حديث ابن الصامت: أن أبا ذر لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما لقيه &(6/326)&$ ليلاً، وهو يطوف بالكعبة، فأسلم إذ ذاك بعد أن أقام ثلاثين بين يوم وليلة، ولا زاد له؛ وإنَّما اغتذى بماء زمزم. وفي حديث ابن عباس: إنه كان له قربة وزاد، وأن عليًّا رضي الله عنه أضافه (2) ثلاث ليال، ثم أدخله على النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته فأسلم، ثم خرج فصرخ بكلمتي الإسلام (3) . وكل واحد من السندين صحيح، فالله أعلم أي =(6/401)=@ %(3/1217)%
__________
(1) في (ك): «وكانت».
(2) في (ب) و(ك) و(م): «ضافه».
(3) في (ح): «الشهادة».(3/1217)
المتنين (1) الواقع، ويحتمل أن يقال: إن أبا ذر لما (2) لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - حول الكعبة وأسلم، لم يعلم به إذ ذاك (3) علي؛ إذ لم يكن معهم، ثم إن أبا ذر بقي متسترًا بحاله، إلى أن استتبعه علي، ثم أدخله على النبي - صلى الله عليه وسلم - فجدَّد إسلامه، فظن الراوي: أن ذلك أول إسلامه، وفي هذا الإحتمال (4) بُعد، والله أعلم بحقيقة ذلك. ولم أر من الشارحين لهذا الحديث من تنبَّه لهذا التعارض، ولا لهذا التأويل.
ومن باب فضائل جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه
وبجيلة من ولد أنمار بن نزار بن معد بن عدنان. واختلف في بجيلة؛ هل هو، أب، أو أُمٌّ نسبت القبيلة إليها. وجرير هذا: هو سيد بجيلة، ويُكنى: أبا عمرو، وقال له عمر رضي الله عنه: «ما زلت سيدًا في الجاهلية والإسلام» (5) ، وقال فيه =(6/402)=@ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أقبل وافدًا: «يطلع عليكم خير ذي يمن، كان على وجهه مسحة &(6/327)&$ مَلك»؛ فطلع جرير (6) . وكان عمر بن %(3/1218)%
__________
(1) في (ك): «المبين».
(2) قوله: «لما»سقط من (ك).
(3) في (ح): «ذلك».
(4) في (ك): «الاحمال».
(5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/813 رقم392/كما في الطبقة الرابعة من الصحابة)، والطبراني في "الكبير" (2/292 رقم2213) كلاهما من طريق الشعبي: أن عمر كان في بيت ومعه جرير بن عبدالله، فوجد عمر ريحًا، فقال: عزمت على صاحب هذه الريح لما قام فتوضأ، قال جرير: يا أمير المؤمنين! أويتوضأ القوم جميعًا؟ فقال عمر: رحمك الله! نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام .
قاله أبو زرعة وأبو حاتم
ورواية الشعبي عن عمر مرسلة، كما في "جامع التحصيل" (ص204)، و"المراسيل لأبي حاتم (ص160 رقم592).
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (6/400 رقم32331) في الفضائل، باب ما ذكر في جرير، وأحمد (4/359-360 و360 و364)، والنسائي في "الكبرى" (5/82 رقم 8304)، وابن خزيمة (3/149 و150 رقم1797 و1798)، وعنه ابن حبان (16/173-174 رقم7199/الإحسان)، والبيهقي (3/222).
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (2/352-353 رقم2483)، والحاكم (1/285)، عنه البيهقي(3/222). جميعهم من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن المغيرة بن شُبَيْل.
وأخرجه الحميدي (2/350 رقم800)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1/349 رقم 250)، والنسائي في "الكبرى" (5/82 رقم8302)، والطبراني في "الكبير" (2/301 رقم2258) جميعهم من طريق سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم. كلاهما: المغيرة بن شُبَيْل، وقيس، عن جرير بن عبدالله قال: لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي، ثم حللت عيبتي، ولبست حلتي، فدخلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فسلمت على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فرماني الناس بالحدق، قال: فقلت لجليس لي: يا عبدالله! هل ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمري شيئًا؟ قال: نعم ذكرك بأحسن الذكر؛ قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ عرض له في خطبته، فقال: «إنه سيدخل عليكم من هذا الفج أو من هذا الباب من خير ذي يمن، على وجهه مسحة مَلك». قال جرير: فحمدت الله على ما أبلاني. قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين»، ووافقه الذهبي .
وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، كما تقدم. والألباني في "صحيح الأدب المفرد" (ص111 رقم188).(3/1218)
الخطاب رضي الله عنه يقول فيه: «جرير بن عبدالله يوسف هذه الأمة» (1) ، وفيه قال (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» (3) .
أسلم قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعين يومًا (4) ، نزل جرير الكوفة (5) بعد موت النبي (6) - صلى الله عليه وسلم - واتخذ بها دارًا، ثم تحوَّل إلى قرقيسيا، ومات بها سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقيل: مات بالسَّراة في ولاية الضحَّاك بن قيس على الكوفة لمعاوية. روى (7) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث، أخرج له منها في الصحيحين خمسة عشرحديثًا.
وقوله: «ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت»؛ يعني: أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يحتجب منه، بل بنفس ما يعلم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باستئذانه ترك كل ما يكون فيه، وأذن له، مبادرًا لذلك مبالغة في إكرامه (8) ، ولا يفهم من هذا أن جريرًا كان يدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بيته من غير إذن؛ فإنَّ ذلك لا يصحُّ لحرمة بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولما يُفضي ذلك إليه من الاطلاع على ما لا يجوز، من عورات البيوت.
وقوله: «ولا رآني إلا ضحك في وجهي»؛ هذا منه - صلى الله عليه وسلم - فرح به، وبشاشة للقائه، وإعجابٌ برؤيته؛ فإنَّه كان من كملة الرجال خَلْقًا، وخُلُقًا. &(6/328)&$
وقوله: «وكنت لا أثبت على الخيل»؛ يعني: أنه كان يسقط، أو يخاف =(6/403)=@ السُّقوط من على ظهورها حالة إجرائها، فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بأكثر مما طلب بالثبوت مطلقًا، وبأن (9) يجعله هاديًا لغيره ومهديًّا (10) في نفسه. فكان كل ذلك، وظهر عليه (11) جميع ما دعا له به، وأول ذلك: أنه نفر في خمسين ومئة %(3/1219)%
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/815 رقم395/كما في الطبقة الرابعة من الصحابة) عن عنان بن مسلم، وهشام أبي الوليد الطيالسي، عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن إبراهيم بن جرير أن مر بن الخطاب قال: إن جريرا يوسف هذه الأمة؛ يعني: حسنه. ورجاله ثقات، إلا أنه مرسل .
قال الحافظ في "الإصابة" (2/77): وروى البغوي من طريق قيس، عن جرير قال: رآني عمر متجردًا فقال: ما أرى أحدًا من الناس صوِّر صورة هذا إلا ما ذكر عن يوسف .
وذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (2/534) عن خالد بن عبدالله، عن بيان، عن قيس، عن جرير، نحو رواية البغوي مطولة. ورجاله ثقات .
وذكره المزي في "تهذيب الكمال" (4/538) عن بيان، عن قيس به .
وذكره المزي في "تهذيب الكمال" (4/538) عن بيان، عن عثمان مولى آل عمرو بن حريث، عن عبدالملك بن عمير قال: رأيت جرير بن عبدالله، وكأن وجهه شقة قمر .
(2) في (ح): ((وقال فيه)).
(3) روي من حديث جماعة من الصحابة:
1 - حديث جابر: أخرجه الحاكم (4/291-292) من طريق عمرو بن حفص بن عياث، عن أبيه ،عن معبد بن خالد الأنصاري، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: دخل جرير بن عبد الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده أصحابه، وضنَّ كل رجل بمجلسه، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رداءه فألقاه إليه، فتلقاه بنحره ووجهه فقبله، ووضعه على عينيه، وقال: أكرمك الله كما أكرمتني، ثم وضعه على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا أتاه كريم قوم فليكرمه». قال الحاكم: صحيح الإسناد .
قال الألباني في "الصحيحة" (3/205): «سكت عليه الذهبي، ومعبد وأبوه لم أجد من ذكرهما».
2 - حديث ابن عمر: أخرجه ابن ماجه (2/1223 رقم3712) في الأدب، باب: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، وابن عدي (3/379)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (ص179 رقم144)، والبيهقي (8/168)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1/ 444 رقم 761). جميعهم من طريق سعيد بن مسلمة، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...، فذكره .
قال الألباني في "الصحيحة" (3/204): «وهذا إسناد رجاله ثقات غير سعيد بن مسلمة وهو ضعيف، لكن قال ابن عدي: أرجو أنه ممن لا يترك حديثه، ويحتمل في رواياته فإنها مقاربة، ثم رواه ابن عدي (1/295) من طريق محمد بن الفضل عن أبيه، عن نافع، به، وقال: ومحمد بن الفضل عامة حديثه مما لا يتابعه الثقات عليه».
3 - جرير: أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير، (2266)، وابن عدى (1022)، وأبو الشيخ (142)، والبيهقي (8/168)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1/444-445 رقم762) جميعهم من طريق حصين بن عمر، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير، فذكره .
وحصين بن عمر: متروك، كما في "التقريب" (ص254 رقم1387). وللحديث شواهد أخرى، ساقها الألباني في "الصحيحة" (3/203-208 رقم1205) ولا ينجبر بها ضعف الحديث، فانظرها.
(4) أخرجه ابن خزيمة (1/95 رقم188) عن فهد بن سليمان البصري، عن موسى بن داود، عن حفص بن غياث، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن جرير بن عبدالله قال: أسلمت قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعين يومًا .
قال الألباني في تعليقه على ابن خزيمة: «ورجاله ثقات غير فهد بن سليمان البصري، ترجمه ابن أبي حاتم (3/2/89) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً».
وقال الحافظ في "الإصابة" (2/76): «وجزم ابن عبدالبر عنه بأنه أسلم قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعين يومًا، وهو غلط، ففي الصحيحين عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "استنصت الناس في حجة الوداع"».
قال في "الفتح" (7/132): «وذلك قبل موته r بأكثر من ثمانين يومًا».
(5) في (ك): «بالكوفة».
(6) في (ح): ((رسول الله)).
(7) في (ح): «وروى».
(8) في (ك): «الكرامة».
(9) في (ح): ((وأن)).
(10) في (ب): «مهديًّا».
(11) في (ك): «له».(3/1219)
فارس لذي الخلصة فحرقها، وعمل فيها عملاً لا يعمله خمسة آلاف، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذي الكلاع، وذي رُعَيْن (1) ، وله المقامات المشهورة.
وذو الخلصة - بفتح اللام -: بيت بَنَتْهُ خثعم تعظمه، وتطوف به، وتنحر عنده، تشبهه ببيت مكة، وتسمِّيه العرب (2) : الكعبة (3) اليمانية والشامية (4) ، وقد كانت العرب فعلت مثل هذا بيوتًا كثيرة، قد تقدَّم =(6/404)=@ ذكرها، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهدمها كلها، وتحريقها، فكان ذلك، ومحا الله الباطل، وأحق الحق بكلماته .
- - - - -
ومن باب فضائل عبدالله بن عباس
ابن عبدالمطلب بن هاشم، يُكنى: أبا العباس. ولد في الشعب. وبنو هاشم محصورون فيه، قبل خروجهم منه بيسير، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، واختلف في سِنِّه، يوم (5) موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقيل: عشر سنين (6) ، وقيل: خمس عشرة (7) (8) ، رواه سعيد بن جبير عنه، وقيل: كان ابن ثلاث عشرة سنة (9) ، %(3/1220)%
__________
(1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (4359) عن جرير رضي الله عنه قال: كنت باليمن فلقيت رجلين من أهل اليمن: ذا كلاع، وذا عمرو ... الحديث .
وأخرجه ابن عساكر في "تاريخه" (17/38) من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن جرير قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذي الكلاع وذي عمرو، فأما ذو الكلاع فقال: ادخل على أم شرحبيل، والله ما دخل أحد بعد أبي شرحبيل قبلك وأسلما، وأما ذو عمرو فقال: يا جرير! هل شعرت أن من بادئ كرامة الله عز وجل للعبد أن يحسن صورته، وكان أمر لي بدجاجة، وقال: لولا أن أمنعك دجاجتك لأنباتك أن صاحبك الذي جئت من عنده إن كان نبيًا فقد مات اليوم، فأهويت إلى قائم سيفي لأضربه به ثم كففت، فلما كنت ببعض الطريق لقيني وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأخرجه ابن عساكر (17/385) من طرق عن عمرو بن أمية الضمري، وابن عباس، وأبي بكر بن سليمان بن أبي خثمة، عن جدته الشفاء، دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: بعث رسول الله r جرير بن عبدالله البجلي إلى ذي الكلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع، وإلى ذي عمرو يدعوهما إلى الإسلام فأسلما، وأسلمت ضريبة بنت أبرهة بن الصباح امرأة ذي الكلاع، وتوفي رسول الله( وجرير عندهم فأخبره ذو عمرو بوفاته فرجع جرير إلى المدينة.
(2) قوله: «العرب»سقط من (ب) و(ح).
(3) قوله: «الكعبة»سقط من (ك).
(4) كان يقال لها اليمانية باعتبار كونها باليمن، والشام باعتبار أنهم جعلوا بابها مقابل الشام. وقيل غير ذلك، وقيل: إن الرواية خطأ .
قال ابن حجر في "فتح الباري"(8/71): «والذي يظهر لي أن اذي في الرواية صواب»، ثم ذكر ما تقدم .
(5) في (ب): «وقت»، وفي (ك): «قبل».
(6) أخرجه البخاري (9/83 رقم5035 و5036) في فضائل القرآن، باب تعليم الصبيان القرآن .
(7) في (ك): «عشرة سنة».
(8) أخرجه الطيالسي (ص343 رقم2640)، وعنه أحمد (1/373)، والحاكم (3/533). وأخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1/284 رقم372 و373)، والطبراني في "الكبير" (10/235 رقم10578). جميعهم من طريق شعبة، الحاكم (3/533) من طريق سعيد ابن أبي عروبة. كلاهما: شعبة، وسعيد، عن أبي إسحق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمس عشرة.
زاد بعضهم: «قد ختنت».
قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي». وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (5/181 رقم3543)، وانظر "الفتح" (11/90).
(9) قال الحافظ في "الفتح" (11/90): «المحفوظ الصحيح انه ولد بالشعب وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة وبذلك قطع أهل السير وصححه بن عبد البر وأورد بسند صحيح عن بن عباس انه قال ولدت وبنو هاشم في الشعب وهذا لا ينافي قوله ناهزت الاحتلام أي قاربته ولا قوله وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك لاحتمال أن يكون أدرك فختن قبل الوفاة النبوية وبعد حجة الوداع وأما قوله وانا بن عشر فمحمول على إلغاء الكسر وروى احمد من طريق أخرى عن بن عباس انه كان حينئذ بن خمس عشرة ويمكن رده الى رواية ثلاث عشرة بأن يكون ابن ثلاث عشرة وشىء وولد في اثناء السنة فجبر الكسرين بان يكون ولد مثلا في شوال فله من السنة الأولى ثلاثة اشهر فأطلق عليها سنة وقبض النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع فله من السنة الأخيرة ثلاثة أخرى واكمل بينهما ثلاث عشرة فمن قال ثلاث عشرة الغي الكسرين ومن قال خمس عشرة جبرهما والله أعلم».(3/1220)
وقال ابن عباس: إنه كان في حجَّة الوداع قد ناهز الاحتلام (1) ، ومات عبد الله بالطائف سنة ثمان وستين في أيام ابن الزبير؛ لأنَّه أخرجه من مكة، وتوفي ابن عباس وهو ابن سبعين سنة، وقيل: ابن إحدى وسبعين، وقيل (2) : ابن أربع وسبعين، وصلى عليه محمد ابن &(6/329)&$ الحنفية، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة (3) ، وضرب على قبره نسطاطا، وبروى عن مجاهد عنه أنه قال: رأيت جبريل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين، ودعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة مرتين (4) ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه فيه: نعم ترجمان القرآن ابن عباس (5) ، وكان عمر رضي الله عنه يقول: فتى الكهول، لسان سؤول ،?وقلب عقول (6) . وقال مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس. وإذا تكلَّم قلت: أفصح الناس، وإذا تحدَّث قلت: أعلم الناس، وكان يُسمى البحر: لغزارة علمه، والحبر: لاتساع حفظه، ونفوذ فهمه (7) . وكان عمر رضي الله عنه يقربه، ويدنيه لجودة فهمه (8) ، =(6/405)=@ وحسن تأتِّيه، وجملة ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث وستمئة (9) وستون، أخرج له في الصحيحين مئتا حديث وأربعة
وثلاثون حديثًا.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم فقهه (10) »؛ هنا انتهى حديث مسلم، وقال البخاري: «اللهم فقهه(4) في الدين» (11) ، وفي رواية قال: ضمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «اللهم علمه الكتاب» (12) ، قال أبو عمر (13) : وفي بعض الروايات: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل». قال: وفي حديث آخر: «اللهم بارك فيه وانشر منه، واجعله من عبادك الصالحين» (14) ، وفي حديث آخر: «اللهم زده علمًا وفقهًا» (15) . قال: وكلها حديث صحيح.
قلت: وقد ظهرت (16) عليه بركات هذه الدَّعوات، فاشتهرت علومه وفضائله، وعمَّت خيراته وفواضله، فارتحل طلاب العلم إليه، وازدحموا عليه، ورجعوا عند اختلافهم لقوله، وعوَّلوا على نظره ورأيه. قال يزيد بن الأصم: خرج معاوية &(6/330)&$ حاجًّا معه ابن عباس فكان لمعاوية %(3/1221)%
__________
(1) تقدم في الصلاة، باب سترة المصلى وأحكامها .
(2) في (ح): ((وقال)) بدل ((وقيل)).
(3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/368)، وابن أبي شيبة (6/385 رقم 32208) في الفضائل، باب ما ذكر في ابن عباس، كلاهما عن الثوري، عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي كلثوم قال: لما دفن ابن عباس قال ابن الحنفية: اليوم مات رباني هذه الأمة .
وأخرجه الفسوي (1/540) عن أبي بكر الحميدي، عن سفيان، عن سالم، عن منذر قال: لما مات ابن عباس قال ابن الحنفية: اليوم مات رباني هذه الأمة .
وأخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/316) من طريق شريك، عن سعيد بن مسروق، عن منذر الثوري، عن ابن الحنفية قال: كان ابن عباس حبر هذه الأمة.
وانظر "المستدرك" (1/543)، و"المعرفة والتاريخ" (1/541-542)، و"الإصابة" (6/140).
وأخرج الفسوي(1/518) عن سعيد بن منصور، ثنا هشيم، أخبرنا أبو حمزة عمران بن أبي عطاء القصاب قال: شهدت موت ابن عباس بالطائف، فوليه محمد ابن الحنفية، وكبَّر عليه أربعًا.
وأبو حمزة: صدوق له أوهام، كما في "التقريب" (ص751 رقم5198).
وأخرجه الحاكم أيضًا (1/544) بسنده من طريق سعيد بن منصورالسابق، وزاد فيه: وأدخله القبر من قبل رجليه، وضرب عليه البناء ثلاثًا، والذي حفظنا عنه نحوا من أربعمائة حديث.
وقال الهيثمي في "المجمع" (3/144 برقم 4185): وعن عمران ابن أبي عطاء ...، وذكر الحديث. وفي آخره: وضرب عليه فسطاطا ثلاثة أيام، رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح .
قلت: لا يتوهم المتوهم أن هذا تعظسيمًا للقبر أو بناءًا عليه فلعله كان لغرض مؤقت لحماية القبر أو تظليل للحافرين أو الدافنين أو نحو ذلك، فقد روى ابن سعد في "الطبقات" (8/112) عن الفضل بن دكين: حدثنا أبو معشر، عن محمد بن المنكدر قال: قام عمر بن الخطاب في المقبرة والناس يحفرون لزينب بنت جحش في يوم حار، فقال: لو أني ضربت عليهم فسطاطًا، فضرب عليهم فسطاطًا .
وأبو معشرهو نجيح بن عبدالرحمن السندي، قال في "التقريب": «ضعيف».
(4) ويروى عن مجاهد:
أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/264 رقم10615) من طريق ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: رأيت جبريل مرتين، ودعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة مرتين .
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/370)، والفسوي في "تاريخه" (1/519)، والترمذي (5/637 رقم3822) في المناقب، باب مناقب عبد الله ابن عباس .
ثلاثتهم من طريق سفيان، عن ليث، عن أبي جهضم، عن ابن عباس، فذكره .
قال الترمذي: هذا حديث مرسل، ولا نعرف لأبي جهضم سماعًا من ابن عباس .
قد رُوي عن عبد الله ابن عبد الله بن عباس عن ابن عباس.
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/365)، والترمذي (5/638 رقنم3823) في الموضع السابق. كلاهما من طلريق القاسم بن مالك المزني، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس قال: دعا لي رسول - صلى الله عليه وسلم - أن يؤتيني الحكمة مرتين .
قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عطاء، وقد رواه عكرمة، عن ابن عباس».
وهو عند البخاري (ا/169 رقم75) في العلم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - اللهم علمه الكتاب، و(7/100 رقم3756) في فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس، و(13/245 رقم7270) في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب، ولفظه: ضمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم علمه الكتاب».
وأمر رؤيته لجبريل، ففيه حديث آخر:
أخرجه الطيالسي (ص353 رقم3708)، وأحمد (1/293 و312)، وعبد بن حميد (712)، والفسوي (1/521)، والطبراني في "الكبير" (10/236-237 رقم 10584)، و(12/143 رقم12836)، والبيهقي في "الدلائل" (7/75).
جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن عمار بن أبى عمار: ان ابن عباس قال: كنت مع أبى عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده رجل يناجيه، فكان كالمعرض عن أبى، فخرجنا من عنده، فقال لي أبى: أي بنى ألم تر إلى ابن عمك كالمعرض عنى، فقلت: يا أبت أنه كان عنده رجل يناجيه، قال: فرجعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبى: يا رسول الله! قلت لعبد الله: كذا وكذا، فأخبرني أنه كان عندك رجل يناجيك، فهل كان عندك أحد؟ فقال رسول الله( هل رأيته يا عبد الله؟ قال: قلت: نعم. قال: فإن ذاك جبريل، وهو الذي شغلني عنك.
قال أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (4/236 رقم2679): «إسناده صحيح».
(5) أخرجه ابن سعد (2/366)، وابن ابي شيبة (6/386 رقم32210) في الفضائل، باب ما ذكر في ابن عباس، ولفسوي (1/465 و466)، والحاكم (3/537). جميعهم من طريق الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبدالله قال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي .
(6) أخرجه عبدالرزاق (4/376-377 رقم8123) عن ابن عيينة، عن أبي بكر الهذلي قال: دخلت على الحسن وهو يصلِّي، فذاكرت ابنه شيئًا من القرآن، فانفتل إلينا، فقال: كان عمر يقول: ذاكم فتى الكهول، إن له لسانًا سؤولاً، وقلبًا عقولاً .
ومن طريقه أخرجه الطبراني في "ألكبير" (2/265 رقم410620)، والحاكم (3/539-510)، وقال الذهبي: منقطع. وقال الهيثمي في "المجمع" (9/277): رواه الطبراني وأبوبكر الهذلي ضعيف .
وأبو بكر الهذلي: أخباري متروك الحديث، كما في "التقريب" (ص1120 رقم 8059). ورواية الحسن البصري، عن عمر، مرسلة .
وانظر "مختصر ايتدراك الذهبي" (5/2229-2230 رقم767) بتحقيقي .
(7) أخرجه البلاذري (3/30) من طريق شريك، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق. وانظر "الإصابة" (6/137).
(8) أخرجه البخاري (6/628 رقم3627) في المناقب، باب علامات النبوة. و(8/ 30 و130 و734 و735 رقم 4294 و4430 و4969 و4970) في المغازي، باب منه، وباب مرض النبي r ووفاته، وفي التفسير، باب قوله: {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا}.
(9) في (ك): «وستمئة حديث».
(10) في (ك): «فهمه».
(11) البخاري (1/244 رقم143) في الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء .
(12) أخرجه البخاري (ا/169 رقم75) في العلم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم علمه الكتاب»، و(7/100 رقم3756) في فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس، و(13/245 رقم7270) في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب منه .
(13) في "الاستيعاب" (6/260) وصححه .
وأخرجه ابن سعد (2/365)، وابن ابي شيبة (6/386 رقم32213) في الفضائل، باب ما ذكر في ابن عباس، وأحمد (1/266 و314 و328 و335)، والفسوي (1/493-494 و494)، وابن حبان (15/531 رقم7055/الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (10/238 رقم10587)، والحاكم (3/534). جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن عبدالله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله( في بيت ميمونة، فوضعت له وضوءًا، فقالت له ميمونة: وضع لك عبدالله بن العباس وضوءًا، فقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل .
قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (4/127 رقم2397)، وانظر مختصر "استدراك الذهبي" (5/2225-2228 ر4م766) بتحقيقي .
(14) أخرجه الزبير بن بكار (8/296/كما في البداية والنهاية لابن كثير) عن ساعدة بن عبدالله، عن داود بن عطاء، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن العباس فقال: «اللهم بارك فيه وانشر منه».
ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/315) وقال: تفرد به داود بن عطاء المدني. وفي "التقريب" (ص307 رقم1811): «ضعيف».
(15) أخرجه ابن ابي شيبة (6/386 رقم32211) في الفضائل، باب ما ذكر في ابن عباس، وأحمد (1/330)، والفسوي (1/518) والحاكم (3/534)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/314-315). جميعهم من طريق حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار، عن أبي كريب، عن ابن عباس قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي من آخر الليل، فصليت خلفه، فأخذ بعدي فجرني فجعلني حذاءه فلما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاته خنست فصلى رسول الل - صلى الله عليه وسلم - فلما انصرف قال لي.
ما شأني أجعلك حذائي فتخنس؟ فقمت وراءه، فأخذني فأقامني حذاءه، فلما أقبل على صلاته انخنست، فلما انصرف قال: مالك أجعلك حذائي فتخنس؟ فقلت يا رسول الله! ما ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله، قال: فأعجبته، فدعا الله أن يزدني فهما وعلمًا .
قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة». ووافقه الذهبي. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (5/25 رقم3061).
(16) في (ك): «ظهر».(3/1221)
موكب (1) ، ولابن عباس موكب(5) ممن يطلب العلم. وقال عمرو (2) بن دينار: ما رأيت مجلسًا أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس، الحلال، والحرام، والعربية، والأنساب، والشعر. وقال عبيدالله بن عبدالله: ما رأيت أحدًا كان أعلم بالسنة ولا أجل رأيًا، ولا أثقب نظرًا من ابن عباس =(6/406)=@ رضي الله عنه.
ولقد كان عمر رضي الله عنه يعده للمعضلات (3) مع اجتهاد عمر ونظره للمسلمين، وكان قد (4) عمي في آخر عمره، فانشد في ذلك (5) :
إن يأخذ الله من عينيَّ نُورَهما ففي لساني وقلبي منهما نورُ
قَلْبي ذَكِيٌّ وعقلي غير ذي دَخَلٍ وفي فمي صارمٌ كالسَّيفِ مأْثُورُ
وروي أن طائرًا أبيض خرج من قبره، فتأوَّلوه: علمه خرج إلى الناس، ويقال (6) : بل دخل قبره طائرٌ أبيض، فقيل: إنه بصره في التأويل، وقال أبو (7) الزبير: مات ابن عباس بالطائف، فجاء طائرٌ أبيض فدخل في نعشه حين حمل، فما رؤي خارجًا منه، وفضائله أكثر من أن تحص (8) .
وأما (9) عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويُكنى: أبا عبدالرحمن، فإنَّه أسلم صغيرًا لم يبلغ الحلم مع أبيه، وهاجر إلى المدينة قبل أبيه، عمر (10) وأول مشاهده: الخندق. لم (11) يشهد بدرًا، ولا أحدًا لصغره؛ فإنَّه عرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد (12) ، وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وأجازه يوم الخندق، وهذا هو (13) الصحيح إن شاء الله تعالى، وشهد الحديبية، وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (14) ، وقيل: إنه أول من بايعه (15) ، وكان من أهل العلم والورع، وكان (16) كثير الاتباع لرسول الله (17) - صلى الله عليه وسلم - ، شديد التحري والاحتياط، والتوقي في فتواه (18) ، وكان لا يتخلَّف عن السرايا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ثم كان بعد موته - صلى الله عليه وسلم - مُولِعًا بالحج، وكان من أعلم الناس بمناسكه، وكان قد أشكلت عليه حروب عليٍّ لورعه، فقعد عنه، وندم على ذلك حين حضرته الوفاة، روي عنه من أوجه أنه قال: «ما آسى على شيء فاتني إلا &(6/331)&$ %(3/1222)%
__________
(1) في (ك): «مركب».
(2) في (ك): «عمر».
(3) في (ح) يشبه ((للمضلات)).
(4) في (ب): «وقد كان».
(5) البيتان ذكرهما ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (2/355).
(6) في (ك): «وقيل».
(7) في (ك): «ابن».
(8) في (ح): ((تحصى)).
(9) في (ح): «ومن باب فضائل».
(10) قوله: ((عمر)) ليس في (ح).
(11) في (ك): «ولم».
(12) تقدم في الجهاد والسير، باب السن الذي يجاز ف يالقتال .
(13) في (ك): «وهو».
(14) البخاري (7/455 رقم4186) في المغازي، باب غزوة الحديبية .
(15) لم أقف عليه مسندًا، وقد قال ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (6/312): ولا يصح، والصحيح: أن من بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية تحت الشجرة بيعة الرضوان: أبو سنان الأسدى .
(16) في (ب) و(ح): «كان» بلا واو.
(17) في (ح): «لسنة رسول الله».
(18) في (ك): «الفتوى».(3/1222)
تركي لقتال الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه» (1) .
وقال جابر بن?عبدالله (2) رضي الله عنهما: «ما منا أحدٌ إلا مالت له (3) الدنيا، ومال إليها ما خلا عمر =(6/407)=@ وابنه عبدالله» (4) .
وقال ميمون بن مهران: ما رأينا أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس. وروى ابن وهب عن مالك قال: بلغ عبدالله بن عمر ستًّا وثمانين سنة، وأفتى في الإسلام ستين سنة، ونشر نافع عنه علمًا جمًّا، وروى ابن الماجشون: أن مروان بن الحكم دخل في نفر على عبدالله بن عمر بعدما قتل عثمان رضي الله عنه فعزموا عليه أن يبايعوه. قال: كيف لي بالناس؟ قال: تقاتلهم، فقال: والله! لو اجتمع عليَّ أهل الأرض إلا?أهل فدك، ما قاتلتهم (5) ، قال: فخرجوا من عنده ومروان يقول:
إني أرى فِتنَةً تَغلي مَرَاجِلُها والمُلكُ بَعدَ أَبي لَيْلَى لِمَن غَلَبا
مات ابن عمر بمكة سنة ثلاث وسبعين، وذلك بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، أو نحوها، وقيل: ستة أشهر، ودفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين، وكان سبب موته: أن الحجاج أمر رجلاً فسمَّ زُجَّ رُمْحِهِ فزحمه، فوضع الزجَّ (6) في ظهر قدمه (7) ، فمرض منها فمات رحمه الله حكاه أبو عمر. وجملة ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديث، وستمئة وثلاثون حديثًا، أخرج له منها في الصحيحين مئة حديث وثمانون.
وقوله: «رأيت في المنام كأن في يدي قطعة (8) إستبرق»قد (9) تقدَّم الكلام أن الإستبرق: ما غلظ من الدِّيباج، وكان هذه القطعة مثال لعمل صالح يعمله يتقرَّب =(6/408)=@ به إلى الله تعالى، ويقدِّمه (10) بين يديه: يرشده ثوابه إلى أي موضع %(3/1223)%
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (4/185) عن يزيد بن هارون قال، عن العوام بن حوشب، عن عياش العامري، عن سعيد بن جبير قال: لما أصاب ابنَ عمر الخَبْلُ [ أي الجرح ] الذي أصابه بمكة، فرمي حتى أصاب الأرض، فخاف أن يمنعه الألم، فقال: يا ابن أم الدهماء! اقض بي المناسك، فلما اشتد وجعه بلغ الحَجَاج، فأتاه يعوده، فجعل يقول: لو أعلم من أصابك لفعلت وفعلت، فلما أكثر عليه، قال: أنت أصبتني، حملت السلاح في يوم لا يُحمل فيه السلاح، فلما خرج الحَجَاج قال ابن عمر: ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث: ظمء الهواجر، ومكابدة الليل، وألا أكون قاتلت هذه الفئة الباغية التي حلت بنا .
عياش العمري: وثقه ابن معين، والنسائي، وقال أبو حاتم: صالح. "الجرح والتعديل" (7/6)، و"التهذيب":(8/199).
وأخرجه ابن سعد (4/186-187)، وابن عبدالبر في "الاستيعاب" (6/323-324 و324-325)، كلاهما من طريق عبدالعزيز بن سياه .
وأخرجه ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (6/325-326) من طريق عبدالله بن حبيب بن أبي ثابت .
كلاهما: عبدالعزيز بن سياه، وعبدالله بن حبيب، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر: أنه قال حين حضرته الوفاة: ما آسى على شيء إلا أني لم أقاتل مع عليّ - صلى الله عليه وسلم - الفئة الباغية .
وأخرجه ابن عبدالبر أيضًا في "الاستيعاب" (6/326) عن أبي أحمد - الزبيري - عن عبدالجبار بن العباس، عن أبي العنبس، عن أبي بكر بن أبي الجهم قال: سمعت ابن عمر يقول: فذكره .
(2) قوله: «ابن عبدالله»سقط من (ح).
(3) في (ب): «به».
(4) أخرجه ابن ابي شيبة (6/399 رقم32322) في الفضائل، باب ما ذكر في ابن عمر، والفسوي (1/490)، والحاكم (3/560)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/294). جميعهم من طريق حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال: ما رأيت- أو ما أدركت - أحدًا إلا قد مالت به الدنيا، أو مال بها، إلا عبدالله بن عمر. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي .
(5) أخرجه ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (6/317-318) عن عبدالرحمن، عن أحمد، عن الديلى، عن عبدالحميد بن صبيح، عن يوسف بن الماجشون، عن أبيه وغيره: أن مروان بن الحكم دخل فى نفر على عبدالله بن عمر بعدما قتل عثمان، فعرضوا عليه أن يبايعوا له، قال: وكيف لي بالناس؟ قال: تقاتلهم ونقاتلهم معك، فقال: والله لو اجتمع عليَّ أهل الأرض إلا أهل فدك ما قاتلتهم، قال: فخرجوا من عنده، ومروان يقول: والملك بعد أبى ليلى لمن غلبا .
وعبدالحميد بن صبيح لم أقف له على ترجمة .
(6) في (ح): «السهم».
(7) أخرجه ابن سعد (4/185 و186 و187)،والطبراني في "الكبير" (12/258-159 رقم1303)، والحاكم (3/557)، وهو حديث صحيح، وانظر "مختصر استدراك الذهبي" (5/2262-2266 رقم777 و778) بتحقيقي .
(8) في (ك): «قطعة من».
(9) في (ح): «وقد».
(10) في (ب): «تقدمه».(3/1223)
شاء من الجنة، ولذلك قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أرى عبد الله رجلاً صالحًا», وهذه شهادة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بالصَّلاح. ووجدت بخط شيخنا أبي الصبر أيوب مقيدًا: أرى - بفتح الراء والهمزة فيكون مبنيًا للفاعل، ويكون من رؤية القلب، فيكون علمًا. ويجوز أن يكون همزته مضمومة، فتكون ظنًّا صادقًا؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم في ظنه كما هو في علمه. &(6/332)&$
وقوله: «وكنت شابًا عزبًا أنام في المسجد»؛ دليل على جواز النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك. والقرنان: منارتان تبنيان (1) على جانبي البئر، يجعل (2) عليهما الخشبة التي تعلق عليها (3) البكرة. والبئر: المطوية بالحجارة، وهي الرس أيضًا، فإنَّ لم تُطو: فهي القليب والركي. ولم ترع (4) : أي لم تفزع، والروع: الفزع؛ وإنَّما =(6/409)=@ فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من رؤية عبدالله للنار، أنه ممدوح؛ لأنَّه عرض على النار، ثم عوفي منها، وقيل له: لا روع عليك، وهذا إنما هو لصلاحه، وما هو عليه من الخير، غير أنه لم يكن يقوم من الليل؛ إذ لو كان ذلك ما عرض (5) على النار ولا رآها، ثم إنه حصل لعبدالله رضي الله عنه من تلك الرؤية يقين مشاهدة النار والاحتراز منها، والتنبيه على أن قيام الليل مِمَّا يُتَّقى به النار، ولذلك لم يترك قيام الليل بعد ذلك رضي الله عنه. %(3/1224)%
__________
(1) في (ك): «يبقيان»، وفي (ح): «تبقيان».
(2) في (ب): «تجعل».
(3) في (ب) و(ك): «منها».
(4) في (ك): «نقرع».
(5) في (ح): ((لو كان لما عرض)).(3/1224)
ومن باب فضائل أنس بن مالك بن النضر رضي الله عنه
ابن ضمضم بن زيد النَّجاري، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , يُكنى: أبا حمزة، يروى عنه أنه قال: كنَّاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببقلة كنت أجتنيها (1) (2) . وأمه: أم سليم &(6/333)&$ بنت ملحان. كان سِنُّ أنس لما قدم (3) النبي (4) - صلى الله عليه وسلم - المدينة عشر سنين، وقيل: ثماني سنين، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنس ابن عشرين سنة، وشهد بدرًا (5) ، وتوفي في قصره بالطفِّ على فرسخين من البصرة سنة إحدى وتسعين، وقيل: ثلاث (6) وتسعين، وقيل: سنة، اثنتين وتسعين، قال أبو عمر (7) : وهو آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (8) ، وما أعلم أحدًا ممن مات بعده ممن رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أبا الطفيل (9) .
واختلف في سن أنس يوم توفي، فقيل: مئة سنة إلا سنة واحدة، ويقال (10) : إنه ولد له ثمانون ولدًا؛ منهم: ثمانية وسبعون ذكرًا وابنتان، وتوفي قبله من ولده لصلبه وولد ولده نحو المئة؛ وكلُّ ذلك من تعميره وكثرة (11) نسله ببركة دعوة =(6/410)=@ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي في "الأم"، وجملة ما روى عن رسول الله (12) - صلى الله عليه وسلم - من الحديث: ألفا حديث ومئتا حديث، وستة وثمانون حديثًا، أخرج له (13) في الصحيحين ثلاثمئة حديث، وثمانية عشر حديثًا. %(3/1225)%
__________
(1) في (ح): «اجتنيتها».
(2) أخرجه أحمد (3/127 و161 و232 و260)، والترمذي (5/640 رقم3830) في المناقب، باب مناقب أنس بن مالك، وأبو يعلى (7/110 رقم4057)، والطبراني في "الكبير" (1/239 رقم656). جميعهم من طريق جابر الجعفي، عن أبي نصر، عن أنس قال: كنَّاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببقلة كنت اجتنيتها .
قال الترمذي: «هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث جابر الجعفي عن أبي نصر، وأبو نصر هو: خيثمة البصري، روى عن أنس أحاديث».
وأخرجه أحمد (3/130) من طريق شعبة، عن جابر الجعفي، عن حميد بن هلال، عن أنس، فذكره. وهذا إسناد ضعيف مداره على جابر الجعفي وهو ضعيف، وشيخه أبو نصر ضعيف أيضًا .
وله طريق آخر عن أنس: أخرجه أحمد (3/260) من طريق شريك، عن عاصم، عن أنس، وعن جابر، عن أبي نصر عن أنس. وشريك ضعيف سيئ الحفظ لعله أخطأ فيه. ورواه ابن السني في "اليوم والليلة" (406) من طريق فهد بن حيان، عن ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن أنس. وفهد بن حيان هذا ضعيف منك رالحديث؛ كذا قال أبو زرعة فلا يلتفت لروايته. ويكون مدار الحديث على شريك، وجابر الجعفي وهما ضعيفان .
(3) في (ب): «سن أنس مقدم»، وفي (ح): «سن أنس بن مالك مقدم».
(4) في (ح): ((رسول الله)).
(5) تقدم في الأشربة، باب النهي عن التنفس في الإناء، وفي مناولة الشراب الأيمن فالأيمن، برقم (1907).
(6) في (ب) و(ح): «سنة ثلاث».
(7) "الاستيعاب" (1/208).
(8) في (ح): «من الصحابة بالبصرة»، وسقط قوله: «رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
(9) أخرجه الحاكم (3/573)، وابن عبدالبر في "الاستيعاب" (1/206) تعليقًا. كلاهما من طريق محمد بن عبدالله الأنصاري، عن أبيه، عن مولىً لأنس قال: قلت لأنس: أشهدت بدرًا؟ قال: لا أمَّ لك، وأين أغيب عن بدر؟ قال الأنصاري: خرج أنس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توجه إلى بدر وهو غلام يخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال الذهبي في "السير"(3/397-398): «لم يعده أصحاب المغازي في البدريين؛ لكونه حضرها صبيًّا ما قاتل، بل بقي في رحال الجيش. فهذا وجه الجمع».
وقال الحافظ في"الإصابة": «وإنما لم يذكروه في البدريين؛ لأنه لم يكن في سن من يقاتل».
(10) في (م): «وقيل».
(11) في (ب): «وتكثير».
(12) في (ح): ((النبي r)) وألحق في الهامش ((رسول الله)).
(13) في (ك): «له منها».(3/1225)
وفي الصحابة رجل آخر اسمه أنس بن مالك، ويُكنى: أبا أمية القشيري، وقيل: الكعبي، وكعب أخو قشير، ولم يسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى قوله: «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر (1) الصلاة» (2) . وقيل: روى ثلاثة أحاديث لم يقع له في الصحيحين شيءٌ. =(6/411)=@
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم أكثر ماله وولده»؛ يدلُّ على إباحة الاستكثار من المال والأولاد (3) ، والعيال، لكن إذا لم يُشغل ذلك عن (4) الله تعالى، ولا عن القيام بحقوقه، لكن لما كانت سلامة الدين مع ذلك بادرة، والفتن والآفات غالبة، تعيَّن التقلُّل (5) من ذلك, والفرار (6) مما هنالك ،?ولولا دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنس رضي الله عنه بالبركة لخيفَ عليه &(6/334)&$ من الإكثار الهلكة (7) ، ألا ترى: أن الله تعالى قد حذرنا (8) من آفات الأموال والأولاد، ونبَّه على المفاسد الناشئة من ذلك فقال: } إنما أموالكم وأولادكم فتنة { (9) ، وصدَّر الكلام بإنما الحاصرة المحققة (10) ، فكأنه قال: لا تكون الأموال والأولاد إلا فتنة؛ يعني: في الغالب. ثم قال بعد ذلك: } يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم (11) عدوًّا لكم فاحذروهم { (12) . ووجه عداوتهما: أن %(3/1226)%
__________
(1) في (ك): «قصر».
(2) هذا الحديث يرويه عن أنس بن مالك التابعي سوادة بن حنظلة وابنه عبدالله وأبو قلابة ورجل من بني عامر .
أما رواية سوادة فأخرجها النسائي (4/190)،والروياني (1526)، والبيهقي (3/154)، و(4/231) من طريق سلم بن إبراهيم، عن وهب بن خالد، عن عبدالله بن سوادة، عن أبيه، عن أنس به .
وأما رواية عبدالله بن سوادة: فأخرجها أحمد (4/347)، و(5/295)، وعبد بن حميد (431)، وأبو ادود (2408)، والترمذي (715)،وابن ماجه (1667 و3299)، وابن خزيمة (2044)، وابن أبي عاصم في "الآحاد" (1493)، والطبراني (765)، والبيهقي (4/231)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (1/16) من طريق عن أبي هلال الراسبي، عن عبدالله بن سوادة .
وأم رواية أبي قلابة فأخرجها أحمد (5/29)، والبخاري في "الكبير" (2/29)،والنسائي (4/180)، وابن خزيمة (2042 و2043) من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس به .
وأما رواية رجل من بني عامر: فأخرجها عبدالرزاق (4478)، والطحاوي في "شرح المعاني" (1/423)، والطبراني (764)، والبيهقي (4/231) من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أنس.
وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/29)، والطبراني (762) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أنس به.
(3) في (م): «والولد».
(4) في (ح): «عن ذكر الله».
(5) في (ح): «الإقلال».
(6) في (ح): «أو الفرار».
(7) في (ك): «والهلكة».
(8) في (ك): «حذر».
(9) الآية (15) من سورة الأنفال .
(10) في (ك): «المتحققة».
(11) في (ح): ((والاولادكم)) كذا رسمت.
(12) الآية (14) من سورة التغابن .(3/1226)
محبَّتهما موجبة لانصراف القلوب إليهما، والسعي في تحصيل أغراضهما، واشتغالها (1) بما غلب عليها من ذلك عما يجب عليهما (2) من حقوق الله تعالى، ومع غلبة ذلك تذهب الأديان، ويعم الخسران، فأيُّ عداوةٍ أعظم من عداوة من يدمر دينك هذا الدمار، ويورثك عقوبة النار؟! ولذلك قال (3) تعالى، وهو أصدق القائلين: } يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون { (4) . وقال أرباب القلوب والفهوم: ما يشغلك (5) من أهل ومال (6) ، فهو عليك مشؤوم.
وقول أنس (7) رضي الله عنه: أتى عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعب مع الغلمان "؛ دليل على: تخلية الصِّغار ودواعيهم من اللعب والانبساط، ولا يُضيق عليهم بالمنع مِمَّا لا مفسدة فيه (8) .
وقوله: " فسلَّم علينا "؛ فيه دليل: على مشروعية السَّلام على الصِّبيان (9) ، =(6/412)=@ وفائدته: تعليمهم السلام، وتمرينهم على فعله، وإفشاؤه في الصغار كما يفش &(6/335)&$ في الكبار. وكتمان أنس سرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمه دليل: على كمال عقله، وفضله، وعلمه (10) مع صغر سنه، وذلك (11) فضل الله يؤتيه من يشاء. %(3/1227)%
__________
(1) في (ب) و(م): «واشتغالهما».
(2) في (ح): ((عليها)).
(3) في (ح): ((قال الله تعالى)).
(4) الآية (9) من سورة المنافقون .
(5) في (ب) و(ح): «ما يشغلك عن الله».
(6) قوله: «من أهل ومال»سقط من (ب).
(7) في (ح): «ابن عباس».
(8) في (ب): «منه».
(9) في (ك): «الصغار».
(10) قوله: «وعلمه»سقط من (ب).
(11) في (ك): «ذلك».(3/1227)
ومن باب: فضائل عبدالله بن سلام
ابن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري، وهو من ولد يوسف بن يعقوب، وكان اسمه في الجاهلية: الحصين، فسمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عبدالله (1) ، وتوفي (2) في خلافة معاوية سنة ثلاث وأربعين، أسلم إذ قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وجملة ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وعشرون حديثًا. أخرج له (3) في الصحيحين حديثان، وقد تقدم اختلاف اللغويين في: حَلَقة؛ هل يقال بسكون اللام، أو بفتحها؟ =(6/413)=@
وقوله: " فإذا جواد منهج "؛ الجواد: جمع جادة مشدد الدال؛ وهي: الطريق، ومنهج مرفوع على الصفة؛ أي: جوادُّ ذوات منهج؛ أي: استقامة %(3/1228)%
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (5/263 رقم25891) في الأدب، باب تغيير الأسماء،وعنه أحمد (5/451)،وعبد بن حميد (498)،وابن ماجه (2/1230 رقم3734)، وأبو يعلى (13/486 رقم7498). وأخرجه الترمذي (5/355-356 و629 رقم3256 و3803) في التفسير، باب "ومن سورة الأحقاف"،وفي "المناقب، باب منقب عبدالله بن سلام. كلاهما من طريق أبي المحياة يحيى بن يعلى، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أخي عبدالله بن سلام، عن عبدالله بن سلام قال: قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس اسمي عبد الله بن سلام، فسماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عبد الله بن سلام. قال الترمذي: «حسن غريب»، وفي نسخة الترمذي من "تحفة الأحوذي" في الموضعين: هذا حديث غريب، وكذا في "تحفة الأشراف"(4/358). وقال مرة: حديث غريب، إنما نعرفه من حديث عبد الملك بن عمير، وقد روى شعيب بن صفوان هذا الحديث عن عبدالملك بن عمير فقال: عن عمر بن محمد بن عبدالله بن سلام، عن جده عبدالله بن سلام .
وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/180): هذا إسناد فيه مقال، ابن أخي عبدالله بن سلام لم يسم، قاله في الأطراف، وما علمته، وباقي رجال الإسناد ثقات .
وابن أخي عبدالله بن سلام مجهول، كما في "التقريب" (ص1273 رقم8573)، وعمر بن محمد بن عبدالله بن سلام مجهول أيضًا. "التقريب" (ص727 رقم5000).
(2) في (ب) و(ح): «وتوفي بالمدينة».
(3) في (ح): ((له منها في)).(3/1228)
ووضوح، والمنهج: الطريق الواضح، وكذلك: المنهاج، والنهج (1) ، وأنهج الطريق: أي استبان ووضح، ونهجته أنا: أوضحته، ويقال (2) أيضًا: نهجت الطريق (3) إذا سلكته. &(6/336)&$
وقوله: " فزجل بي (4) ": تُروى (5) بالجيم، وبالحاء المهملة، فبالجيم: معناه: =(6/414)=@ رمى، يقال: لعن الله أقا (6) زَجَلتْ (7) به، والزَّجْلُ: إرسال الحمام، والمِزْجَل: المزراق؛ لأنَّه يُرمى به، فأمَّا زحل: فمعناه تنحَّى وتباعد. يقال: زحل عن مكانه حولاً (8) ، وتزحَّل: تنحَّى وتباعد، فهو زحل، وزحيل. ورواية الجيم أولى، وأوضح (9) . والعروة: الشيء المتعلق به حبلاً كان أو غيره. ومنه: عروة القميص والدلو، وقال (10) بعضهم: أصله من عروته: إذا ألممت به متعلقًا، واعتراه الهمُّ: تعلق به، وقيل: من العروة: وهي شجرة تبقى على الجدب (11) ، سُميت بذلك؛ لأنَّ الإبل تتعلق (12) بها إلى زمان الخصب، وتجمع العروة: عُرَى. والوثقى: الوثيقة؛ أي: القوية التي لا انقطاع فيها (13) ، ولا ضعف، وقد أضاف العروة هنا إلى صفتها فقال: عروة الوثقى، كما قالوا: %(3/1229)%
__________
(1) في (ك): «وكذلك المنهج والنهج».
(2) في (ك): «يقال»بلا واو .
(3) قوله: ((الطريق)) سقط من (ح).
(4) قوله: «بي»سقط من (ح).
(5) في (ح): يشبه ((يروى)).
(6) في (ح): ((أما)).
(7) في (ك): «دخلت».
(8) في (ح): يشبه ((دخولاً)).
(9) في (ح): ((واضح)) كذا رسمت.
(10) في (ب) و(ك): «قال».
(11) في (ح): ((الجذب)).
(12) في (ب): «متعلق».
(13) في (ح): «لها».(3/1229)
مسجدُ الجامع، وصلاةُ الأولى.
وإخباره - صلى الله عليه وسلم - عن عبدالله أنه لا ينال الشهادة، وأنه لا يزال على الإسلام حتى يموت، خبران عن غيب، وقعا على نحو ما أخبر؛ فإنَّ عبدالله مات بالمدينة ملازمًا للأحوال المستقيمة، فكان ذلك من دلائل صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والنضرة (1) - بالضاد =(6/415)=@ المعجمة -: النعمة، وقد تقدم، &(6/337)&$ ووسط: رويناه بفتح السين وسكونها، وقد تقدم أن الفتح للاسم، والسكون للظرف، وكل موضع صلح فيه: " بين "، فهو وسْط بالسكون، وإن لم يصلح فيه، فهو بالتحريك. قال الجوهري: وربما سكن. وليس بالوجه. " ورقيت "- بكسر القاف - في الماضي، وفتحها في المضارع، بمعنى صعدت وارتفعت. فأمَّا رقيت - بفتح القاف - فهو من الرُّقية. والمتصف (2) - بكسر الميم -: الخادم، قاله ابن عون. وقال الأصمعي: والجمع مناصف. =(6/416)=@ &(6/338)&$ %(3/1230)%
__________
(1) يشرح المصنف هنا معنى كلمة: خضرتها، الواردة في الحديث.
(2) في (ح): ((والمنصف)).(3/1230)
ومن باب فضائل حسان بن ثابث رضي الله عنه
ابن المنذر بن عمرو بن النجار الأنصاري، يكنى: أبا الوليد، وقيل: أبا عبدالرحمن، وقيل: أبا الحسام. ويقال له: شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها وصفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان والله كما قال شاعره حسان بن ثابت:
متى يبْدُ في الدَّاجي البهيم جَبِينُه يَلُح (1) مِثلَ مِصباحِ الدُّجى (2) المُتَوَقِّدِ
فمَن كانَ أَوْ مَن قَد يَكُونُ كَأَحْمَدٍ مقامٌ لِحَقٍّ (3) أَوْ نَكالٌ (4) لِمُلْحِدِ (5)
قال أبو عبيدة (6) : فضل حسان الشعراء (7) بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - في النبوَّة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام. وقال أيضًا: أجمعت العرب على: أن أشعر أهل المدر: حسان بن ثابت. وقال أبو عبيدة وأبو عمرو بن العلاء: حسان أشعر أهل الحضر. وقال الأصمعي: حسان أحد فحول الشعراء، فقال له أبو حاتم: تأتي له أشعارٌ ليِّنة! فقال الأصمعي: نُسبت له وليست له، ولا تصح عنه. وروي عنه أنه قال: الشعر نَكِدٌ (8) يقوى في الشر ويُسهل، فإذا دخل في الخير ضعف، هذا حسَّان فحل من فحول الجاهلية، &(6/339)&$ فلما جاء الإسلام سقط. وقيل لحسان: لانَ شِعرُك، أو هَرِمَ شعرك في الإسلام يا أبا الحسام! فقال: إن الإسلام يحجز (9) عن الكذب (10) ؛ يعني: أن الشعر لا يجوِّده إلا الإفراط والتزين (11) في الكذب (12) ، والإسلام قد منع ذلك (13) ، فقل ما يجود شعر من يتقي الكذب.
وتوفي حسان قبل =(6/417)=@ الأربعين في خلافة علي رضي الله عنهما , وقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة أربع وخمسين، ولم يختلفوا أنه عاش مئة وعشرين سنة، منها: ستون %(3/1231)%
__________
(1) في (ب) و(ك): «يلج».
(2) في (ب): «الوحى».
(3) في (ح): ((بحق)).
(4) في (ب): «تكالا».
(5) البيتان في "ديوان حسان" (ص154)، و"تاريخ دمشق" (3/360)، و"أسد الغابة" (2/5)، و"الاستيعاب" (1/341).
(6) في (ب) و(ح): «أبو عبيد».
(7) في (ك): «الشاعر».
(8) في (ب): «يكد».
(9) في (ك): «تحجز».
(10) في (ح): «الكدر».
(11) في (ح) و(م): «التزيين».
(12) في (ح): ((والتزين بالكذب)).
(13) في (ب) و(ك): «من ذلك».(3/1231)
في الجاهلية، وستون (1) في الإسلام، وكذلك عاش أبوه وجدُّه، وأدرك النابغة الذبياني والأعشى، وأنشدهما من شعره، فكلاهما استجاد شعره، وقال: إنك شاعر.
وقوله: " إن عمر مرَّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه "؛ أي: أومأ إليه بعينيه: أن اسكت، وهذا يدلُّ على أن عمر رضي الله عنه كان يكره إنشاد الشعر في المسجد، وكان قد بنى رحبة خارج المسجد، وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرًا فليخرج إلى هذه الرحبة (2) . وقد اختلف في ذلك، فمن مانع مطلقًا (3) ، ومن مجيز مطلقًا، والأولى التفصيل. وهو أن ينظر إلى الشعر، فإنَّ كان مِمَّا يقتضي الثناء على الله تعالى أو (4) على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو الذبَّ عنهما، كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحضَّ (5) على الخير، فهو حسن في المساجد وغيرها، وما لم يكن كذلك لم يجز؛ لأنَّ الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب، والتزيين بالباطل، ولو سَلِمَ من ذلك فأقل ما فيه: اللغو، والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك، لقوله تعالى: } فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه { (6) ، &(6/340)&$ ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القران» (7) ، وقد (8) تقدَّم هذا المعنى.
وقوله لحسان (9) : «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس»؛ إنما قال =(6/418)=@ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ لأنَّ نفرًا من قريش كانوا يهجون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، منهم: عبدالله بن الزَّبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعمرو بن العاص (10) ، وضرار بن الخطاب، فقيل لعلي: اهج عنا القوم الذين %(3/1232)%
__________
(1) في (ك): «ومنها ستون».
(2) تقدم تخريجه في باب النهي عن أن تنشدا الضالة في المسجد من كتاب الصلاة .
(3) قوله: «مطلقًا»سقط من (ح).
(4) في (ح): «وعلى».
(5) في (ح): ((الحظ)).
(6) الآية (36) من سورة النور .
(7) مركب من حديثين، أما الأول فبلفظ: «إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله ...». وقد تقدم في الطهارة، باب النهي أن يبال في الماء الراكد برقم (219). وأما الثاني، فبلفظ: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلا م الناس ...»، وقد تقدم في الصلاة، باب نسخ الكلام في الصلاة، برقم (429).
(8) في (ك): «وكما».
(9) قوله: «لحسان»سقط من (ب).
(10) في (ح): ((العاصي)).(3/1232)
يهجوننا، فقال: إن أذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلت، فأعلم بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن عليًّا ليس عنده ما يراد من ذلك»، ثم قال: «ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله (2) أن ينصروه بألسنتهم ؟». فقال حسان: أنا لها، وأخذ طرف لسانه، وقال: والله ما يسرُّني (3) به مِقوَلٌ ما بين بصرى وصنعاء (4) . وكان (5) طويل اللسان، يضرب بلسانه أرنبةَ أنفه من طوله، وكان له ناصية يسدلها بين عينيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان، وهو ابن عمي؟»، فقال: والله لأسلنَّك منهم كما تسل الشعرة من العجين. فقال: «ائت أبا بكر , فإنَّه أعلم بأنساب القوم منك». فكان يمضي لأبي بكر ليقفه على أنسابهم، وكان يقول: كفَّ عن فلان وفلانة، واذكر فلانًا، وفلانة. فجعل حسان يهجوهم، فلما سمعت قريشٌ شعر (6) حسان قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة. فقال حسان (7) :=(6/419)=@ &(6/341)&$ %(3/1233)%
__________
(1) قوله: ((فأعلم بذلك رسول الله r)) مكرر في (ح).
(2) في (ب) و(ح): «نصروا رسول الله r بسلاحهم».
(3) في (ك): «يسري».
(4) نقلاً عن "الاستيعاب" (1/341).
(5) في (ح): ((فكان)).
(6) في (ب): «بشعر».
(7) كما في "ديوانه" (ص212-214) بتحقيق البرقوقي، ويلاحظ وجود اختلاف عما أثبت هنا.(3/1233)
أَبلِغ أَبا سُفيَانَ أنَّ مُحمْدًا هُوَ الغُضنُ ذُو (1) الأفنَانِ لا الواحِدُ الوَغْدُ
ومَالَكَ فِيهِم مَحتِدٌ يَعرِفونهُ (2) فَدُونَكَ فَالصَق مِثلَ مَا لَصِقَ القُردُ
وإِنَّ سَنامَ المَجدِ في آلِ هَاشِم بَنُو بِنتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُكَ العَبدُ
وَمَن وَلَدَت أبنَاءُ زُهرَةَ مِنهُمُ كِرَامٌ وَلَم يَقرَب عَجَائِزَكَ المَجدُ
وَلَستَ كَعَبَّاسٍ وَلا كَابنِ أُمِّهِ وَلكِن لَئِيمٌ لا يَقُومُ لَهُ زَندُ
وإِنِ امْرَأً كَانَت سُمَيَّةُ أُمَّهُ وسَمرَاءُ مَغمُوزٌ إذَا بَلَغَ الجَهدُ
وَأنتَ هَجِينٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍكَمَا نِيطَ خَلفَ الرَّاكِبِ (3) القَدَحُ الفَردُ
الأفنان (4) : الأغصان، واحدها: فنن. والوغد: الدنيء من الرجال، والمَحتِد (5) : الأصل (6) . ودونك: ظرف قصد به الإغراء، والمغرى به محذوف تقديره: فدونك محتدك (7) فالصق به، والعرب تغري بـ " عليك " و " إليك " و " دونك ". وسنام المجد: أرفعه، والمجد: الشرف. قال أبو عمر: بنت مخزوم هي فاطمة بنت عمرو بن عابد (8) بن عمران بن مخزوم، وهي: أم أبي طالب، وعبدالله، والزبير، بني عبد المطلب.
وقوله: " ومن ولدت أبناء (9) زهرة منهم "؛ يعني: حمزة وصفية، أمهما: هالة ابنة أهيب بن عبد مناف بن زهرة، والعباس: هو ابن عبدالمطلب، وابن أمه: شقيقه (10) ضرار بن عبدالمطلب، أمهما نسيبة: امرأة من النمر بن قاسط. وسميَّة: أم أبي سفيان، وسمراء: أم أبيه. واللؤم: اسم للبخل، ودناءة الأفعال والآباء. والمغموز: المعيب المطعون فيه، والهجين: من كانت أمه دنية، والمقرف (11) : من =(6/420)=@ كان أبوه دنيا. ونيط: ألصق وعلق، والقدح: يعني به: قدح الراكب الذي يكون &(6/342)&$ تعليقه بعد إكمال وقر البعير؛ لأنَّه لا يحفل به. ومنه الحديث: «لا تجعلوني كقدح الراكب» (12) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم أيده بروح القدس»؛ أيده: قوِّه، والأيد: القوة. ومنه قوله تعالى: } والسماء بنينها بأيد { (13) ؛ أي: بقوة .
وروح القدس: هو جبريل عليه السلام، كما قال في الرواية الأخرى: «اهجهم، أو (14) هاجهم، وجبريل معك»؛ أي: بالإلهام (15) ، والتذكير، والمعونة. %(3/1234)%
__________
(1) في (ح): ((ذوا)).
(2) قوله: «يعرفونه»سقط من (ب)، وفي مكانه في (ك) بياض، وفي (ح) علقت مكانه كلمة غير واضحة،والمثبت من (م).
(3) في (ح): «الركب».
(4) في (ك): «والأفنان».
(5) في (ب): «المجد )،)، وفي (ك): «المجتد».
(6) في (ك): «الأصيل».
(7) في (ك): «مجتد».
(8) في (ح): ((عايذ)).
(9) قوله: «أبناء»سقط من (ب) و(ح).
(10) في (ب): «شقيقة».
(11) في (ك): «والمفرق».
(12) رواه عبد بن حميد (1132)، وابن أبي عاصم في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص176-177) كما في "جلاء الأفهام"، والبزار (3156/كشف)، وابن حبان في "المجروحين" (2/216-217 رقم1578)، وأبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (2/329 رقم1695). جميعهم من طريق موسى بن عبيدة، عن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه قال: قال جابر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تجعلوني كقدح الراكب، إن الراكب إذا علَّق معاليقه أخذ قدحه فملأه من الماء، فإن كان له حاجة في الوضوء توضأ، وإن كان له حاجة في الشرب شرب، وإلا أهراق ما فيه، اجعلوني في أول الدعاء، وفي وسط الدعاء، وفي آخر الدعاء».
