عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ وَلَعَلَّهُ نقص منه فيكون عن النبيذ إلافى الْأَسْقِيَةِ قَالَ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محمد وأبى بكربن أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ النَّبِيذِ فِي الْأَوْعِيَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ (لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ) فَمَعْنَاهُ يَجِدُ أَسْقِيَةَ الْأَدَمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ (فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ) فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ أولاثم رَخَّصَ فِي جَمِيعِ الْأَوْعِيَةِ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(
[2002]
[2003]
بَاب بَيَانِ أَنَّ كُلَّ مسكر خمر وأن كل خمر حرام)
قَدْ سَبَقَ مَقْصُودُ هَذَا الْبَابِ وَذَكَرْنَا دَلَائِلَهُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مَعَ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِيهِ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَهُوَ خَمْرٌ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى تَسْمِيَةِ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْبِذَةِ خَمْرًا لَكِنْ قَالَ أَكْثَرُهُمْ هُوَ مَجَازٌ وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْخَمْرِ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ هُوَ حَقِيقَةٌ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[2001] قَوْلُهُ (سُئِلَ عَنِ الْبِتْعِ) هُوَ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَهُوَ شَرَابُ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَيُقَالُ أَيْضًا بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ كَقِمْعٍ وَقِمَعٍ
[2001] قَوْلُهُ (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ فَقَالَ كُلُّ شراب أسكر فهو حرام) هذامن جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُفْتِي إِذَا رَأَى بِالسَّائِلِ حَاجَةً إِلَى غَيْرِ مَا سَأَلَ أَنْ يَضُمَّهُ فِي الْجَوَابِ إِلَى الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَنَظِيرُ هَذَا(13/169)
الْحَدِيثِ حَدِيثُ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ
[1733] قَوْلُهُ (إِنَّ شَرَابًا يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ مِنَ الشَّعِيرِ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَيَكُونُ مِنَ الذُّرَةِ ومن الشعير ومن الحنطة قَوْلُهُ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ) أَيْ إِيجَازُ اللَّفْظِ مَعَ تَنَاوُلِهِ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ جِدًّا وقوله (بِخَوَاتِمِهِ) أَيْ كَأَنَّهُ يَخْتِمُ عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا اللَّفْظُ الْيَسِيرُ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ طَالِبِهِ وَمُسْتَنْبِطِهِ لِعُذُوبَةِ لَفْظِهِ وَجَزَالَتِهِ قَوْلُهُ (يَطْبُخُ حَتَّى يَعْقِدَ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ كسر الْقَافِ يُقَالُ عَقَدَ الْعَسَلَ وَنَحْوَهُ وَأَعْقَدْتُهُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ) هذا الاسناد استدركه الدارقطنى وقال لم بتابع بن عباد على هذا قال ولايصح(13/170)
هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ وَقَدْ روى عن بن عُيَيْنَةَ عَنْ مِسْعَرٍ وَلَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ البخارى(13/171)
من رواية بن والله أعلم(13/172)
(باب عقوبة من شرب الخمر اذا لم يتب منها بمنعه إياها فِي الْآخِرَةِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ) وَفِي رِوَايَةٍ حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُحْرَمُ شُرْبَهَا فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ دَخَلَهَا فَإِنَّهَا مِنْ فَاخِرِ شَرَابِ الْجَنَّةِ فَيُمْنَعُهَا هَذَا الْعَاصِي بِشُرْبِهَا فِي الدُّنْيَا قِيلَ إِنَّهُ يَنْسَى شَهْوَتَهَا لِأَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا كُلُّ مايشتهى وَقِيلَ لَا يَشْتَهِيهَا وَإِنْ ذَكَرَهَا وَيَكُونُ هَذَا نَقْصُ نَعِيمٍ فِي حَقِّهِ تَمْيِيزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَارِكِ شُرْبِهَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تُكَفِّرُ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرَ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ مُتَكَلِّمُو أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّ تَكْفِيرَهَا قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ وَهُوَ الْأَقْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب إِبَاحَةِ النَّبِيذِ الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ ولم يصر مسكرا)
[2004] فيه بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتبذله أَوَّلَ اللَّيْلِ فَيَشْرَبُهُ إِذَا أَصْبَحَ يَوْمَهُ ذَلِكَ والليلة التى تجئ وَالْغَدَ وَاللَّيْلَةَ الْأُخْرَى وَالْغَدَ إِلَى الْعَصْرِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ سَقَاهُ الْخَادِمَ أَوْ أَمَرَ بِهِ فَصُبَّ) وَالْأَحَادِيثُ الْبَاقِيَةُ بِمَعْنَاهُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ(13/173)
الِانْتِبَاذِ وَجَوَازِ شُرْبِ النَّبِيذِ مَا دَامَ حُلْوًا لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يَغْلِ وَهَذَا جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَأَمَّا سَقْيُهُ الْخَادِمَ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَصَبُّهُ فلأنه لايؤمن بَعْدَ الثَّلَاثِ تَغَيُّرُهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَنَزَّهُ عَنْهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَقَوْلُهُ (سَقَاهُ الْخَادِمَ أَوْ صَبَّهُ) مَعْنَاهُ تَارَةً يَسْقِيهِ الْخَادِمَ وَتَارَةً يَصُبُّهُ وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ لِاخْتِلَافِ حَالِ النَّبِيذِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ تَغَيُّرٌ ونحوه من مبادئ الإسكار سقاه الخادم ولايريقه لِأَنَّهُ مَالٌ تَحْرُمُ إِضَاعَتُهُ وَيَتْرُكُ شُرْبَهُ تَنَزُّهًا وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مبادىء الْإِسْكَارِ وَالتَّغَيُّرِ أَرَاقَهُ لِأَنَّهُ إِذَا أَسْكَرَ صَارَ حراما ونجسا فيراق ولايسقيه الخادم لأن المسكر لايجوز سقيه الخادم كما لايجوز شُرْبُهُ وَأَمَّا شُرْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الثلاث فكان حيث لاتغير ولامبادىء تغير ولاشك أَصْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عائشة (ينبذ غدوة فيشربه عشاء وينبذعشاء فيشربه غدوة) فليس مخالفا لحديث بن عباس فى الشرب إلى ثلاثلأن الشُّرْبَ فِي يَوْمٍ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَعَلَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ كَانَ زَمَنَ الْحَرِّ وَحَيْثُ يُخْشَى فَسَادُهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى يَوْمٍ وحديث بن عَبَّاسٍ فِي زَمَنٍ يُؤْمَنُ فِيهِ التَّغَيُّرُ قَبْلَ الثَّلَاثِ وَقِيلَ حَدِيثُ عَائِشَةَ مَحْمُولٌ عَلَى نَبِيذٍ قليل يفرغ فى يومه وحديث بن عباس فى كثير لايفرغ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ) يُقَالُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَكَسْرِهَا وَقَدْ سَبَقَ بيانه مرات(13/174)
قَوْلُهُ (إِلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ) يُقَالُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ الضَّمُّ أَرْجَحُ قَوْلُهُ (عَنْ زَيْدٍ عن يحيى النخعى) زيد هو بن أَبِي أُنَيْسَةَ وَيَحْيَى النَّخَعِيُّ هُوَ يَحْيَى الْبَهْرَانِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ يُقَالُ لَهُ الْبَهْرَانِيُّ النخعى الكوفى
[2005] قوله (حدثنا القاسم يعنى بن الْفَضْلِ الْحُدَّانِيَّ) هُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ المهملتين وهومنسوب إِلَى بَنِي حُدَّانَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بل كان نازلافيهم وَهُوَ مِنْ بَنِي(13/175)
الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ قَوْلُهَا (وَأُوكِيهِ) أَيْ أَشُدُّهُ بالوكاء وهوالخيط الذى يشدبه رَأْسُ الْقِرْبَةِ قَوْلُهُ (عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِ) هُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأُمُّهُ اسْمُهَا خَيْرَةُ وَكَانَتْ مَوْلَاةً لِأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَى عَنْهَا ابْنَاهَا الْحَسَنُ وَسَعِيدٌ قَوْلِهَا (فِي سِقَاءٍ يُوكَأُ) هَذَا مِمَّا رَأَيْتُهُ يكتب ويضبطفاسدا وصوابه يوكى بالياء غير مهموز ولاحاجة إِلَى ذِكْرِ وُجُوهِ الْفَسَادِ الَّتِي قَدْ يُوجَدُ عَلَيْهَا قَوْلُهَا (وَلَهُ عَزْلَاءُ) هِيَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ الثَّقْبُ الَّذِي يَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْمَزَادَةِ وَالْقِرْبَةِ قَوْلُهَا (فَيَشْرَبُهُ عِشَاءً) هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الشِّينِ وَبِالْمَدِّ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ عَشِيًّا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَزِيَادَةِ يَاءٍ مُشَدَّدَةٍ
[2006] قَوْلُهُ (أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ فى تَوْرٍ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ أَنْقَعَتْ وَهُوَ صَحِيحٌ يُقَالُ أَنْقَعَتْ وَنَقَعَتْ وَأَمَّا التَّوْرُ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ وَهُوَ إِنَاءٌ مِنْ صفر أو حجارة ونحوهما كالاجانة وقد يتوضأمنه
[2006] قَوْلُهُ (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَعَا أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُرْسِهِ فكانت امرأته يومئذ خادمتهم وهى العروس قال سهل تدرون ماسقت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي(13/176)
تَوْرٍ فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْحِجَابِ وَيَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَسْتُورَةَ الْبَشَرَةِ وَأَبُو أُسَيْدٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَاسْمُهُ مَالِكٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَوْلُهُ (أَمَاثَتْهُ فَسَقَتْهُ تَخُصُّهُ بِذَلِكَ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ وَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ بِبِلَادِنَا أَمَاثَتْهُ بِمُثَلَّثَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ يُقَالُ مَاثَّهُ وَأَمَاثَهُ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَقَدْ غَلِطَ مَنْ أَنْكَرَ أَمَاثَهُ وَمَعْنَاهُ عَرَكَتْهُ وَاسْتَخْرَجَتْ قُوَّتَهُ وَأَذَابَتْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيْ لَيَّنَتْهُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ وَحَكَى القاضي عياض أن بعضهم رواه أماثته بِتَكْرِيرِ الْمُثَنَّاةِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ تَخُصُّهُ كَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَخُصُّهُ مِنَ التَّخْصِيصِ وَكَذَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَرَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ تُتْحِفُهُ مِنَ الْإِتْحَافِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ يُقَالُ أَتْحَفَتْهُ بِهِ إِذَا خَصَّصَتْهُ وَأَطْرَفَتْهُ وَفِي هَذَا جَوَازُ تَخْصِيصِ صَاحِبِ الطَّعَامِ بَعْضَ الْحَاضِرِينَ بِفَاخِرٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِذَا لَمْ يَتَأَذَّ الْبَاقُونَ لِإِيثَارِهِمُ الْمُخَصَّصَ لِعِلْمِهِ أَوْ صَلَاحِهِ أو شرفه أوغير ذَلِكَ كَمَا كَانَ الْحَاضِرُونَ هُنَاكَ يُؤْثِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُسَرُّونَ بِإِكْرَامِهِ وَيَفْرَحُونَ بِمَا جَرَى وَإِنَّمَا شَرِبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِلَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا إِكْرَامُ صَاحِبِ الشراب واجابته التى(13/177)
لامفسدة فِيهَا وَفِي تَرْكِهَا كَسْرُ قَلْبِهِ وَالثَّانِيَةُ بَيَانُ الْجَوَازِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[2007] قَوْلُهُ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْجِيمِ وَهُوَ الْحِصْنُ وَجَمْعُهُ آجَامٌ بِالْمَدِّ كَعُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْآجَامُ الْحُصُونُ قَوْلُهُ (فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا) يُقَالُ نَكَسَ رَأَسَهُ بِالتَّخْفِيفِ فَهُوَ نَاكِسٌ ونكس بالتشديد فهو تزوجها لأنها طأطأه وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَعَذْتُكِ مِنِّي) مَعْنَاهُ تَرَكْتُكِ وَتَرْكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوُّجَهَا لأنها لم تعجبه إمالصورتها وَإِمَّا لِخُلُقِهَا وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الْخَاطِبِ إِلَى مَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ فَلَمَّا اسْتَعَاذَتْ بِاللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَجِدِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدًّا مِنْ إِعَاذَتِهَا وَتَرْكِهَا ثُمَّ إِذَا تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ تعالى لايعود فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ قَالَ ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَوَهَبَهُ لَهُ) يَعْنِي الْقَدَحَ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا فِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما مسه أو لبسه أوكان مِنْهُ فِيهِ سَبَبٌ وَهَذَا نَحْوُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَأَطْبَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَيْهِ مِنَ التَّبَرُّكِ بِالصَّلَاةِ فِي مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّوْضَةِ الْكَرِيمَةِ وَدُخُولِ الْغَارِ الَّذِي دَخَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْ هَذَا إِعْطَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا طَلْحَةَ شَعْرَهُ لِيَقْسِمَهُ بَيْنَ النَّاسِ وَإِعْطَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِقْوَةً(13/178)
لِتُكَفَّنَ فِيهِ بِنْتُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَعَلَهُ الْجَرِيدَتَيْنِ عَلَى الْقَبْرَيْنِ وَجَمَعَتْ بِنْتُ مِلْحَانِ عَرَقَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَسَّحُوا بِوُضُوئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَّكُوا وُجُوهَهُمْ بِنُخَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْبَاهُ هَذِهِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فى الصحيح وكل ذلك واضح لاشك فِيهِ قَوْلُهُ (سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحِي هَذَا الشَّرَابَ كُلَّهُ الْعَسَلَ والنبيذ والماء واللبن) المراد بالنبيذ ههناما سبق تفسيره فى أحاديث الباب وهو مالم يَنْتَهِ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بابُ جَوَازِ شُرْبِ اللَّبَنِ)
[2009] فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله عنه (قال لماخرجنا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَرَرْنَا بِرَاعٍ وَقَدْ عَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَبْتُ لَهُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ) وَفِيهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْكُثْبَةُ بِضَمِّ الْكَافِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَبَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَهُوَ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ وَقَوْلُهُ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيَتُ مَعْنَاهُ شَرِبَ حَتَّى عَلِمْتُ أَنَّهُ شَرِبَ حَاجَتَهُ وَكِفَايَتَهُ وَقَوْلُهُ(13/179)
مَرَرْنَا بِرَاعِي هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ بِرَاعِي بالياء وهى لغة قَلِيلَةٌ وَالْأَشْهَرُ بِرَاعٍ وَأَمَّا شُرْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ وَلَيْسَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا لِأَنَّهُ كَانَ رَاعِيًا لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْكِتَابِ وَالْمُرَادُ بِالْمَدِينَةِ هنامكة وَفِي رِوَايَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ من أوجه أحدهما أن هذا كان رجلا حربيا لاأمان لَهُ فَيَجُوزُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِهِ وَالثَّانِي يَحْتَمِلُ أنه كان رجلايدل عليه النبى صلى الله عليه وسلم ولايكره شُرْبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَبَنِهِ وَالثَّالِثُ لَعَلَّهُ كَانَ فِي عُرْفِهِمْ مِمَّا يَتَسَامَحُونَ بِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَيَأْذَنُونَ لِرُعَاتِهِمْ لِيَسْقُوا مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ كَانَ مُضْطَرًّا قَوْلُهُ (سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ) هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا وَيُقَالُ بِفَتْحِ الشِّينِ حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ عَنِ الْفَرَّاءِ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ ضَمُّهَا قَوْلُهُ (فَسَاخَتْ فَرَسُهُ) هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَمَعْنَاهُ نَزَلَتْ فِي الْأَرْضِ وَقَبَضَتْهَا الْأَرْضُ وَكَانَ فِي جِلْدٍ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وقوله (فقال ادعوا الله لى ولاأضرك فَدَعَا لَهُ) هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ ادْعُوَا اللَّهَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي بَعْضِهَا ادْعُ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ وَكِلَاهُمَا ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ فَدَعَا لَهُ ثُمَامَةَ فَانْطَلَقَ كَمَا جَاءَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[168] قَوْلُهُ (إِنَّ(13/180)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ لَيْلَةَ أسرى به بايلياءبقدحين مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ) قَوْلُهُ بِإِيلِيَاءَ هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَهُوَ بِالْمَدِّ وَيُقَالُ بالقصر ويقال إلياء بحذف الياء الأولى وقدسبق بَيَانُهُ وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أُتِيَ بقدحين فقيل له اخترأيهما شِئْتَ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْبُخَارِيِّ وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اخْتِيَارَ اللَّبَنِ لِمَا أَرَادَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ تَوْفِيقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاللُّطْفِ بِهَا فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَقَوْلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ الْمُخْتَارُ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ جِبْرِيلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِ اخْتَارَ اللَّبَنَ كَانَ كَذَا وَإِنِ اخْتَارَ الْخَمْرَ كَانَ كَذَا وَأَمَّا الْفِطْرَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْإِسْلَامُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَقَدْ(13/181)
قَدَّمْنَا شَرْحَ هَذَا كُلِّهِ وَبَيَانَ الْفِطْرَةِ وَسَبَبَ اخْتِيَارِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي بَابِ الْإِسْرَاءِ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِيهِ اسْتِحْبَابُ حَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ وَحُصُولِ مَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَتَوَقَّعُ حُصُولَهُ وَانْدِفَاعِ ماكان يَخَافُ وُقُوعَهُ قَوْلُهُ غَوَتْ أُمَّتُكَ مَعْنَاهُ ضَلَّتْ وانهمكت فى الشر والله أعلم
(باب استحباب تخمير الاناء وهو تغطيته وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب وذكر اسم الله تعالى عليها وإطفاء السراج والنار عند النوم وكف الصبيان والمواشى بعد المغرب)
[2010] فيه أبوحميد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَيْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحِ لَبَنٍ مِنَ النَّقِيعِ لَيْسَ مخمرا فقال ألاخمرته وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ عُودًا وَفِيهِ الْأَحَادِيثُ الْبَاقِيَةُ بِمَا تَرْجَمْنَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ (مِنَ النَّقِيعِ رُوِيَ بِالنُّونِ وَالْيَاءِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالصَّحِيحُ الْأَشْهَرُ الَّذِي قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ بِالنُّونِ وَهُوَ مَوْضِعٌ بِوَادِي الْعَقِيقِ وَهُوَ الَّذِي حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ (لَيْسَ مُخَمَّرًا) أَيْ لَيْسَ مُغَطًّى وَالتَّخْمِيرُ التَّغْطِيَةُ وَمِنْهُ الْخَمْرُ لِتَغْطِيَتِهَا عَلَى الْعَقْلِ وَخِمَارُ الْمَرْأَةِ لِتَغْطِيَتِهِ رَأْسَهَا وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ عُودًا) الْمَشْهُورُ فِي ضَبْطِهِ تَعْرُضُ بِفَتْحِ التَّاءِ وضم الراء وهكذا قاله الْأَصْمَعِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَمَعْنَاهُ تَمُدُّهُ عَلَيْهِ عَرْضًا أَيْ خِلَافُ الطُّولِ وَهَذَا عِنْدَ عَدَمِ مَا يُغَطِّيهِ بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الرِّوَايَةِ بَعْدَهُ إِنْ لم يجد أحدكم الاأن(13/182)
يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُودًا أَوْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْعُودِ عِنْدَ عَدَمِ مَا يُغَطِّيهِ بِهِ وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِلْأَمْرِ بِالتَّغْطِيَةِ فَوَائِدَ مِنْهَا الْفَائِدَتَانِ اللَّتَانِ وَرَدَتَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَهُمَا صيانته من الشيطان فإن الشيطان لايكشف غطاء ولايحل سِقَاءً وَصِيَانَتُهُ مِنَ الْوَبَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ فِي لَيْلَةٍ مِنَ السَّنَةِ وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ صِيَانَتُهُ مِنَ النجاسة والمقذرات والرابعة صيانته مِنَ الْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ فَرُبَّمَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهَا فِيهِ فَشَرِبَهُ وَهُوَ غَافِلٌ أَوْ فِي اللَّيْلِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ وَهُوَ السَّاعِدِيُّ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّمَا أَمَرَ بِالْأَسْقِيَةِ أَنْ تُوكَأَ لَيْلًا وَبِالْأَبْوَابِ أَنْ تغلق ليلا) هذا الذى قاله أبوحميد مِنْ تَخْصِيصِهِمَا بِاللَّيْلِ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ إِذَا كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ اللفظ ليس بحجة ولايلزم غَيْرُهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مُوَافَقَتَهُ عَلَى تَفْسِيرِهِ وَأَمَّا اذا لم يكن فى ظاهر الحديث مايخالفه بِأَنْ كَانَ مُجْمَلًا فَيَرْجِعُ إِلَى تَأْوِيلِهِ وَيَجِبُ الحمل عليه لأنه اذا كان مجملا لايحل له حمله على شيء إلابتوقيف وكذا لايجوز تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ وَالْأَمْرُ بِتَغْطِيَةِ الْإِنَاءِ عَامٌّ فَلَا يُقْبَلُ تَخْصِيصُهُ بمذهب الراوى بل يتمسك بالعموم وقوله فىحديث جَابِرٍ فَجَاءَ بِقَدَحِ نَبِيذٍ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْبَابِ السَّابِقِ أَنَّهُ نَبِيذٌ لَمْ يَشْتَدَّ وَلَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا قَوْلُهُ (عَنِ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ) اسْمُ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ سَبَقَ(13/183)
بَيَانُهُ مَرَّاتٍ
[2012] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ) الْمُرَادُ بِالْفُوَيْسِقَةِ الْفَأْرَةُ وَتُضْرِمُ بِالتَّاءِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ أَيْ تُحْرِقُ سَرِيعًا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ ضَرِمَتِ النَّارُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَضَرَّمَتْ وَأَضْرَمَتْ أَيْ الْتَهَمَتْ وَأَضْرَمْتُهَا أَنَا وَضَرَمْتُهَا قَوْلُ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَلَمْ يَذْكُرْ تَعْرِيضَ الْعُودِ عَلَى الْإِنَاءِ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ وَفِي بَعْضِهَا تَعْرُضَ فَأَمَّا هَذِهِ فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا تَعْرُضَ فَفِيهِ تَسَمُّحٌ فِي الْعِبَارَةِ وَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَرْضَ الْعُودِ لِأَنَّهُ الْمَصْدَرُ الْجَارِي عَلَى تَعْرُضَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقُوا الْبَابَ وَاذْكُرُوا(13/184)
اسم الله فإن الشيطان لايفتح بَابًا مُغْلَقًا وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا) هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ جُمَلٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالْأَدَبِ الْجَامِعَةِ لِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآدَابِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلسَّلَامَةِ مِنْ إِيذَاءِ الشَّيْطَانِ وَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ أسبابا للسلامة من ايذائه فلايقدر على كشف اناء ولا حل سقاء ولافتح باب ولاايذاء صَبِيٍّ وَغَيْرِهِ إِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَمَّى عِنْدَ دُخُولِ بَيْتِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ لامبيت أى لاسلطان لَنَا عَلَى الْمَبِيتِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ عِنْدَ جِمَاعِ أَهْلِهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشيطان وجنب الشيطان مارزقتنا كَانَ سَبَبَ سَلَامَةِ الْمَوْلُودِ مِنْ ضَرَرِ الشَّيْطَانِ وَكَذَلِكَ شِبْهُ هَذَا مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَيَلْحَقُ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا قَالَ أَصْحَابُنَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ وَكَذَلِكَ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لِلْحَدِيثِ الْحَسَنِ الْمَشْهُورِ فِيهِ قَوْلُهُ (جُنْحُ اللَّيْلِ) هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَهُوَ ظَلَامُهُ وَيُقَالُ أَجْنَحَ اللَّيْلُ أَيْ أَقْبَلَ ظَلَامُهُ وَأَصْلُ الْجُنُوحِ الْمَيْلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ) أَيِ امْنَعُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ ذَلِكَ الْوَقْتَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ) أَيْ جِنْسُ الشَّيْطَانِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى الصِّبْيَانِ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنْ إِيذَاءِ الشياطين لكثرتهم(13/185)
حِينَئِذٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2013] (لاترسلوا فَوَاشِيكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْفَوَاشِي كُلُّ مُنْتَشِرٍ مِنَ الْمَالِ كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَسَائِرِ الْبَهَائِمِ وَغَيْرِهَا وَهِيَ جَمْعُ فَاشِيَةٍ لِأَنَّهَا تَفْشُو أَيْ تَنْتَشِرُ فِي الْأَرْضِ وَفَحْمَةُ الْعِشَاءِ ظُلْمَتُهَا وَسَوَادُهَا وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ هُنَا بِإِقْبَالِهِ وَأَوَّلِ ظَلَامِهِ وَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ نِهَايَةِ الْغَرِيبِ قَالَ وَيُقَالُ لِلظُّلْمَةِ التى بين صلاتى المغرب والعشاء الفحمةوللتى بين العشاءوالفجر الْعَسْعَسَةُ قَوْلُهُ
[2014] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَوْمًا بَدَلُ لَيْلَةً قَالَ اللَّيْثُ فَالْأَعَاجِمُ عِنْدَنَا يَتَّقُونَ ذَلِكَ فِي كَانُونَ الْأَوَّلِ الْوَبَاءُ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ والقصر أشهر(13/186)
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ جَمْعُ الْمَقْصُورِ أَوْبَاءٌ وَجَمْعُ الْمَمْدُودِ أَوْبِيَةٌ قَالُوا وَالْوَبَاءُ مَرَضٌ عَامٌّ يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ غَالِبًا وَقَوْلُهُ (يَتَّقُونَ ذَلِكَ) أَيْ يَتَوَقَّعُونَهُ ويخافونه وكانون غيره مَصْرُوفٍ لِأَنَّهُ عَلَمٌ أَعْجَمِيٌّ وَهُوَ الشَّهْرُ الْمَعْرُوفُ وأما قوله فى الرواية يوما وفى رِوَايَةٍ لَيْلَةً فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا إِذْ لَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا نَفْيُ الْآخَرِ فَهُمَا ثَابِتَانِ
[2015] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (لاتتركوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ) هَذَا عَامٌّ تَدْخُلُ فِيهِ نَارُ السِّرَاجِ وَغَيْرُهَا وَأَمَّا الْقَنَادِيلُ الْمُعَلَّقَةُ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ خِيفَ حَرِيقٌ بِسَبَبِهَا دَخَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْإِطْفَاءِ وَإِنْ أُمِنَ ذلك كما هو الغالب فالظاهر أنه لابأس بِهَا لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالْإِطْفَاءِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِأَنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ فَإِذَا انْتَفَتِ الْعِلَّةُ زَالَ الْمَنْعُ قَوْلُهُ (سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ) تَقَدَّمَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ الْأَعْلَى الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ
[2016] قوله (بريدة عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) تَقَدَّمَ أَيْضًا مَرَّاتٍ أَنَّهُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بَاب آدَابِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَأَحْكَامِهِمَا
[2017] قَوْلُهُ (عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كنا اذاحضرنا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(13/187)
وَسَلَّمَ طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ يَدَهُ إِلَى آخِرِهِ) هَذَا الْإِسْنَادُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ تَابِعِيُّونَ كُوفِيُّونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ وَهُوَ خَيْثَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَبْدُ الصالح وأبوحذيفة واسمه سلمة بن صهيب وقيل بن صهيبة وقيل بن صهبان وقيل بن صهبة وقيل بن صُهَيْبَةَ الْهَمْدَانِيُّ الْأَرْحَبِيُّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَقَوْلُهُ (لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِيهِ بَيَانُ هَذَا الْأَدَبِ وَهُوَ أَنَّهُ يَبْدَأُ الْكَبِيرُ وَالْفَاضِلُ فِي غَسْلِ الْيَدِ لِلطَّعَامِ وَفِي الْأَكْلِ قَوْلُهُ فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تَدْفَعُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَأَنَّهَا تَطْرُدُ يَعْنِي لِشِدَّةِ سُرْعَتِهَا فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يَدْفَعُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بيدها فجاءبهذا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا ثُمَّ زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي آخِرِ الْحَدِيثِ ثُمَّ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَكَلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا جَوَازُ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ وَتَفْصِيلُ الْحَالِ فِي اسْتِحْبَابِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الطَّعَامِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وهذا يستحب حمدالله تَعَالَى فِي آخِرِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ فِي أَوَّلِ الشَّرَابِ بَلْ فِي أَوَّلِ كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ كَمَا ذَكَرْنَا قَرِيبًا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّسْمِيَةِ لِيُسْمِعَ غَيْرَهُ وَيُنَبِّهَهُ عَلَيْهَا وَلَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الطعام عامدا أو ناسيا أو جاهلا أومكرها أَوْ عَاجِزًا لِعَارِضٍ آخَرَ ثُمَّ تَمَكَّنَ فِي أَثْنَاءِ أَكْلِهِ مِنْهَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَمِّيَ وَيَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ(13/188)
أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أوله وآخره رواه أبوداود وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالتَّسْمِيَةُ فِي شُرْبِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْمَرَقِ وَالدَّوَاءِ وَسَائِرِ الْمَشْرُوبَاتِ كَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ وَتَحْصُلُ التَّسْمِيَةُ بِقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنْ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَانَ حَسَنًا وَسَوَاءٌ فِي اسْتِحْبَابِ التَّسْمِيَةِ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَغَيْرُهُمَا وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْآكِلِينَ فَإِنْ سَمَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الطَّعَامِ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الذِّكْرِ عِنْدَ دُخُولِ الْبَيْتِ وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي كِتَابِ أَذْكَارِ الطَّعَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الْأُصُولِ يَدِهَا وَفِي بَعْضِهَا يَدِهِمَا فَهَذَا ظَاهِرٌ وَالتَّثْنِيَةُ تَعُودُ إِلَى الْجَارِيَةِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ يَدِي فِي يَدِ الشَّيْطَانِ مَعَ يَدِ الْجَارِيَةِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ يَدِهَا بِالْإِفْرَادِ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْجَارِيَةِ وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْوَجْهَ التَّثْنِيَةُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَةَ الْإِفْرَادِ أَيْضًا مُسْتَقِيمَةٌ فان إثبات يدها لاينفى يَدَ الْأَعْرَابِيِّ وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِالْإِفْرَادِ وَجَبَ قَبُولُهَا وَتَأْوِيلُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ الشَّيْطَانَ يستحل الطعام أن لايذكر اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ) مَعْنَى يَسْتَحِلُّ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَكْلِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ(13/189)
أَكْلِ الطَّعَامِ إِذَا شَرَعَ فِيهِ إِنْسَانٌ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْرَعْ فيه أحد فلايتمكن وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةٌ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ ثُمَّ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَشِبْهَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَكْلِ الشَّيْطَانِ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ حَقِيقَةً إذ العقل لايحيله وَالشَّرْعُ لَمْ يُنْكِرْهُ بَلْ أَثْبَتَهُ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَاعْتِقَادُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وقدم مجئ الأعرابى قبل مجئ الْجَارِيَةِ عَكْسَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ كَالْأُولَى وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الثَّانِيَةِ قدم مجئ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَدَّمَهُ فِي اللَّفْظِ بِغَيْرِ حَرْفِ تَرْتِيبٍ فَذَكَرَهُ بِالْوَاوِ فَقَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ وَجَاءَتْ جارية والواو لاتقتضى تَرْتِيبًا وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى فَصَرِيحَةٌ فِي التَّرْتِيبِ وَتَقْدِيمِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ قَالَ ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ وَثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ فَيَتَعَيَّنَ حَمْلُ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى ويبعد حمله على واقعتين
[2018] وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طعامه قال الشيطان لامبيت لكم ولاعشاء وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ) مَعْنَاهُ قَالَ الشَّيْطَانُ لِإِخْوَانِهِ وَأَعْوَانِهِ وَرُفْقَتِهِ وَفِي هَذَا اسْتِحْبَابُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عند دخول(13/190)
الْبَيْتِ وَعِنْدَ الطَّعَامِ
[2019] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (لاتأكلوا بالشمال فان الشيطان يأكل بالشمال)
[2020] وفى رواية بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَكَانَ نَافِعٌ يزيد فيها ولايأخذ بها ولايعطى بِهَا فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْيَمِينِ وَكَرَاهَتُهُمَا بِالشِّمَالِ وَقَدْ زَادَ نَافِعٌ الْأَخْذَ وَالْإِعْطَاءَ وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ بِالْيَمِينِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جراحة(13/191)
أوغير ذلك فلاكراهة فِي الشِّمَالِ وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي اجْتِنَابُ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُشْبِهُ أَفْعَالَ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّ لِلشَّيَاطِينِ يَدَيْنِ
[2021] قَوْلُهُ (إِنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِمَالِهِ فَقَالَ كُلْ بِيَمِينِكَ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ لَا اسْتَطَعْتَ ما منعه إلاالكبر قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ) هَذَا الرَّجُلُ هوبسر بضم الباء وبالسين المهملة بن رَاعِي الْعَيْرِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالْمُثَنَّاةِ الْأَشْجَعِيُّ كَذَا ذكره بن منده وأبو نعيم الأصبهانى وبن مَاكُولَا وَآخَرُونَ وَهُوَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ عَدَّهُ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ قَوْلَهُ مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْكِبْرِ وَالْمُخَالَفَةِ لَا يَقْتَضِي النِّفَاقَ وَالْكُفْرَ لَكِنَّهُ مَعْصِيَةٌ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ إِيجَابٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِلَا عُذْرٍ وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي كُلِّ حَالٍ حَتَّى فِي حَالِ الْأَكْلِ وَاسْتِحْبَابُ تَعْلِيمِ الْآكِلِ آدَابَ الْأَكْلِ إِذَا خَالَفَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ الَّذِي بَعْدَ هَذَا
[2022] قَوْلُهُ (عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي(13/192)
سلمة رضى الله عنه قال كنت فىحجر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي يَا غلام سم الله وكل بيمينك وكل ممايليك) قَوْلُهُ تَطِيشُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَبَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتُ سَاكِنَةٌ أَيْ تَتَحَرَّكُ وَتَمْتَدُّ إِلَى نَوَاحِي الصَّحْفَةِ ولاتقتصر عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَالصَّحْفَةُ دُونَ الْقَصْعَةِ وَهِيَ مَا تَسَعُ مَا يُشْبِعُ خَمْسَةً فَالْقَصْعَةُ تُشْبِعُ عَشْرَةً كَذَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ وَقِيلَ الصَّحْفَةُ كَالْقَصْعَةِ وَجَمْعُهَا صِحَافٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ ثَلَاثِ سُنَنٍ مِنْ سُنَنٍ الْأَكْلِ وَهِيَ التَّسْمِيَةُ وَالْأَكْلُ بِالْيَمِينِ وَقَدْ سبق بيانهما والثالثة الأكل ممايليه لِأَنَّ أَكْلَهُ مِنْ مَوْضِعِ يَدِ صَاحِبِهِ سُوءُ عشرة وترك مروءة فقد يتقذره صاحبه لاسيما فِي الْأَمْرَاقِ وَشِبْهِهَا وَهَذَا فِي الثَّرِيدِ وَالْأَمْرَاقِ وَشِبْهِهَا فَإِنْ كَانَ تَمْرًا أَوْ أَجْنَاسًا فَقَدْ نَقَلُوا إِبَاحَةَ اخْتِلَافِ الْأَيْدِي فِي الطَّبَقِ وَنَحْوِهِ وَالَّذِي يَنْبَغِي تَعْمِيمُ النَّهْيِ حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى يَثْبُتَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ قَوْلُهُ (مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[2023] قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ) قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَاخْتِنَاثُهَا أَنْ يَقْلِبَ رَأْسَهَا حَتَّى(13/193)
يَشْرَبَ مِنْهُ الِاخْتِنَاثُ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ أَلِفٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التَّكَسُّرُ وَالِانْطِوَاءُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُلُ الْمُتَشَبِّهُ بِالنِّسَاءِ فِي طَبْعِهِ وَكَلَامِهِ وَحَرَكَاتِهِ مُخَنَّثًا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ اخْتِنَاثِهَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لا تحريم ثم قيل سببه أنه لايؤمن أَنْ يَكُونَ فِي الْبَقَاءِ مَا يُؤْذِيهِ فَيَدْخُلُ فى جوفه ولايدرى وَقِيلَ لِأَنَّهُ يُقَذِّرُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَقِيلَ إِنَّهُ يُنْتِنُهُ أَوْ لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ ثَابِتٍ وَهِيَ أُخْتُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشرب من قربة معلقة لوجهين قَائِمًا فَقُمْتُ إِلَى فِيهَا فَقَطَعْتُهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ هذا حديث حسن صحيح وقطع لِفَمِ الْقِرْبَةِ فَعَلَتْهُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَصُونَ مَوْضِعًا أَصَابَهُ فَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُبْتَذَلَ وَيَمَسَّهُ كُلُّ أَحَدٍ وَالثَّانِي أَنْ تَحْفَظَهُ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَالِاسْتِشْفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النهى ليس للتحريم والله أعلم
(باب فى الشرب قائما)
[2024] فِيهِ حَدِيثُ قَتَادَةَ (عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا) وَفِي(13/194)
رِوَايَةٍ نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا قَالَ قَتَادَةُ قلنا فَالْأَكْلُ قَالَ أَشَرُّ أَوْ أَخْبَثُ
[2025] وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي عِيسَى الْأَسْوَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُمْ نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا
[2026] وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو غَطَفَانَ الْمُرِّيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لايشربن أحدكم قائما فمن نسى فليستقيء
[2027] وعن بن عَبَّاسٍ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ وَهُوَ قَائِمٌ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَرِبَ قَائِمًا وَقَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فعلت على أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ أَشْكَلَ مَعْنَاهَا عَلَى بَعْضِ العلماء حتى قال فيها أقوالاباطلة وَزَادَ حَتَّى تَجَاسَرَ وَرَامَ أَنْ يُضَعِّفَ بَعْضَهَا وادعى فيها دعاوى باطلة لاغرض لنا فى ذكرها ولاوجه لِإِشَاعَةِ الْأَبَاطِيلِ وَالْغَلَطَاتِ فِي تَفْسِيرِ السُّنَنِ بَلْ نَذْكُرُ الصَّوَابَ وَيُشَارُ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِمَا خَالَفَهُ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِحَمْدِ الله تعالى اشكال ولافيها ضَعْفٌ بَلْ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَالصَّوَابُ فِيهَا أَنَّ النَّهْيَ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَأَمَّا شُرْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا فَبَيَانٌ للجواز فلا اشكال ولاتعارض وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ نَسْخًا أَوْ غَيْرَهُ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا وَكَيْفَ يُصَارُ إِلَى النَّسْخِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ لَوْ ثَبَتَ التَّارِيخُ وَأَنَّى لَهُ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ الشُّرْبُ قَائِمًا مَكْرُوهًا وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْجَوَابُ أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ بيانا للجواز لايكون مَكْرُوهًا بَلِ الْبَيَانَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَطَافَ عَلَى بَعِيرٍ مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا وَالطَّوَافَ مَاشِيًا أَكْمَلُ وَنَظَائِرُ هَذَا غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فَكَانَ صَلَّى الله عليه وسلم ينبه على جواز الشئ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ وَيُوَاظِبُ عَلَى الْأَفْضَلِ مِنْهُ وَهَكَذَا كَانَ أَكْثَرُ وُضُوئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَأَكْثَرُ طَوَافِهِ مَاشِيًا وَأَكْثَرُ شربه جالسا وهذا واضح لايتشكك فِيهِ مَنْ لَهُ أَدْنَى نِسْبَةٍ إِلَى عِلْمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (فمن نسى فليستقىء) فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّدْبِ فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَتَقَايَأَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ فان الأمر اذاتعذر حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَأَمَّا قول القاضي عياض لاخلاف بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ شَرِبَ نَاسِيًا ليس عليه ان يتقيأه فأشار بذلك إلى تضعيف الحديث فلايلتفت إِلَى إِشَارَتِهِ وَكَوْنُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يُوجِبُوا(13/195)
الاستقاءة لايمنع كَوْنَهَا مُسْتَحَبَّةً فَإِنِ ادَّعَى مُدَّعٍ مَنْعَ الِاسْتِحْبَابِ فهو مجازف لايلتفت إِلَيْهِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِ الِاسْتِحْبَابِ وَكَيْفَ تُتْرَكُ هَذِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ بِالتَّوَهُّمَاتِ وَالدَّعَاوَى وَالتُّرَّهَاتِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تُسْتَحَبُّ الِاسْتِقَاءَةُ لِمَنْ شَرِبَ قَائِمًا نَاسِيًا أَوْ مُتَعَمِّدًا وَذِكْرُ النَّاسِي فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْقَاصِدَ يُخَالِفُهُ بَلْ لِلتَّنْبِيهِ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِهِ النَّاسِي وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَالْعَامِدُ الْمُخَاطَبُ الْمُكَلَّفُ أولى وهذا واضح لاشك فيه لاسيما عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رقبة لايمنع وُجُوبَهَا عَلَى الْعَامِدِ بَلْ لِلتَّنْبِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَسَانِيدِ الْبَابِ وَأَلْفَاظِهِ فَقَالَ مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ هَذَانِ الْإِسْنَادَانِ بَصْرِيُّونَ كُلُّهُمْ وَقَدْ سَبَقَ مَرَّاتٍ أَنَّ هَدَّابًا يُقَالُ فِيهِ هُدْبَةُ وَأَنَّ أَحَدَهُمَا اسْمٌ وَالْآخَرُ لَقَبٌ وَاخْتُلِفَ فِيهِمَا وَسَعِيدٌ هَذَا هو بن أبى عروبة وَقَوْلُهُ (قَالَ قَتَادَةُ قُلْنَا يَعْنِي لِأَنَسٍ فَالْأَكْلُ قَالَ أَشَرُّ وَأَخْبَثُ) هَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُولِ أَشَرُّ بِالْأَلِفِ وَالْمَعْرُوفُ فِي الْعَرَبِيَّةِ شَرٌّ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَكَذَلِكَ خَيْرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَصْحَابُ الجنة يومئذ خير مستقرا وَقَالَ تَعَالَى فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَلَكِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَقَعَتْ هُنَا عَلَى الشَّكِّ فانه قال أشر وأخبث فَشَكَّ قَتَادَةُ فِي أَنَّ أَنَسًا قَالَ أَشَرُّ أَوْ قَالَ أَخْبَثُ فَلَا يَثْبُتُ عَنْ أَنَسٍ أشر بهذه الرواية فان جائت هذه اللفظة بلاشك وَثَبَتَتْ عَنْ أَنَسٍ فَهُوَ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ فَهِيَ لُغَةٌ وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الِاسْتِعْمَالِ وَلِهَذَا نَظَائِرُ مما لايكون مَعْرُوفًا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ وَجَارِيًا عَلَى قَوَاعِدِهِمْ وَقَدْ صحت به الأحاديث فلاينبغى رَدُّهُ إِذَا ثَبَتَ بَلْ يُقَالُ هَذِهِ لُغَةٌ قَلِيلَةُ الِاسْتِعْمَالِ وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْعِبَارَاتِ وَسَبَبُهُ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ لَمْ يُحِيطُوا إِحَاطَةً قَطْعِيَّةً بِجَمِيعِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَلِهَذَا يَمْنَعُ بَعْضُهُمْ مَا يَنْقُلُهُ غيره(13/196)
عَنِ الْعَرَبِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ (عَنْ أَبِي عِيسَى الْأُسْوَارِيِّ) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا وَالَّذِي ذَكَرَهُ السَّمْعَانِيُّ وَصَاحِبَا الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ هُوَ الضَّمُّ فَقَطْ قَالَ أَبُو على الغسانى والسمعانى وغيرهما لايعرف اسمه قال الامام أحمد بن حنبل لانعلم أَحَدًا رَوَى عَنْهُ غَيْرَ قَتَادَةَ وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ هُوَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُسْوَارِ وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنْ أَسَاوِرَةِ الْفُرْسِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ قال أبو عبيدة هو الْفُرْسَانُ قَالَ وَالْأَسَاوِرَةُ أَيْضًا قَوْمٌ مِنَ الْعَجَمِ بالبصرة نزولها قديما كالأخامرة بالكوفة قوله (أبوغطفان المرى) هو بضم الميم وتشديد الراء(13/197)
ولايعرف اسْمُهُ وَفِيهِ سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ مرات أنه بالمهملة والجيم قَوْلُهُ (وَاسْتَسْقَى وَهُوَ عِنْدَ الْبَيْتِ) مَعْنَاهُ طَلَبَ وَهُوَ عِنْدَ الْبَيْتِ مَا يَشْرَبُهُ وَالْمُرَادُ بِالْبَيْتِ الْكَعْبَةُ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا
(بَاب كَرَاهَةِ التَّنَفُّسِ فِي نَفْسِ الْإِنَاءِ وَاسْتِحْبَابِ التَّنَفُّسِ ثَلَاثًا خَارِجَ الْإِنَاءِ)
[267] فِيهِ حَدِيثُ (نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ)
[2028] وَحَدِيثُ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا وفى رواية(13/198)
فِي الشَّرَابِ وَيَقُولُ إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا تَرْجَمْنَاهُ لَهُمَا فَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ وَالثَّانِي عَلَى آخرها وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَرْوَى) مِنَ الرِّيِّ أَيْ أَكْثَرُ رِيًّا وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ مَهْمُوزَانِ وَمَعْنَى أَبْرَأُ أَيْ أَبْرَأُ مِنْ أَلَمِ الْعَطَشِ وَقِيلَ أبرأأى أَسْلَمُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَذَى يَحْصُلُ بِسَبَبِ الشرب فى نفس واحد ومعنى أمرأأى أَجْمَلُ انْسِيَاغًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي عِصَامٍ عَنْ أَنَسٍ) اسْمُ أَبِي عِصَامٍ خَالِدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي (كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ أَوْ فِي الشَّرَابِ) مَعْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ شُرْبِهِ مِنَ الْإِنَاءِ أَوْ فى أثناءشربه الشَّرَابَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب اسْتِحْبَابِ إِدَارَةِ الْمَاءِ واللبن ونحوهما على يمين المبتدى)
[2029] فِيهِ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ وعن يساره أبوبكر الصِّدِّيقُ فَشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ وأبو بكر عن شماله يارسول اللَّهِ أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ فَأَعْطَاهُ أَعْرَابِيًّا عَنْ يَمِينِهِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ قَالَ أَنَسٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ
[2030] وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارَهِ أَشْيَاخٌ فَقَالَ لِلْغُلَامِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ الْغُلَامُ لَا وَاللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ فِي هذه الأحاديث(13/199)
بيان هذه السنة الواضحة وهوموافق لِمَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الشَّرْعِ مِنِ اسْتِحْبَابِ التَّيَامُنِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ وَفِيهِ أَنَّ الْأَيْمَنَ فِي الشَّرَابِ وَنَحْوِهِ يُقَدَّمُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَفْضُولًا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ الْأَعْرَابِيَّ وَالْغُلَامَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه وأما تقديم الأفاضل والكبار فهوعند التَّسَاوِي فِي بَاقِي الْأَوْصَافِ وَلِهَذَا يُقَدَّمُ الْأَعْلَمُ وَالْأَقْرَأُ عَلَى الْأَسَنِّ النَّسِيبِ فِي الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُ (شِيبَ) أَيْ خُلِطَ وَفِيهِ جَوَازُ ذلك وانما(13/200)
نُهِيَ عَنْ شَوْبِهِ إِذَا أَرَادَ بَيْعَهَ لِأَنَّهُ غِشٌّ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي شَوْبِهِ أَنْ يبرد أو يكثر أو للمجموع وَقَوْلُهُ (فَتَلَّهُ فِي يَدِهِ) أَيْ وَضَعَهُ فِيهَا وَقَدْ جَاءَ فِي مُسْنَدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ الْأَشْيَاخِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قِيلَ إِنَّمَا اسْتَأْذَنَ الْغُلَامَ دُونَ الْأَعْرَابِيِّ إِدْلَالًا عَلَى الْغُلَامِ وهو بن عباس وثقة بطيب نفسه بأصل الاستذان لاسيما وَالْأَشْيَاخُ أَقَارِبُهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَفِي بَعْضِ الروايات عمك وبن عَمِّكَ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ وَفَعَلَ ذَلِكَ أَيْضًا تَأَلُّفًا لِقُلُوبِ الْأَشْيَاخِ وَإِعْلَامًا بِوُدِّهِمْ وَإِيثَارِ كَرَامَتِهِمْ إِذَا لَمْ تَمْنَعْ مِنْهَا سُنَّةٌ وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا بَيَانَ هَذِهِ السُّنَّةِ وَهِيَ أَنَّ الأيمن أحق ولايدفع إلى غيره إلابأذنه وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِئْذَانِهِ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الأذن وينبغى له أيضا أن لايأذن إِنْ كَانَ فِيهِ تَفْوِيتُ فَضِيلَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ وَمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ كَهَذِهِ الصُّورَةِ وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ من العلماء على أنه لايؤثر فِي الْقُرَبِ وَإِنَّمَا الْإِيثَارُ الْمَحْمُودُ مَا كَانَ فِي حُظُوظِ النَّفْسِ دُونَ الطَّاعَاتِ قَالُوا فَيُكْرَهُ أَنْ يُؤْثِرَ غَيْرَهُ بِمَوْضِعِهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهُ وَأَمَّا الْأَعْرَابِيُّ(13/201)
فَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ مَخَافَةَ مِنْ إِيحَاشِهِ فِي اسْتِئْذَانِهِ فِي صَرْفِهِ إِلَى أَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُبَّمَا سَبَقَ إِلَى قَلْبِ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ شئ يَهْلِكُ بِهِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَفَتِهَا وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ فِي مَعْرِفَتِهِ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ النُّصُوصُ عَلَى تَأَلُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلْبَ مَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعِلْمِ مِنْهَا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالْيَمِينِ فِي الشَّرَابِ ونحوه سنة وهذا مما لاخلاف فِيهِ وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالشَّرَابِ قال بن عبد البر وغيره لايصح هَذَا عَنْ مَالِكٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ فِي الشَّرَابِ خَاصَّةً وَإِنَّمَا يقدم الأيمن فالأيمن فى غيره بالقياس لابسنة مَنْصُوصَةٍ فِيهِ وَكَيْفَ كَانَ فَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّيَامُنِ فِي الشَّرَابِ وَأَشْبَاهِهِ وَفِيهِ جَوَازُ شُرْبِ اللَّبَنِ الْمَشُوبِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مُبَاحٍ أَوْ مَجْلِسِ الْعَالِمِ وَالْكَبِيرِ فهو أحق به ممن يجئ بعده والله أعلم قَوْلُهُ (عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكُنَّ أمهاتى يحثثنى عَلَى خِدْمَتِهِ) الْمُرَادُ بِأُمَّهَاتِهِ أُمُّهُ أُمُّ سُلَيْمٍ وَخَالَتُهُ أُمُّ حَرَامٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ مَحَارِمِهِ فَاسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْأُمَّهَاتِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يُجَوِّزُ إِطْلَاقَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَقَوْلُهُ كُنَّ أُمَّهَاتِي عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الِاسْتِعْمَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهَا عِنْدَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ وَنَظَائِرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَحَلَبْنَا لَهُ مِنْ شَاةٍ دَاجِنٍ) هِيَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهِيَ الَّتِي تُعْلَفُ فِي الْبُيُوتِ يُقَالُ دَجَنَتْ تَدْجُنُ دجونا ويطلق الداجن أيضا علىكل مَا يَأْلَفُ الْبَيْتَ مِنْ طَيْرٍ وَغَيْرِهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ) ضُبِطَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَهُمَا صَحِيحَانِ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ أعطى الْأَيْمَنَ وَالرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَيْمَنُ أَحَقُّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْأَيْمَنُونَ وَهُوَ يُرَجِّحُ الرَّفْعَ وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ إِنَّمَا قَالَهُ لِلتَّذْكِيرِ بِأَبِي بَكْرٍ مَخَافَةً مِنْ نِسْيَانِهِ واعلاما لذلك الأعرابى الذى على اليمن بِجَلَالَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي طُوَالَةَ) هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَحَكَى صَاحِبُ الْمَطَالِعِ ضَمَّهَا وفتحها قالوا ولايعرف فِي الْمُحَدِّثِينَ مَنْ يُكْنَى أَبَا طُوَالَةَ غَيْرُهُ وقد ذكره الحاكم أبوأحمد فِي الْكُنَى الْمُفْرَدَةِ قَوْلُهُ (وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه وجاهه)(13/202)
هُوَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ أَيْ قُدَّامَهُ مواجهاله قوله (يعقوب بن عبد الرحمن القارىء) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَارَةِ الْقَبِيلَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(باب استحباب لعق الأصابعوالقصعة وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح مايصيبها مِنْ أَذًى وَكَرَاهَةِ مَسْحِ الْيَدِ قَبْلَ لَعْقِهَا لاحتمال كون بركة الطعام فى ذلك الباقى وأن السنة الأكل بثلاثة أصابع فِيهِ)
[2031]
[2032] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا أكل أحدكم طعاما فلايمسح يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعٍ وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا وَفِي رِوَايَةٍ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعٍ فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا
[2033] وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ والصحفة وقال انكم لاتدرون فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلِيَأْخُذْهَا فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا من أذى وليأكلها ولايدعها للشيطان ولايمسح يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سَبَقَ وَفِي رِوَايَةٍ وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ وَفِي رِوَايَةٍ وَلْيَسْلُتْ أَحَدُكُمُ الصَّفْحَةَ فِي هذه الأحاديث أنواعمن سُنَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا اسْتِحْبَابُ لَعْقِ الْيَدِ مُحَافَظَةً عَلَى بَرَكَةِ الطَّعَامِ وَتَنْظِيفًا لَهَا وَاسْتِحْبَابُ الْأَكْلِ بثلاث أصابع ولايضم اليها الرابعة والخامسة إلالعذر بأن يكون مرقا(13/203)
وغيره مما لايمكن بِثَلَاثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ وَاسْتِحْبَابُ لَعْقِ الْقَصْعَةِ وَغَيْرِهَا وَاسْتِحْبَابُ أَكْلِ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ بَعْدَ مَسْحِ أَذًى يُصِيبُهَا هَذَا إِذَا لَمْ تَقَعْ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى مَوْضِعٍ نجس تنجست ولابد مِنْ غَسْلِهَا إِنْ أَمْكَنَ فَإِنْ تَعَذَّرَ أَطْعَمَهَا حيوانا ولايتركها لِلشَّيْطَانِ وَمِنْهَا إِثْبَاتُ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا إِيضَاحُ هَذَا وَمِنْهَا جَوَازُ مَسْحِ الْيَدِ بِالْمِنْدِيلِ لَكِنَّ(13/204)
السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ لَعْقِهَا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ) فِيهِ التَّحْذِيرُ مِنْهُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مُلَازَمَتِهِ لِلْإِنْسَانِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَهَّبَ وَيَحْتَرِزَ مِنْهُ وَلَا(13/205)
يغتر بما يرينه له وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَلْعَقُهَا أَوْ يلعقها) معناه والله أعلم لايمسح يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَحَتَّى يلعقها غيره ممن لايتقذر ذَلِكَ كَزَوْجَةٍ وَجَارِيَةٍ وَوَلَدٍ وَخَادِمٍ يُحِبُّونَهُ وَيَلْتَذُّونَ بذلك ولايتقذرون وَكَذَا مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ كَتِلْمِيذٍ يَعْتَقِدُ بَرَكَتَهُ وَيَوَدُّ التَّبَرُّكَ بِلَعْقِهَا وَكَذَا لَوْ أَلْعَقَهَا شاة ونحوها وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لاتدرون فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ) مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الطعام الذى يحضره الانسان فيه بركة ولايدرى أَنَّ تِلْكَ الْبَرَكَةَ فِيمَا أَكَلَهُ أَوْ فِيمَا بَقِيَ عَلَى أَصَابِعِهِ أَوْ فِي مَا بَقِيَ فِي أَسْفَلِ الْقَصْعَةِ أَوْ فِي اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى هَذَا كُلِّهِ لِتَحْصُلَ الْبَرَكَةُ وَأَصْلُ الْبَرَكَةِ الزِّيَادَةُ وَثُبُوتُ الْخَيْرِ وَالْإِمْتَاعِ به والمراد هنا واللهأعلم مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّغْذِيَةُ وَتَسْلَمُ عَاقِبَتُهُ مِنْ أَذًى وَيُقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُ ذلك قَوْلُهُ (إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَوْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ عن أبيه) هذا قد تقدم مثله مرات وذكرنا أنه لايضر الشك فى الراوى اذاكان الشَّكُّ بَيْنُ ثِقَتَيْنِ لِأَنَّ ابْنَيْ كَعْبٍ هَذَيْنِ ثقتان قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلْيُمِطْ مَا كان بها من أذى ولايمسح يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَهَا) أَمَّا يُمِطْ فَبِضَمِّ الْيَاءِ وَمَعْنَاهُ يُزِيلُ وَيُنَحِّي وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ مَاطَهُ وَأَمَاطَهُ نَحَّاهُ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ أماطه لاغير ومنه أماطة الأذى ومطت أناعنه أَيْ تَنَحَّيْتُ وَالْمُرَادُ بِالْأَذَى هُنَا الْمُسْتَقْذَرُ مِنْ غُبَارٍ وَتُرَابٍ وَقَذًى وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ نَجَاسَةً فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهَا وَأَمَّا الْمِنْدِيلُ فَمَعْرُوفٌ وهو بكسر الميم قال بن فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ لَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّدْلِ وَهُوَ النَّقْلُ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّدْلِ وَهُوَ الْوَسَخُ لِأَنَّهُ يُنْدَلُ بِهِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ تَنَدَّلْتُ بِالْمِنْدِيلِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَيُقَالُ أَيْضًا تَمَنْدَلْتُ قَالَ وَأَنْكَرَ الْكِسَائِيُّ تَمَنْدَلْتُ قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ(13/206)
وَاسْمُهُ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ مَنْسُوبٌ إِلَى حَفَرَ مَوْضِعٌ بِالْكُوفَةِ قَوْلُهُ (عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ اسْمُ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةُ بن نافع) تقدم مرات
[2034] قَوْلُهُ (وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ) هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ اللَّامِ وَمَعْنَاهُ نَمْسَحُهَا وَنَتَتَبَّعُ مَا بَقِيَ فِيهَا مِنَ الطَّعَامِ وَمِنْهُ سَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ
[2035] وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ (إِذَا أكل أحدكم طعاما فليلعق أصابعه فانه لايدرى فِي أَيَّتِهِنَّ الْبَرَكَةُ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الْأُصُولِ وَفِي بَعْضِهَا لَا يَدْرِي أَيَّتَهُمَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ أَمَّا رِوَايَةُ فِي أَيَّتِهِنَّ فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا رواية لايدرى أَيَّتَهُنَّ الْبَرَكَةَ فَمَعْنَاهُ أَيَّتُهُنَّ صَاحِبَةُ الْبَرَكَةِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(13/207)
(بَاب مَا يَفْعَلُ الضَّيْفُ إِذَا تَبِعَهُ غَيْرُ مَنْ دَعَاهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ وَاسْتِحْبَابِ إِذْنِ صَاحِبِ الطعام للتابع)
[2036] فيه (أن رجلا منالأنصار يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ صَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا ثُمَّ دَعَاهُ خَامِسَ خَمْسَةٍ وَاتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ وَإِنْ شئت رجع قال لابل آذن له يارسول اللَّهِ)
[2037] وَفِيهِ (أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارِسِيًّا كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ فَصَنَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ فَقَالَ وَهَذِهِ لِعَائِشَةَ فَقَالَ لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لافعاد يَدْعُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه لعائشة فقال لاقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا ثُمَّ عَادَ يَدْعُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ قَالَ نَعَمْ فِي الثَّالِثَةِ فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ) أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ أَنَّ الْمَدْعُوَّ إِذَا تَبِعَهُ رجل بغير استدعاء ينبغى له أن لايأذن لَهُ وَيَنْهَاهُ وَإِذَا بَلَغَ بَابَ دَارِ صَاحِبِ الطَّعَامِ أَعْلَمَهُ بِهِ لِيَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ وَأَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى حُضُورِهِ مَفْسَدَةٌ بِأَنْ يُؤْذِيَ الْحَاضِرِينَ أَوْ يُشِيعَ عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَهُ أَوْ يَكُونَ جُلُوسُهُ مَعَهُمْ مُزْرِيًا بِهِمْ لِشُهْرَتِهِ بِالْفِسْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ خِيفَ مِنْ حُضُورِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَلَطَّفَ فِي رَدِّهِ وَلَوْ أَعْطَاهُ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ إِنْ كَانَ يَلِيقُ بِهِ لِيَكُونَ رَدًّا جَمِيلًا كَانَ حَسَنًا وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثانى(13/208)
فِي قِصَّةِ الْفَارِسِيِّ وَهِيَ قَضِيَّةٌ أُخْرَى فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ يَمْنَعُ وُجُوبَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِجَابَتِهِ وَتَرْكِهَا فَاخْتَارَ أَحَدَ الجائزين وهو تركها الاأن يَأْذَنَ لِعَائِشَةَ مَعَهُ لِمَا كَانَ بِهَا مِنَ الْجُوعِ أَوْ نَحْوِهِ فَكَرِهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاخْتِصَاصَ بِالطَّعَامِ دُونَهَا وَهَذَا مِنْ جَمِيلِ الْمُعَاشَرَةِ وَحُقُوقِ الْمُصَاحَبَةِ وَآدَابِ الْمُجَالَسَةِ الْمُؤَكَّدَةِ فَلَمَّا أَذِنَ لَهَا اخْتَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَائِزَ الْآخَرَ لِتَجَدُّدِ الْمَصْلَحَةِ وَهُوَ حُصُولُ مَا كَانَ يُرِيدُهُ مِنْ إِكْرَامِ جَلِيسِهِ وَإِيفَاءِ حَقِّ مُعَاشَرَتِهِ وَمُوَاسَاتِهِ فِيمَا يَحْصُلُ وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ بَيَانُ الْأَعْذَارِ فِي تَرْكِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا فِي غَيْرِ وليمة العرس(13/209)
كهذه الصورة وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ) مَعْنَاهُ يَمْشِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَثَرِ صَاحِبِهِ قَالُوا وَلَعَلَّ الْفَارِسِيَّ إِنَّمَا لَمْ يَدْعُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَّلًا لِكَوْنِ الطَّعَامِ كَانَ قَلِيلًا فَأَرَادَ تَوْفِيرَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ أَكْلِ الْمَرَقِ وَالطَّيِّبَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ من الرزق وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَانَ لِأَبِي شُعَيْبٍ غُلَامٌ لَحَّامٌ أَيْ يَبِيعُ اللَّحْمَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْجِزَارَةِ وَحِلِّ كَسْبِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب جَوَازِ اسْتِتْبَاعِهِ غَيْرَهُ إِلَى دَارِ مَنْ يثق برضاه بذلك ويتحققه تَحَقُّقًا تَامًّا وَاسْتِحْبَابِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ)
[2038] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ مِنَ الْجُوعِ وَذَهَابِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْأَنْصَارِيِّ وَإِدْخَالِ امرأته إباهم وَمَجِيءِ الْأَنْصَارِيِّ وَفَرَحِهِ بِهِمْ وَإِكْرَامِهِ لَهُمْ وَهَذَا الْأَنْصَارِيُّ هُوَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ وَاسْمُ أَبِي الْهَيْثَمِ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْفَوَائِدِ مِنْهَا قَوْلُهُ (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا قَالَا الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى آخِرِهِ) هَذَا فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ(13/210)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِبَارُ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ التَّقَلُّلِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا ابْتُلُوا بِهِ مِنَ الْجُوعِ وَضِيقِ الْعَيْشِ فِي أَوْقَاتٍ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ فَتْحِ الْفُتُوحِ وَالْقُرَى عَلَيْهِمْ وَهَذَا زَعْمٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أسلم بعد فتح خيبر فان قيل لايلزم مِنْ كَوْنِهِ رَوَاهُ أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَ الْقَضِيَّةَ فَلَعَلَّهُ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا خِلَافُ الظاهر ولاضرورة إِلَيْهِ بَلِ الصَّوَابُ خِلَافُهُ وَأَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يَتَقَلَّبُ فِي الْيَسَارِ وَالْقِلَّةِ حَتَّى تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَارَةً يُوسَرُ وَتَارَةً يَنْفَدُ مَا عِنْدَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَعَنْ عَائِشَةَ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عَلَى شَعِيرٍ اسْتَدَانَهُ لِأَهْلِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْتٍ يُوسَرُ ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ يَنْفَدُ مَا عِنْدَهُ لِإِخْرَاجِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَإِيثَارِ الْمُحْتَاجِينَ وَضِيَافَةِ الطَّارِقِينَ وَتَجْهِيزِ السَّرَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَكَذَا كَانَ خُلُقُ صَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَلْ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْيَسَارِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ بِرِّهِمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وإكرامهم إياه واتحافه بالطرف وغيرهما رُبَّمَا لَمْ يَعْرِفُوا حَاجَتَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لكونهم لايعرفون فَرَاغَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْقُوتِ بِإِيثَارِهِ بِهِ وَمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ رُبَّمَا كَانَ ضَيِّقَ الْحَالِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا جَرَى لصاحبيه ولايعلم أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِمَ حَاجَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِزَالَتِهَا إِلَّا بَادَرَ إِلَى إِزَالَتِهَا لَكِنْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُمُهَا عَنْهُمْ إِيثَارًا لِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ وَحَمْلًا عَنْهُمْ وَقَدْ بَادَرَ أَبُو طَلْحَةَ حِينَ قَالَ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ إِلَى إِزَالَةِ تِلْكَ الْحَاجَةِ وَكَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ وَسَنَذْكُرُهُمَا بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي شُعَيْبٍ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي سَبَقَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَنَّهُ عَرَفَ فِي وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُوعَ فَبَادَرَ بِصَنِيعِ الطَّعَامِ وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ مَشْهُورَةٌ وَكَذَلِكَ كانوا يؤثرون بعضهم بعضا ولايعلم أحد منهم ضرورة صاحبه الاسعى فِي إِزَالَتِهَا وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بذلك فقال تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولوكان بهم خصاصة وقال تعالى رحماء(13/211)
بينهم وَأَمَّا قَوْلُهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَخْرَجَنَا الْجُوعُ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا) فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا لِمَا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلُزُومِ طَاعَتِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ فَعَرَضَ لَهُمَا هَذَا الْجُوعُ الَّذِي يُزْعِجُهُمَا وَيُقْلِقُهُمَا وَيَمْنَعُهُمَا مِنْ كَمَالِ النَّشَاطِ لِلْعِبَادَةِ وَتَمَامِ التَّلَذُّذِ بِهَا سَعَيَا فِي إِزَالَتِهِ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ سَبَبٍ مُبَاحٍ يَدْفَعَانِهِ بِهِ وَهَذَا مِنْ أَكْمَلِ الطَّاعَاتِ وَأَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْمُرَاقَبَاتِ وَقَدْ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ وَبِحَضْرَةِ طَعَامٍ تَتُوقُ النَّفْسُ إِلَيْهِ وَفِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلَامٌ وَبِحَضْرَةِ الْمُتَحَدِّثِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ قَلْبَهُ وَنَهَى الْقَاضِي عَنِ الْقَضَاءِ فِي حَالِ غَضَبِهِ وَجُوعِهِ وَهَمِّهِ وَشِدَّةِ فَرَحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ قَلْبَهُ وَيَمْنَعُهُ كَمَالَ الْفِكْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ (بُيُوتُكُمَا) هُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا فِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ مَا يَنَالُهُ مِنْ أَلَمٍ وَنَحْوِهِ لاعلى سَبِيلِ التَّشَكِّي وَعَدَمِ الرِّضَا بَلْ لِلتَّسْلِيَةِ وَالتَّصَبُّرِ كفعله صلى الله عليه وسلم هنا ولا لتماس دُعَاءٍ أَوْ مُسَاعَدَةٍ عَلَى التَّسَبُّبِ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْعَارِضِ فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ إِنَّمَا يُذَمُّ مَا كَانَ تَشَكِّيًا وَتَسَخُّطًا وَتَجَزُّعًا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَنَا) هَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَأَنَا بِالْفَاءِ وَفِي بَعْضِهَا بِالْوَاوِ وَفِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا بَسْطُ الْكَلَامِ فِيهِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُومُوا فَقَامُوا) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ بِضَمِيرِ الجمع وهو جائز بلاخلاف لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الِاثْنَيْنِ مَجَازٌ وَآخَرُونَ يَقُولُونَ حَقِيقَةٌ وَقَوْلُهُ (فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ) هُوَ أَبُو الْهَيْثَمِ مَالِكُ بْنُ التَّيْهَانِ بفتح المثناة فوق وتشديد المثناة تَحْتُ مَعَ كَسْرِهَا وَفِيهِ جَوَازُ الْإِدْلَالِ عَلَى الصَّاحِبِ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ كَمَا تَرْجَمْنَا لَهُ وَاسْتِتْبَاعِ جَمَاعَةٍ إِلَى بَيْتِهِ وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِأَبِي الْهَيْثَمِ إِذْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَكَفَى بِهِ شَرَفًا ذَلِكَ وَقَوْلُهُ (فَقَالَتْ مَرْحَبًا وَأَهْلًا) كَلِمَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ لِلْعَرَبِ وَمَعْنَاهُ صَادَفْتَ رَحْبًا وَسَعَةً وَأَهْلًا تَأْنَسُ بِهِمْ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِكْرَامِ الضَّيْفِ بِهَذَا الْقَوْلِ وَشِبْهِهِ وَإِظْهَارِ السُّرُورِ بِقُدُومِهِ وَجَعْلِهِ أَهْلًا لِذَلِكَ كُلُّ هَذَا وَشِبْهُهُ إِكْرَامٌ لِلضَّيْفِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهَ وَفِيهِ جَوَازُ سَمَاعِ كَلَامِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَمُرَاجَعَتِهَا الْكَلَامَ لِلْحَاجَةِ وَجَوَازُ إِذْنِ الْمَرْأَةِ فِي دُخُولِ مَنْزِلِ زَوْجِهَا(13/212)
لمن علمت علما محققا أنه لايكرهه بحيث لايخلو بِهَا الْخَلْوَةَ الْمُحَرَّمَةَ وَقَوْلُهَا (ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الْمَاءَ) أَيْ يَأْتِينَا بِمَاءٍ عَذْبٍ وَهُوَ الطَّيِّبُ وفيه جوازاستعذابه وَتَطْيِيبِهِ قَوْلُهُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ ضَيْفًا مِنِّي) فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا اسْتِحْبَابُ حمدالله تَعَالَى عِنْدَ حُصُولِ نِعْمَةٍ ظَاهِرَةٍ وَكَذَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ انْدِفَاعِ نِقْمَةٍ كَانَتْ مُتَوَقَّعَةً وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ وَقَدْ جَمَعْتُ فِي ذَلِكَ قِطْعَةً صَالِحَةً فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ إِظْهَارِ الْبِشْرِ وَالْفَرَحِ بِالضَّيْفِ فِي وَجْهِهِ وَحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَسْمَعُ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَى ضَيْفِهِ إِنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ فِتْنَةً فَإِنْ خَافَ لَمْ يُثْنِ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَهَذَا طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِجَوَازِ ذَلِكَ وَمَنْعِهِ وَقَدْ جَمَعْتُهَا مَعَ بَسْطِ الْكَلَامِ فِيهَا فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ وَفِيهِ دليل على كمال فَضِيلَةِ هَذَا الْأَنْصَارِيِّ وَبَلَاغَتِهِ وَعَظِيمِ مَعْرِفَتِهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِكَلَامٍ مُخْتَصَرٍ بَدِيعٍ فِي الْحُسْنِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ (فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ كُلُوا مِنْ هَذِهِ) الْعِذْقُ هُنَا بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهِيَ الْكِبَاسَةُ وَهِيَ الْغُصْنُ مِنَ النَّخْلِ وَإِنَّمَا أَتَى بِهَذَا الْعِذْقِ الْمُلَوَّنِ لِيَكُونَ أَطْرَفَ وَلْيَجْمَعُوا بَيْنَ أَكْلِ الْأَنْوَاعِ فَقَدْ يَطِيبُ لِبَعْضِهِمْ هَذَا وَلِبَعْضِهِمْ هَذَا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ الْفَاكِهَةِ عَلَى الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الضَّيْفِ بِمَا تَيَسَّرَ وَإِكْرَامِهِ بَعْدَهُ بطعام يصنعه له لاسيما إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حَاجَتُهُ فِي الْحَالِ إِلَى الطَّعَامِ وَقَدْ يَكُونُ شَدِيدَ الْحَاجَةِ إِلَى التَّعْجِيلِ وَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ انْتِظَارُ مَا يُصْنَعُ لَهُ لِاسْتِعْجَالِهِ لِلِانْصِرَافِ وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ التَّكَلُّفَ لِلضَّيْفِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ مَشَقَّةً ظَاهِرَةً لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَكَمَالِ السُّرُورِ بِالضَّيْفِ وَرُبَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَتَأَذَّى بِهِ الضَّيْفُ وَقَدْ يُحْضِرُ شَيْئًا يَعْرِفُ الضَّيْفُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّفُهُ له فيتأذى الضيف لِشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ وَكُلُّ هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ لِأَنَّ أَكْمَلَ إِكْرَامِهِ إِرَاحَةُ خَاطِرِهِ وَإِظْهَارُ السُّرُورِ بِهِ وَأَمَّا فِعْلُ(13/213)
الْأَنْصَارِيِّ وَذَبْحُهُ الشَّاةَ فَلَيْسَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ بَلْ لَوْ ذَبَحَ أَغْنَامًا بَلْ جِمَالًا وَأَنْفَقَ أَمْوَالًا فِي ضِيَافَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ مَسْرُورًا بِذَلِكَ مَغْبُوطًا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ) الْمُدْيَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا هِيَ السِّكِّينُ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ وَالْحَلُوبُ ذَاتُ اللَّبَنِ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَرَكُوبٍ وَنَظَائِرِهِ قَوْلُهُ (فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الشِّبَعِ وَمَا جَاءَ فِي كَرَاهَةِ الشِّبَعِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيُنْسِي أَمْرَ الْمُحْتَاجِينَ وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمُرَادُ السُّؤَالُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّ شُكْرِهِ وَالَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ السُّؤَالَ هُنَا سُؤَالُ تَعْدَادِ النِّعَمِ وإعلام بالامتنان بها وإظهار الكرامة باسباغها لاسؤال تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَمُحَاسَبَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ فِي إِسْنَادِ الطَّرِيقِ الثَّانِي (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنْبَأَنَا أَبُو هِشَامٍ يَعْنِي الْمُغِيرَةَ بْنَ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا يَزِيدُ أَنْبَأَنَا أَبُو حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْإِسْنَادُ فِي النُّسَخِ بِبِلَادِنَا وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّهُ وقع هكذا فى رواية بن مَاهَانَ وَفِي رِوَايَةِ الرَّازِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْجُلُودِيِّ وَأَنَّهُ وَقَعَ مِنْ رِوَايَةِ السَّنْجَرِيِّ عَنِ الْجُلُودِيِّ بِزِيَادَةِ رَجُلٍ بَيْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَلَمَةَ وَيَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ هُوَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قال أبو على الجيانى ولابد من إثبات عبد الواحد ولايتصل الحديث(13/214)
إلا به قال وكذلك خرجه أبومسعود الدِّمَشْقِيُّ فِي الْأَطْرَافِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ الْجَيَّانِيُّ وَمَا وَقَعَ فِي رواية بن مَاهَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ إِسْقَاطِهِ خَطَأٌ بَيِّنٌ قُلْتُ وَنَقَلَهُ خَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَافِ بِإِسْقَاطِ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَالظَّاهِرُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَالُ مُغِيرَةَ وَيَزِيدَ أنه لابد مِنْ إِثْبَاتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ كَمَا قَالَهُ الْجَيَّانِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي وَهُوَ حَدِيثُ طَعَامِ جَابِرٍ فَفِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْفَوَائِدِ وَجُمَلٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ مِنْهَا الدَّلِيلُ الظَّاهِرُ وَالْعِلْمُ الْبَاهِرُ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَحَادِيثُ آحَادٍ بِمِثْلِ هَذَا حَتَّى زَادَ مَجْمُوعُهَا عَلَى التَّوَاتُرِ وَحَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِالْمَعْنَى الَّذِي اشْتَرَكَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآحَادُ وَهُوَ انْخِرَاقُ الْعَادَةِ بِمَا أَتَى بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ الْكَثْرَةَ الظَّاهِرَةَ وَنَبْعِ الْمَاءِ وَتَكْثِيرِهِ وَتَسْبِيحِ الطَّعَامِ وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ كَالدَّلَائِلِ لِلْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَصَاحِبِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الحليمىوأبى بَكْرٍ الْبَيْهَقِيِّ الْإِمَامِ الْحَافِظِ وَغَيْرِهِمْ بِمَا هُوَ مشهور وأحسنها كتاب البيهقى فلل هـ الحمد على ماأنعم بِهِ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْنَا بِإِكْرَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ
[2039] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ) هُوَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ قَوْلُهُ (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَصًا) هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْمِيمِ أَيْ رَأَيْتُهُ ضَامِرَ الْبَطْنِ مِنَ الْجُوعِ قَوْلُهُ (فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي) أَيِ انْقَلَبْتُ وَرَجَعْتُ وَوَقَعَ فِي نُسَخٍ فَانْكَفَيْتُ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ بَلِ الصَّوَابُ انْكَفَأْتُ بِالْهَمْزِ(13/215)
قَوْلُهُ (فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا) وَهُوَ وِعَاءٌ مِنْ جِلْدٍ مَعْرُوفٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا الْكَسْرُ أَشْهَرُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَوْلُهُ (وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ) هي بضم الياء تَصْغِيرُ بَهِيمَةٍ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الضَّأْنِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَتُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَالشَّاةِ وَالسَّخْلَةِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّ الدَّاجِنَ مَا أَلِفَ الْبُيُوتَ قَوْلُهُ (فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) فِيهِ جَوَازُ الْمُسَارَرَةِ بِالْحَاجَةِ بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي مَوْضِعهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ جَابِرًا قَدْ صنع لكم سورا فحى هلابكم) أَمَّا السُّورُ فَبِضَمِّ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ وَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ وَقِيلَ الطَّعَامُ مُطْلَقًا وَهِيَ لَفْظَةٌ فَارِسِيَّةٌ وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَلْفَاظِ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَدُلُّ على جوازه وأما حى هَلًا بِتَنْوِينِ هَلَا وَقِيلَ بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى وَزْنِ عَلَا وَيُقَالُ حَيْ هَلْ فَمَعْنَاهُ عَلَيْكَ بكذا إو ادع بكذا قاله أبوعبيد وَغَيْرُهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَعْجِلْ بِهِ وَقَالَ الْهَرَوِيُّ مَعْنَاهُ هَاتِ وَعَجِّلْ بِهِ قَوْلُهُ (وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْدُمُ النَّاسَ) إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم دعاهم فجاؤا تَبَعًا لَهُ كَصَاحِبِ الطَّعَامِ إِذَا دَعَا طَائِفَةً يَمْشِي قُدَّامَهُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ لَا يَتَقَدَّمُهُمْ وَلَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ وَطْءِ(13/216)
عَقِبَيْهِ وَفَعَلَهُ هُنَا لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ قَوْلُهُ (حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي فَقَالَتْ بِكَ وَبِكَ) أَيْ ذَمَّتْهُ وَدَعَتْ عَلَيْهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ بِكَ تَلْحَقُ الْفَضِيحَةُ وَبِكَ يَتَعَلَّقُ الذَّمُّ وَقِيلَ مَعْنَاهُ جَرَى هَذَا بِرَأْيِكَ وَسُوءِ نَظَرِكَ وَتَسَبُّبِكَ قَوْلُهُ (قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ لِي) مَعْنَاهُ أَنَّى أَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا عِنْدَنَا فَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمَصْلَحَةِ قَوْلُهُ (ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ ثُمَّ قَالَ ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ) هَذِهِ اللَّفْظَةُ وَهِيَ ادْعِي وَقَعَتْ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ هَكَذَا ادْعِي بِعَيْنٍ ثُمَّ يَاءٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمَرْأَةِ ولهذا قال فلتخبز معك وفى بعضها اذعونى بِوَاوٍ وَنُونٍ وَفِي بَعْضِهَا ادْعُنِي وَهُمَا أَيْضًا صَحِيحَانِ وَتَقْدِيرُهُ اطْلُبُوا وَاطْلُبْ لِي خَابِزَةً وَقَوْلُهُ عمد بفتح الميم وقوله بَصَقَ هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ وَفِي بَعْضِهَا بَسَقَ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ وَالْمَشْهُورُ بَصَقَ وَبَزَقَ وَحَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ بَسَقَ لَكِنَّهَا قَلِيلَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ) أَيِ اغْرِفِي وَالْقَدَحُ الْمِغْرَفَةُ يُقَالُ قَدَحْتُ الْمَرَقَ أَقْدَحُهُ بِفَتْحِ الدَّالِ غَرَفْتُهُ قَوْلُهُ (وَهُمْ أَلْفٌ فَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ وَإِنَّ عَجِينَتَنَا لَتُخْبَزُ كَمَا هُوَ) قَوْلُهُ تَرْكُوهُ وَانْحَرَفُوا أَيْ شَبِعُوا وَانْصَرَفُوا وَقَوْلُهُ تَغِطُّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ تَغْلِي وَيُسْمَعُ غَلَيَانُهَا وَقَوْلُهُ كَمَا هُوَ يَعُودُ إِلَى الْعَجِينِ وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَمَيْنِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ أَحَدَهُمَا تَكْثِيرُ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ وَالثَّانِي عِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَذَا الطَّعَامَ الْقَلِيلَ الَّذِي يَكْفِي فِي الْعَادَةِ خَمْسَةَ أَنْفُسٍ أَوْ نَحْوَهُمْ سَيَكْثُرُ فَيَكْفِي أَلْفًا وَزِيَادَةً فَدَعَا لَهُ أَلْفًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ صَاعُ شَعِيرٍ وَبُهَيْمَةٌ والله أعلم وأما الحديث الثالث وهو حَدِيثُ أَنَسٍ فِي طَعَامِ أَبِي طَلْحَةَ فَفِيهِ أَيْضًا هَذَانِ الْعَلَمَانِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةَ وَهُمَا تَكْثِيرُ الْقَلِيلِ وَعِلْمُهُ(13/217)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَذَا الْقَلِيلَ سَيُكَثِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَكْفِي هَؤُلَاءِ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ فَدَعَاهُمْ لَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى هُنَا حَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَ مِنْ طَرِيقٍ وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقٍ وَهُمَا قَضِيَّتَانِ جَرَتْ فِيهِمَا هَاتَانِ الْمُعْجِزَتَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ وَأُمَّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرْسَلَا أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْرَاصِ شَعِيرٍ قَالَ أَنَسٌ فَذَهَبْتُ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ أَلِطَعَامٍ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَعَهُ قُومُوا فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلُمِّي مَا عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ حَتَّى أَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلًا أَوْ ثَمَانُونَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ(13/218)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2040] (أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُلْتُ نَعَمْ) وَقَوْلُهُ (أَلِطَعَامٍ فَقُلْتُ نَعَمْ) هَذَانِ عَلَمَانِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَذَهَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ عَلَمٌ ثَالِثٌ كَمَا سَبَقَ وَتَكْثِيرُ الطَّعَامِ عَلَمٌ رَابِعٌ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثِ جَابِرٍ مِنِ ابْتِلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَالِاخْتِبَارُ بِالْجُوعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَشَاقِّ لِيَصْبِرُوا فَيَعْظُمَ أَجْرُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ وَفِيهِ ما كانوا عليه من كتمان مابهم وَفِيهِ مَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِأَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ بَعْثِ الْهَدِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ لِأَنَّهَا وَإِنْ قَلَّتْ فَهِيَ خَيْرٌ مِنَ الْعَدَمِ وَفِيهِ جُلُوسُ الْعَالِمِ لِأَصْحَابِهِ يُفِيدُهُمْ وَيُؤَدِّبُهُمْ وَاسْتِحْبَابُ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ وَفِيهِ انْطِلَاقُ صَاحِبِ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيِ الضِّيفَانِ وَخُرُوجُهُ لِيَتَلَقَّاهُمْ وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِأُمِّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَدَلَالَةٌ عَلَى عَظِيمِ فِقْهِهَا وَرُجْحَانِ عَقْلِهَا لِقَوْلِهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الطَّعَامَ فَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْهَا فِي مجئ الجمع العظيم لم يفعلها فلاتحزن مِنْ ذَلِكَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ فَتِّ الطَّعَامِ وَاخْتِيَارُ الثَّرِيدِ عَلَى الْغَمْسِ بِاللُّقَمِ وَقَوْلُهُ (عَصَرَتْ عَلَيْهِ عُكَّةً) هِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ وَهِيَ وِعَاءٌ صَغِيرٌ مِنْ جِلْدٍ لِلسَّمْنِ خَاصَّةً وَقَوْلُهُ (فَآدَمَتْهُ) هُوَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ لُغَتَانِ آدَمَتْهُ وَأَدَمَتْهُ أَيْ جَعَلَتْ فِيهِ إِدَامًا وَإِنَّمَا أَذِنَ لِعَشَرَةٍ عَشَرَةٍ لِيَكُونَ أَرْفَقَ بِهِمْ فَإِنَّ الْقَصْعَةَ الَّتِي فت فيها تلك الأقراص(13/219)
لايتحلق عليها أكثر من عشرة الابضرر يَلْحَقُهُمْ لِبُعْدِهَا عَنْهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَفِيهِ أَنَّ أَنَسًا قَالَ بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَدْعُوَهُ وَقَدْ جَعَلَ طَعَامًا فَأَقْبَلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النَّاسِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَاسْتَحْيَيْتُ فَقُلْتُ أَجِبْ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ لِلنَّاسِ قُومُوا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَضِيَّةٌ أخرى بلاشك(13/220)
وَفِيهَا مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةُ هَذَا الْعَلَمِ الْآخَرِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ اخراج ذلك الشئ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ الْكَرِيمَاتِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قوله (وتركوا سؤرا) هو بالهمزأى بَقِيَّةً قَوْلُهُ (فَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى الْبَابِ حَتَّى أَتَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ له يارسول الله إنما كان شئ يَسِيرٌ قَالَ هَلُمَّهْ فَإِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ فِيهِ الْبَرَكَةَ) أَمَّا قِيَامُ أَبِي طَلْحَةَ فَلِانْتِظَارِ إِقْبَالِ النبى صلى الله عليه وسلم فلماأقبل تلقاه وقوله إنما كان شئ يَسِيرٌ هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ وَهُوَ صَحِيحٌ وكان هنا تامة لاتحتاج خَبَرًا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ فِيهِ الْبَرَكَةَ) فِيهِ عَلَمٌ ظَاهِرٌ من(13/221)
أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَقَوْلُهُ (ثُمَّ أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلَ أَهْلُ الْبَيْتِ) فِيهِ أَنْ يُسْتَحَبَّ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُمْ بَعْدَ فَرَاغِ الضِّيفَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ عَصَبَ بَطْنَهُ بِعِصَابَةٍ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا وَأَحَدُهُمَا يُبَيِّنُ الْآخَرَ وَيُقَالُ عَصَّبَ وَعَصَبَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ قَوْلُهُ (فَذَهَبْتُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ زوج(13/222)
أُمِّ سُلَيْمٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَقُلْتُ يَا أَبَتَاهُ) فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ لِقَوْلِهِ يَا أَبَتَاهُ وَإِنَّمَا هُوَ زَوْجُ أُمِّهِ وَقَوْلُهُ بِنْتُ مِلْحَانَ هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب جَوَازِ أَكْلِ الْمَرَقِ وَاسْتِحْبَابِ أَكْلِ الْيَقْطِينِ وَإِيثَارِ أَهْلِ الْمَائِدَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَإِنْ كَانُوا ضِيفَانًا إِذَا لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ صَاحِبُ الطَّعَامِ)
[2041] فِيهِ حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَّبَ إِلَيْهِ خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ قَالَ أَنَسٌ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ(13/223)
مِنْ حَوَالَيِ الصَّحْفَةِ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمئِذٍ) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا رأيت ذلك جعلت ألقيه إليه ولاأطعمه وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَنَسٌ فَمَا صُنِعَ لِي طعام بعد أقدر على أن بصنع فيه دباء الاصنع فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَإِبَاحَةُ كَسْبِ الْخَيَّاطِ وَإِبَاحَةُ الْمَرَقِ وَفَضِيلَةُ أَكْلِ الدُّبَّاءِ وَأَنَّهُ يستحب أن يحب الدباء وكذلك كل شئ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَأَنَّهُ يَحْرِصُ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ الْمَائِدَةِ إِيثَارُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إِذَا لَمْ يَكْرَهْهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ وَأَمَّا تَتَبُّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الصَّحْفَةِ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ حوالى جانبه وناحيته من الصحفة لامن حوالى جميع جوانبها فقد أمر بالأكل ممايلى الْإِنْسَانَ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا وَإِنَّمَا نَهَى ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَقَذَّرَهُ جَلِيسُهُ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لايتقذره أَحَدٌ بَلْ يَتَبَرَّكُونَ بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِبُصَاقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُخَامَتِهِ وَيُدَلِّكُونَ بِذَلِكَ وُجُوهَهُمْ وَشَرِبَ بَعْضُهُمْ بَوْلَهُ وَبَعْضُهُمْ دَمَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هو معروف من عَظِيمِ اعْتِنَائِهِمْ بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي يُخَالِفُهُ فِيهَا غَيْرُهُ وَالدُّبَّاءُ(13/224)
هُوَ الْيَقْطِينُ وَهُوَ بِالْمَدِّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وحكى القاضي عياض فيه القصر أيضاالواحدة دباءة أو دباة والله أعلم
(باب استحباب وضع النوى خارج التمر واستحباب دعاء الضيف لأهل الطعام وطلب الدعاء من الضيف الصالح واجابته إلى ذلك)
[2042] فِيهِ (يَزِيدُ بْنُ خُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَزَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى فقربنا له طعاما ورطبة فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى قَالَ شُعْبَةُ هُوَ ظَنِّيٌّ وَهُوَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلْقَاءُ النَّوَى بَيْنَ الْإِصْبَعَيْنِ ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ أَبِي وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ ادْعُ اللَّهَ لَنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رزقتهم واغفرلهم وَارْحَمْهُمْ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ذَكَرَهُ وَقَالَ لَمْ يَشُكَّ فِي إِلْقَاءِ النَّوَى بَيْنَ الْإِصْبَعَيْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ بِضَمِّ الْبَاءِ وَيَزِيدُ بْنُ خُمَيْرٍ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَقَوْلُهُ وَوَطْبَةً هَكَذَا رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ وَطْبَةً بِالْوَاوِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ شُعْبَةَ وَالنَّضْرُ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَفَسَّرَهُ النَّضْرُ فَقَالَ الْوَطْبَةُ الْحَيْسُ يَجْمَعُ التَّمْرَ الْبَرْنِيَّ وَالْأَقِطَ الْمَدْقُوقَ وَالسَّمْنَ وَكَذَا ضَبَطَهُ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ وَآخَرُونَ وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَنَا فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا رُطَبَةٌ(13/225)
بِرَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ وَقَالَ هَكَذَا جَاءَ فِيمَا رَأَيْنَاهُ مِنْ نُسَخِ مُسْلِمٌ رُطَبَةٌ بِالرَّاءِ قَالَ وَهُوَ تَصْحِيفٌ مِنَ الرَّاوِي وَإِنَّمَا هُوَ بِالْوَاوِ وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ عَلَى نُسَخِ مُسْلِمٍ هُوَ فِيمَا رَآهُ هُوَ وَإِلَّا فَأَكْثَرُهَا بِالْوَاوِ وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَرْقَانِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ عَنْ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ فِي مُسْلِمٍ وَطِئَةٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَادَّعَى أَنَّهُ الصَّوَابُ وَهَكَذَا ادَّعَاهُ آخَرُونَ وَالْوَطِئَةُ بِالْهَمْزِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ طَعَامٌ يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ كالحيس هذا ما ذكروه ولامنافاة بَيْنَ هَذَا كُلِّهِ فَيُقْبَلُ مَا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وقوله ويلقى النوى بين أصبعيه أى يجعله بَيْنَهُمَا لِقِلَّتِهِ وَلَمْ يُلْقِهِ فِي إِنَاءِ التَّمْرِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ بِالتَّمْرِ وَقِيلَ كَانَ يَجْمَعُهُ عَلَى ظَهْرِ الْأُصْبُعَيْنِ ثُمَّ يَرْمِي بِهِ وَقَوْلُهُ قَالَ شُعْبَةُ هُوَ ظَنِّيٌّ وَهُوَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلْقَاءُ النَّوَى مَعْنَاهُ أَنَّ شُعْبَةَ قَالَ الَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّ إِلْقَاءَ النَّوَى مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ فَأَشَارَ إِلَى تَرَدُّدٍ فِيهِ وَشَكٍّ وَفِي الطَّرِيقِ الثَّانِي جَزَمَ بِإِثْبَاتِهِ وَلَمْ يَشُكَّ فَهُوَ ثابت بهذه الرواية وأما رواية الشك فلاتضر سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ عَلَى هَذِهِ أَوْ تَأَخَّرَتْ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ فِي وَقْتٍ وَشَكَّ فِي وَقْتٍ فَالْيَقِينُ ثابت ولايمنعه النِّسْيَانُ فِي وَقْتٍ آخَرٍ وَقَوْلُهُ فَشَرِبَهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ فِيهِ أَنَّ الشَّرَابَ ونحوه يدارعلى الْيَمِينِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي بَابِهِ قَرِيبًا وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنَ الْفَاضِلِ وَدُعَاءِ الضَّيْفِ بِتَوْسِعَةِ الرِّزْقِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَقَدْ جَمَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(13/226)
(بَاب أَكْلِ الْقِثَّاءِ بِالرُّطَبِ)
[2043] فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ) وَالْقِثَّاءُ بِكَسْرِ الْقَافِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَفِيهِ لُغَةٌ بِضَمِّهَا وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ زيادة قال يكسر حرهذا بَرْدُ هَذَا فِيهِ جَوَازُ أَكْلِهِمَا مَعًا وَأَكْلِ الطعامين معا والتوسع فى الأطعمة ولاخلاف بين العلماء فى جواز هذا ومانقل عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ خِلَافِ هَذَا فَمَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ اعْتِيَادِ التَّوَسُّعِ وَالتَّرَفُّهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب اسْتِحْبَابِ تَوَاضُعِ الْآكِلِ وَصِفَةِ قُعُودِهِ)
[2044] فِيهِ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْعِيًا يَأْكُلُ تَمْرًا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أُتِيَ بِتَمْرٍ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يقسمه وهو محتفر يَأْكُلُ مِنْهُ أَكْلًا ذَرِيعًا وَفِي رِوَايَةٍ أَكْلًا حَثِيثًا قَوْلُهُ (مُقْعِيًا) أَيْ جَالِسًا عَلَى أَلْيَتَيْهِ نَاصِبًا سَاقَيْهِ وَمُحْتَفِزٌ هُوَ بِالزَّايِ أَيْ مُسْتَعْجِلٌ مُسْتَوْفِزٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ فِي جُلُوسِهِ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ مُقْعِيًا وَهُوَ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي صحيح البخارى وغيره لاآكل مُتَّكِئًا عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ فَإِنَّهُ قال المتكئ هنا المتمكن فِي جُلُوسِهِ مِنَ التَّرَبُّعِ وَشِبْهِهِ الْمُعْتَمِدُ عَلَى الْوِطَاءِ تَحْتَهُ قَالَ وَكُلُّ مَنِ اسْتَوَى قَاعِدًا على وطاء فهو متكئ ومعناه لاآكل أَكْلَ مَنْ يُرِيدُ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الطَّعَامِ وَيَقْعُدُ لَهُ مُتَمَكِّنًا بَلْ أَقْعُدُ مُسْتَوْفِزًا وَآكُلُ قَلِيلًا وقوله أكلاذريعا وَحَثِيثًا هُمَا بِمَعْنًى أَيْ مُسْتَعْجِلًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاسْتِيفَازِهِ لِشُغْلٍ آخَرَ فَأَسْرَعَ فِي الْأَكْلِ وَكَانَ اسْتِعْجَالُهُ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ وَيَرُدَّ الْجَوْعَةَ ثُمَّ يَذْهَبَ فِي ذَلِكَ الشُّغْلِ وَقَوْلُهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(13/227)
يَقْسِمُهُ أَيْ يُفَرِّقُهُ عَلَى مَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ وَهَذَا التَّمْرُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرَّعَ بِتَفْرِيقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِهَذَا كَانَ يَأْكُلُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب نَهْيِ الْآكِلِ مَعَ جَمَاعَةٍ عَنْ قران تمرتين ونحوهما فى لقمة إلاباذن أَصْحَابِهِ)
[2045] فِيهِ شُعْبَةُ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ قال كان بن الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ وَكَانَ أَصَابَ النَّاسَ يَوْمئِذٍ جَهْدٌ فَكُنَّا نَأْكُلُ فَيَمُرُّ علينا بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَحْنُ نَأْكُلُ فَيَقُولُ لاتقارنوا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْإِقْرَانِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أخاه قال شعبة لاأرى هذه الكلمة إلامن كلمة بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْنِي الِاسْتِئْذَانَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ جَبَلَةَ عَنِ بن عُمَرَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ هَذَا النَّهْيُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُمْ فَإِذَا أَذِنُوا فَلَا بَأْسَ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالْأَدَبِ فَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ وَعَنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ وَالْأَدَبِ وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مُشْتَرَكًا بينهم فالقران حرام إلابرضاهم(13/228)
وَيَحْصُلُ الرِّضَا بِتَصْرِيحِهِمْ بِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ مِنْ قَرِينَةِ حَالٍ أَوْ إِدْلَالٍ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ بِحَيْثُ يَعْلَمُ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا قَوِيًّا أَنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِهِ وَمَتَى شَكَّ فِي رِضَاهُمْ فَهُوَ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِمْ أولأحدهم اشْتَرَطَ رِضَاهُ وَحْدَهُ فَإِنْ قَرَنَ بِغَيْرِ رِضَاهُ فحرام ويستحب أن يستأذن الآكلين معه ولايجب وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِنَفْسِهِ وَقَدْ ضَيَّفَهُمْ بِهِ فلايحرم عَلَيْهِ الْقِرَانُ ثُمَّ إِنْ كَانَ فِي الطَّعَامِ قِلَّةٌ فَحَسَنٌ أَلَّا يَقْرِنَ لِتَسَاوِيهِمْ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَفْضُلُ عَنْهُمْ فَلَا بَأْسَ بِقِرَانِهِ لَكِنِ الْأَدَبُ مُطْلَقًا التَّأَدُّبُ فِي الْأَكْلِ وَتَرْكِ الشره الاأن يَكُونَ مُسْتَعْجِلًا وَيُرِيدُ الْإِسْرَاعَ لِشُغْلٍ آخَرَ كَمَا سَبَقَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي زَمَنِهِمْ وَحِينَ كَانَ الطَّعَامُ ضيقا فأما اليوم مع اتساع الحال فلاحاجة إِلَى الْإِذْنِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلِ الصَّوَابُ ماذكرنا من التفصيل فإن الاعتبار بعموم اللفظ لابخصوص السَّبَبِ لَوْ ثَبَتَ السَّبَبُ كَيْفَ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ أَصَابَ النَّاسَ جَهْدٌ يَعْنِي قِلَّةً وَحَاجَةً وَمَشَقَّةً وَقَوْلُهُ يَقْرِنُ أَيْ يَجْمَعُ وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ وَقَوْلُهُ نَهَى عَنِ الْإِقْرَانِ هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ الْقِرَانُ يُقَالُ قَرَنَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَالُوا وَلَا يُقَالُ أَقْرَنَ وَقَوْلُهُ قَالَ شعبة لاأرى هذه الكلمة إلا من كلمة بن عمر يعني بالكلمة الكلام وهذا شَائِعٌ مَعْرُوفٌ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شُعْبَةُ لَا يُؤَثِّرُ فِي رَفْعِ الِاسْتِئْذَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ نَفَاهُ بِظَنٍّ وَحُسْبَانٍ وَقَدْ أَثْبَتَهُ سُفْيَانُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فثبت(13/229)
(بَابٌ فِي ادِّخَارِ التَّمْرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَقْوَاتِ لِلْعِيَالِ)
[2046] فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ (لايجوع أَهْلُ بَيْتٍ عِنْدَهُمُ التَّمْرُ) وَفِي الرِّوَايةِ الْأُخْرَى بيت لاتمر فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ فِيهِ فَضِيلَةُ التَّمْرِ وَجَوَازُ الادخال لِلْعِيَالِ وَالْحَثُ عَلَيْهِ وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَحْلَاءَ عَنْ أَبِي الرَّجَالِ مُحَمُّدِ بْنِ عَبْدِ الرحمن عن أمهم عائشة أما طجلاء فبتح الطَّاءِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبِالْمَدِّ وَأَمَّا أَبُو الرِّجَالِ فَلَقَبٌ لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْلَادٍ رِجَالٍ وَأُمُّهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وهذا الاسناد كله مدنيون(13/230)
(باب فضل تمر المدينة)
[2047] فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِمَّا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حِينَ يُصْبِحُ لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ حَتَّى يُمْسِيَ)
[2048] وَفِي الرِّوايَةِ الْأُخْرَى مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لم يضر ذلك اليوم سم ولاسحر وَفِي الرِّوايَةِ الْأُخْرَى إِنَّ فِي عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ شِفَاءً أَوْ إِنَّهَا تِرْيَاقٌ أَوَّلَ الْبُكْرَةِ اللَّابَتَانِ هُمَا الْحَرَّتَانِ وَالْمُرَادُ لَابَتَا الْمَدِينَةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا مَرَّاتٍ وَالسُّمٌّ مَعْرُوفٌ وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ وَالتِّرْيَاقُ بِكَسْرِ التَّاءِ وَضَمِّهَا لغتان ويقال(14/2)
درياق وطرياق أيضا كله فَصِيحٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوَّلَ الْبُكْرَةِ) بِنَصْبِ أَوَّلَ عَلَى الظَّرْفِ وَهُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَنْ تَصَبَّحَ وَالْعَالِيَةُ مَا كَانَ مِنَ الْحَوَائِطِ وَالْقُرَى وَالْعِمَارَاتِ مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ العليا مما يلى نجد أَوِ السَّافِلَةِ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى مِمَّا يَلِي تِهَامَةَ قَالَ الْقَاضِي وَأَدْنَى الْعَالِيَةِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَأَبْعَدُهَا ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ وَالْعَجْوَةُ نَوْعٌ جَيِّدٌ مِنَ التَّمْرِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَضِيلَةُ تَمْرِ الْمَدِينَةِ وَعَجْوَتِهَا وَفَضِيلَةُ التَّصَبُّحِ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْهُ وَتَخْصِيصُ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَعَدَدُ السَّبْعِ من الأمور التى علمها الشارع ولانعلم نَحْنُ حِكْمَتَهَا فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا وَاعْتِقَادُ فَضْلِهَا وَالْحِكْمَةُ فِيهَا وَهَذَا كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَنُصُبِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وأما ماذكره الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ فيه فكلام باطل فلا تلتفت إليه ولاتعرج عَلَيْهِ وَقَصَدْتُ بِهَذَا التَّنْبِيهِ التَّحْذِيرَ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب فَضْلِ الْكَمْأَةِ وَمُدَاوَاةِ الْعَيْنِ بِهَا)
