أحاديث في الدعوة والتوجيه
( 11 )
حديث
تركت فيكم أمرين
دراسة لمصدرية التلقي في هذا الدين
إعداد
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد عانت البشرية كثيرًا ولا تزال تعاني عندما سلّمت مقوماتها وأسباب حضارتها وتقدمها إلى القوانين والنظم الوضعية التي تدير جميع شؤونها وفي جميع أحوالها، فكثرت المظالم، وضاعت الحقوق، وانتهكت الأعراض، وسلبت الأموال، وأهدرت الأرواح والأنفس، في ظل هذه القوانين التي لا تعبر إلا عن رغبات صانعيها وتصوراتهم الناتجة عن استدلالات وتجارب في الحياة ومن نظرتهم إلى الناس بمنظار بشري ضيق وقاصر لا يرقى إلى إشباع رغبات جميع الناس وآمالهم، فضلاً عن اختلاف أجناسهم وأعراقهم وأديانهم وتصوراتهم، لذا كان الفشل والاصطدام بالواقع نهاية هذه القوانين.
كما عانت الكثير من المجتمعات المسلمة في الأزمنة المتأخرة أعباء تلك النُظم والقوانين واكتوت بنار فسادها على جميع المستويات، تارة تحت غطاء اشتراكي وأخرى تحت غطاء رأسمالي، ولم يكن للدين حظ وافر بين تلك النظم، حيث كان غائبًا عن واقع الناس، لا يعرف الكثيرون عنه إلا أنه اعتكاف وذكرٌ في زوايا المساجد القديمة.
وهذه المآسي والمعاناة هي نتيجة حتمية لأي مجتمع أو أمة لا تملك عوامل البقاء ومقومات الحضارة، التي تكمن بالدرجة الأولى في مصادرها التشريعية والتنظيمية، ومدى قدرتها على مواجهة الواقع الذي يتجدد كل حين.(1/1)
فكان لا بد من منهج أكبر وأشمل من النظم البشرية، تفي بجميع الرغبات وتحقق المصالح التي ترنو إليها نفوس البشر، في الأصعدة كافة، الشخصية والأسرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والدينية، وبيان الصالح من الفاسد، ضمن قواعد ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان والأماكن، وضمن فروع تنبثق من هذه القواعد تتجاوب مع المتغيرات والأحداث في الأمور التي لا تؤثر على تلك الثوابت، وهي المرونة التي اتصفت بها شريعة الإسلام، وجعلتها باقية وثابتة ومتجددة في كل حين وكل حال.
وقد تميزت الشريعة الإسلامية على سائر النظم والنظريات والأديان، في القديم والحديث، بما لديها من مصادر للتشريع وتلقي العلوم والمعارف، التي تستمد قوة بقائها وصلاحيتها من الله تعالى، خالق البشر وفاطرهم، والعالم بحاجاتهم وأشواقهم، الذي وضع لهم هذه المصادر لتكون لهم هدى ورحمة، في تحقيق المنافع ودرء المفاسد.
فجاء هذا البحث لإعطاء لمحة عن مصادر التلقي والتشريع في هذا الدين، وكيفية الاستقاء من تلك المصادر والتعامل معها، لعل الله أن ينفع بها الأمة في الرجوع إليها، والعمل بها، في جميع أحوالها، إنه سميع قريب مجيب.
وكتبه
فالح بن محمد بن فالح الصغير
الرياض 1425هـ
ص.ب 41961 الرياض 11531
falehmalsgair@yahoo.com
نص الحديث
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ»(1).
مفهوم مصادر التلقي:
مصادر: جمع مصدر، وهو مصدر ميمي من الصَدَر بالتحريك من قولك صَدَرْتُ عن الماء وعن البلاد، ويكون أيضًا اسم مكان أي الموضع الذي يُصدر منه، ومنه مصادر الأفعال أي الأصول التي أُخِذَتْ منها(2).
__________
(1) الموطأ للإمام مالك، كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر، ص564.
(2) لسان العرب، مادة «صدر»، 1/301.(1/2)
فالمصدر: هو الأصل الذي يتفرع عنه غيره وتصدر منه الأشياء.
التلقي:
التلقي: هو الاستقبال ومنه قوله تعالى: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } (1)(2).
فمصادر التلقي: هي المناهل والموارد التي تؤخذ منها التشريعات والعلوم والمعارف وفق قواعد وضوابط معينة.
وبهذا المعنى فإن المصادر لا تحصر ولا تُعد، بالنسبة لأمم الأرض ونِحَلها، وهذه المصادر هي التي تحدد عقائد الناس وتصوراتهم عن الحياة والكون، كما تحدد التشريعات والنظم التي تحكمهم ويتعاملون بها، فكلما كانت هذه المصادر صالحة وصادقة كانت تلك التصورات صحيحة وصائبة، وإذا كانت هذه المصادر فاسدة وغير صادقة انقلبت عقائد الناس
ضربًا من الأكاذيب والأوهام، وهذا ما نجده في عالمنا اليوم، عند كثير من أمم الأرض التي تأخذ تصورها عن الحياة والكون والإنسان من الخيالات والقصص الأسطورية التي ليست لها حقيقة في الوجود، أو من رؤى البشر الناقصة لا تعطي الحقيقة ولا تلبي الرغبة الصادقة لروح الإنسان وجسمه، ولا للمجتمع بأسره.
* * *
مصادر التلقي عند المسلمين
إن المتأمل في حقيقة مصادر التلقي عند المسلمين سيجد فيها معالم واضحة، تدل على صدقها وصلاحها لجميع الأزمان والأمصار، لأنها من لدن الخالق العليم، الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، فجعل لهذا الإنسان مصادر يتلقى منها تشريعاته ونظم حياته، ويأخذ منها عقيدته وتصوره عن الكون والحياة والإنسان، ليعرف بعد ذلك كيف يسير في الحياة، ويقوم بواجب الخلقة التي فرضه الله عليه من أشكال العبادات والطاعات { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (3).
وقد تعددت هذه المصادر حسب تصنيف المجتهدين لها حتى تجاوزت العشرين مصدرًا، من أهمها:
__________
(1) سورة فصلت، الآية 35.
(2) لسان العرب مادة «لقي» 12/ 301.
(3) سورة الذاريات، الآية 56.(1/3)
الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا والعرف وسد الذرائع. وقد اختلف العلماء في بعض هذه المصادر من حيث الأخذ بها أو تركها، إلا أن الأمة أجمعت واتفقت على ثلاثة من هذه المصادر في التلقي والتشريع وهي:
الكتاب والسنة والإجماع. لذا سيكون مدار هذا البحث في التركيز على المصادر الأساس وهما: المصدران الأولان للتلقي وهو الكتاب والسنة بشكل
أساسي ومفصل لأنهما مجال دراستنا الحديثية، ثم التعريج على المصدر الآخر بشكل عام ومجمل. ثم ما يترتب على الأخذ بها من المصالح والمنافع، وما يترتب على البعد عنها من المفاسد.
* * *
وإن من الملاحظ على مدار التاريخ أن كثيرًا من المآسي الفردية، والنكبات الجماعية على مستوى المجتمعات والدول تكمن أهم أسبابها في البعد عن هذه المصادر والحيدة عنها، أو في ضلال الطريق السليم في كيفية الأخذ منها، والتعامل معها.
ومن هنا سنتعرض لهذا الأمر العظيم، أعني كيفية التلقي من هذه المصادر، ليتبين الطريق لطالب الحق. جعلنا الله تعالى كذلك.
* * *
أولاً: الكتاب (القرآن الكريم)
تعريف القرآن الكريم:
في اللغة:
القرآن: في الأصل للفعل قَرَأَ يُقال قَرأَتُ الكتاب قراءةً ومنه قرآنًا، والأصل في هذه اللفظة الجمع، وسُمّي القرآنَ لأنه جَمَعَ القَصَصَ والأمرَ والنهيَ والوعدَ والوعيدَ والآيات والسور بعضها إلى بعض، وقد يطلق القرآن على الصلاة من باب تسمية الكل بالبعض(1).
في الاصطلاح:
__________
(1) لسان العرب، مادة «قَرَأَ»، 11/ 79.(1/4)
هو «كلام الله تعالى المنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - باللفظ العربي، المنقول إلينا بالتواتر، المكتوب بالمصاحف، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس»(1).
أولوية هذا المصدر:
اتفق المسلمون جميعهم على أن هذا المصدر الأول للتلقي والتشريع للأمة، ترجع إليه الأمة في معرفة العقائد والأحكام والحلال والحرام، ولا يجوز أبدًا تجاوز هذا المصدر إلى غيره إذا كان الحكم فيه واضحًا جليًا؛ حيث
جاء إلينا بالتواتر(2) الذي هو الخبر اليقيني من الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام الذي نقل إليه الروح الأمين جبريل عليه السلام من اللوح المحفوظ.
قال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (3).
وقال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } (4). وقال جل ثناؤه: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا } (5).
والآيات في ذلك كثيرة جدًا.
خصائص القرآن الكريم:
__________
(1) أصول السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي، 1/279. المستصفى لأبي حامد محمد محمد الغزالي 1/101، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، 2/ 7.
(2) التواتر هو التتابع، والمراد به اصطلاحًا: ما رواه جمع عن جمع يستحيل في العادة أن يتواطؤا على الكذب، وكان مستند خبرهم الحس. والتواتر يدل على اليقين والقطع بصدق الخبر. (ينظر نزهة النظر في شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لابن حجر العسقلاني).
(3) سورة النحل، الآية 89.
(4) سورة الشورى، الآية 17.
(5) سورة الإنسان، الآية 23.(1/5)
من خلال ما سبق يتبين أن للقرآن الكريم خصائص كثيرة تميز، مما لا تدع مجالاً للشك أو الجدال حول مصداقيته وتؤكد باليقين القاطع أنه من عند الله تعالى، وأنه مصدر التلقي الأول للأمة في حياتها ومعاشها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن بين هذه الخصائص ما يلي:
1 ـ أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى الذي أنزل إلى اللوح المحفوظ ثم أنزل منجمًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - خلال فترة النبوة ، وبهذا يخرج من هذه الصفة
كل كلام آخر من الأحاديث النبوية والأحاديث القدسية.
2 ـ أن القرآن الكريم هو الكلام الذي أنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عن طريق جبريل عليه السلام خلال فترة الثلاثة والعشرين عامًا في مكة المكرمة والمدينة النبوية، والذي بدأ بسورة العلق في قوله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } (1). وانتهى بنزول آخر آية منه وهي قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (2).
وهذا يعني أن كلام الله تعالى الذي أنزل على الأنبياء من قبل لا تعد من القرآن، كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم.
3 ـ أن القرآن أنزل من عند الله باللغة العربية نظمًا ومعنى، لقوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (3).
وهذا يعني أنه لا يجوز تغيير لفظ فيه بمرادف آخر، وأما ما يترجم إلى لغات أخرى فهي تفسير للقرآن وليس القرآن نفسه.
4 - القرآن الكريم منقول إلينا بالتواتر : وهو رواية جماعة عن جماعة
__________
(1) سورة العلق، الآيات: 1 - 5.
(2) سورة المائدة، الآية 8.
(3) سورة يوسف، الآية2.(1/6)
بحيث يؤمن تواطؤهم على الكذب وهو يفيد العلم القطعي واليقيني، حيث كان الصحابة رضي الله عنهم يحفظون القرآن الكريم ويكتبونه في الألواح، وكان عدد كتّاب الوحي ما يقارب الأربعين كاتبًا، وتم تناقله بالتواتر حتى تم جمعه وتدوينه. وكان التواتر هو السبب الذي من خلاله حفظ الله تعالى هذا القرآن من الزيادة والنقصان، لقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1).
5 ـ أن القرآن الكريم يُتعبد بتلاوته: وهذه خاصية فريدة من خصائص هذا الكتاب العظيم ودافع كبير لإقبال الناس على حفظه وتلاوته وتدارسه، حيث إن تلاوته عبادة يترتب عليه الأجر والمثوبة من عند الله تعالى، يقول عليه الصلاة والسلام: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول { الم } حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف»(2).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» البخاري ومسلم.
ولا تصح الصلاة إلا بتلاوة القرآن الكريم فيها ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لا صلاة
لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»(3).
6 ـ أن القرآن الكريم هو المكتوب في المصاحف: حيث كتبه كتّاب الوحي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جمع ألواحه أبو بكر رضي الله عنه ثم نسخه عثمان رضي الله عنه في عدة مصاحف ونشرها بين المسلمين في البقاع المتفرقة.
__________
(1) سورة الحجر، الآية 9.
(2) جامع الترمذي، برقم 2910، ص654.
(3) رواه الستة وأحمد، واللفظ للبخاري في صحيحه، برقم756، ص123.(1/7)
7 ـ أن القرآن الكريم يبدأ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس، وهذا التحديد مهم حتى لا تختلط به الأدعية وغيرها مما يكتب في العادة في نهاية المصاحف، مع ملاحظة أن ترتيب السور الصورة التي هو عليها إنما هو ترتيب توقيفي من الله تعالى أوحى به إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن طريق جبريل عليه السلام.