وسنده ضيف، محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، قال فيه أبوحاتم: منكر الحديث، وقال البخاري: لم يثبت حديثه، وقال الدارقطني وغيره: ضعيف. "ميزان الاعتدال" (1/55 رقم179). وقال الحافظ في "لسان الميزان"(279): «وأشار البخاري إلى أن سبب ضعفه ضعف موسى بن عبيدة، وكذا قال ابن حبان في الضعفاء، لا أدري البلية منه أو من موسى، وأورد له العقيلي، عن أبيه، عن جابر يرفعه:" لا تجعلوني كقدح الراكب"».
وموسى بن عبيدة ضعيف الحديث، كما في "التقريب" (ص983 رقم7038).
(13) الآية (47) من سورة الذاريات.
(14) في (ح): ((و)) بدل ((أو)).
(15) في (ح): ((الالهام)).(3/1234)
وقول حسان (1) :
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ وتُصبِحُ غَرثَى من لُحُومِ الغَوافِلِ
حصان: عفيفة، وقد تقدَّم القول في وجوه الإحصان. ورزان: كاملة الوقار والعقل. يقال: رزن الرجل (2) رزانة، فهو (3) رزين: إذا كان وقورًا، وامرأة رزان. وغرثى: من الغرث، وهو الجوع، يقال: رجل غرثان، وامرأة غرثى، كعطشان وعطشى. والنوافل (4) جمع تكسير غافلة، يعني: أنهن غافلات عما رمين به من الفاحشة، كما قال تعالى: } إن الذين (5) يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات { (6) ، ويعني حسان بهذا البيت: أن عائشة رضي الله عنها في غاية العفة، والنزاهة عن أن تُزنَّ بريبة؛ أي: تُتَّهم بها. %(3/1235)%
__________
(1) في "ديوانه" (ص377) تحقيق البرقوقي
(2) في (ح): ((رجل)).
(3) في (ح): ((وهو)).
(4) في (ح): ((الغوافل)).
(5) في (ب) و(ح) و(ك): «والذين»وهو خطأ .
(6) الآية (23) من سورة النور.(3/1235)
ثم وصفها بكمال العقل والوقار، والورع المانع لها من أن تتكلم (1) بعرض غافلة، وشبَّهها بالغرثى؛ لأنَّ بعض الغوافل =(6/421)=@ قد كان هو آذاها فما تكلمت فيها، وهي: حمنه بنت جحش، فكأنها كانت بحيث (2) تنتصر (3) ممن آذاها، بأن تقابلها بما يؤذيها، لكن حجزها عن ذلك دينها، وعقلها (4) ، وورعها .
وقول عائشة رضي الله عنها لحسان رضي الله عنه: لكنك لست كذلك؛ تعني: أنه لم يصبح &(6/343)&$ غرثان من لحوم الغوافل، وظاهر هذا الحديث: أن حسان كان ممن تكلم بالإفك، وقد جاء ذلك نصًّا في حديث الإفك الطويل (5) ، الذي يأتي فيه: أن الذين تكلموا بالإفك: مسطح، وحسان، وحمنة، وعبدالله (6) بن أُبىِّ ابن سلول، غير أنه: قد حكى أبو عمر: أن عائشة رضي الله عنها قد برَّأت حسَّان من الفرية، وقالت: إنه لم يقل شيئًا، وقد أنكر حسان أن يكون قال من ذلك شيئًا في البيت الثاني الذى ذكره متصلاً بالبيت المذكور آنفًا، فقال (7) : %(3/1236)%
__________
(1) في (ك): «يتكلم».
(2) في (ب): «تحب».
(3) في (ك): «تقتص».
(4) في (ب) و(ح): «عقلها ودينها».
(5) سيأتي في التفسير، باب: ومن سورة النور .
(6) في (ح) و(ك): «عدو الله»بدل «عبدالله».
(7) "ديوان حسان" (ص378) بتحقيق البرقوقي، مع اختلاف يسير.(3/1236)
فَإِنَّ كَانَ ما قَد قِيلَ عَنِّي قُلتُهُ فلا رَفَعَتْ سَوْطِي إِليَّ أَنَامِلِي
فيحتمل أن يقال: إن حسان يعني: أن يكون قال ذلك (1) نصًّا وتصريحا، ويكون قد عرَّض بذلك، وأومأ إليه، فنسب ذلك إليه، فالله أعلم (2) .
وقد اختلف الناس فيه، هل خاض في الإفك أم لا؟ وهل جلد (3) الحدَّ أم لا؟?فالله تعالى أعلم أيُّ ذلك كان.
وقول عائشة رضي الله عنها: " وأيُّ عذابٍ أشدُّ من العمى؟" ظاهره يدلُّ =(6/422)=@ على: أن حسان كان ممن تولَّى كبره، وهذا بخلاف (4) ما قاله عروة عن عائشة رضي الله عنها: إن الذي تولَّى كبره هو عبدالله بن أبي (5) ، وأنه هو الذي كان يستوشيه، ويجمعه (6) .
وقول عائشة: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اهج قريشًا "؛ هكذا وقع في بعض النسخ، اهج: على أنه أمر لواحد، ولم يتقدم له ذكر، فكأنه أمر لأحد الشعراء الحاضرين، ووقع في أصل شيخنا أبي الصبر (7) أيوب: "اهجوا" بضمير الجماعة، فيكون أمرًا لجميع من حضر هناك من الشعراء.
وقوله: " فإنَّه أشدُّ عليها من رَشْقً بالنبل "؛ الضمير في " إنه " عائد على الهجو الذي يدلُّ عليه: " اهج قريشًا ". وفي " عليها ": لقريش، ورشق - بفتح الراء -: وهو الرَّمي، ففيه دليل: على أن الكافر لا حرمة لعرضه، %(3/1237)%
__________
(1) من قوله: «ما قد قيل عني ...»إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ب) و(ك) و(ح): «والله أعلم».
(3) في (ح): يشبه ((يجلد)).
(4) في (ب) و(ك) و(ح): «خلاف».
(5) في (ح): «أبيّ بن سلول».
(6) انظر في الموضع المذكور التخريج السابق .
(7) في (ك): «الصبرة».(3/1237)
كما أنه (1) لا حرمة لماله، ولا لدمه، وأنه يُتعرض لنكايتهم بكل ما يؤلمهم (2) من القول والفعل. =(6/423)=@
وقوله: " قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا (3) الأسد الضارب بذنبه "؛ هذا من &(6/344)&$ حسان مدح لنفسه، شبَّه نفسه بالأسد إذا غضب فحمي، وذلك أنه غضب لهجو قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - واحتد لذلك، واستحضر في ذهنه هجو قريش فتصوره وأحس أنه قد أعين على ذلك ببركة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال تلك الكلمات، مظهرًا لنعمة الله تعالى عليه، وأنه قد أجيب فيه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليفخر (4) بمعونة الله تعالى له على ذلك. وتنزل هذا الافتخار في هذا الموطن منزلة افتخار الأبطال في حال القتال؛ فإنَّهم يمدحون أنفسهم، ويذكرون مآثرهم ومناقبهم في تلك الحال نظمًا ونثرًا، وذلك يدلّ على ثبوت الجأش، وشجاعة النفس، وقوة العقل، والصَّبر، وإظهار كل (5) ذلك للعدو، وإغلاظ عليهم، وإرهاب لهم، وكل هذا الافتخار: يوصل إلى رضا الغفار ،?فلا عتب ولا إنكار.
وقوله: " ثم أدلع لسانه "؛ أي: أخرجه (6) وحرَّكه، كأنه كان يعدُّه للإنشاد.
وقوله: " والذي بعثك بالحق لأفرينَّهم بلساني فَرْيَ الأديم "؛ أي: لأمزقنهم بالهجو، كما يمزق الجلد بعد الدِّباغ؛ فإنَّه: يقطع خفافًا ونعالاً، وغير ذلك، وتشبيه حسان نفسه بالأسد الضارب بذنبه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - %(3/1238)%
__________
(1) قوله: «أنه»سقط من (ك).
(2) في (ب) و(ح): «ما يؤلمهم ويؤذيهم».
(3) قوله: ((هذا)) مكرر في (ح).
(4) في (ك): «وليفتخر».
(5) قوله: «كل»سقط من (ك).
(6) قوله: ((أخرجه)) لم يتضح في (ح).(3/1238)
وأصحابه رضي الله عنهم , وإقرار الكل عليه: دليل على بطلان (1) قول من نسب حسَّان إلى الجبن، ويتأيد هذا بأن حسان لم يزل يُهاجي قريشا وغيرهم من خيار العرب، ويهاجونه، =(6/424)=@ فلم يعثره (2) أحد منهم بالجبن، ولا نسبه إليه، والحكايات المنسوبة إليه في ذلك أنكرها كثير من أهل الأخبار، وقيل: إن حسَّان أصابه الجبن عندما ضربه صفوان بن المعطل بالسيف؛ فكأنه اختل في إدراكه، والله تعالى أعلم.
وقوله: «إن روح القدس لا يزال معك ما نافحت عن الله ورسوله»؛ أي: مدَّة منافحتك. والمنافحة: المخاصمة والمجادلة، وأصلها: الدَّفع. يقال: نفحت (3) الناقة (4) الحالب برجلها؛ أي: دفعته. ونفحه بسيفه؛ أي: ضربه به (5) من بعيد.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «هجاهم حسَّان فشفى واشتفى»؛ أي: شفى الألم الذي أحدثه هجوهم، واشتفى (6) هو في نفسه؛ أي: أصاب منهم بثأره شفاء. وأنشد حسان:
هَجَوتَ مُحمَّدًا وأَجَبْتُ عنه .........................
لم يرو مسلم أوَّل هذه القصيدة، وقد ذكرها بكمالها ابن إسحاق، وذكر أوَّلها (7) :
عَفَتْ ذَاتُ الأَصَابِعِ فَالجِواءُ إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُها خَلاءُ
&(6/345)&$
فلنذكرها على ما (8) ذكرها ابن إسحاق ونفسِّر (9) غريبها؛ فإنَّها (10) قصيدة حسنة مشتملة على فوائد كثيرة. %(3/1239)%
__________
(1) في (ح): «إبطال».
(2) في (ح): ((يعيره)).
(3) في (ك): «نفجت».
(4) في (ب): «الدابة».
(5) قوله: «به»من (م) فقط وليس في (ح) .
(6) في (ك): «واستشفى».
(7) "السيرة النبوية" لابن هشام (5/87)، و"ديوان حسان" (1-13)، والسهيلي (2/280).
(8) في (ح): «كما» بدل ((على ما)).
(9) في (ب) و(ك): «تفسير»، وفي (ح): «ونذكر».
(10) في (ب): «وإنها».(3/1239)
وقوله: عفت: معناه: درست وتغيَّرت، وذات الأصابع والجِواء: موضعان بالشام، وعذراء: قرية عند دمشق، إنَّما ذكر (1) حسان هذه المواضع؛ لأنَّه كان يردها كثيرًا (2) على ملوك غسان يمدحهم، وكان ذلك قبل الإسلام. وخلا: خال ليس به (3) أحد: =(6/425)=@
ديارٌ من بني الحَسحَاس قَفرٌ تُعَفِّيها الرَّوامسُ والسَّماء
وكانت لا يَزَالُ بها أَنِيسٌ خِلالَ مُرُوجِها نَعَمٌ وَشَاءُ
الدِّيار: المنازل. وبنو (4) الحسحاس (5) : قبائل معرونون (6) ، وتُعفيها: تغيِّرها. والرواسى: الرياح، وسُمِّيت (7) بذلك؛ لأنَّها ترمس (8) الآثار؛ أي: تغيرها، والرمس (9) والرسم: الأثر الخفي. والسماء: المطر. والسماء: كل ما علاك فأظلَّك. وخلال: بمعنى بين. ومروج: جمع مرج، وهو الموضع المنبت للعشب المختلف الذي يختلط بعضه ببعض. والنعم: الإبل (10) خاصة، والأنعام: يتناول: الإبل، والبقر، والغنم. والشاء: الغنم:
فَدَع هَذَا ولَكِن مَن لِطَيْفً يُؤَرِّقُنِي إذا ذَهَبَ العِشاءُ
الطَّيف: ما يراه النائم في منامه، وهو في الأصل مصدر: طاف الخيال، يطوف طيفًا، ولم (11) يقولوا في هذا طائف في اسم الفاعل، قال السُّهيلي: لأنه تخيُّل لا حقيقة له، فأمَّا قوله: } فطاف عليها طائف من ربك (12) { (13) ، فلا يقال: فيه طيف؛ لأنَّه اسم فاعل حقيقة، ويقال: إنه جبريل، فأمَّا قوله تعالى: &(6/346)&$ } إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا { (14) . فمن قرأه } طائف (15) { اسم فاعل؛ فإنَّه أراد به الشيطان نفسه، ومن قرأه: } طيف { أراد (16) به تخيله ووسواسه (17) ، وهي لا حقيقة لها. ويؤرقني: يُسهرني. %(3/1240)%
__________
(1) في (ح): ((وإنما)).
(2) قوله: «كثيرًا»سقط من (ب).
(3) في (ك): «فيها».
(4) في (ب): «وهو»بدل «وبنو».
(5) في (ك): «الحشحاش».
(6) في (ك): «معروف» وفي (ح): ((معروفون)).
(7) في (ب) و(ك) و(ح): «سميت» بلا واو.
(8) في (ح): ((تدمس)).
(9) في (ح): ((والدمس)).
(10) قوله: ((الإبل)) سقط من (ح).
(11) في (ك): «وإن لم».
(12) في (ح): «من ربك وهم نائمون» وكأنه ضرب على قوله: ((نائمون))..
(13) الآية (19) من سورة القلم .
(14) الآية (20) من سورة الأعراف.
(15) قوله: «تذكروا فمن قرأه طائف»سقط من (ح).
(16) في (ب) و(ح): «فإنه أراد».
(17) في (ح): ((ووساويسه)) كذا رسمت.(3/1240)
إذا ذهب العشاء؛ أي: بعد العشاء في الوقت الذي ينام فيه الناس، يعني: أنه يسهر لفكرته في الطيف، أو للوعته به كلما (1) غمض.
لِشَعثاءَ التي (2) قد تَيَّمتهُ فَلَيسَ لِقَلبِه منها شِفاءُ
قيل: إن شعثاء هذه: هي (3) ابنةُ كاهنِ امرأة حسان، ولدت له ابنته أم فراس. وتيَّمته: ذلَّلته (4) .
كَأَنَّ سَبِيَّةً مِن بَيتِ رَأسٍ يكُونُ مِزَجَها (5) عَسَلٌ (6) وماءُ =(6/426)=@
السبية: الخمر. وبيت رأس: موضع فيه خمر عالية، وقيل: رأس: رجل خئار (7) نسبت إليه، ومزاجها: خليطها. وقد جعل الخبر معرفة (8) ، والاسم نكرة (9) ، وهو عكس (10) الأصل؛ وإنَّما جاز ذلك؛ لأنَّ عسلاً وماءً: اسمان من أسماء الأجناس، فأفاد مُنكِّره ما يفيد (11) معرَّفه، فكأنهما معرفتان، وخبر كان محذوف، تقديره: كأنَّ فيها (12) سبيَّة مستلذَّة، وهذا إنما اضطر إلى ذلك من لم يرو في القصيدة قوله:
على أَنيابِها أو طَعمُ غَضًّ مِنَ التُّفَّاح هَصَّرَهُ الجِناء (13)
وذلك أن هذا البيت لم يقع في رواية ابن إسحاق، فمن صحَّ عنده هذا البيت، جعل خبر كان: على أنيابها، ولم يحتَجْ إلى تقدير ذلك المحذوف. والأنياب: هي الأسنان التي بين الضَّواحك والرُّباعيات. والغَضُّ: الطري، وهصَّره: دلاَّه وأدناه. الجناء: أي الاجتناء، وهو بكسر الجيم والمد، والجنى -بالفتح والقصر-: ما يُجتنى من الشجر (14) ، قال أبو القاسم السُّهيلي (15) : وهذا البيت موضوع. %(3/1241)%
__________
(1) في (ك): «كما».
(2) في (ك): «الذي».
(3) قوله: «هي»سقط من (ك).
(4) في (ح): يشبه ((ذللته له)).
(5) في (ح): ((مزاجها)).
(6) في (ك): «عسلا».
(7) في (ح): يشبه ((جمار)).
(8) في (ب) و(ك) و(ح): «نكرة».
(9) في (ب) و(ك) و(ح): «معرفة».
(10) في (ك): «ضد».
(11) في (ح): ((يفيده)).
(12) في (ب) و(ك): «في فيها».
(13) في (ك): «الخباء».
(14) في (ب) و(ح): «الشجرة».
(15) في (ح): يشبه ((السهيل)).(3/1241)
إذا ما الأَشْرِباتُ ذُكِرنَ يومًا فَهُنَّ لِطَيِّب الرَّاح الفِدَاءُ
الأشربات: جمع أشربة، فشراب الواحد، وجمع قلته المكسر أشربة، &(6/347)&$ وجمع سلامته أشربات. والراح: من أسماء الخمر، واللام هنا: للعهد؛ أي: الخمر السبية المتقدِّمة الذكر.
نُوَلِّيها (1) المَلامَةَ إن أَلَمنا إذا ماكان مقت (2) أو لِحَاءُ
ونَشرَبُها فَتَرُكُنا مُلُوكًا وأُسدًا ما يُنَهنِهُنا اللِّقاءُ
ألمنا: أي أتينا (3) ما نلام عليه. والمقتُ: مما (4) يمقت عليه؛ أي: يبغض، =(6/427)=@ كالضرب، والأذى. واللحاء: الملاحاة باللسان، يريد إن فعلنا (5) شيئًا من ذلك اعتذرنا بالسكر (6) ، وينهنهنا: يضعفنا، ويفزعنا.
عَدِمنا خَيلَنا إِن لَم تَرَوها تُثِيرُ النَّقْعَ مَوعِدُها كَدَاءُ
يُنَازِعنَ الأَعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍعلى أَكْتَافِها (7) الأَسَلُ الظِّمَاءُ
الضمير في " تروها " عائد على الخيل، وإن لم يجر لها ذكر (8) ، لكنها تفسرها الحال والمشاهدة، وتثير: تحرك. والنقع: الغبار، وكداء: الثنية التي بأعلى مكة، وكُدَى - بضم الكاف والقصر-: تثنية بأسفل مكة، وقد تقدَّم ذكرهما (9) . وينازعن: يجاذبن. والأسل: الرِّماح. والظماء: العطاش. ووصف الرماح بذلك؛ لأنَّ حامليها يريدون أن يطعنوا أعداءهم بها فيرووها من دمائهم. ومُصعِدات: مرتفعات، ومصغيات: مائلات.
تَظَلُّ جِيَادُنا مُتَمَطِّراتٍ تُلَطِّمُهُنَّ (10) بالخُمُُرِ النِّساءُ
الجياد: الخيل. متمطرات (11) : يعني بالعرق من الجري، والرواية المشهورة: يلطمهن: من اللطم، وهو: الضرب في الخد، ويعني: أن هذه %(3/1242)%
__________
(1) في (ك): «يوليها».
(2) كذا في النسخ، وفي (ك): «مقنًا»، ولكن في "ديوان حسان" (56/البرقةقي)، والكثير من مصادر السيرة: «مغث»؛ أي: شر وقتال.
(3) قوله: ((أتينا)) مطموس في (ح).
(4) في (ح): ((ما)) بدل ((مما)).
(5) في (ك): «يعلمنا».
(6) في (ك): «بالشكر».
(7) في (ب): «أكتافهن».
(8) هذا على رواية: «ثكلت بُنيتي»بدل: «عدمنا خيلنا».
(9) في (ك): «ذكرها».
(10) في (ح): «يلطمهن».
(11) في (ب) و(ح): «ومتمطرات».(3/1242)
الخيل لكرمهن في أنفسهن (1) ، ولعزَّتهن عليهم تبادر (2) النساء فيمسحن وجوه هذه الخيل بالخُمُر. وكان الخليل يروي هذا اللفظ: يطلمهن بتقديم الطاء على اللام، ويجعله بمعنى ينفض (3) ، وقال ابن دريد: الطلم: ضربك خبز (4) الملة بيدك لينتفض ما به من الرماد. ورواية مسلم لهذا الحديث: " ثَكِلَتْ بُنَيتي " بدل " عدمنا خيلنا ". والثكل: فقد الولد. وبُنيتي: تصغير بنت. ومعنى صدر هذا البيت على الروايتين: الدعاء على نفسه إن لم يغز قريشًا. ووقع أيضًا (5) لبعض رواة مسلم: موعدها كداء (6) ، ولبعضهم: " غايتها " بدل "موعدها ". والمعنى متقارب. ووقع في بعض النسخ مكان موعدها: من &(6/348)&$ كنفي (7) =(6/428)=@ كداء على الإقواء، وليس بشيء؛ إذ لا ضرورة تحوج إليه مع صحَّة الروايات المتقدِّمة، وكنفا (8) كداء: جانباها.
فإِمَّا (9) تُعرِضُُو عنَّا اعتَمَرناوكَانَ الفَتحُ وانكَشَفَ الغِطَاءُ
هذا يدل على أن حسان قال هذه القصيدة قبل يوم الفتح كما قال ابن هشام. وظاهره أن ذلك كان في عُمرة الحديبية حين صدوا (10) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيت، وقال ابن إسحاق: إن حسان قالها في فتح مكة، وفيه بُعدٌ .
وإِلا فَاصبِرُوالِضرابِ (11) يَومٍ يُعِزُ اللهُ فيهِ مَنْ يَشاءُ
هذا من باب إلهام (12) العالم؛ لأنَّ حسان قد علم: أن الله قد أعز نبيَّه،?وقد قال تعالى: } ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين { (13) ، وقال: } وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ... { (14) الآية، %(3/1243)%
__________
(1) في (ب): «أنفسهم».
(2) في (ح): ((يبادر)).
(3) في (ح): ((ينقض)).
(4) في (ح): ((خبر)).
(5) قوله: «أيضًا»سقط من (ح).
(6) في (ح): ((كذا)) بدل ((كداء)).
(7) في (ح): ((كتفي)).
(8) في (ح): ((كتفا)).
(9) في (ح) يشبه ((فلما)).
(10) في (ح): ((صد)).
(11) في (ح): ((لجلاد)).
(12) في (ح): ((إيهاب)).
(13) الآية (8) من سورة المنافقون .
(14) الآية (55) من سورة النور.(3/1243)
وقال: } ولينصرن الله من ينصره { (1) ، إلى غير ذلك، وقد دلَّ على هذا قوله بعد هذا:
وجِبرِيلُ رَسُولُ اللهِ فِينا ورُوحُ القُدسِ ليسَ لَهُ كِفَاءُ
أي: لا يقاومه أحد، ولا يماثله. وروح القدس: هو جبريل عليه السلام , والقدس: الطهارة، وهو معطوف على رسول الله، والكفاء: الكفو، وهو المثل .
وقالَ الله قد أَرسَلْتُ عَبدًا يقُولُ الحقَّ إِن نَفَعَ البَلاءُ
أي: الابتلاء، وهو الاختبار، وقد ضمن صدر (2) هذا البيت معنى الابتلاء، ولذلك أشار بقوله: البلاء؛ لأنَّ اللام فيه للعهد لا للجنس، فتدبَّره، ورواية مسلم في هذا البيت: =(6/429)=@
................. يقُولُ الحَقَّ لَيسَ بِه خَفاءُ
ثم شهد حسَّان بتصديقه فقال:
شَهِدتُ به فَقُومُوا صدِّقُوه فَقُلتُم لا نَقُومُ ولا نَشَاءُ
أي: لا تقوم لتصديقه، ولا نريده، فعاندوا (3) ، ولما كان ذلك قال:
وقَال اللهُ قَد يَسَّرتُ جُندًاهُمُ الأَنصارُ عُرضَتُها اللِّقاءُ
&(6/349)&$
أي: قَصدُها وهمُّها (4) : لقاؤكم، وقتالكم. يعني: أنهم لما ظهر عنادهم، نصر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بجند الأنصار، ولم يذكر المهاجرين؛ لأنَّهم لم يظهر لهم أثر إلا عند اجتماعهم بالأنصار، والله تعالى أعلم. %(3/1244)%
__________
(1) الآية (40) من سورة الحج .
(2) قوله: «صدر»سقط من (ب) و(ح).
(3) في (ح): «فعاندوه».
(4) في (ك): «همتها».(3/1244)
%(3/1245)%(3/1245)
لَنا (1) فِي كُلِّ يومٍ مِنْ مَعَدٍّ سِبَابٌ أو قِتَالٌ أو هِجاءُ
هكذا رواية ابن إسحاق، ويروى سباء من السَّبي، ومعناه واضح، فالهمزة مكان الباء (2) ، والذي في كتاب مسلم: نلاقي كل يوم من معدٍّ سباب. ويعني بمعدٍّ: قريشًا، نسبهم لمعدِّ بن عدنان، و " أو " في (3) البيت للتنويع، ويعني بالسباب: السب نثرًا، وبالهجاء: السب نظمًا. والله تعالى أعلم. وقد دلَّ عليه قوله:
فَنُحكِم بالقَوَافي مَن هَجَانا ونَضرِبُ حِينَ تَختَلِطُ الدِّماءُ
فنحكم: نمنع (4) ، ويعني (5) : أنه يجيب الهاجي بأبلغ من هجائه، وأصعب عليه، فيمتنع (6) من العود، ويعني باختلاط الدماء: التحام الحرب، ومخالطة الدماء عند الحرب .
أَلا أَبلِغ أَبا سُفيانَ عَنِّي مُغَلغَلةً فقد بَرِحَ الخَفَاءُ
أبو سفيان هذا: هو ابن (7) الحارث، وهو كان الهاجي أولاً، وقد تقدَّم أنه كان أحد الشعراء. والمغلغلة: الرسالة تُحمل من بلد إلى بلد. وبرح الخفاء: أي انكشف (8) السر، وظهر المضمر (9) ، وهو مثل (10) . =(6/430)=@
فإنَّ سيوفنا تَرَكَتكَ عبدًا وعبد الدَّارِ ساد بها (11) الإماء
عبدًا: يعني ذليلاً ذل العبيد.
هجَوتَ محمَّدًا وأَجَبتُ عنه وعِندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ
الخطاب لأبي سفيان، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أنشده هذا البيت قال له: «جزاؤك عند الله الجنة (12) » (13) .
هَجَوتَ محمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا رَسُولَ اللهِ شِيمَتُه الوفاءُ
البرُّ: التَّقي، والحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين إبراهيم. والشِّيمة: السَّجيَّة (14) ، والسَّليقة (15) ، والخليقة، والجبلَّة كلها: الطبيعة. &(6/350)&$
وقوله:
أَتَهجُوه ولَستَ لَهُ بِكُفءٍفَشَرُّكُمَا لِخَيرِكُما الفِداءُ (16)
هذا يتضمن الدُّعاء بإنزال المكاره بأكثر الرجلين شرًّّا، وإنزال الخير بأكثرهما خيرًا، وعند ذلك يتوجَّه عليه إشكال، وهو أن شرًّا وخيرًا هنا للمفاضلة، والمعقول من المفاضلة اشتراك المتفاضلين فيما وقعت فيه، واختصاص أحدهما بزيادة فيه، فيلزم منه (17) : أن يكون في النبي - صلى الله عليه وسلم - شرٌّ، وهو باطل، فتعيَّن تأويل ذلك، فقال السُّهيلي: إن شرًّا هنا بمعنى أنقص، وحكي عن سيبويه أنه قال: تقول مررت برجل شرٌّ (18) منك؛ أي: أنقص عن أن تكون مثله، قال السُّهيلي: ونحو منه قوله - صلى الله عليه وسلم - : =(6/431)=@ «شرُّ صفوف الرجال آخرها»؛ يريد نقصان حقهم عن حظ الصف (19) الأول، ولا يجوز أن يريد به التفضيل في الشرِّ. %(3/1246)%
__________
(1) في (ك): «لها».
(2) في (ح): ((سباب)) بدل ((الباء)).
(3) في (ك): «وأرى»بدل: «وأو في».
(4) في (ح): ((بمعنى نمنع)).
(5) في (ح): ((يعني)) بلا واو.
(6) في (ب): «فنمتنع».
(7) في (ك): «أبو».
(8) في (ك): «كشف».
(9) في (ك): «المخمير».
(10) قوله: «وهو مثل»سقط من (ك).
(11) في (ب): «ساديها»، وفي (ك) و(ح): «سادتها».
(12) في (ح): «جزاك عندَ الله عنا الجنة».
(13) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" (12/404) من طريق الأصطخري، نا أبو الخليفة، ثنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن أبيه به .
(14) في (ب) و(ك): «والسجية».
(15) في (ك): «والصليقة» ويشبه كذلك في (ح).
(16) في (ح): «الوقاء»، في (ك): «الجزاء».
(17) في (ب) و(ك): «عليه».
(18) قوله: «شر»سقط من (ك).
(19) في (ح): ((نقصان حظهم عن الصف)).(3/1246)
قلت: وأوضح من هذا، وأبعد من الاعتراض أن يقال: إن الأصل (1) في أفعل ما ذكر، غير أن المعنى الذي يقصد به (2) المفاضلة فيه قد يكون معنى وجوديًا، كما يقال: بياض الثلج أشدُّ من بياض العاج، وقد يكون المعنى توهُّمًا (3) بحسب زعم المخاطب، كما قال تعالى: } فسيعلمون من هو شرٌّ مكانًا { (4) , وذلك أن الكفار زعموا: أن المؤمنين شرٌّ منهم، فأجيبوا بأن قيل لهم: ستعلمون باطل زعمكم بأن تشاهدوا عاقبة من هو الموصوف بالشر، وعلى (5) هذا يخرج معنى البيت، فإنَّهم كانوا يعتقدون في النبي - صلى الله عليه وسلم - شرًّا، فخاطبهم بحسب زعمهم، ودعا على الأشر من الفريقين منهما له، وهو يعنيهم قطعًا، فإنَّهم هم (6) أهل الشر، لكنهم (7) أتاهم بدعاء نَصَف يُسكِت الظالم، ويُرضي المظلوم.
وقوله:
فإنَّ أَبي ووَالِدَهُ وعِرضِي لِعِرضِ محمًّدٍ مِنكُم وِقَاءُ =(6/432)=@
قال ابن قتيبة: يعني بالعِرض هنا: النفس، فكأنه قال: أبي (8) وجدي، ونفسي وقاية لنفس محمد، وقال غيره: بل العِرض هنا هو الحرمة التي %(3/1247)%
__________
(1) في (ك): «الأفضل».
(2) قوله: ((به)) سقط من (ح).
(3) في (ح): «توهيما»، وفي (ك): «توهيميا».
(4) الآية (75) من سورة مريم .
(5) قوله: «وعلى»سقط من (ك).
(6) قوله: «هم»سقط من (ك).
(7) في (ب): «لكنه».
(8) في (ح): ((أني)) بدل ((أبي)).(3/1247)
تنتهك بالسب &(6/351)&$ والغيبة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» (1) .
وقوله:
لِسانِي صَارِمٌ لا عَيبَ فِيهِ وبَحرِي لا تُكَدِّرُهُ الدِّلاءُ
الصَّارم: السَّيف القاطع، ولا تكدره الدِّلاء: أي لا تغيره. وهذا (2) مثل يقرب (3) للرجل العظيم الحليم القوي؛ الذي لا يبالي بما يرد عليه من الأمور، وبهذا البيت كني حسان: أبا الحسام رضي الله عنه ، وجازاه خيرًا (4) . =(6/433)=@ %(3/1248)%
__________
(1) تقدم في الحج، باب. .. .. ..
(2) في (ب): «وهو».
(3) في (ح): ((يضرب)).
(4) قوله: «رضي الله عنه، وجازاه خيرًا»سقط من (ح) و(ك).(3/1248)
ومن باب فضائل أبي هريرة رضي الله عنه
اختلف (1) في اسم أبي هريرة، واسم (2) أبيه اختلافًا كثيرًا، انتهت أقوال النقلة في ذلك إلى ثمانية عشر قولاً، وأشبه ما فيها أن يقال (3) : إنه كان له في الجاهلية اسمان: عبد شمس، وعبد عمرو، وفي الإسلام: عبدالله، وعبدالرحمن بن صخر، وقد اشتهر بكنيته حتى كأنه ما له اسم غيرها (4) ، فهي أولى به، وكنِّي بابي &(6/352)&$ هريرة؛ لأنَّه وجد هرَّة صغيرة فحملها في كمِّه (5) ، فكُنِّي بها وغلب (6) ذلك عليه، وقيل: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كناه بذلك عندما رآه يحملها (7) .
أسلم أبو هريرة عام خيبر، وشهدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ثم لازمه، وواظب عليه، رغبة في العلم، راضيًا بشبع بطنه، فكانت يده مع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يدور معه حيثما دار، فكان يحضر ما لا يحضره غيره، %(3/1249)%
__________
(1) في (ك): «واختلف».
(2) قوله: ((واسم)) مطموس في (ح).
(3) قوله: ((يقال إنه)) مطموس في (ح).
(4) في (ب): «غيرهما».
(5) أخرجه الترمذي (5/644 رقم 3840) في المناقب، باب مناقب أبي هريرة. عن أحمد بن سعيد المرابطي، عن روح بن عبادة، عن أسامة بن زيد، عن عبدالله بن رافع قال: قلت لأبي هريرة لم كنيت أبا هريرة؟ قال: أما تفرق مني؟ قلت: بلى، والله إني لأهابك. قال: كنت أرعى غنم أهلي، فكانت لي هريرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، فإذا كان النهار ذهبت بها معي فلعبت بها، فكنوني أبا هريرة. قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب». وحسنه الحافظ في "الإصابة" (12/64).
(6) في (ح): ((وشهد غلب)).
(7) أخرجه البخاري (9/517-518 رقم 5375) في الأطعمة، باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا. لكن ليس فيه: أنه كناه بذلك عندما رآه يحملها. وانظر "الاستيعاب" (12/171).(3/1249)
ثم اتفق له أن حصلت له بركة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثوب الذي ضمَّه إلى =(6/434)=@ صدره، فكان يحفظ ما سمعه ولا ينساه، فلا جرم حفظ له من الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يحفظ لأحد من الصحابة رضي الله عنهم، وذلك خمسة الآف حديث وثلاثمئة وأربعة وسبعون حديثًا، أخرج له منها في الصحيحين ستمئة وتسعة أحاديث، قال البخاري: روى عنه أكثر من ثمانمئة رجل من بين صحابي (1) وتابعي، قال أبو عمر: استعمله عمر على البحرين ثم عزله، ثم أراده على العمل فأبى عليه (2) ، ولم يزل يسكن المدينة، وبها كانت وفاته سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع، وقيل: توفي بالعقيق، وصلَّى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان أميرًا يومئذ على المدينة ومروان معزول، وكان رضي الله عنه من علماء الصحابة وفضلائها، ناشرًا للعلم، شديد التواضع والعبادة، عارفًا بنعم الله، شاكرًا لها، مجتهدًا في العبادة. كان هو وامرأته، &(6/353)&$ وخادمه يعتقبون الليل أثلاثًا، يصلِّي هذا ثم يوقظ هذا (3) ، ويصلي هذا، ثم يوقظ هذا، وكان يقول: نشأت يتيمًا، وهاجرت مسكينًا، وكنت أجيرًا لبسرة (4) بنت غزوان بطعام بطني، وعقبة رحلي، فكنت أخدم إذا نزلوا، وأحدو إذا ركبوا، فزوَّجنيها الله، فالحمد لله (5) الذي جعل الدين قوامًا، وجعل أبا هريرة إمامًا (6) .
حديث إسلام أمه ليس فيه شيء يشكل. =(6/435)=@ %(3/1250)%
__________
(1) في (ب) و(ح): «صاحب».
(2) أخرجه عبدالرزاق (20659) عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، وقد توبع معمر: فأخرجه ابن سعد (4/335) من طريق أبي هلال، وأبو نعيم في "الحلية (1/380)، وأبو موسى في "الذيل" كما في "الإصابة" (7/512) من طريق يحيى بن العلياء. كلاهما أبو هلال ويحيى، عن أيوب به. وتابع أيوب هشام بن حسان وابن عون. أما رواية ابن عون فأخرجها ابن سعد (4/335). وأم ارواية هشام بن حسان فأخرجها الحاكم في "المستدرك" (2/378).
(3) أخرجه البخاري في "صحيحه" (5441)، وأحمد في "المسند" (2/353)، وفي الزهد (ص212)، وإسحاق بن راهويه (13)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/382-383)، والبيهقي في "الصغرى" (1/473)، وفي "الشعب" (3084). كلهم من طريق حماد بن زيد، عن عباس الجريري، عن أبي عثمان قال: تضيفت أبا هريرة سبعًا، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثًا، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا.
(4) في (ك): «لبسيرة».
(5) في (ك): «والحمد لله».
(6) أخرجه ابن سعد (4/326)، وابن ماجه (2/817 رقم2445) في الرهون، والبيهقي (6/120)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/3791). جميعهم من طريق سليم بن حيان، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: نشأت يتيمًا، وهاجرت مسكينًا، وكنت أجيرًا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أحطب لهم إذا نزلوا، وأحدو لهم إذا ركبوا، فالحمد لله الذي جعل الدين قوامًا، وجعل أبا هريرة إمامًا .
قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/261): «هذا إسناد صحيح موقوفًا، وحيان هو ابن بسطام بن مسلم بن نمير أ ذكره ابن حبان في الثقات أ وباقي رجال الإسناد ثقات».
وحيان لم يرو عنه غير ابنه سليم، مقبول كما في "التقريب" (ص281 رقم1604). وأخرجه ابن حبان (16/100-101 رقم7150)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/379). كلاهما من طريق الدورقي، عن ابن علية، عن الجريري، عن مضارب بن حزن قال: بينا أنا أسير من الليل إذا رجل يكبر، فألحقته بعيري، قلت: من هذا المكبر؟ قال: أبو هريرة ....، فذكره.
وصححه الحافظ في "الإصابة" (12/77)، وسماع ابن علية من الجريري قبل اختلاطه .(3/1250)
وقول عائشة رض الله عنها: " ألا يعجبك "؛ هو بضم الياء وفتح العين وكسر الجيم مشددة، ومعناه: ألا يحملك على التعجب النظر في أمره؟ قالت: هذا منكرة عليه إكثاره (1) من الأحاديث في المجلس الواحد، ولذلك قالت في غير هذه الرواية: " إنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحدِّثُ حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه " (2) ؛ تعني: أنه كان يحدِّث حديثًا قليلاً، ويحتمل أن تريد بذلك: أنه كان يحدِّث حديثًا واضحًا مبينًا، بحيث لو عُدَّت كلماته أحصيت لقلِّتها، وبيانها، ويدلّ على صحة هذا التأويل قولها:" ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسرد الحديث سردكم هذا ".
والصَّفق بالأسواق: التجارة فيها، وقد تقدَّم أنهم كانوا يتواجبون بالأيدي (3) ، فيصفق أحدهما في كف الآخر، فإذا فعلوا ذلك وجب البيع، فسمِّي البيع صفقًا بذلك، وقد تقدم هذا. والسُّبحة: النافلة، وأُسَبِّح: أُصَلِّي، مأخوذ من التسبيح. &(6/354)&$
وقول أبي هريرة رضي الله عنه: يقولون قد أكثر أبو هريرة والله الموعد"؛ أى: الرجوع (4) إلى الله بحكم الوعد الصَّادق، فيجازي كُلاًّ على قوله وفعله. =(6/436)=@ %(3/1251)%
__________
(1) في (ك): «إكثارا».
(2) سيأتي في العلم، باب تقليل الحديث حال الرواية وتبيانه برقم (2610).
(3) في (ح): ((الأيدي)).
(4) في (ك): «بالرجوع».(3/1251)
وقوله: يقولون: " ما بال المهاجرين والأنصار لا (1) يتحدثون مثل أحاديثه (2) "؛ هذا الإنكار خلاف إنكار عائشة رضي الله عنها؛ فإنَّها إنما أنكرت سرد الحديث، وهؤلاء أنكروا على أبي هريرة أن يكون أكثر الصحابة حديثًا، وهذا إنكار استبعادٍ وتعجب، لا إنكار تهمة، ولا تكذيب لما يعلم من حفظه، وعلمه، وفضله، ولما يعلم أيضًا من فضلهم، ومعرفتهم بحاله، ولذلك بيَّن لهم الموجب لكثرة حديثه، وبيَّن أنه شيئان:
أحدهما: أنه لازم النبي (3) - صلى الله عليه وسلم - ما لم يلازموا، فحضر ما لم يحضروا.
والثاني: بركة امتثال ما أرشد إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بسط (4) ثوبه، وضمِّه إلى صدره، فكان ذلك سبب حفظه، وعدم نسيانه .
فقد حصلت لأبي هريرة ولأمه من بركات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخصائص دعواته، ما لم يحصل لغيره، ثم إن أبا هريرة رضي الله عنه لما حفظ علمًا كثيرًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتحقق أنه وجب عليه أن يبلغه غيره، ووجد من يقبل عنه، ومن له رغبة في ذلك، تفرَّغ لذلك مخافة =(6/437)=@ الفوت، ومعاجلة القواطع أو الموت، ثم إنه لما آلمه الإنكار همَّ (5) بترك ذلك &(6/355)&$ والفرار. لكنه خاف من عقوبة الكتمان المنبَّه عليها في القرآن، ولذلك (6) قال: لولا آيتان في كتاب الله ما حدَّثت حديثًا، ثم تلا قوله تعالى: } إن (7) الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب (8) ... { الآيتين (9) . وفيهما بحثٌ وتفصيل يحتاج إلى نظر طويل يذكر في تفسير القرآن وأحكامه. %(3/1252)%
__________
(1) قوله: «لا»سقط من (ح).
(2) في (ك): «أحاديث».
(3) في (ح): ((للنبي)).
(4) في (ح): ((بسطه)).
(5) في (ك): «منهم».
(6) قوله: «ولذلك»سقط من (ح).
(7) قوله: ((إن)) ليس في (ح).
(8) زاد بعدها في (ح): ((أولئك)).
(9) الآية (159-160) من سورة الببقرة.(3/1252)
ومن باب فضائل أهل بدر والحديبية
وفضل حاطب بن أبي بلتعة (1)
واسمه: عمرو بن راشد من ولد لخم بن عدي. يكنى: أبا عبدالله، وقيل: أبا محمد، وهو حليف (2) للزبير (3) بن العوَّام، وقيل: لبني أسد، وقيل: كان عبدًا =(6/438)=@ لعبيدالله بن حميد (4) ، كاتبه فأدى كتابته يوم الفتح، شهد بدرًا والحديبية. مات سنة ثلاثين بالمدينة، وهو ابن خمس وستين سنة، وصلَّى عليه عثمان، وقد شهد له (5) بالإيمان (6) في قوله تعالى: } يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء (7) { (8) ، وقد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان والصدق، وبأنه لا يدخل النار على ما تضمَّنه الحديثان المذكوران في "الأم". وروضة خاخ: موضع معروف قريب من المدينة. والظعينة: الهودج، كان فيه امرأة، أو لم يكن، وتسمَّى المرأة ظعينة &(6/356)&$ إذا كانت في الهودج. وتجمع الظعينة (9) : ظُعْنٌ وظُعُنٌ (10) وظعائن. وأظعان (11) . والعِقَاص: الشعر المعقوص؛ أي: المضفور. والملصق في القوم: هو الذي لا نسب له فيهم، وهو ا لحليف، والنزيل، والدَّخيل. %(3/1253)%
__________
(1) في (ك): «بليغة».
(2) في (ك): «خليف».
(3) في (ك): «الزبير».
(4) في (ك): «لعبيدالله من حمير».
(5) في (ح): ((شهد الله له)).
(6) مسلم (4/1941-1942 رقم2494) لإي فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم، وقصة حاطب بن أبي بلتعة.
(7) زاد بعدها في (ح): ((تلقون إليهم بالمودة)).
(8) الآية (1) من سورة الممتحنة.
(9) في (ك): «الظعن».
(10) قوله: «ظُعْن وظُعُن»سقط من (ك).
(11) قوله: «وأظعان»سقط من (ح).(3/1253)
وقوله: " وكان ممن معك "؛ كذا وقع هذا اللفظ " ممن " بزيادة من، وفي بعض النسخ "من معك " بإسقاط "من "، وهو الصواب؛ لأنَّ "من" لا تزاد في الواجب (1) عند البصريين وأكثر أهل اللسان، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين. =(6/439)=@
وقول عمر رضي الله عنه: " دعني أضرب عنق هذا المنافق "؛ إنما أطلق عليه اسم النفاق؛ لأنَّ ما صدر منه يشبه فعل المنافقين؛ لأنَّه والى كفار قريش، وباطنهم، وهمَّ بأن يطلعهم على ما عزم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوهم، مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان (2) دعا فقال: «اللهم أخف أخبارنا عن قريش» (3) , لكن حاطبًا لم ينافق بقلبه، ولا ارتد عن دينه، وإنما تأوَّل فيما فعل من ذلك: أن إطلاع قريش على بعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويخوِّف قريشًا. ويُحكى: أنه كان في الكتاب (4) تفخيم أمر جيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنهم لا طاقة لهم به، يخوِّفهم بذلك ليخرجوا عن (5) مكة، ويفرُّوا منها (6) ، وحسَّن له (7) هذا التأويل: تعلق خاطره بأهله، وولده؛ إذ هم قطعة من كبده، ولقد أبلغ من قال: قلَّما (8) يفلح من كان (9) له عيال. لكن لطف الله تعالى به، فنجَّاه (10) بما (11) علم من صحَّة إيمانه، وصدقه، وغفر له بسابقة بدر، وسَبقهِ (12) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم»؛ معنى يدريك: يعلمك، ولعل: للترجي، لكن هذا الرجاء محقق للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ بدليل ما ذكره الله تعالى في قصة أهل %(3/1254)%
__________
(1) أي: في سياق الإثبات؛ لأن من شروط زيادتها أن تسبق بنفي أو نهي أو استفهام بهل.
(2) في (ك): «كان قد».
(3) انظر "سيرة ابن هشام" (4/39) و(2/397).
(4) في (ك): «الكتب».
(5) في (ح): «من».
(6) ذكر السهيلي في "الروض الأنف"(4/151) ما نصه: «وقد قيل أنه كان في الكتاب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له وعده».
ونقله عنه القرطبي في "التفسير" (18/50)، وابن كثير في "البداية والنهاية" (4/284)، وابن حجر في "فتح الباري" (7/520)، والحلبي في "السيرة الحلبية" (3/11).
وفي "تفسير يحيى بن سلام": أن النبي محمدًا نفر إما إليكم وإما إلى غيركم فعليكم بالحذر الله».
(7) في (ح): «لهم».
(8) في (ح): «لا» بدل ((قلما)).
(9) قوله: «كان»سقط من (ك).
(10) في (م): «ونجاه».
(11) في (م): «لما».
(12) في (ك): «بسبقه».(3/1254)
بدر في: آل عمران، والأنفال. من ثنائه عليهم (1) ، وعفوه عنهم، وبدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي قال &(6/357)&$ في حاطب إنه يدخل النار، وأقسم عليه: «كذبت، لا يدخلها فإنَّه (2) شهد بدرًا» (3) . فهذا إخبار =(6/440)=@ محقق لا احتمال فيه، ولا تجوُّز (4) ، وظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - : «اعملوا ما شئتم»إباحة كل الأعمال، والتخيير فيما شاؤوا من الأفعال، وذلك في الشريعة محال؛ إذ المعلوم من قواعدها: أن التكليف (5) بالأوامر والنواهي، متوجهة على كل من كان موصوفًا بشرطها إلى موته، ولما لم يصح ذلك الظاهر اضطر (6) إلى تأويله، فقال أبو الفرج الجوزي: ليس قوله: «اعملوا ما شئتم»للاستقبال؛ وإنَّما هي (7) للماضي، وتقديره: أيُّ عمل كان لكم فقد غفرته، قال: ويدلّ على ذلك شيئان:
أحدهما: أنه لو كان للمستقبل كان جوابه سأغفر.
والثاني: أنه كان يكون إطلاقًا في الذنوب، ولا وجه لذلك، ويوضح هذا (8) : أن القوم خافوا من العقوبة مما (9) بعد، فقال عمر: يا حذيفة (10) ! هل أنا منهم (11) ؟
قلت: وهذا التأويل، وإن كان حسنًا غير أن فيه بُعدٌ؛ يبينه: أنَّ " اعملوا " صيغته صيغة الأمر، وهي موضوعة للاستقبال، ولم تضع العرب قط صيغة الأمر موضع الماضي، لا بقرينة، ولا بغير قرينة، هكذا نص عليه النحويون، وصيغة الأمر إذا وردت بمعنى الإباحة: إنما هي %(3/1255)%
__________
(1) قوله: «عليهم»سقط من (ب).
(2) في (ح): «لأنه».
(3) هو الحديث الآتي في "التلخيص".
(4) في (م): «ولا يجوز».
(5) في (ح): ((التكاليف)).
(6) قوله: ((اضطر)) لم يتضح في (ح).
(7) في (ب): «هو».
(8) في (ح): ((ذلك)) بدل ((هذا)).
(9) في (م): «فيما».
(10) في (ح): «حذيفة يا عمر»، و في (ك): «يا عمر يا حذيفة».
(11) أخرجه ابن أبي شيبة (3790) عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب قال: مات رجل من المنافقين فلم يصل عليه حذيفة، فقال له عمر: أمن القوم هو؟ قال: نعم، فقال له عمر: بالله منهم أنا؟ قال: لا، ولن أخبر به أحدًا بعدك.
وإسناده صحيح. وأخرجه البزار في "مسنده" (2885) من طريق عبدالعزيز بن مسلم، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة به نحوه. قال الهيثمي (3/42): «رجاله ثقات». وذكره ابن حجر في "مختصر زوائد البزار (590)، وقال: إسناد صحيح .(3/1255)
بمعنى الإنشاء والابتداء، لا بمعنى الماضي، فتدبَّر هذا؛ فإنه حسن، وقد بينته في الأصول بأشبع من هذا، واستدلاله على ذلك (1) بقوله: " فقد غفرت لكم "، ليس بصحيح؛ لأنَّ " اعملوا ما شئتم " يستحيل أن يحمل على طلب الفعل، ولا يصح أن يكون بمعنى الماضي لما ذكرناه، فتعيَّن =(6/441)=@ حمله على الإباحة والإطلاق، وحينئذ يكون خطاب إنشاء، فيكون كقول القائل: أنت وكيلي، وقد جعلت لك (2) التصرف كيف شئت، فإنَّ ذلك إنما يقتضي إطلاق التصرف في (3) وقت التوكيل، لا قبل &(6/358)&$ ذلك، وقد ظهر لي وجه آخر، وأنا أستخير الله فيه وهو: أن الخطاب (4) خطاب إكرام وتشريف تضمَّن: أن هؤلاء القوم حصلت لهم حالة غُفِرتْ لهم بها ذنوبهم السالفة (5) ، وتأهلوا بها (6) لأن يغفر (7) لهم ذنوب مستأنفة إن وقعت منهم، لا أنهم نُجِّزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب اللاحقة، بل: لهم صلاحية أن يغفر لهم (8) ما عساه أن يقع، ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيء ما وجود ذلك الشيء؛ إذ لا يلزم من وجود أهلية الخلافة وجودها لكل من وجدت له أهليتها، وكذلك القضاء وغيره، وعلى هذا فلا يأمن (9) من حصلت (10) له أهلية المغفرة من المؤاخذة على ما عساه أن يقع منه من الذنوب، وعلى هذا يخرج حال كل من بشَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه مغفورٌ له، وأنه من أهل الجنة، فيتضمَّن ذلك مغفرة ما مضى، وثبوت الصلاحية للمغفرة والجنة بالنسبة لما يستقبل. ولذلك لم يزل عن أحد ممن بُشِّر بالمغفرة، أو بالجنة خوف التبديل والتغيير من المؤاخذة على الذنوب، ولا (11) ملازمة التوبة منها، والاستغفار دائمًا، ثم إن الله تعالى أظهر صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - للعيان في كل من %(3/1256)%
__________
(1) في (ك): «واستدلاله عليه».
(2) قوله: «لك»سقط من (ب).
(3) في (ب) و(ح): «من».
(4) في (ح): ((أن هذا الخطاب)).
(5) في (ب): «السابقة».
(6) قوله: «بها»سقط من (ك).
(7) في (ح): ((تغفر)).
(8) قوله: «لهم»سقط من (ح).
(9) في (ح): ((فلا نأمن)).
(10) في (ك): «صلحت».
(11) قوله: «لا»سقط من (ك).(3/1256)
أخبر عنه بشيء من ذلك؛ فإنَّهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة من أمور الدين، ومراعاة (1) أحواله، والتمسك بأعمال البر والخير إلى أن توفوا على ذلك، ومن وقع منهم في معصية، أو مخالفة لجأ إلى التوبة، ولازمها حتى لقي الله تعالى عليها، يعلم (2) ذلك قطعًا من أحوالهم من طالع سيرهم، وأخبارهم. =(6/442)=@
وفي حديث حاطب هذا أبواب من الفقه وأدلَّة على صحة نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى فضائل أهل بدر، وحاطب بن أبي بلتعة، فمن جملة ما فيه من الفقه: أن ارتكاب الكبيرة (3) لا يكون كفرًا، وأن المتأوِّل أعذر من العامد، وقبول عذر الصادق، وجواز الاطلاع من عورة المرأة على ما تدعو إليه الضرورة. ففي بعض &(6/359)&$ رواياته: أنهم فتشوا من المرأة كل شيء حتى قبلها (4) .
وفيه: ما يدلُّ على أن الجاسوس حكمه بحسب ما يجتهد فيه الإمام على ما يقوله مالك. وقال الأوزاعي: يعاقب، وينفى إلى غير أرضه. وقال أصحاب الرأي: يعاقب ويسجن. وقال الشافعي: إن كان من ذوي الهيئات كحاطب عفي عنه، وإلا عُزِّر. وجميع أهل بدر ثلاثمنة وسبعة عشر رجلاً باتفاق أئمة السير والتواريخ. واختلف في طائفة نحو الخمسة هل شهدوها، أم لا؟ وتفصيل ذلك في كتب السِّير.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يدخل النار - إن شاء الله تعالى - من أصحاب الشجرة أحد (5) الذين بايعوا تحتها»؛ هذه الشجرة: هي شجرة بيعة الرضوان التي قال الله تعالى فيها: } لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة { (6) . وكانت %(3/1257)%
__________
(1) في (ك): «ومراعاته».
(2) في (ك): «بعلم».
(3) في (ح): «الخطيئة».
(4) أخرج البخاري في "صحيحه" (3007 و4274 و4890 و3081 و3983 و6259)، ومسلم في "صحيحه" (2494) قصة حاطب بن أبي بلتعة،وفيه: «لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب».
وأما: أنهم فتشوا كل شيء حتى قبلها، فهذا جاء في حديث عائشة في قصة ذات الوشاح، وذلك أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها، فكانت معهم، قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور، قالت: فوضعته أو وقع منها، فمرت به حُدَيَّاة وهو ملقى، فحسبته لحمًا فخطفته، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، قالت: فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها. قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته، قالت: فوقع بينهم، قالت: فقلت: هذا الذي اتهمتموني به زعمتم، وأنا منه بريئة وهو ذا هو. قالت: فجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش، قالت: فكانت تأتيني فتحدِّث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلسًا إلا قالت :
ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
(5) في (م: «أحد من أصحاب الشجرة».
(6) الآية (18) من سورة الفتح .(3/1257)
بالحديبية التي تقدم ذكرها. والمبايعون تحتها: كانوا ألفًا وأربعمئة، وقيل: وخمسمئة (1) ، كانوا بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت، أو على ألا يفرُّوا، على خلاف بين الرواة. ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل مكة، وكفى (2) الله المؤمنين القتال، وأحرز لهم الثواب. وأثابهم فتحًا قريبًا، ورضوانًا عظيمًا. واستثناؤه - صلى الله عليه وسلم - هنا بقوله: «إن شاء الله»استثناء في (3) واجب قد أعلمه الله تعالى بحصوله (4) بقوله: } لقد =(6/443)=@ رضي الله عن المؤمنين { (5) ، وبغير ذلك، وصار هذا الاستثناء كقوله تعالى: } لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين { (6) .
وقول حفصة: " بلى"؛ قول (7) أخرجه منها الشهامة النفسية، والقوة العمرية، فإنَّها كانت بنت أبيها، وهذا من نحو قول عمر رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ورود (8) المنافقين: أتصلي عليهم (9) , وتمسكها بعموم قوله تعالى: } وإن منكم إلا واردها { (10) دليلٌ على أن " منكم " للعموم عندهم، وأن ذلك معروف من لغتهم، وانتهار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها تأديب لها وزجر عن بادرة المعارضة، وترك الحرمة، ولما حصل الإنكار صرحت بالاعتذار، فذكرت الآية، وحاصل ما فهمت منها: أن الورود فيها (11) بمعنى &(6/360)&$ الدخول، وأنها قابلت عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يدخل النار أحدٌ (12) ممن بايع تحت الشجرة»بعموم قوله تعالى: } وإن منكم إلا واردها { , وكأنها رجَّحت عموم القرآن. فتمسكت به، فأجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن آخر الآية يبيِّن المقصود، فقرأ (13) قوله تعالى: } ثم ننجي الذين أتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًا { (14) . وحاصل الجواب: %(3/1258)%
__________
(1) في (ح): «خمسمئة» بلا واو ،
(2) في (ب) و(ك) و(ح): «فكفى».
(3) قوله: «في»سقط من (ب).
(4) في (ك): «محصوله».
(5) الآية (18) من سورة الفتح.
(6) الآية (27) من سورة الفتح .
(7) في (ك): «قوله».
(8) قوله: ((ورود)) سقط من (ح).
(9) تقدم في الجنائز، باب من لا يصلَّى عليه برقم (844).
(10) الآية (171) من سورة مريم .
(11) قوله: «فيها»سقط من (ك).
(12) قوله: ((أحد)) سقط من (ح).
(13) في (ك): «وتلا».
(14) الآية (72) من سورة مريم.(3/1258)
تسليم أن الورود دخول، لكنه دخول عبور، فينجو من اتقى، ويترك فيها من ظلم، وبيان ذلك: أن جهنم -أعاذنا الله منها - محيطة بأرض المحشر، وحائلة بين الناس وبين الجنة، ولا طريق للجنة إلا الصراط الذى هو جسر ممدود على متن جهنم، فلا بدَّ لكل من ضمَّه المحشر من العبور عليه، فناج مُسَلَّم، ومخدوش مرسل، ومكردسٌ (1) في نار جهنم (2) كما تقدَّم، وهذا قول الحسن وقتادة، وهو الذي تعضده الأخبار الصحيحة، والنظر المستقيم. =(6/444)=@
والورود في أصل اللغة: الوصول إلى الماء؛ وإنَّما عبَّر به عن العبور؛ لأنَّ جهنم تتراءى للكفار كأنها سراب فيحسبونه (3) ماء, فيقال لهم: ألا تردون؟ كما صحَّ في الأحاديث المتقدمة.
وفي حديث حفصة هذا أبواب من الفقه (4) ، منها: جواز مراجعة العالم على ما (5) جهة المباحثة، والتمسك بالعمومات فيما ليس طريقه العمل، بل: الاعتقاد، ومقابلة عموم بعموم. والجواب: بذكر المخصَّص، وتأديب الطالب عند مجاوزة حدِّ الأدب في المباحثة. والمتقي: هو الحذر من المكروه الذي يتحرز منه?بإعداد ما يتقيه به. ونذر: نترك (6) . والظالم هنا: هو الكافر؛ لأنَّه وضع الإلهية (7) والعبادة في غير موضهما. وجثيًا: جمع جاث، وأصله: الجالس (8) على ركبتيه، والمراد به ها هنا: المكبوب على وجهه، وهو: المكردس المذكور في الحديث، والله تعالى أعلم. &(6/361)&$ %(3/1259)%
__________
(1) في (ك): «مكدوس».
(2) تقدم في الإيمان، باب شفاعة الملائكة والنبيين والمؤمنين برقم (149).
(3) في (ك): «فيحسبونها».
(4) في (ح): ((من أصول الفقه)).
(5) قوله: ((ما)) سقط من (ح).
(6) في (ح): «يذر يترك».
(7) في (ح): ((الالاهية)).
(8) من هنا بداية سقط في نسخة (م).(3/1259)
ومن باب فضائل أبى موسى الأشعري رضي الله عنه
واسمه: عبد الله بن قيس بن سليم بن حَضَّار - بفتح الحاء المهملة والضاد - المعجمة المشددة - ويقال: حِضَار - بكسر الحاء، وتخفيف الضاد -: من ولد الأشعر، وهو نبتُ بن أدد، وقيل: من ولد الأشعر بن سبأ أخي حمير. قال أبو عمر: ذكرت طائفة: أن أبا موسى قدم مكة، فحالف سعيد بن العاصي، ثم أسلم بمكة، ثم هاجر إلى أرض الحبشة، ثم قدم مع أهل السفينة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر (1) . وقال أبو بكر بن عبدالله بن الجهم - وكان علامة نسَّابة-: ليس كذلك، =(6/445)=@ ولكنه أسلم قديمًا بمكة، ثم رجع إلى بلاد قومه، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين: جعفر وأصحابه من أرض الحبشة، ووافوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر. قال أبو عمر: وإنما ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى أرض (2) الحبشة؛ لأنَّه نزل أرضهم في حين إقباله مع سائر قومه، رمت الريح سفينتهم إلى الحبشة، فبقوا فيها، ثم خرجوا مع جعفر وأصحابه: هؤلاء في سفينة، وهؤلاء في سفينة، فوافوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر، فقيل: إنه قسم لأهل السفينتين (3) ، وقيل: لم يقسم لهم، ثم ولَّى عمر بن الخطاب أبا موسى البصرة؛ إذ عزل عنها المغيرة في وقت الشهادة عليه، &(6/362)&$ وذلك سنة عشرين، فافتتح أبو موسى الأهواز، ولم يزل على البصرة إلى صدر من خلافة عثمان، ثم عزله عنها وولاها عبدالله بن عامر بن كرز (4) ، %(3/1260)%
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (4/106) عن الواقدي، أخبر خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبدالله بن أبي الجهم.
(2) قوله: ((أرض)) سقط من (ح).
(3) أخرجه البخاري (3136 و3876 و4230 و4233)، ومسلم (2502 و2505) أنه r قسم لهم.
(4) "تاريخ خليفة بن خياط" (161).(3/1260)
فنزل أبو موسى حينئذ الكوفة وسكنها، ثم لما رفع (1) أهل الكوفة سعيد بن العاصي ولَّوا أبا موسى، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه فأقرَّه، فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان (2) ، واستخلف عليّ، فعزله عنها. قال أبو عمر: فلم يزل واجدًا (3) منها على علي، ثم كان من أبي موسى بصفين وفي التحكيم ما كان، وكان متحرفًا (4) عن (5) عليٍّ؛ لأنَّه عزله، ولم يستعمله، وغلبه أهل اليمن في إرساله في التحكيم فلم يخر (6) لهم، ثم انقبض أبو موسى إلى مكة، ومات بها، وقيل: مات بالكوفة في داره بجانب المسجد، واختلف في وقت (7) وفاته، فقيل: سنة اثنتين (8) وأربعين، وقيل: سنة أربع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين. وكان رضي الله عنه من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، ولذلك قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود» (9) . وسئل علي رضي الله عنه عن موضع أبي موسى من العلم؟ =(6/446)=@ فقال: صُبغ في العلم صبغة (10) .
وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستمئة وستين حديثًا، أخرج له منها في الصحيحين ثمانية وستون حديثًا .
وقول الأعرابي: " أكثرتَ عليَّ من أبشر " قول جلف جاهل بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقدر البشرى التي بشَّره بها (11) النبي - صلى الله عليه وسلم - لو قبلها، لكنها عرضت عليه فحرمها، وقضيت لغيره فقبلها. والبشرى (12) : خبر بما يسر، وسُمِّيت (13) بذلك؛ لأنَّها (14) تظهر الشرور (15) في بشرة المبشر، وأصله في الخير، وقد يقال في الشر توسُعًا كما قال الله (16) تعالى: } فبشرهم بعذاب أليم { (17) ، وفيه ثلاث %(3/1261)%
__________
(1) في (ح): «دفع».
(2) "تاريخ خليفة بن خياط" (168).
(3) في (ح): ((واحدا)).
(4) في (ح): ((منحرفًا)).
(5) في (ك): «على».
(6) في (ك): «يحر».
(7) قوله: ((وقت)) سقط من (ح).
(8) في (ك): «اثنين».
(9) أخرجه البخاري (5048)،ومسلم (793).
(10) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/346)، والفسوي في "المعرفة" (2/540)، والذهبي في "المدخل" (103)،وابن عساكر في "التاريخ" (21/420)، و(32/61-62) كلهم من طريق الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي رضي الله عنه به مطولاً. ورجاله ثقات.
(11) قوله: «بها»سقط من (ح).
(12) في (ح): «والبشر».
(13) وفي (ب): «تسمى»، في (ح) و(ك): «وسمى».
(14) في (ح) و(ك): «لأنه».
(15) في (ح): ((السرور)).
(16) قوله: ((الله)) ليس في (ح).
(17) الآية (34) من سورة التوبة .(3/1261)
لغات: أبشر - رباعيًّا - فتقول: أبشرته أبشره إبشارًا، ومنه: } وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون { (1) ، وبشَّر - مشددًا- يُبشِّر تبشيرًا , ومنه قوله تعالى: } فبشر عباد (2) &(6/363)&$ الذين يستمعون القول { (3) ، والثالثة: بَشَرْتُ الرجل - ثلاثيًّا، مفتوح العين - أبشره بالضم بُشرًا بالسكون وبُشُورًا، والاسم البشارة - بكسر الباء وضمها-، والبشرى: تقتضي مُبَشَّرًا به، فإذا ذكر تعيَّن، وإذا سكت عنه، صلح أن يراد به العموم. =(6/447)=@
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأعرابي (4) : «أبشر»ولم يذكر له عين ما بشره (5) به؛ لأنَّه - والله أعلم - قصد (6) تبشيره بالخير على العموم الذي يصلح لخير الدنيا والآخرة، ولما جهل ذلك ردَّه لحرمانه وشقوته، ولما عرض ذلك على من عرف قدره بادر إليه وقبله، فنال من البشارة الخير الأكبر، والحظَّ الأوفر (7) ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وكونه - صلى الله عليه وسلم - غسل وجهه في الماء، وبصق فيه، وأمره بشرب ذلك، والتمسح به مبالغة في إيصال الخير والبركة (8) لهما؛ إذ قد ظهرت بركته - صلى الله عليه وسلم - فيما لمسه، أو باشره، أو اتصل به منه شيء، ولما تحققت %(3/1262)%
__________
(1) الآية (30) من سورة فصلت.
(2) في (ح): ((عبادي)).
(3) الآية (17-18) من سورة الزمر .
(4) في (ح): ((للأعرابي)).
(5) في (ك): «بشر».
(6) في (ح): «قصد به».
(7) في (ك): «الأفر».
(8) في (ح): «البركة والخير».(3/1262)
أم سلمة ذلك سألتهما أن يتركا لها فضلة من ذلك ليصيبها من تلك البشرى، ومن تلك البركة حظٌّ .
وفيه ما يدل على جواز الاستشفاء بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وبكلماته، ودعواته، وعلى جواز النشرة بالماء الذي يرقى بأسماء الله تعالى، وبكلامه، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تقدم ذكر الخلاف في النشرة في كتاب الطب.
وأوطاس: موضع قريب من حنين .
وبعث أبي عامر إنما كان لتتبع منهزمة هوازن بحنين، ويُسمَّى (1) خيله: خيل الطلب، وأبو عامر هذا: اسمه عبيد بن سليم بن حضَّار الأشعري، وكان أبو عامر هذا من كبار الصحابة، عقد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لواءً يوم ولاه على هذا الجيش، وختم الله تعالى له بالشهادة، وبدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمغفرة (2) .
وقول أبي عامر:" إن ذلك (3) قاتلي، تراه ذلك(1) الذي رماني "؛ كذا الرواية الصحيحة، تراه (4) : بالتاء باثنتين من فوقها، والكلام كله لأبي عامر، وكان الذي رمى (5) =(6/448)=@ أبا عامر كان قريبًا منهما، فأشار إليه بذلك (6) مرتين تقريبًا له، وأكد ذلك &(6/364)&$ بقوله: تراه، فكأنه قال: الذي تراه، ووقع في بعض النسخ ذلك بلام البعد، وفيه بعد، وقرأه بالفاء، فكأنه من قول الراوي خبرًا عن أبي موسى أنه رأى القاتل، والأول أصح. %(3/1263)%
__________
(1) في (ح): «وتسمى».
(2) في (ب): «له بالمغفرة».
(3) كذا في جميع النسخ، وفي "التلخيص": «ذاك».
(4) قوله: ((تراه)) سقط من (ح).
(5) في (ح): يشبه ((رماه)).
(6) كذا في النسخ، والصحيح: «ذاك»لأنه يدل على القرب، ويبدو أنه خطأ من الناسخ بدليل الكلام بعده .(3/1263)
وقوله: " فنزا منه الماء "؛ أي: خرج الماء بسرعة إثر خروج السهم، وأصل النزو: الارتفاع والوثب.
وقوله: " واستعملني عامر على الناس "؛ فيه ما يدلّ على: أن الوالي إذا عرض له أمر جاز أن يستنيب غيره.
وقوله: " فوجدته على حصير مُرْمل، قد أثر رمال الحصير في ظهره "؛ صحيح الرواية فيه: مرمل بضم الميم الأولى، مُسكَّن الراء، مفتوح الميم الثانية. وهو من: أرملت الحصير؛ إي: شققته (1) ونسجته بشريط أو غيره. قال الشاعر (2) :
إذ لا يَزال عَلَى طَرِيق لاحِبً (3) وكان صَفحَتَه (4) حَصِيرٌ مُرْمَلُ =(6/449)=@ &(6/365)&$
ويقال: رملت الحصير أيضًا (5) - ثلاثيًّا -، ورمال الحصير: هو ما يؤثر منه في جنب المضطجع عليه.
وقوله: " وعليه فراش "؛ كذا صحَّت الرواية بإثبات الفراش ،?وقال القابسي: الذي أعرف: وما (6) عليه فراش.
قلت: واستبعَدَ أن يكون عليه فراش ويؤثر في ظهره؛ وإنَّما يستبعد ذلك إذا كان الفراش كثيفًا، وثيرًا، ولم يكن فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - (7) كذلك، فلا يستبعد. %(3/1264)%
__________
(1) في (ب): «شفعته»، وفي (ح): «سففته».
(2) هو: حجل بن نضلة. انظر "الأسمعيات" (ص114) مع اختلاف يسير .
(3) في (ح): ((لاجب)).
(4) في (ب): «ضجعنه».، وفي (ك) و(ح): «ضجعته».
(5) في (ك): «أيضًا رملت الحصير».
(6) في (ب) و(ك): «ما»بلا واو .
(7) إلى هنا انتهى السقط من نسخة (ف).(3/1264)
وقوله: " فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضَّأ منه، ثم رفع يديه "؛ ظاهر هذا الوضوء: أنه كان للدُّعاء؛ إذ لم يذكر أنه صلى في ذلك الوقت بذلك الوضوء، ففيه ما يدلّ على مشروعية الوضوء للدُّعاء، ولذكر الله، كما تقدَّم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة» (1) .
وقوله: " ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه "؛ دليل على استحباب الرفع عند الدعاء، وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك يوم بدر (2) ، وفي الاستسقاء (3) ، وقد روي (4) كراهية (5) ذلك عن مالك، ويمكن أن يقال: إنما كره أن يُتَّخذ ذلك سُنَّة راتبة على أصله في هذا الباب، أو مخافة أن يعتقد الجهَّال مكانًا لله تعالى، والذي يزيل هذا الوهم: أن =(6/450)=@ يقال: لا يلزم من مدِّ الأيدي إلى السماء أن يكون (6) مكانًا لله تعالى، ولا جهة (7) ، كما لا يلزم من استقبال الكعبة (8) أن يكون الله تعالى فيها، بل السماء قبلة الدُّعاء (9) ، كما أن الكعبة قبلة الصلاة، والباري تعالى منزه عن الاختصاص بالأمكنة والجهات؛ إذ ذاك (10) من لوازم المحدثات، ولقد أحسن من قال: لو كان الباري تعالى في شيء لكان محصورًا، ولو كان على شيء لكان محمولاً، ولو كان من شيء &(6/366)&$ لكان محدثًا .
وقد حصل أبو موسى على مثل ما حصل لعمه أبي عامر من استغفار رسول (11) الله - صلى الله عليه وسلم - وزاده: «وأدخله مدخلاً كريمًا»؛ ليلحقه بمنزلة أبي عامر في الجنة لأنه قتل قاتله، والله تعالى أعلم. %(3/1265)%
__________
(1) تقدم تخريجه في الطهارة، باب تيمم الجنب، والتيمم لرد السلام .
(2) تقدم في الجهاد، باب الإمام مخير في الأسارى.
(3) تقدم في الاستسقاء، باب الخروج إلى المصلى لصلاة الاستسقاء .
(4) في (ح): ((رويت)).
(5) في (ب): «كراهة».
(6) في (ح): ((تكون))
(7) في (ب) و(ح): «ولا جهة له».
ونفي المكان والجهة إن أريد به تنزيه الله تعالى عن الإحاطة بالجهة والمكان فهذا صحيح. وإن أريد به نفي علو الله تعالى فيكون كلامًا باطلاً مخالفًا للأدلة المتواترة في إثبات علو الله عز وجل، ومخالفة لما أجمع عليه أهل السنة من أن الله سبحانه مستوٍ على عرشه بائن من خلقه، وأنه سبحانه فوق سمائه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
(8) في (ح): «القبلة».
(9) القول بأن السماء قبلة الدعاء، ليس بصحيح؛ إذ لا دليل عليه،ولم يقل به أحد من سلف الأمة، وقبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فيستحب للداعي أن يستقبل القبلة حين دعائه .
(10) في (ب): «ذلك».
(11) في (ح): ((النبي)) بدل ((رسول الله)).(3/1265)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل»؛ كذا صحَّت الرواية فيه بالدال المهملة والخاء المعجمة، من الدخول، وقد رواه بعضهم: يرحلون بالراء والحاء المهملة، من الرحيل. قال بعض علمائنا: وهو الصواب، يشير إلى أنهم كانوا يلازمون قراءة (1) القرآن في حال (2) رحيلهم، وفي حالة نزولهم، وكان الأشعريين كثير فيهم قراءة القرآن بسبب أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فإنَّه كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، فكان يقرأ لهم، فتطيب (3) لهم قراءته (4) ، فتعلموا (5) منه القران. وأحبُّوه فلازموه ،?والله تعالى أعلم.
وقوله: "ومنهم حكيم إذا لقي الخيل، أو العدو قال (6) لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنتظروهم (7) "؛ وحكيم: بمعنى محكَّم، ويعني به هنا: أنه (8) محكم لأمور (9) =(6/451)=@ الفروسية والشجاعة، ولذلك سبق قومه إلى العدو، كما فعل النبي (10) - صلى الله عليه وسلم - حين ركب فرس أبي طلحة (11) واستبرأ خبر العدو، ثم رجع، فلقي أصحابه خارجين، &(6/367)&$ فأخبرهم بأنهم: لا روع عليهم. وقد يجوز أن يكون ذلك الحكيم هو أبو موسى أو أبو عامر، ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا قبل قتله. والله تعالى أعلم. %(3/1266)%
__________
(1) في (ح): ((قرأ)).
(2) في (ب) و(ح): «حالة».
(3) في (ك): «فيطيب».
(4) في (ح): ((لقراءته)).
(5) في (م): «فيتعلموا».
(6) في (ح): «وقال».
(7) في "التلخيص" و"الأم": «تنظروهم».
(8) قوله: «هنا أنه»سقط من (ك).
(9) في (ك): «الأمور».
(10) في (ح): ((رسول الله)).
(11) تقدم في باب شجاعة النبي r وإمداده بالملائكة .(3/1266)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم، ثم اقتسموه»؛ هذا الحديث يدل على أن الغالب على الأشعريين الإيثار، والمواساة عند الحاجة، كما دلَّ الحديث المتقدِّم على أن الغالب عليهم القراءة والعبادة، فثبت (1) لهم بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنَّهم علماء عاملون، كرماء مؤثرون. ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - شرَّفهم بإضافتهم إليه، ثم زاد في التشريف بأن أضاف نفسه إليهم، ويمكن أن يكون معنى: "هم مني": فعلوا فعلي من (2) القراءة والعبادة والكرم، و"أنا منهم "؛ أي: أفعل من ذلك مثل ما يفعلون ،كما قال بعض الشعراء (3) :
وَقُلْتُ أَخِي قالُوا أَخٌ وكرامةٌ فَقُلتُ لَهُم إنَّ الشُّكُول أقارِبُ
نَسِيبي في رَأيي وعَزمِي ومَذهَبي وإن خالفَتنا في الأمُورِ المَناسِبُ =(6/452)=@ %(3/1267)%
__________
(1) في (ح): يشبه ((فثبتت)).
(2) في (ح): ((في)) بدل ((من)).
(3) هو: أبي تمام. وانظر "ديوانه" (ص203).(3/1267)
ومن باب فضائل أبي سفيان بن حرب (1)
واسمه صخر بن حرب بن أمية (2) بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، وكان من أشراف قريش، وساداتها، وذوي رأيها في الجاهلية، أسلم يوم فتح مكة، وقد تقدَّم خبر إسلامه، وشهد حنينً، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائمها مئة بعير (3) ، وأربعين أوقية وزنها له بلال. قال أبو عمر (4) : واختلف في حسن إسلامه، فطائفة تروي: &(6/368)&$ أنه لما أسلم حسن إسلامه، وذكروا (5) عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: رأيت أبا سفيان يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد يقاتل. يقول: يا نصر الله اقترب (6) (7) . وروي عنه أنه قال: فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل واحد يقول: يا نصر الله اقترب، قال المسيب (8) : فذهبت أنظر، فإذا هو أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه. وقد روي: أن أبا سفيان كان يوم اليرموك يقف على الكراديس فيقول للناس: الله! الله! إنكم ذادةُ (9) العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم، وأنصار المشركين، اللهم! هذا يوم من أيامك، اللهم! أنزل نصرك على عبادك (10) .
وطائفة تروي: أنه كان كهفًا للمنانقين منذ أسلم، وكان في الجاهلية ينسب إلى الزندقة (11) ، وكان إسلامه يوم الفتح كرهًا كما تقدَّم من حديثه ،?ومن قوله في كلمتي الشهادة حين عرضت عليه: أما هذه ففي النفس منها شيء (12) . وفي خبر ابن الزبير أنه رآه يوم اليرموك قال: فكانت الروم إذا ظهرت قال أبو سفيان: إيه (13) بني الأصفر! (14) . %(3/1268)%
__________
(1) قوله: ((ابن حرب)) سقط من (ح).
(2) قوله: «ابن أمية»سقط من (ح) و(ك).
(3) مسلم (2/737-738 رقم1060) في الزكاة، باب إعكاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، ولم يورده المصنف في "التلخيص".
(4) قوله: «قال أبو عمر»سقط من (ك).
(5) في (ب) و(ح): «ذكروا»بلا واو .
(6) في (ك): «اقرب».
(7) أخرجه ابن سعد (1/91 رقم18/الطبقة الرابعة من الصحابة) عن أبي داود الطيالسي، عن إبراهيم بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: خمدت الأصوات يوم اليرموك والمسلمون يقاتلون الروم إلا صوت رجل يقول: يا نصر الله اقترب، يا نصر الله اقترب، فرفعت رأسي انظر فإذا أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد بن أبي سفيان. وصححه الحافظ في "الإصابة" (5/129).
(8) في (ح): ((قال سعيد بن المسيب)).
(9) زادة: جمع زائدة، وهو المدافع عن أرضه .
(10) أخرجه الطبراني في "تاريخه" (3/397)، وابن عساكر في "تاريخه" (23/466) من طريق السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان بن يزيد بن أسيد الغساني، عن عبادة وخالد قالا: شهد اليرموك ألف من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم نحو من مائة من أهل بدر. قالا: وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول: الله الله! إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم! إن هذا يوم من أيامك، اللهم! أنزل نصرك على عبادك .
وشعيب هو إبراهيم الكوفي، قال الذهبي في "الميزان" (2/275 رقم3704): ( رواية كتب سيف عنه، فيه جهالة»
قال ابن عدي في "الكامل" (4/4): «وشعيب بن إبراهيم هذا له أحاديث وأخبار وهو ليس بذلك المعروف، ومقدار ما يروي من الحديث والأخبار ليست بالكثيرة، وفيه بعض النكرة؛ لأن في أخباره وأحاديثه ما فيه تحامل على السلف».
وسيف بن عمر التيمي ضعيف الحديث، عمدة في التاريخ، كما في "التقريب" (ص428 رقم 2739).
(11) نقلاً عن "الاستيعاب" لابن عبدالبر (4/1678)، وهذه أقوال لا يعول عليها، ولا يلتفت إليها، وغالبها من دسائس الرافضة.
(12) أخرجه الطبراني في "الكبير" (8/7264)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/319- 321) من طريق ابن إسحاق عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس به. قال الطحاوي: "حديث متصل الإسناد صحيح ". وقال الهيثمي (6/166): " رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ".اهـ.
(13) في (ك): «إنه».
(14) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" (23/467) من طريق يعقوب، عن عمار، عن أبي سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن وهيب بن كيسان، عن ابن الزبير، فذكره.
قال الحافظ في "الإصابة" (5/129): «هذا يبعده ما قبله، والذي قبله أصح».(3/1268)
وقول ابن عباس: "كان المسلمون ينظرون (1) إلى أبي سفيان بن حرب ولا يقاعدونه "؛ إنما كان ذلك لما كان من أبي سفيان من صنيعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالمسلمين =(6/453)=@ في شركه؛ إذ لم يصنع أحدٌ بهم مثل صنيعه، ثم إنه أسلم يوم الفتح مكرهًا، وكان من المؤلفة قلوبهم، وكأنهم (2) ما كانوا يثقون بإسلامه، وقد ذكرنا اختلاف العلماء في نفاقه (3) .
وقوله: " عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها؟ قال: نعم "؛ الضمير في " أجمله " عائد على الجنس الذي دلَّ عليه العرب، وأم حبيبة هذه اسمها رملة، وقيل: هند، والأول هو المعروف والصحيح (4) ؛ وإنَّما هند بنت (5) عتبة زوجة أبى سفيان، وأم معاوية. وظاهر هذا الحديث أن أبا سفيان أنكح ابنته النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلامه، وهو مخالف للمعلوم عند أهل التواريخ والأخبار، &(6/369)&$ فإنَّهم متفقون على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوَّج بأمِّ (6) حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح، وقبل إسلام أبيها (7) ، وإنَّ (8) أبا سفيان قدم قبل الفتح المدينة طالبًا تجديد العهد بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه دخل بيت أم حبيبة ابنته، فأراد أن يجلس على بساط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزعته من تحته، فكلمها في ذلك، فقالت (9) : إنَّه بساط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت مشرك (10) ! فقال لها: يا بنية لقد أصابك بعدي شر، ثم طلب من علي، ومن فاطمة ومن غيرهما أن يكلموا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلح، فأبوا عليه، فرجع إلى مكة من غير مقصود حاصل، وكل ذلك معلوم لا شك فيه، ثم إن الأكثر من الروايات والأصح منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم حبيبة، وهي بأرض الحبشة، %(3/1269)%
__________
(1) في (ح): ((لا ينظرون)).
(2) في (ح): ((فكأنهم)).
(3) أكثر ما نقل عن أبي سفيان في هذا القبيل لا يثبت منه شيء، وقد حسن إسلامه وفقئت عينه في قتال الطائف، ثم فقئت عينه الأخرى في قتال اليرموك، وفي حديث هرقل الطويل قال أبو سفيان: فما زلت موقنًا أنه r سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام. أخرجه البخاري في "صحيحه"، ولا أعلم بين أهل السنة خلافًا حول صحة إسلامه فرضي الله عنه وأرضاه.
(4) في (ح): ((الصحيح)) بلا واو.
(5) في (ب) و(ح): «ابنة».
(6) في (ك): «أم».
(7) انظر "المستدرك" (4/20-22)، والطبقات"(8/97-98)، و"الاستيعاب"(123/ 3-8)، و"الإصابة" (12/260-262).
(8) في (م): «فإن».
(9) في (ب): «فقالت له».
(10) ابن سعد (8/99-100) من طريق الواقدي .(3/1269)
وذلك أنها كانت تحت عبدالله بن جحش الأسدي، أسد خزيمة، فولدت له حبيبة التي كنيت بها، وأنها أسلمت وأسلم زوجها عبدالله بن جحش وهاجر بها إلى أرض الحبشة، ثم إن زوجها تنصَّر هناك، ومات نصرانيًّا، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبها وهي بأرض الحبشة فبعث شرحبيل بن حسنة إلى النجاشي في ذلك. روى الزبير بن بكار عن =(6/454)=@ إسماعيل بن عمرو: أن أم حبيبة قالت: ما شعرت وأنا بارض الحبشة إلا برسول النجاشي جارية يقال له: أبرهة، كانت تقوم على ثيابه ودهنه، فاستأذنت عليَّ فأذنت لها، فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب أن أزوِّجَكِهِ، فقلت: بارك (1) الله بخير، وقالت: يقول لك الملك: وكلي (2) من يزوجك، فأرسلتُ إلى خالد بن سعيد فوكلته، وأعطيتُ أبرهة سوارين من فضة كانتا علي، وخواتم فضة كانت في أصابعي سرورًا بما بَشَرَتني به (3) ، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب، ومن هناك من المسلمين يحضرون، وخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم، أما بعد: فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلي أن أزوَّجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أصدقتها (4) أربع مئة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم، فتكلم خالد بن سعيد، فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، أما بعد: فقد أجبت إلى &(6/370)&$ ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسوله. ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد، فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإنَّ سنة الأنبياء إذا تزوَّجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا، %(3/1270)%
__________
(1) في (ح): ((فقالت بَشَّرَكِ)) بدل ((فقلت بارك)).
(2) في (ح): ((وكل)) بدل ((وكلي)).
(3) قوله: «به»سقط من (ح) و(ك).
(4) في (ك) و(ح): «أصدقها».(3/1270)
ثم تفرَّقوا. قال الزبير: قدم خالد بن سعيد، وعمرو (1) بن العاص (2) بأم حبيبة من أرض الحبشة عام الهدنة. وقال بعض الرواة: إنما (3) أصدقها أربعة الآف درهم، وأن عثمان بن عفان هو الذي أولم عليها، وأنه هو الذي زوَّجها إياه (4) ، وقيل: زوَّجها النجاشي (5) .
قلت: ويصح الجمع (6) بين هذه الروايات، فتكون الأربعمئة دينار صرفت، أو قوِّمت بأربعة آلاف درهم، وأن النجاشي هو الخاطب، وعثمان هو (7) العاقد، =(6/455)=@ وسعيد الوكيل، فصحَّت نسبة التزويج لكلهم، وهذا (8) هو المعروف عند جمهور أهل التواريخ والسِّير، كابن شهاب، وابن إسحاق، وقتادة، ومصعب، والزبير وغيرهم.
وقد روي عن قتادة قول آخر: أن عثمان بن عفان زوَّجها من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعدما قدمت من أرض الحبشة. قال أبو عمر: والصحيح الأول (9) ، وروي أن أبا سفيان قيل له وهو يحارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن محمدًا قد نكح ابنتك! فقال: ذلك الفحل الذي لا يقرع أنفه (10) . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تزوَّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة سنه ست من التاريخ، قال غيره: سنة سبع، قال أبو عمر: توفيت (11) أم حبيبة سنة أربع وأربعين.
قلت: فقد ظهر أنه لا خلاف بين أهل النقل أن تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم حبيبة (12) متقدِّم على إسلام أبيها أبي سفيان، وعلى يوم الفتح، ولما ثبت %(3/1271)%
__________
(1) في (ك): «وعمر».
(2) في (ح): ((العاصي)).
(3) قوله: «إنما»سقط من (ك).
(4) في (ك): «زوجه إياها».
(5) أخرجه ابن سعد في الطبقات"(8/98)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخه"(69/ 142)، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/22) من طريق الواقدي: ثنا عبدالله بن عمرو بن زهير، عن إسماعيل بن عمرو به، والواقدي ضعيف. وأخرجه الزبير بن بكار في "المنتخب" (1/51) من طريق محمد بن حسن عن عبدالله بن عمرو بن زهير به. والزبير ضعيف .
(6) في (ح): ((الجميع)) بدل ((الجمع)).
(7) قوله: «هو»سقط من (ب) و(ح).
(8) في (ح): ((هذا)) بلا واو.
(9) "الاستيعاب" (4/1844).
(10) أخرجه ابن سعد في الطبقات"(8/98)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخه"(69/ 146)، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/24) من طريق الواقدي، : ثنا عبدالله بن عمرو بن زهير، عن إسماعيل بن عمرو به، والواقدي ضعيف. وأخرجه أبو أحمد العسكري في "تصحيفات المحدثين" (1/217)، ومن طريقه ابن عساكر (23/446) عن محمد بن الحسين بن سعيد، ثنا ابن أبي خيثمة، أنبا مصعب بن عبدالله الزبيري به .
(11) في (ب) و(ح): «وتوفيت».
(12) في (ك): «أم حبيبة».، وفي (ح) يشبه أنه ضرب على اللام في " لأم ".(3/1271)
هذا تعيَّن أن يكون طلب أبي سفيان تزويج أم حبيبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلامه خطأ ووهمًا، وقد بحث النقاد عمن وقع منه ذلك الوهم (1) فوجدوه قد وقع (2) من عكرمة بن عمار. قال أبو الفرج &(6/371)&$ الجوزي: اتهموا به عكرمة بن عمار (3) ، وقد ضعف أحاديثه يحيى بن سعيد، وأحمد بن حنبل، =(6/456)=@ ولذلك لم يُخرَّج عنه البخاريُّ، إنَّما (4) أخرج عنه مسلم؛ لأنَّه قد قال فيه يحيى بن معين: هو ثقة. وقال أبو محمد علي بن أحمد الحافظ: هذا حديث موضوع، لا شك في وضعه، والآفة فيه من عكرمة بن عمار، قال بعضهم: ومما يحقق الوهم في هذا الحديث قول أبي سفيان للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أريد أن تؤمرني. فقال له: " نعم ". ولم يسمع قط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّر أبا سفيان على أحد إلى أن توفي، فكيف يخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الوعد؟ هذا ما لا يجوز عليه.
قلت: قد تأوَّل بعض من صحَّ عنده ذلك الحديث، بأن قال: إن أبا سفيان إنما (5) طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجدد معه عقدًا على ابنته المذكورة ظنًّا منه: أن ذلك يصح، لعدم معرفته بالأحكام الشرعية، لحداثة عهده بالإسلام، واعتذر عن عدم تأميره مع وعده له بذلك؛ لأنَّ (6) الوعد لم يكن مؤقتًا، وكان يرتقب إمكان ذلك فلم يتيسر له ذلك إلى أن توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو لعلَّه ظهر له مانع شرعي منعه من توليته الشرعية؛ وإنَّما وعده بإمارة (7) شرعية فتخلَّف (8) لتخلُّف شرطها، والله تعالى أعلم. %(3/1272)%
__________
(1) في (ك): «التوهم».
(2) قوله: «قد وقع»سقط من (ب)، وقوله: «قد»سقط من (ح).
(3) من قوله: «قال أبو الفرج ...»إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): ((وإنما)).
(5) قوله: «إنما»سقط من (ب).
(6) في (ب) و(ح): «بأن»، وفي (ك): «فأن».
(7) في (ك): «بإمرة».
(8) في (ب) و(ح): «فتخلفت».(3/1272)
ومن باب فضائل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
يكنى: أبا عبد الله، كان أكبر من عليٍّ أخيه رضي الله عنهما بعشر سنين، وكان من المهاجرين الأوَّلين، هاجر إلى أرض الحبشة، وقدم منها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فتح خيبر، فتلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعانقه، وقال: «ما أدري بأيُّهما =(6/457)=@ أنا أشدُّ فرحًا، &(6/372)&$ بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر» (1) . وكان قدومه من الحبشة في السنة السَّابعة من الهجرة، واختطَّ له النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب المسجد (2) ، وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أشبهت خَلْقِي وخُلُقي» (3) . ثم غزا غزوة مؤتة (4) ، وذلك في سنة ثمان من الهجرة، فقتل فيها (5) بعد أن قاتل فيها حتى قطعت يداه جميعًا، فقال (6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء (7) » (8) . فمن هنالك قيل له: ذو الجناحين. ولما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - نعي جعفر (9) أتى امرأته (10) أسماء بنت عميس، فعزَّاها في زوجها جعفر (11) ، فدخلت فاطمة تبكي وهي تقول (12) : واعماه! فقال لها (13) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «وعلى (14) مثل جعفر فلتبك البواكي» (15) .
وأما أسماء فهي: ابنة عميس (16) بن معدِّ بن الحارث (17) بن تيم بن كعب بن مالك الخثعمية، من خثعم أنمار، وهي أخت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخت لبابة - أم الفضل - زوجة العباس، وأخت أخواتها (18) ، وهن: تسع، وقيل: عشر. هاجرت أسماء مع زوجها جعفر إلى أرض الحبشة، فولدت له هنالك محمدًا، وعبدالله، وعوفًا (19) ، ثم هاجرت إلى المدينة. فلما قتل جعفر، تزوجها (20) أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنهما، وولدت (21) له محمد بن أبي بكر، ثم مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب، فولدت (22) يحيى بن عليٍّ، لا خلاف %(3/1273)%
__________
(1) يرويه الشعبي، واختلف عليه في وصله وإرساله: فأخرجه الحاكم(3/211) من طريق الحسن بن الحسين العرني، عن أصلح بن عبدلله، عن الشعبي، عن جابر قال لما قدم جعفر من الحبشة تلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبَّل بين عينيه وقال: «ما أدري بأيُّهما أنا أشدُّ فرحًا، بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر بفتح خيبر أشد مني فرحًا بقدوم جعفر». هكذا موصولاً .
وأما الرواية المرسلة: فأخرجها ابن سعد (4/35)، والبيهقي (7/101) كلاهما من طريق الثوري. وأخرجه ابن سعد (4/34-35) من طريق ابن نمير، وأخرجه أبو داود (5/392 رقم5220) في الأدب باب في قبلة ما بين العينين. والطبراني في "الكبير (2/107 رقم1469) كلاهما من طريق علي بن مسهر. وأخرجه المخلص في "الفوائد" (ل207/ب) من طريق أبي عوانة، أربعتهم (الثوري، وابن نمير، وعلي بن مسهر، وأبو عوانة) عن الشعبي، مرسلاً، وصوب المرسل الذهبي في "تلخيص المستدر"، والبيهقي. وانظر "مختصر المستدرك" للذهبي (4/1825-1829 رقن646).
(2) ذكره في "الاستيعاب" (1/242).
(3) البخاري (5/303-304 رقم2699) في الصلح، باب كيف ي،كتب، ه - ا ما صالح فلان .... و(7/499 رقم4251) في المغازي، باب عُمرة القضاء.
(4) البخاري (7/510 رقم4260 و4262) في المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام.
(5) في (ب): «بها».
(6) في (ح): «فقال له».
(7) في (ح): يشبه ((شاء)).
(8) أخرجه الترمذي (3852)، والمخلص في "فوائده" (ا208/أ)، والحاكم (3/209)، وأبو نعيم في "المعرفة" (1/ل119/أ)، والخطيب في "الموضح" (2/199). جميعهم من طريق عبدالله بن جعفر، عن أبيه.
وأخرجه الحاكم (3/212) من طريق حماد بن سلمة، عن عبدالله بن المختار، عن ابن سيرين. كلاهما (عبدالرحمن بن يعقوب، وابن سيرين) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «رأيت جعفر بن أبي طالب ملكًا يطير مع الملائكة بجناحين». وهو حديث صحيح لغيره، وانظر "مختصر استدراك الذهبي" (4/1812-1819 رقم643).
(9) في (ك): «جعفرًا».
(10) في (ك): «امرأمة».
(11) قوله: «جعفر»سقط من (م).
(12) في (ح): ((وهي تبكي وتقول)).
(13) قوله: ((لها)) سقط من (ح).
(14) في (ح): ((على)) بلا واو.
(15) أخرجه ابن سعد (8/281-282) من طريق الواقدي .
(16) في (ك) و(ح): «وأما أسماء بنت عميس».
(17) في (ح): ((الحربي)).
(18) في (ب) و(ح) و(ك): «خواتهما». وف ي"الاتسعاب": «وأخواتها».
(19) في (ب) و(ح): «وعونا».
(20) في (ك): «وتزوجها».
(21) في (ح): ((ولدت)) بلا واو.
(22) في (ح): ((فولدت له)).(3/1273)
في ذلك، وقيل: كانت أسماء بنت عميس تحت حمزة بن عبد المطلب، فولدت له ابنة =(6/458)=@ تسمى: أمة (1) &(6/373)&$ الله. وقيل: أمامة، ثم خلف عليها بعده شداد بن الهادي (2) الليثي، فولدت له: عبدالله وعبدالرحمن، ثم خلف عليها بعده جعفر، ثم كان (3) الأمر كما ذكر. وقول أبي موسى: إما قال: بضعة، وإما قال: ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلاً؟ كذا صواب الرواية فيه بإثبات هاء التأنيث في بضعة؛ لأنَّه (4) عدد مذكر، وبالنصب على الحال من: خرجنا المذكور، وإما: موطئة للشك (5) ، وما بعدها معطوف عليها مشكوك فيه، وقد وقع في بعض النسخ، إما قال: بضع - بإسقاط الهاء - وبالرفع مع نصب: وخمسين، وذلك لحن واضح، والأول (6) الصواب. =(6/459)=@ %(3/1274)%
__________
(1) في (ك): «ابنة آمنة».
(2) في (ح): «الهاد».
(3) في (ح): «فكان» بدل ((ثم كان)).
(4) في (ح): ((لأنها)).
(5) في (ك): «الشك».
(6) في (ب): «والأولى».(3/1274)
وقول عمر: "الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟" نسبها (1) إلى الحبشة لمقامها فيهم (2) ، وللبحر لمجيئها فيه (3) ، وهو استفهامٌ قصد به المطايبة (4) والمباسطة، فإنه كان قد علم من هي حين رآها .
وقول عمر: " سبقناكم (5) بالهجرة فنحن أحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم (6) "؛ صدر هذا القول من عمر رضي الله عنه على جهة الفرح بنعمة الله تعالى، والتحدُّث بها، لما علم من عظيم أجر السَّابق للهجرة. ورفعه درجته على اللاحق، لا على جهة الفخر والترفع، فإنَّ عمر رضي الله عنه منزه عن ذلك، ولما سمعت أسماء ذلك، غضبت غضب منافسة في الأجر وغيره على جهة (7) السَّبق، فقالت: كذبت يا عمر! أي: أخطأت في ظنك، لا أنها نسبته إلى الكذب الذي يأثم قائله، وكثيرًا ما يطلق الكذب بمعنى الخطأ، كما قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: كذب أبو محمد (8) ؛ لما زعم أن الوتر واجب . &(6/374)&$
وقولها: " كلا والله "؛ أي: لا يكون ذلك، فهي (9) نفيٌ لما قال، وزجر عنه، وهذا أصل كلا (10) ، وقد تأتي للاستفتاح بمعنى ألا. والبُعداء: جمع بعيد. والبغضاء: جمع بغيض، كظريف وظرفاء، وشريف وشرفاء. =(6/460)=@ %(3/1275)%
__________
(1) في (ح): «نسبتها».
(2) في (ح): «فيها».
(3) قوله: «فيه»سقط من (ك).
(4) في (ك): «المطابقة».
(5) في (ح): يشبه ((فستقناكم)).
(6) قوله: ((منكم)) سقط من (ح).
(7) في (ب) و(ح): «درجة».
(8) تقدم تخريجه (1/271).
(9) في (ب): «وهي».
(10) في (ك): «كذا».(3/1275)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس أحق بي (1) منكم»؛ يعني في الهجرة لا مطلقًا. وإلا فمرتبة عمر رضي الله عنه وخصوصية صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - معروفة بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أهل السفينة هجرتان». وسبب ذلك أن عمر وأصحابه هاجروا من مكة إلى المدينة هجرة واحدة في طريق واحد، وهاجر جعفر وأصحابه إلى أرض الحبشة، وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ثم إنهم لما سمعوا بهجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ابتدؤوا هجرة أخرى إليه، فتكرر (2) الأجر بحسب تكرار (3) العمل والمشقة في ذلك. &(6/375)&$
وقولها: " يأتوني أرسالاً "؛ أي: متتابعين جماعة بعد جماعة، وواحد الأرسال: رسل، كأحمال جمع حمل. يقال: جاءت الخيل أرسالاً؛ أي: قطعة قطعة، ففيه قبول أخبار الآحاد، وإن كان خبر امرأة، وفيما (4) ليس طريقا للعمل (5) ، واستفاء (6) بخبر الواحد المفيد لغلبة الظن مع التمكن من الوصول إلى اليقين؛ فإنَّ الصحابة رضي الله عنهم اكتفوا (7) بخبرها، ولم يراجعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء من ذلك، وخبرها يفيد ظن صدقها، لا العلم بصدقها، فافهم هذا.
وقولها: " ما من الدنيا شيءٌ (8) هُم أفرح به، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ تعني (9) : ما من الدنيا شيء يحصل به ثواب عند الله تعالى هو في =(6/461)=@ نفوسهم أعظم قدرًا، ولا أكثر أجرًا، مما تضمنَّه هذا القول؛ لأنَّ أصل أفعل أن تضاف إلى جنسها، وأعراض الدنيا ليست من جنس ثواب الآخرة، فتعين ذلك التأويل، والله تعالى أعلم. %(3/1276)%
__________
(1) في (ب): «مني».
(2) في (ك): «تكرر».
(3) في (ح): ((تكرر)).
(4) في (ك): «وهما».
(5) تقدم توضيح أن خبر الآحاد يفيد العلم مطلقًا. انظر (6/49) ؟؟
(6) في (ح): ((والاكتفاء)).
(7) في (ح): ((اكتفوها)).
(8) قوله: «شيء»سقط من (ك).
(9) في (ب): «يعني».(3/1276)
ومن باب فضائل سلمان وصهيب رضي الله عنهما
أما سلمان، فيكنى: أبا عبد الله، وكان ينتسب إلى الإسلام، فيقول: أنا سلمان ابن (1) الإسلام (2) ، ويُعَدُّ من موالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنَّه أعانه بما (3) كوتب عليه، فكان سبب عتقه، وكان يُعرف بسلمان (4) الخير، وقد نسبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل (5) بيته، فقال: «سلمان منا أهل البيت» (6) ،. وأصله فارسي من رام هرمز، من قرية يقال &(6/376)&$ لها: جَي. ويقال: بل من أصبهان، وكان أبوه مجوسيًّا من قوم مجوس، فنبهه الله لقبح ما كان عليه أبوه وقومه، وجعل في قلبه التشوُّف إلى طلب الحق، فهرب بنفسه، وفرَّ من أرضه إلى أن وصل إلى الشام، فلم يزل يجول في البلدان، ويختبر الأديان، ويستكشف الأحبار والرُّهبان، إلى أن دُلَّ على راهب الوجود، فوصل إلى المقصود، وذلك بعد مكابدة عظيم المشقات، والصبر على مكاره الحالات، من: الرق، والإذلال، والأسر، والأغلال، كما هو منقول في إسلامه في كتاب (7) السِّير وغيرها (8) (9) . =(6/462)=@
وروى أبو عثمان النَّهدي عن سلمان أنه قال: تداوله في ذلك بضعة عشر ربًّا ، من ربٍّ إلى ربٍّ (10) حتى أفضى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال غيره: فاشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعتق من قوم من اليهود بكذا وكذا درهمًا، وعلى (11) أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل، يعمل فيها سلمان حتى تدرك (12) ، فغرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النخل كلها بيده، فأطعمت النخل من عامها. %(3/1277)%
__________
(1) في (ك): «من».
(2) أخرجه عبدالرزاق (11/438-439 رقم20942) عن معمر، عن قتادة وعلي ابن جدعان قالا: كان بين سعد بن أبي وقاص وبين سلمان الفارسي شيء، فقال سعد وهم في مجلس: انتسب يا فلان، فانتسب، ثم قال للأخر: انتسب، ثم قال للآخر، حتى بلغ سلمان فقال: انتسب يا سلمان، قال: ما أعرف لي أبا في الإسلام، ولكن سلمان ابن الإسلام ... الحديث. وهذا الحديث منقطع .
(3) في (ب) و(ك): «لما».
(4) في (ب): «سلمان».
(5) قوله: «أهل»سقط من (ب) و(ح).
(6) أخرجه الطبراني (6/260 رقم 6040)، وأبو نعيم في "المعرفة" (1/ل288/أ)، والحاكم (598) ثلاثتهم من طريق ابن أبي فديك، عن كثير بن عبدالله المزني، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خط الخندق عام حرب الأحزاب حتى بلغ المذاحج، فقطع لكل عشرة أربعين ذراعًا، فاحتج المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سلمان منا أهل البيت».
وإسناده ضعيف جدًّا، وانظر "مختصر استدراك الذهبي" (5/2313-2314 رقم796).
(7) كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: «كُتُب».
(8) في (ب) و(ك) و(ح): «وغيره».
(10) البخاري (7/277 رقم3946) في مناقب الأنصار، باب إسلام سلمان الفارسي .
(11) في (ح): «على» بلا واو.
(12) في (ك): «يدرك».(3/1277)
وأوَّل مشاهده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق، ولم يَفُته بعد ذلك مشهد معه (1) . وقد قيل: إنه شهد بدرًا وأحدًا، والأوَّل أعرف. وكان خيِّرًا فاضلاً حَبرًا عالِمًا زاهدًا متقشفًا (2) . روي عن الحسن (3) أنه قال: كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به، ويأكل من عمل يده، وكانت له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها.
وذكر ابن وهب، وابن نافع عن مالك قال: كان سلمان يعمل الخوص بيده فيعيش منه، ولا يقبل من أحد شيئًا، قال: ولم يكن له بيت؛ إنما كان يستظل بالجدر والشجر ، وإن رجلاً قال له: ألا أبني لك بيتًا تسكن فيه؟ فقال: ما لي به حاجة، فما زال به الرجل حتى قال له: إني أعرف البيت الذي يوافقك، قال: فصفه لي. فقال (4) : أبني لك بيتًا إذا أنت قمت فيه أصاب رأسك سقفه (5) ، وإذا أنت مددت (6) رجليك أصابك (7) الجدار. قال (8) : نعم، فبني له (9) . &(6/377)&$
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لو كان الدين في الثريا لناله سلمان» (10) . وفي رواية: «رجال من الفرس». وقالت عائشة رضي الله عنها: كان لسلمان =(6/463)=@ مجلسٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفردُ به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (11) . وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله أمرني أن أحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم: علي، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان» (12) . وقال أبو هريرة: سلمانُ صاحب الكتابين (13) ، وقال عليٌّ: سلمان عَلِمَ العلمَ الأول والآخر (14) ، بحر لا ينزف، هو (15) منَّا أهل البيت (16) . وقال عليٌّ رضي الله عنه أيضًا: سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم (17) . وله أخبار حِسان، وفضائلُ جَمَّة. توفي سلمان رضي الله عنه في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه سنة خمس وثلاثين، وقيل: مات (18) بل (19) سَنهَ ستٍّ في أولها، وقد (20) قيل: توفي في %(3/1278)%
__________
(1) في (ح): ((معه مشهد)).
(2) في (ب): «متقشعًا».
(3) أخرجه ابن سعد (4/86-87)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/179-198) كلاهما من طريق جعفر بن سلمان، عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان على ثلاثين ألفًا من الناس يخطب في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها، وكان إذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من سفيف يديه. ورواية هشام بن حسام، عن الحسن مرسلة. وانظر "الطبقات".
(4) في (ح): ((قال)).
(5) قوله: «سقفه»سقط من (ك).
(6) في (ب) و(ك): «مدد فيه».
(7) في (ك): «أصابها».
(8) في (ك): «قال له».
(9) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (10257)، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" (21/436)، وهو من مراسيل مالك إذ لم يدرك سلمان رضي الله عنه .
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" رقم (306)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (10258)، وابن عساكر في "تاريخه" (21/436) من طريق عبدالرزاق الذي أخرجه المصنف (20630) عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد قال: ألا نبني لك مسكن‘ا يا أبا عبدالله .. فذكره، ويزيد ضعيف .
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/202) من طريق أحمد بن حنبل، عن يحيى بن آدم، عن يزيد بن عبدالعزيز، عن الأعمش قال: سمعتهم يذكرون أن حذيفة قال لسلمان، فذكره .
(10) سيأتي ....
(11) ذكره في "الاستيعاب" (2/636).
(12) أخرجه أحمد (5/356)، والترمذي (5/594 رقم3718) في المناقب، باب منه، وابن ماجه (1/53 رقم149) في المقدمة، باب فضل سلمان، وأبي ذر، والمقداد.
وعبدالله بن أحمد في "زوائد المسند" (2/648 رقم1103)، والحاكم (3/130)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/172). جميعم من طريق شريك، عن أبي ربيعة الأيادي، عن بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله أمرني بحب أربعة من أصحابي، وأخبرني أنه يحبهم»قال: قلنا: من هم يا رسول الله؟ وكلنا نحب أن نكون منهم. فقال: «عليٌّ، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان».
وهذا الإسناد ضعيف، انظر "مختصر استدراك الذهبي (3/1443-1445).
(13) أخرجه أحمد الترمذي (3811)، والحاكم (3/443)، وعنه البيهقي في "المدخل" (1104)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/120) جميعم من طريق قتادة، عن أبي خيثمة بن أبي سبرة الجعفي قال: أتيت المدينة فسألت الله أن ييسر لي جليسًا صالحًا، فيسر لي أبا هريرة، فقال لي: ممن أنت؟ فقلت: من أرض الكوفة، جئت التمس العلم والخير، فقال: أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة، وعبدالله بن مسعود صاحب طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونعليه، وحذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعمار بن ياسر الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وسلمان صاحب الكتابين. قال قتادة: والكتابان: الإنجيل والفرقان .
وأصل الحديث في "صحيح البخاري"، باب مناقب عمار وحذيفة، من حديث أبي الدرداء مقتصرًا فيه على ذكر عمار وحذيفة وابن مسعود رضي الله عنههم.
(14) أخرجه ابن سعد (4/85)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/187)، وابن عبدالبر في "الاستيعاب" (4/223). ثلاثتهم من طريق عمرو بن مرة بن عبدالله بن طارق الجملي، عن أبي البختري قال: سئل علي عن سلمان فقال: أوتي العلم الأول، لا يدرك ما عنده.
وفي سنده: أبو البحتري، سعيد بن فيروز، ثقة ثبت كثير الإرسال، وقد نفى شعبة، والبخاري،، وأبو حاتم وأبو زرعة، سماعه من علي ."جامع التحصيل" (ص183-184)، و"المراسيل" لابن أبي حاتم (ص74 رقم258 و259).
(15) في (ب): «فهو».
(16) كنت ناسخ (ح): ((العلم)) ثم أصلحها إلى قوله: ((البيت)).
(17) وفي رواية زادان أبي عمر عن علي قال مثل لقمان الحكيم ثم ذكر مثل خبر ابي البختري وقال كعب الأحبار سلمان حشى علما وحكمة وذكر مسلم حدثنا محمد بن حاتم أخبرنا بهز أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت
(18) قوله: «مات»سقط من (ح) و(ك).
(19) قوله: «بل»سقط من (ب).
(20) قوله: «وقد»سقط من (ك).(3/1278)
خلافة عمر، والأوَّلُ أكثر. قال الشعبيُّ: توفي بالمدائن، وكان من المعمرين، أدرك وصيَّ عيسى ابن مريم، وعاش مئتين وخمسين سنة، وقيل: ثلاثمئة وخمسين سنة (1) . قال أبو الفرج: والأول أصح، وجملةُ ما حُفِظ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستون حديثاً، أخرج له منها في الصحيحين سبعة.
وأما صُهيب، فهو ابنُ سنان بن خالدبن عبد عمرو- من العرب- ابن (2) النمر بن قاسط، كان أبوه عاملاً (3) لكسرى على الأُبُلَّة، وكانت (4) منازلُهم بأرض الموصل في (5) قرية على شطِّ الفرات، مما يلي الجزيرة والموصل، فأغارت الروم على تلك الناحية فسبتْ صُهيباً، وهو غلام صغير، فنشأ صهيب بالروم، فصار ألكن، فابتاعته منه (6) كلب، ثم قدمتْ به مكة، فاشتراه عبدالله بن جُدعان، فأعتقه، فأقام بمكة حتى هلك ابن جُدعان، وبُعِث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم هو وعمار بن ياسر في يوم واحدٍ بعد بضعة وثلاثين رجلاً (7) ، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة (8) &(6/378)&$ لحقه صُهيب، فقالت له قريش حين خرج يريدُ (9) الهجرة: أتفجعنا بنفسك ومالك؟ فدلَّهم على ماله، فتركوه، فلما رآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: «ربح البيعُ أبا يحيى» (10) . فأنزل الله عز وجل في أمره: =(6/464)=@ } وَمِنَ الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله { (11) .
وروي عنه أنه قال: صحبتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُوحى إليه.
ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآَخر فليحبَّ صهيبًا حُبَّ الوالدة ولدَها. %(3/1279)%
__________
(1) قوله: «سنة»سقط من (ب) و(ك).
(2) في (ب) و(ح): «من».
(3) في (ك): «غلانًا» وفي (ح): ((غلامًا)).
(4) في (ح): ((كان)) بدل ((كانت)).
(5) في (ح): ((من)) بدل ((في)).
(6) في (ب) و(ك): «منهم».
(7) تقدم تخريجه في الإمارة والبيعة، باب في البيعة على ماذا تكون؟
(8) قوله: ((إلى المدينة)) سقط من (ح).
(9) قوله: ((يريد)) لم يتضح في (ح).
(11) الآية (207) من سورة البقرة .(3/1279)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «صهيب سابقُ الروم، وسلمان سابقُ فارس، وبلال سابقُ الحبشة». وإنما نسبه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للروم لما ذكر أنه نشأ فيهم صغيرًا، وتلقَّف لسانهم. وقد تقدَّم ذِكرُ نسبه.
وقال له عمر: ما لك يا صهيب تُكنى أبا يحيى، وليس لك ولد، وتزعم أنك من العرب، وتطعم الطعام الكثير، وذلك سرف؟ فقال: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كنَّاني بأبي يحيى، وإني من النمر بن قاسط من أنفسهم، ولكني سُبيت صغيرًا أعقل أهلي وقومي، ولو انفلقت عني روثة لانتميتُ إليها، وأما إطعام الطعام؟ فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيارُكم مَن أطعم الطعام، وردَّ السلام». توفي صهيب بالمدينة سنة ثمانٍ وثلاثين في شوّالها، وقيل: سنة تسع، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، ودُفِن بالبقيع. =(6/465)=@ &(6/379)&$
وقوله لأبي بكر رضي الله عنه: " لئن كنتَ أغضبتهم لقد (1) أغضبتَ ربَّك"؛ يدلُّ على رفعة منازل هؤلاء المذكورين عند الله تعالى، ويُستفاد منه احترامُ الصالحين، واتِّقاءُ ما يغضبهم، أو يُؤذيهم. %(3/1280)%
__________
(1) قوله: ((لقد)) لم يتضح في (ح).(3/1280)
ومن باب فضائل الأنصار رضي اللّه عنهم
قوله تعالى: } إذ همَّت طَائفَتَانِ مِنكم أَن تفشَلا { (1) ؛ يعني بذلك: يوم أحُدٍ، وذلك: أنه لمَّا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - للقاء المشركين رجع عنه عبدالله بن أبي بجمع كثيرٍ فشلاً عن الحرب ونكولاً، وإسلامًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه للعدو، وهمَّت بنو سلمة، وبنو حارثة بالرُّجوع، فحماهم اللهُ تعالى من ذلك، مما يضرُّهم من شبح (2) ذلك، وعظيم إثمه، فلحقوا (3) بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالمسلمين إلى أن شاهدوا الحرب، وكان من أمر أحُد (4) ما قد ذكر. =(6/466)=@
وقول جابر: ما نحب ألا تنزل؛ إنما قال ذلك لما في آخرها من تولي الله تعالى لتينك الطَّائفتين مِن لُطْفه بهما، وعصمته إياهما، مما حل بعبد الله بن أبي من الإثم، والعار، والذَم، وذلك قوله تعالى: } والله وليهما { ؛ أي: متولي حِفظهما وناصرهما. &(6/380)&$
وقوله: فقام متمثلاً؛ يروى هكذا هنا، ويروى أيضًا (5) مُنثلاً (6) ، وفيهما بُعد؛ لأن مثل: معناه: صور مثاله، وتمثل هو (7) في نفسه؛ أي: تصوَّر، وكلاهما ليس له معنى هنا، وإنما الذي يُناسب هذا أن يكون ماثلاً. يقال: مثل بين يديه قائمًا؛ أي: انتصب قائمًا، فيعني به أنه قام منتصبَ القامة فعل المتبشبش بمن لقيه. وقد رواه البخاري فقال: فكان (8) متمثلاً، ممتنًا من الامتنان، وهو وان كان فيه بُعْدٌ أنسب مما رواه مسلم، والله تعالى أعلم. %(3/1281)%
__________
(1) الآية (122) من سورة آل عمران .
(2) في (ح): ((قبح)) بدل ((شبح)).
(3) في (ح): يشبه ((يلحقوا)).
(4) في (ح): ((الخندق)) بدل ((أحد)).
(5) قوله: ((هنا ويروى أيضًا)) سقط من (ح).
(6) في (ح): ((ممثلاً)).
(7) قوله: ((هو)) سقط من (ح).
(8) في (ح): ((كان)).(3/1281)
وقوله عليه السلام: «الأنصار كَرِشي وعيبتي»؛ أي: جماعتي التي أنضمُّ إليها، وخاصتي التي أفضي بأسراري إليها. والكَرِش: لما يجتزُ كالمعدة لإنسان (1) ، والحوصلة للطائر، والكرش مؤنثة، وفيها لغتان: كَرِش- بفتح الكاف، وكسر الراء-. وكِرْش- بكسر الكاف وسكون الراء-: مثل: كَبِد وكِبْد، وكرشُ الرجل: =(6/467)=@ عيالُه وصغارُ ولده، والكرش: الجماعة، وهي المعنيةُ بالحديث. وأصلُ العيبة: ما تُجعل فيه الثياب الرفيعة، والجمع عِيَب، كَبَذرَةِ وبِدَر، وتُجمع أيضاً: عِيابًا وعَيبات. %(3/1282)%
__________
(1) في (ح): ((للإنسان)).(3/1282)
وقوله: «اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار»؛ ظاهره =(6/468)=@ الانتهاءُ بالاستغفار إلى البطن الثالث، فيمكن أن يكون ذلك؛ لأنهم من القرون &(6/381)&$ التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - : «خيرُ أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، ويمكن أن تشملَ (1) بركةُ هذا الاستغفار المؤمنين من الأنصار (2) إلى يوم القيامة مبالغة في إكرام الأنصار، لا سيما إذا كانت نية الأولاد فعل مثال ما سبق إليه الأجداد، ويُؤيد ذلك قوله (3) في الرواية الأخرى: «ولذراري الأنصار». =(6/469)=@
ومن باب خير دور الأنصار رضي اللّه عنهم
قوله عليه السلام: «خير دُور الأنصار: دار بني النجار»؛ أصلُ الدار: المنزل الذي يُقام فيه، ويُجمع في القلة: أدور، بواو مضمومة، وقد أبدلوا من الضمة همزة استثقالًا للضمَّة على الواو، ويُجمع في الكثرة (4) على ديار ودور، والدار مؤنثة، ثم قد يُعبَّر بالدار عن ساكنها كما جاء في هذا %(3/1283)%
__________
(1) في (ح): ((يشمل)).
(2) في (ح): ((من نسل الأنصار)).
(3) قوله: ((قوله)) سقط من (ح).
(4) في (ح): ((الكثير)).(3/1283)
الحديث، فإنه أراد بالديار: القبائل. وخير (1) : &(6/382)&$ يعني (2) أخير؛ أي: أكثر خيرًا، وتفضيل بعض هذه القبائل على بعض إنما هو بحسب سبقهم للإسلام (3) ، وأفعالهم فيه. وتفضيلُهم خبر من الشارع عما لهم عند الله تعالى من المنازل والمراتب، فلا يُقدَّمُ من أخر، ولا يؤخر من قدَّم. وقد اختلفت الرواياتُ في بني النَّجار، وبني عبد الأشهل، ففي رواية أبي أسيد: تقديم بني النجار على بني عبد الأشهل، ومَن بعدهم، وفي رواية أبي هريرة: تقديم بني =(6/470)=@ عبد الأشهل على بني النجار ومَن بَعدَهم، وهذا تعارضٌ مُشكِل، غير أن الأولى رواية أبي أسَيد لقرابة بني (4) النجار من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون غيرهم، فإنهم أخوالُه، كما قدَّمنا، ولاختصاص &(6/383)&$ نزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم، وكونه عندهم، وهذه مزيَّة =(6/471)=@ لا يلحقهم أحدٌ فيها. وغَضَبَ سعدِ بن عبادة لما ذُكرتْ دارُه آخر الديار بادرةٌ أصدرها عنه منافستُه في الخير، وحرصُه %(3/1284)%
__________
(1) في (ح): ((وخيرها)).
(2) في (ح): ((بمعنى)).
(3) في (ح): ((إلى الإسلام)).
(4) قوله: ((بني)) سقط من (ح).(3/1284)
على تحصيل الثواب والأجر؛ فلما نُبه على ما ينبغي له سلَّم السَّبق لأهله، وشكر الله تعالى على ما آتاه مِن فضله. وقد تقدم القولُ في: أسْلَم، وغِفَار، وبني (1) لِحيَان، ورِعل، وذَكْوان، وعُصًية - قبائل من هُذَيل- وهم الذين قتلوا أصحابَ الرَّجيع عاصمًا وأصحابه، وقد تقدم حديثُهم. =(6/472)=@ %(3/1285)%
__________
(1) في (ح): ((وبنو لحيان)).(3/1285)
ومن باب: فضائل مزينة، وجهينة، وأشجع وبني عبدالله
هؤلاء القبائل، وأسلم، وغفار، ومَن كان نحوهم، كانوا بالجاهلية (1) خاملين، لم يكونوا من ساداتِ العرب، ولا مِن رؤسائها كما كانت بنو تميم، &(6/384)&$ وبنو عامر، وبنو أسدٍ، وغطفان، ألا ترى قول الأقرع بن حابس للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنما بايعك سُرَّاق الحجيج من أسلم، وغفار، ومزينة (2) ، وجهينة، لكن هؤلاء القبائل سبقوا للإسلام، وحَسُن بلاؤهم فيه، فشرَّفهم اللهُ تعالى به، وفضَّلهم على مَن ليس بمؤمن (3) من سادات العرب بالإسلام، وعلى من تأخر إسلامُه بالسَّبق، كما شرَّف بلالاً، وعمارًا، وصُهيبًا، وسلمان على صناديد قريش، وعلى أبي سفيان ومعاوية وغيرهم من المؤلفة قلوبُهم كما تقدَّم، فأعز اللهُ بالإسلام الأذلاء، وأذلَّ به الأعزاءَ بحكمته الإلهية (4) ، وقسمته الأزلية } قل (5) اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير { (6) ، وعلى هذا فقولُه - صلى الله عليه وسلم - : «مزينة، وجهينة، &(6/385)&$ وغفار، وأشجع، ومن كان من بني عبد الله مواليَّ دون الناس»جَبْرٌ لهم من كَسرهم وتنوية بهم من خمولهم، وتفخيم لأمر الإسلام وأهلِه، وتحقير لأهل الشرك، ولمن دخل في الإسلام ولم يُخلِص فيه، كالأقرع بن حابس، وغيره ممن كان على مثل حاله، وهذا التَفضيلُ، =(6/473)=@ والتنويه إنما ورد جوابًا لمن احتقر هذه القبائل بعد إسلامها، %(3/1286)%
__________
(1) في (ح): ((في الجاهلية)).
(2) من قوله: ((وبنو أسد ...)) إلى هنا سقط من (ح).
(3) قوله: ((بمؤمن)) سقط من (ح).
(4) في (ح): ((الإلاهية)).
(5) في (ح): ((قال)).
(6) الآية (26) من سورة آل عمران .(3/1286)
وتمسك بفخر الجاهلية وطغيانها، فحيث ورد تفضيل هذه القبائل مطلقًا فإنَّه محمول على أنهم أفضل من هذه القبائل المذكوريين معهم (1) ، في محاورة الأقرع، وهو آخر حديث ذكرناه ، فإنَّه مفسَّر لما تقدَّم، ومقيَّد له.
وقوله: "موال (2) دون الناس"؛ يعني: أنا الذي أنصرهم، وأقول أمورهم (3) كلها، فلا ينبغي لهم أن يلجؤوا بشيء من أمورهم إلى أحد غيري من الناس، وهذا -. كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فعلي وإليَّ».
وقوله: «والله ورسوله مولاهم»؛ كذا الرواية بتوحيد مولاهم، وهذا نحو =(6/474)=@ &(6/386)&$ قوله تعالى: } والله ورسوله أحق أن يرضوه { (4) ، فوحَّد الضمير؛ لأنه عائد على الله ، ورفع رسوله بالابتداء، وخبر (5) مضمر تقديره. والله أحق أن يرضوه ، ورسوله كذلك وعلى هذا: فتقدير الحديث. والله (6) مولاهم، ورسوله كذلك.
وقوله: أرايت إن كان أسلم ، ومن ذكر معها خير (7) من بني تميم، ومن ذكر معها ، أجابوا وخسروا؟ قال: نعم ؛ هذا يدل على أنه أراد كفار هذه القبائل ’ لا مسلميها (8) ؛ لأن الخيبة (9) والخسران المطلق لا يكون إلا %(3/1287)%
__________
(1) قوله: ((معهم)) سقط من (ح).
(2) في (ح): ((موالي)).
(3) في (ح): ((وأتولالهم مورهم)) كذا رسمت.
(4) الآية (6) من سورة التوبة .