[2049] فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) وَفِي رِوَايَةٍ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى(14/3)
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَّا الْكَمْأَةُ فَبِفَتْحِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَفِي الْإِسْنَادِ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ هُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَالْحَسَنُ الْعُرَنِيُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا نُونٌ مَنْسُوبٌ إِلَى عُرَيْنَةَ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَكَثِيرُونَ شَبَّهَهَا بِالْمَنِّ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْصُلُ لَهُمْ بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا عِلَاجٍ وَالْكَمْأَةُ تَحْصُلُ بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا عِلَاجٍ وَلَا زَرْعِ بِزْرٍ وَلَا سقى ولاغيره وَقِيلَ هِيَ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى على بنى اسرائيل حقيقة عملابظاهر اللَّفْظِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَاؤُهَا شفاء للعين) قبل هُوَ نَفْسُ الْمَاءِ مُجَرَّدًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنْ يُخْلَطَ مَاؤُهَا بِدَوَاءٍ وَيُعَالَجَ بِهِ الْعَيْنُ وَقِيلَ إِنْ كَانَ لِبُرُودَةِ مَا فِي الْعَيْنِ مِنْ حَرَارَةٍ فَمَاؤُهَا مُجَرَّدًا شِفَاءٌ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذلك فمركب(14/4)
مَعَ غَيْرِهِ وَالصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ مَاءَهَا مُجَرَّدًا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ مُطْلَقًا فَيُعْصَرُ مَاؤُهَا وَيُجْعَلُ فِي الْعَيْنِ مِنْهُ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَا وَغَيْرِي فِي زَمَنِنَا مَنْ كَانَ عَمِيَ وَذَهَبَ بَصَرُهُ حَقِيقَةً فَكَحَّلَ عَيْنَهُ بِمَاءِ الْكَمْأَةِ مُجَرَّدًا فَشُفِيَ وَعَادَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ وَهُوَ الشَّيْخُ الْعَدْلُ الْأَيْمَنُ الْكَمَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيُّ صَاحِبُ صَلَاحٍ وَرِوَايَةٍ لِلْحَدِيثِ وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِمَاءِ الْكَمْأَةِ اعْتِقَادًا فى الحديث وتبركابه والله أعلم
(باب فضيلة الأسود من الكباث)
[2050] فِيهِ جَابِرٌ (قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَنَحْنُ نَجْنِي الْكَبَاثَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كأنك رعيت الغنم قالنعم وهل من نبى الاوقد رَعَاهَا أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ) الْكَبَاثُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَبَعْدَهَا مُخَفَّفَةٌ مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ أَلِفٌ ثُمَّ مُثَلَّثَةٌ قَالَ(14/5)
أَهْلُ اللُّغَةِ هُوَ النَّضِيجُ مِنْ ثَمَرِ الْأَرَاكِ وَمَرُّ الظَّهْرَانِ عَلَى دُونِ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَكَّةَ مَعْرُوفٌ سَبَقَ بَيَانُهُ وَهُوَ بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ رِعَايَةِ الْغَنَمِ قَالُوا وَالْحِكْمَةُ فِي رِعَايَةِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَهَا لِيَأْخُذُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّوَاضُعِ وَتَصْفَى قُلُوبُهُمْ بِالْخَلْوَةِ وَيَتَرَقَّوْا مِنْ سِيَاسَتِهَا بِالنَّصِيحَةِ إِلَى سِيَاسَةِ أُمَمِهِمْ بِالْهِدَايَةِ وَالشَّفَقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بَاب فَضِيلَةِ الْخَلِّ وَالتَّأَدُّمِ بِهِ
[2051] فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نِعْمَ الْإِدَامُ أَوِ الْأُدُمُ الْخَلُّ) وفى رواية نعم الأدم بلاشك
[2052] وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْأُدُمَ فقالوا ما عندنا إلاخل فَدَعَا بِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ بِهِ وَيَقُولُ نِعْمَ الْأُدُمُ الْخَلُّ وَذَكَرَهُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى بِزِيَادَةٍ فِي الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ الْخَلِّ وَأَنَّهُ يُسَمَّى أُدُمًا وَأَنَّهُ أُدُمٌ فَاضِلٌ جَيِّدٌ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الادام(14/6)
بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ يُقَالُ أَدَمَ الْخُبْزَ يَأْدِمُهُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَجَمْعُ الْإِدَامِ أُدُمٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالدَّالِ كَإِهَابٍ وَأُهُبٍ وَكِتَابٍ وَكُتُبٍ وَالْأَدْمُ بِإِسْكَانِ الدَّالِ مُفْرَدٌ كَالْإِدَامِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْحَدِيثِ عَلَى الْأَكْلِ تَأْنِيسًا لِلْآكِلِينَ وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ مَعْنَاهُ مَدْحُ الاقتصار فى المأكل ومنع النفس عن مَلَاذِّ الْأَطْعِمَةِ تَقْدِيرُهُ ائْتَدِمُوا بِالْخَلِّ وَمَا فِي معناه مما تخف مؤنته ولايعز وجوده ولاتتأنقوا فِي الشَّهَوَاتِ فَإِنَّهَا مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ مَسْقَمَةٌ لِلْبَدَنِ هَذَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ وَالصَّوَابُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ أَنَّهُ مَدْحٌ لِلْخَلِّ نَفْسِهِ وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ فِي الْمَطْعَمِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَمَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدَ أُخَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قول جابر فمازلت أُحِبُّ الْخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُهَا مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَقَوْلِ أَنَسٍ مَا زِلْتُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَدْحٌ لِلْخَلِّ نَفْسِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَرَّاتٍ أَنَّ تَأْوِيلَ الرَّاوِي إِذَا لَمْ يُخَالِفِ الظَّاهِرَ يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَالْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَهَذَا كَذَلِكَ بَلْ تَأْوِيلُ الرَّاوِي هُنَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَيَتَعَيَّنَ اعْتِمَادُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ أَخَذَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ فِلَقًا مِنْ خُبْزٍ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ فِلَقًا وَهُوَ صَحِيحٌ(14/7)
وَمَعْنَاهُ أَخْرَجَ الْخَادِمُ وَنَحْوُهُ فِلَقًا وَهِيَ الْكَسْرُ قَوْلُهُ (فَأَخَذَ بِيَدِي) فِيهِ جَوَازُ أَخْذِ الْإِنْسَانِ بِيَدِ صَاحِبِهِ فِي تَمَاشِيهِمَا قَوْلُهُ (فَدَخَلْتُ الْحِجَابَ عَلَيْهَا مَعْنَاهُ دَخَلْتُ الْحِجَابَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْمَرْأَةُ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ رَأَى بَشَرَتَهَا قَوْلُهُ (فَأَتَى بِثَلَاثَةِ أَقْرِصَةٍ فَوُضِعْنَ عَلَى نَبِيٍّ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ نَبِيٌّ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ مُشَدَّدَةٍ وَفَسَّرُوهُ بِمَائِدَةٍ مِنْ خُوصٍ وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الرُّوَاةِ أَوِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ بَتِّيٌّ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مثناة من تحت مشددة والبت كساء من وبر أوصوف فَلَعَلَّهُ مِنْدِيلٌ وُضِعَ عَلَيْهِ هَذَا الطَّعَامُ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْبَاءِ وَبَعْدَهَا نُونٌ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ قَالَ الْقَاضِي الْكِنَانِيُّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ طَبَقٌ مِنْ خُوصٍ قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ (يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ) هُوَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ مَنْسُوبٌ إِلَى وُحَاظَةَ قَبِيلَةٍ مِنْ حِمْيَرَ هَكَذَا ضَبَطَهُ الْجُمْهُورُ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ شُيُوخِهِمْ قَالَ وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ قوله (إن النبي صلى الله عليه وسلم أَتَى بِثَلَاثَةِ أَقْرِصَةٍ فَجَعَلَ قُدَّامَهُ قُرْصًا وَقُدَّامِي قُرْصًا وَكَسَرَ الثَّالِثَ فَوَضَعَ نِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَنِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيَّ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ مُوَاسَاةِ الْحَاضِرِينَ عَلَى الطَّعَامِ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ جَعْلُ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِ بين أيديهم بالسوية وأنه لابأس بِوَضْعِ الْأَرْغِفَةِ وَالْأَقْرَاصِ صِحَاحًا غَيْرَ مَكْسُورَةٍ(14/8)
(بَاب إِبَاحَةِ أَكْلِ الثُّومِ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ خِطَابَ الْكِبَارِ تَرْكُهُ وَكَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ)
[2053] قَوْلُهُ فِي الثُّومِ (فَسَأَلْتُهُ أَحَرَامٌ هُوَ قال لاولكنى أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ رِيحِهِ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِإِبَاحَةِ الثُّومِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنْ يُكْرَهُ لِمَنْ أَرَادَ حُضُورَ الْمَسْجِدِ أَوْ حُضُورَ جَمْعٍ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ أَوْ مُخَاطَبَةَ الْكِبَارِ وَيَلْحَقُ بِالثُّومِ كل ماله رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ (وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى) مَعْنَاهُ تَأْتِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْوَحْيُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إِنِّي أُنَاجِي من لاتناجى وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْرُكُ الثُّومَ دَائِمًا لِأَنَّهُ يَتَوَقَّعُ مَجِيءَ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ كُلَّ سَاعَةٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ الثُّومِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ الْبَصَلُ وَالْكُرَّاثُ وَنَحْوُهَا فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لافى جَوَابِ قَوْلِهِ أَحَرَامٌ هُوَ وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ يَقُولُ مَعْنَى الْحَدِيثِ لَيْسَ بِحَرَامٍ فِي حَقِّكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ أَكَلَ مِنْهُ وبعث بفضله إلى) العلماءقال الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ أَنْ يُفْضِلَ مِمَّا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَضْلَةً لِيُوَاسِيَ بها من بعده لاسيما إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِفَضْلَتِهِ وَكَذَا إِذَا كَانَ فِي الطَّعَامِ قِلَّةً وَلَهُمْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ ويتأكد هذا فى حق الضيف لاسيما إِنْ كَانَتْ عَادَةُ أَهْلِ الطَّعَامِ أَنْ(14/9)
يُخْرِجُوا كُلَّ مَا عِنْدَهُمْ وَتَنْتَظِرُ عِيَالُهُمُ الْفَضْلَةَ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَنَقَلُوا أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِفْضَالَ هَذِهِ الْفَضْلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ (نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّفْلِ وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعُلْوِ ثُمَّ ذَكَرَ كَرَاهَةَ أَبِي أَيُّوبَ لِعُلْوِهِ وَمَشْيِهِ فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَوَّلَ إِلَى الْعُلْو) أَمَّا نُزُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا فىالسفل فَقَدْ صَرَّحَ بِسَبَبِهِ وَأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ وَقَاصِدِيهِ وَأَمَّا كَرَاهَةُ أَبِي أَيُّوبَ فَمِنَ الْأَدَبِ الْمَحْبُوبِ الْجَمِيلِ وَفِيهِ إِجْلَالُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْأَدَبِ مَعَهُمْ وَالسُّفْلُ وَالْعُلْوُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا وَضَمِّهِ لُغَتَانِ وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ مِنْهَا نزوله صلى الله عليه وسلم وَمِنْهَا أَدَبُهُ مَعَهُ وَمِنْهَا مُوَافَقَتُهُ فِي تَرْكِ الثُّومِ وَقَوْلُهُ (إِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ) وَمِنْ أَوْصَافِ الْمُحِبِّ الصَّادِقِ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّ مَحْبُوبُهُ وَيَكْرَهَ مَا كَرِهَ قَوْلُهُ (فَكَانَ يَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَإِذَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ) يَعْنِي إِذَا بَعَثَ إِلَيْهِ فَأَكَلَ مِنْهُ حَاجَتَهُ ثُمَّ رَدَّ الْفَضْلَةَ أَكَلَ أَبُو أَيُّوبَ مِنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(14/10)
تَبَرُّكًا فَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ أَهْلِ الْخَيْرِ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ (فَقِيلَ لَهُ لَمْ يَأْكُلْ فَفَزِعَ) يَعْنِي فَزِعَ لِخَوْفِهِ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ مِنْهُ أَمْرٌ أَوْجَبَ الِامْتِنَاعَ مِنْ طَعَامِهِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بن يزيد أخوزيد الْأَحْوَلِ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ بِبِلَادِنَا أَخُو زَيْدٍ بِالْخَاءِ وَهُوَ غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ وَصَوَابُهُ أَبُو زَيْدٍ بِالْبَاءِ كُنْيَةً لِثَابِتٍ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَلَى الصَّوَابِ عَنْ جَمِيعِ شُيُوخِهِمْ وَنُسَخِ بِلَادِهِمْ وَأَنَّهُ فِي كُلِّهَا أَبُو زَيْدٍ بِالْبَاءِ قَالَ وَوَقَعَ لِبَعْضِهِمْ أَخُو زَيْدٍ وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ وَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتُ بْنُ زيد أبو زَيْدُ الْأَنْصَارِيُّ الْبَصْرِيُّ الْأَحْوَلُ وَحَكَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ ثَابِتُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَالْأَصَحُّ ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ بِالْيَاءِ أَبُو زَيْدٍ وَقَوْلُهُ (فِي أَصْلِ كِتَابِ مُسْلِمٍ الْأَحْوَلُ) مَرْفُوعٌ صِفَةٌ لِثَابِتٍ والله أعلم
(باب اكرام الصيف وَفَضْلِ إِيثَارِهِ
[2054] )
قَوْلُهُ (إِنِّي مَجْهُودٌ) أَيْ أَصَابَنِي الْجَهْدُ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَالْحَاجَةُ وَسُوءُ الْعَيْشِ وَالْجُوعُ قوله (إن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَتَاهُ هَذَا الْمَجْهُودُ أَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَقَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَالَّذِي(14/11)
بعثك بالحق ما عندى إلاماء فَقَالَ مَنْ يُضَيِّفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فقام رجل من الأنصار فقال أنا يارسول اللَّهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ وَذَكَرَ صَنِيعَهُ وَصَنِيعَ امْرَأَتِهِ) هَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ وَضِيقِ حَالِ الدُّنْيَا وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكَبِيرِ الْقَوْمِ أَنْ يَبْدَأَ فِي مُوَاسَاةِ الضَّيْفِ وَمَنْ يَطْرُقُهُمْ بِنَفْسِهِ فَيُوَاسِيهِ مِنْ مَالِهِ أَوَّلًا بِمَا يَتَيَسَّرُ إِنْ أَمْكَنَهُ ثُمَّ يَطْلُبُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ أَصْحَابِهِ وَمِنْهَا الْمُوَاسَاةُ فِي حَالِ الشَّدَائِدِ وَمِنْهَا فَضِيلَةُ إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَإِيثَارِهِ وَمِنْهَا مَنْقَبَةٌ لِهَذَا الْأَنْصَارِيِّ وَامْرَأَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنْهَا الِاحْتِيَالُ فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ إِذَا كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْهُ رِفْقًا بِأَهْلِ الْمَنْزِلِ لِقَوْلِهِ أَطْفِئِي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ فَإِنَّهُ لو رأى قلة الطعام وأنهما لايأكلان مَعَهُ لَامْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ وَقَوْلُهُ (فَانْطَلَقَ بِهِ إلى رحله) إلى مَنْزِلِهِ وَرَحْلُ الْإِنْسَانِ هُوَ مَنْزِلُهُ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ وَبَرٍ قَوْلُهُ (فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ قَالَتْ لَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي قَالَ فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الصِّبْيَانَ لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الْأَكْلِ وَإِنَّمَا تَطْلُبُهُ أَنْفُسُهُمْ عَلَى عَادَةِ الصِّبْيَانِ مِنْ غَيْرِ جُوعٍ يَضُرُّهُمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عَلَى حَاجَةٍ بِحَيْثُ يَضُرُّهُمْ تَرْكُ الْأَكْلِ لَكَانَ إِطْعَامُهُمْ وَاجِبًا وَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الضِّيَافَةِ وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَتْرُكَا وَاجِبًا بَلْ أَحْسَنَا وَأَجْمَلَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَمَّا هُوَ وَامْرَأَتُهُ فَآثَرَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِرِضَاهُمَا مَعَ حَاجَتِهِمَا وَخَصَاصَتِهِمَا فَمَدَحَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْزَلَ فِيهِمَا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ولو كان بهم خصاصة فَفِيهِ فَضِيلَةُ الْإِيثَارِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى فَضِيلَةِ الْإِيثَارِ بِالطَّعَامِ وَنَحْوِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَحُظُوظِ النُّفُوسِ أَمَّا الْقُرُبَاتُ فَالْأَفْضَلُ أن لايؤثر بها لأن الحق فيها لل هـ تعالى(14/12)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[2055] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ) قَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ بِالْعَجَبِ مِنَ اللَّهِ رِضَاهُ ذَلِكَ قال وقد يكونالمراد عَجِبَتْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَشْرِيفًا قَوْلُهُ (أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الْجَهْدِ فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ أَنْفُسَنَا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُنَا فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ بِنَا) أَمَّا قَوْلُهُ الْجَهْدُ فَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ الْجُوعُ وَالْمَشَقَّةُ وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَقَوْلُهُ (فَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُنَا) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ عَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ كَانُوا مُقِلِّينَ لَيْسَ عندهم(14/13)
شَيْءٌ يُوَاسُونَ بِهِ قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجِيءُ مِنَ اللَّيْلِ فيسلم تسليما لايوقظ نَائِمًا وَيَسْمَعُ الْيَقْظَانَ) هَذَا فِيهِ آدَابُ السَّلَامِ عَلَى الْأَيْقَاظِ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ نِيَامٌ أَوْ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ وَأَنَّهُ يَكُونُ سَلَامًا مُتَوَسِّطًا بين الرفع والمخافتة بحيث يسمع الايقاظ ولايهوش عَلَى غَيْرِهِمْ قَوْلُهُ (مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى هَذِهِ الْجَرْعَةِ) هِيَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا حَكَاهُمَا بن السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ وَهِيَ الْحَثْوَةُ مِنَ الْمَشْرُوبِ وَالْفِعْلُ مِنْهُ جَرِعْتُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ قَوْلُهُ (وَغَلَتْ فِي بَطْنِي) بَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ دَخَلَتْ وَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا فَقَالَ اللَّهُمَّ أَطْعِمْ من أطعمنى وأسق من سقانى) فِيهِ الدُّعَاءُ لِلْمُحْسِنِ وَالْخَادِمِ وَلِمَنْ سَيَفْعَلُ خَيْرًا وفيه(14/14)
مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِلْمِ وَالْأَخْلَاقِ الْمُرضِيَةِ وَالْمَحَاسِنِ الْمُرْضِيَةِ وَكَرَمِ النَّفْسِ وَالصَّبْرِ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ حُقُوقِهِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ نصيبه من اللبن قوله فى الأعنز (اذاهن حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ) هَذِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ وَآثَارِ بَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (فَحَلَبْتُ فِيهِ حَتَّى عَلَتْهُ رَغْوَةٌ) هِيَ زَبَدُ اللَّبَنِ الَّذِي يَعْلُوهُ وَهِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ مَشْهُورَاتٌ وَرِغَاوَةٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَحُكِيَ ضمها ورغاية بِالضَّمِّ وَحُكِيَ الْكَسْرُ وَارْتَغَيْتُ شَرِبْتُ الرَّغْوَةَ قَوْلُهُ (فَلَمَّا عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَوِيَ وَأَصَبْتُ دَعَوْتَهُ ضَحِكْتُ حَتَّى أُلْقِيتُ إِلَى الْأَرْضِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم احدى سوآتك يامقداد) مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ حُزْنٌ شَدِيدٌ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ أَذْهَبَ نَصِيبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَرَّضَ لِأَذَاهُ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَوِيَ وَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ فَرِحَ وَضَحِكَ حَتَّى سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ كَثْرَةِ ضَحِكِهِ لِذَهَابِ مَا كَانَ بِهِ مِنَ الْحُزْنِ وَانْقِلَابِهِ سُرُورًا بِشُرْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ لِمَنْ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ وَجَرَيَانِ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الْمِقْدَادِ وَظُهُورِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ وَلِتَعَجُّبِهِ مِنْ قُبْحِ فِعْلِهِ أَوَّلًا وَحُسْنِهِ آخِرًا وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى الله عليه وسلم احدى سوآتك يامقداد أى انك فعلت سوءة مِنَ الْفَعَلَاتِ مَا هِيَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(14/15)
وسلم ما هذه الارحمة مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ إِحْدَاثُ هَذَا اللَّبَنِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَخِلَافِ عَادَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى
[2056] قَوْلُهُ (جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ) هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ مُنْتَفِشُ الشَّعْرِ وَمُتَفَرِّقُهُ قَوْلُهُ (وَأَمَرَ بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى) يَعْنِي الْكَبِدَ قَوْلُهُ (وَايْمُ اللَّهِ مَا مِنَ الثلاثين ومائه الاحز لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَّأَ لَهُ وَجَعَلَ قَصْعَتَيْنِ فَأَكَلْنَا مِنْهُمَا أَجْمَعُونَ(14/16)
وَشَبِعْنَا وَفَضَلَ فِي الْقَصْعَتَيْنِ فَحَمَلْتُهُ عَلَى الْبَعِيرِ) الْحُزَّةُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ وَالْقَصْعَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَتَانِ ظَاهِرَتَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَاهُمَا تَكْثِيرُ سَوَادِ الْبَطْنِ حَتَّى وَسِعَ هَذَا الْعَدَدَ وَالْأُخْرَى تَكْثِيرُ الصَّاعِ وَلَحْمِ الشَّاةِ حَتَّى أَشْبَعَهُمْ أَجْمَعِينَ وَفَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ حَمَلُوهَا لِعَدَمِ حَاجَةِ أَحَدٍ إِلَيْهَا وَفِيهِ مُوَاسَاةُ الرُّفْقَةِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ طُرْفَةٍ وَغَيْرِهَا وَأَنَّهُ إِذَا غَابَ بَعْضُهُمْ خُبِّئَ نَصِيبُهُ
[2057] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَلَاثَةٍ وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَلْيَذْهَبْ بِثَلَاثَةٍ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فَلْيَذْهَبْ بِثَلَاثٍ قَالَ الْقَاضِي هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِسِيَاقِ بَاقِي الْحَدِيثِ قُلْتُ وَلِلَّذِي فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا وَجْهٌ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مُوَافَقَةِ الْبُخَارِيِّ وَتَقْدِيرُهُ فَلْيَذْهَبْ بِمَنْ يُتِمُّ ثَلَاثَةً أَوْ بِتَمَامِ ثَلَاثَةٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدَّرَ فيها أقواتها فى أربعة أيام أَيْ فِي تَمَامِ أَرْبَعَةٍ وَسَبَقَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ إِيضَاحُ هَذَا وَذِكْرُ نَظَائِرِهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ الْإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ وَأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ ضِيفَانٌ كَثِيرُونَ فَيَنْبَغِي لِلْجَمَاعَةِ أَنْ يَتَوَزَّعُوهُمْ وَيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ يَحْتَمِلُهُ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِكَبِيرِ الْقَوْمِ أَنْ يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَيَأْخُذَ هُوَ مَنْ يُمْكِنُهُ قَوْلُهُ (وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ وَانْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ) هَذَا مُبَيِّنٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ(14/17)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَخْذِ بِأَفْضَلِ الْأُمُورِ وَالسَّبْقِ إِلَى السَّخَاءِ وَالْجُودِ فَإِنَّ عِيَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ عَدَدِ ضِيفَانِهِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَأَتَى بِنِصْفِ طعامه أونحوه وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِثُلُثِ طَعَامِهِ أَوْ أَكْثَرَ وَأَتَى الْبَاقُونَ بِدُونِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ) قَوْلُهُ نَعَسَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَفِي هَذَا جَوَازُ ذَهَابِ مَنْ عِنْدَهُ ضِيفَانٌ إِلَى أَشْغَالِهِ وَمَصَالِحِهِ إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِأُمُورِهِمْ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ كَمَا كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ هُنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْحُبِّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَإِيثَارِهِ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ وَالضِّيفَانِ وَغَيْرِهِمْ قَوْلُهُ (فِي الْأَضْيَافِ إَنَّهُمُ امْتَنَعُوا مِنَ الْأَكْلِ حَتَّى يَحْضُرَ أبوبكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) هَذَا فَعَلُوهُ أَدَبًا وَرِفْقًا بِأَبِي بَكْرٍ فِيمَا ظَنُّوهُ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ لايحصل له عشاءمن عشائهم قال العلماء والصواب للضيف أن لايمتنع مِمَّا أَرَادَهُ الْمُضِيفُ مِنْ تَعْجِيلِ طَعَامٍ وَتَكْثِيرِهِ وغير ذلك من أموره الاأن يعلم أنه يتكلف ما يشق عليه حياءمنه فَيَمْنَعُهُ بِرِفْقٍ وَمَتَى شَكَّ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَمْتَنِعْ فَقَدْ يَكُونُ لِلْمُضِيفِ عُذْرٌ أَوْ غرض فى ذلك لايمكنه إِظْهَارَهُ فَتَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِمُخَالَفَةِ الْأَضْيَافِ كَمَا جَرَى فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَهَبْتُ فَاخْتَبَأْتُ وَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَجَدَّعَ وَسَبَّ) أَمَّا اخْتِبَاؤُهُ فَخَوْفًا مِنْ خِصَامِ أَبِيهِ(14/18)
لَهُ وَشَتْمِهِ إِيَّاهُ وَقَوْلُهُ فَجَدَّعَ أَيْ دَعَا بِالْجَدَعِ وَهُوَ قَطْعُ الْأَنْفِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ والسب الشتم وَقَوْلُهُ يَا غُنْثَرُ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ ثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمَضْمُومَةٍ لُغَتَانِ هَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي ضَبْطِهِ قَالُوا وَهُوَ الثَّقِيلُ الْوَخِمُ وَقِيلَ هُوَ الْجَاهِلُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَثَارَةِ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الْجَهْلُ وَالنُّونُ فِيهِ زَائِدَةٌ وَقِيلَ هُوَ السَّفِيهُ وَقِيلَ هُوَ ذُبَابٌ أَزْرَقُ وَقِيلَ هُوَ اللَّئِيمُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَثَرِ وَهُوَ اللُّؤْمُ وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا هُوَ غَنْثَرُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالثَّاءِ وَرَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَطَائِفَةٌ عَنْتَرُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ قَالُوا وَهُوَ الذُّبَابُ وَقِيلَ هُوَ الْأَزْرَقُ مِنْهُ شَبَّهَهُ به تحقيرا له قوله (كلوا لاهنيئا) إِنَّمَا قَالَهُ لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْحَرَجِ وَالْغَيْظِ بِتَرْكِهِمُ الْعِشَاءَ بِسَبَبِهِ وَقِيلَ إِنَّهُ لَيْسَ بدعاء انما أخبرأى لم تتهنأوا به فى وقته قوله (والله لاأطعمه أَبَدًا) وَذَكَرَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي الْأَضْيَافِ قالوا والله لانطعمه حَتَّى تَطْعَمَهُ ثُمَّ أَكَلَ وَأَكَلُوا فِيهِ أَنَّ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرامنها فَعَلَ ذَلِكَ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَفِيهِ حَمْلُ الْمُضِيفِ الْمَشَقَّةَ عَلَى نَفْسِهِ فِي إِكْرَامِ ضِيفَانِهِ وَإِذَا تَعَارَضَ حِنْثُهُ وَحِنْثُهُمْ حَنَّثَ نَفْسَهُ لِأَنَّ حَقَّهَمْ عَلَيْهِ آكَدُ وَهَذَا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مُخْتَصَرٌ تُوَضِّحُهُ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ وَتُبَيِّنُ مَا حُذِفَ مِنْهُ وَمَا هُوَ مُقَدَّمٌ أَوْ مُؤَخَّرٌ قَوْلُهُ (مَا كُنَّا نَأْخُذُ من لقمة الاربا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا وَأَنَّهُمْ أَكَلُوا مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا كانت بثلاث مرارثم حَمَلُوهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكل منها الخلق الكثير) فقوله الاربا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ ضَبَطُوهُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ كَرَامَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ قَوْلُهُ (فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ) وَقَوْلُهُ (لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا) ضَبَطُوهُمَا أَيْضًا بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وبالثاء المثلثة قولها (لاوقرة عَيْنِي لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ قُرَّةُ الْعَيْنِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْمَسَرَّةِ وَرُؤْيَةِ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ وَيُوَافِقُهُ قِيلَ إِنَّمَا قيل ذلك لأن(14/19)
عينه تقر لبلوغهأمنيته فَلَا يَسْتَشْرِفُ لِشَيْءٍ فَيَكُونُ مَأْخُوذًا مِنَ الْقَرَارِ وقيل ماخوذ من القر بالضم وهو البردأى عَيْنُهُ بَارِدَةٌ لِسُرُورِهَا وَعَدَمِ مُقْلِقِهَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَيْ أَبْرَدَ دَمْعَتَهُ لِأَنَّ دَمْعَةَ الْفَرَحِ بَارِدَةٌ وَدَمْعَةَ الْحُزْنِ حَارَّةٌ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي ضِدِّهِ أَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَهُ قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ قَالَ الدَّاوُدِيُّ أَرَادَتْ بِقُرَّةِ عَيْنِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْسَمَتْ به ولفظة لافى قولها لاوقرة عَيْنِي زَائِدَةٌ وَلَهَا نَظَائِرُ مَشْهُورَةٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا نَافِيَةٌ وَفِيهِ مَحْذُوفٌ أَيْ لَا شَيْءَ غَيْرَ مَا أَقُولُ وَهُوَ وَقُرَّةُ عَيْنِي لَهِيَ أَكْثَرُ منها قوله (ياأخت بَنِي فِرَاسٍ) هَذَا خِطَابٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ لامرأته أم رومان ومعناه يامن هِيَ مِنْ بَنِي فِرَاسٍ قَالَ الْقَاضِي فِرَاسٌ هو بن غنم بن مالك بن كنانة ولاخلاف فِي نَسَبِ أُمِّ رُومَانَ إِلَى غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ انْتِسَابِهَا إِلَى غَنْمٍ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ أَمْ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ غَنْمٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ كَوْنُهَا مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ قَوْلُهُ (فَعَرَّفْنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ فَعَرَّفْنَا بِالْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ جَعَلْنَا عُرَفَاءَ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ فَفَرَّقْنَا بِالْفَاءِ الْمُكَرَّرَةِ فِي أَوَّلِهِ بقاف مِنَ التَّفْرِيقِ أَيْ جَعَلَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ مَعَ فِرْقَةٍ فَهُمَا صَحِيحَانِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي هُنَا غَيْرَ الْأَوَّلِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ تَفْرِيقِ الْعُرَفَاءِ عَلَى الْعَسَاكِرِ وَنَحْوِهَا وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ الْعِرَافَةُ حَقٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ النَّاسِ وَلِيَتَيَسَّرَ ضَبْطُ الْجُيُوشِ وَنَحْوِهَا عَلَى الْإِمَامِ بِاتِّخَاذِ الْعُرَفَاءِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الْعُرَفَاءُ فِي النَّارِ فَمَحْمُولٌ عَلَى العرفاء المقصرين فى ولايتهم المرتكبين فيها مالايجوز كَمَا هُوَ مُعْتَادٌ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ قَوْلُهُ فَعَرَّفْنَا اثناعشر رَجُلًا مَعَ كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمْ أُنَاسٌ هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَفِي نَادِرٌ مِنْهَا اثْنَيْ عَشَرَ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْأَوَّلُ جَارٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ جَعَلَ الْمُثَنَّى بِالْأَلِفِ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ وَهِيَ لُغَةُ أَرْبَعِ(14/20)
قبائل من العرب ومنها قوله تعالى إن هذان لساحران وَغَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ مَرَّاتٍ قَوْلُهُ (افْرُغْ مِنْ أَضْيَافِكَ) أَيْ عَشِّهِمْ وَقُمْ بِحَقِّهِمْ قَوْلُهُ (جِئْنَاهُمْ بِقِرَاهُمْ) هُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وهو ما يُصْنَعُ لِلضَّيْفِ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ قَوْلُهُ (حَتَّى يَجِيءَ أَبُو مَنْزِلِنَا) أَيْ صَاحِبُهُ قَوْلُهُ (إِنَّهُ رَجُلٌ حَدِيدٌ) أَيْ فِيهِ قُوَّةٌ وَصَلَابَةٌ وَيَغْضَبُ لِانْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ضَيْفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ (مَا لَكُمْ أَلَا تَقْبَلُوا مِنَّا قراكم) قال القاضي عياض قوله ألاهو بِتَخْفِيفِ اللَّامِ عَلَى التَّحْضِيضِ وَاسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ هَكَذَا رَوَاهُ الْجُمْهُورُ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّشْدِيدِ وَمَعْنَاهُ مالكم لَا تَقْبَلُوا قِرَاكُمْ وَأَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكُمْ ذَلِكَ وَأَحْوَجَكُمْ إِلَى تَرْكِهِ قَوْلُهُ (أَمَّا الْأُولَى فَمِنَ الشيطان(14/21)
يَعْنِي يَمِينَهُ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ مَعْنَاهُ اللُّقْمَةُ الْأُولَى فَلِقَمْعِ الشَّيْطَانِ وَإِرْغَامِهِ وَمُخَالَفَتِهِ فِي مُرَادِهِ بِالْيَمِينِ وَهُوَ إِيقَاعُ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَضْيَافِهِ فأخزاه أبوبكر بِالْحِنْثِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَرُّوا وَحَنِثْتُ فَقَالَ بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَخْيَرُهُمْ قَالَ وَلَمْ تَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ) مَعْنَاهُ بَرُّوا فِي أَيْمَانِهِمْ وَحَنِثْتُ فِي يَمِينِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ أَيْ أَكْثَرُهُمْ طَاعَةً وَخَيْرٌ مِنْهُمْ لِأَنَّكَ حَنِثْتَ فِي يَمِينِكَ حِنْثًا مَنْدُوبًا إِلَيْهِ مَحْثُوثًا عَلَيْهِ فَأَنْتَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ قَوْلُهُ (وَأَخْيَرُهُمْ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَأَخْيَرُهُمْ بِالْأَلِفِ وَهِيَ لُغَةٌ سَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَلَمْ تَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ) يَعْنِي لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّهُ كَفَّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ فَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَهَذَا نَصٌّ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عقدتم الأيمان فكفارته اطعام إلخ
(بَاب فَضِيلَةِ الْمُوَاسَاةِ فِي الطَّعَامِ الْقَلِيلِ وَأَنَّ طَعَامَ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الثَّلَاثَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ)
[2058] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ)
[2059] وَفِي رواية جابر(14/22)
طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ) هَذَا فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ فِي الطَّعَامِ وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا حَصَلَتْ مِنْهُ الْكِفَايَةُ الْمَقْصُودَةُ وَوَقَعَتْ فِيهِ بَرَكَةٌ تَعُمُّ الْحَاضِرِينَ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(باب المؤمن يأكل فى معى واحد والكافر يأكل فى سبعة أمعاء)
[2060]
[2061] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ) وَفِي الرِّوَايَةِ(14/23)
الْأُخْرَى
[2063] أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ بعد أن ضاف كَافِرًا فَشَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ ثُمَّ أَسْلَمَ مِنْ الْغَدِ فَشَرِبَ حِلَابَ شَاةٍ وَلَمْ يَسْتَتِمَّ حِلَابَ الثَّانِيَةِ قَالَ الْقَاضِي قِيلَ إِنَّ هَذَا فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَقِيلَ لَهُ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَقْتَصِدُ فِي أَكْلِهِ وَقِيلَ الْمُرَادُ الْمُؤْمِنُ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ طَعَامِهِ فَلَا يُشْرِكُهُ فِيهِ الشَّيْطَانُ والكافر لايسمى فَيُشَارِكُهُ الشَّيْطَانُ فِيهِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ قَالَ أَهْلُ الطِّبِّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ سَبْعَةُ أَمْعَاءٍ الْمَعِدَةُ ثُمَّ ثَلَاثَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِهَا رِقَاقٌ ثُمَّ ثَلَاثَةٌ غِلَاظٌ فَالْكَافِرُ لِشَرَهِهِ وَعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ لَا يَكْفِيهِ إِلَّا مِلْؤُهَا وَالْمُؤْمِنُ لاقصاده وَتَسْمِيَتِهِ يُشْبِعُهُ مِلْءُ أَحَدِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَعْضِ الْكُفَّارِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ سَبْعُ صِفَاتٍ الْحِرْصُ وَالشَّرَهُ وَطُولُ الْأَمَلِ وَالطَّمَعُ وَسُوءُ الطَّبْعِ وَالْحَسَدُ وَالسِّمَنُ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ هُنَا تَامُّ الْإِيمَانِ الْمُعْرِضُ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ خُلَّتِهِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَعْنَاهُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ(14/24)
يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَأَنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ يأكلون فى سبعة أمعاء ولايلزم أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعَةِ مِثْلُ مِعَى الْمُؤْمِنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ التقليل مِنَ الدُّنْيَا وَالْحَثُّ عَلَى الزُّهْدِ فِيهَا وَالْقَنَاعَةُ مَعَ أَنَّ قِلَّةَ الْأَكْلِ مِنْ مَحَاسِنِ أَخْلَاقِ الرجل وكثرة الأكل بضده وأما قول بن عُمَرَ فِي الْمِسْكِينِ الَّذِي أَكَلَ عِنْدَهُ كَثِيرًا لايدخلن هَذَا عَلَيَّ فَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْكُفَّارَ وَمَنْ أَشْبَهَ الْكُفَّارَ كُرِهَتْ مُخَالَطَتُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ وَلِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَأْكُلُهُ هذا يمكن(14/25)
أَنْ يَسُدَّ بِهِ خُلَّةَ جَمَاعَةٍ وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ فَقِيلَ هُوَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ وَقِيلَ جَهْجَاهٌ الْغِفَارِيُّ وَقِيلَ نَضْرَةُ بْنُ أَبَى نَضْرَةَ الغفارى والله أعلم
(باب لايعيب الطعام
[2064] )
قوله (ماعاب رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ كَانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا أَكَلَهُ وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ) هَذَا مِنْ آدَابِ الطَّعَامِ الْمُتَأَكَّدَةِ وَعَيْبُ الطَّعَامِ كَقَوْلِهِ مَالِحٌ قَلِيلُ الْمِلْحِ حَامِضٌ رقيق غليظ غير ناضج ونحوذلك وَأَمَّا حَدِيثُ تَرْكِ أَكْلِ الضَّبِّ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ عَيْبِ الطَّعَامِ إِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ هذا الطعام الخاص لاأشتهيه وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الْبَابِ اخْتِلَافَ طُرُقِ هَذَا الحديث فرواه أولامن رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي يَحْيَى مَوْلَى آلِ جَعْدَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا الْإِسْنَادَ الثَّانِي وَقَالَ هُوَ مُعَلَّلٌ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُعَلَّلَةِ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ الَّتِي بَيَّنَ مُسْلِمٌ عِلَّتَهَا(14/26)
كَمَا وَعَدَ فِي خُطْبَتِهِ وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي معاوية ولاخرجه مِنْ طَرِيقِهِ بَلْ خَرَّجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وعلى كل حال فالمتن صحيح لامطعن فيه والله أعلم
(
كتاب اللباس والزينة)
(باب تحريم استعمال أوانى الذهب والفضة فى الشرب وغيره على الرجال والنساء
[2065] )
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ) وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ شَرِبَ فِي إِنَاءٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى كَسْرِ الْجِيمِ الثَّانِيَةِ من يجر جر وَاخْتَلَفُوا فِي رَاءِ النَّارِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَنَقَلُوا فِيهَا النَّصْبَ وَالرَّفْعَ وَهُمَا مَشْهُورَانِ فِي الرِّوَايَةِ وَفِي كُتُبِ الشَّارِحِينَ وَأَهْلِ الْغَرِيبِ وَاللُّغَةِ وَالنَّصْبُ هُوَ الصَّحِيحُ(14/27)
الْمَشْهُورُ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْأَزْهَرِيُّ وَآخَرُونَ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَالْخَطَّابِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الثالثة يجرجر فى بطنه نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ وَرَوَيْنَاهُ فِي مُسْنَدِ أَبِي عوانة الاسفرابنى وَفِي الْجَعْدِيَّاتِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارًا كَذَا هو فى الأصول نارمن غَيْرِ ذِكْرِ جَهَنَّمَ وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَعَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ الْفَاعِلُ هُوَ الشَّارِبُ مُضْمَرٌ فِي يُجَرْجِرُ أى يلقيها فى بطنه يجرع مُتَتَابَعٍ يُسْمَعُ لَهُ جَرْجَرَةٌ وَهُوَ الصَّوْتُ لِتَرَدُّدِهِ فِي حَلْقِهِ وَعَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ تَكُونُ النَّارُ فاعله ومعناه تصوت النَّارِ فِي بَطْنِهِ وَالْجَرْجَرَةُ هِيَ التَّصْوِيتُ وَسُمِّيَ المشروب نارا لأنه يؤول إِلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا وَأَمَّا جَهَنَّمُ عَافَانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ بَلَاءٍ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ قَالَ يُونُسُ وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ هي عجمية لاتنصرف لِلتَّعْرِيفِ وَالْعَجَمِيَّةِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبُعْدِ قَعْرِهَا يُقَالُ بِئْرٌ جِهِنَّامٌ إِذَا كَانَتْ عَمِيقَةَ الْقَعْرِ وَقَالَ بعض اللغويين مشقة مِنَ الْجُهُومَةِ وَهِيَ الْغِلَظُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِغِلَظِ أَمْرِهَا فِي الْعَذَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْحَدِيثِ فَقِيلَ هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْكُفَّارِ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ فِعْلُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْ هُمُ الْمُسْتَعْمِلُونَ لَهَا فِي الدُّنْيَا وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثوب الحرير انما يلبس هذا من لاخلاق له فى الآخرة أى لانصيب قَالَ وَقِيلَ الْمُرَادُ نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ وأن(14/28)
مَنِ ارْتَكَبَ هَذَا النَّهْيَ اسْتَوْجَبَ هَذَا الْوَعِيدَ وَقَدْ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَالصَّوَابُ أَنَّ النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَنْ يَسْتَعْمِلُ إِنَاءَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لأن الصحيح أن الكفار مخاطبون بغروع الشَّرْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي إِنَاءِ الذَّهَبِ وَإِنَاءِ الْفِضَّةِ عَلَى الرَّجُلِ وَعَلَى الْمَرْأَةِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا حَكَاهُ أصحابنا العراقيون أن للشافعى قولاقديما أنه يكره ولايحرم وَحَكَوْا عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ تَحْرِيمَ الشُّرْبِ وَجَوَازَ الْأَكْلِ وَسَائِرَ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ وَهَذَانِ النَّقْلَانِ بَاطِلَانِ أَمَّا قَوْلُ دَاوُدَ فَبَاطِلٌ لِمُنَابَذَةِ صَرِيحِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ جَمِيعًا وَلِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ قَالَ أَصْحَابُنَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُدَ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ فَهُمَا مَرْدُودَانِ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ وَهَذَا إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَعْتَدُّ بِقَوْلِ دَاوُدَ فِي الاجماع والخلاف والافالمحققون يقولون لايعتد بِهِ لِإِخْلَالِهِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَحَدُ شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ فَقَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ إِنَّ سِيَاقَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي اتُّخِذَ مِنْهُ الْإِنَاءُ لَيْسَتْ حَرَامًا وَلِهَذَا لَمْ يَحْرُمِ الْحُلِيُّ عَلَى المرأة هذاكلام صَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَهُوَ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَتْقَنُهُمْ لِنَقْلِ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَدِيمِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ من الأصولين أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا قَالَ قَوْلًا ثُمَّ رَجَعَ عنه لايبقي قولا له ولاينسب إِلَيْهِ قَالُوا وَإِنَّمَا يُذْكَرُ الْقَدِيمُ وَيُنْسَبُ إِلَى الشَّافِعِيِّ مَجَازًا وَبِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ قَوْلٌ لَهُ الْآنَ فَحَصَلَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ إِنَاءِ الذَّهَبِ وَإِنَاءِ الْفِضَّةِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ والأكل بمعلقة من أحدهما والتجمر بمجمرة منهما والبول غي الْإِنَاءِ مِنْهُمَا وَجَمِيعِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ وَمِنْهَا الْمُكْحُلَةُ واميل وطرف العالية وَغَيْرُ ذَلِكَ سَوَاءٌ الْإِنَاءُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَيَسْتَوِي فى التحريم الرجل(14/29)
والمرأة بلاخلاف وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي التَّحَلِّي لما يقصد منها من التزين لِلزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ مَاءِ الْوَرْدِ وَالْأَدْهَانِ مِنْ قَارُورَةٍ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالُوا فَإِنِ ابْتُلِيَ بِطَعَامٍ فِي إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فضة فيخرج الطَّعَامَ إِلَى إِنَاءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِمَا وَيَأْكُلُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِنَاءٌ آخَرُ فَلْيَجْعَلْهُ عَلَى رَغِيفٍ إِنْ أَمْكَنَ وَإِنِ ابْتُلِيَ بِالدُّهْنِ فى القارورة فِضَّةٍ فَلْيَصُبَّهُ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ يَصُبَّهُ من اليسرى فى اليمين وَيَسْتَعْمِلْهُ قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَحْرُمُ تَزْيِينُ الْحَوَانِيتِ وَالْبُيُوتِ وَالْمَجَالِسِ بِأَوَانِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَجَوَّزَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالُوا وَهُوَ غَلَطٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لَوْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ مِنْ إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ عَصَى بِالْفِعْلِ وَصَحَّ وضوءه وغسله هذامذهبنا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً الاداود فقال لايصح وَالصَّوَابُ الصِّحَّةُ وَكَذَا لَوْ أَكَلَ مِنْهُ أَوْ شرب عصى بالفعل ولايكون الْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ حَرَامًا هَذَا كُلُّهُ فِي حَالِ الاختبار وَأَمَّا إِذَا اضْطَرَّ إِلَى اسْتِعْمَالِ إِنَاءٍ فَلَمْ يجد الاذهبا أَوْ فِضَّةً فَلَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ بلاخلاف صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا قَالُوا كَمَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ بَاعَ هذا الاناءصح بَيْعُهُ لِأَنَّهُ عَيْنٌ طَاهِرَةٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِأَنْ تُسْبَكَ وَأَمَّا اتِّخَاذُ هَذِهِ الْأَوَانِي مِنْ غيراستعمال فَلِلشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ فِيهِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ تَحْرِيمُهُ وَالثَّانِي كَرَاهَتُهُ فَإِنْ كَرِهْنَاهُ اسْتَحَقَّ صَانِعُهُ الْأُجْرَةَ وَوَجَبَ على كاسره أرش النقص ولافلا وأما اناء الزجاج النفيس فلايحرم بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا إِنَاءُ الْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَنَحْوِهَا فَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَوَازُ اسْتِعْمَالِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ حرمها والله أعلم(14/30)
(باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء وإباحة العلم ونحوه للرجل مالم يزد على أربع أصابع
[2066] )
قَوْلُهُ (أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوِ الْمُقْسِمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ بِالذَّهَبِ وَعَنْ شُرْبٍ بِالْفِضَّةِ وَعَنِ الْمَيَاثِرِ وَعَنِ الْقَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ) وَفِي رِوَايَةٍ وَإِنْشَادِ الضَّالَّةِ بَدَلُ إِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوِ الْمُقْسِمِ وَفِي رِوَايَةٍ وَرَدِّ السَّلَامِ بَدَلُ إِفْشَاءِ السَّلَامِ أَمَّا عِيَادَةُ الْمَرِيضِ فَسُنَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَسَوَاءٌ فيه من يعرفه ومن لايعرفه وَالْقَرِيبُ وَالْأَجْنَبِيُّ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَوْكَدِ وَالْأَفْضَلِ مِنْهَا وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ فَسُنَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا وَسَوَاءٌ فِيهِ مَنْ يَعْرِفُهُ وَقَرِيبُهُ وَغَيْرُهُمَا وَسَبَقَ إِيضَاحُهُ فِي الْجَنَائِزِ وَأَمَّا تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَيُقَالُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ قَالَ اللَّيْثُ التَّشْمِيتُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ لِلْعَاطِسِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَقَالَ ثَعْلَبٌ يُقَالُ سَمَّتَّ الْعَاطِسَ وَشَمَّتَّهُ إِذَا دَعَوْتَ لَهُ بِالْهُدَى وَقَصْدُ السَّمْتِ الْمُسْتَقِيمُ قَالَ وَالْأَصْلُ فِيهِ السِّينُ الْمُهْمَلَةُ فَقُلِبَتْ شِينًا مُعْجَمَةً وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ تَسْمِيتُ الْعَاطِسِ مَعْنَاهُ هَدَاكَ اللَّهُ إِلَى السَّمْتِ قَالَ وَذَلِكَ لِمَا فِي الْعَاطِسِ مِنَ الِانْزِعَاجِ وَالْقَلِقِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ(14/31)
الشين المعجمة على اللغتين قال بن الْأَنْبَارِيِّ يُقَالُ مِنْهُ شَمَّتَّهُ وَسَمَّتَّ عَلَيْهِ إِذَا دَعَوْتَ لَهُ بِخَيْرٍ وَكُلُّ دَاعٍ بِالْخَيْرِ فَهُوَ مشمت ومسمت العاطس سنة وهوسنة عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا فَعَلَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ سَقَطَ الْأَمْرُ عَنِ الْبَاقِينَ وَشَرْطُهُ أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَ الْعَاطِسِ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ مَعَ فُرُوعٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا إِبْرَارُ الْقَسَمِ فَهُوَ سُنَّةٌ أَيْضًا مُسْتَحَبَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ وَإِنَّمَا يُنْدَبُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ أَوْ خَوْفُ ضَرَرٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَمْ يَبَرَّ قَسَمَهُ كَمَا ثَبَتَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا عَبَرَ الرُّؤْيَا بِحَضْرَةِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا فَقَالَ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُخْبِرَنِّي فَقَالَ لَا تُقْسِمْ وَلَمْ يخبره وأمانصر الْمَظْلُومِ فَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ الْأَمْرُ بِهِ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخَفْ ضَرَرًا وَأَمَّا إِجَابَةُ الدَّاعِي فَالْمُرَادُ بِهِ الدَّاعِي إِلَى وَلِيمَةٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الطَّعَامِ وَسَبَقَ إِيضَاحُ ذَلِكَ بِفُرُوعِهِ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ مِنْ كتاب النكاح وأما افشاءالسلام فَهُوَ إِشَاعَتُهُ وَإِكْثَارُهُ وَأَنْ يَبْذُلَهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ وَسَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ أَفْشُوا السَّلَامَ وَسَنُوَضِّحُ فُرُوعَهُ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ فَهُوَ فَرْضٌ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ كَانَ السَّلَامُ عَلَى وَاحِدٍ كَانَ الرَّدُّ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى جَمَاعَةٍ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ فِي حَقِّهِمْ إِذَا رَدَّ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ وَسَنُوَضِّحُهُ بِفُرُوعِهِ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا إِنْشَادُ الضالة فهو تعريفها وهو مأموربه وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ وَأَمَّا خَاتَمُ الذَّهَبِ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا لَوْ كَانَ بَعْضُهُ ذَهَبًا وَبَعْضُهُ فِضَّةً حَتَّى قالأصحابنا لَوْ كَانَتْ سِنُّ الْخَاتَمِ ذَهَبًا أَوْ كَانَ مُمَوَّهًا بِذَهَبٍ يَسِيرٍ فَهُوَ حَرَامٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا وَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ فَكُلُّهُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ سَوَاءٌ لَبِسَهُ لِلْخُيَلَاءِ أَوْ غَيْرِهَا إِلَّا أَنْ يَلْبَسَهُ لِلْحَكَّةِ فَيَجُوزُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيُبَاحُ لَهُنَّ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ وَخَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَسَائِرِ الْحُلِيِّ مِنْهُ وَمِنَ الْفِضَّةِ سَوَاءٌ الْمُزَوَّجَةُ وَغَيْرُهَا وَالشَّابَّةُ وَالْعَجُوزُ وَالْغَنِيَّةُ وَالْفَقِيرَةُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَإِبَاحَتِهِ للنساء هو مذهبنا ومذهب الجماهير وحكى القاضىعن قوم إباحته للرجال(14/32)
والنساء وعن بن الزُّبَيْرِ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمَا ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ وَتَحْرِيمِهِ عَلَى الرِّجَالِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِالتَّحْرِيمِ مَعَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا فِي تَشْقِيقِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَرِيرَ بَيْنَ نِسَائِهِ وَبَيْن الْفَوَاطِمِ خُمُرًا لَهُنَّ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا يَجُوزُ إِلْبَاسُهُمُ الْحُلِيَّ وَالْحَرِيرَ فِي يَوْمِ الْعِيدِ لأنه لاتكليف عَلَيْهِمْ وَفِي جَوَازِ إِلْبَاسِهِمْ ذَلِكَ فِي بَاقِي السَّنَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا جَوَازُهُ وَالثَّانِي تَحْرِيمُهُ وَالثَّالِثُ يَحْرُمُ بَعْدَ سِنِّ التَّمْيِيزِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَعَنْ شُرْبٍ بِالْفِضَّةِ فَقَدْ سَبَقَ إِيضَاحُهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَعَنِ الْمَيَاثِرِ) فَهُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ قَبْلَ الرَّاءِ قَالَ الْعُلَمَاءُ هُوَ جَمْعُ مِئْثَرَةٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهِيَ وِطَاءٌ كَانَتِ النِّسَاءُ يَضَعْنَهُ لِأَزْوَاجِهِنَّ عَلَى السُّرُوجِ وَكَانَ مِنْ مَرَاكِبِ الْعَجَمِ وَيَكُونُ مِنَ الْحَرِيرِ وَيَكُونُ مِنَ الصُّوفِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ أَغْشِيَةٌ لِلسُّرُوجِ تُتَّخَذُ مِنَ الْحَرِيرِ وَقِيلَ هِيَ سُرُوجٌ مِنَ الدِّيبَاجِ وَقِيلَ هِيَ شَيْءٌ كَالْفِرَاشِ الصَّغِيرِ تُتَّخَذُ مِنْ حَرِيرٍ تُحْشَى بِقُطْنٍ أَوْ صُوفٍ يَجْعَلُهَا الرَّاكِبُ عَلَى الْبَعِيرِ تَحْتَهُ فَوْقَ الرَّحْلِ وَالْمِئْثَرَةُ مَهْمُوزَةٌ وَهِيَ مِفْعَلةٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ الْوَثَارَةِ يُقَالُ وَثُرَ بِضَمِّ الثَّاءِ وَثَارَةً بِفَتْحِ الْوَاوِ فَهُوَ وَثِيرٌ أَيْ وَطِيءٌ لَيِّنٌ وَأَصْلُهَا مِوْثَرَةٌ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ ياء لكسرة ما قبلها كما فى ميزان وميقات وميعادمن الْوَزْنِ وَالْوَقْتِ وَالْوَعْدِ وَأَصْلُهُ مِوْزَانُ وَمِوْقَاتُ وَمِوْعَادُ قَالَ الْعُلَمَاءُ فَالْمِئْثَرَةُ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْحَرِيرِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِيمَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ فَهِيَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ جُلُوسٌ عَلَى الْحَرِيرِ وَاسْتِعْمَالٌ لَهُ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى رَحْلٍ أَوْ سَرْجٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَإِنْ كانت مئثرة من غيرالحرير فَلَيْسَتْ بِحِرَامٍ وَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مَكْرُوهَةً أَيْضًا فان الثوب الأحمر لاكراهة فيه سواء كانت حمراء أم لاوقد ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ حُلَّةً حَمْرَاءَ وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَرَاهَتَهَا لِئَلَّا يَظُنَّهَا الرَّائِي مِنْ بَعِيدٍ حَرِيرًا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ الْمُرَادُ بِالْمِئْثَرَةِ جُلُودُ السِّبَاعِ وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْمَشْهُورِ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءُ وَاللَّهُ أعلم وأما القسى فهو بفتح القاف وكسرالسين الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَتْحِ الْقَافِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَكْسِرُهَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَهْلُ الْحَدِيثِ يَكْسِرُونَهَا وأهل مصر(14/33)
يفتحونها واختلفوا فى تفسيره فالصواب ماذكره مسلم بعد هذا بنحو فراسة فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ التَّخَتُّمِ فِي الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُ عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ وَعَنْ جُلُوسِ عَلَى الْمَيَاثِرِ قَالَ فَأَمَّا الْقَسِّيُّ فَثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ فِيهَا شُبَهٌ كَذَا هُوَ لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِيهَا حَرِيرٌ أَمْثَالُ الْأُتْرُجِّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ هِيَ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ بالحرير تعمل بالقس بفتح القاف وهوموضع مِنْ بِلَادِ مِصْرَ وَهُوَ قَرْيَةٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ قَرِيبَةٌ مِنْ تِنِّيسَ وَقِيلَ هِيَ ثِيَابُ كَتَّانٍ مَخْلُوطٍ بِحَرِيرٍ وَقِيلَ هِيَ ثِيَابٌ مِنَ الْقَزِّ وَأَصْلُهُ الْقَزِّيُّ بِالزَّايِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَزِّ وَهُوَ رَدِيءُ الْحَرِيرِ فَأُبْدِلَ مِنَ الزَّايِ سِينٌ وَهَذَا الْقَسِّيُّ إِنْ كَانَ حَرِيرُهُ أَكْثَرَ مِنْ كتانه فالنهى عنه للتحريم إلا فَالْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ وَأَمَّا الْإِسْتَبْرَقُ فَغَلِيظُ الدِّيبَاجِ وَأَمَّا الدِّيبَاجُ فَبِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا جَمْعُهُ دَبَابِيجُ وَهُوَ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبُ الدِّيبَا وَالدِّيبَاجُ وَالْإِسْتَبْرَقُ حَرَامٌ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْحَرِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ (وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ وَعَنِ الشُّرْبِ) فَالضَّمِيرُ فِي وَزَادَ يَعُودُ إِلَى الشَّيْبَانِيِّ الرَّاوِي عَنْ(14/34)
أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ
[2067] قَوْلُهُ (فَجَاءَ دِهْقَانٌ) هُوَ بِكَسْرِ الدَّال عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا مِمَّنْ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ وَحَكَاهُمَا الْقَاضِي فِي الشَّرْحِ عَنْ حِكَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَوَقَعَ فِي نُسَخِ صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ أَوْ بَعْضِهَا مَفْتُوحًا وَهَذَا غَرِيبٌ وَهُوَ زَعِيمُ فَلَّاحِي الْعَجَمِ وَقِيلَ زَعِيمُ الْقَرْيَةِ وَرَئِيسُهَا وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ قِيلَ النُّونُ فِيهِ أَصْلِيَّةٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّهْقَنَةِ وَهِيَ الرِّيَاسَةُ وَقِيلَ زَائِدَةٌ مِنَ الدَّهْقِ وَهُوَ الِامْتِلَاءُ وَذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي دَهْقَنَ لَكِنَّهُ قَالَ إِنْ جَعَلْتَ نُونَهُ أَصْلِيَّةً مِنْ قولهم تدهقن الرجل صرفته لأنه فعلان وَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنَ الدَّهْقِ لَمْ تَصْرِفْهُ لِأَنَّهُ فِعْلَانُ قَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِهِ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ وَمَلَأَ الْأَوْعِيَةَ مِنْهُ يُقَالُ دَهَقْتُ الْمَاءَ وَأَدْهَقْتُهُ إِذَا أَفْرَغْتُهُ وَدَهِقَ لِي دَهْقَةً مِنْ مَالِهِ أَيْ أَعْطَانِيهَا وَأَدْهَقْتُ الْإِنَاءَ أَيْ مَلَأْتُهُ قَالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الدَّهْقَنَةِ وَالدُّهْمَةِ وَهِيَ لِينُ الطَّعَامِ لِأَنَّهُمْ يُلِينُونَ طَعَامَهُمْ وَعَيْشَهُمْ لِسَعَةِ أَيْدِيهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقِيلَ لِحِذْقِهِ وَدَهَائِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (إِنَّ حُذَيْفَةَ رَمَاهُ باناء الفضة حين جاءه بالشراب فِيهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا رَمَاهُ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ نَهَاهُ قَبْل ذَلِكَ عَنْهُ) فِيهِ تَحْرِيمُ الشرب فيه وتعزير من ارتكب معصية لاسيما إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ نَهْيُهُ عَنْهَا كَقَضِيَّةِ الدهقان مع حذيفة وفيه أنه لابأس أَنْ يُعَزِّرَ الْأَمِيرُ بِنَفْسِهِ بَعْضَ مُسْتَحِقِّي التَّعْزِيرِ وَفِيهِ أَنَّ الْأَمِيرَ وَالْكَبِيرَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا صحيحا فى نفس الأمر ولايكون وَجْهُهُ ظَاهِرًا فَيَنْبَغِي(14/35)
أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى دَلِيلِهِ وَسَبَبِ فِعْلِهِ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ) أَيْ إِنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الدنيا وأما الآخرة فمالهم فِيهَا مِنْ نَصِيبٍ وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَهُمْ فِي الجنة الحرير والذهب وما لاعين رأت ولاأذن سمعت ولاخطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِإِبَاحَتِهِ لَهُمْ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ الْوَاقِع فِي الْعَادَةِ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهُوَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) إِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ مَوْتِهِ صَارَ فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ فِي هَذَا الْإِكْرَامِ فَبَيَّنَ(14/36)
أَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبَعْدَهُ فِي الْجَنَّةِ أَبَدًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ وَيَسْتَمِرُّ فِي الْجَنَّةِ أَبَدًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (ولاتأكلوا فِي صِحَافِهَا) جَمْعُ صَحْفَةٍ وَهِيَ دُونَ الْقَصْعَةِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ الْكِسَائِيُّ أَعْظَمُ الْقِصَاعِ الْجَفْنَةُ ثُمَّ الْقَصْعَةُ تَلِيهَا تُشْبِعُ الْعَشَرَةَ ثُمَّ الصَّحْفَةُ تُشْبِعُ الْخَمْسَةَ ثُمَّ الْمَكِيلَةُ تُشْبِعُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ ثم الصحيفة تُشْبِعُ الرَّجُلَ
[2068] قَوْلُهُ (رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ) هِيَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتُ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ أَلِفٍ مَمْدُودَةٍ وَضَبَطُوا الْحُلَّةَ هُنَا بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّ سِيَرَاءَ صِفَةٌ وَبِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ وَهُمَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ وَالْمُحَقِّقُونَ وَمُتْقِنُو الْعَرَبِيَّةِ يَخْتَارُونَ الْإِضَافَةَ قَالَ سِيبَوَيْهِ لَمْ تَأْتِ فِعَلَاءُ صِفَةً وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ(14/37)
يُنَوِّنُونَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ حُلَّةٌ سِيَرَاءُ كَمَا قَالُوا نَاقَةٌ عُشَرَاءُ قَالُوا هِيَ بُرُودٌ يُخَالِطُهَا حَرِيرٌ وَهِيَ مُضَلَّعَةٌ بِالْحَرِيرِ وَكَذَا فَسَّرَهَا فِي الْحَدِيثِ فى سننأبى دَاوُدَ وَكَذَا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَالْأَصْمَعِيُّ وَآخَرُونَ قَالُوا كأنها شبهت خطوطها بالستور وقال بن شِهَابٍ هِيَ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ بِالْقَزِّ وَقِيلَ هِيَ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ وَقَالَ هِيَ وَشْيٌ مِنْ حَرِيرٍ وَقِيلَ إِنَّهَا حَرِيرٌ مَحْضٌ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى حُلَّةٌ مِنَ إِسْتَبْرَقٍ وَفِي الْأُخْرَى مِنْ دِيبَاجٍ أَوْ حَرِيرٍ وَفِي رِوَايَةٍ حُلَّةُ سُنْدُسٍ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْحُلَّةَ كَانَتْ حَرِيرًا مَحْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَلِأَنَّهَا هِيَ الْمُحَرَّمَةُ أَمَّا الْمُخْتَلِطُ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يَحْرُمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَرِيرُ أَكْثَرَ وَزْنًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ أهل اللغة الحلة لاتكون إلاثوبان وَتَكُونُ غَالِبًا إِزَارًا وَرِدَاءً وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْحُلَّةِ دَلِيلٌ لِتَحْرِيمِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَإِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ وَإِبَاحَةِ هَدِيَّتِهِ وَإِبَاحَةِ ثَمَنِهِ وَجَوَازِ إِهْدَاءِ الْمُسْلِمِ إِلَى الْمُشْرِكِ ثَوْبًا وَغَيْرَهُ وَاسْتِحْبَابِ لِبَاسِ أَنْفَسِ ثِيَابِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَعِنْدَ لِقَاءِ الْوُفُودِ وَنَحْوِهِمْ وَعَرْضِ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ وَالتَّابِعِ عَلَى الْمَتْبُوعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ من مصالحة التى قد لايذكرها وَفِيهِ صِلَةُ الْأَقَارِبِ وَالْمَعَارِفِ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا وَجَوَازُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ من لاخلاق له فى الآخرة) قيل معناه من لانصيب له فى الآخرة وقيل من لاحرمة له وقيل من لادين لَهُ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْكُفَّارِ وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ وَاللَّهُ أعلم قوله (فكساها عمر أخاله مُشْرِكًا بِمَكَّةَ) هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رواية للبخارى فِي كِتَابٍ قَالَ أَرْسَلَ(14/38)
بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةٍ فِي مُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِنِيِّ فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مِنْ أُمِّهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مُشْرِكًا وفىهذا كله دَلِيلٌ لِجَوَازِ صِلَةِ الْأَقَارِبِ الْكُفَّارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَجَوَازُ الْهَدِيَّةِ إِلَى الْكُفَّارِ وَفِيهِ جَوَازُ إِهْدَاءِ ثياب الحرير إلى الرجال لأنها لاتتعين لِلُبْسِهِمْ وَقَدْ يُتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ رِجَالَ الْكُفَّارِ يَجُوزُ لَهُمْ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَهَذَا وَهْمٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا فِيهِ الْهَدِيَّةُ إِلَى كَافِرٍ وَلَيْسَ فِيهِ الْإِذْنُ لَهُ فِي لُبْسِهَا وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ وَعَلِيٍّ وأسامة رضى الله عنهم ولايلزم مِنْهُ إِبَاحَةُ لُبْسِهَا لَهُمْ بَلْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِيَنْتَفِعَ بِهَا بِغَيْرِ اللُّبْسِ وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الْحَرِيرُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ والله أعلم قوله (رأى عمر عطارد التَّمِيمِيَّ يُقِيمُ بِالسُّوقِ حُلَّةً) أَيْ يَعْرِضُهَا لِلْبَيْعِ(14/39)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (شَقِّقْهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِكَ) هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا جَمْعُ خِمَارٍ وَهُوَ مَا يُوضَعُ(14/40)
عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ لُبْسِ النِّسَاءِ الْحَرِيرَ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ وَزَالَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَنْتَفِعَ بِهَا) أَيْ تَبِيعَهَا فَتَنْتَفِعَ بِثَمَنِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ التى قبلها وفى حديث بن مُثَنَّى بَعْدَهَا قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ قَالَ لِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْإِسْتَبْرَقِ قُلْتُ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ وَخَشُنَ مِنْهُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَفِي كِتَابَيِ الْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ قَالَ لِي سَالِمُ مَا الْإِسْتَبْرَقُ قُلْتُ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ وَهَذَا مَعْنَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَكِنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ وَمَعْنَاهَا قَالَ لِي سَالِمٌ فى الاستبرق ما هو فقلت هو ماغلظ فرواية مسلم صحيحة لاقدح فِيهَا وَقَدْ أَشَارَ الْقَاضِي(14/41)
إِلَى تَغْلِيطِهَا وَأَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ وَلَيْسَتْ بغلط بل صحيحة كما أوضحناه
[2069] قوله (ومئثرة الأرجوان) تقدم تفسير المئثرة وضبطها وأما الأجوان فَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْجِيمِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ المعروف فى روايات الحديث وفى كتب الغريب وفى كتب اللغة وغيرها وكذاصرح بِهِ الْقَاضِّي فِي الْمَشَارِقِ وَفِي شَرْحِ الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ مِنَ النُّسَّاخِ لامن الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ هُوَ صِبْغٌ أحمر شديد الحمرة هكذا قاله أبوعبيد والجمهور وقال الفراء هو الحمرة وقال بن فَارِسٍ هُوَ كُلُّ لَوْنٍ أَحْمَرَ وَقِيلَ هُوَ الصُّوفُ الْأَحْمَرُ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ هُوَ شَجَرٌ لَهُ نور أحمر أحسن مايكون قَالَ وَهُوَ مُعْرَّبٌ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ عَرَبِيٌّ قَالُوا وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ يُقَال هَذَا ثَوْبُ أُرْجُوَانٍ وَهَذِهِ قَطِيفَةُ أُرْجُوَانٍ وَقَدْ يَقُولُونَهُ عَلَى الصِّفَةِ وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ فِي اسْتِعْمَالِهِ إِضَافَةُ الْأُرْجُوَانِ إِلَى مَا بَعْدَهُ ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الرَّاءِ وَالْجِيمِ وَالْوَاوِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَلَا يُغْتَرُّ بِذِكْرِ الْقَاضِي لَهُ فِي الْمَشَارِقِ فِي بَابِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ والجيم ولابذكر بن الْأَثِيرِ لَهُ فِي الرَّاءِ وَالْجِيمِ وَالنُّونِ وَاللَّهُ أعلم قوله (ان اسماء أرسلت إلى بن عُمَرَ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَرِّمُ أَشْيَاءَ ثَلَاثَةً الْعَلَمُ فِي الثَّوْبِ وَمِئْثَرَةُ الْأُرْجُوَانِ وَصَوْمُ رَجَبٍ كُلِّهِ فقال بن عمر أما ذَكَرْتُ مِنْ رَجَبٍ فَكَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الْأَبَدِ وأما ماذكرت مِنَ الْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(14/42)
يقول انما يلبس الحرير من لاخلاق له فحفت أَنْ يَكُونَ الْعَلَمُ مِنْهُ وَأَمَّا مِئْثَرَةُ الْأُرْجُوَانِ فهذه مئثرة عبد الله أرجوان فَهَذِهِ مِئْثَرَةُ عَبْدِ اللَّهِ أُرْجُوَانٌ فَقَالَتْ هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخرجت إلى بجبة طَيَالِسَةٍ كِسْرَوَانِيَّةٍ لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بالدبياج فَقَالَتْ هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ حَتَّى قُبِضَتْ فلما قبضت قبضها وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُهَا فنحن نغسلها للمرمضى يستشفى بها) أما جواب بن عُمَرَ فِي صَوْمِ رَجَبٍ فَإِنْكَارٌ مِنْهُ لِمَا بلغها عَنْهُ مِنْ تَحْرِيمِهِ وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُ يَصُومُ رَجَبًا كُلَّهُ وَأَنَّهُ يَصُومُ الْأَبَدَ وَالْمُرَادُ بِالْأَبَدِ مَا سِوَى أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ وَهَذَا مَذْهَبُهُ وَمَذْهَبُ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَائِشَةَ وَأَبِي طَلْحَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ من العلماء أنه لايكره صَوْمُ الدَّهْرِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مَعَ شَرْحِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُ عَنْهُ مِنْ كَرَاهَةِ الْعِلْمِ فَلَمْ يَعْتَرِفْ بِأَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُهُ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَوَرَّعَ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ دُخُولِهِ فِي عموم النهى عن الحرير وأما المئثرة فَأَنْكَرَ مَا بَلَغَهَا عَنْهُ فِيهَا وَقَالَ هَذِهِ مِئْثَرَتِي وَهِيَ أُرْجُوَانٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهَا حَمْرَاءُ وَلَيْسَتْ مِنْ حَرِيرٍ بَلْ مِنْ صُوفٍ أَوْ غَيْرِهِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِنْ حَرِيرٍ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ صُوفٍ وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْهَا مَخْصُوصَةٌ بِالَّتِي هِيَ مِنَ الْحَرِيرِ وَأَمَّا إِخْرَاجُ أَسْمَاءَ جُبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَكْفُوفَةِ بِالْحَرِيرِ فَقَصَدْتُ بِهَا بَيَانَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُحَرَّمًا وَهَكَذَا الْحُكْمُ عند الشافعى وغيره أن الثوب والحبة وَالْعِمَامَةَ وَنَحْوَهَا إِذَا كَانَ مَكْفُوفَ الطَّرَفِ بِالْحَرِيرِ جَازَ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعِ أَصَابِعَ فَإِنْ زَادَ فَهُوَ حَرَامٌ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْمَذْكُورِ بَعْدَ هَذَا وَأَمَّا قَوْلُهُ (جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ) فَهُوَ بِإِضَافَةِ جُبَّةٍ إِلَى طَيَالِسَةٍ وَالطَّيَالِسَةُ جَمْع طَيْلَسَانٍ بِفَتْحِ اللَّامِ(14/43)
على المشهور قال جماهير أهل اللغة لايجوز فِيهِ غَيْرُ فَتْحِ اللَّامِ وَعَدُّوا كَسْرَهَا فِي تَصْحِيفِ الْعَوَامِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ فِي حَرْفِ السِّينِ وَالْيَاءِ فِي تَفْسِيرِ السَّاجِ أَنَّ الطَّيْلَسَانَ يُقَال بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا وَهَذَا غريب ضعيف وأما قوله (كسروانية) فَهُوَ بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِهَا وَالسِّينُ سَاكِنَةٌ وَالرَّاءُ مَفْتُوحَةٌ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ جُمْهُورَ الرُّوَاةِ رَوَوْهُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَهُوَ نِسْبَةٌ إِلَى كِسْرَى صَاحِبِ الْعِرَاقِ مَلِكِ الْفُرْسِ وَفِيهِ كَسْرُ الْكَافِ وَفَتْحُهَا قَالَ الْقَاضِي وَرَوَاهُ الْهَرَوِيُّ فِي مُسْلِمٍ فَقَالَ خِسْرَوَانِيَّةٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّبَرُّكِ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَثِيَابِهِمْ وَفِيهِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْحَرِيرِ الْمُرَادُ بِهِ الثَّوْبُ الْمُتَمَحِّضُ مِنَ الْحَرِيرِ أَوْ مَا أَكْثَرُهُ حَرِيرٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ المراد تحريم كل جزءمنه بِخِلَافِ الْخَمْرِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُمَا وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْجُبَّةِ (إِنَّ لَهَا لِبْنَةً) فَهُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ هَكَذَا ضَبَطَهَا الْقَاضِي وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ وَكَذَا هِيَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ قَالُوا وَهِيَ رُقْعَةٌ فِي جَيْبِ الْقَمِيصِ هَذِهِ عِبَارَتُهُمْ كُلِّهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهَا (وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ) فَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ وَهُمَا مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَرَأَيْتُ فَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ وَمَعْنَى الْمَكْفُوفِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا كُفَّةً بِضَمِّ الْكَافِ وَهُوَ مايكف بِهِ جَوَانِبُهَا وَيُعْطَفُ عَلَيْهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الذَّيْلِ وَفِي الْفَرْجَيْنِ وَفِي الْكُمَّيْنِ وَفِي هَذَا جواز لباس الجبة ولباس ماله فرجان وأنه لاكراهة فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي ذُبْيَانَ) هو بضم الذال وكسرها وقوله (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَطَبَ فَقَالَ لاتلبسوا نِسَاءَكُمُ الْحَرِيرَ فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاتلبسوا الحرير) هذا مذهب بن الزُّبَيْرِ وَأَجْمَعُوا بَعْدَهُ عَلَى إِبَاحَةِ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ كَمَا سَبَقَ وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ إِنَّمَا وَرَدَ فِي لُبْسِ الرِّجَالِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خِطَابٌ لِلذُّكُورِ وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مُحَقِّقِي الْأُصُولِيِّينَ أن النساء لايدخلن فِي خِطَابِ الرِّجَالِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالثَّانِي أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ قَبْلَ هَذَا وَبَعْدَهُ صَرِيحَةٌ فِي إِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ(14/44)
وَأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ بِأَنْ يَكْسُوَاهُ نِسَاءَهُمَا مَعَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه ونحن بأذربيجان ياعتبة بْنَ فَرْقَدٍ) إِلَى آخِرِهِ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَقَالَ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَسْمَعْهُ أَبُو عُثْمَانَ مِنْ عُمَرَ بَلْ أَخْبَرَ عَنْ كِتَابِ عُمَرَ وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ بَاطِلٌ فَإِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُحَدِّثِينَ وَمُحَقِّقُو الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ جَوَازُ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَرِوَايَتِهِ عَنِ الْكَاتِبِ سَوَاءٌ قَالَ فِي الْكِتَابِ أَذِنْتُ لَكَ فِي رِوَايَةِ هَذَا عَنِّي أَوْ أَجَزْتُكَ رِوَايَتَهُ عَنِّي أَوْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسَائِرُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُصَنَّفِينَ فِي تَصَانِيفِهِمْ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُكَاتَبَةِ فَيَقُولُ الرَّاوِي مِنْهُمْ وَمِمَّنْ قَبْلَهُمْ كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ كَذَا أَوْ كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَانٌ أَوْ أَخْبَرَنِي مُكَاتَبَةً وَالْمُرَادُ بِهِ هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَذَلِكَ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَهُمْ مَعْدُودٌ فِي الْمُتَّصِلِ لِإِشْعَارِهِ بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ وَزَادَ السَّمْعَانِيُّ فَقَالَ هِيَ أَقْوَى مِنَ الْإِجَازَةِ وَدَلِيلُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ وَنُوَّابِهِ وَأُمَرَائِهِ وَيَفْعَلُونَ مَا فِيهَا وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا فَإِنَّهُ كَتَبَهُ إِلَى جَيْشِهِ وَفِيهِ خَلَائِقُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ عَلَى حُصُولِ الِاتِّفَاقِ مِنْهُ وَمِمَّنْ عِنْدَهُ فِي الْمَدِينَةِ وَمَنْ فِي الْجَيْشِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُثْمَانُ كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ فَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلرَّاوِي بِالْمُكَاتَبَةِ أَنْ يَقُولَ كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَانٌ أَوْ أَخْبَرَنَا فُلَانٌ مُكَاتَبَةً أَوْ فِي كِتَابِهِ أَوْ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إلى ونحو هذا ولايجوز أَنْ يُطْلَقَ قَوْلُهُ حَدَّثَنَا وَلَا أَخْبَرَنَا هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَجَوَّزَهُ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الحديث وكبارهم منهم مَنْصُورٌ وَاللَّيْثُ وَغَيْرُهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ) هِيَ إِقْلِيمٌ مَعْرُوفٌ وَرَاءَ الْعِرَاقِ وَفِي ضَبْطِهَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أَشْهَرُهُمَا وَأَفْصَحُهُمَا وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَذْرَبِيجَانُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بِغَيْرِ مَدَّةٍ وَإِسْكَانِ الذَّالِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَآخَرُونَ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالثَّانِي(14/45)
مَدُّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحُ الذَّالِ وَفَتْحُ الرَّاءِ وَكَسْرُ الْبَاءِ وَحَكَى صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ أَنَّ جَمَاعَةً فَتَحُوا الْبَاءَ عَلَى هَذَا الثَّانِي وَالْمَشْهُورُ كَسْرُهَا قَوْلُهُ (كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ يَا عُتْبَةُ بْنَ فرقد أنه ليس من كدك ولاكد أَبِيكَ فَأَشْبِعِ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِكَ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ وَلَبُوسَ الْحَرِيرِ) أَمَّا قَوْلُهُ كَتَبَ إِلَيْنَا فَمَعْنَاهُ كَتَبَ إِلَى أَمِيرِ الْجَيْشِ وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ لِيَقْرَأَهُ عَلَى الْجَيْشِ فَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَأَمَّا قَوْلُهُ (لَيْسَ مِنْ كَدِّكَ) فَالْكَدُّ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ هَذَا الْمَالَ الَّذِي عِنْدَكَ لَيْسَ هُوَ مِنْ كَسْبِكَ وَمِمَّا تَعِبْتَ فِيهِ وَلَحِقَتْكَ الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ فِي كَدِّهِ وَتَحْصِيلِهِ ولاهو مِنْ كَدِّ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَوَرِثْتَهُ مِنْهُمَا بَلْ هو مال المسلمين فشاركهم فيه ولاتختص عَنْهُمْ بِشَيْءٍ بَلْ أَشْبِعْهُمْ مِنْهُ وَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ أَيْ مَنَازِلِهِمْ كَمَا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي الجنس والقدر والصفة ولاتؤخر أرزاقهم عنهم ولاتحوجهم يَطْلُبُونَهَا مِنْكَ بَلْ أَوْصِلْهَا إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ بِلَا طَلَبٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وزى العجم) فهوبكسر الزَّايِ وَلَبُوسُ الْحَرِيرِ هُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الْبَاءِ مَا يَلْبَسُ مِنْهُ وَمَقْصُودُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَثُّهُمْ عَلَى خُشُونَةِ الْعَيْشِ وصلابتهم(14/46)
فِي ذَلِكَ وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ فِي مُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةِ الْإِسْفَرَايِنِيِّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ أَمَّا بَعْدَ فَاتَّزِرُوا وَارْتَدُوا وَأَلْقُوا الْخِفَافَ وَالسَّرَاوِيلَاتِ وَعَلَيْكُمْ بِلِبَاسِ أَبِيكُمْ إِسْمَاعِيلَ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْأَعَاجِمِ وَعَلَيْكُمْ بِالشَّمْسِ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ وَتَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا وَاقْطَعُوا الرَّكْبَ وَابْرُزُوا وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَرُئِيتُهُمَا أَزْرَارَ الطَّيَالِسَةِ حَتَّى رَأَيْتُ الطَّيَالِسَةَ) فَقَوْلُهُ فَرُئِيتُهُمَا هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الرَّاءِ قَوْلُهُ (فَمَا عَتَّمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي الْأَعْلَامَ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ عَتَّمْنَا بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مِيمٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ نُونٍ وَمَعْنَاهُ مَا أَبْطَأَنَا فِي مَعْرِفَةِ أنه أر الْأَعْلَامَ يُقَالُ عَتَّمَ الشَّيْءَ إِذَا أَبْطَأَ وَتَأَخَّرَ وَعَتَّمْتُهُ إِذَا أَخَّرْتُهُ وَمِنْهُ حَدِيثُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ غَرَسَ كَذَا وَكَذَا أَوْدِيَةٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاوِلُهُ وَهُوَ يَغْرِسُ فَمَا عَتَّمْتُ مِنْهَا وَاحِدَةً أَيْ مَا أَبْطَأْتُ أَنْ عَلَّقْتُ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ ضَبْطِ اللَّفْظَةِ وَشَرْحِهَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ الذى(14/47)
صَرَّحَ بِهِ جُمْهُورُ الشَّارِحِينَ وَأَهْلُ غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ عَنْ بَعْضِهِمْ تَغْيِيرًا وَاعْتِرَاضًا لاحاجة إِلَى ذِكْرِهِ لِفَسَادِهِ قَوْلُهُ (عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ نَهَى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ) هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ وَقَالَ لَمْ يَرْفَعْهُ عن الشعبى إلاقتادة وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي السَّفَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ بَيَانٌ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ سُوَيْدٍ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَكَذَا قَالَ شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ سويد وقاله بن عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سُوَيْدٍ وَأَبُو حُصَيْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سُوَيْدٍ هَذَا كَلَامُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ انْفَرَدَ بِهَا مُسْلِمٌ لَمْ يَذْكُرْهَا الْبُخَارِيُّ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الثِّقَةَ إِذَا انْفَرَدَ بِرَفْعِ مَا وَقَفَهُ الْأَكْثَرُونَ كَانَ الْحُكْمُ لِرِوَايَتِهِ وَحُكِمَ بِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ وَمُحَقِّقُو الْمُحَدِّثِينَ وَهَذَا مِنْ ذَاكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِبَاحَةُ الْعَلَمِ مِنَ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ(14/48)
بِمَنْعِهِ وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ رِوَايَةٌ بِإِبَاحَةِ الْعَلَمِ بلا تقدير بأربع أصابع بل قال يجوزوان عَظُمَ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَرْدُودَانِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّرِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرُّزِّيُّ) هُوَ بِرَاءٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ زَايٍ مُشَدَّدَةٍ قَوْلُهُ (فَأَطَرْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي) أَيْ قَسَمْتُهَا قَوْلُهُ (أَنَّ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ) هِيَ بِضَمِّ الدَّالِ وفتحها لغتان مشهورتان وزعم بن دُرَيْدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا الضَّمُّ وَأَنَّ المحدثين(14/49)
يفتوحنها وَأَنَّهُمْ غَالِطُونَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ أَهْلُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَهَا بِالضَّمِّ وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَفْتَحُونَهَا وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا دَوْمًا وَهِيَ مَدِينَةٌ لَهَا حِصْنٌ عَادِيٌّ وَهِيَ فِي بَرِّيَّةٍ فِي أَرْضِ نَخْلٍ وَزَرْعٍ يَسْقُونَ بِالنَّوَاضِحِ وَحَوْلَهَا عُيُونٌ قَلِيلَةٌ وَغَالِبُ زَرْعِهِمُ الشَّعِيرِ وَهِيَ عَنِ الْمَدِينَةِ عَلَى نَحْوِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةٍ وَعَنْ دِمَشْق عَلَى نَحْوِ عشر مراحل وعن الكوفة على قدر عشرمراحل أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا أُكَيْدِرٌ فَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلَكِ الْكِنْدِيُّ قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُبْهَمَاتُ كَانَ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ قَالَ وَقِيلَ بل مات نصرانيا وقال بن منده وأبونعيم الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابَيْهِمَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ إِنَّ أُكَيْدِرًا هَذَا أَسْلَمَ وَأَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةَ سِيَرَاءَ قَالَ بن الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ أَمَّا الْهَدِيَّةُ وَالْمُصَالَحَةُ فَصَحِيحَانِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَغَلَطٌ قَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ السِّيَرِ وَمَنْ قَالَ أَسْلَمَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً فَاحِشًا قَالَ وَكَانَ أُكَيْدِرٌ نَصْرَانِيًّا فَلَمَّا صَالَحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ إِلَى حِصْنِهِ وَبَقِيَ فِيهِ ثُمَّ حَاصَرَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَتَلَهُ مُشْرِكًا نَصْرَانِيًّا يَعْنِي لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ قَالَ وَذَكَرَ الْبَلَاذُرِيُّ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَادَ إِلَى دَوْمَةَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ أُكَيْدِرٌ فَلَمَّا سَارَ خَالِدٌ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ قَتَلَهُ وَعَلَى هَذَا القول لاينبغى أيضا عده فى الصحابة هذا كلام بن الْأَثِيرِ قَوْلُهُ (إِنَّ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَ حَرِيرٍ فَأَعْطَاهُ عَلِيًّا فَقَالَ شَقِّقْهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ) أَمَّا الْخُمُرُ فَسَبَقَ أَنَّهُ بِضَمِّ الْمِيمِ جَمْعُ خِمَارٍ وَأَمَّا الْفَوَاطِمُ فَقَالَ الْهَرَوِيُّ وَالْأَزْهَرِيُّ وَالْجُمْهُورُ إِنَّهُنَّ ثَلَاثٌ فَاطِمَةُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ وَهِيَ(14/50)
أُمُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وَلَدَتْ لِهَاشِمِيِّ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ وَذَكَرَ الْحَافِظَانِ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سعيد وبن عَبْدِ الْبَرِّ بِإِسْنَادِهِمَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَسَمَهُ بَيْنَ الْفَوَاطِمِ الْأَرْبَعِ فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الرَّابِعَةُ فَاطِمَةَ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ امْرَأَةَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِاخْتِصَاصِهَا بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْمُصَاهَرَةِ وَقُرْبِهَا إِلَيْهِ بِالْمُنَاسَبَةِ وَهِيَ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ شَهِدَتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا وَلَهَا قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْغَنَائِمِ تَدُلُّ عَلَى وَرَعِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ أُمُّ عَلِيٍّ كَانَتْ مِنْهُنَّ وَهُوَ مُصَحِّحٌ لِهِجْرَتِهَا كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْكَافِرِ وَقَدْ سَبَقَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي هَذَا وَفِيهِ جَوَازُ هَدِيَّةِ الْحَرِيرِ إِلَى الرِّجَالِ وَقَبُولِهِمْ إِيَّاهُ وَجَوَازُ لِبَاسِ النِّسَاءِ لَهُ قَوْلُهُ(14/51)
[2075] (أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُّوجَ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ فَنَزَعَهُ نزعا شديدا كالكاره له ثم قال لاينبغى هَذَا لِلْمُتَّقِينَ) الْفَرُّوجُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي ضَبْطِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُمْهُورُ غَيْرَهُ وَحُكِيَ ضَمُّ الْفَاءِ وَحَكَى الْقَاضِي فِي الشَّرْحِ وَفِي الْمَشَارِقِ تَخْفِيفَ الرَّاءِ وَتَشْدِيدَهَا وَالتَّخْفِيفُ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ قَالُوا وَهُوَ قَبَاءٌ لَهُ شِقٌّ مِنْ خَلْفِهِ وَهَذَا اللُّبْسُ المذكور فى هذا الْحَدِيثِ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَلَعَلَّ أَوَّلَ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ كَانَ حِينَ نَزَعَهُ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ قَبْلَ هَذَا بِأَسْطُرٍ حِينَ صَلَّى فِي قَبَاءٍ دِيبَاجٍ ثُمَّ نَزَعَهُ وَقَالَ نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ فَيَكُونُ هَذَا أَوَّلَ التَّحْرِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب إِبَاحَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ بِهِ حِكَّةٌ أَوْ نَحْوُهَا)
[2076] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامِّ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمَا شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَمْلَ فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ لِمَذْهَبِ(14/52)
الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لُبْسُ الْحَرِيرِ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَتْ بِهِ حِكَّةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبُرُودَةِ وَكَذَلِكَ لِلْقَمْلِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ وقال مالك لايجوز وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دليل لجواز لبس الحرير عندالضرورة كمن فاجأته الحرب ولم يجد غيره وأما قَوْلُهُ لِحِكَّةٍ فَهِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ وهى الجرب أونحوه ثُمَّ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ لُبْسُ الْحَرِيرِ لِلْحِكَّةِ وَنَحْوِهَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ جَمِيعًا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يختص بالسفر وهو ضعيف
(باب النهى عن لبس الرجل الثوب المعصفر)
[2077] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنِي محمد بن ابراهيم بن الحارث أن بن مَعْدَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ نُفَيْرٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أخبره(14/53)
قَالَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبِسْهَا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على ثوبين معصفرين فقال أمك أَمَرَتْكَ بِهَذَا قُلْتُ أَغْسِلُهُمَا قَالَ بَلْ أَحْرِقْهُمَا
[2078] وَفِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ وَالْمُعَصْفَرِ هَذَا الْإِسْنَادُ الَّذِي ذكرنا فِيهِ أَرْبَعَةٌ تَابِعِيُّونَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهُمْ يَحْيَى بْنُ سعيدالأنصارى وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ وَخَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ وَجُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الثِّيَابِ الْمُعَصْفَرَةِ وَهِيَ الْمَصْبُوغَةِ بِعُصْفُرٍ فَأَبَاحَهَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ لَكِنَّهُ قَالَ غَيْرُهَا أَفْضَلُ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ لُبْسَهَا فِي الْبُيُوتِ وَأَفْنِيَةِ الدُّورِ وَكَرِهَهُ فِي الْمَحَافِلِ وَالْأَسْوَاقِ وَنَحْوِهَا وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ حُلَّةً حَمْرَاءَ وفى الصحيحين عن بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ النَّهْيُ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَا صُبِغَ مِنَ الثِّيَابِ بَعْدَ النَّسْجِ فَأَمَّا مَا صُبِغَ غَزْلُهُ ثُمَّ نُسِجَ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي النَّهْيِ وَحَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ النَّهْيَ هُنَا عَلَى الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أو العمرة ليكون موافقا لحديث بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نُهِيَ الْمُحْرِمُ أَنْ يلبس ثوبا همسه وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ وَأَمَّا الْبَيْهَقِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتْقَنَ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ مَعْرِفَةِ السُّنَنِ نَهَى الشَّافِعِيُّ الرَّجُلَ عَنِ الْمُزَعْفَرِ وَأَبَاحَ الْمُعَصْفَرَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنَّمَا رَخَّصْتُ فِي الْمُعَصْفَرِ لِأَنِّي لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَحْكِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيَ عَنْهُ إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَانِي وَلَا أَقُولُ نَهَاكُمْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَلَى الْعُمُومِ ثُمَّ ذكر حديث عبد الله بن عمروبن العاص(14/54)
هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ أَحَادِيثَ أُخَرَ ثم قال لو بَلَغَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الشَّافِعِيَّ لَقَالَ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مَا صَحَّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ إِذَا كَانَ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ قَوْلِي فَاعْمَلُوا بِالْحَدِيثِ وَدَعُوا قَوْلِي وَفِي رِوَايَةٍ فَهُوَ مَذْهَبِي قَالَ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَنْهَى الرَّجُلَ الْحَلَالَ بِكُلِّ حَالٍ أَنْ يَتَزَعْفَرَ قَالَ وَآمُرُهُ إِذَا تَزَعْفَرَ أَنْ يَغْسِلَهُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فَتَبِعَ السنة فى المزعفر فمتا بعتها فِي الْمُعَصْفَرِ أَوْلَى قَالَ وَقَدْ كَرِهَ الْمُعَصْفَرَ بَعْضُ السَّلَفِ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَرَخَّصَ فِيهِ جَمَاعَةٌ وَالسُّنَّةُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا) مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا مِنْ لِبَاسِ النِّسَاءِ وَزِيِّهِنَّ وَأَخْلَاقِهِنَّ وَأَمَّا الْأَمْرُ بِإِحْرَاقِهِمَا فَقِيلَ هُوَ عُقُوبَةٌ وَتَغْلِيظٌ لِزَجْرِهِ(14/55)
وَزَجْرِ غَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ وَهَذَا نظير أمرتلك المرأة التى لعنت الناقة بارسلها وَأَمَرَ أَصْحَابَ بَرِيرَةَ بِبَيْعِهَا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمُ اشْتِرَاطَ الولاء ونحو ذلك والله أعلم
(باب فضل لباس ثياب الحبرة)
هَذَانِ الْإِسْنَادَانِ اللَّذَانِ فِي الْبَابِ كُلُّ رِجَالِهِمْ بَصْرِيُّونَ وَسَبَقَ بَيَانُ هَذَا مَرَّاتٍ
[2079] قَوْلُهُ (كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِبَرَةَ) هِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَهِيَ ثِيَابٌ مِنْ كَتَّانٍ أَوْ قُطْنٍ مُحَبَّرَةٌ أَيْ مُزَيَّنَةٌ وَالتَّحْبِيرُ التَّزْيِينُ وَالتَّحْسِينُ وَيُقَالُ ثَوْبٌ حِبَرَةٌ عَلَى الْوَصْفِ وَثَوْبُ حِبَرَةٍ عَلَى الاضافة وهو أكثر استعمالاوالحبرة مُفْرَدٌ وَالْجَمْعُ حِبَرٌ وَحِبَرَاتٌ كَعِنَبَةٍ وَعِنَبٍ وَعِنَبَاتٍ وَيُقَالُ ثَوْبٌ حَبِيرٌ عَلَى الْوَصْفِ فِيهِ دَلِيلُ لِاسْتِحْبَابِ لِبَاسُ الْحِبَرَةِ وَجَوَازُ لِبَاسِ الْمُخَطِّطِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب التَّوَاضُعِ فِي اللِّبَاسِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْغَلِيظِ مِنْهُ وَالْيَسِيرِ فِي اللباس والفراش وغيرهما وجواز لبس ثوب الشعر وما فيه أعلام))
فى هذه الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ مَتَاعِهَا وَمَلَاذِّهَا وَشَهَوَاتِهَا وَفَاخِرِ لِبَاسِهَا وَنَحْوِهِ وَاجْتِزَائِهِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ أدنى التحزية فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَفِيهِ النَّدْبُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ
[2080] قوله (أخرجت(14/56)
إِلَيْنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِزَارًا وَكِسَاءً مُلَبَّدًا فَقَالَتْ فِي هَذَا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُلَبَّدُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ الْمُرَقَّعُ يُقَالُ لَبَدْتُ الْقَمِيصَ أَلْبُدُهُ بِالتَّخْفِيفِ فِيهِمَا وَلَبَّدْتُهُ أُلَبِّدُهُ بِالتَّشْدِيدِ وَقِيلَ هُوَ الَّذِي ثَخُنَ وَسَطُهُ حَتَّى صَارَ كَاللَّبَدِ
[2081] قَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ) أَمَّا الْمِرْطُ فَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهُوَ كِسَاءٌ يَكُونُ تَارَةً مِنْ صُوفٍ وَتَارَةً مِنْ شَعْرٍ أَوْ كَتَّانٍ أَوْ خَزٍّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ هو كساء يؤتزربه وقال النضر لايكون المرط الادرعا ولايلبسه الاالنساء ولايكون الاأخضر وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ مُرَحَّلٌ فَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي رَوَاهُ الْجُمْهُورُ وَضَبَطَهُ الْمُتْقِنُونَ وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِالْجِيمِ أَيْ عَلَيْهِ صُوَرُ الرِّجَالِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَمَعْنَاهُ عَلَيْهِ صورة رحال الابل ولابأس بهذه الصور(14/57)
وَإِنَّمَا يَحْرُمُ تَصْوِيرُ الْحَيَوَانِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ الْمُرَحَّلُ الَّذِي فِيهِ خُطُوطُ وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ فَقَيَّدْتُهُ بِالْأَسْوَدِ لِأَنَّ الشَّعْرَ قَدْ يَكُونُ أَبْيَضَ
[2082] قَوْلُهُ (إِنَّمَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ أَدَمًا حَشْوُهُ لِيفٌ) وَفِي رِوَايَةٍ وِسَادَةٌ بَدَلُ فِرَاشٍ وَفِي نُسْخَةٍ وَسَادٌ فِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْفُرُشِ وَالْوَسَائِدِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهَا وَجَوَازُ الْمَحْشُوِّ وَجَوَازُ اتِّخَاذِ ذَلِكَ مِنَ الْجُلُودِ وَهِيَ الأدم والله أعلم
(باب جواز اتخاذالأنماط)
[2083] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَابِرٍ حِينَ تَزَوَّجَ (أَتَّخَذْتَ أَنْمَاطًا قَالَ وَأَنَّى لَنَا قَالَ أَمَّا إِنَّهَا سَتَكُونُ) الْأَنْمَاطُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ نمط بفتح النون والميم وهو ظِهَارَةُ الْفِرَاشِ وَقِيلَ ظَهْرُ الْفِرَاشِ وَيُطْلَقُ(14/58)
أَيْضًا عَلَى بِسَاطٍ لَطِيفٍ لَهُ خَمْلٌ يُجْعَلُ عَلَى الْهَوْدَجِ وَقَدْ يُجْعَلُ سِتْرًا وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا فِي بَابِ الصُّوَرِ قَالَتْ فَأَخَذْتُ نَمَطًا فَسَتَرْتُهُ عَلَى الْبَابِ وَالْمُرَادُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَفِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْأَنْمَاطِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ حَرِيرٍ وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ بِإِخْبَارِهِ بِهَا وَكَانَتْ كَمَا أَخْبَرَ قَوْلُهُ (عَنْ جَابِرٍ قَالَ وَعِنْدَ امْرَأَتِي نَمَطٌ فَأَنَا أَقُولُ نَحِّيهِ عَنِّي وَتَقُولُ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا سَتَكُونُ) قَوْلُهُ نَحِّيهِ عَنِّي أَيْ أَخْرِجِيهِ مِنْ بَيْتِي كَأَنَّهُ كَرِهَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لِأَنَّهُ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَمُلْهِيَاتِهَا والله أعلم
(باب كراهة مازاد عَلَى الْحَاجَةِ مِنْ الْفِرَاشِ وَاللِّبَاسِ)
[2084] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ وَفِرَاشٌ لِامْرَأَتِهِ وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أن مازاد عَلَى الْحَاجَةِ فَاتِّخَاذُهُ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُبَاهَاةِ وَالِاخْتِيَالِ وَالِالْتِهَاءِ بِزِينَةِ الدُّنْيَا وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مَذْمُومٌ وَكُلُّ مَذْمُومٍ يُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ يَرْتَضِيهِ وَيُوَسْوِسُ بِهِ وَيُحَسِّنُهُ وَيُسَاعِدُ عَلَيْهِ وَقِيلَ إِنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَانَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ مَبِيتٌ وَمَقِيلٌ كَمَا أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الْمَبِيتُ بِالْبَيْتِ الَّذِي لايذكر اللَّهَ تَعَالَى صَاحِبُهُ عِنْدَ دُخُولِهِ عِشَاءً وَأَمَّا تَعْدِيدُ الْفِرَاشِ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فَلَا(14/59)
بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى فِرَاشٍ عِنْدَ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ وَغَيْرِ ذلك واستدل بعضهم بهذا على أنه لايلزمه النَّوْمُ مَعَ امْرَأَتِهِ وَأَنَّ لَهُ الِانْفِرَادَ عَنْهَا بِفِرَاشٍ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ فِي هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا وَقْتُ الْحَاجَةِ كَالْمَرَضِ وَغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ النَّوْمُ مَعَ الزَّوْجَةِ لَيْسَ وَاجِبًا لَكِنَّهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَالصَّوَابُ فِي النَّوْمِ مَعَ الزَّوْجَةِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عُذْرٌ فِي الِانْفِرَادِ فَاجْتِمَاعُهُمَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ أَفْضَلُ وَهُوَ ظَاهِرُ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ مَعَ مُوَاظَبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فَيَنَامُ مَعَهَا فَإِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ لوظيفته قام وتركها فيجمع بين وظيفته وقضاءحقها المندوب وعشرتها بالمعروف لاسيما إِنْ عَرَفَ مِنْ حَالِهَا حِرْصَهَا عَلَى هَذَا ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ النَّوْمِ مَعَهَا الْجِمَاعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ جَرِّ الثَّوْبِ خلاء وَبَيَانِ حَدِّ مَا يَجُوزُ إِرْخَاؤُهُ إِلَيْهِ وَمَا يستحب)
[2085] قوله صلى الله عليه وسلم (لاينظر اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهَ خُيَلَاءَ) وَفِي رواية ان الله لاينظر إِلَى مَنْ يَجُرُّ إِزَارَهُ بَطَرًا
[2086] وَفِي رِوَايَةٍ عن بن عُمَرَ مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي إِزَارِي اسْتِرْخَاءٌ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ ارْفَعْ إِزَارَكَ فَرَفَعْتُهُ ثُمَّ قَالَ زِدْ فَزِدْتُ فَمَا زِلْتُ أَتَحَرَّاهَا بَعْدُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَيْنَ فَقَالَ أَنْصَافُ السَّاقَيْنِ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْخُيَلَاءُ بِالْمَدِّ وَالْمَخِيلَةُ وَالْبَطَرُ وَالْكِبْرُ وَالزَّهْوُ والتبختر(14/60)
كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ حَرَامٌ وَيُقَالُ خَالَ الرجل خالاواختال اختيالااذا تَكَبَّرَ وَهُوَ رَجُلٌ خَالٌ أَيْ مُتَكَبِّرٌ وَصَاحِبُ خال أى صاحب كبر ومعنى لاينظر الله إليه أى لا يرحمه ولاينظر إِلَيْهِ نَظَرَ رَحْمَةٍ وَأَمَّا فِقْهُ الْأَحَادِيثِ فَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَاضِحًا بِفُرُوعِهِ وَذَكَرْنَا هناك(14/61)
الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ أَنَّ الْإِسْبَالَ يَكُونُ فِي الْإِزَارِ والقميص والعمامة وأنه لايجوز إِسْبَالُهُ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ إِنْ كَانَ لِلْخُيَلَاءِ فَإِنْ كان لغيرها فهومكروه وَظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ فِي تَقْيِيدِهَا بِالْجَرِّ خُيَلَاءَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِالْخُيَلَاءِ وَهَكَذَا نَصَّ الشافعى على الفرق كماذكرنا وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْإِسْبَالِ لِلنِّسَاءِ وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِذْنُ لَهُنَّ فِي إِرْخَاءِ ذُيُولِهِنَّ ذِرَاعًا وَاللَّهُ أعلم وأما القدر المستحب فِيمَا يَنْزِلُ إِلَيْهِ طَرَفُ الْقَمِيصِ وَالْإِزَارِ فَنِصْفُ الساقين كما فى حديث بن عُمَرَ الْمَذْكُورِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إِزَارَةُ المؤمن إلى أنصاف ساقيه لاجناح عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ فَالْمُسْتَحَبُّ نِصْفُ الساقين والجائز(14/62)
بلا كراهة ماتحته إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَمَا نَزَلَ عَنِ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنْ كَانَ لِلْخُيَلَاءِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مَنْعَ تحريم والافمنع تنزيه وأما الأحاديث المطلقة بأن ماتحت الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ فَالْمُرَادُ بِهَا مَا كَانَ لِلْخُيَلَاءِ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي قَالَ الْعُلَمَاءُ وَبِالْجُمْلَةِ يكره كل مازاد عَلَى الْحَاجَةِ وَالْمُعْتَادِ فِي اللِّبَاسِ مِنَ الطُّولِ والسعة والله أعلم قوله (مس بْنُ يَنَّاقَ) هُوَ بِيَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ مُشَدَّدَةٍ وَبِالْقَافِ غَيْرُ مَصْرُوفٍ وَاللَّهُ أعلم
(باب تحريم التبختر فى المشى مع اعجابه بثيابه)
[2088] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَيْنَمَا رَجُلٌ يمشى قد أعجبته جمته وبرداه اذخسف بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ(14/63)
فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) وَفِي رِوَايَةٍ بينما رجل يتبختر يمشى فى برديه وقدأعجبته نَفْسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ يَتَجَلْجَلُ بِالْجِيمِ أَيْ يَتَحَرَّكُ وَيَنْزِلُ مُضْطَرِبًا قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ هَذَا وَقِيلَ بَلْ هُوَ إِخْبَارٌ عَمَّنْ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وهذا هوالصحيح وَهُوَ مَعْنَى إِدْخَالِ الْبُخَارِيِّ لَهُ فِي بَابِ ذكر بنى اسرائيل والله أعلم(14/64)