8 ـ أن القرآن الكريم كلام معجز بلفظه وبلاغته، ومعجز بأحكامه وتشريعاته، ومعجز بعلومه ومعارفه، ومعجز بغيبياته وحقائقه المستقبلية، بل هو معجز بكل حرف وكل كلمة، والمقام يطول بالحديث عن جميع صور الإعجاز في هذا المصدر الرباني، ولكن هناك بعض الصور التي يتجلى فيها الإعجاز جليًا لكل الناس، والتي تدل على أن هذا المصدر هو من عند الله تعالى، وليس لأحد أن يأتي بشي من مثله أبدًا، ومن بعض هذه الصور والوجوه ما يلي:
أ ـ فصاحة القرآن وبلاغته وتأثيرها على النفس: حيث تميز هذا المصدر ببلاغة قوية في العبارات وفصاحة في الألفاظ وتناسق في المعاني، من غير ركاكة في اللغة أو ضعف في الجمل، رغم كثرة آياته التي تزيد على ستة آلاف وستمائة آية، ورغم الامتداد الزمني الذي نزلت فيه هذه الآيات وهي ثلاثة وعشرون عامًا، من أجل ذلك تحدى البشر جميعًا على أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، يقول الله تعالى: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } (1).
__________
(1) سورة الإسراء، الآية 88.(1/8)
ثم تحداهم على أن يأتوا بعشر سور مثله، يقول الله تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1).
بل تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا، يقول تبارك شأنه: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } (2). ويقول في موضع آخر: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } (3).
وقد كان تأثير هذه البلاغة والفصاحة سبب في إسلام عمر رضي الله عنه عندما قرأت عليه سورة طه في بيت أخته.
ومعلوم قول الوليد بن المغيرة في القرآن الكريم بعد أن رجع إلى كفار قريش من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته»(4).
ب ـ التعرض للغيب كما جاءت في سورة الروم، حيث أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين في مكة عن انتصار الفرس وهم المجوس على الروم وهم أهل الكتاب، ويقولون أننا سنهزمكم كما هزم المجوسُ الرومَ، فجاء الخبر الإلهي في كتابه، بأن الروم ستنتصر بعد بضع سنوات، وقد تحقق هذا الخبر في أقل من عشر سنوات، وقد فرح المسلمون بذلك الانتصار لأنهم أهل الكتاب، وقد كان النصر المؤزر في تلك السنة للمؤمنين على المشركين في بدر.
__________
(1) سورة هود، الآيتان 13-14.
(2) سورة يونس، الآية 38.
(3) سورة البقرة، الآية 23.
(4) أخرجه الحاكم وصححه، وأخرجه البيهقي.(1/9)
يقول الله تعالى : { الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } (1).
وكذلك مثل دخول المسلمين مكة بعد أن رجعوا منها، كما في قوله تعالى: { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ } (2). وغيرها من الآيات.
ج ـ الحديث عن أحوال الأمم السابقة، والإخبار عن كثير من أنبياء الله ورسله عليهم السلام وذكر أسمائهم، وأحداث دعواتهم مع أقوامهم والحوارات التي كانت تدور بينهم، وما آلت إليه حال تلك الأقوام حينما أعرضت عن رسل الله ورسالاته، كقوله تعالى عن نوح عليه السلام: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } (3). وقوله عن أصحاب الكهف: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } (4) وآيات كثيرة حفل بها القرآن الكريم تخبر عن أخبار الأنبياء والأمم السابقة.
د ـ الحقائق العلمية الموجودة في كتاب الله، وهي كثيرة ولا مجال لذكرها ، ومن بينها مراحل خلق الإنسان والأطوار التي يمر بها الجنين ،
__________
(1) سورة الروم، الآيات 1-5.
(2) سورة الفتح، الآية 27.
(3) سورة العنكبوت، الآية 14.
(4) سورة الكهف، الآيتان 9-10.(1/10)
حيث جاء تفصيلها في هذه الآيات { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (1).
وآيات أخرى تتحدث عن الفلك والأحياء في قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } (2). وأخرى تتحدث عن علم البصمات كما قوله تعالى: { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } (3). والآيات في ذلك كثيرة يطول المقام لذكرها.
هـ ـ أن القرآن الكريم شامل لجميع مناحي الحياة، وواف بكل مطالب الحياة وحاجات الإنسان الضرورية، من الأحكام والتشريعات المتعلقة بذلك، يقول الله تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } (4). ويقول أيضًا: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (5).
ويمكن إيجاز هذه الشمولية في الأحكام ، والتشريعات التي تصحيح مسيرة
الإنسان في هذه الحياة في النقاط التالية:
أحكام العقيدة:
__________
(1) سورة المؤمنون، الآيات 12-14.
(2) سورة الأنبياء، الآية 30.
(3) سورة القيامة، الآية 4.
(4) سورة الشورى، الآية 13.
(5) سورة الأنبياء، الآية 107.(1/11)
وهي الأحكام التي تتعلق بتصحيح تصور الإنسان عن الله تعالى وأنه واحد في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأنه جل شأنه منزه عما لا يليق بجلاله من جميع ألوان الشرك وأشكاله من اتخاذ الآلهة معه أو إيجاد الوسائط بين الإنسان وبين ربه ، وقد كانت الآيات القرآنية تترى ثلاثة عشر عامًا في مكة المكرمة لتصحيح عقائد الناس وتصوراتهم عن خالقهم ، والآيات كثيرة في ذلك، منها:
قوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } (1).
وقوله جل شأنه { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (2).
كما تعنى بتصور الإنسان عن الكون والحياة والإنسان، فحددت معالم ذلك التصور، وما ينبني عليه من عبودية الله تعالى وحده لا شريك له.
أحكام العبادات:
وهي الأحكام التي تتعلق بالعبادات بصفة عامة ، والمفروضة منها بصفة
خاصة كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها، فقد جاء النداء الرباني بالعبادة في قوله جل شأنه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (3)، وقوله: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } (4).
ووردت آيات كثيرة أخرى حول العبادات المفروضة، مثل قوله تعالى في الصلاة: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } (5)
__________
(1) سورة الإخلاص.
(2) سورة البقرة، الآية 256.
(3) سورة البقرة، الآية 21.
(4) سورة الذاريات، الآيتان 56-57.
(5) سورة العنكبوت، الآية 45.(1/12)
وقوله تعالى في الصيام: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1).
وقوله جل ثناؤه في الحج: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (2).
وقوله عز وجل في الزكاة: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } (3). وغير ذلك من العبادات.
أحكام المعاملات:
وتشتمل هذه الأحكام الأحوال الشخصية، والأحكام المالية من البيع والشراء والاستئجار والسلم والمقايضة، وغيرها، وأحكام القضاء والدعاوى والجنايات، وأحكام نظام الحكم في الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم، والأحكام والقوانين الدولية التي تدير علاقة الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول، كما في قوله جل شأنه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ... } (4).
وقوله تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (5).
وقوله عز وجل: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (6).
الأخلاق:
وهي الآداب التي دعا إليها القرآن الكريم المسلم للالتزام بها ، وتطبيقها في حياته مع نفسه ، ومع الآخرين ، وهناك سورة كاملة في القرآن الكريم
__________
(1) سورة البقرة، الآية 183.
(2) سورة البقرة، الآية 197.
(3) سورة التوبة، الآية 103.
(4) سورة البقرة، الآية 282.
(5) سورة البقرة، الآية 179.
(6) سورة الأنفال، الآية 61.(1/13)
تعلم المؤمنين بعض الآداب مع الله ورسوله ومع المؤمنين وهي سورة الحجرات، التي تحمل في جنباتها مبادئ أخلاقية وحضارية جليلة يفتقدها العالم المعاصر رغم ما وصل إليه من التقدم والرقي المادي، ومنها على سبيل المثال قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (1).
* * *
وما سبق نزر يسير من الخصائص والمعجزات التي اتصف بها هذا المصدر الرباني، الذي قال عنه جلّ ذكره بقوله: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (2). وقوله: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (3).
* * *
توثيق هذا المصدر وحفظه:
لقد تكفل الله تعالى بحفظ هذا المصدر وحمايته من التحريف والتبديل بقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (4)، بخلاف الكتب
السماوية السابقة التي دخلت فيها أيدي البشر فأضافت آيات وأحكامًا وحذفت أخرى إرضاء لأهوائهم ومصالحهم، حتى تحول الإنجيل من كتاب مقدس واحد منزل من عند الله تعالى إلى خمسة أناجيل يتداولها أتباعها إلى هذا اليوم، وهي : إنجيل متّى ، وإنجيل مرقص ، وإنجيل لوقا ، وإنجيل يوحنا، وإنجيل برنابا.
وقد مرّ حفظ هذا المصدر وتوثيقه بثلاث مراحل، وهي:
المرحلة الأولى: في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) سورة الحجرات، الآية 11.
(2) سورة النحل، الآية 89.
(3) سورة الأنعام، الآية 38.
(4) سورة الحجر، الآية 9.(1/14)
إن أول من حفظ القرآن الكريم هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الوحي عليه، فكان عليه الصلاة والسلام حريصًا على حفظ ما ينزل عليه ومن شدة تخوفه من أن ينسى بعض الآيات أو ينفلت منه جزء مما يوحى إليه كان يحرك شفتيه أثناء الوحي، فجاءه الأمر الإلهي بعدم فعل ذلك لأن الله تعالى سيحفظ كتابه في صدر نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليس من داع لتحريك الشفتين عند تلقي الوحي، وإنما يكفي الاستماع والإنصات فحسب. قال جل ثناؤه: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } (1).
هذا بالإضافة إلى أنه وجد من الصحابة من كان يحفظ القرآن في صدره، كما تشير إلى ذلك الروايات صحيحة فقد أورد البخاري رحمه الله
تعالى ثلاث روايات بهذه الحقيقة تذكر أسماء سبعة من الصحابة، وهم: عبدالله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد بن السكن ، وأبو الدرداء ، وهذه الروايات هي:
أ ـ عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خذوا القرآن من أربعة : من عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبيِّ ابن كعب»(2).
ب ـ عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «أربعة، كلهم من الأنصار، أبيّ بن كعب، ومعاذ ابن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد»(3).
ج ـ وقول أنس رضي الله عنه أيضًا: «مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد»(4).
__________
(1) سورة القيامة، الآيات 16-19.
(2) صحيح البخاري، برقم4999، ص896.
(3) صحيح البخاري، برقم 5003، ص897.
(4) صحيح البخاري، برقم 5004، ص897.(1/15)
ولا يعني هذا أن الذين كانوا يحفظون القرآن في صدورهم في عهد النبوة هؤلاء السبعة فقط، لأن الروايات الصحيحة ذكر أسماء هؤلاء ، ولكن كان هناك أعداد كبيرة يحفظون كتاب الله تعالى في صدورهم ، وقد
بيّنت الأحداث اللاحقة لعهد النبوة ذلك، لاسيما في حروب الردة التي قتل فيها ما يقارب السبعين من حفظة كتاب الله تعالى.
ورغم حفظه - صلى الله عليه وسلم - لما يوحى إليه من الآيات، ووجود كثير من الصحابة الذين حفظوا كتاب الله في صدورهم، رغم ذلك كله كان عليه الصلاة والسلام يأمر بعض الصحابة في كتابة القرآن الكريم أثناء الوحي، وكان من بين أولئك الكتبة: علي بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان.
هذا كله بالإضافة إلى اللقاء السنوي الذي يتم بين جبريل عليه السلام والرسول - صلى الله عليه وسلم - لمذاكرة القرآن الكريم، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة»(1).
المرحلة الثانية: في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
عندما تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن الكريم مفرقًا بين الصحابة في السطور والصدور، وكانت فترة حرجة لأبي بكر رضي الله عنه، لظهور حركة الردة في اليمامة، فأرسل أبو بكر جيوشًا لمحاربتهم فقُتِل في تلك المعارك من حفظة القرآن وحدهم
سبعون صحابيًا، وكان ذلك سببًا مباشرًا لجمع القرآن في هذه المرحلة.
__________
(1) أخرجه البخاري، برقم3220، ص537.(1/16)
يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه في قصة جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه: « أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلتُ لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، ولم أجدها مع أحد غيره { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (1)، حتى خاتمة براءة فكانت الصحف
عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه»(2).
وقد انتهج أبو بكر وعمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم جميعًا في جمع القرآن منهجًا دقيقًا حتى لا يدخله الانحراف أو التبديل، وهو وجود شاهدين على من يأت بالقرآن سواء كان محفوظًا أو مسطورًا، رغم أن الذي قام بمهمة الجمع وهو زيد بن ثابت كان حافظًا للقرآن، مبالغة في الاحتياط.
__________
(1) سورة التوبة، الآية 128.