(5) في (ح): ((وخبره)).
(6) في (ح): ((الله)) بلا واو.
(7) في (ح): ((خيرًا)).
(8) في (ح): ((لامسلمها)).
(9) في (ح): يشبه ((الخيته)).(3/1287)
لأهل الكفر، =(6/475)=@ ويدل عليه: مدح المسلمين من بني تميم في الحديث الآتي بعد هذا، والله تعالى أعلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في بني تميم: «هم أشد أمتي على الدجال»؛ تصريح بأن بني تميم لا ينقطع نسلهم إلى يوم القيامة، وبأنهم يتمسكون في ذلك الوقت بالحق، ويقاتلون عليه، وفي الرواية الأخرى: «هم أشد الناس قتالاً في الملاحم»، يعني: الملاحم التي تكون بين يدي الدجال، أو مع الدجال، والله تعالى أعلم. =(6/476)=@ &(6/387)&$ %(3/1288)%(3/1288)
ومن باب خيار الناس
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «تجدون الناس معادن»؛ أي: كالمعادن، وهو مثل، وقد جاء في حديث آخر: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة». ووجه التمثيل: أن المعادن مشتملة على جواهر مختلفة، منها (1) النفيس، والخسيس، وكل من المعادن يخرج ما في أصله، وكذلك الناس كل منهم يظهر عليه ما في أصله؛ فمن كان ذا شرف (2) في الجاهلية فأسلم لم يزده الإسلام إلا شرفًا؛ فإنَّ تفقه في دين الله، فقد وصل إلى غاية (3) الشرف؛ إذ قد اجتمعت له أسباب الشرف كلها، فيصدق عليه قوله: «فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». والمعادن: واحدها معدن - بكسر الدال -؛ لأنَّه موضع العدن؛ أي: الإقامة اللازمة، ومنه: جنات عدن، وسمي (4) المعدن بذلك؛ لأنَّ الناس يقيمون فيه صيفًا وشتاءً. قاله الجوهري. =(6/477)=@ %(3/1289)%
__________
(1) في (ح): ((فيها)).
(2) في (ح): ((شرف وفضل في)).
(3) في (ح): ((أهلية)).
(4) في (ح): ((ويسمى)).(3/1289)
وقوله في: «وتجدون من خير (1) الناس في هذا الأمر أكرههم فيه»؛ هكذا الرواية: "من خير الناس " وهي لبيان جنس الخيرية؛ كأنه قال: تجدون أكره الناس &(6/388)&$ في هذا الأمر من خيارهم، ويصح أن يقال على مذهب الكوفيين: إنها زائدة؛ فإنَّهم يجيزون زيادة " من " في الموجب، كما تقدَّم (2) . ويعني بالأمر: الولايات؛ وإنَّما يكون من يكرهها من خير الناس، إذا كانت كراهته لها لعلة تعظيم حقوقها، وصعوبة العدل فيها، ولخوفه من مطالبة الله تعالى بالقيام بذلك كله، ولذلك قال فيها: "نعمت المرضعة، بئست (3) الفاطمة"، وكفى بذلك ما تقدَّم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من أمير عشيرة إلا يؤتى يوم القيامة مغلولاً، حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور"(2). وذكر ذي (4) الوجهين: مفسَّر (5) في الحديث، إنَّما (6) كان ذو الوجهين شر الناس؛ لأنَّ (7) حاله حال المنافقين؛ إذ هو متملق بالباطل والكذب (8) ، يدخل الفساد ... الناس (9) ، والشرور، والتقاطع، والعداوة، والبغضاء.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "خير نساء ركبن الإبل: صالح (10) نساء قريش" هذا تفضيل لنساء =(6/478)=@ قريش على نساء العرب خاصة؛ لأنَّهم أصحاب الإبل غالبًا، وقد جاء في &(6/389)&$ الرواية الأخرى: «خير نساء ركبن الإبل؛ نساء قريش»ولم يذكر: (صالح). وهو مراد حيث سكت عنه، ويحمل مطلق إحدى الروايتين على مقيد الأخرى (11) ، وهو مما اتفق عليه من أقسام حمل المطلق على المقيد كما حققناه في الأصول. ويعني بالصلاح هنا: صلاح الدين، وصلاح المخالطة للزوج وغيره، كما دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أحناه على يتيم وولد، وأرعاه على زوج (12) ،. والحنو: الشفقة. والرعي: الحفظ والصيانة. والله أعلم (13) . %(3/1290)%
__________
(1) في (ح): ((خيار)).
(2) من قوله: ((فإنهم يجيزون ...)) إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح): ((وبئست)).
(4) قوله: ((ذي)) سقط من (ح).
(5) في (ح): ((مفسرًا)).
(6) في (ح): ((وإنما)).
(7) في (ح): ((وإنما كان ذو)) بدل ((لأن)).
(8) في (ح): ((وبالكذب)).
(9) في (ح): ((دخل الفساد بين الناس)).
(10) قوله: ((صالح)) سقط من (ح).
(11) في (ح): ((مقيدها لأخرى)).
(12) في (ح): ((لزوج)) بدل ((على زوج)).
(13) قوله: ((والله أعلم)) سقط من (ح).(3/1290)
ومن باب: المؤاخاة التي كانت ببن المهاجرين والأنصار
قوله: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أبي عبيدة بن الجراح، وبين أبي طلحة رضي الله عنهما؛ المؤاخاة: مفاعلة من الأخوة، ومعناها: أن يتعاقد الرجلان =(6/479)=@ على التناصر والمواساة، والتوارث حتى يصيرًا كالأخوين نسبًا، وقد يسمى ذلك: حلفًا، كما قال أنس رضي الله عنه: قد حالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين قريش والأنصار في داره بالمدينة، وكان ذلك أمرًا معروفًا في الجاهلية، معمولاً به عندهم، ولم يكونوا يسمُّونه إلا حلفًا، ولما جاء الإسلام عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - به، وورث به على ما حكاه أهل السير، وذلك أنهم قالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين أصحابه مرتين: بمكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة. قال أبو عمر: والصحيح عند أهل السير والعلم بالاثار (1) والخبر في المؤاخاة التي عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار حين قدومه إلى المدينة بعد بنائه المسجد على المواساة والحق، فكانوا يتوارثون بذلك دون القرابات، حتى نزلت: } وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله { ، فآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين علي بن أبي طالب ونفسه، فقال له: "أنت أخي &(6/390)&$ وصاحبي "، وفي رواية "أنت أخي في الدنيا والآخرة". وكان علي رضي الله عنه يقول: أنا عبد الله، وأخو رسوله، لم يقلها أحدٌ قبلي، ولا يقولها أحدٌ بعدي إلا كذاب مفتر. وآخى بين أبي بكر الصديق وبين خارجة بن زيد، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخي حسان %(3/1291)%
__________
(1) في (ح): ((بالأخبار)).(3/1291)
بن ثابت، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وبين الزبير وسلمة (1) بن سلامة بن وِقْش، وبين طلحة وكعب بن مالك، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ، وبين سعد ومحمد بن مسلمة، وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب، وبين مصعب بن عمير وأبي =(6/480)=@ أيوب، وبين عمار وحذيفة ابن اليمان، حليف بني عبد الأشهل، وقيل: بين عمار وثابت بن قيس، وبين أبي حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر، وبين أبي ذر والمنذر بن عمرو، وبين ابن مسعود وسهل بن حنيف، وبين سلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وبين بلال وأبي رويحة الخثعمي، وبين حاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة، وبين عبد الله بن جحش وعاصم بن ثابت، وبين عبيدة بن الحارث وعمير بن الحمام، وبين الطفيل بن الحارث -أخيه - وسفيان بن بشر، وبين الحصين بن الحارث -أخيهما - وعبد الله بن جبير، وبين عثمان بن مظعون والعباس بن عبادة، وبين عتبة بن غزوان ومعاذ بن ماعص، وبين صفوان بن بيضاء ورافع بن المعلى، وبين المقداد بن عمرو وعبد الله بن رواحة، وبين ذى الشمالين ويزيد بن الحارث من بني خارجة، وبين أبي سلمة بن عبد الأسد وسعد بن خيثمة، وبين عمير بن أبي وقاص وخبيب بن عدي، وبين عبد الله بن مظعون وقطبة بن عامر، وبين شماس بن عثمان وحنظلة بن أبي عامر، وبين الأرقم بن أبي الأرقم وطلحة بن &(6/391)&$ زيد الأنصاري، وبين زيد بن الخطاب ومعن بن عدي، وبين عمرو بن سراقة وسعد بن زيد من بني عبد الأشهل، وبين عاقل بن البكير ومبشر بن عبد المنذر، وبين عبد الله بن مخرمة وفروة بن عمرو (2) البياضي، وبين خنيس بن حذيفة والمنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح، وبين أبي سبرة بن أبي رهم وعبادة بن الحسحاس، وبين مسطح بن أثاثة وزيد بن المزين، وبين أبي مرثد الغنوي وعبادة بن الصامت، وبين عُكاشة بن محصن والمجذر %(3/1292)%
__________
(1) في (ح): ((وسلامة)) بدل ((وسلمة)).
(2) في (ح): ((عمير)) بدل ((عمرو)).(3/1292)
بن زياد حليف الأنصار، وبين عامر بن فهيرة والحارث ابن الصمة، وبين مهجع مولى عمر وسراقة بن عمرو النجاري.
قال: وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين قبل الهجرة على الحق والمواساة، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان =(6/481)=@ وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله، رضي الله عن جملة المهاجرين والأنصار (1) .
قلت: وقد جاء في كتاب مسلم من حديث أنس: أنه آخى بين أبي عبيدة ابن الجراح وبين أبي طلحة، وقال أبو عمر: إنه آخى بين أبي عبيدة وبين (2) سعد بن معاذ. والأولى ما في كتاب مسلم. وقوله: «لا حلف في الإسلام»؛ أي: لا يتحالف أهل الإسلام كما كان أهل الجاهلية يتحالفون، وذلك أن المتحالفين كانا يتناصران في كل شيء، فيمنع الرجل حليفه؛ وإن كان ظالمًا، ويقوم دونه، ويدفع عنه بكل ممكن، فيمنع الحقوق، وينتصر به على الظلم، والبغي، والفساد، ولما جاء الشرع بالانتصاف من الظالم، وأنه يؤخذ منه ما عليه من الحق، ولا يمنعه أحد من ذلك، وحد الحدود، وبين الأحكام، أبطل ما كانت الجاهلية عليه من ذلك، وبقي التعاقد والتحالف على نضرة الحق، والقيام به، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عامًا (3) على من قدر عليه من المكلَّفين. =(6/482)=@ &(6/392)&$ %(3/1293)%
__________
(1) قوله: ((رضي الله عن جملة المهاجرين والأنصار)) سقط من (ح).
(2) قوله: ((بين)) سقط من (ح).
(3) قوله: ((عامًا)) سقط من (ح).(3/1293)
ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - خصَّ أصحابه من ذلك بأن عقد بينهم حلفًا على ذلك مرتين -كما تقدَّم - تأكيدًا للقيام بالحق والمواساة، وسمَّى ذلك أخوة مبالغة في التأكيد والتزام الحرمة؛ ولذلك حكم فيه بالتوارث حتى تمكن الإسلام، واطمأنت القلوب، فنسخ الله تعالى ذلك بميراث ذوي الأرحام .
وقوله: «وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدَّة»؛ يعني من نصرة الحق، والقيام به، والمواساة، وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق. قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبدالله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها، أو غيرهم، إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمَّت قريش ذلك الحلف: حلف الفضول؛ أي: حلف الفضائل، والفضول هنا جمع فضل للكثرة، كفلس وفلوس. وروى ابن إسحاق عن ابن شهاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لقد شهدت قي دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحبُّ أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به (1) في الإسلام لأجبت».
وقال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن علي في مال له لسلطان الوليد؛ فإنَّه كان أميرًا على المدينة. فقال له حسين: أحلفت (2) بالله لتنصفني، =(6/483)=@ من حقي (3) ، أو لأخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم لأدعون بحلف الفضول، قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعانا لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه، أو نموت جميعًا، وبلغت المسور بن مخرمة، فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الله بن عثمان بن عبيد الله التيمي، فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه. &(6/393)&$ %(3/1294)%
__________
(1) في (ح): ((له)) بدل ((به)).
(2) في (ح): ((أحلف)).
(3) قوله: ((من حقي)) سقط من (ح).(3/1294)
ومن باب قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أنا أمنة لأصحابي»، وخير القرون
الأمنه: الأمن، ومنه قوله تعالى: } إذ يغشيكم النعاس أمنة منه { (1) ؛ أي: أمنًا. ويعني بذلك: أن الله تعالى رفع عن أصحابه الفتن، والمحن، والعذاب مدة كونه فيهم، كما قال تعالى: } وماكان الله ليعذبهم وأنت فيهم { (2) ، فلما تولي رسول الله (3) - صلى الله عليه وسلم - جاءت الفتن، وعظمت المحن، =(6/484)=@ وظهر الكفر والنفاق، وكثر (4) الخلاف والشقاق، فلولا تدارك الله هذا الدين بثاني اثنين لصار أثرًا بعد عين، وهذا الذي وعدوا به.
وقوله: «النجوم (5) أمنة للسماء»؛ أي: ما دامت النجوم فيها لم تتغير بالانشقاق، ولا بالانفطار، فإذا انتثرث نجومها، وكورت شمسها، جاءها ذلك، وهو الذي وعدت به .
وقوله: «وأصحابي أمنة لأمتي»؛ يعني: أن أصحابه ما داموا موجودين كان الدِّين قائمًا، والحق ظاهرًا، والنصر على الأعداء حاصلاً، ولما ذهب %(3/1295)%
__________
(1) الآية (11) من سورة الأنفال .
(2) الآية (33) من سورة الأنفال.
(3) في (ح): ((توفي النبي)).
(4) في (ح): ((وظهر)).
(5) في (ح): ((والنجوم)).(3/1295)
أصحابه لأمته (1) غلبت الأهواء، وأديلت (2) الأعداء، ولا يزال أمر الدِّين متناقصًا، وجده ناكصًا إلى أن لا يبقى على ظهر الأرض أحد يقول: الله، الله. وهو الذي وعدت به أمته، والله تعالى أعلم. &(6/394)&$
وقوله: «خير أمتي (3) قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»؛ القرن القرو =(6/485)=@ - بسكون الراء - من الناس: أهل زمان واحد. قال الشاعر:
إذَا ذَهَبَ القَرن، الذي أنتَ فِيهِمُ وخُلِّفْتَ في قَرْنٍ فأَنتَ غَرِيبُ
وقيل: مقدار زمانه: ثمانون سنة، وقيل: ستون، ويعني: أن هذه القرون الثلاثة: أفضل مِمَّا بعدها إلى يوم القيامة، وهذه القرون في أنفسها متفاضلة، فأفضلها: الأول، ثم الذي بعده ، ثم الذي بعده. هذا ظاهر الحديث. فأما أفضلية الصحابة، وهم القرن الأول على من بعدهم، فلا تخفى، وقد بينا إبطال قول من زعم أنه يكون فيمن بعدهم أفضل منهم، أو مساو لهم في كتاب الطهارة. وأما أفضلية (4) من بعدهم، بعضهم على بعض، فبحسب قربهم من القرن الأول، وبحسب ما ظهر على أيديهم من إعلاء كلمة الدين، ونشر العلم، وفتح الأمصار، وإخماد كلمة (5) الكفر. ولا خفاء: أن الذي كان من ذلك في قرن التابعين كان أكثر وأغلب مما كان في أتباعهم، %(3/1296)%
__________
(1) قوله: ((لأمته)) سقط من (ح).
(2) في (ح): ((وأذيلت)).
(3) ألحق ناسخ (ح) في الهامش ((خير القرون)).
(4) في (ح): ((الفضيلة)).
(5) في (ح): ((الكلمة)).(3/1296)
وكذلك الأمر في الذين بعدهم، ثم بعد هذا غَلبَت الشرور، وارتُكبت الأمور، وقد دلَّ على صحة هذا قوله في حديث أبي سعيد: «يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فيقال: نعم، فيفتح لهم. . .»الحديث. والفئام: الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، وهو مهموز، والعامة تترك همزه. =(6/486)=@
وقول عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين، أو ثلاثا؛ هذا الذي شك فيه عمران قد حققه عبد الله بن مسعود بعد قرنه ثلاثًا، وكذلك في حديث أبي سعيد في البعوث؛ فإنَّه ذكر أنهم أربعة. &(6/395)&$
وقوله: «تبدر شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته»، يعني بذلك: أنه يقل ورع الناس بعد القرن الرابع، فيقدمون على الأيمان والشهادات من غير توقف ولا تحقيق، وقال في حديث عمران: "يشهدون ولا يستشهدون " أي: يسبقون بأداء الشهادة قبل أن يسألوها، وذلك لهوىً لهم فيها، ومن كان كذلك ردَّت شهادته، وقد بينا فيما تقدَّم مواضع يتعين فيها على الشاهد الأداء وإن لم يسأل، وذلك بحسب ما تدعو إليه الضرورة الشرعية، وعليه يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها». ويحتمل أن يراد بقوله: "ولا يستشهدون " أنهم: يشهدون بالزور فيكون معناه: يشهدون بما لم يستشهدوا (1) به، ولا شاهدوه، والأول (2) أولى؛ لأنَّه أصل الكلمة. %(3/1297)%
__________
(1) في (ح): ((يشهدوا)).
(2) في (ح): ((والأولى)).(3/1297)
وقوله: «ويظهر فيهم السِّمن»؛ أي: يغلب عليهم النَّهم والشهوات، ويُكثرون الأكل ، فيظهر عليهم السمن، وقد يأكلون ليسمنوا؟ فإنَّه محبوبٌ لهم، =(6/487)=@ ومن كان هذا حاله خرج عن الأكل الشرعي، ودخل في الأكل الشَّرِّي الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ما ملأ آدمي وعاءً شرًّآ من بطن، بحسب (1) ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإنَّ كان ولا بد، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه». &(6/396)&$
وقول إبراهيم النَّخعي: كانوا ينهوننا ونحن غلمان عن العهد والشهادات يعني: من أدرك، وقد أدرك التابعين، فكانوا يزجرون الصبيان عن اعتياد إلزام أنفسهم العهود والمواثيق، لما يلزم الملتزم من الوفاء، فيحرج أو يأثم بالترك، وكذلك عن تحمل الشهادات لما يلزم عليه من مشقة الأداء، وصعوبة التخلص من آفاتها في الدنيا والآخرة، وكل ذلك من السلف رضي الله عنهم تعليم (2) للصغار، وتدريب لهم، على ما يجتنبونه في حال كبرهم.
وقوله: «ويخونون ولا يؤتمنون»؛ يعني: أنهم تشتهر خيانتهم، فلا يأمنهم (3) أحد، وهذا نحو مِمَّا تقدَّم في حديث حذيفة في الأمانة. %(3/1298)%
__________
(1) في (ح): ((حسب)).
(2) في (ح): ((تعلم)).
(3) في (ح): يشبه ((يأتمنهم)).(3/1298)
وقوله: «تغزو فئام من الناس (1) ... إلى آخره»؛ دليل واضح على صحة نبوَّة =(6/488)=@ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ مضمونه: خبر عن غيب وقع على نحو ما أخبر. وقوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنَّ رأس مئة سنة من هذه (2) لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد»، هذا الحديث رواه مسلم من طريقين، ذكر الأول منهما متصلاً، ثم أردف عليه سندًا آخر فيه انقطاع، ولا يعتب (3) عليه في ذلك؛ إذ قد وفى بشرط كتابه في الطريق الأول، ثم زاد بعد ذلك السند المنقطع. وقد استشكل بعض من لم (4) يثبت عنده حديث ابن عمر إذ لم يفهم معناه، فردَّه بأن قال: حديث منقطع، وهذا ليس بصحيح على ما قررناه، ثم لو &(6/397)&$ سلم أن حديث ابن عمر ليس بصحيح فحديث جابر وأبي سعيد في الباب صحيحان، فما قوله فيه ، وقد رفع الصحابي - أعني: ابن عمر ذلك الإشكال - بقوله: أراد بذلك أن ينخرم ذلك القرن، بل: قد جاء من حديث جابر بلفظ لا إشكال فيه، فقال: «ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مئة سنة، وهي حيه يومئذ»، وهذا صريح في تحقيق ما قاله ابن عمر، وكذلك قول عبد الرحمن - صاحب السقاية - حيث فسَّره: بنقص العمر، وحاصل ما تضمنه هذا الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر قبل موته =(6/489)=@ بشهر: أن كل من كان من بني آدم موجودًا في ذلك الوقت لا يزيد عمره على مئة سنة؛ وإنَّما قلنا: إنه أراد %(3/1299)%
__________
(1) زاد بعدها في (ح) قوله: ((الحديث)).
(2) قوله: ((من هذه)) سقط من (ح).
(3) في (ح): يشبه ((ولا تعقب)).
(4) في (ح): ((لا)) بدل ((لم)).(3/1299)
بني آدم؛ لأنَّه قال: من نفس منفوسة"، ولا يتناول هذا الملائكة، ولا الجن؛ إذا (1) لم يصح عنهم أنهم كذلك، ولا الحيوان غير العاقل؛ إذ قال فيه: «ممن هو على ظهر الأرض أحد». وهذا إنما (2) يقال بأصل وضعه على من يعقل، فتعين: أن المراد بنو آدم، وقد استدل بعض الحفاظ المتأخرين على بطلان قول من يقول (3) : إن الخضر حي بعموم: "ما من نفس منفوسة" فإنَّه من أنص صيغ العموم على الاستغراق، وهذا لا حجَّة فيه يقينية؛ لأنَّ العموم - وإن (4) كان مؤكدًا للاستغراق - فليس نصًّا فيه، بل: هو قابل للتخصيص، لا سيما والخضر وإن كان حيًّا - كما يقال - فليس مشاهدًا للناس، &(6/398)&$ ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضًا، فمثل هذا العموم لا يتناوله كما لم يتناول عيسى عليه السلام؛ فلأنه (5) لم يمت، ولم يقتل، فهو حي بنص القرآن، ومعناه. وكما لم يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة على ما يأتي؛ فإنَّ قيل (6) : إنما لم يتناول هذا العموم عيسى؛ لأنَّ الله تعالى قد رفعه إليه، فليس هو على ظهر الأرض؛ لأنَّ المراد بذلك العموم: من كان من النفوس على ظهر الأرض، كما نص عليه في حديث ابن عمر. فالجواب: يمنع عموم الأرض المذكورة فيه؛ فإنه اسم مفرد دخل عليه الألف واللام، وهي محتملة للعهد والجنس، وهي ها (7) هنا للعهد؛ لأنَّ الأرض التي يخاطبون بها، ويخبرون عن الكون فيها: هي أرض العرب، وما جرت عادتهم بالتصرف إليها وفيها غالبًا، دون أرض يأجوج ومأجوج، وأقاصي جزائر الهند والسند، مما لا يقرع السمع اسمه، ولا يعلم علمه، ولا جواب عن حديث الدجال. وعلى الجملة: فمن يستدل في المباحث القطعية بمثل هذا العموم فليس (8) لكلامه حاصل ولا مفهوم. وسيأتي القول على قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة»في آخر كتاب الفتن. =(6/490)=@ %(3/1300)%
__________
(1) في (ح): ((إذ)) بدل ((إذا)).
(2) قوله: ((إنما)) سقط من (ح).
(3) في (ح): ((قال)).
(4) في (ح): ((إن)) بلا واو.
(5) في (ح): ((ولأنه)).
(6) في (ح): ((قال)).
(7) قوله: ((ها)) سقط من (ح).
(8) في (ح): ((فليس له لكلامه)).(3/1300)
وقول ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ الرواية الصحيحة: وهل - بفتح الهاء - قال أبو عبيد: يريد: غلط، يقال: وهل إلى الشيء يهل، ووهم إلى الشيء يهم، وهلا ووهمًا. قال أبو زيد: وهل في الشيء، وعن الشيء يوهل وهلاً: إذا غلط فيه وسها، ووهلت إليه بالفتح - وهلاً: إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره. =(6/491)=@
قلت: وعلى ما حكاه أبو زيد يكون الصواب في وهل الذي في هذا &(6/399)&$ الحديث: كسر الهاء؛ لأنَّه هو الذي يتعدى بـ ( في )، ويشهد (1) له المعنى، وأما وهل بالفتح فيتعدى بـ ( إلى )، والمعنيان متقاربان، ويمكن أن يقال: إن وهل في الشيء فيه لغتان: الفتح والكسر. والله أعلم (2) . %(3/1301)%
__________
(1) في (ح): ((وليشهد)).
(2) قوله: ((والله أعلم)) سقط من (ح).(3/1301)
ومن باب: وجوب احترام أصحاب رسول الله (1) - صلى الله عليه وسلم -
من المعلوم الذي لا يشك فيه: أن الله تعالى اختار أصحاب نبيه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ولإقامة دينه، فجميع ما نحن فيه من العلوم، والأعمال، والفضائل، والأحوال، والمتملكات، والأموال، والعز، والسلطان، والدين، والإيمان، وغير ذلك من النعم التي لا يحصيها لسان، ولا يتسع لتقديرها (2) زمان إنما كان بسببهم. ولما كان &(6/400)&$ ذلك وجب علينا الاعتراف بحقوقهم والشكر لهم على عظيم أياديهم، قيامًا بما أوجبه الله تعالى من شكر المنعم، واجتنابًا لما حرمه من كفران حقه، هذا مع ما تحققناه من ثناء الله تعالى عليهم، وتشريفه لهم، ورضاه عنهم، كقوله تعالى: } لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة { إلى قوله: =(6/492)=@ } محمد رسول الله (3) { (4) ، وقوله: } والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار { (5) ، وقوله (6) : } للفقراء المهاجرين { (7) ، إلى غير ذلك، وكقوله عليه السلام: "إن الله اختار أصحابي على العالمين (8) سوى النبيين والمرسلين ، إلى غير ذلك من الأحاديث المتضمنة للثناء عليهم رضي الله عنهم أجمعين. وعلى هذا فمن تعرض لسبهم، وجحد عظيم حقهم، فقد انسلخ من الإيمان، وقابل الشكر بالكفران، ويكفي في هذا الباب ما رواه الترمذي من حديث عبدالله بن مغفل %(3/1302)%
__________
(1) في (ح): ((ومن باب وجوب احترام النبي عليه الصلاة والسلام)).
(2) في (ح): ((لقديدها)).
(3) زاد بعدها في (ح): ((والذين معه)).
(4) الآية (18- 19) من سورة الفتح .
(5) الآية (100) سورة التوبة.
(6) في (ح): يشبه ((وكقوله)).
(7) الآية (8) من سورة الحشر .
(8) في (ح): ((العالم)).(3/1302)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الله! الله! في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه "(2). فقال (1) : هذا حديث غريب. وهذا الحديث، وإن كان غريب السند فهو صحيح المتن؛ لأنَّه معضود (2) بما قدمناه من الكتاب وصحيح السنة وبالمعلوم من دين الأمة؛ إذ لا خلاف في وجوب احترامهم، وتحريم سبهم، ولا يختلف في أن من قال: إنَّهم كانوا على كفر أو ضلال (3) كافر يقتل؛ لأنَّه أنكر معلومًا ضروريًا من الشرع، فقد كذب الله ورسوله فيما أخبرا به عنهم. وكذلك الحكم فيمن كفر أحد الخلفاء الأربعة، أو ضللهم. وهل حنهمه حكم المرتد فيستتاب أو حُكم الزنديق فلا يستتاب ويقتل على كل حال. هذا مِمَّا يختلف فيه، فأمَّا من سبهم بغير ذلك؛ فإنَّ كان سبًّا يوجب حدًّا كالقذف حُدَّ حدَّه، ثم ينكل التنكيل الشديد من الحبس، والتخليد فيه، والإهانة ما خلا عائشة رضي الله عنها، فإنَّ قاذفها يقتل؛ لأنَّه مكذِّبٌ لما جاء في الكتاب والسنة من براءتها. قاله مالك وغيره. واختلف في غيرها من أزواج &(6/401)&$ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل: يقتل قاذفها؛ لأنَّ ذلك?أذى للنبي - صلى الله عليه وسلم - . =(6/493)=@
وقيل: يُحد ويُنكل، كما ذكرناه على قولين. وأما من سبَّهم بغير القذف؛ فإنه يجلد الجلد الموجع، ويُنكل التنكيل الشديد، قال ابن حبيب: ويخلد سجنه إلى أن يموت. وقد روي عن مالك: من سبَّ عائشة قتل مطلقًا، ويمكن حمله على السَّب بالقذف، والله تعالى أعلم. %(3/1303)%
__________
(1) في (ح): ((قال)).
(2) في (ح): ((مقصود)).
(3) في (ح): ((ضلالة)).(3/1303)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تسبُّوا أصحابي ...»الخ. رواه أبو هريرة مجردًا عن سببه، وقد رواه أبو سعيد الخدري، وذكر أن سبب ذلك القول هو: أنه كان بين (1) خالد بن الوليد، وبين عبد الرحمن بن عوف شيء؛ أي: منازعة، فسبَّه خالد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك القول، فأظهر ذلك السبب أن مقصود هذا الخبر زجر خالد، ومن كان على مثل حاله ممن سبق بالإسلام، وإظهار خصوصية السابق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن السابقين لا يلحقهم أحد في درجتهم؟ وإن كان أكثر نفقة وعملا منهم، وهذا نحو قوله تعالى: } لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل { (2) . ويدل على صحة (3) هذا المقصود: أن خالدًا وإن كان من الصحابة رضي الله عنهم ، لكنَّه متأخر الإسلام. قيل: أسلم سنة خمس، وقيل: سنة ثمان. لكنه - صلى الله عليه وسلم - لما عدل عن غير خالد وعبدالرحمن إلى التعميم دلَّ ذلك على: أنه قصد مع ذلك تقعيد قاعدة تغليظ تحريم سب الصحابة مطلقًا، فيحرم ذلك من صحابي وغيره؛ لأنَّه إذا =(6/494)=@ حرم على صحابي فتحريمه على غيره أولى. وأيضًا: فإنَّ خطابه عليه السلام؛ للواحد خطاب للجميع، وخطابه للحاضرين خطاب للغائبين إلى يوم القيامة. والنصيف لغة: في النصف، وكذلك الثمين لغة: في الثمن (4) .
وفي هذا الحديث دلالة واضحة على أن الصحابة – رضوان الله عليهم – لا يلحقهم أحد ممن بعدهم في فضلهم كما تقدم رضي الله عنهم وعن تابعيهم بإحسان. %(3/1304)%
__________
(2) الآية (10) من سورة الحديد .
(4) زاد بعدها في (ح): ((وفي هذا الحديث دلالة واضحة على أن الصحابة رضوان الله عليهم لا يلحقهم أحد ممن بعدهم في فضلهم كما تقدم)). &(6/402)&$(3/1304)
ومن باب ما ذكر في أويس القرني رضي الله عنه
اختلف في نسبه، فقيل: أويس بن عامر بن جزء بن مالك، وهو الصحيح. وقيل: أويس بن أنيس، وقيل: أويس بن الخليص المرادي، ثم القرني - بفتح الراء - منسوب إلى قرن، قبيلة معروفة. كان رضي الله عنه من أولياء الله المختفين (1) صفاته الذين لا يؤبه لهم، ولولا أن رسول الله (2) - صلى الله عليه وسلم - أخبر عنه، ووصفه بوصفه، ونعته، وعلامته لما عرفه أحد، وكان موجودًا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآمن به، وصدَّقه، ولم يلقه، ولا كاتبه، فلم يعد في الصحابة. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من التابعين حيث قال: " أنَّه خير التابعين ". وقد اختلف في زمن موته، فروي عن عبد الله بن =(6/495)=@ سلمة (3) قال: غزونا أذربيجان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعنا أويس القرني، فلما رجعنا مرض علينا ، فحملناه فلم يستمسك فمات، فنزلنا ، فإذا قبر محفور ، وماء مسكوب، وكفن وحنوط، فغسلناه، وكفَّناه، وصلينا عليه، فقال بعضنا لبعض: لو رجعنا فعلمنا قبره، فإذا لا قبر ولا أثر. &(6/403)&$
وروي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: نادى رجل من أهل الشام يوم صفين: أفيكم أويس القرني. فقلنا: نعم ، قال: إني سمعت رسول الله يقول: «أويس القرني خير التابعين بإحسان». وعطف دابته فدخل مع أصحاب (4) علي. قال عبدالرحمن: فوجد في قتلى أصحاب علي رضي الله عنهم. %(3/1305)%
__________
(1) في (ح): ((المحققين)).
(2) في (ح): ((البني)).
(3) في (ح): ((مسلم)).
(4) قوله: ((أصحاب)) سقط من (ح).(3/1305)
وله أخبار كثيرة ، وكرامات ظاهرة ، ذكرها أبو نُعيم ، وأبو الفرج الجوزي في كتبيهما. وأويس الذي (1) تصغير أوس ، وأوس: الذئب ، وبه سمِّي الرجل، وقيل: إنه سمِّي بأوس الذي هو مصدر أُست، الرجل أوسًا: إذا أعطيته، فالأوس: العطية.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «إن استعطت أن يستغفر لك فافعل»؛ لا يُفهم منه أنه أفضل من =(6/496)=@ عمر، ولأن (2) عمر غير مغفور له؛ للإجماع على أن عمر رضي الله عنه أفضل منه؛ ولأنَّه تابعي، والصحابي أفضل من التابعي، على ما بيناه غير مرَّة، إنَّما (3) مضمون ذلك: الإخبار بأن أويسًا ممن يستجاب دعاءه. وإرشاد عمر إلى الازدياد من الخير، واغتنام دعوة من ترتجى إجابته، وهذا نحو مما أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - به من الدعاء له، والصلاة عليه، وسؤال الوسيلة له (4) ، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل ولد آدم. ويروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل خرج ليعتمر: «أشركنا (5) في دعائك يا أُخي».
وقوله: "في أمداد أهل اليمن؛ أي: في جماعاتهم، جمع مدد، وذلك أنهم يمد بهم القوم الذين يقدمون عليهم. &(6/404)&$ %(3/1306)%
__________
(1) قوله: ((الذي)) سقط من (ح).
(2) في (ح): ((ولا أن)).
(3) في (ح): ((وإنما)).
(4) قوله: ((له)) سقط من (ح).
(5) في (ح): ((شركنا)).(3/1306)
وقوله: أحدث عهدًا؛ أي: أقرب، وعهدًا: منصوب على التمييز، كقوله (1) تعالى: } هم أحسن أثاثًا ورئيًا { (2) .
وقوله: أكون في غبراء الناس؛ الرواية الجيدة فيه: بفتح الغين المعجمة، وسكون الباء الموحدة (3) ، وهمزة ممدودة، ويعني به: فقراء الناس وضعفاءهم. والغبراء: الأرض، ويقال للفقراء: بنو غبراء، كأن الفقر والحاجة ألصقتهم بها، كما قال تعالى: } أو مسكينًا ذا متربة { (4) ؛ أي: ذا حاجة ألصقته بالتراب. =(6/497)=@ ومن هذا سقوا الفقر: أبا متربة (5) . وقد روي ذلك اللفظ في غبر الناس -بضم الغين وتشديد الباء- جمع غابر، نحو: شاهد وشُهَّد، ويعني به: بقايا الناس ومتأخريهم، وهم ضعفاء الناس؛ لأنَّ وجوه الناس ورؤساءهم يتقدمون للأمور، وينهضون بها، وبتفاوضون فيها، ويبقى الضعفاء لا يلتفت إليهم، ولا يؤبه بهم، فأراد أويس أن يكون خاملاً بحيث يبقى لا يلتفت إليه، طالبًا السلامة (6) ، وظافرًا بالغنيمة.
وحديث أويس هذا دليل من أدلة صحَّة صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنَّه أخبر عنه باسمه، ونسبه، وصفته، وعلامته، وأنه يجتمع بعمر رضي الله عنه ، وذلك كله من باب الإخبار بالغيب الواقع على نحو ما أخبر به من غير ريب. =(6/498)=@ &(6/405)&$ %(3/1307)%
__________
(1) في (ح): ((كقولهم)) بدل ((كقوله)).
(2) الآية (74) من سورة مريم .
(3) في (ح): ((بواحدة)).
(4) الآية (16) من سورة البلد .
(5) من قوله: ((أي ذا حاجة ...)) إلى هنا سقط من (ح).
(6) في (ح): ((للسلامة)).(3/1307)
ومن باب: ما ذكر في مصر وأهلها وأهل عمان
قوله: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمََّّى فيها القيراط»؛ هذا إخبار بأمر غيب، وقع على نحو ما أخبر، فكان دليلاً من أدلة نبوته - صلى الله عليه وسلم - . ومعنى يسمى فيها القيراط: يعني به: أنه يدور على ألسنتهم كثيرًا، وكذلك هو؛ إذ لا ينفك متعاملان من أهل مصر عن ذكره غالبًا؛ لأنَّ أجزاء الدينار الأربعة والعشرين يسمونها: قراريط، وقطع الدراهم يسمونها: قراريط، بخلاف غيرهم من أهل الأقاليم، فإنَّهم يسمُّون ذلك بأسماء أخر، فأهل العراق يسمُّون ذلك: طسُّوجًا ورزة، وأهل الشام: قرطيس، ونحو ذلك.
وقوله: «فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإنَّ لهم ذمة ورحمًا (1) ، أو قال: صهرًا»؛ الذمة: الحرمة. والذمام: الاحترام، وقد يكون ذلك لعهد سابق كعهد أهل الذمَّة، وقد يكون ذلك ابتداء إكرام، وهذا هو المراد بالذمة هنا، والله تعالى أعلم؛ إذ لم يكن لأهل مصر من النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد سابق، وإنما أراد: أن لهم حقًّا لرحمهم، أو صهرهم، ويحتمل أن يكون معناه: أنهم (2) يكون لهم عهد بما يعقد لهم من ذلك حين الفتح. وهذا التأويل على بُعده يعضده ما رواه ابن هشام من حديث عمر مولى عفرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الله! الله في أهل المدرة السوداء السُّحم =(6/499)=@
الجعاد؛ فإنَّ لهم نسبًا وصهرًا». قال عمر: فنسبهم: &(6/406)&$ أن أم إسماعيل منهم، وصهرهم: أن %(3/1308)%
__________
(1) في (ح): ((ورحمة)).
(2) في (ح): ((كانواون)) كذا رسمت.(3/1308)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسرى منهم. قال ابن لهيعة: أم إسماعيل هاجر من أم العرب: قرية كانت أمام الفرما، وأم إبراهيم مارية سرية النبي - صلى الله عليه وسلم - التي أهداها له المقوقس من حَفْن من كورة أنصنا. والمدرة: واحدة المدر، والعرب تسمي القرية: المدرة، وأهل المدر: أهل القرى. والسحم: السود، جمع أسحم (1) ، وهو الشديد الأدمة، وفوقه: الصحمة - بالصاد -. والجعاد: المتكسرو الشعور، وهذه أوصاف أهل صعيد (2) مصر غالبًا، وقد تقدَّم ذكر هاجر. والفرما: قرية من عمل صعيد (3) مصر، سميت باسم بانيها، وهو الفرما بن قليقس (4) ، ويقال: ابن قليس، ومعناه: محب الغرس، وهو أخو الإسكندر بن قليس اليوناني، ذكره الطبري ، وذكر أن الإسكندر حين بنى الإسكندرية، قال (5) : أبني مدينة فقيرة إلى الله غنية عن الناس، وقال الفرما: أبني مدينة غنية عن الله فقيرة إلى الناس، فسلَّط الله تعالى عليها الخراب سريعًا، فذهب رسمها وبقيت الإسكندرية. وسميت مصر بمصر بن النبيط ولد كوش بن كنعان، وقال أبو العباس: اشتقاق مصر من المصر، وهو القطع، كأنها قُطعت من الخراب، ومنه: المصر: الحاجز، ومصور الدار: حدودها. وحفن: قرية مارية سُرِّية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصعيد معروفة، وهي التي كلم الحسن بن علي معاوية أن يضع الخراج عن أهلها لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم، ففعل معاوية ذلك، ذكره أبو عبيد في "الأموال ". وأنصنا: مدينة السحرة، وحفن من عملها، والمقوقس: هو ملك مصر بعث له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاطب بن أبي بلتعة، وجبرًا (6) مولى أبي رُهم بكتاب، فلم يبعد عن الإسلام، وأهدى له مارية، ويقال (7) : وأختها سيرين، وبغلة تسمَّى: الدَّلدل. والدلدل: القنفذ العظيم. والمقوقس: المطوِّل للبناء. يقال في المثل: أنا في القوس (8) ، وأنت بالقوقوس (9) فمتى نجتمع ؟! =(6/500)=@ %(3/1309)%
__________
(1) قوله: ((جمع أسحم)) سقط من (ح).
(2) في (ح): ((صعيدي)).
(3) قوله: ((صعيد)) سقط من (ح).
(4) في (ح): ((قيلقيس)).
(5) في (ح): ((فقال)).
(6) في (ح): ((وخيرًا)).
(7) قوله: ((ويقال)) سقط من (ح).
(8) في (ح): ((أنا بالقوس)).
(9) في (ح): ((بالفرقوس)).(3/1309)
وقوله: «فإذا رأيتم رجلين يختصمان فيها في موضع لبنه فاخرج منها»؛ يعني بذلك: كثرة أهلها، ومشاحتهم في أرضها، واشتغالهم بالزراعة والغرس عن الجهاد، وإظهار الدين، ولذلك أمره بالخروج منها إلى مواضع الجهاد، &(6/407)&$ ويحتمل أن يكون ذلك؛ لأنَّ الناس إذا ازدحموا على الأرض، وتنافسوا في ذلك كثرت خصومتهم، وشرورهم، وفشا فيهم البخل، والشر، فيتعين الفرار من محل يكون كذلك، إن وجد محلَّا (1) آخر خليًا عن ذلك، وهيهات كان هذا في الصدر الأول، وأما اليوم، فوجود ذلك في غاية البعد؛ إذ في كل (2) بنو سعد. واللبنة: الطوبة، وتجمع لبن. وفيه من الفقه: الأمر بالرفق بأهل أرياف مصر، وصعيدها (3) ، والإحسان إليهم، وخصوصًا أهل تينك القريتين، لما ذكر من تينك الخصوصتين (4) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لو أن أهل عمان أتيت ما سبُّوك ولا ضربوك»؛ يروى عُمان بضم العين، وتخفيف الميم - وهو موضع بالشام، ويعني: أن أهل عمان قوم =(6/501)=@ فيهم علم، وعفاف، وتثبُُّت، والأشبه: أنهم أهل عمان التي قِبل اليمن؛ لأنَّهم ألين قلوبًا، وأرق أفئدة، وأما أهل عمان الشام فسلامة لك منهم وسلام، وأهل هذين الاسمين من عمن بالمكان: أقام به، ويقال: أعمن الرجل: إذا صار إلى عمان. &(6/408)&$ %(3/1310)%
__________
(1) في (ح): ((محل)).
(2) في (ح): ((في كل واد بنو)).
(3) في (ح): ((وصعيديها)).
(4) في (ح): ((الخصوصيتين)).(3/1310)
ومن باب في ثقيف كذاب ومبير
قول أبي نوفل (1) : رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة؛ يعني: أنه رآه مصلوبًا على خشبة على عقبة المدينة، صلبه الحجاج بعد أن قتل في المعركة منكسًا، وكان من حديثه ما قد (2) تقدَّم بعضه، وذلك أنه لما مات معاوية بن (3) يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ولم يولِّ أحدًا (4) ، بقي الناس لا خليفة لهم، ولا إمام مدة قد (5) تقدَّم ذكرها، فعند ذلك بايع الناس لعبد الله بن الزبير بمكة، واجتمع على طاعته أهل الحجاز، وأهل اليمن، والعراق وخراسان، وحج بالناس ثماني حجج، ثم بايع أهل الشام لمروان بن الحكم، واجتمع عليه أهل الشام، ومصر، والمغرب، وكان ابن الزبير أولى بالأمر من مروان وابنه على ما قاله مالك - وهو الحق - لعلم ابن الزبير، وفضله، وبيته، فجرت بينهم حروب وخطوب عظيمة، إلى أن توفي مروان وولي عبد الملك، واستفحل أمره بالحجاج، فوجه الحجاج إلى مكة في جيش عظيم، فحاصر فيها عبد الله بن الزبير مدة ستة أشهر وسبعة عشر يومًا، ثم دخل عليه، فقتل يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى. وقيل: جمادى الآخرة، سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. قال المدائني: =(6/502)=@ بويع له بالخلافة سنة خمس وستين، وكان قبل ذلك لا يدعى باسم الخلافة، وقال غيره: بويع له بالخلافة سنة أربع وستين (6) ، ثم بقي مصلوبًا على خشبة إلى أن رحل عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان، فرغب إليه أن ينزل الخشبة فاشفعه (7) ، فأنزل. قال ابن أبي مليكة: كنت الآذن %(3/1311)%
__________
(1) في (ح): ((القوقل)).
(2) قوله: ((قد)) سقط من (ح).
(3) قوله: ((بن)) سقط من (ح).
(4) قوله: ((ولم يولِّ أحد)) مكرر في (ح).
(5) في (ح): ((وقد)).
(6) في (ح): ((وستين سنة)).
(7) في (ح): ((من الخشبة فاشعفه)).(3/1311)
لمن بشر أسماء بنزول ابنها عبدالله بن الزبير من الخشبة، فدعت بمركن وشبَّ يمان، وأمرتني بغسله، فكنَّا لا نتناول عضوًا إلا جاء معنا ، وكنا (1) نغسل العضو، ونضعه في أكفانه حتى فرغنا منه، &(6/409)&$ وكانت أمه أسماء تقول قبل ذلك: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته، فما أتت عليها جمعة حتى ماتت. وفي مدة صلبه مرَّ به ابن عمر فقال: السلام عليك أبا خبيب ، كناه بابن له يسمَّى خبيبًا، وكنيته الشهيرة أبو بكر.
وقول ابن عمر: أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا؛ أي: عن التعرض لهذا، وكأنه كان أشار عليه بالصلح، ونهاه عن قتالهم لما رأى من كثرة عدوه، وشدَّة شوكتهم، ثم إنه شهد بما علم من حاله فقال: أما والله إن كنت ما علمت صوَّاما (2) ، وصولاً للرحم. وكان (3) يصوم الدهر، ويواصل الأيام، ويحيي الليل، وربما قرأ القران كله في ركعة الوتر ، و( إن ) التي مع كنت مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، تقديره: إنك كنت، وما مع الفعل بتأويل المصدر.
وقوله: أما والله لأمة أنت شرها لأمة خير؛ يعني بذلك: أنهم إنما قتلوه =(6/503)=@
وصلبوه؛ لأنَّه شر الأمة في زعمهم، مع ما كان عليه من الفضل والدين (4) والخير، فإذا لم يكن في تلك الأمة شر منه، فالأمة كلها أمة خير، وهذا الكلام يتضمَّن الإنكار عليهم فيما فعلوه به.
وقوله: فبلغ الحجاج موقف عبدالله (5) وقوله، فأرسل إليه، فأنزل عن جذعه؛ ظاهر هذا: أنه إنما أنزله عن الخشبة لقول عبدالله وموقفه، وقد نقلنا: أن إنزاله كان عن سؤال عروة لعبد الملك في ذلك، فيجوز أن يكون %(3/1312)%
__________
(1) في (ح): ((فكنا)).
(2) في (ح): ((صوامًا قوامًا)).
(3) في (ح): ((كان)) بلا واو.
(4) قوله: ((والدين)) سقط من (ح).
(5) قوله: ((وقوله فبلغ الحجاج موقف عبد الله)) سقط من (ح).(3/1312)
اجتمع إذن (عبد الملك )، وموقف عبدالله، فكان إنزاله عنهما.
و (نسحبك ): نجزك. و(قرونها (1) ): الثوب الذي تنتطق به المرأة؛ أي: تحتزم. و (يتوذَّف ): يمشي متبخترًا، وقيل: مسرعًا. و (المبير): المهلك، وكذلك كان الحجاج؛ فإنه روي أنه أحصي من قتله الحجاج صبرًا، فوجدوهم ثلاثين ألفًا، وأما من قتل في الحروب فلم يحصوا.
وأما الكذاب فهو: المختار بن أبي عبيد الثقفي، فإنَّه ادعى النبوة، وتبعه على ذلك خلق كثير?حتى قتله الله تعالى كما تقدم. =(6/504)=@
وقوله: فقام عنها، فلم (2) يراجعها؛ قد حكي عنه (3) أنه قال: اللهم! مبير لا كذاب. و (إخالك ): أظنك، وكسر همزة إخالك لغة فصيحة، والفتح الأصل والقياس. &(6/410)&$ %(3/1313)%
__________
(1) زاد بعدها في (ح): ((ظفائر شعرها والسبتيتان نعلان مدفوعان بالسبت وهو قش يدفع به والبنطاق)).
(2) في (ح): ((ولم)).
(3) قوله: ((عنه)) بياض في (ح).(3/1313)
ومن باب ما ذكر في فارس (1)
قوله تعالى: } وآخرين منهم لما يلحقوا بهم { (2) ؛ هو مخصوص معطوف على الأمِّيين، ويجوز أن يكون منصوبًا معطوفًا على الضمير في يعلمهم. ولما يلحقوا بهم: أي لم يدخلوا في الإسلام، ولم يوجدوا وسيوجدون. =(6/505)=@
وأحسن ما قيل فيهم (3) أنهم أبناء فارس بدليل نص هذا الحديث. وقد كثرت أقوال المفسرين في ذلك. وقد ظهر ذلك للعيان، فإنهم ظهر فيهم الدِّين ، وكثرت (4) فيهم العلماء، فكان وجودهم كذلك دليلاً من أدلة صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - . &(6/411)&$ %(3/1314)%
__________
(1) في (ح): ((من فارس)).
(2) الآية (2) من سورة الجمعة .
(3) قوله: ((فيهم)) سقط من (ح).
(4) في (ح): ((وكثر)).(3/1314)
وقوله: «تجدون الناس كإبل مئة ، لا تجد فيها راحلة»؛ قال الأزهري: الراحلة: الناقة النجيبة والجمل النجيب ، والهاء فيها للمبالغة. كرجل داعية =(6/506)=@ ونسابة. وسميت بذلك لأنها ترتحل، فهي فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية أي: رضية (1) . قال: ومعنى الحديث عندي: أن الكامل في الزهد في الدنيا والرغبة في الكمال (2) الآخرة قليل.
قلت: ويقع لي أن الذي يناسب التمثيل بالرَّاحلة إنما (3) هو الرجل الكريم، الجواد؛ الذي يتحمَّل كل الناس وأثقالهم بما يتكلَّفه من القيام بحقوقهم، والغرامات عنهم، وكشف كربهم، فهذا هو القليل الوجود، بل: قد يصدق عليه اسم مفقود (4) ، وهذا أشبه القولين،?والله تعالى أعلم.
كمل كتاب المناقب، والحمد لله ربِّ العالمين (5) . =(6/507)=@ &(6/412)&$ %(3/1315)%
__________
(1) في (ح): ((مرضية)).
(2) قوله: ((الكمال)) سقط من (ح).
(3) في (ح): ((إنها)) بدل ((إنما)).
(4) في (ح): ((المفقود)).
(5) قوله: ((والحمد لله رب العالمين)) سقط من (ح).(3/1315)
كتاب المفهم
لما أشكل من تلخيص مسلم
لأبي العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي
تقديم وتحقيق:
د. عبد الهادي التازي
الجزء الرابع(4/1316)
كتاب البر والصلة
1 - ومن باب: بر الوالدين
قوله: «مَنْ أَحقُّ النَّاسِ بحُسن (1) صَحابتي» أحق: أولى وأوكد، والصحابة: الصُّحبة، يقال: صَحبهُ يَصحبهُ صُحبة وصحابة.
وقوله: «أُمك» ثلاث مرات، وفي الرابعة: «أبوك» يدلُّ على صحَّة قول من قال: إن للأم ثلاثة أرباع البر، وللأب رُبعه، ومعنى ذلك: أن حقهما - وإن كان واجبًا- فالأم تستحق الحظَّ الأوفر من ذلك.
وفائدة ذلك المبالغة في القيام بحق الأم، وأن حقها مقدَّم (2) عند تزاحم حقها وحقه .=(6/508)=@
وقوله: «ثم أدناك أدناك» يعني: أنك إذا قمت ببرِّ الأبوين تعيَّن عليك القيام بصلة رحمك، وتبدأ منهم بالأقرب إليك نسبًا فالأقرب، وهذا كل عند الرحم تزاحم (3) الحقوق، وأما عند التمكن من القيام بحقوق الجميع، فيتعين القيام بجميع ذلك .&(6/413)&$ %(4/1317)%
__________
(1) قوله: «بحسن» سقط من (ح).
(2) في (ح): «تقدم».
(3) في (ح): «وهذا كله عند تزاحم».(4/1317)
وقوله: «أما وأبيك لتنبأنَّه» قد تقدَّم الكلام في الأيْمَان عَلَى القَسم بالأبِّ عِندَ قَوْله: «أفلح وأبيه إن صدق«. «لتنبأن«: لتُخْبِرنَ بذلك، والهَاء للسَّكت، ويحتمل: أن تكون ضمير المصدر الذي دل عليه لتنبأن.
وقوله: «جاء رجل يستأذنه في الجهاد» فقال: «أَلكَ أَبوَان؟» قال: «نَعمْ» فيه ما يدلّ على أن المفتي إذا خاف على السائل الغلط، أو عدم الفهم تعيَّن عليه الاستفصال، وعلى أن الفروض والمندوبات مهما اجتمعت قدم الأهم منها، وأن القائم على الأبوين يكون له أجر مجاهد وزيادة.
وقوله: «ففيهما فجاهد» أي: جاهد نفسك في برهما وطاعتهما، فهو الجهاد (1) الأولى بك ؛ لأنَّ الجهاد فرض كفاية، وبرُّ الوالدين فرض عين، فلو تعيَّن الجهاد =(6/509)=@ وكان والداه في كفاية، ولم يمنعاه، أو أحدهما من ذلك، بدأ بالجهاد. فلو لم يكونا في كفاية تعيَّن عليه القيام بهما، فبدأ به، فلو كانا في كفاية ومنعاه لم يلتفت إلى منعهما؛ لأنَّهما عاصيان بذلك المنع، وإنما الطاعة في المعروف، كما لو منعاه من صلاة الفرض.
فأمَّا الحج فله أن يؤخره السنة والسنتين ابتغاء رضاهما، قاله مالك. هذا وإن قلنا: إنه واجب على الفور مراعاة لقول من يقول: إنه على التراخي.وقد تقدَّم القول على ذلك في الحج. %(4/1318)%
__________
(1) قوله: «الجهاد» سقط من (ح).(4/1318)
وقول الأعرابي: «أبايعك على الهجرة» أي: على أن أهجر دار قومي، وأهاجر إليك، فأقيم معك في المدينة، وهذا كان في زمن وجوب الهجرة.
وقوله: «فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما«؛ قد قدمنا ذكر الخلاف في منع (1) وجوب الهجرة، هل (2) كان على أهل مكة خاصة، أو كان على كل من أسلم؟ وعلى القولين فقد أسقط عنه الهجرة، لأن حق الوالدين أولى؛ لأنَّه إن كانت الهجرة عليه واجبة، فقد (3) عارضها ما هو أوجب منها، وهو حق الوالدين، فقدَّم، &(6/414)&$ وإن لم تكن واجبة عليه، فالواجب أولى على كل حال (4) ، لكنه إنما يصح هذا ممن يَسْلم له في موضعه دينه، فأمَّا لو خاف الفتنة على دينه لوجب عليه الفرار بدينه، وترك آبائه =(6/510)=@ وأولاده، كما فعل المهاجرون الذين هم صفوة الله من عباده.وبر الوالدين واجب على الجملة بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وكذلك صلة الأرحام، وأما تفصيل ما يكون برًّا وصلة، وما لا يكون، فذلك يستدعي تفصيلاً وتطويلاً ليس هذا موضعه .%(4/1319)%
__________
(1) قوله: «منع» سقط من (ح).
(2) في (ح): «وقوله» بدل «هل».
(3) في (ح): «فقدر عارضها» كذا رسمت.
(4) في (ح): «حالة».(4/1319)
ومن باب: ما يتقى من دعاء (1) الأم
قوله: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة» المهد: أصله مصدر مهدت الشيء أمهده: إذا سوَّيته وعدلته. فمهد الصبي: كل محل يسوى له (2) ويوطأ، وقد يكون سريره، وقد يكون حجر أمه، كما قال قتادة: في قوله (3) تعالى: {كيف نكلم من كان في المهد صبيًّا} أي (4) : في حجر أمه. وظاهر هذا الحصر يقتضي أن لا يوجد صغير تكلم في المهد إلا هؤلاء الثلاثة، وهم: عيسى، وصبي &(6/415)&$ جريج، والصبي المتعوذ من الجبار. وقد جاء من حديث صهيب المذكور في تفسير سورة البروج في قصة الأخدود: أن امرأة (5) جيء بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي لها في - غير كتاب مسلم: يرضع فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها =(6/511)=@ الغلام: يا أُمَّه! اصبري، فإنك على الحق. وقال ابن عباس: إن شاهد يوسف كان صبيًا في المهد، وقال الضحَّاك: تكلم في المهد ستة: شاهد يوسف، وصبي ماشطة امرأة فرعون، وعيسى، ويحيى، وصاحب جريج، وصاحب الأخدود. %(4/1320)%
__________
(1) في (ح): «دعوة».
(2) في (ح): «به» بدل «له».
(3) في (ح): «وقوله» بدل «في قوله».
(4) في (ح): «قال أي».
(5) في (ح): «المرأة».(4/1320)
قلت: فأسقط الضحَّاك صبي الجبار، وذكر مكانه **مكأنه كما بالورق** يحيى، وعلى هذا فيكون المتكلمون في المهد سبعة، فبطل الحصر بالثلاثة المذكورين في الحديث.
قلت: ويجاب عن ذلك: بأن الثلاثة المذكورين في الحديث هم الذين صحَّ أنهم تكلموا في المهد، ولم يختلف فيهم فيما علمت، واختلف فيمن عداهم، فقيل: إنهم كانوا كبارًا بحيث يتكلمون ويعقلون، وليس فيهم أصح من حديث صاحب الأخدود، ولم تسلم (1) صحة الجميع، فيرتفع الإشكال بأن النبي أخبر بما كان في علمه مما أوحي عليه (2) في تلك الحال، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بأشياء (3) من ذلك، فأخبرنا بذلك على ما في علمه.
وقوله: «يا رب أمي وصلاتي» قول يدلّ على: أن جريجًا - رضي الله عنه - كان عابدًا، ولم يكن عالمًا؛ إذ بأدنى فكرة يدرك أن صلاته كانت ندبًا، وإجابة أمه كانت عليه واجبة، فلا تعارض يوجب (4) إشكالاً، فكان يجب عليه تخفيف =(6/512)=@ صلاته، أو قطعها، وإجابة أمه، لا سيما وقد تكرر مجيئها إليه، وتشوقها واحتياجها لمكالمته.وهذا كلُّه يدلّ على تعيَّن إجابته إياها، ألا ترى أنه أغضبها بإعراضه &(6/416)&$ عنها، وإقباله على صلاته؛ ويبعد اختلاف الشرائع في وجوب بر الوالدين. وعند ذلك دعت عليه، فأجاب الله تعالى دعائها تأديبًا له، وإظهارًا لكرامتها، والظاهر من هذا الدعاء أن %(4/1321)%
__________
(1) في (ح): «ولو سلم».
(2) في (ح): «إليه».
(3) في (ح): «بما شاء».
(4) قوله: «يوجب» مكرر في (ح).(4/1321)
هذه المرأة كانت فاضلة عالمة، ألا ترى كيف تحرزت في دعائها فقالت: «اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات» فقالت: حتى ينظر، ولم تقل غير ذلك، وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن. وهي أيضًا: لو كظمت غيظها وصبرت لكان ذلك الأولى بها، لكن لما علم الله تعالى صدق حالهما (1) لطف بهما، وأظهر مكانتهما عنده بما أظهر من كرامتهما.
وفائدته: تأكد سعي الولد في إرضاء الأم، واجتناب ما يغير قلبها، واغتنام صالح دعوتها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «الجنة تحت أقدام الأمهات«؛ أي: من انتهى من التواضع لأمه بحيث لا يشق عليه أن يضع قدمها على خده استوجب بذلك الجنة، والأولى في هذا الحديث أن يقال: أنه خرج مخرج المَثَلْ الذي يقصد به الإغياء في المبرة والإكرام، وهو نحو من قوله عليه السلام: «الجنة تحت ظلال السيوف». &(6/417)&$
والمومسات: جمع مومسة، وهي الزانية. =(6/513)=@
وقوله: «يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي» يتمسك به من قال: إن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال (2) ، فلا تحل أم المزني بها، ولا بناتها للزاني، ولا تحل المزني بها لآباء الزاني، ولا لأولاده.وهي رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، وفي الموطأ: أن الزنى لا يحرم حلالاً. ويستدل به أيضًا: أن المخلوقة من ماء الزاني لا تحل للزاني بأمها، وهو المشهور، وقد قال %(4/1322)%
__________
(1) في (ح): «حالها».
(2) قوله: «الحلال» سقط من (ح).(4/1322)
عبد الملك ابن الماجشون: أنها تحل، ووجه التمسك على تينك المسألتين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني، وصدق الله نسبته بما خَرَقَ له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك، فقد صدق الله جريجًا في تلك النسبة وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح لجريج وإظهار كرامته، فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فثبتت البنوة (1) وأحكامها. لا يقال: فيلزم على هذا أن تجري بسببهما أحكام البنوة والأبوة من التوارث، والولايات، وغير ذلك، وقد اتفق المسلمون على: أنه لا توارث بينهما، فلم تصح تلك النسبة؛ لأنَّا نجيب عن ذلك بأن ذلك موجب ما ذكرناه (2) ، وقد ظهر ذلك في الأم من الزنى؛ فإنَّ أحكام البنوة والأمومة جارية عليهما، فما انعقد الإجماع عليه من الأحكام: أنه لا يجري بينهما استثنيناه **استثينناه كما هي مضبوطه بالورق**، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل. وفيها مباحث تستوفى في غير هذا الموضع - إن شاء الله تعالى -. &(6/418)&$
وقوله: «نبني صومعتك من ذهب. قال: لا! إلا من طين كما كانت» يدل =(6/514)=@ على أن: من تعدَّى على جدار أو دار (3) وجب عليه أن يعيده على حالته، إذا انضبطت صفته، وتمكنت مماثلته، ولا تلزم قيمة ما تعدَّى عليه، وقد بوب البخاريُّ على حديث جريج هذا: من هدم حائطًا بنى مثله، وهو تصريح بما ذكرناه، وهو مقتضى قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، فإن تعذرت المماثلة فالمرجع إلى %(4/1323)%
__________
(1) من قوله: «فكانت تلك النسبة ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «ما ذكرنا».
(3) في (ح): «ودار».(4/1323)
القيمة، وهو مذهب الكوفيين والشافعي، وأبي ثور في الحائط، وفي العتبية عن مالك مثله، ومذهب أهل الظاهر في كل متلف هذا.ومشهور مذهب مالك وأصحابه، وجماعة من العلماء: أن فيه وفي سائر المتلفات المضمونات القيمة؛ إلا ما يرجع إلى الكيل والوزن، بناء منهم على أنه: لا تتحقق المماثلة إلا فيهما.