(باب تحريم خاتم الذهب على الرجال ونسخ ماكان من إباحته فى أول الاسلام)
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَةِ خَاتَمِ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ وأجمعوا على تحريمه على الرجال الاما حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عمربن مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ أَبَاحَهُ وَعَنْ بَعْضٍ أنه مكروه لاحرام وهذان النقلان باطلان فقائلهما محجوج بهذه الأحاديثالتى ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ مَعَ إِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ لَهُ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلِّ لِإِنَاثِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَحْرُمُ سَنُّ الْخَاتَمِ إِذَا كَانَ ذَهَبًا وَإِنْ كان باقيه فضة وكذا لوموه خَاتَمَ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ فَهُوَ حَرَامٌ
[2089] قَوْلُهُ (نَهَى عن خاتم الذهب) أى فىحق الرِّجَالِ كَمَا سَبَقَ
[2090] قَوْلُهُ (رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ) فِيهِ إِزَالَةُ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَعَهُ مِنْ يَدِ الرَّجُلِ يَعْمَدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ) فَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ لِلتَّحْرِيمِ كَمَا سَبَقَ وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ هَذَا الْخَاتَمِ حِينَ قالوا له خذه لاآخذه وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهِ الْمُبَالَغَةُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ وَعَدَمِ التَّرَخُّصِ فِيهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الضَّعِيفَةِ ثُمَّ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنَّمَا تَرَكَ الْخَاتَمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ لِمَنْ أَرَادَ أَخْذَهُ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَخْذُهُ لِمَنْ شَاءَ فَإِذَا أَخَذَهُ جاز تصرفه(14/65)
فِيهِ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُهُ أَخَذَهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الْأَخْذُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَلَكِنْ تَوَرَّعَ عَنْ أَخْذِهِ وَأَرَادَ الصَّدَقَةَ بِهِ عَلَى مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِكُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ لُبْسِهِ وَبَقِيَ مَا سِوَاهُ مِنْ تَصَرُّفِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ
[2091] قَوْلُهُ (فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ) الْفَصُّ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا وَفِي الْخَاتَمِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ فَتْحُ التَّاءِ وَكَسْرُهَا وَخَيْتَامٌ وَخَاتَامٌ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم (والله لاألبسه أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ) فِيهِ بَيَانُ مَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ(14/66)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والاقتداء بأفعاله
[2092] قَوْلُهُ (اتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ) الْوَرِقُ الْفِضَّةُ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَكَرِهَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّامِ الْمُتَقَدِّمِينَ لُبْسَهُ لِغَيْرِ ذِي سلطان ورووافيه أَثَرًا وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ خَاتَمُ الْفِضَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِ الرِّجَالِ قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ خَاتَمَ ذَهَبٍ فَلْتُصَفِّرْهُ بزعفران وشبهه وهذاالذى قاله ضعيف أو باطل لاأصل له والصواب أنه لاكراهة فِي لُبْسِهَا خَاتَمَ الْفِضَّةِ قَوْلُهُ (اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ فَكَانَ فِي يَدِهِ ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ حَتَّى وقع منه فى بئر أريس نقشه محمدرسول اللَّهِ فِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَلُبْسُ لِبَاسِهِمْ وَجَوَازُ لُبْسِ الْخَاتَمِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يورث اذلو وَرَّثَ لَدُفِعَ الْخَاتَمُ إِلَى وَرَثَتِهِ بَلْ كَانَ الْخَاتَمُ وَالْقَدَحُ وَالسِّلَاحُ وَنَحْوُهَا مِنْ آثَارِهِ الضَّرُورِيَّةِ صدقة للمسلمين يصرفها والى الْأَمْرِ حَيْثُ رَأَى مِنَ الْمَصَالِحِ فَجَعَلَ الْقَدَحَ عِنْدَ أَنَسٍ إِكْرَامًا لَهُ لِخِدْمَتِهِ وَمَنْ أَرَادَ التَّبَرُّكَ بِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ وَجَعَلَ بَاقِي الْأَثَاثِ عِنْدَ نَاسٍ مَعْرُوفِينَ وَاتَّخَذَ الْخَاتَمَ عِنْدَهُ لِلْحَاجَةِ الَّتِي اتَّخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ ثُمَّ الْخَلِيفَةِ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثِ وَأَمَّا بِئْرُ أَرِيسٍ فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ(14/67)
وَهُوَ مَصْرُوفٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ (نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) فَفِيهِ جَوَازُ نَقْشِ الْخَاتَمِ وَنَقْشِ اسْمِ صَاحِبِ الْخَاتَمِ وَجَوَازُ نَقْشِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٍ والجمهور وعن بن سِيرِينَ وَبَعْضِهِمْ كَرَاهَةُ نَقْشِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا ضَعِيفٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَلَهُ أَنْ يَنْقُشَ عَلَيْهِ اسْمَ نَفْسِهِ أَوْ يَنْقُشَ عَلَيْهِ كَلِمَةَ حِكْمَةٍ وَأَنْ يَنْقُشَ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لاينقش أَحَدٌ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِي هَذَا) سَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا اتَّخَذَ الْخَاتَمَ وَنَقَشَ فِيهِ لِيَخْتِمَ بِهِ كُتُبَهُ إِلَى مُلُوكِ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ فَلَوْ نَقَشَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ لَدَخَلَتِ الْمَفْسَدَةُ وَحَصَلَ الْخَلَلُ قَوْلُهُ (وَكَانَ إِذَا لبسه جعل فصه ممايلي بَطْنَ كَفِّهِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ لَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَيَجُوزُ جَعْلُ فَصِّهِ(14/68)
فِي بَاطِنِ كَفِّهِ وَفِي ظَاهِرِهَا وَقَدْ عَمِلَ السلف بالوجهين وممن اتخذه فى ظاهرها بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالُوا وَلَكِنَّ الْبَاطِنَ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ أَصْوَنُ لِفَصِّهِ وَأَسْلَمُ لَهُ وَأَبْعَدُ مِنَ الزَّهْوِ وَالْإِعْجَابِ قَوْلُهُ ((فَصَاغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم خاتما حلقة فِضَّةً) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ حَلْقَةَ فِضَّةٍ بِنَصْبِ حَلْقَةَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ خَاتَمًا وَلَيْسَ فِيهَا هَاءُ الضَّمِيرِ وَالْحَلْقَةُ سَاكِنَةُ اللَّامِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَفِيهَا لُغَةٌ شَاذَّةٌ ضَعِيفَةٌ حَكَاهَا الجوهرى وغيره بفتحها
[2093] قوله (عن بن شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ(14/69)
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَبْصَرَ فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا فَصَنَعَ النَّاسُ الْخَوَاتِمَ مِنْ وَرِقٍ فَلَبِسُوهُ فَطَرَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَهَ فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِمَهُمْ) قَالَ الْقَاضِي قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ هَذَا وَهْمٌ مِنَ بن شِهَابٍ فَوَهْمٌ مِنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ إِلَى خَاتَمِ الْوَرِقِ وَالْمَعْرُوفُ مِنْ رِوَايَاتِ أَنَسٍ مِنْ غَيْرِ طريق بن شِهَابٍ اتِّخَاذُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ فِضَّةٍ وَلَمْ يَطْرَحْهُ وَإِنَّمَا طَرَحَ خَاتَمَ الذَّهَبِ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي بَاقِي الْأَحَادِيثِ وَمِنْهُمْ من تأول حديث بن شِهَابٍ وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمَ خَاتَمِ الذَّهَبِ اتَّخَذَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فَلَمَّا لَبِسَ خَاتَمَ الْفِضَّةِ أَرَاهُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيُعْلِمَهُمْ إِبَاحَتَهُ ثُمَّ طَرَحَ خَاتَمَ الذَّهَبِ وَأَعْلَمَهُمْ تَحْرِيمَهُ فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ مِنَ الذَّهَبِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِمَهُمْ أَيْ خَوَاتِمَ الذَّهَبِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَمْنَعُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَصَنَعَ النَّاسُ الْخَوَاتِمَ مِنَ الْوَرِقِ فَلَبِسُوهُ ثُمَّ قَالَ فَطَرَحَ خَاتَمَهُ فطرحواخواتمهم فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْطَنِعُ لِنَفْسِهِ خَاتَمَ فِضَّةٍ اصْطَنَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ خَوَاتِيمَ فِضَّةٍ وَبَقِيَتْ مَعَهُمْ خَوَاتِيمُ الذَّهَبِ كَمَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ(14/70)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ طَرَحَ خَاتَمَ الذَّهَبِ وَاسْتَبْدَلُوا الْفِضَّةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[2094] قَوْلُهُ (وَكَانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا) قَالَ الْعُلَمَاءُ يَعْنِي حَجَرًا حَبَشِيًّا أَيْ فَصًّا مِنْ جَزْعٍ أَوْ عَقِيقٍ فَإِنَّ مَعْدِنَهُمَا بِالْحَبَشَةِ وَالْيَمَنِ وَقِيلَ لَوْنُهُ حَبَشِيٌّ أَيْ أَسْوَدُ وَجَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عن أنس أيضا فصه منه قال بن عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا أَصَحُّ وَقَالَ غَيْرُهُ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْتٍ خَاتَمٌ فَصُّهُ مِنْهُ وَفِي وَقْتٍ خَاتَمٌ فَصُّهُ حَبَشِيٌّ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فَصُّهُ مِنْ عَقِيقٍ قَوْلُهُ (فِي حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى وَسُلَيْمَانَ بْنَ بِلَالٍ عَنْ يُونُسَ عن بن شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِي يَمِينِهِ)
[2095] وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ كَانَ خَاتَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصَرِ مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى
[2078] وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ نَهَانِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَخَتَّمَ فِي أُصْبُعِي هَذِهِ أَوْ هَذِهِ فَأَوْمَأَ إِلَى الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ جَعْلُ خَاتَمِ الرَّجُلِ فِي الْخِنْصَرِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَتَّخِذُ خَوَاتِيمَ فِي أَصَابِعَ قَالُوا وَالْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ فِي الْخِنْصَرِ أَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الِامْتِهَانِ فِيمَا يتعاطى باليد لكونه طرفا ولأنه لايشغل الْيَدَ عَمَّا تَتَنَاوَلُهُ مِنْ أَشْغَالِهَا بِخِلَافِ غَيْرِ الْخِنْصَرِ وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ جَعْلُهُ فِي الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا لِهَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَأَمَّا التَّخَتُّمُ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى فَقَدْ جَاءَ فِيهِ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ وَهُمَا صَحِيحَانِ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَمْ يُتَابَعْ سُلَيْمَانُ بْنُ(14/71)
بِلَالٍ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي يمينه قال وخالفه الحفاظ عَنْ يُونُسَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ مَعَ تَضْعِيفِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أبى أويس رواتها عن سليمان بن بلالوقد ضَعَّفَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ وَلَكِنْ وَثَّقَهُ الْأَكْثَرُونَ وَاحْتَجُّوا بِهِ وَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى مِثْلَ رِوَايَةِ سُلَيْمَانِ بْنِ بِلَالٍ فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ فَقَدِ اتَّفَقَ طَلْحَةُ وَسُلَيْمَانُ عَلَيْهَا وَكَوْنُ الْأَكْثَرِينَ لَمْ يذكروها لايمنع صِحَّتَهَا فَإِنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ التَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ وَعَلَى جَوَازِهِ فى اليسار(14/72)
ولاكراهة فى واحدة منهما واختلفوا أَيَّتُهُمَا أَفْضَلُ فَتَخَتَّمَ كَثِيرُونَ مِنَ السَّلَفِ فِي الْيَمِينِ وَكَثِيرُونَ فِي الْيَسَارِ وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ الْيَسَارَ وَكَرِهَ الْيَمِينَ وَفِي مَذْهَبِنَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا الصَّحِيحُ أَنَّ الْيَمِينَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ زِينَةٌ وَالْيَمِينُ أَشْرَفُ وأحق بالزينة والاكرام وأما ماذكره فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنَ الْقَسِّيِّ وَالْمَيَاثِرِ وَتَفْسِيرِهَا فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ واضحا فى بابه والله أعلم
(باب استحباب لبس النعال وما فى معناها)
[2096] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَانُوا فِي غَزَاةٍ (اسْتَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لايزال رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالرَّاكِبِ فِي خِفَّةِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ وَقِلَّةِ تَعَبِهِ وَسَلَامَةِ رجله ممايعرض في الطريق من خشونة وشوك وأذى ونحوذلك وفيه استحباب الاستظهار فى السفر بالنعال وغيرهما مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُ وَاسْتِحْبَابُ وَصِيَّةِ الْأَمِيرِ أصحابه بذلك(14/73)
(باب استحباب لبس النعال فِي الْيُمْنَى أَوَّلًا وَالْخَلْعِ مِنْ الْيُسْرَى أَوَّلًا وَكَرَاهَةِ الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ)
[2097] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيُمْنَى وَإِذَا خَلَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ وَلْيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا أو ليخلعها جميعا) وفى الرواية الأخرى لايمش أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا
[2098] وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أحدكم فلايمشى فى الأخرى حتى يصلحها وفى رواية ولايمشى فِي خُفٍّ وَاحِدٍ أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنْعِلْهُمَا فَبِضَمِّ الْيَاءِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا فَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ لِيَخْلَعْهُمَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَالْعَيْنِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ لِيُحْفِهِمَا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ مِنَ الْحَفَاءِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ ورواية البخارى أحسن وأما الشِّسْعُ فَبِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ وَهُوَ أَحَدُ سُيُورِ النِّعَالِ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ وَيَدْخُلُ طَرَفُهُ فِي النَّقْبِ الَّذِي فِي صَدْرِ النَّعْلِ الْمَشْدُودِ فِي الزِّمَامِ وَالزِّمَامُ هُوَ السَّيْرُ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّسْعُ وَجَمَعَهُ شُسُوعٌ أَمَّا فِقْهُ الْأَحَادِيثِ فَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ أَحَدُهَا يُسْتَحَبُّ الْبُدَاءَةُ بِالْيُمْنَى فِي كُلِّ ما كان من باب التكريم والزينة والنطافة وَنَحْوِ ذَلِكَ كَلُبْسِ النَّعْلِ وَالْخُفِّ وَالْمَدَاسِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْكُمِّ وَحَلْقِ الرَّأْسِ وَتَرْجِيلِهِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَالسِّوَاكِ وَالِاكْتِحَالِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْخَلَاءِ وَدَفْعِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الدَّفْعِ الْحَسَنَةِ وَتَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْحَسَنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ الثَّانِيَةُ يُسْتَحَبُّ الْبُدَاءَةُ باليسار فى كل ماهو ضِدُّ السَّابِقِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَمِنْ ذَلِكَ خَلْعُ النَّعْلِ وَالْخُفِّ وَالْمَدَاسِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْكُمِّ وَالْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَدُخُولُ الْخَلَاءِ وَالِاسْتِنْجَاءُ وَتَنَاوُلُ أَحْجَارِ الاستنجاء(14/74)
ومس الذكر والامتخاط والاستنثار وتعاطى المستقذارات وَأَشْبَاهِهَا الثَّالِثَةُ يُكْرَهُ الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ أو خف واحد أومداس وَاحِدٍ لَا لِعُذْرٍ وَدَلِيلُهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَسَبَبُهُ أَنَّ ذَلِكَ تَشْوِيهٌ وَمِثْلُهُ وَمُخَالِفٌ لِلْوَقَارِ وَلِأَنَّ الْمُنْتَعِلَةَ تَصِيرُ أوفع مِنَ الْأُخْرَى فَيَعْسُرُ مَشْيُهُ وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْعِثَارِ وَهَذِهِ الْآدَابُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً واذا انقطع شسعه ونحوه فليخلعهما ولايمشى فِي الْأُخْرَى وَحْدَهَا حَتَّى يُصْلِحَهَا وَيُنْعِلَهَا كَمَا هو نص فى الحديث قوله (حدثنا بن إِدْرِيسَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ خَرَجَ إِلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ فَقَالَ إِنَّكُمْ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ وَأَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ هَكَذَا وَقَعَ هَذَانِ الْإِسْنَادَانِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْغَسَّانِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ إِنَّمَا يَرْوِيهِ أَبُو رَزِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَذَا وَأَخْرَجَهُ أَبُو مَسْعُودٍ فِي كِتَابِهِ عَنْ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُسْهِرٍ انْفَرَدَ بِهَذَا هَذَا آخِرُ ماذكره القاضي وهذا استدراك فاسد لأن أبارزين قَدْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِسَمَاعِهِ مِنْ أبى هريرة بقوله خرج الينا أبوهريرة إِلَى آخِرِهِ وَاسْمُ أَبِي رَزِينٍ مَسْعُودُ بْنُ مالك الأسدى الكوفى كان عالما(14/75)
(باب النهى عن اشتمال الصماء والاحتباء فى ثوب واحد كاشفا بعض عورته وحكم الاستلقاء على ظهره رافعا إحدى رجليه على الأخرى
[2099] )
قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشِمَالِهِ أَوْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ وَأَنْ يَحْتَبِيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ كَاشِفًا عَنْ فَرْجِهِ) أَمَّا الْأَكْلُ بِالشِّمَالِ فَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِهِ وَسَبَقَ فِي الْبَابِ الْمَاضِي حُكْمُ الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَأَمَّا اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ بِالْمَدِّ فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ هُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ بِالثَّوْبِ حَتَّى يجلل به جسده لايرفع مِنْهُ جَانِبًا فَلَا يَبْقَى مَا يُخْرِجُ مِنْهُ يَدَهُ وَهَذَا يَقُولُهُ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ بن قُتَيْبَةَ سُمِّيَتْ صَمَّاءَ لِأَنَّهُ سَدَّ الْمَنَافِذَ كُلَّهَا كالصخرة الصماء التى ليس فيها خرق ولاصدع قال أبوعبيد وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَيَقُولُونَ هُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ بِثَوْبٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ثُمَّ يَرْفَعُهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ فَيَضَعُهُ عَلَى أَحَدِ مَنْكِبَيْهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ فَعَلَى تَفْسِيرِ أَهْلِ اللُّغَةِ يُكْرَهُ الِاشْتِمَالُ الْمَذْكُورُ لِئَلَّا تَعْرِضَ لَهُ حَاجَةٌ مِنْ دَفْعِ بَعْضِ الْهَوَامِّ وَنَحْوِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَعْسُرُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَعَذَّرُ فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ وَعَلَى تَفْسِيرِ الْفُقَهَاءِ يَحْرُمُ الِاشْتِمَالُ الْمَذْكُورُ إِنِ انْكَشَفَ بِهِ بَعْضُ الْعَوْرَةِ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ وَأَمَّا الِاحْتِبَاءُ بِالْمَدِّ فَهُوَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَيُنْصَبَ سَاقَيْهِ وَيَحْتَوِيَ عَلَيْهِمَا بِثَوْبٍ أَوْ نَحْوِهِ أَوْ بِيَدِهِ وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ يُقَالُ لَهَا الْحُبْوَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ وكسرها(14/76)
وَكَانَ هَذَا الِاحْتِبَاءُ عَادَةً لِلْعَرَبِ فِي مَجَالِسِهِمْ فَإِنِ انْكَشَفَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهِ فَهُوَ حَرَامٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَأَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
[2100] (أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدَ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى) قَالَ الْعُلَمَاءُ أَحَادِيثُ النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِلْقَاءِ رَافِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى(14/77)
الْأُخْرَى مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالَةٍ تَظْهَرُ فِيهَا الْعَوْرَةُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهَا وَأَمَّا فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَظْهَرُ منها شيء وهذا لابأس به ولاكراهة فِيهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الِاتِّكَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَالِاسْتِلْقَاءِ فِيهِ قَالَ الْقَاضِي لَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ هَذَا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ مِنْ تَعَبٍ أَوْ طلب راحة أو نحوذلك قال والافقد عُلِمَ أَنَّ جُلُوسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجَامِعِ عَلَى خِلَافِ هَذَا بَلْ كَانَ يَجْلِسُ مُتَرَبِّعًا أَوْ مُحْتَبِيًا وَهُوَ كَانَ أَكْثَرَ جُلُوسِهِ أَوِ الْقُرْفُصَاءَ أَوْ مُقْعِيًا وَشِبْهَهَا مِنْ جِلْسَاتِ الْوَقَارِ وَالتَّوَاضُعِ قُلْتُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنَّكُمْ إِذَا أَرَدْتُمُ الِاسْتِلْقَاءَ فَلْيَكُنْ هَكَذَا وَأَنَّ النَّهْيَ الَّذِي نَهَيْتُكُمْ عَنِ الِاسْتِلْقَاءِ لَيْسَ هُوَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ يَنْكَشِفُ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهِ أَوْ يُقَارِبُ انْكِشَافُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قوله (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ عَنْ رِوَايَةِ الْجُلُودِيِّ قَالَ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ قَالَ وَفِي رواية بن مَاهَانَ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ بَدَلُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ الْغَسَّانِيُّ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقِدُ صَوَابَهُ لِكَثْرَةِ مَا يَجِيءُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَقْرُونِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَإِنْ كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا يَرْوِي عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَهَذَا الَّذِي صَوَّبَهُ الْغَسَّانِيُّ هُوَ الصَّوَابُ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَافِ عَنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ(14/78)
(بَاب نَهْيِ الرَّجُلِ عَنْ التَّزَعْفُرِ)
[2101] قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ) هَذَا دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ عَلَى الرَّجُلِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ نَهْيِ الرَّجُلِ عَنِ الثَّوْبِ الْمُعَصْفَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب اسْتِحْبَابِ خضاب الشيب بفصرة أَوْ حُمْرَةٍ وَتَحْرِيمِهِ بِالسَّوَادِ)
[2102] قَوْلُهُ (أَتَى بِأَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ)
[2103] وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لايصبغون فَخَالِفُوهُمْ أَمَّا الثَّغَامَةُ بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مُخَفَّفَةٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ نَبْتٌ أَبْيَضُ الزَّهْرِ وَالثَّمَرِ شَبَّهَ بَيَاضَ الشَّيْبِ به وقال بن الْأَعْرَابِيِّ شَجَرَةٌ تَبْيَضُّ كَأَنَّهَا الْمِلْحُ وَأَمَّا أَبُو قُحَافَةَ بِضَمِّ الْقَافِ(14/79)
وتخفيف الحاء المهملة واسمه عثمان فهو ولد أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَسْلَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ويقال صبغ يصبغ بضم الياء وَفَتْحِهَا وَمَذْهَبُنَا اسْتِحْبَابُ خِضَابِ الشَّيْبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِصُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ وَيَحْرُمُ خِضَابُهُ بِالسَّوَادِ عَلَى الْأَصَحِّ وَقِيلَ يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَالْمُخْتَارُ التَّحْرِيمُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ هَذَا مَذْهَبُنَا وَقَالَ الْقَاضِي اخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْخِضَابِ وَفِي جِنْسِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ تَرْكُ الْخِضَابِ أَفْضَلُ وَرَوَوْا حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْبَهُ رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيٍّ وَآخَرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ آخَرُونَ الْخِضَابُ أَفْضَلُ وَخَضَّبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يخضب بالصفرة منهم بن عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَآخَرُونَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَخَضَّبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتْمِ وَبَعْضُهُمْ بِالزَّعْفَرَانِ وَخَضَّبَ جَمَاعَةٌ بِالسَّوَادِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ وَعُقْبَةَ بْنِ عامر وبن سِيرِينَ وَأَبِي بُرْدَةَ وَآخَرِينَ قَالَ الْقَاضِي قَالَ الطَّبَرَانِيُّ الصَّوَابُ أَنَّ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَغْيِيرِ الشَّيْبِ وَبِالنَّهْيِ عَنْهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا تَنَاقُضٌ بَلِ الْأَمْرُ بِالتَّغْيِيرِ لِمَنْ شَيْبُهُ كَشَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ وَالنَّهْيُ لِمَنْ لَهُ شَمَطٌ فَقَطْ قَالَ وَاخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي فِعْلِ الْأَمْرَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ بِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ خِلَافَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ ولايجوز أَنْ يُقَالَ فِيهِمَا نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ عَلَى حَالَيْنِ فَمَنْ كَانَ فى موضع عادة أهل الصَّبْغُ أَوْ تَرْكُهُ فَخُرُوجُهُ عَنِ الْعَادَةِ شُهْرَةٌ وَمَكْرُوهٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَظَافَةِ الشَّيْبِ فمن كان شَيْبَتُهُ تَكُونُ نَقِيَّةً أَحْسَنَ مِنْهَا مَصْبُوغَةً فَالتَّرْكُ أَوْلَى وَمَنْ كَانَتْ شَيْبَتُهُ تُسْتَبْشَعُ فَالصَّبْغُ أَوْلَى هذا مانقله الْقَاضِي وَالْأَصَحُّ الْأَوْفَقُ لِلسُّنَّةِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ مذهبنا والله أعلم(14/80)
(باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنةبالفرش ونحوه وأن الملائكة عليهم السلام لايدخلون بيتا فيه صورة أو كلب)
[2104] قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَصْوِيرُ صُورَةِ الْحَيَوَانِ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَحَادِيثِ وَسَوَاءٌ صَنَعَهُ بِمَا يُمْتَهَنُ أَوْ بِغَيْرِهِ فَصَنْعَتُهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ فِيهِ مُضَاهَاةً لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَوَاءٌ مَا كَانَ فى ثوب أو بساط أودرهم أَوْ دِينَارٍ أَوْ فَلْسٍ أَوْ إِنَاءٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهَا وَأَمَّا تَصْوِيرُ صُورَةِ الشَّجَرِ وَرِحَالِ الْإِبِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ فَلَيْسَ بِحِرَامٍ هَذَا حُكْمُ نَفْسِ التَّصْوِيرِ وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْمُصَوَّرِ فِيهِ صُورَةَ حَيَوَانٍ فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حَائِطٍ أَوْ ثَوْبًا ملبوسا أو عمامة ونحوذلك مما لايعد مُمْتَهَنًا فَهُوَ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ فِي بِسَاطٍ يُدَاسُ وَمِخَدَّةٍ وَوِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمْتَهَنُ فَلَيْسَ بِحِرَامٍ وَلَكِنْ هَلْ يَمْنَعُ دُخُولَ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ ذَلِكَ الْبَيْتَ فِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شاء الله ولافرق فى هذا كله بين ماله ظل ومالاظل لَهُ هَذَا تَلْخِيصُ مَذْهَبِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ وَبِمَعْنَاهُ قَالَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ(14/81)
وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا كَانَ له ظل ولابأس بِالصُّوَرِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا ظِلٌّ وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ السِّتْرَ الَّذِي أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّورَةَ فِيهِ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ مَذْمُومٌ وَلَيْسَ لِصُورَتِهِ ظِلٌّ مَعَ بَاقِي الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي كُلِّ صُورَةٍ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ النَّهْيُ فِي الصُّورَةِ عَلَى الْعُمُومِ وَكَذَلِكَ استعمال ماهى فِيهِ وَدُخُولُ الْبَيْتِ الَّذِي هِيَ فِيهِ سَوَاءٌ كانت رقما فى ثوب أو غيررقم وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَائِطٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ مُمْتَهَنٍ أَوْ غَيْرِ مُمْتَهَنٍ عَمَلًا بِظَاهِرِ الأحاديث لاسيما حَدِيثُ النُّمْرُقَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَهَذَا مَذْهَبٌ قوى وقال آخَرُونَ يَجُوزُ مِنْهَا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ سَوَاءٌ امْتُهِنَ أَمْ لَا وَسَوَاءٌ عُلِّقَ فى حائط أم لاوكرهوا مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ أَوْ كَانَ مُصَوَّرًا فِي الْحِيطَانِ وَشِبْهِهَا سَوَاءٌ كَانَ رَقْمًا أَوْ غَيْرَهُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ الْبَابِ إلاما كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الْقَاسِمِ بن محمد وأجمعوا بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ الْبَابِ إِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ وَوُجُوبُ تَغْيِيرِهِ قَالَ الْقَاضِي إِلَّا ماورد فِي اللَّعِبِ بِالْبَنَاتِ لِصِغَارِ الْبَنَاتِ وَالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ لَكِنْ كَرِهَ مَالِكٌ شِرَاءَ الرَّجُلِ ذَلِكَ لِابْنَتِهِ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ إِبَاحَةَ اللَّعِبِ لَهُنَّ بِالْبَنَاتِ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[2105] قَوْلُهُ (أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا) هُوَ بِالْجِيمِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هُوَ السَّاكِتُ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْهَمُّ وَالْكَآبَةُ وَقِيلَ هُوَ الْحَزِينُ يُقَالُ وَجَمَ يَجِمُ وُجُومًا قَوْلُهُ (أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدِ اسْتَنْكَرْتُ هَيْئَتَكَ مُنْذُ الْيَوْمِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِيَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَلْقَنِي أَمَ وَاللَّهِ مَا أَخْلَفَنِي) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ(14/82)
لِلْإِنْسَانِ إِذَا رَأَى صَاحِبَهُ وَمَنْ لَهُ حَقٌّ وَاجِمًا أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ سَبَبِهِ فَيُسَاعِدَهُ فِيمَا يُمْكِنُ مُسَاعَدَتُهُ أَوْ يَتَحَزَّنَ مَعَهُ أَوْ يُذَكِّرَهُ بِطَرِيقٍ يَزُولُ بِهِ ذَلِكَ الْعَارِضُ وَفِيهِ التَّنْبِيهُ على الوثوق بوعدالله وَرُسُلِهِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ لِلشَّيْءِ شَرْطٌ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِهِ أَوْ يَتَخَيَّلُ تَوْقِيتَهُ بِوَقْتٍ وَيَكُونُ غير موقت به ونحوذلك وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا تَكَدَّرَ وَقْتُ الْإِنْسَانِ أَوْ تنكدت وظيفته ونحوذلك فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَكِّرَ فِي سَبَبِهِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا حَتَّى اسْتَخْرَجَ الْكَلْبَ وَهُوَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون قَوْلُهُ (ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ جِرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ فُسْطَاطٍ لَنَا فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً فَنَضَحَ مَكَانَهُ) أَمَّا الْجَرْوُ فَبِكَسْرِ الْجِيمِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ مَشْهُورَاتٌ وَهُوَ الصَّغِيرُ مِنْ أَوْلَادِ الْكَلْبِ وَسَائِرِ السِّبَاعِ وَالْجَمْعُ أَجْرٍ وَجِرَاءٌ وَجَمْعُ الْجِرَاءِ أَجْرِيَةٌ وَأَمَّا الْفُسْطَاطُ فَفِيهِ سِتُّ لُغَاتٍ فُسْطَاطٌ وَفُسْتَاطٌ بِالتَّاءِ وَفُسَّاطٌ بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَضَمِّ الْفَاءِ فِيهِنَّ وَتُكْسَرُ وَهُوَ نَحْوُ الْخِبَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا بَعْضُ حِجَالِ الْبَيْتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ تَحْتَ سَرِيرِ عَائِشَةَ وَأَصْلُ الْفُسْطَاطِ عَمُودُ الْأَخْبِيَةِ الَّتِي يُقَامُ عَلَيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً فَنَضَحَ بِهِ مَكَانَهُ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ جَمَاعَةٌ فِي نَجَاسَةِ الْكَلْبِ قَالُوا وَالْمُرَادُ بِالنَّضْحِ الْغَسْلُ وَتَأَوَّلَتْهُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ غَسَلَهُ لِخَوْفِ حُصُولِ بَوْلِهِ أوروثه(14/83)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2106] (لَا تَدْخُلُ الملائكة بيتا فيه كلب ولاصورة) قَالَ الْعُلَمَاءُ سَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ بَيْتٍ فِيهِ صُورَةٌ كَوْنُهَا مَعْصِيَةً فَاحِشَةً وَفِيهَا مُضَاهَاةٌ لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَعْضُهَا فِي صُورَةِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ لِكَثْرَةِ أَكْلِهِ النَّجَاسَاتِ وَلِأَنَّ بَعْضَهَا يُسَمَّى شَيْطَانًا كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ وَالْمَلَائِكَةُ ضِدُّ الشَّيَاطِينِ وَلِقُبْحِ رَائِحَةِ الْكَلْبِ وَالْمَلَائِكَةُ تَكْرَهُ الرَّائِحَةَ الْقَبِيحَةَ وَلِأَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنِ اتِّخَاذِهَا فَعُوقِبَ مُتَّخِذُهَا بِحِرْمَانِهِ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ بَيْتَهُ وَصَلَاتَهَا فِيهِ وَاسْتِغْفَارَهَا لَهُ وَتَبْرِيكَهَا عَلَيْهِ وَفِي بَيْتِهِ ودفعها أذى للشيطان وأما هؤلاء الملائكة لذين لايدخلون بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ فَهُمْ مَلَائِكَةٌ يطوفونبالرحمة وَالتَّبْرِيكِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَأَمَّا الْحَفَظَةُ فَيَدْخُلُونَ فِي كُلَّ بيت ولايفارقون بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ باحصاء أعمالهم وكتابتها قال الخطابى وانما لاتدخل الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ مِمَّا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ مِنَ الْكِلَابِ وَالصُّوَرِ فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحِرَامٍ مِنْ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالزَّرْعِ وَالْمَاشِيَةِ وَالصُّورَةِ الَّتِي تُمْتَهَنُ فِي الْبِسَاطِ وَالْوِسَادَةِ وَغَيْرِهِمَا فَلَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْمَلَائِكَةِ بِسَبَبِهِ وَأَشَارَ الْقَاضِي إِلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ كَلْبٍ وَكُلِّ صُورَةٍ وَأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنَ الْجَمِيعِ لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّ الْجِرْوَ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ السَّرِيرِ كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَمَعَ هَذَا امْتَنَعَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ وَعَلَّلَ بِالْجِرْوِ فَلَوْ كَانَ العذر فى وجود الصورة والكلب لايمنعهم لَمْ يَمْتَنِعْ جِبْرِيلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ حَتَّى أَنَّهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الصَّغِيرِ وَيَتْرُكُ كَلْبَ الْحَائِطِ الْكَبِيرَ) الْمُرَادُ بِالْحَائِطِ الْبُسْتَانُ وَفَرَّقَ بَيْنَ(14/84)
الْحَائِطَيْنِ لِأَنَّ الْكَبِيرَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى حِفْظِ جوانبه ولايتمكن النَّاظُورُ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ وَالْأَمْرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ مَنْسُوخٌ وَسَبَقَ إِيضَاحُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ حَيْثُ بَسَطَ مُسْلِمٌ أَحَادِيثَهُ هُنَاكَ قوله (إلارقما فِي ثَوْبٍ) هَذَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ باباحة ماكان رَقْمًا مُطْلَقًا كَمَا سَبَقَ وَجَوَابُنَا وَجَوَابُ الْجُمْهُورِ عَنْهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى رَقْمٍ عَلَى صُورَةٍ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ(14/85)
بِحَيَوَانٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا
[2107] قَوْلُهُ (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاتِهِ فَأَخَذْتُ نَمَطًا فَسُتْرَتُهُ عَلَى الْبَابِ فَلَمَّا قَدِمَ فَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْتُ الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِهِ فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ أَوْ قَطَعَهُ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ قَالَتْ فَقَطَعْنَا مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ وَحَشَوْتُهُمَا لِيفًا فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ الْمُرَادُ بِالنَّمَطِ هُنَا بِسَاطٌ لَطِيفٌ لَهُ خَمْلٌ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا فِي بَابِ اتِّخَاذِ الْأَنْمَاطِ وَقَوْلُهَا (هَتَكَهُ) هوبمعنى قَطَعَهُ وَأَتْلَفَ الصُّورَةَ الَّتِي فِيهِ وَقَدْ صَرَّحَتْ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَاتِ بَعْدَ هَذِهِ بِأَنَّ هَذَا النَّمَطَ كَانَ فِيهِ صُوَرُ الْخَيْلِ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ صُورَةٌ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ لِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَهَتْكِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْغَضَبِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْوَسَائِدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حِينَ جَذَبَ النَّمَطَ وَأَزَالَهُ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يأمرنا أن نكسوا الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ من ستر الحيطان وتنجيد البيوت بالثياب وهومنع كراهة تنزيه لاتحريم هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ الْمَقْدِسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا هُوَ حَرَامٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ لِأَنَّ حقيقة(14/86)
اللَّفْظِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْنَا بِذَلِكَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مَنْدُوبٍ وَلَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت كانت لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالٌ طَائِرٌ وَكَانَ الدَّاخِلُ إِذَا دَخَلَ اسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوِّلِي هَذَا فَإِنِّي كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا) هذامحمول عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ مَا فِيهِ صُورَةٌ فَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل ويراه ولاينكره قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةَ قَوْلُهَا (سَتَّرْتُ عَلَى بَابِي دُرْنُوكًا فِيهِ الْخَيْلُ ذَوَاتُ الْأَجْنِحَةِ فَأَمَرَنِي فَنَزَعْتُهُ) أَمَّا قَوْلُهَا سَتَّرْتُ فَهُوَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْأُولَى وَأَمَّا الدُّرْنُوكُ فَبِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا حَكَاهُمَا القاضي وآخرون والمشهور ضمها والنون مضمومة لاغير وَيُقَالُ فِيهِ دُرْمُوكٌ بِالْمِيمِ وَهُوَ سِتْرٌ لَهُ خَمْلٌ وَجَمْعُهُ دَرَانِكُ قَوْلُهَا(14/87)
(دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُتَسَتِّرَةٌ بِقِرَامٍ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ مُتَسَتِّرَةٌ بِتَاءَيْنِ مُثَنَّاتَيْنِ فَوْقُ بَيْنَهُمَا سِينٌ وَفِي بَعْضِهَا مُسْتَتِرَةٌ بِسِينٍ ثُمَّ تَاءَيْنِ أَيْ مُتَّخِذَةٌ سِتْرًا وَأَمَّا الْقِرَامُ فَبِكَسْرِ الْقَافِ الرقيق الستر وهو قَوْلُهَا (وَقَدْ سَتَّرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ) السَّهْوَةُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ هِيَ شَبِيهَةٌ بالرف أوبالطاق يُوضَعُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَمِعْتُ غير واحدمن أَهْلِ الْيَمَنِ يَقُولُونَ السَّهْوَةُ عِنْدَنَا بَيْتٌ صَغِيرٌ متحدر فى الأرض وسمكه مرتفع من الْأَرْضِ يُشْبِهُ الْخِزَانَةَ الصَّغِيرَةَ يَكُونُ فِيهَا الْمَتَاعُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَهَذَا عِنْدِي أَشْبَهُ مَا قِيلَ فِي السَّهْوَةِ وَقَالَ الْخَلِيلُ هِيَ أَرْبَعَةُ أَعْوَادٍ أَوْ ثَلَاثَةٌ يُعْرَضُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ثم يوضع عليها(14/88)
شيء من الأمتعةوقال بن الْأَعْرَابِيِّ هِيَ الْكَوَّةُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ وَقِيلَ بَيْتٌ صَغِيرٌ يُشْبِهُ الْمِخْدَعَ وَقِيلَ(14/89)
هِيَ كَالصُّفَّةِ تَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ الْبَيْتِ وَقِيلَ شَبِيهُ دَخْلَةٍ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (اشْتَرَيْتُ نُمْرُقَةً) هِيَ بِضَمِّ النُّونِ وَالرَّاءِ وَيُقَالُ بِكَسْرِهِمَا وَيُقَالُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ ثلاث لغات ويقال نمرق بلاهاء وَهِيَ وِسَادَةٌ صَغِيرَةٌ وَقِيلَ هِيَ مِرْفَقَةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) وَفِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى
[2108] وَفِي رِوَايَةٍ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ
[2110] وَفِي رِوَايَةِ بن عَبَّاسٍ كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ وفىرواية مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ
[2111] وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة أما قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَيُقَالُ لَهُمْ أحيواما خَلَقْتُمْ) فَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْأُصُولِيُّونَ أَمْرَ تَعْجِيزٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ وأما قوله فى رواية بن عَبَّاسٍ يَجْعَلُ لَهُ فَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ يَجْعَلُ وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أُضْمِرَ لِلْعِلْمِ به قال القاضي فى رواية بن عباس يحتمل أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي صَوَّرَهَا هِيَ تُعَذِّبُهُ بَعْدَ أَنْ يُجْعَلَ فِيهَا رُوحٌ وَتَكُونُ الْبَاءُ فِي بِكُلِّ بِمَعْنَى فِي قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ بِعَدَدِ كُلِّ صُورَةٍ وَمَكَانِهَا شَخْصٌ يُعَذِّبُهُ وَتَكُونُ الْبَاءُ بِمَعْنَى لَامِ السَّبَبِ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي تَحْرِيمِ تَصْوِيرِ الْحَيَوَانِ وانه غليظ التحريم وأما(14/90)
الشجر ونحوه ممالا روح فيه فلا تحرم صنعته ولاالتكسب بِهِ وَسَوَاءٌ الشَّجَرُ الْمُثْمِرُ وَغَيْرُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ العلماء كافة الامجاهدا فَإِنَّهُ جَعَلَ الشَّجَرَ الْمُثْمِرَ مِنَ الْمَكْرُوهِ قَالَ الْقَاضِي لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ غَيْرُ مُجَاهِدٍ وَاحْتَجَّ مُجَاهِدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ أَيِ اجْعَلُوهُ حَيَوَانًا ذَا رُوحٍ كَمَا ضَاهَيْتُمْ وَعَلَيْهِ رِوَايَةُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يخلق خلقا كخلقى ويؤيده حديث بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ان كنت لابد فاعلا فاصنع الشجر وما لانفس له وأما رواية أشد عَذَابًا فَقِيلَ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ الصُّورَةَ لِتُعْبَدَ وَهُوَ صَانِعُ الْأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا فَهَذَا كَافِرٌ وَهُوَ أَشَدُّ عَذَابًا وَقِيلَ هِيَ فِيمَنْ قَصَدَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْحَدِيثِ مِنْ مُضَاهَاةِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ فَهَذَا كَافِرٌ لَهُ مِنْ أَشَدِّ الْعَذَابِ مَا لِلْكُفَّارِ وَيَزِيدُ عَذَابُهُ بِزِيَادَةِ قُبْحِ كُفْرِهِ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْعِبَادَةَ وَلَا الْمُضَاهَاةَ فَهُوَ فَاسِقٌ صاحب ذنب كبير ولايكفر كَسَائِرِ الْمَعَاصِي
[2111] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ حَبَّةً أَوْ شَعِيْرَةً فَالذَّرَّةُ بِفَتْحِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً فِيهَا رُوحٌ تَتَصَرَّفُ بِنَفْسِهَا كَهَذِهِ الذَّرَّةِ الَّتِي هِيَ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةَ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَيْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً فِيهَا طَعْمٌ تُؤْكَلُ وَتُزْرَعُ وَتَنْبُتُ وَيُوجَدُ فِيهَا مَا يُوجَدُ فِي حَبَّةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْحَبِّ الَّذِي يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا أَمْرُ تَعْجِيزٍ كَمَا سبق والله أعلم(14/91)
وَهُوَ اسْمٌ لِلصَّوْتِ فَأَصْلُ الْجَرَسِ بِالْإِسْكَانِ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ أَمَّا فِقْهُ الْحَدِيثِ فَفِيهِ كَرَاهَةُ اسْتِصْحَابِ الكلب والجرس فى الاسفار وأن الملائكة لاتصحب رُفْقَةً فِيهَا أَحَدُهُمَا وَالْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ والاستغفار لاالحفظة وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا قَرِيبًا وَسَبَقَ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي مُجَانَبَةِ الْمَلَائِكَةِ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَأَمَّا الْجَرَسُ فَقِيلَ سَبَبُ مُنَافَرَةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالنَّوَاقِيسِ أَوْ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعَالِيقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَقِيلَ سَبَبُهُ كَرَاهَةُ صَوْتِهَا وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَرَاهَةِ الْجَرَسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَآخَرِينَ وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي عُلَمَاءِ الشَّامِ يُكْرَهُ الْجَرَسُ الْكَبِيرُ دون الصغير
(باب كراهة قلادة الوتر فى رقبة البعير)
قوله صلى الله عليه وسلم
[2115] (لايبقين فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قلادة الاقطعت) قَالَ مَالِكٌ أُرَى ذَلِكَ مِنَ الْعَيْنِ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادَةٌ فَقِلَادَةٌ الثَّانِيَةُ مَرْفُوعَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قِلَادَةٍ الْأُولَى وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرَّاوِي شَكَّ هَلْ قَالَ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قَالَ قِلَادَةٌ فَقَطْ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالْوَتَرِ وَقَوْلُ مَالِكٍ أُرَى ذَلِكَ مِنَ الْعَيْنِ هُوَ بِضَمِّ هَمْزَةِ أُرَى أَيْ أَظُنُّ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ رَفْعِ ضَرَرِ الْعَيْنِ وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ زِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فلابأس الْقَاضِي الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْوَتَرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْقَلَائِدِ قَالَ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَقْلِيدِ الْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ مَا لَيْسَ بِتَعَاوِيذَ مَخَافَةَ الْعَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ قَبْلَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَأَجَازَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِدَفْعِ مَا أَصَابَهُ مِنْ ضَرَرِ الْعَيْنِ وَنَحْوِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ(14/95)
أَجَازَهُ قَبْلَ الْحَاجَةِ وَبَعْدَهَا كَمَا يَجُوزُ الِاسْتِظْهَارُ بِالتَّدَاوِي قَبْلَ الْمَرَضِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ كَانُوا يُقَلِّدُونَ الْإِبِلَ الْأَوْتَارَ لِئَلَّا تُصِيبَهَا الْعَيْنُ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بازالتها اعلاما لهم أن الأوتار لاترد شَيْئًا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ مَعْنَاهُ لاتقلدوها أَوْتَارَ الْقِسِيِّ لِئَلَّا تَضِيقَ عَلَى أَعْنَاقِهَا فَتَخْنُقَهَا وقال النضر معناه لاتطلبوا الدُّخُولَ الَّتِي وَتَّرْتُمْ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ فَاسِدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب النَّهْيِ عَنْ ضَرْبِ الْحَيَوَانِ فِي وَجْهِهِ وَوَسْمِهِ فِيهِ)
[2116] قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضَرْبِ الْحَيَوَانِ فِي الْوَجْهِ وَعَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ
[2117] وَفِي رِوَايَةٍ (مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ وَقَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لَعَنَ الله الذى وسمه) وفى رواية(14/96)
بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[2118] (فَأَنْكَرَ ذَلِكَ قَالَ فوالله لا أسمه إلا أَقْصَى شَيْءٍ مِنَ الْوَجْهِ فَأَمَرَ بِحِمَارٍ لَهُ فَكُوِيَ فِي جَاعِرَتَيْهِ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَوَى الْجَاعِرَتَيْنِ) أَمَّا الْوَسْمُ فَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ فِي الرِّوَايَاتِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ قَالَ الْقَاضِي ضَبَطْنَاهُ بِالْمُهْمَلَةِ قَالَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهُ بِالْمُهْمَلَةِ وبالمجمة وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ فَقَالَ بِالْمُهْمَلَةِ فِي الْوَجْهِ وَبِالْمُعْجَمَةِ فِي سَائِرِ الْجَسَدِ وَأَمَّا الْجَاعِرَتَانِ فَهُمَا حَرْفَا الْوَرِكِ الْمُشْرِفَانِ مِمَّا يَلِي الدُّبُرَ وَأَمَّا الْقَائِلُ فوالله لا أسمه إلا أَقْصَى شَيْءٍ مِنَ الْوَجْهُ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عياض هو العباس بن عبد المطلب كذاذكره فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ قَالَ الْقَاضِي وَهُوَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ مُشْكِلٌ يُوهَمُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصواب أنه من قَوْلُ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا ذَكَرْنَا هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَقَوْلُهُ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ هُوَ بِظَاهِرٍ فِيهِ بَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كلام بن عَبَّاسٍ وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ جَرَتْ لَلْعَبَّاسِ وَلِابْنِهِ وَأَمَّا الضَّرْبُ فِي الْوَجْهِ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ الْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَمِ مِنَ الْآدَمِيِّ وَالْحَمِيرِ وَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْبِغَالِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهَا لَكِنَّهُ فِي الْآدَمِيِّ أَشَدُّ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ مَعَ أَنَّهُ لَطِيفٌ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَرُبَّمَا شَانَهُ وَرُبَّمَا آذَى بَعْضَ الْحَوَاسِّ وَأَمَّا الْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ لِلْحَدِيثِ وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ فَأَمَّا الْآدَمِيُّ فَوَسْمُهُ حَرَامٌ لِكَرَامَتِهِ ولأنه لاحاجة إليه فلايجوز تَعْذِيبُهُ وَأَمَّا غَيْرُ الْآدَمِيِّ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أصحابنا يكره وقال البغوى من أصحابنا لايجوز فَأَشَارَ إِلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ فَاعِلَهُ وَاللَّعْنُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَأَمَّا وَسْمُ غَيْرِ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا لَكِنْ يستحب فىنعم الزكاة والجزية ولايستحب فى غيرها ولاينهى عنه قال أهل اللغة الوسم أثركية يُقَالُ بَعِيرٌ مَوْسُومٌ وَقَدْ وَسَمَهُ يَسِمُهُ وَسْمًا وَسِمَةً وَالْمِيسَمُ الشَّيْءُ الَّذِي يُوسَمُ بِهِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ وَجَمْعُهُ مَيَاسِمُ وَمَوَاسِمُ وَأَصْلُهُ كُلُّهُ مِنَ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ وَمِنْهُ مَوْسِمُ الْحَجِّ أَيْ مَعْلَمُ جَمْعِ النَّاسِ وَفُلَانٌ مَوْسُومٌ بِالْخَيْرِ وَعَلَيْهِ سِمَةُ الْخَيْرِ أَيْ عَلَامَتُهُ وَتَوَسَّمْتُ فِيهِ كَذَا أَيْ رَأَيْتُ فِيهِ عَلَامَتَهُ والله أعلم(14/97)
(باب جواز وسم الحيوان غير الآدمى فى غير الوجه وندبه فى نعم الزكاة والجزية)
[2119] قَوْلُهُ (عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ سليم قالت لى ياأنس انظر هذا الغلام فلايصيبن شَيْئًا حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَنِّكُهُ فَغَدَوْتُ فَإِذَا هُوَ فى الحائط وعليه خميصة حويتية وَهُوَ يَسِمُ الظَّهْرَ الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْحَ) وَفِي روايةٍ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فى مربد يسم غما قال شعبة وأكثر علمى أنه قال فى آذنها وَفِي رِوَايَةٍ رَأَيْتُ فِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِيسَمَ وَهُوَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ أَمَّا الْخَمِيصَةُ فَهِيَ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ خَزٍّ وَنَحْوِهِمَا مُرَبَّعٌ لَهُ أَعْلَامٌ وَأَمَّا(14/98)
قَوْلُهُ حُوَيْتِيَّةٌ فَاخْتَلَفَ رُوَاةُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي ضَبْطِهِ فَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ واومفتوحة ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فوق مكسورة ثم مثناة تحت مشددة وَفِي بَعْضِهِمْ حُوتَنِيَّةٌ بِإِسْكَانِ الْوَاوِ وَبَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ فَوْقُ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ نُونٌ مَكْسُورَةٌ وَقَدْ ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَفِي بَعْضِهَا حُونِيَّةٌ بِإِسْكَانِ الْوَاوِ وَبَعْدَهَا نُونٌ مَكْسُورَةٌ وَفِي بَعْضِهَا حُرَيْثِيَّةٌ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ وَرَاءُ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ مَكْسُورَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى بَنِي حُرَيْثٍ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لِجُمْهُورِ رُوَاةِ صَحِيحِهِ وَفِي بَعْضِهَا حَوْنَبِيَّةٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ ثُمَّ نُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَفِي بَعْضِهَا خُوَيْثِيَّةٌ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ وَبَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ حَكَاهُ الْقَاضِي وَفِي بَعْضِهَا جُوَيْنِيَّةٌ بِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ وَاوٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ ثُمَّ نُونٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ مُشَدَّدَةٍ وَفِي بَعْضِهَا جَوْنِيَّةٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَبَعْدَهَا نُونٌ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ وَوَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ خَيْبَرِيَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى خَيْبَرَ وَوَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَوْتَكِيَّةٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَبِالْكَافِ أَيْ صَغِيرَةٌ وَمِنْهُ رَجُلٌ حَوْتَكِيٌّ أَيْ صَغِيرٌ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى هِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْحُوَيْتِ وَهُوَ قَبِيلَةٌ أَوْ مَوْضِعٌ وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ هذه الروايات كلها تصحيف إلاروايتى جَوْنِيَّةٌ بِالْجِيمِ وَحُرَيْثِيَّةٌ بِالرَّاءِ وَالْمُثَلَّثَةِ فَأَمَّا الْجَوْنِيَّةُ بِالْجِيمِ فَمَنْسُوبَةٌ إِلَى بَنِي الْجَوْنِ قَبِيلَةٍ مِنَ الْأَزْدِ أَوْ إِلَى لَوْنِهَا مِنَ السَّوَادِ أَوِ الْبَيَاضِ أَوِ الْحُمْرَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ لَوْنٍ مِنْ هَذِهِ جَوْنًا هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وقال بن الْأَثِيرِ فِي نِهَايَةِ الْغَرِيبِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى هَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَالَ وَالْمَحْفُوظُ الْمَشْهُورُ جَوْنِيَّةٌ أَيْ سوداء قال وأما الحويتية فلاأعرفها وَطَالَمَا بَحَثْتُ عَنْهَا فَلَمْ أَقِفْ لَهَا عَلَى مَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ قَالَ شُعْبَةُ وَأَكْثَرُ عِلْمِي رُوِيَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وهما صحيحان والميسم بِكَسْرِ الْمِيمِ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ وَسَبَقَ هُنَاكَ أَنَّ وَسْمَ الْآدَمِيِّ حَرَامٌ وَأَمَّا غَيْرُ الْآدَمِيِّ فَالْوَسْمُ فِي وَجْهِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَأَمَّا غَيْرُ الْوَجْهِ فَمُسْتَحَبٌّ فِي نَعَمِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَجَائِزٌ فِي غَيْرِهَا وَإِذَا وُسِمَ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسِمَ الْغَنَمَ فِي آذَانِهَا وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ فى أصول أفخاذخا لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ صُلْبٌ فَيَقِلُّ الْأَلَمُ فِيهِ وَيَخِفُّ شَعْرُهُ وَيَظْهَرُ الْوَسْمُ وَفَائِدَةُ الْوَسْمِ تَمْيِيزُ الْحَيَوَانِ بَعْضِهُ مِنْ بَعْضٍ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْتَبَ فِي مَاشِيَةِ الْجِزْيَةِ جِزْيَةٌ أَوْ صَغَارٌ وَفِي مَاشِيَةِ الزَّكَاةِ زَكَاةٌ أَوْ صَدَقَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ يُسْتَحَبُّ كَوْنُ مِيسَمِ الْغَنَمِ أَلْطَفَ مِنْ مِيسَمِ الْبَقَرِ وَمِيسَمِ الْبَقَرِ أَلْطَفَ مِنْ مِيسَمِ الْإِبِلِ وَهَذَا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنِ اسْتِحْبَابِ وَسْمِ نَعَمِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ هُوَ(14/99)
مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وجماهير العلماء بعدهم ونقل بن الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ وَمُثْلَةٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنِ الْمُثْلَةِ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِأَنَّهَا رُبَّمَا شَرَدَتْ فَيَعْرِفُهَا وَاجِدُهَا بِعَلَامَتِهَا فَيَرُدُّهَا وَالْجَوَابُ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ وَالتَّعْذِيبِ أَنَّهُ عَامٌّ وَحَدِيثُ الْوَسْمِ خَاصٌّ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ والله أعلم وأما الْمِرْبَدُ فَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُحْبَسُ فِيهِ الْإِبِلُ وَهُوَ مِثْلُ الْحَظِيرَةِ لِلْغَنَمِ فَقَوْلُهُ هُنَا فِي مِرْبَدٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْحَظِيرَةَ الَّتِي لِلْغَنَمِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الْمِرْبَدِ مَجَازًا لِمُقَارَبَتِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ على ظاهره وأنه أدخل الغنم مِرْبَدِ الْإِبِلِ لِيَسِمَهَا فِيهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ يَسِمُ الظَّهْرَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِبِلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ الْأَثْقَالَ عَلَى ظُهُورِهَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا جَوَازُ الْوَسْمِ فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَاسْتِحْبَابُهُ فِي نَعَمِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَأَنَّهُ ليس فى فعله دناءة ولاترك مُرُوءَةٍ فَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَفِعْلِ الْأَشْغَالِ بِيَدِهِ وَنَظَرِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَالِاحْتِيَاطِ فِي حِفْظِ مَوَاشِيهِمْ بِالْوَسْمِ وَغَيْرِهِ وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ تَحْنِيكِ الْمَوْلُودِ وَسَنَبْسُطُهُ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا حَمْلُ الْمَوْلُودِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ يُحَنِّكُهُ بتمرة ليكون أول مايدخل فِي جَوْفِهِ رِيقُ الصَّالِحِينَ فَيَتَبَرَّكَ بِهِ وَاللَّهُ أعلم
(باب كراهة القزع)
[2120] قوله (أخبرنى عمر بن نافع عن أبيه عن بن عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْقَزَعِ قُلْتُ(14/100)
لِنَافِعٍ وَمَا الْقَزَعُ قَالَ يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَيُتْرَكُ بَعْضٌ) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَزَعُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ وَهَذَا الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ نَافِعٌ أَوْ عُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ أَنَّ الْقَزَعَ حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ حَلْقُ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْهُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ تَفْسِيرُ الرَّاوِي وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقَزَعِ إِذَا كَانَ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمُدَاوَاةٍ وَنَحْوِهَا وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ مُطْلَقًا وقال بعض أصحابه لابأس بِهِ فِي الْقُصَّةِ وَالْقَفَا لِلْغُلَامِ وَمَذْهَبُنَا كَرَاهَتُهُ مُطْلَقًا لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي كَرَاهَتِهِ أَنَّهُ تَشْوِيهٌ لِلْخَلْقِ وَقِيلَ لِأَنَّهُ أَذَى الشَّرِّ وَالشَّطَارَةِ وَقِيلَ لِأَنَّهُ زِيُّ الْيَهُودِ وَقَدْ جَاءَ هَذَا فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(14/101)
(بَاب النَّهْيِ عَنْ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقَاتِ وَإِعْطَاءِ الطَّرِيقِ حَقَّهُ)
[2121] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إياكم والجلوس فى الطرقات قالوا يارسول الله مالنا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ فَإِذَا أبيتم إلاالمجلس فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّهُ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) هَذَا الْحَدِيثُ كَثِيرُ الفوائد وهومن الْأَحَادِيثِ الْجَامِعَةِ وَأَحْكَامُهُ ظَاهِرَةٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ الْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَيَدْخُلُ فِي كَفِّ الْأَذَى اجْتِنَابُ الْغِيبَةِ وَظَنِّ السُّوءِ وَإِحْقَارِ بَعْضِ الْمَارِّينَ وَتَضْيِيقِ الطَّرِيقِ وَكَذَا إِذَا كَانَ الْقَاعِدُونَ مِمَّنْ يَهَابُهُمُ الْمَارُّونَ أَوْ يَخَافُونَ مِنْهُمْ وَيَمْتَنِعُونَ مِنَ الْمُرُورِ فِي أَشْغَالِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ لكونهم لا يجدون طريقا إلاذلك الْمَوْضِعِ
(بَاب تَحْرِيمِ فِعْلِ الْوَاصِلَةِ وَالْمُسْتَوْصِلَةِ وَالْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ وَالنَّامِصَةِ وَالْمُتَنَمِّصَةِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ وَالْمُغَيِّرَاتِ خَلْقِ اللَّهِ تعالى)
[2122] قوله (جاءت امرأة فقالت يارسول اللَّهِ إِنَّ لِي ابْنَةً عُرَيِّسًا أَصَابَتْهَا حَصْبَةٌ فَتَمَرَّقَ شَعْرُهَا أَفَأَصِلُهُ(14/102)
فَقَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ) وَفِي رِوَايَةٍ فَتَمَرَّقَ شَعْرُ رَأْسِهَا وَزَوْجُهَا يَسْتَحْسِنُهَا أَفَأَصِلُ شَعْرَهَا يارسول اللَّهِ فَنَهَاهَا
[2123] وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا مَرِضَتْ فَتَمَرَّطَ شَعْرُهَا وَفِي رِوَايَةٍ فَاشْتَكَتْ فَتَسَاقَطَ شَعْرُهَا وَأَنَّ زَوْجَهَا يُرِيدُهَا أَمَّا تَمَرَّقَ فَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ بِمَعْنَى تَسَاقَطَ وَتَمَرَّطَ كَمَا ذُكِرَ فِي بَاقِي الروايات ولم يذكر القاضي فى الشرح الاالراء الْمُهْمَلَةَ كَمَا ذَكَرْنَا وَحَكَاهُ فِي الْمَشَارِقِ عَنْ جُمْهُورِ الرُّوَاةِ ثُمَّ حَكَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ ولكنه لايستعمل فِي الشَّعْرِ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَأَمَّا قَوْلُهَا (إِنَّ لِي ابْنَةً عُرَيِّسًا) فَبِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ تَصْغِيرُ عَرُوسٍ وَالْعَرُوسُ يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ عِنْدَ الدُّخُولِ بِهَا وَأَمَّا الْحَصْبَةُ فَبِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَيُقَالُ أَيْضًا بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ حَكَاهُنَّ جَمَاعَةٌ وَالْإِسْكَانُ أَشْهَرُ وَهِيَ بَثْرٌ تَخْرُجُ فى الجلد يفول مِنْهُ حَصِبَ جِلْدُهُ بِكَسْرِ الصَّادِ يَحْصِبُ وَأَمَّا الْوَاصِلَةُ فَهِيَ الَّتِي تَصِلُ شَعْرَ الْمَرْأَةِ بِشَعْرٍ آخَرَ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ الَّتِي تَطْلُبُ مَنْ يَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ وَيُقَالُ لَهَا مَوْصُولَةٌ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْوَصْلِ وَلَعْنِ الْوَاصِلَةِ وَالْمُسْتَوْصِلَةِ مُطْلَقًا وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ وَقَدْ فَصَّلَهُ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا إِنْ وَصَلَتْ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ آدَمِيٍّ فَهُوَ حرام بلاخلاف سَوَاءٌ كَانَ شَعْرَ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ وَسَوَاءٌ شعر المحرم والزوج وغيرهما بلاخلاف لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّهُ يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِشَعْرِ الْآدَمِيِّ وسائرأجزائه لِكَرَامَتِهِ بَلْ يُدْفَنُ شَعْرُهُ وَظُفْرُهُ وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ وَإِنْ وَصَلَتْهُ بِشَعْرٍ غَيْرِ آدَمِيٍّ فَإِنْ كَانَ شعرانجسا وَهُوَ شَعْرُ الْمَيْتَةِ وَشَعْرُ مَا لَا يُؤْكَلُ إِذَا انْفَصَلَ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا للحديث ولانه(14/103)
حَمَلَ نَجَاسَةً فِي صَلَاتِهِ وَغَيْرِهَا عَمْدًا وَسَوَاءٌ فى هذين النوعين المزوجةوغيرها مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَأَمَّا الشَّعْرُ الطَّاهِرُ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ ولاسيد فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أحدها لايجوز لظاهر الأحاديث والثانى لايحرم وَأَصَحُّهَا عِنْدَهُمْ إِنْ فَعَلَتْهُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوِ السَّيِّدِ جَازَ وَإِلَّا فَهُوَ حَرَامٌ قَالُوا وَأَمَّا تَحْمِيرُ الْوَجْهِ وَالْخِضَابُ بِالسَّوَادِ وَتَطْرِيفُ الْأَصَابِعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ أَوْ كَانَ وَفَعَلَتْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَحَرَامٌ وَإِنْ أَذِنَ جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ هَذَا تَلْخِيصُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالطَّبَرِيُّ وَكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ الْوَصْلُ مَمْنُوعٌ بِكُلِّ شَيْءٍ سَوَاءٌ وَصَلَتْهُ بِشَعْرٍ أَوْ صُوفٍ أَوْ خِرَقٍ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جابر الذى ذكره مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا شَيْئًا وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ النَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِالْوَصْلِ بِالشَّعْرِ وَلَا بَأْسَ بِوَصْلِهِ بِصُوفِ وَخِرَقٍ وَغَيْرِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ جَمِيعُ ذَلِكَ وَهُوَ مروى عن عائشة ولايصح عَنْهَا بَلِ الصَّحِيحُ عَنْهَا كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ قَالَ الْقَاضِي فَأَمَّا رَبْطُ خُيُوطِ الْحَرِيرِ الْمُلَوَّنَةِ وَنَحْوِهَا مما لايشبه الشعر(14/104)
فليس بمنهى عنه لأنه ليس بوصل ولاهو في معنى مقصود الوصل وانما هُوَ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّحْسِينِ قَالَ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ وَصْلَ الشَّعْرِ مِنْ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ لِلَعْنِ فَاعِلِهِ وَفِيهِ أَنَّ الْمُعِينَ عَلَى الْحَرَامِ يُشَارِكُ فَاعِلَهُ فِي الْإِثْمِ كَمَا أَنَّ الْمُعَاوِنَ فِي الطَّاعَةِ يشارك فى ثوابها والله أعلم وأما قَوْلُهَا وَزَوْجُهَا يَسْتَحْسِنُهَا فَهَكَذَا وَقَعَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النُّسَخِ بِإِسْكَانِ الْحَاءِ وَبَعْدَهَا سِينٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ نُونٌ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ أَيْ يَسْتَحْسِنُهَا فَلَا يَصْبِرُ عَنْهَا وَيَطْلُبُ تَعْجِيلَهَا إِلَيْهِ وَوَقَعَ فِي كثير منها يستحثنيها بِكَسْرِ الْحَاءِ وَبَعْدَهَا ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ ثُمَّ نُونٌ ثُمَّ يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتُ مِنَ الْحَثِّ وَهُوَ سرعة الشيء وفى بعضها يستحثها بَعْدَ الْحَاءِ ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ فَقَطْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَصْلَ حَرَامٌ سَوَاءٌ كان لمعذورة(14/105)
أو عروس أوغيرهما
[2124]
[2125] قَوْلُهُ (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ) أَمَّا الْوَاشِمَةُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ فَفَاعِلَةُ الْوَشْمِ وَهِيَ أَنْ تَغْرِزَ إِبْرَةً أَوْ مِسَلَّةً أَوْ نَحْوَهُمَا فِي ظَهْرِ الْكَفِّ أَوِ الْمِعْصَمِ أَوِ الشَّفَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ ثُمَّ تَحْشُو ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالْكُحْلِ أَوِ النُّورَةِ فَيَخْضَرُّ وَقَدْ يُفْعَلُ ذَلِكَ بِدَارَاتٍ وَنُقُوشٍ وَقَدْ تُكَثِّرُهُ وَقَدْ تُقَلِّلُهُ وَفَاعِلَةُ هَذَا وَاشِمَةٌ وَقَدْ وَشَمِتْ تَشِمُ وَشْمًا وَالْمَفْعُولُ بِهَا مَوْشُومَةٌ فَإِنْ طَلَبَتْ فِعْلَ ذَلِكَ بِهَا فَهِيَ مُسْتَوْشِمَةٌ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْفَاعِلَةِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا بِاخْتِيَارِهَا وَالطَّالِبَةِ لَهُ وَقَدْ يُفْعَلُ بِالْبِنْتِ وَهِيَ طِفْلَةٌ فَتَأْثَمُ الفاعلة ولاتأثم الْبِنْتُ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهَا حِينَئِذٍ قَالَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وُشِمَ يَصِيرُ نَجِسًا فَإِنْ أَمْكَنَ إِزَالَتُهُ بِالْعِلَاجِ وَجَبَتْ إِزَالَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الابالجرح فَإِنْ خَافَ مِنْهُ التَّلَفَ أَوْ فَوَاتَ عُضْوٍ أومنفعة عُضْوٍ أَوْ شَيْئًا فَاحِشًا فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ لَمْ تَجِبْ إِزَالَتُهُ فَإِذَا بَانَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِثْمٌ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ لَزِمَهُ إِزَالَتُهُ وَيَعْصِي بِتَأْخِيرِهِ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا النَّامِصَةُ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ فَهِيَ الَّتِي تُزِيلُ الشَّعْرَ مِنَ الْوَجْهِ وَالْمُتَنَمِّصَةُ الَّتِي تَطْلُبُ فِعْلَ ذلك بها وهذا الفعل حرام الااذا نبتت للمرأة لحية أو شوارب فلاتحرم إزالتها بل يستحب عندنا وقال بن جرير لايجوز حلق لحيتها ولا عنفقتها ولاشاربها ولا تغيير شيء من خلقتها بزيادة ولانقص وَمَذْهَبُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنِ اسْتِحْبَابِ إِزَالَةِ اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَالْعَنْفَقَةِ وَأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَوَاجِبِ وَمَا فِي أَطْرَافِ الْوَجْهِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ الْمُنْتَمِصَةُ بِتَقْدِيمِ النُّونِ وَالْمَشْهُورُ تَأْخِيرُهَا وَيُقَالُ لِلْمِنْقَاشِ مِنْمَاصٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَأَمَّا الْمُتَفَلِّجَاتُ بِالْفَاءِ وَالْجِيمِ وَالْمُرَادُ مُفَلِّجَاتُ الْأَسْنَانِ بِأَنْ تَبْرُدَ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهَا الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ وَهُوَ مِنَ الْفَلَجِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ وَهِيَ فُرْجَةٌ بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ وَتَفْعَلُ ذَلِكَ الْعَجُوزُ وَمَنْ قَارَبَتْهَا فِي السِّنِّ إِظْهَارًا لِلصِّغَرِ وَحُسْنِ الْأَسْنَانِ لِأَنَّ هَذِهِ الْفُرْجَةَ اللَّطِيفَةَ بَيْنَ الْأَسْنَانِ تَكُونُ لِلْبَنَاتِ الصِّغَارِ فَإِذَا عَجَزَتِ الْمَرْأَةُ كَبُرَتْ سِنُّهَا وَتَوَحَّشَتْ فَتَبْرُدُهَا بِالْمِبْرَدِ(14/106)
لِتَصِيرَ لَطِيفَةً حَسَنَةَ الْمَنْظَرِ وَتُوهِمَ كَوْنَهَا صَغِيرَةً وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا الْوَشْرُ وَمِنْهُ لَعْنُ الْوَاشِرَةِ وَالْمُسْتَوْشِرَةِ وَهَذَا الْفِعْلُ حَرَامٌ عَلَى الْفَاعِلَةِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ تَزْوِيرٌ وَلِأَنَّهُ تَدْلِيسٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ الْمُتَفَلِّجَاتُ لِلْحُسْنِ فَمَعْنَاهُ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْحُسْنِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحَرَامَ هُوَ الْمَفْعُولُ لطلب الحسن أما لواحتاجت إِلَيْهِ لِعِلَاجٍ أَوْ عَيْبٍ فِي السِّنِّ وَنَحْوِهِ فلابأس والله أعلم قوله (لوكان ذَلِكَ لَمْ نُجَامِعْهَا) قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهُ لَمْ نُصَاحِبْهَا وَلَمْ نَجْتَمِعْ نَحْنُ وَهِيَ بَلْ كُنَّا نُطَلِّقُهَا وَنُفَارِقُهَا قَالَ الْقَاضِي وَيُحْتَمَلُ أَنَّ معناه لم أطأها وهذا ضعيف والصحيح ماسبق فَيُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مرتكبة معصية كالوصل أو ترك الصلاة(14/107)
أوغيرهما يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَذَا الْإِسْنَادُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ وَقَالَ الصَّحِيحُ عَنِ الْأَعْمَشِ إِرْسَالُهُ قَالَ وَلَمْ يُسْنِدْهُ عَنْهُ غَيْرُ جَرِيرٍ وَخَالَفَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَغَيْرُهُ فَرَوَوْهُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ مُرْسَلًا قَالَ وَالْمَتْنُ صَحِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي كَمَا ذَكَرَهُ فِي الطُّرُقِ السَّابِقَةِ وَهَذَا الْإِسْنَادُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ تَابِعِيُّونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وهم جرير والأعمش وابراهيموعلقمة وقد رأى جرير رجلامن الصَّحَابَةِ وَسَمِعَ أَبَا الطُّفَيْلِ وَهُوَ صَحَابِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[2127] قَوْلُهُ (إِنَّ مُعَاوِيَةَ تَنَاوَلَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ قُصَّةً مِنْ شَعْرٍ كَانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ) قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ هِيَ شَعْرُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ الْمُقْبِلُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَقِيلَ شَعْرُ النَّاصِيَةِ وَالْحَرَسِيُّ كَالشُّرْطِيِّ وَهُوَ غُلَامُ الْأَمِيرِ قَوْلُهُ (وَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعْرٍ) هِيَ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَهِيَ شَعْرٌ مَكْفُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ قوله (ياأهل الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ) هَذَا السُّؤَالُ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِإِهْمَالِهِمْ إِنْكَارَ هَذَا الْمُنْكَرِ وَغَفْلَتِهِمْ عَنْ تَغْيِيرِهِ وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ هَذَا اعْتِنَاءُ الْخُلَفَاءِ وَسَائِرِ وُلَاةِ الْأُمُورِ بِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَإِشَاعَةِ إِزَالَتِهِ وَتَوْبِيخِ مَنْ أَهْمَلَ إِنْكَارَهُ مِمَّنْ تَوَجَّهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّمَا هَلَكَتْ بنواسرائيل حين اتخد هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ) قَالَ الْقَاضِي قِيلَ يُحْتَمَلُ(14/108)
أنه كان محرما عليهم فعوقبوا باستعماله وملكوا بِسَبَبِهِ وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْهَلَاكَ كَانَ بِهِ وبغير مِمَّا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي فَعِنْدَ ظُهُورِ ذَلِكَ فِيهِمْ هَلَكُوا وَفِيهِ مُعَاقَبَةُ الْعَامَّةِ بِظُهُورِ الْمُنْكَرِ
(باب النساءالكاسيات العاريات المائلات المميلات)
[2128] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا(14/109)
الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لايدخلن الجنة ولايجدن رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا) هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ وَقَعَ هَذَانِ الصِّنْفَانِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ وَفِيهِ ذَمُّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ قِيلَ مَعْنَاهُ كَاسِيَاتٌ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَارِيَاتٌ مِنْ شُكْرِهَا وَقِيلَ مَعْنَاهُ تَسْتُرُ بَعْضَ بَدَنِهَا وَتَكْشِفُ بَعْضَهُ إِظْهَارًا بِحَالِهَا وَنَحْوِهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ تَلْبَسُ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُ لَوْنَ بَدَنِهَا وَأَمَّا مَائِلَاتٌ فَقِيلَ مَعْنَاهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا يَلْزَمُهُنَّ حِفْظُهُ مُمِيلَاتٌ أَيْ يُعَلِّمْنَ غَيْرَهُنَّ فِعْلَهُنَّ الْمَذْمُومَ وَقِيلَ مَائِلَاتٌ يَمْشِينَ مُتَبَخْتِرَاتٍ مُمِيلَاتٍ لِأَكْتَافِهِنَّ وَقِيلَ مَائِلَاتٌ يَمْشُطْنَ الْمِشْطَةَ الْمَائِلَةَ وَهِيَ مِشْطَةُ الْبَغَايَا مُمِيلَاتٌ يَمْشُطْنَ غَيْرِهِنَّ تِلْكَ المشطة ومعنى رؤوسهن كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ أَنْ يُكَبِّرْنَهَا وَيُعَظِّمْنَهَا بِلَفِّ عِمَامَةٍ أو عصابة أونحوها
(بَاب النَّهْيِ عَنْ التَّزْوِيرِ فِي اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ والتشبع مما لم يعط)
[2129] قولها (إن امرأة قالت يارسول الله أقول إن زوجى أعطانى مالم يُعْطِنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتشبع بما لم يعظ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ الْمُتَكَثِّرُ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ بِأَنْ يَظْهَرَ أَنَّ عِنْدَهُ ماليس عِنْدَهُ يَتَكَثَّرُ بِذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ وَيَتَزَيَّنُ بِالْبَاطِلِ فهومذموم كَمَا يُذَمُّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْ زُورٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَآخَرُونَ هُوَ الَّذِي يَلْبَسُ ثِيَابَ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَمَقْصُودُهُ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَيُظْهِرَ مِنَ التَّخَشُّعِ وَالزُّهْدِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ فَهَذِهِ ثياب(14/110)
زُورٍ وَرِيَاءٍ وَقِيلَ هُوَ كَمَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ لِغَيْرِهِ وَأَوْهَمَ أَنَّهُمَا لَهُ وَقِيلَ هُوَ مَنْ يَلْبَسُ قَمِيصًا وَاحِدًا وَيَصِلُ بِكُمَّيْهِ كُمَّيْنِ آخَرَيْنِ فيظهر أن عليه قميصين وحكى الخطابى قولاآخر أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالثَّوْبِ الْحَالَةُ وَالْمَذْهَبُ وَالْعَرَبُ تَكْنِي بِالثَّوْبِ عَنْ حَالِ لَابِسِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كالكاذب القائل مالم يكن وقولاآخر أَنَّ الْمُرَادَ الرَّجُلُ الَّذِي تُطْلَبُ مِنْهُ شَهَادَةَ زُورٍ فَيَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ يَتَجَمَّلُ بِهِمَا فَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِحُسْنِ هَيْئَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ فِي اسناد الباب (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا)
[2130] وذكر الحديث وبعده عن بن نُمَيْرٍ أَيْضًا عَنْ عَبْدَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ الْحَدِيثَ وَبَعْدَهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ وَعَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ هَكَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأَسَانِيدُ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ووقع فى نسخة بن ماهان رواية بن أبي شيبة وإسحاق عقيب رواية بن نمير عن وكيع ومقدمة على رواية بن نُمَيْرٍ عَنْ عَبْدَةَ وَحْدَهُ وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أن هذا الذى فى نسخة بن مَاهَانَ خَطَأٌ قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ هَذَا خَطَأٌ قَبِيحٌ قَالَ وَلَيْسَ يُعْرَفُ حَدِيثُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الامن رواية مسلم عن بن نُمَيْرٍ وَمِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ حَدِيثُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ إِنَّمَا يَرْوِيهِ هَكَذَا مَعْمَرٌ وَالْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ وَيَرْوِيهِ غَيْرُهُمَا عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ وَهُوَ الصَّحِيحُ قَالَ وَإِخْرَاجُ مُسْلِمٍ حديث هشام عن أبيه عن عائشة لايصح وَالصَّوَابُ حَدِيثُ عَبْدَةَ وَوَكِيعٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ هِشَامٍ عن فاطمة عن أسماء والله أعلم(14/111)
(
كتاب الآداب)
(باب النهى عن التكنى بأبى القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء)
[2131] قَوْلُهُ (نَادَى رَجُلٌ رَجُلًا بِالْبَقِيعِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أَعْنِكَ إِنَّمَا دَعَوْتُ فُلَانًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسَمَّوْا بِاسْمِي ولاتكنوا بِكُنْيَتِي) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ وَجَمَعَهَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَحَدُهَا مَذْهَبُ الشافعى وأهل الظاهر أنه لايحل التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ لِأَحَدٍ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا أَوْ أَحْمَدَ أَمْ لَمْ يَكُنْ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مَنْسُوخٌ فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ نُسِخَ قَالُوا فَيُبَاحُ التَّكَنِّي الْيَوْمَ بِأَبِي الْقَاسِمِ لِكُلِّ أَحَدٍ سَوَاءٌ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ قَالَ الْقَاضِي وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ قَالُوا وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ جَمَاعَةً تَكَنَّوْا بِأَبِي الْقَاسِمِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ مَعَ كَثْرَةِ فَاعِلِ ذَلِكَ وَعَدَمِ الانكار الثالث مذهب بن جَرِيرٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ وَإِنَّمَا كَانَ النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ وَالْأَدَبِ لَا لِلتَّحْرِيمِ الرَّابِعُ أَنَّ النَّهْيَ عن(14/112)
التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ مُخْتَصٌّ بِمَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ أو أحمد ولابأس بالكنية وحدها لمن لايسمى بِوَاحِدٍ مِنَ الِاسْمَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ جَابِرٍ الْخَامِسُ أَنَّهُ يَنْهَى عَنِ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ مُطْلَقًا وَيَنْهَى عَنِ التَّسْمِيَةِ بِالْقَاسِمِ لِئَلَّا يُكَنَّى أَبُوهُ بِأَبِي الْقَاسِمِ وَقَدْ غَيَّرَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ اسْمَ ابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ حِينَ بَلَغَهُ هَذَا الْحَدِيثُ فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ وَكَانَ سَمَّاهُ أَوَّلًا الْقَاسِمَ وَفَعَلَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ أَيْضًا السَّادِسُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ بِمُحَمَّدٍ مَمْنُوعَةٌ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لَهُ كُنْيَةٌ أَمْ لَا وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُسَمُّونَ أَوْلَادَكُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْكُوفَةِ لَا تُسَمُّوا أَحَدًا بِاسْمِ نَبِيٍّ وَأَمَرَ جَمَاعَةً بِالْمَدِينَةِ بِتَغْيِيرِ أَسْمَاءِ أَبْنَائِهِمْ مُحَمَّدٍ حَتَّى ذَكَرَ لَهُ جَمَاعَةٌ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَسَمَّاهُمْ بِهِ فَتَرَكَهُمْ قَالَ الْقَاضِي وَالْأَشْبَهُ أَنَّ فِعْلَ عُمَرَ هَذَا إِعْظَامٌ لِاسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يُنْتَهَكَ الِاسْمُ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ تُسَمُّونَهُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ وَقِيلَ سَبَبُ نَهْيِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ فَعَلَ اللَّهُ بك يامحمد فَدَعَاهُ عُمَرُ فَقَالَ أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسب بك والله لاتدعى مُحَمَّدًا مَا بَقِيتُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
[2132] قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ الْمُلَقَّبُ بِسَبَلَانَ) وَهُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ قَوْلُهُ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ) هَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ ثِقَةٌ حَافِظٌ ضَابِطٌ مُجْمَعٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَأَمَّا أخوه عبد الله فضعيف لايجوز الِاحْتِجَاجُ بِهِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا الرَّاوِي جَازَ وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ اعْتِمَادًا عَلَى عُبَيْدُ اللَّهِ قَوْلُهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ أحباسمائكم إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ) فِيهِ التَّسْمِيَةُ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ وَتَفْضِيلُهُمَا عَلَى سَائِرِ مَا يُسَمَّى بِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(14/113)
[2133] فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي
(بَابِ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي)
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْكُنْيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِسَبَبِ وَصْفٍ صَحِيحٍ فِي الْمُكْنَى أَوْ لِسَبَبِ اسم ابنه وقال بن بَطَّالٍ فِي شَرْحِ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ(14/114)
أَنِّي لَمُ أَسْتَأْثِرْ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا دُونَكُمْ وَقَالَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ حِينَ فَاضَلَ فِي الْعَطَاءِ فَقَالَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُعْطِيكُمْ لاأنا وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ فَمَنْ قَسَمْتُ لَهُ شَيْئًا فَذَلِكَ نَصِيبُهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَأَمَّا غَيْرُ أَبِي الْقَاسِمِ مِنَ الْكُنَى فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ على جوازه سواء كان له بن أَوْ بِنْتٌ فَكُنِيَ بِهِ أَوْ بِهَا أَوْ لم يكن له ولد أو صَغِيرًا أَوْ كُنِيَ بِغَيْرِ وَلَدِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُكْنَى الرَّجُلُ أَبَا فُلَانٍ(14/115)
وَأَبَا فُلَانَةٍ وَأَنْ تُكْنَى الْمَرْأَةُ أُمَّ فُلَانَةٍ وأم فلان وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقول للصغير أخى أنس ياأبا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (ولاننعمك عَيْنًا) أَيْ لَا نُقِرُّ عَيْنَكَ بِذَلِكَ وَسَبَقَ شَرْحُ قَرَّتْ عَيْنُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَضِيفَانِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى الله(14/116)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
[2135] (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ) اسْتَدَلَّ بِهِ جَمَاعَةٌ عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَجْمَعُ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ إِلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَبَقَ تَأْوِيلُهُ وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَهُ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ فِي أَصْحَابِهِ خَلَائِقُ مُسَمَّوْنَ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّسَمِّي بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ قَالَ وَكَرِهَ مَالِكٌ التَّسَمِّي بِجِبْرِيلَ وَيَاسِينَ
(بَاب كَرَاهَةِ التَّسْمِيَةِ بِالْأَسْمَاءِ الْقَبِيحَةِ وَبِنَافِعٍ وَنَحْوِهِ)
[2136] قَوْلُهُ (نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُسَمِّيَ رَقِيقَنَا بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ أَفْلَحُ ورباح ويسار ونافع)
[2137] وفى رواية لاتسمين غُلَامَكَ يَسَارًا وَلَا رَبَاحًا وَلَا نَجِيحًا وَلَا أفلح فانك تقول اثم هو فلايكون(14/117)
فيقول لاإنما هن أربع فلاتزيدن عَلَيَّ)
[2138] وَفِي رِوَايَةِ جَابِرٍ قَالَ (أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِيَعْلَى وَبِبَرَكَةَ وَبِأَفْلَحَ وَبِيَسَارٍ وَبِنَافِعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ رَأَيْتُهُ سَكَتَ بَعْدُ عَنْهَا فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قُبِضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ تَرَكَهُ) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ الَّتِي بِبِلَادِنَا أَنْ يُسَمَّى بِيَعْلَى وَفِي بَعْضِهَا بِمُقْبِلٍ بَدَلُ يَعْلَى وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِلْحُمَيْدِيِّ بِيَعْلَى وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِمُقْبِلٍ وَفِي بَعْضِهَا بِيَعْلَى قَالَ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ قَالَ وَالْمَعْرُوفُ بِمُقْبِلٍ وَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ الْقَاضِي لَيْسَ بِمُنْكَرٍ بَلْ هُوَ الْمَشْهُورُ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الرِّوَايَةِ وَفِي الْمَعْنَى وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنَهِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ الله أنهى أمتى أن يسموانافعا وَأَفْلَحَ وَبَرَكَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلَا تَزِيدُنَّ عَلَيَّ هُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَمَعْنَاهُ(14/118)
الَّذِي سَمِعْتُهُ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ وَكَذَا رِوَايَتُهُنَّ لَكُمْ فلاتزيدوا عَلَيَّ فِي الرِّوَايَةِ وَلَا تَنْقُلُوا عَنِّي غَيْرَ الْأَرْبَعِ وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعُ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَرْبَعِ وأن يلحق بها مافى مَعْنَاهَا قَالَ أَصْحَابُنَا يُكْرَهُ التَّسْمِيَةُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَلَا تَخْتَصُّ الْكَرَاهَةُ بِهَا وَحْدَهَا وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لاتحريم وَالْعِلَّةُ فِي الْكَرَاهَةِ مَا بَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّكَ تَقُولُ أَثِمَ هو فيقول لافكره لبشاعة الجواب وربماأوقع بَعْضَ النَّاسِ فِي شَيْءٍ مِنَ الطِّيَرَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَمَعْنَاهُ أَرَادَ أَنْ يَنْهَى عَنْهَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ فَلَمْ يَنْهَ وَأَمَّا النَّهْيُ الَّذِي هُوَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ فَقَدْ نَهَى عَنْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ
(بَاب اسْتِحْبَابِ تغير الاسم القبيح إلى حسن وتغير اسْمِ بَرَّةَ إِلَى زَيْنَبَ وَجُوَيْرِيَةَ وَنَحْوِهِمَا)
[2139] قَوْلُهُ (ان ابنةلعمر كَانَ يُقَالُ لَهَا عَاصِيَةُ فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيلَةَ) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ
[2140] كَانَتْ جُوَيْرِيَةُ اسْمُهَا بَرَّةُ فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَهَا جُوَيْرِيَةَ وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ(14/119)
يُقَالَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ وَذَكَرَ
[2141]
[2142] فِي الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيَّرَ اسْمَ بَرَّةَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ وَبَرَّةَ بِنْتِ جَحْشٍ فَسَمَّاهُمَا زَيْنَبَ وَزَيْنَبَ وَقَالَ لاتزكوا أَنْفُسَكُمُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ مَعْنَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَغْيِيرُ الِاسْمِ الْقَبِيحِ أَوِ الْمَكْرُوهِ إِلَى حَسَنٍ وَقَدْ ثَبَتَ أَحَادِيثُ بِتَغْيِيرِهِ(14/120)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلَّةَ فِي النَّوْعَيْنِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا وهى التزكية أو خوف النطير
(باب تحريم التسمى بملك الاملاك أو بملك الملوك)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2143] (إِنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ سُفْيَانُ مِثْلُ شَاهَانْ شَاهْ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو عَنْ أَخْنَعَ فَقَالَ أَوْضَعُ) وَفِي رِوَايَةٍ أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ هَكَذَا جَاءَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ هنا أخنع وأغيظ وأخبث وهذا التفسير الذى فسره أبوعمرو مَشْهُورٌ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ قَالُوا مَعْنَاهُ أَشَدُّ ذلاوصغارا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمُرَادُ صَاحِبُ الِاسْمِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَغْيَظُ رَجُلٍ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ وَقِيلَ أَخْنَعُ بِمَعْنَى أَفْجَرَ يُقَالُ خَنَعَ الرَّجُلُ إِلَى الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ إِلَيْهِ أَيْ دَعَاهَا إِلَى الْفُجُورِ وَهُوَ بِمَعْنَى أَخْبَثَ أَيْ أَكْذَبَ الْأَسْمَاءِ وَقِيلَ أَقْبَحُ وَفِي رِوَايَةِ البخارى أخنأوهو بِمَعْنَى مَا سَبَقَ أَيْ أَفْحَشَ وَأَفْجَرَ وَالْخَنَى الْفُحْشُ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَهْلَكَ لِصَاحِبِهِ الْمُسَمَّى الْخَنَى الْهَلَاكُ يُقَالُ أَخْنَى عَلَيْهِ الدَّهْرُ أَيْ أهلكه قال أبو عبيدوروى أَنْخَعُ أَيْ أَقْتَلُ وَالنَّخَعُ الْقَتْلُ الشَّدِيدُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ فَهَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِتَكْرِيرِ أَغْيَظُ قَالَ الْقَاضِي لَيْسَ تَكْرِيرُهُ وَجْهَ الْكَلَامِ قَالَ وَفِيهِ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ بِتَكْرِيرِهِ أَوْ تَغْيِيرِهِ قَالَ وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ لَعَلَّ أَحَدَهُمَا أَغْنَطُ بِالنُّونِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ أَشَدَّهُ عَلَيْهِ وَالْغَنَطُ شِدَّةُ الْكَرْبِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَغْيَظُ هُنَا مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ والله سبحانه وتعالى لايوصف بِالْغَيْظِ فَيُتَأَوَّلُ هُنَا الْغَيْظُ عَلَى الْغَضَبِ وَسَبَقَ شَرْحُ مَعْنَى الْغَضَبِ وَالرَّحْمَةِ فِي(14/121)
حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ قَالَ سُفْيَانُ مِثْلُ شَاهَانْ شَاهْ فَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ قَالَ الْقَاضِي وَقَعَ فى روايةشاه شاه قال وزعم بعبضهم أَنَّ الْأَصْوَبَ شَاهْ شَاهَانْ وَكَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ فِي كِسْرَى قَالُوا وَشَاهْ الْمَلِكِ وَشَاهَانْ الْمُلُوكِ وَكَذَا يَقُولُونَ لِقَاضِي الْقُضَاةِ مُوبَذُ موبذان قال القاضي ولاينكر صِحَّةُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّجَالُ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَجَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْمُضَافِ والمضاف إليه فيقولون فى غلام زيدزيد غلام فهكذا أكثركلامهم فَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ صَحِيحَةٌ وَأَعْلَمُ أَنَّ التَّسَمِّيَ بِهَذَا الاسم حرم وَكَذَلِكَ التَّسَمِّي بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُخْتَصَّةِ بِهِ كَالرَّحْمَنِ وَالْقُدُّوسِ وَالْمُهَيْمِنِ وَخَالِقِ الْخَلْقِ وَنَحْوِهَا وَأَمَّا قوله قال أحمد بن حنبل سألت أباعمر فَأَبُو عَمْرٍو هَذَا هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ مِرَارٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ قِتَالٍ وَقِيلَ مَرَّارٌ بِفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ كَعَمَّارٍ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا وَتَخْفِيفِ الراء كغزال وهو أبو عمر واللغوى النَّحْوِيُّ الْمَشْهُورُ وَلَيْسَ بِأَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ ذَاكَ تَابِعِيٌّ تُوُفِّيَ قَبْلَ وِلَادَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب اسْتِحْبَابِ تَحْنِيكِ الْمَوْلُودِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ وَحَمْلِهِ إِلَى صَالِحٍ يُحَنِّكُهُ وَجَوَازِ تَسْمِيَتِهِ يوم ولادته واستحباب التسمية بعبد الله وابراهيم وسائر أسماء الانبياء عليهم السلام)
اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود عندولادته بِتَمْرٍ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَمَا فِي مَعْنَاهُ وَقَرِيبٌ منه(14/122)
مِنَ الْحُلْوِ فَيَمْضُغُ الْمُحَنِّكُ التَّمْرَ حَتَّى تَصِيرَ مَائِعَةً بِحَيْثُ تُبْتَلَعُ ثُمَّ يَفْتَحُ فَمَ الْمَوْلُودِ وَيَضَعُهَا فِيهِ لِيَدْخُلَ شَيْءٌ مِنْهَا جَوْفَهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَنِّكُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِهِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا عِنْدَ الْمَوْلُودِ حُمِلَ إِلَيْهِ
[2144] قَوْلُهُ (ذَهَبْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حِينَ وُلِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَبَاءَةٍ يَهْنَأُ بَعِيرًا لَهُ فَقَالَ هَلْ مَعَكَ تَمْرٌ فَقُلْتُ نَعَمْ فَنَاوَلْتُهُ تَمَرَاتٍ فَأَلْقَاهُنَّ فِي فِيهِ فَلَاكَهُنَّ ثُمَّ فَغَرَ فَا الصَّبِيِّ فَمَجَّهُ فِيهِ فَجَعَلَ الصَّبِيُّ يَتَلَمَّظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبُّ الْأَنْصَارِ التَّمْرَ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ) أَمَّا الْعَبَاءَةُ فَمَعْرُوفَةٌ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ يُقَالُ فِيهَا عَبَايَةٌ بِالْيَاءِ وَجَمْعُ الْعَبَاءَةِ الْعَبَاءُ وَأَمَّا قَوْلُهُ يَهْنَأُ فَبِهَمْزِ آخِرِهِ أَيْ يَطْلِيهِ بِالْقَطَرَانِ وَهُوَ الْهِنَاءُ بِكَسْرِ الْهَاءِ والمد يقال هنأت البعير أهنأه وَمَعْنَى لَاكَهُنَّ أَيْ مَضَغَهُنَّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ اللوك مختص بمضغ الشيء الصلب وفغرفاه بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ فَتَحَهُ وَمَجَّهُ فِيهِ أَيْ طَرَحَهُ فِيهِ وَيَتَلَمَّظُ أَيْ يُحَرِّكُ لسانه ليتتبع مافى فِيهِ مِنْ آثَارِ التَّمْرِ وَالتَّلَمُّظُ وَاللَّمْظُ فِعْلُ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ يَقْصِدُ بِهِ فَاعِلُهُ تَنْقِيَةَ الْفَمِ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ وَكَذَلِكَ مَا عَلَى الشَّفَتَيْنِ وَأَكْثَرُ مَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ يَسْتَطِيبُهُ وَيُقَالُ تَلَمَّظَ يَتَلَمَّظُ تَلَمُّظًا وَلَمَظَ يَلْمُظُ بِضَمِّ الْمِيمِ لَمْظًا بِإِسْكَانِهَا وَيُقَالُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ الْبَاقِي فِي الْفَمِ لُمَاظَةٌ بِضَمِّ اللَّامِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبُّ الْأَنْصَارِ التَّمْرَ رُوِيَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا فَالْكَسْرُ بِمَعْنَى الْمَحْبُوبِ كَالذِّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ وَعَلَى هَذَا فَالْبَاءُ مَرْفُوعَةٌ أَيْ مَحْبُوبُ الْأَنْصَارِ التَّمْرُ وَأَمَّا مَنْ ضَمَّ الْحَاءَ فَهُوَ مَصْدَرٌ وَفِي الْبَاءِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ النَّصْبُ وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَالرَّفْعُ فَمَنْ نَصَبَ فَتَقْدِيرُهُ انْظُرُوا حُبَّ الْأَنْصَارِ التَّمْرَ فَيُنْصَبُ التَّمْرُ أَيْضًا ومن رفع قال هو مبتدأحذف خَبَرُهُ أَيْ حُبُّ الْأَنْصَارِ التَّمْرَ لَازِمٌ أَوْ هَكَذَا أَوْ عَادَةٌ مِنْ صِغَرِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا تَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ وَهُوَ سُنَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا سَبَقَ(14/123)
وَمِنْهَا أَنْ يُحَنِّكَهُ صَالِحٌ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ وَمِنْهَا التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَرِيقِهِمْ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْهُمْ وَمِنْهَا كَوْنُ التَّحْنِيكِ بِتَمْرٍ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ وَلَوْ حَنَّكُ بِغَيْرِهِ حَصَلَ التَّحْنِيكُ وَلَكِنَّ التَّمْرَ أَفْضَلُ وَمِنْهَا جَوَازُ لُبْسِ الْعَبَاءَةِ وَمِنْهَا التواضع وتعاطى الكبير أشغاله وأنه لاينقص ذَلِكَ مُرُوءَتَهُ وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ التَّسْمِيَةِ بِعَبْدِ اللَّهِ وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ تَفْوِيضِ تَسْمِيَتِهِ إِلَى صَالِحٍ فَيَخْتَارُ لَهُ اسْمًا يَرْتَضِيهِ وَمِنْهَا جَوَازُ تَسْمِيَتِهِ يَوْمَ ولادته والله أعلم قوله فى الرواية الثانية إِنَّ الصَّبِيَّ لَمَّا مَاتَ فَجَاءَ أَبُوهُ أَبُو طَلْحَةَ سَأَلَ أَمَّ سُلَيْمٍ وَهِيَ أُمُّ الصَّبِيِّ مَا فَعَلَ الصَّبِيُّ قَالَتْ هُوَ أَسْكَنُ مِمَّا كَانَ فَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ وَارُوا الصَّبِيَّ أَيِ ادْفِنُوهُ فَقَدْ مَاتَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنَاقِبُ لأم سليم رضى الله عنهامن عَظِيمِ صَبْرِهَا وَحُسْنِ رِضَاهَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَزَالَةِ عَقْلِهَا فِي إِخْفَائِهَا مَوْتَهُ عَلَى أَبِيهِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ لِيَبِيتَ مُسْتَرِيحًا بِلَا حُزْنٍ ثُمَّ عَشَّتْهُ وَتَعَشَّتْ ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ وَعَرَّضَتْ لَهُ بِإِصَابَتِهِ فَأَصَابَهَا وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْمَعَارِيضِ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِقَوْلِهَا هُوَ أَسْكَنُ مِمَّا كَانَ فَإِنَّهُ كَلَامٌ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنَّهُ قدهان مَرَضُهُ وَسَهُلَ وَهُوَ فِي الْحَيَاةِ وَشَرْطُ الْمَعَارِيضِ المباحة أن لايضيع بِهَا حَقُّ أَحَدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ) هُوَ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَالْجُمْهُورُ يُقَالُ أَعْرَسَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ قالوا ولايقال فِيهِ عَرَّسَ بِالتَّشْدِيدِ وَأَرَادَ هُنَا الْوَطْءَ وَسَمَّاهُ إِعْرَاسًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ فِي الْمَقْصُودِ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ رُوِيَ أَيْضًا أَعَرَّسْتُمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ قَالَ وَهِيَ لُغَةٌ يُقَالُ عَرَّسَ بِمَعْنَى أَعْرَسَ قَالَ لَكِنْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَعْرَسَ أَفْصَحُ مِنْ عَرَّسَ فِي هَذَا وَهَذَا السُّؤَالُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ صَنِيعِهَا وَصَبْرِهَا وَسُرُورًا بِحُسْنِ رِضَاهَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ دَعَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ فِي لَيْلَتِهِمَا فاستجاب الله(14/124)
تَعَالَى ذَلِكَ الدُّعَاءَ وَحَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَجَاءَ مِنْ أَوْلَادِ عَبْدِ اللَّهِ إِسْحَاقُ وَإِخْوَتُهُ التِّسْعَةُ صَالِحِينَ عُلَمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا بن عون عن بن سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ) هَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِمِ بن سِيرِينَ مُهْمَلًا وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ
[2145] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وُلِدَ لِي غُلَامٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّاهُ بِإِبْرَاهِيمَ وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ) فِيهِ التَّحْنِيكُ وَغَيْرُهُ مِمَّا سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَفِيهِ جَوَازُ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْجَمَاهِيرَ عَلَى ذَلِكَ وَفِيهِ جَوَازُ التَّسْمِيَةِ يَوْمَ الْوِلَادَةِ وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى(14/125)
عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنَ التسمية بغيرهما ولذا سمى بن أَبِي أَسِيدٍ الْمَذْكُورَ بَعْدَ هَذَا الْمُنْذِرَ
[2146] قَوْلُهَا (مَسَحَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ) مَعْنَى صَلَّى عَلَيْهِ أَيْ دَعَا لَهُ وَمَسَحَهُ تَبَرُّكًا فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ لِلْمَوْلُودِ عِنْدَ تَحْنِيكِهِ وَمَسْحِهِ للتبريك قوله (أن بن الزبير جاء وهو بن سبع سنين أوثمان لِيُبَايِعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرِهِ بِذَلِكَ الزُّبَيْرُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ مُقْبِلًا إِلَيْهِ ثم بايعه) هذه بيعة تبريك وتشريف لابيعة تَكْلِيفٍ قَوْلُهَا (فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ) أَيْ مُقَارِبَةٌ لِلْوِلَادَةِ قَوْلُهَا (ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ) هُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ أَيْ بَصَقَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ (وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ) يَعْنِي أَوَّلَ مَنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ أَوْلَادِ الْمُهَاجِرِينَ وَإِلَّا فَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُلِدَ قَبْلَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وفى هذا الحديث مع ماسبق شَرْحُهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ(14/126)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَيْهِ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ وَأَوَّلُ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَلَهِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ) هَذِهِ اللَّفْظَةُ رُوِيَتْ عَلَى وجهين أحدها فلها بفتح الهاء والثانية فلهى بكسرها وبالياءوالأولى لُغَةُ طَيٍّ وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ الْأَكْثَرِينَ وَمَعْنَاهُ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَمَّا مِنَ اللَّهْوِ فَلَهَا بالفتح لاغير يلهو والأشهر فى الرواية هناكسر الْهَاءِ وَهِيَ لُغَةُ أَكْثَرِ الْعَرَبِ كَمَا ذَكَرْنَا وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْغَرِيبِ وَالشُّرَّاحُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ اشْتَغَلَ
[2149] قَوْلُهُ (الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي أُسَيْدٍ) الْمَشْهُورُ فِي أَبِي أُسَيْدٍ ضَمُّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحُ السِّينِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَمَاهِيرُ غَيْرَهُ قَالَ الْقَاضِي وَحَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ(14/127)
مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَبِالضَّمِّ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَوَكِيعٌ وَهُوَ الصَّوَابُ وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ قَالُوا وَسَبَبُ تَسْمِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم هذا المولود المنذر لأن بن عم ابيه المنذر بن عمروكان قَدْ اسْتُشْهِدَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ وَكَانَ أَمِيرَهُمْ فَيُقَالُ بِكَوْنِهِ خَلْفًا مِنْهُ قَوْلُهُ (فَأَقْلَبُوهُ) أَيْ رَدُّوهُ وَصَرَفُوهُ فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَأَقْلَبُوهُ بِالْأَلِفِ وَأَنْكَرَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَشُرَّاحُ الْحَدِيثِ وَقَالُوا صَوَابُهُ قَلَبُوهُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ قَالُوا يقال قلبت الصبى والشيء صرفته ورددته ولايقال أَقْلَبْتُهُ وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ أَنَّ أَقْلَبُوهُ بِالْأَلِفِ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ فَأَثْبَتَهَا لُغَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ فَاسْتَفَاقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ انْتَبَهَ مِنْ شُغْلِهِ وَفِكْرِهِ الَّذِي كَانَ فيه والله أعلم
(باب جَوَازُ تَكْنِيَةِ مَنْ لَمْ يُولَدْ لَهُ وَتَكْنِيَةِ الصغير)
قَوْلُهُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ أَحْسَبُهُ قَالَ كَانَ فَطِيمًا قَالَ فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ قَالَ أَبَا عمير مافعل النُّغَيْرُ وَكَانَ يَلْعَبُ بِهِ(14/128)
أَمَّا النُّغَيْرُ فَبِضَمِّ النُّونِ تَصْغِيرُ النُّغَرِ بِضَمِّهَا وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ طَائِرٌ صَغِيرٌ جَمْعُهُ نِغْرَانٌ وَالْفَطِيمُ بِمَعْنَى الْمَفْطُومِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْهَا جَوَازُ تَكْنِيَةِ مَنْ لَمْ يُولَدْ لَهُ وَتَكْنِيَةِ الطِّفْلِ وَأَنَّهُ لَيْسَ كذبا وجواز المزاج فيما ليس أثما وجوازتصغير بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ وَجَوَازُ لَعِبِ الصَّبِيِّ بِالْعُصْفُورِ وَتَمْكِينُ الْوَلِيِّ إِيَّاهُ مِنْ ذَلِكَ وَجَوَازُ السَّجْعِ بِالْكَلَامِ الْحَسَنِ بِلَا كُلْفَةٍ وَمُلَاطَفَةِ الصِّبْيَانِ وَتَأْنِيسِهِمْ وَبَيَانُ ماكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَكَرَمِ الشَّمَائِلِ وَالتَّوَاضُعِ وَزِيَارَةِ الْأَهْلِ لِأَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَالِدَةُ أَبِي عُمَيْرٍ هِيَ مِنْ مَحَارِمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ الصيد من حرم المدينة ولادلالة فِيهِ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ صَرَاحَةٌ ولاكناية أَنَّهُ مِنْ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ الْمُصَرِّحَةُ بِتَحْرِيمِ صيد حرم المدينة فلايجوز تركها بمثل هذا ولامعارضتها بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب جَوَازِ قَوْلِهِ لِغَيْرِ ابنه يابنى وَاسْتِحْبَابِهِ لِلْمُلَاطَفَةِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنس
[2151] (يابنى ولِلْمُغِيرَةِ أَيْ بُنَيَّ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَكَسْرِهَا وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ الْأَكْثَرُونَ بِالْكَسْرِ وَبَعْضُهُمْ بِإِسْكَانِهَا وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ جَوَازُ قَوْلِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِ ابْنِهِ مِمَّنْ هُوَ أَصْغَرُ سِنًّا منه يا ابنى ويا بني مصغرا وياولدى وَمَعْنَاهُ تَلَطَّفْ وَإِنَّكَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ وَلَدِي فِي الشَّفَقَةِ وَكَذَا يُقَالُ لَهُ وَلِمَنْ هُوَ فِي مثل سن المتكلم ياأخى لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِذَا قَصَدَ التَّلَطُّفَ كَانَ مُسْتَحَبًّا كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ(14/129)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدَّجَّالِ
[2152] (وَمَا يُنْصِبُكَ مِنْهُ) هُوَ مِنَ النَّصَبِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ أَيْ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ وَيُتْعِبُكَ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّهُ لَنْ يَضُرَّكَ) هُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ وَسَيَأْتِي شَرْحُ أَحَادِيثِ الدَّجَّالِ مُسْتَوْعَبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فى أواخر الكتاب وبالله التوفيق
(باب الاستئذان)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2153] (إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ(14/130)
مَشْرُوعٌ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ وَيَسْتَأْذِنَ ثَلَاثًا فَيَجْمَعُ بَيْنَ السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ السَّلَامِ ثُمَّ الِاسْتِئْذَانُ أَوْ تَقْدِيمُ الِاسْتِئْذَانِ ثُمَّ السَّلَامُ الصَّحِيحُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَقَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ السَّلَامَ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ وَالثَّانِي يُقَدَّمُ الِاسْتِئْذَانُ وَالثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمَاوَرْدِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنْ وَقَعَتْ عَيْنُ الْمُسْتَأْذِنِ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ قَبْلَ دُخُولِهِ قَدَّمَ السَّلَامَ والاقدم الِاسْتِئْذَانَ وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَانِ فِي تَقْدِيمِ السَّلَامِ أَمَّا إِذَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَشْهَرُهَا أَنَّهُ ينصرف ولايعيد الاستئذان والثانىيزيد فِيهِ وَالثَّالِثُ إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِئْذَانِ الْمُتَقَدِّمِ لَمْ يُعِدْهُ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ أَعَادَهُ فَمَنْ قَالَ بِالْأَظْهَرِ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ سَمِعَهُ فَلَمْ يَأْذَنْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (قَالَ عُمَرُ أَقِمْ عليه البينة والاأوجعتك فقال أبى بن كعب لايقوم معه الاأصغر الْقَوْمِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ قُلْتُ أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَأَذْهَبُ بِهِ) مَعْنَى كَلَامِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِنْكَارُ عَلَى عُمَرَ فى انكاره الحديث وأما قوله لايقوم معه الاأصغر الْقَوْمِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ بَيْنَنَا مَعْرُوفٌ لِكِبَارِنَا وَصِغَارِنَا حَتَّى إِنَّ أَصْغَرَنَا يَحْفَظُهُ وَسَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ لَا يُحْتَجُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَزَعَمَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَدَّ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى هَذَا لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ وَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَدَلَائِلُهُ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي(14/131)
مُوسَى أَقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ رَدُّ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرُ وَاحِدٍ وَلَكِنْ خَافَ عُمَرُ مُسَارَعَةَ النَّاسِ إِلَى الْقَوْلِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يقول عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُبْتَدِعِينَ أَوِ الْكَاذِبِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ وَنَحْوِهِمْ مَا لَمْ يَقُلْ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ قَضِيَّةٌ وَضَعَ فِيهَا حَدِيثًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ سَدَّ الباب خوفا من غير أبى موسى لاشكا فِي رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى فَإِنَّهُ عِنْدَ عُمَرَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنْ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالم يَقُلْ بَلْ أَرَادَ زَجْرَ غَيْرِهِ بِطَرِيقِهِ فَإِنَّ مَنْ دُونِ أَبِي مُوسَى إِذَا رَأَى هَذِهِ الْقَضِيَّةَ أَوْ بَلَغَتْهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أَوْ أَرَادَ وَضْعَ حَدِيثٍ خَافَ مِنْ مِثْلِ قَضِيَّةِ أَبِي مُوسَى فَامْتَنَعَ مِنْ وَضْعِ الْحَدِيثِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الرِّوَايَةِ بِغَيْرِ يَقِينٍ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَرُدَّ خَبَرَ أَبِي مُوسَى لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ إِخْبَارَ رَجُلٍ آخَرَ حَتَّى يَعْمَلَ بِالْحَدِيثِ وَمَعْلُومٌ أن خبر الاثنين خبر واحد وكذا مازاد حَتَّى يَبْلُغَ التَّوَاتُرَ فَمَا لَمْ يَبْلُغِ التَّوَاتُرَ فهو خبر واحد ومما يؤيده أيضا ماذكره مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ قَضِيَّةِ أَبِي مُوسَى هَذِهِ أَنَّ أُبَيًّا رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قال يا بن الخطاب فلاتكونن عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فلوما اسْتَأْذَنْتَ) أَيْ هَلَّا اسْتَأْذَنْتَ وَمَعْنَاهَا التَّحْضِيضُ عَلَى الاستئذان(14/132)
قَوْلُهُ (فَهَا وَإِلَّا فَلَأَجْعَلَنَّكَ عِظَةً) أَيْ فَهَاتِ الْبَيِّنَةَ قَوْلُهُ (يَضْحَكُونَ) سَبَبُ ضَحِكِهِمُ التَّعَجُّبُ(14/133)
مِنْ فَزِعِ أَبِي مُوسَى وَذُعْرِهِ وَخَوْفِهِ مِنَ العقوبة مع أنهم قدأمنوا أَنْ يَنَالَهُ عُقُوبَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِقُوَّةِ حُجَّتِهِ وَسَمَاعِهِمْ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ) أَيِ التِّجَارَةُ وَالْمُعَامَلَةُ فِي الْأَسْوَاقِ قَوْلُهُ (أقم البينة وإلا أو جعتك) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى(14/134)
وَاللَّهِ لَأَوْجِعَنَّ ظَهْرَكَ وَبَطْنَكَ أَوْ لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يشهد وفى رواية لأجعلنك نكالاهذا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَهُ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ هذا الوعيد بان أنك تعمدت كذبا والله أعلم
(باب كراهة قول المستأذن أبا اذا قيل من هذا)
قَوْلُهُ
[2155] (اسْتَأْذَنْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقُلْتُ أَنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنَا) زَادَ فِي رِوَايَةٍ كَأَنَّهُ كَرِهَهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ إِذَا اسْتَأْذَنَ فَقِيلَ لَهُ مَنْ أَنْتَ أَوْ مَنْ هَذَا كَرِهَ أَنْ يَقُولَ أَنَا لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِقَوْلِهِ أَنَا فَائِدَةٌ وَلَا زِيَادَةٌ بَلِ الْإِبْهَامُ بَاقٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فُلَانٌ بِاسْمِهِ وإِنْ قَالَ أَنَا فلان فلابأس كَمَا قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ حِينَ اسْتَأْذَنَتْ فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ فقالت أنا أم هانئ ولابأس بِقَوْلِهِ أَنَا أَبُو فُلَانٍ أَوْ الْقَاضِي فُلَانٌ أو الشيخ(14/135)
فُلَانٌ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّعْرِيفُ بِالِاسْمِ لِخَفَائِهِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ أُمِّ فُلَانٍ وَمِثْلُهُ لِأَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْأَحْسَنُ فِي هَذَا أَنْ يَقُولَ أَنَا فُلَانٌ الْمَعْرُوفُ بِكَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ النَّظَرِ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ)
قَوْلُهُ
[2156] (إَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ) وَفِي رِوَايَةٍ مِدْرًى يُرَجِّلُ بِهِ رَأْسَهُ أَمَّا الْمِدْرَى فَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ(14/136)
وَبِالْقَصْرِ وَهِيَ حَدِيدَةٌ يُسَوَّى بِهَا شَعْرُ الرَّأْسِ وَقِيلَ هُوَ شِبْهُ الْمِشْطِ وَقِيلَ هِيَ أَعْوَادٌ تُحَدَّدُ تُجْعَلُ شِبْهَ الْمِشْطِ وَقِيلَ هُوَ عُودٌ تُسَوِّي بِهِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا وَجَمْعُهُ مَدَارَى وَيُقَالُ فِي الْوَاحِدِ مِدْرَاةٌ أَيْضًا وَمِدْرَايَةٌ أَيْضًا وَيُقَالُ تَدَرَّيْتُ بِالْمِدْرَى وَقَوْلُهُ (يُرَجِّلُ بِهِ رَأْسَهُ) هَذَا يَدُلُّ لِمَنْ قَالَ إِنَّهُ مُشْطٌ أَوْ يُشْبِهُ الْمُشْطَ وَأَمَّا قَوْلُهُ يَحُكُّ بِهِ فَلَا يُنَافِي هَذَا فَكَانَ يَحُكُّ بِهِ وَيُرَجِّلُ بِهِ وَتَرْجِيلُ الشَّعْرِ تَسْرِيحُهُ وَمَشْطُهُ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّرْجِيلِ وَجَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمِدْرَى قَالَ الْعُلَمَاءُ فَالتَّرْجِيلُ مُسْتَحَبٌّ لِلنِّسَاءِ مطلقا وللرجل بشرط أن لايفعله كل يوم أوكل يَوْمَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ بَلْ بِحَيْثُ يَخِفُّ الْأَوَّلُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي) فَهَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرُ النُّسَخِ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهَا وَفِي بَعْضِهَا تَنْظُرُنِي بِحَذْفِ التاء الثانية قال القاضي الأول رواية الجمهورقال وَالصَّوَابُ الثَّانِي وَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ فِي جُحْرٍ هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ وَهُوَ الْخَرْقُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ مَعْنَاهُ أَنَّ الاستئذان مشروع(14/137)
وَمَأْمُورٌ بِهِ وَإِنَّمَا جُعِلَ لِئَلَّا يَقَعَ الْبَصَرُ على الحرام فلايحل لاحد أن ينظر فى جحر باب ولاغيره مِمَّا هُوَ مُتَعَرِّضٌ فِيهِ لِوُقُوعِ بَصَرِهِ عَلَى امرأة أجنبية وفى هذا الحديث جوازرمى عين المتطلع بشيء خفيف فلورماه بخفيف ففقأها فلاضمان إِذَا كَانَ قَدْ نَظَرَ فِي بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ امْرَأَةٌ مَحْرَمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2157] (فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ أَوْ مَشَاقِصَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ) أَمَّا الْمَشَاقِصُ فَجَمْعُ مِشْقَصٍ وَهُوَ نَصْلٌ عَرِيضٌ لِلسَّهْمِ وَسَبَقَ إِيضَاحُهُ فِي الْجَنَائِزِ وَفِي الْأَيْمَانِ وَأَمَّا يَخْتِلُهُ فَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ التَّاءِ أَيْ يُرَاوِغُهُ وَيَسْتَغْفِلُهُ وَقَوْلُهُ (لِيَطْعَنَهُ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا الضَّمُّ أَشْهَرُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2158] (مِنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ) قال العلماء محمول على مااذا نَظَرَ فِي بَيْتِ الرَّجُلِ فَرَمَاهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ وَهَلْ يَجُوزُ رَمْيُهُ قَبْلَ إِنْذَارِهِ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا جَوَازُهُ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَذَفْتُهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتُ عَيْنَهُ هُوَ بِهَمْزِ فَقَأْتُ وَأَمَّا خَذَفْتُهُ فَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ رَمَيْتُهُ بِهَا من بين أصبعيك(14/138)
(باب نظر الفجأة)
قَوْلُهُ
[2159] (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بصرى) الفجأة بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَبِالْمَدِّ وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَالْقَصْرِ لُغَتَانِ هِيَ الْبَغْتَةُ وَمَعْنَى نَظَرِ الْفَجْأَةِ أَنْ يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الأجنبية من غير قصد فلاإثم عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ بَصَرَهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ صَرَفَ فِي الْحَالِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَإِنِ اسْتَدَامَ النَّظَرَ أَثِمَ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَصْرِفَ بَصَرَهُ مَعَ قَوْلِهِ تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم قَالَ الْقَاضِي قَالَ الْعُلَمَاءُ وَفِي هَذَا حُجَّةٌ أنه لايجب على المرأة أن تستروجهها فِي طَرِيقِهَا وَإِنَّمَا ذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَهَا وَيَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهَا فِي جميع الأحوال إلالغرض صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ حَالَةُ الشَّهَادَةِ وَالْمُدَاوَاةِ وَإِرَادَةِ خِطْبَتِهَا أَوْ شِرَاءِ الْجَارِيَةِ أَوِ الْمُعَامَلَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُبَاحُ فِي جَمِيعِ هَذَا قَدْرُ الْحَاجَةِ دُونَ مَا زَادَ والله أعلم(14/139)
(كِتَاب السَّلَامِ)
(بَاب يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ)
[2160] هَذَا أَدَبٌ مِنْ آدَابِ السَّلَامِ وَاعْلَمْ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ سُنَّةٌ وَرَدُّهُ وَاجِبٌ فَإِنْ كَانَ الْمُسَلِّمُ جَمَاعَةً فَهُوَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّهِمْ إِذَا سَلَّمَ بَعْضُهُمْ حَصَلَتْ سُنَّةُ السَّلَامِ فِي حَقِّ جَمِيعِهِمْ فَإِنْ كَانَ الْمُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً كَانَ الرَّدُّ فَرْضَ كِفَايَةٍ فِي حَقِّهِمْ فَإِذَا رَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْجَمِيعُ بِالسَّلَامِ وَأَنْ يَرُدَّ الْجَمِيعُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لابد أن يرد الجميع ونقل بن عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ سُنَّةٌ وَأَنَّ رَدَّهُ فَرْضٌ وَأَقَلُّ السَّلَامِ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا فَأَقَلُّهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ لِيَتَنَاوَلَهُ وَمَلَكَيْهِ وَأَكْمَلُ مِنْهُ أَنْ يَزِيدَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَأَيْضًا وَبَرَكَاتُهُ وَلَوْ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَجْزَأَهُ وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ لِزِيَادَةِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ سَلَامِ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ ذِكْرِ السَّلَامِ رَحْمَةُ الله وبركاته عليكم أهل البيت وَبِقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ فِي التَّشَهُّدِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الْمُبْتَدِي عَلَيْكُمُ السَّلَامُ فَإِنْ قَالَهُ اسْتَحَقَّ الجواب على الصحيح المشهور وقيل لايستحقه وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاتقل عَلَيْكَ السَّلَامُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا صِفَةُ الرَّدِّ فَالْأَفْضَلُ(14/140)
وَالْأَكْمَلُ أَنْ يَقُولَ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَيَأْتِي بِالْوَاوِ فَلَوْ حَذَفَهَا جَازَ وَكَانَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ أَوْ عَلَى عَلَيْكُمُ السَّلَامُ أَجْزَأَهُ وَلَوِ اقْتَصَرَ على عليكم لم يجزه بلا خلاف ولوقال وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا قَالُوا وَإِذَا قَالَ الْمُبْتَدِي سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَوِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ الْمُجِيبُ مِثْلُهُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَوِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ كَانَ جَوَابًا وَأَجْزَأَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ وَلَكِنْ بِالْأَلْفِ وَاللَّامِ أَفْضَلُ وَأَقَلُّ السَّلَامِ ابْتِدَاءً وردا أن يسمع صاحبه ولايجزئه دُونَ ذَلِكَ وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الرَّدِّ عَلَى الْفَوْرِ وَلَوْ أَتَاهُ سَلَامٌ مِنْ غَائِبٍ مَعَ رَسُولٍ أَوْ فِي وَرَقَةٍ وَجَبَ الرَّدُّ عَلَى الْفَوْرِ وَقَدْ جَمَعْتُ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ نَحْوَ كُرَّاسَتَيْنِ فِي الْفَوَائِدِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّلَامِ وَهَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي وَالْقَائِمِ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ وَفِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَالصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ كُلُّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ فَلَوْ عَكَسُوا جَازَ وَكَانَ خِلَافَ الْأَفْضَلِ وَأَمَّا مَعْنَى السَّلَامِ فَقِيلَ هُوَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فقوله السلام عليك أى اسم السلامعليك وَمَعْنَاهُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَيْ أَنْتَ فِي حِفْظِهِ كَمَا يُقَالُ اللَّهُ مَعَكَ وَاللَّهُ يَصْحَبُكَ وَقِيلَ السَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ أَيِ السَّلَامَةُ مُلَازِمَةٌ لَكَ
(بَاب مِنْ حَقِّ الْجُلُوسِ عَلَى الطَّرِيقِ رَدُّ السَّلَامِ)
[2161] قَوْلُهُ (كُنَّا قُعُودًا بِالْأَفْنِيَةِ نَتَحَدَّثُ) هِيَ جَمْعُ فِنَاءٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْمَدِّ وَهُوَ حريم الدار ونحوها وماكان فِي جَوَانِبِهَا وَقَرِيبًا مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ فَقُلْنَا إِنَّمَا قعدنا لغير مابأس فَقَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ وَنَتَحَدَّثُ قَالَ إِمَّا لَا فَأَدُّوا حَقَّهَا غَضُّ الْبَصَرِ وَرَدُّ السَّلَامِ وَحُسْنُ(14/141)
الْكَلَامِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَمَّا الصُّعُدَاتُ فَبِضَمِّ الصَّادِ وَالْعَيْنِ وَهِيَ الطُّرُقَاتُ وَاحِدُهَا صَعِيدٌ كَطَرِيقٍ يُقَالُ صَعِيدٌ وَصُعُدٌ وَصُعْدَانٌ كَطَرِيقٍ وَطُرُقٍ وَطَرَقَاتٍ عَلَى وَزْنِهِ وَمَعْنَاهُ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما لافبكسر الْهَمْزَةِ وَبِالْإِمَالَةِ وَمَعْنَاهُ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوهَا فَأَدُّوا حَقَّهَا وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَبْسُوطًا فى كتاب الحج وقوله قعدنا لغير مابأس لفظة ما زائدة وقد سَبَقَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى الطُّرُقَاتِ لِلْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْفِتَنِ وَالْإِثْمِ بِمُرُورِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ وَقَدْ يَمْتَدُّ نَظَرٌ إِلَيْهِنَّ أَوْ فكرفيهن أَوْ ظَنُّ سُوءٍ فِيهِنَّ أَوْ فِي غَيْرِهِنَّ مِنَ الْمَارِّينَ وَمِنْ أَذَى النَّاسِ بِاحْتِقَارِ مَنْ يَمُرُّ أَوْ غِيبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ إِهْمَالِ رَدِّ السَّلَامِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَوْ إِهْمَالِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَوْ خَلَا فِي بَيْتِهِ سَلِمَ مِنْهَا وَيَدْخُلُ فِي الْأَذَى أَنْ يُضَيِّقَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمَارِّينَ أَوْ يَمْتَنِعَ النِّسَاءُ وَنَحْوُهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ فِي أَشْغَالِهِنَّ بِسَبَبِ قُعُودِ الْقَاعِدِينَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ يَجْلِسَ بِقُرْبِ بَابِ دَارِ إِنْسَانٍ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ أَوْ حَيْثُ يَكْشِفُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ النَّاسُ شَيْئًا يَكْرَهُونَهُ وَأَمَّا حُسْنُ الْكَلَامِ فَيَدْخُلُ فِيهِ حُسْنُ كَلَامِهِمْ فِي حَدِيثِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَلَا يَكُونُ فِيهِ غِيبَةٌ وَلَا نميمة(14/142)
وَلَا كَذِبٌ وَلَا كَلَامٌ يُنْقِصُ الْمُرُوءَةَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ وَيَدْخُلُ فِيهِ كَلَامُهُمْ لِلْمَارِّ مِنْ رَدَّ السَّلَامِ وَلُطْفِ جَوَابِهِمْ لَهُ وَهِدَايَتِهِ لِلطَّرِيقِ وَإِرْشَادِهِ لِمَصْلَحَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
(بَاب مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ رَدُّ السَّلَامِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2162] (خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ رَدُّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا استنصحك فانصح له واذا عطس فحمدالله فَشَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَمَعْنَاهُ طَلَبَ مِنْكَ النَّصِيحَةَ فَعَلَيْكَ أَنْ تَنْصَحَهُ وَلَا تُدَاهِنَهُ وَلَا تَغُشَّهُ وَلَا تُمْسِكَ عَنْ بيان النصيحة والله أعلم(14/143)
(باب النهى عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2163] (إِذَا سَلَّمَ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ) وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْنَا فَكَيْفَ نَرُدُّ عَلَيْهِمْ قَالَ قُولُوا وَعَلَيْكُمْ وَفِي رِوَايَةٍ
[2164] إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقُلْ عَلَيْكَ وَفِي رِوَايَةٍ فَقُلْ وَعَلَيْكَ وَفِي رِوَايَةٍ
[2165] إِنَّ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ اسْتَأْذَنُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ياعائشة إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ قَالَتْ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ وَفِي رِوَايَةٍ قَدْ قُلْتُ عَلَيْكُمْ بحذف الواو وفى الحديث الآخر
[2167] لاتبدأوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا سَلَّمُوا لكن لايقال لَهُمْ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ بَلْ يُقَالُ عَلَيْكُمْ فَقَطْ أَوْ وَعَلَيْكُمْ وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْكُمْ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَحَذْفِهَا وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ بِإِثْبَاتِهَا وَعَلَى هَذَا فِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالُوا عَلَيْكُمُ الْمَوْتُ فَقَالَ وَعَلَيْكُمْ أَيْضًا أَيْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ وَكُلُّنَا نَمُوتُ وَالثَّانِي أَنَّ الْوَاوَ هُنَا للاستئناف لاللعطف والتشريك وتقديره وعليكم ماتستحقونه مِنَ الذَّمِّ وَأَمَّا حَذْفُ الْوَاوِ فَتَقْدِيرُهُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ قَالَ الْقَاضِي اخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ منهم بن حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ حَذْفَ الْوَاوِ لِئَلَّا يَقْتَضِيَ التَّشْرِيكَ وَقَالَ غَيْرُهُ بِإِثْبَاتِهَا كَمَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ عَلَيْكُمُ السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ أَيِ الْحِجَارَةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ عَامَّةُ الْمُحَدِّثِينَ يَرْوُونَ هَذَا(14/144)
الحرف وعليكم بالواو وكان بن عُيَيْنَةَ يَرْوِيهِ بِغَيْرِ وَاوٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ الْوَاوُ صَارَ كَلَامُهُمْ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ خَاصَّةً وَإِذَا ثَبَتَ الْوَاوُ اقْتَضَى الْمُشَارَكَةَ مَعَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ هَذَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ وَالصَّوَابُ أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَاوِ وَحَذْفَهَا جَائِزَانِ كَمَا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ وَأَنَّ الْوَاوَ أَجْوَدُ كَمَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لِأَنَّ السَّامَ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَيْنَا وعليهم ولاضرر فِي قَوْلِهِ بِالْوَاوِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رَدِّ السَّلَامِ عَلَى الْكُفَّارِ وَابْتِدَائِهِمْ بِهِ فَمَذْهَبُنَا تَحْرِيمُ ابْتِدَائِهِمْ بِهِ وَوُجُوبُ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَقُولَ وَعَلَيْكُمْ أَوْ عَلَيْكُمْ فَقَطْ وَدَلِيلُنَا فِي الِابْتِدَاءِ قوله صلى الله عليه وسلم لاتبدأوا اليهود ولاالنصارى بِالسَّلَامِ وَفِي الرَّدِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَذْهَبِنَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةُ السَّلَفِ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى جَوَازِ ابْتِدَائِنَا لَهُمْ بِالسَّلَامِ رُوِيَ ذلك عن بن عباس وأبي أمامة وبن أَبِي مُحَيْرِيزٍ وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا حَكَاهُ الماوردى لكنه قال يقول السلام عليك ولايقول عَلَيْكُمْ بِالْجَمْعِ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ وَبِإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَهِيَ حُجَّةٌ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بحديث لاتبدأو اليهود ولاالنصارى بِالسَّلَامِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ ولايحرم وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ فَالصَّوَابُ تَحْرِيمُ ابْتِدَائِهِمْ وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِهِ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ أَوْ سَبَبٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ إِنْ سَلَّمْتَ فَقَدْ سَلَّمَ الصَّالِحُونَ وَإِنْ تَرَكْتَ فَقَدْ تَرَكَ الصَّالِحُونَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ العلماء لايرد عليهم السلام ورواه بن وَهْبٍ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْكُمُ السلام ولكن لايقول وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَيَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالسَّلَامِ عَلَى جَمْعٍ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ أَوْ مُسْلِمٌ وَكُفَّارٌ وَيَقْصِدُ الْمُسْلِمِينَ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَ عَلَى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ياعائشة إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ هَذَا مِنْ عَظِيمِ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَالِ حِلْمِهِ وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الرِّفْقِ وَالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَمُلَاطَفَةِ النَّاسِ مَا لَمْ تَدْعُ حَاجَةٌ إِلَى الْمُخَاشَنَةِ قَوْلُهَا عَلَيْكُمُ السَّامُ وَالذَّامُ هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَهُوَ الذَّمُّ ويقال بالهمزة أَيْضًا وَالْأَشْهَرُ تَرْكُ الْهَمْزِ وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واو والذام والذيم والذم بمعنى العيب وروى الدام بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ الدَّائِمُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُ روى بالمهملة بن الْأَثِيرِ وَنَقَلَ الْقَاضِي الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ بِالْمُعْجَمَةِ قَالَ وَلَوْ رُوِيَ بِالْمُهْمَلَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ والله أعلم(14/145)
قَوْلُهُ
[2166] (فَفَطِنَتْ بِهِمْ عَائِشَةُ فَسَبَّتْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مه ياعائشةفان الله لايحب الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ) مَهْ كَلِمَةُ زَجْرٍ عَنِ الشَّيْءِ وَقَوْلُهُ فَفَطِنَتْ هُوَ بِالْفَاءِ وَبِالنُّونِ بَعْدَ الطَّاءِ مِنَ الْفِطْنَةِ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنِ الْجُمْهُورِ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَطَّبَتْ بِالْقَافِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وقدتخفيف الطَّاءُ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى غَضِبَتْ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الْأَوَّلُ وَأَمَّا سَبُّهَا لَهُمْ فَفِيهِ الِانْتِصَارُ مِنَ الظَّالِمِ وَفِيهِ الِانْتِصَارُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ مِمَّنْ يُؤْذِيهِمْ وَأَمَّا الْفُحْشُ فَهُوَ الْقَبِيحُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَقِيلَ الْفُحْشُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ تَغَافُلِ أَهْلِ الْفَضْلِ عَنْ سَفَهِ الْمُبْطِلِينَ إِذَا لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا لايترك لِلذِّمِّيِّ صَدْرُ الطَّرِيقِ بَلْ يُضْطَرُّ إِلَى أَضْيَقِهِ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَطْرُقُونَ فَإِنْ خَلَتِ الطَّرِيقُ عن الرحمة فلاحرج قالوا وليكن التضييق بحيث لايقع فى وهدة ولايصدمه جِدَارٌ وَنَحْوُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(14/147)
(بَاب اسْتِحْبَابِ السَّلَامِ عَلَى الصِّبْيَانِ)
قَوْلُهُ
[2168] (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) وَفِي رِوَايَةٍ مَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ(14/148)
الْغِلْمَانُ هُمُ الصِّبْيَانُ بِكَسْرِ الصَّادِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَبِضَمِّهَا فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ السَّلَامِ عَلَى الصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ وَالنَّدْبُ إِلَى التَّوَاضُعِ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ وَبَيَانُ تَوَاضُعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَالُ شَفَقَتِهِ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّلَامِ عَلَى الصِّبْيَانِ وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى رِجَالٍ وَصِبْيَانٍ فَرَدَّ السَّلَامَ صَبِيٌّ مِنْهُمْ هَلْ يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ عَنِ الرِّجَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا يَسْقُطُ وَمِثْلُهُ الْخِلَافُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هَلْ يَسْقُطُ فَرْضُهَا بِصَلَاةِ الصَّبِيِّ الْأَصَحُّ سُقُوطُهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ سَلَّمَ الصَّبِيُّ عَلَى رجل لزم الرجل رد السلام هذا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَقَالَ بعض أصحابنا لايجب وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَأَمَّا النِّسَاءُ فَإِنْ كُنَّ جَمِيعًا سَلَّمَ عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً سَلَّمَ عَلَيْهَا النِّسَاءُ وَزَوْجُهَا وَسَيِّدُهَا وَمَحْرَمُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ جَمِيلَةً أَوْ غَيْرَهَا وَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ فَإِنْ كانت عجوزا لاتشتهى اسْتُحِبَّ لَهُ السَّلَامُ عَلَيْهَا وَاسْتُحِبَّ لَهَا السَّلَامُ عَلَيْهِ وَمَنْ سَلَّمَ مِنْهُمَا لَزِمَ الْآخَرَ رَدُّ السَّلَامِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا تُشْتَهَى لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهَا الْأَجْنَبِيُّ وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ وَمَنْ سَلَّمَ مِنْهُمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ جَوَابًا وَيُكْرَهُ رَدُّ جَوَابِهِ هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وقال ربيعة لايسلم الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ وهذا غلط وقال الكوفيون لايسلم الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ محرم والله أعلم(14/149)
(باب جواز جعل الأذن رفع حجاب أو غيره من العلامات)
قوله
[2169] (عن بن مَسْعُودٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آذنك على أن ترفع الحجاب وأن تسمع سِوَادِي حَتَّى أَنْهَاكَ) السِّوَادُ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالدَّالِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السِّرَارُ بِكَسْرِ السِّينِ وَبِالرَّاءِ الْمُكَرَّرَةِ وَهُوَ السِّرُّ والمسار ريقال سَاوَدْتُ الرَّجُلَ مُسَاوَدَةً إِذَا سَارَرْتُهُ قَالُوا وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِدْنَاءِ سِوَادِكَ مِنْ سِوَادِهِ عِنْدَ الْمُسَارَرَةِ أَيْ شَخْصُكَ مِنْ شَخْصِهِ وَالسِّوَادُ اسْمٌ لكل شخص وفيه دليل لجواز اعتماد الْعَلَامَةَ فِي الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ فَإِذَا جَعَلَ الْأَمِيرُ وَالْقَاضِي وَنَحْوُهُمَا وَغَيْرُهُمَا رَفْعَ السِتْرَ الَّذِي عَلَى بَابِهِ عَلَامَةً فِي الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ لِلنَّاسِ عَامَّةً أَوْ لِطَائِفَةٍ خَاصَّةً أَوْ لِشَخْصٍ أَوْ جَعَلَ عَلَامَةً غَيْرَ ذَلِكَ جَازَ اعْتِمَادُهَا وَالدُّخُولُ إِذَا وُجِدَتْ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَكَذَا إِذَا جَعْلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ عَلَامَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَدَمِهِ وَمَمَالِيكِهِ وَكِبَارِ أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ فَمَتَى أَرْخَى حجابه فلادخول عليه إلاباستئذان فَإِذَا رَفَعَهُ جَازَ بِلَا اسْتِئْذَانٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب إِبَاحَةِ الْخُرُوجِ لِلنِّسَاءِ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ)
قَوْلُهُ
[2170] (وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسِيمَةً تَفْرَعُ النِّسَاءَ جِسْمًا لاتخفى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا) فَقَوْلُهُ جَسِيمَةً أَيْ عَظِيمَةَ(14/150)
الْجِسْمِ وَقَوْلُهُ تَفْرَعُ هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تَطْوُلُهُنَّ فَتَكُونُ أَطْوَلَ مِنْهُنَّ وَالْفَارِعُ الْمُرْتَفِعُ الْعَالِي وَقَوْلُهُ لاتخفى على من يعرفها يعنى لاتخفى إِذَا كَانَتْ مُتَلَفِّفَةً فِي ثِيَابِهَا وَمِرْطِهَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَنَحْوِهَا عَلَى مَنْ قَدْ سَبَقَتْ لَهُ مَعْرِفَةُ طُولِهَا لِانْفِرَادِهَا بِذَلِكَ قَوْلُهَا وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهُوَ الْعَظْمُ الَّذِي عَلَيْهِ بَقِيَّةُ لَحْمٍ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَقِيلَ هُوَ الْقَذِرَةُ مِنَ اللَّحْمِ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ قَوْلُهُ قَالَ هِشَامٌ يَعْنِي الْبَرَازَ هَكَذَا الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْبَرَازُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْوَاسِعُ الْبَارِزُ الظَّاهِرُ وَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ الْبِرَازُ بِكَسْرِ الْبَاءِ هُوَ الْغَائِطُ وَهَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا فَإِنَّ مُرَادَ هِشَامٍ بِقَوْلِهِ يَعْنِي الْبَرَازَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ فَقَالَ هِشَامٌ الْمُرَادُ بِحَاجَتِهِنَّ الْخُرُوجُ لِلْغَائِطِ لالكل حَاجَةٍ مِنْ أُمُورِ الْمَعَايِشِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ كُنَّ يَخْرُجْنَ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ مَعْنَى تَبَرَّزْنَ أَرَدْنَ الْخُرُوجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْمَنَاصِعُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ وَهُوَ جَمْعُ مَنْصَعٍ وَهَذِهِ الْمَنَاصِعُ مَوَاضِعُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَرَاهَا مَوَاضِعَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ أَيْ أَرْضٌ مُتَّسَعَةٌ وَالْأَفْيَحُ بِالْفَاءِ الْمَكَانُ الْوَاسِعُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ تَنْبِيهُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْكِبَارِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ وَتَكْرَارُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ جَوَازُ تَعَرُّقِ الْعَظْمِ وَجَوَازُ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ لِذَلِكَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مِمَّا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فَرْضُ الْحِجَابِ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِنَّ بلا خلاف فى الوجه والكفين فلايجوز لَهُنَّ كَشْفُ ذَلِكَ لِشَهَادَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُنَّ إِظْهَارُ شُخُوصِهِنَّ وَإِنْ كُنَّ مُسْتَتِرَاتٍ إلاما دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ مِنَ الْخُرُوجِ لِلْبَرَازِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وراء حجاب وَقَدْ كُنَّ إِذَا قَعَدْنَ لِلنَّاسِ جَلَسْنَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَإِذَا خَرَجْنَ حُجِبْنَ وَسَتَرْنَ أَشْخَاصَهُنَّ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ يَوْمَ وَفَاةِ عُمَرَ وَلَمَّا تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا جَعَلُوا لَهَا قُبَّةً فَوْقَ نَعْشِهَا تَسْتُرُ شَخْصَهَا هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي(14/151)
(بَاب تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهَا)
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
[2171] (لايبتن رجل عند امرأة إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَاكِحًا أَوْ ذَا مَحْرَمٍ) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ أَيْ يَكُونَ الدَّاخِلُ زَوْجًا أَوْ ذَا مَحْرَمٍ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي فَقَالَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ نَاكِحًا أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ وَقَالَ ذَاتَ بَدَلُ ذا قال والمراد بالنا كح الْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ فَيَكُونُ مَبِيتُ الْغَرِيبِ فِي بَيْتِهَا بِحَضْرَةِ زَوْجِهَا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَالتَّفْسِيرُ غَرِيبَانِ مَرْدُودَانِ وَالصَّوَابُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَنْ نُسَخِ بِلَادِنَا وَمَعْنَاهُ لايبيتن رَجُلٌ عِنْدَ امْرَأَةٍ إِلَّا زَوْجُهَا أَوْ مَحْرَمٌ لَهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا خُصَّ الثَّيِّبُ لِكَوْنِهَا الَّتِي يُدْخَلُ إِلَيْهَا غَالِبًا وَأَمَّا الْبِكْرُ فَمَصُونَةٌ مُتَصَوِّنَةٌ فِي الْعَادَةِ مُجَانِبَةٌ لِلرِّجَالِ أَشَدَّ مُجَانَبَةٍ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِهَا وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ لِأَنَّهُ إِذَا نُهِيَ عَنِ الثَّيِّبِ الَّتِي يَتَسَاهَلُ النَّاسُ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهَا فِي الْعَادَةِ فَالْبِكْرُ أَوْلَى وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالْأَحَادِيثِ بَعْدَهُ تَحْرِيمُ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَإِبَاحَةُ الْخَلْوَةِ بِمَحَارِمِهَا وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمَحْرَمَ هُوَ كُلُّ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ لِسَبَبٍ مُبَاحٍ لِحُرْمَتِهَا فَقَوْلُنَا عَلَى التَّأْبِيدِ احْتِرَازٌ مِنْ أُخْتِ امْرَأَتِهِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَنَحْوِهِنَّ وَمِنْ بِنْتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْأُمِّ وَقَوْلنَا لِسَبَبٍ مُبَاحٍ احْتِرَازٌ مِنْ أُمِّ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَبِنْتِهَا فانه حرام على التأبيد لكن لالسبب مباح فان وطء الشبهة لايوصف بِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَلَا مُحَرَّمٌ وَلَا بِغَيْرِهِمَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ الْخَمْسَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلَ مُكَلَّفٍ وَقَوْلنَا لِحُرْمَتِهَا احْتِرَازٌ مِنَ الْمُلَاعَنَةِ فَهِيَ حَرَامٌ على التأبيد لالحرمتها بَلْ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2172] (الْحَمْوُ الْمَوْتُ) قَالَ اللَّيْثُ بن(14/153)
سعد الحمو أخو الزوج وماأشبهه من أقارب الزوج بن الْعَمِّ وَنَحْوُهُ اتَّفَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الاحماء أقارب زوج المرأة كأبيه وعمه وأخيه وبن أخيه وبن عَمِّهِ وَنَحْوِهِمْ وَالْأُخْتَانِ أَقَارِبُ زَوْجَةِ الرَّجُلِ وَالْأَصْهَارُ يَقَعُ عَلَى النَّوْعَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْوُ الْمَوْتُ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَوْفَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ وَالشَّرُّ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ وَالْفِتْنَةُ أَكْثَرُ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَرْأَةِ وَالْخَلْوَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكَرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الأجنبى والمراد بالحموهنا أَقَارِبُ الزَّوْجِ غَيْرُ آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ فَأَمَّا الْآبَاءُ والأبناء فمحارم لزوجته تجوزلهم الخلوة بها ولايوصفون بالموت وانما المراد الأخ وبن الْأَخِ وَالْعَمُّ وَابْنُهُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ وَعَادَةُ النَّاسِ الْمُسَاهَلَةُ فِيهِ وَيَخْلُو بِامْرَأَةِ أَخِيهِ فَهَذَا هُوَ الْمَوْتُ وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ الأجنبي لماذكرناه فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ هُوَ صَوَابُ مَعْنَى الْحَدِيثِ وأما ماذكره الْمَازِرِيُّ وَحَكَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَمْوِ أَبُو الزَّوْجِ وَقَالَ إِذَا نُهِيَ عَنْ أَبِي الزَّوْجِ وَهُوَ مَحْرَمٌ فَكَيْفَ بِالْغَرِيبِ فَهَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ مَرْدُودٌ ولايجوز حمل الحديث عليه فكذا مانقله الْقَاضِي عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ مَعْنَى الْحَمْوِ الموت فليمت ولايفعل هَذَا هُوَ أَيْضًا كَلَامٌ فَاسِدٌ بَلِ الصَّوَابُ ماقدمناه وقال بن الْأَعْرَابِيِّ هِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ كَمَا يُقَالُ الْأَسَدُ الْمَوْتُ أَيْ لِقَاؤُهُ مِثْلُ الْمَوْتِ وَقَالَ القاضي معناه الخلوة بالأحماءمؤدية إِلَى الْفِتْنَةِ وَالْهَلَاكِ فِي الدِّينِ فَجَعَلَهُ كَهَلَاكِ الْمَوْتِ فَوَرَدَ الْكَلَامُ مَوْرِدَ التَّغْلِيظِ قَالَ وَفِي الْحَمِّ أَرْبَعُ لُغَاتٍ إِحْدَاهَا هَذَا حَمُوكَ بِضَمِّ الْمِيمِ فِي الرَّفْعِ وَرَأَيْتُ حَمَاكَ وَمَرَرْتُ بِحَمِيكَ وَالثَّانِيَةُ هَذَا حَمْؤُكَ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ وَهَمْزَةٍ مَرْفُوعَةٍ وَرَأَيْتُ حَمْأَكَ وَمَرَرْتُ بِحَمْئِكَ وَالثَّالِثَةُ حَمَا هَذَا حَمَاكَ وَرَأَيْتُ حَمَاكَ وَمَرَرْتُ بِحَمَاكَ كَقَفَا وَقَفَاكَ وَالرَّابِعَةُ حَمٌّ كَأَبٍّ وَأَصْلُهُ حَمَوٌ بِفَتْحِ(14/154)
الحاء والميم وحماة المرأة أم زوجها لايقال فِيهَا غَيْرُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
[2173] (لايدخلن رَجُلٌ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا عَلَى مُغْيِبَةٍ إِلَّا وَمَعَهُ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ) الْمُغْيِبَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَهِيَ الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْمُرَادُ غَابَ زَوْجُهَا عَنْ مَنْزِلِهَا سَوَاءٌ غَابَ عَنِ الْبَلَدِ بِأَنْ سَافَرَ أَوْ غَابَ عَنِ الْمَنْزِلِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ مُتَعَيِّنٌ قَالَ الْقَاضِي وَدَلِيلُهُ هَذَا الْحَدِيثُ وَأَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي قِيلَ الْحَدِيثُ بِسَبَبِهَا وَأَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه غائب عن منزله لاعن الْبَلَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ خَلْوَةِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا تَحْرِيمُهُ فَيُتَأَوَّلُ الْحَدِيثُ عَلَى جَمَاعَةٍ يَبْعُدُ وُقُوعُ الْمُوَاطَأَةِ مِنْهُمْ عَلَى الْفَاحِشَةِ لصلاحهم أو مروءتهم أوغير ذَلِكَ وَقَدْ أَشَارَ الْقَاضِي إِلَى نَحْوِ هَذَا التأويل(14/155)
(باب بيان أنه يستحب لمن رؤى خَالِيًا بِامْرَأَةٍ وَكَانَتْ زَوْجَتَهُ أَوْ مَحْرَمًا لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ فُلَانَةُ لِيَدْفَعَ ظَنَّ السُّوءِ بِهِ)
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَزِيَارَتِهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اعْتِكَافِهِ عِشَاءً فَرَأَى الرَّجُلَيْنِ فَقَالَ
[2175] (إِنَّهَا صفية فقالاسبحان اللَّهِ فَقَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ) الْحَدِيثُ فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا بَيَانُ كَمَالِ شَفَقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ وَمُرَاعَاتِهِ لِمَصَالِحِهِمْ وَصِيَانَةِ قُلُوبِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا فَخَافَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يلقى الشيطان فىقلوبهما فَيَهْلِكَا فَإِنَّ ظَنَّ السُّوءِ بِالْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكَبَائِرُ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ ظَنَّ شَيْئًا مِنْ نَحْوِ هَذَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ وَفِيهِ جَوَازُ زِيَارَةِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الْمُعْتَكِفِ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وأنه لايضر اعْتِكَافَهُ لَكِنْ يُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ مُجَالَسَتِهَا وَالِاسْتِلْذَاذِ بِحَدِيثِهَا لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى الْوِقَاعِ أَوْ إِلَى الْقُبْلَةِ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّحَرُّزِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِسُوءِ ظَنِّ النَّاسِ فِي الْإِنْسَانِ وَطَلَبِ السَّلَامَةِ وَالِاعْتِذَارِ بِالْأَعْذَارِ الصحيحة وأنه متى فعل ماقد ينكر ظاهره مماهو حَقٌّ وَقَدْ يَخْفَى أَنْ(14/156)
يُبَيِّنَ حَالَهُ لِيَدْفَعَ ظَنَّ السُّوءِ وَفِيهِ الِاسْتِعْدَادُ لِلتَّحَفُّظِ مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ فَيَتَأَهَّبُ الْإِنْسَانُ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ وَسَاوِسِهِ وَشَرِّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2174] (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ) قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ قِيلَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ قُوَّةً وَقُدْرَةً عَلَى الْجَرْيِ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ مَجَارِي دَمِهِ وَقِيلَ هُوَ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ لِكَثْرَةِ اغوائه ووسوسته فكانه لايفارق الانسان كما لايفارقه دَمُهُ وَقِيلَ يُلْقِي وَسْوَسَتَهُ فِي مَسَامٍّ لَطِيفَةٍ مِنَ الْبَدَنِ فَتَصِلُ الْوَسْوَسَةُ إِلَى الْقَلْبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يافلان هَذِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةٌ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِالتَّاءِ قَبْلَ الْيَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ وَإِنْ كَانَ الْأَشْهَرُ حَذْفُهَا وَبِالْحَذْفِ جَاءَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَالْإِثْبَاتُ كَثِيرٌ أَيْضًا قَوْلُهَا فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ لِيَرُدَّنِي إِلَى منزلى فيه جواز تمشى المعتكف معها مالم يَخْرُجْ مِنَ الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا هُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا لغتان والكسر أفصح وأشهر أى على هينتكما فِي الْمَشْيِ فَمَا هُنَا شَيْءٌ تَكْرَهَانِهِ قَوْلُهُ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ فِيهِ جَوَازُ التَّسْبِيحِ تَعْظِيمًا لِلشَّيْءِ وَتَعَجُّبًا مِنْهُ وَقَدْ كَثُرَ فِي الْأَحَادِيثِ وَجَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نتكلم بهذا سبحانك(14/157)
(باب من أتى مجلسا فوجد فرجة فجلس فيها والاوراءهم)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2176] بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ) إِلَى آخِرِهِ فِيهِ اسْتِحْبَابُ جُلُوسِ الْعَالِمِ لِأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ فِي مَوْضِعٍ بارز ظاهر للناس والمسجد أفضل فيذا كرهم الْعِلْمَ وَالْخَيْرَ وَفِيهِ جَوَازُ حِلَقِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ فِي الْمَسْجِدِ وَاسْتِحْبَابُ دُخُولِهَا وَمُجَالَسَةِ أَهْلِهَا وَكَرَاهَةُ الِانْصِرَافِ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَاسْتِحْبَابُ الْقُرْبِ مِنْ كَبِيرِ الْحَلْقَةِ لِيَسْمَعَ كَلَامَهُ سَمَاعًا بَيِّنًا وَيَتَأَدَّبَ بِأَدَبِهِ وَأَنَّ قَاصِدَ الْحَلْقَةِ إِنْ رَأَى فرجة دخل فيها والاجلس وراءهم وفيه الثناء على من فعل جميلافانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى الِاثْنَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ قَبِيحًا وَمَذْمُومًا وَبَاحَ بِهِ جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَدَخَلَ فِيهَا) الْفُرْجَةُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ وَهِيَ الْخَلَلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا فَرْجٌ وَمِنْهُ قوله تعالى وما لها من فروج جَمْعُ فَرْجٍ وَأَمَّا الْفُرْجَةُ بِمَعْنَى الرَّاحَةِ مِنَ الْغَمِّ فَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ فِيهَا فَتْحَ الْفَاءِ وَضَمَّهَا وَكَسْرَهَا وَقَدْ فَرَجَ لَهُ فِي الْحَلْقَةِ وَالصَّفِّ وَنَحْوِهِمَا بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ يَفْرُجُ بِضَمِّهَا وَأَمَّا الْحَلْقَةُ فَبِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ فَتْحَهَا وهىلغة رَدِيئَةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ) لَفْظَةُ أوى بالقصر وآواه بِالْمَدِّ هَكَذَا الرِّوَايَةُ وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَازِمًا كَانَ مَقْصُورًا وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ مَمْدُودًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة وَقَالَ تَعَالَى إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ وقال(14/158)
فى المتعدى وآويناهما إلى ربوة وقال تعالى ألم يجدك يتيما فآوى قَالَ الْقَاضِي وَحَكَى بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا لُغَتَيْنِ الْقَصْرَ وَالْمَدَّ فَيُقَالُ أَوَيْتُ إِلَى الرَّجُلِ بِالْقَصْرِ وَالْمَدِّ وَآوَيْتُهُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ وَالْمَشْهُورُ الْفَرْقُ كَمَا سَبَقَ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى أَوَى إِلَى اللَّهِ أَيْ لَجَأَ إِلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي وَعِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ هُنَا دَخَلَ مَجْلِسَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ دَخَلَ مَجْلِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَجْمَعِ أَوْلِيَائِهِ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ وَمَعْنَى آوَاهُ اللَّهُ أَيْ قَبِلَهُ وَقَرَّبَهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ رَحِمَهُ أَوْ آوَاهُ إِلَى جَنَّتِهِ أى كتبهاله قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحَى فَاسْتَحَى اللَّهُ مِنْهُ) أَيْ تَرَكَ الْمُزَاحَمَةَ والتخطى حياءمن اللَّهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم والحاضرين أواستحياء مِنْهُمْ أَنْ يُعْرِضَ ذَاهِبًا كَمَا فَعَلَ الثَّالِثُ فَاسْتَحَى اللَّهُ مِنْهُ أَيْ رَحِمَهُ وَلَمْ يُعَذِّبْهُ بَلْ غَفَرَ ذُنُوبَهُ وَقِيلَ جَازَاهُ بِالثَّوَابِ قَالُوا وَلَمْ يُلْحِقْهُ بِدَرَجَةِ صَاحِبِهِ الْأَوَّلِ فِي الْفَضِيلَةِ الَّذِي آوَاهُ وَبَسَطَ لَهُ اللُّطْفَ وَقَرَّبَهُ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْ لَمْ يَرْحَمْهُ وَقِيلَ سَخِطَ عَلَيْهِ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ مُعْرِضًا لَا لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّانِي وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحَى هَذَا دَلِيلُ اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْجَمَاعَةِ أَنْ يُقَالَ فِي غَيْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُمُ الْآخَرُ فَيُقَالُ حَضَرَنِي ثَلَاثَةٌ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَقُرَشِيٌّ وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَنْصَارِيٌّ وَأَمَّا الآخر فتيمى وقد زعم بعضهم أنه لايستعمل الآخر الافى الْآخَرِ خَاصَّةً وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(14/159)
(بَاب تَحْرِيمِ إِقَامَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَوْضِعِهِ الْمُبَاحِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
[2177] (لايقمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس) فيهوفى رِوَايَةٍ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا وَفِي رِوَايَةٍ وَكَانَ بن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لم يَجْلِسَ فِيهِ وَفِي رِوَايَةٍ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا هَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ
[2178] فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مباح فى المسجد وغيره يوم الجمعة أوغيره لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَيَحْرُمُ على غيره اقامته لهذا الحديث الاأن أَصْحَابَنَا اسْتَثْنَوْا مِنْهُ مَا إِذَا أَلِفَ مِنَ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ أَوْ يَقْرَأَ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِذَا حَضَرَ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يقعدفيه وَفِي مَعْنَاهُ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الشوارع ومقاعد الأسواق لمعاملة وأماقوله وكان بن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ فَهَذَا(14/160)
وَرَعٌ مِنْهُ وَلَيْسَ قُعُودُهُ فِيهِ حَرَامًا إِذَا قَامَ بِرِضَاهُ لَكِنَّهُ تَوَرَّعَ عَنْهُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رُبَّمَا اسْتَحَى مِنْهُ إِنْسَانٌ فَقَامَ لَهُ مِنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ طِيبِ قَلْبِهِ فَسَدَّ بن عُمَرَ الْبَابَ لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا وَالثَّانِي أَنَّ الْإِيثَارَ بِالْقُرْبِ مَكْرُوهٌ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى فَكَانَ بن عُمَرَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَرْتَكِبَ أَحَدٌ بِسَبَبِهِ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَافَ الْأَوْلَى بِأَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ مَوْضِعِهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَيُؤْثِرَهُ بِهِ وَشِبْهِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا وَإِنَّمَا يُحْمَدُ الْإِيثَارُ بِحُظُوظِ النُّفُوسِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا دُونَ الْقُرْبِ وَاللَّهُ أعلم
(باب اذا قام من مجلسه ثم عاد فهو أحق بِهِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2179] (مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) قَالَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَنْ جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ لِصَلَاةٍ مثلاثم فَارَقَهُ لِيَعُودَ بِأَنْ فَارَقَهُ لِيَتَوَضَّأَ أَوْ يَقْضِيَ(14/161)
شُغْلًا يَسِيرًا ثُمَّ يَعُودَ لَمْ يَبْطُلِ اخْتِصَاصُهُ بَلْ إِذَا رَجَعَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَعَدَ فِيهِ غَيْرُهُ فَلَهُ أَنْ يُقِيمَهُ وَعَلَى الْقَاعِدِ أَنْ يُفَارِقَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَعَدَ فِيهِ مفارقته اذا رجع الأول وقال بعض العلماء هذا مستحب ولايجب وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَالَ أَصْحَابُنَا ولافرق بَيْنَ أَنْ يَقُومَ مِنْهُ وَيَتْرُكَ فِيهِ سَجَّادَةً ونحوها أم لافهذا أَحَقُّ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا دُونَ غَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب مَنْعِ الْمُخَنَّثِ من الدخول على النساء الاجانب)
قَوْلُهَا
[2181] (كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّثٌ فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً قَالَ إِذَا أَقْبَلَتْ(14/162)
أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أَرَى هذا يعرف ماههنا لايدخل عَلَيْكُنَّ فَحَجَبُوهُ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْمُخَنَّثُ هُوَ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَهُوَ الَّذِي يُشْبِهُ النِّسَاءَ فِي أَخْلَاقِهِ وَكَلَامِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَتَارَةً يَكُونُ هَذَا خُلُقَهُ مِنَ الْأَصْلِ وَتَارَةً بِتَكَلُّفٍ وَسَنُوضِحُهُمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى قَوْلِهِ تُقْبِلُ بِأَرْبَعِ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ أَيْ أَرْبَعِ عُكَنٍ وَثَمَانِ عُكَنٍ قَالُوا وَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهَا أَرْبَعَ عُكَنٍ تقبل بهن من كل ناحية اثنتان وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ طَرَفَانِ فَإِذَا أَدْبَرَتْ صَارَتِ الْأَطْرَافُ ثَمَانِيَةً قَالُوا وَإِنَّمَا ذَكَرَ فَقَالَ بِثَمَانٍ وَكَانَ أَصْلُهُ أَنْ يَقُولَ بِثَمَانِيَةٍ فَإِنَّ الْمُرَادَ الْأَطْرَافُ وَهِيَ مُذَكَّرَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْمُذَكَّرِ وَمَتَى لَمْ يَذْكُرْهُ جَازَ حَذْفُ الْهَاءِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ هُنَاكَ وَاضِحَةً وَأَمَّا دُخُولُ هَذَا الْمُخَنَّثِ أَوَّلًا عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ دُخُولُهُ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا سَمِعَ مِنْهُ هَذَا الْكَلَامَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أُولِي الْإِرْبَةِ فَمَنَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّخُولَ فَفِيهِ مَنْعُ الْمُخَنَّثِ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ وَمَنْعُهُنَّ مِنَ الظُّهُورِ عَلَيْهِ وَبَيَانُ أَنَّ لَهُ حُكْمَ الرِّجَالِ الْفُحُولِ الرَّاغِبِينَ فِي النِّسَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَكَذَا حُكْمُ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ ذَكَرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ هَذَا الْمُخَنَّثِ قَالَ الْقَاضِي الْأَشْهَرُ أَنَّ اسْمَهُ هِيْتٌ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَمُثَنَّاةٍ تَحْتُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ قَالَ وَقِيلَ صَوَابُهُ هَنْبٌ بِالنُّونِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قاله بن دُرُسْتَوَيْهِ وَقَالَ إِنَّمَا سِوَاهُ تَصْحِيفٌ قَالَ وَالْهَنَبُ الْأَحْمَقُ وَقِيلَ مَاتِعٌ بِالْمُثَنَّاةِ فَوْقُ مَوْلَى فَاخِتَةَ الْمَخْزُومِيَّةِ وَجَاءَ هَذَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرَّبَ مَاتِعًا هَذَا وَهِيتًا إِلَى الْحِمَى ذَكَرَهُ الواقدى وذكر أبومنصور الْبَادَرْدِيُّ نَحْوَ الْحِكَايَةِ عَنْ مُخَنَّثٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُ أَنَهُ وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَاهُ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ والمحفوظأنه هِيْتٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِخْرَاجُهُ وَنَفْيُهُ كَانَ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ أَحَدُهَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وَكَانَ مِنْهُمْ وَيَتَكَتَّمُ بِذَلِكَ وَالثَّانِي وَصْفُهُ النِّسَاءَ وَمَحَاسِنَهُنَّ وَعَوْرَاتَهُنَّ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ وَقَدْ نُهِيَ أَنْ تصف المرأة المرأة لزوجها(14/163)
فَكَيْفَ إِذَا وَصَفَهَا الرَّجُلُ لِلرِّجَالِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَطَّلِعُ مِنَ النِّسَاءِ وَأَجْسَامِهِنَّ وَعَوْرَاتِهِنَّ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عليه كثير من النساء فكيف الرجال لاسيما عَلَى مَا جَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ وصفها حتى وصف مابين رجليها أى فرجها وحواليه والله أعلم
قَوْلُهُ
[2182] (عَنْ أَسْمَاءَ إِنَّهَا كَانَتْ تَعْلِفُ فَرَسَ زوجها الزبير وتكفيه مؤنته وتسوسه وتدق النو لِنَاضِحِهِ وَتَعْلِفُهُ وَتَسْتَقِي الْمَاءَ وَتَعْجِنُ) هَذَا كُلُّهُ من المعروف والمروآت الَّتِي أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَيْهَا وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْدُمُ زَوْجَهَا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكُلُّهُ تَبَرُّعٌ مِنَ الْمَرْأَةِ وَإِحْسَانٌ مِنْهَا إِلَى زَوْجِهَا وحسن معاشرة وفعل معروف معه ولايجب عليها شيء من ذلك بل لوامتنعت مِنْ جَمِيعِ هَذَا لَمْ تَأْثَمْ وَيَلْزَمُهُ هُوَ تَحْصِيلُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهَا وَلَا يَحِلُّ(14/164)
لَهُ إِلْزَامُهَا بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ تَبَرُّعًا وَهِيَ عَادَةٌ جَمِيلَةٌ اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا النِّسَاءُ مِنَ الزَّمَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنَ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْئَانِ تَمْكِينُهَا زَوْجَهَا مِنْ نَفْسِهَا وَمُلَازَمَةُ بَيْتِهِ قَوْلُهَا (وَأَخْرُزُ غَرْبَهُ) هُوَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ رَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَهُوَ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ قَوْلُهَا (وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقَطَعَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رَأْسِي وَهُوَ عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ قَالَ أَهْلُ اللغة يقال أقطعه اذا أعطاه قطيعةوهي قِطْعَةُ أَرْضٍ سُمِّيَتْ قَطِيعَةً لِأَنَّهَا اقْتَطَعَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ وَقَوْلُهُ عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ أَيْ مِنْ مَسْكَنِهَا بِالْمَدِينَةِ وَأَمَّا الْفَرْسَخُ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَالْمِيلُ سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَالذِّرَاعُ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ إِصْبَعًا مُعْتَرِضَةٌ مُعْتَدِلَةٌ وَالْأُصْبُعُ سِتُّ شَعِيرَاتٍ مُعْتَرِضَاتٍ مُعْتَدِلَاتٍ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ إِقْطَاعِ الامام فأما الأرض المملوكة لبيت المال فلايملكها أَحَدٌ إِلَّا بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ ثُمَّ تَارَةً يَقْطَعُ رَقَبَتَهَا وَيَمْلِكُهَا الْإِنْسَانُ يَرَى فِيهِ مَصْلَحَةً فَيَجُوزُ وَيَمْلِكُهَا كَمَا يَمْلِكُ مَا يُعْطِيهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَغَيْرِهَا إِذَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً وَتَارَةً يَقْطَعُهُ مَنْفَعَتُهَا فَيَسْتَحِقُّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مُدَّةَ الْإِقْطَاعِ وأما الموات فيجوز لكل أحد احياؤه ولايفتقر إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ والجمهور وقال أبو حنيفة لايملك الموات بالاحياء الاباذن الْإِمَامِ وَأَمَّا قَوْلُهَا وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ فَأَشَارَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَلْتَقِطُهُ مِنَ النَّوَى السَّاقِطِ فِيهَا مِمَّا أَكَلَهُ النَّاسُ وَأَلْقَوْهُ قَالَ فَفِيهِ جَوَازُ الْتِقَاطِ الْمَطْرُوحَاتِ رَغْبَةً عَنْهَا كَالنَّوَى وَالسَّنَابِلِ وَخِرَقِ الْمَزَابِلِ وسقاطتها ومايطرحه النَّاسُ مِنْ رَدِيءِ الْمَتَاعِ وَرَدِيءِ الْخُضَرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُعْرَفُ أَنَّهُمْ تَرَكُوهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَكُلُّ هَذَا يَحِلُّ الْتِقَاطُهُ وَيَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ وَقَدْ لَقَطَهُ الصَّالِحُونَ وَأَهْلُ الْوَرَعِ وَرَأَوْهُ مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ وَارْتَضَوْهُ لِأَكْلِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ قَوْلُهَا (فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم(14/165)
وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَدَعَانِي وَقَالَ إِخْ إِخْ لِيَحْمِلنِي خَلْفَهُ فَاسْتَحْيَيْتُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ) أَمَّا لَفْظَةُ إِخْ إِخْ فَهِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلْبَعِيرِ لِيَبْرُكَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ إِذَا كَانَتْ مُطِيقَةً وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَرَحْمَتُهُمْ وَمُوَاسَاتُهُمْ فِيمَا أَمْكَنَهُ وَفِيهِ جَوَازُ إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَحْرَمًا إِذَا وُجِدَتْ فِي طَرِيقٍ قَدْ أَعْيَتْ لَا سِيَّمَا مَعَ جَمَاعَةِ رِجَالٍ صَالِحِينَ وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ مِثْلِ هَذَا وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا خَاصٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَقَدْ أَمَرَنَا بِالْمُبَاعَدَةِ مِنْ أَنْفَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكَانَتْ عَادَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مباعدتهن ليقتدى بِهِ أُمَّتُهُ قَالَ وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ خُصُوصِيَّةً لَهُ لِكَوْنِهَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُخْتَ عَائِشَةَ وَامْرَأَةَ الزُّبَيْرِ فَكَانَتْ كَإِحْدَى أَهْلِهِ وَنِسَائِهِ مَعَ مَا خُصَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمْلَكُ لِإِرْبِهِ وَأَمَّا إِرْدَافُ الْمَحَارِمِ فَجَائِزٌ بلاخلاف بِكُلِّ حَالٍ قَوْلُهَا (أَرْسَلَ إِلَيَّ بِخَادِمٍ) أَيْ جَارِيَةٍ تَخْدُمُنِي يُقَالُ(14/166)
لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى خَادِمٌ بِلَا هَاءٍ قَوْلُهَا فِي الْفَقِيرِ الَّذِي اسْتَأْذَنَهَا فِي أَنْ يَبِيعَ فِي ظِلِّ دَارِهَا وَذَكَرْت الْحِيلَةَ فِي اسْتِرْضَاءِ الزُّبَيْرِ هَذَا فِيهِ حُسْنُ الْمُلَاطَفَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَمُدَارَاةُ أَخْلَاقِ النَّاسِ فِي تَتْمِيمِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ مُنَاجَاةِ الِاثْنَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ بِغَيْرِ رِضَاهُ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2183] (إِذَا كَانَ ثلاثة فلايتناجى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ)
[2184] وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى يَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ قَالَ أَهْلُ اللغة يقال حزنه وأحزنه وقرىء بِهِمَا فِي السَّبْعِ وَالْمُنَاجَاةُ الْمُسَارَّةُ وَانْتَجَى الْقَوْمُ وَتَنَاجَوْا أَيْ سَارَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ النَّهْيُ عَنْ تَنَاجِي اثْنَيْنِ بِحَضْرَةِ ثَالِثٍ وَكَذَا ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ بِحَضْرَةِ وَاحِدٍ وَهُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ فَيَحْرُمُ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْمُنَاجَاةُ دُونَ وَاحِدٍ منهم الاأن يأذن ومذهب بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِنَا وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ وَفِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْمُنَاجَاةُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ لِأَنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْخَوْفِ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هذا الحديث منسوخ وان كان هذا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَامُ وَأَمِنَ النَّاسُ سَقَطَ النَّهْيُ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بحضرة المؤمنين ليحزنوهم أما اذا كانو أربعة فتناجى(14/167)
اثْنَانِ دُونَ اثْنَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالْإِجْمَاعِ وَاللَّهُ أعلم
(باب الطب والمرض والرقى)
قوله
[2185] (إن جبرائيل رَقَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ بَعْدَهُ فِي الرُّقَى وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَدْ يظن مخالفا لهذه الأحاديث ولامخالفة بَلِ الْمَدْحُ فِي تَرْكِ الرُّقَى الْمُرَادُ بِهَا الرُّقَى الَّتِي هِيَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَالرُّقَى المجهولة والتى بغير العربية ومالا يُعْرَفُ مَعْنَاهَا فَهَذِهِ مَذْمُومَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ مَعْنَاهَا كُفْرٌ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ أَوْ مَكْرُوهٌ وَأَمَّا الرقى بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلانهى فِيهِ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ إِنَّ الْمَدْحَ فِي ترك الرقى للأفضيلة وَبَيَانِ التَّوَكُّلِ وَالَّذِي فَعَلَ الرُّقَى وَأَذِنَ فِيهَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ مَعَ أَنَّ تَرْكَهَا أَفْضَلُ وَبِهَذَا قال بن عَبْدِ الْبَرِّ وَحَكَاهُ عَمَّنْ حَكَاهُ وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ وَقَدْ نَقَلُوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى بِالْآيَاتِ وَأَذْكَارِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْمَازِرِيُّ جَمِيعُ الرُّقَى جَائِزَةٌ إِذَا كَانَتْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ بِذِكْرِهِ وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا إِذَا كَانَتْ بِاللُّغَةِ الْعَجَمِيَّةِ أَوْ بما لايدرى مَعْنَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كُفْرٌ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي رُقْيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَوَّزَهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَرِهَهَا مَالِكٌ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ مِمَّا بَدَّلُوهُ وَمَنْ جَوَّزَهَا قَالَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَدِّلُوا الرُّقَى فَإِنَّهُمْ لَهُمْ غَرَضٌ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِمَّا بَدَّلُوهُ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اعْرِضُوا على رقاكم لابأس بالرقى مالم يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الأخرى يارسول اللَّهِ إِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى فَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عنه بأجوبة أحدها كان نهى أولاثم نَسَخَ ذَلِكَ وَأَذِنَ فِيهَا وَفَعَلَهَا وَاسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَى الْإِذْنِ وَالثَّانِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الرُّقَى الْمَجْهُولَةِ كَمَا سَبَقَ وَالثَّالِثُ أَنَّ النَّهْيَ لِقَوْمٍ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مَنْفَعَتَهَا وَتَأْثِيرَهَا بِطَبْعِهَا كَمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَزْعُمُهُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ أَمَّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَصْرَ الرُّقْيَةِ الْجَائِزَةِ فِيهِمَا وَمَنْعَهَا فِيمَا عداهما وانما المراد لارقية أَحَقُّ وَأَوْلَى مَنْ رُقْيَةِ الْعَيْنِ وَالْحُمَّةِ لِشِدَّةِ الضَّرَرِ فِيهِمَا قَالَ الْقَاضِي وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ سُئِلَ عَنِ النَّشْرَةِ فَأَضَافَهَا إِلَى الشَّيْطَانِ قَالَ وَالنَّشْرَةُ(14/168)
مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ أَهْلِ التَّعْزِيمِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَنْشُرُ عَنْ صَاحِبِهَا أَيْ تُخَلِّي عَنْهُ وَقَالَ الْحَسَنُ هِيَ مِنَ السَّحَرِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا أَشْيَاءُ خَارِجَةٌ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَذْكَارِهِ وَعَنِ الْمُدَاوَاةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحِ وَقَدِ اخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ هَذَا فَكَرِهَ حَلَّ الْمَعْقُودِ عَنِ امْرَأَتِهِ وَقَدْ حَكَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ بِهِ طِبٌّ أَيْ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ أَوْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ أَيُخَلَّى عَنْهُ أَوْ يُنْشَرُ قال لابأس بِهِ إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الصَّلَاحَ فَلَمْ يَنْهَ عَمَّا يَنْفَعُ وَمِمَّنْ أَجَازَ النَّشْرَةَ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ الصحيح قال كثيرون أو الأكثرون يجوز الاسترقاءللصحيح لِمَا يَخَافُ أَنْ يَغْشَاهُ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْهَوَامِّ وَدَلِيلُهُ أَحَادِيثُ وَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ تَفَلَ فِي كَفِّهِ ويقرأ قل هوالله أَحَدٌ وَالْمُعَوِذِّتَيْنِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَهُ مِنْ جَسَدِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2186] (بسم اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ) هَذَا تصريح بالرقى بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ تَوْكِيدُ الرُّقْيَةِ وَالدُّعَاءِ وَتَكْرِيرُهُ وَقَوْلُهُ مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ نَفْسُ الْآدَمِيِّ وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعَيْنُ فَإِنَّ النَّفْسَ تُطْلَقُ عَلَى الْعَيْنِ وَيُقَالُ رَجُلٌ نَفُوسٌ إِذَا كان يصيب الناس بعبنه كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي عَيْنٍ وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ بِلَفْظٍ مُخْتَلِفٍ أَوْ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي فِي لَفْظِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ(14/170)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2187]
[2188] (الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ وَإِذَا استغلتم فاغسلوا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ أَخَذَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا الْعَيْنُ حَقٌّ وَأَنْكَرَهُ طَوَائِفُ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَيْسَ مُخَالِفًا فى نفسه ولايؤدى إلى قلب حقيقة ولاإفساد دَلِيلٍ فَإِنَّهُ مِنْ مُجَوِّزَاتِ الْعُقُولِ إِذَا أَخْبَرَ الشرع بوقوعه وجب اعتقاده ولايجوز تَكْذِيبُهُ وَهَلْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ بِهَذَا وتكذيبهم بما يخبر بِهِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ قَالَ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الطَّبَائِعِيِّينَ مِنَ الْمُثَبِّتِينَ لِلْعَيْنِ أَنَّ الْعَائِنَ تَنْبَعِثُ مِنْ عَيْنِهِ قُوَّةٌ سُمِّيَّةٌ تَتَّصِلُ بِالْعَيْنِ فيهلك أو يفسد قالوا ولايمتنع هذا كما لايمتنع انْبِعَاثُ قُوَّةٍ سُمِّيَّةٍ مِنَ الْأَفْعَى وَالْعَقْرَبِ تَتَّصِلُ بِاللَّدِيغِ فَيَهْلَكُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْسُوسٍ لَنَا فَكَذَا الْعَيْنُ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّ لافاعل إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَبَيَّنَّا فَسَادَ الْقَوْلِ بِالطَّبَائِعِ وبينا أن المحدث لايفعل فِي غَيْرِهِ شَيْئًا وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا بَطَلَ مَا قَالُوهُ ثُمَّ نَقُولُ هَذَا الْمُنْبَعِثُ مِنَ الْعَيْنِ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ فَبَاطِلٌ أَنْ يكون عرضا لأنه لايقبل الِانْتِقَالَ وَبَاطِلٌ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا لِأَنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَجَانِسَةٌ فَلَيْسَ بَعْضُهَا بِأَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا لِبَعْضِهَا بِأَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ قَالَ وَأَقْرَبُ طَرِيقَةٍ قَالَهَا مَنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامُ مِنْهُمْ أن قالوا لايبعد أَنْ تَنْبَعِثَ جَوَاهِرُ لَطِيفَةٌ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ مِنَ الْعَيْنِ فَتَتَّصِلُ بِالْمَعِينِ وَتَتَخَلَّلُ مَسَامَّ جِسْمِهِ فَيَخْلُقُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْهَلَاكَ عِنْدَهَا كَمَا يَخْلُقُ الْهَلَاكَ عِنْدَ شُرْبِ السُّمِّ عَادَةً أَجْرَاهَا اللَّهُ تعالى وليست ضرورة ولاطبيعة أَلْجَأَ الْعَقْلُ إِلَيْهَا وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْعَيْنَ إِنَّمَا تَفْسُدُ وَتَهْلَكُ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَادَةَ أَنْ يَخْلُقَ الضَّرَرَ عِنْدَ مُقَابَلَةِ هَذَا الشخص لشخص(14/171)
آخر وهل ثم جواهر خفية أم لاهذا من مجوزات العقول لايقطع فِيهِ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ وَإِنَّمَا يُقْطَعُ بِنَفْيِ الْفِعْلِ عَنْهَا وَبِإِضَافَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ قَطَعَ مِنْ أَطِبَّاءِ الْإِسْلَامِ بِانْبِعَاثِ الْجَوَاهِرِ فَقَدْ أخطأفى قطعه وانما هو من الجائزات هذا مايتعلق بعلم الأصول أما مايتعلق بِعِلْمِ الْفِقْهِ فَإِنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْوُضُوءِ لِهَذَا الْأَمْرِ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ لَمَّا أُصِيبَ بِالْعَيْنِ عِنْدَ اغْتِسَالِهِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِنَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَصِفَةُ وُضُوءِ الْعَائِنِ عِنْدَ العلماء أن يؤتى بقدح ماء ولايوضع الْقَدَحُ فِي الْأَرْضِ فَيَأْخُذَ مِنْهُ غَرْفَةً فَيَتَمَضْمَضُ بِهَا ثُمَّ يَمُجَّهَا فِي الْقَدَحِ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ مَاءً يَغْسِلُ وَجْهَهُ ثُمَّ يَأْخُذُ بِشِمَالِهِ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ كَفَّهُ الْيُمْنَى ثُمَّ بِيَمِينِهِ ماء يغسل به مرفقه الأيسر ولايغسل مَا بَيْنَ الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَهُ اليمنى ثم اليسرى على الصفةالمتقدمة وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْقَدَحِ ثُمَّ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ وَهُوَ الطَّرَفُ الْمُتَدَلِّي الَّذِي يَلِي حِقْوَهُ الْأَيْمَنَ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ دَاخِلَةَ الْإِزَارِ كِنَايَةٌ عن الفرج وجمهور العلماء على ماقدمناه فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذَا صَبَّهُ مِنْ خَلْفِهِ عَلَى رأسه وهذا المعنى لايمكن تَعْلِيلُهُ وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهِ وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْعَقْلِ الاطلاع على أسرار جميع المعلومات فلايدفع هذا بأن لايعقد مَعْنَاهُ قَالَ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَائِنُ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْوُضُوءِ لِلْمَعِينِ أَمْ لَا وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ هَذِهِ وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا وَبِرِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالْوُضُوءِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي الْوُجُوبُ وَيَبْعُدُ الْخِلَافُ فِيهِ إِذَا خَشِيَ عَلَى الْمَعِينِ الْهَلَاكِ وَكَانَ وُضُوءُ الْعَائِنِ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْبُرْءِ بِهِ أَوْ كَانَ الشَّرْعُ أَخْبَرَ بِهِ خَبَرًا عَامًّا ولم يكن زوال الهلاك إلابوضوء الْعَائِنِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ بَابِ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِحْيَاءُ نَفْسٍ مُشْرِفَةٍ عَلَى الْهَلَاكِ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ فَهَذَا أَوْلَى وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ فِيهِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ الْمَازِرِيِّ الَّذِي حَكَيْتُهُ بَقِيَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذَا الْغُسْلِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَمَا فَسَّرَهُ بِهِ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْعُلَمَاءَ يَصِفُونَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ عُلَمَاؤُنَا وَمَضَى بِهِ الْعَمَلُ أَنَّ غُسْلَ الْعَائِنِ وَجْهَهَ إِنَّمَا هُوَ صَبُّهُ وَأَخْذُهُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَكَذَلِكَ بَاقِي أَعْضَائِهِ إِنَّمَا هُوَ صَبُّهُ صَبَّةً عَلَى ذَلِكَ الْوُضُوءِ فِي الْقَدَحِ لَيْسَ عَلَى صِفَةِ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ غَسْلُ دَاخِلَةِ الْإِزَارِ إِنَّمَا هُوَ إِدْخَالُهُ وَغَمْسُهُ فِي الْقَدَحِ ثُمَّ يَقُومُ الَّذِي فِي يَدِهِ الْقَدْحُ فَيَصُبُّهُ عَلَى رَأْسِ الْمَعِينِ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ ثم يكفأ القدح وراءه على ظ هر الْأَرْضِ وَقِيلَ يَسْتَغْفِلُهُ(14/172)
بذلك عند صبه عليه هذه رواية بن أبى ذئب وقد جاء عن بن شِهَابٍ مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ مِثْلُ هَذَا إِلَّا أَنَّ فِيهِ الِابْتِدَاءَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ قَبْلَ الْمَضْمَضَةِ وفيه فى غسل القدمين أنه لايغسل جميعهما وَإِنَّمَا قَالَ ثُمَّ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ قَدَمِهِ الْيُمْنَى مِنْ عِنْدِ أُصُولِ أَصَابِعِهِ وَالْيُسْرَى كَذَلِكَ وَدَاخِلَةُ الْإِزَارِ هُنَا الْمِئْزَرُ وَالْمُرَادُ بِدَاخِلَتِهِ مَا يَلِي الْجَسَدَ مِنْهُ وَقِيلَ الْمُرَادُ مَوْضِعُهُ مِنَ الْجَسَدِ وَقِيلَ الْمُرَادُ مَذَاكِيرُهُ كَمَا يُقَالُ عَفِيفُ الْإِزَارِ أَيِ الْفَرْجِ وَقِيلَ الْمُرَادُ وَرِكُهُ إِذْ هُوَ مَعْقِدُ الْإِزَارِ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَائِنِ اغْتَسِلْ لَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ وَفِي رِوَايَةٍ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَغَسَلَ صَدْرَهُ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ قَدَمَيْهِ ظَاهِرَهُمَا فِي الْإِنَاءِ قَالَ وَحَسِبَتْهُ قَالَ وَأَمَرَ فَحَسَا مِنْهُ حَسَوَاتٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَنْبَغِي إِذَا عُرِفَ أَحَدٌ بِالْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ يُجْتَنَبَ وَيُتَحَرَّزَ مِنْهُ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مَنْعُهُ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ وَيَأْمُرَهُ بِلُزُومِ بَيْتِهِ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَكْفِيهِ وَيَكُفُّ أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ فَضَرَرُهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ آكِلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ الَّذِي مَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ لِئَلَّا يُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ الَّذِي مَنَعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْعُلَمَاءُ بَعْدَهُ الِاخْتِلَاطَ بِالنَّاسِ وَمِنْ ضَرَرِ الْمُؤْذِيَاتِ مِنَ الْمَوَاشِي الَّتِي يُؤْمَرُ بِتَغْرِيبِهَا إِلَى حَيْثُ لايتأذى بِهِ أَحَدٌ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ صحيح متعين ولايعرف عَنْ غَيْرِهِ تَصْرِيحٌ بِخِلَافِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ النَّشْرَةِ وَالتَّطَبُّبِ بِهَا وَسَبَقَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[2188] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ وَأَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ وَبِالرَّاءِ وَبِالشِّينِ المعجمة وهو الصواب ولاخلاف فِيهِ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ قِيلَ إِنَّهُ وَهْمٌ وَصَوَابُهُ أَحْمَدُ بْنُ جَوَّاسٍ بِفَتْحِ الْجِيمٍ وَبِوَاوٍ مُشَدَّدَةٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ هَذَا كَلَامُ القاضي وهو غلط فاحش ولاخلاف أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي مُسْلِمٍ إِنَّمَا هُوَ بِالْخَاءِ المعجمة والراء والشين المعجمة كما سبق وهوالراوى عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ فِي صَحِيحِ مسلم هنا وأما بن جَوَّاسٍ بِالْجِيمِ فَهُوَ أَبُو عَاصِمٍ الْحَنَفِيُّ الْكُوفِيُّ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الموضع ولكنه لايروى عن مسلم بن ابراهيم ولاهو الْمُرَادُ هُنَا قَطْعًا وَكَانَ سَبَبُ غَلَطِ مَنْ غلط كون(14/173)
أَحْمَدَ بْنِ خِرَاشٍ وَقَعَ مَنْسُوبًا إِلَى جَدِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) فِيهِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ وَهُوَ حَقٌّ بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى حَسَبِ مَا قدرها الله تعالى وسبق بها علمه فلايقع ضرر العين ولاغيره من الخير والشر إلابقدر اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ صِحَّةُ أَمْرِ الْعَيْنِ وَأَنَّهَا قَوِيَّةُ الضَّرَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب السِّحْرِ)
قَوْلُهُ
[2189] (مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ) بِتَقْدِيمِ الزَّايِ قَوْلُهُ (سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيٌّ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشيء ومايفعله) قَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ السِّحْرِ وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياءالثابتة خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَنَفَى حَقِيقَتَهُ وَأَضَافَ ما يقع منه إلى خيالات باطلة لاحقائق لَهَا وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وذكر أنه مما يتعلم وذكر مافيه إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يُكَفَّرُ بِهِ وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنُ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَهَذَا كُلُّهُ لَا يمكن فيما لاحقيقة لَهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا مُصَرِّحٌ بِإِثْبَاتِهِ وَأَنَّهُ أَشْيَاءُ دُفِنَتْ وَأُخْرِجَتْ وَهَذَا كُلُّهُ يُبْطِلُ مَا قَالُوهُ فَإِحَالَةُ كَوْنِهِ مِنَ الْحَقَائِقِ مُحَالٌ وَلَا يُسْتَنْكَرُ فِي الْعَقْلِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَخْرِقُ الْعَادَةَ عِنْدَ النُّطْقِ بِكَلَامٍ مُلَفَّقٍ أَوْ تَرْكِيبِ أَجْسَامٍ أَوِ الْمَزْجِ بَيْنَ قُوًى عَلَى تَرْتِيبٍ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا السَّاحِرُ وَإِذَا شَاهَدَ الْإِنْسَانُ بَعْضَ الْأَجْسَامِ مِنْهَا قَاتِلَةٌ كَالسَّمُومِ وَمِنْهَا مُسْقِمَةٌ كَالْأَدْوِيَةِ الْحَادَّةِ وَمِنْهَا مُضِرَّةٌ كَالْأَدْوِيَةِ الْمُضَادَّةِ للمرض لم يستبعد عقله أن ينفر د السَّاحِرُ بِعِلْمِ قُوًى قَتَّالَةٍ أَوْ كَلَامٍ مُهْلِكٍ أَوْ مُؤَدٍّ إِلَى التَّفْرِقَةِ قَالَ وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَزَعَمَ أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَيُشَكِّكُ فِيهَا وَأَنَّ تجويزه يمنع الثقة بالشرع وهذا(14/174)
الَّذِي ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّتِهِ وَعِصْمَتِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْمُعْجِزَةِ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ وَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ بَاطِلٌ فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِسَبَبِهَا وَلَا كَانَ مُفَضَّلًا مِنْ أَجْلِهَا وَهُوَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْبَشَرِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَةَ له وقد قيل انه إنما كان يتخيل إليه أنه وطىء زَوْجَاتِهِ وَلَيْسَ بِوَاطِئٍ وَقَدْ يَتَخَيَّلُ الْإِنْسَانُ مِثْلَ هذا فى المنام فلايبعد تخيله فى اليقظة ولاحقيقة لَهُ وَقِيلَ إِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ وما فعله ولكن لايعتقد صِحَّةَ مَا يَتَخَيَّلُهُ فَتَكُونُ اعْتِقَادَاتُهُ عَلَى السَّدَادِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتُ هَذَا الْحَدِيثِ مُبَيِّنَةً أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ لَا عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ واعتقاده ويكون معنى قوله فى الحديث حتىيظن أنه يأتى أهله ولايأتيهن وَيُرْوَى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَيْ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن فاذا دنى مِنْهُنَّ أَخَذَتْهُ أَخْذَةُ السِّحْرِ فَلَمْ يَأْتِهِنَّ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَعْتَرِي الْمَسْحُورَ وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ مِنْ أَنَّهُ يُخَيَّلُ إليه فعل شيء لم يفعله ونحوه فمحمول على التخيل بالبصر لالخلل تَطَرَّقَ إِلَى الْعَقْلِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يدخل لبسا على الرسالة ولاطعنا لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ السِّحْرُ ولهم فيه اضطراب فقال بعضهم لايزيد تَأْثِيرُهُ عَلَى قَدْرِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِمَا يَكُونُ عِنْدَهُ وَتَهْوِيلًا بِهِ فِي حَقِّنَا فَلَوْ وَقَعَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْهُ لَذَكَرَهُ لِأَنَّ المثل لايضرب عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ إِلَّا بِأَعْلَى أَحْوَالِ الْمَذْكُورِ قَالَ وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عقلا لأنه لافاعل إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَمَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ فهو عادة أجراها الله تعالى ولاتفترق الْأَفْعَالُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ بَعْضُهَا بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ وَلَوْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِقُصُورِهِ عَنْ مَرْتَبَةٍ لوجب المصير إليه ولكن لايوجد شَرْعٌ قَاطِعٌ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَائِلُ الْأَوَّلُ وَذِكْرُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي مَنْعِ الزِّيَادَةِ وَإِنَّمَا النظر فى أنه ظاهر أم لاقال فَإِنْ قِيلَ إِذَا جَوَّزَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ خَرْقَ الْعَادَةِ عَلَى يَدِ السَّاحِرِ فَبِمَاذَا يَتَمَيَّزُ عَنِ النَّبِيِّ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَادَةَ تَنْخَرِقُ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ وَالسَّاحِرِ لَكِنَّ النَّبِيَّ يَتَحَدَّى بِهَا الْخَلْقَ ويستعجزهم عن مثلها ويخبر عنالله تَعَالَى بِخَرْقِ الْعَادَةِ بِهَا لِتَصْدِيقِهِ فَلَوْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ تَنْخَرِقِ الْعَادَةُ عَلَى يَدَيْهِ وَلَوْ خَرَقَهَا اللَّهُ عَلَى يَدِ كَاذِبٍ لَخَرَقَهَا عَلَى يَدِ الْمُعَارِضِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَأَمَّا الْوَلِيُّ وَالسَّاحِرُ فَلَا يَتَحَدَّيَانِ الْخَلْقَ وَلَا يَسْتَدِلَّانِ عَلَى نُبُوَّةٍ وَلَوِ ادَّعَيَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَنْخَرِقِ الْعَادَةُ(14/175)
لهما وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالسَّاحِرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ السحر لايظهر الا على فاسق والكرامة لاتظهر عَلَى فَاسِقٍ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ عَلَى وَلِيٍّ وَبِهَذَا جَزَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا وَالثَّانِي أَنَّ السِّحْرَ قَدْ يَكُونُ نَاشِئًا بِفِعْلِهَا وبمزجها ومعاناة وعلاج والكرامة لاتفتقر إِلَى ذَلِكَ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ يَقَعُ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَدْعِيَهُ أَوْ يَشْعُرَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ فَعَمَلُ السِّحْرِ حَرَامٌ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِالْإِجْمَاعِ وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّهُ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ وَسَبَقَ هُنَاكَ شَرْحُهُ وَمُخْتَصَرُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كفرا وقد لايكون كُفْرًا بَلْ مَعْصِيَتُهُ كَبِيرَةٌ فَإِنْ كَانَ فِيهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا وَأَمَّا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ فَحَرَامٌ فَإِنْ تَضَمَّنَ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ عُزِّرَ وَاسْتُتِيبَ مِنْهُ وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَنَا فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَقَالَ مَالِكٌ السَّاحِرُ كَافِرٌ يُقْتَلُ بِالسِّحْرِ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بَلْ يتحتم قتله والمسئلة مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ لِأَنَّ السَّاحِرَ عِنْدَهُ كَافِرٌ كَمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِكَافِرٍ وَعِنْدَنَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُنَافِقِ وَالزِّنْدِيقِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِذَا قَتَلَ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ إِنْسَانًا وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ مَاتَ بِسِحْرِهِ وَأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ وَإِنْ قَالَ مَاتَ به ولكنه قد يقتل وقد لافلا قِصَاصَ وَتَجِبُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِي ماله لاعلى عاقلته لأن العاقلة لاتحمل ما ثبت باعتراف الجانى قال أصحابنا ولايتصور الْقَتْلُ بِالسِّحْرِ بِالْبَيِّنَةِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِاعْتِرَافِ السَّاحِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا) هَذَا دَلِيلٌ لِاسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ عِنْدَ حُصُولِ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَاتِ وَتَكْرِيرِهِ وَحُسْنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ(14/176)
تعالى قوله (ماوجع الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ) الْمَطْبُوبُ الْمَسْحُورُ يُقَالُ طُبَّ الرَّجُلُ إِذَا سُحِرَ فَكَنَوْا بِالطِّبِّ عَنِ السِّحْرِ كما كنوا بالسليم عن اللديغ قال بن الأنبارى الطب منالأضداد يُقَالُ لِعِلَاجِ الدَّاءِ طِبٌّ وَلِلسِّحْرِ طِبٌّ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْوَاءِ وَرَجُلٌ طَبِيبٌ أَيْ حَاذِقٌ سُمِّيَ طَبِيبًا لِحِذْقِهِ وَفِطْنَتِهِ قَوْلُهُ (فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُبِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ) أَمَّا الْمُشَاطَةُ فَبِضَمِّ الميموهى الشَّعْرُ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ الرَّأْسِ أَوِ اللِّحْيَةِ عند تسريحه وأما المشطففيه لُغَاتٌ مُشْطٌ وَمُشُطٌ بِضَمِّ الْمِيمِ فِيهِمَا وَإِسْكَانِ الشِّينِ وَضَمِّهَا وَمِشْطٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ وَمُمَشِّطٌ وَيُقَالُ لَهُ مَشْطَأٌ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ وَمَشْطَاءُ ممدود وممكد ومرجل وقليم بِفَتْحِ الْقَافِ حَكَاهُنَّ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَجُبِّ هَكَذَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا جُبِّ بِالْجِيمِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي بَعْضِهَا جُفِّ بِالْجِيمِ وَالْفَاءِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَهُوَ وِعَاءُ طَلْعِ النَّخْلِ وَهُوَ الْغِشَاءُ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَلِهَذَا قَيَّدَهُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ طَلْعَةِ ذَكَرٍ وَهُوَ بِإِضَافَةِ طَلْعَةٍ إِلَى ذَكَرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ رواية بن عُيَيْنَةَ وَمُشَاقَةٌ بِالْقَافِ بَدَلُ مُشَاطَةٍ وَهِيَ الْمُشَاطَةُ أَيْضًا وَقِيلَ مُشَاقَةُ الْكَتَّانُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (فى بئرذى أَرْوَانَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ ذِي أَرْوَانَ وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ البخارىوفى مُعْظَمِهَا ذَرْوَانَ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ وَأَصَحُّ وادعى بن قُتَيْبَةَ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصْمَعِيُّ وَهُوَ بِئْرٌ بِالْمَدِينَةِ فِي بُسْتَانِ بَنِي زُرَيْقٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ) النُّقَاعَةُ بِضَمِّ النُّونَ الْمَاءِ الَّذِي يُنْقَعُ فِيهِ الْحِنَّاءُ وَالْحِنَّاءُ مَمْدُودٌ قَوْلُهَا (فَقُلْتُ يارسول اللَّهِ أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ قُلْتُ يارسول اللَّهِ فَأَخْرِجْهُ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ فَطَلَبَتْ أَنَّهُ يُخْرِجُهُ ثُمَّ يُحْرِقُهُ وَالْمُرَادُ إِخْرَاجُ السِّحْرِ فَدَفَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَافَاهُ وَأَنَّهُ يَخَافُ(14/177)
مِنْ إِخْرَاجِهِ وَإِحْرَاقِهِ وَإِشَاعَةِ هَذَا ضَرَرًا وَشَرًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَذَكُّرِ السِّحْرِ أَوْ تَعَلُّمِهِ وَشُيُوعِهِ وَالْحَدِيثُ فِيهِ أَوْ إِيذَاءُ فَاعِلِهِ فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ أَوْ يَحْمِلُ بَعْضَ أَهْلِهِ وَمُحِبِّيهِ وَالْمُتَعَصِّبِينَ لَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى سِحْرِ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ وَانْتِصَابِهِمْ لِمُنَاكَدَةِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ هَذَا مِنْ بَابِ تَرْكِ مَصْلَحَةٍ لِخَوْفِ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ مَرَّاتٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب السُّمِّ)
قَوْلُهُ
[2190] (إِنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَاكَ قَالَتْ أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ قَالَ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكَ قَالَ أَوْ قَالَ عَلَيَّ قَالُوا أَلَا نَقْتُلُهَا قَالَ لَا قَالَ فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ(14/178)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَعَلَتْ سُمًّا فِي لَحْمٍ أَمَّا السُّمُّ فَبِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ الْفَتْحُ أَفْصَحُ جَمْعُهُ سِمَامٌ وَسُمُومٌ وَأَمَّا اللَّهَوَاتُ فَبِفَتْحِ اللَّامِ وَالْهَاءِ جَمْعُ لهات بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الْحَمْرَاءُ الْمُعَلَّقَةُ فِي أَصْلِ الْحَنَكِ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَقِيلَ اللَّحْمَاتُ اللَّوَاتِي فى سقف أقصى الفم وقوله مازلت أَعْرِفُهَا أَيِ الْعَلَامَةَ كَأَنَّهُ بَقِيَ لِلسُّمِّ عَلَامَةٌ وأثر من سواد أو غيره وقولهم ألانقتلها هِيَ بِالنُّونِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا بِتَاءِ الْخِطَابِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماكان اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكَ أَوْ قَالَ عَلَيَّ فِيهِ بَيَانُ عِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ وَاللَّهُ يعصمك من الناس وهي معجزة لسول الله صلى الله عليه وسلم وَهِيَ مُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَلَامَتِهِ مِنَ السُّمِّ الْمُهْلِكِ لِغَيْرِهِ وَفِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِأَنَّهَا مَسْمُومَةٌ وَكَلَامِ عُضْوٍ مِنْهُ لَهُ فَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الذِّرَاعَ تُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الْيَهُودِيَّةُ الْفَاعِلَةُ لِلسُّمِّ اسْمُهَا زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ أُخْتُ مَرْحَبٍ الْيَهُودِيِّ رَوَيْنَا تَسْمِيَتَهَا هَذِهِ فِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَاخْتَلَفَ الْآثَارُ وَالْعُلَمَاءُ هَلْ قَتَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لافوقع فى صحيح مسلم أنهم قالوا ألانقتلها قال لاومثله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَعَنْ جَابِرٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قتلها وفى رواية بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَاءِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وَكَانَ أَكَلَ مِنْهَا فَمَاتَ بِهَا فَقَتَلُوهَا وَقَالَ بن سَحْنُونٍ أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَهَا قَالَ الْقَاضِي وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَالْأَقَاوِيلِ أَنَّهُ لم يقتلها أولاحين اطَّلَعَ عَلَى سُمِّهَا وَقِيلَ لَهُ اقْتُلْهَا فَقَالَ لَا فَلَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ مِنْ ذلك سلمها لأوليائه فقتلوها قصاصا فيصح قَوْلُهُمْ لَمْ يَقْتُلْهَا أَيْ فِي الْحَالِ وَيَصِحُّ قَوْلُهُمْ قَتَلَهَا أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(14/179)
(باب استحباب رقية المريض)
ذَكَرَ فِي الْبَابِ الْأَحَادِيثَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْقِي الْمَرِيضَ وَقَدْ سَبَقَتِ المسأ لة مُسْتَوْفَاةً فِي الْبَابِ السَّابِقِ فِي أَوَّلِ الطِّبِّ قَوْلُهَا
[2191] (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ أَذْهِبِ الْبَاسَ إِلَى آخِرِهِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ مَسْحِ الْمَرِيضِ بِالْيَمِينِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ جَمَعْتُهَا فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ وَهَذَا الْمَذْكُورُ هُنَا مِنْ أَحْسَنِهَا ومعنى(14/180)
لايغادر سقما أى لايترك وَالسَّقَمُ بِضَمِّ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَبِفَتْحِهِمَا لُغَتَانِ قَوْلُهَا (كَانَ رَسُولُ(14/181)
[2192] اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ) هِيَ بكسر الواو والنفث نفخ لطيف بلاريق فِيهِ اسْتِحْبَابُ النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهِ وَاسْتَحَبَّهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ قَالَ الْقَاضِي وَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ النَّفْثَ وَالتَّفْلَ فِي الرُّقَى وَأَجَازُوا فِيهَا النَّفْخَ بِلَا رِيقٍ وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَالْفَرْقُ إِنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ قِيلَ إِنَّ النَّفْثَ مَعَهُ رِيقٌ قَالَ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّفْثِ وَالتَّفْلِ فَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَلَا يَكُونَانِ إِلَّا بِرِيقٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يُشْتَرَطُ فِي التَّفْلِ رِيقٌ يسير ولايكون فِي النَّفْثِ وَقِيلَ عَكْسُهُ قَالَ وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ نَفْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّقْيَةِ فَقَالَتْ كَمَا يَنْفُثُ آكِلُ الزَّبِيبِ لا ريقمعه قال ولااعتبار بما يخرج عليه من بلة ولايقصد ذلك وقد جاء فىحديث الَّذِي رَقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَجَعَلَ يَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفُلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي وَفَائِدَةُ التَّفْلِ التَّبَرُّكُ بِتِلْكَ الرُّطُوبَةِ وَالْهَوَاءِ وَالنَّفَسِ الْمُبَاشِرَةِ لِلرُّقْيَةِ وَالذِّكْرُ الْحَسَنُ لَكِنْ قَالَ كَمَا يُتَبَرَّكُ بِغُسَالَةِ مَا يُكْتَبُ مِنَ الذِّكْرِ وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَكَانَ مَالِكٌ يَنْفُثُ إِذَا رَقَى نَفْسَهُ وَكَانَ يَكْرَهُ الرُّقْيَةَ بِالْحَدِيدَةِ وَالْمِلْحِ وَالَّذِي يَعْقِدُ وَالَّذِي يَكْتُبُ خاتم(14/182)
سُلَيْمَانَ وَالْعَقْدُ عِنْدَهُ أَشَدُّ كَرَاهَةً لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُشَابَهَةِ السِّحْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الرُّقْيَةِ بِالْقُرْآنِ وَبِالْأَذْكَارِ وَإِنَّمَا رَقَى بِالْمُعَوِّذَاتِ لِأَنَّهُنَّ جَامِعَاتٌ لِلِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلِّ الْمَكْرُوهَاتِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَفِيهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ وَمِنْ شر النفاثات فى العقد ومن السواحر ومن شرالحاسدين وَمِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (رَخَّصَ فِي الرُّقْيَةِ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَّةٍ) هِيَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ مِيمٍ مُخَفَّفَةٍ وَهِيَ السُّمُّ وَمَعْنَاهُ أَذِنَ فِي الرُّقْيَةِ مِنْ كُلِّ ذَاتِ سُمٍّ قَوْلُهَا (قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُصْبُعِهِ هَكَذَا وَوَضَعَ سُفْيَانُ سبابته(14/183)
بِالْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَهَا بِاسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا) قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الْمُرَادُ بِأَرْضِنَا هُنَا جُمْلَةُ الْأَرْضِ وَقِيلَ أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِبَرَكَتِهَا وَالرِّيقَةُ أَقَلُّ مِنَ الرِّيقِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى التُّرَابِ فَيَعْلَقُ بِهَا مِنْهُ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْمَوْضِعِ الْجَرِيحِ أَوِ الْعَلِيلِ وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ فِي حَالِ الْمَسْحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي رُقْيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ الْمُسْلِمَ وَبِالْجَوَازِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(بَابُ اسْتِحْبَابِ الرُّقَيْةِ مِنَ الْعَيْنِ وَالنَّمْلَةِ وَالْحُمَّةِ وَالنَّظْرَةِ)
[2193] أَمَّا الْحُمَّةُ فَسَبَقَ بَيَانُهَا فِي الْبَابِ قبله والعبن سَبَقَ بَيَانُهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَأَمَّا النَّمْلَةُ فَبِفَتْحِ النون واسكان الميم هي قروح تخرج فى الجنب قال بن قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ كَانَتِ الْمَجُوسُ تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَ الرجل من(14/184)
أخته اذا حط عَلَى النَّمْلَةِ يَشْفِي صَاحِبَهَا وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثُ اسْتِحْبَابُ الرُّقَى لِهَذِهِ الْعَاهَاتِ وَالْأَدْوَاءِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا وَالْخِلَافُ فِيهِ قَوْلُهُ
[2196] (رَخَّصَ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ وَالْحُمَّةِ وَالنَّمْلَةِ) لَيْسَ مَعْنَاهُ تَخْصِيصُ جَوَازِهَا بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَأَذِنَ فِيهَا وَلَوْ سُئِلَ عَنْ غَيْرِهَا لَأَذِنَ فِيهِ وَقَدْ أَذِنَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ وَقَدْ رَقَى هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2197] (رَأَى بِوَجْهِهَا سَفْعَةً فَقَالَ بِهَا نَظْرَةٌ فَاسْتَرَقُوا لَهَا) يَعْنِي بِوَجْهِهَا صُفْرَةٌ أَمَّا السَّفْعَةُ فَبِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ فَاءٍ سَاكِنَةٍ وَقَدْ فَسَّرَهَا فِي الْحَدِيثِ بِالصُّفْرَةِ وَقِيلَ سَوَادٌ وقال بن قُتَيْبَةَ هِيَ لَوْنٌ يُخَالِفُ لَوْنَ الْوَجْهِ وَقِيلَ أَخْذَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ لِعِلَّةٍ فِيهِ قَالَ رَوَاهُ عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا وَأَرْسَلَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُرْوَةَ قال الدارقطني وأسنده أبو معاوية ولايصح قَالَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَلَمْ يَضَعْ شَيْئًا هَذَا كَلَامُ الدَّارَقُطْنِيِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2198] مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً) بالضاد المعجمة(14/185)
أَيْ نَحِيفَةً وَالْمُرَادُ أَوْلَادُ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه(14/186)
(باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار)
فِيهِ حَدِيثُ
[2201] (أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّ رَجُلًا رَقَى سَيِّدَ الْحَيِّ) هَذَا الراقى هو أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ الرَّاوِي كَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ (فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ) الْقَطِيعُ هُوَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْغَنَمِ وَسَائِرِ النَّعَمِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا بَيْنَ الْعَشْرِ وَالْأَرْبَعِينَ وَقِيلَ مَا بَيْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَجَمْعُهُ أَقْطَاعٌ وَأَقْطِعَةٌ وَقُطْعَانٌ وَقِطَاعٌ وَأَقَاطَيعُ كَحَدِيثٍ وَأَحَادِيثَ وَالْمُرَادُ بِالْقَطِيعِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثُونَ شَاةً كَذَا جَاءَ(14/187)
مُبَيَّنًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا رُقْيَةٌ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ بِهَا عَلَى اللَّدِيغِ وَالْمَرِيضِ وَسَائِرِ أَصْحَابِ الْأَسْقَامِ وَالْعَاهَاتِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خُذُوا مِنْهُمْ وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الرقية بالفاتحة والذكر وأنها حلال لاكراهة فِيهَا وَكَذَا الْأُجْرَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَآخَرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَمَنَعَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَأَجَازَهَا فِي الرُّقْيَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ فَهَذِهِ الْقِسْمَةُ مِنْ باب المروءات والتبرعات ومواساة الأصحاب والرفاق والافجميع الشياه ملك للراقى مختصة به لاحق للباقين فيها عند التنازع فقاسمهم بترعا وَجُودًا وَمُرُوءَةً وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ فَإِنَّمَا قَالَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَمُبَالَغَةً فِي تَعْرِيفِهِمْ أَنَّهُ حَلَالٌ لَا شبهة فيه وقد فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْعَنْبَرِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ مِثْلَهُ قَوْلُهُ (وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفُلُ) هُوَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا وَسَبَقَ بَيَانُ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي التَّفْلِ وَالنَّفْثِ قَوْلُهُ (سَيِّدُ الْحَيِّ سُلَيْمٌ) أَيْ لَدِيغٌ قَالُوا سُمِّيَ بِذَلِكَ تفاؤلا(14/188)
بالسلامة وقيل لأنه مستسلم لما به قوله (ماكنا نأبته بِرُقْيَةٍ) هُوَ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا أَيْ نَظُنُّهُ كَمَا سَبَقَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا اللَّفْظِ بِمَعْنَى نَتَّهِمُهُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا نَظُنُّهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب اسْتِحْبَابِ وَضْعِ يَدِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْأَلَمِ مَعَ الدُّعَاءِ)
[2202] فِيهِ حَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَمَقْصُودُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ وَضْعُ يَدِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْأَلَمِ وَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(14/189)
(بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ شَيْطَانِ الْوَسْوَسَةِ فِي الصَّلَاةِ)
قَوْلُهُ
[2203] (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يُلَبِّسُهَا عَلَيَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبٌ فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي) أَمَّا خِنْزَبٌ فَبِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ زَايٍ مَكْسُورَةٍ وَمَفْتُوحَةٍ وَيُقَالُ أَيْضًا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالزَّايِ حَكَاهُ الْقَاضِي وَيُقَالُ أَيْضًا بضم الخاء وفتح الزاى حكاه بن الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ وَهُوَ غَرِيبٌ وَفِي هَذَا الحديث استحباب التعوذ من الشيطان عند وَسْوَسَتِهِ مَعَ التَّفْلِ عَنْ الْيَسَارِ ثَلَاثًا وَمَعْنَى يَلْبِسُهَا أَيْ يَخْلِطُهَا وَيُشَكِّكُنِي فِيهَا وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ وَمَعْنَى حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا أَيْ نَكَّدَنِي فِيهَا وَمَنَعَنِي لَذَّتَهَا وَالْفَرَاغَ لِلْخُشُوعِ فيها(14/190)