(2) صحيح البخاري، برقم4986، ص894.(1/17)
المرحلة الثالثة: في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:
ويجمل أنس بن مالك رضي الله عنه وضع القرآن في هذه المرحلة بحديثه المعروف: «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدركْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه
بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق»(1).
* * *
إن مصدرًا يتصف بهذه الخصائص والمزايا، وهذا التوثيق المُحْكم الذي لا يعتريه شبهة أو خلل، وفيه من الأحكام والقضايا والعلوم والقصص لجدير أن يُتبع ويكون هو المصدر الأول للبشرية قاطبة إلى يوم الدين، تأخذ منه نظمها ومناهجها، وتصورها عن الحياة والكون بقين واضح لا تعتريه أسرار ولا غموض.
__________
(1) صحيح البخاري، برقم4987، ص 894-9-895.(1/18)
ولا عاصم للعالم من الجَوْر الواقع عليه ولا ملاذ من المستقبل القاتم الذي يهدد مقوماته، إلا بهذا القرآن الذي يعالج معاناة البشرية في جميع صورها، الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والروحية، حيث تذوب في ظلاله الطبقيات والأعراق والإقليميات وجميع الاعتبارات الجاهلية، لأنه الذي أرسى هذه المعالم الإنسانية في الحياة منذ نزوله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، تحت راية هذه الآية الربانية الخالدة { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (1).
منهج تلقي هذا المصدر وفهمه:
كان تلقي القرآن الكريم وفهم آياته في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤخذ منه مشافهة، حيث لا يزال عليه الصلاة والسلام يعيش بين ظهراني الأمة، يرجع إليه الناس فيما يشكل عليهم من الأمور وما تستجد عليهم من الأحداث، فسرعان ما يسأل الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الأحداث ويجدون الحكم الفاصل لهم.
ولكن اختلف هذا المنهج وتغير معالمه بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لاسيما بعد الفتوحات الإسلامية الواسعة ودخول غير العرب في دين الله، فأصبح منهج التلقي من القرآن أشد صعوبة من سابقتها، حيث وضع علماء الأمة من السلف ضوابط وشروطًا في هذا المنهج، تفاديًا للانحراف ودخول الأهواء في تفسير كتاب الله ومعاني آياته، فوضعوا أربع طرق يتبعها المختصون من علماء الأمة في التفسير والتلقي الصحيح حسب تسلسلها، وهي:
1 -تفسير القرآن بالقرآن:
__________
(1) سورة الحجرات، الآية 13.(1/19)
وهذه هي الخطوة الأولى التي يجب على المتلقي والمفسر لكتاب الله أن يخطوها قبل أن ينتقل إلى غيرها، وذلك أن النص القرآني يأتي بصور متعددة، وأنه يدل بعضه على بعض، فأحيانًا يأتي النص مجملاً في موضع ثم يأتي مبينًا ومفصلاً في موضع آخر، أو يأتي مطلقًا في موضع ثم يأتي مقيدًا في موضع آخر ، وكذلك في الخاص والعام ، ومن أجل ذلك ينبغي على المتلقي
موضع آخر، وكذلك في الخاص والعام، ومن أجل ذلك ينبغي على المتلقي أن يكون مطلعًا على نصوص القرآن ودلالاتها ومواضع ردودها حتى يصبح ملمًا بالموضوع من كافة جوانبه ثم يبدأ بالتفسير والتلقي الصحيح، فعلى سبيل المثال جاء في القرآن الكريم عن لحوم بهيمة الأنعام مجملاً وموجزًا كما في قوله تعالى: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } (1). ثم جاء بعدها بآية مفصلاً ومسهبًا، وربما مفسرًا للآية الأولى كما في قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (2).
__________
(1) سورة المائدة، الآية 1.
(2) سورة المائدة، الآية 3.(1/20)
كما جاء في القرآن الكريم ذكر قصص بعض الأنبياء موجزًا في بعض السور ثم يأتي مفصلاً كما في قصة نبي الله موسى عليه السلام حيث جاءت عابرة ومجملة في سورة البقرة، وجاءت مفصلة ومسهبة ببعض الأحداث الدقيقة فيها في سورة طه ويونس.
2 - تفسير القرآن بالسنة:
وأما منهج تلقي القرآن وفهمه بالسنة النبوية فتأتي في الخطوة الثانية بالنسبة للمفسر والعالم المتلقي، عندما لم يجد تفسيرًا لكلام الله في كتاب الله في مواضع أخرى، فحينما يبحث عن تفسيرها في السنة النبوية التي هي مكملة للقرآن في التشريع والتلقي، ومفصلة له ومفسرة لأوامره وأحكامه، لقوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (1).
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه»(2).
حيث أن دلالة النصوص القرآنية تأتي على نوعين:
أ ـ النص القطعي الدلالة: الذي يدل على معنى مبين لا يحتاج إلى تأويل أو اختلاف فيه، مثل قوله تعالى: { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } (3). وقوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (4).
فهذه النصوص لا تحتمل التأويل بأن يتبدل صيام ثلاثة أيام إلى أربعة، أو يتحول من مائة إلى أكثر أو أقل.
ب ـ النص الظني الدلالة: وهو النص الذي يحتمل التأويل أو يدل على
معان متعددة، مثل قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (5). فاليد هنا عام قد تكون اليمنى أو اليسرى، أو كلتيهما، ثم إنه لم يتبين الموضع الذي تقطع فيه اليد، هل هو من الرسغ أم من المرفق أم من الكتف، فكلها دلالات ظنية، إلى أن جاءت السنة النبوية وحددت موضع القطع.
__________
(1) سورة النحل، الآية 44.
(2) سنن أبي داود، برقم 4604، ص651.
(3) سورة المائدة، الآية 89.
(4) سورة النور، الآية 2.
(5) سورة المائدة، الآية 38.(1/21)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } (1) شق ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا أينا لم يظلم نفسه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } »(2).
3 -تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين:
وذلك حين لم يوجد تفسير للآية بآية أخرى أو بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيلجأ المفسّر إلى تفسير الصحابة ثم التابعين، لأنهم أعلم فهمًا وأقرب عهدًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأكثر معرفة بالعربية ومدلولاتها ووجوه البلاغة فيها ، وقد اشتهر من بين الصحابة من المفسرين عبدالله بن مسعود الذي يقول
«والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من
آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت، لو أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه»(3).
وكذلك عبدالله بن عباس الذي سُمّيَ بترجمان القرآن بفضل دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له، يقول ابن عباس رضي الله عنه: ضمّني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «اللّهم علِّمه الكتاب»(4).
وأما من التابعين فأمثال: مجاهد بن جبر (21-104هـ)، وسعيد بن جبير (45-95هـ) وعطاء بن أبي رباح (27-114هـ) وسعيد بن المسيب (13-94هـ) وغيرهم. كانوا أعلامًا في التفسير ومعاني الآيات ودلالة ألفاظها، لأنهم تلقوا من الصحابة رضي الله عنهم.
بعض الأدوات المعينة لفهم القرآن:
__________
(1) سورة الأنعام، الآية 82.
(2) صحيح البخاري، برقم 6937، ص1195.
(3) صحيح مسلم، برقم6333، ص1082.
(4) صحيح البخاري، برقم75، ص18.(1/22)
حتى نفهم كتاب الله تعالى بصورة سليمة وواضحة، ونفهم معاني آياته ودلالاتها بحقيقتها، وبعيدًا عن الهوى والآراء الخاصة، لا بد من معرفة مجموعة من الأمور التي تعين على هذا الفهم، وهي كثيرة جدًا كتبت فيها بحوث وكتب، ونحن في هذا المقام نذكر بعض تلك الأمور، وهي:
1 - التأمل والتدبر أثناء القراءة ، وذلك لإشغال الفكر في آيات القرآن
ومعانيها لقوله تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ } (1).
عن حذيفة رضي الله عنه قال: «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مُتَرَسِّلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سألَ، وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوَّذَ»(2).
2 ـ كثرة القراءة والترديد والترتيل، لأن في ذلك أثر كبير على فهم القرآن الكريم، يقول الله تعالى: { وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا } (3).
وقد حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة على قراءة القرآن والإكثار منها، يقول عليه الصلاة والسلام: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه»(4).
ويقول عليه الصلاة والسلام أيضًا: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول { الم } حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف»(5).
ومن جانب آخر حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من هجر القرآن ونسيانه بقوله: «تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ تفصِّيًا من الإبل في عُقلها»(6).
__________
(1) سورة ص، الآية 29.
(2) صحيح مسلم، برقم1814، ص315.
(3) سورة المزمل، الآية 4.
(4) صحيح مسلم، رقم1874، ص325.
(5) جامع الترمذي، رقم2910، ص654.
(6) رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري في صحيحه، برقم5033، ص902.(1/23)
3 ـ التلقي عن العلماء المتقنين حفظًا وفهمًا، وهو المنهج الذي سار عليه سلف هذه الأمة في تناقل القرآن، وهو الطريقة السليمة لحفظ القرآن من التحريف والتبديل، لأن التلقي من غير أهل الفهم والحفظ ربما يورث على المدى البعيد نوعًا من الاختلاف والالتباس ومن ثم الجهل بكتاب الله وفهم آياته، من أجل ذلك حرص العلماء على أن يتم تلقي القرآن من ذوي الحفظ الصحيح والتلاوة السليمة.
4 ـ فهم اللغة العربية ودراستها، لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، والذي لا يعرف العربية لن يفهم القرآن ولن يتمكن من الوصول إلى فهم معانيه ومقاصد آياته، لذا كانت الحاجة ضرورية لمعرفة العربية من حيث النحو والصرف، وعلوم البلاغة من البيان والمعاني وغيرها لفهم لكتاب الله، يقول مجاهد: «لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالمًا بلغات العرب»(1).
5 ـ عدم القول بالرأي في القرآن، وهو الاعتماد على الفهم الخاص والرأي المجرد في تفسير كلام الله تعالى ، وهو خروج عن منهج السلف في
فهم كتاب الله، وهو شأن أصحاب البدع والمذاهب الباطلة كالمعتزلة وغيرها، ولا يجوز الأخذ من تفاسيرهم لأنها لا تعتمد على العلم لقوله تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (2). ويقول عليه الصلاة والسلام: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار»(3).
__________
(1) نقلاً عن كتاب: مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، ص331.
(2) سورة الإسراء، الآية 36.
(3) جامع الترمذي، برقم2950، ص663. وكذا رواه أحمد في مسند. وقال عنه الترمذي هذا حديث حسن صحيح.(1/24)
6 ـ معرفة الناسخ والمنسوخ، وذلك لمعرفة الحكم الصحيح الذي أقره الشرع، لأن هناك آيات في كتاب الله تعالى نسخ حكمها وبقيت تلاوتها، مثل قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (1) منسوخة بقوله تعالى: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (2). ومثل قوله تعالى أيضًا : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } (3) نسخت بقوله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (4). وغيرها كثير في كتاب الله.
فمعرفة الآيات الناسخة والمنسوخة أمر ضروري لفهم أحكام القرآن، وتشريعاته ، لأن الجهل بها ربما يؤدي إلى أخذ الحكم بالمنسوخ ، وترك
الناسخ، فيتداخل الحلال بالحرام، ويحدث الاختلاف والفرقة بين الناس.
7 ـ معرفة أسباب نزول الآيات، حيث تزيد من فهم الحكم والتشريع في كتاب الله، ويزيل الغموض والإبهام عن كثير من آيات القرآن، لأن هناك آيات نزلت في حوادث معينة تحمل أحكامًا خاصة لتلك الحوادث، ولا تشمل جميع الأحوال، منها على سبيل المثال على الحصر:
__________
(1) سورة البقرة، الآية 115.
(2) سورة البقرة، الآية 144.
(3) سورة البقرة، الآية 284.
(4) سورة البقرة، الآية 286.(1/25)
حيث أشكل على مروان بن الحكم فهم قوله تعالى: { لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (1). فقال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - يهودًا فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عباس { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } (2) كذلك حتى قوله: { يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } (3)(4).
كانت تلك بعض الأدوات التي تعين على فهم كتاب الله تعالى فهمًا صحيحًا، رغم أن هناك المزيد من هذه الأدوات التي لا بد للمتخصصين في علوم القرآن والتفسير أن يكونوا على دراية كافية بها، مثل: معرفة الآيات المكية والمدنية، والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، وقصص القرآن، وأمثال القرآن، والقراءات السبع، وغيرها.
* * *
ثانيًا: السنة
تعريفها:
__________
(1) سورة آل عمران، الآية 188.
(2) سورة آل عمران، الآية 187.
(3) سورة آل عمران، الآية 188.
(4) صحيح البخاري، برقم 4568، ص779.(1/26)
في اللغة لغة: هي الطريقة والعادة، حسنة كانت أم سيئة(1)، ومنه قول الله تعالى: { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا } (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنّة سيئة، كان عليه وزرها ووِزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(3).