والدابة الفارهة: الحسنة النجيبة، والشارة: الهيئة المزينة (1) التي يشار إليها من =(6/515)=@ حسنها.
وحلقى - غير مصروف -؛ لأنَّ ألفه للتأنيث كسكرى، وهي كلمة جرت في كلامهم مجرى المثل، وأصلها فيمن أصيب حلقها بوجع، وقد تقدَّم: أن عقرى وحلقى: من الكلمات التي جرت على ألسنتهم في معرض الدعاء غير المقصود.
وأمُّ هذا الصبي الرضيع نظرت إلى الصورة الظاهرة فاستحسنت صورة &(6/419)&$ الرجل وهيئته، فدعت لابنها بمثل هذا، واستقبحت صورة الأَمة وحالتها، فدعت ألا يجعل ابنها في مثل حالتها، فأراد الله تعالى بلطفه تنبيهها بأن أنطق لها ابنها الرضيع بما تجب مراعاته من الأحوال الباطنة، %(4/1324)%
__________
(1) في (ح): «المزية».(4/1324)
والصفات القلبية.وهذا كما قال (1) النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وكما قال بعض حكماء الشعراء:
لَيسَ الجمالُ بِمِئْزرٍ = فاعلَم وإن رُدِّيتَ بُردا
إنَّ الجمالَ معادِنٌ = ومنَاقبٌ أَوْرَثنَ مَجدًا
وهذا الصبي ظاهره أن الله تعالى خلق فيه عقلاً وإدراكًا كما يخلقه في الكبار عادة، ففهم كما يفهمون، ويكون خرق العادة في كونه خلق له ذلك قبل أوانه، ويحتمل أن يكون أجرى الله ذلك الكلام على لسانه وهو لا يعقله، كما خلق في الذراع والحصى كلامًا له معنى صحيح، مع مشاهدة تلك الأمور باقية على جمادتها، كل ذلك ممكن، والقدرة صالحة، والله تعالى أعلم بالواقع منهما .=(6/516)=@
فأمَّا عيسى - عليه السلام - فخلق الله له في مهده ما خلق للعقلاء والأنبياء، في حال كمالهم من العقل الكامل، والفهم الثابت، كما شهد له بذلك القرآن.وفي هذا الحديث ما يدلّ على صحة وقوع كرامات الأولياء، وهذا قول جمهور - أهل السنة والعلماء، وقد نُسب لبعض العلماء إنكارها، والظن بهم: أنهم أنكروا (2) أصلها، لتجويز العقل لها، ولما وقع في الكتاب والسنة وأخبار صالحي هذه الأمة مما يدل، على وقوعها، وإنَّما محل الإنكار ادعاء وقوعها ممن ليس موصوفًا بشروطها، ولا هو أهل لها، وادعاء كثرة وقوع ذلك دائمًا متكررًا حتى يلزم عليه أن يرجع خرق العادة عادة، وذلك إبطال لسنة الله، وحسم السبل الموصلة إلى معرفة نبوة أنبياء الله تعالى. =(6/517)=@ &(6/420)&$ %(4/1325)%
__________
(1) في (ح): «قاله».
(2) في ح): «ما أنكروا».(4/1325)
3 - ومن باب: المبالغة في برِّ الوالدين
قوله: «رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه» يقال: بكسر الغين وفتحها، لغتان. رغم (1) : بفتح الراء وكسرها وضمها، ومعناه: لصق بالرَّغام - بفتح الراء -: وهو التراب، وأرغم الله أنفه، أي: ألصقه به، وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم دعاء مؤكد على من قصر في بر أبويه، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون معناه: أصرعه الله لأنفه فأهلكه، وهذا إنما يكون في حق من لم يقم بما يجب عليه من برهما.
وثانيهما: أن يكون معناه (2) : أذله الله؛ لأنَّ من ألصق أنفه - الذي هو أشرف أعضاء الوجه - بالتراب - الذي هو موطئ الأقدام وأخس الأشياء - فقد انتهى من الذل إلى النهاية (3) القصوى، وهذا يصلح أن يدعى به على من فرط في متأكدات المندوبات، ويصلح لمن فرط في الواجبات، وهو الظاهر، وتخصيصه عند الكبر بالذكر - وإن كان برهما واجبًا على كل حال؛ إنما كان ذلك لشدة حاجتهما إليه، ولضعفهما (4) عن القيام بكثير من مصالحهما، وليبادر الولد اغتنام فرصة برهما؛ لئلا تفوته بموتهما، فيندم على ذلك. =(6/518)=@ &(6/421)&$ %(4/1326)%
__________
(1) في (ح): «رغمًا».
(2) من قوله: «أصرعه الله لأنفه...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح): «الغاية».
(4) في (ح): «وضعفهما».(4/1326)
وقوله: «أحدهما أو كليهما» كذا الروايات الصحيحة بنصب أحدهما وكليهما؛ لأنَّه بدل من والديه المنصوب بإدرك، وقد وقع في بعض النسخ: أحدهما أو كلاهما مرفوعين على الابتداء، ويُتكلف لهما إضمار الخبر، والأول أولى.
وقوله: «ثم لم يدخل الجنة» معناه: دخل النار لانحصار منزلتي الناس في ثواب (1) الآخرة بين جنة ونار، كما قال: {فريق في الجنة وفريق في السعير}.
فمن قيل فيه: لم يدخل النار فُهم؛ إنه في الجنة، وبالعكس، أو (2) المذكورة هنا للتقسيم، ومعناه: أن المبالغة في برِّ أحد الأبوين - عند عدم الآخر - يُدخل الولد الجنة، كالمبالغة في برهما معًا، ويعني بهذه المبالغة: المبرة التي تتعين لهما في حياتهما، وقد يتعين لهما أنواع من البر بعد موتهما، كما قد (3) فعل عبد الله بن عمر مع الأعرابي الذي وصله بالعمامة والحمار، ثم ذكر ما سمعه من النبي (4) صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكما روى أبو داود عن أبي أسيد قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم! الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما».ولا خلاف في أن عقوق الوالدين محرم، وكبيرة من الكبائر، وقد دل على ذلك الكتاب في غير موضع وصحيح السنة، كما روى النسائي والبزار من حديث من ابن عمر عن النبي قال: «ثلاثة لا ينظر الله (5) إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، =(6/519)=@ والديوث، والمرأة المترجلة تشبه بالرجال وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، ومنان (6) عطاءه، ومُدمن خمر« (7) . &(6/422)&$ %(4/1327)%
__________
(1) قوله: «ثواب» سقط من (ح).
(2) في (ح): «وأول» بدل «أو».
(3) قوله: «قد» سقط من (ح).
(4) في (ح): «رسول الله».
(5) لفظ الجلالة: مكرر في (ح).
(6) في (ح): «المنان».
(7) في (ح): «الخمر».(4/1327)
وعقوق الوالدين: مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برَّهما: موافقتهما على أغراضهما الجائزة لهما (1) ؛ وعلى هذا إذا أمر أو أحدهما ولدهما بأمرٍ وجبت طاعتهما فيه إذا لم يكن ذلك الأمر معصية وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المبحات في أصله، وكذلك إذا كان من قبيل المندوبات، وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح بصيرة في حق الولد مندوبًا إليه، وأمرهما بالمندوب يزيده تأكيدًا في ندبيته، والصحيح الأول؛ لأن الله تعالى قد قرن طاعتهما، والإحسان إليهما بعبادته وتوحيده فقال: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا =(6/520)=@ إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23]، وقال: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا} [العنكبوت: 8]؛ في غير ما موضع، وكذلك جاءت في السنة أحاديث كثيرة تقتضي لزوم طاعتهما فيما أمرا به، فمنها ما رواه الترمذي عن ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلقها، فأبيت، %(4/1328)%
__________
(1) قوله: «الجائزة لهما» سقط من (ح).(4/1328)
فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عبد الله بن عمر! طلق امرأتك«. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. فإنَّ قيل: فكيف (1) يرتفع حكم الله الأصلي بحكم غيره الطارئ؟ فالجواب: أنه لم يرتفع حكم الله بحكم غيره بل بحكمه، وذلك أنه (2) لما أوجب علينا طاعتهما، والإحسان إليهما، وكان من ذلك امتثال أمرهما؛ وجب ذلك الامتثال ؛ لأنَّه لا يحصل ما أمرنا الله به إلا بذلك الامتثال؛ ولأنهما إن خُولفا في أمرهما حصل العقوق الذي حرمه الله تعالى، فوجب أمرهما على كل حال بإيجاب الله تعالى .&(6/423)&$
4 - ومن باب: البر والإثم
ذكر مسلم في هذا الباب النواس بن سمعان، ونسبه إلى الأنصار، فقال: الأنصاري، والمشهور في نسبه أنه كلابي، إلا أن يكون حليفًا للأنصار، وهو: النواس بن سمعان بن خالد بن عمرو بن قريط بن كلاب، هكذا نسبه الغلَّابي ويحيى بن معين.رواه الترمذي. =(6/521)=@
قلت: هذا كله حكاية أبي عبد الله المازري، والذي ذكره أبو عمر في نسبه أن قال: النواس بن سمعان بن خالد بن عبد الله بن أبي بكر بن ربيعة الكلابي. وبين النسبين زيادة في الأجداد، وتغيير في الأسماء (3) ، فتأمله.
وقوله: «أقمت مع رسول الله في المدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة«: يعني: أنه أقام بالمدينة في صورة العازم على الرجوع إلى الوطن %(4/1329)%
__________
(1) في (ح): «كيف».
(2) في (ح): «لأنه».
(3) قوله: «وتغيير في الأسماء» سقط من (ح).(4/1329)
الذي جاء منه، لا أنه التزم أحكام الهجرة من الاستيطان بها، والكون فيها ساكنا بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا يدلُّ على أن الهجرة ما كانت (1) واجبة على كل من أسلم، وقد تقدم الخلاف في ذلك، وقد بيَّن عذره في كونه لم يلتزم سكنى المدينة، وهو قوله: ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، أي: إلا الأسولة التي كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وإنما كان ذلك لأن المهاجرين والقاطنين بالمدينة كانوا يكلفونه المسائل ؛ لأنَّهم ما كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، ولذلك قال: كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء.وقد تم هذا المعنى أنس ابن مالك حيث &(6/424)&$ قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع. وقد تقدَّم القول في ذلك.وقوله: فسألته عن البر والإثم أي: عما يبر فاعله فيلحق بالأبرار، وهم المطيعون لله تعالى.وعما يأثم فاعله، فيلحق بالآثمين، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بجواب جلي أغناه به عن التفصيل، فقال له: «البر حسن الخلق» يعني: أن حسن الخلق أعظم خصال البر، كما قال: «الحج عرفة» ويعني بحسن الخلق: الإنصاف في المعاملة، والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والبذل، والإحسان .=(6/522)=@
وقوله: «والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس (2) » أي: الشيء الذي يؤثر نفرة وحزازة (3) في القلب. يقال: حاك الشيء في قلبي: إذا رسخ فيه ونبت، ولا يحيك هذا في قلبي، أي: لا يثبت فيه، ولا يستقر.
قال شمر: الكلام الحائك: هو الراسخ في القلب، وإنما أحاله النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الإدراك القلبي، لما علم من جودة فهمه، وحسن قريحته، وتنوير قلبه، وأنه يدرك ذلك من نفسه. وهذا كما قال في الحديث الآخر: «الإثم حزاز القلوب«؛ يعني به القلوب المنشرحة للإسلام، المنورة بالعلم الذي قال فيه مالك: العلم نور يقذفه الله تعالى في القلب، وهذا الجواب لا يصلح لغليظ الطبع قليل الفهم، فإذا سأل عن ذلك من قل فهمه فصلت له الأوامر والنواهي الشرعية.وقد قالت عائشة -رضي الله عنها -: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم. =(6/523)=@ &(6/425)&$ %(4/1330)%
__________
(1) في (ح): «كان».
(2) في (ح): «الناس عليه».
(3) في (ح): «وحرارة».(4/1330)
5 - ومن باب: وجوب صلة الرحم
قوله: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم» خلق هنا: بمعنى اخترع، وأصله: التقدير، كما تقدَّم. والخلق هنا: بمعنى المخلوق، وأصله مصدر، يقال: خلق يخلق خلقًا: إذا (1) قدر، وإذا اخترع.
قال زهير:
ولأَنتَ تَفرِى ما خَلَقتُ = وبعضُ القَومِ يَخلُقُ ثمَّ لا يَفري
أي: تقطع ما قدرت.
وقال الله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان: 11]، أي: مخلوقه.ومعنى فرغ منهم: أي (2) كَمَلَ خلقهم، لا أنه اشتغل بهم، ثم فرغ من شغله بهم، إذ ليس فعله بمباشرة، ولا بمناولة، ولا خلقه بآلة، ولا محاولة، تعالى عما يتوهمه المتوهمون، وسبحانه إذا أراد شيئًا، فإنما يقول له: كن فيكون.
وقوله: «قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة» هذا الكلام من المجاز المستعمل، والاتساع المشهور؛ إذ الرحم عبارة عن قرابات الرجل من جهة طرفي (3) آبائه وإن علوا، وأبنائه وإن نزلوا، وما يتصل بالطرفين من الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، والإخوة (4) والأخوات، ومن يتصل بهم من أولادهم برحم جامعة.والقرابة (5) إذًا نسبة من النسب، كاللأبوة، والأخوة، &(6/426)&$ والعمومة، وما كان كذلك استحال حقيقة القيام والكلام، فيحمل هذا الكلام على التوسع، ويمكن حمله على أحد وجهين :=(6/524)=@ %(4/1331)%
__________
(1) في (ح): «خلق الخلق إذا قدر».
(2) قوله: «أي» سقط من (ح).
(3) في (ح): «طرفيه».
(4) قوله: «والإخوة» سقط من (ح).
(5) في (ح): «فالقرابة».(4/1331)
أحدهما: أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة، فيقول ذلك، وكأنه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها، ويكتب ثواب من وصلها، ووزر من قطعها، كما قد وكل الله بسائر الأعمال كرامًا كاتبين، وبمشاهدة أوقات الصلوات ملائكة متعاقبين.
وثانيهما: أن ذلك على وجه التقدير والتمثيل المفهم للإغياء، وشدَّة الاعتناء، فكأنه قال: لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام، كما قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن (1) على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله (2) } [الحشر: 121].وعلى التقديرين فمقصود هذا الكلام: الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم؛ وأنه تعالى قد نزلها منزلة (3) من قد (4) استجار به فأجاره، وأدخله في ذمته وفي خفارته، وإذا كان الرحم (5) كذلك فجار الله تعالى غير مخذول، وعهده غير منقوض؛ ولذلك قال مخاطبا للرحم: «أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟» وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنَّه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في النار». %(4/1332)%
__________
(1) في (ح): «لو نزلنا هذا الكلام».
(2) زاد بعدها في (ح): «ثم قال: «وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون».
(3) في (ح): «بمنزلة».
(4) قوله: «قد» سقط من (ح).
(5) قوله: «الرحم» سقط من (ح).(4/1332)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا إن شئتم: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} [محمد: 22] عسى: من أفعال المقاربة، ويكون رجاء &(6/427)&$ وتحقيقًا، قال الجوهري؟ عسى من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى: =(6/525)=@ {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن} [التحريم: ه]، وإذا اتصل بعسى ضمير فاعل كان فيها لغتان، فتح السين وكسرها، وقرىء بهما، وظاهر الآية: أنه (1) خطاب لجميع الكفار. قال قتادة: معنى الآية: فلعلكم -أو يخاف عليكم - إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض بسفك الدماء.
قلت: وعلى هذا فتكون الرحم المذكورة هنا رحم دين الإسلام والإيمان التي قد سماها الله تعالى إخوة بقوله: {إنما المؤمنون أخوة} [الحجرات:10]، وقال الفراء: نزلت هذه الآية في بني هاشم وبني أمية.وعلى هذا فتكون رحم القرابة. وعلى هذا فالرحم المحرم قطعها، المأمور بصلتها على وجهين؛ عامة وخاصة. فالعامة: رحم الدين، وتجب مواصلتها بملازمة الإيمان، والمحبة لأهله ونصرتهم (2) ، والنصيحة لهم، وترك مضارتهم، والعدل بينهم، والنصفة في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة كتمريض المرضى (3) ، وحقوق الموتى: من غسلهم، والصلاة عليهم، ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم. وأما الرحم الخاصة: فتجب لهم الحقوق العامة، وزيادة عليها كالنفقة على القرابة القريبة، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد (4) في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بُدِئَ بالأقرب فالأقرب كما تقدَّم. %(4/1333)%
__________
(1) في (ح): «أنها» بدل «أنه».
(2) في (ح): «ونصرهم».
(3) في (ح): يشبه «المرتضى».
(4) في (ح): «ويتأكد».(4/1333)
وقوله: «لا يدخل الجنة قاطع» قال سفيان يعني: قاطع رحم.هذا التفسير =(6/526)=@ صحيح لكثرة مجيء لفظ (1) قاطع في الشرع مضافًا إلى الرحم، فإذا ورد عَرِيًّا عن الإضافة حمل على ذلك الغالب. والكلام في كون القاطع لا يدخل الجنة قد تقدَّم في الإيمان؛ وأنه يصح أن يحمل على المستحل لقطع الرحم، فيكون القاطع كافرًا، أو يخاف أن يفسد قلبه بسبب تلك المعصية فيختم عليه بالكفر، فلا يدخل الجنة، أو لا يدخل الجنة في الوقت الذي يدخلها الواصل لرحمه؛ لأنَّ القاطع يحبس في النار بمعصيته، ثم بعد ذلك يخلص منها بتوحيده، كل ذلك محتمل، والله ورسوله أعلم بعين المقصود. &(6/428)&$
وهذا الحديث يدلّ دلالة واضحة على وجوب صلة الرحم على الجملة، وعلى تحريم قطعها، وأنه كبيرة. ولا خلات فيه. لكن الصلة درجات بعضها أرفع صلة من بعض، فأدناها ترك المهاجرة، وأدنى صلتها بالسلام. كما قال عليه السلام: «صلوا أرحامكم ولو بالسلام» وهذا بحسب القدرة عليها، والحاجة إليها، فمنها ما يتعين ويلزم، ومنها ما يستحب ويرغب فيه، وليس من لم يبلغ أقصى الصِّلات يسمى قاطعًا، ولا من قصر عمَّا ينبغي له، ويقدر عليه يسمى واصلاً.
قال القاضي: وقد اختلف في حد الرحم التي تجب صلتها، فقال بعض أهل العلم: هي كل رحم محرم، وعلى هذا فلا تجب (2) في بني الأعمام وبني الأخوال، وقيل: بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث محرمًا كان، أو غير محرم .=(6/527)=@ %(4/1334)%
__________
(1) في (ح): «لفظة».
(2) في (ح): «لا تجب».(4/1334)
قلت: فيخرج (1) من هذا أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم، ولا يحرم قطعهم، وهذا ليس بصحيح، والصواب ما ذكرناه قبل هذا من التعميم والتقسيم (2) .
وقوله: «من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه» بسط الرزق: سعته وتكثيره والبركة فيه (3) . والنسيء: التأخير، والأثر: الأجل، سمي بذلك ؛ لأنَّه تابع الحياة.ومعنى التأخير هنا في الأجل - وإن كانت الآجال مقدرة في علم الله لا يزاد فيها ولا ينقص -: أنه يبقى بعده ثناء جميل، وذكر جميل، وأجر متكرر، فكأنه لم يمت، وقيل معناه: يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ، والذي في علم الله ثابت لا تبديل له، كما قال تعالى: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد: 139] أصل (4) المكتوب في اللوح المحفوظ، هو (5) علم الله تعالى الذي لا يقبل المحو ولا التغيير، حكي معناه عن عمر في الآية.
وقوله: «إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويُسئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون علي» أحلم - بضم اللام -: أصفح.ويجهلون: يقولون قول الجهال من السب والتقبيح .=(6/528)=@ &(6/429)&$ %(4/1335)%
__________
(1) في (ح): «على» بدل «من».
(2) في (ح): «والتفسير».
(3) قوله: «فيه» سقط من (ح).
(4) في (ح): «أي أصل».
(5) في (ح): «وهو».(4/1335)
وقوله: «لئن كنت كما قلت فكأنما تُسفهم المل» الرواية: بضم تاء تسفهم، وكسر السين، وضم الفاء، أي: تجعلهم يسفونه من السف، وهو شرب كل دواء يؤخذ غير ملتوت، تقول: سففت الدواء وغيره مما يؤخذ غير معجون، وأسففته غيري **غيرى كما بالورق**، أي: جعلته يسفه.والمل: الرماد الحار.يقال: أطعمنا خبز ملة، ومعنى ذلك: أن إحسانك إليهم مع إساءتهم لك، ينزل (1) في قلوبهم منزلة النار المحرقة، لما يجدون من ألم الخزي، والفضيحة، والعار الناشئ في قلب من قابل الإحسان بالإساءة.
وقوله: «ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك» الظهير: المعين، ومعناه: أن الله تعالى يؤيدك بالصبر على جفائهم، وحسن الخلق معهم، ويعليك عليهم في الدنيا والآخرة مدة دوامك (2) على معاملتك لهم بما ذكرت.
وقوله: «إن أعرابيًا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أخذ (3) بخطام ناقته، أو بزمامها» هذا يدلّ على تواضع النبي، وأنه كان لا يصرف الناس بين يديه، ولا يمنع أحد منه، والخطام، والزمام، والمقود كلها بمعنى واحد إن كانت في أصول اشتقاقها مختلفة- فسمي خطامًا من حيث أنه يجعل على الخظم، وهو الأنف، ويسمى: زمامًا ؛ لأنَّه يزئم (4) به، ومقودًا ؛ لأنَّه يقاد به، وهذا شك من الراوي في أي اللفظين قال .=(6/529)=@ %(4/1336)%
__________
(1) في (ح): «يتنزل».
(2) في (ح): «مداومك».
(3) في (ح): «فأخذ».
(4) في (ح): «تزم».(4/1336)
وقوله: فكفَ ثم نظر في أصحابه ثم قال: لقد وفق (1) ، أو لقد هُدِيَ» يعني: أنه كفَّ الناقة عن سيرها، ونظر إلى أصحابه مستحسنًا لهذا السؤال، ومستحضرًا لأفهام أصحابه، ومنوهًا بالسائل، ثم شهد له بالتوفيق والهداية لما ينبغي أن يسأل عنه ؛ لأنَّ مثل هذا السؤال لا يصدر إلا عن قلب منور بالعلم بالله تعالى، وبما يقرب إليه، عازمٌ على العمل بما يُفْتَى به، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بما يتعين عليه في تلك الحال، فقال: تعبد الله لا تشرك به شيئًا، أي: توحده في إلهيته، وتخلص (2) &(6/430)&$ له في عبادته.وتقيم (3) الصلاة، أي: تفعلها على أوقاتها وبأحكامها.وتؤتي الزكاة: أي تعطيها من استحقها على شروطها. وتصل رحمك، أي: تفعل في حقهم ما يكون صلة لهم، وتجتنب ما يكون قطعًا لهم على ما بيناه.ولم يذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الصوم ولا الحج ولا الجهاد؛ لأنَّه لم يكن تعين عليه في تلك الحال شيء سوى ما ذكر له، أو لأن بعض تلك العبادات لم تكن فرضت بعد.والله تعالى أعلم.
وقوله: «إن تمسك بما أمرتُه دخل الجنة» يدلّ على: أن دخول الجنة لا بدَّ فيه من الأعمال، كما قال تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم =(6/530)=@ تعملون} [الزخرف: 72] ومع هذا فلولا فضل الله بالهداية للطرق الموصلة إليها والمعونة على الأخذ فيها وبأن جعل أعمالنا التي لا قيمة لها ولا خطر لها، ولا منفعة له فيها سببا لنيل الجنة؛ لما كنا نصل إلى شيء من ذلك، ولا نستحق ذرة مما هنالك .&(6/431)&$ %(4/1337)%
__________
(1) في (ح): «وافق».
(2) في (ح): «ويخلص».
(3) في (ح): «ويقيم».(4/1337)
6 - ومن باب: النهي عن التحاسد والتدابر
«قوله: لا تباغضوا» أي: لا تتعاطوا أسباب البغض؛ لأنَّ الحب والبغض معان قلبية لا قدرة للإنسان على اكتسابها، ولا يملك التصرف فيها، كما قال عليه السلام: «اللهم هذا قسمي (1) فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني: الحب والبغض.
وقوله: «لا تدابروا» أي: لا تفعلوا فعل المتباغضين اللذين يُدْبِرُ كل واحد منهما عن الآخر، أي: يوليه دُبْرَه فعل المعرض.
وقوله: «ولا تقاطعوا» أي: لا تقاطعه فلا تكلمه، ولا تعامله، وهو معنى: لا تهاجروا، وهي رواية ابن ماهان، وهي: من الهجران، وعن الجلودي: «ولا تهجروا». وعن أبي بحر: «تهجروا» بكسر التاء والهاء والجيم.
قال القاضي :=(6/531)=@ معنى الكلمة: لا تهتجروا، وتكون (2) : تفتعلون (3) : يعني تهاجروا، أو من هجر الكلام: وهو الفحش فيه (4) ، أي: لا تتسابُّوا وتتفاحشوا.
قلت: والرواية الأولى أوضح وأولى. &(6/432)&$
وقوله: «ولا تحاسدوا» أي: لا يحسد بعضكم بعضًا، والحسد في اللغة: أن تتمنى زوال نعمة المحسود وعودها إليك.
يقال: حسده يحسده %(4/1338)%
__________
(1) في (ح): «قسمتي».
(2) في (ح): «ويكون».
(3) في (ح): «بمعنى».
(4) في (ح): «منه» بدل «فيه».(4/1338)
حسودًا. قال الأخفش: وبعضهم يقول: يحسد - بالكسر- والمصدر حسدًا بالتحريك، وحسادة «وحسدتك على الشيء، وحسدتك الشيء: بمعنى واحد. فأمَّا الغبطة فهي أن تتمنى مثل حال المغبوط من غير أن تريد زوالها عنه.تقول منه: غبطته بما نال غبطا وغبطة.وقد يوضع الحسد موضع الغبطة لتقاربهما، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين» أي: لا غبطة أعظم ولا أحق من الغبطة بهاتين الخصلتين.
وقوله: «وكونوا عباد الله إخوانا» أي: كونوا كإخوان النسب في الشفقة، والرحمة، والمودة (1) ، والمواساة، والمعاونة، والنصيحة.
وقوله: «كما أمركم الله» يحتمل أن يريد به هذا الأمر الذي هو قوله: «كونوا إخوان»؛ لأنَّ أمره عليه السلام هو أمر الله، وهو مبلغ له، ويحتمل: أن يريد بذلك قوله تعالى: {إنما المؤمنون أخوة} [الحجرات:110] فإنَّه خبر عن المشروعية التي ينبغي للمؤمنين أن يكونوا عليها، ففيها معنى الأمر.
وقوله: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» دليل خطابه: أن الهجرة دون الثلاث معفو عنها، وسببه: أن البشر (2) لا بد له غالبًا من سوء خلق =(6/532)=@ وغضب، فسامحه الشرع في (3) هذه المدة؛ لأنَّ الغضب فيها لا يكاد الإنسان ينفك عنه، ولأنه لا يمكنه ردُّ الغضب في تلك الحالة غالبًا، وبعد ذلك يضعف (4) فيمكن ردَّه، بل: قد يمحى أثره. &(6/433)&$ %(4/1339)%
__________
(1) في (ح): «والمحبة» بدل «والمودة».
(2) فثي (ح): «البشرى».
(3) في (ح): «الشرع فيه في».
(4) في (ح): «يصغر».(4/1339)
وظاهر هذا الحديث تحريم الهجرة فوق ثلاث، وقد أكد هذا المعنى قوله: «لا هجرة بعد ثلاث»، وكون المتهاجرين لا يغفر لهما حتى يصطلحا.
وقوله عليه السلام: «خيرهما (1) الذي يبدأ صاحبه بالسلام»، يدلُّ على أن مجرد السلام يخرج عن الهجرة وإن لم يكلمه، وهو قول مالك وغيره. وقال أحمد وابن القاسم: إن كان يؤذيه فلا يقطع السلام هجرته.وعندنا: أنه إن اعتزل كلامه لم تقبل شهادته عليه، ومعناه: أن الذي يبادر بقطع الهجرة فيسبق صاحبه بالسلام أحسن خلقًا وأعظم أجرًا. وما ذكرناه من جواز الهجران في الثلاث هو مذهب =(6/533)=@ الجمهور، والمعتبر ثلاث ليال، فإنَّ بدأ بالهجرة في بعض يوم فله أن يلغي ذلك البعض، ويعتبر (2) ليلة ذلك اليوم، فيكون أول الزمان الذي أبيحت فيه الهجرة، ثمَّ بانفصال الليلة الثالثة تحرم على ما قدَّمناه.وهذا الهجران الذي ذكرناه هو الذي يكون عن غضب لأمرٍ جابر. لا تعلق له بالدين، فأما الهجران لأجل المعاصي والبدعة فواجب استصحابه إلى أن يتوب من ذلك ولا يختلف في هذا .%(4/1340)%
__________
(1) في (ح): «وخيرهما».
(2) في (ح): «وتعبير».(4/1340)
7 - ومن باب: النهي من (1) التحسس
قوله: «إياكم والظن؟ فإنَّ الظن أكذب الحديث» الظن هنا هو التهمة، ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة، أو بشرب (2) الخمر ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك.ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله بعد هذا: «ولا تجسَّسوا، ولا تحسَّسوا»؛ وذلك: أنَّه قد يقع له خاطر &(6/434)&$ التهمة ابتداء فيريد أن يتجسس خبر ذلك، ويبحث عنه، ويتبصر، ويستمع (3) ليحقق ما وقع له من تلك التهمة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وقد جاء في بعض الحديث: «إذا ظننت فلا تحقق»، وقال الله تعالى: {وظننتم ظن السوء وكنتم قومًا بورا» [الفتح: 112] وذلك: أن المنافقين تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه حين انصرفوا إلى الحديبية فقالوا: إن محمدًا وأصحابه أكلة رأس، ولن يرجعوا إليكم أبدًا .=(6/534)=@
فذلك ظنهم السيئ الذي (4) وبخهم الله تعالى عليه، وهو من نوع ما نهى الشرع عنه، إلا أنَّه أقبح النوع.فأما الظن الشرعي؛ الذي هو تغليب أحد المجوزين، أو بمعنى اليقين فغير الظن (5) مراد من الحديث، ولا من الآية يقينًا، فلا يلتفت لمن استدل بذلك على إنكار الظن الشرعي، كما قررناه في الأصول. %(4/1341)%
__________
(1) في (ح): «عن» بدل «من».
(2) في (ح): يشبه «شرب».
(3) في (ح): «ويتسمع».
(4) قوله: «الذي» سقط من (ح).
(5) قوله: «الظن» سقط من (ح).(4/1341)
وقد اختلف في التجسس والتحسس، هل هما بمعنى واحد، أو بمعنيين؟ والثاني أشهر. فقيل: هو بالجيم: البحث عن بواطن الأمور، وأكثر ما يكون في الشر، ومنه: الجاسوس، وهو صاحب سرِّ الشَّرِّ. وبالحاء: البحث عما يدرك بالحس؛ بالعين أو بالأذن. وقيل: بالجيم: طلب الشيء لغيرك، وبالحاء: طلبه لنفسك.قاله ثعلب.والأول أعرف.
وقوله: «ولا تنافسوا» أي: لا تتباروا في الحرص (1) على الدنيا وأسبابها. وأما التنافس في الخير فمأمور به، كما قال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 126] أي: في الجنة وثوابها، وكان المنافسة هي الغبطة. وقد أبعد من فسرها بالحسد، لا سيما في هذا الحديث، فإنه قد قرن (2) بينها وبين الحسد! في سياق واحد، فدل على أنهما أمران متغايران .
وقوله: «ولا تناجشوا» قيل فيه: إنه من باب النجش في البيع الذي تقدَّم =(6/535)=@ ذكره في البيوع.وفيه بعد؛ لأنَّ صيغة (تفاعل) أصلها لا تكون إلا من اثنين، فـ(تناجش) لا يكون من واحد، و(النجش) يكون من واحد، فافترقا وإن كان &(6/435)&$ أصلهما (3) واحدًا؛ لأنَّ أصل النجش: الاستخراج والإثارة. تقول: نجشت الصيد، أنجشه، نجشًا: إذا استثرته من مكانه.
وقيل: «لا تناجشوا»: لا ينافر بعضكم بعضًا. أي: لا يعاجله من القول بما ينفره، كما ينفر الصيد (4) ، بل يُسكِّنه ويُؤنسه، كما قال: «سكِّنا ولا تنفرا» وهذا أحسن من الأول، وأولى بمساق الحديث.والله تعالى أعلم. %(4/1342)%
__________
(1) في (ح): يشبه «الخوض».
(2) في (ح): «فرق».
(3) في (ح): «أصلها».
(4) قوله: «الصيد» سقط من (ح).(4/1342)
وقوله: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره»؛ (يظلمه): ينقصه حقه، أو يمنعه إياه. و(يخذله): يتركه لمن يظلمه، ولا ينصره. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلومًا» فقال: كيف أنصره ظالما؟ قال: «تمنعه (1) عن الظلم؛ فذلك نصره». و(يحقره): ينظره (2) بعين الاستصغار والقلة. وهذا إنما يصدر في الغالب عمن غلب عليه الكبر والجهل، وذلك: أنه لا يصح له استصغار غيره حتى ينظر إلى نفسه بعين (3) : أنه أكبر منه وأعظم، وذلك جهل بنفسه، وبحال المحتقر، فقد يكون فيه ما يقتضي عكس ما وقع للمتكبر.
وقوله: «التقوى ها هنا -ويشير بيده إلى صدره -» وقد تقدَّم: أن التقوى مصدر (اتقى): تقاة، وتقوى.وأن الثاء فيه بدل من الواو؛ لأنَّه من الوقاية. والمتقي هو الذي يجعل بينه وبين ما يخافه من المكروه وقاية تقيه منه، ولذلك يقال: اتقى الطعنة بدرقته وبترسه.
ومنه قوله عليه السلام: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو =(6/536)=@ بكلمة طيبة»، أي: اجعلوا هذه الأمور وقاية بينكم وبين النار. وعلى هذا: فالمتقي شرعًا هو الذي يخاف الله تعالى، ويجعل بينه وبين عذابه وقاية من &(6/436)&$ طاعته، وحاجزًا عن مخالفته. فإذًا أصل التقوى: الخوف، والخوف إنما ينشأ عن المعرفة بجلال الله، وعظمته، وعظيم سلطانه (4) ، وعقابه. والخوف والمعرفة محلهما القلب، والقلب محله الصدر، فلذلك أشار صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: «التقوى ها هنا» والله تعالى أعلم.
والتقوى خصلة عظيمة، وحالة شريفة آخذة بمجامع علوم الشريعة وأعمالها، موصلة إلى خير الدنيا والآخرة. والكلام في التقوى وتفاصيلها، %(4/1343)%
__________
(1) في (ح): «تكفه».
(2) في (ح): «تنظره».
(3) في (ح): «يعني».
(4) في (ح): «سطوته».(4/1343)
وأحكامها، وبيان ما يترتب عليها يستدعي تطويلا، قد ذكره أرباب القلوب في كتبهم المطولة: «الرعاية (1) »، و«الإحياء» ** الاحياء بدون همزة قطع كما بالورق **، و«سفينة النجاة»، وغيرها.
وقوله: «بحسب امرئ من الشر أن يَحقُر أخاه المسلم» الباء في (بحسب) احتقار زائدة. وهو بإسكان السين، لا بفتحها، وهو خبر ابتداء مقدم، والمبتدأ: (أن يحقر) تقديره: حسب امرئ من الشر احتقاره أخاه.أي: كافيه من الشر ذلك؛ فإنَّه النصيب الأكبر، والحظ الأوفر. ويفيد: أن احتقار المسلم حرام.
وقوله: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» نظر الله تعالى الذي هو رؤيته للموجودات، وإطلاعه عليها لا يخص =(6/537)=@ نظر موجودًا دون موجود، بل يعم جميع الأشياء، إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. ثمَّ قد جاء في الشرع نظر الله تعالى بمعنى: رحمته للمنظور إليه، وبمعنى: قبول أعماله، ومجازاته عليها. وهذا هو النظر الذي يخص به بعض الأشياء، وينفي عن بعضها، كما قال تعالى:{إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة} [آل عمران: 177] وقد تقدَّم ذلك في كتاب الإيمان.
فقوله هنا: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم» أي: لا يثيبكم عليها، ولا يقربكم منه، ذلك كما قال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} [سبأ: 137] ثم قال: {إلا من آمن وعمل صالحًا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} [سبأ:137]. %(4/1344)%
__________
(1) في (ح): «كالرعاية».(4/1344)
ويستفاد من هذا الحديث فوائد: &(6/437)&$ إحداها: صرف الهمة إلى الاعتناء بأحوال القلب وصفاته، بتحقيق علومه، وتصحيح مقاصده وعزومه، وتطهيره عن مذموم الصفات، واتصافه بمحمودها، فإنَّه لما كان القلب هو محل نظر الله تعالى فحق العالم بقدر اطلاع الله تعالى على قلبه أن يفتش عن صفات قلبه وأحوالها؟ لإمكان أن يكون في قلبه وصف مذموم يمقته الله تعالى بسببه.
الثانية: أن الاعتناء بإصلاح القلب وبصفاته مقدم على الأعمال بالجوارح؛ لتخصيص القلب بالذكر مقدمًا على الأعمال، إنَّما (1) كان ذلك لأن أعمال القلوب هي المصححة للأعمال؛ إذ لا يصح عمل شرفي إلا من مؤمن عالم بمن كلفه، مخلص له فيما يعمله، ثمَّ لا يكمل ذلك إلا بمراقبة الحق فيه، وهو الذي عبَّر عنه بالإحسان، حيث قال: «أن تعبد الله كأنك تراه».
وقد تقدَّم قوله عليه السلام: «إن في =(6/538)=@ الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
الثالثة: أنه لما كانت القلوب هي المصححة للأعمال الظاهرة، وأعمال القلب غيب عنا، فلا يقطع (2) بمغيب أحدٌا لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله تعالى من قلبه وصفًا مذمومًا لا تصح (3) معه تلك الأعمال، ولعل من رأينا عليه تفريطًا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفًا محمودًا ينفر له بسببه، فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية، ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالاً سيئة، بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة.فتدبر هذا ؟ فإنَّه نظر دقيق. &(6/438)&$ %(4/1345)%
__________
(1) في (ح): «وإنما».
(2) في (ح): «نقطع».
(3) في (ح): «لا يصح».(4/1345)
8 - من باب: لا يغفر للمتشاحنين حتى يصطلحا
المتشاحنان: المتباغضان، من الشحناء، وهي: البغضاء. وقد خص الله تعالى هذين اليومين بفتح أبواب الجنة فيهما، وبمغفرة الله تعالى لعباده، =(6/539)=@ وبأنهما تعرض فيهما الأعمال على الله تعالى، كما جاء في الحديث الآخر.
وهذه الذنوب التي تغفر في هذين اليومين هي الصغائر. والله تعالى أعلم.كما تقدم ذلك في قوله عليه السلام: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما (1) بينهن إذا اجتنبت الكبائر»، ومع ذلك فرحمة الله وسعت كل شيء »وفضله يعم كل ميتًا وحي.
ومقصود هذا الحديث التحذير من الإصرار على بغض المسلم ومقاطعته، وتحريم استدامة هجرته ومشاحنته، والأمر بمواصلته، ومكارمته.
و(أنظروا) معناه: أخروا، وكذلك: (اركوا)، قال ابن الأعرابي: يقال: ركا، يركوه: إذا أخر.
وفتح أبواب الجنة في هذين اليومين محمول على ظاهره، ولا ضرورة تحوج إلى تأويله، ويكون فتحها تأهلاً، وانتظارًا من الخزنة لروح من %(4/1346)%
__________
(1) في (ح): «لما» بدل «ما».(4/1346)
يموت في ذينك &(6/439)&$ اليومين ممن غفرت ذنوبه، أو يكون فتحها علامة للملائكة على أن الله تعالى غفر في ذينك اليومين للموحدين، والله تعالى أعلم.
وهو حجَّة لأهل السنة على قولهم: إن الجنة والنار قد خلقتا ووجدتا، خلافًا للمبتدعة؛ الذين قالوا: إنهما لم تخلقا بعد، وستخلقان.
وعرض الأعمال المذكورة إنما هو - والله تعالى أعلم -، =(6/540)=@ لتنقل (1) من صحف الكرام الكاتبين إلى محل آخر، ولعله اللوح المحفوظ. كما قال الله (2) تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} [الجاثية: 129] قال الحسن: إن الخزنة تستنسخ الحفظة من صحائف الأعمال.
وقد يكون هذا العرض في هذين اليومين للأعمال الصالحة مباهاة بصالح أعمال بني آدم على الملائكة، كما يباهي الله الملائكة بأهل عرفة، وقد يكون هذا العرض (3) لتعلم الملائكة المقبول من الأعمال من المردود، كما جاء الحديث (4) الآخر: «إن الملائكة تصعد بصحائف الأعمال، فتعرضها على الله تعالى، فيقول الله تعالى: ردوا (5) هذا واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك يا ربنا ما رأينا إلا خيرًا، فيقول الله تعالى: إن هذا كان لغيري، ولا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي»، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك. %(4/1347)%
__________
(1) في (ح): يشبه «لينقل».
(2) في (ح): «كما قال تعالى».
(3) من قوله: «في هذين اليومين...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): «كما جاء في الحديث».
(5) في (ح): «ضعوا».(4/1347)
9 - ومن باب: ثواب التَّحابب والتزاور في الله تعالى
قوله: «أين المتحابون بجلالي» هذا نداء تنويه وإكرام، ويجوز أن يخرج &(6/440)&$ هذا الكلام مخرج الأمر لمن يحضرهم مكرمين منوها بهم.
و (لجلالي (1) ) روي باللام وبالباء (2) ، ومعناهما متقارب، لأن المقصود بهما هنا: السببية؟ أي: لعظيم حقي وحرمة طاعتي، لا لغرض من أغراض الدنيا .=(6/541)=@
وقوله: «اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» قيل: هذه الإضافة إضافة تشريف وإكرام إذ الظلال كلها ملكه وخلقه.
قلت: وأولى من هذا التأويل: أنه يعني به: ظل العرش، كما قد (3) جاء في رواية أخرى. فيعني - والله تعالى أعلم -: أن في القيامة ظلالاً بحسب الأعمال الصالحة تقي صاحبها من وهج الشمس (4) ، ولفح النار، وأنفاس الخلق، كما قال عليه السلام: «الرجل في ظل صدقته حتى يقض بين الناس»، ولكن ظل العرش أعظم الظلال وأشرفها، فيخص الله به (5) من يشاء من صالح عباده، ومن جملتهم المتحابون لجلال (6) الله.فإنَّ قيل: كيف يقال: في القيامة ظلال بحسب الأعمال؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله»، وهو ظل العرش المذكور في الحديث؛ قلنا: يمكن أن يقال: كل (7) ظل في القيامة إنما هو له؛ لأنَّه بخلقه واختراعه بحسب ما يريده تعالى من إكرام من يخصه به، فعلى هذا يكون كل واحد من هؤلاء السبعة في ظل يخصه، وكلها ظل الله، لا ظل غيره؟ إذ ليس لغيره هنالك ظل، ولا يقدر له على سبب.ويحتمل أن يقال: أنَّه ليس هنالك %(4/1348)%
__________
(1) في (ح): «وبجلالي».
(2) في (ح): «وبالياء».
(3) قوله: «قد» سقط من (ح).
(4) في (ح): «الشهبق».
(5) في (ح): «بها».
(6) في (ح): «بجلال».
(7) في (ح): «يقال إن كل».(4/1348)
إلا ظل واحد، وبه يستظل المؤمنون، لكن لما كان الاستظلال بذلك الظل لا ينال إلا بالأعمال الصالحات نسب لكل عمل ظل، لأنه به وصل إليه.والله تعالى أعلم. وهذا كله بناء على أن الظلال حقيقة لا مجاز، وهو قول جمهور العلماء. وقال =(6/542)=@ عيسى بن دينار: إن معناه: يكنهم من المكاره، ويجعلهم في كنفه وستره، كما يقول (1) : أنا في ظلك.أي: في دراك وسترك. &(6/441)&$
وقوله: «فأرصد الله تعالى على مدرجته» أي: جعل الله ملكًا على طريقه يرصده، أي: يرتقبه، وينتظره ليبشره.والمرصد: موضع الرصد.و(المدرجة) بفتح الميم: موضع الدرج، وهو المشي.
وقوله: «هل لك عليه من نعمة تربها» أي: تقوم بها وتصلحها، فتتعاهده بسببها؟ (فقال: لا، غير أني أحببته في الله) أي: لم أزره لغرض من أغراض الدنيا، ثمَّ أخبر بأنه (2) إنما زاره من أجل أنه أحبه في الله تعالى.
فبشره الملك بأن (3) الله تعالى قد أحبه بسبب ذلك. وقد تقدَّم القول في محبة الله تعالى للعبد، وأن ذلك راجع إلى إكرامه إياه، وبره به. ومحبة الله للطاعة: قبولها، وثوابه عليها.
وفي هذه الأحاديث ما يدلّ: على أن الحب في الله والتزاور فيه من أفضل الأعمال، وأعظم القرب (4) إذا تجرد ذلك عن أغراض الدنيا وأهواء النفوس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب الله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان». =(6/543)=@ &(6/442)&$ %(4/1349)%
__________
(1) في (ح): «تقول».
(2) في (ح): «أخبرنا فيه».
(3) في (ح): «أن».
(4) في (ح): «الموت».(4/1349)
10 - ومن باب: ثواب المرضى وذوي الآفات اذا صبروا
الوَعْكَ: تمريغ الحمى، وهو ساكن العين.يقال: وعكه الحمى، تعكه، وعكًا، فهو موعوك، وأوعكتِ الكلاب الصيد، فهو مُوعَك: إذا مرَّغَته في التراب.والوعكة: السقطة الشديدة في الجري. والوعكة أيضًا: معركة الأبطال في الحروب (1) . و(أجل) بمعنى: نعم.
ومضاعفة المرض على النبي صلى الله عليه وسلم ليضاعف له الأجر (في الآخرة)، وهو كما صلى الله عليه وسلم قال (2) في الحديث الآخر: «أشد (3) الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه».
وفي الحديث الآخر: «نحن معاشر الأنبياء يشتد علينا البلاء، ويعظم لنا الأجر (4) ». و (الوصب): المرض (5) .
يقال =(6/544)=@ منه (6) : وصب الرجل، يوصب، فهو وصيب، وأوصبه الله، فهو موصب.و (النصب): التعب والمشقة.يقال منه (7) : نصب الرجل - بالكسر - ينصب - بالفتح - وأنصبه غيره: إذا أتعبه، فهو منصب، وهو ناصب) أي: ذو نصب. و(السِّقم): المرض الشديد. يقال منه: سقم، يسقم، فهو سقيم. و(الهم): الحزن، والجميع: الهموم، وأهمني الأمر: إذا أقلقني وحزنني، والمهم: الأمر الشديد وهمني المرض: أذاني. &(6/443)&$ %(4/1350)%
__________
(1) في (ح): «الحرب».
(2) في (ح): «كما قال صلى الله عليه وسلم».
(3) قوله: «الناس» سقط من (ح).
(4) من قوله: «نحن معاشر الأنبياء...» إلى هنا سقط من (ح).
(5) في (ح): يشبه «المزمن».
(6) قوله «منه» سقط من (ح).
(7) في (ح): «وهم».(4/1350)
قلت: هذا نقل أهل اللغة، وقد سوُّوا فيه بين الحزن والهم، وعلى هذا =(6/545)=@ فيكون الحزن والهم المذكوران في الحديث مترادفين، ومقصود الحديث ليس كذلك، بل مقصوده: التسوية بين الحزن الشديد (1) ، الذي يكون عن فقد محبوب، والهم الذي يقلق الإنسان ويشتغل به فكره من شيء يخافه أو يكرهه في أن (2) كل واحد منهما يكفر به. كما قد جمع في هذا الحديث نفسه بين الوصب، وهو المرض، وبين السقم، لكن أطلق الوصب على الخفيف منه، والسقم على الشديد، ويرتفع الترادف بهذا القدر. ومقصود هذه الأحاديث: أن الأمراض والأحزان - وإن قلت (3) - والمصائب - وإن قلت - أُجِرَ المؤمن على جميعها، وكفرت عنه بذلك %(4/1351)%
__________
(1) من قوله: «وهمي المرض ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) قوله: «أن» سقط من (ح).
(3) في (ح): «دقت».(4/1351)
خطاياه حتى يمشي على الأرض وليست له خطيئة، كما جاء في الحديث الآخر، لكن هذا كله إذا صبر المصاب واحتسب، وقال ما أمر الله تعالى به في قوله: {الذين (1) إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156] فمن كان كذلك وصل إلى ما وعد (2) الله تعالى به (3) ورسوله من ذلك.
وقوله: «لما نزلت: {ومن (4) يعمل سوءًا يجز به}» [النساء: 23] بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا هذا يدلّ على: أنهم كانوا يتمسكون بالعمومات في العلميات، كما كانوا يتمسكون بها في العمليات (5) . وفيه رد على من توقف في ألفاظ العموم، وأن «من» من ألفاظه، وكذلك النكرة في سياق الشرط، فإنَّهم فهموا =(6/546)=@ عموم الأشخاص من «من» وعموم الأفعال السيئة من «سوء» المذكور في سياق الشرط، وقد أوضحنا ذلك في الأصول، وإنما عظم موقع هذه الآية عليهم ؛ لأنَّ ظاهرها: أن ما من مكلف يصدر عنه شيء كائنًا ما كان إلا جوزي عليه، يوم &(6/444)&$ الجزاء، وأن ذلك لا يغفر، وهذا أمر عظيم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم شدة ذلك عليهم سكنهم وأرشدهم وبشرهم، فقال: «قاربوا وسددوا» أي: قاربوا في أفهامكم وسددوا في أعمالكم، ولا تُقلُّوا (6) ، ولا تُشددوا على أنفسكم، بل بشروا واستبشروا بأن الله تعالى بلطفه قد جعل المصائب التي لا ينفد (7) عنها أحد في هذه الدار سببًا لكفارة %(4/1352)%
__________
(1) في (ح): «والذين».
(2) في (ح): «ما وعده».
(3) قوله: «به» سقط من (ح).
(4) في (ح): «من» بلا واو.
(5) في (ح): «العلميات».
(6) في (ح): «ولا تعلوا».
(7) في (ح): «لا ينفك».(4/1352)
الخطايا والأوزار، حتى يرد عليه المؤمن يوم القيامة وقد خصه من تلك الأكدار، وطهره من أذى تلك الأقذار، فضلا من الله تعالى ونعمة، ولطفًا ورحمة.
وقوله: «حتى الهم يهمه (1) » يجوز في الهم الخفض على العطف على لفظ ما قبله، والرفع على موضعه؛ فإنَّ «من» زائدة، ويجوز رفعه على الابتداء وما بعده خبره .
فأمَّا قوله: «حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها» فيجوز فيه الوجهان، كذلك قيدهما المحققون، غير أن رفع الشوكة لا يجوز إلا على الابتداء خاصة؛ لأنَّ ما قبلها لا موضع رفع له فتأمله، وقيده القاضي: يهمه بضم الياء وفتح الهاء على ما لم يسم فاعله، وكذا (2) وجدته مقيدًا بخط شيخي أبي الصبر أيوب، والذي أذكر أني قرأت به على من أثق به؛ يهمه -بفتح الياء وضم الهاء مبنيًا للفاعل-، ووجهه واضح إذ معناه: حتى الهم يصيبه، أو يطرأ عليه. والنكبة بالباء: العثرة والسقطة، وينكبها - بضم الياء وفتح الكاف -: مبنيًا للمفعول. =(6/547)=@
وقوله: «مالك يا أم السائب! تزفزفين» جميع رواة مسلم روى هذه &(6/445)&$ الكلمة بالزاي (3) والفاء فيهما، ويقال بضم التاء وفتحها من الزفزفة، وهي صوت خفيف الريح. يقال: زفزفت (4) الريح الحشيش: أي حركته، وزفزف النعام في طيرانه: أي: حرك جناحيه، وقد رواه بعض الرواة بالقاف والراء، قال أبو مروان بن سراج: يقال: بالقاف وبالفاء بمعنى واحد، بمعنى تَزعُدين.
قلت: ورواية الفاء أعرف رواية، وأصح معنى وذلك أن الحمَّى تكون معها (5) حركة ضعيفة، وحس وصوت (6) يشبه الزفزفة التي هي حركة الريح وصوتها في الشجر. وقالوا: ريح زَفْزافة وزَفْزَفٌ (7) . وأما الرقرقة بالراء والقاف: فهي التلألؤ واللمعان. ومنه: رقراق السَّراب، ورقراق الماء: ما ظهر من لمعانه، غير أنه لا يظهر لمعانه إلا إذا تحرك وجاء وذهب، فلهذا %(4/1353)%
__________
(1) في (ح): «يهمه».
(2) في (ح): «وكذلك» بدل «وكذا».
(3) في (ح): «بالزا».
(4) في (ح): «زفزف».
(5) في (ح): «معهما».
(6) في (ح): «صوت» بلا واو.
(7) في (ح): «زفزا أو زفزف».(4/1353)
حسن أن يقال: مكان الرقراقة (1) ، لكن تفارق الزفزفة الرقرقة بأن الزفزفة معها صوت، وليس ذلك مع الرقرقة، فانفصلا.
وقوله: «لا تسبي الحمى» مع أنها لم تصرح بسب (2) الحمى، وإنما دعت عليها بألا يبارك فيها، غير أن مثل هذا الدعاء تضمن تنقيص المدعو عليه وذمه، فصار ذلك كالتصريح بالذم والسب، ففيه ما يدلّ على أن التعريض والتضمين كالتصريح في الدلالة، فيحدُّ كل من يفهم عنه القذف من لفظه، له إن لم يصرح به، وهو مذهب مالك كما تقدَّم. &(6/446)&$
وقوله: «فإنَّها تذهب خطايا بني آدم» هذا تعليل لمنع سب الحمى لما =(6/548)=@ يكون عنها من الثواب، فيتعدى ذلك لكل مشقة، أو شدة يرتجى عليها ثواب، فلا ينبغي أن يذم شيء من ذلك، ولا يسب. وحكمة ذلك: أن سب ذلك إنما يصدر في الغالب عن الضجر، وضعف الصبر، أو عدمه، وربما يفضي بصاحبه إلى السخط (3) المحرم، مع أنه لا يفيد ذلك فائدة، ولا يخفف ألمًا. وقوله للمرأة التي كانت تصرع: «إن شئت صبرت ولك الجنة» يشهد لما قلناه من أن الأجور على الأمراض، والمصائب لا تحصل إلا لمن صبر واحتسب. %(4/1354)%
__________
(1) في (ح): «الرقرقة».
(2) في (ح): «لسبب».
(3) في (ح): «التسخط».(4/1354)
11 - ومن باب: الترغيب في عيادة المرضى
قوله: «لم يزل في خرفة الجنة»، هو بضم الخاء المعجمة وسكون الراء، =(6/549)=@ وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بما هو المعروف في اللغة فقال: هو جناها، أي: ما يجتنى منها.وفي (1) الصحاح: الخُرفة - بالضم -: ما يجتنى من الفواكه، ويقال: التمر خرفة الصائم.وأما رواية من رواها مخرفة بفتح الميم وسكون الخاء، وفتح الراء؛ فهو &(6/447)&$ البستان. والمخرفة والمخرف: الطريق، ومنه قول عمر- رضي الله عنه -: تركتم على مخرفة النعم. أما (2) المخرف والمخرفة - بكسر الميم -: فهو الوعاء الذي يجتنى فيه التمر. ومعنى هذا الحديث، أن عاند المريض بما يناله من أجر العيادة وثوابها الموصل إلى الجنة كأنه يجتني ثمرات الجنة، أو كأنه في مخرف الجنة، أي: في طريقها الموصل إلى الاختراف.وسمي الخريف بذلك؛ لأنَّه فضل تخترف فيه (3) الثمار. %(4/1355)%
__________
(1) في (ح): «في» بلا واو.
(2) في (ح): يشبه «وأما».
(3) في (ح): «معه» بدل «فيه».(4/1355)
وعيادة المريض (1) من أعمال الطاعات الكثيرة الثواب، العظيمة الأجر، كما دلت عليه هذه الأحاديث وغيرها. وهي من فروض الكفايات، إذا منع المرض (2) من التصرف ؛ لأنَّ المريض لو لم يعد جملة لضاع وهلك، ولا سيما إن كان غريبا أو ضعيفا. وأما من كان له أهل فيجب تمريضه على من تجب عليه نفقته، فأمَّا من لا يجب ذلك عليه، فمن قام به منهم سقط عن الباقين. والعيادة: مصدر عاد يعود عودا، وعيادة، وعيادًا، ضمير أنه قد خصت العيادة بالرجوع إلى المرضى والتكرار إليهم. =(6/550)=@
وقوله تعالى: «يا بن آدم مرضت فلم تعدني، واستطعمتك فلم تطعمني، واستسقيتك فلم تسقني»: تنزل في الخطاب، ولطفٌ في العتاب، ومقتضاه التعريف بعظيم فضل ذي الجلال، وبمقادير ثواب هذه الأعمال. ويستفاد منه أن الإحسان للعبيد إحسان للسادة، فينبغي لهم أن يعرفوا ذلك، وأن يقوموا بحق. =(6/551)=@ &(6/448)&$ %(4/1356)%
__________
(1) في (ح): «المرضى».
(2) في (ح): «الفرض».(4/1356)
12 - ومن باب: تحريم الظلم
قوله تعالى: «إني حرمت الظلم على نفسي» أي: لا ينبغي لي، ولا يجوز علي، كما قال سبحانه وتعالى: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} [مريم: 92].وقد اتفق العقلاء على أن الظلم على الله تعالى محال، وإنما اختلفوا في الطريق، فالقائلون بالتقبيح والتحسين عقلًا يقولون: يستحيل عليه لقبحه، ومن لا يقول بذلك يقولون: يستحيل عليه لاستحالة شرطه في حقه تعالى، وذلك: أن الظلم إنما يتصور في حق من حدث (1) له حدود، ورسمت له مراسم، فمن (2) تعداها كان ظالما، والله تعالى هو الذي حد الحدود (3) ورسم الرسوم (4) ؛ إذ لا حاكم فوقه، ولا حاجز عليه، فلا يجب عليه حكم، ولا يترتب عليه حق، فلا يتصور الظلم (5) في حقه.
واستيفاء المباحث في علم الكلام.
وقوله (6) : «وجعلته بينكم محرمًا» أي: حكمت بتحريمه عليكم، وألزمته إياكم. &(6/449)&$
وقوله: «فلا تظالموا» أي: لا يظلم بعضكم بعضًا، وأصله: تتظالموا، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا.
وقوله: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته» قيل في معناه قولان: %(4/1357)%
__________
(1) في (ح): يشبه «حدت».
(2) في (ح): «فمتى».
(3) في (ح): «المحدود».
(4) في (ح): «المرسوم».
(5) في (ح): «للظلم».
(6) في (ح): «وقوله».(4/1357)
أحدهما: أنهم لو تركوا مع العادات، وما تقتضيه الطباع من الميل إلى الرَّاحات، وإهمال النظر المؤدي إلى المعرفة لغلبت عليهم العادات والطباع فضلوا =(6/552)=@ عن الحق، فهذا هو الضلال المعني، لكن من أراد الله تعالى توفيقه ألهمه إلى إعمال الفكر المؤدي إلى معرفة الله تعالى، أو معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وأعانه على الوصول إلى ذلك، وعلى العمل بمقتضاه، وهذا هو الهدى الذي أمرنا الله التي أ مرنا بسؤاله (1) .
وثانيهما: أن الضلال ها هنا يعني به: الحال التي كانوا عليها قبل إرسال الرسل من: الشرك، والكفر، والجهالات، وغير ذلك، كما قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} [البقرة: 213] أي: على حالة واحدة من الضلال والجهل، فأرسل الله الرسل ليزيلوا عنهم ما كانوا عليه من الضلال، ويبينوا لهم مراد الحق منهم في حالهم، ومآل أمرهم، فمن نئهه (2) الحق سبحانه وتعالى، وبضره، وأعانه فهو المهتدي، ومن لم يفعل الله به ذلك بقي على ذلك الضلال.وعلى كل واحد من التأويلين فلا معارضة بين قوله تعالى: «كلكم ضال إلا من هديته». وبين قوله: «كل مولود يولد على الفطرة»؛ لأنَّ هذا الضلال المقصود في هذا الحديث هو الطارئ على الفطرة الأولى المغير لها، الذي نبه النبي صلى الله عليه وسلم بالتمثيل في بقية الخبر حيث قال: «كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء». وبقوله: «خلق الله الخلق على معرفته فاجتالتهم الشياطين«.
وهذا الحديث &(6/450)&$ حجَّة لأهل الحق على قولهم: إن الهدى والضلال خلقه وفعله يختص بما شاء =(6/553)=@ منهما من شاء من خلقه، وأن ذلك لا يقدر عليه إلا %(4/1358)%
__________
(1) من قوله: «أو معرفة الرسول...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): يشبه «نبهه».(4/1358)
هو، كما قال تعالى: {كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء}[المدثر: 31]، وكما قال: {وما كنا لنهتدي لولا أن هدنا الله}[الأعراف:43] ، وكما قال: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} [الإنسان:130].وقد نطق الكتاب بما لا يبقى معه ريب لذي فهم سليم بقوله: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}[يونس :125]، فعم (1) الدعوة، وخص بالهداية من سبقت له العناية.واستيفاء الكلام في علم الكلام.وحاصل قوله: «كلكم ضال إلا من هديته، وكلكم جائع، وكلكم عار»؛ التنبيه على فقرنا وعجزنا عن جلب منافعنا» ودفع مضارنا بأنفسنا، إلا أن ييسر، ذلك لنا؛ بأن يخلق ذلك لنا، ويُعيننا عليه، ويصرف عنا ما يضرنا.
وهو تنبيه **تنبية كذا في الورق ** على معنى قوله: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، ومع ذلك فقال في آخر الحديث: «يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا %(4/1359)%
__________
(1) في (ح): «فعمم».(4/1359)
يلومن إلا نفسه» تنبيهًا على أن عدم الاستقلال بإيجاد الأعمال لا يناقض خطاب التكليف بها، إقداما عليها، وإحجاما عنها، فنحن – وإن =(6/554)=@ كنا نعلم أنا لا نستقل بأفعالنا- نحس بوجدان الفرق بين الحركة الضرورية والاختيارية، وتلك التفرقة راجعا؛ إلى تمكن محسوس، وتأت معتاد يوجد مع الاختيارية، ويفقد مع الضرورية، وذلك هو المعبر عنه بالكسب، وهو مورد التكليف، فلا تناقض ولا تعنيف .&(6/451)&$
وقوله: «ما نقص ذلك (1) مِمَّا عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» المخيط: الإبرة.والخائط: الخيط. ومنه قوله: «أدوا الخياط والمخيط». وهذا مثل قصد به التقريب للأفهام بما تشاهده؛ فإنَّ ماء البحر من أعظم المرئيات وأكبرها، وغمس الإبرة فيه لا يؤثر فيه، فضرب ذلك مثلا لخزائن رحمة الله تعالى وفضله؛ فإنَّها لا تنحصر ولا تتناهى، وأن ما أعطى منها من أول خلق المخلوقات، وما يغطي منها إلى يوم القيامة لا ينقص منها شيئا، وهذا نحو قوله عليه السلام في الحديث الآخر: «يمين الله ملأى سخاء (2) الليل والنهار، لا يغيضها =(6/555)=@ شيء، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، لم يغض ما في يمينه» وسر ذلك أن قدرته صالحة للإيجاد دائمًا، لا يجوز عليها العجز والقصور (3) ، والممكنات لا تنحصر، ولا تتناهى، فما وجد منها لا ينقص شيئًا منها، وبسط الكلام على هذه الأصول في علم الكلام %(4/1360)%
__________
(1) قوله: «ذلك» سقط من (ح).