بَاب لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ وَاسْتِحْبَابِ التَّدَاوِي
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2204] (لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فاذا أصيب دواء الداء بريء بِإِذْنِ اللَّهِ) الدَّوَاءُ بِفَتْحِ الدَّالِ مَمْدُودٌ وَحَكَى جَمَاعَاتٌ مِنْهُمُ الْجَوْهَرِيُّ فِيهِ لُغَةً بِكَسْرِ الدَّالِ قال القاضي هي لغة الكلابيين وهو شاذوفى هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ الدَّوَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الْخَلْفِ قَالَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جُمَلٌ مِنْ عُلُومِ الدين والدنيا وصحة علم الطب وجواز التطيب فِي الْجُمْلَةِ وَاسْتِحْبَابُهُ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ التَّدَاوِيَ مِنْ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ وَقَالَ كل شيء بقضاء وقدر فلاحاجة إِلَى التَّدَاوِي وَحُجَّةُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ وَأَنَّ التَّدَاوِيَ هُوَ أَيْضًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ وَهَذَا كَالْأَمْرِ بالدعاء وكالأمر بقتال الكفار وبالتحصن ومجانية الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ مَعَ أَنَّ الْأَجَلَ لايتغير والمقادير لاتتأخر ولا تتقدم عن أوقاتها ولابد مِنْ وُقُوعِ الْمُقَدَّرَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ فِي الطِّبِّ وَالْعِلَاجِ وَقَدِ اعْتَرَضَ فِي بَعْضِهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ فَقَالَ الْأَطِبَّاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْعَسَلَ مُسَهِّلٌ فَكَيْفَ يُوصَفُ لِمَنْ بِهِ الْإِسْهَالُ وَمُجْمِعُونَ أَيْضًا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَحْمُومِ الْمَاءَ الْبَارِدَ مُخَاطَرَةٌ قَرِيبٌ مِنَ الْهَلَاكِ لِأَنَّهُ يُجَمِّعُ الْمَسَامَّ وَيَحْقِنُ الْبُخَارَ وَيَعْكِسُ الْحَرَارَةَ إِلَى دَاخِلِ الْجِسْمِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلتَّلَفِ وينكرو أيضا مداواة ذات الجنب بالقسط مع مافيه مِنَ الْحَرَارَةِ الشَّدِيدَةِ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ خَطَرًا قَالَ المازرى وهذا الذى قال هَذَا الْمُعْتَرِضُ جَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ وَهُوَ فِيهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يحيطوا بعلمه وَنَحْنُ نَشْرَحُ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَنَقُولُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(14/191)
وَسَلَّمَ (لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ) فَهَذَا فِيهِ بَيَانٌ واضح لأنه قد علم أن الأطباء يقولونالمرض هُوَ خُرُوجُ الْجِسْمِ عَنِ الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ وَالْمُدَاوَاةُ رَدُّهُ إِلَيْهِ وَحِفْظُ الصِّحَّةِ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ فَحِفْظُهَا يَكُونُ بِإِصْلَاحِ الْأَغْذِيَةِ وَغَيْرِهَا وَرَدُّهُ يَكُونُ بِالْمُوَافِقِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمُضَادَّةِ لِلْمَرَضِ وَبُقْرَاطُ يَقُولُ الْأَشْيَاءُ تُدَاوَى بِأَضْدَادِهَا وَلَكِنْ قَدْ يَدِقُّ وَيَغْمُضُ حَقِيقَةُ الْمَرَضِ وَحَقِيقَةُ طَبْعِ الدَّوَاءِ فَيَقِلُّ الثِّقَةُ بِالْمُضَادَّةِ ومن ها هنا يَقَعُ الْخَطَأُ مِنَ الطَّبِيبِ فَقَطْ فَقَدْ يَظُنُّ الْعِلَّةَ عَنْ مَادَّةٍ حَارَّةٍ فَيَكُونُ عَنْ غَيْرِ مَادَّةٍ أَوْ عَنْ مَادَّةٍ بَارِدَةٍ أَوْ عَنْ مادة حارة دون الحرارة التى ظنها فلايحصل الشِّفَاءُ فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ بآخر كلامه على ماقد يُعَارَضُ بِهِ أَوَّلُهُ فَيُقَالُ قُلْتُ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ وَنَحْنُ نَجِدُ كَثِيرِينَ مِنَ الْمَرْضَى يُدَاوُونَ فَلَا يَبْرَءُونَ فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِكَ لِفَقْدِ الْعِلْمِ بحقيقة المداواة لالفقد الدواء وهذا واضح والله أعلم وأما الحديث الآخر وهو قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ عَسَلٍ أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ) فَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الطِّبِّ عِنْدَ أَهْلِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ الْامْتِلَائِيَّةَ دَمَوِيَّةٌ أَوْ صَفْرَاوِيَّةٌ أَوْ سَوْدَاوِيَّةٌ أَوْ بَلْغَمِيَّةٌ فَإِنْ كَانَتْ دَمَوِيَّةً فَشِفَاؤُهَا إِخْرَاجُ الدَّمِ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ فَشِفَاؤُهَا بِالْإِسْهَالِ بِالْمُسَهِّلِ اللَّائِقِ لِكُلِّ خَلْطٍ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَسَلِ عَلَى الْمُسَهِّلَاتِ وَبِالْحِجَامَةِ(14/192)
عَلَى إِخْرَاجِ الدَّمِ بِهَا وَبِالْفَصْدِ وَوَضْعِ الْعَلَقِ وَغَيْرِهَا مِمَّا فِي مَعْنَاهَا
[2207] وَذَكَرَ الْكَيَّ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ عَدَمِ نَفْعِ الْأَدْوِيَةِ الْمَشْرُوبَةِ وَنَحْوِهَا فَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ إِشَارَةٌ إِلَى تَأْخِيرِ الْعِلَاجِ بِالْكَيِّ حَتَّى يَضْطَرَّ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْأَلَمِ الشَّدِيدِ فِي دَفْعِ أَلَمٍ قَدْ يَكُونُ أَضْعَفَ مِنْ أَلَمِ الْكَيِّ وأما مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُلْحِدُ الْمَذْكُورُ فَنَقُولُ فِي إِبْطَالِهِ إِنَّ عِلْمَ الطِّبِّ مِنْ أَكْثَرِ الْعُلُومِ احيتاجا إلى التفصيل حتى ان المريض يكونالشىء دَوَاءَهُ فِي سَاعَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ دَاءً لَهُ فِي السَّاعَةِ الَّتِي تَلِيهَا بِعَارِضٍ يَعْرِضُ مِنْ غَضَبٍ يَحْمِي مِزَاجَهُ فَيُغَيِّرُ عِلَاجَهُ أَوْ هَوَاءٍ يتغير أو غير ذلك مما لاتحصى كثرته فاذا وجد الشفاء بشئ فى حالة بالشخص لم يلزم منه الشفاءبه فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَجَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَطِبَّاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ الْوَاحِدَ يَخْتَلِفُ عِلَاجُهُ بِاخْتِلَافِ السن والزمان والعادة والغذاء الْمُتَقَدِّمَةِ وَالتَّدْبِيرِ الْمَأْلُوفِ وَقُوَّةِ الطِّبَاعِ فَإِذَا(14/193)
عرفت ماذكرناه فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِسْهَالَ يَحْصُلُ مِنْ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْإِسْهَالُ الْحَادِثُ مِنَ التُّخَمِ وَالْهَيْضَاتِ وَقَدْ أجمع الأطباء فى مثل هذا على عِلَاجَهُ بِأَنْ يَتْرُكَ الطَّبِيعَةَ وَفِعْلَهَا وَإِنِ احْتَاجَتْ إلى معين على الاسهال أعينت مادامت الْقُوَّةُ بَاقِيَةً فَأَمَّا حَبْسُهَا فَضَرَرٌ عِنْدَهُمْ وَاسْتِعْجَالُ مَرَضٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِسْهَالُ لِلشَّخْصِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ أَصَابَهُ مِنَ امْتِلَاءٍ أَوْ هَيْضَةٍ فَدَوَاؤُهُ تَرْكُ إِسْهَالِهِ عَلَى مَا هُوَ أَوْ تَقْوِيَتُهُ فَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشُرْبِ الْعَسَلِ فَرَآهُ إِسْهَالًا فَزَادَهُ عَسَلًا إِلَى أَنْ فَنِيَتِ الْمَادَّةُ فَوَقَفَ الْإِسْهَالُ وَيَكُونُ الْخَلْطُ الَّذِي كَانَ يُوَافِقُهُ شُرْبُ الْعَسَلِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْعَسَلَ جَارٍ عَلَى صِنَاعَةِ الطِّبِّ وَأَنَّ الْمُعْتَرِضَ عَلَيْهِ جَاهِلٌ لَهَا وَلَسْنَا نَقْصِدُ الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء بل لوكذبوه كَذَّبْنَاهُمْ وَكَفَّرْنَاهُمْ فَلَوْ أَوْجَدُوا الْمُشَاهَدَةَ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُمْ تَأَوَّلْنَا كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ وَخَرَّجْنَاهُ عَلَى مَا يَصِحُّ فَذَكَرْنَا هَذَا الْجَوَابَ(14/194)
أكحله فكواه(14/195)
عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُؤْتَى بِالْمَرْأَةِ الْمَوْعُوكَةِ فَتَصُبُّ الْمَاءَ فِي جَيْبِهَا وَتَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ فَهَذِهِ أَسْمَاءُ رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ وَقُرْبُهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومٌ تَأَوَّلَتْ الْحَدِيثَ عَلَى نَحْوِ مَا قلناه فلم يبق للملحد المعترض إلااختراعه الْكَذِبَ وَاعْتِرَاضُهُ بِهِ فَلَا يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ وَأَمَّا إِنْكَارُهُمُ الشِّفَاءَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ بِالْقُسْطِ فَبَاطِلٌ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ قُدَمَاءِ الْأَطِبَّاءِ إِنَّ ذَاتَ الْجَنْبِ إِذَا حَدَّثَتْ مِنَ الْبَلْغَمِ كَانَ الْقُسْطُ مِنْ عِلَاجِهَا وَقَدْ ذَكَرَ جَالِينُوسُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الصَّدْرِ وَقَالَ بَعْضُ قُدَمَاءِ الْأَطِبَّاءِ وَيُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يُحْتَاجُ إِلَى إِسْخَانِ عُضْوٍ منالأعضاء وَحَيْثُ يُحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَجْذِبَ الْخَلْطَ مِنْ باطن البدن إلى ظاهره وهتكذا قاله بن سِينَا وَغَيْرُهُ وَهَذَا يُبْطِلُ مَا زَعَمَهُ هَذَا الْمُعْتَرِضُ الْمُلْحِدُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ سَبْعَةُ أَشْفِيَةٍ فَقَدْ أَطْبَقَ الْأَطِبَّاءُ فِي كُتُبِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يُدِرُّ الطَّمْثَ وَالْبَوْلَ وَيَنْفَعُ مِنَ السُّمُومِ وَيُحَرِّكُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ وَيَقْتُلُ الدُّودَ وَحُبَّ الْقَرْعِ فِي الْأَمْعَاءِ إِذَا شُرِبَ بِعَسَلٍ وَيُذْهِبُ الْكَلَفَ إِذَا طُلِيَ عَلَيْهِ وَيَنْفَعُ من بدر المعدة والكبدويردهما ومن حمى الورد والربع وغير ذلك صِنْفَانِ بَحْرِيٌّ وَهِنْدِيٌّ وَالْبَحْرِيُّ هُوَ الْقُسْطُ الْأَبْيَضُ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ صِنْفَيْنِ وَنَصَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْبَحْرِيَّ أَفْضَلُ مِنَ الْهِنْدِيِّ وَهُوَ أَقَلُّ حَرَارَةً مِنْهُ وَقِيلَ هُمَا حَارَّانِ يَابِسَانِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ وَالْهِنْدِيُّ أَشَدُّ حَرًّا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ من الحرارة وقال بن سنيا الْقُسْطُ حَارٌّ فِي الثَّالِثَةِ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذِهِ الْمَنَافِعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْقُسْطِ فَصَارَ مَمْدُوحًا شَرْعًا وَطِبًّا وَإِنَّمَا عَدَدْنَا مَنَافِعَ الْقُسْطِ مِنْ كُتُبِ الْأَطِبَّاءِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ مِنْهَا عَدَدًا مُجْمَلًا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ من كل داء إلاالسم فَيُحْمَلُ أَيْضًا عَلَى الْعِلَلِ الْبَارِدَةِ عَلَى نَحْوِ ماسبق فِي الْقُسْطِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَصِفُ بِحَسَبِ مَا شَاهَدَهُ مِنْ غَالِبِ أَحْوَالِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ كَلَامَ الْمَازِرِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ثُمَّ قَالَ وَذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ فِي مَنْفَعَةِ الْحَبَّةِ(14/196)
السَّوْدَاءِ الَّتِي هِيَ الشُّونِيزُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَخَوَاصَّ عَجِيبَةً يَصْدُقُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها فذكر جالينوس أنها أَنَّهَا تَحِلُّ النَّفْخَ وَتُقِلُّ دِيدَانَ الْبَطْنِ إِذَا أُكِلَ أَوْ وُضِعَ عَلَى الْبَطْنِ وَتَنْفِي الزُّكَامَ إِذَا قُلِيَ وَصُرَّ فِي خِرْقَةٍ وَشُمَّ وَتُزِيلُ العلة التى تقشر منها الجلد ويقلع الثَّآلِيلَ الْمُتَعَلِّقَةَ وَالْمُنَكَّسَةَ وَالْخِيلَانَ وَتُدِرُّ الطَّمْثَ الْمُنْحَبِسَ إِذَا كَانَ انْحِبَاسُهُ مِنْ أَخْلَاطٍ غَلِيظَةٍ لَزِجَةٍ وَيَنْفَعُ الصُّدَاعَ إِذَا طُلِيَ بِهِ الْجَبِينُ وَتَقْلَعُ الْبُثُورَ وَالْجَرَبَ وَتُحَلِّلُ الْأَوْرَامَ الْبَلْغَمِيَّةَ إِذَا تُضُمِّدَ بِهِ مَعَ الْخَلِّ وَتَنْفَعُ مِنَ الْمَاءِ الْعَارِضِ فِي الْعَيْنِ إِذَا اسْتُعِطَ بِهِ مَسْحُوقًا بِدُهْنِ الْأَرَلْيَا وَتَنْفَعُ مِنَ انْتِصَابِ النَّفْسِ وَيُتَمَضْمَضُ بِهِ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ وَتُدِرُّ الْبَوْلَ وَاللَّبَنَ وَتَنْفَعُ من نهشة الرتيلا واذا بخربه طَرَدَ الْهَوَامَّ قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ غَيْرُ جَالِينُوسَ خَاصِّيَّتُهُ إِذْهَابُ حُمَّى الْبَلْغَمِ وَالسَّوْدَاءِ وَتَقْتُلُ حَبَّ الْقَرْعِ وَإِذَا عُلِّقَ فِي عُنُقِ الْمَزْكُومِ نَفَعَهُ وينفع من حمى الربع قال ولايبعد مَنْفَعَةُ الْحَارِّ مِنْ أَدْوَاءٍ حَارَّةٍ بِخَوَاصَّ فِيهَا فَقَدْ نَجِدُ ذَلِكَ فِي أَدْوِيَةٍ كَثِيرَةٍ فَيَكُونُ الشُّونِيزُ مِنْهَا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ أَحْيَانًا مُنْفَرِدًا وَأَحْيَانًا مُرَكَّبًا قَالَ الْقَاضِي وَفِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا حَوَاهُ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ والدنيا وصحة علم الطب وجواز التطبب في الْجُمْلَةِ وَاسْتِحْبَابِهِ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْحِجَامَةِ وَشُرْبِ الْأَدْوِيَةِ وَالسَّعُوطِ وَاللَّدُودِ وَقَطْعِ الْعُرُوقِ وَالرُّقَى قَالَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ هَذَا إِعْلَامٌ لَهُمْ وَإِذْنٌ فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِإِنْزَالِهِ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِمُبَاشَرَةِ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ مِنْ دَاءٍ وَدَوَاءٍ قال وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْطَةُ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةُ عَسَلٍ أَوْ لَذْعَةٌ بِنَارٍ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ ضُرُوبِ الْمُعَافَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَادَ الْمُقَنَّعَ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ قَوْلُهُ (يَشْتَكِي خُرَاجًا) هُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ قَوْلُهُ (أُعَلِّقُ فِيهِ مِحْجَمًا) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَهِيَ الآلة التى تمص ويجمع بها وضع الْحِجَامَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ (شَرْطَةُ مِحْجَمٍ (فَالْمُرَادُ بِالْمِحْجَمِ هُنَا الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُشْرَطُ بِهَا مَوْضِعُ الْحِجَامَةِ لِيَخْرُجَ الدَّمُ قَوْلُهُ (فَلَمَّا رَأَى تَبَرُّمَهُ) أَيْ تَضَجُّرَهُ وَسَآمَتَهُ مِنْهُ قَوْلُهُ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رُمِيَ أُبَيُّ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى أَكْحَلِهِ فَكَوَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَوْلُهُ أُبَيُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الباء وبشديد الياء وَهَكَذَا صَوَابُهُ وَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ وَالنُّسَخِ وَهُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ التى قبل هذه وصفحه بَعْضُهُمْ فَقَالَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الياء وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ أَبَا جَابِرٍ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ قَبْلَ الْأَحْزَابِ بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَأَمَّا الْأَكْحَلُ فَهُوَ عِرْقٌ مَعْرُوفٌ قَالَ الْخَلِيلُ(14/197)
هُوَ عِرْقُ الْحَيَاةِ يُقَالُ هُوَ نَهَرُ الْحَيَاةِ فَفِي كُلِّ عُضْوٍ شُعْبَةٌ مِنْهُ وَلَهُ فِيهَا اسم متفرد فاذا قطع فى اليد لم يرقأالدم وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ عِرْقٌ وَاحِدٌ يُقَالُ لَهُ فِي الْيَدِ الْأَكْحَلُ وَفِي الْفَخِذِ النَّسَا وَفِي الظَّهْرِ الْأَبْهَرُ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أُجْرَةِ الْحَجَّامِ فسبق قوله (فحسمه) أى كواه ليقطع دمع وأضل الْحَسْمِ الْقَطْعُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ) جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ هُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ فِيهِمَا وَهُوَ شِدَّةُ حَرِّهَا وَلَهَبِهَا وَانْتِشَارِهَا وَأَمَّا أَبْرِدُوهَا فَبِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَبِضَمِّ الرَّاءِ يُقَالُ بَرَدْتُ الحمى أبردها بردا على وزن قتلتها أقتلها قَتْلًا أَيْ أَسْكَنْتُ حَرَارَتَهَا وَأَطْفَأْتُ لَهَبَهَا كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ وَهَذَا الذى ذكرناه من كَوْنِهِ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَضَمِّ الرَّاءِ هُوَ الصَّحِيحُ الْفَصِيحُ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ وَكُتُبِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ أَنَّهُ يُقَالُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ فِي لُغَةٍ قَدْ حكاه الجوهر وَقَالَ هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ جَهَنَّمَ مَخْلُوقَةٌ الْآنَ مَوْجُودَةٌ قَوْلُهُ (عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا كَانَتْ تُؤْتَى بِالْمَرْأَةِ الْمَوْعُوكَةِ فَتَدْعُو بِالْمَاءِ فَتَصُبُّهُ فِي جَيْبِهَا وَتَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ) وَفِي رِوَايَةٍ صَبَّتِ الْمَاءَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا قَالَ الْقَاضِي هَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ وَيُصَحِّحُ حُصُولَ الْبُرْءِ بِاسْتِعْمَالِ المحموم الماء وأنه على ظاهره لاعلى ما سبق من تأويل المازرى(14/198)
قال ولو لاتجربة أسماء والمسلمين لمنفعة لَمَا اسْتَعْمَلُوهُ قَوْلُهَا
[2213] (لَدَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ فَأَشَارَ أَنْ لاتلدونى بفقلنا كراهية المريض للدواء فما أفاق لايبقى منكم أحد إلالد غير العباس فانه لم يشدكم) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ اللَّدُودُ بِفَتْحِ اللَّامِ هُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي يُصَبُّ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ فَمِ المريض ويسفا أَوْ يَدْخُلُ هُنَاكَ بِأُصْبُعٍ وَغَيْرِهَا وَيُحَنَّكُ بِهِ وَيُقَالُ مِنْهُ لَدَدْتُهُ أَلُدُّهُ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ أَيْضًا أَلَدَدْتُهُ رُبَاعِيًّا وَالْتَدَدْتُ أَنَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَيُقَالُ لِلَّدُودِ لَدِيدٌ أَيْضًا وَإِنَّمَا أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَدِّهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ حِينَ خَالَفُوهُ فى إشارته اليهم لاتلدونى ففيه أن الاشارة المفهمة تصريح العبارة فى نحوهذه المسألة وفيه تعزيز الْمُتَعَدِّي بِنَحْوٍ مِنْ فِعْلِهِ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ إلا أن يكون فعلا(14/199)
محرما قَوْلُهَا
[2214] (دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِابْنٍ لِي قَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ فَقَالَ عَلَامَ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بهذا العلاق عليكن بهذا العلاق عليكن بهذا العود لاهندى فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةُ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ وَيُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ) أما قولها أعلقت عليه فكهذا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَلَيْهِ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ عَلَيْهِ فَأَعْلَقْتُ عَلَيْهِ كَمَا هُنَا وَمَنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَأَعْلَقْتُ عَنْهُ بِالنُّونِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْمُحَدِّثُونَ يَرْوُونَهُ أَعَلَقْتُ عَلَيْهِ وَالصَّوَابُ عَنْهُ وكذا قال غَيْرُهُ وَحَكَاهُمَا بَعْضُهُمْ لُغَتَيْنِ أَعَلَقْتُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ عَالَجْتُ وَجَعَ لَهَاتِهِ بِأُصْبُعِي وَأَمَّا الْعُذْرَةُ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ هِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ وَجَعٌ فِي الْحَلْقِ يَهِيجُ مِنَ الدَّمِ يُقَالُ فِي عِلَاجِهَا عَذَرْتُهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَقِيلَ هي قرحة تخرج في الخر الذى يبن الْحَلْقِ وَالْأَنْفِ تَعْرِضُ لَلصِّبْيَانِ غَالِبًا عِنْدَ طُلُوعِ الْعُذْرَةِ وَهِيَ خَمْسَةُ كَوَاكِبَ تَحْتَ الشِّعْرَى الْعَبُورِ وَتُسَمَّى الْعَذَارَى وَتَطْلُعُ فِي وَسَطِ الْحَزِّ وَعَادَةُ النِّسَاءِ فِي مُعَالَجَةِ الْعُذْرَةِ أَنْ تَأْخُذَ الْمَرْأَةُ خِرْقَةً فَتَفْتِلَهَا فَتْلًا شَدِيدًا وَتُدْخِلَهَا فِي أَنْفِ الصَّبِيِّ وَتَطْعَنَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَنْفَجِرُ مِنْهُ دَمٌ أَسْوَدُ وَرُبَّمَا أَقْرَحَتْهُ وَذَلِكَ الطَّعْنُ يُسَمَّى دَغْرًا وَغَدْرًا فَمَعْنَى تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ أَنَّهَا تَغْمِزُ حَلْقَ الْوَلَدِ بِأُصْبُعِهَا فَتَرْفَعُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَتَكْبِسُهُ وَأَمَّا الْعَلَاقُ فَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْإِعْلَاقُ وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ حَتَّى زَعَمَ بعضهم أنه الصواب وأن العلاق لايجوز قالوا والعلاق مَصْدَرُ أَعَلَقْتُ عَنْهُ وَمَعْنَاهُ أَزَلْتُ عَنْهُ الْعَلُوقَ وَهِيَ الْآفَةُ وَالدَّاهِيَةُ وَالْإِعْلَاقُ هُوَ مُعَالَجَةُ عُذْرَةِ الصَّبِيِّ وَهِيَ وَجَعُ حَلْقِهِ كَمَا سَبَقَ قَالَ بن الْأَثِيرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَلَاقُ هُوَ الِاسْمُ منه وأما ذات الجنبفعلة معروفة والعودالهندى يُقَالُ لَهُ الْقُسْطُ(14/200)
وَالْكُسْتُ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَامَهْ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ) هَكَذَا هُوَ فِي جميع النسخ علامه وهى هاء السكت ثبت هُنَا فِي الدَّرْجِ قَوْلُهُ
[2215] (وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ) هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ قَالَ الْقَاضِي وَذَكَرَ الْحَرْبِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهَا الْخَرْدَلُ قَالَ وَقِيلَ هِيَ الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ وَهِيَ الْبُطْمُ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَخْضَرَ أَسْوَدَ وَمِنْهُ سَوَادُ العراق(14/201)
لِخُضْرَتِهِ بِالْأَشْجَارِ وَتُسَمِّي الْأَسْوَدَ أَيْضًا أَخْضَرَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2216] (التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ وَتُذْهِبُ بَعْضَ الْحَزَنِ) أَمَّا مَجَمَّةٌ فَبِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ وَيُقَالُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ تُرِيحُ فُؤَادَهُ وَتُزِيلُ عَنْهُ الْهَمَّ وَتُنَشِّطُهُ وَالْجَمَامُ الْمُسْتَرِيحُ كَأَهْلِ النَّشَاطِ وَأَمَّا التَّلْبِينَةُ فَبِفَتْحِ التَّاءِ وَهِيَ حَسَاءٌ مِنْ دَقِيقٍ أَوْ نُخَالَةٍ قالوا وربما جعل فيها عسل قال الهرواى وَغَيْرُهُ سُمِّيَتْ تَلْبِينَةً(14/202)
تَشْبِيهًا بِاللَّبَنِ لِبَيَاضِهَا وَرِقَّتِهَا وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّلْبِينَةِ للمخزون قَوْلُهُ
[2217] (إِنَّ أَخِي عَرِبَ بَطْنُهُ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مَعْنَاهُ فَسَدَتْ مَعِدَتُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ) الْمُرَادُ قَوْلُهُ تَعَالَى يَخْرُجُ مِنْ بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء لِلنَّاسِ وَهُوَ الْعَسَلُ وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ شِفَاءٌ يَعُودُ إِلَى الشَّرَابِ الَّذِي هو العسل وهو الصحيح وهو قول بن مسعود وبن عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَهَذَا ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلِصَرِيحِ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْآيَةُ عَلَى الْخُصُوصِ أَيْ شِفَاءٌ مِنْ بَعْضِ الْأَدْوَاءِ وَلِبَعْضِ النَّاسِ وَكَانَ دَاءُ هَذَا الْمَبْطُونِ مِمَّا يُشْفَى بِالْعَسَلِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَلَكِنَّ عِلْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دَاءَ هَذَا الرَّجُلِ مِمَّا يُشْفَى بِالْعَسَلِ وَاللَّهُ أعلم(14/203)
(بَاب الطَّاعُونِ وَالطِّيَرَةِ وَالْكَهَانَةِ وَنَحْوِهَا)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّاعُونِ
[2218] (إِنَّهُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كان قبلكم فاذا سمعتم به بأرضفلا تَقْدُمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ أَوِ السَّقَمَ رِجْزٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ ثُمَّ بَقِيَ بَعْدُ بِالْأَرْضِ فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ وَيَأْتِي الْأُخْرَى فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بأرض فلايقدمن عليه ومن وقع بأرض وهو بها فلايخرجنه الْفِرَارُ مِنْهُ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّامِ أَمَّا الْوَبَاءُ فَمَهْمُوزٌ مَقْصُورٌ وَمَمْدُودٌ لُغَتَانِ الْقَصْرُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَأَمَّا الطَّاعُونُ فَهُوَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَسَدِ فَتَكُونُ فِي الْمَرَافِقِ أَوِ الْآبَاطِ أَوِ الْأَيْدِي أوالأصابع وَسَائِرِ الْبَدَنِ وَيَكُونُ مَعَهُ وَرَمٌ وَأَلَمٌ شَدِيدٌ وتخرج تلك القروح مع لهيب ويسود ماحواليه أَوْ يَخْضَرُّ أَوْ يَحْمَرُّ حُمْرَةً بَنَفْسَجِيَّةً كَدِرَةً وَيَحْصُلُ مَعَهُ خَفَقَانُ الْقَلْبِ وَالْقَيْءُ وَأَمَّا الْوَبَاءُ فقال الخليل وغيره هو الطَّاعُونِ وَقَالَ هُوَ كُلُّ مَرَضٍ عَامٍّ وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مَرَضُ الْكَثِيرِينَ مِنَ النَّاسِ فِي جِهَةٍ مِنَ الْأَرْضِ دُونَ سَائِرِ الْجِهَاتِ وَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْمُعْتَادِ مِنْ أَمْرَاضٍ فِي الْكَثْرَةِ وَغَيْرِهَا وَيَكُونُ مَرَضُهُمْ نَوْعًا وَاحِدًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّ أَمْرَاضَهُمْ فِيهَا مُخْتَلِفَةٌ قَالُوا وَكُلُّ طَاعُونٍ وَبَاءٌ وَلَيْسَ كُلُّ وَبَاءٍ طَاعُونًا وَالْوَبَاءُ الَّذِي وَقَعَ فِي الشَّامِ فِي زَمَنِ عُمَرَ كَانَ طَاعُونًا وَهُوَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ وَهِيَ قَرْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِالشَّامِ وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْحِ مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ فِي ذِكْرِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الرُّوَاةِ عِنْدَ ذِكْرِهِ طَاعُونَ الْجَارِفِ بَيَانُ الطَّوَاعِينِ وَأَزْمَانِهَا وعددها وأما كنها وَنَفَائِسَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَجَاءَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ عَذَابًا لَهُمْ هَذَا الْوَصْفُ بكونه عَذَابًا مُخْتَصٌّ بِمَنْ كَانَ قَبْلنَا وَأَمَّا هَذِهِ الأمة فهولها رَحْمَةٌ وَشَهَادَةٌ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الطَّاعُونَ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فى بلده(14/204)
صابرا يعلم أنه لن يصيبه الاما كتب الله له الاكان لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ شَهَادَةً لِمَنْ صَبَرَ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْعُ الْقُدُومِ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ وَمَنْعُ الْخُرُوجِ مِنْهُ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ أما الخروج لعارض فلابأس بِهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ قَالَ الْقَاضِي هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ قَالَ حتى قالت عائشةالفرار مِنْهُ كَالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ قَالَ وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْقُدُومَ عَلَيْهِ وَالْخُرُوجَ مِنْهُ فِرَارًا قَالَ وروى(14/205)
هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى رُجُوعِهِ مِنْ سَرْغٍ وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِرُّوا عَنْ هَذَا الرِّجْزِ فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ فَقَالَ مَعَاذٌ بَلْ هُوَ شَهَادَةٌ وَرَحْمَةٌ وَيَتَأَوَّلُ هَؤُلَاءِ النَّهْيَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنِ الدُّخُولِ عَلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَهُ غَيْرُ الْمُقَدَّرِ لَكِنْ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَلَى النَّاسِ لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ هَلَاكَ الْقَادِمِ إِنَّمَا حَصَلَ بِقُدُومِهِ وَسَلَامَةِ الْفَارِّ انما كانت(14/206)
بِفِرَارِهِ قَالُوا وَهُوَ مِنْ نَحْوِ النَّهْيِ عَنِ الطِّيَرَةِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْمَجْذُومِ وَقَدْ جَاءَ عَنِ بن مَسْعُودٍ قَالَ الطَّاعُونُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ وَالْفَارِّ أَمَّا الْفَارُّ فَيَقُولُ فَرَرْتُ فَنَجَوْتُ وَأَمَّا الْمُقِيمُ فيقول أقمت فمت وانما فر من لميأت أَجَلُهُ وَأَقَامَ مَنْ حَضَرَ أَجَلُهُ وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لاتتمنوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الِاحْتِرَازُ مِنَ الْمَكَارِهِ وَأَسْبَابِهَا وَفِيهِ التَّسْلِيمُ لِقَضَاءِ اللَّهِ عِنْدَ حُلُولِ الْآفَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ بِشُغْلٍ وَغَرَضٍ غَيْرِ الْفِرَارِ وَدَلِيلُهُ صَرِيحُ الْأَحَادِيثِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ (لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارٌ مِنْهُ) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِرَارٌ بِالرَّفْعِ وَفِي بَعْضِهَا فِرَارًا بِالنَّصْبِ وَكِلَاهُمَا مُشْكِلٌ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمَعْنَى قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مُفْسِدَةٌ للمعنى(14/207)
لِأَنَّ ظَاهِرَهَا الْمَنْعُ مِنَ الْخُرُوجِ لِكُلِّ سَبَبٍ إِلَّا لِلْفِرَارِ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ وَهَذَا ضِدُّ المراد وقال جماعة ان لفظة إلاهنا غَلَطٌ مِنَ الرَّاوِي وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ قَالَ الْقَاضِي وَخَرَّجَ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْعَرَبِيَّةِ لِرِوَايَةِ النَّصْبِ وَجْهًا فَقَالَ هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ قَالَ وَلَفْظَةُ إِلَّا هنا للإيجاب لا للاستثناء وتقديره لاتخرجوا اذا لم يكن خروجكم إلافرارا مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ كُلَّهَا مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَذَكَرَ فِي الطُّرُقِ الثَّلَاثِ فِي آخِرِ الْبَابِ مَا يُوهِمُ أَوْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بن أبى وقاص عنالنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ هَذَا وَهْمٌ إِنَّمَا هُوَ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدٍ عَنْ أُسَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2219] (حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ لَقِيَهُ أَهْلُ الْأَجْنَادِ) أَمَّا سَرْغٌ فَبِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ رَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَحَكَى الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَيْضًا فَتْحَ الرَّاءِ وَالْمَشْهُورُ إِسْكَانُهَا وَيَجُوزُ صَرْفُهُ وَتَرْكُهُ وَهِيَ قَرْيَةٌ فِي طَرَفِ الشَّامِ مِمَّا يَلِي الْحِجَازَ وَقَوْلُهُ أهل الاجناد وفى غيره هذه الروايةأمراء الْأَجْنَادِ وَالْمُرَادُ بِالْأَجْنَادِ هُنَا مُدُنُ الشَّامِ الْخَمْسُ وَهِيَ فِلَسْطِينُ وَالْأُرْدُنُّ وَدِمَشْقُ وَحِمْصٌ وَقِنِّسْرِينُ هَكَذَا فَسَّرُوهُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِلَسْطِينَ اسْمٌ لِنَاحِيَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْأَرْدُنُّ اسْمٌ لِنَاحِيَةِ سِيَّانَ وَطَبَرِيةَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا وَلَا يَضُرُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (ادْعُ لِيَ الْمُهَاجِرِينَ(14/208)
الْأَوَّلِينَ فَدَعَا ثُمَّ دَعَا الْأَنْصَارَ ثُمَّ مَشْيَخَةَ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ) إِنَّمَا رَتَّبَهُمْ هَكَذَا عَلَى حَسَبِ فَضَائِلِهِمْ قَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مَنْ صَلَّى لِلْقِبْلَتَيْنِ فَأَمَّا مَنْ أَسْلَمَ بعد تحويل القبلة فلايعد فِيهِمْ قَالَ وَأَمَّا مُهَاجِرَةُ الْفَتْحِ فَقِيلَ هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْفَتْحِ فَحَصَلَ لَهُمْ فَضْلٌ بالهجرة قبل الفتح إذلاهجرة بَعْدَ الْفَتْحِ وَقِيلَ هُمْ مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ الَّذِينَ هَاجَرُوا بَعْدَهُ فَحَصَلَ لَهُمُ اسْمٌ دُونَ الْفَضِيلَةِ قال القاضي هذا أظهر لأنهم الذين ينطلق عليهم مشخة قُرَيْشٍ وَكَانَ رُجُوعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لرجحان طرف الرجوع لكثرة القائلين وَأَنَّهُ أَحْوَطُ وَلَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ تَقْلِيدٍ لِمُسْلِمَةِ الْفَتْحِ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَبَعْضَ الْأَنْصَارِ أَشَارُوا بِالرُّجُوعِ وَبَعْضَهُمْ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ وَانْضَمَّ إِلَى المشيرين بالرجوع رأى مشيخة قريش فكثر القائلين به مع مالهم مِنَ السِّنِّ وَالْخِبْرَةِ وَكَثْرَةِ التَّجَارِبِ وَسَدَادِ الرَّأْيِ وحجة الطائفين وَاضِحَةٌ مُبَيَّنَةٌ فِي الْحَدِيثِ وَهُمَا مُسْتَمَدَّانِ مِنْ أَصْلَيْنِ فِي الشَّرْعِ أَحَدُهُمَا التَّوَكُّلُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْقَضَاءِ والثانى الاحتياط الحذر ومجانبة أسبابالالقاء بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ إِنَّمَا رَجَعَ عُمَرُ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَمَا قَالَ مُسْلِمٌ هُنَا فِي رِوَايَتِهِ عَنِ بن شِهَابٍ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِنَّ عُمَرَ إِنَّمَا انْصَرَفَ بِالنَّاسِ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَمْ يكن ليرجع(14/209)
لِرَأْيٍ دُونَ رَأْيٍ حَتَّى يَجِدَ عِلْمًا وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ قَوْلُهُ (إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا) فَقَالُوا أَيْ مُسَافِرٌ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي قَصَدْنَاهَا أَوَّلًا لَا لِلرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ وَمَذْهَبٌ ضَعِيفٌ بَلِ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَوْ صَرِيحُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الرُّجُوعَ أَوَّلًا بِالِاجْتِهَادِ حِينَ رَأَى الْأَكْثَرِينَ عَلَى تَرْكِ الرُّجُوعِ مَعَ فَضِيلَةِ الْمُشِيرِينَ بِهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ ثُمَّ بَلَغَهُ حديث عبد الرحمن فحمدالله تَعَالَى وَشَكَرَهُ عَلَى مُوَافَقَةِ اجْتِهَادِهِ وَاجْتِهَادِ مُعْظَمِ أَصْحَابِهِ نَصَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا قول مسلم انه انما رَجَعَ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ سَالِمًا لَمْ يَبْلُغْهُ مَا كَانَ عُمَرُ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ الرُّجُوعِ قَبْلَ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَهُ ويحتمل أنه أراد لم يرجع الابعد حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ) هُوَ بِإِسْكَانِ الصاد فبهما أَيْ مُسَافِرٌ رَاكِبٌ عَلَى ظَهْرِ الرَّاحِلَةِ رَاجِعٌ إِلَى وَطَنِي فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ قَوْلُهُ (فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَهُ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لوكان لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطْتَ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِيبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِيبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ) أَمَّا الْعُدْوَةُ فَبِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ جَانِبُ الْوَادِي وَالْجَدْبَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ ضِدُّ الْخَصِيبَةِ وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ الْجَدْبَةُ هُنَا بِسُكُونِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا قَالَ وَالْخِصْبَةُ كَذَلِكَ أَمَّا قَوْلُهُ لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا ياأبا عُبَيْدَةَ فَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ وَفِي تَقْدِيرِهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ أَحَدُهُمَا لَوْ قَالَهُ غَيْرُكَ لَأَدَّبْتُهُ لِاعْتِرَاضِهِ عَلَيَّ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ وَافَقَنِي عَلَيْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَأَهْلُ الْحِلِّ وَالْعَقْدِ فيها والثاني(14/210)
لَوْ قَالَهَا غَيْرُكَ لَمْ أَتَعَجَّبْ مِنْهُ وَإِنَّمَا أَتَعَجَّبُ مِنْ قَوْلِكَ أَنْتَ ذَلِكَ مَعَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ عُمَرُ دَلِيلًا وَاضِحًا مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الذى لاشك فى صحبه وَلَيْسَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّ الرُّجُوعَ يَرُدُّ الْمَقْدُورَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْحَزْمِ وَمُجَانَبَةِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ كَمَا أَمَرَ سبحانه بِالتَّحَصُّنِ مِنْ سِلَاحِ الْعَدُوِّ وَتَجَنُّبِ الْمَهَالِكِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ وَاقِعٌ فَبِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهُ السَّابِقِ فِي عِلْمِهِ وَقَاسَ عُمَرُ عَلَى رَعْيِ الْعُدْوَتَيْنِ لكونه واضحا لاينازع فِيهِ أَحَدٌ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِمَسْأَلَةِ النِّزَاعِ قَوْلُهُ (أَكُنْتَ مُعَجِّزَهُ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ تَنْسُبُهُ إِلَى الْعَجْزِ مَقْصُودُ عُمَرَ أَنَّ الناس رعية لى استر عانيها اللَّهُ تَعَالَى فَيَجِبُ عَلِيَّ الِاحْتِيَاطُ لَهَا فَإِنْ تَرَكْتُهُ نُسِبْتُ إِلَى الْعَجْزِ وَاسْتَوْجَبْتُ الْعُقُوبَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (هَذَا الْمَحَلُّ أَوْ قَالَ هَذَا الْمَنْزِلُ) هُمَا بِمَعْنًى وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا والفتح أقبس فَإِنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ وَمُضَارِعُهُ يَفْعُلُ بِضَمِّ ثَالِثِهِ كَانَ مَصْدَرُهُ وَاسْمُ الزَّمَانِ والمكان منه مفعلا بالفتح كقعد يقعد مقعدا ونظائره إلاأحرفا شَذَّتْ جَاءَتْ بِالْوَجْهَيْنِ مِنْهَا الْمَحَلُّ قَوْلُهُ فِي الاسناد (عن مالك عن بن شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ كَذَا قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ مَعْمَرٌ وَيُونُسُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ على اختلافهم قَالَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ(14/211)
مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن الحارث وأما البخارى فلم يخرجه إلامن طَرِيقِ مَالِكٍ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا فَوَائِدَ كَثِيرَةً مِنْهَا خُرُوجُ الْإِمَامِ بِنَفْسِهِ فِي وِلَايَتِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِيُشَاهِدَ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ وَيُزِيلَ ظُلْمَ الْمَظْلُومِ وَيَكْشِفَ كَرْبَ الْمَكْرُوبِ وَيَسُدَّ خَلَّةَ الْمُحْتَاجِ وَيَقْمَعَ أَهْلَ الْفَسَادِ وَيَخَافَهُ أَهْلُ الْبَطَالَةِ وَالْأَذَى وَالْوُلَاةِ وَيَحْذَرُوا تَجَسُّسَهُ عَلَيْهِمْ وَوُصُولَ قَبَائِحِهِمْ إِلَيْهِ فَيَنْكُفُوا وَيُقِيمَ فِي رَعِيَّتِهِ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ وَيُؤَدِّبَ مَنْ رَآهُمْ مُخِلِّينَ بِذَلِكَ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ وَمِنْهَا تَلَقِّي الْأُمَرَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ الْإِمَامَ عِنْدَ قُدُومِهِ وَإِعْلَامُهُمْ إِيَّاهُ بِمَا حَدَثَ فِي بِلَادِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَوَبَاءٍ وَرُخْصٍ وَغَلَاءٍ وَشِدَّةٍ وَرَخَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ مُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي الْأُمُورِ الْحَادِثَةِ وَتَقْدِيمُ أَهْلِ السَّابِقَةِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا تَنْزِيلُ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ وَتَقْدِيمُ أَهْلِ الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَالِابْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْمَكَارِمِ وَمِنْهَا جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا كَمَا يَجُوزُ فِي الْأَحْكَامِ وَمِنْهَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمِنْهَا صِحَّةُ الْقِيَاسِ وَجَوَازُ الْعَمَلِ بِهِ وَمِنْهَا ابْتِدَاءُ الْعَالِمِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهَا اجْتِنَابُ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَمِنْهَا مَنْعُ الْقُدُومِ عَلَى الطَّاعُونِ وَمَنْعُ الْفِرَارِ منه والله أعلم(14/212)
(باب لاعدوى ولاطيرة ولاهامة ولاصفر ولانوء ولاغول ولايورد ممرض على مصح)
[2220] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أبى هريرة (لاعدوى ولا صفر ولاهامة فقال أعرابى يارسول اللَّهِ فَمَا بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَجِيءُ الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيُجْرِبُهَا كُلَّهَا قَالَ فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ) وَفِي روايةلاعدوى ولاطيرة ولاصفر ولاهامة
[2221] وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُحَدِّثُ بحديث لاعدوى وَيُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا أنه قال لايورد ممرض على مصحح ثُمَّ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ اقْتَصَرَ عَلَى رِوَايَةِ حديث لايورد ممرض على مصح وأمسك عن حديث لاعدوى فَرَاجِعُوهُ فِيهِ وَقَالُوا لَهُ إِنَّا سَمِعْنَاكَ تُحَدِّثُهُ فَأَبَى أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ الراوي عن أبى هريرة فلاأدرى أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَوْ نَسَخَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَهُمَا صَحِيحَانِ قَالُوا وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أن حديث لاعدوى الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَزْعُمُهُ وتعتقده أن المرض والعاهة تعدى بطبعها لابفعل الله تعالى وأما حديث لايورد(14/213)
مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ فَأُرْشِدَ فِيهِ إِلَى مُجَانَبَةِ مَا يَحْصُلُ الضَّرَرُ عِنْدَهُ فِي الْعَادَةِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْرِهِ فَنَفَى فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْعَدْوَى بِطَبْعِهَا وَلَمْ يَنْفِ حُصُولَ الضَّرَرِ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلِهِ وَأَرْشَدَ فِي الثَّانِي إِلَى الِاحْتِرَازِ مِمَّا يَحْصُلُ عِنْدَهُ الضَّرَرُ بِفِعْلِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَدَرِهِ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَصْحِيحِ الْحَدِيثَيْنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ ولايؤثر نسيان أبى هريرة لحديث لاعدوى لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ نِسْيَانَ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ الَّذِي رواه لايقدح فِي صِحَّتِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ ثَابِتٌ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وبن عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أن حديث لايورد ممرض على مصح منسوخ بحديث لاعدوى وَهَذَا غَلَطٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّسْخَ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعَذُّرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ بَلْ قَدْ جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا وَالثَّانِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ وَتَأَخُّرُ النَّاسِخِ وَلَيْسَ ذَلِكَ موجودا هنا وقال آخرون حديث لاعدوى عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ فَلَيْسَ لِلْعَدْوَى بَلْ لِلتَّأَذِّي بِالرَّائِحَةِ الكريهة وقبح صورته وصورة المجذوم والصواب ماسبق وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2220] (ولاصفر) فِيهِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا الْمُرَادُ تَأْخِيرُهُمْ تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ إِلَى صَفَرَ وَهُوَ النَّسِيءُ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وبهذا(14/214)
قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالثَّانِي أَنَّ الصَّفَرَ دَوَابٌّ فِي الْبَطْنِ وَهِيَ دُودٌ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي الْبَطْنَ دَابَّةً تَهِيجُ عِنْدَ الْجُوعِ وَرُبَّمَا قَتَلَتْ صَاحِبَهَا وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَرَاهَا أَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قال مطرف وبن وهب وبن حَبِيبٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَخَلَائِقُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَاوِي الْحَدِيثِ فَيَتَعَيَّنَ اعْتِمَادُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَذَا وَالْأَوَّلَ جَمِيعًا وَأَنَّ الصَّفَرَيْنِ جَمِيعًا باطلان لاأصل لهما ولاتصريح عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (ولاهامة) فيه تأويلان أحدهما أن العرب كانت تتشاءم باطامة وَهِيَ الطَّائِرُ الْمَعْرُوفُ مِنْ طَيْرِ اللَّيْلِ وَقِيلَ هِيَ الْبُومَةُ قَالُوا كَانَتْ إِذَا سَقَطَتْ عَلَى دار أحدهم رآها ناعية له نفسه أوبعض أَهْلِهِ وَهَذَا تَفْسِيرُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالثَّانِي أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ عِظَامَ الْمَيِّتِ وَقِيلَ رُوحُهُ تَنْقَلِبُ هَامَةً تَطِيرُ وَهَذَا تَفْسِيرُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا بَاطِلَانِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْطَالَ ذَلِكَ وَضَلَالَةَ(14/215)
الجاهلية فيما تعتقده من ذلك والهامة بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي لَمْ يَذْكُرُ الْجُمْهُورُ غَيْرَهُ وَقِيلَ بِتَشْدِيدِهَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ الْإِمَامِ فِي اللغة قوله صلى الله عليه وسلم (ولانوء) أى لاتقولوا مطرنا بنوء كذا ولاتعتقدوه وَسَبَقَ شَرْحُهُ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
[2222] (ولاغول) قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الغيلان(14/216)
فِي الْفَلَوَاتِ وَهِيَ جِنْسٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَتَتَرَاءَى للناس وتتغول تَغَوُّلًا أَيْ تَتَلَوَّنُ تَلَوُّنًا فَتُضِلُّهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ فتهلكهم فأبطل النبى صلىالله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ وَقَالَ آخَرُونَ لَيْسَ الْمُرَادُ بالحديث نفي وجود الغول وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِبْطَالُ مَا تَزْعُمُهُ الْعَرَبُ مِنْ تَلَوُّنِ الْغُولِ بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ وَاغْتِيَالِهَا قَالُوا وَمَعْنَى لاغول أى لاتستطيع أَنْ تَضِلَّ أَحَدًا وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثٌ آخَرُ لاغول وَلَكِنِ السَّعَالِيَ قَالَ الْعُلَمَاءُ السَّعَالِي بِالسِّينِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُمْ سَحَرَةُ الْجِنِّ أَيْ وَلَكِنْ فِي الْجِنِّ سَحَرَةٌ لَهُمْ تَلْبِيسٌ وَتَخَيُّلٌ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إِذَا تَغَوَّلَتِ الْغِيلَانُ فَنَادُوا بِالْأَذَانِ أَيِ ارْفَعُوا شَرَّهَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ أَصْلِ وُجُودِهَا وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ كَانَ لِي تَمْرٌ فِي سَهْوَةٍ وَكَانَتِ الْغُولُ تَجِيءُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَعِيرَ الْأَوَّلَ الَّذِي جرد من أجر به أى وأنتم تعملون تعترفون أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ ذَلِكَ من غير ملاصقة لبعير أجرب فاعملوا أَنَّ الْبَعِيرَ الثَّانِي وَالثَّالِثَ وَمَا بَعْدَهُمَا إِنَّمَا جرب بفعل الله تعالى وإرادته لابعدوى تُعْدِي بِطَبْعِهَا وَلَوْ كَانَ الْجَرَبُ بِالْعَدْوَى بِالطَّبَائِعِ لَمْ يَجْرَبِ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ الْمُعْدِي فَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ فِي الْعَدْوَى بطبعها قوله صلى الله عليه وسلم (لايورد مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ) قَوْلُهُ يُورِدُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْمُمْرِضُ وَالْمُصِحُّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالصَّادِ وَمَفْعُولُ يُورِدُ محذوف أى لايورد إِبِلَهُ الْمِرَاضَ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُمْرِضُ صَاحِبُ الْإِبِلِ الْمِرَاضِ وَالْمُصِحُّ صَاحِبُ الْإِبِلِ الصِّحَاحِ فَمَعْنَى الْحَدِيثِ لايورد صَاحِبُ الْإِبِلِ الْمِرَاضِ إِبِلَهُ عَلَى إِبِلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الصِّحَاحِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَصَابَهَا الْمَرَضُ بِفِعْلِ الله تعال وقدره الذى أجرى به العادة لابطبعها فَيَحْصُلُ لِصَاحِبِهَا ضَرَرٌ بِمَرَضِهَا وَرُبَّمَا حَصَلَ لَهُ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ بِاعْتِقَادِ الْعَدْوَى بِطَبْعِهَا فيكفر والله أعلم قوله (كان أبو هرير يُحَدِّثُهُمَا كِلْتَيْهِمَا) كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ كِلْتَيْهِمَا بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ مَجْمُوعَتَيْنِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الكلمتين أو القصتين أو المألتين وَنَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ (قَالَ(14/217)
أَبُو الزُّبَيْرِ هَذِهِ الْغُولُ الَّتِي تَغَوَّلُ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا قَالَ أَبُو الزبير وكذا نقله القاضي عن الجمهور قال وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ أَحَدُ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ (أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الصَّفَرِ هِيَ دَوَابُّ الْبَطْنِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا دَوَابُّ بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْجُمْهُورِ قَالَ وَفِي رِوَايَةِ الْعُذْرِيِّ ذَوَاتُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ وَلَهُ وَجْهٌ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الْمَعْرُوفَ هُوَ الْأَوَّلُ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وسلم لاعدوى فَقِيلَ هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ أو يعتقد وقيل هو خبر أى لاتقع عدوى بطبعها
(باب الطيره والفأل ومايكون فيه الشُّؤْمِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2223] (لَا طيرة وخيرها الفأل) قيل يارسول اللَّهِ وَمَا الْفَأْلُ قَالَ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ الصَّالِحَةُ يسمعها أحدكم
[2224] وفى رواية لاطيرة وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ
[2223] وَفِي رِوَايَةٍ وَأُحِبُّ الْفَأْلَ الصَّالِحَ أَمَّا الطِّيَرَةُ فَبِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى وَزْنِ الْعِنَبَةِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَكُتُبِ اللغة والغريب وحكى القاضي وبن الأثير أن منهم من سكنالياء وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ قَالُوا وَهِيَ مَصْدَرُ تَطَيَّرَ طِيَرَةً قالوا ولم يجيء فى المصادر على هذا الوزن إلاتطير طِيَرَةً وَتَخَيَّرَ خِيَرَةً بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَجَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ حَرْفَانِ وَهُمَا شَيْءٌ طِيَبَةٌ أَيْ طَيِّبٌ والتولة بكسرالتاء الْمُثَنَّاةِ وَضَمِّهَا وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ السِّحْرِ وَقِيلَ يشبه السحر وقال الأصمعى هو ماتتحبب به المرأة إلى زوجها والتطير التشاءم وَأَصْلُهُ الشَّيْءُ الْمَكْرُوهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ مَرْئِيٍّ وَكَانُوا يَتَطَيَّرُونَ بِالسَّوَانِحِ وَالْبَوَارِحِ فَيُنَفِّرُونَ الظِّبَاءَ وَالطُّيُورَ فَإِنْ أَخَذَتْ ذَاتَ الْيَمِينِ تَبَرَّكُوا بِهِ وَمَضَوْا فِي سَفَرِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ وَإِنْ(14/218)
أَخَذَتْ ذَاتَ الشِّمَالِ رَجَعُوا عَنْ سَفَرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَتَشَاءَمُوا بِهَا فَكَانَتْ تَصُدُّهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ عَنْ مَصَالِحِهِمْ فَنَفَى الشَّرْعُ ذَلِكَ وَأَبْطَلَهُ وَنَهَى عَنْهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ بنفع ولاضر فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاطيرة وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ أَيِ اعْتِقَادُ أَنَّهَا تَنْفَعُ أَوْ تَضُرُّ إِذْ عَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا معتقدين تأثيرها فهو شركلأنهم جَعَلُوا لَهَا أَثَرًا فِي الْفِعْلِ وَالْإِيجَادِ وَأَمَّا الْفَأْلُ فَمَهْمُوزٌ وَيَجُوزُ تَرْكُ هَمْزِهِ وَجَمْعُهُ فُؤُولٌ كَفَلْسٍ وَفُلُوسٍ وَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ الصَّالِحَةِ وَالْحَسَنَةِ وَالطَّيِّبَةِ قَالَ العلماء يكون الفأل فيما يسروفيما يسوء والغالب فى السرور والطيرة ولايكون إلافيما يَسُوءُ قَالُوا وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي السُّرُورِ يُقَالُ تَفَاءَلْتُ بِكَذَا بِالتَّخْفِيفِ وَتَفَأَّلْت بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْأَوَّلُ مُخَفَّفٌ مِنْهُ وَمَقْلُوبٌ عَنْهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا أُحِبُّ الْفَأْلَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَمَلَ فَائِدَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلَهُ عِنْدَ سَبَبٍ قَوِيٍّ أَوْ ضَعِيفٍ فَهُوَ(14/219)
عَلَى خَيْرٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ غَلِطَ فِي جهة الرجاء فالرجاءله خَيْرٌ وَأَمَّا إِذَا قَطَعَ رَجَاءَهُ وَأَمَلَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ شَرٌّ لَهُ وَالطِّيَرَةُ فِيهَا سُوءُ الظَّنِّ وَتَوَقُّعُ الْبَلَاءِ وَمَنْ أَمْثَالِ التَّفَاؤُلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَرِيضٌ فَيَتَفَاءَلُ بِمَا يَسْمَعُهُ فَيَسْمَعُ مَنْ يَقُولُ يَا سَالِمُ أَوْ يَكُونُ طَالِبَ حَاجَةٍ فَيَسْمَعُ مَنْ يَقُولُ يَا وَاجِدُ فَيَقَعُ فِي قَلْبِهِ رَجَاءُ الْبُرْءِ أَوِ الْوِجْدَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2225] (الشُّؤْمُ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ) وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالدَّارِ وَفِي
[2226] رِوَايَةٍ إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَرْأَةِ
[2227] وَفِي رِوَايَةٍ إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الرَّبْعِ وَالْخَادِمِ وَالْفَرَسِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنَّ الدَّارَ قَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى(14/220)
سُكْنَاهَا سَبَبًا لِلضَّرَرِ أَوِ الْهَلَاكِ وَكَذَا اتِّخَاذُ الْمَرْأَةِ الْمُعَيَّنَةِ أَوِ الْفَرَسِ أَوِ الْخَادِمِ قَدْ يَحْصُلُ الْهَلَاكُ عِنْدَهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَاهُ قَدْ يَحْصُلُ الشُّؤْمُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ إِنْ يَكُنِ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَكَثِيرُونَ هُوَ فِي معنى الاستثناء من الطيرةأى الطِّيَرَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ دار يكره سكناها أوامرأة يكره صحبتها أو فرس أوخادم فَلْيُفَارِقِ الْجَمِيعَ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَقَالَ آخَرُونَ شُؤْمُ الدَّارِ ضِيقُهَا وَسُوءُ جِيرَانِهَا وَأَذَاهُمْ وَشُؤْمُ الْمَرْأَةِ عَدَمُ وِلَادَتِهَا(14/221)
وَسَلَاطَةُ لِسَانِهَا وَتَعَرُّضُهَا لِلرَّيْبِ وَشُؤْمُ الْفَرَسِ أَنْ لايغزى عَلَيْهَا وَقِيلَ حِرَانُهَا وَغَلَاءُ ثَمَنِهَا وَشُؤْمُ الْخَادِمِ سوءخلقه وَقِلَّةُ تَعَهُّدِهِ لِمَا فُوِّضَ إِلَيْهِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالشُّؤْمِ هُنَا عَدَمُ الْمُوَافَقَةِ وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ بحديث لاطيرة على هذا فأجاب بن قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ مِنْ حَدِيثِ لَا طِيَرَةَ إِلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْفُصُولِ السابقة فى الأحاديث ثلاثة أقسام أحدها مالم يَقَعِ الضَّرَرُ بِهِ وَلَا اطَّرَدَتْ عَادَةٌ خَاصَّةٌ ولاعامة فهذا لايلتفت إِلَيْهِ وَأَنْكَرَ الشَّرْعُ الِالْتِفَاتَ إِلَيْهِ وَهُوَ الطِّيَرَةُ والثانى ما يقع عنده الضرر عموما الايخصه وزاد لامتكرا كالو باء فلايقدم عليه ولايخرج مِنْهُ وَالثَّالِثُ مَا يَخُصُّ وَلَا يَعُمُّ كَالدَّارِ وَالْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ فَهَذَا يُبَاحُ الْفِرَارُ مِنْهُ وَاللَّهُ أعلم(14/222)
(باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[537] (فَلَا تَأْتُوا الكهان) وفى رواية سئل عنالكهان فَقَالَ لَيْسُوا بِشَيْءٍ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَتِ الْكِهَانَةُ فِي الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أَضْرِبٍ أَحَدُهَا يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ وَلِيٌّ مِنَ الْجِنِّ يُخْبِرُهُ بِمَا يَسْتَرِقُهُ مِنَ السَّمْعِ مِنَ السَّمَاءِ وَهَذَا الْقِسْمُ بَطَلَ مِنْ حِينِ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي أَنْ يُخْبِرَهُ بِمَا يَطْرَأُ أَوْ يَكُونُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَمَا خَفِيَ عَنْهُ مِمَّا قَرُبَ أَوْ بَعُدَ وَهَذَا لَا يَبْعُدُ وُجُودُهُ وَنَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ هذين الضربين وأحالوهما ولااستحالة فى ذلك ولابعد فِي وُجُودِهِ لَكِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ وَيُكَذِّبُونَ وَالنَّهْيُ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ وَالسَّمَاعِ مِنْهُمْ عَامٌّ الثَّالِثُ الْمُنَجِّمُونَ وَهَذَا الضَّرْبُ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ لِبَعْضِ النَّاسِ قُوَّةً مَا لَكِنَّ الْكَذِبَ فِيهِ أَغْلَبُ وَمِنْ هَذَا الْفَنِّ الْعِرَافَةُ وَصَاحِبُهَا عَرَّافٌ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَدِلُّ عَلَى الْأُمُورِ بِأَسْبَابٍ وَمُقَدِّمَاتٍ يَدَّعِي مَعْرِفَتَهَا بِهَا وَقَدْ يَعْتَضِدُ بَعْضُ هَذَا الْفَنُّ بِبَعْضٍ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ وَالطُّرُقِ وَالنُّجُومِ وَأَسْبَابٍ مُعْتَادَةٍ وَهَذِهِ الْأَضْرُبُ كُلُّهَا تُسَمَّى كِهَانَةً وَقَدْ أَكْذَبَهُمْ كُلَّهُمُ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْ تَصْدِيقِهِمْ وَإِتْيَانِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (ليسوا بشئ) فمعناه بطلان قولهم وأنه لاحقيقة لَهُ وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ماكان باطلا قوله (كما نَتَطَيَّرُ قَالَ ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نفسه فلايصدنكم) مَعْنَاهُ أَنَّ كَرَاهَةَ ذَلِكَ تَقَعُ فِي نُفُوسِكُمْ فى العادة ولكن لاتلتفتوا إليه ولاترجعوا عَمَّا كُنْتُمْ عَزَمْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ هَذَا وَقَدْ صح(14/223)
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال ذكرت الطيرة عندرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ وَلَا يَرُدُّ مُسْلِمًا فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مايكره فليقل اللهم لايأتى بالحسنات إلا أنت ولايدفع السيئات إلاأنت ولاحول ولاقوة إلابك رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2228] (كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يخط فمن وافق خطه فذلك) هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تِلْكَ الْكَلِمَةُ الْحَقُّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقْذِفُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ وَيَزِيدُ فِيهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ) أَمَّا يَخْطَفُهَا فَبِفَتْحِ الطَّاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ وَفِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ كَسْرُهَا وَمَعْنَاهُ اسْتَرَقَهُ وَأَخَذَهُ بِسُرْعَةٍ وَأَمَّا الْكَذْبَةُ فَبِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَالذَّالُ سَاكِنَةٌ فيهما قال القاضي وأنكربعضهم الكسر(14/224)
إذا أراد الحالة والهيئة وليس هذاموضعها وَمَعْنَى يَقْذِفُهَا يُلْقِيهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ يَخْطَفُهَا فَيَقُرُّهَا فى أذن وليه قرالدجاجة) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِبِلَادِنَا الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ أَيِ الْكَلِمَةُ الْمَسْمُوعَةُ مِنَ الْجِنِّ أَوِ الَّتِي تَصِحُّ مِمَّا نَقَلَتْهُ الْجِنُّ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ أَنَّهُ رُوِيَ هَكَذَا وَرُوِيَ أَيْضًا مِنَ الْحَقِّ بِالْحَاءِ وَالْقَافِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَيَقُرُّهَا فَهُوَ بِفَتْحِ الياء وضم القاف وتشديد الراء وقر الدَّجَاجَةِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّجَاجَةُ بِالدَّالِ الدَّجَاجَةُ(14/225)
المعروفة قال أهل اللغة والغريبالقر تَرْدِيدُ الْكَلَامِ فِي أُذُنِ الْمُخَاطَبِ حَتَّى يَفْهَمَهُ يَقُولُ قَرَرْتُهُ فِيهِ أَقُرُّهُ قَرًّا وَقَرُّ الدَّجَاجَةِ صَوْتُهَا إِذَا قَطَّعَتْهُ يُقَالُ قَرَّتْ تَقُرُّ قَرًّا وَقَرِيرًا فَإِنْ رَدَّدَتْهُ قُلْتُ قَرْقَرَتْ قَرْقَرَةً قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْجِنِّيَّ يَقْذِفُ الْكَلِمَةَ إِلَى وَلِيِّهِ الْكَاهِنِ فَتَسْمَعُهَا الشَّيَاطِينُ كَمَا تُؤْذِنُ الدَّجَاجَةُ بِصَوْتِهَا صَوَاحِبَهَا فَتَتَجَاوَبُ قَالَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهِيَ أَنْ تَكَوُّنَ الرِّوَايَةُ كَقَرِّ الزُّجَاجَةِ تَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِهِ كَمَا تَقُرُّ الْقَارُورَةُ قَالَ فَذِكْرُ الْقَارُورَةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الرِّوَايَةِ بِالزُّجَاجَةِ قَالَ الْقَاضِي أَمَّا مُسْلِمٌ فَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَةُ فِيهِ أَنَّهُ الدَّجَاجَةُ بِالدَّالِ لَكِنَّ رِوَايَةُ الْقَارُورَةِ تُصَحِّحُ الزُّجَاجَةَ قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ يَكُونَ لِمَا يلقيه إلى وليه حس كحس القارورة عندتحريكها مع اليدأو عَلَى صَفَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَةِ صالح عن بن شِهَابٍ
[2229] (وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ) هَذِهِ اللَّفْظَةُ ضَبَطُوهَا مِنْ رِوَايَةِ صَالِحٍ(14/226)
عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالرَّاءِ وَالثَّانِي بِالذَّالِ وَوَقَعَ فى رواية الأوزاعى وبن مَعْقِلٍ الرَّاءُ بِاتِّفَاقِ النُّسَخِ وَمَعْنَاهُ يَخْلِطُونَ فِيهِ الْكَذِبَ وَهُوَ بِمَعْنَى يَقْذِفُونَ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ يَرْقَوْنَ قَالَ الْقَاضِي ضَبَطْنَاهُ عَنْ شُيُوخِنَا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ قَالَ فِي الْمَشَارِقِ قَالَ بَعْضُهُمْ صَوَابُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ قَالَ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ قَالَ وَمَعْنَاهُ مَعْنَى يَزِيدُونَ يُقَالُ رَقِيَ فُلَانٌ إِلَى الْبَاطِلِ بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ رَفَعَهُ وَأَصْلُهُ من الصعود أى يدعون فيها فوق ماسمعوا قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ يَصِحُّ الرِّوَايَةُ الْأَوْلَى عَلَى تَضْعِيفِ هَذَا الْفِعْلِ وَتَكْثِيرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2230] (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أَمَّا الْعَرَّافُ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْكُهَّانِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ الْعَرَّافُ هُوَ الَّذِي يَتَعَاطَى مَعْرِفَةَ مَكَانِ الْمَسْرُوقِ وَمَكَانَ الضَّالَّةِ وَنَحْوِهِمَا وَأَمَّا عَدَمُ قَبُولِ صلاته فمعناه أنه لاثواب لَهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الفرض عنه ولايحتاج مَعَهَا إِلَى إِعَادَةٍ وَنَظِيرُ هَذِهِ الصَّلَاةُ فِي الأرض المغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لاثواب فِيهَا كَذَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا قَالُوا فَصَلَاةُ الْفَرْضِ وَغَيْرُهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ إِذَا أُتِيَ بِهَا على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان سقوطالفرض عَنْهُ وَحُصُولُ الثَّوَابِ فَإِذَا أَدَّاهَا فِي أَرْضٍ مغصوبة حصل الأول دون الثانى ولابدمن هَذَا التَّأْوِيلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ متفقون على أنه لايلزم مَنْ أَتَى الْعَرَّافَ إِعَادَةُ صَلَوَاتِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(14/227)
(بَاب اجْتِنَابِ الْمَجْذُومِ وَنَحْوِهِ)
قَوْلُهُ
[2231] (كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ) هَذَا مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ لاعدوى وأنه غير مخالف لحديث لايورد مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ قَالَ الْقَاضِي قَدِ اخْتَلَفَ الْآثَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْمَجْذُومِ فَثَبَتَ عَنْهُ الْحَدِيثَانِ الْمَذْكُورَانِ وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ وَقَالَ لَهُ كُلْ ثقة بالله وتوكلاعليه وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَوْلًى مَجْذُومٌ فَكَانَ يَأْكُلُ فِي صِحَافِي وَيَشْرَبُ فِي أَقْدَاحِي وَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِي قَالَ وَقَدْ ذَهَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ إِلَى الْأَكْلِ مَعَهُ وَرَأَوْا أَنَّ الْأَمْرَ بِاجْتِنَابِهِ مَنْسُوخٌ وَالصَّحِيحُ الَّذِي قاله الأكثرون ويتعين المصير إليه أنه لانسخ بَلْ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَحَمْلُ الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِهِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاحْتِيَاطِ لَا لِلْوُجُوبِ وَأَمَّا الْأَكْلُ مَعَهُ فَفَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا وَجَدَتْ زَوْجَهَا مَجْذُومًا أَوْ حَدَثَ بِهِ جُذَامٌ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ مَالِكٍ فِي أَنَّ أَمَتَهُ هَلْ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا مِنَ اسْتِمْتَاعِهِ إِذَا أَرَادَهَا قَالَ الْقَاضِي قَالُوا وَيُمْنَعُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَالِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ قَالَ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ إِذَا كَثُرُوا هَلْ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَوْضِعًا مُنْفَرِدًا خَارِجًا عَنِ النَّاسِ وَلَا يُمْنَعُوا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِهِمْ وَعَلَيْهِ أكثر الناس أم لايلزمهم التَّنَحِّي قَالَ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْقَلِيلِ مِنْهُمْ في أنهم لايمنعون قال ولايمنعون مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَعَ النَّاسِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ غيرها قال ولو استضر أهل قرية فِيهِمْ جَذْمَى بِمُخَالَطَتِهِمْ فِي الْمَاءِ فَإِنْ قَدَرُوا على استنباط ماء بلاضرر أُمِرُوا بِهِ وَإِلَّا اسْتَنْبَطَهُ لَهُمُ الْآخَرُونَ أَوْ اقاموا من يستقى لهم والا فلايمنعون والله أعلم(14/228)
(كتاب قَتْلِ الْحَيَّاتِ وَغَيْرِهَا)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
[2233] (اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبترفانهما يَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ وَيَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ بن عُمَرَ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ فَكُنْتُ لاأترك حَيَّةً أَرَاهَا إِلَّا قَتَلْتُهَا فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حية يوما من ذوات البيوت مربى زيد بن الخطاب أوأبو لُبَابَةَ وَأَنَا أُطَارِدُهَا فَقَالَ مَهْلًا يَا عَبْدَ اللَّهِ فَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ بِقَتْلِهِنَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قدنهى عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى عَنْ قَتْلِ الْجِنَانِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ قَتَلَ حَيَّةً فِي بَيْتِهِ فَمَاتَ فِي الْحَالِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ لِهَذِهِ البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فخرجوا عليها ثلاثا فان ذهب والافاقتلوه فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ(14/229)
بغار مني قال المازري لاتقتل حَيَّاتُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلابانذارها كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَإِذَا أَنْذَرَهَا وَلَمْ تَنْصَرِفْ قَتَلَهَا وَأَمَّا حَيَّاتُ غَيْرِ الْمَدِينَةِ فىجميع الْأَرْضِ وَالْبُيُوتِ وَالدُّورِ فَيُنْدَبُ قَتْلُهَا مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الْأَمْرِ بِقَتْلِهَا فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ مِنْهَا الْحَيَّةُ وَلَمْ يَذْكُرْ إِنْذَارًا وَفِي حَدِيثِ الْحَيَّةُ الْخَارِجَةُ بِمِنًى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقتلها ولم يذكر أَنْذَرُوهَا قَالُوا فَأَخَذَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي اسْتِحْبَابِ قَتْلِ الْحَيَّاتِ مُطْلَقًا وَخُصَّتِ الْمَدِينَةُ بِالْإِنْذَارِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا وَسَبَبُهُ صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَسْلَمَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجِنِّ بِهَا وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى عُمُومِ النَّهْيِ فِي حَيَّاتِ الْبُيُوتِ بِكُلِّ بَلَدٍ حَتَّى تُنْذَرَ وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِي الْبُيُوتِ فَيُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ قَالَ مَالِكٌ يُقْتَلُ مَا وُجِدَ مِنْهَا فِي الْمَسَاجِدِ قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ مُطْلَقًا مَخْصُوصٌ بِالنَّهْيِ عَنْ جنان البيوت إلاالأبتر وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَا فِي الْبُيُوتِ أَمْ غَيْرِهَا وَإِلَّا ماظهر مِنْهَا بَعْدَ الْإِنْذَارِ قَالَ وَيُخَصُّ مِنَ النَّهْيِ عن قتل جنان البيوت الأبتر وذوالطفيتين وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا صِفَةُ الْإِنْذَارِ فَقَالَ الْقَاضِي روى بن حَبِيبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُولُ أَنْشُدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ سليمان بن داود أن لاتؤذنا ولاتظهرن لنا وقال مالك يكفى أن يقول أخرج عليك بالله واليوم الآخر أن لاتبدو لَنَا وَلَا تُؤْذِيَنَا وَلَعَلَّ مَالِكًا أَخَذَ لَفْظَ التحريج مما وقع فى صحيح مسلم فخرجوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذَا الطُّفْيَتَيْنِ) هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ قَالَ الْعُلَمَاءُ هُمَا الْخَطَّانِ الْأَبْيَضَانِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ وَأَصْلُ الطُّفْيَةِ خُوصَةُ الْمُقَلِ وَجَمْعُهَا طُفًى شِبْهُ الْخَطَّيْنِ عَلَى ظَهْرِهَا بخوصتى المقل وأما الأبترفهو قَصِيرُ الذَّنَبِ وَقَالَ نَضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ هُوَ صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لاتنظر إليه حامل إلا ألقت مافى بَطْنِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحَامِلَ إِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهِمَا وَخَافَتْ أَسْقَطَتِ الْحَمْلَ غَالِبًا وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ يُرَى ذَلِكَ مِنْ سُمِّهِمَا وَأَمَّا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ ذَكَرَهُمَا الْخَطَّابِيُّ وَآخَرُونَ أَحَدُهُمَا مَعْنَاهُ يَخْطَفَانِ الْبَصَرَ وَيَطْمِسَانِهِ بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمَا إِلَيْهِ لِخَاصَّةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي بَصَرَيْهِمَا إِذَا وَقَعَ عَلَى بَصَرِ الْإِنْسَانِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى فِي مُسْلِمٍ يَخْطَفَانِ الْبَصَرَ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى يَلْتَمِعَانِ الْبَصَرَ وَالثَّانِي أَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ الْبَصَرَ بِاللَّسْعِ وَالنَّهْشِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَفِي الْحَيَّاتِ نَوْعٌ يُسَمَّى النَّاظِرُ إِذَا وَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى عين انسان(14/230)
مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (يُطَارِدُ حَيَّةً) أَيْ يَطْلُبُهَا وَيَتَتَبَّعُهَا لِيَقْتُلَهَا قَوْلُهُ (نَهَى عن قتل(14/231)
الْجِنَانِ) هُوَ بِجِيمٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ مَفْتُوحَةٍ وَهِيَ الْحَيَّاتُ جَمْعُ جَانٍّ وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ الدَّقِيقَةُ الْخَفِيفَةُ وَقِيلَ الدَّقِيقَةُ الْبَيْضَاءُ قَوْلُهُ (يَفْتَحُ خَوْخَةً) هِيَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَهِيَ كَوَّةٌ بَيْنَ دَارَيْنِ أَوْ بَيْتَيْنِ(14/232)
يَدْخُلُ مِنْهَا وَقَدْ تَكُونُ فِي حَائِطٍ مُنْفَرِدٍ قوله صلى الله عليه وسلم (ويتتبعان مافى بُطُونِ النِّسَاءِ) أَيْ يُسْقِطَانِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الرِّوَايَاتِ الْبَاقِيَةِ عَلَى مَا سَبَقَ شَرْحُهُ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ التَّتَبُّعَ مَجَازًا وَلَعَلَّ فِيهِمَا طَلَبًا لِذَلِكَ جعله الله تعالى خَصِيصَةً فِيهِمَا قَوْلُهُ (عِنْدَ الْأُطُمِ) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْقَصْرُ وَجَمْعُهُ آطَامٌ(14/233)
كَعُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ قَوْلُهُ
[2235] (أَمَرَ مُحْرِمًا بِقَتْلِ حَيَّةٍ بِمِنًى) فِيهِ جَوَازُ قَتْلِهَا لِلْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ وأنه لاينذرها فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ وَأَنَّ قَتْلَهَا مُسْتَحَبٌّ قَوْلُهُ
[2236] (فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الِاسْتِئْذَانُ امْتِثَالٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه وأنصاف النَّهَارِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ مُنْتَصَفُهُ وَكَأَنَّهُ وَقْتٌ لِآخِرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَأَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي فَجَمْعُهُ كَمَا قَالُوا ظُهُورُ التُّرْسَيْنِ وَأَمَّا رُجُوعُهُ إِلَى أهله فلطالع حَالَهُمْ وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُمْ وَيُؤْنِسَ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا كَانَتْ عَرُوسًا كَمَا ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ(14/234)
صلى الله عليه وسلم (فأذنوا ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ) قَالَ الْعُلَمَاءُ(14/235)
مَعْنَاهُ وَإِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِالْإِنْذَارِ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ ليس من عوامر البيوت ولاممن أسلم من الجن بل هو شيطان فلاحرمة عَلَيْكُمْ فَاقْتُلُوهُ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ سَبِيلًا لِلِانْتِصَارِ عَلَيْكُمْ بِثَأْرِهِ بِخِلَافِ الْعَوَامِرِ وَمَنْ أَسْلَمَ والله أعلم
(باب استحباب قتل الوزغ)
قَوْلُهَا
[2237] (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِقَتْلِ الْأَوْزَاغِ) وَفِي رِوَايَةٍ
[2238]
[2239] أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا وَفِي رِوَايَةٍ
[2240] مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً لِدُونِ الْأُولَى وَإِنْ قَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الثَّالِثَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً لِدُونِ الثَّانِيَةِ وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ قَتَلَ وَزَغًا فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَفِي الثَّانِيَةِ دُونَ ذَلِكَ وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةٍ فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ سَبْعِينَ حسنة قال أهل اللغة الوزغ وسام أَبْرَصُ جِنْسٌ فَسَامٌّ أَبْرَصُ هُوَ كِبَارُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَزَغَ مِنَ الْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَاتِ وَجَمْعُهُ أَوْزَاغٌ وَوِزْغَانٌ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ وَحَثَّ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُؤْذِيَاتِ وَأَمَّا سَبَبُ تَكْثِيرِ الثَّوَابِ فِي قَتْلِهِ بِأَوَّلِ ضَرْبَةٍ ثُمَّ مَا يَلِيهَا فَالْمَقْصُودُ بِهِ الْحَثُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِقَتْلِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ وتحريس(14/236)
قَاتِلِهِ عَلَى أَنْ يَقْتُلَهُ بِأَوَّلِ ضَرْبَةٍ فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرَبَاتٍ رُبَّمَا انْفَلَتَ وَفَاتَ قَتْلُهُ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ فُوَيْسِقًا فَنَظِيرُهُ الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ الَّتِي تُقْتَلُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَأَصْلُ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ وَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ خَرَجَتْ عَنْ خَلْقِ مُعْظَمِ الْحَشَرَاتِ وَنَحْوِهَا بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ وَالْأَذَى وَأَمَّا تَقْيِيدُ الْحَسَنَاتِ فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى بِمِائَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ بِسَبْعِينَ فَجَوَابُهُ مِنْ أَوْجُهٍ سَبَقَتْ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَفِي رِوَايَاتٍ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَحَدُهَا أَنَّ هَذَا مَفْهُومٌ للعدد ولايعمل به عند الأصوليين غيرهم فذكر سبعين لايمنع المائة فلا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا الثَّانِي لَعَلَّهُ أَخْبَرَنَا بِسَبْعِينَ ثُمَّ تَصَدَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بِالزِّيَادَةِ فَأَعْلَمَ بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَوْحَى إِلَيْهِ بعد ذلك(14/237)
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قَاتِلِي الْوَزَغِ بِحَسَبِ نياتهم واخلاصهم ويقال أَحْوَالِهِمْ وَنَقْصِهَا فَتَكُونُ الْمِائَةُ لِلْكَامِلِ مِنْهُمْ وَالسَّبْعِينَ لِغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصباح حدثنا إسماعيل يعنى بن زَكَرِيَّا عَنْ سُهَيْلٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي أُخْتِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ أُخْتِي وَفِي بَعْضِهَا أَخِي بِالتَّذْكِيرِ وَفِي بَعْضِهَا أَبِي وَذَكَرَ الْقَاضِي الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ قَالُوا وَرِوَايَةُ أَبِي خَطَأٌ وَهِيَ الْوَاقِعَةُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ بَاهَانَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي داود أخى أوأختى قَالَ الْقَاضِي أُخْتُ سُهَيْلٍ سَوْدَةُ وَأَخَوَاهُ هِشَامٌ وَعَبَّادٌ
(بَاب النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّمْلِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2241] (أَنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ(14/238)
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ وَفِي رِوَايَةٍ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ ذَلِكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِ جَوَازُ قَتْلِ النَّمْلِ وَجَوَازُ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَلَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ بَلْ فِي الزِّيَادَةِ على نملة واحدة قوله تعالى فهلانملة واحدة فَهَلَّا عَاقَبْتَ نَمْلَةً وَاحِدَةً هِيَ الَّتِي قَرَصَتْكَ لِأَنَّهَا الْجَانِيَةُ وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلَيْسَ لَهَا جِنَايَةٌ وأما فى شرعنا فلايجوز الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ لِلْحَيَوَانِ إِلَّا إِذَا أَحْرَقَ إِنْسَانًا فَمَاتَ بِالْإِحْرَاقِ فَلِوَلِيِّهِ الِاقْتِصَاصُ بِإِحْرَاقِ الْجَانِي وَسَوَاءٌ فِي مَنْعِ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ الْقَمْلُ وَغَيْرُهُ لِلْحَدِيثِ المشهور لايعذب بِالنَّارِ إِلَّا اللَّهُ وَأَمَّا قَتْلُ النَّمْلِ فَمَذْهَبُنَا أنه لايجوز واحتج أصحابنا فيه بحديث بن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ) وَفِي رِوَايَةٍ فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرَةِ أَمَّا قَرْيَةُ النَّمْلِ فَهِيَ مَنْزِلُهُنَّ وَالْجَهَازُ بفتح الجيم وكسرها وهو المتاع(14/239)
(باب تحريم قتل الهرة)
[2242]
[2243] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ) فى رِوَايَةٍ رَبَطَتْهَا وَفِي رِوَايَةٍ تَأْكُلُ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ مَعْنَاهُ عُذِّبَتْ بِسَبَبِ هِرَّةٍ وَمَعْنَى دَخَلَتْ فيها أى بسببها وخشاش الْأَرْضِ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا حَكَاهُنَّ فِي الْمَشَارِقِ الْفَتْحُ أَشْهَرُ وَرُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالصَّوَابُ الْمُعْجَمَةُ وَهِيَ هَوَامُّ الْأَرْضِ وَحَشَرَاتُهَا كَمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِتَحْرِيمِ قَتْلِ الْهِرَّةِ وَتَحْرِيمِ حَبْسِهَا بِغَيْرِ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ وَأَمَّا دُخُولُهَا النَّارَ بِسَبَبِهَا فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ مُسْلِمَةً وَإِنَّمَا دَخَلَتِ النَّارَ بِسَبَبِ الْهِرَّةِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهَا كَافِرَةٌ عُذِّبَتْ بِكُفْرِهَا وَزِيدَ فِي عَذَابِهَا بِسَبَبِ الْهِرَّةِ وَاسْتَحَقَّتْ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مُؤْمِنَةً تُغْفَرُ صَغَائِرُهَا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ هَذَا كَلَامُ القاضي والصواب ماقدمناه أنها كانت مسلمة وأنها دخلت النار بسببهاكما هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَهَذِهِ الْمَعْصِيَةُ لَيْسَتْ صَغِيرَةً بَلْ صَارَتْ بِإِصْرَارِهَا كَبِيرَةً وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا تَخْلُدُ فِي النَّارِ وَفِيهِ(14/240)
وُجُوبُ نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ عَلَى مَالِكِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(باب فضل سقى البهائم المحترمة وإطعامها)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2244] (فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) مَعْنَاهُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى كُلِّ حَيَوَانٍ حَيٍّ بِسَقْيِهِ وَنَحْوِهِ أَجْرٌ وَسُمِّيَ الْحَيُّ ذَا كَبِدٍ رَطْبَةٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ يَجِفُّ جسمه وكبده ففى هذا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَمِ وَهُوَ مَا لَا يُؤْمَرُ بِقَتْلِهِ فَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِقَتْلِهِ فَيُمْتَثَلُ أَمْرُ الشَّرْعِ فِي قَتْلِهِ وَالْمَأْمُورُ بِقَتْلِهِ كَالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُنَّ وَأَمَّا الْمُحْتَرَمُ فَيَحْصُلُ الثَّوَابُ بِسَقْيِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ أَيْضًا بِإِطْعَامِهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَمْلُوكًا أَوْ مُبَاحًا وَسَوَاءٌ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ) أَمَّا الثَّرَى فَالتُّرَابُ النَّدِيُّ وَيُقَالُ لَهَثَ بِفَتْحِ الهاء وكسرها يلهث بفتحها لاغير لَهْثًا بِإِسْكَانِهَا وَالِاسْمُ اللَّهَثُ بِفَتْحِهَا وَاللُّهَاثُ بِضَمِّ اللام(14/241)
ورجل لهثان وامرأة لهثى كعطشان وعطشى وهوالذى أخرج لِسَانَهُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ وَالْحَرِّ قَوْلُهُ (حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ) يُقَالُ رَقِيَ بِكَسْرِ الْقَافِ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ وَحَكَى فَتْحَهَا وَهِيَ لُغَةُ طَيٍّ فِي كُلِّ مَا أَشْبَهَ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2245] (إِنَّ امْرَأَةً بغيا رأت كلبا فى يوم حاريطيف بِبِئْرٍ قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ فَنَزَعَتْ له بموقها فعغرلها) أَمَّا الْبَغِيُّ فَهِيَ الزَّانِيَةُ وَالْبِغَاءُ بِالْمَدِّ هُوَ الزنى ومعنى يطيف أى حَوْلَهَا بِضَمِّ الْيَاءِ وَيُقَالُ طَافَ بِهِ وَأَطَافَ إِذَا دَارَ حَوْلَهُ وَأَدْلَعَ لِسَانَهُ وَدَلَعَهُ لُغَتَانِ أى أخرجه لشدة العطش والموق بِضَمِّ الْمِيمِ هُوَ الْخُفُّ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَمَعْنَى نَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا أَيِ اسْتَقَتْ يُقَالُ نَزَعْتُ بالدلوا استقيت به من البئر ونحوها نزعت الدلو أيضا قوله (فشكرالله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ) مَعْنَاهُ قَبِلَ عَمَلَهُ وَأَثَابَهُ وغفر له والله أعلم(14/242)
(
كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها)
باب النهي عن سب الدهر قوله سبحانه وتعالى
[2246] (يسب بن آدَمَ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدَيَّ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ) وفي رواية قال الله تعالى عزوجل يؤذيني بن آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنهار وفي رواية يؤذيني بن آدَمَ يَقُولُ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَلَا يَقُولَنَّ أحدكم ياخيبة الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ أما قَوْلُهُ عز وجل يؤذيني بن آدَمَ فَمَعْنَاهُ يُعَامِلُنِي مُعَامَلَةً تُوجِبُ الْأَذَى فِي حقكم وأما قوله غز وَجَلَّ وَأَنَا الدَّهْرُ فَإِنَّهُ بِرَفْعِ الرَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاهِيرُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيُّ الطَّاهِرِيُّ إِنَّمَا هُوَ الدَّهْرُ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ أَنَا مُدَّةُ الدهر أقلب ليله ونهاره وحكى بن عَبْدِ الْبَرِّ هَذِهِ(15/2)
الرِّوَايَةَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ النَّحَّاسُ يَجُوزُ النَّصْبُ أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ بَاقٍ مُقِيمٌ أَبَدًا لَا يَزُولُ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّخْصِيصِ قَالَ وَالظَّرْفُ أَصَحُّ وَأَصْوَبُ أَمَّا رِوَايَةُ الرَّفْعِ وَهِيَ الصَّوَابُ فَمُوَافِقَةٌ لِقَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ مَجَازٌ وَسَبَبُهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَ شَأْنُهَا أَنْ تَسُبَّ الدَّهْرَ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَالْحَوَادِثِ وَالْمَصَائِبِ النَّازِلَةِ بِهَا مِنْ مَوْتٍ أَوْ هَرَمٍ أَوْ تَلَفِ مَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ وَنَحْوُ هَذَا مِنْ أَلْفَاظِ سَبِّ الدَّهْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ أَيْ لَا تَسُبُّوا فَاعِلَ النَّوَازِلِ فَإِنَّكُمْ إِذَا سَبَبْتُمْ فَاعِلَهَا وَقَعَ السَّبُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ هُوَ فَاعِلُهَا وَمُنْزِلُهَا وَأَمَّا الدَّهْرُ الَّذِي هُوَ الزَّمَانُ فَلَا فِعْلَ لَهُ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ أَيْ فَاعِلُ النَّوَازِلِ والحوادث وخالق الكائنات والله آعلم(15/3)
باب كراهة تسمية العنب كرما قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2247] (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ الْكَرْمُ فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ) وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ الْكَرْمَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ وَفِي رِوَايَةٍ
[2248] لَا تَقُولُوا الْكَرْمُ وَلَكِنْ قُولُوا الْعِنَبُ وَالْحَبَلَةُ أَمَّا الْحَبَلَةُ فَبِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانِهَا وَهِيَ شَجَرُ الْعِنَبِ فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَرَاهَةُ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا بَلْ يُقَالُ عِنَبٌ أَوْ حَبَلَةٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ سَبَبُ كَرَاهَةِ ذَلِكَ أَنْ لَفْظَةَ الْكَرْمِ كَانَتِ الْعَرَبُ تُطْلِقُهَا عَلَى شَجَرِ الْعِنَبِ وَعَلَى الْعِنَبِ وَعَلَى الْخَمْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْعِنَبِ سَمَّوْهَا كَرْمًا لِكَوْنِهَا مُتَّخَذَةً مِنْهُ وَلِأَنَّهَا تَحْمِلُ عَلَى الْكَرَمِ وَالسَّخَاءِ فَكَرِهَ الشَّرْعُ اطلاق هذه(15/4)
اللَّفْظَةِ عَلَى الْعِنَبِ وَشَجَرِهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا اللَّفْظَةَ رُبَّمَا تَذَكَّرُوا بِهَا الْخَمْرَ وَهَيَّجَتْ نُفُوسَهُمْ إِلَيْهَا فَوَقَعُوا فِيهَا أَوْ قَارَبُوا ذَلِكَ وَقَالَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَوْ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّ الْكَرْمَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكَرَمِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَقَدْ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ فَسُمِّيَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ كَرْمًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ وَالتَّقْوَى وَالصِّفَاتِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِهَذَا الِاسْمِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ رَجُلٌ كَرْمٌ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَامْرَأَةٌ كَرْمٌ وَرَجُلَانِ كَرْمٌ وَرِجَالٌ كَرْمٌ وَامْرَأَتَانِ كَرْمٌ وَنِسْوَةٌ كرم كله بفتح الراء واسكانها بمعنى كريم وكريمان وَكِرَامٍ وَكَرِيمَاتٍ وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ كَضَيْفٍ وَعَدْلٍ وَاللَّهُ أعلم
(باب حكم اطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2249] (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ(15/5)
وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي) وَفِي رِوَايَةٍ وَلَا يَقُلِ الْعَبْدُ رَبِّي وَلَكِنْ لِيَقُلْ سَيِّدِي وَفِي رِوَايَةٍ وَلَا يَقُلِ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ مَوْلَايَ فَإِنَّ مَوْلَاكُمُ اللَّهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ اسْقِ رَبَّكَ أَوْ أَطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّئْ رَبَّكَ وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ رَبِّي وَلْيَقُلْ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ فَتَاتِي غُلَامِي قَالَ الْعُلَمَاءُ مَقْصُودُ الْأَحَادِيثِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا نَهْيُ الْمَمْلُوكِ أَنْ يُقَوَّلَ لِسَيِّدِهِ رَبِّي لِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ إِنَّمَا حَقِيقَتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْمَالِكُ أَوِ الْقَائِمُ بالشئ ولا يوجد حَقِيقَةُ هَذَا إِلَّا فِي اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا أَوْ رَبَّهَا فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِي لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنَّ النَّهْيَ في الأول للأدب وكراهة التنزيه لا للتحريم وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ الْإِكْثَارِ مِنَ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَاتِّخَاذِهَا عَادَةً شَائِعَةً وَلَمْ يَنْهَ عَنْ إِطْلَاقِهَا فِي نَادِرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَاخْتَارَ الْقَاضِي هَذَا الْجَوَابَ وَلَا نَهْيَ فِي قَوْلِ الْمَمْلُوكِ سَيِّدِي لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقُلْ سَيِّدِي لِأَنَّ لَفْظَةَ السَّيِّدِ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِاللَّهِ تَعَالَى اخْتِصَاصَ الرَّبِّ وَلَا مُسْتَعْمَلَةٍ فِيهِ كَاسْتِعْمَالِهَا حَتَّى نَقَلَ الْقَاضِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الدُّعَاءَ بِسَيِّدِي وَلَمْ يَأْتِ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّيِّدِ(15/6)
فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي حَدِيثٍ مُتَوَاتِرٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ ابني هذا سيد وقوموا إِلَى سَيِّدِكُمْ يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مَعَاذٍ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ اسْمَعُوا مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ يَعْنِي سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَلَيْسَ فِي قَوْلِ الْعَبْدِ سَيِّدِي إِشْكَالٌ وَلَا لُبْسٌ لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ غَيْرُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَلَا بَأْسَ أَيْضًا بِقَوْلِ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ مَوْلَايَ فَإِنَّ الْمَوْلَى وَقَعَ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ مَعْنًى سَبَقَ بَيَانُهَا مِنْهَا النَّاصِرُ وَالْمَالِكُ قَالَ الْقَاضِي وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ وَلَا يَقُلِ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ مَوْلَايَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي ذِكْرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا عَنْهُ آخَرُونَ وَحَذْفُهَا أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الثَّانِي يُكْرَهُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَقُولَ لِمَمْلُوكِهِ عَبْدِي وَأَمَتِي بَلْ يَقُولُ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلِأَنَّ فِيهَا تَعْظِيمًا بِمَا لَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ اسْتِعْمَالُهُ لِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ فَنَهَى عَنِ التَّطَاوُلِ فِي اللَّفْظِ كَمَا نَهَى عَنِ التَّطَاوُلِ فِي الْأَفْعَالِ وَفِي إِسْبَالِ الْإِزَارِ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي فَلَيْسَتْ دَالَّةً عَلَى الْمِلْكِ كَدَلَالَةِ عَبْدِي مَعَ أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلِاخْتِصَاصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذْ قال موسى لفتاه وقال لفتيانه وقال لفتيته قالوا سمعنا فتى يذكرهم وأما استعمال الجارية في الحرة الصغيرة فمشهور معروف فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ مَنِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى جِهَةِ التَّعَاظُمِ وَالِارْتِفَاعِ لَا للوصف والتعريف والله أعلم
(باب كراهة قول الانسان خبثت نفسي)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2250]
[2251] (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ(15/7)
وَجَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ لَقِسَتْ وَخَبُثَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَإِنَّمَا كُرِهَ لَفْظُ الْخُبْثِ لِبَشَاعَةِ الِاسْمِ وَعِلْمِهِمُ الْأَدَبَ فِي الْأَلْفَاظِ وَاسْتِعْمَالَ حَسَنِهَا وَهِجْرَانَ خَبِيثِهَا قَالُوا وَمَعْنَى لَقِسَتْ غَثَّتْ وقال بن الْأَعْرَابِيِّ مَعْنَاهُ ضَاقَتْ فَإِنَّ قِيلَ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ فَأَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ جَوَابُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرٌ هُنَاكَ عَنْ صِفَةِ غَيْرِهِ وَعَنْ شَخْصٍ مُبْهَمٍ مَذْمُومِ الْحَالِ لَا يَمْتَنِعُ اطلاق هذا اللفظ عليه والله أعلم
(باب استعمال المسك وأنه أطيب الطيب)
(وكراهة رد الريحان والطيب) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2252] (وَالْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ) فِيهِ أَنَّهُ أَطْيَبُ الطِّيبِ وَأَفْضَلُهُ وَأَنَّهُ طَاهِرٌ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَنَقَلَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَنِ الشِّيعَةِ مَذْهَبًا(15/8)
بَاطِلًا وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَبِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي اسْتِعْمَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ وَاسْتِعْمَالِ أَصْحَابِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ هُوَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيْتٌ أَوْ يُقَالُ إِنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَنِينِ وَالْبَيْضِ وَاللَّبَنِ وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْمَرْأَةِ الْقَصِيرَةِ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ حَتَّى مَشَتْ بَيْنَ الطَّوِيلَتَيْنِ فَلَمْ تُعْرَفْ فَحُكْمُهُ فِي شَرْعِنَا أنها ان قَصَدَتْ بِهِ مَقْصُودًا صَحِيحًا شَرْعِيًّا بِأَنْ قَصَدَتْ سَتْرَ نَفْسِهَا لِئَلَّا تُعْرَفَ فَتُقْصَدَ بِالْأَذَى أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ قَصَدَتْ بِهِ التَّعَاظُمَ أَوِ التَّشَبُّهَ بِالْكَامِلَاتِ تَزْوِيرًا عَلَى الرِّجَالِ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ حَرَامٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2253] (مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدُّهُ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ) الْمَحْمِلُ هُنَا بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ كَالْمَجْلِسِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَمْلُ بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ خَفِيفُ الْحَمْلِ لَيْسَ بِثَقِيلٍ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَرُدُّهُ بِرَفْعِ الدَّالِ عَلَى الْفَصِيحِ الْمَشْهُورِ وَأَكْثَرُ مَا يَسْتَعْمِلُهُ مَنْ لَا يُحَقِّقُ الْعَرَبِيَّةَ بِفَتْحِهَا وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَقَاعِدَتِهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ حِينَ أَهْدَى الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ وَأَمَّا الرَّيْحَانُ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ كُلُّ نَبْتٍ مَشْمُومٍ طَيِّبِ الرِّيحِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بَعْدَ حِكَايَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الطِّيبَ كُلَّهُ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُدُّ(15/9)
الطِّيبَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ كَرَاهَةُ رَدِّ الرَّيْحَانِ لِمَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ إِلَّا لِعُذْرٍ قوله
[2254] (كان بن عمر اذا استجمر استجمر بألوة غَيْرَ مُطَرَّاةٍ أَوْ بِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الْأَلُوَّةِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الِاسْتِجْمَارُ هُنَا اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ وَالتَّبَخُّرُ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمِجْمَرِ وَهُوَ الْبَخُورُ وَأَمَّا الْأَلُوَّةُ فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ هِيَ الْعُودُ يَتَبَخَّرُ بِهِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ أَرَاهَا فَارِسِيَّةً مُعَرَّبَةً وَهِيَ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ كَسْرَ اللَّامِ قَالَ الْقَاضِي وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَلْيَةٌ قَالَ الْقَاضِي قَالَ غَيْرُهُ وَتُشَدَّدُ وَتُخَفَّفُ وَتُكْسَرُ الْهَمْزَةُ وَتُضَمُّ وَقِيلَ لَوَّةٌ وَلِيَّةٌ وَقَوْلُهُ غَيْرَ مُطَرَّاةٍ أَيْ غَيْرَ مَخْلُوطَةٍ بِغَيْرِهَا مِنَ الطِّيبِ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الطِّيبِ لِلرِّجَالِ كَمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِلنِّسَاءِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ مِنَ الطِّيبِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِذَا أَرَادَتِ الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ كُرِهَ لَهَا كُلُّ طِيبٍ لَهُ رِيحٌ وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهُ لِلرِّجَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ عِنْدَ حُضُورِ مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ وَعِنْدَ إِرَادَتِهِ مُعَاشَرَةَ زَوْجَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(15/10)
(كِتَاب الشِّعْرِ قَوْلُهُ
[2255] (عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَدِفْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ هَلْ مَعَكَ من شعر أمية بن أبي الصلت شيئا قُلْتُ نَعَمْ قَالَ هِيهِ فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ هِيهِ ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ هِيهِ حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ قَالَ إِنْ كَادَ لِيُسْلِمَ) وَفِي رِوَايَةٍ فَلَقَدْ كَادَ يُسْلِمُ فِي شِعْرِهِ أَمَّا الشَّرِيدُ فَبِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مُخَفَّفَةٍ مَكْسُورَةٍ وَهُوَ الشَّرِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ الصَّحَابِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم)(15/11)
هِيهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ الثَّانِيَةِ قَالُوا وَالْهَاءُ الْأُولَى بَدَلٌ مِنَ الْهَمْزَةِ وأصله ايه وهي كلمة للا ستزادة من الحديث المعهود قال بن السِّكِّيتِ هِيَ لِلِاسْتِزَادَةِ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ عَمَلٍ مَعْهُودَيْنِ قَالُوا وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَسْرِ فَإِنْ وَصَلْتَهَا نَوَّنْتَهَا فَقُلْتَ إِيهٍ حَدِّثْنَا أَيْ زِدْنَا من هذا الْحَدِيثِ فَإِنْ أَرَدْتَ الِاسْتِزَادَةَ مِنْ غَيْرِ مَعْهُودٍ نَوَّنْتَ فَقُلْتَ إِيهٍ لِأَنَّ التَّنْوِينَ لِلتَّنْكِيرِ وَأَمَّا إِيهًا بِالنَّصْبِ فَمَعْنَاهُ الْكَفُّ وَالْأَمْرُ بِالسُّكُوتِ وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْسَنَ شِعْرَ أُمَيَّةَ وَاسْتَزَادَ مِنْ إِنْشَادِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ فَفِيهِ جَوَازُ إِنْشَادِ الشِّعْرِ الَّذِي لَا فُحْشَ فِيهِ وَسَمَاعِهِ سَوَاءٌ شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ وَأَنَّ الْمَذْمُومَ مِنَ الشِّعْرِ الَّذِي لَا فُحْشَ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الْإِكْثَارُ مِنْهُ وَكَوْنُهُ غَالِبًا عَلَى الْإِنْسَانِ فَأَمَّا يَسِيرُهُ فَلَا بَأْسَ بِإِنْشَادِهِ وَسَمَاعِهِ وَحِفْظِهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْئًا فَهَكَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ شَيْئًا بِالنَّصْبِ وَفِي بعضها شئ بالرفع وعلى روايا النَّصْبِ يُقَدَّرُ فِيهِ مَحْذُوفٌ أَيْ هَلْ مَعَكَ من شئ فَتَنْشُدَنِي شَيْئًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2256] (أَشْعَرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ ألا كل شئ ماخلا اللَّهَ بَاطِلٌ) وَفِي رِوَايَةٍ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ وَفِي رِوَايَةٍ أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَهُ الشَّاعِرُ وَفِي رِوَايَةٍ أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الشُّعَرَاءُ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ هُنَا الْقِطْعَةُ مِنَ الْكَلَامِ وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ الْفَانِي الْمُضْمَحِلُّ وَفِي(15/12)
هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِلَبِيدٍ وَهُوَ صَحَابِيٌّ وَهُوَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/13)
[2257]
[2258] (لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا) وَفِي
[2259] رِوَايَةٍ بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرْجِ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يَنْشُدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا الشَّيْطَانَ أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ يَرِيهِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْوَرْيِ وَهُوَ دَاءٌ يُفْسِدُ الْجَوْفَ وَمَعْنَاهُ قَيْحًا يَأْكُلُ جَوْفَهُ وَيُفْسِدُهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِهَذَا الشِّعْرِ شِعْرٌ هُجِيَ بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً هَذَا تَفْسِيرٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَذْمُومَ مِنَ الْهِجَاءِ أَنْ يَمْتَلِئَ مِنْهُ دُونَ قَلِيلِهِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ الواحدة من هجاء النبي صلىالله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوجِبَةٌ لِلْكُفْرِ قَالُوا بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ الشِّعْرُ غَالِبًا عَلَيْهِ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَشْغَلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مَذْمُومٌ مِنْ أَيِّ شِعْرٍ كَانَ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّ حِفْظُ الْيَسِيرِ مِنَ الشِّعْرِ مَعَ هَذَا لِأَنَّ جَوْفَهُ لَيْسَ مُمْتَلِئًا شِعْرًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كَرَاهَةِ الشِّعْرِ مُطْلَقًا قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَإِنْ كَانَ لَا فُحْشَ فِيهِ وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا الشَّيْطَانَ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً هُوَ مُبَاحٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فُحْشٌ وَنَحْوُهُ قَالُوا وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَقَدْ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّعْرَ وَاسْتَنْشَدَهُ وَأَمَرَ بِهِ حَسَّانَ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْشَدَهُ أَصْحَابُهُ بِحَضْرَتِهِ فِي الْأَسْفَارِ وَغَيْرِهَا وَأَنْشَدَهُ الْخُلَفَاءُ وَأَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَاءُ السَّلَفِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا الْمَذْمُومَ مِنْهُ وَهُوَ الْفُحْشُ وَنَحْوُهُ وَأَمَّا تَسْمِيَةُ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي سَمِعَهُ يَنْشُدُ شَيْطَانًا فَلَعَلَّهُ كَانَ كَافِرًا أَوْ كَانَ الشِّعْرُ هُوَ الْغَالِبُ عليه(15/14)
أَوْ كَانَ شِعْرُهُ هَذَا مِنَ الْمَذْمُومِ وَبِالْجُمْلَةِ فَتَسْمِيَتُهُ شَيْطَانًا إِنَّمَا هُوَ فِي قَضِيَّةِ عَيْنٍ تَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَغَيْرُهَا وَلَا عُمُومَ لَهَا فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (يَسِيرُ بِالْعَرْجِ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبِالْجِيمِ وَهِيَ قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ مِنْ عَمَلِ الْفَرْعِ عَلَى نَحْوِ ثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ قَوْلُهُ (عَنْ يُحَنِّسَ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ مَكْسُورَةً وَمَفْتُوحَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِالنَّرْدَشِيرِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2260] (مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ النردشير هو النرد فالنرد عجمي معرب وشير مَعْنَاهُ حُلْوٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ فِي تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ وَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ حَرَامٌ قَالَ مَالِكٌ هُوَ شَرٌّ مِنَ النَّرْدِ وَأَلْهَى عَنِ الْخَيْرِ وَقَاسُوهُ عَلَى النَّرْدِ وَأَصْحَابُنَا يَمْنَعُونَ الْقِيَاسَ(15/15)
وَيَقُولُونَ هُوَ دُونَهُ وَمَعْنَى صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ فِي حَالِ أَكْلِهِ مِنْهُمَا وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِتَحْرِيمِهِ بِتَحْرِيمِ أَكْلِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(كِتَاب الرُّؤْيَا قَوْلُهُ
[2261] (كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا أُعْرَى مِنْهَا غَيْرَ أَنِّي لَا أُزَمَّلُ) أَمَّا قَوْلُهُ أُزَمَّلُ فَمَعْنَاهُ أُغَطَّى وَأُلَفُّ كَالْمَحْمُومِ وَأَمَّا أُعْرَى فَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ أجم لِخَوْفِي مِنْ ظَاهِرِهَا فِي مَعْرِفَتِي قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ عُرِيَ الرَّجُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ يُعْرَى إِذَا أَصَابَهُ عُرَاءٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ نَفْضُ الْحُمَّى وَقِيلَ رَعْدَةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ أَمَّا الْحُلْمُ فَبِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْفِعْلُ مِنْهُ حَلَمَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَأَمَّا الرُّؤْيَا فَمَقْصُورَةٌ مَهْمُوزَةٌ)(15/16)
وَيَجُوزُ تَرْكُ هَمْزِهَا كَنَظَائِرِهَا قَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي حَقِيقَةِ الرُّؤْيَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِي قَلْبِ النَّائِمِ اعْتِقَادَاتٍ كَمَا يَخْلُقُهَا فِي قَلْبِ الْيَقْظَانِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا يَمْنَعُهُ نَوْمٌ وَلَا يَقَظَةٌ فَإِذَا خَلَقَ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهَا عَلَمًا عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ يَخْلُقُهَا فِي ثَانِي الْحَالِ أَوْ كَانَ قَدْ خَلَقَهَا فَإِذَا خَلَقَ فِي قَلْبِ النَّائِمِ الطَّيَرَانَ وَلَيْسَ بِطَائِرٍ فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَمْرًا عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ فَيَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ عَلَمًا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا يَكُونُ خَلْقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْغَيْمَ عَلَمًا عَلَى الْمَطَرِ وَالْجَمِيعُ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ يَخْلُقُ الرُّؤْيَا وَالِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا عَلَمًا عَلَى مَا يَسَّرَ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الشَّيْطَانِ وَيَخْلُقُ مَا هُوَ عَلَمٌ عَلَى مَا يَضُرُّ بِحَضْرَةِ الشَّيْطَانِ فَيُنْسَبُ إِلَى الشَّيْطَانِ مَجَازًا لِحُضُورِهِ عِنْدَهَا وَإِنْ كَانَ لَا فِعْلَ لَهُ حَقِيقَةً وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ لَا عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا فَالرُّؤْيَا اسم للمحبوب والحلم اسم للمكروه هذا كَلَامُ الْمَازِرِيِّ وَقَالَ غَيْرُهُ أَضَافَ الرُّؤْيَا الْمَحْبُوبَةَ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ بِخِلَافِ الْمَكْرُوهَةِ وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ وَبِإِرَادَتِهِ وَلَا فِعْلَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِمَا لَكِنَّهُ يَحْضُرُ الْمَكْرُوهَةَ وَيَرْتَضِيهَا وَيُسَرُّ بِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلْمًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ) أَمَّا حَلَمَ فَبِفَتْحِ اللام كما سبق(15/17)