في الاصطلاح: تعددت التعريفات حول السنة النبوية بتعدد العلوم الشرعية وتخصصاتها، إلا أننا سنقتصر على تعريف المحدِّثين والأصوليين لها لأنه التعريف المقصود هنا بالبحث:
وهي: «كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خلُقية»(4).
القول: وهو الكلام الذي تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - وتناقله الناس بعد ذلك، مثل حديث: «إنما الأعمال بالنيات»(5).
الفعل: وهو ما قام به النبي عليه الصلاة والسلام من عمل، مثل كيفية صلاته، وصيامه، وحجه، مثل قوله: «وصلوا كما رأيتموني أصلي»(6).
التقرير: وهو ما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل الصحابة بسكوت أو إظهار قرينة الرضا عنه، مثل إقراره عليه الصلاة والسلام لمن تيمم لعدم وجود الماء ثم وجده بعد الانتهاء من الصلاة ولم يعد صلاته.
الصفات، فإما خَلقية مثل طوله ولونه وشعره ومشيه وغير ذلك، أو خُلقية مثل الحلم والكرم والشجاعة وغيرها.
حجية هذا المصدر:
__________
(1) القاموس المحيط، 4/236.
(2) سورة الإسراء، الآية 77.
(3) صحيح مسلم، برقم2351، ص410-411.
(4) توجيه النظر إلى أصول أهل الأثر، طاهر الجزائري، ص2. السنة قبل التدوين، محمد عجاج الخطيب، ص16.
(5) صحيح البخاري، برقم 1، ص1.
(6) صحيح البخاري، برقم 7246، ص.(1/27)
اتفق علماء الأمة على حجية السنة النبوية مصدرًا للتلقي بعد القرآن الكريم، وذلك للآيات القرآنية الواردة في ذلك والأحاديث الصحيحة التي تؤكد هذه الحجية.
حجية هذا المصدر من القرآن الكريم:
إن الآيات التي وردت في سياق الأمر في اتباع الرسول ، والأخذ عنه كثيرة للغاية ، ولكننا سنورد بعض تلك الآيات التي تدل دلالة واضحة على
مكانة السنة وحجيتها بالنسبة للأمة:
فقد اقترن الله تعالى طاعة الرسول بطاعته، فقال جل شأنه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (1). وقال عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } (2).
وقوله عز من قائل: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (3). وقوله جل ثناؤه: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (4).
وكذلك أمر سبحانه وتعالى برد الحكم والرجوع إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته عند الاختلاف والتنازع، ورده إلى سنته بعد وفاته، فقال: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (5).
__________
(1) سورة النساء: الآية 59.
(2) سورة الأنفال: الآية 20.
(3) سورة آل عمران: الآية 80.
(4) سورة الحشر، الآية 7.
(5) سورة النساء: الآية 59.(1/28)
وقد نفى الله تعالى الإيمان عن الذين لم يقبلوا بقضاء الرسول عليه الصلاة والسلام لهم، فقال: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (1).
وقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (2). وغيرها من الآيات كثيرة جدًا(3).
أما حجية هذا المصدر من السنة نفسها:
فقد بيّن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة وفي مناسبات مختلفة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»(4).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني»(5).
وقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»(6).
والحديث الذي بين أيدينا: « تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما
كتاب الله وسنة نبيه»(7).
__________
(1) سورة النساء: الآية 65.
(2) سورة الأحزاب: الآية 36.
(3) يراجع كتابنا «قواعد منهجية في التعامل مع السنة النبوية».
(4) صحيح البخاري، برقم7280، ص1252.
(5) صحيح البخاري، برقم7137، ص1228-1229.
(6) صحيح البخاري، برقم15، ص 6.
(7) الموطأ للإمام مالك، برقم 1874، ص70.(1/29)
ثم إن العقل يقر ضرورة أن تكون السنة المصدر الثاني للتلقي والتشريع لأن في القرآن كثيرًا من الأحكام والتشريعات والفرائض لا يمكن معرفتها وكيفيتها إلا من خلال السنة التي شرحتها وفصلتها كما في قوله تعالى في فريضة الصلاة: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ } (1)، وكذلك فريضة الحج { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } (2) حيث جاءت السنة وبينت كيفية هذه الفرائض وأوقاتها وكذلك الحال بالنسبة للفرائض الأخرى، وهو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (3).
كما أن هناك حالات كثيرة لم يرد فيها النص القرآن وبينتها السنة النبوية، مثل حكم أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع.
ليس هذا فحسب، بل كان عليه الصلاة والسلام في حياته العملية ترجمة حقيقية للقرآن كما وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين قالت: «كان خلقه القرآن»(4).
* * *
توثيق هذا المصدر وحفظه:
يمكن أن نوجز الحديث عن توثيق هذا المصدر وتدوينه في ثلاث مراحل، وهي:
المرحلة الأولى: عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر أن يكتب الصحابة السنة حتى لا يختلط القرآن بالسنة، فقال: «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»(5)، ثم سمح لبعض الصحابة بكتابتها أمثال عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره.
المرحلة الثانية: عصر الخلفاء الراشدين:
__________
(1) سورة البقرة ، الآية 43.
(2) سورة آل عمران، الآية 97.
(3) سورة النحل، الآية 44.
(4) مسند أحمد، برقم 26333، ص1921.
(5) صحيح مسلم، برقم7510، ص1297.(1/30)
لقد اهتم الخلفاء الراشدون بتوثيق السنة مثل اهتمامهم بالقرآن، فلم يقبل أحد منهم رواية لم يسمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بوجود شهود، وهذا ما انتهجه الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، فقد: «جاءت الجدة أم الأم وأم الأب إلى أبي بكر فقالت إن ابن ابني أو ابن بنتي مات وقد أخبرت أن لي في كتاب الله حقا فقال أبو بكر ما أجد لك في الكتاب من حق وما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى لك بشيء وسأسأل الناس قال فسأل الناس فشهد المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس قال ومن سمع ذلك
معك قال محمد بن مسلمة قال فأعطاها السدس ثم جاءت الجدة الأخرى التي تخالفها إلى عمر قال سفيان وزادني فيه معمر عن الزهري ولم أحفظه عن الزهري ولكن حفظته من معمر أن عمر قال إن اجتمعتما فهو لكما وأيتكما انفردت به فهو لها»(1).
وهناك حوادث وأحوال للخلفاء الآخرين رضي الله عنهم التمسوا فيها شهودًا للتثبت من الأحاديث، والمقام يطول لذكرها(2). ولكن بقيت السنة النبوية محفوظة في هذه المرحلة بسبب هذا التمحيص والتدقيق من الصحابة رضوان الله عليهم.
المرحلة الثالثة: عصر التابعين وما بعدهم:
لقد بدأ تدوين الحديث وتوثيقه بصورة أوسع في هذا العصر، لاسيما بعد أن ظهرت بوادر الوضع في الحديث، فكتب الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله إلى عمّاله يأمرهم بكتابة الحديث خوفًا من ضياعه قائلاً: «انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء» وكان من الذين كلفهم بذلك الإمام شهاب الزهري رحمه الله تعالى ، وبعدها بدأت حركة تدوين السنة وتمحيصها وتدقيقها ، حتى صار علمًا وعملاً خاصًا تفرغ لها العلماء والمختصون ، وظهرت مصنفات بهذا
__________
(1) أخرجه الترمذي، برقم2100، ص482.
(2) يراجع في ذلك كتاب «توثيق السنة» للدكتور رفعت فوزي.(1/31)
الخصوص، مثل: «زهر التصنيف في جمع الحديث» الذي ضم الصحاح والسنن والمسانيد.
فكانت هذه المرحلة حافلة بالجهود العظيمة التي بذلت من أجل حفظ السنة وتوثيقها، حيث جمعت معظم الأحاديث المسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع التفريق بين الصحيح والحسن والضعيف، كما ظهرت العناية بالأسانيد أيضًا، إضافة إلى ذلك، اهتم العلماء بكتابة أقوال الصحابة والتابعين في مصنفات منفصلة(1).
منهج المسلمين في توثيق هذا المصدر (السنة):
يمكن أن نحصر المنهج الذي اتبعه المسلمون من سلف هذه الأمة في توثيق السنة النبوية، في الإسناد والمتن، وهو منهج فريد تميزت به هذه الأمة عن سائر الأمم والنظم الأخرى.
فأما الإسناد فقد وضع له العلماء ضوابط وأحكام دقيقة وشديدة بالوقت نفسه لأخذ الرواية الصحيحة وترك الضعيفة والموضوعة، ومن جملة هذه الضوابط والمعايير :
1 - أن يكون الراوي عدلاً للرواية، والعدل يعني أن يكون مسلمًا بالغًا وعاقلاً، سليمًا من أسباب الفسق وخوارم المروءة.
2 ـ الجرح والتعديل : فالجرح هو: الطعن في الراوي ، والتعديل هو: تزكيته
بالعدالة، ولكل واحد منها شروط ومعايير لأخذ الرواية أو ردها.
3 ـ معرفة الأشخاص الثقاة والضعفاء، وقد ألّف علماء الأمة في رجال الثقاة والضعفاء كتبًا ومصنفات، لصحة نقل الرواية وسلامتها.
كل هذا من أجل أن تصل الرواية من السلف إلى الخلف صحيحة لا تعتريها زيادة أو نقصان، وعلم الإسناد هو العلم الوحيد الذي يضبط الرواية حيث يدرس حال الراوي من جميع النواحي ثم يحكم عليها بالصحة أو الضعف.
__________
(1) ينظر المرجع السابق.(1/32)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وجعله سُلَّمًا إلى الدراية. فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات. وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات. وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم والمعوج والقويم. وغيرهم من أهل البدع والكفار، إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد. وعليها من دينهم الاعتماد وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل ولا الحالي من العاطل. وأما هذه الأمة المرحومة وأصحاب هذه الأمة المعصومة، فإن أهل العلم منهم والدين هم من أمرهم على يقين، فظهر لهم الصدق من المَين كما يظهر الصبح لذي عينين»(1).
__________
(1) مجموعة الفتاوى 1/9.(1/33)
ولبيان عظمة علم الإسناد في الضبط والتوثيق نورد على سبيل المثال هذه القصة التي تغني سرد مئات القصص التي حدثت مع كثير من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة رضي الله عنهم أجمعين لتوثيق الروايات وضبطها، فقد سافر أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه من المدينة المنورة إلى مصر ليتأكد من صحة حديث يحفظه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول عطاء بن أبي رباح: خرج أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق أحد سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره وغير عقبة، فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري (وهو أمير مصر) فأخبره فعجل عليه، فخرج إليه فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق أحد سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير وغير عقبة، فابعث من يدلني على منزله، قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة، فعجل فخرج إليه فعانقه، فقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق أحد سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من ستر مؤمنًا في الدنيا على خزية، ستره الله يوم القيامة» فقال له أبو أيوب صدقت. ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعًا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر(1).
وقال سعيد بن المسيب رضي الله عنه وهو من كبار التابعين: إني كنت لأسافر مسيرة الأيام والليالي في الحديث الواحد(2).
وأما المتن وهو نص الحديث فقد وضع له العلماء شروطًا دقيقة وضوابط محكمة لقبوله، ومنها:
1 ـ ألا يكون ركيك اللفظ، بحيث لا يقوله بليغ أو فصيح.
__________
(1) معرفة علوم الحديث، للحاكم، ص117.
(2) معرفة علوم الحديث، للحاكم، ص118.(1/34)
2 ـ ألا يكون مخالفًا لبدهيات العقول، بحيث لا يمكن تأويله.
3 ـ ألا يخالف القواعد العامة في الحِكَم والأخلاق.
4 ـ ألا يكون مخالفًا للحس والمشاهدة.
5 ـ ألا يخالف البدهي في الطب والحكمة.
6 ـ ألا يكون داعية إلى رذيلة تتبرأ منها الشرائع.
7 ـ ألا يخالف المعقول في أصول العقيدة من صفات الله ورسله.
8 ـ ألا يكون مخالفًا لسنة الله في الكون والإنسان.
9 ـ ألا يشتمل على سخافات يصان عنها العقلاء.
10 ـ ألا يخالف القرآن أو محكم السنة أو المجمع عليه أو المعلوم من الدين بالضرورة، بحيث لا يحتمل التأويل.
11 ـ ألا يكون مخالفًا للحقائق التاريخية المعروفة عن عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
12 ـ ألا يوافق مذهب الراوي الداعية إلى مذهبه.
13 ـ ألا يخبر عن أمر وقع بمشهد عظيم ثم ينفرد راو واحد بروايته.
14 ـ ألا يكون ناشئًا عن باعث نفسيّ، حمل الراوي على روايته.
15 ـ ألا يشتمل على إفراط في الثواب العظيم على الفعل الصغير، والمبالغة بالوعيد الشديد على الأمر الحقير»(1).