(2) قوله: «سخاء» مطموس في (ح).
(3) في (ح): «ولا القصور».(4/1360)
- وقوله: «اتقوا الظلم؛ فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة» ظاهره: أن الظالم يعاتب يوم القيامة؛ بأن يكون في ظلمات متوالية يوم يكون المؤمنون في نور يسعى بين أيديهم، وبأيمانهم حين { يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} فيقال لهم: {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا} الحديد: 13. وقيل: إن معنى الظلمات هنا: الشدائد والأهوال التي يكونون فيها، كما &(6/452)&$ فسر بذلك قوله: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} الأنعام: 163 أي: من شدائدهما، وآفاتهما.والأول أظهر. =(6/556)=@
وقوله: «واتقوا الشح؛ فإنَّ الشح أهلك من كان قبلكم» الشح: الحرص على تحصيل ما ليس عندك، والبخل: الامتناع من إخراج ما حصل عندك. وقيل: إن الشح هو البخل مع حرص.يقال منه: شحت (1) بالكسر يشحُّ، أو شحت (2) - بالفتح – يشح (3) ورجل شحيح، وقوم شحاح وأشحَّاء. %(4/1361)%
__________
(1) في (ح): «شححت».
(2) في (ح): «شححت».
(3) في (ح): «تشح».(4/1361)
وقوله: «حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» هذا هو الهلاك الذي حمل عليه الشح ؛ لأنَّهم لما فعلوا ذلك أتلفوا دنياهم وأخراهم، وهذا كما قال في الحديث الآخر: «إياكم والشح؛ فإنَّه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» أي: حملهم على ذلك.
وقوله: «إن الله يملي للظالم حتى إذا أخبره لم يفلته» يملي: يطيل في مدته، ويصح (1) ، ويكثر ماله وولده ليكثر ظلمه، كما قال تعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرا لأنفسهم (2) إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} آل عمران: 178 وهذا كما فعل الله تعالى بالظلمة من الأمم السالفة، والقرون الخالية، حتى إذا عم ظلمهم وتكامل جرمهم أخذهم الله أخذة (3) رابية، فلا ترى لهم من باقية، وذلك سنة الله تعالى في كل جبار عنيد، ولذلك قال (4) : =(6/557)=@ {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}هود: 102.
وقوله: «من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة **القيامه كما بالورق**» هذا حض على ستر من ستر نفسه، ولم تدع الحاجة الدينية إلى كشفه، فأمَّا من اشتهر بالمعاصي، ولم يبال بفعلها، ولم ينته عما نهى عنه (5) ، فواجب رقعه للإمام، وتنكيله، وإشهاره للأنام ليرتدع بذلك أمثاله، وكذلك من تدعو الحاجة إلى ** الى كما بالورق ** كشف حالهم من &(6/453)&$ الشهود والمجروحين (6) ، فيجب أن يكشف منهم ما يقتضي تجريحهم، ويحرم سترهم مخافة تغيير الشرع، وإبطال الحقوق. %(4/1362)%
__________
(1) في (ح): «ويصح جسمه».
(2) من قوله: «ولا يحسبن الذين ...» إلى هنا ليس في (ح).
(3) في (ح): «أخذهم أخذة».
(4) قوله: «ولذلك قال» سقط من (ح).
(5) قوله: «عنه» سقط من (ح).
(6) في (ح): «والمحدثين».(4/1362)
ومن باب: الأخذ على بد الظالم ونصر المظلوم
قوله: «كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار» في الصحاح: =(6/558)=@ الكسع: أن تضرب دبر الإنسان بيدك، أو بصدر قدمك، يقال: اتبع فلان أدبارهم يكسعهم بالسيف، مثل: يكسؤهم، أي: يطردهم، ومنه قول الشاعر: &(6/454)&$
كَسِعَ الشِّتاءُ بسبعةٍ غُبْرِ = ...... .. ........
ووردت الخيل يكسع (1) بعضها بعضًا.
وقوله: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» هذا من الكلام البليغ الوجيز؛ الذي قل من ينسج على منواله، أو يأتي بمثاله، و(أو) فيه للتنويع والتقسيم، وإنما سمي رد الظالم نصرًا؛ لأنَّ النصر هو العون.ومنه قالوا: أرض منصورة، أي: معانة بالمطر، ومنع الظالم من الظلم عون له على مصلحة نفسه، وعلى الرجوع إلى الحق، فكان أولى بأن يسمى نصرًا. %(4/1363)%
__________
(1) في (ح): «تكسع».(4/1363)
ودعوى الجاهلية: تناديهم (1) عند الغضب، والاستنجاد: يا آل فلان! يا (2) بني =(6/559)=@ فلان! وهي التي عنى بقوله: «دعوها فإنَّها منتنة»، أي: مستخبثة، قبيحة؛ لأنَّها تثير التعصب على غير الحق، والتقاتل على الباطل، ثم إنها تجر إلى النار، كما قال: «من دعا بدعوى الجاهلية فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار». وقد أبدل =(6/560)=@ الله من دعوى الجاهلية دعوى المسلمين، فينادى: يا للمسلمين (3) ! كما قال عليه السلام: &(6/455)&$ «فادعوا بدعوى الله الذي (4) سماكم المسلمين». وكما نادى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين طعن: يا لله! يا للمسلمين! فاذا دعا بها المسلم وجبت إجابته، والكشف عن أمره على %(4/1364)%
__________
(1) في (ح): «هي تناديهم».
(2) في (ح): «ويا».
(3) في (ح): «ياك المسلمين» كذا رسمت.
(4) في (ح): «التي».(4/1364)
كل من سمعه؛ فإنَّ ظهر أنه مظلوم نصر بكل وجه ممكن شرع (1) ! لأنه إنما دعا للمسلمين لينصروه على الحق.وإن كان ظالما كف عن الظلم بالملاطفة والرفق، فإنَّ نفع ذلك، وإلا أخذ على يده، وكف عن ظلمه؛ فإنَّ الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه: أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، ثم يدعونه فلا يستجاب لهم .
وقوله عليه السلام لعمر حين قال: «دعني أضرب عنق هذا المنافق» (لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» دليل على: أن المنافقين الذين علم نفاقهم في =(6/561)=@ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مستحقين للقتل، لكن امتنع النبي من ذلك؛ لئلا يكون قتلهم منفرًا لغيرهم عن الدخول في الإسلام ؛ لأنَّ العرب كانوا أهل أنفة وكبر بحيث لو قتل النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء المنافقين (2) لنفر من بعد عنهم، فيمتنع من الدخول في الدين، وقالوا: هو يقتل أصحابه، ولغضب من قرب من هؤلاء المنافقين، فتهيج الحروب وتكثر الفتن، ويمتنع من الدخول في الدين، وهو نقيض &(6/456)&$ المقصود، فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، ورفق بهم، وصبر على جفائهم وآذاهم، وأحسن إليهم حتى انشرح صدر من أراد الله تعالى هدايته، فرسخ في قلبه الإيمان، وتبين له الحق اليقين.وهلك عن بينة من أراد الله هلاكه (3) ، وكان (4) من الخاسرين.ثم أقام النبي صلى الله عليه وسلم %(4/1365)%
__________
(1) في (ح): «شرعي».
(2) من قوله: «لنفر من بعد عنهم ...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح): «من أراد الله تعالى هلاكه».
(4) في (ح): «فكان».(4/1365)
مستصحبًا لذلك إلى أن توفاه الله تعالى، فذهب النفاق وحكمه ؛ لأنَّه ارتفع مسماه واسمه.
ولذلك قال مالك: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة عندنا اليوم، ويظهر من مذهبه: أن ذلك الحكم منسوخ بقوله تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض...} إلى قوله تعالى: {وقتلوا تقتيلا} الأحزاب: 60 - 161، وبقوله: {جاهد الكفار والمنافقين}التوبة: 173، فقد سوى بينهما في الأمر بالجهاد، وجهاد الكفار: قتالهم وقتلهم، فليكن جهاد المنافقين (1) كذلك. وفي الآيتين مباحث ليس هذا موضعها، وقد ذهب غير واحد من أئمتنا إلى أن المنافقين يعفى عنهم ما لم يظهروا نفاقهم؛ فإنَّ أظهروه قتلوا، وهذا أيضًا يخالف (2) ما جرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ منهم من أظهر نفاقه، واشتهر عنه حتى عرف به، والله أعلم بنفاقه (3) ، ومع ذلك لم (4) يقتلوا لما ذكرناه، والله تعالى أعلم. =(6/562)=@
وقد صح من هذا الحديث إبطال قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين؛ لأنَّه (5) لم تقم بينة معتبرة بنفاقهم؛ إذ قد نص فيه على المانع من ذلك، وهو غير ما قالوه.وفيه ما يدلّ على أن أهون الشرين يجوز العمل على مقتضاه إذا اندفع به الشر الأعظم. وفيه دليل: على القول بصحة الذرائع، وعلى تعليل نفي الأحكام في بعض الصور بمناسب لذلك الشر (6) .
قوله (7) : «أتدرون ما المفلس؟» كذا صحت الرواية بـ (ما) فقد وقعت (8) هنا على من يعقل، وأصلها لما لا يعقل.والمفلس: اسم فاعل من أفلس إذا صار مفلسًا، أي: افتقر، وكأنه صارت دراهمه فلوسا، كما يقال: أجبن الرجل: إذا صار أصحابه جاء، وأقطف: إذا صارت دابته %(4/1366)%
__________
(1) من قوله: «فقد سوى بينهما...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «بخلاف».
(3) في (ح): «وأعلم الله بنفاقه».
(4) في (ح): «فلم».
(5) في (ح): «لأنهم».
(6) في (ح): «النفي».
(7) في (ح): «وقوله».
(8) في (ح): «وضعت».(4/1366)
قطوفًا، ويجوز أن يراد به: إنه &(6/457)&$ صار حال (1) الرجل يقال فيه: ليس معه فلس، كما يقال: أقهر الرجل: إذا صار إلى حال يقهر عليها، وأذل الرجل: إذا صار إلى حال يذل فيها، وقد فلسه القاضي تفليسا: نادى عليه: أنه أفلس.
وقوله: «المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ...» الحديث أي: هذا أحق باسم المفلس؛ إذ تؤخذ منه أعماله التي تعب في تصحيحها بشروطها حتى قبلت منه، فلما كان وقت (2) فقره إليها أخذت منه، ثم طرح في النار. فلا إفلاس أعظم من هذا، ولا أخسر صفقة ممن هذه حاله، ففيه ما يدلّ على وجوب السعي في التخلي (3) من حقوق الناس في الدنيا بكل ممكن، والاجتهاد في ذلك، فإنَّ لم يجد إلى ذلك سبيلاً، فالإكثار من الأعمال الصالحة، فلعله بعد أخذ ما عليه تبقى له بقية راجحة، والمرجو من كرم الكريم لمن صحت في الأداء نيته، وعجزت عن ذلك قدرته أن يرضي الله تعالى عنه خصومه فيغفر للمطالب والمطلوب، ويوصلهم إلى أفضل محبوب، وقد تقدَّم ذكر من قال: إن الصوم =(6/563)=@ لا يؤخذ مما عليه من الحقوق، وبينا (4) ما يرد عليه وبماذا ينفصل عنه.
وقوله: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة» هذا جواب قسم محذوف، كأنه قال: والله لتؤدن.والحقوق (5) : جمع حق، وهو ما يحق على الإنسان أن يؤديه، وهو يعم حقوق الأبدان، والأموال، والأعراض، وصغير ذلك، وكبيره.كما قال تعالى: {يقولون (6) يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} الكهف: 49، وكما قال: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} الأنبياء: 147. %(4/1367)%
__________
(1) في (ح): «إلى حال».
(2) في (ح): «في وقت».
(3) في (ح): «التخلص».
(4) في (ح): «وقد بينا».
(5) في (ح): «الحقوق» بلا واو.
(6) في (ح): «وقالوا».(4/1367)
وقوله: «حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» والجلحاء: هي التي لا قرون لها.وكبش أجلح، وشاة جلحاء.ويقاد: من القود، أي: القصاص. وقد حكي: أن أبا هريرة - رضي الله عنه - حمل هذا الحديث على ظاهره، فقال: يؤتى بالبهائم فيقال لها: كوني ترابا، وذلك بعد ما يقاد للجماء من القرناء، {يقول الكافر يا ليتني كنت (1) ترابا} النبأ: 40. وقد قيل في معنى الحديث: إن المقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص، والإغياء فيه حتى يفهم &(6/458)&$ منه: أنه لا بد لكل أحد منه، وأنه لا محيص له عنه، ويتأكد (2) هذا بما جاء في هذا الحديث عن بعض رواته من الزيادة، فقال: «حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لم (3) ركب على الحجر؛ وعلى العود (4) : خدش العود» فظهر من هذا: أن المقصود منه التمثيل المفيد للإغياء والتهويل ؛ لأنَّ الجمادات لا يعقل خطابها، ولا ثوابها، ولا عقابها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء، ومتخيله من جملة المعتوهين الأغبياء، ونظير هذا التمثيل قوله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال...} الرعد: 31، وقوله: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل...} الآية الحشر: 21، فتدبر وجه التنظير، والله بحقائق الأمور عليم خبير. =(6/564)=@ %(4/1368)%
__________
(1) في (ح): «كنا».
(2) في (ح): «ويتأيد».
(3) في (ح): «والحجر لما».
(4) في (ح): «الحجر وللعود».(4/1368)
16 - ومن باب: مثل المؤمنين
قوله عليه السلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» تمثيل يفيد الحض على معونة المؤمن للمؤمن ونصرته، وأن ذلك أمر متأكد لابد منه، فإنَّ البناء». لا يتم أمره، ولا تحصل فائدته إلا بأن يكون بعضه يمسك بعضا، ويقويه، فإنَّ لم يكن كذلك انحلت أجزاؤه، وخرب بناؤه (1) . وكذلك المؤمن لا يستقل بأمور دنياه &(6/459)&$ ودينه إلا بمعونة أخيه، ومعاضدته، ومناصرته، فإنَّ لم يكن ذلك عجز عن القيام بكل مصالحه، وعن مقاومة مضادَّه (2) ، فحينئذ لا يتم له نظام دنيا ولا دين، ويلتحق (3) بالهالكين.
وقوله: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد...»الحديث هكذا صحيح الرواية في توادهم، ومعناه واضح، وقد وقع في رواية: توادهم بغير (في) ويصح ذلك، ويكون محفوظا على أنه بدل الاشتمال من المؤمنين. والتواد مصدر توادد يتوادد تواددًا (4) وتوادا إذا أدغمت، ومقصود هذا التمثيل: الحض على ما يتعين من محبة (5) المؤمن، ونصيحته، والتهم بأمره. =(6/565)=@ %(4/1369)%
__________
(1) في (ح): «بناه» كذا رسمت.
(2) في (ح): «مضاده» كذا رسمت.
(3) في (ح): «ويلحق».
(4) في (ح): «تواد يتواددًا يتوادد».
(5) في (ح): «محبته».(4/1369)
(17) ومن باب: تحريم السباب والغيبة
قوله: «المستبان ما قالا، فعلى الأول ما لم يعتد المظلوم» المستبان: تثنية مستب من السب؛ وهو الشتم والذم، وما مرفوعان بالابتداء، و(ما) موصولة، وهي في موضع رفع بالابتداء أيضًا، وصلتها قالا، والعائد محذوف تقديره: قالاه، و(على الأول) خبر ما، ودخلت الفاء على الخبر لما تضمنه الاسم الموصول &(6/460)&$ من معنى الشرط، نحو قوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} النحل: 53، وما خبرها (1) : خبر المبتدأ الأول الذي هو المستبان.ومعنى الكلام: أن المبتدئ بالسب هو المختص بإثم السب ؛ لأنَّه ظالم به إذ هو مبتدئ من غير سبب ولا استحقاق، والثاني منتصر فلا إثم عليه، ولا جناح، لقوله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (2) } =(6/566)=@ لكنه عائد إلى الجاني الأول ؛ لأنَّه هو الذي أحوج المنتصر إليه وتستب فيه، فيرجع إثمه عليه، ويسلم المنتصر من الإثم؛ لأنَّ الشرع قد رفع عنه الإثم والمؤاخذة، لكن ما لم يكن من المنتصر عدوان إلى ما لا يجوز له، كما قال: «ما لم يعتد المظلوم» أي: ما لم يجاوز ما سب به إلى غيره؛ إما بزيادة سب آخر أو بتكرار مثل ذلك السب، وذلك أن المباح في الانتصار: أن يرد مثل ما قال (3) الجاني، أو يقاربه (4) ؛ لأنَّه قصاص، فلو قال له: يا كلب - مثلاً - فالانتصار أن يرد عليه بقوله (5) : %(4/1370)%
__________
(1) في (ح): «وخبرها».
(2) زاد بعدها في (ح): «لكن السبب المنتصر به وإن كان مباحا للمنتصر فعليه إثم من حيث هو سبب».
(3) في (ح): «قاله».
(4) في (ح): «مقاربه».
(5) في (ح): «مثل قوله» بدل «بقوله».(4/1370)
بل هو الكلب، فلو كرر هذا اللفظ مرتين أو ثلاثًا لكان متعديًا، بالزائد على الواحدة، فله الأولى، وعليه إثم الثانية، وكذلك لو رد عليه بأفحش من الأولى، فيقول له: خنزير- مثلا - كان كل واحد منهما مأثومًا؛ لأنَّ كلا منهما جاز على الآخر، وهذا كله مقتض قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} البقرة: 194، وقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} الشورى: 40، وكل ما ذكرناه من جواز الانتصار: إنما هو فيما إذا لم يكن القول كذبًا، أو بهتانًا، فلا يجوز أن يتكلم بذلك لا (1) ابتداء ولا قصاصًا، وكذلك لو كان قذفًا؛ فلو رده كان كل واحد منهما قاذفًا للآخر، وكذلك لو سب المبتدئ أبا المسبوب، أو جده لم يجز له أن يرد ذلك ؛ لأنَّه سب لمن لم يجن عليه فيكون الرد عدوانًا لا قصاصًا.
قال بعض علمائنا: إنما يجوز الانتصار فيما إذا كان السب مما يجوز سب المرء به عند التأديب &(6/461)&$ كالأحمق، والجاهل، والظالم؛ لأنَّ أحدًا لا ينفك عن بعض هذه الصفات إلا الأنبياء والأولياء، فهذا إذا كافاه بسبه فلا حرج عليه، ولا إثم، ونفي الإثم على الأول بابتدائه وتعرضه لذلك.
تنبيه: ظاهر قوله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم سبيل} أن الانتصار مباح، وعلى ذلك يدل الحديث المذكور لكن قوله تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} مدح من الله تعالى للمنتصر، والمباح: لا يمدح عليه، فاختلف العلماء في ذلك، فقال السدي: =(6/567)=@ مدح (2) الله (3) من انتصر ممن بغي عليه من غير زيادة على مقدار %(4/1371)%
__________
(1) قوله: «لا» سقط من (ح).
(2) في (ح): «إنما مدح».
(3) لفظ الجلالة: بياض في (ح).(4/1371)
ما فعل به، يعني: أنه إنما مدح من حيث إنه اتقى الله في انتصاره؛ إذا (1) أوقعه على الوجه المشروع، ولم يفعل ما كانت الجاهلية تفعل من الزيادة على الجناية.وقال غيره: إنما مدح الله تعالى من انتصر من الظالم الباغي المعلن بظلمه الذي يعم ضرره، فالانتقام منه أفضل، والانتصار عليه أولى. قال معناه إبراهيم النخعي، ولا خفاء في أن العفو عن الجناة (2) وإسقاط المطالبة عنهم بالحقوق مندوب إليه، مرغب فيه على الجملة، لقوله تعالى:{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} ولقوله: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله}، وقوله: {فليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم (3) }، وقوله:{وأن تعفوا أقرب للتقوى}، ولقوله عليه السلام: «ما زاد الله عبدا (4) بعفو إلا عزا»، وقوله: «تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك»، ونحوه كثير، ومع ذلك فاختلف العلماء في المحاللة من الحقوق، فقال سعيد بن المسيب: لا أحلل أحدًا. وظاهره: أنه كان لا يجيز أن يعفو عن حق وجب (5) له، ولا يسقطه، ولم يفرق بين الظالم ولا غيره، وهذا هو الذي فهمه مالك عنه.وذهب غيره إلى أنه تجوز المحاللة من جميع الحقوق وإسقاطها، وإليه ذهب محمد بن سيرين.والقاسم بن محمد كان يحلل من ظلمه، ويكره لنفسه الخصوم. وفرق آخرون بين الظالم، فلم يحللوه، &(6/462)&$ وبين غيره فحللوه، وإليه ذهب إبراهيم النخعي، وهو ظاهر قول مالك، وقد سئل فقيل له: أرأيت الرجل يموت، ولك عليه دين، ولا (6) وفاء له به؛ قال: أفضل عندي أن أحلله، وأما الرجل يظلم الرجل فلا أرى ذلك. قال الله عز وجل: {إنما السبيل على الذين %(4/1372)%
__________
(1) في (ح): «إذ» بدل «إذا».
(2) في (ح): «الجناية».
(3) قوله: «والله غفور رحيم» ليس في (ح).
(4) في (ح): «عبادًا».
(5) في (ح): «واجب».
(6) في (ح): «لا» بلا واو.(4/1372)
يظلمون الناس}، فظاهر هذا: =(6/568)=@ الظالم لا يجوز أن يحلل، ولم يفرق بين الحقوق، فيكون مذهبه كمذهب النخعي المتقدم، غير أنه قد روي قول مالك هذا بلفظ آخر، فقال: أما الرجل يغتاب الرجل، وينتقصه (1) ، فلا أرى ذلك، ففهم بعض أصحابنا من هذا (2) : أن ترك المحاللة إنما منعه (3) في الأعراض خاصة، وأما في سائر الحقوق فيجوز، وسبب هذا الخلاف: هل تلك الأدلة مبقاة على ظواهرها من التعليم، أو هي مخصصة فيخرج منها الظالم (4) ؛ لأنَّ تحليله من المظالم (5) يجرئه على الإكثار منها وهو ممنوع بالإجماع، ثم ذلك عون له على الإثم والعدوان، وقد قال تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، وأما الفرق بين الأعراض وغيرها فمبالغة في سد ذريعة الأعراض ليسارتها وتساهل (6) الناس في أمرها (7) ، فاقتض ذلك المبالغة في الردع عنها (8) ؛ فإذا علم الذي يريد أن يغتاب مسلمًا: أن الغيبة وأعراض المسلمين لا يعفى عنها، ولا يخرج منه» امتنع من الوقوع فيها.قلت: ويرد على هذه التخصيصات سؤالات يطول الكلام بإيرادها والانفصال عنها، والتمسك بالعموم هو (9) الأصل المعلوم، لا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا أصبح يقول: اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك» ومع الأصل الكلي في حقوق بني آدم من جواز تصرفهم فيها بالإعطاء والمنع، والأخذ (10) والإسقاط، والله تعالى أعلم.تفريع: القائلون بجواز التحلل (11) وإسقاط الحقوق اختلفوا: هل تسقط عن الظالم مطالبة الآدمي فقط، ولا تسقط (12) عنه مطالبة الله عز وجل؛ أو يسقط عنه الجميع؛ لأهل العلم فيه قولان. %(4/1373)%
__________
(1) في (ح): «ينقصه».
(2) في (ح): «من ذلك».
(3) في (ح): «يمنعه».
(4) في (ح): «الظلم».
(5) في (ح): «المصالح».
(6) في (ح): «وللتساهل».
(7) في(ح): يشبه «نيلها».
(8) قوله: «عنها» سقط من (ح).
(9) في (ح): «وهو».
(10) قوله: «والأخذ».
(11) في (ح): «التحليل».
(12) في (ح): «ولا يسقط».(4/1373)
وقوله: «أتدرون ما الغيبة؟» كان هذا السؤال صدر عنه بعد أن جرى ذكر =(6/569)=@ الغيبة، ولا يبعد أن يكون ذلك بعد نزول (1) قوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم &(6/463)&$ بعضًا}، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغيبة المنهي عنها. ووزنها فعيلة، وهي مأخوذة من الغيبة، - بفتح الغين - مصدر غاب؛ لأنَّها ذكر الرجل في حال غيبته بما يكرهه لو سمعه.يقال من ذلك المعنى: اغتاب فلان فلانًا، يغتابه اغييابًا (2) ، واسم ذلك المعنى: الغيبة، ولا شك في أنها محرمة، وكبيرة من الكبائر بالكتاب والسنة، فالكتاب: قوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضًا} الآية وأما السنة فكثيرة من أنصها: ما خرجه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الكبائر استطالة؛ المرء في عرض رجل مسلم»، وفي كتابه من حديث أنس رضي الله عنه قال (3) : «مررت ليلة أسري بي بقوم لهم أظفاز من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم». له اذا تقررت حقيقة الغيبة وأن أصلها على التحريم فاعلم أنها قد تخرج عن ذلك الأصل صور، فتجوز الغيبة في بعضها، وتجب في بعضها، ويندب إليها في بعضها: فالأولى كغيبة المعلن بالفسق المعروف به، فيجوز ذكره بفسقه لا بغيره، مما يكون مشهورًا به، لقوله عليه السلام: «بئس أخو العشيرة»كما يأتي، وقوله (4) صلى الله عليه وسلم: «لا غيبة في فاسق»، ولقوله: «لي الواجد يحل عرضه، وعقوبته».
والثاني :=(6/570)=@ جرح (5) شاهد عند خوف إمضاء الحكم بشهادته، وجرح المحدث الذي يخاف أن يعمل بحديثه، أو يروى عنه، %(4/1374)%
__________
(1) في (ح): «بعد أن نزل».
(2) في (ح): «اغتيابًا».
(3) في (ح): «أنس عنه عليه السلام قال».
(4) في (ح): «ولقوله».
(5) في (ح): «ذكر جرح».(4/1374)
وهذه أمور ضرورية في الدين معمول بها، مجمع من السلف الصالح عليها، ونحو ذلك: ذكر عيب من استنصحت في مصاهرته، أو معاملته، فهذا يجب عليك (1) الإعلام بما تعلم (2) من هناته عند الحاجة إلى ذلك على جهة الإخبار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه». وقد يكون من هذين النوعين ما لا يجب بل &(6/464)&$ يندب إليه، كفعل المحدثين حين يعرفون بالضعفاء مخافة الاغترار بحديثهم، وكتحرير من لم ينال مخافة معاملة من حاله تجهل، وحيث حكمنا بوجوب النص على الغيب، فإنما ذلك إذا لم نجد بدا من التصريح والتنصيص (3) ، فأمَّا لو أغنى التعريض، والتلويح لحرم التنصيص والتصريح؛ فإنَّ ذلك أمر (4) ضروري، والضرورة هي (5) بقدر الحاجة، والله تعالى أعلم.
وقوله: «وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» هو بتخفيف الهاء وتشديد التاء؛ الإدغام تاء المخاطب في التاء التي هي لام الفعل، وكذلك رويته، ويجوز أن تكون مخففة على إسقاط تاء (6) الخطاب، يقال: بَهَتُه بَهَتًا وبُهْتًا وبُهتانًا، أي: قال عليه ما لم يقل، وهو بهات، والمقول مبهوت، ويقال: بَهِتَ الرجل - بالكسر - إذا دهش وتحير، وبهت - بالضم - مثله، وأفصح منها: بهت، كما قال تعالى: {فَبُهِتَ الذي كفر}؛ لأنَّه يقال: رجل مبهوت (7) ، ولا يقال: باهت، ولا بهيت، قاله الكسائي. =(6/571)=@
وقوله صلى الله عليه وسلم: «بئس ابن (8) العشيرة، أو رجل العشيرة» هذا (9) من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذم لهذا الرجل في حال غيبته لما علم النبي صلى الله عليه وسلم من حاله، وأنه ممن لا غيبة فيه (10) ، وهو عيينة بن حصن بن حذيفة بن مالك الفزاري، أسلم بعد الفتح، وقيل: قبله، وهو من المؤلفة قلوبهم، وكان من الأعراب الجفاة.روى أبو عمر بن عبد البر عن إبراهيم النخعي: أن عيينة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم %(4/1375)%
__________
(1) في (ح): «عليه».
(2) في (ح): «يعلم».
(3) في (ح): «التعيين».
(4) قوله: «أمر» سقط من (ح).
(5) في (ح): «والضروري مقدر بقدر» بدل «والضرورة هي بقدر».
(6) قوله: «تاء» سقط من (ح).
(7) من قوله: «إذا دهش وتحير...» إلى هنا سقط من (ح).
(8) في (ح): «أخو».
(9) في (ح): «وهذا».
(10) في (ح): «له» بدل «فيه».(4/1375)
بغير إذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأين الإذن؟»، فقال: ما استأذنت على أحد من مضر، وكانت عائشة - رضي الله عنها - مع النبي فقال: من هذه الحميراء؟ فقال: «أم المؤمنين»، فقال: ألا أنزل لك عن أجمل منها؟ فقالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: «هذا أحمق مطاع، وهو على ما ترين سيد قومه». وقال الزهري: كان لعيينة ابن أخ من جلساء عمر - رضي الله عنه - يقال له: الجد بن قيس، فقال عيينة لابن أخيه: ألا تدخلني على هذا؟ فقال: أخاف (1) أن تتكلم بما لا ينبغي، فقال: لا أفعل، فأدخله على عمر - رضي الله عنه - فقال: يا بن الخطاب! والله ما تقسم بالعدل، ولا تعطي الجزل، فغضب عمر - رضي الله عنه - غضبًا شديدا حتى هم أن يوقع به، فقال ابن أخيه: يا أمير المؤمنين! إن &(6/465)&$ الله تعالى يقول في كتابه: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وإن هذا من الجاهلين. قال: فخل عنه عمر، وكان عمر (2) - رضي الله عنه - وقافًا عند كتاب الله تعالى.
قال القاضي عياض: وقد كان من عيينة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد موته ما يدلّ على ضعف إيمانه، بل: فيه علم من إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أنه بئس ابن العشيرة، وقد ظهر ذلك منه، إذ هو ممن ارتد وجيء به أسيرا (3) إلى أبي بكر - رضي الله عنه - والله أعلم بما ختم له. =(6/572)=@
قلت: ويظهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: «إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس اتقاء فحشه» أن عيينة ختم له %(4/1376)%
__________
(1) في (ح): «إني أخاف».
(2) قوله: «عمر» ليس في (ح).
(3) قوله: «أسيرًا» سقط من (ح).(4/1376)
بخاتمة سوء؛ لأنَّه ممن اتقى النبي صلى الله عليه وسلم فحشه وشره، فهو إذًا: شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة.ولا يكون كذلك حتى يختم الله تعالى له بالكفر، والله تعالى أعلم.
ففي حديثه من الفقه: جواز غيبة: المعلن بفسقه ونفاقه، والأمير الجائر والكافر، وصاحب البدعة، وجواز مداراتهم اتقاء شرهم، لكن ما لم يؤد ذلك إلى في المداهنة في دين الله تعالى.والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو (1) الدين، وهي مباحة ومستحسنة في بعض الأحوال، والمداهنة المذمومة المحرمة: هي بذل الدين لصالح (2) الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له الله من دنياه حسن عشرته، والرفق في مكالمته، وطلاقة وجهه، ولم يمدحه بقول، ولا روى في ذلك في حديث.فعلى هذا فلا يناقض قوله عليه السلام في هذا الرجل فعله معه ؛ لأنَّ قوله ذلك إخبار بحق، ومداراته له حسن عشرة مع الخلق، فلا مدفع لأهل الزيغ والضلال؛ إذ لا يبقى على ما أوضحناه إشكال.
وقوله: «من ودعه، أو تركه الناس اتقاء فحشه» هذا شك من بعض الرواة في أي اللفظين قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ كان الصحيح ودعه فقد تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بالأصل المرفوض، كما قد تكلم به الشاعر الذي هو أنس بن زنيم في قوله:
سَلْ أمِيري ما الَّذي غَيَّره = عن وِصالي اليَوم حتَّى وَدَّعَه؟ =(6/573)=@ &(6/466)&$ %(4/1377)%
__________
(1) في (ح): «و» بدل «أو».
(2) في (ح): «لصلاح».(4/1377)
وقد حكي عن بعض السلف: أنه قرأ: {ما ودعك ربك وما قلى}، بتخفيف (1) الدال، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تكلم بمصدر ذلك المرفوض (2) حيث قال: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم»، وهذا كله يرد، على من قال من النحويين: إن العرب قد أماتت ماضي هذا (3) الفعل ومصدره، ولا تتكلم به استغناء عن ذلك بتركه (4) ، فإنَّ أراد به هذا القائل أنه لا يوجد في كلامهم، فقد كذبه النقل (5) الصحيح، وإن أراد أن ذلك يقع (6) ، ولكنه قليل، وشاذ في الاستعمال، فهو الصحيح .
ومن باب: الترغيب في العفو والستر والرفق
قوله: «ما نقصت صدقة من مال» فيه وجهان:
أحدهما: أنه بقدر ما ينقص منه يزيد الله تعالى فيه، وينميه، ويكثره.
الثاني: أنه وإن نقص في نفسه ففي الأجر والثواب ما يجبر ذلك النقص بإضعافه. &(6/467)&$
وقوله: «ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا» فيه أيضًا وجهان: =(6/574)=@
أحدهما: ظاهره، فإنَّ (7) من عرف بالصفح والعفو ساد وعظم في القلوب.
والثاني: أن يكون أجره وثوابه وجاهه وعزه في الآخرة أكثر. %(4/1378)%
__________
(1) في (ح): «فخفف».
(2) في (ح): «الفعل المرفوض».
(3) قوله: «هذا» سقط من (ح).
(4) في (ح): «بترك».
(5) في (ح): «هذا النقل».
(6) في (ح): «قد يقع».
(7) في (ح): «فإنه».(4/1378)
وقوله: «وما تواضع أحد لله (1) إلا رفعه الله» التواضع: الانكسار، والتذلل، ونقيضه التكبر والترفع.
والتواضع يقتضي متواضعا له؛ فإنَّ كان المتواضع له هو الله تعالى، أو من أمر الله بالتواضع له (2) كالرسول، والإمام، والحاكم، والوالد، والعالم، فهو التواضع الواجب المحمود؛ الذي يرفع الله تعالى به صاحبه في الدنيا التو والآخرة، وأما التواضع لسائر الخلق فالأصل فيه: أنه محمود ومندوب إليه، ومرغب فيه إذا قصد به وجه الله، ومن كان كذلك رفع الله تعالى قدره في القلوب، وطيب ذكره في الأفواه، ورفع درجته في الآخرة، وأما التواضع لأهل الدنيا، ولأهل الظلم، فذلك هو الذي لا عز معه، والخسة التي لا رفعة معها، بل: يترتب عليها ذل الآخرة.وكل صفقة خاسرة - نعوذ بالله من ذلك -. وقد تقدم الكلام على العفو والستر (3) . =(6/575)=@
وقوله: «إن الله رفيق يحب الرفق» قد تقرر في غير موضع: أن العلماء اختلفوا في أسماء الله تعالى، هل الأصل فيها التوقيف. فلا يسقى إلا بما سقى به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله، أو بجمع الأمة عليه، أو: الأصل جواز تسميته تعالى بكل اسم حسن إلا أن يمنع منه مانع شرعي؛ الأول: لأبي حسن.
والثاني: للقاضي أبي بكر. ومثار الخلاف: هل الألف واللام في قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} للجنس، أو &(6/468)&$ للعهد؛ ثم إذا تنزلنا على رأى الشيخ أبي الحسن، هل %(4/1379)%
__________
(1) قوله: «لله» ليس في (ح).
(2) في (ح): «له بالتواضع».
(3) في (ح): يشبه «والعتر».(4/1379)
نقتبس أسماءه تعالى من أخبار الآحاد، أو لا؟ اختلف المتأخرون من الأشعرية، في ذلك على قولين، والصحيح قبول أخبار الآحاد في ذلك ؛ لأنَّ إطلاق الأسماء على الله تعالى حكم شرعي عملي (1) فيكتفى فيه بخبر الواحد والظواهر، كسائر الأحكام العملية، فأما معنى الاسم فإنَّ شهد باتصاف الحق به قاطع عقلي، أو سمعي (2) وجب قبوله وعلمه، وإلا لم يجب. ثم هل يكتفى في كون الكلمة اسمًا من أسماء الله تعالى بوجودها في كلام الشارع من غير تكرار، ولا كثرة، أم لا بد منهما؛ فيه رأيان، وقد سبق القول في ذلك.
والرفيق: هو الكثير الرفق، وهو اللين، والسهيل، وضده العنف، والتشديد (3) والتصعيب، وقد يجيء الرفق بمعنى الإرفاق، وهو: إعطاء ما يرفق به، قال أبو زيد: يقال: رفقت به، وأرفقته بمعنى: نفعته، وكلاهما صحيح في حق الله تعالى؟ إذ هو =(6/576)=@ الميسر والمسهل لأسباب الخير والمنافع كلها، والمعطي لها، فلا تيسير إلا بتيسيره، ولا منفعة إلا بإعطائه وتقديره.وقد &(6/469)&$ يجيء الرفق أيضًا بمعنى: التمهل في الأمر، والتأني فيه، يقال منه: رفقت الدابة أرفقها رفقا: إذا شددت عضدها بحبل لتبطئ في مشيها، وعلى هذا فيكون الرفيق (4) في حق الله تعالى بمعنى: الحليم (5) ؛ فإنَّه حكم (6) ألا يعجل بعقوبة العصاة، بل: يمهل ليتوب من سبقت له السعادة، ويزداد إنَّما من سبقت له الشقاوة، وهذا المعنى أليق بالحديث؛ فإنَّه السبب الذي أخرجه؛ وذلك أن اليهود سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك، ففهمتهم عائشة - رضي الله عنها - فقالت: بل عليكم السام واللعنة.فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (7) هذا الحديث. %(4/1380)%
__________
(1) قوله: «عملي» سقط من (ح).
(2) في (ح): «أو سمع».
(3) في (ح): «وهو التشديد» بدل «والتشديد».
(4) في (ح): «الرفق».
(5) في (ح): «الحكيم» بدل «الحليم».
(6) قوله: «حكم» سقط من (ح).
(7) في (ح): «فقال صلى الله عليه وسلم لها».(4/1380)
وقوله: «إن الله رفيق (1) يحب الرفق» أي: يأمر به، ويحض عليه، وقد تقدم: أن حب الله تعالى شرعه لها، وترغيبه فيها، وحب الله لمن أحبه من عباده: إكرامه له (2) .
وقوله: «ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» ويقال: بفتح العين =(6/577)=@ وضمها، معناه: إن الله تعالى يعطي عليه في الدنيا من الثناء الجميل، وفي الآخرة من الثواب الجزيل ما لا يغطي على العنف الجائز (3) . وبيان هذا بأن يكون أمر ما (4) من الأمور سوغ الشرع أن يتوصل إليه بالرفق وبالعنف، فسلوك طريق الرفق أولى لما يحصل عليه (5) من الثناء على فاعله بحسن الخلق، ولما يترتب عليه من حسن الأعمال، وكمال منفعتها، ولهذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه». وضده الخرق والاستعجال، وهو مفسد للأعمال، وموجب لسوء الأحدوثة، وهو المعبر عنه بقوله: «ولا نزع من شيء إلا شانه». أي: عابه، وكان له شيئًا. وأما الخرق والعنف: فمفوتان مصالح الدنيا، وقد يفضيان إلى تفويت ثواب الآخرة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير»، أي: يفضي ذلك به إلى أن يحرم خير الدنيا والآخرة. =(6/578)=@ &(6/470)&$ %(4/1381)%
__________
(1) قوله: «رفيق» سقط من (ح).
(2) قوله: «له» سقط من (ح).
(3) في (ح): «الجاير» كذا رسمت.
(4) قوله: «ما» سقط من (ح).
(5) في (أ): «منه» بدل «عليه».(4/1381)
ومن باب قوله: لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا
قد تقدَّم: أن أصل اللعن والطرد والبعد، وهو في الشرع: البعد عن رحمة الله معنى تعالى وثوابه إلى نار الله وعقابه، وأن لعن المؤمن كبيرة من الكبائر، إذ قد قال صلى الله عليه وسلم: «لعن المؤمن كقتله».
وقوله: «لا ينبغي لصديق أن يكون لعانًا» صديق: فعيل: وهو الكثير الصدق والتصديق، كما قد تقرر في صفة أبي بكر - رضي الله عنه - واللعان: الكثير اللعن.
ومعنى هذا الحديث: أن من كان صادقًا في أقواله وأفعاله مصدقًا بمعنى اللعنة الشرعية، ألم تكن كثرة اللعن من خلقه، لأنه إذا لعن من لا يستحق اللعنة الشرعية، فقد دعا عليه بأن يبعد من رحمة الله وجنته، ويدخل في ناره وسخطه.والإكثار من هذا يناقض أوصاف الصديقين؛ فإنَّ من أعظم صفاتهم (1) الشفقة، والرحمة للحيوان مطلقا، وخصوصا بني آدم، وخصوصا المؤمن؛ فإنَّ المؤمنين كالجسد الواحد، وكالبنيان لما (2) تقدَّم، فكيف يليق أن يدعى عليهم باللعنة التي معناها الهلاك %(4/1382)%
__________
(1) في (ح): «أوصافهم».
(2) في (ح): «كما».(4/1382)
والخلود في نار الآخرة. فمن كثر منه اللعن فقد سلب منصب =(6/579)=@ &(6/471)&$ الصديقية، ومن سلبه فقد سلب منصب الشفاعة، والشهادة الأخروية، كما قال: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة». وإنما خص اللعان بالذكر ولم يقل: اللاعن، لأن الصديق قد يلعن من أمره الشرع بلعنه»وقد يقع منه اللعن فلتة وندرة، ثم يراجع، وذلك لا يخرجه (1) عن الصديقية، ولا يفهم من نسبتنا الصديقية لغير أبي بكر مساواة غير أبي بكر، لأبي بكر (2) - رضي الله عنه - في صديقيته ؟ فإنَّ ذلك باطل بما قد علم: أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقدَّم.
لكن: المؤمنون الذين ليسوا بلعانين لهم (3) من تلك الصديقية، ثم هم متفاوتون فيها على حسب ما تسم (4) لهم منها، والله تعالى أعلم.
وقوله في الناقة المدعو عليها باللعنة: «خذوا ما عليها فإنَّها ملعونة» حمله بعض الناس على ظاهره، فقال: أطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على أن هذه الناقة قد لعنها الله تعالى، وقد استجيب لصاحبتها فيها؛ فإنَّ أراد هذا القائل: أن الله تعالى لعن هذه الناقة كما يلعن من استحق اللعنة من %(4/1383)%
__________
(1) في (ح): «لا يخرمه».
(2) قوله: «لأبي بكر رضي الله عنه» سقط من (ح).
(3) في (ح): «لهم حظ».
(4) في (ح): «قسم».(4/1383)
المكلفين كان ذلك باطلا، إذ الناقة ليست بمكلفة، وأيضًا فإنَّ الناقة لم يصدر منها ما يوجب لعنها، وإن أراد =(6/580)=@ أن هذه اللعنة: إنما هي عبارة عن إبعاد هذه الناقة عن مالكتها (1) ، وعن استخدامها إياها فتلك اللعنة إنما ترجع لصاحبتها؛ إذ قد حيل بينها وبين مالها، ومنعت الانتفاع به، لا للناقة، لأنها قد استراحت من ثقل الحمل وكد السير، فإنَّ قيل: فلعل معنى لعنة الله تعالى الناقة (2) أن تترك وألا يتعرض (3) لها أحد، فالجواب: أن معنى ترك الناس لها إنما هو أنهم لم يؤوها إلى رحالهم، ولا استعملوها في حمل أثقالهم، فأمَّا أن يتركوها (4) في غير مرعى، ومن غير علف حتى تهلك فليس في الحديث ما يدل عليه.ثم هو مخالف لقاعدة الشرع في الأمر بالرفق بالبهائم، والنهي عن تعذيبها، وإنما كان هذا منه صلى الله عليه وسلم تأديبًا لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليها (5) بما دعت به.
ويستفاد منه: جواز العقوبة في المال لمن جنى فيه بما &(6/472)&$ يناسب ذلك، جواز والله تعالى أعلم.
والورقاء: التي يخالط بياضها سواد والذكر أورق.
وقوله: «فقالت: حل» هي كلمة تزجر بها الإبل، يقال: حل أحل (6) بسكون اللام ويقال (7) : حل! حل! بكسر اللام فيهما منونة، وغير منونة. =(6/581)=@ %(4/1384)%
__________
(1) في (ح): «مالكها».
(2) في (ح): «للناقة».
(3) في (ح): «يعرض».
(4) في (ح): «يتركوا».
(5) في (ح): «عليه».
(6) في (ح): «حَلْ حَلْ».
(7) في (ح): «فيهما ويقال».(4/1384)
ومن باب: لم يبعث النبي صلى الله عليه وسلم لعانا وإنما بعث رحمة (1)
قوله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة» كان هذا منه صلى الله عليه وسلم بعد دعائه على رِعل، وذكوان، وعصية الذين قتلوا أصحابه بئر (2) معونة، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو عليهم، ويلعنهم في آخر كل صلاة من الصلوات الخمس يقنت بذلك حتى &(6/473)&$ نزل عليه جبريل فقال: «إن الله تعالى لم يبعثك لعانًا ولا (3) سبابًا، وإنما بعثك رحمة، ولم يبعثك عذابا ثم أنزل الله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} على ما خرجه أبو داود في مراسيله (4) من حديث خالد بن أبي عمران، وفي الصحيحين ما يؤكد (5) ذلك، ويشهد بصحته.
وقوله: «إنما بعثت رحمة» هذا كقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، أي: بالرسالة العامة، والإرشاد للهداية، والاجتهاد في التبليغ، والمبالغة في النصح، والحرص على إيمان الجميع، وبالصبر على جنانهم، وترك الدعاء عليهم؟ إذ لو دعا عليهم لهلكوا. وهذه الرحمة يشترك فيها =(6/582)=@ المؤمن والكافر، أما رحمته الخاصة فلمن هداه الله تعالى، ونور قلبه بالإيمان، وزين جوارحه بالطاعة، كما قال تعالى:{بالمؤمنين رؤوف %(4/1385)%
__________
(1) قوله: «ومن باب...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): يشبه «أصحاب بئر».
(3) في (ح): «لا» بلا واو.
(4) في (ح): «مراسله».
(5) في (ح): «يؤيد».(4/1385)
رحيم}، فهذا هو المغمور برحمة الله، المعدود في زمرة الكائنين معه في مستقر كرامته، جعلنا الله منهم، ولا حال بيننا وبينهم.
وقوله: «لمن أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان» هذا الكلام من السهل الممتنع، وذلك أن معناه أن هذين الرجلين (1) ما أصابا منك خيرا، وإن كان غيرهما قد أصابه، لكن تنزيل هذا المعنى على أفراد ذلك الكلام: فيه صعوبة، ووجه التنزيل يتبين بالإعراب، وهو أن اللام في لمن.هي: لام الابتداء، وهي متضمنة للقسم، ومن: موصولة في موضع (2) رفع بالابتداء، وصلتها: أصاب، وعائدها: المضمر في أصاب، وما بعدها متعلق به، وخبره محذوف تقديره: والله لرجل أصاب منك خيرًا: فائز أو ناج.ثم نفى عن هذين الرجلين إصابة ذلك الخير بقوله: ما أصابه هذان، ولا يصح أن يكون ما أصابه خبرًا (من) المبتدأ لخلوها عن عائد يعود على نفس المبتدأ، وأما الضمير في أصابه فهو للخير، لا لمن، فتأمله يصح لك ما قلناه، والله تعالى أعلم. &(6/474)&$
وقوله: «اللهم! إني بشر أغضب كما يغضب البشر، فأي المسلمين لعنته، أو سببته، أو جلدته، فاجعل ذلك له كفارة ورحمة» ظاهر هذا: أنه خاف أن =(6/583)=@ يصدر عنه في حال غضبه شيء من تلك الأمور فيتعلق به حق %(4/1386)%
__________
(1) في (ح): «الجملين».
(2) قوله: «في موضع» سقط من (ح).(4/1386)
مسلم، فدعا الله تعالى، ورغب إليه في أنه: إن وقع منه شيء من ذلك لغير مستحق في ألا يفعل بالمدعو عليه مقتضى ظاهر ذلك الدعاء، وأن يعوضه من ذلك مغفرة لذنوبه، ورفعة في درجاته، فأجاب الله تعالى طلبة نبيه عليه السلام ووعده بذلك، فلزم ذلك بوعده الصدق، وقوله الحق، وعن هذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «شارطت ربي»، و «شرط (1) علي ربي»، و«اتخذت (2) عنده عهدا (3) لن يخلفنيه» لا أن الله تعالى يشترط (4) عليه شرط، ولا يجب عليه لأحد حق، بل: ذلك كله بمقتض فضله، وكرمه على حسب ما سبق في علمه.
فإن قيل: فكيف يجوز أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم لعن، أو سب، أو جلد لغير مستحقه، وهو معصوم من مثل ذلك في الغضب، والرضا؛ لأنَّ كل ذلك محرم وكبيرة، والأنبياء معصومون عن الكبائر، إما بدليل العقل، أو بدليل الإجماع كما تقدَّم؛ قلت: قد أشكل هذا على العلماء، وراموا التخلص من ذلك بأوجه متعددة، أوضحها وجه واحد، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يغضب لما يرى من المغضوب عليه من مخالفة الشرع، فغضبه لله تعالى لا لنفسه، فإنَّه ما كان يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها، وقد قررنا في الأصول: أن الظاهر من غضبه تحريم الفعل المغضوب من أجله (5) .
وعلى هذا فيجوز له: أن يؤدب المخالف له باللعن والسب والجلد والدعاء عليه بالمكروه، وذلك بحسب مخالفة المخالف، غير أن ذلك المخالف قد يكون ما صدر منه فلتة أوجبتها غفلة، أو غلبة نفس، أو شيطان، وله فيما بينه وبين الله تعالى عمل خالص، وحال صادق يدفع الله عنه بسبب ذلك أثر ما صدر عن (6) النبي صلى الله عليه وسلم له من ذلك القول، أو الفعل. وعن هذا عبر النبي! &(6/475)&$ بقوله: «فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعو ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورًا، =(6/584)=@ %(4/1387)%
__________
(1) في (ح): «وشرطي».
(2) في (ح): «واتخذ عند الله عهدًا».
(3) في (ح): «واتخذ عند الله عهدًا».
(4) في (ح): «يشرط».
(5) في (ح): يشبه «أمثله».
(6) في (ح): يشبه «من النبي».(4/1387)
وزكاة، وقربة تقربه بها يوم القيامة» أي: عوضه من تلك الدعوة بذلك، والله تعالى أعلم.
قلت: وقد يدخل في قوله: أيما أحد من أمتي دعوت عليه: الدعوات الجارية على اللسان من غير قصد للوقوع، كقوله: «تربت يمينك» و «عقرى حلقى (1) »، ومن هذا النوع قوله لليتيمة: «لا كبر سنك»، فإنَّ هذه لم تكن عن غضب، وهذه عادة غالبة في العرب يصلون كلامهم بهذه الدعوات، ويجعلونها دعاما لكلامهم من غير قصد منهم لمعانيها، وقد قدمنا في كتاب الطهارة في هذا كلامًا للبديع، وهو من القول البديع.وبما ذكرناه يرتفع الإشكال، ويحصل الانفصال .
ووجه لغة أبي هريرة في: جلده: أنه قلب التاء دالاً لقرب =(6/505)=@ مخرجهم (2) ، ثم أدغم التاء في الدال، وهي عكس اللغة المشهورة، فإنهم فيها قلبوا الدال تاء، وأدغموا الدال في التاء. وهي الأولى.
وقوله عليه السلام ليتيمة أم سلمة (3) : «أنت هِيَهْ، لقد كبرت، لا كبرت (4) سنك» الهاء في هيه للوقف، فإذا وصلت حذفتها، وهذا الاستفهام على جهة التعجب، %(4/1388)%
__________
(1) في (ح): «وحلقى».
(2) في (ح): «مخرجهما».
(3) في (ح): «أم سليم».
(4) في (ح): «كبر».(4/1388)
وكأنه صلى الله عليه وسلم كان قد رآها صغيرة، ثم غابت عنه مدة فرآها قد طالت وعبلت، فتعجب من سرعة ذلك فقال لها ذلك القول تعجبًا (1) ، فوصل كلامه بقوله: «لا كبر سنك» على ما قلناه من إطلاق ذلك القول من غير إرادة معناه، وهذا واضح هنا ويحتمل أن يقال: إنما دعا عليها بأن لا يكبر سنها كبرة تعود (2) إلى أرذل العمر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من أن يرد إلى أرذل العمر، والمعنى الأول أظهر من مساق بقية الحديث في اعتذاره عليه السلام عن ذلك. &(6/476)&$
وقول اليتيمة لا يكبر سني، أو قالت: قرني: هو بفتح القاف، وتعني به: السن، وهو شك عرض لبعض الرواة، وأصله أن من ساوى آخر في سنه كان قرن رأسه محاذيا لقرنه، وقرن الرأس: جانبه الأعلى، وهذا يدل على: أن إجابة دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معلومة بالمشاهدة عند كبارهم وصغارهم لكثرة ما كانوا يشاهدون من ذلك، ولعلمهم بمكانته عليه السلام وتلوث خمارها: تديره على رأسها وعنقها، والطهور هنا: هي الطهارة من الذنوب، وقد سماها في الرواية =(6/586)=@ الأخرى، كفارة والصلاة من الله تعالى: الرحمة، كما قد عبر عنها في الرواية الأخرى. والزكاة: الزيادة في الأجر كما قد عبر عنها في الرواية الأخرى بالأجر. والقربة: ما يقرب إلى الله تعالى وإلى رضوانه. وفيه ما يدلّ على تأكد الشفقة على اليتيم، والذبُ عنه، والحنو عليه. %(4/1389)%
__________
(1) في (ح): «متعجبًا».
(2) في (ح): «تعود بها إلي».(4/1389)
وقول ابن عباس - رضي الله عنهما-: كنت ألعب مع الصبيان: دليل على جواز تخلية الصغير (1) لتعب لتنشط نفسه، وتتقوى أعضاؤه، وتتوقح رجلاه، أي: تتصلب .
وقوله: «فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب» أي: اختفيت بالباب، وكأنه استحى من النبي صلى الله عليه وسلم وهابه. &(6/477)&$
وقوله: «فحطأني حطأة» فسره (2) أمية بن خالد بقفدني قفدة، وكلاهما يحتاج إلى تفسير، فأمَّا حطأني: فهو بالحاء المهملة، وبالهمزة على قول شمر، وهو المحكي في الصحاح، وهكذا قيده أهل الإتقان والضبط، وهو أن تضرب بيدك مبسوطة في القفا، أو بين الكتفين، وجاء به الهروي غير مهموز في باب الحاء، =(6/587)=@ والطاء، والواو، وقال ابن الأعرابي: الحطو: تحريك الشيء متزعزعًا. وأما القفد - بتقديم القاف على الفاء - فالمعروف عند اللغويين أنه (3) : المشي على صدور القدمين من قبل الأصابع، ولا تبلغ عقباه الأرض.يقال: رجل أقفد، وامرأة قفداء، هو القفد - بفتح القاف والفاء -. %(4/1390)%
__________
(1) في (ح): «الصغير للعلب».
(2) في (ح): «فسرها».
(3) في (ح): «لأنه».(4/1390)
قلت: ولم أجد قفدني بمعنى حطأني إلا في تفسير أمية هذا.وهذا الضرب من النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس تأديبًا (1) له، ولعله: لأجل اختفائه منه إذ كان حقه أن يجيء إليه، ولا يفر منه.ويحتمل أن يكون هذا الضرب بعد أن أمره أن يدعو له معاوية، فلم يؤكد على معاوية الدعوة، وتراخى في ذلك، ألا ترى قوله في المرتين: هو يأكل، ولم يزد على ذلك، وكان حقه في المرة الثانية ألا يفارقه حتى يأتي به (2) ، والله تعالى أعلم.ففيه تأديب الصغار بالضرب الخفيف الذي يليق بهم، وبحسب ما يصدر عنه.
وقوله: «ادع لي معاوية» فيه استعمال الصغير (3) فيما يليق بهم من الأعمال .
وقوله: «لا أشبع الله بطنه» يحتمل أن يكون من نوع: «لا كبر سنك» كما قلناه، على تقدير: أن يكون معاوية من الأكل في أمر كان معذورًا به من شدة الجوع، أو مخافة فساد الطعام، أو غير ذلك، وهذا المعنى تأول من أدخل هذا الحديث في مناقب معاوية، فكأنه كنى به عن أنه دعا عليه بسبب أمر كان &(6/478)&$ معذورًا =(6/588)=@ به، فحصل له من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة والرحمة والقربة إلى الله تعالى التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرناه.ويحتمل: أن يكون هذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته أدبًا لمعاوية على تثبطه في إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإجابة دعوته صلى الله عليه وسلم واجبة على الفور، بدليل حديث أبي الذي أنكر عليه في ترك (4) إجابته، وكان أبي في الصلاة. %(4/1391)%
__________
(1) في (ح): «تأديب».
(2) قوله: «به» سقط من (ح).
(3) في (ح): «الصغار».
(4) في (ح): «أنكر فيه عليه ترك».(4/1391)
ومن باب: ما ذكر في ذي الوجهين وفي النميمة والتحذير من الكذب
قوله: «إن (1) من شر الناس ذي (2) الوجهين» يعني به الذي يدخل بين الناس بالشر والفساد، ويواجه (3) كل طائفة بما يتوجه به عندها مما يرضيها من الشر فإنَّ رفع من (4) حديث أحدهما إلى الآخر (5) على جهة الشر: فهو ذو الوجهين النمام، وأما من كان ذا وجهين في الإصلاح بين الناس، فيواجه كل طائفة بوجه خير، وقال لكل واحدة منهما من الخير خلاف ما يقول للأخرى، فهو الذي يسمى: بالمصلح، فعله (6) ذلك يسمى: الإصلاح (7) وإن كان كاذبًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرًا، وينمي خير». =(6/589)=@
وقوله: «ألا أنبئكم ما العَضْه؟» هكذا أذكر أني قرأته بفتح العين، وإسكان الضاد والهاء، وهذا (8) عند الجياني، وهو مصدر عضهه يعضهه عضها: إذا رماه بكذب وبهتان، وقد رواه أكثر الشيوخ ما العضة – بكسر %(4/1392)%
__________
(1) قوله: «إن» سقط من (ح).
(2) في (ح): يشبه «ذو».
(3) في (ح): «فيواجه».
(4) قوله: «من» سقط من (ح).
(5) في (ح): «أحديهما إلى الأخرى».
(6) في (ح): «وفعله».
(7) في (ح): «بالإصلاح»
(8) في (ح): «وهكذا».(4/1392)
العين وفتح الضاد والتاء المنقلبة في &(6/479)&$ الوقف (1) هاج وهي أصوب ؛ لأنَّ العضة اسم، والنميمة (2) : اسم، فصح تفسير الاسم بالاسم، والعضه مصدره (3) ، ولا يحسن تفسير المصدر بالاسم.
فالرواية الثانية أولى، والذي يبين لك أن العضه اسم ما قاله الكسائي: قال: العضه: الكذب والبهتان، وجمعها عضون مثل: عزه وعزين، وقد بينا أن العضة: المصدر، فصح ما قلناه، وقد تقدَّم القول في حكم ذي الوجهين والنمام، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم العضة بالنميمة؛ لأنَّ النميمة لا تنفد عن الكذب والبهتان غالبًا.
وقوله: «عليكم بالصدق، فإنَّ الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب...» الحديث يهدي: يرشد ويوصل، والبر: العمل =(6/590)=@ الصالح أو الجنة كما قدمناه. والفجور: الأعمال السيئة. وعليكم من ألفاظ الإعزاء المصرحة بالإلزام، نحو على كل من فهم عن الله تعالى أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضا الغفار. وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك كله بقوله عند ذكر أحوال الثلاثة التائبين فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} والقول في الكذب المحذر عنه على الضد من القول في الصدق، وقد تقدَّم القول في البر والفجور والهدى. %(4/1393)%
__________
(1) في (ح): «الوقف هاءً وهي».
(2) في (ح): «اسم للنميمة والنميمة» .
(3) في (ح): «مصدر».(4/1393)
وقول أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث تعني بذلك: أنه لم يرخص في شيء مما يكذب الناس فيه إلا في هذه الثلاث، وقد جاء لفظ الكذب نصًا في كتاب الترمذي. من حديث أسماء بنت =(6/591)=@ يزيد، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل &(6/480)&$ امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس». فهذه الأحاديث قد أفادت: أن الكذب كله محرم لا يحل منه شيء إلا هذه الثلاثة، فإنَّه رخص فيها لما حصل (1) بذلك من المصالح، ويندفع به من المفاسد، والأولى: ألا يكذب في هذه الثلاثة؛ إذا وجد عنه مندوحة؛ فإنَّ لم توجد المندوحة أعملت الرخصة.وقد يجب ذلك بحسب الحاجة إلى تلك المصلحة، والضرورة إلى دفع تلك المفسدة، وما ذكرته هو - إن شاء الله - مذهب أكثر العلماء، وقد ذهب الطبري إلى أنه لا يجوز الكذب الصريح في شيء من الأشياء لا في هذه الثلاثة، ولا في غيرها متمسِّكًا بالقاعدة الكلية في تحريمه، وتأول هذه الأحاديث على التورية والتعريض، وهو تأويل لا يعضده دليل، ولا تعارض بين العموم والخصوص كما هو عن العلماء منصوص.وأما كذبة تنجي ميتا (2) ، أو وليًا، أو أممًا، أو مظلومًا ممن يريد ظلمه، فذلك لا تختلف في وجوبه أمة من الأمم، لا العرب، ولا العجم. &(6/481)&$ %(4/1394)%
__________
(1) في (ح): «يحصل».
(2) في (ح): «نبيًا».(4/1394)
وقوله: «إن الرجل لا يزال يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا» يتحرى الصدق يقصد إليه ويتوخاه، ويجتنب نقيضه الذي هو الكذب، حتى يكون الصدق غالب حاله، فيكتب من (1) جملة الصديقين، ويثبت في ديوانهم، وكذلك القول في الكذب. وأصل الكذب: الضم والجمع، ومنه: كتبت البغلة (2) : إذا جمعت بين شفرتها (3) بحلقة. =(6/592)=@
وقوله: {كتب في قلوبهم الإيمان}جمعه وثبته، و{كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} أي: حكم وأوجب، فكأنه جمع ما حكم به في المحكوم عليه، وكتبت الكتاب: جمعت فيه المكتوب وثبته، وقد تقدَّم القول في الصديق. وخرج أبو مسعود الدمشقي حديث عبد الله بن مسعود هذا وزاد فيه: «وإن شر الروايا روايا الكذب، وإن الكذب لا يصلح فيه (4) جد ولا هزل، ولا يعد الرجل صاحبه فيخلفه»، وذكر أبو مسعود: أن مسلمًا خرج هذه الزيادة، ولم تقع لنا هذه الزيادة، ولا لأحد من أشياخنا فيما علمناه، وقال أبو عبد الله الحميدي: وليست عندنا.والروايا: جمع راوية، يعني به: حامل الكذب وراويه، والهاء فيه للمبالغة، كعلامة ونشابة، أو يكون (5) استعارة، شبه حامل الكذب لحمله إياه بالراوية الحاملة للماء.وفيه حجَّة للطبري في تحريمه الكذب مطلقا وعمومًا. وفيه ما يدل على وجوب الوفاء بالوعد، ولو كان بالشيء الحقير مع الصبي وجوب الصبر. =(6/593)=@ &(6/482)&$ %(4/1395)%
__________
(1) في (ح): «في» بدل «من».