بيانه والحلم بضم الحاء واسكان اللام وينفث بضم الفاء وكسرها واليسار بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيَبْصُقْ عَلَى يَسَارِهِ حِينَ يَهُبُّ مِنْ نَوْمِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشَرِّهَا وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيَبْصُقْ عَلَى يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فَحَاصِلُهُ ثَلَاثَةٌ أَنَّهُ جَاءَ فَلْيَنْفُثْ وَفَلْيَبْصُقْ وَفَلْيَتْفُلْ وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ فَلْيَنْفُثْ وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الطِّبِّ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا بِمَعْنًى وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْجَمِيعِ النَّفْثُ وَهُوَ نَفْخٌ لَطِيفٌ بِلَا رِيقٍ وَيَكُونُ التَّفْلُ وَالْبَصْقُ مَحْمُولَيْنِ عَلَيْهِ مَجَازًا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنها لا تَضُرَّهُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا سَبَبًا لِسَلَامَتِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا كَمَا جَعَلَ الصَّدَقَةَ وِقَايَةً لِلْمَالِ وَسَبَبًا لِدَفْعِ الْبَلَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَيُعْمَلُ بِهَا كُلِّهَا فَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُهُ نَفَثَ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا قَائِلًا أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَمِنْ شَرِّهَا وَلْيَتَحَوَّلْ إِلَى جَنْبِهِ الْآخَرِ وَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَيَكُونُ قَدْ عَمِلَ بِجَمِيعِ الرِّوَايَاتِ وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا أَجْزَأَهُ فِيَّ دَفْعِ ضَرَرِهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ قَالَ الْقَاضِي وَأَمَرَ بِالنَّفْثِ ثَلَاثًا طَرْدًا لِلشَّيْطَانِ الَّذِي حَضَرَ رُؤْيَاهُ الْمَكْرُوهَةَ تَحْقِيرًا لَهُ وَاسْتِقْذَارًا وَخَصَّتْ بِهِ الْيَسَارِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْأَقْذَارِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَنَحْوِهَا وَالْيَمِينُ ضِدُّهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّؤْيَا الْمَكْرُوهَةِ وَلَا يُحَدِّثُ بِهَا أَحَدًا فَسَبَبُهُ أَنَّهُ رُبَّمَا فَسَّرَهَا تَفْسِيرًا مَكْرُوهًا عَلَى ظَاهِرِ صُورَتِهَا وَكَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا فَوَقَعَتْ كَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الرؤيا على رجل طائر ومعناه أنها اذا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً وَجْهَيْنِ فَفُسِّرَتْ بِأَحَدِهِمَا وَقَعَتْ عَلَى قُرْبِ تِلْكَ الصِّفَةِ قَالُوا وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُ الرُّؤْيَا مَكْرُوهًا وَيُفَسَّرُ بِمَحْبُوبٍ وَعَكْسُهُ وَهَذَا مَعْرُوفٌ لِأَهْلِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّؤْيَا الْمَحْبُوبَةِ الْحَسَنَةِ لَا تُخْبِرْ بِهَا إِلَّا مَنْ تُحِبُّ فَسَبَبُهُ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ بِهَا مَنْ لَا يُحِبُّ رُبَّمَا حَمَلَهُ الْبُغْضِ أَوِ الْحَسَدُ عَلَى تَفْسِيرِهَا بِمَكْرُوهٍ فَقَدْ يَقَعُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَإِلَّا فَيَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَالِ حُزْنٌ وَنَكَدٌ مِنْ سُوءِ تَفْسِيرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حِينَ يَهُبُّ مِنْ نَوْمِهِ) أَيْ يَسْتَيْقِظُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَرُؤْيَا السُّوءِ) قال(15/18)
الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الصَّالِحَةِ وَالْحَسَنَةِ حُسْنَ ظَاهِرِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ صِحَّتُهَا قَالَ وَرُؤْيَا السُّوءِ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا سُوءَ الظَّاهِرِ وَسُوءَ التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنْ رَأَى رُؤْيَا حَسَنَةً فَلْيُبَشِّرْهُ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا إِلَّا مَنْ يُحِبُّ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الْأُصُولِ فَلْيُبَشِّرْ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ سَاكِنَةٌ مِنَ الْإِبْشَارِ وَالْبُشْرَى وَفِي بَعْضِهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِالنُّونِ مِنَ النَّشْرِ وَهُوَ الْإِشَاعَةِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ وَفِي الشَّرْحِ هُوَ تَصْحِيفٌ وَفِي بَعْضِهَا فَلْيَسْتُرْ بِسِينٍ(15/19)
مُهْمَلَةٍ مِنَ السَّتْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2263] (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمُ تَكْذِبُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ قِيلَ الْمُرَادُ إِذَا قَارَبَ الزَّمَانُ أَنْ يَعْتَدِلَ لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ وَقِيلَ الْمُرَادُ إِذَا قَارَبَ الْقِيَامَةَ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ غَيْرِ الرُّؤْيَا وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ مَا يُؤَيِّدُ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا يَكُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْعِلْمِ وَمَوْتِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ يُسْتَضَاءُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَابِرًا وَعِوَضًا وَمُنَبِّهًا لَهُمْ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ غَيْرَ الصَّادِقِ فِي حَدِيثِهِ يَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ إِلَى رُؤْيَاهُ وَحِكَايَتِهِ إِيَّاهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) وَفِي
[2263]
[2264] رِوَايَةٍ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ(15/20)
جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ وَفِي
[2265] رِوَايَةٍ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ فَحَصَلَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ الْمَشْهُورُ ستة وأربعين والثانية خمسة وأربعين والثالثة سبعين جزءا وفي غير مسلم من رواية بن عَبَّاسٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَفِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ مِنْ خَمْسِينَ ومن رواية بن عمر سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ وَمِنْ رِوَايَةِ عُبَادَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ قَالَ الْقَاضِي أَشَارَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلَافِ حَالِ الرَّائِي فَالْمُؤْمِنُ الصَّالِحُ تَكُونُ رُؤْيَاهُ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا وَالْفَاسِقُ جُزْءًا مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ الْخَفِيَّ مِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ وَالْجَلِيُّ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوحَى إِلَيْهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا عَشْرُ سِنِينَ بِالْمَدِينَةِ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ بِمَكَّةَ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَرَى فِي الْمَنَامِ الْوَحْيَ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا قَالَ الْمَازِرِيُّ وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ لِلْمَنَامَاتِ شَبَهًا مِمَّا حَصَلَ لَهُ وَمَيَّزَ بِهِ من النبوة بجزء من ستة وأربعين قَالَ وَقَدْ قَدَحَ بَعْضُهُمْ فِي الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَمَدَ رُؤْيَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَبِأَنَّهُ رَأَى بَعْدَ النُّبُوَّةِ مَنَامَاتٍ كَثِيرَةً فَلْتُضَمَّ إِلَى الأشهر الستة وحينئذ تَتَغَيَّرُ النِّسْبَةُ قَالَ الْمَازِرِيُّ هَذَا الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمَنَامَاتِ الْمَوْجُودَةَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِأَرْسَالِ الْمَلَكِ مُنْغَمِرَةٌ فِي الْوَحْيِ فَلَمْ تُحْسَبْ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنَامَ فِيهِ إِخْبَارُ الْغَيْبِ وَهُوَ إِحْدَى ثَمَرَاتِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ لَيْسَ فِي حَدِّ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيًّا لِيُشَرِّعَ الشَّرَائِعَ وَيُبَيِّنَ الْأَحْكَامَ وَلَا يُخْبِرُ بِغَيْبٍ أَبَدًا وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي نُبُوَّتِهِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي مَقْصُودِهَا وهذا الجزء من النبوة وهو الاخبار بالغيب اذا وقع لا يكون الا صدقا والله أعلم قال الخطابي هذا الْحَدِيثُ تَوْكِيدٌ لِأَمْرِ الرُّؤْيَا وَتَحْقِيقُ مَنْزِلَتِهَا وَقَالَ وَإِنَّمَا كَانَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يُوحَى إِلَيْهِمْ فِي مَنَامِهِمْ كَمَا يُوحَى إِلَيْهِمْ فِي الْيَقَظَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرُّؤْيَا تَأْتِي عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهَا جُزْءٌ(15/21)
بَاقٍ مِنَ النُّبُوَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَأُحِبُّ الْقَيْدَ وَأَكْرَهُ الْغُلَّ) وَالْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا أُحِبُّ الْقَيْدَ لِأَنَّهُ فِي الرِّجْلَيْنِ وَهُوَ كَفٌّ عَنِ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ وَأَنْوَاعِ الْبَاطِلِ وَأَمَّا الْغُلُّ فَمَوْضِعُهُ الْعُنُقُ وَهُوَ صِفَةُ أَهْلِ النَّارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا جَعَلْنَا في اعناقهم(15/22)
أغلالا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأَمَّا أَهْلُ الْعِبَارَةِ فَنَزَّلُوا هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ مَنَازِلَ فَقَالُوا إِذَا رَأَى الْقَيْدَ فِي رِجْلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ مَشْهَدِ خَيْرٍ أَوْ عَلَى حَالَةٍ حَسَنَةٍ فَهُوَ دَلِيلٌ لِثَبَاتِهِ فِي ذَلِكَ وكذا لورآه صَاحِبُ وِلَايَةٍ كَانَ دَلِيلًا لِثَبَاتِهِ فِيهَا وَلَوْ رَآهُ مَرِيضٌ أَوْ مَسْجُونٌ أَوْ مُسَافِرٌ أَوْ مَكْرُوبٌ كَانَ دَلِيلًا لِثَبَاتِهِ فِيهِ قَالُوا وَلَوْ قَارَنَهُ مَكْرُوهٌ بِأَنْ يَكُونَ مَعَ الْقَيْدِ غُلٌّ غلب(15/23)
الْمَكْرُوهَ لِأَنَّهَا صِفَةَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَمَّا الْغُلُّ فَهُوَ مَذْمُومٌ إِذَا كَانَ فِي الْعُنُقِ وَقَدْ يَدُلُّ للولايات إذا كان معه قرائن كما أن كُلُّ وَالٍ يُحْشَرُ مَغْلُولًا حَتَّى يُطْلِقَهُ عَدْلُهُ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَغْلُولَ الْيَدَيْنِ دُونَ الْعُنُقِ فَهُوَ حَسَنٌ وَدَلِيلٌ لِكَفِّهِمَا عَنِ الشَّرِّ وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى بُخْلِهِمَا وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ ما نواه من الأفعال قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2266] (مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي) وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِي وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِي وَفِي
[2267] رِوَايَةٍ مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ وَفِي رِوَايَةٍ من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقِظَةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد رآني فقال بن الْبَاقِلَّانِيِّ مَعْنَاهُ أَنَّ رُؤْيَاهُ صَحِيحَةٌ لَيْسَتْ بِأَضْغَاثٍ وَلَا مِنْ تَشْبِيهَاتِ الشَّيْطَانِ وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ رِوَايَةُ فقد رأى الحق أي الروية الصَّحِيحَةَ قَالَ وَقَدْ يَرَاهُ الرَّائِي عَلَى خِلَافِ صفته المعروفة كمن رَآهُ أَبْيَضَ اللِّحْيَةِ وَقَدْ يَرَاهُ شَخْصَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدِ أَحَدُهُمَا فِي الْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ فِي(15/24)
الْمَغْرِبِ وَيَرَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَكَانِهِ وَحَكَى المازرى هذا عن بن الْبَاقِلَّانِيِّ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فَقَدْ أَدْرَكَهُ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَالْعَقْلُ لَا يُحِيلُهُ حَتَّى يَضْطَرَّ إِلَى صَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّهُ قَدْ يُرَى عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِ أَوْ فِي مَكَانَيْنِ مَعًا فَإِنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي صِفَاتِهِ وَتَخَيُّلٌ لَهَا عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ وَقَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ بَعْضَ الْخَيَالَاتِ مَرْئِيًّا لِكَوْنِ مَا يَتَخَيَّلُ مُرْتَبِطًا بِمَا يَرَى فِي الْعَادَةِ فَيَكُونُ ذَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْئِيَّةً وَصِفَاتُهُ مُتَخَيَّلَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ وَالْإِدْرَاكُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَحْدِيقُ الْأَبْصَارِ وَلَا قُرْبُ الْمَسَافَةِ وَلَا كَوْنُ الْمَرْئِيِّ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ وَلَا ظَاهِرًا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى فَنَاءِ جِسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يَقْتَضِي بَقَاءَهُ قَالَ وَلَوْ رَآهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ مَنْ يَحْرُمُ قَتْلُهُ كَانَ هَذَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ لَا الْمَرْئِيَّةِ هَذَا كَلَامُ الْمَازِرِيِّ
[2268] قَالَ الْقَاضِي وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد رآني أَوْ فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي الْمُرَادُ بِهِ إِذَا رَآهُ عَلَى صِفَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُ فِي حَيَاتِهِ فَإِنْ رَأَى عَلَى خِلَافِهَا كَانَتْ رُؤْيَا تَأْوِيلٍ لَا رُؤْيَا حَقِيقَةٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي ضَعِيفٌ بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ كَانَ عَلَى صِفَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ أَوْ غَيْرِهَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ رُؤْيَةَ النَّاسِ إِيَّاهُ صَحِيحَةٌ وَكُلَّهَا صِدْقٌ وَمُنِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَتَصَوَّرَ فِي خِلْقَتِهِ لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَى لِسَانِهِ فِي النَّوْمِ كَمَا خَرَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِالْمُعْجِزَةِ وَكَمَا اسْتَحَالَ أَنْ يَتَصَوَّرَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ فِي الْيَقَظَةِ وَلَوْ وَقَعَ لَاشْتَبَهَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يُوثَقْ بِمَا جَاءَ بِهِ مَخَافَةً مِنْ هَذَا التَّصَوُّرِ فَحَمَاهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الشَّيْطَانِ ونزغه ووسوسته وإلقائه وكيده قال وكذ حَمَى رُؤْيَتَهُمْ نَفْسَهُمْ قَالَ الْقَاضِي وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ وَصِحَّتِهَا وَإِنْ رَآهُ الْإِنْسَانُ عَلَى صِفَةٍ لَا تَلِيقُ بِحَالِهِ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَرْئِيَّ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التَّجَسُّمُ وَلَا اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال بن الْبَاقِلَّانِيِّ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ خَوَاطِرُ في القلب وهي دلالات للرأي عَلَى أُمُورٍ مِمَّا كَانَ أَوْ يَكُونُ كَسَائِرِ المرئيات(15/25)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنْ كَانَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رَآنِي أَوْ فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ كَمَا سَبَقَ تَفْسِيرُهُ وَإِنْ كَانَ سَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ عَصْرِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فِي النَّوْمِ وَلَمْ يَكُنْ هَاجَرَ يُوَفِّقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْهِجْرَةِ وَرُؤْيَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَةِ عِيَانًا وَالثَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَرَى تَصْدِيقَ تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعُ أُمَّتِهِ مَنْ رَآهُ فِي الدُّنْيَا وَمَنْ لَمْ يَرَهُ وَالثَّالِثُ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ رُؤْيَةَ خَاصَّتِهِ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ وَحُصُولِ شفاعته(15/26)
وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (إِنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ فَأَنَا أَتَّبِعُهُ فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ) قَالَ الْمَازِرِيُّ يَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّ مَنَامَهُ هَذَا من الأضغاث بوحي أوبدلالة مِنَ الْمَنَامِ دَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَحْزِينِ الشَّيَاطِينِ وَأَمَّا الْعَابِرُونَ فَيَتَكَلَّمُونَ فِي كُتُبِهِمْ عَلَى قَطْعِ الرَّأْسِ وَيَجْعَلُونَهُ دَلَالَةً عَلَى مُفَارَقَةِ الرَّائِي مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ أَوْ مُفَارَقَةِ مَنْ فَوْقَهُ وَيَزُولُ سُلْطَانُهُ وَيَتَغَيَّرُ حَالُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَيَدُلُّ عَلَى عِتْقِهِ أَوْ مَرِيضًا فَعَلَى شِفَائِهِ أَوْ مَدْيُونًا فَعَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ أَوْ مَنْ لَمْ يَحُجَّ فَعَلَى أَنَّهُ يَحُجُّ أَوْ مَغْمُومًا فَعَلَى فَرَحِهِ أَوْ خَائِفًا فَعَلَى أَمْنِهِ(15/27)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2269] (أَرَى اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطِفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا بِأَيْدِيهِمْ وَأَرَى سَبَبًا وَاصِلًا) أَمَّا الظُّلَّةُ فَهِيَ السَّحَابَةُ وَتَنْطِفُ بِضَمِّ الطَّاءِ وَكَسْرِهَا أَيْ تقطر قليلا قليلا ويتكففون يأخذون بأكفهم والسبب الحبل والواصل بِمَعْنَى الْمَوْصُولِ وَأَمَّا اللَّيْلَةُ فَقَالَ ثَعْلَبٌ وَغَيْرُهُ يُقَالُ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ وَمَنِ الزَّوَالِ إِلَى اللَّيْلِ رَأَيْتُ(15/28)
الْبَارِحَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ فقال بن قُتَيْبَةَ وَآخَرُونَ مَعْنَاهُ أَصَبْتَ فِي بَيَانِ تَفْسِيرِهَا وَصَادَفْتَ حَقِيقَةَ تَأْوِيلِهَا وَأَخْطَأْتَ فِي مُبَادَرَتِكَ بِتَفْسِيرِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ آمُرَكَ بِهِ وَقَالَ آخَرُونَ هذا الذي قاله بن قُتَيْبَةَ وَمُوَافِقُوهُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ اعْبُرْهَا وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِي تَرْكِهِ تَفْسِيرَ بَعْضِهَا فَإِنَّ الرَّائِي قَالَ رَأَيْتُ ظُلَّةً تَنْطِفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ فَفَسَّرَهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ حَلَاوَتِهِ وَلِينِهِ وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرُ الْعَسَلِ وَتَرَكَ تَفْسِيرَ السَّمْنِ وَتَفْسِيرَهُ السُّنَّةُ فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ آخَرُونَ الْخَطَأُ وَقَعَ فِي خَلْعِ عُثْمَانَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ أَخَذَ بِالسَّبَبِ فَانْقَطَعَ بِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى انْخِلَاعِهِ بِنَفْسِهِ وَفَسَّرَهُ الصِّدِّيقُ بِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوصَلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ وَعُثْمَانُ قَدْ خُلِعَ قَهْرًا وَقُتِلَ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فَالصَّوَابُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنْ يُحْمَلَ وَصْلُهُ عَلَى وِلَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ قَوْمِهِ وَقَالَ آخَرُونَ الْخَطَأُ في سؤاله ليعبرها قوله (فوالله يارسول اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي مَا الَّذِي أَخْطَأْتُ قَالَ لَا تُقْسِمْ) هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ إِبْرَارَ الْمُقْسِمِ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي الْإِبْرَارِ مَفْسَدَةٌ وَلَا مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْإِبْرَارِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبَرَّ قَسَمَ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا رَأَى فِي إِبْرَارِهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَلَعَلَّ الْمَفْسَدَةَ مَا عَلِمَهُ مِنْ سَبَبِ انْقِطَاعِ السَّبَبِ مَعَ عُثْمَانَ وَهُوَ قَتْلُهُ وَتِلْكَ الْحُرُوبُ وَالْفِتَنُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ فَكَرِهَ ذِكْرَهَا مَخَافَةً مِنْ شُيُوعِهَا أَوْ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ لَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُبَادَرَتَهَ وَوَبَّخَهُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي تَرْكِ تَعْيِينِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِالسَّبَبِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِي بَيَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيَانَهُمْ مَفْسَدَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ عَبْرِ الرؤيا وأن(15/29)
عَابِرَهَا قَدْ يُصِيبُ وَقَدْ يُخْطِئُ وَأَنَّ الرُّؤْيَا لَيْسَتْ لِأَوَّلِ عَابِرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا أَصَابَ وَجْهَهَا وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إِبْرَارُ الْمُقْسِمِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ أَوْ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ قَالَ الْقَاضِي وَفِيهِ أَنَّ مَنْ قَالَ أُقْسِمُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ أُقْسِمُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي عَجَبٌ فَإِنَّ الَّذِي فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ فَوَاللَّهِ يارسول اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي وَهَذَا صَرِيحُ يَمِينٍ وَلَيْسَ فِيهَا أُقْسِمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي قِيلَ لِمَالِكٍ أَيَعْبُرُ الرَّجُلُ الرُّؤْيَا عَلَى الْخَيْرِ وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى الشَّرِّ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَبِالنُّبُوَّةِ يَتَلَعَّبُ هِيَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ قَوْلُهُ (كَانَ مِمَّا يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا) قَالَ الْقَاضِي مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ عِنْدَهُمْ كَثِيرًا مَا كان يفعل كذا كأنه قَالَ مِنْ شَأْنِهِ وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى عِلْمِ الرُّؤْيَا وَالسُّؤَالِ عَنْهَا وَتَأْوِيلِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَسُؤَالُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/30)
يُعَلِّمُهُمْ تَأْوِيلَهَا وَفَضِيلَتَهَا وَاشْتِمَالَهَا عَلَى مَا شَاءَ الله تعالى من الاخبار بالغيب قوله
[2270] (برطب من رطب بن طَابٍ) هُوَ نَوْعٌ مِنَ الرُّطَبِ مَعْرُوفٌ يُقَالُ له رطب بن طاب وتمر بن طاب وعذق بن طاب وعرجون بن طاب وهي مضاف إلى بن طَابٍ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم (وان ديننا قد طاب) أي كمل واستقرت أحكامه وتمهدت قواعده قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2272] (رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ) أَمَّا الْوَهَلُ فَبِفَتْحِ الْهَاءِ وَمَعْنَاهُ وَهْمِي وَاعْتِقَادِي وَهَجَرُ مَدِينَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ قَاعِدَةُ الْبَحْرَيْنِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَأَمَّا يَثْرِبُ فَهُوَ اسْمُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى المدينة وَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيْبَةَ وَطَابَةَ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ مَبْسُوطًا فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ تَسْمِيَتِهَا يَثْرِبَ لِكَرَاهَةِ لَفْظِ التَّثْرِيبِ وَلِأَنَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَسَمَّاهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَثْرِبَ فَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ وَقِيلَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ(15/31)
وَقِيلَ خُوطِبَ بِهِ مَنْ يَعْرِفُهَا بِهِ وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِهِ الشَّرْعِيِّ فَقَالَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَرَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ) أَمَّا هَزَزْتُ وَهَزَزْتُهُ فَوَقَعَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ بِالزَّائِينَ فِيهِمَا وَفِي بَعْضِهَا هَزَّتْ وَهَزَّتْهُ بِزَايٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَإِسْكَانِ التَّاءِ وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الرُّؤْيَا بِمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ سَيْفَ الرَّجُلِ أَنْصَارُهُ الَّذِينَ يَصُولُ بِهِمْ كَمَا يَصُولُ بِسَيْفِهِ وَقَدْ يُفَسَّرُ السَّيْفُ فِي غَيْرِ هَذَا بِالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْعَمِّ أَوِ الْأَخِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الْوِلَايَةِ أَوِ الْوَدِيعَةِ وَعَلَى لِسَانِ الرَّجُلِ وَحُجَّتِهِ وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى سُلْطَانٍ جَائِرٍ وَكُلُّ ذَلِكَ بِحَسْبِ قَرَائِنَ تَنْضَمُّ تَشْهَدُ لِأَحَدِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الرَّائِي أَوْ فِي الرُّؤْيَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَرَأَيْتُ فِيهَا أَيْضًا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ فَإِذَا هُمُ النَّفَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ وَإِذَا الخير ماجاء اللَّهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ بَعْدُ وَثَوَابُ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا اللَّهُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ) قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ زِيَادَةٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَرَأَيْتُ بَقَرًا تُنْحَرُ وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يَتِمُّ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا بِمَا ذَكَرَ فَنَحْرُ الْبَقَرِ هُوَ قَتْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا بِأُحُدٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ضَبَطْنَا هَذَا الْحَرْفَ عن جميع الرواة والله خير رفع الهاء والراء على المبتدأ والخبر وبعد يَوْمَ بَدْرٍ بِضَمِّ دَالِ بَعْدُ وَنَصْبِ يَوْمَ قَالَ وَرُوِيَ بِنَصْبِ الدَّالِ قَالُوا وَمَعْنَاهُ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ بَدْرٍ الثَّانِيَةِ مِنْ تَثْبِيتِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ النَّاسَ جَمَعُوا لَهُمْ وخوفوهم فزادهم ذلك ايمانا وقالوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وفضل لم يمسسهم سوء وَتَفَرَّقَ الْعَدُوُّ عَنْهُمْ هَيْبَةً لَهُمْ قَالَ الْقَاضِي قَالَ أَكْثَرُ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ مَعْنَاهُ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ أَيْ صُنْعُ اللَّهِ بِالْمَقْتُولِينَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ بَقَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَالَ الْقَاضِي وَالْأَوْلَى قَوْلُ مَنْ قَالَ(15/32)
وَاللَّهُ خَيْرٌ مِنْ جُمْلَةِ الرُّؤْيَا وَكَلِمَةٍ أُلْقِيَتْ إليه وسمعها في الرؤيا عند رؤياه الْبَقَرِ بِدَلِيلِ تَأْوِيلِهِ لَهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2273] (أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ وَرَدَ الْمَدِينَةَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ فَجَاءَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا جَاءَهُ تَأَلُّفًا لَهُ وَلِقَوْمِهِ رَجَاءَ إِسْلَامِهِمْ وَلِيُبَلِّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي وَيَحْتَمِلُ أَنَّ سَبَبَ مَجِيئِهِ إِلَيْهِ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ قَصَدَهُ مِنْ بَلَدِهِ لِلِقَائِهِ فَجَاءَهُ مُكَافَأَةً لَهُ قَالَ وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ إِذْ ذَاكَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَإِنَّمَا ظَهَرَ كُفْرُهُ وَارْتِدَادُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ هُوَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا مَرَّتَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَيْلَمَةَ (وَلَنْ أَتَعَدَّى أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ) فَهَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ قَالَ الْقَاضِي هُمَا صَحِيحَانِ فَمَعْنَى الْأَوَّلِ لَنْ أَعْدُوَ أَنَا أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ مِنْ أَنِّي لَا أُجِيبُكَ إِلَى مَا طَلَبْتَهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَك مِنَ الِاسْتِخْلَافِ أَوِ الْمُشَارَكَةِ وَمِنْ أَنِّي أُبَلِّغُ مَا أُنْزِلَ إِلَيَّ وَأَدْفَعُ أَمْرَكَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَمَعْنَى الثَّانِي وَلَنْ تَعْدُوَ أَنْتَ أَمْرَ اللَّهِ فِي خَيْبَتِكَ فِيمَا أَمَّلْتَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَهَلَاكِكَ دُونَ ذَلِكَ أَوْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ فِي شَقَاوَتِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ) أَيْ إِنْ أَدْبَرْتَ عَنْ طَاعَتِي لَيَقْتُلَنَّكَ اللَّهُ وَالْعَقْرُ الْقَتْلُ وَعَقَرُوا النَّاقَةَ قَتَلُوهَا وَقَتَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي) قَالَ الْعُلَمَاءُ كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ خَطِيبَ رَسُولِ اللَّهِ(15/33)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِبُ الْوُفُودَ عَنْ خُطَبِهِمْ وَتَشَدُّقِهِمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2274] (فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي فَكَانَ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيَّ صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَالْآخَرُ مُسَيْلَمَةَ صَاحِبَ الْيَمَامَةِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجَانِ بَعْدِي أَيْ يُظْهِرَانِ شَوْكَتَهُمَا أَوْ مُحَارَبَتَهُمَا وَدَعْوَاهُمَا النُّبُوَّةَ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَا فِي زَمَنِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَوَضَعَ فِي يَدَيَّ أُسْوَارَيْنِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ سِوَارٌ بكسر السين وضمها وأسوار بضم الهمز ثلاث لغلات وَوَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أُسْوَارَيْنِ فَيَكُونُ وَضَعَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالضَّادِ وَفِيهِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ أَيْ وَضَعَ الْآتِي بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ فِي يَدَيَّ أَسُوَارَيْنِ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ فَوُضِعَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِنَصْبِ أَسُوَارَيْنِ وَإِنْ كَانَ يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهٍ ضَعِيفٍ وَقَوْلُهُ يَدَيَّ هُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى التَّثْنِيَةِ قوله صلى الله عليه سلم (فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا) هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَنَفْخُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمَا فَطَارَا دليل لانمحاقهما واضمحلال أمرها وَكَانَ كَذَلِكَ وَهُوَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ قَوْلُهُ (أُوتِيتُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ) وَفِي بَعْضِ(15/34)
النُّسَخِ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ وَفِي بَعْضِهَا أُتِيتُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ وَهَذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا وَفِي غَيْرِ مُسْلِمٍ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الْأَرْضِ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى سُلْطَانِهَا وَمُلْكِهَا وَفَتْحِ بِلَادِهَا وَأَخْذِ خَزَائِنِ أَمْوَالِهَا وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَهُوَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ قَوْلُهُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2275] (إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ الْبَارِحَةَ فِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ إِطْلَاقِ الْبَارِحَةِ عَلَى اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَوْلُ ثَعْلَبٍ وَغَيْرِهِ إِنَّهُ لَا يُقَالُ الْبَارِحَةُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ هَذَا حَقِيقَتُهُ وَلَا يُمْتَنَعُ إِطْلَاقُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ مَجَازًا وَيَحْمِلُونَ الْحَدِيثَ عَلَى الْمَجَازِ وَإِلَّا فَمَذْهَبُهُمْ بَاطِلٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِاسْتِحْبَابِ إِقْبَالِ الْإِمَامِ الْمُصَلِّي بَعْدَ سَلَامِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ السُّؤَالِ عَنِ الرُّؤْيَا وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى تَأْوِيلِهَا وَتَعْجِيلِهَا أَوَّلَ النَّهَارِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ الذِّهْنَ جُمِعَ قَبْلَ أَنْ يَتَشَعَّبَ بِإِشْغَالِهِ فِي مَعَايِشِ الدُّنْيَا وَلِأَنَّ عَهْدَ الرَّائِي قَرِيبٌ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُهَوِّشُ الرُّؤْيَا عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهُ كَالْحَثِّ عَلَى خَيْرٍ أَوِ التَّحْذِيرِ مِنْ مَعْصِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَفِيهِ إِبَاحَةُ الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَتَفْسِيرِ الرُّؤْيَا وَنَحْوِهِمَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِيهِ أَنَّ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ فِي جُلُوسِهِ لِلْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مُبَاحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(15/35)
(كِتَاب الْفَضَائِلِ)
بَاب فَضْلِ نَسَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ عَلَيْهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ
[2276] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ) إِلَى آخِرِهِ اسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ غَيْرَ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهُمْ وَلَا غَيْرَ بَنِي هَاشِمٍ كُفُؤٌ لَهُمْ إِلَّا بَنِي الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُمْ هُمْ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2277] (إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ) فِيهِ مُعْجِزَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي هَذَا إِثْبَاتُ التَّمْيِيزِ فِي بَعْضِ الْجَمَادَاتِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِجَارَةِ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يسبح)(15/36)
حَقِيقَةً وَيَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ تَمْيِيزًا بِحَسْبِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَمِنْهُ الْحَجَرُ الَّذِي فَرَّ بِثَوْبِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامُ الذِّرَاعِ الْمَسْمُومَةِ وَمَشْيُ إِحْدَى الشَّجَرَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى حِينَ دَعَاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ
(بَاب تَفْضِيلِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2278] (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) قَالَ الْهَرَوِيُّ السَّيِّدُ هُوَ الَّذِي يَفُوقُ قَوْمَهُ فِي الْخَيْرِ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ الَّذِي يُفْزَعُ إِلَيْهِ فِي النَّوَائِبِ وَالشَّدَائِدِ فَيَقُومُ بِأَمْرِهِمْ وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ مَكَارِهَهُمْ وَيَدْفَعُهَا عَنْهُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَنَّهُ سَيِّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبَبُ التَّقْيِيدِ أَنَّ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَظْهَرُ سؤدده لكل أحد ولا يبقى مناع وَلَا مُعَانِدٌ وَنَحْوُهُ بِخِلَافِ الدُّنْيَا فَقَدْ نَازَعَهُ ذَلِكَ فِيهَا مُلُوكُ الْكُفَّارِ وَزُعَمَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَهَذَا التَّقْيِيدُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ مَعَ أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ سُبْحَانَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَكِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مَنْ يَدَّعِي الْمُلْكَ أَوْ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ مَجَازًا فَانْقَطَعَ كُلُّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ لَمْ يَقُلْهُ فَخْرًا بَلْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْفَخْرِ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ وَإِنَّمَا قَالَهُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا امْتِثَالُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ ربك فحدث وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنَ الْبَيَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ إِلَى أُمَّتِهِ لِيَعْرِفُوهُ وَيَعْتَقِدُوهُ وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ وَيُوَقِّرُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا تَقْتَضِي مَرْتَبَتُهُ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِتَفْضِيلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْآدَمِيِّينَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْآدَمِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَجَوَابُهُ مِنْ خمسة أوجه أحدهما أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/37)
قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فَلَمَّا عَلِمَ أَخْبَرَ بِهِ وَالثَّانِي قَالَهُ أَدَبًا وَتَوَاضُعًا وَالثَّالِثُ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى تَنْقِيصِ الْمَفْضُولِ وَالرَّابِعُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَةِ وَالْفِتْنَةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي سَبَبِ الْحَدِيثِ وَالْخَامِسُ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالتَّفْضِيلِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ فَلَا تَفَاضُلَ فِيهَا وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بِالْخَصَائِصِ وَفَضَائِلَ أُخْرَى وَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِقَادِ التَّفْضِيلِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بعضهم على بعض قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) إِنَّمَا ذَكَرَ الثَّانِي لِأَنَّهُ قَدْ يَشْفَعُ اثْنَانِ فَيَشْفَعُ الثَّانِي مِنْهُمَا قَبْلَ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَتَكْثِيرِهِ وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ هَذِهِ كُلُّهَا مُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَاتٌ وُجِدَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ وَعَلَى أَحْوَالٍ مُتَغَايِرَةٍ وَبَلَغَ مَجْمُوعُهَا التَّوَاتُرَ وَأَمَّا تَكْثِيرُ الْمَاءِ فَقَدْ صَحَّ من رواية أنس وبن مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَكَذَا تَكْثِيرُ الطَّعَامِ وُجِدَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ وَعَلَى أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَصِفَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الرُّقَى بَيَانُ حَقِيقَةِ الْمُعْجِزَةِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَرَامَةِ وَسَبَقَ قَبْلَ ذَلِكَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ
[2279] (فَأَتَى بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَيُقَالُ لَهُ رَحْرَحٌ بِحَذْفِ الْأَلْفِ وَهُوَ الْوَاسِعُ الْقَصِيرُ الْجِدَارِ قَوْلُهُ (فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ) هُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ وَفِي كَيْفِيَّةِ هَذَا النَّبْعِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي وغيره أحدهما ونقله القاضي عن المزتي وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْبُعُ مِنْ ذَاتِهَا قَالُوا وَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْمُعْجِزَةِ مِنْ نَبْعِهِ مِنْ حَجَرٍ وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ أَصَابِعِهِ وَالثَّانِي يَحْتَمِلُ(15/38)
أَنَّ اللَّهَ كَثَّرَ الْمَاءَ فِي ذَاتِهِ فَصَارَ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ لَا مِنْ نَفْسِهَا وَكِلَاهُمَا مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ وَآيَةٌ بَاهِرَةٌ قَوْلُهُ (فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى الْمَشْهُورِ وهو الماءالذي يُتَوَضَّأُ بِهِ وَسَبَقَ بَيَانُ لُغَاتِهِ فِي كِتَابِ الطهارة قوله (حتى توضؤا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ) هَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من عند آخرهم وهو صحيح ومن هُنَا بِمَعْنَى إِلَى وَهِيَ لُغَةٌ قَوْلُهُ (كَانُوا زُهَاءَ الثَّلَاثِمِائَةِ) أَمَّا زُهَاءَ فَبِضَمِّ الزَّايِ وَبِالْمَدِّ أَيْ قَدْرَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَيُقَالُ أَيْضًا لَهَا بِاللَّامِ وَقَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ثَلَاثِمِائَةٍ وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الثَّمَانِينَ قَالَ الْعُلَمَاءُ هُمَا قَضِيَّتَانِ جَرَتَا فِي وَقْتَيْنِ وَرَوَاهُمَا جَمِيعًا أَنَسٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّلَاثُمِائَةِ فَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الثَّلَاثُمِائَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَسَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ(15/39)
حذيفة اكتبوا لي كم بلفظ الاسلام قَوْلُهُ (لَا يَغْمُرُ أَصَابِعَهُ) أَيْ لَا يُغَطِّيهَا قَوْلُهُ (وَالْمَسْجِدُ فِيمَا ثَمَّةَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ ثَمَّةَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ ثَمَّ بفتح الثاء وثمة بفتح الهاء بِمَعْنَى هُنَاكَ وَهُنَا فَثَمَّ لِلْبَعِيدِ وَثَمَّةَ لِلْقَرِيبِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2280] (لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا) أَيْ مَوْجُودًا حَاضِرًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ غَزْوَةِ تَبُوكَ
[706] (كَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ) إِلَى آخِرِهِ هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَفِيهِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ(15/40)
الظَّاهِرَةُ فِي تَكْثِيرِ الْمَاءِ وَفِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ قَوْلُهُ (وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ هُنَا تَبِضُّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَنَقَلَ الْقَاضِي اتِّفَاقَ الرُّوَاةِ هُنَا عَلَى أَنَّهُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَمَعْنَاهُ تَسِيلُ وَاخْتَلَفُوا فِي ضَبْطِهِ هُنَاكَ فَضَبَطَهُ بعضهم بالمعجمة وبعضهم بالمهملة أي تبرق والشراك بِكَسْرِ الشِّينِ وَهُوَ سَيْرُ النَّعْلِ وَمَعْنَاهُ مَاءٌ قَلِيلٌ جِدًّا قَوْلُهُ (فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) أَيْ كَثِيرِ الصَّبِّ وَالدَّفْعِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَدْ مُلِئَ جِنَانًا) أَيْ بَسَاتِينَ وَعُمْرَانًا وَهُوَ جَمْعُ جَنَّةٍ وَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا حِينَ عَصَرَتِ الْعُكَّةَ ذَهَبَتْ بَرَكَةُ السَّمْنِ وَفِي حَدِيثِ الرجل حين كان الشَّعِيرَ فَنِيَ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ حِينَ كَالَتِ الشَّعِيرَ فَفَنِيَ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَصْرَهَا وَكَيْلَهُ مُضَادَّةٌ لِلتَّسْلِيمِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَضَمَّنُ التَّدْبِيرَ وَالْأَخْذَ بِالْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَتَكَلُّفِ الْإِحَاطَةِ(15/41)
بِأَسْرَارِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ فَعُوقِبَ فَاعِلُهُ بِزَوَالِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيقَةِ
[1392] (اخْرُصُوهَا) هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَالضَّمُّ أَشْهَرُ أَيِ احْزِرُوا كَمْ يَجِيءُ مِنْ تَمْرِهَا فِيهِ اسْتِحْبَابُ امْتِحَانِ الْعَالِمِ أَصْحَابَهُ بِمِثْلِ هَذَا التَّمْرِينِ وَالْحَدِيقَةُ الْبُسْتَانُ مِنَ النَّخْلِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ حَائِطٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَتَهُبُّ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلَا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالَهُ فَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الريح حتى ألقته بجبلى طئ) هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ الظَّاهِرَةُ مِنْ إِخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَغِيبِ وَخَوْفِ الضَّرَرِ مِنَ الْقِيَامِ وَقْتَ الرِّيحِ وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى أُمَّتِهِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَالِاعْتِنَاءِ بِمَصَالِحِهِمْ وتحديرهم مَا يَضُرُّهُمْ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا وَإِنَّمَا أَمَرَ بِشَدِّ عَقْلِ الْجِمَالِ لِئَلَّا يَنْفَلِتَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إِلَى الْقِيَامِ فِي طَلَبِهِ فيلحقه ضرر الريح وجبلا طئ مَشْهُورَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا أَجَاءُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْجِيمِ وبالهمز والآخر سلمى بفتح السين وطىء بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ عَلَى وَزْنِ سَيِّدٍ وهو أبو قبيله من اليمن وهو طئ بْنُ أُدَرَ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأِ بْنِ حِمْيَرَ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَطَيِّئٌ بهمز ولا يهمز لغتان قوله (وجاء رسول بن الْعَلْمَاءِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَبِالْمَدِّ قَوْلُهُ (وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ) فِيهِ قَبُولُ هَدِيَّةِ الْكَافِرِ وَسَبَقَ بَيَانُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا يُعَارِضُهُ فِي الظَّاهِرِ وَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا وَهَذِهِ الْبَغْلَةُ هي دلدل بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة(15/42)
لَكِنْ ظَاهِرُ لَفْظِهِ هُنَا أَنَّهُ أَهْدَاهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَغْلَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَحَضَرَ عَلَيْهَا غَزَاةَ حُنَيْنٍ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَكَانَتْ حُنَيْنٌ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ قَالَ الْقَاضِي وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ غَيْرُهَا قَالَ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَهْدَاهَا لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ عَطَفَ الْإِهْدَاءَ عَلَى الْمَجِيءِ بِالْوَاوِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهَذَا أُحُدٌ وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) سَبَقَ شَرْحُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ) قَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ أَهْلُ(15/43)
الدُّورِ وَالْمُرَادُ الْقَبَائِلُ وَإِنَّمَا فَضَّلَ بَنِي النَّجَّارِ لِسَبْقِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَآثَارِهِمُ الْجَمِيلَةِ فِي الدِّينِ قَوْلُهُ (ثُمَّ دَارِ بَنِي عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ بَنِي عَبْدِ الْحَارِثِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي قَالَ وَهُوَ خَطَأٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَصَوَابُهُ بَنِي الْحَارِثِ بِحَذْفِ لَفْظَةِ عَبْدِ قَوْلُهُ (وَكَتَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَحْرِهِمْ) أَيْ بِبَلَدِهِمْ وَالْبِحَارُ الْقُرَى
(بَاب تَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعِصْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ النَّاسِ)
فِيهِ حَدِيثُ جابر ففيه بَيَانُ تَوَكُّلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اللَّهِ وَعِصْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنَ النَّاسِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِظْلَالِ بِأَشْجَارِ الْبَوَادِي وَتَعْلِيقِ السِّلَاحِ وغيره فيها وجوازا لمن عَلَى الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَإِطْلَاقِهِ وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ وَمُقَابَلَةِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ قَوْلُهُ
[843] (فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ) هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ كُلُّ شَجَرَةٍ ذَاتِ شَوْكٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الرَّجُلُ اسمه(15/44)
غَوْرَثٌ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ وَالْغَيْنُ مَضْمُومَةٌ وَمَفْتُوحَةٌ وَحَكَى الْقَاضِي الْوَجْهَيْنِ ثُمَّ قَالَ الصَّوَابُ الْفَتْحُ قَالَ وَضَبَطَهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالصَّوَابُ الْمُعْجَمَةُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هُوَ غُوَيْرِثٌ أَوْ غَوْرَثٌ عَلَى التَّصْغِيرِ وَالشَّكِّ وَهُوَ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ وَسُمِّيَ الرَّجُلُ فِيهِ دُعْثُورًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ إِلَى قَوْلِهِ فَشَامَ السَّيْفَ) أَمَّا صَلْتًا فَبِفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّهَا أَيْ مَسْلُولًا وَأَمَّا شَامَهُ فَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَمَعْنَاهُ غَمَدَهُ وَرَدَّهُ فِي غِمْدِهِ يُقَالُ شَامَ السَّيْفَ إِذَا سَلَّهُ وَإِذَا أَغْمَدَهُ فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ وَالْمُرَادُ هنا أغمده(15/45)
(بَاب بَيَانِ مَثَلِ مَا بُعِثَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2282] (إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانُ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) أَمَّا الْغَيْثُ فَهُوَ الْمَطَرُ وَأَمَّا الْعُشْبُ وَالْكَلَأُ وَالْحَشِيشُ فَكُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِلنَّبَاتِ لَكِنَّ الْحَشِيشَ مُخْتَصٌّ بِالْيَابِسِ وَالْعُشْبُ والكلأ مقصورا مختصان بالرطب والكلأ بِالْهَمْزِ يَقَعُ عَلَى الْيَابِسِ وَالرَّطْبِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وبن فَارِسٍ الْكَلَأُ يَقَعُ عَلَى الْيَابِسِ وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَأَمَّا الْأَجَادِبُ فَبِالْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ الأرض التي لا تُنْبِتُ كَلَأً وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ فَلَا يُسْرِعُ فِيهِ النُّضُوبُ قَالَ بن بَطَّالٍ وَصَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَآخَرُونَ هُوَ جَمْعُ جَدْبٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا قَالُوا فِي حَسَنٍ جَمْعُهُ مَحَاسِنُ وَالْقِيَاسُ أَنَّ مَحَاسِنَ جَمْعُ مُحْسِنٍ وَكَذَا قَالُوا مُشَابِهُ جَمْعُ شَبَهٍ وَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مُشَبَّهٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَحَادِبُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالدَّالِ قَالَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَجَارِدُ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ وَالدَّالِ قَالَ وَهُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى إِنْ(15/46)
سَاعَدَتْهُ الرِّوَايَةُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ الْأَجَارِدُ مِنَ الْأَرْضِ مالا يُنْبِتُ الْكَلَأَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا جَرْدَاءُ هَزْرَةٌ لَا يَسْتُرُهَا النَّبَاتُ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا هِيَ أَخَاذَاتٌ بِالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَبِالْأَلْفِ وَهُوَ جَمْعُ أَخَاذَةٍ وَهِيَ الْغَدِيرُ الَّذِي يُمْسِكُ الْمَاءَ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخَطَّابِيُّ فَجَعَلَهَا رِوَايَاتٍ مَنْقُولَةً وَقَالَ الْقَاضِي فِي الشَّرْحِ لَمْ يَرِدْ هَذَا الْحَرْفُ فِي مُسْلِمٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ إِلَّا بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْجَدْبِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخِصْبِ قَالَ وَعَلَيْهِ شَرَحَ الشَّارِحُونَ وَأَمَّا الْقِيعَانُ فَبِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ الْقَاعِ وَهُوَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ وَقِيلَ الْمَلْسَاءُ وَقِيلَ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَقْوُعٍ وَأَقْوَاعٍ والقيعة بِكَسْرِ الْقَافُ بِمَعْنَى الْقَاعِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ قَاعَةُ الدار ساحتها وأما الفقه في اللغة فهو الفهم يُقَالُ مِنْهُ فَقِهَ بِكَسْرِ الْقَافِ يَفْقَهُ فِقَهًا بِفَتْحِهَا كَفَرِحَ يَفْرَحُ فَرَحًا وَقِيلَ الْمَصْدَرُ فِقْهًا بِإِسْكَانِ الْقَافِ وَأَمَّا الْفِقْهُ الشَّرْعِيُّ فَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَالْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا يُقَالُ مِنْهُ فَقُهَ بِضَمِّ القاف وقال بن دُرَيْدٍ بِكَسْرِهَا كَالْأَوَّلِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ هَذَا الثَّانِي فَيَكُونُ مَضْمُومَ الْقَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَعَلَى قول بن دُرَيْدٍ بِكَسْرِهَا وَقَدْ رُوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ وَالْمَشْهُورُ الضَّمُّ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ فَكَانَ مِنْهُ نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ قَافٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتُ مُشَدَّدَةٍ وَهُوَ بِمَعْنَى طَيِّبَةٍ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ وَرَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ ثَغْبَةٌ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ هُوَ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ فِي الْجِبَالِ وَالصُّخُورِ وَهُوَ الثَّغْبُ أَيْضًا وَجَمْعُهُ ثُغْبَانٌ قَالَ الْقَاضِي وَصَاحِبُ الْمَطَالِعِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ غَلَطٌ مِنَ النَّاقِلِينَ وَتَصْحِيفٌ وَإِحَالَةٌ لِلْمَعْنَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا جُعِلَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى مَثَلًا لِمَا يَنْبُتُ وَالثَّغْبَةُ لَا تُنْبِتُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَقَوْا فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ سَقَى وَأَسْقَى بِمَعْنًى لُغَتَانِ وَقِيلَ سَقَاهُ نَاوَلَهُ لِيَشْرَبَ وَأَسْقَاهُ جَعَلَ لَهُ سَقْيًا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَعَوْا فَهُوَ بِالرَّاءِ مِنَ الرَّعْيِ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ وَزَرَعُوا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَمَّا مَعَانِي الْحَدِيثِ وَمَقْصُودُهُ فَهُوَ تَمْثِيلُ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَيْثِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْضَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ وَكَذَلِكَ النَّاسُ فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَرْضِ يَنْتَفِعُ بِالْمَطَرِ فَيَحْيَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مَيْتًا وَيُنْبِتُ الْكَلَأَ فَتَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ وَالدَّوَابُّ وَالزَّرْعُ وَغَيْرُهَا وَكَذَا النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ النَّاسِ يَبْلُغُهُ الهدى(15/47)
وَالْعِلْمُ فَيَحْفَظُهُ فَيَحْيَا قَلْبُهُ وَيَعْمَلُ بِهِ وَيُعَلِّمُهُ غَيْرَهُ فَيَنْتَفِعُ وَيَنْفَعُ وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْأَرْضِ مالا تَقْبَلُ الِانْتِفَاعَ فِي نَفْسِهَا لَكِنْ فِيهَا فَائِدَةٌ وَهِيَ إِمْسَاكُ الْمَاءِ لِغَيْرِهَا فَيَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ وَالدَّوَابُّ وَكَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ النَّاسِ لَهُمْ قُلُوبٌ حَافِظَةٌ لَكِنْ لَيْسَتْ لَهُمْ أَفْهَامٌ ثَاقِبَةٌ وَلَا رُسُوخَ لَهُمْ فِي الْعَقْلِ يَسْتَنْبِطُونَ بِهِ الْمَعَانِيَ وَالْأَحْكَامَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمُ اجْتِهَادٌ فِي الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَهُمْ يَحْفَظُونَهُ حَتَّى يَأْتِيَ طَالِبٌ مُحْتَاجٌ مُتَعَطِّشٌ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أَهْلٌ لِلنَّفْعِ وَالِانْتِفَاعِ فَيَأْخُذَهُ مِنْهُمْ فَيَنْتَفِعَ بِهِ فَهَؤُلَاءِ نَفَعُوا بِمَا بَلَغَهُمْ وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَرْضِ السِّبَاخُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ وَنَحْوُهَا فَهِيَ لَا تَنْتَفِعُ بِالْمَاءِ وَلَا تُمْسِكُهُ لِيَنْتَفِعَ بِهَا غَيْرُهَا وَكَذَا النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ النَّاسِ لَيْسَتْ لَهُمْ قُلُوبٌ حَافِظَةٌ وَلَا أَفْهَامٌ وَاعِيَةٌ فَإِذَا سَمِعُوا الْعِلْمَ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلَا يَحْفَظُونَهُ لِنَفْعِ غَيْرِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعِلْمِ مِنْهَا ضَرْبُ الْأَمْثَالِ وَمِنْهَا فَضْلُ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَشِدَّةُ الْحَثِّ عَلَيْهِمَا وَذَمُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعِلْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب شَفَقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ)
وَمُبَالَغَتِهِ فِي تَحْذِيرِهِمْ مِمَّا يَضُرُّهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
[2283] (لأني أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ أَصْلُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ إِنْذَارَ قَوْمِهِ وَإِعْلَامَهُمْ بِمَا يُوجِبُ الْمَخَافَةَ نَزَعَ ثَوْبَهُ وَأَشَارَ بِهِ إِلَيْهِمْ اذا كان بعيدا منهم ليخبرهم بمادهمهم وَأَكْثَرُ مَا يَفْعَلُ هَذَا رَبِيئَةُ الْقَوْمِ وَهُوَ طَلِيعَتُهُمْ وَرَقِيبُهُمْ قَالُوا وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْيَنُ لِلنَّاظِرِ وَأَغْرَبُ وَأَشْنَعُ مَنْظَرًا فَهُوَ أَبْلَغُ فِي اسْتِحْثَاثِهِمْ فِي التَّأَهُّبِ لِلْعَدُوِّ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَا النَّذِيرُ الَّذِي أَدْرَكَنِي جَيْشُ الْعَدُوِّ فَأَخَذَ ثِيَابِي فَأَنَا أُنْذِرُكُمْ عُرْيَانًا قَوْلُهُ (فَالنَّجَاءَ) مَمْدُودٌ أَيِ انْجُوا النَّجَاءَ أَوِ اطْلُبُوا النَّجَاءَ(15/48)
قَالَ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ فِي النَّجَاءِ إِذَا أُفْرِدَ الْمَدُّ وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ فِيهِ الْقَصْرَ أَيْضًا فَإِذَا مَا كَرَّرُوهُ فَقَالُوا النَّجَاءَ النَّجَاءَ فَفِيهِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ مَعًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مُهْلَتِهِمْ) أَمَّا أَدْلَجُوا فَبِإِسْكَانِ الدَّالِ وَمَعْنَاهُ سَارُوا مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ يُقَالُ أَدْلَجْتُ بِإِسْكَانِ الدَّالِ إِدْلَاجًا كَأَكْرَمْتُ إِكْرَامًا وَالِاسْمُ الدَّلْجَةُ بِفَتْحِ الدَّالِ فَإِنْ خَرَجْتَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قُلْتَ ادَّلَجْتُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَدَّلِجُ ادِّلَاجًا بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا وَالِاسْمُ الدُّلْجَةُ بِضَمِّ الدَّالِ قال بن قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُ الْوَجْهَيْنِ فِي كل واحد منهما وأماقوله عَلَى مُهْلَتِهِمْ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مسلم بضم الميم وإسكان الهاء وبتاء بَعْدَ اللَّامِ وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ مَهَلِهِمْ بِحَذْفِ التَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَالْهَاءِ وَهُمَا صَحِيحَانِ(15/49)
قَوْلُهُ (فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ) أَيِ اسْتَأْصَلَهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا)
[2284] وَفِي رِوَايَةٍ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهَا
[2285] وَفِي رِوَايَةٍ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي أَمَّا الْفَرَاشُ فَقَالَ الْخَلِيلُ هُوَ الَّذِي يَطِيرُ كَالْبَعُوضِ وَقَالَ غَيْرُهُ مَا تَرَاهُ كَصِغَارِ الْبَقِّ يَتَهَافَتُ فِي النَّارِ وَأَمَّا الْجَنَادِبُ فَجَمْعُ جُنْدُبٍ وَفِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ جُنْدُبٌ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا وَالْجِيمُ مَضْمُومَةٌ فِيهِمَا وَالثَّالِثَةُ حَكَاهُ الْقَاضِي بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَالْجَنَادِبُ هَذَا الصِّرَارُ الَّذِي يُشْبِهُ الْجَرَادَ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الْجُنْدُبُ عَلَى خِلْقَةِ الْجَرَادِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ كَالْجَرَادَةِ وَأَصْغَرُ مِنْهَا يَطِيرُ وَيُصِرُّ بِاللَّيْلِ صَرًّا شَدِيدًا وَقِيلَ غيره وأما التَّقَحُّمُ فَهُوَ الْإِقْدَامُ وَالْوُقُوعُ فِي الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ من غير تثبت والحجز جَمْعُ حُجْزَةٍ وَهِيَ مَعْقِدُ الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ فَرُوِيَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْمُ فَاعِلٍ بِكَسْرِ الخاء وتنوين الذال والثاني فعل مُضَارِعٍ بِضَمِّ الذَّالِ بِلَا تَنْوِينٍ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَهُمَا صَحِيحَانِ وَأَمَّا تَفَلَّتُونَ فَرُوِيَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا فتح التاء والفاء الْمُشَدَّدَةِ وَالثَّانِي ضَمُّ التَّاءِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ يُقَالُ أَفْلَتَ مِنِّي وَتَفَلَّتَ إِذَا نَازَعَكَ الْغَلَبَةَ وَالْهَرَبَ ثُمَّ غَلَبَ وَهَرَبَ وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ تَسَاقُطَ الْجَاهِلِينَ وَالْمُخَالِفِينَ بِمَعَاصِيهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ في نارالآخرة وَحِرْصِهِمْ عَلَى الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ مَعَ مَنْعِهِ إِيَّاهُمْ وَقَبْضِهِ عَلَى مَوَاضِعِ الْمَنْعِ مِنْهُمْ بِتَسَاقُطِ الْفَرَاشِ فِي نَارِ الدُّنْيَا لِهَوَاهُ وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِ وَكِلَاهُمَا حَرِيصٌ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ سَاعٍ فِي ذَلِكَ لِجَهْلِهِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سَلِيمٌ عَنْ سَعِيدٍ) هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ سَلِيمُ بن حبان(15/50)
بَاب ذِكْرِ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ
(فِي الْبَابِ قَوْلُهُ
[2286]
[2287] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي إِلَى قَوْلِهِ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) فِيهِ فَضِيلَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَجَوَازُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ فِي الْعِلْمِ وغيره واللبنة بفتح اللام)(15/51)
وَكَسْرِ الْبَاءِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُ الْبَاءِ مَعَ فَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا كَمَا فِي نَظَائِرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَابُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةَ أُمَّةٍ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا)
قَالَ مَسْلَمَةُ
[2288] (وَحُدِّثْتُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ وَمِمَّنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ إِلَى آخِرِهِ) قَالَ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُنْقَطِعَةِ فِي مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الَّذِي حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ قُلْتُ وَلَيْسَ هَذَا حَقِيقَةَ انْقِطَاعٍ وَإِنَّمَا هُوَ رِوَايَةُ مَجْهُولٍ وَقَدْ وَقَعَ فِي حَاشِيَةِ بَعْضِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ قال الجلودي حدثنا محمد بن المسيب الارعياني قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِإِسْنَادِهِ(15/52)
(بَاب إِثْبَاتِ حَوْضِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَاتِهِ)
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيثُ الْحَوْضِ صَحِيحَةٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ فَرْضٌ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يُتَأَوَّلُ وَلَا يُخْتَلَفُ فِيهِ قَالَ الْقَاضِي وَحَدِيثُهُ مُتَوَاتِرُ النَّقْلِ رَوَاهُ خَلَائِقُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَعُقْبَةَ بن عامر وبن مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَحَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ وَالْمُسْتَوْرِدِ وَأَبِي ذَرٍّ وَثَوْبَانَ وَأَنَسٍ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن زيد وأبي برزة وسويد بن حبلة وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصُّنَابِحِيِّ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَخَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَغَيْرِهِمْ قُلْتُ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَائِذِ بْنِ عُمَرَ وَآخَرِينَ وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ بِأَسَانِيدِهِ وَطُرُقِهِ الْمُتَكَاثِرَاتِ قَالَ الْقَاضِي وَفِي بَعْضِ هَذَا مَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْحَدِيثِ مُتَوَاتِرًا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2289] (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْفَرَطُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ وَالْفَارِطُ هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَ لِيُصْلِحَ لَهُمْ وَالْحِيَاضُ وَالدِّلَاءُ وَنَحْوُهَا مِنْ أُمُورِ الِاسْتِقَاءِ فَمَعْنَى فرطكم علي الحوض سابقكم إليه كالمهيء لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2290] (وَمَنْ شرب(15/53)
لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا) أَيْ شَرِبَ مِنْهُ وَالظَّمَأُ مَهْمُوزٌ مَقْصُورٌ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ وَهُوَ الْعَطَشُ يُقَالُ ظَمِئَ يَظْمَأُ ظَمَأً فَهُوَ ظَمْآنٌ وَهُمْ ظِمَاءٌ بِالْمَدِّ كَعَطِشَ يَعْطَشُ عَطَشًا فَهُوَ عَطْشَانٌ وَهُمْ عِطَاشٌ قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الشُّرْبَ مِنْهُ يَكُونُ بَعْدَ الْحِسَابِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يُظْمَأُ بَعْدَهُ قَالَ وَقِيلَ لَا يَشْرَبُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ قُدِّرَ لَهُ السَّلَامَةُ مِنَ النَّارِ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَقُدِّرَ عَلَيْهِ دُخُولُ النَّارِ لَا يُعَذَّبُ فِيهَا بِالظَّمَأِ بَلْ يَكُونُ عَذَابُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ يَشْرَبُ مِنْهُ إِلَّا مَنِ ارْتَدَّ وَصَارَ كَافِرًا قَالَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ ثُمَّ يُعَذِّبُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شَاءَ مِنْ عُصَاتِهِمْ وَقِيلَ إِنَّمَا يَأْخُذُهُ بِيَمِينِهِ النَّاجُونَ خَاصَّةً قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا مِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَرَدَ شَرِبَ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْوَارِدِينَ كُلَّهُمْ يَشْرَبُونَ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْهُ الذين يذادون وَيُمْنَعُونَ الْوُرُودَ لِارْتِدَادِهِمْ وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ بَيَانُ هَذَا الذَّوْدِ وَالْمَذُودِينَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2291] (سُحْقًا سُحْقًا) أَيْ بُعْدًا لَهُمْ بُعْدًا وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَكَرَّرَ لِلتَّوْكِيدِ قوله (حدثنا هارون بن سعيد حدثنا بن وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْعَطْفُ عَلَى سَهْلٍ فَالْقَائِلُ وَعَنِ النُّعْمَانِ هُوَ أَبُو حَازِمٍ فَرَوَاهُ عَنْ سَهْلٍ ثُمَّ رَوَاهُ عَنِ النُّعْمَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ(15/54)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2292] (حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ طُولُهُ كَعَرْضِهِ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْوَرِقِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَهُوَ الْفِضَّةُ وَالنَّحْوِيُّونَ يَقُولُونَ إِنَّ فِعْلَ التَّعَجُّبِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ هُوَ أَفْعَلُ مِنْ كَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا كَانَ مَاضِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَإِنْ زَادَ لَمْ يُتَعَجَّبْ مِنْ فَاعِلِهِ وَإِنَّمَا يُتَعَجَّبُ مِنْ مَصْدَرِهِ فَلَا يُقَالُ مَا أَبْيَضَ زَيْدًا وَلَا زَيْدٌ أَبْيَضُ مِنْ عَمْرٍو وَإِنَّمَا يُقَالُ مَا أَشَدُّ بَيَاضِهِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ كَذَا وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ أَشْيَاءُ مِنْ هَذَا الَّذِي أَنْكَرُوهُ فَعَدُّوهُ شَاذًّا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَهِيَ لُغَةٌ وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الِاسْتِعْمَالِ وَمِنْهَا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ) وَفِي
[2300] رِوَايَةٍ فِيهِ أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَآنِيَتُهُ أكثر من(15/55)
عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا وَفِي رِوَايَةٍ وإِنَّ فِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ وَفِي رِوَايَةٍ تَرَى فِيهِ أَبَارِيقَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ
[2305] وَفِي رِوَايَةٍ كَأَنَّ الْأَبَارِيقَ فِيهِ النُّجُومُ الْمُخْتَارُ الصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ لِلْآنِيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهَا أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ وَلَا مانع عقلي ولا شرعي يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مُؤَكَّدًا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2306] وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عدد نُجُومِ السَّمَاءِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا إِشَارَةٌ إلى كثرة العدد وغايته الكثيرة مِنْ بَابِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ وَهُوَ بَابٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَعْرُوفٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَلَا يُعَدُّ كَذِبًا إِذَا كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ فِي حيز الكثرة(15/56)
وَالْعِظَمِ وَمَبْلَغِ الْغَايَةِ فِي بَابِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ قَالَ وَمِثْلُهُ كَلَّمْتُهُ أَلْفَ مَرَّةٍ وَلَقِيتُهُ مِائَةَ كَرَّةٍ فَهَذَا جَائِزٌ إِذَا كَانَ كَثِيرًا وَإِلَّا فَلَا هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَوْضِ (وَإِنَّ عَرْضَهُ مَا بَيْنَ أيلة إلى الجحفة) وفي
[2299] رواية بَيْنَ نَاحِيَتَيْهِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ قَالَ الرَّاوِي هُمَا قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثِ ليال وفي رواية عرضه مثل طوله مابين عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ مَقَامِي إِلَى عَمَّانَ
[2305]
[2303] وَفِي رِوَايَةٍ قَدْرُ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ
[2298] وَفِي رِوَايَةٍ مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ أَمَّا أَيْلَةُ فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ وَفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ مَدِينَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي عراف الشَّامِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِمَشْقَ وَمِصْرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ نَحْوُ خَمْسَ عَشْرَةَ مرحلة وبينها وبين دمشق نحو ثنتي عَشْرَةَ مَرْحَلَةٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرَ نَحْوُ ثَمَانِ مَرَاحِلٍ قَالَ الْحَازِمِيُّ قِيلَ هِيَ آخِرُ الْحِجَازِ وأول الشام(15/57)
وَأَمَّا الْجُحْفَةُ فَسَبَقَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَهِيَ بِنَحْوِ سَبْعِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ وَأَمَّا جَرْبَا فَبِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ رَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ أَلِفٍ مقصورة هذا هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ وَكَذَا قَيَّدَهَا الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُؤْتَلِفُ فِي الْأَمَاكِنِ وَكَذَا ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَصَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ الْقَاضِي وَصَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَوَقَعَ عِنْدَ بَعْضِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ مَمْدُودًا قَالَا وَهُوَ خَطَأٌ وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ هِيَ بِالْمَدِّ وَقَدْ تُقْصَرُ قَالَ الْحَازِمِيُّ كَانَ أَهْلُ جَرْبَا يَهُودًا كَتَبَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمَانَ لَمَّا قَدَمَ عَلَيْهِ لِحْيَةُ بْنُ رُؤْبَةَ صَاحِبُ أَيْلَةَ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ وَمِنْ أَهْلِ أَذْرُحَ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ وَأَمَّا أَذْرُحُ فَبِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ قَالَ الْقَاضِي وَصَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْجِيمِ قَالَا وَهُوَ تَصْحِيفٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ كَمَا قَالَا وَهِيَ مَدِينَةٌ فِي طَرَفِ الشَّامِ فِي قِبْلَةِ الشوبك بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ نَحْوُ نِصْفِ يَوْمٍ وَهِيَ فِي طَرَفِ الشَّرَاطِ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ فِي طَرَفِهَا الشَّمَالِيِّ وَتَبُوكُ فِي قِبْلَةِ أَذْرُحَ بَيْنَهُمَا نَحْوُ أَرْبَعِ مَرَاحِلَ وَبَيْنَ تَبُوكَ وَمَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً وَأَمَّا عَمَّانُ فَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَهِيَ بَلْدَةٌ بِالْبَلْقَاءِ مِنَ الشَّامِ قَالَ الْحَازِمِيُّ قَالَ بن الْأَعْرَابِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعْلَانَ مِنْ عَمَّ يَعُمُّ فَلَا تَنْصَرِفُ مَعْرِفَةً وَتَنْصَرِفُ نَكِرَةً قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَّالًا مِنْ عَمَّنَ فَتَنْصَرِفُ مَعْرِفَةً وَنَكِرَةً إِذَا عَنَى بِهَا الْبَلَدَ هَذَا كَلَامُهُ وَالْمَعْرُوفُ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهَا تَرْكُ صَرْفِهَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ عَرْضِ الْحَوْضِ لَيْسَ مُوجِبًا لِلِاضْطِرَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ بَلْ فِي أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةِ الرُّوَاةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ سَمِعُوهَا فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ ضَرَبَهَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَثَلًا لِبُعْدِ أَقْطَارِ الْحَوْضِ وَسَعَتِهِ وَقَرَّبَ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْهَامِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ لَا عَلَى التَّقْدِيرِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّحْدِيدِ بَلْ لِلْإِعْلَامِ بِعِظَمِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ فَبِهَذَا تُجْمَعُ الرِّوَايَاتُ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي قُلْتُ وَلَيْسَ فِي الْقَلِيلِ مِنْ هَذِهِ مَنْعُ الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرُ ثَابِتٌ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَلَا مُعَارَضَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (كُفِّي رَأْسِي) هُوَ بِالْكَافِ أَيِ اجْمَعِيهِ وَضُمِّي شَعْرَهُ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ قَوْلُهَا
[2295] (إِنِّي مِنَ النَّاسِ) دَلِيلٌ لِدُخُولِ النِّسَاءِ فِي خِطَابِ النَّاسِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي دُخُولِهِنَّ فِي خِطَابِ الذُّكُورِ وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ فِيهِ وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ قَوْلُهُ
[2296] (صَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ) أَيْ دَعَا لَهُمْ بِدُعَاءِ صَلَاةِ(15/58)
الْمَيِّتِ وَسَبَقَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْحَوْضَ حَوْضٌ حَقِيقِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا سَبَقَ وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مَوْجُودٌ الْيَوْمَ وَفِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ لِتَفْخِيمِ الشَّيْءِ وَتَوْكِيدِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2296] (وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَنَافَسُوا فِيهَا) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ مَفَاتِيحَ فِي اللَّفْظَيْنِ بِالْيَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَرُوِيَ مَفَاتِحَ بِحَذْفِهَا فمن أَثْبَتَهَا فَهُوَ جَمْعُ مِفْتَاحٍ وَمَنْ حَذَفَهَا فَجَمْعُ مِفْتَحٍ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه سلم فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ أُمَّتَهُ تَمْلِكُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ وَأَنَّهَا لَا تَرْتَدُّ جُمْلَةً وَقَدْ عَصَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهَا تَتَنَافَسُ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ وَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ قَوْلُهُ (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ فَكَانَتْ آخِرَ مَا رأيته على المنبر) معناه خزج إِلَى قَتْلَى أُحُدٍ وَدَعَا لَهُمْ دُعَاءَ مُوَدِّعٍ ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ(15/59)
فَخَطَبَ الْأَحْيَاءَ خُطْبَةَ مُوَدِّعٍ كَمَا قَالَ النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُعْجِزَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا أَلَا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ) أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ فَهُوَ بِتَخْفِيفِ أَلَا وَهِيَ الَّتِي لِلِاسْتِفْتَاحِ وَخَصَّ اللَّيْلَةَ الْمُظْلِمَةَ المصحية لأن النجوم ترى فيها أكثر والراد بِالْمُظْلِمَةِ الَّتِي لَا قَمَرَ فِيهَا مَعَ أَنَّ النُّجُومَ طَالِعَةٌ فَإِنَّ وُجُودَ الْقَمَرِ يَسْتُرُ كَثِيرًا من النجوم وأما قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آنِيَةُ الْجَنَّةِ فَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِرَفْعِ آنِيَةُ وَبَعْضُهُمْ بِنَصْبِهَا وَهُمَا صَحِيحَانِ فَمَنْ رَفَعَ فَخَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ آنِيَةُ الْجَنَّةِ وَمَنْ نَصَبَ فَبِإِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ نَحْوِهِ وَأَمَّا آخِرَ مَا عَلَيْهِ فَمَنْصُوبٌ وَسَبَقَ نَظِيرُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَأَمَّا يَشْخُبُ فَبِالشِّينِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَالْيَاءُ مَفْتُوحَةٌ وَالْخَاءُ مَضْمُومَةٌ وَمَفْتُوحَةٌ وَالشَّخْبُ السَّيَلَانُ وَأَصْلُهُ مَا خَرَجَ مِنْ تحت يد الحالب عند كل عمرة وَعَصْرَةٍ لِضَرْعِ الشَّاةِ وَأَمَّا الْمِيزَابَانِ فَبِالْهَمْزِ وَيَجُوزُ قَلْبُ الْهَمْزَةِ يَاءً(15/60)
قَوْلُهُ
[2301] (عَنْ مَعْدَانَ الْيَعْمَرِيِّ) بِفَتْحِ مِيمِ الْيَعْمَرِيِّ وَضَمِّهَا مَنْسُوبٌ إِلَى يَعْمَرَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنِّي لَبِعُقْرِ حَوْضِي) هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَهُوَ مَوْقِفُ الْإِبِلِ مِنَ الْحَوْضِ إِذَا وَرَدَتْهُ وَقِيلَ مُؤَخَّرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَذُودُ النَّاسَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ أَضْرِبُ بِعَصَايَ حَتَّى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ) مَعْنَاهُ أَطْرُدُ النَّاسَ عَنْهُ غَيْرَ أَهْلِ الْيَمَنِ لِيَرْفَضَّ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَهَذِهِ كَرَامَةٌ لِأَهْلِ الْيَمَنِ فِي تَقْدِيمِهِمْ فِي الشُّرْبِ مِنْهُ مُجَازَاةً لَهُمْ بِحُسْنِ صَنِيعِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَالْأَنْصَارُ مِنَ الْيَمَنِ فَيَدْفَعُ غَيْرَهُمْ حَتَّى يَشْرَبُوا كَمَا دَفَعُوا فِي الدُّنْيَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْدَاءَهُ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَمَعْنَى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ أَيْ يَسِيلُ عَلَيْهِمْ وَمِنْهُ حَدِيثُ الْبُرَاقِ اسْتَصْعَبَ حَتَّى ارْفَضَّ عَرَقًا أَيْ سَالَ عَرَقُهُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَأَصْلُهُ مِنَ الدَّمْعِ يُقَالُ ارْفَضَّ الدَّمْعُ إِذَا سَأَلَ مُتَفَرِّقًا قَالَ الْقَاضِي وَعَصَاهُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هِيَ الْمُكَنَّى عَنْهَا بِالْهِرَاوَةِ فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِ الْأَوَائِلِ بِصَاحِبِ الْهِرَاوَةِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْهِرَاوَةُ بِكَسْرِ الْهَاءِ الْعَصَا قَالَ وَلَمْ يَأْتِ لِمَعْنَاهَا فِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْسِيرٌ إِلَّا مَا يَظْهَرُ لِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ الْهِرَاوَةِ بِهَذِهِ الْعَصَا بَعِيدٌ أَوْ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِوَصْفِهِ بِالْهِرَاوَةِ تَعْرِيفُهُ بِصِفَةٍ يَرَاهَا النَّاسُ مَعَهُ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى صِدْقِهِ وَأَنَّهُ الْمُبَشَّرُ بِهِ الْمَذْكُورُ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ فَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِعَصًا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ وَالصَّوَابُ فِي تَفْسِيرِ صَاحِبِ الْهِرَاوَةِ مَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمسك(15/62)
الْقَضِيبَ بِيَدِهِ كَثِيرًا وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ يَمْشِي وَالْعَصَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَتُغْرَزُ لَهُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ) أَمَّا يَغُتُّ فَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ وَمَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ مُشَدَّدَةٍ وَهَكَذَا قال ثابت والخطابي والهروي وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالْجُمْهُورُ وَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ بِلَادِنَا وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ الْهَرَوِيُّ وَمَعْنَاهُ يَدْفُقَانِ فِيهِ الْمَاءَ دَفْقًا مُتَتَابِعًا شَدِيدًا قَالُوا وَأَصْلُهُ مِنْ إِتْبَاعِ الشَّيْءِ الشَّيْءَ وَقِيلَ يَصُبَّانِ فِيهِ دَائِمًا صَبًّا شَدِيدًا وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ يَعُبُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَحَكَاهَا الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْعُذْرِيِّ قال وكذا ذكره الْحَرْبِيُّ وَفَسَّرَهُ بِمَعْنَى مَا سَبَقَ أَيْ لَا يَنْقَطِعُ جَرَيَانُهُمَا قَالَ وَالْعَبُّ الشُّرْبُ بِسُرْعَةٍ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ قَالَ الْقَاضِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بن مَاهَانَ يَثْعَبُ بِمُثَلَّثَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ يَتَفَجَّرُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُدَّانِهِ فَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ(15/63)
أَيْ يَزِيدَانِهِ وَيُكْثِرَانِهِ
[2302] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَأَذُودَنَّ عَنْ حَوْضِي رِجَالًا كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الْإِبِلِ) مَعْنَاهُ كَمَا يَذُودُ السَّاقِي النَّاقَةَ الْغَرِيبَةَ عَنْ إِبِلِهِ إِذَا أَرَادَتِ الشُّرْبَ مَعَ إِبِلِهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ
[2303] (قَدْرُ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ كما بالكاف وفي بعضها لما باللام وكعدد بِالْكَافِ وَفِي بَعْضِهَا لِعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ بِاللَّامِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2304] (لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ رِجَالٌ مِمَّنْ صَاحَبَنِي حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ وَرُفِعُوا إِلَيَّ اخْتُلِجُوا دُونِي فَلَأَقُولَنَّ رَبِّ أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي فَلَيُقَالَنَّ لِي إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) أَمَّا اخْتُلِجُوا فَمَعْنَاهُ اقْتُطِعُوا وَأَمَّا أُصَيْحَابِي فَوَقَعَ فِي الرِّوَايَاتِ مُصَغَّرًا مُكَرَّرًا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَصْحَابِي أَصْحَابِي مُكَبَّرًا مُكَرَّرًا قَالَ الْقَاضِي هَذَا دَلِيلٌ لِصِحَّةِ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الرِّدَّةِ وَلِهَذَا قَالَ فِيهِمْ سُحْقًا سُحْقًا وَلَا يَقُولُ ذَلِكَ فِي مُذْنِبِي الْأُمَّةِ بَلْ يَشْفَعُ لَهُمْ وَيَهْتَمُّ لِأَمْرِهِمْ قَالَ وَقِيلَ هَؤُلَاءِ صِنْفَانِ أَحَدُهُمَا عُصَاةٌ مُرْتَدُّونَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ لَا عَنِ الْإِسْلَامِ وَهَؤُلَاءِ مُبَدِّلُونَ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالسَّيِّئَةِ وَالثَّانِي مُرْتَدُّونَ إِلَى الْكُفْرِ حَقِيقَةً نَاكِصُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ(15/64)
وَاسْمُ التَّبْدِيلِ يَشْمَلُ الصِّنْفَيْنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (مابين لابتي حوضي) أي ناحيتيه والله أعلم(15/65)
(باب اكرامه صلى الله عليه وسلم)
بقتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ
[2306] رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ شِمَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رجلين عليهما ثياب بياض ما رأيتهما قَبْلُ وَلَا بَعْدُ يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ فِيهِ بَيَانُ كَرَامَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِكْرَامِهِ إِيَّاهُ بِإِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ تُقَاتِلُ مَعَهُ وَبَيَانُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُقَاتِلُ وَأَنَّ قِتَالَهُمْ لَمْ يَخْتَصَّ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَهَذَا هو الصواب خلافا لمن زعم اختصاص فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ الثِّيَابِ الْبِيضِ وَأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَلَائِكَةِ لَا تَخْتَصُّ بِالْأَنْبِيَاءِ بَلْ يَرَاهُمُ الصَّحَابَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الَّذِي رَأَى الْمَلَائِكَةَ والله أعلم(15/66)
(باب شجاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ
[2307] كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ إِلَخْ فِيهِ بَيَانُ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ جَمِيلِ الصِّفَاتِ وَأَنَّ هَذِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ قَوْلُهُ (وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا قَالَ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ قَالَ وَكَانَ فَرَسًا يُبَطَّأُ) وَفِي رِوَايَةٍ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ فَرَكِبَهُ فَقَالَ مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا وَأَمَّا قَوْلُهُ يُبَطَّأُ فَمَعْنَاهُ يُعْرَفُ بِالْبُطْءِ وَالْعَجْزِ وَسُوءِ السَّيْرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَمْ تُرَاعُوا) أَيْ رَوْعًا مُسْتَقِرًّا أَوْ رَوْعًا يَضُرُّكُمْ وَفِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا بَيَانُ)(15/67)
شَجَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شِدَّةِ عَجَلَتِهِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِحَيْثُ كَشَفَ الْحَالَ وَرَجَعَ قَبْلَ وُصُولِ النَّاسِ وَفِيهِ بَيَانُ عَظِيمِ بَرَكَتِهِ وَمُعْجِزَتِهِ فِي انْقِلَابِ الْفَرَسِ سَرِيعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ يُبَطَّأُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا أَيْ وَاسِعَ الْجَرْيِ وَفِيهِ جَوَازُ سَبْقِ الْإِنْسَانِ وَحَدَهُ فِي كَشْفِ أَخْبَارِ الْعَدُوِّ مالم يَتَحَقَّقِ الْهَلَاكُ وَفِيهِ جَوَازُ الْعَارِيَةِ وَجَوَازُ الْغَزْوِ عَلَى الْفَرَسِ الْمُسْتَعَارِ لِذَلِكَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَقَلُّدِ السَّيْفِ فِي الْعُنُقِ وَاسْتِحْبَابُ تَبْشِيرِ النَّاسِ بِعَدَمِ الْخَوْفِ إِذَا ذَهَبَ وَوَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَسْمِيَةُ هَذَا الْفَرَسِ مَنْدُوبًا قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ كَانَ فِي أَفْرَاسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْدُوبٌ فَلَعَلَّهُ صَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَبِي طَلْحَةَ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي قُلْتُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا فرسان اتفقا في الاسم
(باب جوده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
قَوْلُهُ
[2308] (كَانَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِنَّ جِبْرِيلَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/68)
الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) أَمَّا قَوْلُهُ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فَرُوِيَ بِرَفْعِ أَجْوَدَ وَنَصْبِهِ وَالرَّفْعُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ وَالرِّيحُ الْمُرْسَلَةُ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْمُرَادُ كَالرِّيحِ فِي إِسْرَاعِهَا وَعُمُومِهَا وَقَوْلُهُ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ وَالنُّسَخِ قَالَ وَفِي بَعْضِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ بَدَلُ سَنَةٍ قَالَ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ لَكِنَّهُ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى يَنْسَلِخَ بِمَعْنَى كُلِّ لَيْلَةٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا بَيَانُ عِظَمِ جُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ إِكْثَارِ الْجُودِ فِي رَمَضَانَ وَمِنْهَا زِيَادَةُ الْجُودِ وَالْخَيْرِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الصَّالِحِينَ وَعَقِبَ فِرَاقِهِمْ لِلتَّأَثُّرِ بِلِقَائِهِمْ وَمِنْهَا استحباب مدارسة القرآن
(باب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم)
قَوْلُهُ
[2309] (خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا) وَفِي رِوَايَةٍ وَلَا عَابَ عَلَيَّ شَيْئًا وَفِي رِوَايَةٍ
[2309] تِسْعَ سِنِينَ وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا أَمَّا قَوْلُهُ مَا قَالَ لِي أُفًّا فَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ(15/69)
فِيهَا عَشْرَ لُغَاتٍ أُفَّ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا وكسرها بلا تنوين وبالتنوين فهذه ست وأف بضم الهمزة وإسكان الفاء وإف بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَأُفِّي وَأُفَّهْ بِضَمِّ هَمْزَتِهِمَا قَالُوا وَأَصْلُ الْأُفِّ وَالتُّفِّ وَسَخُ الْأَظْفَارِ وَتُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي كُلِّ مَا يُسْتَقْذَرُ وَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ قَالَ اللَّهُ (ولا تقل لهما أف) قال الهروي يقال لكل مايضجر مِنْهُ وَيُسْتَثْقَلُ أُفٍّ لَهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ الِاحْتِقَارُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَفَفِ وَهُوَ الْقَلِيلُ وَأَمَّا قَطُّ فَفِيهَا لُغَاتٌ قَطُّ وَقُطُّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا مَعَ تَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَضْمُومَةِ وَقَطِّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَقَطْ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَقَطِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ وهي(15/70)
لتوحيد نَفْيِ الْمَاضِي وأما قَوْلُهُ تِسْعَ سِنِينَ وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَشْرَ سِنِينَ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تِسْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ تَحْدِيدًا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ وَخَدَمَهُ أَنَسٌ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الْأُولَى فَفِي رِوَايَةِ التِّسْعِ لَمْ يَحْسِبِ الْكَسْرَ بَلِ اعْتَبَرَ السِّنِينَ الْكَوَامِلَ وَفِي رِوَايَةِ الْعَشْرِ حَسَبَهَا سَنَةً كَامِلَةً وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ كَمَالِ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وحسن عشرته وحلمه وصفحه
(باب في سخائه صلى الله عليه وسلم)
قَوْلُهُ
[2311] (مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لَا) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بَعْدَهُ فِي إِعْطَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤَلَّفَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا كُلِّهِ بَيَانُ عَظِيمِ سَخَائِهِ وَغَزَارَةِ جُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَاهُ مَا سُئِلَ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِيُّ قَالَ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ(15/71)
بْنُ الْمُثَنَّى) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بلادنا محمد بن المثتي وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْجُلُودِيِّ وَوَقَعَ في رواية بن مَاهَانَ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ وَخَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ قَوْلُهُ
[2312] (فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ) أَيْ كَثِيرَةً كَأَنَّهَا تَمْلَأُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَفِي هَذَا مَعَ مَا بَعْدَهُ اعطاء المؤلفة ولاخلاف فِي إِعْطَاءِ مُؤَلَّفَةِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ هَلْ يُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ فِيهِ خِلَافٌ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ يُعْطَونَ مِنَ الزَّكَاةِ وَمَنْ بَيْتِ الْمَالِ وَالثَّانِي لَا يُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ بَلْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ خَاصَّةً وَأَمَّا مُؤَلَّفَةُ الْكُفَّارِ فَلَا يُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ وَفِي إِعْطَائِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا خِلَافٌ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا لَا يُعْطَوْنَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ عَنِ التَّأَلُّفِ بِخِلَافِ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَوَقْتِ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُ (فَقَالَ أَنَسٌ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ فَمَا يُسْلِمُ وَفِي بَعْضِهَا فَمَا يُمْسِي وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَمَعْنَى الْأَوَّلِ فَمَا يَلْبَثُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ(15/72)
أَوَّلًا لِلدُّنْيَا لَا بِقَصْدٍ صَحِيحٍ بِقَلْبِهِ ثُمَّ مِنْ بَرَكَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْبَثْ(15/73)
إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَنْشَرِحَ صَدْرُهُ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَيَتَمَكَّنَ مِنْ قَلْبِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا قَوْلُهُ
[2314] (فَحَثَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّةً ثُمَّ قَالَ لِي عُدَّهَا فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ فَقَالَ خُذْ مِثْلَيْهَا) يَعْنِي خُذْ مَعَهَا مِثْلَيْهَا فَيَكُونُ الْجَمِيعُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ لِأَنَّ لَهُ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ وَإِنَّمَا حَثَى لَهُ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدُهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِهِ وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُ حَثَيَاتٍ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ إِنْجَازُ الْعِدَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ إِنْجَازُهَا وَالْوَفَاءُ بِهَا مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ وَأَوْجَبَهُ الْحَسَنُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ
(بَاب رَحْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصِّبْيَانَ)
[2315] (وَالْعِيَالَ وَتَوَاضُعِهِ وَفَضْلِ ذَلِكَ) قَوْلُهُ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ(15/74)
بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ امْرَأَةِ قَيْنٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَيْفٍ فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ وَاتَّبَعْتُهُ إِلَى آخِرِهِ) الْقَيْنُ بِفَتْحِ الْقَافِ الْحَدَّادُ وَفِيهِ جَوَازُ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ وِلَادَتِهِ وَجَوَازُ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَتَانِ فِي بَابِهِمَا وَفِيهِ اسْتِتْبَاعُ الْعَالِمِ وَالْكَبِيرِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ إِذَا ذَهَبَ إِلَى مَنْزِلِ قَوْمٍ وَنَحْوِهِ وَفِيهِ الْأَدَبُ مَعَ الْكِبَارِ قَوْلُهُ (وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ) أَيْ يَجُودُ بِهَا وَمَعْنَاهُ وَهُوَ فِي النَّزْعِ قَوْلُهُ (فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آخِرِهِ) فِيهِ جَوَازُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْحُزْنِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخَالِفُ الرِّضَا بِالْقَدَرِ بَلْ هِيَ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ النَّدْبُ وَالنِّيَاحَةُ وَالْوَيْلُ وَالثُّبُورُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ الْبَاطِلِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا قَوْلُهُ
[2316] (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ إِلَى قَوْلِهِ(15/75)
فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ) أَمَّا الْعَوَالِي فَالْقُرَى الَّتِي عِنْدَ الْمَدِينَةِ وَقَوْلُهُ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَوْجُودُ فِي النُّسَخِ وَالرِّوَايَاتِ قَالَ الْقَاضِي وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالْعِبَادِ فَفِيهِ بَيَانُ كَرِيمِ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَحْمَتِهِ لِلْعِيَالِ وَالضُّعَفَاءِ وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِرْضَاعِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ رَحْمَةِ الْعِيَالِ وَالْأَطْفَالِ وَتَقْبِيلِهِمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ وَإِنَّ ظِئْرَيْنِ تُكَمِّلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ) مَعْنَاهُ مَاتَ وَهُوَ فِي سِنِّ رَضَاعِ الثَّدْيِ أَوْ فِي حَالِ تَغَذِّيهِ بلبن الثدي وأما الظئر فَبِكَسْرِ الظَّاءِ مَهْمُوزَةٌ وَهِيَ الْمُرْضِعَةُ وَلَدِ غَيْرِهَا وَزَوْجُهَا ظِئْرٌ لِذَلِكَ الرَّضِيعِ فَلَفْظَةُ الظِّئْرِ تَقَعُ عَلَى الْأُنْثَى وَالذَّكَرِ وَمَعْنَى تُكَمِّلَانِ رَضَاعَهُ أَيْ تُتِمَّانِهِ سَنَتَيْنِ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ وَلَهُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ فَتُرْضِعَانِهِ بَقِيَّةَ السَّنَتَيْنِ فَإِنَّهُ تَمَامُ الرَّضَاعَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَهَذَا الْإِتْمَامُ لِإِرْضَاعِ إِبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكُونُ عَقِبَ مَوْتِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُتَّصِلًا بِمَوْتِهِ فَيُتِمُّ فِيهَا رَضَاعَهُ كَرَامَةً لَهُ وَلِأَبِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي وَاسْمُ أَبِي سَيْفٍ هَذَا الْبَرَاءُ وَاسْمُ أُمِّ سَيْفٍ زَوْجَتِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيَّةُ كُنْيَتُهَا(15/76)
أُمُّ سَيْفٍ وَأُمُّ بُرْدَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2318] (إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ) وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا عَامٌّ يَتَنَاوَلُ رَحْمَةَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ
[2319] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ) بِفَتْحِ الظَّاءِ وَكَسْرِهَا(15/77)
(بَاب كَثْرَةِ حَيَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
قَوْلُهُ
[2320] (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ) الْعَذْرَاءُ الْبِكْرُ لِأَنَّ عُذْرَتَهَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ جِلْدَةُ البكارة والخدر ستر يجعل للبكر في جَنْبَ الْبَيْتِ وَمَعْنَى عَرَفْنَا الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ لِحَيَائِهِ بَلْ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ فَنَفْهَمُ نَحْنُ كَرَاهَتَهُ وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْحَيَاءِ وَهُوَ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَهُوَ خَيْرٌ كُلُّهُ وَلَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ وَقَدْ سَبَقَ هَذَا كُلُّهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَشَرَحْنَاهُ وَاضِحًا وَهُوَ محثوث عليه مالم يَنْتَهِ إِلَى الضَّعْفِ وَالنَّخْوِ كَمَا سَبَقَ قَوْلُهُ
[2321] (لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا) قَالَ الْقَاضِي أَصْلُ الْفُحْشِ الزِّيَادَةُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْحَدِّ قَالَ الطبري الفاحش البذيء قال بن عَرَفَةَ الْفَوَاحِشُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْقَبَائِحُ قَالَ الْهَرَوِيُّ الْفَاحِشُ ذُو الْفُحْشِ وَالْمُتَفَحِّشُ الَّذِي يَتَكَلَّفُ الْفُحْشَ وَيَتَعَمَّدُهُ لِفَسَادِ حَالِهِ قَالَ وَقَدْ يَكُونُ الْمُتَفَحِّشُ الَّذِي يَأْتِي الْفَاحِشَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا) فِيهِ الْحَثُّ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ وَبَيَانُ فَضِيلَةِ صَاحِبِهِ وَهُوَ صِفَةُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْلِيَائِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَقِيقَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُوَ مُخَالَطَةُ النَّاسِ بِالْجَمِيلِ وَالْبِشْرِ(15/78)
وَالتَّوَدُّدُ لَهُمْ وَالْإِشْفَاقُ عَلَيْهِمْ وَاحْتِمَالُهُمْ وَالْحِلْمُ عَنْهُمْ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَكَارِهِ وَتَرْكُ الْكِبْرِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ وَمُجَانَبَةُ الْغِلَظِ وَالْغَضَبِ وَالْمُؤَاخَذَةِ قَالَ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ خِلَافًا لِلسَّلَفِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ هَلْ هُوَ غَرِيزَةٌ أَمْ مُكْتَسَبٌ قَالَ الْقَاضِي وَالصَّحِيحُ أن منه ماهو غَرِيزَةٌ وَمِنْهُ مَا يُكْتَسَبُ بِالتَّخَلُّقِ وَالِاقْتِدَاءِ بِغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَبَسُّمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ قَوْلُهُ
[2322] (كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَمُلَازَمَةُ مَجْلِسِهَا مَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ سُنَّةٌ كَانَ السَّلَفُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَفْعَلُونَهَا وَيَقْتَصِرُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَفِيهِ جَوَازُ الْحَدِيثِ بِأَخْبَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ وَجَوَازُ الضَّحِكِ وَالْأَفْضَلُ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّبَسُّمِ كَمَا فَعَلَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عَامَّةِ أَوْقَاتِهِ قَالُوا وَيُكْرَهُ إِكْثَارُ الضَّحِكِ وَهُوَ فِي أَهْلِ الْمَرَاتِبِ وَالْعِلْمِ أَقْبَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(15/79)
(باب رحمته صلى الله عليه وسلم النساء والرفق بِهِنَّ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2323] (يَا أنجشة رويدك سوقك بِالْقَوَارِيرِ وَفِي رِوَايَةٍ وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدًا سَوْقَكُ بِالْقَوَارِيرِ وَفِي رِوَايَةٍ يَا أَنْجَشَةُ لَا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ يَعْنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ أَمَّا أَنْجَشَةُ فهمزة مَفْتُوحَةٍ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَبِالْجِيمِ وَبِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَأَمَّا رُوَيْدَكَ فَمَنْصُوبٌ عَلَى الصِّفَةِ بِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ سق سوقا(15/80)
رُوَيْدًا وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالرِّفْقِ بِهِنَّ وَسَوْقُكُ مَنْصُوبٌ بِإِسْقَاطِ الْجَارِّ أَيِ ارْفُقْ فِي سَوْقِكَ بِالْقَوَارِيرِ قَالَ الْعُلَمَاءُ سُمِّيَ النِّسَاءُ قَوَارِيرَ لِضَعْفِ عَزَائِمِهِنَّ تَشْبِيهًا بِقَارُورَةِ الزُّجَاجِ لِضَعْفِهَا وَإِسْرَاعِ الِانْكِسَارِ إِلَيْهَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِتَسْمِيَتِهِنَّ قَوَارِيرَ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْقَاضِي وَآخَرِينَ وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْهَرَوِيُّ وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَآخَرُونَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ أَنْجَشَةُ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ وَكَانَ يَحْدُو بِهِنَّ وَيُنْشِدُ شَيْئًا مِنَ الْقَرِيضِ وَالرَّجَزِ وَمَا فِيهِ تَشْبِيبٌ فَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَفْتِنَهُنَّ وَيَقَعَ فِي قُلُوبِهِنَّ حِدَاؤُهُ فَأَمَرَهُ بِالْكَفِّ عَنْ ذَلِكَ وَمَنْ أَمْثَالِهِمُ الْمَشْهُورَةِ الغنارقية الزنى قَالَ الْقَاضِي هَذَا أَشْبَهُ بِمَقْصُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمُقْتَضَى اللَّفْظِ قَالَ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَبِي قِلَابَةَ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُسْلِمٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرِّفْقُ فِي السَّيْرِ لِأَنَّ الْإِبِلَ إِذَا سَمِعَتِ الْحُدَاءَ أَسْرَعَتْ فِي الْمَشْيِ وَاسْتَلَذَّتْهُ فَأَزْعَجَتِ الرَّاكِبَ وَأَتْعَبَتْهُ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ النِّسَاءَ يَضْعُفْنَ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرَكَةِ وَيُخَافُ ضَرَرُهُنَّ وسقوطهن وأما وَيْحَكَ فَهَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ وَوَقَعَ فِي غَيْرِهِ وَيْلَكَ قَالَ الْقَاضِي قَالَ سِيبَوَيْهِ وَيْلٌ كلمة تقال لمن وقع في هلكة وويح زَجْرٌ لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْوُقُوعِ فِي هَلَكَةٍ وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَيْلٌ وَوَيْحٌ وَوَيْسٌ بِمَعْنًى وَقِيلَ وَيْحٌ كَلِمَةٌ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا يَعْنِي فِي عُرْفِنَا فَيَرْثِي لَهُ وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ وَوَيْلٌ ضِدُّهُ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يُرَادُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةُ الدُّعَاءِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْمَدْحُ وَالتَّعَجُّبُ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ الْحُدَاءِ وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ مَمْدُودٌ وَجَوَازُ السَّفَرِ بِالنِّسَاءِ وَاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ وَفِيهِ مُبَاعَدَةُ النِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ وَمِنْ سَمَاعِ كَلَامِهِمْ إلا الوعظ ونحوه(15/81)
(باب قربه صلى الله عليه وسلم من الناس (وتبركهم به وتواضعه لهم) قَوْلُهُ
[2324] (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ خَدَمُ الْمَدِينَةِ بِآنِيَتِهِمْ فِيهَا الْمَاءُ فَمَا يُؤْتَى بِإِنَاءٍ إِلَّا غَمَسَ يَدَهُ فِيهَا فَرُبَّمَا جَاءُوهُ فِي الْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ فَيَغْمِسُ يَدَهُ فِيهَا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
[2325] (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَلَّاقُ يَحْلِقُهُ وَأَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ فَمَا يُرِيدُونَ أَنْ تَقَعَ شَعْرَةٌ إِلَّا فِي يَدِ رَجُلٍ) وَفِي الْآخَرِ
[2326] (أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي اليك حاجة فقال ياأم فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا) فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيَانُ بُرُوزِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ وَقُرْبِهِ مِنْهُمْ لِيَصِلَ أَهْلُ الْحُقُوقِ إِلَى حُقُوقِهِمْ وَيُرْشِدَ مُسْتَرْشِدَهُمْ لِيُشَاهِدُوا أَفْعَالَهُ وَحَرَكَاتِهِ فَيُقْتَدَى بِهَا وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِوُلَاةِ الْأُمُورِ وَفِيهَا صَبْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَشَقَّةِ فِي نَفْسِهِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِجَابَتُهُ مَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً أَوْ تَبْرِيكًا بِمَسِّ يَدِهِ وَإِدْخَالِهَا فِي الْمَاءِ كَمَا ذَكَرُوا وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَبَيَانُ مَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنَ التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرُّكِهِمْ بِإِدْخَالِ يَدِهِ الْكَرِيمَةِ فِي الْآنِيَةِ وَتَبَرُّكِهِمْ بِشَعْرِهِ الْكَرِيمِ وَإِكْرَامِهِمْ إِيَّاهُ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا فِي يَدِ رَجُلٍ سَبَقَ إِلَيْهِ وَبَيَانِ تَوَاضُعِهِ بِوُقُوفِهِ مَعَ الْمَرْأَةِ الضَّعِيفَةِ قَوْلَهُ)(15/82)
(خَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ) أَيْ وَقَفَ مَعَهَا فِي طَرِيقٍ مَسْلُوكٍ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهَا وَيُفْتِيَهَا فِي الْخَلْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَإِنَّ هَذَا كَانَ فِي مَمَرُّ النَّاسِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ إِيَّاهُ وَإِيَّاهَا لَكِنْ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهَا لِأَنَّ مَسْأَلَتَهَا مِمَّا لَا يُظْهِرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(باب مباعدته صلى الله عليه وسلم لِلْآثَامِ وَاخْتِيَارِهِ مِنْ الْمُبَاحِ أَسْهَلَهُ)
(وَانْتِقَامِهِ لِلَّهِ تعالى عند انتهاك حرماته) قولها
[2327] (ماخير رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ منه) فيه استحباب الأخذبالأيسر وَالْأَرْفَقِ مَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا قَالَ الْقَاضِي وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَخْيِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُخَيِّرُهُ فِيمَا فِيهِ عُقُوبَتَانِ أَوْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْقِتَالِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ أَوْ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ فِي الْمُجَاهَدَةِ فِي الْعِبَادَةِ أَوِ الِاقْتِصَارِ وَكَانَ يَخْتَارُ الْأَيْسَرَ فِي كُلِّ هَذَا قَالَ وَأَمَّا قَوْلُهَا مَا لَمْ يَكُنْ إثما فيتصوراذا خَيَّرَهُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّخْيِيرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا قَوْلُهَا (وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ) وَفِي رِوَايَةٍ
[2328] مَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أن ينتهك(15/83)
شيءمن مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ تَعَالَى) مَعْنَى نِيلَ مِنْهُ أُصِيبَ بِأَذًى مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَانْتَهَاكُ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ ارْتِكَابُ مَا حَرَّمَهُ قَوْلُهَا (إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ لَكِنْ إِذَا انْتُهِكَتْ حُرْمَةُ اللَّهِ انْتَصَرَ لِلَّهِ تَعَالَى وَانْتَقَمَ مِمَّنِ ارْتَكَبَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ وَالْحِلْمِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى وَالِانْتِصَارِ لِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا أَوْ نَحْوَهُ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَسَائِرِ وُلَاةِ الْأُمُورِ التَّخَلُّقُ بِهَذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ فَلَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُهْمِلُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي لِنَفْسِهِ وَلَا لِمَنْ لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ قَوْلُهَا (مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فِيهِ أَنَّ ضَرْبَ الزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ وَالدَّابَّةِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لِلْأَدَبِ فَتَرْكُهُ أفضل(15/84)
(باب طيب ريحه صلى الله عليه وسلم ولين مسه)
قوله
[2329] (صلاة الأولى) يعنى الظهر والوالدان الصِّبْيَانُ وَاحِدُهُمْ وَلِيدٌ وَفِي مَسْحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصِّبْيَانَ بَيَانُ حُسْنِ خُلُقِهِ وَرَحْمَتِهِ لِلْأَطْفَالِ وَمُلَاطَفَتِهِمْ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيَانُ طِيبِ رِيحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ الْعُلَمَاءُ كَانَتْ هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ صِفَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَمَسَّ طِيبًا وَمَعَ هَذَا فَكَانَ يَسْتَعْمِلُ الطِّيبَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ مُبَالَغَةً فِي طِيبِ رِيحِهِ لِمُلَاقَاةِ الْمَلَائِكَةِ وَأَخْذِ الْوَحْيِ الْكَرِيمِ وَمُجَالَسَةِ الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُ (كَأَنَّمَا أُخْرِجَتْ مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ) هِيَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا وَيَجُوزُ تَرْكُ الْهَمْزَةِ بِقَلْبِهَا وَاوًا كَمَا فِي نَظَائِرِهَا وَقَدْ ذَكَرَهَا كَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ فِي الْوَاوِ قَالَ الْقَاضِي هِيَ مَهْمُوزَةٌ وَقَدْ يُتْرَكُ هَمْزُهَا وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ هِيَ بِالْوَاوِ وَقَدْ تُهْمَزُ وَهِيَ السَّقْطُ الَّذِي فِيهِ مَتَاعُ الْعَطَّارِ هَكَذَا فَسَّرَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ هِيَ سُلَيْلَةٌ مستديرة(15/85)
مغشاة وأما قوله
[2330] (ماشممت) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى عَلَى الْمَشْهُورِ وَحَكَى أبو عبيد وبن السِّكِّيتِ وَالْجَوْهَرِيُّ وَآخَرُونَ فَتْحَهَا قَوْلُهُ (أَزْهَرُ اللَّوْنِ) هُوَ الْأَبْيَضُ الْمُسْتَنِيرُ وَهِيَ أَحْسَنُ الْأَلْوَانِ قَوْلُهُ (كَأَنَّ عَرَقُهُ اللُّؤْلُؤُ) أَيْ فِي الصَّفَاءِ وَالْبَيَاضِ وَاللُّؤْلُؤُ بِهَمْزِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَبِتَرْكِهِمَا وَبِهَمْزِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ (إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ) هو بالهمز وقد يُتْرَكُ هَمْزُهُ وَزَعَمَ كَثِيرُونَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يروى بلا همز وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا قَالَ شِمْرٌ أَيْ مَالَ يَمِينًا وَشِمَالًا كَمَا تَكَفَّأَ السَّفِينَةُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ هَذَا صِفَةُ الْمُخْتَالِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَمِيلَ إِلَى سَمْتِهِ وَقَصْدِ مَشْيِهِ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ في صبب قال القاضي لابعد فِيمَا قَالَهُ شِمْرٌ إِذَا كَانَ خِلْقَةً وَجِبِلَّةً وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا مَقْصُودًا
(بَاب طيب عرقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّبَرُّكِ بِهِ قَوْلُهُ
[2331] (فَقَالَ عِنْدَنَا فَعَرِقَ) أَيْ نَامَ لِلْقَيْلُولَةِ قَوْلُهُ (تَسْلُتُ الْعَرَقَ) أَيْ تَمْسَحُهُ وَتَتْبَعُهُ بِالْمَسْحِ قَوْلُهُ)(15/86)
(كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا) قَدْ سَبَقَ أَنَّهَا كَانَتْ مَحْرَمًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهِ الدُّخُولُ عَلَى الْمَحَارِمِ وَالنَّوْمُ عِنْدَهُنَّ وَفِي بُيُوتِهِنَّ وَجَوَازُ النَّوْمِ عَلَى الْأُدُمِ وَهِيَ الْأَنْطَاعِ وَالْجُلُودِ قَوْلُهُ (فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا) هِيَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ ثُمَّ مِنْ تَحْتُ وَهِيَ كَالصُّنْدُوقِ الصَّغِيرِ تَجْعَلُ الْمَرْأَةُ فِيهِ مَا يَعِزُّ مِنْ مَتَاعِهَا قَوْلُهُ (فَفَزِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا تَصْنَعِينَ) مَعْنَى فَزِعَ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ قَوْلُهَا
[2332] (عَرَقُكَ أَدُوفُ بِهِ طِيبِي) هُوَ بِالدَّالِ المهملة وبالمعجمة(15/87)
والأكثرون عَلَى الْمُهْمَلَةِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الأكثرين ومعناه غلط وَسَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الايمان قَوْلُهُ (كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ فَقَالَ أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّ عَلَيَّ ثُمَّ يَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُهُ وَأَحْيَانًا مَلَكٌ فِي مِثْلِ صُورَةِ الرَّجُلِ فَأَعِي مَا يَقُولُ) أَمَّا الأحيان فالأزمان ويقع على القليل والكثير ومثل صَلْصَلَةِ هُوَ بِنَصْبِ مِثْلَ وَأَمَّا الصَّلْصَلَةُ فَبِفَتْحِ الصَّادَيْنِ وَهِيَ الصَّوْتُ الْمُتَدَارَكُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ حَتَّى يَفْهَمَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَتَفَرَّغَ سَمْعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَبْقَى فِيهِ وَلَا فِي قَلْبِهِ مَكَانٌ لِغَيْرِ صَوْتِ الْمَلَكِ وَمَعْنَى وَعَيْتُ جَمَعْتُ وَفَهِمْتُ وَحَفِظْتُ وَأَمَّا يَفْصِمُ فَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يُقْلِعُ وَيَنْجَلِي مَا يَتَغَشَّانِي مِنْهُ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْفَصْمُ هُوَ الْقَطْعُ مِنْ غَيْرِ إِبَانَةٍ وَأَمَّا الْقَصْمُ بِالْقَافِ فَقَطْعٌ مَعَ الْإِبَانَةِ وَالِانْفِصَالِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَلَكَ يُفَارِقُ عَلَى أَنْ يَعُودَ وَلَا يُفَارِقُهُ مُفَارَقَةَ قَاطِعٍ لَا يَعُودُ وَرُوِيَ هَذَا الْحَرْفُ أَيْضًا يُفْصَمُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَرُوِيَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ عَلَى أَنَّهُ أَفْصَمَ يُفْصِمُ(15/88)
رُبَاعِيٌّ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ وَهِيَ مِنْ أَفْصَمَ الْمَطَرُ إِذَا أَقْلَعَ وَكَفَّ قَالَ الْعُلَمَاءُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَالَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ الْوَحْيِ وَهُمَا مِثْلُ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَتَمَثُّلُ الْمَلَكِ رَجُلًا وَلَمْ يَذْكُرِ الرُّؤْيَا فِي النَّوْمِ وَهِيَ مِنَ الْوَحْيِ لِأَنَّ مَقْصُودَ السَّائِلِ بَيَانُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَخْفَى فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَأَمَّا الرُّؤْيَا فَمُشْتَرَكَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَوْلُهُ
[2334] (كُرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ) هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَمَعْنَى تَرَبَّدَ أَيْ تَغَيَّرَ وَصَارَ كَلَوْنِ الرَّمَادِ وَفِي ظَاهِرِ هَذَا مُخَالَفَةٌ لِمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ الْمُحْرِمِ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ خَلُوقٌ وَأَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ نَظَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ نُزُولِ الْوَحْيِ وَهُوَ مُحَمَّرُ الْوَجْهِ وَجَوَابُهُ أَنَّهَا حُمْرَةُ كُدْرَةٍ وَهَذَا مَعْنَى التَّرَبُّدِ وَأَنَّهُ فِي أَوَّلِهِ يَتَرَبَّدُ ثُمَّ يَحْمَرُّ أَوْ بِالْعَكْسِ قَوْلُهُ
[2335] (أُتْلِيَ عَنْهُ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ بِلَادِنَا أُتْلِيَ بِهَمْزَةٍ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقُ سَاكِنَةٍ وَلَامٍ وَيَاءٍ وَمَعْنَاهُ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْوَحْيُ هَكَذَا فَسَّرَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أجلى بالجيم وفي رواية بن مَاهَانَ انْجَلَى وَمَعْنَاهُمَا أُزِيلَ عَنْهُ وَزَالَ عَنْهُ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ انْجَلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ(15/89)
(باب صفة شعره صلى الله عليه وسلم وصفاته وحليته قَوْلُهُ
[2336] (كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدُلُونَ أَشْعَارَهُمْ وَكَانَ المشركون يفرقون رؤسهم وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَسَدَلَ نَاصِيَتَهُ ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ سَدَلَ يَسْدُلُ وَيُسْدِلُ بِضَمِّ الدَّالِ وَكَسْرِهَا قَالَ الْقَاضِي سَدْلُ الشَّعْرِ إِرْسَالُهُ قَالَ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِرْسَالُهُ عَلَى الْجَبِينِ وَاتِّخَاذُهُ كَالْقُصَّةِ يُقَالُ سَدَلَ شَعْرَهُ وَثَوْبَهُ إِذَا أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَضُمَّ جَوَانِبَهُ وَأَمَّا الْفَرْقُ فَهُوَ فَرْقُ الشَّعْرِ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْفَرْقُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ بِوَحْيٍ لِقَوْلِهِ إِنَّهُ كَانَ يُوَافِقُ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ قَالَ الْقَاضِي حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ نُسِخَ الْمُسْدَلُ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَلَا اتِّخَاذُ النَّاصِيَةِ وَالْجُمَّةِ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ جَوَازُ الْفَرْقِ لَا وُجُوبُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْفَرْقَ كَانَ بِاجْتِهَادٍ فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا بِوَحْيٍ وَيَكُونُ الْفَرْقُ مُسْتَحَبًّا وَلِهَذَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ فَفَرَقَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَاتَّخَذَ اللِّمَّةَ آخَرُونَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَّةٌ فَإِنِ انْفَرَقَتْ فَرَقَهَا وَإِلَّا تَرَكَهَا قَالَ مَالِكٌ فَرْقُ الرَّجُلِ أَحَبُّ إِلَيَّ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ جَوَازُ السَّدْلِ وَالْفَرْقِ وَأَنَّ الْفَرْقَ أَفْضَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ شَيْءٍ فَقِيلَ فَعَلَهُ اسْتِئْلَافًا لَهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافَقَةً لَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَلَمَّا أَغْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ اسْتِئْلَافِهِمْ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ صَرَّحَ بِمُخَالَفَتِهِمْ فِي غَيْرِ شَيْءٍ مِنْهَا صَبْغُ الشَّيْبِ وَقَالَ آخَرُونَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أُمِرَ بِاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِيمَا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَدِّلُوهُ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ)(15/90)
يَرِدْ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا لِأَنَّهُ قَالَ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ إِلَى خِيرَتِهِ وَلَوْ كَانَ شَرْعًا لَنَا لَتَحَتَّمَ اتِّبَاعُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2337] (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْبُوعًا) هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ قَوْلُهُ (عَظِيمَ الْجُمَّةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ) وَفِي رِوَايَةٍ مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ أَحْسَنَ مِنْهُ وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ يَضْرِبُ شَعْرُهُ مَنْكِبَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْجُمَّةُ أَكْثَرُ مِنَ الْوَفْرَةِ فَالْجُمَّةُ الشَّعْرُ الَّذِي نَزَلَ إِلَى المنكبين والوفرة مانزل إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنَيْنِ وَاللِّمَّةُ الَّتِي أَلَمَّتْ بِالْمَنْكِبَيْنِ قَالَ الْقَاضِي وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ مَا يَلِي الْأُذُنَ هُوَ الَّذِي يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ وَهُوَ الَّذِي بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ وَمَا خَلْفَهُ هُوَ الَّذِي يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ قَالَ وَقِيلَ بَلْ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فَإِذَا غَفَلَ عَنْ تَقْصِيرِهَا بَلَغَتِ الْمَنْكِبَ وَإِذَا قَصَّرَهَا كَانَتْ إِلَى أَنْصَافِ الْأُذُنَيْنِ فَكَانَ يُقَصِّرُ وَيُطَوِّلُ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَالْعَاتِقُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ وَأَمَّا شَحْمَةُ الْأُذُنِ فَهُوَ اللَّيِّنُ مِنْهَا فِي أَسْفَلِهَا وَهُوَ مُعَلَّقُ الْقُرْطِ مِنْهَا وَتُوَضِّحُ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ رِوَايَةَ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ كَانَ(15/91)
شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فَوْقَ الْوَفْرَةِ وَدُونَ الْجُمَّةِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُمْ خَلْقًا) قَالَ الْقَاضِي ضَبَطْنَاهُ خَلْقًا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ هُنَا لِأَنَّ مُرَادَهُ صِفَاتُ جِسْمِهِ قَالَ وَأَمَّا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فَرَوَيْنَاهُ بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ حُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَحْسَنَهُ فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ هَكَذَا تَقُولُهُ الْعَرَبُ وَأَحْسَنُهُ يُرِيدُونَ وَأَحْسَنَهُمْ وَلَكِنْ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَإِنَّمَا يَقُولُونَ أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَحْسَنُهُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَشْفَقَهُ عَلَى وَلَدٍ وَأَعْطَفَهَ عَلَى زَوْجٍ وحَدِيثُ أَبِي سفيان عندي أحسن نساء العرب وأجمله قَوْلُهُ
[2338] (كَانَ شَعَرًا رَجِلًا لَيْسَ بِالْجَعْدِ وَلَا السَّبْطِ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَهُوَ الَّذِي بَيْنَ الْجُعُودَةِ وَالسُّبُوطَةِ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ(15/92)
وَغَيْرُهُ قَوْلُهُ
[2339] (عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَلِيعَ الْفَمِ أَشْكَلَ الْعَيْنِ مَنْهُوسَ الْعَقِبَيْنِ قَالَ قُلْتُ لِسِمَاكٍ مَا ضَلِيعُ الْفَمِ قَالَ عَظِيمُ الْفَمِ قُلْتُ مَا أَشْكَلُ الْعَيْنِ قَالَ طَوِيلُ شَقِّ الْعَيْنِ قُلْتُ مَا مَنْهُوسُ الْعَقِبِ قَالَ قليل لحم العقب) أما قَوْلُهُ فِي ضَلِيعِ الْفَمِ فَكَذَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ قَالُوا وَالْعَرَبُ تَمْدَحُ بِذَلِكَ وَتَذُمُّ صِغَرَ الْفَمِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ثَعْلَبٍ فِي ضَلِيعِ الْفَمِ وَاسِعُ الْفَمِ وَقَالَ شِمْرٌ عَظِيمُ الْأَسْنَانِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي أَشْكَلِ الْعَيْنِ فَقَالَ الْقَاضِي هَذَا وَهْمٌ مِنْ سِمَاكٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَغَلَطٌ ظَاهِرٌ وَصَوَابُهُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَنَقَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الْغَرِيبِ أَنَّ الشُّكْلَةَ حُمْرَةٌ فِي بَيَاضِ الْعَيْنَيْنِ وَهُوَ مَحْمُودٌ وَالشُّهْلَةُ بِالْهَاءِ حُمْرَةٌ فِي سَوَادِ الْعَيْنِ وَأَمَّا الْمَنْهُوسُ فَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ هَكَذَا ضَبَطَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالَ صاحب التحرير وبن الْأَثِيرِ رُوِيَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وَمَعْنَاهُ قَلِيلُ لَحْمِ الْعَقِبِ كَمَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(15/93)
قَوْلُهُ
[2340] (كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا) هُوَ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُشَدَّدَةِ وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ بِجَسِيمٍ وَلَا نَحِيفٍ وَلَا طَوِيلٍ وَلَا قَصِيرٍ وَقَالَ شِمْرٌ هُوَ نَحْوُ الرَّبَعَةِ وَالْقَصْدُ بِمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب شَيْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
قَوْلُهُ
[2341] (سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَضَبَ فَقَالَ لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ كَانَ فِي لِحْيَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ) وَفِي رِوَايَةٍ لَمْ يَرَ مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا قَلِيلًا وَفِي رِوَايَةٍ لَوْ شِئْتَ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ وَلَمْ يَخْضِبْ وَفِي رِوَايَةٍ لَمْ يَخْضِبْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ وَفِي الصُّدْغَيْنِ وَفِي الرَّأْسِ نَبْذٌ وَفِي رِوَايَةٍ مَا شَانَهُ اللَّهُ بِبَيْضَاءَ
[2342] وَفِي رِوَايَةِ أَبِي جُحَيْفَةَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ مِنْهُ بَيْضَاءَ وَوَضَعَ الرَّاوِي بَعْضَ أَصَابِعِهِ عَلَى عَنْفَقَتِهِ
[2343] وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْيَضَ قَدْ شَابَ
[2344] وَفِي رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَانَ إِذَا دَهَنَ رَأْسَهُ لَمْ يُرَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِذَا لَمْ يَدْهُنْ رُئِيَ مِنْهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ كَانَ قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَنَسٍ يُعَدُّ عَدًّا تُوُفِّيَ وَلَيْسَ(15/94)
فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا أَخْرَجَتْ لَهُمْ شَعَرَاتٍ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمْرًا مَخْضُوبَةً بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ قَالَ الْقَاضِي اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ خَضَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا فَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ خضب لحديث أم سلمة هذا ولحديث بن عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ قَالَ وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ فَقَالَ مَا أَدْرِي فِي هَذَا الَّذِي يُحَدِّثُونَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الطِّيبِ الَّذِي كَانَ يُطَيِّبُ بِهِ شَعْرَهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الطِّيبَ كَثِيرًا وَهُوَ يُزِيلُ سَوَادَ الشَّعْرِ فَأَشَارَ أَنَسٌ إِلَى أَنَّ تَغْيِيرَ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَبْغٍ وَإِنَّمَا هُوَ لِضَعْفِ لَوْنِ سَوَادِهِ بِسَبَبِ الطِّيبِ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ تِلْكَ الشَّعَرَاتِ تَغَيَّرَتْ بَعْدَهُ لِكَثْرَةِ تَطْيِيبِ أُمِّ سَلَمَةَ لَهَا إِكْرَامًا هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبَغَ فِي وَقْتٍ وَتَرَكَهُ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ فَأَخْبَرَ كُلٌّ بما رأى وهوصادق وهذا التأويل كالمتعين فحديث بن عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ وَلَا تَأْوِيلَ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي قَدْرِ شَيْبِهِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهَا أَنَّهُ رَأَى شَيْئًا يَسِيرًا فَمَنْ أَثْبَتَ شَيْبَهُ أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ الْيَسِيرِ وَمَنْ نَفَاهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَكْثُرْ فِيهِ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَمْ يَشْتَدَّ الشَّيْبُ أَيْ لَمْ يَكْثُرْ وَلَمْ يَخْرُجْ شَعْرُهُ عَنْ سَوَادِهِ وَحُسْنِهِ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَمْ يَرَ مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا قَلِيلًا قَوْلُهُ (أَعُدُّ شَمَطَاتِهِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَانَ قَدْ شَمِطَ بِكَسْرِ الْمِيمِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّمَطِ هُنَا ابْتِدَاءُ الشَّيْبِ يُقَالُ مِنْهُ شَمِطَ وَأَشْمَطَ قَوْلُهُ (خَضَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ) أَمَّا الْحِنَّاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَأَمَّا الْكَتَمُ فَبِفَتْحِ(15/95)
الْكَافِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ الْمُخَفَّفَةِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَحَكَاهُ غَيْرُهُ وَهُوَ نَبَاتٌ يُصْبَغُ بِهِ الشَّعْرُ يَكْثُرُ بَيَاضُهُ أَوْ حُمْرَتُهُ إِلَى الدُّهْمَةِ قَوْلُهُ (اخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَعْنَاهُ خَالِصًا لَمْ يُخْلَطْ بِغَيْرِهِ قَوْلُهُ (عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يُكْرَهُ أَنْ يَنْتِفَ الرَّجُلُ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ) هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ مَالِكٍ يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ قَوْلُهُ (وَفِي الرَّأْسِ نَبْذٌ) ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ضَمُّ النُّونِ وَفَتْحُ الْبَاءِ وَالثَّانِي بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي وَمَعْنَاهُ شَعَرَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ قَوْلُهُ (سَمِعَ أَبَا إِيَاسٍ) هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ قَوْلُهُ (أَبْرِي النَّبْلَ وَأَرِيشُهَا) أَمَّا أَبْرِي فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَأَمَّا أريشها(15/96)
فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْضًا وَكَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ أي أجعل للنبل ريشا
(بَاب إِثْبَاتِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ وَصِفَتِهِ وَمَحَلِّهِ مِنْ جسده صلى الله عليه وسلم)
قَوْلُهُ (وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ عِنْدَ كَتِفِهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الحمامة يشبه جسده) وَفِي
[2345] رِوَايَةٍ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلُ زِرِّ الْحَجَلَةِ(15/97)
وَفِي
[2346] رِوَايَةٍ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلَانٌ كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ أَمَّا بَيْضَةُ الْحَمَامَةِ فَهُوَ بيضتها المعروفة واما زر الحجلة فبزاي ثم ياء وَالْحَجَلَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْجِيمِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِالْحَجْلَةِ وَاحِدَةُ الْحِجَالِ وَهِيَ بَيْتٌ كَالْقُبَّةِ لَهَا أزرار كباز وَعُرًى هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِالْحَجَلَةِ الطَّائِرُ الْمَعْرُوفُ وَزِرُّهَا بَيْضَتُهَا وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ رُوِيَ أَيْضًا بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ الْبَيْضَ يُقَالُ أَرَزَّتِ الْجَرَادَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ إِذَا كَبَسَتْ ذَنَبَهَا فِي الْأَرْضِ فَبَاضَتْ وَجَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ كَانَتْ بِضْعَةً نَاشِزَةً أَيْ مُرْتَفِعَةً عَلَى جَسَدِهِ وَأَمَّا نَاغِضُ كَتِفِهِ فَبِالنُّونِ وَالْغَيْنِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَالْغَيْنُ مَكْسُورَةٌ وَقَالَ الْجُمْهُورُ النُّغْضُ وَالنَّغْضُ وَالنَّاغِضُ أَعْلَى الْكَتِفِ وَقِيلَ هُوَ الْعَظْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي عَلَى طَرَفِهِ وَقِيلَ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ عِنْدَ التَّحَرُّكِ وَأَمَّا قَوْلُهُ جُمْعًا فَبِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَجَمْعِ الْكَفِّ وَهُوَ صُورَتُهُ بَعْدَ أَنْ(15/98)
تَجْمَعَ الْأَصَابِعَ وَتَضُمَّهَا وَأَمَّا الْخِيلَانُ فَبِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ جَمْعُ خَالٍ وَهُوَ الشَّامَةُ فِي الْجَسَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَقَارِبَةٌ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهَا شَاخِصٌ فِي جَسَدِهِ قَدْرَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ وَهُوَ نَحْوُ بَيْضَةِ الْحَجَلَةِ وَزِرُّ الْحَجَلَةِ وَأَمَّا رِوَايَةُ جَمْعُ الْكَفِّ وَنَاشِزٌ فَظَاهِرُهَا الْمُخَالَفَةُ فَتُؤَوَّلُ عَلَى وَفْقِ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى هَيْئَةِ جَمْعِ الْكَفِّ لَكِنَّهُ أَصْغَرُ مِنْهُ فِي قَدْرِ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا الْخَاتَمُ هُوَ أَثَرُ شَقِّ الْمَلَكَيْنِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ضَعِيفٌ بَلْ بَاطِلٌ لِأَنَّ شَقَّ الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا كَانَ في صدره وبطنه والله اعلم
(باب قدر عمره صلى الله عليه وسلم وإقامته بمكة والمدينة)
[2348]
[2349] ذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ إِحْدَاهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم توفى وهو بن سِتِّينَ سَنَةٍ وَالثَّانِيَةُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ وَالثَّالِثَةُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ وَهِيَ أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ هُنَا من رواية عائشة وأنس وبن عَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَصَحَّهَا ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ وَتَأَوَّلُوا الْبَاقِي عَلَيْهِ فَرِوَايَةُ سِتِّينَ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى الْعُقُودِ وَتَرْكِ الْكَسْرِ وَرِوَايَةُ الْخَمْسِ مُتَأَوَّلَةٌ أَيْضًا وَحَصَلَ فِيهَا اشتباه وقد أنكر عروة على بن عَبَّاسٍ قَوْلَهُ (خَمْسٌ وَسِتُّونَ) وَنَسَبَهُ إِلَى الْغَلَطِ وَأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَوَّلَ النُّبُوَّةِ وَلَا كَثُرَتْ صُحْبَتُهُ بِخِلَافِ الْبَاقِينَ
[2350]
[2351]
[2352]
[2353] وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَبِمَكَّةَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي قَدْرِ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وقيل الْهِجْرَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ فَيَكُونُ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عن بن عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رِوَايَةً شَاذَّةً أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةٍ(15/99)
وَالصَّوَابُ أَرْبَعُونَ كَمَا سَبَقَ وَوُلِدَ عَامَ الْفِيلِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ وَقِيلَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَقِيلَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَامِ الْفِيلِ وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي شَهْرِ ربيع الاول وتوفي يوم الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْوِلَادَةِ هَلْ هُوَ ثَانِي الشَّهْرِ أَمْ ثَامِنُهُ أَمْ عَاشِرُهُ أَمْ ثَانِي عَشَرِهِ وَيَوْمُ الْوَفَاةِ ثَانِي عَشَرَةَ ضُحًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2347] (لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ) الْمُرَادُ بِالْبَائِنِ زَائِدُ الطُّولِ أَيْ هُوَ بَيْنَ زَائِدِ الطُّولِ وَالْقَصِيرِ وَهُوَ بِمَعْنَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ كَانَ مُقَصَّدًا قَوْلُهُ (وَلَا الْأَبْيَضُ الْأَمْهَقُ وَلَا بِالْآدَمِ) الْأَمْهَقُ بِالْمِيمِ هُوَ شَدِيدُ الْبَيَاضِ كَلَوْنِ الْجِصِّ وَهُوَ كَرِيهُ الْمَنْظَرِ وَرُبَّمَا تَوَهَّمَهُ النَّاظِرُ أَبْرَصَ وَالْآدَمُ الْأَسْمَرُ مَعْنَاهُ لَيْسَ بِأَسْمَرَ وَلَا بِأَبْيَضَ كَرِيهِ الْبَيَاضِ بَلْ أَبْيَضُ بَيَاضًا نَيِّرًا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَزْهَرَ اللَّوْنِ وَكَذَا قَالَ في الرواية التي بعده كان أزهر قَوْلُهُ (قُلْتُ لِعُرْوَةَ كَمْ لَبِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قَالَ عَشْرًا قُلْتُ فان بن عَبَّاسٍ يَقُولُ بِضْعَ عَشْرَةَ قَالَ فَغَفَّرَهُ وَقَالَ إِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا فَغَفَّرَهُ بَالِغَيْنِ وَالْفَاءِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْجُلُودِيِّ وَمَعْنَاهُ دَعَا لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ فَقَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ يَقُولُونَهَا غَالِبًا لِمَنْ غَلِطَ فِي شئ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَخْطَأَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ قَالَ القاضي وفي رواية بن مَاهَانَ فَصَغَّرَهُ بِصَادٍ ثُمَّ غَيْنٍ أَيِ اسْتَصْغَرَهُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ هَذَا وَإِدْرَاكِهِ ذَلِكَ وَضَبْطِهِ وَإِنَّمَا أسند فيه إلى قول الشاعر(15/100)
وليس معه عِلْمٌ بِذَلِكَ وَيُرَجِّحُ الْقَاضِي هَذَا الْقَوْلَ قَالَ وَالشَّاعِرُ هُوَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ حَيْثُ يَقُولُ ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى خَلِيلًا مُوَاتِيًا(15/101)
وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْبَيْتُ فِي بَعْضِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ هُوَ فِي عَامَّتِهَا قُلْتُ وَأَبُو قَيْسٍ هَذَا هُوَ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنَمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ الْأَنْصَارِيُّ هكذا نسبه بن إِسْحَاقَ قَالَ كَانَ قَدْ تَرَهَّبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَفَارَقَ الْأَوْثَانَ وَاغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَاتَّخَذَ بَيْتًا لَهُ مَسْجِدًا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَائِضٌ وَلَا جُنُبٌ وَقَالَ أَعْبُدُ رَبَّ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ وَكَانَ قَوَّالًا بِالْحَقِّ وَكَانَ مُعَظِّمًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ الشِّعْرَ(15/102)
فِي تَعْظِيمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَوْلُهُ (سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَخْطُبُ فَقَالَ مَاتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بن ثلاث وستين وأبو بكر وعمر وأنا بن ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَتَقْدِيرُهُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَذَلِكَ ثم استأنف فقال وأنا بن ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ أَيْ وَأَنَا مُتَوَقِّعٌ مُوَافَقَتَهُمْ(15/103)
وَإِنِّي أَمُوتُ فِي سَنَتِي هَذِهِ قَوْلُهُ (يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَيَرَى الضَّوْءَ) قَالَ الْقَاضِي أَيْ صَوْتَ الْهَاتِفِ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَيَرَى الضَّوْءَ أَيْ نُورَ الْمَلَائِكَةِ وَنُورَ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى رَأَى الْمَلَكَ بِعَيْنِهِ وَشَافَهَهُ بِوَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى
(باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم)
ذَكَرَ هُنَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءُ أُخَرُ ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ الْأَحْوَذِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَلْفَ اسْمٍ وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفَ اسْمٍ أَيْضًا ثُمَّ ذَكَرَ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيلِ بِضْعًا وَسِتِّينَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ رَجُلٌ مُحَمَّدٌ وَمَحْمُودٌ إِذَا كَثُرَتْ خِصَالُهُ الْمَحْمُودَةُ وقال بن فَارِسٍ وَغَيْرُهُ وَبِهِ سُمِّيَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا وَأَحْمَدَ أَيْ أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَهُ أَنْ سَمَّوْهُ بِهِ لِمَا عُلِمَ مِنْ جَمِيلِ صِفَاتِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2354] (وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يُمْحَى بِي الْكُفْرُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ مَحْوُ الْكُفْرِ مِنْ مَكَّةَ والمدينة وسائر بلاد العرب ومازوى لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَرْضِ وَوُعِدَ أَنْ يَبْلُغَهُ مُلْكُ أُمَّتِهِ قَالُوا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَحْوُ الْعَامُّ بِمَعْنَى الظُّهُورِ بِالْحُجَّةِ وَالْغَلَبَةِ كَمَا قَالَ(15/104)
تعالى ليظهره على الدين كله وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ تَفْسِيرُ الْمَاحِي بِأَنَّهُ الَّذِي مُحِيَتْ بِهِ سَيِّئَاتُ مَنِ اتَّبَعَهُ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِمَحْوِ الْكُفْرِ هَذَا وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لهم ما قد سلف وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى قَدَمِي فَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَاتَّفَقَتِ النُّسَخُ على أنها عَلَى أَنَّهَا عَلَى قَدَمِي لَكِنْ ضَبَطُوهُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَتَشْدِيدِهَا عَلَى التَّثْنِيَةِ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى فَهِيَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا قَدَمِي كَالثَّانِيَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُمَا يُحْشَرُونَ عَلَى أَثَرِي وَزَمَانِ نُبُوَّتِي وَرِسَالَتِي وَلَيْسَ بَعْدِي نبي وقيل يتبعوني قوله
[2355] (والمقفي ونبي التوبة ونبي الرحمة)(15/105)
أَمَّا الْعَاقِبُ فَفَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بعده نبي اي جاء عقبهم قال بن الْأَعْرَابِيِّ الْعَاقِبُ وَالْعُقُوبُ الَّذِي يَخْلُفُ فِي الْخَيْرِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ وَمِنْهُ عَقِبُ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ وَأَمَّا الْمُقَفِّي فَقَالَ شَمِرٌ هُوَ بِمَعْنَى الْعَاقِبِ وقال بن الْأَعْرَابِيِّ هُوَ الْمُتَّبِعُ لِلْأَنْبِيَاءِ يُقَالُ قَفَوْتُهُ أَقْفُوهُ وقفيته أقفيه اذا اتبعته وقافية كل شئ آخِرُهُ وَأَمَّا نَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ الْمَرْحَمَةِ فَمَعْنَاهَا مُتَقَارِبٌ وَمَقْصُودُهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِالتَّوْبَةِ وَبِالتَّرَاحُمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ نَبِيُّ الْمَلَاحِمِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِالْقِتَالِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مع ان لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءُ غَيْرُهَا كَمَا سَبَقَ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وموجودة للأمم السالفة
(بَاب عِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَشِدَّةِ خَشْيَتِهِ قَوْلُهُ (فَغَضِبَ حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ فَوَاللَّهِ)(15/106)
لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّهْيُ عَنِ التَّعَمُّقِ فِي الْعِبَادَةِ وَذَمُّ التَّنَزُّهِ عَنِ الْمُبَاحِ شَكًّا فِي إِبَاحَتِهِ وَفِيهِ الْغَضَبُ عِنْدَ انْتَهَاكِ حُرُمَاتِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُنْتَهِكُ مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا بَاطِلًا وَفِيهِ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ بِإِرْسَالِ التَّعْزِيرِ وَالْإِنْكَارِ فِي الْجَمْعِ وَلَا يُعَيَّنُ فَاعِلُهُ فَيُقَالُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ وَنَحْوُهُ وَفِيهِ أَنَّ الْقُرْبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ بِهِ وَشِدَّةِ خَشْيَتِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ سُنَنَهُمْ عَمَّا فَعَلْتُ أَقْرَبُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ فَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمُوا بَلْ أَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً وَإِنَّمَا يَكُونُ الْقُرْبُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْخَشْيَةُ لَهُ عَلَى حَسَبِ مَا أَمَرَ لَا بِمُخَيَّلَاتِ النُّفُوسِ وَتَكَلُّفِ أَعْمَالٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ
[2357] (شِرَاجُ الْحَرَّةِ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْجِيمِ هِيَ مَسَايِلُ الْمَاءِ وَاحِدُهَا شَرْجَةٌ وَالْحَرَّةُ هِيَ الْأَرْضُ الْمَلْسَةُ فِيهَا حِجَارَةٌ سُودٌ قَوْلُهُ (سَرِّحِ الْمَاءَ) أَيْ أَرْسِلْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكِ فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ يَا رسول الله ان كان بن)(15/107)
عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ) اما قوله ان كان بن عَمَّتِكَ فَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ فَعَلْتَ هَذَا لكونه بن عَمَّتِكَ وَقَوْلُهُ تَلَوَّنَ وَجْهُهُ أَيْ تَغَيَّرَ مِنَ الْغَضَبِ لَانْتَهَاكِ حُرُمَاتِ النُّبُوَّةِ وَقُبْحِ كَلَامِ هَذَا الْإِنْسَانِ وَأَمَّا الْجَدْرُ فَبِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْجِدَارُ وَجَمْعُ الْجِدَارِ جُدُرٌ كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ وَجَمْعُ الْجُدُرِ جُدُورٌ كَفَلْسٍ وَفُلُوسٍ وَمَعْنَى يَرْجِعُ إِلَى الْجَدْرِ أَيْ يَصِيرُ إِلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِالْجَدْرِ أَصْلُ الْحَائِطِ وَقِيلَ أُصُولُ الشَّجَرِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَقَدَّرَهُ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَرْتَفِعَ الْمَاءُ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا حَتَّى يَبْتَلَّ كَعْبُ رِجْلِ الْإِنْسَانِ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ الْأُولَى الَّتِي تَلِي الْمَاءَ أَنْ يَحْبِسَ الْمَاءَ فِي الْأَرْضِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ ثُمَّ يُرْسِلَهُ إِلَى جَارِهِ الَّذِي وَرَاءَهُ وَكَانَ الزُّبَيْرُ صَاحِبَ الْأَرْضِ الْأُولَى فَأَدَلَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اسْقِ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكِ أَيِ اسْقِ شَيْئًا يَسِيرًا دُونَ قَدْرِ حَقِّكَ ثُمَّ أَرْسِلْهُ إِلَى جَارِكِ إِدْلَالًا عَلَى الزُّبَيْرِ وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَرْضَى بِذَلِكَ وَيُؤْثِرُ الْإِحْسَانَ إِلَى جَارِهِ فَلَمَّا قَالَ الْجَارُ مَا قَالَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ حَقِّهِ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ وَاضِحًا فِي بَابِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَلَوْ صَدَرَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ الْأَنْصَارِيُّ الْيَوْمَ مِنْ إِنْسَانٍ مِنْ نِسْبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَوًى كَانَ كُفْرًا وَجَرَتْ عَلَى قَائِلِهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ فَيَجِبُ قَتْلُهُ بِشَرْطِهِ قَالُوا وَإِنَّمَا تَرَكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَتَأَلَّفُ النَّاسَ وَيَدْفَعُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَى الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَيَقُولُ يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَقُولُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين قَالَ الْقَاضِي وَحَكَى الدَّاوُدِيُّ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي خَاصَمَ الزُّبَيْرَ كَانَ مُنَافِقًا وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ إِنَّهُ أَنْصَارِيٌّ لَا يُخَالِفُ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ لَا مِنَ الْأَنْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ فلا وربك لا يؤمنون(15/108)
الْآيَةَ فَهَكَذَا قَالَ طَائِفَةٌ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ تَحَاكَمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَكَمَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ ارْفَعْنِي إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقِيلَ فِي يَهُودِيٍّ وَمُنَافِقٍ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْضَ الْمُنَافِقُ بِحُكْمِهِ وطلب الحكم عند الكاهن قال بن جَرِيرٍ يَجُوزُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْجَمِيعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مانهيتكم عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَهُوَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ(15/109)
(بَابُ تَوْقِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِ إِكْثَارِ سُؤَالِهِ)
عَمَّا لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ أَوْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ وَمَا لَا يَقَعُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَقْصُودُ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ صَلَّى الله عليه وسلم نهاهمم عَنْ إِكْثَارِ السُّؤَالِ وَالِابْتِدَاءِ بِالسُّؤَالِ عَمَّا لَا يَقَعُ وَكَرِهَ ذَلِكَ لِمَعَانٍ مِنْهَا أَنَّهُ رُبَّمَا كان سببا لتحريم شئ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَلْحَقُهُمْ بِهِ الْمَشَقَّةُ وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عن شئ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحَرُمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ وَمِنْهَا أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي الْجَوَابِ مَا يَكْرَهُهُ السَّائِلُ وَيَسُوؤُهُ وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إن تبدلكم تسؤكم كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَمِنْهَا أَنَّهُمْ رُبَّمَا أَحْفَوْهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بالمسألة والحفوة الْمَشَقَّةُ وَالْأَذَى فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ سَأَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ إِلَى آخِرِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2358] (إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شئ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحَرُمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ سَأَلَ عَنْ شئ وَنَقَّرَ عَنْهُ أَيْ بَالَغَ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ وَالِاسْتِقْصَاءِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمُرَادُ بِالْجُرْمِ هُنَا الْحَرَجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا أَنَّهُ الْجُرْمُ الَّذِي هُوَ الْإِثْمُ الْمُعَاقَبُ عَلَيْهِ لِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ مُبَاحًا وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلوني(15/110)
هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي ضَعِيفٌ بَلْ بَاطِلٌ وَالصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُرْمِ هُنَا الْإِثْمُ وَالذَّنْبُ قَالُوا وَيُقَالُ مِنْهُ جَرَمَ بِالْفَتْحِ وَاجْتَرَمَ وَتَجَرَّمَ إِذَا أَثِمَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَنْ سَأَلَ تَكَلُّفًا أَوْ تَعَنُّتًا فِيمَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ فَأَمَّا مَنْ سَأَلَ لِضَرُورَةٍ بِأَنْ وَقَعَتْ لَهُ مَسْأَلَةٌ فَسَأَلَ عَنْهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَا عُتْبَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاسْأَلُوا أهل الذكر قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عَمِلَ مَا فِيهِ إِضْرَارٌ بِغَيْرِهِ كَانَ آثِمًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2359] (عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) فِيهِ(15/111)
أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ عَرْضِهِمَا وَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَمْ أَرَ خَيْرًا أَكْثَرَ مِمَّا رَأَيْتُهُ الْيَوْمَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا شَرًّا أَكْثَرَ مِمَّا رَأَيْتُهُ الْيَوْمَ فِي النَّارِ وَلَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ وَعَلِمْتُمْ مَا عَلِمْتُ مِمَّا رَأَيْتُهُ الْيَوْمَ وَقَبْلَ الْيَوْمِ لَأَشْفَقْتُمْ إِشْفَاقًا بَلِيغًا وَلَقَلَّ ضَحِكُكُمْ وَكَثُرَ بُكَاؤُكُمْ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ لَوْ فِي مِثْلِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (غَطَّوْا رؤسهم وَلَهُمْ خَنِينٌ) هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَلِمُعْظَمِ الرُّوَاةِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْقَاضِي وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَآخَرُونَ قَالُوا وَمَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ صَوْتُ الْبُكَاءِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبُكَاءِ دُونَ الِانْتِحَابِ قَالُوا وَأَصْلُ الْخَنِينِ خُرُوجُ الصَّوْتِ مِنَ الْأَنْفِ كَالْحَنِينِ بِالْمُهْمَلَةِ مِنَ الْفَمِ وَقَالَ الْخَلِيلُ هُوَ(15/112)
صَوْتٌ فِيهِ غُنَّةٌ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ إِذَا تَرَدَّدَ بُكَاؤُهُ فَصَارَ فِي كَوْنِهِ غُنَّةٌ فَهُوَ خَنِينٌ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الْخَنِينُ مِثْلُ الْحَنِينِ وَهُوَ شَدِيدُ الْبُكَاءِ قَوْلُهُ (فَلَمَّا أَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي بَرَكَ عُمَرُ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا يَعْلَمُ كُلَّ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنَ الْمُغَيِّبَاتِ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلُونِي إِنَّمَا كَانَ غَضَبًا كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ سَلُونِي وَكَانَ اخْتِيَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ تِلْكَ الْمَسَائِلِ لَكِنْ وَافَقَهُمْ فِي جَوَابِهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّ السُّؤَالِ وَلِمَا رَآهُ مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا بُرُوكُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلُهُ فَإِنَّمَا فَعَلَهُ أَدَبًا وَإِكْرَامًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يُؤْذُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَهْلَكُوا وَمَعْنَى كَلَامِهِ رَضِينَا بِمَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاكْتَفَيْنَا بِهِ عَنِ السُّؤَالِ فَفِيهِ أَبْلَغُ كِفَايَةٍ قَوْلُهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ أَمَّا لَفْظَةُ أَوْلَى فَهِيَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ وَقِيلَ كَلِمَةُ تَلَهُّفٍ فَعَلَى هَذَا يَسْتَعْمِلُهَا مَنْ نَجَا مِنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهَا لِلتَّهْدِيدِ وَمَعْنَاهَا قَرُبَ مِنْكُمْ مَا تَكْرَهُونَهُ وَمِنْهُ قوله(15/113)
تَعَالَى أَوْلَى لَك فَأَوْلَى أَيْ قَارَبَكَ مَا تَكْرَهُ فَاحْذَرْهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَلِيِّ وَهُوَ الْقُرْبُ وَأَمَّا آنِفًا فَمَعْنَاهُ قَرِيبًا السَّاعَةَ وَالْمَشْهُورُ فِيهِ الْمَدُّ وَيُقَالُ بِالْقَصْرِ وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ الاكثرون بالمد وعرض الْحَائِطِ بِضَمِّ الْعَيْنِ جَانِبُهُ قَوْلُهُ (إِنَّ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ قَالَتْ لَهُ أَأَمِنْتَ أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ قَدْ قَارَفَتْ بَعْضَ مَا يُقَارِفُ نِسَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحَهَا عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ فَقَالَ ابْنُهَا وَاللَّهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ للحقته) اما قولها قارفت فمعناه عملت سوءا والمراد الزنى وَالْجَاهِلِيَّةُ هُمْ مِنْ قَبْلِ النُّبُوَّةِ سُمُّوا بِهِ لِكَثْرَةِ جَهَالَاتِهِمْ وَكَانَ سَبَبُ سُؤَالِهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ يَطْعَنُ فِي نَسَبِهِ عَلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْأَنْسَابِ وَقَدْ بُيِّنَ هَذَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ بِقَوْلِهِ كَانَ يُلَاحَى فَيُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَالْمُلَاحَاةُ الْمُخَاصَمَةُ وَالسِّبَابُ وَقَوْلُهَا فَتَفْضَحُهَا مَعْنَاهُ لَوْ كُنْتَ مِنْ زِنَا فَنَفَاكَ عَنْ أَبِيكَ حُذَافَةَ فَضَحْتَنِي وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ لَلَحِقْتُهُ فَقَدْ يُقَالُ هَذَا لَا يتصور لان الزنى لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يحتمل وجهين احدهما أن بن حُذَافَةَ مَا كَانَ بَلَغَهُ هَذَا الْحُكْمُ وَكَانَ يظن ان ولد الزنى يَلْحَقُ الزَّانِي وَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَلَى أَكْبَرَ مِنْهُ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ خاصم في بن وليدة زمعة فظن انه يلحق أخاه بالزنى وَالثَّانِي أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ الْإِلْحَاقُ بَعْدَ وَطْئِهَا بِشُبْهَةٍ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ(15/114)
هُوَ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ قَالَ السَّمْعَانِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ وَهَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ قَوْلُهُ (أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ) أَيْ أَكْثَرُوا في الالحاح والمبالغة فيه يقال أَحْفَى وَأَلْحَفَ وَأَلَحَّ بِمَعْنًى قَوْلُهُ (فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمَ أَرَمُّوا) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَضْمُومَةِ أَيْ سَكَتُوا وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَرَمَّةِ وهي الشفة أَيْ ضَمُّوا شِفَاهَهُمْ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فَلَمْ يَتَكَلَّمُوا وَمِنْهُ رَمَّتِ الشَّاةُ الْحَشِيشَ ضَمَّتْهُ بِشَفَتَيْهَا قَوْلُهُ (أَنْشَأَ رَجُلٌ ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ مَعْنَاهُ ابْتَدَأَ وَمِنْهُ أَنْشَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ أَيِ ابْتَدَأَهُمْ(15/115)
(بَابُ وُجُوبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ شَرْعًا دُونَ مَا ذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ الرَّأْيِ فِيهِ حَدِيثُ ابار النخل وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
[2361] (مَا اظن يعني ذَلِكَ شَيْئًا فَخَرَجَ شِيصًا فَقَالَ إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ
[2362] إِذَا امرتكم بشئ من دينكم فخذوا به واذا امرتكم بشئ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَفِي رِوَايَةٍ
[2363] أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ قَالَ الْعُلَمَاءُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَأْيِي أَيْ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَمَعَايِشِهَا لَا عَلَى التَّشْرِيعِ فَأَمَّا مَا قَالَهُ بِاجْتِهَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ شَرْعًا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَيْسَ إِبَارُ النَّخْلِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ بَلْ مِنَ النَّوْعِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ مَعَ أَنَّ لَفْظَةَ الرَّأْيِ إِنَّمَا أَتَى بِهَا عِكْرِمَةُ عَلَى الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ عِكْرِمَةُ أَوْ نَحْوُ هَذَا فَلَمْ يُخْبِرْ بِلَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَقَّقًا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ خَبَرًا وَإِنَّمَا كَانَ ظَنًّا كَمَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قَالُوا وَرَأْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمُورِ الْمَعَايِشِ وَظَنُّهُ كَغَيْرِهِ فَلَا يُمْتَنَعُ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا وَلَا نَقْصَ فِي ذَلِكَ وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ هِمَمِهِمْ بِالْآخِرَةِ وَمَعَارِفِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ 0 (يُلَقِّحُونَهُ) هُوَ(15/116)
بِمَعْنَى يَأْبُرُونَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمَعْنَاهُ إِدْخَالُ شئ طَلْعِ الذَّكَرِ فِي طَلْعِ الْأُنْثَى فَتَعَلَّقَ بِإِذْنِ الله ويأبرون بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا يُقَالُ مِنْهُ أَبَرَ يَأْبُرُ وَيَأْبِرُ كَبَذَرَ يَبْذُرُ وَيَبْذِرُ وَيُقَالُ أَبَّرَ يُؤَبِّرُ بِالتَّشْدِيدِ تَأْبِيرًا قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْقِرِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ مَنْسُوبٌ إِلَى مَعْقِرَ وَهِيَ نَاحِيَةٌ مِنَ الْيَمَنِ قَوْلُهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ هُوَ بِفَتْحِ الْحُرُوفِ كُلِّهَا وَالْأَوَّلُ بِالْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالثَّانِي بِالْقَافِ وَالْمُهْمَلَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ الْمَعْقِرِيُّ فَنَفَضَتْ(15/117)
بِالْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةُ وَمَعْنَاهُ أَسْقَطَتْ ثَمْرَهَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْمُتَسَاقِطِ النَّفَضُ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْفَاءِ بِمَعْنَى الْمَنْفُوضِ كَالْخَبَطِ بِمَعْنَى الْمَخْبُوطِ وَأَنْفَضَ الْقَوْمُ فَنِيَ زَادُهُمْ قَوْلُهُ (فَخَرَجَ شِيصًا) هُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ وبصاد مهملة وهو البسر الردئ الَّذِي إِذَا يَبِسَ صَارَ حَشَفًا وَقِيلَ أَرْدَأ البسر وقيل تمر ردئ وَهُوَ مُتَقَارِبٌ
(بَاب فَضْلِ النَّظَرِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَنِّيهِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2364] (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ وَلَا يَرَانِي ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَعْنَى فِيهِ عِنْدِي لَأَنْ يَرَانِي مَعَهُمْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَهُوَ عِنْدِي مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ) هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ قَالَ تَقْدِيرُهُ لَأَنْ يَرَانِي مَعَهُمْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَا يَرَانِي وَكَذَا جَاءَ فِي مُسْنَدِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَا يَرَانِي أَيْ رُؤْيَتُهُ إِيَّايَ أَفْضَلُ عِنْدَهُ وَأَحْظَى مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي تَقْدِيمِ لَأَنْ يَرَانِي وَتَأْخِيرِ مِنْ أَهْلِهِ لَا يَرَانِي كَمَا قَالَ وَأَمَّا لَفْظَةُ مَعَهُمْ فَعَلَى ظَاهِرِهَا وَفِي مَوْضِعِهَا وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ يَأْتِي عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ لَأَنْ يَرَانِي فِيهِ لَحْظَةً ثُمَّ لَا يَرَانِي بَعْدَهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ جَمِيعًا وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ حَثُّهُمْ عَلَى مُلَازَمَةِ مَجْلِسِهِ الْكَرِيمِ وَمُشَاهَدَتِهِ حَضَرًا وَسَفَرًا(15/118)
لِلتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ وَتَعَلُّمِ الشَّرَائِعِ وَحِفْظِهَا لِيُبَلِّغُوهَا وَإِعْلَامُهُمْ أَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَمُلَازَمَتِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب فَضَائِلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2365] (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ الْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَا أَوْلَى الناس بعيسى بن مَرْيَمَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ قَالُوا كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِيٌّ قَالَ الْعُلَمَاءُ أَوْلَادُ الْعَلَّاتِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ هُمُ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ مِنْ أُمَّهَاتٍ شَتَّى وَأَمَّا الْإِخْوَةُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ فَيُقَالُ لَهُمْ أَوْلَادُ الْأَعْيَانِ قَالَ(15/119)
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَصْلُ إِيمَانِهِمْ وَاحِدٌ وَشَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي أُصُولِ التَّوْحِيدِ واما فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف واما قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ فَالْمُرَادُ بِهِ أُصُولُ التَّوْحِيدِ وَأَصْلُ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَتُهَا وَأُصُولُ التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ جَمِيعًا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنَّا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى فَمَعْنَاهُ أَخَصُّ بِهِ لِمَا ذَكَرَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2366] مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صارخا من نخسة الشيطان الا بن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) هَذِهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ اخْتِصَاصُهَا بِعِيسَى وَأُمِّهِ وَاخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ جميع الانبياء يتشاركون فِيهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2367] (صِيَاحُ الْمَوْلُودِ حِينَ يَقَعُ نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) أَيْ حِينَ يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَمَعْنَى(15/120)
نَزْغَةٍ نَخْسَةٌ وَطَعْنَةٌ ومِنْهُ قَوْلُهُمُ نَزَغَهُ بِكَلِمَةِ سُوءٍ أَيْ رَمَاهُ بِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2368] (رَأَى عِيسَى رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ عِيسَى سَرَقْتَ قَالَ كَلَّا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَقَالَ عِيسَى آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ نَفْسِي) قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُ الْكَلَامِ صَدَّقْتُ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَكَذَّبْتُ مَا ظَهَرَ لي من ظاهر سرقته فلعله اخذ ماله فِيهِ حَقٌّ أَوْ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَقْصِدِ الْغَصْبَ وَالِاسْتِيلَاءَ أَوْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ مديده أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا فَلَمَّا حَلَفَ لَهُ أَسْقَطَ ظَنَّهُ وَرَجَعَ عَنْهُ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمِ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
قَوْلُهُ
[2369] (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا تَوَاضُعًا وَاحْتِرَامًا لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخُلَّتِهِ وَأُبُوَّتِهِ وإلافنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ الِافْتِخَارَ وَلَا التَّطَاوُلَ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ بَلْ قَالَهُ بَيَانًا لِمَا أُمِرَ بِبَيَانِهِ وَتَبْلِيغِهِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَخْرَ لِيَنْفِيَ مَا قَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَى بَعْضِ(15/121)
الْأَفْهَامِ السَّخِيفَةِ وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فَإِنْ قِيلَ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ فَلَا يَدْخُلُهُ خَلْفٌ وَلَا نَسْخٌ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ أَنَّهُ أَرَادَ أَفْضَلَ الْبَرِيَّةِ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِهِ وَأَطْلَقَ الْعِبَارَةَ الْمُوهِمَةَ لِلْعُمُومِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّوَاضُعِ وَقَدْ جَزَمَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ بِمَعْنَى هَذَا فَقَالَ الْمُرَادُ أَفْضَلُ بَرِيَّةِ عَصْرِهِ وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنِ التَّأْوِيلِ الثَّانِي بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ مِنَ الْأَخْبَارِ لِأَنَّ الْفَضَائِلَ يَمْنَحُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ فَأَخْبَرَ بِفَضِيلَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ عَلِمَ تَفْضِيلَ نَفْسِهِ فَأَخْبَرَ بِهِ وَيَتَضَمَّنُ هَذَا جَوَازَ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَيُجَابُ عَنْ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْهُ بِالْأَجْوِبَةِ السَّابِقَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْفَضَائِلِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
[2370] (اختتن ابراهيم النبي وهو بن ثَمَانِينَ سَنَةٍ بِالْقَدُومِ) رُوَاةُ مُسْلِمٍ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَخْفِيفِ الْقَدُومِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ الْخِلَافُ فِي تَشْدِيدِهِ وَتَخْفِيفِهِ قَالُوا وَآلَةُ النَّجَّارِ يُقَالُ لَهَا قَدُومٌ بِالتَّخْفِيفِ لَا غَيْرُ وَأَمَّا الْقَدُومُ مَكَانٌ بِالشَّامِّ فَفِيهِ التَّخْفِيفُ فَمَنْ رَوَاهُ بِالتَّشْدِيدِ اراد القرية ومن رواه بالتخفيف يحتمل الْقَرْيَةُ وَالْآلَةُ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى التَّخْفِيفِ وَعَلَى إِرَادَةِ الآلة وهذا الذي وقع هنا وهو بن ثمانين سنة هوالصحيح ووقع في الموطأ وهو بن مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وهو متأول اومردود وَسَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ الْخِتَانِ فِي(15/122)
أَوَائِلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي خِصَالِ الْفِطْرَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[151] (نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَى آخِرِهِ) هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2371] (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عليه السلام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ إِنِّي سَقِيمٌ وَقَوْلُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ إِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ(15/123)
قَالَ الْمَازِرِيُّ أَمَّا الْكَذِبُ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنْهُ سَوَاءٌ كثيره وقليله واما مالا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ وَيُعَدُّ مِنَ الصِّفَاتِ كَالْكَذْبَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَفِي إِمْكَانِ وُقُوعِهِ مِنْهُمْ وَعِصْمَتِهِمْ مِنْهُ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَذِبَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ سَوَاءٌ جَوَّزْنَا الصَّغَائِرَ مِنْهُمْ وَعِصْمَتَهُمْ مِنْهُ أَمْ لَا وَسَوَاءٌ قَلَّ الْكَذِبُ أَمْ كَثُرَ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَرْتَفِعُ عَنْهُ وَتَجْوِيزُهُ يَرْفَعُ الْوُثُوقَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْكَذَبَاتِ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ وَالسَّامِعِ وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَيْسَتْ كَذِبًا مَذْمُومًا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَرَّى بِهَا فَقَالَ فِي سَارَةَ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْوِيلَ اللَّفْظَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ كذبا لاتورية فِيهِ لَكَانَ جَائِزًا فِي دَفْعِ الظَّالِمِينَ وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ ظَالِمٌ يَطْلُبُ إِنْسَانًا مُخْتَفِيًا لِيَقْتُلَهُ أَوْ يَطْلُبُ وَدِيعَةً لِإِنْسَانٍ لِيَأْخُذَهَا غَصْبًا وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِخْفَاؤُهُ وَإِنْكَارُ الْعِلْمِ بِهِ وَهَذَا كَذِبٌ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ لِكَوْنِهِ فِي دَفْعِ الظَّالِمِ فَنَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَذَبَاتِ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُطْلَقِ الْكَذِبِ الْمَذْمُومِ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَأَخْرَجَهَا عَنْ كَوْنِهَا كَذِبًا قَالَ وَلَا مَعْنَى لِلِامْتِنَاعِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظٍ أَطْلَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ أَمَّا إِطْلَاقُ لَفْظِ الْكَذِبِ عَلَيْهَا فَلَا يُمْتَنَعُ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ وَأَمَّا تَأْوِيلُهَا فَصَحِيحٌ لَا مَانِعَ مِنْهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْوَاحِدَةُ الَّتِي فِي شَأْنِ سَارَةَ هِيَ أَيْضًا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا سَبَبُ(15/124)
دَفْعِ كَافِرٍ ظَالِمٍ عَنْ مُوَاقَعَةِ فَاحِشَةٍ عَظِيمَةٍ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ فَقَالَ مَا فِيهَا كَذْبَةٌ إِلَّا بِمَا حَلَّ بِهَا عَنِ الْإِسْلَامِ أَيْ يُجَادِلُ وَيُدَافِعُ قَالُوا وانما خص الثنتين بِأَنَّهُمَا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِ الثَّالِثَةِ تَضَمَّنَتْ نَفْعًا لَهُ وَحَظًّا مَعَ كَوْنِهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ إِنِّي سَقِيمٌ أَيْ سَأَسْقُمُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عُرْضَةٌ لِلْأَسْقَامِ وَأَرَادَ بِذَلِكَ الِاعْتِذَارَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ إِلَى عِيدِهِمْ وَشُهُودِ بَاطِلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَقِيلَ سَقِيمٌ بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ وَقِيلَ كَانَتْ تَأْخُذُهُ الْحُمَّى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَمَّا قَوْلُهُ بَلْ فعله كبيرهم فقال بن قُتَيْبَةَ وَطَائِفَةٌ جَعَلَ النُّطْقَ شَرْطًا لِفِعْلِ كَبِيرِهِمْ أَيْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ وَقَالَ الْكَسَائِيُّ يُوقَفُ عِنْدَ قَوْلِهِ بَلْ فَعَلَهُ أَيْ فَعَلَهُ فَاعِلُهُ فَأَضْمَرَ ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْفَاعِلِ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَجَوَابُهَا مَا سَبَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَلَكَ اللَّهُ) أَيْ شَاهِدًا وَضَامِنًا أَنْ لَا أَضُرَّكَ قَوْلُهُ (مَهْيَمَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ بَيْنَهُمَا أَيْ مَا شأنك وماخبرك وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ مَهِيمًا بِالْأَلْفِ وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ قَوْلُهَا (وَأَخْدَمَ خَادِمًا) أَيْ وَهَبَنِي خَادِمًا وَهِيَ هَاجَرَ وَيُقَالُ آجَرَ بِمَدِّ الْأَلْفِ وَالْخَادِمُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ) قَالَ كَثِيرُونَ الْمُرَادُ بِبَنِي مَاءِ السَّمَاءِ الْعَرَبُ كُلُّهُمْ لِخُلُوصِ نَسَبِهِمْ وَصَفَائِهِ وَقِيلَ لان اكثرهم اصحاب مواش وَعَيْشَهُمْ مِنَ الْمَرْعَى وَالْخِصْبِ وَمَا يَنْبُتُ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَقَالَ الْقَاضِي الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَنْصَارُ خَاصَّةً وَنِسْبَتُهُمْ إِلَى جَدِّهِمْ عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَدَدِ وَكَانَ يُعْرَفُ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ بِذَلِكَ وَالْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ مِنْ وَلَدِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عامر(15/125)
الْمَذْكُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
قَوْلُهُ
[339] (إِنَّهُ آدَرُ) بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ رَاءٍ وَهُوَ عَظِيمُ الْخُصْيَتَيْنِ وَجَمَعَ الْحَجَرَ أَيْ ذَهَبَ مُسْرِعًا إِسْرَاعًا بَلِيغًا وَطَفِقَ ضَرْبًا أَيْ جَعَلَ يَضْرِبُ يُقَالُ طَفِقَ يَفْعَلُ كَذَا وَطَفِقَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا وَجَعَلَ وَأَخَذَ وَأَقْبَلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَأَمَّا النَّدَبُ فَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالدَّالِ وَأَصْلُهُ أَثَرُ الْجُرْحِ إِذَا لَمْ يَرْتَفِعْ عَنِ الْجِلْدِ وَقَوْلُهُ (ثَوْبِي حَجَرُ) اي دع ثوبي ياحجر قَوْلُهُ (فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرَةٍ فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ تَوَارَتْ وَمَعْنَاهُ وَارَتْ وَسَتَرَتْ(15/126)
قوله (فاغتسل عند مويه) وَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا وَمُعْظَمِ غَيْرِهَا مُوَيْهٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَهُوَ تَصْغِيرُ مَاءٍ وَأَصْلُهُ مَوْهٌ وَالتَّصْغِيرُ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا وَقَالَ الْقَاضِي وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مُوَيْهٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَفِي مُعْظَمِهَا مَشْرَبَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ وَهِيَ حُفْرَةٌ فِي أَصْلِ النَّخْلَةِ يُجْمَعُ الْمَاءُ فِيهَا لِسَقْيِهَا قَالَ الْقَاضِي وَأَظُنُّ الْأَوَّلَ تَصْحِيفًا كَمَا سَبَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّ فِيهِ مُعْجِزَتَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ لِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَاهُمَا مَشْيُ الْحَجْرِ بِثَوْبِهِ إِلَى مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالثَّانِيَةُ حُصُولُ النَّدَبِ فِي الْحَجَرِ وَمِنْهَا وُجُودُ التَّمْيِيزِ فِي الْجَمَادِ كَالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ وَمِثْلُهُ تَسْلِيمُ الْحَجَرِ بِمَكَّةَ وَحَنِينُ الْجِذْعِ وَنَظَائِرُهُ وَسَبَقَ قَرِيبًا بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطَةً وَمِنْهَا جَوَازُ الْغُسْلِ عُرْيَانًا فِي الْخَلْوَةٍ وَإِنْ كَانَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ أَفْضَلَ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ومالك وجماهير العلماء وخالفهم بن أَبِي لَيْلَى وَقَالَ إِنَّ لِلْمَاءِ سَاكِنًا وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ وَمِنْهَا مَا ابْتُلِيَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَذَى السُّفَهَاءِ وَالْجُهَّالِ وَصَبْرِهِمْ عَلَيْهِمْ وَمِنْهَا مَا قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ ان الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم وسلامه مُنَزَّهُونَ عَنِ النَّقَائِصِ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ سَالِمُونَ مِنَ الْعَاهَاتِ وَالْمَعَايِبِ قَالُوا وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا قَالَهُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ لَهُ مِنْ أَهْلِ التَّارِيخِ فِي إِضَافَةِ بَعْضِ الْعَاهَاتِ إِلَى بَعْضِهِمْ بَلْ نَزَّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كُلِّ عيب وكل شئ يُبَغِّضُ الْعُيُونَ أَوْ يُنَفِّرُ الْقُلُوبَ قَوْلُهُ
[2372] (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ قَالَ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِ(15/127)
فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ فَالْآنَ فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى فَقَالَ أَجِبْ رَبَّكَ فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سَبَقَ أَمَّا قَوْلُهُ صَكَّهُ فَهُوَ بِمَعْنَى لَطَمَهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَفَقَأَ عَيْنَهُ بِالْهَمْزِ وَمَتْنُ الثَّوْرِ ظَهْرُهُ وَرَمْيَةُ حَجَرٍ أَيْ قَدْرَ مَا يَبْلُغُهُ وَقَوْلُهُ ثَمَّ مَهْ هِيَ هَاءُ السَّكْتِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ أَيْ ثُمَّ مَاذَا يَكُونُ أَحَيَاةٌ أَمْ مَوْتٌ وَالْكَثِيبُ الرَّمَلُ الْمُسْتَطِيلُ المحدودب ومعنى اجب ربك اي الموت ومعناه جئت لقبض روحك وَأَمَّا سُؤَالُهُ الْإِدْنَاءَ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَلِشَرَفِهَا وَفَضِيلَةِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَدْفُونِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا سَأَلَ الْإِدْنَاءَ وَلَمْ يَسْأَلْ نَفْسَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَبْرُهُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ فَيَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ وَفِي هَذَا اسْتِحْبَابُ الدَّفْنِ فِي الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ وَالْمَوَاطِنِ الْمُبَارَكَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ مَدَافِنِ الصَّالِحِينَ والله اعلم(15/128)
قَالَ الْمَازِرِيُّ وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَنْكَرَ تَصَوُّرَهُ قَالُوا كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى مُوسَى فَقْءُ عَيْنِ مَلَكِ الْمَوْتِ قَالَ وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قدأذن اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي هَذِهِ اللَّطْمَةِ وَيَكُونَ ذَلِكَ امْتِحَانًا لِلْمَلْطُومِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ في خلقه ماشاء وَيَمْتَحِنُهُمْ بِمَا أَرَادَ وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا عَلَى الْمَجَازِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مُوسَى نَاظَرَهُ وَحَاجَّهُ فَغَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ وَيُقَالُ فَقَأَ فُلَانٌ عَيْنَ فُلَانٍ إِذَا غالبه بالحجة ويقال عورت الشئ إِذَا أَدْخَلْتُ فِيهِ نَقْصًا قَالَ وَفِي هَذَا ضَعْفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ فَإِنْ قِيلَ أَرَادَ رَدَّ حُجَّتَهُ كَانَ بَعِيدًا وَالثَّالِثُ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ فَدَافَعَهُ عَنْهَا فَأَدَّتِ الْمُدَافَعَةُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ لَا أَنَّهُ قَصَدَهَا بِالْفَقْءِ وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ صَكَّهُ وَهَذَا جَوَابُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ قَالُوا وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ تَعَمَّدَ فَقْءَ عَيْنِهِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدِ اعْتَرَفَ مُوسَى حِينَ جَاءَهُ ثَانِيًا(15/129)
بِأَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَتَاهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِعَلَامَةٍ عَلِمَ بِهَا أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَاسْتَسْلَمَ بِخِلَافِ الْمَرَّةِ الْأُولَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَالْآنَ مِنْ قَرِيبٍ رب أمتني بالارض المقدسة رميه بحجرهكذا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ أَمِتْنِي بِالْمِيمِ وَالتَّاءِ وَالنُّونِ مِنَ الْمَوْتِ وَفِي بَعْضِهَا أَدْنِنِي بِالدَّالِ وَنُونَيْنِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ) فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَتَأْوِيلُهُ مَبْسُوطًا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْفَضَائِلِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2373] (يُنْفَخُ فِي الصور فيصعق من في السماوات ومن في الارض الا من شاء اللَّهُ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَةِ يَوْمِ الطُّورِ أَوْ بُعِثَ قَبْلِي) وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى الصَّعْقُ وَالصَّعْقَةُ الْهَلَاكُ وَالْمَوْتُ وَيُقَالُ مِنْهُ صَعِقَ الْإِنْسَانُ وَصَعِقَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّهَاِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الضَّمَّ وَصَعَقَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَالْعَيْنِ وَأَصْعَقَتْهُمْ وَبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ الصَّاقِعَةُ بِتَقْدِيمِ الْقَافِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا مِنْ أَشْكَلِ الْأَحَادِيثِ لِأَنَّ مُوسَى قَدْ مَاتَ فَكَيْفَ تُدْرِكُهُ الصَّعْقَةُ(15/130)
وَإِنَّمَا تَصْعَقُ الْأَحْيَاءَ قَوْلُهُ (مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَلَمْ يَأْتِ أَنَّ مُوسَى رَجَعَ إِلَى الْحَيَاةِ وَلَا أَنَّهُ حَيٌّ كَمَا جَاءَ فِي عِيسَى وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ أَنَّ هَذِهِ الصَّعْقَةَ صَعْقَةُ فَزَعٍ بعد البعث حين تنشق السماوات وَالْأَرْضُ فَتَنْتَظِمُ حِينَئِذٍ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاقَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ أَفَاقَ مِنَ الْغَشْيِ وَأَمَّا الْمَوْتُ فَيُقَالُ بُعِثَ مِنْهُ وَصَعْقَةُ الطُّورِ لَمْ تَكُنْ مَوْتًا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ إِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ شَخْصٍ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِنَ الزُّمْرَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُمُ الْأَرْضُ فَيَكُونُ مُوسَى مِنْ تلك الزمرة(15/131)
وَهِيَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ زُمْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) وَفِي
[2376] رِوَايَةٍ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ لِي يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَفِي
[2377] رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ قَالَ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَمْ يَقُلْ هُنَا إِنَّ يُونُسَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَالثَّانِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا زَجْرًا عَنْ أَنْ يَتَخَيَّلَ أَحَدٌ مِنَ الْجَاهِلِينَ شَيْئًا مِنْ حَطِّ مَرْتَبَةِ يُونُسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ مِنْ قِصَّتِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَمَا جَرَى لِيُونُسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُطَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَخَصَّ يُونُسَ بِالذِّكْرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ بِمَا ذكر وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ فَالضَّمِيرُ فِي أَنَا قِيلَ يَعُودُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ يَعُودُ إِلَى الْقَائِلِ أَيْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَضَائِلِ فَإِنَّهُ لَوْ بلغ من الفضاء(15/132)
ما بلغ لم يبلغ درجة النُّبُوَّةَ وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الرِّوَايَةُ الَّتِي قَبْلَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2375] (مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ) هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كتاب الايمان عند ذكر موسى وعيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/133)
(باب من فضائل يوسف صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ
[2378] (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ بْنُ نَبِيِّ اللَّهِ بْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تسالوني خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا) هَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ نَبِيُّ اللَّهِ بْنُ نَبِيِّ اللَّهِ بْنِ خَلِيلِ اللَّهِ وَفِي رِوَايَاتٍ لِلْبُخَارِيِّ كَذَلِكَ وَفِي بَعْضِهَا نَبِيُّ اللَّهِ بْنُ نَبِيِّ اللَّهِ بْنِ نَبِيِّ اللَّهِ بْنِ خَلِيلِ اللَّهِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْأَصْلُ وَأَمَّا الْأُولَى فَمُخْتَصَرَةٌ مِنْهَا فَإِنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسَبَهُ فِي الْأُولَى إِلَى جَدِّهِ وَيُقَالُ يُوسُفُ بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا مَعَ الْهَمْزِ وَتَرْكِهِ فَهِيَ سِتَّةُ أَوْجُهٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَأَصْلُ الْكَرَمِ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَقَدْ جَمَعَ يُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ مَعَ شَرَفِ النُّبُوَّةِ مَعَ شَرَفِ النَّسَبِ وَكَوْنُهُ نَبِيًّا بن ثَلَاثَةِ أَنْبِيَاءَ مُتَنَاسِلِينَ أَحَدُهُمْ خَلِيلُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ شَرَفُ عِلْمِ الرُّؤْيَا وَتَمَكُّنِهِ فِيهِ وَرِيَاسَةِ الدُّنْيَا وَمُلْكِهَا بِالسِّيرَةِ الْجَمِيلَةِ وَحِيَاطَتِهِ لِلرَّعِيَّةِ وَعُمُومِ نَفْعِهِ إِيَّاهُمْ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ وَإِنْقَاذِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ تِلْكَ السِّنِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْعُلَمَاءُ لَمَّا)(15/134)
سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ أَخْبَرَ بِأَكْمَلِ الْكَرَمِ وَأَعَمِّهِ فَقَالَ أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْلَ الْكَرَمِ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا كَانَ كَثِيرَ الْخَيْرِ وَكَثِيرَ الْفَائِدَةِ فِي الدُّنْيَا وَصَاحِبَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِي الْآخِرَةِ فَلَمَّا قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ يُوسُفُ الَّذِي جَمَعَ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا وَشَرَفَهُمَا فَلَمَّا قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُ فَهِمَ عَنْهُمْ أَنَّ مُرَادَهُمْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ قَالَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَصْحَابَ الْمُرُوءَاتِ وَمَكَارِمِ الأخلاق في الجاهلية اذا اسلموا وفقهوا فَهُمْ خِيَارُ النَّاسِ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ تَضَمَّنَ الْحَدِيثُ فِي الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْكَرَمَ كُلَّهُ عُمُومَهُ وَخُصُوصَهُ وَمُجْمَلَهُ وَمُبَانَهُ إِنَّمَا هُوَ الدِّينُ مِنَ التَّقْوَى وَالنُّبُوَّةِ وَالْإِعْرَاقِ فِيهَا وَالْإِسْلَامِ مَعَ الْفِقْهِ وَمَعْنَى مَعَادِنِ الْعَرَبِ أُصُولُهَا وَفَقُهُوا بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا أَيْ صَارُوا فُقَهَاءَ عَالَمِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(باب من فضل زكريا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
[2379] (كان زكريا نَجَّارًا) فِيهِ جَوَازُ الصَّنَائِعِ وَأَنَّ النِّجَارَةَ لَا تُسْقِطُ الْمُرُوءَةَ وَأَنَّهَا صَنْعَةٌ فَاضِلَةٌ وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِزَكَرِيَّاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ صَانِعًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كان يأكل من عمل يده وفي زكريا خَمْسُ لُغَاتٍ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ وَزَكَرِيُّ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ وَزَكَرٌ كَعَلَمٍ
(بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ الْخَضِرِ صَلَّى الله عليه وسلم)
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ مَوْجُودٌ بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْمَعْرِفَةِ وَحِكَايَاتُهُمْ فِي رُؤْيَتِهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ وَالْأَخْذِ عَنْهُ وَسُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ وَوُجُودِهِ فِي الْمَوَاضِعِ(15/135)
الشَّرِيفَةِ وَمَوَاطِنِ الْخَيْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ ان يستر وقال الشيخ ابو عمر بْنُ الصَّلَاحِ هُوَ حَيٌّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْعَامَّةُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ قَالَ وَإِنَّمَا شَذَّ بِإِنْكَارِهِ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ قَالَ الْحِبْرِيُّ الْمُفَسِّرُ وَأَبُو عَمْرٍو هُوَ نَبِيٌّ وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُرْسَلًا وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَكَثِيرُونَ هُوَ وَلِيٌّ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا نَبِيٌّ وَالثَّانِي وَلِيٌّ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا غَرِيبٌ بَاطِلٌ قَالَ الْمَازِرِيُّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْخَضِرِ هَلْ هُوَ نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ قَالَ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِنُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ وَمَا فَعَلْتُهُ عن امري فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَبِأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ مُوسَى وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ وَلِيٌّ أَعْلَمَ مِنْ نَبِيٍّ وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ أَنْ يَأْمُرَ الْخَضِرَ بِذَلِكَ وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ الْمُفَسِّرُ الْخَضِرُ نَبِيٌّ مُعَمَّرٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ مَحْجُوبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ يَعْنِي عَنْ أَبْصَارِ أَكْثَرِ النَّاسِ قَالَ وَقِيلَ إِنَّهُ لَا يَمُوتُ إِلَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ حِينَ يُرْفَعُ الْقُرْآنُ وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي أَنَّ الْخَضِرَ كَانَ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ أَمْ بِكَثِيرٍ كُنْيَةُ الْخَضِرِ أَبُو الْعَبَّاسِ وَاسْمُهُ بَلْيَا بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ لَامٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تحت بن مَلْكَانَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَقِيلَ كَلْيَانَ قال بن قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ اسْمُ الْخَضِرِ بَلْيَا بْنُ مَلْكَانَ بْنِ فَالِغَ بْنِ عَابِرَ بْنِ شالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ قَالُوا وَكَانَ أَبُوهُ مِنَ الْمُلُوكِ وَاخْتَلَفُوا فِي لَقَبِهِ الْخَضِرِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَصَارَتْ خَضْرَاءَ وَالْفَرْوَةُ وَجْهُ الْأَرْضِ وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ فَقَدْ صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ وَبَسَطْتُ أَحْوَالَهُ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2380] (إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ) هَكَذَا ضَبَطَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِ الْكَافِ قَالَ الْقَاضِي هَذَا الثَّانِي هُوَ ضَبْطُ أَكْثَرِ الشُّيُوخِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ قَالَ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي بِكَالٍ بَطْنٍ مِنْ حِمْيَرَ وَقِيلَ مِنْ هَمْدَانَ ونوف هذا هوابن فضالة كذا قاله بن دريد وغيره(15/136)
وهو بن امرأة كعب الاحبار وقيل بن اخيه والمشهور الاول قاله بن أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ قَالُوا وَكُنْيَتُهُ أَبُو يَزِيدَ وَقِيلَ أَبُوْ رُشْدٍ وَكَانَ عَالِمًا حَكِيمًا قَاضِيًا وَإِمَامًا لِأَهْلِ دِمَشْقَ قَوْلُهُ (كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْإِغْلَاظِ وَالزَّجْرِ عَنْ مِثْلِ قَوْلِهِ لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ حَقِيقَةً إِنَّمَا قَالَهُ مُبَالَغَةً فِي إِنْكَارِ قَوْلِهِ لِمُخَالَفَتِهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ غضب بن عَبَّاسٍ لِشِدَّةِ إِنْكَارِهِ وَحَالَ الْغَضَبِ تُطْلَقُ الْأَلْفَاظُ وَلَا تُرَادُ بِهَا حَقَائِقُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (أَنَا أَعْلَمُ) أَيْ فِي اعْتِقَادِهِ وَإِلَّا فَكَانَ الْخَضِرُ أَعْلَمُ مِنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ) أَيْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ فان مخلوقات الله تعالى لا يعلمها الاهو قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ الا هو وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِسُؤَالِ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لِقَاءِ الخضر صلى الله عليهما وسلم على استحباب الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعِلْمِ بِمَحَلٍّ عَظِيمٍ أَنْ يَأْخُذَهُ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَيَسْعَى إِلَيْهِ فِي تَحْصِيلِهِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ طَلَبِ الْعِلْمِ وَفِي تَزَوُّدِهِ الْحُوتَ وَغَيْرَهُ جَوَازُ التَّزَوُّدِ فِي السَّفَرِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْأَدَبُ مَعَ الْعَالِمِ وَحُرْمَةُ الْمَشَايِخِ وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ وَتَأْوِيلُ مَا لَا يُفْهَمُ ظَاهِرُهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَالْوَفَاءُ بِعُهُودِهِمْ وَالِاعْتِذَارُ عِنْدَ مُخَالَفَةِ عَهْدِهِمْ وَفِيهِ إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْخَضِرُ وَلِيٌّ وَفِيهِ جَوَازُ سُؤَالِ الطَّعَامِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَجَوَازُ إِجَارَةِ السَّفِينَةِ وَجَوَازُ رُكُوبِ السَّفِينَةِ وَالدَّابَّةِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ بِرِضَى صَاحِبِهِ لقَوْلِهِ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ وَفِيهِ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ لِإِنْكَارِ مُوسَى قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ مُوسَى لَقَدْ جئت شيئا إمرا وَشَيْئًا نُكْرًا أَيُّهُمَا أَشَدُّ فَقِيلَ إِمْرًا لِأَنَّهُ الْعَظِيمُ وَلِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ خَرْقِ السَّفِينَةِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ هَلَاكُ الَّذِي فِيهَا وَأَمْوَالِهِمْ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِ الْغُلَامِ فَإِنَّهَا نفس واحد وقيل نكرا اشد لانه قَالَهُ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ حَقِيقَةً وَأَمَّا الْقَتْلُ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ فَمَظْنُونٌ وَقَدْ يَسْلَمُونَ فِي العادةوقد سَلِمُوا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَلَيْسَ(15/137)
فِيهِ مَا هُوَ مُحَقَّقٌ إِلَّا مُجَرَّدَ الْخَرْقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى (إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ) قَالَ قَتَادَةُ هُوَ مَجْمَعُ بَحْرَيْ فَارِسٍ وَالرُّومِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ بَأَفْرِيقِيَّةَ قَوْلُهُ (احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ) الْحُوتُ السَّمَكَةُ وَكَانَتْ سَمَكَةً مَالِحَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَالْمِكْتَلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ المثناة فوق وهو القفة والزنبيل وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ وَتَفْقِدُهُ بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ يَذْهَبُ مِنْكَ يُقَالُ فَقَدَهُ وَافْتَقَدَهُ وَثَمَّ بِفَتْحِ الثَّاءِ أَيْ هُنَاكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ) وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ مَعْنَى فَتَاهُ صَاحِبُهُ وَنُونٌ مَصْرُوفٌ كَنُوحٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ فَتَاهُ عَبْدٌ لَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ قَالُوا وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونِ بْنِ إِفْرَاثِيمَ بْنِ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْمَاءِ حَتَّى كَانَ مِثْلَ الطَّاقِ) أَمَّا الْجِرْيَةُ فَبِكَسْرِ الْجِيمِ وَالطَّاقُ عَقْدُ الْبِنَاءِ وَجَمْعُهُ طِيقَانٌ وَأَطْوَاقٌ وَهُوَ الْأَزَجُ وَمَا عُقِدَ أَعْلَاهُ مِنَ الْبِنَاءِ وَبَقِيَ مَا تَحْتَهُ خَالِيًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا) ضَبَطُوهُ بِنَصْبِ لَيْلَتِهِمَا وَجَرِّهَا وَالنَّصَبُ التَّعَبُ قَالُوا لَحِقَهُ النَّصَبُ وَالْجُوعُ لِيَطْلُبَ الْغِذَاءَ فَيَتَذَكَّرَ بِهِ نِسْيَانَ الْحُوتِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْصَبْ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي(15/138)
أُمِرَ بِهِ قَوْلُهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عجبا قِيلَ إِنَّ لَفْظَةَ عَجَبًا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ يُوشَعَ وَقِيلَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى أَيْ قَالَ مُوسَى عَجِبْتُ مِنْ هَذَا عَجَبًا وَقِيلَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَاهُ اتَّخَذَ مُوسَى سَبِيلَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَوْلُهُ مَا كُنَّا نَبْغِي أَيْ نَطْلُبُ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي جِئْنَا نَطْلُبُهُ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي نَفْقِدُ فِيهِ الْحُوتَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَرَأَى رَجُلًا مُسَجًّى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ أَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ) الْمُسَجَّى الْمُغَطَّى وَأَنَّى أَيْ مِنْ أَيْنَ السَّلَامُ(15/139)
فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ فِيهَا السَّلَامُ قَالَ الْعُلَمَاءُ أَنَّى تَأْتِي بِمَعْنَى أَيْنَ وَمَتَى وَحَيْثُ وَكَيْفَ وَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ أَيْ بِغَيْرِ أَجْرٍ وَالنَّوْلُ وَالنَّوَالُ الْعَطَاءُ قَوْلُهُ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا قُرِئَ فِي السَّبْعِ بِضَمِّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ وَنَصْبِ أَهْلِهَا وبفتح المثناة تحت ورفع اهلها وجئت شيئا إمرا أَيْ عَظِيمًا كَثِيرَ الشِّدَّةِ وَلَا تُرْهِقْنِي أَيْ تغشني وتحملني قوله أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قرئ في السبع زاكية وزكية قَالُوا وَمَعْنَاهُ طَاهِرَةٌ مِنَ الذُّنُوبِ وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ نَفْسٍ أَيْ بِغَيْرِ قِصَاصٍ لَكَ عَلَيْهَا وَالنُّكْرُ الْمُنْكَرُ وَقُرِئَ فِي السَّبْعِ بِإِسْكَانِ الْكَافِ وَضَمِّهَا وَالْأَكْثَرُونَ بِالْإِسْكَانِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَقَوْلُهُ إِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ فَقَتَلَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا لَيْسَ بِبَالِغٍ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْغُلَامِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا يَعْمَلُ بِالْفَسَادِ وَاحْتَجَّتْ بِقَوْلِهِ اقتلت نفسا زكية بغير نفس فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَالصَّبِيُّ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَبِقَوْلِهِ كَانَ كَافِرًا في قراءة بن عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ التنبيه عَلَى أَنَّهُ قَتَلَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ شَرْعَهُمْ كَانَ إِيجَابَ الْقِصَاصِ عَلَى الصَّبِيِّ كَمَا أَنَّهُ فِي شَرْعِنَا يُؤَاخَذُ بِغَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَاذٌّ لَا حُجَّةَ فِيهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّاهُ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ لَوْ عَاشَ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ قَدْ بَلَغْتَ من لدني عذرا فيه ثلاث قراآت فِي السَّبْعِ الْأَكْثَرُونَ بِضَمِّ الدَّالِ(15/140)
وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَالثَّانِيَةُ بِالضَّمِّ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَالثَّالِثَةُ بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَإِشْمَامِهَا الضَّمَّ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَمَعْنَاهُ قَدْ بَلَغْتَ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي تُعْذَرُ بِسَبَبِهَا فِي فِرَاقِي قَوْلُهُ تَعَالَى فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا اتيا اهل قرية قال الثعلبي قال بن عباس هي انطاكية وقال بن سِيرِينَ الْأَيْلَةُ وَهِيَ أَبْعَدُ الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ ينقض هَذَا مِنَ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْجِدَارَ لَا يَكُونُ لَهُ حَقِيقَةُ إِرَادَةٍ وَمَعْنَاهُ قَرُبَ مِنَ الِانْقِضَاضِ وَهُوَ السُّقُوطُ وَاسْتَدَلَّ الْأُصُولِيُّونَ بِهَذَا عَلَى وُجُودِ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ وَلَهُ نَظَائِرُ مَعْرُوفَةٌ قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ كَانَ طُولُ هَذَا الْجِدَارِ إِلَى السَّمَاءِ مِائَةَ ذِرَاعٍ قَوْلُهُ لَوْ شِئْتَ لتخذت عليه اجرا قُرِئَ بِالسَّبْعِ لَتَخِذْتَ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَلَاتَّخَذْتَ بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْحِ الْخَاءِ أَيْ لَأَخَذْتَ عَلَيْهِ أُجْرَةً تَأْكُلُ بِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَجَاءَ عُصْفُورٌ حَتَّى وَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ ثُمَّ نَقَرَ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ لَفْظُ النَّقْصِ هُنَا لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ عِلْمِي وَعِلْمُكُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَنِسْبَةِ مَا نَقَرَهُ هَذَا الْعُصْفُورُ إِلَى مَاءِ الْبَحْرِ هَذَا عَلَى التَّقْرِيبِ إِلَى الْأَفْهَامِ وَإِلَّا فَنِسْبَةُ عِلْمِهِمَا أَقَلُّ وَأَحْقَرُ وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ أَيْ فِي جَنْبِ مَعْلُومِ اللَّهِ وَقَدْ يطلق العلم(15/141)
بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ لِإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِمْ رَغْمَ ضَرْبِ السُّلْطَانِ أَيْ مَضْرُوبِهِ قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ إِلَّا هُنَا بِمَعْنَى وَلَا أَيْ وَلَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَلَا مِثْلَ مَا أَخْذَ هَذَا الْعُصْفُورُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَدْخُلُهُ نَقْصٌ قَالَ الْقَاضِي وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ بَلْ هُوَ صَحِيحٌ كَمَا بَيَّنَّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (كذب نوف) هوجار عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْإِخْبَارُ عن الشئ خِلَافِ مَا هُوَ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حتى انتهينا إِلَى الصَّخْرَةِ فَعُمِّيَ عَلَيْهِ) وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَفِي بَعْضِهَا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَفِي بَعْضِهَا بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِثْلُ الْكَوَّةِ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَيُقَالُ بِضَمِّهَا وَهِيَ الطاق(15/142)
كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ (مُسْتَلْقِيًا عَلَى حُلَاوَةِ الْقَفَا) هِيَ وَسَطُ الْقَفَا وَمَعْنَاهُ لَمْ يَمِلْ إِلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ وَهِيَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا أَفْصَحُهَا الضَّمُّ وَمِمَّنْ حَكَى الْكَسْرَ صَاحِبُ نِهَايَةِ الْغَرِيبِ وَيُقَالُ أَيْضًا حَلَاوًا بِالْفَتْحِ وَحُلَاوَى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ وَحَلْوَاءُ بِالْمَدِّ قَوْلُهُ (مَجِيءُ مَا جَاءَ بِكَ) قَالَ الْقَاضِي ضَبَطْنَاهُ مجئ مَرْفُوعٌ غَيْرُ مَنَوَّنٍ عَنْ بَعْضِهِمْ وَعَنْ بَعْضِهِمْ مَنُوَّنًا قَالَ وَهُوَ أَظْهَرُ أَيُّ أَمْرٍ عَظِيمٍ جَاءَ بِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (انْتَحَى عَلَيْهَا) أَيِ اعْتَمَدَ عَلَى السَّفِينَةِ وَقَصَدَ(15/143)
خَرْقَهَا وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأُمُورِ وَأَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتْ مَفْسَدَتَانِ دُفِعَ أَعْظَمُهُمَا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا كَمَا خَرَقَ السَّفِينَةَ لِدَفْعِ غَصْبِهَا وَذَهَابِ جُمْلَتِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَانْطَلَقَ إِلَى أَحَدِهِمْ بَادِيَ الرَّأْيِ فَقَتَلَهُ) بَادِئُ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ فَمَنْ هَمَزَهُ مَعْنَاهُ أَوَّلُ الرَّأْيِ وَابْتِدَاؤُهُ أَيِ انْطَلَقَ إِلَيْهِ مُسَارِعًا إِلَى قَتْلِهِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ فَمَعْنَاهُ ظَهَرَ لَهُ رَأْيٌ فِي قَتْلِهِ مِنَ الْبَدْءِ وَهُوَ ظُهُورُ رَأْيٍ لَمْ يَكُنْ قَالَ الْقَاضِي وَيُمَدُّ الْبَدْءُ وَيُقْصَرُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى قَالَ وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى أَخِي كَذَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا) قَالَ أَصْحَابُنَا فِيهِ اسْتِحْبَابُ ابْتِدَاءِ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ فِي الدُّعَاءِ وَشِبْهِهِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَأَمَّا حُظُوظُ الدُّنْيَا فَالْأَدَبُ فِيهَا الْإِيثَارُ وَتَقْدِيمُ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الِابْتِدَاءِ فِي عُنْوَانِ الْكِتَابِ فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ كَثِيرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَجَاءَ بِهِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ فَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ فَيُقَالُ مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ وَمِنْهُ حَدِيثُ كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَبْدَأُ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ فَيَقُولُ إِلَى فُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ قَالُوا إِلَّا أَنْ يَكْتُبَ الْأَمِيرُ إِلَى مَنْ دُونَهُ أَوِ السَّيِّدُ إِلَى عَبْدِهِ أَوِ الْوَالِدُ إِلَى وَلَدِهِ وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَكِنْ أَخَذْتُهُ مِنْ صَاحِبِهِ ذَمَامَةً) هِيَ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ(15/144)
أَيِ اسْتِحْيَاءً لِتَكْرَارِ مُخَالَفَتِهِ وَقِيلَ مَلَامَةً وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَطُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا) قَالَ الْقَاضِي فِي هَذَا حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ لِصِحَّةِ أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ فِي الطَّبْعِ وَالرَّيْنِ وَالْأَكِنَّةِ وَالْأَغْشِيَةِ وَالْحُجُبِ وَالسَّدِّ وَأَشْبَاهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الشَّرْعِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى بِقُلُوبِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا ضِدَّ الْإِيمَانِ وَضِدَّ الْهُدَى وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا قُدْرَةَ لَهُ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَسَّرَهُ لَهُ وَخَلَقَهُ لَهُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ لِلْعَبْدِ فِعْلًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَقُدْرَةً عَلَى الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ نِسْبَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَصْحَابِهَا وَحُكْمُهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعْنَاهَا خَلَقَهُ عَلَامَةً لِذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يشاء من الخير والشر لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الذَّرِّ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي فَالَّذِينَ قَضَى لَهُمْ بِالنَّارِ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَخَتَمَ عَلَيْهَا وَغَشَّاهَا وَأَكَنَّهَا وَجَعَلَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهَا سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهَا سَدًّا وَحِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضًا لِتَتِمَّ سابقته فيهم وتمضي كلمته لاراد لِحُكْمِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ أَطْفَالُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّ فِيهِمْ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَالثَّانِي فِي النَّارِ وَالثَّالِثُ يَتَوَقَّفُ عن الكلام فيهم فلا يحكم لهم بشئ وَتَقَدَّمَتْ دَلَائِلُ الْجَمِيعِ وَلِلْقَائِلَيْنِ بِالْجَنَّةِ أَنْ يَقُولُوا فِي جَوَابِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنَاهُ عَلِمَ اللَّهُ لَوْ بَلَغَ لَكَانَ كَافِرًا قَوْلُهُ (وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ فَلَوْ أَدْرَكَ أَرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) أَيْ حَمَلَهُمَا عَلَيْهِمَا وَأَلْحَقَهُمَا بِهِمَا وَالْمُرَادُ بِالطُّغْيَانِ هُنَا الزِّيَادَةُ فِي الضَّلَالِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ مَذْهَبِ(15/145)
أَهْلِ الْحَقِّ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ وَبِمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قرطاس فلمسوه بايديهم لقال الذين كفروا الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رجلا وللبسنا عليهم وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى خَيْرًا منه زكاة واقرب رحما قِيلَ الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ الْإِسْلَامُ وَقِيلَ الصَّلَاحُ وَأَمَّا الرُّحْمُ فَقِيلَ مَعْنَاهُ الرَّحْمَةُ لِوَالِدَيْهِ وَبِرُّهُمَا وَقِيلَ الْمُرَادُ يَرْحَمَانِهِ قِيلَ أَبْدَلَهُمَا اللَّهُ بِنْتًا صَالِحَةً وَقِيلَ ابْنًا حَكَاهُ الْقَاضِي قَوْلُهُ (تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ) أَيْ تَنَازَعَا وَتَجَادَلَا وَالْحُرُّ بِالْحَاءِ وَالرَّاءِ وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْآدَابِ وَالنَّفَائِسِ الْمُهِمَّةِ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى مُعْظَمِهَا سِوَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْهَا وَمِمَّا لَمْ يَسْبِقْ أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَى الْعَالِمِ وَالْفَاضِلِ أَنْ يَخْدُمَهُ الْمَفْضُولُ وَيَقْضِيَ لَهُ حَاجَةً وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَالْآدَابِ بَلْ مِنْ مَرُوءَاتِ الْأَصْحَابِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ وَدَلِيلُهُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ حَمْلُ فَتَاهُ غَدَاءَهُمَا وَحَمْلُ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ موسى والخضر(15/146)
بِغَيْرِ أُجْرَةٍ لِمَعْرِفَتِهِمُ الْخَضِرَ بِالصَّلَاحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَمِنْهَا الْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُعِ فِي عِلْمِهِ وَغَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ وَأَنَّهُ إِذَا سُئِلَ عَنْ أَعْلَمِ النَّاسِ يَقُولُ اللَّهُ أَعْلَمُ وَمِنْهَا بَيَانُ أَصْلٍ عَظِيمٍ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ لِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ لَا تَظْهَرُ حِكْمَتُهُ لِلْعُقُولِ وَلَا يَفْهَمُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَفْهَمُونَهُ كُلُّهُمْ كَالْقَدَرِ مَوْضِعُ الدَّلَالَةِ قَتْلُ الْغُلَامِ وَخَرْقُ السَّفِينَةِ فَإِنَّ صُورَتَهُمَا صُورَةُ الْمُنْكَرِ وَكَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهُ حِكَمٌ بَيِّنَةٌ لَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ لِلْخَلْقِ فَإِذَا أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلِمُوهَا وَلِهَذَا قَالَ وَمَا فعلته عن امري يَعْنِي بَلْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى(15/147)
(
كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم)
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَلَى بَعْضٍ فقالت طائفة لا نفاضل بَلْ نُمْسِكُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ الْجُمْهُورُ بِالتَّفْضِيلِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَقَالَ الْخَطَّابِيَّةُ أَفْضَلُهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَالَتِ الرَّاوَنْدِيَّةُ أَفْضَلُهُمُ الْعَبَّاسُ وَقَالَتِ الشِّيعَةُ عَلِيٌّ وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ قَالَ جُمْهُورُهُمْ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِتَقْدِيمِ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ أَصْحَابُنَا مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ تَمَامُ الْعَشَرَةِ ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ ثُمَّ أُحُدٍ ثُمَّ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَمِمَّنْ لَهُ مَزِيَّةُ أَهْلُ الْعَقَبَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَذَلِكَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَهُمْ مَنْ صَلَّى إلى القبلتين في قول بن الْمُسَيِّبِ وَطَائِفَةٍ وَفِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَفِي قَوْلِ عَطَاءٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَهْلُ بَدْرٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ منهم بن عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِمَّنْ بَقِيَ بَعْدَهُ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ غير مرضي وَلَا مَقْبُولٍ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ التَّفْضِيلَ الْمَذْكُورَ قَطْعِيٌّ أَمْ لَا وَهَلْ هُوَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَمْ فِي الظَّاهِرِ خَاصَّةً وَمِمَّنْ قَالَ بِالْقَطْعِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ وَهُمْ فِي الْفَضْلِ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الْإِمَامَةِ وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ اجْتِهَادِيٌّ ظَنِّيٌّ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وذكر بن الْبَاقِلَّانِيِّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ التَّفْضِيلَ هَلْ هو في الظاهر ام فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي عَائِشَةَ وَخَدِيجَةَ أَيَّتُهُمَا أَفْضَلُ وَفِي عَائِشَةَ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَأَمَّا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَخِلَافَتُهُ صَحِيحَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَقُتِلَ مَظْلُومًا وَقَتَلَتْهُ فَسَقَةٌ لِأَنَّ مُوجِبَاتِ الْقَتْلِ مَضْبُوطَةٌ وَلَمْ يَجْرِ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَقْتَضِيهِ وَلَمْ يُشَارِكْ فِي قَتْلِهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ هَمَجٌ وَرُعَاعٌ مِنْ غَوْغَاءِ الْقَبَائِلِ وسفلة(15/148)