حرص الأمة على سلامة التلقي من التحريف:
بمعنى لماذا كان سلف الأمة على هذا القدر من الحرص والحذر في توثيق التلقي من السنة النبوية؟
والجواب يكمن في سببين، وهما:
1 ـ أن هذا السلف رضي الله عنهم آمنوا بهذا الدين إيمانًا مطلقًا، ومن أجل الحفاظ على هذا الدين، حرصوا على أن توثيق السنة التي تعد الشطر الآخر والمصدر الثاني للتلقي، لأن في ضياعها ضياع للدين ومصادره.
__________
(1) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مصطفى السباعي، ص271-272. وينظر ما كتبه الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم «المنار المنيف».(1/35)
2 ـ لأن هذه الأمة هي أمة الصدق وأمة الأمانة ، فلا تأخذ الكلام على عواهنه من غير سند أو دليل، ولا تقف على الأمور المبهمة والغامضة، ولا تبني الأحكام على الظنيات والشكوك، وهذه الصفات هي من آثار التربية الربانية للأمة، يقول الله تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } (1)، ويقول جل شأنه: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } (2).
وقد حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من يكذب عليه أو يفتري على حديثه قائلاً: «من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»(3).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «من حدث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»(4).
وقد تعرضت السنة النبوية في العصور المتأخرة لهجمات شرسة من أعداء هذا الدين من الخارج متمثلة في الاستشراق والمستشرقين ومن الداخل من أزلامهم وتلامذتهم ومن العقلانيين الذين تبنوا مذهب العقل في تفسير وتأويل النصوص الشرعية.
وتجسدت هذه الهجمات في إثارة الشبهات حول السنة النبوية من جميع الجهات، من حيث شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتلقيه للوحي، وكذلك رواة الحديث وأسانيده، وكذلك الطعن في كثير من الصحابة الذين كانوا من أعلام رواة الحديث كأبي هريرة والإمام الزهري رضي الله عنهما.
وقد تصدى لهذا الغزو ولهذا التشكيك علماء الأمة بقوة وردوا سهامهم في نحورهم، حينما بينوا حقيقة تلك الشبهات، والأدلة الناصعة الساطعة لدحرها، ولا تزال الهجمة قائمة ولا يزال العلماء المخلصون والدعاة الربانيون يواجهونها بتوفيق من الله وسداد منه.
__________
(1) سورة الإسراء، الآية 36.
(2) سورة النحل، الآية 105.
(3) صحيح مسلم، برقم5، ص8.
(4) صحيح مسلم، برقم1، ص7.(1/36)
والحديث عن تلك الشبهات والرد عليها طويل، يمكن الرجوع إليها ومنهجيتها في الكتب والبحوث الكثيرة التي تخصصت فيها. (1)
* * *
فتستخلص مما سبق: أن القرآن الكريم والسنة النبوية هما المصادر الأساس لتلقي هذا الدين، وأن إغفال أحدهما إغفال للآخر، ولا تتكامل منهجية هذا الدين إلا بهما.
* * *
أما كيف نفهم السنة النبوية؟ أو بعبارة أخرى ما هي القواعد المعينة على فهم السنة النبوية؟
والجواب: أن أهل العلم وضعوا قواعد واضحة جمعتها في كتابي: «قواعد منهجية للتعامل مع السنة النبوية» جاء في عدد من القواعد تجدها مفصلة هناك، ومنها: الإخلاص، وفهم القرآن الكريم، وفهم قواعد التصحيح والتضعيف، وفهم المتن وغيرها.
الإجماع:
في اللغة هو: العزم على الأمر والقطع به، ومنه قوله تعالى: { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ } (2). أو هو: الاتفاق، من قولهم: جمع القوم على كذا أي اتفقوا(3).
والإجماع في الاصطلاح: اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمر شرعي(4).
__________
(1) منها على سبيل المثال بحثنا «وقفات مع المستشرقين والسنة». و«السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي» للسباعي، وغيرها.
(2) سورة يونس، الآية 71.
(3) المصباح المنير، 1/ 150.
(4) تيسير التحرير، الكمال بن الهمام 3/224.(1/37)
ويتبين من التعريف أن عوام الناس لا يدخلون في مفهوم الإجماع إذ لا بد أن يكون المجمعين على مستوى كاف من العلم والفقه والاجتهاد بحيث يستطيعوا أن يستنبطوا الأحكام من النصوص الشرعية، ويجب أن يكون هؤلاء المجتهدون في عصر واحد، وذلك لاستحالة إجماعهم واجتماعهم في عصور مختلفة، كما يتبين من التعريف أن هؤلاء المجتهدين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا عبرة لإجماع غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم، وأخيرًا فإن اتفاقهم يجب أن يكون قطعًا على أمر شرعي أي أنه يتعلق بالأحكام المتعلقة بالإنسان في العبادات والمعاملات والعقوبات وغيرها.
وقد وقع الإجماع في عهد الصحابة، عندما اتفق كبار الصحابة على توليه
الخلافة. وغيرها من المسائل(1).
حجية هذا المصدر:
اتفقت الأمة على حجية الإجماع وأنه مصدر من مصادر التلقي والتشريع، وذلك من خلال ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نصوص تؤكد هذه الحجية، فمن هذه الأدلة:
1 ـ حجية الإجماع من كتاب الله:
فقد وردت آيات قرآنية كثيرة تدل على حجية الإجماع، ومن هذه الآيات، قوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (2). حيث توعد الله تعالى لمن خالف أمر المؤمنين بالعذاب وسوء المصير، كما جاءت الآية مقترنة مخالفة المؤمنين بمخالفة المؤمنين، وهذا يعني بمفهوم المخالفة أن اتباع سبيل المؤمنين هو اتباع لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) يراجع المرجع السابق وغيره من كتب الأصول والفقه، بل قد ألّف في مسائل الإجماع عدد من الكتب منها: الإجماع لابن هبيرة، وغيره.
(2) سورة النساء، الآية 115.(1/38)
وأيضًا قوله تعالى: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (1). وأولو الأمر هم المجتهدون والعلماء والمفتون.
2 ـ حجية الإجماع من السنة النبوية:
إن الأحاديث الواردة في حجية الإجماع كثيرة جدًا تدل جميعها على خيرية أمة الإسلام وأنها لا تجتمع على ضلالة أبدًا، ومن هذه الأحاديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: « إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم »(2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يد الله مع الجماعة»(3).
ويقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ»(4).
وهذه الأحاديث تدل دلالة قاطعة على أن الإجماع هو مصدر ثابت ومهم للتشريع والتلقي.
ثم إن العقل يقرّ حجية هذا المصدر، لكون أن المجتهدين هم من أهل الحل والعقد في الأمة وهم كثيرون واتفاق رأيهم على قضية معينة دليل على صواب رأيهم واجتهادهم.
وقد وضع العلماء للإجماع بعض الشروط التي يجب توافرها في الإجماع ليكون حجة للتشريع والتلقي، ومن هذه الشروط:
1 ـ أن يستند الإجماع إلى أدلة شرعية سواء من الكتاب أو من السنة.
2 ـ أن لا يتعارض الإجماع مع نص من القرآن أو السنة، لأنهما المصدران الأساسيان للتشريع، ولكون الإجماع نابع منهما أصلاً، كما ذكر في الشرط الأول. ولذلك جاءت القاعدة الأصولية: (لا اجتهاد في موضع النص).
3 ـ أن يكون الإجماع على الأمر الشرعي المتفق عليه بالقول.
4 ـ أن يكون الإجماع اتفاق من جميع المجتهدين دون وجود خلاف بينهم.
__________
(1) سورة النساء، الآية 59.
(2) سنن ابن ماجه، رقم3950، ص566-567.
(3) جامع الترمذي، برقم2166، ص498.
(4) مسند أحمد، برقم 3600، ص 309.(1/39)
5 ـ أن يكون هؤلاء المجتهدون في عصر واحد. (1).
كان هذا هو المصدر الثالث من مصادر التلقي في الإسلام، وهو مصدر مهم لأنه نابع من صميم المصدرين الأولين الكتاب والسنة، وهذا المصدر يعطي التشريع مرونة وحيوية للتعامل مع المستجدات والنوازل الطارئة التي لم تقع في الماضي ولم يأتي في شأنها نص شرعي مسبق.
علوم مصادر التلقي:
من خلال ما سبق ذكره عن مصادر التلقي يتبين لنا أن العلوم التي يتلقاها الإنسان من تلك المصادر على نوعين، هما:
- العلوم الشرعية:
وهي العلوم التي لها صلة بالإسلام عقيدة وشريعة، فيدخل تحت هذا الصنف
العلوم الغيبية المتعلقة بعالم الغيب من الجنة والنار والحساب، وتفاصيل ذلك، كما يدخل فيه علوم الشريعة التي تبين طبيعة الأحكام التشريعية من حيث الحلال والحرام والمباح.
وهذا النوع من العلوم لا تكتسب عن طريق العقل، وإنما عن طريق الوحي والخبر الصادق من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتسمى أيضًا بالعلوم النقلية.
- العلوم التطبيقية:
وهي العلوم التي تعتمد على التجربة والملاحظة عن طريق الحواس، مثل علم الرياضيات والفيزياء والطب والهندسة وغيرها. ومادة هذه العلوم من عالم الشهادة، أي من الكون وما فيه من الجماد والنبات والماء والسهول والجبال.
وهذا النوع من العلوم تكتسب عن طريق العقل واستقرائه للأشياء، فيكون حرًا طليقًا مع هذه العلوم، بشكل لا يتصادم مع ثوابت العقيدة.
وإن مصادر التلقي والتشريع في الإسلام يجمع بين جميع العلوم والمعارف، وفيها من الحقائق العلمية والتاريخية ما لم تسبق إليها البشرية من قبل، كما أن فيها كل فنون الأدب والبلاغة، وأخبار الأمم السابقة والغيبيات اللاحقة وغيرها من المعارف.
__________
(1) لمزيد في التفصيل ينظر كتب الأصول مثل: الأحكام لابن حزم، إرشاد الفحول، وأصول الفقه لأبي النور، وكتاب أصول الفقه لأبي زهرة.(1/40)
ولكن الله تعالى لم يجعل الغاية من هذه المصادر هو هذه المعارف جميعها، وإنما حصر الغاية في ناحتي العقيدة والتشريع للتعبد ، وأما العلوم الأخرى
فجاءت على سبيل ضرب الأمثال وأخذ العبر والدروس منها، أو الاستفادة من سنن الله تعالى في كونه وفي عباده الغابرين.
* * *
وبهذا المعنى فإن القرآن الكريم ليس كتاب رياضيات وهندسة، وليس موسوعة جغرافية ولا كتاب شعر، ولا رواية تروي لنا قصص الأمم القديمة، وإنما هو كتاب عقيدة يعلم الإنسان التصور الصحيح عن الحياة والكون، وهو كتاب يضم قوانين وتشريعات تسير عليها البشرية لتسعد بها في حياتها وتدير من خلالها شؤونها وتنظم أحوالها.
هذا لا يعني أن هذه المصادر قد أهملت العلوم الأخرى، بل على العكس من ذلك فإن من أولى الآيات التي نزلت من كتاب الله تعالى كانت في الحث على التعلم والقراءة في قوله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } (1).
ليس هذا فحسب، بل رفع الله تعالى من شأن العلماء وفضلهم على غيرهم بدرجات، وهم العلماء في الشريعة بالدرجة الأولى، ثم يليهم من تعلم علوم الكفايات الأخرى كعلم الفضاء أو الهندسة أو الطب، فإنهم مقربون من الله تعالى ما داموا قائمين على أوامره وأداء فرائضه، غير مخلين
بشرعه. يقول جل ثناؤه في الثناء على أهل العلم به: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (2). وقوله أيضًا: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } (3). وقوله عز شأنه: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (4).
__________
(1) سورة العلق، الآيات 1-5.
(2) سورة فاطر، الآية 28.
(3) سورة الزمر، الآية 9.
(4) سورة المجادلة، الآية 11.(1/41)
ويقول عليه الصلاة والسلام: «وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر» (1).
* * *
العقل وعلاقته بمصادر التلقي
العقل هو أداة الإدراك والفهم لدى الإنسان، يتوصل من خلاله إلى مجاهيل المعرفة عن طريق التجربة والملاحظة.
ويمكن أن نحدد العلاقة الحقيقية بين العقل الإنساني ومصادر التلقي السابقة من خلال محورين مهمين، هما:
أولاً: معالم تكريم العقل في مصادر التلقي:
هناك معالم كثيرة ومظاهر مختلفة تبين قيمة العقل في الإسلام وتكريمه له، ولعل من أهم تلك المظاهر ما يلي:
1 ـ مدح الله تعالى أصحاب العقول والألباب في مواضع كثيرة في كتابه العزيز، كما في قوله: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } (2). وقوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } (3).
2 ـ من أهم مظاهر التكريم للعقل أن الله تعالى جعله مناط تكليف الإنسان ومحاسبته، لأن فاقد العقل هو فاقد الأهلية وهو غير محاسب على أفعاله وأقواله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ
وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل»(4) وهذا يدل على مدى عظم شأن العقل وأهميته في الوجود الإنساني.