(2) في (ح): «العلة».
(3) في (ح): «ضم بين شفريها».
(4) في (ح): «منه».
(5) في (ح): «تكون».(4/1395)
ومن باب: ما يقال عند الغضب والنهي عن ضرب الوجه
قوله عليه السلام للغضبان: «إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» يدلّ: على أن الشيطان له تأثير في تهييج الغضب، وزيادته حتى يحمله على البطش بالمغضوب عليه، أو إتلافه، أو إتلاف نفسه، أو شر يفعله يستحق به العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا تعوذ الغضبان بالله من الشيطان الرجيم، وصح قصده لذلك فقد التجأ إلى الله تعالى، وقصده، واستجار به، والله تعالى أكرم من أن يخذل من استجار به، ولما جهل ذلك الرجل ذلك المعنى، وظن أن الذي يحتاج إلى التعوذ إنما هو المجنون، فقال: أمجنونا تراني؛ منكرًا على من نبهه على ما يصلحه، ورادًّا (1) لما ينفعه، وهذا من أقبح الجنون، والجنون فنون، وكان هذا الرجل كان من جفاة الأعراب الذين قلوبهم من الفقه والفهم (2) خراب.
وقوله: «أتدرون ما تعدون (3) الرقوب فيكم، قال (4) : قلنا: الذي لا يولد له» الرقوب: فعول، وهو الكثير المراقبة، كضروب، وقتول، لكنه صار في عرف &(6/483)&$ استعمالهم عبارة عن المرأة التي لا يعيش لها ولد، كما قال عبيد بن الأبرص: =(6/594)=@ %(4/1396)%
__________
(1) في (ح): «وراد».
(2) في (ح): «من الفهم».
(3) قوله: «تعدون» سقط من (ح).
(4) قوله: «قال» سقط من (ح).(4/1396)
........ ....... .... ... كأنها شيخة رقوب
قلت: هذا نقل أهل اللغة، ولم يذكروا أن الرقوب يقال على من لا يولد له، مع أنه قد كان معروفًا عند الصحابة - رضي الله عنهم -، ولذلك أجابوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقياس يقتضيه؛ لأنَّ الذي لا يولد له يكثر ارتقابه للولد، وانتظاره له، ويطمع فيه إذا كان ممن يرتجى ذلك، كما يقال على المرأة التي ترقب (1) موت زوجها رقوب. وللناقة الني ترقب الحوض فتنفر منه، ولا تقربه: رقوب.
قلت: ويحتمل أن يحمل قولهم في الرقوب: إنه الذي لا يولد له (2) بعد فقد أولاده لوصوله من الكبر إلى (3) لا يولد له، فتجتمع عليه مصيبة الفقد ومصيبة اليأس، وهذا هو الأليق بمساق الحديث.ألا ترى قوله: «ليس ذلك الرقوب، ولكنه الرجل الذي لا (4) يقدم من ولده شيئًا) أي: هو (5) أحق باسم الرقوب من ذلك ؛ لأنَّ هذا الذي أصيب بفقد أولاده في الدنيا ينجبر في الآخرة بما يعوض على ذلك من الثواب، وأما من لم يمت له ولد فيفقد في الآخرة ثواب فقد الولد.
فهو أحق باسم الرقوب من الأول، وقد صدر هذا الأسلوب من النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، كقوله: «ليس المسكين بالطواف عليكم»، و«ليس الشديد بالصرعة» و«ليس الواصل بالمكافئ» ومثله كثير. %(4/1397)%
__________
(1) في (ح): «ترتقب».
(2) زاد بعدها في (ح): «على الذي لا يولد له».
(3) في (ح): «الحالة» بدل «حال».
(4) في (ح): «لم».
(5) في (ح): «هذا».(4/1397)
ولم يرد بهذا السلب سلب الأصل.لكن سلب الأولى =(6/595)=@ والأحق، والصرعة: بفتح الراء هو الذي يصرع الناس كثيرًا، وبالسكون هو الذي يصرعه الناس، وكذلك: هزأة وهزءة (1) ، وسخرة وسخرة، وقد تقدَّم.
وقوله: «لما صور الله تعالى آدم في الجنة ترى ما شاء الله (2) أن يتركه» يعني: أن الله تعالى لما صور طينة آدم، وشكلها بشكله على ما سبق في علمه فلما رآها &(6/484)&$ إبليس أطاف بها، أي: دار حولها، وجعل ينظر في كيفيتها وأمرها، فلما رآها =(6/596)=@ ذات جوفي وقع له أنها مفتقرة إلى ما يسد جوفها، وأنها لا تتمالك عن تحصيل ما تحتاج إليه من أغراضها، وشهواتها» فكان الأمر على ما وقع. %(4/1398)%
__________
(1) في (ح): «هدأة وهذاة».
(2) لفظ الجلالة ليس في (أ).(4/1398)
ومن باب: إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطم الوجه (1)
قوله: «إذا قاتل أحدكم أخاه، فلا يلطمن الوجه». وفي الأخرى: «فليجتنب الوجه، فإنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته» معنى قائل: ضرب (2) ، وقد جاء كذلك في بعض رواياته، وقد قلنا: إن أصل المقاتلة المدافعة، ويعني بالأخوة &(6/485)&$ هنا - والله أعلم - أخو الآدمية، فإنَّ الناس كلهم بنو آدم، ودل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنَّ الله خلق آدم على صورته» أي: على صورة وجه المضروب، فكأن اللاطم في وجه أحد ولد آدم لطم وجه أبيه آدم. وعلى هذا فيحرم لطم الوجه من المسلم والكافر، ولو أراد الأخوة الدينية لما كان للتعليل بخلق آدم على صورته معنى. لا (3) يقال: فالكافر مأمور **مامور كذا بالورق** بقتله وضربه في أي عضو كان؛ إذ المقصود إتلافه (4) ، والمبالغة =(6/597)=@ في الانتقام منه، ولا شك في أن ضرب الوجه أبلغ في الانتقام والعقوبة، فلا يمنع. إنما (5) مقصود الحديث: إكرام وجه المؤمن لحرمته؛ لأنَّا نقول: مسلم أنا مأمورون بقتل الكافر، والمبالغة في الانتقام منه لكن إذا تمكنا من اجتناب %(4/1399)%
__________
(1) كتب في (ح): «بدل هذا العنوان»: «باب النهي عن ضرب الوجه».
(2) في (ح): «ضارب».
(3) في (ح): «لا» وألحق في الهامش «فلا» وكتب فوقها (ح).
(4) في (ح): «قتله».
(5) في (ح): «وأما».(4/1399)
وجهه اجتنبناه لشرفية هذا العضو، ولأن الشرع قد نزل هذا الوجه منزلة وجه أبينا.
وقبح (1) لطم الرجل وجهًا يشبه وجه أبي اللاطم، وليس كذلك سائر الأعضاء ؛ لأنَّها كلها تابعه للوجه، وهذا الذي ذكرناه: هو ظاهر الحديث، ولا يكون في الحديث إشكال يوهم في حق الله تعالى تشبيهًا، إنَّما (2) أشكل ذلك على من أعاد الضمير في صورته على الله تعالى، وذلك ينبغي ألا يصار إليه شرعًا، ولا عقلاً (3) ، أما العقل فيحيل الصورة الجسمية على الله تعالى، وأما الشرع فلم ينص على ذلك نصًّا قاطعا، ومحال أن يكون ذلك، فإنَّ النص القاطع صادق، والصادق لا يقول المحال، فيتعين عود الضمير على المضروب ؛ لأنَّه هو الذي سبق الكلام لبيان حكمه.وقد أعادت المشبهة هذا الضمير على الله تعالى، فالتزموا القول بالتجسيم، وذلك نتيجة العقل السقيم، والجهل الصميم، وقد بينا جهلهم، وحققنا كفرهم فيما تقدم، ولو سلمنا: أن الضمير عائد على الله تعالى، فللتأويل فيه وجه صحيح، وهو أن الصورة قد تطلق بمعنى الصفة، كما يقال: صورة هذه المسألة كذا، أي: صفتها، وصور لي فلان كذا فتصورته، أي: وصفه لي ففهمته، &(6/486)&$ وضبطت وصفه في نفسي، وعلى هذا فيكون معنى قوله: «إن الله خلق آدم على صورته (4) » أي: خلقه موصوفًا بالعلم الذي فصل به بينه وبين جميع أصناف الحيوانات، وخصه منه بما لم يخص به أحدًا من ملائكة (5) الأرضين والسموات، وقد قلنا فيما تقدَّم: إن التسليم في المتشابهات أسلم، والله ورسوله أعلم.
والأنباط: جمع نبط، وهم قوم ينزلون =(6/598)=@ بالبطائح بين العراقين، سقوا بذلك لأنهم ينبطون الماء، أي: يحفرون عليه حتى يخرج (6) على وجه الأرض.يقال: نبط الماء ينبط ويتنبط: إذا نبع، %(4/1400)%
__________
(1) في (ح): «وبقبح».
(2) في (ح): «وإنما».
(3) في (ح): «عقلاً ولا شرعًا».
(4) قوله: «على صورته» سقط من (ح).
(5) في (ح): «الملائكة».
(6) في (ح): «يخرجون».(4/1400)
وأنبط الحفار الماء إذا بلغ إليه، والاستنباط: استخراج العلوم، ويقال على النبط: نبيط أيضًا، وكانوا إذ ذاك أهل ذمة، ولذلك عذبوا بالشمس، وصب الزيت على رؤوسهم لأجل الجزية، وكأنهم امتنعوا من الجزية مع التمكن، فعوقبوا لذلك، فأمَّا مع تبين عجزهم، فلا تحل عقوبتهم بذلك (1) ، ولا بغيره ؛ لأنَّ من عجز عن الجزية سقطت عنه .
وقوله: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا» يعني: إذا عذبوهم ظالمين، إما في أصل التعذيب فيعذبونهم (2) في موضع لا يجوز فيه التعذيب، أو يعذب (3) بزيادة على المشروع في التعذيب: إما في المقدار، وأما في الصفة، كما بيناه في ا لحدود .
وقوله: «وأميرهم يومئذ عمير بن سعد»: كذا (4) صحت الرواية عند أكثر الشيوخ، وفي أكثر النسخ، وهو الصواب ؛ لأنَّه عمير بن سعد بن عمر (5) القارئ من الأنصاري من بني عمرو بن عوف، يكنى أبوه أبا زيد، وهو أحد من جمع القرآن، الذي تقدَّم ذكره في حديث أنس، الذي قال فيه أنس: أبو زيد أحد &(6/487)&$ عمومتي، واختلف في اسم أبي زيد هذا، فقيل (6) : سعد - كما تقدم - وهو الأعرف، وقيل: سعيد، وكان عمر - رضي الله عنه - %(4/1401)%
__________
(1) في (ح): «لذلك».
(2) في (ح): «فيعذبوهم».
(3) قوله: «يعذب» سقط من (ح).
(4) في (ح): «هكذا».
(5) في (ح): «عمير».
(6) في (ح): «قيل».(4/1401)
ولي عميرًا حمص وكان يقال له: نسيج =(6/599)=@ وحده ووقع في كتاب القاضي أبي علي الصدفي: عمر بن سعيد.
قال أهل النقل: وهو وهم، وأما عمرو بن سعيد (1) فمعدود في الصحابة، وهو عمرو بن سعيد (2) ربيب الجلاس ويتيمه.حكاه القاضي أبو الفضل. وأوشكت: أسرعت، ومعناه: أنك ترى عن قرب ما يخبرك به.وقد تقدم القول في يوشك، وأنه من أفعال المقاربة، وفي القوم الذين بأيديهم سياط كأذناب البقر .
ومن باب: النهي عن الإشارة بالسلاح وفضل تنحية الأذى عن الطريق
قوله: «من أشار إلى أخيه بحديدة، فإنَّ الملائكة تلعنه حتى» كذا صحت =(6/600)=@ الرواية بالاقتصار على حتى، ولم يذكر المجرور بها استغناء عنه لدلالة الكلام &(6/488)&$ عليه، تقديره: حتى يترك، أو يدع، وما أشبهه، ووقع عند بعض %(4/1402)%
__________
(1) في (ح): «سعد».
(2) في (ح): «سعد».(4/1402)
الرواة بعد حتى (1) : «وإن كان أخاه لأبيه (2) »، وعليه فيكون ما بعده ليس من كلام النبي عليه السلام. وسقطت لبعضهم يعني: فيكون ما بعده من قول النبي صلى الله عليه وسلم حكم (3) أن مساق الكلام واحد.
ولعن النبي صلى الله عليه وسلم للمشير بالسلاح: دليل على تحريم ذلك مطلقا، جدا كان (4) أو هزلا، تحر ولا يخفى وجه لعن من تعتد ذلك؛ لأنَّه يريد قتل المسلم أو جرحه، وكلاهما باد كبيرة. وأما إن كان هازلاً؛ فلأنه ترويع مسلم، ولا يحل ترويعه، ولأنه ذريعة إلى القتل والجرح (5) المحرمين. وقد نص في الرواية الأخرى على صحَّة مراعاة الذريعة حيث قال: «فإنَّه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفر (6) من النار». &(6/489)&$
وقوله: «وإن كان أخاه لأبيه وأمه» يعني: أن (7) ذلك محرم، صلى الله عليه وسلم، وقع من أشفق (8) الناس عليه، وأقربهم رحمًا، وهو يشعر بمنع الهزل بذلك.
ونصال: جمع نصل، وهي - هنا -: حديدة السهم، وتكراره: «فليأخذ بنصاله» ثلاث مرات على جهة التأكيد والمبالغة في سد الذريعة، وهو من جملة ما استدل به مالك - رحمه الله - على أصله في سد الذرائع. =(6/601)=@ %(4/1403)%
__________
(1) في (ح): «حتى يعني».
(2) في (ح): «لأبيه وأمه».
(3) في (ح): «بحكم».
(4) في (ح): «كان ذلك أو».
(5) في (ح): «أو للجرح».
(6) في (ح): «حفرة».
(7) قوله: «أن» سقط من (ح).
(8) في (ح): «وإن وقع مع أشفق».(4/1403)
وقوله: «كيلا يخدش مسلمًا» فيه ما يدلّ على صحة القول بالقياس، وتعليل الأحكام الشرعية.و(قول أبي موسى: والله؛ ما متنا حتى سددناها، بعضنا في وجوه بعض) يعني: ما مات معظم الصحابة -رضي الله عنهم - حتى وقعت بينهم الفتن والمحن، فرمى بعضهم بعضا بالسهام، وقاتل (1) بعضهم بعضًا. ذكر هذا في معرض التأسف على تغير الأحوال وحصول الخلاف لمقاصد الشرع من: التعاطف والتواصل على قرب العهد، وكمال الجد. =(6/602)=@
وقوله: «فشكر الله له (2) فغفر له» أي: أظهر لملائكته، أو لمن شاء من خلقه الثناء عليه بما فعل من الإحسان لعبيده. وقد تقدَّم: أن أصل الشكر: الظهور، أو يكون جازاه جزاء الشاكر، فسمى الجزاء شكرا، وعبر عنه بشكر.
كما قال في &(6/490)&$ الرواية الأخرى: «فأدخل الجنة» وكل ذلك إنما حصل لذلك الرجل بحسن نيته في تنحيته الأذى، ألا ترى قوله: «والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم»، %(4/1404)%
__________
(1) قوله: «وقاتل» بياض في (ح).
(2) قوله: «له» سقط من (ح).(4/1404)
وقوله: «لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها» أي: يتقلب في نعيم الجنة، وملابسها (1) ، وقصورها، وسائر ما أعد الله تعالى فيها. =(6/603)=@
وقوله: «وأمر الأذى (2) عن طريق المسلمين» هكذا روايتي، ورواية عامة الشيوخ: براء مشددة، من المرور، بمعنى: نح. وعند الطبري: وأمر بزاي معجمة - من الميز، أي: أزله من الطريق، وميزه عنه.وعند ابن ماهان: أخره، وكلها بمعنى واحد .%(4/1405)%
__________
(1) من قوله: «وقوله: لقد رأيت...» إلى هنا مكرر في (ح).
(2) في (ح): يشبه «وأمر للأذى».(4/1405)
وفيه ما يدل على الترغيب في إزالة الأذى والضرر عن المسلمين، وعلى إرادة الخير لهم، وهذا مقتضى الدين، والنصيحة، والمحبة. =(6/604)=@
ومن باب: عذبت امرأة في هرة (1)
وقوله: «دخلت امرأة النار من جراء هرة (2) » أي: من أجل، وفيه لغتان: المد والقصر، وظاهر هذا أن الهر يملك ؛ لأنَّه عليه السلام أضاف الهر للمرأة باللام التي هي ظاهرة في الملك، وقد تقدَّم الخلاف في ذلك. &(6/491)&$ وفيه ما يدلّ على أن الواجب على مالك الهر أحد الأمرين: إما أن يطعمه، أو يتركه يأكل مِمَّا يجده من الخشاش، وهي: حشرات الأرض، وأجناسها.وقد =(6/605)=@ يقال على صغار الطير، وهو بالخاء المعجمة، ويقال بفتح الخاء وكسرها.وحكى أبو علي القالي فيها الضم، فأمَّا الخشاش بالكسر لا غير: فهو الذي يدخل في أنف البعير من خشب، والخزامة من شعر، فأمَّا الخشاش بالفتح: فهو الماضي من الرجال.قال الجوهري: وقد يضم.وترمم: بضم التاء (3) والميم المشددة للعذري والسجزي، وهي الصحيحة. وعند بعضهم: ترمم بضم التاء وكسر الميم الأولى. والثلاثي هو المعروف (4) ، ومعناه: يأكل، مأخوذ من المرمة، وهي: الشفة من كل ذات ظلف .%(4/1406)%
__________
(1) قوله: «ومن باب: عذبت امرأة في هرة» سقط من (ح).
(2) في (ح): «هرة لها».
(3) من قوله: «والميم المشددة للعذري...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) قوله: «هو» سقط من (ح).(4/1406)
ومن باب: عذاب المتكبر والمتألي
قوله: «العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته» كذا جاء هذا اللفظ في كتاب مسلم مفتتحا بخطاب الغيبة، ثم خرج إلى الحضور، وهذا على &(6/492)&$ نحو قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك (1) } فخرج من خطاب الحضور إلى الغيبة، وهي طريقة عربية معروفة.وقد جاء هذا الحديث في غير كتاب مسلم: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قصمته، ثم ألقيته في النار»، وأصل الإزار: الثوب الذي يشا على الوسط.والرداء =(6/606)=@ يجعل (2) على الكتفين، ولما كان هذان التوبار يخصان اللابس بحيث لا يستغنى عنهما، ولا يقبلان المشاركة عبر الله تعالى عن العز بالإزار، وعن الكبرياء (3) بالرداء على جهة الاستعارة المستعملة عند العرب، كما قال: {ولباس التقوى ذلك خير} فاستعار للتقوى لباسًا، وكما قال عليه السلام: «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها». وكما قال: «البسوا قناع المخافة، واذرعوا لباس الخشية»، وهم يقولون: فلان شعاره الزهد والورع، ودثاره التقوى، وهو كثير. ومقصود هذه الاستعارة الحسنة: أن العز، والعظمة، والكبرياء من أوصاف الله تعالى الخاصة به العز التي لا تنبغي لغيره. فمن تعاطى شيئًا منها أذله الله تعالى %(4/1407)%
__________
(1) زاد في (ح): «وجرين بهم».
(2) في (ح): «ما يجعل».
(3) في (ح): «الكبر».(4/1407)
وصغره، وحقره، من» وأهلكه، كما قد أظهر الله تعالى من سنته في المتكبرين السابقين واللاحقين.
و(قول المتألي: والله لا يغفر الله لفلان) ظاهر في أنه قطع بأن الله تعالى، لا يغفر لذلك الرجل، وكأنه حكم على الله، وحجر عليه.وهذه نتيجة الجهل بأحكام الإلهية، والإدلال على الله تعالى بما اعتقد أن له عنده من الكرامة، والحظ، والمكانة. وكذلك المذنب من الخشة والإهانة، فإنَّ كان هذا المتألي مستحلاً لهذه الأمور فهو كافر، فيكون إحباط عمله لأجل الكفر، كما يحبط عمل الكفار، وأما إن لم يكن مستحلاً لذلك، وإنما غلب عليه الخوف، فحكم بإنفاذ &(6/493)&$ الوعيد فليس بكافر، ولكنه (1) مرتكب كبيرة، فإنَّه قانط من رحمة الله، فيكون إحباط عمله بمعنى: أن ما أوجبت له هذه الكبيرة من الإثم يربي على أجر أعماله الصالحة، فكأنه لم يبق له عمل صالح. =(6/607)=@
وقوله: «من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان» استفهام على جهة الإنكار والوعيد، ويستفاد منه: تحريم الإدلال على الله تعالى، ووجوب التأدب معه في الأقوال، والأحوال، وأن حق العبد أن يعامل نفسه بأحكام العبودية، ومولاه بما يجب له من أحكام الإلهية والربوبية.
وقوله: «فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك» دليل على صحَّة مذهب أهل السنة: أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، وهو موجب %(4/1408)%
__________
(1) في (ح): «لكنه» بلا واو.(4/1408)
قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وأن لله تعالى أن يفعل في عبيده ما يريد من المغفرة والإحباط، إذ هو الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء.وقد بينا الإحباط المذكور في هذا الحديث.
وقوله: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم» قال أبو إسحاق: لا أدري: أهلكهم بالنصب أو بالرفع. أبو إسحاق هذا: هو إبراهيم بن سفيان الراوي عن مسلم، شك في ضبط هذا الحرف، وقد قيده الناس بعده بالوجهين، وكلاهما له وجه، فإذا كان بالرفع: فمعناه أن القائل كذلك (1) القول هو أحق الناس بالهلاك، أو أشدهم هلاكًا، ومحمله على ما إذا قال ذلك (2) محقرًا للناس، وزاريًا عليهم، معجبًا بنفسه وعمله، ومن كان كذلك فهو الأحق بالهلاك منهم، فأمَّا (3) لو قال ذلك على جهة الشفقة على أهل عصره، وأنهم بالنسبة إلى من تقدمهم من أسلافهم =(6/608)=@ كالهالكين، فلا يتناوله هذا الذم، فإنَّها عادة جارية في أهل العلم والفضل، يعظمون أسلافهم، ويفضلونهم على من بعدهم، ويقصرون (4) بمن خلفهم، وقد يكون هذا على جهة الوعظ والتذكير ليقتدي اللاحق بالسابق، فيجتهد المقصر، ويتدارك المفرط، كما قال الحسن - رحمه الله -: لقد أدركت أقواما لو أدركتموهم لقلتم: مرضى، ولو أدركوكم لقالوا: هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب. &(6/494)&$
وأما من قيده بالنصب فيكون معناه: أن الذي قال لهم ذلك مقنطًا لهم: هو الذي أهلكهم بهذا القول، فإنَّ الذي يسمعه قد ييأس من رحمة الله تعالى فيهلك، وقد يغلب على القائل رأي الخوارج فيهلك الناس بالخروج %(4/1409)%
__________
(1) في (ح): «لذلك».
(2) قوله: «ذلك» سقط من (ح).
(3) في (ح): «فأما إذا لو».
(4) في (ح): «ويقصدون».(4/1409)
عليهم، ويشق عصاهم بالقتال، وغير ذلك كما فعلت الخوارج، فيكون قد أهلكهم حقيقة وحسًا، وقيل معناه: إن الذي قال فيهم ذلك (1) ، لا الله تعالى، فكأنه قال: هو الذي ظن ذلك (2) من غير تحقيق ولا دليل من جهة الله تعالى.والله تعالى أعلم.
وقوله: «رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره» الأشعث: المتلبد الشعر غير المدهنة. والمدفوع بالأبواب، أي: عن الأبواب. فلا يترك بقربها احتقارًا له، ويصح أن يكون معناه: يدفع بسد الأبواب في وجهه كلما أراد دخول باب من الأبواب، أو قضاء حاجة من الحوائج.
وقوله: «لو أقسم على الله لأبره» أي: لو وقع منه قسم على الله في شيء لأجابه الله تعالى فيما سأله إكرامًا له، ولطفًا به، وهذا كما تقدَّم من قول أنس بن النضر: لا والله لا يكسر ثنية الربيع أبدًا. فأبر الله قسمه، بأن جعل في قلوب الطالبين للقصاص الرضا بالدية، بعد أن أبوا قبولها، وكنحو ما اتفق للبراء لما =(6/609)=@ التقى بالكفار فاقتتلوا، فطال القتال، وعظم النزال، فقال البراء: أقسمت عليك يا رب! أو عزمت عليك، لتمنحنا أعناقهم (3) ، ولتلحقني بنبيك، فأبر الله قسمه، فكان كذلك.ولقد أبعد من قال: إن القسم – هنا - هو الدعاء من جهة اللفظ والمعنى. &(6/495)&$ %(4/1410)%
__________
(1) في (ح): «ذلك فيهم».
(2) في (ح): «نطق بذلك».
(3) في (ح): «أكتافهم».(4/1410)
ومن باب: الوصية بالجار
وفضل السعي على الأرملة واليتيم
قوله: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» قد تقدَّم أن الجار يقال على المجاور في الدار، وعلى الداخل في الجوار، وكل واحد منهما له حق، ولا بد من الوفاء به، وقد تقدَّم قوله عليه السلام: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه».
وقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره». ولما أكد =(6/610)=@ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم (1) حق الجوار، وكثر عليه من ذلك غلب على ظن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله سيحكم بالميراث بين الجارين. وهذا يدلّ على: أن هذا الجار هنا هو جار الدار؛ لأنَّ الجار بالعهد قد كان من أول الإسلام يرث ثم نسخ ذلك، كما تقدَّم، فإنَّ كان هذا القول صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، فقد كان التوارث مشروعًا، فمشروعيته واقعة محققة غير منتظرة، ولا مظنونة، وإن كان بعد ذلك فوقع ذلك الحكم ونسخه محقق، فكيف تظن (2) مشروعيته؟! فتعين: أن المراد بالجوار في هذا الحديث هو جوار الدار، والله تعالى أعلم. &(6/496)&$
وقوله: «إذا طبخت مرقة فكثر (3) ماءها وتعاهد جيرانك» هذا الأمر على جهة الندب، والحث (4) على مكارم الأخلاق، وإرشاد إلى محاسنها لما يترتب عليه (5) من المحبة، وحسن العشرة، والألفة، ولما يحصل به من المنفعة، %(4/1411)%
__________
(1) قوله: «في» سقط من (ح).
(2) في (ح): «يظن».
(3) في (ح): «فأكثر».
(4) في (ح): «والحض».
(5) في (ح): «عليها».(4/1411)
ودفع الحاجة والمفسدة، فقد يتأذى الجار بقتار قدر جار (1) ، وعياله، وصغار ولده، ولا يقدر على التوصل إلى ذلك فتهيج من ضعفائهم الشهوة، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة، وربما يكون يتيمًا، أو أرملة ضعيفة، فتعظم المشقة، ويشتد منهم الألم والحسرة، وكل ذلك يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع إليهم، فلا أقبح من منع هذا النذر (2) اليسير الذي يترتب عليه هذا الضرر الكبير.
وقوله: «فأكثر ماءها» تنبيه لطيف على تيسير الأمر على البخيل، إذ الزيادة =(6/611)=@ المأمور بها إنما هي فيما ليس له ثمن، وهو الماء. ولذلك لم يقل إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها، أو طبيخها، إذ لا يسهل ذلك على كل أحد.
وقوله: «فأصبهم منها بمعروف» أي: بشيء يهدى مثله عرفًا، تحرزًا من التقليل المحتقر فإنه - وإن كان مما يهدى- فقد لا يقع ذلك الموقع، فلو لم يتيسر إلا القليل المحتقر فليهده ولا يحتقر (3) . كما جاء في الحديث الآخر: «لا تحقرن من المعروف شيء» ويكون المهدى له مأمورًا بقبول ذلك المحتقر، والمكافأة عليه، ولو بالشكر؛ لأنَّه وإن كان قدره محقرًا، دليل على تعلق قلب المهدي بجاره.
وقوله: «ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق» يروى بكسر اللام، وياء بعدها. وطلق الوجه بتسكين اللام بغير ياء، وهما لغتان، يقال: رجل طلق الوجه، وطليق الوجه، وهو المنبسط الوجه السمحه. يقال: طلق وجهه: بضم اللام يطلق طلاقه! =(6/612)=@ &(6/497)&$ %(4/1412)%
__________
(1) في (ح): «جاره».
(2) في (ح): «النزر».
(3) في (ح): «فلنهده ولا يحتقره».(4/1412)
ومن باب: السعي (1) على الأرملة وكفالة اليتيم
قال الجوهري: الأرمل: الرجل الذي لا امرأة له، والأرملة: المرأة (2) التي لا زوج لها، وقد أرملت المرأة إذا مات عنها زوجها.قال ابن السكيت: الأرامل: المساكين من رجال أو نساء (3) . قال: ويقال لهم، وإن لم يكن فيهم نساء، ويقال: قد جاءت أرملة من نساء ورجال محتاجين، وإنما شبه الساعي على الأرملة بالمجاهد؛ لأنَّ القيام على المرأة بما يصلحها وما يحفظها، ويصونها، لا يتصور الدوام عليه إلا مع الصبر العظيم، ومجاهدة النفس والشيطان، فإنَّهما يكسلان عن ذلك، ويثقلانه، ويفسدان النيات في ذلك، وربما يدعوان بسبب ذلك إلى السوء ويسولانه، ولذلك قل من يدوم على ذلك العمل، وأقل من ذلك من يسلم منه، فإذا حصل ذلك العمل حصلت منه فوائد كشف كرب الضعفاء، وإبقاء رمقهم، وسد خلتهم، وصون حرمتهم .=(6/613)=@
وقوله: «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو في الجنة كهاتين» قد تقدَّم: أن اليتيم في الناس من قبل فقد الأب، وفي البهائم: من قبل فقد (4) الأم، أو في الطير من قبل الأب والأم ومعنى قوله: «له أو لغيره»- أي: سواء كان اليتيم قريبًا للكافل أو لم يكن - في حصول ذلك الجزاء الموعود على الله.
ومعنى قوله: «أنا وهو في الجنة كهاتين» أي: هو معه (5) في الجنة، وبحضرته، غير أن كل واحد منهما على درجته فيها إذ لا يبلغ درجة الأنبياء غيرهم، ولا يبلغ درجة نبينا صلى الله عليه وسلم أحد من الأنبياء على (6) ما تقدَّم. وإلى هذا المعنى الإشارة بقرانه بين إصبعيه السبابة &(6/498)&$ والوسطى، فيفهم من الجمع بينهما: المعية والحضور، ومن تفاوت ما بينهما: اختصاص كل واحد منهما بمنزلته ودرجته.وقد نص على هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «المرء مع من أحب، وله ما اكتسب» وقد تقدم نحو هذا. =(6/614)=@ %(4/1413)%
__________
(1) في (ح): «فضل السعي».
(2) قوله: «المرأة» سقط من (ح).
(3) في (ح): «والنساء».
(4) قوله: «فقد» سقط من (ح).
(5) في (ح): «معي».
(6) في (ح): «إلا على».(4/1413)
ومن باب: التحذير من الرياء والسمعة
قوله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك» أصل الشرك المحرم: اعتقاد شريك لله تعالى في إلهيته، وهو الشرك الأعظم، وهو شرك الجاهلية، ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى (1) في الفعل، وهو قول من قال: إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بأحداث فعل وإيجاده، وإن لم يعتقد كونه إلها، ويلي هذا في الرتبة الإشراك في العبادة، وهو الرياء. وهو أن يفعل شيئا من العبادات التي أمر الله تعالى بفعلها له لغير الله، (وهذا هو الذي سيق الحديث (2) لبيان تحريمه، وأنه &(6/499)&$ مبطل للأعمال. لهذا (3) أشار بقوله: «من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشريكه» وهذا هو المسمى بالرياء، وهو على الجملة مبطل للأعمال، وضده الإخلاص، وهو من شرط صحَّة العبادات، والقرب. وقد نبهنا على معاقدهما. واستيفاء ما يتعلق بهما مذكور في الرقائق. =(6/615)=@
وقوله: «من سمع سمع الله به» أي: من يحدث بعمله (4) رياء ليسمع الناس فضحه الله تعالى يوم القيامة، وشهره على رؤوس الأشهاد (5) ، كما جاء (6) في غير كتاب مسلم: «يسمع (7) الله به سامع خلقه يوم القيامة» أي: كل من يسمع.وقيل: إن معنى ذلك أن من أذاع على مسلم عيبًا، وشنعه عليه، أظهر الله تعالى عيوبه يوم القيامة. %(4/1414)%
__________
(1) من قوله: «في إلهيته وهو...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «هذا الحديث».
(3) في (ح): «ولهذا».
(4) في (ح): «بعلمه».
(5) في (ح): «الأجتهاد».
(6) في (ح): «جاءت».
(7) في (ح): «سمع».(4/1414)
وقوله (1) : «ومن راءى راءى الله به» أي: من راءى بعمله فعمل شيئا من القرب لغير الله قابله الله يوم القيامة بعقوبة ذلك.فسمى العقوبة رياء على جهة المقابلة، كما قال: {ومكروا ومكر الله}.
وقوله: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها» أي: من الإثم والعقاب، وذلك لجهله بذلك، أو لترك التثبت، أو للتساهل.وفي غير كتاب مسلم إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقى لها بالا يهوي بها في النار، سبعين خريفا».
وفيه (2) من الفقه: وجوب التثبت عند الأقوال والأفعال، وتحريم، التساهل في شيء من الصغائر، وملازمة الخوف، والحذر عند كل قول وفعل، =(6/616)=@ والبحث عما مضى من الأقوال والأفعال، واستحضار &(6/500)&$ ما مضى من ذلك وتذكره من أول زمان تكليفه؛ لإمكان أن يكون صدر من المكلف شيء بر لم يثبته يستحق (3) به هذا الوعيد (4) الشديد، فإذا تذكر واستعان بالله، فإنَّ ذكر شيئًا من ذلك تاب منه، واستغفر، وإن لم يتذكر وجب عليه أن يتوب جملة بجملة عما علم وعما لم يعلم، كما قال (5) النبي صلى الله عليه وسلم: «أستغفرك عما تعلم ولا أعلم». فمن فعل ذلك وصدقت نيته قبلت بفضل الله تعالى توبته.
وقوله: «من سخط الله»، أي: مما يسخط الله، وذلك بأن يكون كذبه، أو غيبة، أو نميمة، أو بهتانًا، أو بخسًا، أو باطلاً يضحك به الناس، كما قد جاء عن النبي في أنه قال: «ويل للذي يتكلم بالكلمة من الكذب ليضحك الناس (6) ، ويل له، ويل له».
وقوله: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» كذا رواية أكثر الرواة بتقديم الجيم على الهاء منصوبًا على الاستثناء، وهو جمع مجاهر، اسم فاعل من %(4/1315)%
__________
(1) قوله: «وقوله» سقط من (ح).
(2) في (ح): «فيه» بلا واو.
(3) في (ح): «فيستحق».
(4) في (ح): «الوعد».
(5) في (ح): «قاله».
(6) في (ح): «الناس بها».(4/1415)
جاهره بالقول وبالعداوة، إذا ناداه، وناجاه بذلك.ووقع في نسخة شيخنا أبي الصبر (1) : «إلا المجاهرون» بالواو رفعًا، وهو جائز، على أن تحمل (إلا) على (غير) كما قد أنشده النحويون:
وكل أخ مفارقه أخوه = لعمر أبيك الا الفرقدان
أي: غير الفرقدين، وهو قليل، والوجه الأول: الفصيح الكثير.
وقوله: «وإن (2) من الجهار» هذه رواية زهير، وهي رواية حسنة؛ لأنَّه =(6/617)=@ مصدر: جاهر، الذي (3) اسم الفاعل منه مجاهر، فيتناسب صدر الكلام وعجزه.
ورواه أكثر رواة مسلم: «وإن من الإجهار»فيكون مصدر: أجهر، أي (4) : &(6/501)&$ أعلن.
قال الجوهري: إجهار الرجل: إعلانه، وعند الفارسي: وإن من الإهجار، بتقديم الهاء على الجيم، وهو الإفحاش في القول. قاله الجوهري. قلت: وهذه الروايات، وإن اختلفت ألفاظها، هي راجعه، إلى معنى واحد قد فسره في الحديث، وهو أن يعمل الرجل معصية في خفية، وخلوة، ثم يخرج يتحدث بها مع الناس، ويجهر بها ويعلنها، وهذا من أكبر الكبائر، وأفحش الفواحش.
وذلك: أن هذا لا يصدر إلا من جاهل بقدر المعصية، أو مستهين مستهزيء بها، مصر عليها، غير تائب منها، مظهر للمنكر. والواحد من هذه الأمور كبيرة، فكيف إذا اجتمعت؟! فلذلك كان فاعل هذه الأشياء أشد (5) الناس بلاء في الدنيا، وعقوبة في الآخرة؛ لأنَّه تجتمع عليه عقوبة تلك الأمور كلها، وسائر الناس ممن ليس على مثل حاله، وإن كان مرتكب كبير فأمره أخفت، وعقوبته - إن عويب - أهون.ورجوعه عنها أقرب من الأول؛ لأنَّ ذلك المجاهر قل أن يتوب، أو يرجع عما اعتاده من المعصية، وسهل عليه منها.فيكون كل العصاة بالنسبة إليه إما معافى مطلقا إن تاب، وإما معافى بالنسبة إليه إن عوقب، والله تعالى أعلم. =(6/618)=@ &(6/502)&$ %(4/1416)%
__________
(1) في (ح): «أبي الصبر أيوب».
(2) في (ح): يشبه «فإن».
(3) في (ح): «الذي هو اسم».
(4) في (ح): «إذا» بدل «أي».
(5) في (ح): «فاعل ذلك أشد».(4/1416)
ومن باب: تغليظ عقاب من أمر بمعروف ولم يأته، ونهى عن المنكر وأتاه
قول القائل لأسامة: «ألا تدخل على عثمان فتكلمه» يعني: في تلك الأمور التي تفترى عليه، وكانت أمورًا بعضها كذب عليه، وبعضها كان له فيها عذر، وعنها جواب لو سمع منه، لكن العوام لا ينفع معهم اعتذار ولا ملام، ولم يكن شيء من هذه الأمور يوجب خلعه، ولا قتله قطعا، ولكن جرت الأقدار بأن قتل مظلومًا شهيد الدار.
وقوله: «أترون أني لا أكلمه إلا سمعكم» يعني: أنه كان يجتنب كلامه بحضرة الناس، ويكلمه إذا خلا به، وهكذا يجب أن يعاتب (1) الكبراء والرؤساء، يعظمون في الملأ إبقاء لحرمتهم، وينصحون في الخلاء أداء لما يجب من نصحهم. وسمعكم: منصوب على الظرف. يروى: بسمعكم، بالباء، أي: يحضره سمعكم.ويروى: أسمعكم على أنه فعل مضارع.
وقوله: «والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرًا، لا أحب أن أكون أول من فتحه» يعني: أنه كلمه مشافهة، كلام لطف (2) ؛ لأنَّه اتقى (3) ما يكون عن المجاهرة بالإنكار والقيام على الأئمة؛ لعظيم ما يطرأ %(4/1417)%
__________
(1) في (ح): «يعتب».
(2) في (ح): «لطيف».
(3) في (ح): «أبقى».(4/1417)
بسبب ذلك من الفتن =(6/619)=@ والمفاسد، وخصوصًا على مثل عثمان - رضي الله عنه - ففيه التلطف (1) في الإنكار إذا ارتجى نفعه. &(6/503)&$
وقوله: «ولا أقول لأحد يكون علي أميرا أنه خير الناس» أي: لا أطريه بذلك، ولا أداهنه، لكونه أميرا علي، بل: أقول له الحق، وأصنعه بحاله التي هو عليها (2) من غير تصنع (3) ، ولا ملق.وهذه كانت سيرة القوم، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يبالون في القيام بالحق، وإن أدى إلى العظائم، وهذا هو أعظم الأسباب التي أوجبت الاختلاف بينهم، حتى أدى ذلك إلى الحروب العظيمة، والخطوب الجسيمة؛ فإنَّ كل طائفة كانت ترى أنها المصيبة المحقة، ومخالفتها المخطئة، فإنَّها كانت أمورًا اجتهادية، ولم يكن فيها نصوص قطعية، ويستثنى من ذلك قتله عثمان، فإنَّه لم يرتكب ما يوجب خلعه، ولا قتله، والخوارج على علي والمسلمين فإنَّهم حكموا بكفر الجميع، فهاتان الطائفتان مخطئتان قطعًا، ومن عدا هؤلاء فأمَّا مصيب في اجتهاده فله أجران (4) ، ومن قصر في اجتهاده مذموم على التقصير. %(4/1418)%
__________
(1) في (ح): «من التلطف».
(2) في (ح): «لها» بدل «عليها».
(3) في (ح): يشبه «تصنيع».
(4) في (ح): «أجر».(4/1418)
وقوله: «فتندلق أقتاب بطنه» أي: تخرج بسرعة. واندلاق السيف : =(6/620)=@ خروجه بسرعة من غمده، والأقتاب: الأمعاء، واحدها قتب. وقال الأصمعي: واحدها قتبة، ويقال لها أيضًا: الأقصاب، واحدها قصب، قاله أبو عبيد. وقال أبو عبيدة: القتب: ما تحوى من البطن يعني: استدار، وهي الحوايا، وإنَّما اشتد (1) عذاب هذا؛ لأنَّه كان عالمًا بالمعروف وبالمنكر، وبوجوب (2) القيام عليه بوظيفة كل واحد منهما، ومع ذلك فلم بعمل بشيء من ذلك، فصار كأنه مستهين بحرمات الله تعالى، ومستخف بأحكامه، ثم إنه لم يتب عن شيء من ذلك، وهذا من &(6/504)&$ جملة من (3) ينتفع بعلمه، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة: عالم لم ينفعه (4) الله بعلمه». وإنما ذكر أسامة هذا الحديث مستدلا به على منع إطراء الأمير، بأن يقال له: أنت خير الناس ؛ لأنَّه يمكن أن يكون ذلك الأمير ممن يأمر بالمعروف، ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله فيستحق هذا العقاب الشديد، فكيف يقال له: أنت خير الناس؟! ويشهد لهذا مساق قوله، فتأمله، والله أعلم، وقد تقدَّم القول في وجوب تغيير المنكر.=(6/621)=@ %(4/1419)%
__________
(1) في (ح): «أشد».
(2) في (ح): «بوجوب» بلا واو.
(3) في (ح): «من لم ينتفع».
(4) في (ح): «تنفعه».(4/1419)
ومن باب: تشميت العاطس وكظم التثاؤب
قوله: «إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه» تشميت العاطس: هو الدعاء له بالخير، يقال: شمت (1) العاطس وسمته بالشين والسين (2) : إذا دعا له بالخير. والشين: أعلى اللغتين. قاله أبو عبيد. وقال ثعلب: معنى التشميت بالشين: أبعد الله عنك الشماتة.وأصل السين من الشمت، وهو القصد والهدى.وقال ابن الأنبارى: كل داع بالخير مشمت.وقد اختلف في تشميت العاطس الحامد لله، فأوجبه أهل الظاهر على كل من سمعه، للأمر المتقدم، ولقوله عليه السلام: «إذا عطس أحدكم فحمد الله كان حقًا على كل مسلم يسمعه أن يقول (3) : يرحمك الله». =(6/622)=@ &(6/505)&$
أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. والمشهور من مذهب مالك، ومن اتبعه في جماعة العلماء (4) : أنه فرض على الكفاية، فيجزئ (5) فيه دعاء بعض عن بعض. وذهبت فرقا: إلى أنه على الندب، وإليه ذهب القاضي أبو محمد ابن نصر، وتأولوا قوله (6) عليه السلام: «حق على كل مسلم سمعه أن يشمته»: أن ذلك حق (7) في حكم الأدب، ومكارم الأخلاق.
كقوله: «حق الإبل أن تحلب على الماء». %(4/1420)%
__________
(1) في (ح): «أشمت».
(2) في (ح): «بالسين والشين».
(3) في (ح): «يقول له».
(4) في (ح): «من العلماء».
(5) في (ح): «يجزئ».
(6) في (ح): «لقوله».
(7) قوله: «حق» سقط من (ح).(4/1420)
ثم اختلف العلماء في كيفية الحمد والرد لاختلاف الآثار. فقيل: يقول: الحمد لله. وقيل: الحمد لله رب العالمين. وقيل: الحمد لله على كل حال، وخيره الطبري فيما شاء من ذلك، ولا خلاف أنه مأمور بالحمد. وأما المشمت فيقول: ما يرد يرحمنا الله وإياكم، واختلف في رد العاطس على مشمته (1) ، فقيل يقول: يهديكم الله، ويصلح بالكم. وقيل يقول: يغفر الله لنا ولكم. وقيل: يرحمنا الله وإياكم، ويغفر لنا ولكم. وقال مالك والشافعي، إن شاء قال، يغفر الله لنا ولكم، وإن شاء قال: يهديكم الله ويصلح بالكم. &(6/506)&$
وقوله: «وإن لم يحمد الله فلا تشمته» هذا نهي عن تشميت من (2) لم يحمد الله بعد عطاسه، وأقل درجاته: أن يكون الدعاء له مكروها عقوبة له على غفلته عن تثب يحمد نعمة الله عليه في العطاس؛ إذ خرج منه ما احتقن في الدماغ من البخار. قاله بعض شيوخنا، ولا خلاف أعلمه أن من (3) لم يحمد الله لا يشمت، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم تشميت العاطس الذي لم يحمد الله، ونص على (4) أن ترك الحمد هو المانع من ذلك. =(6/623)=@
وقوله في حديث البخاري: «كان حقًا على كل من (5) سمعه أن يشمته» يدل: على: أن العاطس ينبغي له أن يسمع صوته لحاضريه، وينبغي لكل من سمعه أن يشمته، بحيث يسمع من يليه، وينبغي لمن (6) لم يسمع العاطس وسمع المشمت، أن يشمت العاطس إذا حصل له أن ذلك تشميت له. والأظهر من الأحاديث المتقدمة وجوب التشميت على كل من سمعه إذا حمد الله، وهو مذهب أهل الظاهر، وهي رواية عن مالك»
وقول سلمة بن الأكوع: أن النبي صلى الله عليه وسلم عطس عنده رجل فقال له: «يرحمك الله» ثم عطس أخرى (7) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرجل مزكوم (8) » %(4/1421)%
__________
(1) في (ح): «المشمت».
(2) في (ح): «العاطس» بل «من».
(3) قوله: «من» سقط من (ح).
(4) قوله: «على» سقط من (ح).
(5) في (ح): «كل مسلم سمعه».
(6) في (ح): «لكل» بدل «لمن».
(7) في (ح): «أخر».
(8) في (ح): «إنه» بدل «الرجل».(4/1421)
هكذا وقع هذا الحديث في كتاب مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل: «إنك مزكوم»، وهو الصحيح في الثانية، وقد خرجه الترمذي، وقال في الثالثة: «أنت مزكوم». والصحيح (1) في الرواية، وقد جاء في كتاب أبي داود وغيره الأمر بذلك مبلغا: «شمت أخاك ثلاثا، فما زاد فهو مزكوم» وبذلك قال مالك، وإن كان قد روى في موطئه الشك في الثالثة، أو الرابعة. =(6/624)=@
تنبيه: ينبغي للعاطس تغطية وجهه في حال عطاسه، وأن يخفض صوته به، ما لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل، ولأن تغطية الوجه ستر لما يغير العطاس من الوجه في والهيئة، ولأن إعلاء الصوت عندها مباعد للأدب والوقار. &(6/507)&$
وقوله: «التثاؤب من الشيطان» التثاؤب: مصدر تثاءب مهموزا، ممدودا، ولا يقال بالواو، ومضارعه: يتثاءب، والاسم: الثؤباء، كل ذلك بالهمز. قال ابن دريد: أصله من: ثاب الرجل، فهو مثوب، إذا استرخى وكسل، ونسبته للشيطان ؛ لأنَّه يصدر عن تكسيله، فإنَّه قل أن يصدر ذلك مع النشاط.وقيل: نسب إليه ؛ لأنَّه يرتضيه.وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم...» الحديث، كما تقدم. قال: «وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإنَّ أحدكم إذا تثاءب ضحك الشيطان منه»، وهذا يشعر بصحَّة %(4/1422)%
__________
(1) في (ح): «وهو الصحيح».(4/1422)
التأويل الثاني، فإنَّ ضحك الشيطان منه سخرية به (1) ؛ لأنَّه صدر عنه التثاؤب الذي يكون عن الكسل، وذلك كله يرضيه؛ لأنَّه يجد به طريقًا إلى الكسل عن الخيرات والعبادات، ولذلك جاء في بعض طرق هذا الحديث: «التثاؤب في الصلاة من الشيطان»؛ لأنَّ ذلك يدل =(6/625)=@ على كسله فيها، وعدم نشاطه، فتثقل عليه، فيملها، فيستعجل فيها، أو يخل بها.
وقوله: «فليكظم ما استطاع» هذا خطاب لمن غلبه ذلك، فإنَّه يكسره بسد فاهه (2) ما أمكن (3) ، أو بوضع يده على فمه.وأما من أحس بمبادئه فهو المخاطب في حديث البخاري بقوله (4) : «فليرده»، ويحتمل أن يكون اللفظان بمعنى واحد.
وقوله:«فإنَّ الشيطان يدخل» يعني في الفم إذا لم يكظم. ويحصل من &(6/508)&$ هذه الرواية، ومن حديث البخاري: أن من لم يكظم تثاؤبه ضحك الشيطان منه، ودخل في فمه، وقيل: إنه يتقيأ في فمه.
قال القاضي: ولهذا أمر المتثاءب بالتفل ليطرح ما ألقى الشيطان في فمه. وكل هذا يشعر بكراهة التثاؤب، وكراهة حالة المتثائب إذا لم يكظم، وأوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى محاسن الأحوال، ومكارم الآداب. =(6/626)=@ %(4/1423)%
__________
(1) قوله: «به» سقط من (ح).
(2) في (ح): «بسده فاه».
(3) في (ح): «ما أمكنه».
(4) في (ح): «بقوله في حديث البخاري».(4/1423)
ومن باب: كراهة المدح
قوله: «ويحك! قطعت عنق صاحبك»، وفي حديث أبي موسى: «قطعتم إلى ظهر الرجل» كل ذلك بمعنى أهلكتموه. وقد جاء عنه لكي أنَّه قال: «إياكم والمدح، فإنَّه الذبح». ويعني بذلك كله: أن الممدوح إذا أكثر عليه من ذلك يخاف عليه العجب بنفسه، والكر على غيره، فيهلك دينه بهاتين الكبيرتين، فإذا المدح مظنة الهلاك الديني، فيحرم، لكن هذه المظنة لا (1) تتحقق إلا عند الإكثار منه، والإطراء به، وأما مع الندرة والقلة؟ فلا يكون مظنة، فيجوز ذلك إذا كان حقا في نفسه، ولم يقصد به الإطراء، وأمن على الممدوح الاغترار به.وعلى هذا يحمل ما وقع للصحابة -رضي الله عنهم - من مدح بعضهم لبعض مشافهة ومكاتبة. وقد &(6/509)&$ مدح النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة نظما ونثرا، ومدح هو أيضًا جماعة من أعيان أصحابه مشافهة، لكن ذلك كله إنما جاز لما (2) صحت المقاصد، وأمنت الآفات المذكورة.
وقوله: «إن كان أحدكم مادحا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا؟ إن ما كان يرى أنه كذلك» ظاهر هذا: أنه لا ينبغي للإنسان أن يمدح أحدًا ما وجد من صلى الله عليه وسلم بر ذلك مندوحة، فإنَّ لم يجد بذا مدح لما (3) يعلمه من %(4/1424)%
__________
(1) في (ح): «ما» بدل «لا».
(2) في (ح): «إذا» بدل «لما».
(3) في (ح): «بما» بدل «لما».(4/1424)
أوصافه، وبما يظنه، ويتحرر من =(6/627)=@ الجزم والقطع بشيء من ذلك، بل: يتحرر بأن يقول: فيما أحسب أو أظن، ويزيد (1) على ذلك: ولا أزكي على الله أحدًا، أي: لا أقطع بأنه كذلك عند الله، فإنَّ الله تعالى هو المطلع على السرائر، العالم بعواقب الأمور.
وقول هشام (2) : (إن رجلاً جعل يمدح عثمان، فجعل المقداد يحثو في وجهه الحصباء) كأن هذا الرجل أكثر من المدح حتى صدق عليه أنه مداح، ولذلك عمل المقداد بظاهر ذلك الحديث، فحثا في وجهه التراب، ولعل هذا الرجل كان ممن اتخذ المدح عادة وحرفة، فصدق عليه! مداح، وإلا فلا يصدق ذلك على من مدح =(6/628)=@ مرة أو مرتين، أو شيئا أو شيئين.وقد بين الصحابي بفعله: أن مراد النبي (3) صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث: حمله على ظاهره، فعاتب المداح (4) برمي التراب في وجهه، وهو أقعد بالحال، وأعلم بالمقال.
وقد قاله غير ذلك الصحابي تأويلات ؛ لأنَّه رأي: أن ظاهره جفاء، والنبي (5) صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالجفاء. فقيل: إن معناه: خيبوهم، ولا تعطوهم شيئًا؛ لأنَّ (6) من أعطي التراب لم يعط شيئًا، كما قد جاء في الحديث الآخر: «إذا جاء صاحب الكلب يطلب ثمنه فاملأ كفه تراب». أي: خيبة، ولا تعطه (7) شيئًا. وقيل: إن معناه: أعطه ولا تبخل عليه، فإنَّ مآل كل ما يعطى إلى التراب.كما قال: %(4/1425)%
__________
(1) في (ح): «ولا يزيد».
(2) في (ح): «همام».
(3) في (ح): «مراد الشرع من».
(4) في (ح): «المادح».
(5) في (ح): «وأن النبي».
(6) في (ح): «ألأن» كذا رسمت.
(7) في (ح): «تعطيه».(4/1425)
= .................. ... وكل الذي فوق التراب تراب
&(6/510)&$
وقيل: معناه: التنبيه للممدوح على أن يتذكر أن المبدأ والمنتهى التراب فليعرضه على نفسه لئلا يعجب بالمدح، وعلى المداح، لئلا يفرط ويطري بالمدح، وأشبه المحامل بعد المحمل (1) الظاهر الوجه الأول، وما بعده ليس عليه معول. =(6/629)=@
ومن باب ما جاء أن أمر المسلم كله له خير، ولا يلدغ من جحر مرتين (2)
وقوله: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير» المؤمن هنا: هو العالم بالله، الراضي بأحكامه، العامل على تصديق موعوده، وذلك أن المؤمن المذكور إما أن يبتلى بما يضره، أو بما يسره؛ فإن كان الأول صبر واحتسب ورضي، فحصل على خير الدنيا والآخرة وراحتهما، وإن كان الثاني عرف بنعمة (3) &(6/511)&$ الله عليه، ومنته فيها فشكرها، وعمل بها، فحصل على نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
وقوله: «ليس ذلك إلا للمؤمن» أي المؤمن الموصوف بما ذكرته؛ لأنه إن لم يكن كذلك لم يصبر على المعصية ولم يحتسبها، بل يتضجَّر ويتسخَّط، فينضاف إلى مصيبته (4) الدنيوية مصيبته في دينه، وكذلك لا يعرف النعمة ولا يقوم بحقها ولا يشكرها، فتنقلب النعمة نقمة، والحسنة سيئة. نعوذ بالله من ذلك. =(6/630)=@ %(4/1426)%
__________
(1) في (ح): «الحمل».
(2) من قوله: «ومن باب ما جاء أن أمر...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح): «نعمة».
(4) في (ح): «مصيبة».(4/1426)
وقوله عليه السلام: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين» هذا مثل صحيح، وقول بليغ ابتكره النبي صلى الله عليه وسلم من فوره، ولم يسمع من غيره، وذلك أن السبب الذي أصدره عنه هو: أن أبا عزيز بن عمير الشاعر أخا مصعب بن عمير: كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه، ويؤذي **في الورق يوذي** المسلمين.فأمكن الله تعالى منه يوم بدر. فأخذ أسيرًا، وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يمن عليه، ولا يعود لشيء مما كان يفعله، فمن النبي صلى الله عليه وسلم عليه (1) فأطلقه. فرجع إلى مكة، وعاد إلى أشد مما كان عليه، فلما كان يوم أحد، أمكن الله منه، فأسر، فأحضر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يمن عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد (2) مرتين، والله لا تمسح عارضيك بمكة أبدًا». فأمر بقتله.
وأصل هذا المثل: أن الذي يلدغ من جحر لا يعيد يده إليه أبدا، إذا كان فطنا حذرا، بل: ولا لما يشبهه، فكذلك المؤمن لكياسته، وفطانته، وحذره إذا وقع في شيء مما يضره في دينه أو دنياه لا يعود إليه. والرواية المعروفة: «لا يلدغ »بضم الغين، وكذلك قرأته على الخبر، وهو الذي يشهد له سبب الخبر ومساقه، وقد قيده بعضهم بسكون الغين على النهي، وفيه بعد. =(6/631)=@ %(4/1427)%
__________
(1) في (ح): «ممن عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقه».
(2) قوله: «واحد» سقط من (ح).(4/1427)
ومن باب: اشفعوا إليَّ (1) تؤجروا
قوله: كان رسول الله ! إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال (2) : «اشفعوا تؤجروا» كذا وقع (3) هذا اللفظ «تؤجروا، بغير فاء ولا لام، وهو (4) مجزوم على جواب الأمر المضمن معنى الشرط، ومعناه واضح لا إشكال فيه، وقد روي «فلتؤجروا» بفاء ولام، وهكذا وجدته في أصل شيخنا أبي الصبر أيوب، وينبغي أن تكون هذه اللام مكسورة؛ لأنَّها لام كي، وتكون الفاء زائدة، كما زيدت في قوله عليه السلام: «قوموا فلأصلي لكم» في بعض رواياته، وقد تقدم قول من قال: إن الفاء قد تأتي زائدة، ويكون معنى الحديث: اشفعوا لكي تؤجروا، ويحتمل أن يقال: فيها لام الأمر، ويكون المأمور به التعرُّض للأجر بالاستشفاع، فكأنه قال: استشفعوا وتعرضوا بذلك للأجر، وعلى هذا فيجوز كسر هذه اللام على أصل لام الأمر (5) ، ويجوز تخفيفها بالسكون لأجل حركة الحرف الذي قبلها.
وقوله: «وليفض الله على لسان نبيه ما أحب» هكذا صحت الرواية هنا =(6/632)=@ وليفض باللام، وجزم الفعل بها، ولا يصح أن تكون لام كي كذلك، ولا يصح أيضًا أن تكون لام الأمر؛ لأنَّ الله تعالى لا يؤمر. وكان هذه الصيغة وقعت موقع الخبر كما قد جاء في بعض نسخ مسلم، ويقضي الله: على الخبر بالفعل المضارع، &(6/513)&$ ومعناه واضح، وهذه الشفاعة المذكورة هي %(4/1428)%
__________
(1) قوله: «إليَّ» سقط من (ح).
(2) في (ح): «وقال».
(3) في (ح): «وقع في هذا».
(4) في (ح): «وهي».
(5) قوله: «لام» سقط من (ح).(4/1428)
في الحديث في الحوائج والرغبات للسلطان، وذوي الأمر والجاه، كما شهد به صدر الحديث ومساقه، ولا يخفى ما فيها من الأجر والثواب؛ لأنَّها من باب صنائع المعروف، وكشف الكرب، ومعونة الضيف، إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول إلى السلطان، وذوي الأمر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول - مع تواضعه وقربه من الصغير (1) إذ كان لا يحتجب، ولا يحجب-: «أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها» وهذا هو معنى قوله تعالى: {ومن (2) يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها}.
قال القاضي: ويدخل في عموم الحديث الشفاعة للمذنبين، فيما لا حد فيه عند السلطان وغيره، وله قبول الشفاعة فيه، والعفو عنه إذا رأى ذلك كله صلى الله عليه وسلم كما له العفو عن ذلك ابتداء. وهذا فيمن كانت منه الزلة والفلتة، وفي أهل الستر والعفاف. وأما المصرون على فسادهم، المستهترون في باطلهم، فلا تجوز الشفاعة لأمثالهم، ولا ترك السلطان عقوبتهم ليزدجروا عن ذلك وليردع (3) غيرهم بما يفعل بهم. وقد جاء الوعيد بالشفاعة في الحدود.
وقوله: «إنما مثل جليس الصالح. وجليس السوء» كذا وقع في بعض النسخ، وهو من باب: إضافة الشيء إلى صفته، ووقع في بعضها: «الجليس الصالح والجليس السوء» وهو الأفصح والأحسن، ثم قال بعد هذا: «كحامل =(6/633)=@ المسك ونافخ الكير» هذا نحو ما يسميه (4) أهل، الأدب لف الخبرين، وهو نحو قول امرئ القيس: %(4/1429)%
__________
(1) في (ح): «والضعيف».
(2) في (ح): «من» بلا واو.
(3) في (ح): «وليرتدع».
(4) في (ح): «تسميه».(4/1429)
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا = لدى وكرها العناب والحشف البالي
فكأنه قال: قلوب (1) الطير رطبًا العناب، ويابسا الحشف. ومقصود هذا التمثيل الحض على صحبة العلماء والفضلاء، وأهل الدين، وهو الذي يزيدك نطقه علمًا، وفعله أدبًا ونظره خشية والزجر عن مخالطة من هو على نقيض ذلك. &(6/514)&$
وقوله: «فحامل (2) المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه» تطابقت الأخبار، واستفاضت على أن المسك يجتمع في غدة (3) هو الغزال أو يشبهه فيتعفن في تلك الغدد حتى تيبس وتسقط، فتؤخذ تلك الغدد كالجليدات المحشوة، وتلك الجلدة هي المسماة: بفأرة (4) . والجمهور من علماء الخلف والسلف على طهارة المسك، وفأرته، وعلى ذلك يدل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له، وثناؤه عليه، وإجازة بيعه، كما دل عليه هذا (5) الحديث. ومن المعلوم بالعادة المستمرة بين العرب والعجم استعماله، واستطابة ريحه، واستحسانه في الجاهلية والإسلام، لا يستقذره أحد من العقلاء، ولا ينهى عن استعماله أحد من العلماء، حتى (6) قال القاضي أبو الفضل: نقل بعض أئمتنا الاجتماع على طهارته، غير أنه قد ذكر عن (7) العمرين كراهيته، ولا يصح ذلك، فإن عمر قد قسم ما غنم منه بالمدينة، وقال أبو عبد الله المازري: وقال قوم بنجاسته، ولم يعينهم. والصحيح: القول =(6/634)=@ بطهارته، وإن لم يكن مجمعًا عليه للأحاديث الصحيحة، الدالة على ذلك، إذ قد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يستعمله، حتى إنه كان يخرج (8) ، ووبيص المسك في مفرقه، كما قالت عائشة - رضي الله %(4/1430)%
__________
(1) في (ح): «كأن قلوب».