__________
(1) جامع الترمذي، برقم2682، ص608-609. وكذا رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
(2) سورة البقرة، الآية 269.
(3) سورة يوسف، الآية 111.
(4) سنن أبي داود، برقم4403، ص619. وكذا رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي.(1/42)
3 - تحرير العقل من التقليد الأعمى وتوارث العقائد الباطلة بين الأبناء والآباء، كما كانت عليه الجاهلية الأولى، حيث لم يبادر أولئك القوم إلى استخدام عقولهم فيما يجري حولهم من الأحداث، وما تظهر لهم من الحقائق على يد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يبذلوا جهدًا عقليًا ليتعرفوا على المآسي والمظالم التي تأكل مجتمعاتهم من كل جانب، ولم يتأملوا يومًا بتلك العقول في ملكوت السموات والأرض والآيات الكبرى التي تكسر كل الحجب وتزيل الحواجز لتنطق بوحدانية الله وصدق رسالة نبيه، إنهم لم يستفيدوا من ذلك كله لأنهم حبسوا عقولهم في دائرة مظلمة، واتبعوا ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم من العقائد والتصورات، يقول الله تعالى عنهم: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } (1) .
فجاء هذا الدين وحرّم التقليد والتوارث في العقيدة، وجعل العقل من أهم وسائل معرفة الخالق والدلائل على وحدانيته وتصرفه في كونه.
4 ـ حرّم الإسلام تسفيه العقل وتحقيره من خلال الوسائل التي تؤدي إلى ذلك، من شرب الخمور أو المخدرات وغيرها، لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (2).
__________
(1) سورة البقرة، الآية 170.
(2) سورة المائدة، الآية 90.(1/43)
5 ـ لقد كرّم الإسلام العقل من خلال التسامي به وتزكيته من ألوان الخرافات والأوهام المختلفة التي لا حقيقة لها في الحياة، ولا تمت إلى دين أو منطق، كما كان يدين ببعضها الجاهلية الأولى، ولا تزال بعض المجتمعات غارقة في أغوارها، مثل الإيمان بالتطير أو التشاؤم بأيام أو شهور معينة، حيث جاء التصريح النبوي بتحريم هذه الخرافات التي من شأنها تحجير العقل واستسلامه للأوهام، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر»(1).
6 ـ وكذلك حرر الإسلام العقل من الاستسلام للسحرة والكهنة والمنجمين الذين يتحدثون بأمور الغيب ويتنبؤون بمستقبل البشر، والآجال التي تنتظرهم، بشكل يجعلون العقول تتوقف عن العمل والتفكير والتأمل بما هو أفضل في حياته، حتى ينقلب تصوره عن الحياة والكون ضربًا من الخوف الدائم والقلق المقيت من المستقبل وأخطاره، فجاء الإسلام وحرّر العقل الإنساني من الخضوع للشياطين وأوليائهم، وغذّاه من معين الإيمان ما يغنيه عن اللجوء إلى هذه الوسائل والمخادعات، وذلك من خلال التحذير النبوي للأمة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من أتى عرّافًا فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة»(2).
7 ـ جعل الإسلام العقل من المقاصد الشرعية الضرورية الخمسة المطلوب حمايتها والحفاظ عليها، والتي هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض أو النسب، وحفظ المال.
ثانيًا: ميادين العقل:
__________
(1) صحيح البخاري، برقم 5757، ص1016. وكذا رواه مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد.
(2) صحيح مسلم، برقم5821، ص990. وكذا رواه أحمد في مسنده.(1/44)
من أجل أن يؤدي العقل دوره المخصص له في التلقي يجب ألا يحدث مواجهة بينه وبين مبادئ العقيدة ، ومقررات الدين وأحكامه ، فلا يتعامل مع القرآن كتعامله مع كتاب آخر من تأليف البشر ، ولا يناقش أمور الغيب ، والعقيدة بناء على إدراكه المحدود فيخرجها من إطارها الإيماني الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن الأمور العقدية والأصول الثابتة لهذا الدين هي خطوط وحدود ليس للعقل البشري تعديها أو الخوض في غمارها، لأن ثمة مجموعة من التصورات والمؤثرات تحكم هذا العقل ، ولأن العقل لا يستطيع الإحاطة بما هو خارج عن طاقته ، ولذلك كان من الضروري أن
يكون النقل هو الوسيلة الأولى لتلقي علوم العقيدة والتشريع من مصدرها الأصلي الذي هو القرآن الكريم عن طريق الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام.
وبالتالي يمكن أن نحدد بعض الميادين التي يمكن أن يؤدي العقل فيها أدورًا مهمة إلى جانب مصادر التلقي، أو ربما يؤدي من خلالها وظيفته الحقيقية في الحياة، ونجمل ذلك في ثلاثة ميادين:
1 -العقل في ميدان العقيدة:
التفكر في الكون والتأمل في نظامه وحركته المتناسقة والمنتظمة وارتباطه بحياة الإنسان التي هي جزء منه، يقول عز وجل: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } (1).
وقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ } (2).
__________
(1) سورة يس، الآيات 38-40.
(2) سورة النور، الآية 43.(1/45)
لأن التأمل في مكونات الكون وعجائبه وغرائبه يوصل الإنسان إلى الإيمان بالله وتوحيده، وهو التصور الصحيح الذي يحدد الطريق من بدايته.
ومن أجل ذلك جاءت آيات كثيرة في كتاب الله تخاطب العقل البشري، وتأمره بهذا التأمل، وذلك لإيجاد الأرضية السليمة التي سيبني عليها هذا العقل الصرح الإيماني ومقتضياته من هذا الدين، وهذه هي الحكمة من أن معظم الآيات المكية تعالج هذا الجانب، لأنها كانت فترة البناء العقدي لدى الإنسان. ومن تلك الآيات قوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (1).
وقوله تعالى : { وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } (2).
وجاءت تلك المخاطبة بصورة علمية واضحة، يفهمها عامة الناس، وتذهب عنهم تلوث الشرك وأوهامه، كما في قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (3).
وقوله تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ } (4).
2 -العقل في ميدان الاجتهاد الشرعي:
__________
(1) سورة آل عمران، الآيتان 190-191.
(2) سورة الذاريات، الآيتان 20-21.
(3) سورة الروم، الآية 27.
(4) سورة الطور، الآيتان 35-36.(1/46)
يظهر دور العقل جليًا في الاجتهاد والفتيا والشرعية، وذلك في عملية استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية، والقياسات الصحيحة في الأحداث التي لها مثيلات من النصوص حتى يصل المجتهد في نهاية المطاف إلى الحكم الراجح بالمَلَكة العقلية التي استعملها، وبأعمال القواعد الشرعية.
وكان ذلك دأب السلف الصالح من هذه الأمة، فعلم أصول الفقه والقواعد الأصولية الفقهية الناتجة عنه، وكذلك الضوابط المنهجية التي اشترطها العلماء على قبول الروايات أو تركها، كان كل ذلك ثمارًا لإعمال العقل واستخدامه الصحيح.
فقد ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته المشهورة لأبي موسى الأشعري: «اعرف الأشباه والأنظار، وقس الأمور برأيك»(1).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال ، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاً بذلك، لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين ، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور
الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية، كانت الأقوال والأفعال مع عدمه: أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة، ووجد، وذوق، كما يحصل للبهيمة، فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة.. لكن المسرفون فيه قصوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية ـ بزعمهم ـ اعتقدوها حقًا وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم»(2).
3 -العقل في ميدان العلوم التطبيقية:
__________
(1) انظر رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع شرحها في أعلام الموقعين 1/ 90-140.
(2) مجموع الفتاوى 3/ 338-339.(1/47)
للعقل دور كبير في الاكتشافات العلمية والابتكارات التقنية التي من شأنها رفع مستوى المجتمعات وتقدمها ورقيها وانعكاس ذلك على واقع حياتهم الاجتماعي ، والاقتصادي الثقافي ، والعسكري ، ويشترك في هذا الأمر المسلم وغير المسلم ، وقد خاطب القرآن الكريم العقل ليستفيد من النعم التي أودعها الله تعالى في هذا الكون ، والتي خلقت لخدمة الإنسان وتسهيل أموره وقضاء حاجاته بالصورة التي يريدها الله تعالى، من جلب المنافع، ودرء المفاسد، يقول الله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } (1).
وقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } (2).
فالعقل أن يعمل في عالم الشهادة بكل حرية ضمن حدود الشرع، وذلك بالعمل في المجالات الخيّرة وجعل كل ما يصل إليه خدمة للإنسان وهدايته وليس حملاً عليه وسببًا لشقائه وعذابه، فالمجال مفتوح أمامه ضمن هذا الحد الذي بينه الله تعالى بقوله: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } (3).
__________
(1) سورة إبراهيم، الآيتان 32-33.
(2) سورة لقمان، الآية 20.
(3) سورة الرحمن، الآية 33.(1/48)
وأدرك سلف هذه الأمة حقيقة هذه الآيات وما تهدف في تحقيق التقدم العلمي والمعرفي في جميع ميادين الحياة، حتى صارت أمة الإسلام خلال قرون قليلة رائدة في جميع العلوم والفنون، من الأدب والفلسفة والطب والرياضيات ، والجغرافيا ، والفلك ، والاجتماع، فكانت شعوب العالم تأتيها من أقاصي الأرض لتتعلم هذه العلوم على أيدي علمائها ومفكريها، وقد
أخذت تلك الشعوب أصناف العلوم من البلاد الإسلامية واستفادت منها في إخراج بلادها من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، وما آلت إليه حال تلك البلاد من التقدم العلمي والتقني هي نتاج تلك النظريات التي خرجت من بلاد المسلمين.
ولكن إذا تجاوز العقل المجالات المهيأة له فإنه سيقع في خضم بحر مظلم من المفاسد والمآسي التي ترهق المجتمعات الإنسانية، وقد ذاقت البشرية مرارة هذه التجربة حينما خاض العقل في أمور الغيب في هذا الكون الفسيح، وأراد أن يحلل مظاهر الكون بما لديه من المقاييس القاصرة والأدوات الفكرية المحدودة، فأوقع البشرية في مستنقع الإلحاد الذي دمّر شعوبًا كثيرة ولا تزال تلك الشعوب تعاني آثار هذا الفعل.
* * *
أهم مظاهر الانحراف في منهج التلقي وآثاره
إن منهج التلقي من مصادره الأصلية قد يصيبه خلل أو يعتريه انحراف فيخرجه عن مساره ويؤدي بمتبعه إلى مصادر أخرى غير المتفق عليها، ومعلوم ما لهذا الأمر من خطر كبير يهدد أصول الدين وثوابته، ولعلنا نذكر بعض المظاهر التي تؤدي إلى الخلل في منهج التلقي، وهي:
أولاً : الخلط بين مصادر التلقي وغيرها:(1/49)
إن التلقي الصحيح هو الذي انتهجه سلف هذه الأمة في عصورها الأولى وتبعهم في ذلك المتأخرون من العلماء والمجتهدين، ولم يخرجوا عن ضوابط التلقي الذي حددها السلف، كما أشير إليها سابقًا في توثيق السنة والشروط والمواصفات الدقيقة التي ينبغي أن تتصف بها الرواية حتى يؤخذ بها، ولكن ظهرت مع هذا المنهج الصحيح مناهج أخرى اعتمدت على مصادر أخرى لتلقي التشريع وأحكام الدين، حتى صارت عندهم بمثابة مصادر أصلية لها الأولوية في أخذ العلم والتشريع منها، ومن هذه المصادر على سبيل المثال لا الحصر ما اعتمدته الصوفية التي ألبست المصادر الحقيقية من الكتاب والسنة غطاء وجدانيًا وفلسفيًا انحرفت بها عن الصراط السوي، وأودت بها إلى الشرك والتضليل، ومن بين هذه المصادر ما يلي:
- الكشف: «هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية، والأمور الحقيقية وجودًا أو شهودًا»(1).
- الذوق: «هو نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه يفرقون به بين الحق والباطل، من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب»(2).
- الوجد: «رفع الحجاب، ومشاهدة الرقيب، وحضور الفهم، وملاحظة الغيب، ومحادثة السر، وإيناس المفقود، وهو فناؤك من حيث أنت»(3).
- البصيرة: هي الملكة التي ترى حقائق الأشياء وبواطنها، كما يرى البصر ظواهر الأشياء المادية، وهي مورد الإلهام وموطن الإشراق، ومصدر الكشف والذوق(4).
وبهذا لما انحرفت عن المنهج الصحيح وصلت إلى الضلال والتخبط وعدم الاستقرار.
ثانيًا: تلقي علوم الدين من غير أهله:
إن تلقي التشريع من مصادره لا بد أن يكون من خلال علماء ربانيين، معروفين بعلمهم، وصلاحهم، واستقامتهم، وهذا ما أشار إليه القرآن
__________
(1) التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، ص184.
(2) معجم مصطلحات الصوفية، عبدالمنعم الحفني، ص104.
(3) اللمع، لأبي نصر السراج الطوسي، ص302.
(4) معجم مصطلحات الصوفية، ص35.(1/50)
الكريم بقوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (1) لأن التلقي عن طريق غيرهم يحدث خللاً وارتباكًا لدى الأمة، ويجعلها تتخبط في الأحكام والتشريعات المختلفة والمتناقضة بالوقت نفسه، وربما يؤدي هذا العمل إلى ظهور أفراد يشرعون ويحللون ويحرمون من غير علم ولا هدى ولا بصيرة، وهذا ما حذر منه عليه الصلاة والسلام حين قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»(2)
وكان من أهم آثار هذا الانحراف في طريقة التلقي التلقي عن غير العلماء من الصغار أو المجاهيل أو المتعالمين فنتج عن ذلك ظواهر خطيرة لاقت منها المجتمعات المسلمة عنتًا وإفسادًا، ومن ذلك ظاهرة الغلو في الدين وظهور الفتاوى التكفيرية لدى فئات كثيرة في المجتمعات المسلمة، ومعلوم خطر هذه الفتاوى وضررها على الأفراد والجماعات بل وعلى الأمة قاطبة، من حيث تفريق الصف الواحد وإخراج الناس من الإسلام بمجرد فعل أو كلمة أو سلوك معين، وبالتالي إعلان الحرب على المجتمع المسلم بجميع الوسائل المتاحة، لأن أبناءه قد خرجوا من ربقة الإسلام، حتى
يصبح التعامل مع هذا المجتمع بمنظورهم هو التعامل مع غير المسلمين.
وقد حذّر عليه الصلاة والسلام من هذا المنهج ومن تكفير الناس بصورة عشوائية من علم يقيني ولا دليل شرعي واضح من مصادر التلقي والتشريع، فقال عليه الصلاة والسلام: «أيما رجل قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه»(3).
وفي رواية: «أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه»(4).
__________
(1) سورة النحل، الآية 43.
(2) صحيح البخاري، برقم100، ص23.
(3) صحيح البخاري، برقم 6104، ص1064.
(4) صحيح مسلم، برقم 216، ص 47.(1/51)
ولعل العاقل يأخذ العبرة والحكمة من هذا الحديث الذي يرويه رسولنا عليه الصلاة والسلام عن رجلين من بني إسرائيل، فيكون حذرًا من التفكير الجامد والتعامل القاسي والحكم الصارم على الناس، وليعلم بعد ذلك أن هذا الدين إنما جاء ليخفف عن الناس الأغلال التي كانوا عليها، وأنه لن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، ثم ليعلم أن رحمة الله تعالى بعباده أوسع وأكبر مما يتخيله الإنسان بمنظاره الضيق وتصوره القاصر، ثم يعلم في النهاية أن المغفرة والعقاب والجنة والنار شأن إلهي فحسب، يؤتيها من يشاء ويحرمها من يشاء، وأنه ليس من مهمة الإنسان أي يقف قاضيًا ويرصد الناس ، ويصنفهم ، ويحدد مصيرهم في الآخرة ، وإنما عليه العمل
الصالح في الدنيا ورجاء المغفرة والجنة في الآخرة، يقول عليه الصلاة والسلام: «كان رجلان من بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول أقصر، فوجده يومًا على ذنب فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي، أبُعثت عليَّ رقيبًا؟ فقال والله لا يغفر الله لك (أو لا يدخلك الجنة) فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد أكنت بي عالمًا؟ أو كنت على ما في يدي قادرًا! وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار»(1).
ثالثًا: تأويل النصوص على غير حقيقتها:
__________
(1) سنن أبي داود، برقم 4901، ص 691.(1/52)
لقد كان منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم منهجًا واضحًا في تلقي التشريع من مصادرها ، وكانوا لا يتكلفون ولا يخرجون عن جادة الطريق في سبيل الخوض في معرفة أمور غير مطلوب منهم شرعًا، لذا جاءت أحكامهم صحيحة وسليمة تتلقى القبول من فئات الناس جميعها ، إلا أن هذا المنهج إذا اعتراه سبل أخرى للتلقي فإنه يحيد به عن صوابه وستنتج عنه أحكام وآثار تدخل الناس في الاختلاف والافتراق، كما هي الحال في قضية تأويل نصوص التشريع على غير ظاهرها ، وقد صبغ به منهج الخوارج والمعتزلة في الماضي ، فشرخوا
صف هذه الأمة ومزقوها فرقًا وأحزابًا لا تزال الأمة تعاني من آثارها، ولا تزال طائفة من الناس تنتهج هذا المنهج في تلقي التشريع من مصادرها وذلك بوضع النصوص الشرعية تحت مجهر العقل والمنطق البشري القاصر، كما هي حال المدرسة العقلية التي ظهرت متأخرًا، ونسيَ هؤلاء أو تناسوا أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا أشد الناس حرصًا على هذا الدين ومعرفة أحكامه ولكنهم كانوا يخافون أن يخوضوا في مسائل تجلب إليهم الضرر والفرقة، امتثالاً لقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } (1).
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ على المنبر { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } (2) فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا هو الكَلَف يا عمر(3).
__________
(1) سورة المائدة، الآيتان 101-102.
(2) سورة عبس، الآية 31.
(3) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، 2/ 382.(1/53)
ويقول ابن عباس رضي الله عنه : « كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ،
يقول: أنا ابتدأتها(1)».
رابعًا: انعزال الناس عن العلماء وعدم الاختلاط معهم:
وهذا يولد الجفوة العلمية في الحياة، فليجأ الناس حينها إلى الكتب والأشرطة وفتاوى طلبة العلم الصغار وكذلك أخذ الفتاوى والأحكام التشريعية من أناس لا يُعرف عنهم العلم والفتوى وغيرها كما يحدث لكثيرين من الناس من أخذ فتاويهم عبر الفضائيات من طلبة العلم أو ربما من أفراد لم يصلوا بعد إلى درجة الفتوى والاجتهاد، وكذلك أخذ البعض فتاويهم عبر غرف المحادثة الصوتية وبعض المواقع العامة من الانترنت، وهذه كلها مظاهر خطيرة وخلل كبير في منهج تلقي التشريع والأحكام من مصادرها الأصلية، ومن أجل ذلك يجب على العلماء والمجتهدين والمفتين أن ينزلوا إلى ميادين الناس ويستمعوا إليهم ويعايشوا مشكلاتهم وأحوالهم، ويزيلوا الحواجز بينهم وبين الناس، كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام مع الصحابة رضوان الله عليهم، وكان يقول لصحابته: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»(2).
وإن ظهور تلك الجموع من العلماء في جميع الفنون ، والعلوم كان نتيجة عرى العلاقة الوثيقة بين العلماء والمجتمع من حولهم من جهة، ومن جهة أخرى العلاقة الوطيدة بين هؤلاء العلماء والذين تتلمذوا على أيديهم ونهلوا من معين أفكارهم واجتهاداتهم، حيث ساهم هذا الأمر في إثراء الفقه الإسلامي بالأحكام والتشريعات المختلفة التي تناسب النوازل المستجدة والقضايا المستحدثة، مما ميّز هذا الدين بمرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان.
خامسًا: التعصب للرأي:
__________
(1) المرجع السابق، 2/383.
(2) سنن ابن ماجه، برقم 4032، ص582.(1/54)
إن التعصب للرأي الواحد ورفض آراء الآخرين هو منهج يخالف ما انتهجه الصحابة والتابعون، ويخالف مبدأ الإجماع والاجتهاد، كما أنه يخالف مبدأ الشورى نفسه، فهو سلوك يحيد بصاحبه عن التلقي الصحيح وقبول الحق، وهو عامل فرقة وتمزق للصف الإسلامي الواحد، وقد حذر القرآن الأمة كثيرًا من ذلك وأمر بالتعاون على البر والخير والتقوى، والتمسك بمصادر التلقي والتشريع، حتى تحافظ الأمة على كيانها.
يقول الله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } (1).
ويقول: { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (2).
ويقول أيضًا: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } (3).
سادسًا: تداخل الاختصاصات:
وذلك بأن يتحدث الطبيب في الفتوى أو المهندس في أصول التربية، أو الفقيه في العلاجات الطبية، وهكذا. وهذه المنهجية من مظاهر الجهل والتخلف، فهي تؤثر سلبًا على قوة التلقي من مصادره، لأن تداخل الاختصاصات قد يجعل جهّال القوم يفتون ويشرعون، وربما قد يؤدي هذا الأمر إلى أن يفتي كل فرد من نفسه عندما يرى غير المتخصصين يفتون، والله تعالى قد أمر الأمة في كتابه العزيز بأن يرجعوا إلى العلماء المختصين ويسألوهم عما يشكل عليهم من أمور الدين والدنيا، بقول جل ثناؤه: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (4).
سابعًا: التعبد غير الصحيح:
__________
(1) سورة آل عمران، الآية 103.
(2) سورة الأنفال، الآية 46.
(3) سورة آل عمران، الآية 105.
(4) سورة النحل، الآية 43.(1/55)
فإن كان الله سبحانه جعل أسس قبول الأعمال: الإخلاص، وحسن العمل، فإن عدم التلقي الصحيح يوقع صاحبه في سوء العمل لعدم فهمه لمراد الله تعالى ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون تعبده غير صحيح، وتعبه غير محمود، وعواقبه وخيمة في الدنيا وفي الآخرة، وقد ينطبق عليه قوله تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } (1) وحسن العمل هو باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، واتباعه في قوله وعمله وعدم الحيدة عنهما.
بعض آثار التلقي الصحيح من مصادره الأصلية:
إذا تلقت الأمة قولاً وعملاً علومهم ومعارفهم من مصادرها الأصلية وانتهجوا في ذلك نهج سلف الأمة، فإنها ستبقى الأمة الرائدة والقوية، وستكون لذلك آثارًا كثيرة تساهم جميعها في بقاء الأمة وعلو شأنها ومن تلك الآثار:
1 ـ إن التلقي من هذه المصادر يمنح الإنسان التصور الحقيقي والصادق عن الحياة والكون والإنسان.
2 ـ إن التلقي من هذه المصادر يوحد الأمة على الأصول، ويعذرها من الاختلاف في الفروع.
3 ـ إن التلقي من هذه المصادر يهدي إلى الصراط السوي الجلي الذي لا يشوبه الغموض والضبابية كما هي الحال عند بعض الأديان والمذاهب الأخرى، حيث يكتنف مصادر التلقي عندها الغموض والأسرار، فيدخل الإنسان إلى بحار مظلمة من الطلاسم والحركات التي لا تعبر إلا عن فسادها وعدم صحتها وصدقها.
4 ـ إن التلقي من هذه المصادر سبب لبقاء هذه الأمة وحيويتها الفكرية
__________
(1) سورة الغاشية، الآيات 2-4.(1/56)
والعلمية، فرغم الدمار والخراب الذي أصاب العالم الإسلامي عبر العصور، من جميع النواحي، إلا أنها سرعان ما تنهض وتنفض عن نفسها غبار السنين المظلمة لتخرج للعالم وتثب بقاءها وصلاحها لأنها مصادر ربانية تكلف خالقها ببقائها والحفاظ عليها، لقوله جل شأنه: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1).
5 ـ إن التلقي من هذه المصادر، يولد في الأمة مبدأ احترام الآراء والأحكام المختلفة، حيث تزيل هذه العملية من النفوس التعصب للرأي الواحد وإنكار الآخر، لأن التلقي من هذه المصادر تعلمنا كيف أن السلف من علماء الأمة وعامة أهلها كانوا على مستوى عال من الأدب والتوقير للمخالفين لهم في فروع الشريعة، حيث أخرجت هذه المصادر بسبب سعة أفقها ومرونتها وانسجامها مع المعطيات والأحداث، أخرجت مدارس عديدة ومذاهب إسلامية صحيحة في أرجاء الأرض، كلها تتفق وتجتمع على أصول هذا الدين، رغم الاختلافات الكثيرة بينها في فروعه.
6 ـ إن التلقي من هذه المصادر، يعلم الأدب مع العلماء، لأنهم ورثة الأنبياء، فكيف أن الصحابة كانوا يتعاملون مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأدب ووقار، فكذلك يجب على العامة من أبناء الأمة أن تسلك المنهج نفسه مع علمائها الربانيين العاملين ، والمشهود لهم بالصلاح والاستقامة والعلم ، وهذا الأدب
ضروري ومهم في كل الأزمان، لأن العلماء هم المنارات التي تهدي بها الأمة في كل حين، لاسيما في الحالات الحرجة، ووقوع النوازل المتراكمة على المسلمين، كما يحدث حاليًا في العالم الإسلامي من هرج ومرج وظلم واعتداء.