(2) في (ح): «للحامل».
(3) في (ح): «غدد».
(4) في (ح): «بفأرة المسك».
(5) قوله: «هذا» سقط من (ح).
(6) قوله: «حتى» سقط من (ح).
(7) قوله: «عن» سقط من (ح).
(8) في (ح): «يحرم».(4/1430)
عنها - وقد تقدم قوله: «أطيب الطيب المسك»، وغير ذلك.
وقد قلنا: إن أهل الأعصار الكريمة مطبقون على استطابته واستعماله، فإنَّ قيل: كيف لا يكون نجسا وقد قلتم: إنه دم، والدم نجس في أصله بالإجماع، وإنما يعفى عن اليسير منه لتعذر التحرز منه على ما هو مفصل في الفقه.
فالجواب: إنا وإن سلمنا أن أصل المسك الدم، فلا نسلم أنه بقي على أصل الدموية، فإنَّ الدم إذا تعفن تغير لونه ورائحته إلى ما يستقذر ويستخبث، فاستحال إلى فساد، وليس كذلك المسك، فإنَّه قد استحال إلى صلاح يستطاب ويستحسن» ويفضل على أنواع كل الطيب، وهذا كاستحالة الدم لبنًا وبيضا، وإن شئت حررت فيه قياسًا فقهيًا فقلت: مانع له مقر يستحيل فيه إلى صلاح، ويكون (1) طاهرًا كاللبن والبيض. وتكميل هذا القياس في مسائل الخلاف. &(6/515)&$
وقوله: «إما أن يحذيك» هو بضم الياء رباعيا من أحذيته: إذا أعطيته، وفي الصحاح: أحذيته نعلاً: إذا أعطيته نعلاً، تقول منه: استحذيته فأحذاني، وأحذيته من الغنيمة: إذا أعطيته منها، والاسم: الحذيا.والكير: منفخ الحداد.والكور: المبنى الذي ينفخ فيه على النار والحديد. ويجوز أن يعثر بالكير عن الكور. =(6/635)=@ %(4/1431)%
__________
(1) في (ح): «فيكون».(4/1431)
ومن باب: ثواب القيام على البنات والإحسان إليهن
قوله: «من ابتلي بشيء من البنات فأحسن إليهن كن (1) له سترا من النار» ابتلي: امتحن واختبر. وأحسن إليهن: صانهن، وقام بما يصلحهن، ونظر في أصلح الأحوال لهن، فمن فعل ذلك، وقصد به وجه الله تعالى، عافاه الله تعالى من النار، وباعده منها، وهو المعبر عنه بالستر من النار. ولا شك في أن من لم يدخل النار دخل الجنة، وقد دل على ذلك قوله في الرواية الأخرى في المرأة التي قسمت التمرة بين بنتيها: إن الله قد أوجب لها الجنة، وأعاذها من النار. &(6/516)&$
وقوله: «بشيء من البنات» يفيد بحكم عمومه: أن الستر من النار يحصل بالإحسان إلى واحد من البنات، فأمَّا إذا عال زيادة على الواحدة فيحصل له زيادة على الستر من النار السبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجنة، كما جاء في الحديث الآخر، وهو قوله: «من عال جاريتين حتى تبلغا (2) جاء يوم القيامة أنا وهو وضم بين أصابعه.
ومعنى (3) :«من عال جاريتين حتى تبلغا (4) »: قام عليهما بما يصلحهما ويحفظهما.يقال منه: عال الرجل عياله، يعولهم، %(4/1432)%
__________
(1) في (ح): «فكن».
(2) في (ح): يشبه «يبلغا».
(3) في (ح): «ويعني» بدل «ومعنى».
(4) في (ح): يشبه «يبلغا».(4/1432)
عولا وعيالة، ويقال: علته شهرًا، إذا كفيته معاشه.ويعني ببلوغها (1) وصولهما إلى حال يستقلان بأنفسهما، وذلك إنما يكون في النساء، إلى أن يدخل بهن أزواجهن، ولا يعني ببلوغها إلى أن =(6/636)=@ تحيض وتكلف، إذ قد تتزوج قبل ذلك فتستغني بالزوج عن قيام الكافل، وقد تحيض وهي غير مستقلة بشيء من مصالحها، ولو تركت لضاعت، وفسدت أحوالها. بل هي في هذه الحال أحق بالصيانة (2) ، والقيام عليها لتكمل صيانتها فيرغب في تزويجها، ولهذا المعنى قال علماؤنا: لا تسقط النفقة عن والد الصبية بنفس بلوغها، بل: بدخول الزوج بها. =(6/637)=@ &(6/517)&$ %(4/1433)%
__________
(1) في (ح): «به بلوغها».
(2) في (ح): «بالصيانة والحفظ».(4/1433)
ومن باب: من يموت له شيء من الولد فيحتسبهم (1)
قوله (2) : «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار...» الولد: يقال على الذكر والأنثى بخلاف الابن، فإنَّه يقال على الذكر: ابن، وعلى الأنثى: ابنة، وقد تقيد مطلق هذه الرواية، بقوله في الرواية الأخرى: «لم يبلغوا الحنث» كما تقيد مطلق حديث أبي هريرة بحديث أبي (3) النضر السلمي فإنَّه قال فيه: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم»، فقوله: «لم يبلغوا الحنث» أي: التكليف.والحنث: الإثم. وإنما خصه (4) بهذا الحديث (5) ؛ لأنَّ الصغير حقه (6) أشد، والشفقة عليه أعظم، وقيده بالاحتساب لما قررناه غير مرة: أن الأجور على لا المصائب لا تحصل إلا بالصبر والاحتساب، وإنما خص الولد بثلاثة؛ لأنَّ الثلاثة لا أول مراتب الكثرة، فتعظم المصائب، فتكثر الأجور، فأمَّا إذا زاد على الثلاثة فقد &(6/518)&$ يخف أمر المصيبة الزائدة، لأنها: كأنها (7) صارت عادة وديدنًا» كما قال المتنبي:
أَنْكَرتُ طارِقَةَ الحوادِثِ مَرَّة = ثمَّ اعْتَرفتُ بها فصارَتْ دَيْدَنًا
وقال آخر:
رُوِّعتُ بالبَيْنِ حتَّى (8) ما أُراعَ لَهُ = وبِالمَصائِبِ في أَهلِي وجِيرانِي
ويُحتمل أن يقال: إنما لم يذكر ما بعد الثلاثة؛ لأنَّه من باب الأحرى والأولى، إذ من المعلوم: أن من كثرت مصائبه كثر ثوابه، فاكتفي بذلك عن ذكره، =(6/638)=@ والله تعالى أعلم.
وقد استشكل بعض الناس قوله عليه السلام: «لا يموت لإحداكن (9) ثلاثة **ثلاثه كذا بالورق** من الولد إلا كانوا لها (10) حجابًا من النار»، ثم لما سئل عن اثنين، قال: واثنين. ووجهه: أنه إذا كان حكم الاثنين حكم الثلاثة، %(4/1434)%
__________
(1) من قوله: «ومن باب ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «وقوله».
(3) في (ح): «ابن» بدل «أبي».
(4) في (ح): «خصهم».
(5) في (ح): «الحد».
(6) في (ح): «حبه» بدل «حقه».
(7) في (ح): «كانت».
(8) قوله: «حتى» سقط من (ح).
(9) في (ح): «لأحدكن».
(10) في (ح): «له».(4/1434)
فلا فائدة لذكر الثلاثة أولا، وهذا إنما يصدر عمن يعتقد أن دلالة المفهوم نص كدلالة المنظوم، وليس الأمر كذلك، بل: هي عند القائلين بها من أضعف جهات دلالات الألفاظ، وسائر وجوه الدلالات مرجحة عليها كما بيناه في الأصول، هذا إن قلنا: إن أسماء الأعداد لها مفهوم، فإنَّه قد اختلف في ذلك القائلون بالمفهوم، وألحقوا هذا النوع باللقب الذي لا مفهوم له باتفاق المحققين، ثم إن الرافع لهذا الإشكال أن يقال: إن الثواب على الأعمال إنما يعلم بالوحي، فيكون الله تعالى قد أوحى إلى نبيه بذلك في الثلاثة (1) ، ثم إنه لما سئل عن الاثنين أوحى الله إليه في الاثنين بمثل ما (2) أوحى إليه بالثلاثة (3) ، ولو سئل عن الواحد لأجاب بمثل ذلك كما قد دلت عليه الأحاديث المذكورة في ذلك، ويحتمل أن يقال: إن ذلك بحسب شدة وجد الوالدة، وقوة صبرها، فقد لا يبعد أن تكون (4) من فقدت واحدًا أو اثنين أشد ممن فقدت ثلاثة أو مساوية لها، فتلحق بها في درجتها، والله تعالى أعلم.
وقوله: «إلا تحلَّة القسم» أي: ما يحل به القسم (5) ، وهو اليمين. وقد اختلف في هذا القسم، هل هو قسم معين، أم لا؟ فالجمهور على أنه قسم بعينه، فمنهم من قال: هو قوله تعالى: {فوربك لنحشرنهم والشياطين}.وقيل: هو قوله: {وإن منكم إلا واردها}. وقيل: هو قوله: {كان &(6/519)&$ على ربك حتمًا مقضيًا}، أي: قسمًا واجبًا، كذلك فسره ابن مسعود =(6/639)=@ والحسن.وأما من قال: لم يعتين به قسم بعينه (6) ، فهو ابن قتيبة. %(4/1435)%
__________
(1) في (ح): «في الثلاث».
(2) في (ح): «ذلك» وكأنه أصلحها إلى «ما». ...
(3) في (ح): «في الثلاثة».
(4) في (ح): «يكون».
(5) قوله: «أي ما يحل به القسم» سقط من (ح).
(6) في (ح): «قسمًا».(4/1435)
قال معناه: التقليل لأمر ورودها. ولا تحلة القسم: تستعمل في هذا في كلام العرب، وقيل معناه: لا تمسه النار قليلا، ولا تحلة القسم، كما قيل في قوله:
وَكُلُّ أخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ = لعَمْرُ أَبيكَ إلا الفَرقَدانِ
أي: والفرقدان، على أحد الأقوال فيه.
قلت: والأشبه: قول أبي عبيد، ولبيان وجه ذلك موضع آخر.
وقوله عليه السلام للنساء: «اجتمعن في يوم كذا» يدلّ على أن الإمام ينبغي له أن يعلم النساء ما يحتجن إليه من أمر أديانهن، وأن يخضن بيوم مخصوص لذلك، لكن في المسجد أو فيما كان في معناه حتى تؤمن الخلوة بهن، فإنَّ تمكن الإمام من ذلك بنفسه فعل، وإلا استنهض الإمام شيخًا يوثق بعلمه ودينه لذلك حتى يقوم بهذه الوظيفة، وفي هذا الحديث ما يدل على فضل نساء ذلك الوقت، وما كانوا =(6/640)=@ عليه من الحرص على العلم، والحديث عن %(4/1436)%(4/1436)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قالت عائشة - رضي الله عنها-: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
وقوله: «صغارهم دعاميص الجنة» هي جمع دعموص، وهو دويبة تغوص في الماء، والجمع دعاميص، ودعامص.قال الأعشى:
فمَا ذَنبُنا إِنْ جاشَ في بَحْرِ عَمِّكُم وَبُحْرُكَ ساجٍ لا يُوارِي الدَّعامِصَا
ودعيميص الرهل (1) : اسم رجل كان داهيًا، يضرب به المثل، يقال دعيميص (2) هذا الأمر؛ أي: عالم به.قلت: هذا الذي وجدته في كتب اللغة، وأصحاب الغريب: أن الدعموص دويبة، تغوص في الماء، ولا يليق هذا المعنى بالدعاميص المذكورين في هذا الحديث، إلا على معنى تشبيه صغار الجنة بتلك الدُّويبة في صغرها، أو في &(6/520)&$ غوصهم في نعيم الجنة، وكل ذلك فيه بعد. وقد سمعت من بعض من لقيته: أن الدعموص يراد به الآذن على الملك، المتصرف بين يديه.وأنشد لأمية بن أبي الصلت:
دُعمُوصِ أبوابِ المُلُوكِ وجانبً (3) للخَرقِ فَاتِح
قلت: وهذا يناسب ما ذكره في هذا الحديث.
وقوله: «كما آخذ أنا بصنفَةِ ثوبك» هو بكسر النون.قال الجوهري: صنفِة الإزار **في الورق الازار** - بكسر النون -: طرفه، وهو جانبه الذي لا هدب له (4) ، ويقال: هي حاشية =(6/641)=@ الثوب في جانب كان، وقال غيره: صنفة الثوب وصنيفته: طرفه. %(4/1437)%
__________
(1) في (ح): «دعيص الرمل».
(2) في (ح): «دعيمص».
(3) في (ح): «وجايب».
(4) قوله: «له» سقط من (ح).(4/1437)
وقوله: «فلا يتناهى، أو قال ينتهي حتى يدخله (1) الله وأبويه الجنة» أي: ما يترك ذلك.
يقال: انتهى وتناهى وأنهى بمعنى ترك، وهكذا الرواية المشهورة: «أبويه» بالتثنية.
وعند ابن ماهان: «أباه» بالباء بواحدة.
وعند عبدالغافر: «وإياه» بالياء من تحتها، وكل له وجه واضح.
وفي هذا الحديث ما يدلّ على أن صغار أولاد المؤمنين في الجنة، وهو قول أكثر أهل العلم، وهو الذي تدل عليه أخبار صحيحة كثيرة، وظاهر قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم (2) ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم (3) }وقد أنكر بعض العلماء الخلاف فيهم، وهذا فيما عدا أولاد الأنبياء، فإنَّه قد تقرر الإجماع على أنهم في الجنة، حكاه أبو عبد الله المازري، له إنما الخلاف في أولاد المشركين على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله: «لقد احتظرت بحظار شديد من النار» أي: امتنعت، وأصل الحظر: المنع. والحظار: ما يدار (4) بالبستان من عيدان وقصب، سمي (5) بذلك لأنه يمنع من يريد الدخول.والحظيرة والمحظور منه، والحظار هنا: هو الحجاب المذكور في الحديث الآخر. =(6/642)=@ &(6/521)&$ %(4/1438)%
__________
(1) لفظ الجلالة ليس في (ح).
(2) في (ح): «واتبعاهم».
(3) في (ح): «ذرياتهم».
(4) في (ح): «المنع والحظار منه والحظار ما دار».
(5) في (ح): «وسمي».(4/1438)
ومن باب: إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده،
والأرواح أجناد مجندة، والمرء مع من أحب
قد تقدَّم: أن معنى محبة الله للعبد: إرادة إكرامه، وإثابته. ولأعمال العباد: محبة إثابتهم عليها، وأن محبة الله تعالى منزهة عن أن تكون ميلا للمحبوب، أو شهوة، إذ كل ذلك من صفاتنا، وهي دليل حدوثنا، والله تعالى منزه عن كل ذلك. وأما محبة الملك فلا بد في أن تكون على حقيقتها المعقولة في حقوقنا، ولا إحالة في شيء من ذلك. وإعلام الله تعالى جبريل، وإعلام جبريل الملائكة بمحبة العبد المذكور تنويه به، وتشريف له في ذلك الملأ الكريم، وليحصل من المنزلة المنيفة على الحظ للعبد العظيم، وهذا من نحو قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى حيث قال: «أنا مع عبدي إذا ذكرني؛ إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم». ويجوز أن يراد بمحبة الملائكة: ثناؤهم عليه، واستغفارهم له، وإكرامهم له عند لقائه إياهم. =(6/643)=@ &(6/522)&$ %(4/1439)%(4/1439)
وقوله: «ثم يوضع له القبول في الأرض» يعني بالقبول: محبة قلوب أهل الدين والخير له، والرضا به، والشرور بلقائه، واستطابة ذكره في حال غيبته، كما (1) أجرى الله تعالى عادته بذلك في حق الصالحين من سلف هذه الأمة ومشاهير الأئمة.والقول في البغض على النقيض من القول في الحب. وقوله: «الأرواح أجناد مجندة». قد تقدَّم القول في الروح والنفس في كتاب الطهارة.ومعنى (أجناد مجندة: أصناف مصنفة. وقيل: أجناس مختلفة. ويخص بذلك: أن الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا، فإنَّها تتمايز بأمور وأحوال مختلفين تتنوع بها فتتشاكل أشخاص النوع الواحد، وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة، ولذلك نشاهدا أشخاص كل نوع تألف نوعها، وتنفر من مخالفها، ثمَّ إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد (2) تتألف، وبعضها تتنافر، وذلك بحسب أمور تتشاكل فيها، وأمور تتباعد فيها، =(6/644)=@ كالأرواح المجبولة على الخير، والرحمة، والشفقة، والعدل، فتجد من جبل على الرحمة يميل بطبعه لكل من كان فيه ذلك المعنى، ويألفه، ويسكن إليه، وينفر من اتصف بنقيضه، وهكذا في الجفاء والقسوة، ولذلك قد (3) شاع في كلام الناس قولهم: المناسبة تؤلف بين الأشخاص، والشكل يألف شكله، والمثل يجذب مثله.وهذا المعنى هو أحد ما حمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «فما تعارف منها ائتلف، وما معنى تنافر منها اختلف» وعلى هذا فيكون معنى تعارف: تناسب.
وقيل: إن معنى ذلك هو ما تعرف الله به إليها من صفاته، ودلها عليه من لطفه وأفعاله، فكل روح عرف من الآخر أنه تعرف إلى الله بمثل ما تعرف هو به إليه. وقال الخطابي: هو ما خلقها الله تعالى عليه من السعادة والشقاوة في المبدأ الأول. &(6/523)&$ %(4/1440)%
__________
(1) في (ح): «كما قد».
(2) قوله: «الواحد» سقط من (ح).
(3) في (ح): «ولك لك» بدل «ولذلك قد».(4/1440)
قلت: وهذان القولان راجعان إلى القول الأول، فتدبرهما. ويستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح (1) فتش على (2) الموجب لتلك النفرة، ويحث عنه بنور العلم؛ فإنَّه ينكشف له، فيتعين عليه أن يسعى في إزالة ذلك، أو في تضيفه بالرياضة السياسية، والمشاهدة، الشرعية حتى يتخلص من ذلك الوصف المذموم، فيميل لأهل =(6/645)=@ الفضائل والعلوم، وكذلك القول فيما إذا وجد ميلًا لمن فيه شر، أو وصف مذموم. وقد تقدَّم القول على قوله: «الناس معادن» في كتاب المناقب .
ومن باب: المرء مع من أحب وفي الثناء على الرجل الصالح (3)
قوله: «فلقينا رجلا عند سدة المسجد» يعني: عند باب المسجد (4) ، والسدة تقال على ما يسد به الباب، وعلى المسدود الذي هو الباب. &(6/524)&$
وقوله: «فكان الرجل استكان» أي: سكن تذللا.
وقوله: «ما أعددت لها كبير صلاة، ولا صيام، ولا صدقة» يعني بذلك: النوافل من الصلاة، والصدقة، والصوم ؛ لأنَّ الفرائض لا بد له ولغيره من %(4/1441)%
__________
(1) في (ح): «نفرة» بدل «صلاح».
(2) في (ح): «عن».
(3) من قوله: «ومن باب ...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) قوله: «يعني عند باب المسجد» سقط من (ح).(4/1441)
فعلها، فيكون معناه: أنه لم يأت منها بالكثير الذي يعتمد عليه، ويرتجى دخول الجنة =(6/646)=@
بسببه، هذا ظاهره، ويحتمل أن يكون أراد أن (1) الذي فعله من تلك الأمور - وإن كان كثيرًا - فإنَّه محتقر بالنسبة إلى ما عنده من محبة الله تعالى ورسوله، فكأنه ظهر له: أن محبة الله ورسوله أفضل الأعمال، وأعظم القرب، فجعلها عمدته، واتخذها عدته، والله تعالى أعلم.
وقوله: «فأنت مع من أحببت» قد تكلمنا عليه في غير موضع.
وقوله: «ما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم» هكذا وقع هذا اللفظ في الأصول، وفيه حذف وتوسع، تقديره: فما فرحنا فرحا أشد من فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك القول، وسكت عن ذلك المحذوف للعلم به. وإنَّما كان فرحهم بذلك أشد؛ لأنَّهم لم يسمعوا أن في أعمال البر ما يحصل به ذلك المعنى من القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والكون معه، إلا حب الله ورسوله، فأعظم بأمر يلحق المقصر بالمشمر، والمتأخر بالمتقدِّم.
ولما فهم أنس: أن هذا اللفظ محمول على عمومه عتق به رجاءه، وحق فيه ظنه، فقال: أنا (2) أحب الله، ورسوله، وأبا بكر، وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم. &(6/525)&$
والوجه الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين %(4/1442)%
__________
(1) قوله: «أن» سقط من (ح).
(2) في (ح): «فأنا».(4/1442)
المحبين كل ذي نفس، فلذلك تعلقت أطماعنا بذلك؛ وإن كنا مقصرين، ورجونا (1) رحمة الرحمن، وإن كنا غير مستأهلين. =(6/647)=@
وقوله: «أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه» يعني: في (2) الرجل الذي يعمل العمل الصالح خالصًا، ولا يريد إظهاره للناس؛ لأنَّه لو عمله ليحمده الناس أو يبروه لكان مرائيا، ويكون ذلك العمل باطلاً فاسدًا، وإنما الله تعالى بلطفه، ورحمته، وكرمه يعامل المخلصين في الأعمال، الصادقين في الأقوال والأحوال بأنواع من اللطف، فيقذف في القلوب محبتهم، ويطلق الألسنة بالثناء عليهم، لينوه بذكرهم في الملأ الأعلى، ليستغفروا لهم، وينشر طيب ذكرهم في الدنيا ليقتدى بهم، فيعظم أجرهم (3) ، وترتفع منازلهم، وليجعل ذلك علامة على استقامة أحوالهم (4) ، وبشرى بحسن مآلهم، وكثير ثوابهم، ولذلك قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن». والله تعالى أعلم. =(6/648)=@ &(6/526)&$ %(4/1443)%
__________
(1) في (ح): «وترجوا» وكتب في الهامش «ورجونا».
(2) قوله: «في» سقط من (ح).
(3) في (ح): «فتعظم أجورهم».
(4) في (ح): «حالهم».(4/1443)
كتاب القدر
ومن باب: في كيفية خلق ابن آدم (1)
قد تقدم في كتاب الإيمان القول في لفظ القدر، ومعناه، واختلاف الناس فيه.
وقوله: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا» يعني - والله تعالى أعلم -: أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثا =(6/649)=@ متفرقا، فيجمعه الله تعالى في محل الولادة من الرحم في هذه المدة. وقد جاء في بعض الحديث عن ابن مسعود (2) - رضي الله عنه - تفسير: «يجمع في بطن أمه»: أن النطفة إذا وقعت في الرحم، فأراد الله تعالى أن يخلق منها بشرًا طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تصير دما في الرحم، فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة، والعلق: الدم. &(6/527)&$
وقوله: «ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك» و «ذلك» الأول إشارة إلى المحل الذي اجتمعت فيه النطفة، وصارت علقة، و«ذلك» الثاني إشارة إلى الزمان الذي هو الأربعون، وكذلك القول في قوله: «ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك» والمضغة: قدر ما يمضغه الماضغ من لحم أو غيره. %(4/1444)%
__________
(1) من قوله: «ومن باب...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) زاد بعدها في (ح) قوله: «تفسير».(4/1444)
وقوله: «ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح» يعني: الملك الموكل بالرحم، كما قال في حديث أنس - رضي الله عنه -: «إن الله قد وكل بالرحم ملك». وظاهر هذا السياق: أن الملك عند مجيئه ينفخ الروح في المضغة، وليس الأمر كذلك، بل: إنما ينفخ الروح فيها بعد أن تستهل (1) تلك المضغة بشكل ابن آدم، وتتصور بصورته، كما قال تعالى: {فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحما} وكما قال في الآية (2) الأخرى: {من مضغة مخلقة وغير =(6/650)=@ مخلقة}فالمخلقة: المصورة، وغير المخلقة: السقط.قال أبو العالية وغيره: وهذا التخليق والتصوير يكون في مدة أربعين يوما، وحينئذ ينفخ فيه الروح، وهو المعني بقوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقا آخر}في قول الحسن والكلبي من المفسرين.قال القاضي: ولم يختلف: أن (3) نفخ الروح فيه بعد مئة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس (4) ، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستحقاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حل المطلقات، وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف.وقد قيل: إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر.وهذا الدخول في الخامسة يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل.ونفخ الملك في الصورة سبب يخلق الله تعالى عنده بها (5) الروح والحياة؛ لأنَّ النفخ المتعارف إنَّما هو إخراج ريح من النافخ يتصل بالمنفوخ فيه، ولا يلزم منه %(4/1445)%
__________
(1) في (ح): «تتشكل».
(2) في (ح): «الرواية».
(3) في (ح): «في أن».
(4) في (ح): «الخامسة».
(5) في (ح): «فيها» بدل «بها».(4/1445)
عقلا، ولا عادة في حقنا تأثير في المنفوخ فيه، فإنَّ قدر حدوث شيء عند ذلك النفخ، فذلك بأحداث الله تعالى لا &(6/528)&$ بالنفخ، وغاية النفخ: أن يكون معدًا عاديًا لا موجبًا عقليًا، وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة، فتأمل هذا الأصل، وتمسك به، فبه النجاة من مذاهب أهل الضلال من أهل الذيغ (1) وغيرهم.
وقوله: «ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» ظاهر هذا اللفظ: أن الملك يؤمر بكتب هذه الأربعة ابتداء، وليس كذلك، بل: إنما يؤمر بذلك بعد أن يسأل عن ذلك فيقول: يا رب! ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ وهل شقي أو سعيد، كما تضمنته الأحاديث الآتية بعد، بل: قد روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: حدثنا داود، عن عامر، عن علقمة، عن ابن مسعود، وعن ابن عمر: «إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه، وقال (2) : أي رب! أذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ بأي أرض تموت؟ فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب؟ فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد =(6/651)=@ قصتها في أم الكتاب؟ فتلحق؟ فتأكل رزقها، وتطأ أثرها، فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر له» وزاد في بعض روايات حديث ابن مسعود: «إن الملك يقول: يا رب! مخلقة أو غير مخلقة؟ فإنَّ كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما، وإن قيل: مخلقة قال: أي رب ذكر أم أنثى؟». وذكر نحو ما تقدَّم.
فقوله: «إن النطفة إذا استقرت في الرحم» يعني بهذا الاستقرار: صيرورة النطفة علقة، ومضغة؛ لأنَّ النطفة قبل ذلك غير مجتمعة كما تقدَّم، فإذا اجتمعت، وصارت ماء واحدًا علقة %(4/1446)%
__________
(1) في (ح): «الطبائع».
(2) في (ح): «فقال».(4/1446)
أو مضغة، أمكن حينئذ أن تؤخذ بالكف، وسماها نطفة في حال كونها علقة أو مضغة باسم مبدئها، والله تعالى أعلم. &(6/529)&$
ويستفاد من جملة ما ذكرناه أن المرأة إذا ألقت نطفة لم يتعلق بها حكم، إذ لم تجتمع في الرحم، فتبين أنها كانت حاملاً، إذ الرحم قد يدفع النطفة قبل استقرارها فيه (1) ، فإذا طرحته علقة تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال ما يتحقق به أنه ولد.وعلى هذا: فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل يبرأ (2) الرحم، وتنقضي به العدة، ويثبت لها به حكم أم الولد، وهذا مذهب مالك وأصحابه.
وقال الشافعي: لا اعتبار بإسقاط العلقة، إنَّما (3) الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط، فإنَّ خفي التخطيط، وكان لحما فقولان: بالنقل والتخريج، وعمدة أصحابنا: التمسك بالحديث المتقدم، وبأن مسقطة العلقة، أو المضغة يصدق على المرأة (4) إذا ألقتها أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها، فشملها قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ويصدق عليها قوله صلى الله عليه وسلم لسبيعه الأسلمية: «قد وضعت فانكحي من شئت» ولأنها وضعت مبدأ =(6/652)=@ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط. واستيفاء ما يتعلق به سؤالاً وجوابًا في الخلاف.
وقوله: «وإن (5) أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها... الحديث إلى آخره» ظاهر هذا الحديث: أن هذا العامل كان عمله صحيحًا، وأنه قرب من الجنة بسبب عمله حتى أشرف على دخولها، وإنما منعه من دخولها سابق القدر (6) الذي يظهر عند الخاتمة، وعلى هذا %(4/1447)%
__________
(1) في (ح): «فيها».
(2) في (ح): «تبرأ».
(3) في (ح): «وإنما».
(4) في (ح): «العلقة» بدل «المرأة».
(5) في (ح): «إن» بلا واو.
(6) قوله: «القدر الذي» مكرر في (ح).(4/1447)
فالخوف - على التحقيق - إنما هو مما سبق، إذ لا تبديل له ولا تغيير، فإذا (1) : الأعمال بالسوابق (2) ، لكن لما كانت السوابق مستورة عنا، والخاتمة ظاهرة لنا، قال عليه السلام: «إنما الأعمال بالخواتيم (3) » أي: عندنا، وبالنسبة إلى اطلاعنا في بعض الأشخاص، وفي بعض الأحوال. وأما العامل المذكور في حديث سهل المتقدم في الإيمان، فإنَّه لم يكن عمله صحيحا في نفسه، وإنما كان رياء وسمعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو =(6/653)=@ &(6/530)&$ للناس، وهو من أهل النار»، فيستفاد من هذا الحديث: الاجتهاد في إخلاص، الأعمال لله تعالى، والتحرز (4) من الرياء. ويستفاد من حديث ابن مسعود: ترك العجب بالأعمال، وترك الالتفات والركون إليها، والتعويل على كرم الله تعالى ورحمته، والاعتراف بمنته (5) ، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لن ينجي أحدا منكم عمله...ا لحديث» .
ومن باب: السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه (6)
قوله (7) : «الشقي شقي في بطن أمه» يعني: أن أول مبدأ الإنسان في بطن أمه يظهر من حاله للملائكة، أو لمن شاء الله من خلقه ما سبق في علم الله تعالى من سعادته، ومن شقوته، ورزقه، وأجله، وعمله. إذ قد سبق كتب ذلك في اللوح &(6/531)&$ المحفوظ، كما دل عليه الكتاب، والأخبار الكثيرة الصحيحة، وكل ذلك قد سبق به العلم الأزلي، والقضاء الإلهي الذي لا يقبل التغيير، ولا التبديل، المحيط بكل الأمور على التعين والتفصيل. ألا ترى الملائكة كيف تستخرج ما عند الله من علم =(6/654)=@ حال النطفة، فتقول: يا رب! ما الرزق؟ ما الأجل؟ فيقضي ربك ما شاء، أي: يظهر من قضائه وحكمه للملائكة ما سبق به عمه، وتعلقت به إرادته. %(4/1448)%
__________
(1) في (ح): «فإذ» بدل «فإذا».
(2) في (ح): «السابقة».
(3) في (ح): «بالخواتم».
(4) في (ح): «وللتحذير».
(5) في (ح): «بمننه».
(6) من قوله: «ومن باب السعيد ...» إلى هنا سقط من (ح).
(7) في (ح): «وقوله».(4/1448)
وقوله: «ويكتب الملك» يعني من اللوح المحفوظ، كما تقدَّم في حديث يحيى بن أب! زائدة، ولذلك (1) عطف هذه الجملة على ما تقدم بالواو؛ لأنَّها لا تقتضي رتبة، ثم يخرج الملك بالصحيفة، أي: يخرج من حال الغيبة عن هذا العالم إلى حال مشاهدته، فيطلع الله تعالى بسبب تلك الصحيفة من شاء من الملائكة الموكلين بأحواله على ذلك ليقوم كل بما عليه من وظيفته حسب ما سطر في صحيفته .&(6/532)&$
وقوله: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون، أو ثلاثة وأربعون، أو خمسة وأربعون» هذا كله (2) ، من الرواة، وحاصله: أن بعث الملك المذكور في هذا بعث الحديث إنما هو في الأربعين الرابعة التي هي مدة التصوير، كما دل على ذلك ما قدمناه قبل هذا. وسمي المضغة نطفة بمبدئها، ألا ترى قوله: «بعث الله إليها =(6/655)=@ ملكا وصورها (3) وخلق سمعها وبصرها، وجلدها، وعظامه» فعطف بالفاء المرتبة، وهذا لا يكون حتى تصل النطفة إلى حال (4) نهاية المضغة، كما دل عليه ما تقدَّم. وبهذا تتفق الروايات، ويزول الاضطراب المتوهم فيها (5) - والله أعلم -. %(4/1449)%
__________
(1) قوله: «ولذلك» مكرر في (ح).
(2) في (ح): «كله شك».
(3) في (ح): «فصورها».
(4) في (ح): «حالة».
(5) قوله: «فيها» سقط من (ح).(4/1449)
ونسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية (1) ، وإنما صدر عنه فعل ما في المضغة - كان عنه التصوير والتشكيل - بقدرة الله تعالى، وخلقه، واختراعه.ألا ترى أن الله تعالى قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنا جميع (2) الخليقة، فقال: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم}، وقال: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين}الآية، وقال: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة...} وغير ذلك من الآيات. هذا مع ما دلت عليه قاطعات البراهين من أنه لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين.
تنبيه: هذا الترتيب العجيب، وإن خفيت حكمته، فقد لاحت لنا حقيقته، &(6/533)&$ وهو أنه كذلك سبق في علمه، وثبت في قضائه وحلمه، وإلا فمن الممكن أن يوجد الإنسان، وأصناف الحيوان، بل وجميع المخلوقات في أسرع من لحظة، =(6/656)=@ وأيسر من النطق بلفظة، كيف لا؛ وقد سمع السامعون قوله: {إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}. %(4/1450)%
__________
(1) في (ح): «لا حقيقة».
(2) في (ح): «عنا نسب جميع».(4/1450)
ومن باب: قوله: {كل ميسر لما خلق له
بقيع الغرقد: مدفن أهل المدينة، وقد تقدَّم ذكره. والمخصرة: قضيب كان يمسكه بيده في بعض الأحوال على عادة رؤساء العرب؛ فإنَّهم يمسكونها ويشيرون بها، ويصلون بها كلامهم.وجمعها مخاصر، والفعل منها: تخصر. حكاه ابن قتيبة.والنكت بها في الأرض: تحريك الأرض بها، وهذا فعل المتفكر المعتبر. =(6/657)=@
وقوله: «أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ وفي الرواية الأخرى: أفلا نتكل على كتابنا؟» حاصل هذا السؤال أنه إذا وجبت السعادة والشقاوة بالقضاء الأزلي، والقدر الإلهي، فلا فائدة للتكليف، ولا حاجة بنا إلى العمل فنتركه، وهذه أعظم شبه النافين للقدر. وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يبقى معه إشكال، &(6/534)&$ فقال: «اعملوا كل (1) ميسر لما خلق له» ثم قرأ: %(4/1451)%
__________
(1) في (ح): «فكل».(4/1451)
{فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} (1) ، ووجه الانفصال: أن الله تعالى أمرنا بالعمل، فلا بد من امتثال أمره، وغيب عنا المقادير لقيام حجته وزجره.ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته، وحكمته، وعزه {لا يسل عما يفعل} لا يبقى معها لقائل مقول، وقهر (2) {وهم يسئلون} يخضع له المتكبرون.وقد بينا فيما تقدَّم أن مورد التكليف: فعل الاختيار، وأن ذلك ليس مناقضا لما سبقت به ا لأقدار .
وقوله: {فأما من أعطى}أي: الفضل من ماله. ابن عباس: حق الله تعالى.الحسن: الصدق من قلبه.و{اتقى} أي: رجه.ابن عباس وقتادة: محارمه.مجاهد: البخل.{وصدق بالحسنى} أي: الكلمة الحسنى، وهي كلمة التوحيد. الضحاك: بموعود (3) الله. قتادة: بالصلاة والزكاة والصوم.زيد بن أسلم. =(6/658)=@
وفي أخرى فقال: «كل عامل ميسر لعمله (4) »: {فسنيسره} أي: نهون عليه ونهيئه {لليسرى} أي: للحالة اليسرى من العمل الصالح والخير الراجح.وقيل: للجنة.{وأما من بخل} أي: بماله: ابن عباس.وقال قتادة: بحق الله.و {استغنى} بماله: عن الحسن (5) . ابن عباس: عن ربه.{وكذب بالحسنى} أي: بالجنة. و{للعسرى (6) }: نقيض (7) ما تقدم في اليسرى. و{تردى}: هلك بالجهل والكفر، وفي الآخرة بعذاب الله. &(6/535)&$ %(4/1452)%
__________
(1) في (ح): «الآية».
(2) قوله: «لا يبقى معها لقائل مقول وقهر» سقط من (ح).
(3) في (ح): «بموعد».
(4) من قوله: «وفي أخرى...» إلى هنا سقط من (ح).
(5) في (ح): «الحسنى».
(6) في (ح): «والعسرى».
(7) في (ح): «تقتضي».(4/1452)
و (قول سراقة: بيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن) أي: بين لنا أصل ديننا، أي: ما نعتقده وندين به من حال أعمالنا، هل سبق بها تدل أم لا، وقوله: كانا خلقنا الآن يعني أنهم غير عالمين بهذه المسألة، فكأنهم خلقوا الآن بالنسبة إلى علمها، وفائدته: استدعاء أوضح البيان.
وقوله: «فيم العمل اليوم» أي: فيما (1) جفت به الأقلام، هكذا صحيح =(6/659)=@ الرواية.فيم الأول (2) : بغير ألف؛ لأنَّها استفهامية. والثانية: بألف (3) ، لأنها خبرية.وقد وقع في بعض النسخ بالعكس، والأول الصواب.ومقتضى هذا السؤال: أن ما يصدر عنا من الأعمال، وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، هل سبق علم الله تعالى بوقوعه، فنفذت (4) به مشيئته، أو ليس كذلك؟ وإنما أفعالنا صادرة عنا بقدرتنا ومشيئتنا، والثواب والعقاب مرتب عليها بحسبها، وهذا القسم الثاني هو، مذهب القدرية، وقد أبطل النبي هذا القسم بقوله: «لا، بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير»، أي: ليس الأمر مستأنفا، بل قد سبق به علم الله، ونفذت به مشيئته، وجفت به أقلام الكتبة في اللوح المحفوظ، وفي صحف الملائكة المكتوبة في البطن (5) ، بل: قد سبق على هذا في حديث عمران بن حصين المذكور بعد هذا.
وأنص من هذا كله ما خرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (6) - رضي الله عنهما - قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال للذي في يده اليمين: «هذا كتاب من رب العالمين.
فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد =(6/660)=@ فيهم، ولا ينقص منهم أبدًا». ثم &(6/536)&$ قال للذي في يده اليسرى: «هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص %(4/1453)%
__________
(1) في (ح): «أفبما» بدل «أي فيما».
(2) في (ح): «الأولى».
(3) في (ح): «بالألف».
(4) في (ح): «ونفذت».
(5) زاد بعدها في (ح): «كما تقدم».
(6) في (ح): «العاصي قال».(4/1453)
منهم أبدًا (1) » ثم رمى بهما، وقال: «فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة، وفريق في السعير». قال: هذا حديث حسن صحيح. والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة، يفيد مجموعها العلم القطعي واليقين الحقيقي الاضطراري بإبطال مذاهب القدرية، لكنهم كابروا في ذلك كله وردوه، وتأولوا ذلك تأويلا فاسدا، وموهوه للأصول التي ارتكبوها من التحسين، والتقبيح، والتعديل، والتجويز، والقول بتأثير القدرة الحادثة على جهة الاستقلال، وقد تكلم أئمة أهل السنة معهم في هذه الأصول، وبينوا فسادها في كتبهم.
وقوله: «فيم العمل» هذا السؤال: هو الأول الذي تضمنه قوله: أفلا نمكث على كتابنا، وندع العمل؟ وقد بيناه .
ومن باب: في قوله تعالى: {ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها} (2)
قوله: «أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه» الكدح: السعي في العمل لدنيا كان أو لآخرة، وأصله: العمل الشاق، والكسب المتعب. =(6/661)=@ &(6/537)&$ %(4/1454)%
__________
(1) قوله: «أبدًا» سقط من (ح).
(2) من قوله: «ومن باب: في ...» إلى هنا سقط من (ح).(4/1454)
وقوله: «فلا يكون ظلمًا؟» كذا الرواية بغير ألف استفهام، وهي مراده، إذ بالاستفهام حصل فزع المسؤول، وبه صح أن يكون ما أتى به من قوله: كل شيء خلق الله وملك يده...إلى آخره.جوابًا عما سأله عنه، ولو لم يكن الاستفهام مرادًا لكان الكلام نفيا للظلم، وهو صحيح وحق، ولا يفزع من ذلك، ولا يستدعي جوابا. وبيان ما سأله (1) عنه أنه لما تقرر عنده: أن ما يعمل الناس فيه شيء قضي به عليهم، ولا بد لهم منه، فكأنهم (2) يلجئون إليه، فكيف يعاتبون على ذلك؛ فعقابهم على ذلك ظلم، وهذه من شبه القدرية المبنية على التحسين والتقبيح، وقد أجاب عن ذلك أبو الأسود، وأحسن في الجواب، ومقتضى الجواب: أن الظلم لا يتصور من الله تعالى، فإنَّ الكل خلقه، وملكه، لا حجر عليه، ولا حكم، فلا يتصور في حقه الظلم لاستحالة شرطه، على ما بينا. غير مرة، ثم عضد بقوله: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}، ولما سمع عمران هذا الجواب تحقق: أنه قد وفق للحق، وأصاب (3) عين الصواب، فاستحسن ذلك منه، وأخبره أنه إنما امتحنه بذلك السؤال ليختبر عقله، وليستخرج عمله ثم أفاده الحديث المذكور، ومعناه قد تقدم الكلام عليه ثم قال: وتصديق ذلك في كتاب &(6/538)&$ الله تعالى: {ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها}، وقوله: {ونفس} هو قسم بنفوس بني آدم، =(6/662)=@ وأفردها، لأن مراده النوع، وهذا نحو %(4/1455)%
__________
(1) في (ح): «سأل».
(2) في (ح): «فكانوا».
(3) في (ح): «وقد أصاب».(4/1455)
قوله: {علمت نفس ما قدمت وأخرت} أي: كل نفس.كما قال: {كل نفس بم كسبت رهينة}. ألا ترى قوله: {فألهمها فجورها وتقواها} أي: حملها على ما أراد من ذلك، فمنها ما خلق للخير، وأعانها عليه ويسره لها، ومنها ما خلق للشر ويسره لها، وهذا هو الموافق للحديث المتقدِّم، المصدق بالآية.وقوله: {وما سواها} أي: والذي سواها، وقد قدمنا أن ما في أصلها لما لا يعقل، أوقد (1) تجيء بمعنى الذي، ويرتفع لمن يعقل ولما لا يعقل. والتسوية: التعديل.يعني: أنه خلقها مكللة بكل ما تحتاج إليه، مؤهلة لقبول الخير والشر، غير أنه يجري عليها في حال وجودها وما لها ما سبق لها مما قضي به عليها. وفي حديث عمران هذا من الفقه جواز اختبار العالم عقول أصحابه اجتب الفضلاء بمشكلات المسائل، والثناء عليهم إذا أصابوا، وبيان العذر عن ذلك، والذي قضي عليها: أنها إما من أهل السعادة وبعمل أهل السعادة الذي به تدخل الجنة تعمل، وأما من أهل الشقاوة (2) وبعمل أهل الشقاوة (3) الذي به تدخل (4) النار تعمل.كما قال تعالى: «هؤلاء &(6/539)&$ للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء للنار، =(6/663)=@ وبعمل أهل النار يعملون، فطوبى لمن قضيت له بالخير، ويسرته عليه، والويل لمن قضيت عليه بالشر، ويسرته له»، وما أحسن قول من قال: قسم قسمت، ونعوت %(4/1456)%
__________
(1) في (ح): «وقد».
(2) في (ح): «الشقوة».
(3) في (ح): «الشقوة».
(4) في (ح): «يدخل به».(4/1456)
أجريت، كيف تجتلب بحركات (1) ، أو تنال بسعايات؟! ومع ذلك فغيب الله عنا المقادير، ومكننا من الفعل والترك رفعا للمعاذير، وخاطبنا بالأمر والنهي خطاب المستقلين، ولم يجعل التمسك بسابق القدر حجة للمقصرين، ولا عذرا للمعتذربن، وعلق الجزاء على الأعمال، وجعلها له سببا، فقال تعالى: {ولنجزي كل نفس بما كسبت}، وقال في أهل الجنة: {جزاء بما كانوا يعملون}، وقال في أهل النار: {جزاء بما كانوا بآيتنا يجحدون}، وقال: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}، وقال على لسان نبيه: «يا عبادي! إنما هي أعمالكم أردها عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد الأخرى، فلا يلومن إلا نفسه»، وكل ذلك من الله ابتلاء وامتحان، فيجب التسليم له والإذعان. =(6/664)=@ %(4/1457)%
__________
(1) قوله: «بحركات» لم يتضح في (ح).(4/1457)
ومن باب: محاجة آدم وموسى - عليهما السلام –
قوله: «احتج آدم وموسى عند ربهما» ظاهر هذا اللفظ، وهذه المحاجة أنهما التقيا بأشخاصهما، وهذا كما قررناه فيما تقدَّم في الأنبياء من إحيائهم بعد &(6/540)&$ الموت كالشهداء، بل: هم أولى بذلك، ويجوز أن يكون ذلك لقاء أرواح، وقد قال بكل قول منهما طائفة من علمائنا، وهذه العندية عندية اختصاص، وتشريف، لا عندية مكان، فالله تعالى منزه عن المكان والزمان، وإنما هي كما قال تعالى: {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر} أي: في محل التشريف والاحترام (1) والاختصاص. روى هذا الحديث بعضهم، وزاد فيه: إن هذا اللقاء كان بعد أن سأل موسى، فقال (2) : يا رب! أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فآراه الله إياه، فقال: أنت آدم، فقال: نعم.وذكر الحديث. وقوله: «فحج آدم موسى» أي: غلبه بالحجَّة. يقال: حاججت فلانًا فحججته، أي: غلبته. =(6/665)=@
وقوله: «أنت آدم الذي خلقك الله بيده» هو استفهام تقرير، وإضافة الله خلق آدم إلى يده إضافة تشريف، ويصح أن يراد باليد هنا: القدرة والنعمة، إذ كلاهما موجود في اللسان مستعمل فيه، فأمَّا يد الجارحة فالله منزه عن ذلك قطعا. %(4/1458)%
__________
(1) في (ح): «والإكرام» بدل «والإحترام».
(2) في (ح): «فقال له أنت».(4/1458)
وقوله: «ونفخ فيك من روحه» يحتمل أن تكون (من) زائدة على المذهب الكوفي.ونفخ: بمعنى خلق، أي: خلق فيك روحه، فأضاف (1) الروح إليه على جهة الملك تخصيصا وتشريفا، كما قال: بيتي، وعبادي.واستعار (خلق): نفخ ؛ لأنَّ الروح من نوع الريح، ويحتمل تأويلاً آخر، والله بمراده أعلم، والتسليم للمتشابهات أسلم، وهي طريقة السلف، وأهل الاقتداء من الخلف. &(6/541)&$
وقوله في الأم: «أنت الذي خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة» أي: كنت سبب ذلك كله، وقال في رواية أخرى: «أنت الذي أغويت الناس»، أي: كنت سبب غواية من غوى منهم، والغواية ضد الرشد، كما قال الله تعالى: {قد تبين الرشد من الغي}، وقد يراد بها الخطأ، وعليها يحمل: {وعصى آدم ربه فغوى}، أي: أخطأ (2) صواب ما أمر به، وهذا أحسن ما قيل في ذلك - إن شاء الله تعالى-
وقوله: «وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء» يعني: الألواح التي قال الله تعالى فيها: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء}وهي =(6/666)=@ جمع لوح بفتح اللام، وسمي بمصدر لاح الشيء يلوح لوحا: إذا ظهر، وسمي بذلك لظهور ما يكتب فيه.فأما اللوح - بضم اللام -: فهو ما بين السماء %(4/1459)%
__________
(1) في (ح): «وأضاف».
(2) قوله: «أخطأ» لم يتضح في (ح).(4/1459)
والأرض.قال مجاهد: كانت الألواح سبعة من زمردة خضراء. وقال ابن جبير: من ياقوتة حمراء. ومعنى كتبنا: أمرنا من يكتب، أو خلق فيها رقومًا وخطوطا مكتوبة مثل الذي يكتب بالأقلام.
وقوله: «{فيها تبيان كل شيء}» أي: كل شيء (1) قصد إلى تبيينه، ومن كل نوع شيئًا، أو من كل أصل! فرعًا.
وقوله: «وقربك نجيا» أي: للمناجاة وهي: المسارة. والتقريب: بالمرتبة، لا بالموضع والمكان.
وقوله: «أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه (2) الله على قبل أن يخلقني بأربعين سنة».
قال: فحج آدم موسى ظاهر هذا أن آدم إنما غلب موسى بالحجة، لأنه اعتذر بما سبق له من القدر عما صدر عنه من المخالفة، وقبل عذره، وقامت بذلك حجته، فإنَّ صح هذا لزم عليه أن يحتج به كل من عصى ويعتذر بذلك فيقبل عذره، وتثبت حجته، فحينئذ تكون للعصاة على الله حجَّة، وهو مناقص لقوله تعالى: {فلله &(6/542)&$ الحجة البالغة}.
وقد اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فقيل: إما غلبه آدم بالحجة؛ لأنَّ آدم أبو (3) موسى، وموسى ابن، ولا يجوز لوم الابن أباه، ولا عتبه. =(6/667)=@
قلت: وهذا نأي عن معنى الحديث، وعما سيق له، وقيل: إنما كان ذلك؛ لأنَّ موسى قد كان علم من التوراة: أن الله تعالى قد جعل تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة، وسكناه الأرض، ونشر نسله فيها ليكلفهم، ويمتحنهم، ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي. %(4/1460)%
__________
(1) قوله: «أي كل شيء» سقط من (ح).
(2) في (ح): «كتبها».
(3) في (ح): «أب».(4/1460)
قلت: وهذا إبداء حكمة تلك أكلة، لا انفصال عن إلزام تلك الحجَّة، والسؤال باق لم ينفصل عنه.
وقيل: إنما توجهت حجته عليه؛ لأنَّه قد علم من التوراة ما ذكروا: أن الله تاب (1) عليه، واجتباه، وأسقط عنه اللوم والعتب (2) .فلوم موسى، وعتبه (3) له - مع علمه بأن الله تعالى قدر المعصية، وقضى بالتوبة، وبإسقاط اللوم، والمعاتبة حتى صارت تلك المعصية كأن لم تكن - وقع في غير محله، وعلى غير مستحقه، وكان هذا من موسى نسبة جفاء في حالة صفاء، كما قال بعض أرباب الإشارات: ذكر (4) الجفاء في حال الصفاء جفاة وهذا الوجه إن شاء الله تعالى أشبه ما ذكر، وبه يتبين أن ذلك الإلزام لا يلزم، والله تعالى أعلم.
ومن باب: كتب الله المقادير قبل الخلق، وكل شيء بقدر (5)
قوله: «كتب الله مقادير الخلائق (6) قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» أي: أثبتها في اللوح المحفوظ، كما قلناه آنفا، أو فيما شاء، فهو =(6/668)=@ &(6/543)&$ توقيت للكتب (7) ، لا للمقادير؛ لأنَّها راجعة إلى علم الله تعالى وإرادته، وذلك قديم لا أول له، ويستحيل عليه تقديره بالزمان، إذ الحق سبحانه وتعالى بصفاته موجود، ولا زمان ولا مكان، وهذه الخمسون ألف سنة سنون تقديرية، إذ قبل خلق السموات لا يتحقق وجود الزمان (8) ، فإنَّ الزمان (9) الذي يعثر عنه بالسنين والأيام والليالي، إنما هو راجع إلى أعداد حركات الأفلاك (10) ، وسير الشمس، والقمر في المنازل والبروج السماوية (11) ، فقبل السموات لا يوجد ذلك، وإنما يرجع ذلك إلى مدة في علم الله تعالى لو كانت السموات موجودة فيها لعددت بذلك العدد، وهذا نحو مما قاله %(4/1461)%
__________
(1) في (ح): «قد تاب».
(2) في (ح): «والعنب».
(3) في (ح): «عتبه» بلا واو.
(4) في (ح): «إن ذكر».
(5) من قوله: «ومن باب...» إلى هنا سقط من (ح).
(6) في (ح): «الخلق».
(7) في (ح): «للكبت».
(8) في (ح): «الأزمان».
(9) قوله: «الزمان» لم يتضح في (ح).
(10) في (ح): يشبه «الأفلاك».
(11) في (ح): «السمايية» كذا رسمت.(4/1461)
المفسرون في قوله تعالى: {خلق السموات والأرض في ستة أيام}، أي: في مقدار ستة أيام، ثم هذه الأيام كل يوم منها مقدار ألف سنة من سنين الدنيا، كما قال تعالى (1) : {في يوم كان مقداره ألف سنة}، هذا قول ابن عباس وغيره من سلف المفسرين على ما رواه الطبري في تاريخه عنهم، ويحتمل أن يكون ذكر الخمسين ألفا جاء مجيء الإغياء في التكثير، ولم يرد عين ذلك العدد، فكأنه قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق هذا العالم بآماد كثيرة، وأزمان عديدة، وهذا نحو مما قلناه في قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}، والأول: أظهر وأولى.
وقوله: «وعرشه على الماء» أي: قبل خلق السموات والأرض.حكي عن كعب الأحبار: أن أول ما خلق الله تعالى ياقوتة خضراء، فنظر إليها بإلهيته فصارت ماء» ثم وضع عرشه على الماء. قال ابن عباس في قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء}، أي: فوق الماء؛ إذ لم يكن سماء ولا أرض.
قلت: أقوال المفسرين كثيرة، والمسند المرفوع منها قليل، وكل ذلك =(6/669)=@ ممكن، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك.والذي نعلمه قطعا: أن الله تعالى قديم، لا أول لوجوده، فكان موجودًا وحده، ولا موجود (2) سواه، %(4/1462)%
__________
(1) زاد بعدها في (ح): «وإن يوم عند ربك كألف سنة مما تعدون» وكقوله:
(2) في (ح): «موجودًا».(4/1462)
ثم اخترع بقدرته وإرادته ما سبق في (1) علمه، ونفذت به مشيئته، كما شاء ومتى شاء، والذي نعلم استحالته &(6/544)&$ قطعا: أزلية شيء غير الله تعالى من عرش، أو كرسي، أو ماء، أو هواء، أو أرض، أو سماء، إذ كل ذلك ممكن في نفسه، وكل موجود ممكن محدث، ولأن كل ذلك لا يخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث حادث على ما تعرف حقيقته في موضعه، ولأنه المعلوم الضروري من الشرع، فمن شك فيه، أو جحده فهو كافر، ومما يعلم (2) استحالته: كون العرش حاملا لله تعالى، وأن الله تعالى مستقر عليه كاستقرار الأجسام، إذ لو كان محمولاً لكان محتاجا فقيرا لما يحمله، وذلك ينافي وصف الإلهية، إذ أخص أوصاف الإله: الاستغناء المطلق، ولو كان ذلك للزم كونه جسما مقدرًا، ويلزم كونه حادثا على ما سبق، فإنَّ قيل: فما معنى قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}. قيل: له محامل واضحة، وتأويلات صحيحة، غير أن الشرع لم يعين لنا محملا من تلك المحامل فيتوقف في التعيين ويسلك مسلك السلف الصالح في التسليم.
وقوله: «كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس» قيدناه بكسر الزاي والسين وضمهما. و(حتى) هي العاطفة، والرفع عطف على كل، والخفض على شيء. =(6/670)=@
والكيس: - بفتح الكاف - لا يجوز غيره، ومعنى هذا الحديث: أن ما من شيء يقع في هذا الوجود كائنا كان إلا وقد سبق %(4/1463)%
__________
(1) في (ح): «به» بدل «في».
(2) في (ح): «تعلم».(4/1463)
به علم الله تعالى، ومشيئته، سواء كان من أفعالنا، أو صفاتنا، أو من غيرها، ولذلك أتى بـ «كل» التي هي للاستغراق، والإحاطة، وعقبها بحتى التي هي للغاية، حتى لا يخرج عن (1) تلك المقدمة الكنية من الممكنات شيء ولا يتوهم فيها تخصيص، وإنما جعل العجز والكيس غاية لذلك ليبين أن أفعالنا، وإن كانت معلومة، ومرادة لنا، فلا تقع منا إلا بمشيئة الله تعالى، له إرادته وقدرته (2) ، كما (3) قال تعالى: {وما تشأوون إلا &(6/545)&$ أن يشاء الله}، وصار هذا من نحو (4) قول العرب: قدم الحاج حتى المشاة. فيكون معناه: أن كل ما يقع في الوجود بقدر الله تعالى ومشيئته (5) ، حتى ما يقع منكم بمشيئتكم. والعجز: التثاقل عن المصالح حتى لا تحصل، أو تحصل لكن على غير الوجه المرضي.والكيس: نقيض ذلك، وهو الجد والتشمير في تحصيل المصالح على وجوهها، والعجز في أصله: معنى من المعاني منافي (6) للقدرة، وكلاهما من الصفات المتعلقات بالممكنات على ما يعرف في علم الكلام. =(6/671)=@ %(4/1464)%
__________
(1) في (ح): يشبه «من».
(2) من قوله: «ليبين أن أفعالنا...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح): «بما» بدل «كما ».
(4) في (ح): «نوع».
(5) قوله: «ومشيئته» سقط من (ح).
(6) في (ح): «مناقض».(4/1464)
ومن باب: تصريف الله تعالى القلوب وكتب على ابن أدم حظه من الزنى (1)
قوله: «قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه كيف يشاء» ظاهر الإصبع محال على الله تعالى قطعا لما قلناه أنفًا ولأنه لو كانت له أعضاء وجوارح، لكان كل جزء منه مفتقرًا للآخر، فتكون جملته محتاجة، وذلك يناقض الإلهية، وقد تأول بعض أئمتنا هذا الحديث فقال: هذا (2) استعارة جارية مجرى قولهم: فلان في كفي، وفي قبضي (3) .
يراد به: أنه متمكن من التصرف فيه، والتصريف له كيف شاء، وأمكن من ذلك في المعنى، مع إفادة &(6/546)&$ التيسير أن بقال: فلان بين إصبعي، أصرفه كيف شئت. يعني: أن التصرف متيسر عليه غير متعذر.وقال بعضهم: يحتمل أن يريد بالإصبع هنا النعمة.وحكي أنه يقال: لفلان عندي إصبع حسنة، أي: نعمة. كما قيل في اليد. فإنَّ قيل: فلأي شيء ثني الإصبع، ونعمه كثيرة لا تخص؛ قلنا: لأن النعم، وإن كانت كذلك، فهي قسمان: نفع ودفع، فكأنه قال: قلوب بني آدم بين أن يصرف الله عنها ضرا، وبين أن يوصل إليها نفعا. =(6/672)=@
قلت: وهذا لا يتم حتى يقال: إن بني آدم - هنا - يراد بهم الصالحون، الذين تولى الله حفظ قلوبهم.وأما الكفار والفساق، فقد أوصل الله تعالى إلى قلوبهم ما شاءه، ربهم من الطيع (4) ، والختم، والزين، وغير ذلك. وحينئذ يخرج الحديث عن مقصده، فالتأويل الأول أولى، وقد بلغا: إن التسليم الطريق السليم. %(4/1465)%
__________
(1) من قوله: «ومن باب: تصريف...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «هو».
(3) في (ح): «وقبضتي».
(4) في (ح): «الضيع» كذا رسمت.(4/1465)
وقوله: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك» هذا الكلام يعضد ذلك التأويل الأول، وقد وقع هذا الحديث (1) في غير كتاب مسلم فقال: «يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك»، وهما بمعنى واحد، وحاصلة: أحد أحوال القلوب منتقلة غير ثابتة ولا دائمة. فحق العاقل أن يحذر على قلبه من قلبه، ويفرغ إلى ربه في حفظه. &(6/547)&$
وقوله: «ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة» هذا من ابن عباس معنى (2) تفسير قوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم}. وهي ما دون الكبائر. والفواحش: هي الصغائر (3) . وقال زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: هي ما ألموا به في الجاهلية. وقيل: هي مقاربة المعصية من غير إلمام. وقيل: الذنب الذي يقلع عنه ولا يصر عليه، وقيل غير هذا.وأشبه هذه الأقوال القول الأول.وعليه يدلّ (4) قوله عليه السلام: «الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر (5) » والفواحش: جمع فاحشة، وهي ما يتفحش (6) من الكبائر كالزنى بذوات المحارم، واللواط، ونحو ذلك. =(6/673)=@
وقوله: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى» أي ؟ قضاه وقدره، وهو: نص في الرد على القدرية.
وقوله: «مدرك ذلك لا محالة» كذا صح، وهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فهو مدرك ذلك، ولا محالة، أي: لا بد من وقوع ذلك منه.
وقوله: «فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى» يعني: أن هواه وتمنيه: هو زناه. وإنَّما أطلق على هذه الأمور كلها: %(4/1466)%
__________
(1) من قوله: «وقد قلنا ...» إلى هنا كتب مكانها في (ح): «وقد وقع هذا الحديث في غير كتاب مسلم فقال يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك وهذا الحديث يعضد ذلك التأويل الأول وقد وقع».
(2) قوله: «معنى» سقط من (ح).
(3) في (ح): «وهي».
(4) كتب بعدها في (ح): «مقصود الآية ويدل عليه».
(5) زاد بعدها في (ح): «وقد تقدم القول في الكبائر».
(6) في (ح): «يستفحش».(4/1466)
زنى؛ لأنَّها مقدماتها (1) ، إذ لا يحصل الزنى الحقيقي في الغالب إلا بعد استعمال هذه الأعضاء في تحصيله.والزنى الحقيقي: هو إيلاج الفرج المحرم شرعا في مثله.ألا ترى قوله: «ويصدق ذلك الفرج ويكذبه» يعني (2) : إن حصل إيلاج (3) الفرج الحقيقي، ثم =(6/674)=@ زنى تلك الأعضاء، وثبت (4) إثمه، وإن لم يحصل ذلك واجتنب كفر زنى تلك الأعضاء، كما قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}.
ومن باب: كل مولود يولد على الفطرة وما جاء في أولاد المشركين وغيرهم، وفي الغلام الذي قتله الخضر (5)
قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» قد تقدَّم: أن أصل الفطرة: الخلقة أصل (6) المبتدأة، وقد اختلف الناس في الفطرة المذكورة في هذا الحديث، وفي الآية، فقيل: هي سابقة السعادة والشقاوة، وهذا إنما يليق بالفطرة %(4/1467)%
__________
(1) في (ح): «مقدماته».
(2) في (ح): «يعني إنه».
(3) في (ح): «زنا» بدل «إيلاج».
(4) في (ح): «ثبت» بلا واو.
(5) من قوله: «ومن باب: كل...» إلى هنا سقط من (ح).
(6) قوله: «أصل» سقط من (ح).(4/1467)