__________
(1) سورة الحجر، الآية 9.(1/57)
وعلى العكس من ذلك، فإذا نفرت الأمة من علمائها وهجرتهم، ولم ترجع إليها في الاستفتاء ومعرفة الأحكام الصحيحة فإن هذا نذير بخراب الأمة، حيث أن كل فرد سيتحول إلى عالم يفتي حسب قناعته وتصوره للأحداث والنوازل، ومن ثم ستقع النتيجة الحتمية التي لا مناص منها وهي وقوع الفتن والمظالم في الأمة ويختلط الحق بالباطل، حتى يصبح الحليم حيرانًا.
7 ـ إن التلقي الصحيح من هذه المصادر يجعل الإنسان دائمًا في حالة تقدم وازدهار، فلا يكل ولا يمل، بل يبتكر ويبدع في كل وقت، لاسيما عندما يدرك ما بذله العلماء من صنوف الجهد والنصب في سبيل أن يصل إلينا هذا الدين نقيًا وصافيًا، وكذلك ما قاموا به في مجال الاجتهاد والاستنباط.
8 ـ وأخيرًا، التلقي الصحيح يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وهي المقصودة بالعمل مع طلب رضا الله سبحانه.
* * *
هذه جملة من الآثار الإيجابية ذكرت باختصار لتدل على غيرها وإلا فهي أكثر من أن تحصر.
الخاتمة
وأخيرًا فإن أمة لها من المصادر والمناهل للتشريع وتلقي العلوم والمعارف مثل التي ذكرت، لجدير بها أن تكون الأمة المثلى في العالم، والأمة الرائدة التي تتبعها الأمم الأخرى وتقتدي بها، لما تميّزت به هذه المصادر من العلوم التي تقوّم تصور الإنسان وعقيدته، وتضع بين يديه تشريعًا كاملاً للحياة، في العبادات والمعاملات والأخلاق وغيرها.
وينبغي أن نحافظ على هذه المصادر ومناهج التلقي منها، حتى لا تضيع الأمة وتتشتت في زمن يكيد لها الأعداء من كل جانب، وهذه بعض الوصايا التي نختم بها هذا البحث، لتكون عاملاً للحفاظ على هذه المصادر وطرق التلقي منها، وهي:(1/58)
1 ـ العناية بكتاب الله تعالى تلاوة وفهمًا وتطبيقًا في جميع مناحي الحياة، لاسيما في المدارس في جميع مستوياتها، لأن هذا الكتاب هو المصدر الأول والأساسي للتلقي للأمة. وبذلك يكون أبناء هذه الأمة على دراية كافية بما يحتويه هذا المصدر من الأوامر والنواهي والأحكام والعلوم والفنون والأحداث والقصص التي ينطلق منها الإنسان في هذه الأرض.
2 ـ العناية التامة بالسنة النبوية حفظًا وتطبيقًا ودراسة، وتدريسها في جميع مراحل الدراسة، وإيجاد مؤسسات قوية وجامعات تتبنى مهمة الحفاظ على هذا المصدر المهم للأمة، والذي لم يسلم من طعنات وشبهات المغرضين من أعداء الدين، فكان لزامًا إيجاد تلك المؤسسات والجامعات لتخريج علماء ومختصين لهذا المصدر وعلومه، لأنها تعد المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم.
3 ـ التركيز على مسألة العقيدة في جميع المؤسسات العلمية ولاسيما الدراسية، في المدارس والجامعات، وتفهيم أبناء الأمة العقيدة الصحيحة الخالية من الشركيات والخرافات والترهات، لأن العقيدة هي التصور الذي يعكس جميع سلوكيات الإنسان وتصرفاته، خيرًا فخير، وشرًا فشر.
4 ـ إيجاد مؤسسات ومجمعات فقهية إسلامية تضم علماء الأمة من جميع الأمصار، بحيث يكون لها برامج ولقاءات دائمة، وتكون هذه المؤسسات على صلة وثيقة مع واقع الأمة والنوازل التي تحل بها، وهي بمثابة مصدر علمي شامخ ترجع إليها الأمة في جميع أحوالها وأمصارها.
5 ـ الاهتمام بالعلوم التطبيقية والطبيعية من الطب والهندسة والرياضيات وغيرها، التي تحتاج إليها الأمة في مواكبة تطورها تقدمها المادي والتقني، وذلك بإنشاء جامعات ومراكز علمية بحيث تكون على صلة وثيقة بالجانب الإيماني، وتربية أبناء الأمة من الطلبة على هذا المنهج، وذلك لتحقيق الغاية التي
يعيش من أجلها وهو عبادة الله تعالى وعمارة أرضه بالصورة التي يريدها الله عز وجل.(1/59)
6 ـ أوصي شباب هذه الأمة وفتياتها بترسيخ هذا المبدأ العظيم وهو معرفة منهجية التلقي، وعظم ما لدينا من المصادر مما خلت منه الأمم، فيتعاملون مع دينهم وواقعهم بقناعة تامة، وتسليم لله سبحانه وتعالى، ومن ثَمَّ يكونوا لبنات صالحة في كيان هذه الأمة التي تنتظر جهدهم وطاقتهم.
7 ـ أوصي الدعاة وطلبة العلم على التركيز على هذه الجوانب التأصيلية التي تحدد مسار الأمة وتوضح طريقها، وتبيّن منهاج حياتها ليعبد الله تعالى على بصيرة، وبخاصة مع خضم العداوة الشرسة للإسلام والمسلمين.
8 ـ أدعو الشباب من أبناء الأمة ممن يتلقى من مصادر غير معتبرة أن يتأمل في مسلكه وطريقته ويوازنها بمسالك السلف قبل أن يندم ولات ساعة مندم.
9 ـ دعوة خاصة للمثقفين ممن ينهلون من هنا وهناك، وبخاصة ممن ينبهر بما عند الآخرين فيظنون أن ما وصل إليه الآخرون من تقدم تقني، وما حصل لنا من تأخر فيه إنما هو بسبب معتقداتهم وفكره وثقافتهم، والأمر ليس كذلك فليتأملوا الطريق الصحيح، والمنهاج القويم.
* * *
أسأل الله سبحانه أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يبصرنا بديننا إنه سميع قريب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فالح بن محمد بن فالح الصغير
الرياض 1425هـ
ص.ب 41961 الرياض 11531
falehmalsgair@yahoo.com
* * *
ثبت المراجع
القرآن الكريم
الإتقان في علوم القرآن، الإمام جلال الدين السيوطي؛ تم التحقيق والإعداد بمركز البحوث والدراسات بمكتبة نزال مصطفى الباز، ط1، مكة المكرمة ـ الرياض: مكتبة نزار مصطفى الباز،1417هـ،1996م.
أعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية، القاهرة: دار الكتب الحديثة.
التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية.
توجيه النظر إلى علوم الأثر، لطاهر الجزائري، ط مصر 1328هـ.(1/60)
تيسير التحرير، لأمير بادشاه، شرح التحرير للكمال بن الهمام، مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1351هـ.
جامع الترمذي، إشراف صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ. ط1، دار السلام، الرياض 1420هـ، 1999م.
السنة قبل التدوين، محمد عجاج الخطيب، ط5، دار الفكر، 1401هـ،1981م.
سنن ابن ماجه، إشراف صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ. ط1، دار السلام، الرياض 1420هـ، 1999م.
سنن أبي داود، إشراف صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ. ط1، دار السلام، الرياض 1420هـ، 1999م.
سنن النسائي، إشراف صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ. ط1، دار السلام، الرياض 1420هـ، 1999م.
شرح الكوكب المنير، للعلامة محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي، المعروف بابن النجار؛ تحقيق الدكتور محمد الزحيلي، الدكتور نزيه حماد، دمشق: دار الفكر، 1400هـ، 1980م.
صحيح البخاري، ط2، دار السلام، الرياض 1419هـ، 1999م.
صحيح مسلم، ط1، دار السلام، الرياض 1419هـ، 1998م.
قواعد المنهج السلفي، مصطفى حلمي، ط1، الإسكندرية: مطبعة دار نشر الثقافة، 1396هـ.
لسان العرب، للإمام العلامة ابن منظور، ط2، بيروت ـ لبنان: دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي، 1418هـ، 1997م.
اللمع، لأبي نصر السرَّاج الطوسي؛ حققه وقدم له عبدالحليم محمود، طه عبدالباقي سرور، دار الكتب الحديثة بمصر، مكتبة المثنى ببغداد، 1380هـ، 1960م.
مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، ط19، بيروت: مؤسسة
الرسالة، 1406هـ، 1983م.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية.
المستصفى، لحجة الإسلام محمد محمد الغزالي، مصر: المطبعة الأميرية، 1322هـ.
مسند أحمد. للإمام أحمد بن حنبل. بيت الأفكار الدولية للنشر والتوزيع، 1419هـ، 1998م.
المصادر العامة للتلقي عند الصوفية عرضًا ونقدًا، صادق سليم صادق، ط1، الرياض: مكتبة الرشد، 1415هـ، 1994م.(1/61)
مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي: دراسة نقدية في ضوء الإسلام، عبدالرحمن بن زيد الزنيدي، ط1، الرياض: مكتبة المؤيد، 1412هـ، 1992م.
المصباح المنير في شرح غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد الفيومي، ط6، القاهرة: المطبعة الأميرية، 1926.
معجم مصطلحات الصوفية، عبدالمنعم الحفني، ط1، بيروت: دار السيرة، 1400هـ.
معرفة علوم الحديث وكمية أجناسه، الحاكم النيسابوري؛ شرح وتحقيق أحمد بن فارس السلوم.
مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبدالعظيم الزرقاني، مصر: مطبعة عيسى البابي الحلبي.
الموطأ، للإمام مالك بن أنس؛ صححه ورقّمه وخرّج أحاديثه وعلق عليه محمد فؤاد عبدالباقي، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان.
نزهة النظر في شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، الحافظ أحمد ابن علي بن محمد المعروف بابن الحجر العسقلاني؛ تحقيق حمد الدمرداش، ط1، مكة المكرمة ـ الرياض: مكتبة نزار مصطفى الباز، 1421هـ، 2000م.
* * *
الفهرس
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
المقدمة ... 5
نص الحديث ... 7
مفهوم مصادر التلقي ... 9
مصادر التلقي عند المسلمين ... 11
أولا: الكتاب (القرآن الكريم) ... 13
تعريف القرآن الكريم في اللغة ... 13
تعريف القرآن الكريم في الاصطلاح ... 13
أولوية هذا المصدر ... 13
خصائص القرآن الكريم ... 14
أحكام العقيدة ... 22
أحكام العبادات ... 22
أحكام المعاملات ... 24
الأخلاق ... 24
توثق هذا المصدر وحفظه ... 25
المرحلة الأولى: في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 26
المرحلة الثانية في عهد أبي بكر الصديق ... 28
المرحلة الثالثة: في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ... 30
منهج تلقي هذا المصدر وفهمه ... 32
1- تفسير القرآن بالقرآن ... 32
2- تفسير القرآن بالسنة ... 34
النص القطعي للدلالة ... 34
النص الظني للدلالة ... 34
3- تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين ... 35
بعض الأدوات المعينة لفهم القرآن ... 36(1/62)
المصدر الثاني من مصادر التلقي عند المسلمين: السنة ... 42
تعريف السنة في اللغة ... 42
تعريف السنة في الاصطلاح ... 42
حجية هذا المصدر ... 43
حجية هذا المصدر من القرآن الكريم ... 43
حجية هذا المصدر من السنة نفسها ... 45
توثيق هذا المصدر وحفظه ... 47
المرحلة الأولى: عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 47
المرحلة الثانية: عصر الخلفاء الراشدين ... 47
المرحلة الثالثة: عصر التابعين وما بعدهم ... 48
منهج المسلمين في توثيق هذا المصدر (السنة) ... 49
حرص الأمة على سلامة التلقي من التحريف ... 53
الإجماع ... 56
حجية هذا المصدر ... 57
علوم مصادر التلقي ... 59
العقل وعلاقته بمصادر التلقي ... 63
أولاً: معالم تكريم العقل في مصادر التلقي ... 63
ثانياً: ميادين العقل ... 66
1- العقل في ميدان العقيدة ... 67
2- العقل في ميدان الاجتهاد الشرعي ... 69
3- العقل في ميدان العلوم التطبيقية ... 70
أهم مظاهر الانحراف في منهج التلقي وآثاره ... 73
أولاً: الخلط بين مصادر التلقي وغيرها ... 73
ثانياً: تلقي علوم الدين من غير أهله ... 74
ثالثاً: تأويل النصوص على غير حقيقتها ... 77
رابعاً: انعزال الناس عن العلماء وعدم الاختلاط معهم ... 79
خامساً: التعصب للرأي ... 80
سادساً: تداخل الاختصاصات ... 81
سابعاً: التعبد غير الصحيح ... 81
بعض آثار التلقي الصحيح من مصادره الأصلية ... 82
الخاتمة ... 85
ثبت المراجع ... 89
الفهرس ... 93
* * *(1/63)