الْأَطْرَافِ وَالْأَرْذَالِ تَحَزَّبُوا وَقَصَدُوهُ مِنْ مِصْرَ فَعَجَزَتِ الصَّحَابَةُ الْحَاضِرُونَ عَنْ دَفْعِهِمْ فَحَصَرُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَّا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَخِلَافَتُهُ صَحِيحَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَكَانَ هُوَ الْخَلِيفَةَ فِي وَقْتِهِ لَا خِلَافَةَ لِغَيْرِهِ وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِنَ الْعُدُولِ الْفُضَلَاءِ وَالصَّحَابَةِ النُّجَبَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَّا الْحُرُوبُ الَّتِي جَرَتْ فَكَانَتْ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شُبْهَةٌ اعْتَقَدَتْ تَصْوِيبَ أَنْفُسِهَا بِسَبَبِهَا وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمُتَأَوِّلُونَ فِي حُرُوبِهِمْ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يُخْرِجْ شئ مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَنِ الْعَدَالَةِ لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ مِنْ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْمُجْتَهِدُونَ بَعْدَهُمْ فِي مَسَائِلَ مِنَ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَقْصُ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ تِلْكَ الْحُرُوبِ أَنَّ الْقَضَايَا كَانَتْ مُشْتَبِهَةً فَلِشِدَّةِ اشْتِبَاهِهَا اخْتَلَفَ اجتهادهم وصاروا ثلاثة اقسام قسم ظهر لهم بِالِاجْتِهَادِ أَنَّ الْحَقَّ فِي هَذَا الطَّرَفِ وَأَنَّ مُخَالِفَهُ بَاغٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ نُصْرَتُهُ وَقِتَالُ الْبَاغِي عَلَيْهِ فِيمَا اعْتَقَدُوهُ فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ التَّأَخُّرُ عَنْ مُسَاعَدَةِ امام العدل في قتال البغاة في اعتقاده وَقِسْمٌ عَكْسُ هَؤُلَاءِ ظَهَرَ لَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مُسَاعَدَتُهُ وَقِتَالُ الْبَاغِي عَلَيْهِ وَقِسْمٌ ثَالِثٌ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْقَضِيَّةُ وَتَحَيَّرُوا فِيهَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَاعْتَزَلُوا الْفَرِيقَيْنِ وَكَانَ هَذَا الِاعْتِزَالُ هُوَ الْوَاجِبُ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ عَلَى قِتَالِ مُسْلِمٍ حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ وَلَوْ ظَهَرَ لِهَؤُلَاءِ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ لَمَا جَازَ لَهُمُ التَّأَخُّرُ عَنْ نُصْرَتِهِ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ عَلَيْهِ فَكُلُّهُمْ مَعْذُورُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ وَمَنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَاتِهِمْ وَرِوَايَاتِهِمْ وَكَمَالِ عَدَالَتِهِمْ رَضِيَ الله عنهم اجمعين
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2381] (يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنٍ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) مَعْنَاهُ ثَالِثُهُمَا بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ)(15/149)
وَالْحِفْظِ وَالتَّسْدِيدِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ محسنون وَفِيهِ بَيَانُ عَظِيمِ تَوَكُّلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فِي هَذَا الْمَقَامِ وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ مَنَاقِبِهِ وَالْفَضِيلَةُ مِنْ أَوْجُهٍ مِنْهَا هَذَا اللَّفْظُ وَمِنْهَا بَذْلُهُ نَفْسَهُ وَمُفَارَقَتُهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَرِيَاسَتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَمُلَازَمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَادَاةِ النَّاسِ فِيهِ وَمِنْهَا جَعْلُهُ نَفْسَهُ وِقَايَةً عَنْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2382] (عَبْدٌ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَبَكَى وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَبَكَى مَعْنَاهُ بَكَى كَثِيرًا ثُمَّ بَكَى وَالْمُرَادُ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا نَعِيمُهَا وَأَعْرَاضُهَا وَحُدُودُهَا وَشَبَّهَهَا بِزَهْرَةِ الرَّوْضِ وَقَوْلُهُ فَدَيْنَاكَ دَلِيلٌ لِجَوَازِ التَّفْدِيَةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْعَبْدُ الْمُخَيَّرُ فَبَكَى حُزْنًا عَلَى فِرَاقِهِ وَانْقِطَاعِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخَيْرِ دَائِمًا وَإِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَبْدًا وَأَبْهَمَهُ لِيَنْظُرَ فَهْمَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَنَبَاهَةَ أَصْحَابِ الْحِذْقِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَكْثَرُهُمْ جُودًا وَسَمَاحَةً لَنَا بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي هُوَ الِاعْتِدَادُ بِالصَّنِيعَةِ لِأَنَّهُ أَذًى مُبْطِلٌ لِلثَّوَابِ وَلِأَنَّ الْمِنَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبُولِ ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ) وَفِي
[2383] رِوَايَةٍ لَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا قَالَ الْقَاضِي قِيلَ أَصْلُ الْخُلَّةِ الافتقار(15/150)
وَالِانْقِطَاعُ فَخَلِيلُ اللَّهِ الْمُنْقَطِعُ إِلَيْهِ وَقِيلَ لِقَصْرِهِ حَاجَتَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ الْخُلَّةُ الِاخْتِصَاصُ وَقِيلَ الِاصْطِفَاءُ وَسُمِّيَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلًا لِأَنَّهُ وَالَى فِي اللَّهِ تَعَالَى وَعَادَى فِيهِ وَقِيلَ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ تَخَلَّقَ بِخِلَالٍ حَسَنَةٍ وَأَخْلَاقٍ كَرِيمَةٍ وَخُلَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ نَصْرُهُ وَجَعْلُهُ إِمَامًا لمن بعده وقال بن فُورَكَ الْخُلَّةُ صَفَاءُ الْمَوَدَّةِ بِتَخَلُّلِ الْأَسْرَارِ وَقِيلَ أَصْلُهَا الْمَحَبَّةُ وَمَعْنَاهُ الْإِسْعَافُ وَالْإِلْطَافُ وَقِيلَ الْخَلِيلُ مَنْ لَا يَتَّسِعُ قَلْبُهُ لِغَيْرِ خَلِيلِهِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ حُبَّ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُبْقِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعًا لِغَيْرِهِ قَالَ الْقَاضِي وَجَاءَ فِي أَحَادِيثَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ هَلِ الْمَحَبَّةُ أَرْفَعُ مِنَ الْخُلَّةِ أَمُ الْخُلَّةُ أَرْفَعُ أَمْ هُمَا سَوَاءٌ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُمَا بِمَعْنًى فَلَا يَكُونُ الْحَبِيبُ إِلَّا خَلِيلًا وَلَا يَكُونُ الْخَلِيلُ إِلَّا حَبِيبًا وَقِيلَ الْحَبِيبُ أَرْفَعُ لِأَنَّهَا صِفَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ الْخَلِيلُ أَرْفَعُ وَقَدْ ثَبَتَتْ خُلَّةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ خَلِيلٌ غَيْرُهُ وَأَثْبَتَ مَحَبَّتَهُ لِخَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ وَأَبِيهَا وَأُسَامَةَ وَأَبِيهِ وَفَاطِمَةَ وَابْنَيْهَا وَغَيْرِهِمْ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ تَمْكِينُهُ مِنْ طَاعَتِهِ وَعِصْمَتُهُ وَتَوْفِيقُهُ وَتَيْسِيرُ أَلْطَافِهِ وَهِدَايَتُهُ وَإِفَاضَةُ رَحْمَتِهِ عَلَيْهِ هَذِهِ مَبَادِيهَا وَأَمَّا غَايَتُهَا فَكَشْفُ الْحُجُبِ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى يَرَاهُ بِبَصِيرَتِهِ فَيَكُونَ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ إِلَى آخِرِهِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سَمِعْتُ خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُخَالِفُ هَذَا لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ يَحْسُنُ فِي حَقِّهِ الِانْقِطَاعُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ) الْخَوْخَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَهِيَ الْبَابُ الصَّغِيرُ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ أَوِ الدَّارَيْنِ وَنَحْوِهِ وَفِيهِ فضيلة(15/151)
وَخِصِّيصَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ أَنَّ الْمَسَاجِدَ تُصَانُ عَنْ تَطَرُّقِ النَّاسِ اليها(15/152)
3 - فِي خَوْخَاتٍ وَنَحْوِهَا إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ مُهِمَّةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ألا اني أبرأالى كل خل من خله) همابكسر الْخَاءِ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَسْرُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْخِلُّ بِمَعْنَى الْخَلِيلِ وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ خِلِّهِ فَبِكَسْرِ الْخَاءِ عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيعِهِمْ قَالَ وَالصَّوَابُ الْأَوْجَهُ فَتْحُهَا قَالَ وَالْخُلَّةُ وَالْخِلُّ وَالْخِلَالُ وَالْمُخَالَلَةُ وَالْخَلَالَةُ وَالْخَلْوَةُ الْإِخَاءُ وَالصَّدَاقَةُ أَيْ بَرِئْتُ إليه من صداقته المقتضية المخاللة هذاكلام الْقَاضِي وَالْكَسْرُ صَحِيحٌ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَيْ أَبْرَأُ إِلَيْهِ مِنْ مُخَالَّتِي إِيَّاهُ وَذَكَرَ بن الْأَثِيرِ أَنَّهُ رُوِيَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِهَا وَأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْخُلَّةِ بِالضَّمِّ الَّتِي هِيَ الصَّدَاقَةُ قَوْلُهُ
[2384] (بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ) هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ مَاءٌ لِبَنِي حذام بِنَاحِيَةِ الشَّامِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ بِضَمِّ السين الاولى وكذا ذكره بن الْأَثِيرِ فِي نِهَايَةِ الْغَرِيبِ وَأَظُنُّهُ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ كَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ فِي الصِّحَاحِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ وَالْمَشْهُورُ وَالْمَعْرُوفُ فَتْحُهَا وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِي جُمَادَى الْأُخْرَى سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَتْ مُؤْتَةُ قَبْلَهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ أَيْضًا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ كَانَتْ ذَاتُ السَّلَاسِلِ بَعْدَ مُؤْتَةَ فِيمَا ذكره اهل المغازي الا بن إِسْحَاقَ فَقَالَ قَبْلَهَا قَوْلُهُ (أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ عَائِشَةُ قُلْتُ مِنَ الرِّجَالِ قَالَ أَبُوهَا قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ عُمَرُ فَعَدَّ رِجَالًا) هَذَا تَصْرِيحٌ بِعَظِيمِ فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِيهِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ(15/153)
قَوْلُهُ
[2385] (سُئِلَتْ عَائِشَةُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْلِفًا لَوِ اسْتَخْلَفَهُ قَالَتْ أَبُو بَكْرٍ فَقِيلَ لَهَا ثُمَّ مَنْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ عُمَرُ ثُمَّ قِيلَ لَهَا مَنْ بَعْدَ عُمَرَ قَالَتْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ثُمَّ انْتَهَتْ إِلَى هَذَا) يَعْنِي وَقَفَتْ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ هَذَا دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ لِلْخِلَافَةِ مَعَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ لَيْسَتْ بِنَصٍّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِلَافَتِهِ صَرِيحًا بَلْ أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى عَقْدِ الخلافة له وتقديمه لفضيلته ولوكان هُنَاكَ نَصٌّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ تَقَعِ الْمُنَازَعَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ أَوَّلًا وَلَذَكَرَ حَافِظُ النَّصِّ مَا مَعَهُ وَلَرَجَعُوا إِلَيْهِ لَكِنْ تَنَازَعُوا أَوَّلًا وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ(15/154)
وَأَمَّا مَا تَدَّعِيهِ الشِّيعَةُ مِنَ النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ وَالْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ مِنْ زَمَنِ عَلِيٍّ وَأَوَّلُ مَنْ كَذَّبَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ الْحَدِيثَ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نَصٌّ لَذَكَرَهُ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ وَلَا أَنَّ أَحَدًا ذَكَرَهُ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[2386] وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا لِلْمَرْأَةِ حِينَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ قَالَ فَإِنْ لَمْ تجديني فأتي أَبَا بَكْرٍ فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى خِلَافَتِهِ وَأَمْرٌ بِهَا بَلْ هُوَ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ الَّذِي أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ
[2387] (ادْعِي لِي أَبَاكِ أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولَ قَائِلٌ انا ولا يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ) هَكَذَا هو في بعض النسخ المعتمدة انا ولا بتخفيف اما وَلَا أَيْ يَقُولُ أَنَا أَحَقُّ وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ بَلْ يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ وَفِي بَعْضِهَا أَنَا أَوْلَى أَيْ أَنَا أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَجْوَدُهَا وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَا وَلِي بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ أَنَا أَحَقُّ وَالْخِلَافَةُ لِي وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَا وَلَّاهُ أَيْ أَنَا الَّذِي وَلَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْضُهُمْ أَنَّى ولاه بتشديد النُّونِ أَيْ كَيْفَ وَلَّاهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لِفَضْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِخْبَارٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَأْبَوْنَ عَقْدَ الْخِلَافَةِ لِغَيْرِهِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَقَعُ نِزَاعٌ وَوَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ وَأَمَّا طَلَبُهُ لِأَخِيهَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَكْتُبُ الْكِتَابَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوَجِّهَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهُ وَأَعْهَدَ وَلِبَعْضِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ وَآتِيهِ بِأَلِفٍ مَمْدُودَةٍ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقُ وَمُثَنَّاةٍ تَحْتُ مِنَ الْإِتْيَانِ قَالَ الْقَاضِي وَصَوَّبَهُ بَعْضُهُمْ وَلَيْسَ كَمَا صَوَّبَ بَلِ الصَّوَابُ ابْنُهُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالنُّونِ وَهُوَ أَخُو عَائِشَةَ وَتُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ(15/155)
مُسْلِمٍ أَخَاكِ وَلِأَنَّ إِتْيَانَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَعَذَّرًا أَوْ مُتَعَسَّرًا وَقَدْ عَجَزَ عَنْ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ وَاسْتَخْلَفَ الصِّدِّيقَ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1028] (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا) قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِلَا مُحَاسَبَةٍ وَلَا مُجَازَاةٍ عَلَى قَبِيحِ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْإِيمَانِ يَقْتَضِي دُخُولَ الْجَنَّةِ بِفَضْلِ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلَامِ الْبَقَرَةِ وَكَلَامِ الذِّئْبِ وَتَعَجُّبِ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ
[2388] (فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا) ثُمَّ قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ثِقَةً بِهِمَا لِعِلْمِهِ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمَا وَقُوَّةِ يَقِينِهِمَا وَكَمَالِ مَعْرِفَتِهِمَا لِعَظِيمِ سُلْطَانِ اللَّهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ فَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِيهِ جَوَازُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَخَرْقِ الْعَوَائِدِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ قَوْلُهُ (قَالَ الذِّئْبُ مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي) رُوِيَ السَّبُعِ بِضَمِّ الْبَاءِ وَإِسْكَانِهَا الْأَكْثَرُونَ عَلَى الضم قال(15/156)
الْقَاضِي الرِّوَايَةُ بِالضَّمِّ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ هِيَ سَاكِنَةٌ وَجَعْلُهُ اسْمًا لِلْمَوْضِعِ الَّذِي عِنْدَهُ الْمَحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ مَنْ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْمًا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ سَبَّعْتُ الْأَسَدَ إِذَا دَعَوْتَهُ فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا مَنْ لَهَا يَوْمَ الْفَزَعِ وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الْفَزَعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ لَهَا يَوْمَ الْإِهْمَالِ مِنْ أَسَبَعْتَ الرَّجُلَ أَهْمَلْتَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَوْمُ السَّبْعِ بِالْإِسْكَانِ عِيدٌ كَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِلَعِبِهِمْ فَيَأْكُلُ الذِّئْبُ غَنَمَهُمْ وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ يَوْمَ السَّبُعِ أَيْ يَوْمَ يَطْرُدُكَ عَنْهَا السَّبُعُ وَبَقِيتُ أَنَا لها لاراعي لَهَا غَيْرِي لِفِرَارِكَ مِنْهُ فَأَفْعَلُ فِيهَا مَا اشاء هذا كلام القاضي وقال بن الْأَعْرَابِيِّ هُوَ بِالْإِسْكَانِ أَيْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَوْ يَوْمُ الذُّعْرِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ آخَرُونَ هَذَا لِقَوْلِهِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ لَا يَكُونُ الذِّئْبُ رَاعِيهَا وَلَا لَهُ بِهَا تَعَلُّقٌ وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ آخَرُونَ وَسَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا(15/157)
عِنْدَ الْفِتَنِ حِينَ تَتْرُكُهَا النَّاسُ هَمَلًا لَا رَاعِيَ لَهَا نُهْبَةً لِلسِّبَاعِ فَجَعَلَ السَّبُعُ لَهَا رَاعِيًا أَيْ مُنْفَرِدًا بِهَا وَتَكُونُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ
[2389] (فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ) أَيْ أَحَاطُوا بِهِ وَالسَّرِيرُ هُنَا النَّعْشُ قَوْلُهُ (فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا بِرَجُلٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ لَمْ يَفْجَأْنِي إِلَّا ذَلِكَ وَقَوْلُهُ بِرَجُلٍ هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ بِرَجُلٍ بِالْبَاءِ أَيْ لَمْ يَفْجَأْنِي الْأَمْرُ أو الْحَالُ إِلَّا بِرَجُلٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَشَهَادَةُ عَلِيٍّ لَهُمَا وَحُسْنُ ثَنَائِهِ عَلَيْهِمَا وَصِدْقُ مَا كَانَ يَظُنُّهُ بِعُمَرَ قَبْلَ وَفَاتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم)(15/158)
9 - فِي رُؤْيَا الْمَنَامِ
[2390] (وَمَرَّ عُمَرُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ قَالُوا مَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الدِّينُ) وَفِي الرَّوَايَةِ الْأُخْرَى
[2391] رَأَيْتُ قَدَحًا أُتِيتُ بِهِ فِيهِ لَبَنٌ فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِي ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْعِلْمُ قَالَ أَهْلُ الْعِبَارَةِ الْقَمِيصُ فِي النَّوْمِ معناه الدِّينِ وَجَرُّهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ آثَارِهِ الْجَمِيلَةِ وَسُنَنِهِ الْحَسَنَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِيُقْتَدَى بِهِ وَأَمَّا تَفْسِيرُ اللَّبَنِ بِالْعِلْمِ فَلِاشْتِرَاكِهِمَا فِي كَثْرَةِ النَّفْعِ وَفِي أَنَّهُمَا سَبَبُ الصَّلَاحِ فَاللَّبَنُ غِذَاءُ الْأَطْفَالِ وَسَبَبُ صَلَاحِهِمْ وَقُوتٌ لَلْأَبَدَانِ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْعِلْمُ سَبَبٌ لِصَلَاحِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2392] (رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثم اخذها بن أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفٌ ثُمَّ استحالت غربا فاخذها بن الْخَطَّابِ فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ) أَمَّا الْقَلِيبُ فَهِيَ الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ وَالدَّلْوُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالذَّنُوبُ بِفَتْحِ الذَّالِ الدَّلْوُ الْمَمْلُوءَةُ وَالْغَرْبُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وهي الدلو الْعَظِيمَةُ وَالنَّزْعُ الِاسْتِقَاءُ(15/159)
وَالضُّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ الضَّمُّ أَفْصَحُ وَمَعْنَى اسْتَحَالَتْ صَارَتْ وَتَحَوَّلَتْ(15/160)
مِنَ الصِّغَرِ إِلَى الْكِبَرِ وَأَمَّا الْعَبْقَرِيُّ فَهُوَ السيد وقيل الذي ليس فوقه شئ وَمَعْنَى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ أَيْ أَرْوَوْا إِبِلَهُمْ ثُمَّ آوَوْهَا إِلَى عَطَنِهَا وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُسَاقُ إِلَيْهِ بَعْدَ السَّقْيِ لِتَسْتَرِيحَ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْمَنَامُ مِثَالٌ وَاضِحٌ لِمَا جَرَى لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي خِلَافَتِهِمَا وَحُسْنِ سِيرَتِهِمَا وَظُهُورِ آثَارِهِمَا وَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِمَا وَكُلُّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ بَرَكَتِهِ وَآثَارِ صُحْبَتِهِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَاحِبَ الْأَمْرِ فَقَامَ بِهِ أَكْمَلَ قِيَامٍ وَقَرَّرَ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَمَهَّدَ أُمُورَهُ وَأَوْضَحَ أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى اليوم اكملت لكم دينكم ثُمَّ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَتَيْنِ وَأَشْهُرًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَهَذَا شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَالْمُرَادُ ذَنُوبَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَحَصَلَ فِي خِلَافَتِهِ قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَقَطْعُ دَابِرِهِمْ وَاتِّسَاعُ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تُوُفِّيَ فَخَلَفَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاتَّسَعَ الْإِسْلَامُ فِي زمنه وتقرر لهم من احكامه مالم يَقَعْ مِثْلُهُ فَعَبَّرَ بِالْقَلِيبِ عَنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ الَّذِي بِهِ حَيَاتُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ وَشَبَّهَ أَمِيرَهُمْ بِالْمُسْتَقِي لَهُمْ وَسَقْيُهُ هُوَ قِيَامُهُ بِمَصَالِحِهِمْ وَتَدْبِيرُ أُمُورِهِمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي نَزْعِهِ ضُعْفٌ فَلَيْسَ فِيهِ حَطٌّ مِنْ فَضِيلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا إِثْبَاتُ فَضِيلَةٍ لِعُمَرَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ مُدَّةِ وِلَايَتِهِمَا وَكَثْرَةِ انْتِفَاعِ النَّاسِ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ لِطُولِهَا وَلِاتِّسَاعِ الْإِسْلَامِ وَبِلَادِهِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْغَنَائِمِ وَالْفُتُوحَاتِ وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ فَلَيْسَ فِيهِ تَنْقِيصٌ لَهُ وَلَا إِشَارَةٌ إِلَى ذَنْبٍ وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَدْعَمُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ وَنِعْمَتِ الدِّعَامَةُ وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهَا كَلِمَةٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَهَا افْعَلْ كَذَا وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَفِي كُلِّ هَذَا إِعْلَامٌ بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَصِحَّةِ وِلَايَتِهِمَا وَبَيَانُ صِفَتِهَا وَانْتِفَاعُ الْمُسْلِمِينَ بِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَجَاءَنِي أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ الدَّلْوَ مِنْ يَدِي لِيُرَوِّحَنِي) قَالَ الْعُلَمَاءُ(15/161)
فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى نِيَابَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ وَخِلَافَتِهِ بَعْدَهُ وَرَاحَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَفَاتِهِ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَمَشَاقِّهَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ الحديث والدنيا سجن المؤمن ولا كرب على ابيك بعداليوم قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2393] (فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرْيَهُ) أَمَّا يَفْرِي فَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَأَمَّا فَرْيَهُ فَرُوِيَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا فَرْيَهُ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَالثَّانِيَةُ كَسْرُ الرَّاءِ وَتَشْدِيدُ الْيَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ وَأَنْكَرَ الْخَلِيلُ التَّشْدِيدَ وَقَالَ هو غلط اتفقوا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ أَرَ سَيِّدًا يَعْمَلُ عَمَلَهُ وَيَقْطَعُ قَطْعَهُ وَأَصْلُ الْفَرْيِ بِالْإِسْكَانِ الْقَطْعُ يقال فريت الشئ أفريه فريا قطعته للاصلاح فهو مفري وفري وَأْفَرَيْتُهُ إِذَا شَقَقْتُهُ عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ تَرَكْتُهُ يَفْرِي الْفَرْيَ إِذَا عَمَلَ الْعَمَلَ فاجاده وَمِنْهُ حَدِيثُ حَسَّانَ لَأَفْرِيَنَّهُمْ فَرْيَ الْأَدِيمِ أَيْ أَقْطَعُهُمْ بِالْهِجَاءِ كَمَا يُقْطَعُ الْأَدِيمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ) سَبَقَ تَفْسِيرُهُ قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ خَاصَّةً وَقِيلَ يَعُودُ إِلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ جَمِيعًا لِأَنَّ بِنَظَرِهِمَا وَتَدْبِيرِهِمَا وَقِيَامِهِمَا بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَمَعَ أَهْلَ الرِّدَّةِ وَجَمَعَ شَمْلَ الْمُسْلِمِينَ وَأَلَّفَهُمْ وَابْتَدَأَ الْفُتُوحَ وَمَهَّدَ الْأُمُورَ وَتَمَّتْ ثَمَرَاتُ ذَلِكَ وَتَكَامَلَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَأَنِّي أَنْزِعُ بِدَلْوِ بَكْرَةٍ) هِيَ بِإِسْكَانِ(15/162)
الْكَافِ وَفَتْحِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حتى روى الناس) هوبكسر الواو والمخففة(15/163)
أَيْ أَخَذُوا كِفَايَتَهُمْ قَوْلُهُ
[2396] (عَنْ صَالِحٍ عَنِ بن شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرحمن بن سيدان محمد بن سعد أَبِي وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ سَعْدًا قَالَ استاذن عمر) هذاالحديث اجْتَمَعَ فِيهِ أَرْبَعَةٌ تَابِعِيُّونَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وهم صالح وبن شِهَابٍ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ وَمُحَمَّدٌ وَقَدْ رَأَى عَبْدُ الحميد بن عَبَّاسٍ
[2396]
[2397] قَوْلُهُ (وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى يَسْتَكْثِرْنَهُ يَطْلُبْنَ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِهِ وَجَوَابِهِ بِحَوَائِجِهِنَّ وَفَتَاوِيهِنَّ وَقَوْلُهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ عُلُوَّ أَصْوَاتِهِنَّ إِنَّمَا كَانَ بِاجْتِمَاعِهَا لَا أَنَّ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدَةٍ(15/164)
بِانْفِرَادِهَا أَعْلَى مِنْ صَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قوله (قلن انت أَغْلَظُ وَأَفَظُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الفظ والغليظ بِمَعْنًى وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْخُلُقِ وَخُشُونَةِ الْجَانِبِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَلَيْسَتْ لَفْظَةُ أَفْعَلَ هُنَا لِلْمُفَاضَلَةِ بَلْ هِيَ بِمَعْنَى فَظٌّ غَلِيظٌ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى الْمُفَاضَلَةِ وَأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي مِنْهَا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَا كَانَ مِنْ إِغْلَاظِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عليهم وَكَانَ يَغْضَبُ وَيُغْلِظُ عِنْدَ انْتَهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ لين الجانب والحلم والرفق مالم يُفَوِّتْ مَقْصُودًا شَرْعِيًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْفِضْ جناحك للمؤمنين وَقَالَ تَعَالَى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفضوا من حولك وقال تعالى بالمؤمنين رؤف رَحِيمٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ) الْفَجُّ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَكَانِ الْمُنْخَرِقِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ الشَّيْطَانَ مَتَى رَأَى عُمَرَ سَالِكًا فَجًّا هَرَبَ هَيْبَةً مِنْ عُمَرَ وَفَارَقَ ذَلِكَ الْفَجَّ وَذَهَبَ فِي فَجٍّ آخَرَ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنْ بَأْسِ عُمَرَ أَنْ يَفْعَلَ فِيهِ شَيْئًا قَالَ الْقَاضِي وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ ضَرَبَ مَثَلًا لِبُعْدِ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ مِنْهُ وَأَنَّ عُمَرَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ سالك(15/165)
طَرِيقَ السَّدَادِ خِلَافَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ والصحيح الاول قوله
[2398] (عن بن وَهْبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ عُمَرَ بن الخطاب منهم) قال بن وَهْبٍ تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ مُلْهَمُونَ هَذَا الْإِسْنَادُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ وَقَالَ الْمَشْهُورُ فِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاخْتَلَفَ تَفْسِيرُ الْعُلَمَاءِ لِلْمُرَادِ بِمُحَدَّثُونَ فَقَالَ بن وَهْبٍ مُلْهَمُونَ وَقِيلَ مُصِيبُونَ وَإِذَا ظَنُّوا فَكَأَنَّهُمْ حدثوا بشئ فَظَنُّوا وَقِيلَ تُكَلِّمُهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ مُتَكَلِّمُونَ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ يَجْرِي الصَّوَابُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَفِيهِ إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ قَوْلُهُ
[2399] (قَالَ عُمَرُ وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي الْحِجَابِ وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ) هَذَا مِنْ أَجَلِّ مَنَاقِبِ عُمَرَ وَفَضَائِلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلْحَدِيثِ قَبْلَهُ وَلِهَذَا عَقَّبَهُ مُسْلِمٌ بِهِ وَجَاءَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ وَفَسَّرَهَا بِهَذِهِ الثَّلَاثِ وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ اجْتَمَعَ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الْغَيْرَةِ فَقُلْتُ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِذَلِكَ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا مُوَافَقَتُهُ فِي مَنْعِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ ونزول الاية(15/166)
بِذَلِكَ وَجَاءَتْ مُوَافَقَتُهُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَهَذِهِ سِتٌّ وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَنْفِي زِيَادَةَ الْمُوَافَقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2400] (لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الله بن ابي بن سلول) هكذا صوابه ان يكتب بن سَلُولَ بِالْأَلْفِ وَيُعْرَبُ بِإِعْرَابِ عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ وَصْفٌ ثَانٍ لَهُ لِأَنَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلُولَ أَيْضًا فَأُبِيٌّ أَبُوهُ وَسَلُولُ أُمُّهُ فَنُسِبَ إِلَى أَبَوَيْهِ جَمِيعًا وَوُصِفَ بِهِمَا وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا وَنَظَائِرُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَادِ حِينَ قَتَلَ مَنْ أَظْهَرَ الشَّهَادَةَ وَأَوْضَحْنَا هُنَاكَ وُجُوهَهَا قَوْلُهُ (إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ قَمِيصَهُ لِيُكَفِّنَ فِيهِ أَبَاهُ الْمُنَافِقَ) قِيلَ إِنَّمَا أَعْطَاهُ قَمِيصَهُ وَكَفَّنَهُ فِيهِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ ابْنِهِ فَإِنَّهُ كَانَ صَحَابِيًّا صَالِحًا وَقَدْ سَأَلَ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ وَقِيلَ مُكَافَأَةً لِعَبْدِ اللَّهِ الْمُنَافِقِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ كَانَ أَلْبَسَ الْعَبَّاسَ حِينَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ قَمِيصًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ عَظِيمِ مَكَارِمِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَلِمَ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ مِنَ الْإِيذَاءِ وَقَابَلَهُ بِالْحُسْنَى فَأَلْبَسَهُ قَمِيصًا كَفَنًا وَصَلَّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَفِيهِ تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى قَبْرِهِ لِلدُّعَاءِ(15/167)
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
قَوْلُهَا
[2401] (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجَعَا فِي بَيْتِهِ كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ إِلَى آخِرِهِ) هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُولُ لَيْسَتِ الْفَخِذُ عَوْرَةً وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي الْمَكْشُوفِ هَلْ هُوَ السَّاقَانِ أَمُ الْفَخِذَانِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ كَشْفِ الْفَخِذِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ تَدَلُّلِ الْعَالِمِ وَالْفَاضِلِ بِحَضْرَةِ مَنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ فُضَلَاءِ أَصْحَابِهِ وَاسْتِحْبَابُ تَرْكِ ذَلِكَ إِذَا حَضَرَ غَرِيبٌ أَوْ صَاحِبٌ يَسْتَحْي مِنْهُ قَوْلُهُ (دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا تَهْتَشَّ بِالتَّاءِ بَعْدَ الْهَاءِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الطَّارِئَةِ بِحَذْفِهَا وَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَعَلَى هَذَا فَالْهَاءُ مَفْتُوحَةٌ يُقَالُ هَشَّ يَهَشُّ كَشَمَّ يَشَمُّ وَأَمَّا الْهَشُّ الَّذِي هُوَ خَبْطُ الْوَرَقِ مِنَ الشَّجَرِ فَيُقَالُ مِنْهُ هَشَّ يَهُشُّ بِضَمِّهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَهُشُّ بِهَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْهَشَاشَةُ وَالْبَشَاشَةُ بِمَعْنَى طَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ اللِّقَاءِ وَمَعْنَى لَمْ تُبَالِهِ(15/168)
لَمْ تَكْتَرِثْ بِهِ وَتَحْتَفِلْ لِدُخُولِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَلَا أَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ) هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَةِ أَسْتَحِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ اسْتَحْيَى يَسْتَحْيِي بِيَاءَيْنِ وَاسْتَحَى يَسْتَحِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ لُغَتَانِ الْأُولَى أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُثْمَانَ وَجَلَالَتِهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَأَنَّ الْحَيَاءَ صِفَةٌ جَمِيلَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ قَوْلُهُ
[2402] (لَابِسٌ مِرْطَ عَائِشَةَ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ وَقَالَ الْخَلِيلُ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ كَتَّانٍ او غيره وقال بن الاعرابي وابو زيد هو الازار قولها (مالي لَمْ أَرَكَ فَزِعْتَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ) أَيِ اهْتَمَمْتَ لَهُمَا وَاحْتَفَلْتَ بِدُخُولِهِمَا هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا فَزِعْتَ بِالزَّايِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ فَرَغْتَ بِالرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ
[2403] (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ) هُوَ بَالِغَيْنِ المعجمة والثاء(15/169)
الْمُثَلَّثَةِ قَوْلُهُ (فِي حَائِطٍ) هُوَ الْبُسْتَانُ قَوْلُهُ (يَرْكُزُ بِعُودٍ) هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ أَيْ يَضْرِبُ بِأَسْفَلِهِ لِيُثَبِّتَهُ فِي الْأَرْضِ قَوْلُهُ (اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ فَقَالَ افْتَحْ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) وَفِي رِوَايَةٍ أَمَرَنِي أَنْ أَحْفَظَ الْبَابَ وَفِي رِوَايَةٍ لَأَكُوَنَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ بَوَّابًا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لِيُبَشِّرَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ بِالْجَنَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِحِفْظِ الْبَابِ أَوَّلًا إِلَى أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَيَتَوَضَّأَ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَسْتَتِرُ فِيهَا ثُمَّ حَفِظَ الْبَابَ أَبُو مُوسَى مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفَضِيلَةٌ لِأَبِي مُوسَى وَفِيهِ جَوَازُ الثَّنَاءِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ إِذَا أُمِنَتْ عَلَيْهِ فِتْنَةُ الْإِعْجَابِ وَنَحْوِهِ وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ(15/170)
ظَاهِرَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِخْبَارِهِ بقصة عثمان والبلوى وَأَنَّ الثَّلَاثَةَ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْهُدَى قَوْلُهُ (وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ) فِيهِ اسْتِحْبَابُهُ عِنْدَ مِثْلِ هَذَا الحال قوله 0فخرج وجه ها هنا) الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ وَجَّهَ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِإِسْكَانِهَا وَحَكَى الْقَاضِي الْوَجْهَيْنِ وَنَقَلَ الْأَوَّلَ عَنِ الْجُمْهُورِ وَرَجَّحَ الثَّانِي لِوُجُودِ خَرَجَ أَيْ قَصَدَ هَذِهِ الْجِهَةَ قَوْلُهُ 0 جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا) أَمَّا أَرِيسٌ فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَصْرُوفٌ وَأَمَّا الْقُفُّ فَبِضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ حَافَّةُ الْبِئْرِ وَأَصْلُهُ الْغَلِيظُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ قَوْلُهُ (عَلَى رِسْلِكَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ(15/171)
الْكَسْرُ أَشْهَرُ وَمَعْنَاهُ تَمَهَّلْ وَتَأَنَّ قَوْلُهُ (فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا دَلَّيَا أَرْجُلَهُمَا فِي الْبِئْرِ كَمَا دَلَّاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا هَذَا فَعَلَاهُ لِلْمُوَافَقَةِ وَلِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي بَقَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَالَتِهِ وَرَاحَتِهِ بِخِلَافِ ما اذا لم يفعلاه فربما استحى مِنْهُمَا فَرَفَعَهُمَا وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِلُّغَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ دَلَّيْتُ الدَّلْوَ فِي الْبِئْرِ وَدَلَّيْتُ رِجْلِي وَغَيْرَهَا فِيهِ كَمَا يُقَالُ أَدْلَيْتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَدْلَى دَلْوَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ الْأَوَّلَ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (فَجَلَسَ وِجَاهَتَهُمْ(15/172)
بِكَسْرِ الْوَاوِ وَضَمِّهَا أَيْ قِبَالَتَهُمْ قَوْلُهُ (قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ) يَعْنِي أَنَّ الثَّلَاثَةَ دُفِنُوا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَعُثْمَانَ فِي مَكَانٍ بَائِنٍ عَنْهُمْ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
قَوْلُهُ
[2404] (عَنْ يُوسُفَ بْنِ الْمَاجِشُونِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يُوسُفَ الْمَاجِشُونِ بحذف لفظة بن(15/173)
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَاسْمُ أَبِي سَلَمَةَ دِينَارٌ وَالْمَاجِشُونُ لَقَبُ يَعْقُوبَ وَهُوَ لَقَبٌ جَرَى عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَخِيهِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ لَفْظٌ فَارِسِيٌّ وَمَعْنَاهُ الْأَحْمَرُ الْأَبْيَضُ الْمُوَرَّدُ سُمِّيَ يَعْقُوبُ بِذَلِكَ لِحُمْرَةِ وَجْهِهِ وَبَيَاضِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي) قَالَ الْقَاضِي هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ الرَّوَافِضُ وَالْإِمَامِيَّةُ وَسَائِرُ فِرَقِ الشِّيعَةِ فِي أَنَّ الْخِلَافَةَ كَانَتْ حَقًّا لِعَلِيٍّ وَأَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِهَا قَالَ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَكَفَّرَتِ الرَّوَافِضُ سَائِرَ الصَّحَابَةِ فِي تَقْدِيمِهِمْ غَيْرَهُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ فَكَفَّرَ عَلِيًّا لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِي طَلَبِ حَقِّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَؤُلَاءِ أَسْخَفُ مَذْهَبًا وَأَفْسَدُ عَقْلًا مِنْ أَنْ يُرَدَّ قَوْلُهُمْ أَوْ يُنَاظَرَ وَقَالَ الْقَاضِي وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ مَنْ قَالَ هَذَا لِأَنَّ مَنْ كَفَّرَ الْأُمَّةَ كُلَّهَا وَالصَّدْرَ الْأَوَّلَ فَقَدْ أَبْطَلَ نَقْلَ الشَّرِيعَةِ وَهَدَمَ الْإِسْلَامَ وَأَمَّا مَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ الْغُلَاةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْلُكُونَ هَذَا الْمَسْلَكَ فَأَمَّا الْإِمَامِيَّةُ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ فَيَقُولُونَ هُمْ مُخْطِئُونَ فِي تَقْدِيمِ غَيْرِهِ لَا كُفَّارٌ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَقُولُ بِالتَّخْطِئَةِ لِجَوَازِ تَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ عندهم وهذا الحديث لاحجة فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ بَلْ فِيهِ إِثْبَاتُ فَضِيلَةٍ لِعَلِيٍّ وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مِثْلَهُ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ لِاسْتِخْلَافِهِ بَعْدَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِعَلِيٍّ حِينَ اسْتَخْلَفَهُ فِي الْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ هَارُونَ الْمُشَبَّهَ بِهِ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً بَعْدَ مُوسَى بَلْ تُوُفِّيَ فِي حَيَاةِ مُوسَى وَقَبْلَ وَفَاةِ مُوسَى بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ عَلَى مَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْأَخْبَارِ وَالْقَصَصِ قَالُوا وَإِنَّمَا اسْتَخْلَفَهُ حِينَ ذَهَبَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ لِلْمُنَاجَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَزَلَ حَكَمًا مِنْ حُكَّامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا ينزل نبينا وَقَدْ سَبَقَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ قَوْلُهُ(15/174)
(فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ فَقَالَ نَعَمْ وَإِلَّا فَاسْتَكَّتَا) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ صُمَّتَا قَوْلُهُ (إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا تُرَابٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ الَّتِي فِي ظَاهِرِهَا دَخَلٌ عَلَى صَحَابِيٍّ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا قَالُوا وَلَا يَقَعُ فِي رِوَايَاتِ الثِّقَاتِ إِلَّا مَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ فَقَوْلُ مُعَاوِيَةَ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ أَمَرَ سَعْدًا بِسَبِّهِ وَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنِ السَّبَبِ الْمَانِعِ لَهُ مِنَ السَّبِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ هَلِ امْتَنَعْتَ تَوَرُّعًا أَوْ خَوْفًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ تَوَرُّعًا وَإِجْلَالًا لَهُ عَنِ السَّبِ فَأَنْتَ مُصِيبٌ مُحْسِنٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَهُ جَوَابٌ آخَرُ ولَعَلَّ سَعْدًا قَدْ كَانَ فِي طَائِفَةٍ يَسُبُّونَ فَلَمْ يَسُبَّ مَعَهُمْ وَعَجَزَ عَنِ الْإِنْكَارِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فَسَأَلَهُ هَذَا السُّؤَالَ قَالُوا وَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا آخَرَ أَنَّ مَعْنَاهُ(15/175)
مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخَطِّئَهُ فِي رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَتُظْهِرَ لِلنَّاسِ حُسْنَ رَأْيِنَا وَاجْتِهَادِنَا وَأَنَّهُ أَخْطَأَ قَوْلُهُ
[2405] (فَتَسَاوَرْتُ لَهَا) هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْوَاوِ ثُمَّ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ تَطَاوَلْتُ لَهَا كَمَا صَرَّحَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَيْ حَرَصْتُ عَلَيْهَا أَيْ أَظْهَرْتُ وَجْهِي وَتَصَدَّيْتُ لِذَلِكَ لِيَتَذَكَّرَنِي قَوْلُهُ (فَمَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمئِذٍ) إِنَّمَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لَهَا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِمَارَةُ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/176)
وَمَحَبَّتِهِمَا لَهُ وَالْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2405] (امْشِ وَلَا تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَسَارَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَيْئًا ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ فَصَرَخَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ) هَذَا الِالْتِفَاتُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَيْ لَا تَلْتَفِتْ بِعَيْنَيْكَ لَا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا بَلِ امْضِ عَلَى جِهَةِ قَصْدِكَ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ الْحَثُّ عَلَى الْإِقْدَامِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى ذَلِكَ وَحَمَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ بِعَيْنِهِ حِينَ احْتَاجَ وفي هذا حمل أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ لَا تَنْصَرِفُ بَعْدَ لِقَاءِ عَدُوِّكَ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلِيَّةٌ وَفِعْلِيَّةٌ فَالْقَوْلِيَّةُ إِعْلَامُهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ فَكَانَ كَذَلِكَ وَالْفِعْلِيَّةُ بُصَاقُهُ فِي عَيْنِهِ وَكَانَ أَرْمَدَ فَبَرَأَ مِنْ سَاعَتِهِ وَفِيهِ فَضَائِلُ ظَاهِرَةٌ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَيَانُ شَجَاعَتِهِ وَحُسْنِ مُرَاعَاتِهِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُبِّهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَحُبِّهِمَا إِيَّاهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ الدُّعَاءُ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِتَالِ وَقَدْ قَالَ بِإِيجَابِهِ طَائِفَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ آخَرِينَ أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَجَبَ إِنْذَارُهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً(15/177)
فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ وَلَيْسَ فِي هَذَا ذِكْرُ الْجِزْيَةِ وَقَبُولُهَا إِذَا بَذَلُوهَا وَلَعَلَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ الْقِتَالِ أَمْ في غيره وحسابه على الله تعالى معناه أَنَّا نَكُفُّ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَأَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ صَادِقًا مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَنَجَا مِنَ النَّارِ كَمَا نَفَعَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِلَّا فَلَا يَنْفَعُهُ بَلْ يَكُونُ مُنَافِقًا مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَفِيهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ أَوْ فِي مَعْنَاهُ كَفَتْهُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2406] (فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَالرِّوَايَاتِ يَدُوكُونَ بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْوَاوِ أَيْ يَخُوضُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ فِي ذَلِكَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَذْكُرُونَ بِإِسْكَانِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالرَّاءِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ) هِيَ الْإِبِلُ الْحُمْرُ وَهِيَ أَنْفَسُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ يضربون بها المثل في نفاسة الشئ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ تَشْبِيهَ أُمُورِ الْآخِرَةِ بِأَعْرَاضِ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ لِلتَّقْرِيبِ مِنَ الْأَفْهَامِ وَإِلَّا فَذَرَّةٌ مِنَ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ خَيْرٌ مِنَ الْأَرْضِ بِأَسْرِهَا وَأَمْثَالِهَا مَعَهَا لَوْ تُصُوِّرَتْ وَفِي هَذَا(15/178)
الْحَدِيثِ بَيَانُ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَالدُّعَاءُ إِلَى الْهُدَى وَسَنُّ السُّنَنِ الْحَسَنَةِ قَوْلُهُ
[2408] (مَاءٌ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) هُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْضَةٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْحَسَنَةِ عِنْدَهَا غَدِيرٌ مَشْهُورٌ(15/179)
يُضَافُ إِلَى الْغَيْضَةِ فَيُقَالُ غَدِيرُ خُمٍّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ فَذَكَرَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ سُمِّيَا ثَقَلَيْنِ لِعِظَمِهِمَا وَكَبِيرِ شَأْنِهِمَا وَقِيلَ لِثِقَلِ الْعَمَلِ بِهِمَا قَوْلُهُ (وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ) هُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الزَّكَاةِ وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَنَا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَقَالَ مَالِكٌ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ وَقِيلَ بَنُو قُصَيٍّ وَقِيلَ قُرَيْشٌ كُلُّهَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقُلْنَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ نِسَاؤُهُ قَالَ لَا هَذَا دَلِيلٌ لِإِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ هُمْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا فَقَدْ كَانَ فِي نِسَائِهِ قُرَشِيَّاتٌ وَهُنَّ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَسَوْدَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ قَالَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقُلْنَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ نِسَاؤُهُ قَالَ لا فهاتان الروايتان ظاهر هما التَّنَاقُضُ وَالْمَعْرُوفُ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ نِسَاؤُهُ لَسْنَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَتُتَأَوَّلُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ انهن من اهل بيته الذين يساكنونه وَيَعُولُهُمْ وَأَمَرَ بِاحْتِرَامِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ وَسَمَّاهُمْ ثَقَلًا وَوَعَظَ فِي حُقُوقِهِمْ وَذَكَرَ فَنِسَاؤُهُ دَاخِلَاتٌ فِي هَذَا كُلِّهِ وَلَا يَدْخُلْنَ فِيمَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ(15/180)
فَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَتَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كتاب الله هُوَ حَبْلُ اللَّهِ) قِيلَ الْمُرَادُ بِحَبْلِ اللَّهِ عَهْدُهُ وَقِيلَ السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إِلَى رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ وَقِيلَ هُوَ نُورُهُ الَّذِي يَهْدِي بِهِ قَوْلُهُ (المرأة تكون(15/181)
مَعَ الرَّجُلِ الْعَصْرَ مِنَ الدَّهْرِ) أَيِ الْقِطْعَةَ مِنْهُ قَوْلُهَا
[2409] (فَخَرَجَ وَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ مِنَ الْقَيْلُولَةِ وَهِيَ النَّوْمُ نِصْفَ النَّهَارِ وَفِيهِ جَوَازُ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَاسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الْغَضْبَانِ وَمُمَازَحَتِهِ وَالْمَشْيِ إِلَيْهِ لِاسْتِرْضَائِهِ
(بَاب فِي فَضْلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
قَوْلُهَا
[2410] (أَرِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ أَيْ سَهِرَ وَلَمْ يَأْتِهِ نَوْمٌ وَالْأَرَقُ السَّهَرُ وَيُقَالُ أَرَّقَنِي الْأَمْرُ بِالتَّشْدِيدِ تَأْرِيقًا أَيْ أَسْهَرَنِي وَرَجُلٌ أَرِقٌ عَلَى وَزْنِ فَرِحٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِي) فيه جواز(15/182)
الِاحْتِرَاسِ مِنَ الْعَدُوِّ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ وَتَرْكِ الْإِهْمَالِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إِلَى الِاحْتِيَاطِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى والله يعصمك من الناس لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الِاحْتِرَاسَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالِانْصِرَافِ عَنْ حِرَاسَتِهِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ كَانَ فِي أَوَّلِ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَزْمَانٍ قَوْلُهَا (حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ) هُوَ بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ صَوْتُ النَّائِمِ الْمُرْتَفِعِ قَوْلُهَا (سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ) أَيْ صَوْتَ سِلَاحٍ صَدَمَ بَعْضُهُ بَعْضًا قَوْلُهُ
[2411] (سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مَا جَمَعَ رَسُولُ(15/183)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ غَيْرِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ
[2412] جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي فِيهِ جَوَازُ التَّفْدِيَةِ بِالْأَبَوَيْنِ وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ فِي التَّفْدِيَةِ بِالْمُسْلِمِ مِنْ أَبَوَيْهِ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقِيقَةُ فِدَاءٍ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ وَأَلْطَافٌ وَإِعْلَامٌ بِمَحَبَّتِهِ لَهُ وَمَنْزِلَتِهِ وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالتَّفْدِيَةِ مُطْلَقًا وَأَمَّا قَوْلُهُ مَا جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِغَيْرِ سَعْدٍ وَذَكَرَ بَعْدُ أَنَّهُ جَمَعَهُمَا لِلزُّبَيْرِ وَقَدْ جَاءَ جَمْعُهُمَا لِغَيْرِهِمَا أَيْضًا فَيُحْمَلُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى نَفْيِ عِلْمِ نَفْسِهِ أَيْ لَا أَعْلَمُهُ جَمَعَهُمَا إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ ابي وقاص(15/184)
وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَفِيهِ فَضِيلَةُ الرَّمْيِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لِمَنْ فَعَلَ خَيْرًا قَوْلُهُ (كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ أَثْخَنَ فِيهِمْ وَعَمِلَ فِيهِمْ نَحْوَ عَمَلِ النَّارِ قَوْلُهُ (فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ فَأَصَبْتُ جَنْبَهُ فَسَقَطَ وَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى نَوَاجِذِهِ) فَقَوْلُهُ نَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ أَيْ رَمَيْتُهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ زَجٌّ وَقَوْلُهُ فَأَصَبْتُ جَنْبَهُ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا حَبَّتُهُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ أَيْ حَبَّةُ قَلْبِهِ وَقَوْلُهُ فَضَحِكَ أَيْ فَرَحًا بِقَتْلِهِ عَدُوَّهُ لَا لِانْكِشَافِهِ وَقَوْلُهُ نَوَاجِذُهُ(15/185)
بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَنْيَابُهُ وَقِيلَ أَضْرَاسُهُ وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وبن بشار قالا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وكيع ح وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَإِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بن بشر عن مسعر ح وحدثنا بن أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرٍ كُلُّهُمْ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ وَغَيْرُهُمَا) هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالُوا وَأَسْقَطَ مِنْ رِوَايَتِهِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ بَيْنَ وَكِيعٍ وَمِسْعَرٍ لِأَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ إِنَّمَا رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْمَغَازِي وَغَيْرِهِ مَوْضِعٌ عَنْ وَكِيعٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مِسْعَرٍ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ وَكِيعًا لَمْ يُدْرِكْ مسعرا وهذا خطأ ظاهر فقدذكر بن(15/186)
أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ وَكِيعًا فِيمَنْ رَوَى عَنْ مِسْعَرٍ وَلِأَنَّ وَكِيعًا أَدْرَكَ نَحْوَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ حَيَاةِ مِسْعَرٍ مَعَ أَنَّهُمَا كُوفِيَّانِ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا تُوُفِّيَ مِسْعَرٌ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ وُلِدَ وَكِيعٌ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَكِيعٌ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ مِسْعَرٍ وكون بن أَبِي شَيْبَةَ رَوَاهُ عَنْ وَكِيعٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مِسْعَرٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَنْعُ سَمَاعِهِ مِنْ مِسْعَرٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي نَظَائِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[1748] (أَرَدْتُ أَنْ أُلْقِيَهُ فِي الْقَبَضِ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الْغَنَائِمُ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ أَكْثَرِ هَذَا الْحَدِيثِ مُفَرَّقًا وَالْحَشُّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّهَا الْبُسْتَانُ قَوْلُهُ (شَجَرُوا فَاهَا بِعَصًا ثم أوجروها) اي فتحوه ثم صبوا فيها الطعام وانما شَجَرُوهَا بِالْعَصَا لِئَلَّا تُطْبِقَهُ فَيَمْتَنِعَ وُصُولُ الطَّعَامِ جَوْفَهَا وَهَكَذَا صَوَابُهُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْجِيمِ وَالرَّاءِ وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ قَالَ الْقَاضِي وَيُرْوَى شَحَوْا فَاهَا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَحَذْفِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْ أَوْسَعُوهُ وَفَتَحُوهُ وَالشَّحْوُ التَّوْسِعَةُ وَدَابَّةٌ شَحْوٌ وَاسِعَةُ الْخَطْوِ وَيُقَالُ أَوْجَرَهُ وَوَجَرَهُ لُغَتَانِ الْأُولَى أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ قَوْلُهُ (ضَرَبَ أَنْفَهُ فَفَزَرَهُ) هُوَ بِزَايٍ ثُمَّ(15/187)
رَاءٍ يَعْنِي شَقَّهُ وَكَانَ أَنْفُهُ مَفْزُورًا أَيْ مَشْقُوقًا قَوْلُهُ
[2414] (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ إِلَى قَوْلِهِ غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٍ عَنْ حَدِيثِهِمَا) مَعْنَاهُ وَهُمَا حدثاني بذلك والله اعلم
(باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما)
قَوْلُهُ
[2415] (نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرَ) أَيْ دَعَاهُمْ لِلْجِهَادِ وَحَرَّضَهُمْ عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ الزُّبَيْرُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ) قَالَ الْقَاضِي اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ فَضَبَطَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنَ الثَّانِي كَمُصْرِخِيَّ وَضَبَطَهُ أَكْثَرُهُمْ بِكَسْرِهَا(15/188)
وَالْحَوَارِيُّ النَّاصِرُ وَقِيلَ الْخَاصَّةُ قَوْلُهُ
[2416] (عَنْ عَبْدِ الله بن الزبير قال كنت انا وعمرو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَعَ النِّسْوَةِ فِي أُطُمِ حَسَّانَ فَكَانَ يُطَأْطِئُ لِي مَرَّةً فَأَنْظُرُ إِلَى آخِرِهِ) الْأُطُمُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالطَّاءِ الْحِصْنُ وَجَمْعُهُ آطَامٌ كَعُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ قَالَ الْقَاضِي وَيُقَالُ فِي الْجَمْعِ أَيْضًا إِطَامٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ والقصر كآكام واكام وَقَوْلُهُ كَانَ يُطَأْطِئُ هُوَ بِهَمْزِ آخِرِهِ وَمَعْنَاهُ يَخْفِضُ لِي ظَهْرَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لحصول ضبط الصبي وتمييزه وهو بن اربع سنين فان بن الزُّبَيْرِ وُلِدَ عَامَ الْهِجْرَةِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ الْخَنْدَقُ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ فَيَكُونُ لَهُ فِي وَقْتِ ضَبْطِهِ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ دُونَ أَرْبَعِ سِنِينَ وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ سِنِينَ وَالصَّوَابُ صحته متى حصل التمييز وان كان بن أَرْبَعٍ أَوْ دُونَهَا وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ(15/189)
لِابْنِ الزُّبَيْرِ لِجَوْدَةِ ضَبْطِهِ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ مُفَصَّلَةً فِي هَذَا السِّنِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2417] (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى حِرَاءَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اهدأ فما عليك إلا نبي اوصديق أَوْ شَهِيدٌ) هَكَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ بِتَقْدِيمِ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ وَفِي بَعْضِهَا بِتَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ كَمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِاتِّفَاقِ النُّسَخِ وَقَوْلُهُ (اهْدَأْ) بِهَمْزِ آخِرِهِ اي اسكن وحراء بِكَسْرِ الْحَاءِ وَبِالْمَدِّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مُذَكَّرٌ مَمْدُودٌ مَصْرُوفٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا إِخْبَارُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءُ وَمَاتُوا كُلُّهُمْ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ شُهَدَاءَ فَإِنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قُتِلُوا ظُلْمًا شُهَدَاءَ فَقَتْلُ الثَّلَاثَةِ مَشْهُورٌ وَقُتِلَ الزُّبَيْرُ بِوَادِي السِّبَاعِ بِقُرْبِ الْبَصْرَةِ مُنْصَرِفًا تَارِكًا لِلْقِتَالِ وَكَذَلِكَ طَلْحَةُ اعْتَزَلَ النَّاسَ تَارِكًا لِلْقِتَالِ فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ وَالْمُرَادُ شُهَدَاءُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَعَظِيمِ ثَوَابُ الشُّهَدَاءِ وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَفِيهِ بَيَانُ فَضِيلَةِ هَؤُلَاءِ وَفِيهِ إِثْبَاتُ التَّمْيِيزِ فِي الْحِجَازِ وَجَوَازِ التَّزْكِيَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ إِذَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ بِإِعْجَابٍ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا ذِكْرُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الشُّهَدَاءِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ الْقَاضِي إِنَّمَا سُمِّيَ شَهِيدًا لِأَنَّهُ مشهود له بالجنة(15/190)
(باب من فضائل أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2419] (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ) قَالَ الْقَاضِي هُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى النِّدَاءِ قَالَ وَالْإِعْرَابُ الْأَفْصَحُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ حَكَى سِيبَوَيْهِ اللَّهُمَّ اغْفَرْ لَنَا أَيَّتُهَا الْعِصَابَةَ وَأَمَّا الْأَمِينُ فَهُوَ الثِّقَةُ الْمَرَضِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْأَمَانَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِصِفَاتٍ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ(15/191)
وَكَانُوا بِهَا أَخَصَّ قَوْلُهُ
[2420] (فَاسْتَشْرَفَ لَهَا النَّاسُ) أَيْ تَطَلَّعُوا إِلَى الْوِلَايَةِ وَرَغِبُوا فِيهَا حِرْصًا عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَمِينُ الْمَوْعُودُ فِي الْحَدِيثِ لَا حِرْصًا عَلَى الْوِلَايَةِ مِنْ حَيْثُ هي
(باب من فَضَائِلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ
[2421] (إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبَّهُ) فِيهِ حَثٌّ عَلَى حُبِّهِ وَبَيَانٌ لِفَضِيلَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ (فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّهَارِ حَتَّى جَاءَ سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ ثُمَّ انْصَرَفَ حَتَّى أَتَى خِبَاءَ(15/192)
فَاطِمَةَ فَقَالَ أَثِمَ لُكَعُ أَثِمَ لُكَعُ يَعْنِي حَسَنًا فَظَنَنَّا أَنَّهُ إِنَّمَا تَحْبِسُهُ أُمُّهُ لِأَنْ تُغَسِّلَهُ وَتُلْبِسَهُ سِخَابًا) أَمَّا قَوْلُهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّهَارِ فَالْمُرَادُ قِطْعَةٌ مِنْهُ وَقَيْنُقَاعُ بِضَمِّ النُّونِ وفتحها وكسرها سبق مرات ولكع المراد به هنا الصغير وخباء فَاطِمَةَ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ أَيْ بَيْتُهَا والسخاب بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُهُ سُخُبٌ وَهُوَ قِلَادَةٌ مِنَ الْقَرَنْفُلِ وَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَخْلَاطِ الطِّيبِ يُعْمَلُ عَلَى هَيْئَةِ السُّبْحَةِ وَيُجْعَلُ قِلَادَةً لِلصِّبْيَانِ وَالْجَوَارِي وَقِيلَ هُوَ خَيْطٌ فِيهِ خَرَزٌ سُمِّيَ سِخَابًا لِصَوْتِ خَرَزِهِ عِنْدَ حَرَكَتِهِ مِنَ السَّخَبِ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْخَاءِ يُقَالُ الصَّخَبُ بِالصَّادِ وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ إِلْبَاسِ الصِّبْيَانِ الْقَلَائِدَ وَالسَّخَبَ وَنَحْوَهَا من الزينة واستحباب تنظيفهم لا سيما عِنْدَ لِقَائِهِمْ أَهْلَ الْفَضْلِ وَاسْتِحْبَابُ النَّظَافَةِ مُطْلَقًا قَوْلُهُ (جَاءَ يَسْعَى حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصَّبِيِّ وَمُدَاعَبَتِهِ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا وَاسْتِحْبَابُ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُعَانَقَةِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ فَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَقَالَ هِيَ بِدْعَةٌ وَاسْتَحَبَّهَا سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ وَتَنَاظَرَ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَاحْتَجَّ سُفْيَانُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ بِجَعْفَرٍ حِينَ قَدِمَ فَقَالَ مَالِكٌ هُوَ خَاصٌّ بِهِ فَقَالَ سُفْيَانُ مَا يَخُصُّهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَسَكَتَ مَالِكٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَسُكُوتُ مَالِكٍ دَلِيلٌ لِتَسْلِيمِهِ قَوْلَ سُفْيَانَ وَمُوَافَقَتِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ للتخصيص قوله(15/193)
[2422] (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ الْعَاتِقُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ وَفِيهِ مُلَاطَفَةُ الصِّبْيَانِ وَرَحْمَتُهُمْ وَمُمَاسَّتُهُمْ وَأَنَّ رُطُوبَاتِ وَجْهِهِ وَنَحْوَهَا طَاهِرَةٌ حَتَّى تَتَحَقَّقَ نَجَاسَتُهَا وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ السَّلَفِ التَّحَفُّظُ مِنْهَا وَلَا يَخْلُونَ مِنْهَا غَالِبًا قَوْلُهُ
[2423] (لَقَدْ قُدْتُ بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ هَذَا قُدَّامُهُ وَهَذَا خَلْفُهُ) فِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ رُكُوبِ ثَلَاثَةٍ على دابة اذا كانت مطيقة وهذا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بعضهم منع ذلك مطلقا وهو فاسد قَوْلُهُ
[2424] (وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ كِتَابِ مُسْلِمٍ بِالْحَاءِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالْجِيمِ وَالْمُرَحَّلُ بِالْحَاءِ هُوَ الموشي المنقوش عليه صور رجال الْإِبِلِ وَبِالْجِيمِ عَلَيْهِ صُوَرُ الْمَرَاجِلِ وَهِيَ الْقُدُورُ وَأَمَّا الْمِرْطُ فَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ كِسَاءٌ(15/194)
جَمْعُهُ مُرُوطٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيت قيل هوالشك وَقِيلَ الْعَذَابُ وَقِيلَ الْإِثْمُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ الرِّجْسُ اسم لكل مستقذر من عمل
(باب من فضائل زيد بن حارثة وابنه أسامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)
قَوْلُهُ
[2425] (مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَّا زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حتى نزل في القرآن ادعوهم لآبائهم) قَالَ الْعُلَمَاءُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَبَنَّى زَيْدًا وَدَعَاهُ ابْنَهُ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ يَتَبَنَّى الرَّجُلُ مَوْلَاهُ أَوْ غَيْرَهُ فَيَكُونُ ابْنًا لَهُ يُوَارِثَهُ وَيَنْتَسِبُ إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ فَرَجَعَ كُلُّ إِنْسَانٍ إِلَى نَسَبِهِ إِلَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَيُضَافُ إِلَى مَوَالِيهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي(15/195)
الدين ومواليكم قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2426] (وَإِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ) أَيْ حَقِيقًا بِهَا فِيهِ جَوَازُ إِمَارَةِ الْعَتِيقِ وَجَوَازُ تَقْدِيمِهِ عَلَى الْعَرَبِ وَجَوَازُ تَوْلِيَةِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكِبَارِ فَقَدْ كَانَ أُسَامَةُ صَغِيرًا جِدًّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بن ثمان عَشْرَةَ سَنَةً وَقِيلَ عِشْرِينَ وَجَوَازُ تَوْلِيَةِ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ لِلْمَصْلَحَةِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَضَائِلُ ظَاهِرَةٌ لِزَيْدٍ وَلِأُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيُقَالُ طَعَنَ فِي الْإِمْرَةِ وَالْعِرْضِ وَالنَّسَبِ وَنَحْوِهَا يَطْعَنُ بِالْفَتْحِ وَطَعَنَ بِالرُّمْحِ وَأُصْبُعِهُ وَغَيْرِهَا يَطْعُنُ بِالضَّمِّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَقِيلَ لُغَتَانِ فِيهِمَا وَالْإِمْرَةُ بكسر الهمزة الولاية وكذلك الإمارة
(باب من فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما)
قَوْلُهُ
[2427] (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ لِابْنِ الزبير أتذكر إذتلقينا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا وأنت وبن عباس فحملنا وتركك) معناه قال بن جَعْفَرٍ فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ وَتُوَضِّحُهُ الرِّوَايَاتُ بَعْدَهُ وَقَدْ تَوَهَّمَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الْقَائِلَ فَحَمَلَنَا هُوَ بن الزُّبَيْرِ وَجَعَلَهُ خَلْطًا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ صَوَابُهُ(15/196)
ما ذكرناه وأن القائل فحملنا وتركك بن جَعْفَرٍ قَوْلُهُ
[2428] (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدَمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِصِبْيَانِ أَهْلِ بَيْتِهِ) هَذِهِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ أَنْ يَتَلَقَّى الصِّبْيَانُ الْمُسَافِرَ وَأَنْ يُرْكِبَهُمْ وَأَنْ يُرْدِفَهُمْ ويلاطفهم والله اعلم(15/197)
(باب فضائل خديجة)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2430] (خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَأَشَارَ وَكِيعٌ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أَرَادَ وَكِيعٌ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ تَفْسِيرَ الضَّمِيرِ فِي نِسَائِهَا وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمِيعُ نِسَاءِ الْأَرْضِ أَيْ كُلُّ مَنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَيْرُ نِسَاءِ الْأَرْضِ فِي عَصْرِهَا وَأَمَّا التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمَا فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ قَالَ الْقَاضِي وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمَا مِنْ خَيْرِ نِسَاءِ الْأَرْضِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2431] (كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ) يُقَالُ كَمَلَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ مَشْهُورَاتٍ الْكَسْرُ ضَعِيفٌ قَالَ الْقَاضِي هَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِنُبُوَّةِ النِّسَاءِ وَنُبُوَّةِ آسِيَةَ وَمَرْيَمَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَتَا نَبِيَّتَيْنِ بَلْ هُمَا صِدِّيقَتَانِ وَوَلِيَّتَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَفْظَةُ الْكَمَالِ تُطْلَقُ عَلَى تَمَامِ الشئ وَتَنَاهِيهِ فِي بَابِهِ وَالْمُرَادُ هُنَا التَّنَاهِي فِي جَمِيعِ الْفَضَائِلِ وَخِصَالِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى قَالَ الْقَاضِي فَإِنْ قُلْنَا هُمَا نَبِيَّتَانِ(15/198)
فَلَا شَكَّ أَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يُلْحَقُ بِهِمَا وَإِنْ قُلْنَا وَلِيَّتَانِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُشَارِكَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ غَيْرُهُمَا هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ مِنَ الْقَوْلِ بِنُبُوَّتِهِمَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَنَّ الثَّرِيدَ من كل طعام أَفْضَلُ مِنَ الْمَرَقِ فَثَرِيدُ اللَّحْمِ أَفْضَلُ مِنْ مرقه بلا ثريد وثريد مالا لَحْمَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ مَرَقِهِ وَالْمُرَادُ بِالْفَضِيلَةِ نَفْعُهُ وَالشِّبَعُ مِنْهُ وَسُهُولَةُ مَسَاغِهِ وَالِالْتِذَاذُ بِهِ وَتَيَسُّرُ تَنَاوُلِهِ وَتَمَكُّنُ الْإِنْسَانِ مِنْ أَخْذِ كِفَايَتِهِ مِنْهُ بِسُرْعَةٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرَقِ كُلِّهِ وَمِنْ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ زَائِدٌ كَزِيَادَةِ فَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى مَرْيَمَ وَآسِيَةَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ تَفْضِيلُهَا عَلَى نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْلُهُ
[2432] (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ) هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ كَمَا سبق وخالف فيه الأستاذ أبو إسحاق(15/199)
[2433]
[2434] الإسفرائيني لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يُدْرِكْ أَيَّامَ خَدِيجَةَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو هُرَيْرَةَ هُنَا سَمَاعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ أَوَّلًا قَدْ أَتَتْكَ مَعْنَاهُ تَوَجَّهَتْ إِلَيْكَ وَقَوْلُهُ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ أَيْ وَصَلَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ أَيْ سَلِّمْ عَلَيْهَا وَهَذِهِ فَضَائِلُ ظَاهِرَةٌ لِخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَوْلُهُ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الْمُرَادُ بِهِ قَصَبُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ كَالْقَصْرِ الْمُنِيفِ وَقِيلَ قَصَبٌ مِنْ ذَهَبٍ مَنْظُومٍ بِالْجَوْهَرِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْقَصَبُ مِنَ الْجَوْهَرِ مَا اسْتَطَالَ مِنْهُ فِي تَجْوِيفٍ قَالُوا وَيُقَالُ لِكُلِّ مُجَوَّفٍ قَصَبٌ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مُفَسَّرًا بِبَيْتٍ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُحَيَّاةٍ وَفَسَّرُوهُ بِمُجَوَّفَةٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ هُنَا الْقَصْرُ وَأَمَّا الصَّخَبُ فَبِفَتْحِ الصَّادِ وَالْخَاءِ وَهُوَ الصَّوْتُ الْمُخْتَلِطُ الْمُرْتَفِعُ وَالنَّصَبُ الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ وَيُقَالُ فِيهِ نُصْبٌ بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ وَبِفَتْحِهِمَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ كَالْحَزَنِ وَالْحُزْنِ وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ وَقَدْ نَصِبَ الرَّجُلُ بِفَتْحِ النُّونِ(15/200)
وَكَسْرِ الصَّادِ إِذَا أَعْيَا قَوْلُهُ
[2435] (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ هَلَكَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي بِثَلَاثِ سِنِينَ) تَعْنِي قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا لَا قَبْلَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ بِنَحْوِ سَنَةٍ وَنِصْفٍ قَوْلُهُ (يُهْدِيهَا إِلَى خَلَائِلِهَا) أَيْ صدائقها جميع خَلِيلَةٍ وَهِيَ الصَّدِيقَةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُزِقْتُ حُبَّهَا) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حُبَّهَا فَضِيلَةٌ حَصَلَتْ(15/201)
قَوْلُهَا
[2437] (فَارْتَاحَ لِذَلِكَ أَيْ هَشَّ لِمَجِيئِهَا وَسُرَّ بِهَا لِتَذَكُّرِهِ بِهَا خَدِيجَةَ وَأَيَّامَهَا وَفِي هَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ لِحُسْنِ الْعَهْدِ وَحِفْظِ الْوُدِّ وَرِعَايَةِ حُرْمَةِ الصَّاحِبِ وَالْعَشِيرِ فِي حَيَاتِهِ وَوَفَاتِهِ وَإِكْرَامِ أَهْلِ ذَلِكَ الصَّاحِبِ قَوْلُهَا (عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ) مَعْنَاهُ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا حَتَّى قَدْ سَقَطَتْ أَسْنَانُهَا مِنَ الْكِبَرِ وَلَمْ يبق لشدقها بياض شئ مِنَ الْأَسْنَانِ إِنَّمَا بَقِيَ فِيهِ حُمْرَةُ لَثَاتِهَا قَالَ الْقَاضِي قَالَ الْمِصْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الغيرة مُسَامَحٌ لِلنِّسَاءِ فِيهَا لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِنَّ فِيهَا لِمَا جُبِلْنَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَمْ تُزْجَرْ عَائِشَةُ عَنْهَا قَالَ الْقَاضِي وَعِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ جَرَى مِنْ عَائِشَةَ لِصِغَرِ سِنِّهَا وَأَوَّلِ شَبِيبَتِهَا وَلَعَلَّهَا لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْ حِينَئِذٍ
(بَاب فضائل عائشة أم المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2438] (جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ) هِيَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ وَهِيَ الشُّقَقُ الْبِيضُ مِنَ الْحَرِيرِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَقُولُ إِنْ يَكُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ) قَالَ الْقَاضِي إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ تَخْلِيصِ أَحْلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/202)
مِنَ الْأَضْغَاثِ فَمَعْنَاهَا إِنْ كَانَتْ رُؤْيَا حَقٍّ وإِنْ كَانَتْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَلَهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْمُرَادَ إِنْ تَكُنِ الرُّؤْيَا عَلَى وَجْهِهَا وَظَاهِرِهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَتَفْسِيرٍ فسيمضه اللَّهُ تَعَالَى وَيُنَجِّزُهُ فَالشَّكُّ عَائِدٌ إِلَى أَنَّهَا رُؤْيَا عَلَى ظَاهِرِهَا أَمْ تَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَصَرْفٍ عَلَى ظَاهِرِهَا الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزَّوْجَةُ فِي الدُّنْيَا يُمْضِهَا اللَّهُ فَالشَّكُّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْجَنَّةِ الثَّالِثُ أَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ وَلَكِنْ أُخْبِرَ عَلَى التَّحْقِيقِ وَأَتَى بِصُورَةِ الشَّكِّ كَمَا قَالَ أَأَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمٍ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَدِيعِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ يُسَمُّونَهُ تَجَاهُلُ الْعَارِفِ وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ مَزْجَ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ
[2439] (إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى إِلَى قَوْلِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ) قَالَ الْقَاضِي مُغَاضَبَةُ عَائِشَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ مِمَّا سَبَقَ مِنَ الْغَيْرَةِ الَّتِي عُفِيَ عَنْهَا لِلنِّسَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ كَمَا سَبَقَ لِعَدَمِ انْفِكَاكِهِنَّ مِنْهَا حَتَّى قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ يَسْقُطُ عَنْهَا الْحَدُّ إِذَا قَذَفَتْ زَوْجَهَا بِالْفَاحِشَةِ عَلَى جِهَةِ الْغَيْرَةِ قَالَ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَا تَدْرِي الْغَيْرَاءُ أَعْلَى الْوَادِي مِنْ أَسْفَلِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ مَا فِيهِ لِأَنَّ الْغَضَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَجْرَهُ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ وَلِهَذَا قَالَتْ لَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَلْبَهَا وَحُبَّهَا كَمَا كَانَ وَإِنَّمَا الْغَيْرَةُ فِي النِّسَاءِ لِفَرْطِ الْمَحَبَّةِ قَالَ الْقَاضِي وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذَا أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى فِي الْمَخْلُوقِينَ وَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ(15/203)
عِنْدَهُ مِنْ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ لُغَةً وَلَا نَظَرًا وَلَا شَكَّ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَوْ مُخَالِفِيهِمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الِاسْمَ قَدْ يَقَعُ أَحْيَانًا وَالْمُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةُ حَيْثُ كَانَ فِي خَالِقٍ أَوْ مَخْلُوقٍ فَفِي حَقِّ الْخَالِقِ تَسْمِيَةُ الْمَخْلُوقِ لَهُ بِاسْمِهِ وَفِعْلُ الْمَخْلُوقِ ذَلِكَ بِعِبَارَاتِهِ الْمَخْلُوقَةِ وَأَمَّا أَسْمَاؤُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّتِي سَمَّى بِهَا نَفْسَهُ فَقَدِيمَةٌ كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ وَصِفَاتَهُ قَدِيمَةٌ وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ لَفْظَةَ الِاسْمِ إِذَا تَكَلَّمَ بِهَا الْمَخْلُوقُ فَتِلْكَ اللَّفْظَةُ وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ الْمُنْفَهِمُ مِنْهَا الِاسْمُ أَنَّهَا غَيْرُ الذَّاتِ بَلْ هِيَ التَّسْمِيَةُ وَإِنَّمَا الِاسْمُ الَّذِي هُوَ الذَّاتُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ خَالِقٍ وَمَخْلُوقٍ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي قَوْلُهُ
[2440] (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال الْقَاضِي فِيهِ جَوَازُ اللَّعِبِ بِهِنَّ قَالَ وَهُنَّ مَخْصُوصَاتٌ مِنَ الصُّوَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَدْرِيبِ النِّسَاءِ فِي صِغَرِهِنَّ لِأَمْرِ أَنْفُسِهِنَّ وَبُيُوتِهِنَّ وَأَوْلَادِهِنَّ قَالَ وَقَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ بَيْعَهُنَّ وَشِرَاءَهُنَّ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ شِرَائِهِنَّ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ الِاكْتِسَابِ بِهَا وتنزيه ذوي المروآت عَنْ تَوَلِّي بَيْعِ ذَلِكَ لَا كَرَاهَةِ اللَّعِبِ قَالَ وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ جَوَازُ اللَّعِبِ بِهِنَّ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنِ الصُّوَرِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي قَوْلُهَا (وَكَانَتْ تَأْتِينِي صَوَاحِبِي فَكُنَّ يَنْقَمِعْنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان يسر بهن إِلَيَّ) مَعْنَى يَنْقَمِعْنَ يَتَغَيَّبْنَ حَيَاءً مِنْهُ وَهَيْبَةً وَقَدْ يَدْخُلْنَ فِي بَيْتٍ وَنَحْوِهِ وَهُوَ قَرِيبٌ من الاول ويسر بهن بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يُرْسِلُهُنَّ وَهَذَا(15/204)
مِنْ لُطْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ قَوْلُهَا
[2442] (يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ) مَعْنَاهُ يَسْأَلْنَكَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ فِي مَحَبَّةِ الْقَلْبِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَبِيتِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا مَحَبَّةُ الْقَلْبِ فَكَانَ يُحِبُّ عَائِشَةَ أَكْثَرَ مِنْهُنَّ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُنَّ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا وَلَا يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْعَدْلِ فِي الْأَفْعَالِ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ يَلْزَمُهُ الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ فِي الدَّوَامِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُ غَيْرُهُ أَمْ لَا يَلْزَمُهُ بَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ إِيثَارٍ وَحِرْمَانٍ فَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ طَلَبُ الْمُسَاوَاةِ فِي مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَا الْعَدْلِ فِي الْأَفْعَالِ فَإِنَّهُ كَانَ حَاصِلًا قَطْعًا وَلِهَذَا كَانَ يطاف به(15/205)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ عَلَيْهِنَّ حَتَّى ضَعُفَ فَاسْتَأْذَنَهُنَّ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بيت عائشة فأذن له قولها (يناشدنك) أَيْ يَسْأَلْنَكَ قَوْلُهَا (هِيَ الَّتِي تُسَامِينِي) أَيْ تُعَادِلُنِي وَتُضَاهِينِي فِي الْحَظْوَةِ وَالْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ قَوْلُهَا (مَا عَدَا سورة من حد كَانَتْ فِيهَا تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ سَوْرَةً مِنْ حَدٍّ بِفَتْحِ الْحَاءِ بِلَا هَاءٍ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ حِدَّةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَبِالْهَاءِ وَقَوْلُهَا سَوْرَةً هِيَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ وَاوٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ تَاءٍ وَالسَّوْرَةُ الثَّوَرَانُ وَعَجَلَةُ الْغَضَبِ وَأَمَّا الْحِدَّةُ فَهِيَ شِدَّةُ الْخُلُقِ وَثَوَرَانُهُ وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهَا كَامِلَةُ الْأَوْصَافِ إِلَّا أَنَّ فِيهَا شِدَّةَ خُلُقٍ وَسُرْعَةَ غَضَبٍ تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَبِالْهَمْزِ وَهِيَ الرُّجُوعُ أَيْ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهَا رَجَعَتْ عَنْهُ سَرِيعًا وَلَا تُصِرُّ عَلَيْهِ وَقَدْ صَحَّفَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَصْحِيفًا قَبِيحًا جِدًّا فَقَالَ مَا عَدَا سودة بالدال(15/206)
وَجَعَلَهَا سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَذَا مِنَ الْغَلَطِ الْفَاحِشِ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ قَوْلُهَا (ثُمَّ وَقَعَتْ بِي فَاسْتَطَالَتْ عَلَيَّ وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْقُبُ طَرْفَهُ هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا حِينَ أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا) أَمَّا أَنْحَيْتُ فَبِالنُّونِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ قَصَدْتُهَا وَاعْتَمَدْتُهَا بِالْمُعَارَضَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَتَّى بُدِّلَ حِينَ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَرَجَّحَ الْقَاضِي حِينَ بِالنُّونِ وَمَعْنَى لَمْ أَنْشَبْهَا لَمْ أُمْهِلْهَا وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ أَنْشَبْهَا أَنْ أَثْخَنْتُهَا عَلْيَهِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْيَاءِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ واثخنتها بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ قَمَعْتُهَا وَقَهَرْتُهَا وقولها أولا ثم وقعت بي أي استطالت عَلَيَّ وَنَالَتْ مِنِّي بِالْوَقِيعَةِ فِيَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِعَائِشَةَ وَلَا أَشَارَ بعينه ولاغيرها بَلْ لَا يَحِلُّ اعْتِقَادُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا انْتَصَرَتْ لِنَفْسِهَا فَلَمْ يَنْهَهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ فَمَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى كَمَالِ فَهْمِهَا وَحُسْنِ نَظَرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ(15/207)
قَوْلُهَا (قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي) السَّحْرُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّهَا وَإِسْكَانِ الْحَاءِ وَهِيَ الرِّئَةُ وَمَا تَعَلَّقَ بِهَا قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ إِنَّمَا هُوَ شَجَرِي بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْجِيمِ وَشَبَّكَ هَذَا الْقَائِلُ أَصَابِعَهُ وَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّهَا ضَمَّتْهُ إِلَى نَحْرِهَا مُشَبِّكَةً يَدَيْهَا عَلَيْهِ وَالصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ هو الأول قوله
[2443] (فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللَّهُ) أَيْ يَوْمُهَا الْأَصِيلُ بِحِسَابِ الدَّوْرِ وَالْقَسْمِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ صار جميع الأيام في بيتها قَوْلُهَا (وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ) هِيَ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وتشديد الحاء وهي غلظ في الصوت قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2444] (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ) وَفِي رِوَايَةٍ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى الْأَنْبِيَاءُ السَّاكِنُونَ أَعْلَى عَلِيِّينَ وَلَفْظَةُ رَفِيقٍ تُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ قَالَ اللَّهُ تعالى وحسن أولئك رفيقا وَقِيلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى يُقَالُ اللَّهُ رَفِيقٌ بِعِبَادِهِ مِنَ الرِّفْقِ وَالرَّأْفَةِ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَأَنْكَرَ الْأَزْهَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَقِيلَ أَرَادَ مرتفق الجنة(15/208)
قولها (فأشخص بصره إلى السماء) هوبفتح الْخَاءِ أَيْ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَلَمْ يَطْرِفْ قَوْلُهَا
[2445] (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ) أَيْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُمَا فَفِيهِ صِحَّةُ الْإِقْرَاعِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَفِي الْأَمْوَالِ وَفِي الْعِتْقِ وَنَحْوِ(15/209)
ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ مِمَّا فِي مَعْنَى هَذَا وَبِإِثْبَاتِ الْقُرْعَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ سَفَرًا بِبَعْضِ نِسَائِهِ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ كَذَلِكَ وَهَذَا الْإِقْرَاعُ عِنْدَنَا وَاجِبٌ فِي حَقِّ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي وُجُوبِ الْقَسْمِ فِي حَقِّهِ خِلَافٌ قَدَّمْنَاهُ مَرَّاتٍ فَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْقَسْمِ يَجْعَلُ إِقْرَاعَهُ وَاجِبًا وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهُ يَقُولُ إِقْرَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُسْنِ عِشْرَتِهِ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ قَوْلُهَا (إِنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ لِعَائِشَةَ أَلَّا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ) قَالَ الْقَاضِي قَالَ الْمُهَلَّبُ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِهَذَا تَحَيَّلَتْ حَفْصَةُ عَلَى عَائِشَةَ بِمَا فَعَلَتْ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَحَرُمَ ذَلِكَ عَلَى حَفْصَةَ وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَإِنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ الْقَسْمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ حَدِيثَ الْأُخْرَى فِي غَيْرِ وَقْتِ عِمَادِ الْقَسْمِ قَالَ أَصْحَابُنَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي غَيْرِ وَقْتِ عِمَادِ الْقَسْمِ إِلَى غَيْرِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ فَيَأْخُذُ الْمَتَاعَ أَوْ يَضَعُهُ أَوْ نَحْوَهُ مِنَ الْحَاجَاتِ وَلَهُ أَنْ يُقَبِّلَهَا وَيَلْمِسَهَا مِنْ غَيْرِ إِطَالَةٍ وَعِمَادُ الْقَسْمِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ هُوَ وَقْتُ النُّزُولِ فَحَالَةُ السَّيْرِ لَيْسَتْ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا قَوْلُهَا (جَعَلَتْ رِجْلَهَا بَيْنَ الْإِذْخِرِ وَتَقُولُ إِلَى آخِرِهِ) هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ وَقَالَتْهُ حَمَلَهَا عَلَيْهِ فَرْطُ الْغَيْرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ أَمْرَ الْغَيْرَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/210)
لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
[2447] (إِنَّ جِبْرِيلَ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ قَالَتْ فَقُلْتُ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ بَعْثِ السَّلَامِ وَيَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ تَبْلِيغُهُ وَفِيهِ بَعْثُ الْأَجْنَبِيِّ السَّلَامَ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ الصَّالِحَةِ إِذَا لَمْ يُخَفْ تَرَتُّبُ مَفْسَدَةٍ وَأَنَّ الَّذِي يَبْلُغُهُ السَّلَامُ يَرُدُّ عَلَيْهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَهَذَا الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ وَكَذَا لَوْ بَلَغَهُ سَلَامٌ فِي وَرَقَةٍ مِنْ غَائِبٍ لَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ السَّلَامَ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ عَلَى الْفَوْرِ إِذَا قَرَأَهُ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي الرَّدِّ أَنْ يَقُولَ وَعَلَيْكَ أَوْ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ بِالْوَاوِ فَلَوْ قَالَ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ أَوْ عَلَيْكُمْ أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَكَانَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا يُجْزِئُهُ وَسَبَقَتْ مَسَائِلُ السَّلَامِ فِي بَابِهِ مُسْتَوْفَاةً وَمَعْنَى يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ(15/211)
يُسَلِّمُ عَلَيْكِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَا عَائِشُ) دَلِيلٌ لِجَوَازِ التَّرْخِيمِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الشين وضمها حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ قَوْلُهُ
[2448] (أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ) بِالْجِيمِ وَالنُّونِ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُبْهَمَاتِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَمَّى النِّسْوَةَ الْمَذْكُورَاتِ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ إِلَّا مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي أَذْكُرُهُ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا فَذَكَرَهُ وَفِيهِ أَنَّ الثَّانِيَةَ اسْمُهَا عَمْرَةُ بِنْتُ عَمْرٍو وَاسْمُ الثَّالِثَةِ حنى بِنْتُ نعب وَالرَّابِعَةُ مهدد بِنْتُ أَبِي مرزمة وَالْخَامِسَةُ كَبْشَةُ وَالسَّادِسَةُ هِنْدٌ وَالسَّابِعَةُ حنى بِنْتُ عَلْقَمَةَ وَالثَّامِنَةُ بِنْتُ أَوْسِ بْنِ عَبْدٍ وَالْعَاشِرَةُ كَبْشَةُ بِنْتُ الأرقم والحادية عشر أَمُّ زَرْعٍ بِنْتُ أَكْهَلَ بْنِ سَاعِدٍ قَوْلُهَا (جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا جَلَسْنَ بِزِيَادَةِ نُونِ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا حَدِيثُ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا يَجُوزُ فِيهِ إِسْكَانُ الشِّينِ وَكَسْرُهَا وَفَتْحُهَا وَالْإِسْكَانُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ قَوْلُهَا (زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ أَهْلِ الْغَرِيبِ وَالشُّرَّاحُ(15/212)
الْمُرَادُ بِالْغَثِّ الْمَهْزُولُ وَقَوْلُهَا عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ أَيْ صَعْبُ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَلِيلُ الْخَيْرِ مِنْ أَوْجُهٍ مِنْهَا كَوْنُهُ كَلَحْمٍ الجمل لَا كَلَحْمِ الضَّأْنِ وَمِنْهَا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ غث مهزول ردئ وَمِنْهَا أَنَّهُ صَعْبُ التَّنَاوُلِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ هَكَذَا فَسَّرَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قَوْلُهَا عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ أَيْ يَتَرَفَّعُ وَيَتَكَبَّرُ وَيَسْمُو بِنَفْسِهِ فَوْقَ مَوْضِعِهَا كَثِيرًا أَيْ أَنَّهُ يَجْمَعُ إِلَى قِلَّةِ خَيْرِهِ تَكَبُّرَهُ وَسُوءَ الْخُلُقِ قَالُوا وَقَوْلُهَا وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ أَيْ تَنْقُلُهُ النَّاسُ إِلَى بُيُوتِهِمْ لِيَأْكُلُوهُ بَلْ يَتْرُكُوهُ رَغْبَةً عَنْهُ لِرَدَاءَتِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ يُحْتَمَلُ سُوءُ عِشْرَتِهِ بِسَبَبِهَا يُقَالُ أَنَقَلْتُ الشئ بِمَعْنَى نَقَلْتُهُ وَرُوِيَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَى أَيْ يُسْتَخْرَجُ نِقْيُهُ وَالنِّقْيُ بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ هُوَ الْمُخُّ يُقَالُ نَقَوْتُ الْعَظْمَ وَنَقَّيْتُهُ وَانْتَقَيْتُهُ إِذَا اسْتَخْرَجْتَ نِقْيَهُ قَوْلُهَا (قَالَتِ الثَّانِيَةُ زَوْجِي لَا أَبُثُّ خَبَرَهُ إني أخاف أن لا أذره أن أذكره أذكر عجره بجره) فقولها لاأبث خَبَرَهُ أَيْ لَا أَنْشُرُهُ وَأُشِيعُهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَهُ فِيهِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا لِابْنِ السِّكِّيتِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ عَلَى خَبَرِهِ فَالْمَعْنَى أَنَّ خَبَرَهُ طَوِيلٌ إِنْ شَرَعْتُ فِي تَفْصِيلِهِ لَا أَقْدِرُ عَلَى إِتْمَامِهِ لِكَثْرَتِهِ وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ عَلَى الزَّوْجِ وَتَكُونُ لَا زَائِدَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا مَنَعَكَ أن لا تسجد وَمَعْنَاهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُطَلِّقَنِي فَأَذَرَهُ وَأَمَّا عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ فَالْمُرَادُ بِهِمَا عُيُوبُهُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ أَرَادَتْ بِهِمَا عُيُوبَهُ الْبَاطِنَةَ وَأَسْرَارَهُ الْكَامِنَةَ قالوا وأصل العجر أن يتعقد الْعَصَبُ أَوِ الْعُرُوقُ حَتَّى تَرَاهَا نَاتِئَةً مِنَ الْجَسَدِ وَالْبُجَرُ نَحْوُهَا إِلَّا أَنَّهَا فِي الْبَطْنِ خَاصَّةً وَاحِدَتُهَا بُجْرَةٌ وَمِنْهُ قِيلَ رَجُلٌ أَبْجَرُ إِذَا كَانَ نَاتِئَ السُّرَّةِ عَظِيمَهَا وَيُقَالُ أَيْضًا رَجُلٌ أبْجَرُ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الْبَطْنِ وَامْرَأَةٌ بجراء والجمع بجر وقال الهروي قال بن الْأَعْرَابِيِّ الْعُجْرَةُ نَفْخَةٌ فِي الظَّهْرِ فَإِنْ كَانَتْ فِي السُّرَّةِ فَهِيَ بُجْرَةٌ قَوْلُهَا (قَالَتِ الثَّالِثَةُ زَوْجِي الْعَشَنَّقُ إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ) فَالْعَشَنَّقُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ قَافٍ وَهُوَ الطَّوِيلُ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ طُولٍ بِلَا نَفْعٍ فَإِنْ ذَكَرْتُ عُيُوبَهُ طَلَّقَنِي وَإِنْ سَكَتُّ عَنْهَا عَلَّقَنِي فَتَرَكَنِي لَا عَزْبَاءَ ولا مزوجة(15/213)
(قَالَتِ الرَّابِعَةُ زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ) هَذَا مَدْحٌ بَلِيغٌ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ فِيهِ أَذًى بَلْ هُوَ رَاحَةٌ وَلَذَاذَةُ عَيْشٍ كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَذِيذٌ مُعْتَدِلٌ لَيْسَ فِيهِ حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ مُفْرِطٌ وَلَا أَخَافُ لَهُ غَائِلَةً لِكَرْمِ أَخْلَاقِهِ وَلَا يَسْأَمُنِي وَيَمَلُّ صُحْبَتِي (قَالَتِ الْخَامِسَةُ زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ) هَذَا أَيْضًا مَدْحٌ بَلِيغٌ فَقَوْلُهَا فَهِدَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ تَصِفُهُ إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ بِكَثْرَةِ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ فِي مَنْزِلِهِ عَنْ تَعَهُّدِ مَا ذَهَبَ مِنْ مَتَاعِهِ وَمَا بَقِيَ وَشَبَّهَتْهُ بِالْفَهْدِ لِكَثْرَةِ نَوْمِهِ يُقَالُ أَنْوَمُ مِنْ فَهْدٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهَا وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ أَيْ لَا يَسْأَلُ عَمَّا كَانَ عَهِدَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ مَالِهِ وَمَتَاعِهِ وَإِذَا خَرَجَ أَسِدَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ وَصْفٌ لَهُ بِالشَّجَاعَةِ وَمَعْنَاهُ إِذَا صَارَ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ خَالَطَ الْحَرْبَ كَانَ كَالْأَسَدِ يُقَالُ أسد واستأسد قال القاضي وقال بن أَبِي أُوَيْسٍ مَعْنَى فَهِدَ إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ وَثَبَ عَلَيَّ وُثُوبَ الْفَهِدِ فَكَأَنَّهَا تُرِيدُ ضَرْبَهَا وَالْمُبَادَرَةَ بِجِمَاعِهَا وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ (قَالَتِ السَّادِسَةُ زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفَّ وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ) قَالَ الْعُلَمَاءُ اللَّفُّ فِي الطَّعَامِ الْإِكْثَارُ مِنْهُ مَعَ التَّخْلِيطِ مِنْ صُنُوفِهِ حَتَّى لا يبقى منها شيئا وَالِاشْتِفَافُ فِي الشُّرْبِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ مَا فِي الْإِنَاءِ مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّفَافَةِ بِضَمِّ الشِّينِ وَهِيَ مَا بَقِيَ فِي الْإِنَاءِ مِنَ الشَّرَابِ فَإِذَا شَرِبَهَا قِيلَ اشْتَفَّهَا وَتَشَافَهَا وَقَوْلُهَا وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَحْسِبُهُ كَانَ بِجَسَدِهَا عَيْبٌ أَوْ دَاءٌ كَنَّتْ بِهِ لِأَنَّ الْبَثَّ الْحُزْنُ فَكَانَ لَا يُدْخِلُ يَدِهِ فِي ثَوْبِهَا لِيَمَسَّ ذَلِكَ فَيَشُقَّ عَلَيْهَا فَوَصَفَتْهُ بِالْمُرُوءَةِ وَكَرَمِ الْخُلُقِ وَقَالَ الْهَرَوِيُّ قَالَ بن الْأَعْرَابِيِّ هَذَا ذَمٌّ لَهُ أَرَادَتْ وَإِنِ اضْطَجَعَ وَرَقَدَ الْتَفَّ فِي ثِيَابِهِ فِي نَاحِيَةٍ وَلَمْ يُضَاجِعْنِي لِيَعْلَمَ مَا عِنْدِي مِنْ مَحَبَّتِهِ قَالَ وَلَا بَثَّ هُنَاكَ إِلَّا مَحَبَّتَهَا الدُّنُوَّ مِنْ زَوْجِهَا وَقَالَ آخَرُونَ أَرَادَتْ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِدُ أموري ومصالحي قال بن الأنباري رد بن قتيبة على أبي عبيدة تَأْوِيلَهُ لِهَذَا الْحَرْفِ وَقَالَ كَيْفَ تَمْدَحُهُ بِهَذَا وقد ذمته في صدر الكلام قال بن الأنباري ولا رد على أبي عبيد(15/214)
الأن النسوة تعاقدن أن لا يَكْتُمْنَ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ فَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَتْ أَوْصَافُ زَوْجِهَا كُلُّهَا حَسَنَةً فَوَصَفَتْهَا وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَتْ أَوْصَافُ زَوْجِهَا قَبِيحَةً فَذَكَرَتْهَا وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَتْ أَوْصَافُهُ فِيهَا حَسَنٌ وَقَبِيحٌ فَذَكَرَتْهُمَا والى قول بن الأعرابي وبن قُتَيْبَةَ ذَهَبَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ (قَالَتِ السَّابِعَةُ زَوْجِي غَيَايَاءُ أَوْ عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ كل داء له داء شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ) هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيَايَاءُ بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَوْ عَيَايَاءُ بِالْمُهْمَلَةِ وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِالْمُعْجَمَةِ وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ الْمُعْجَمَةَ وَقَالُوا الصَّوَابُ الْمُهْمَلَةُ وَهُوَ الَّذِي لَا يُلْقِحُ وَقِيلَ هُوَ الْعِنِّينُ الَّذِي تَعِييهِ مُبَاضَعَةُ النِّسَاءِ وَيَعْجِزُ عَنْهَا وَقَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ غَيَايَاءُ بِالْمُعْجَمَةِ صَحِيحٌ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَيَايَةِ وَهِيَ الظُّلْمَةُ وَكُلُّ مَا أَظَلَّ الشَّخْصَ وَمَعْنَاهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى سَلْكٍ أَوْ أَنَّهَا وَصَفَتْهُ بِثِقَلِ الرُّوحِ وَأَنَّهُ كَالظِّلِّ الْمُتَكَاثِفِ الْمُظْلِمِ الَّذِي لَا إِشْرَاقَ فِيهِ أَوْ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّهُ غُطِّيَتْ عَلَيْهِ أُمُورُهُ أَوْ يَكُونُ غَيَايَاءُ مِنْ الْغَيِّ وَهُوَ الِانْهِمَاكُ فِي الشَّرِّ أَوْ مِنَ الْغَيِّ الَّذِي هُوَ الْخَيْبَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا وَأَمَّا طَبَاقَاءُ فَمَعْنَاهُ الْمُطْبَقَةُ عَلَيْهِ أُمُورُهُ حُمْقًا وَقِيلَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنِ الْكَلَامِ فَتَنْطَبِقُ شَفَتَاهُ وَقِيلَ هُوَ الْعِيُّ الْأَحْمَقُ الْفَدْمُ وَقَوْلُهَا شَجَّكِ أَيْ جَرَحَكِ فِي الرَّأْسِ فَالشِّجَاجُ جِرَاحَاتُ الرَّأْسِ وَالْجِرَاحُ فِيهِ وَفِي الْجَسَدِ وَقَوْلُهَا فَلَّكِ الْفَلُّ الْكَسْرُ وَالضَّرْبُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا مَعَهُ بَيْنَ شَجِّ رَأْسٍ وَضَرْبٍ وَكَسْرِ عُضْوٍ أَوْ جَمْعٍ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفَلِّ هُنَا الْخُصُومَةُ وَقَوْلُهَا كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ أَيْ جَمِيعُ أَدْوَاءِ النَّاسِ مُجْتَمِعَةٌ فِيهِ (قَالَتِ الثَّامِنَةُ زَوْجِي الرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ وَالْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ) الزَّرْنَبُ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ مَعْرُوفٌ قِيلَ أَرَادَتْ طِيبَ رِيحِ جَسَدِهِ وَقِيلَ طِيبُ ثِيَابِهِ فِي النَّاسِ وَقِيلَ لِينُ خُلُقِهِ وَحُسْنُ عِشْرَتِهِ وَالْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ صَرِيحٌ فِي لِينِ الْجَانِبِ وَكَرَمِ الْخُلُقِ (قَالَتِ التَّاسِعَةُ زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ طَوِيلُ النِّجَادِ عَظِيمُ الرَّمَادِ قريب البيت من النادي) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ النَّادِي بِالْيَاءِ وَهُوَ الْفَصِيحُ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الرِّوَايَةِ حَذْفُهَا لِيَتِمَّ السَّجْعُ قَالَ(15/215)
الْعُلَمَاءُ مَعْنَى رَفِيعِ الْعِمَادِ وَصْفُهُ بِالشَّرَفِ وَسَنَاءِ الذِّكْرِ وَأَصْلُ الْعِمَادِ عِمَادُ الْبَيْتِ وَجَمْعُهُ عُمُدٌ وَهِيَ الْعِيدَانُ الَّتِي تُعْمَدُ بِهَا الْبُيُوتُ أَيْ بَيْتُهُ فِي الْحَسَبِ رَفِيعٌ فِي قَوْمِهِ وَقِيلَ إِنَّ بَيْتَهُ الَّذِي يَسْكُنُهُ رَفِيعُ الْعِمَادِ لِيَرَاهُ الضِّيفَانُ وَأَصْحَابُ الْحَوَائِجِ فَيَقْصِدُوهُ وَهَكَذَا بُيُوتُ الْأَجْوَادِ وَقَوْلُهَا طَوِيلُ النِّجَادِ بِكَسْرِ النُّونِ تَصِفُهُ بِطُولِ الْقَامَةِ وَالنِّجَادُ حَمَائِلُ السَّيْفِ فَالطَّوِيلُ يَحْتَاجُ إِلَى طُولِ حَمَائِلِ سَيْفِهِ وَالْعَرَبُ تَمْدَحُ بِذَلِكَ قَوْلُهَا عَظِيمُ الرَّمَادِ تَصِفُهُ بِالْجُودِ وَكَثْرَةِ الضِّيَافَةِ مِنَ اللُّحُومِ وَالْخُبْزِ فَيَكْثُرُ وَقُودُهُ فَيَكْثُرُ رَمَادُهُ وَقِيلَ لِأَنَّ نَارَهُ لَا تُطْفَأُ بِاللَّيْلِ لِتَهْتَدِيَ بِهَا الضِّيفَانُ وَالْأَجْوَادُ يُعَظِّمُونَ النِّيرَانَ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ وَيُوقِدُونَهَا عَلَى التِّلَالِ وَمَشَارِفِ الْأَرْضِ وَيَرْفَعُونَ الْأَقْبَاسَ عَلَى الْأَيْدِي لِتَهْتَدِيَ بِهَا الضِّيفَانُ وَقَوْلُهَا قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِي قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ النَّادِي وَالنَّادِ وَالنَّدَى وَالْمُنْتَدَى مَجْلِسُ الْقَوْمِ وَصَفَتْهُ بِالْكَرَمِ وَالسُّؤْدُدِ لِأَنَّهُ لَا يُقَرِّبُ الْبَيْتَ مِنَ النَّادِي إِلَّا مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لِأَنَّ الضِّيفَانَ يَقْصِدُونَ النَّادِي وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّادِي يَأْخُذُونَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي مَجْلِسِهِمْ مِنْ بَيْتٍ قَرِيبِ النَّادِي وَاللِّئَامُ يَتَبَاعَدُونَ مِنَ النَّادِي (قَالَتِ الْعَاشِرَةُ زَوْجِي مَالِكٌ فَمَا مَالِكٌ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكٌ) مَعْنَاهُ أن له إبلا كثيرات فَهِيَ بَارِكَةٌ بِفِنَائِهِ لَا يُوَجِّهُهَا تَسْرَحُ إِلَّا قَلِيلًا قَدْرَ الضَّرُورَةِ وَمُعْظَمُ أَوْقَاتِهَا تَكُونُ بَارِكَةً بِفِنَائِهِ فَإِذَا نَزَلَ بِهِ الضِّيفَانُ كَانَتِ الْإِبِلُ حَاضِرَةً فَيُقْرِيهِمْ مِنْ أَلْبَانِهَا وَلُحُومِهَا وَالْمِزْهَرُ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْعُودُ الَّذِي يَضْرِبُ أَرَادَتْ أَنَّ زَوْجَهَا عَوَّدَ إِبِلَهُ إِذَا نَزَلَ بِهِ الضِّيفَانُ نَحَرَ لَهُمْ مِنْهَا وَأَتَاهُمْ بِالْعِيدَانِ وَالْمَعَازِفِ وَالشَّرَابِ فَإِذَا سَمِعَتِ الْإِبِلُ صَوْتَ الْمِزْهَرِ عَلِمْنَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَهُ الضِّيفَانُ وَأَنَّهُنَّ مَنْحُورَاتٌ هَوَالِكُ هَذَا تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالْجُمْهُورِ وَقِيلَ مَبَارِكُهَا كَثِيرَةٌ لِكَثْرَةِ مَا يُنْحَرُ مِنْهَا لِلْأَضْيَافِ قَالَ هَؤُلَاءِ وَلَوْ كَانَتْ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ لَمَاتَتْ هُزَالًا وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ فَإِنَّهَا تَسْرَحُ وَقْتًا تَأْخُذُ فِيهِ حَاجَتَهَا ثُمَّ تَبْرُكُ بِالْفِنَاءِ وَقِيلَ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ أَيْ مَبَارِكُهَا فِي الْحُقُوقِ وَالْعَطَايَا وَالْحِمَالَاتِ وَالضِّيفَانِ كثيرة ومراعيها قلية لأنها(15/216)
تصرف في هذه الوجوه قاله بن السِّكِّيتِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ النَّيْسَابُورِيُّ إِنَّمَا هُوَ إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمُزْهِرِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مُوقِدُ النَّارِ لِلْأَضْيَافِ قَالَ وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ الْمِزْهَرَ بِكَسْرِ الْمِيمِ الَّذِي هُوَ الْعُودُ إِلَّا مَنْ خَالَطَ الْحَضَرَ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَلِأَنَّ الْمِزْهَرَ بِكَسْرِ الْمِيمِ مَشْهُورٌ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَلِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ لَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ مِنْ غَيْرِ الْحَاضِرَةِ فَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُنَّ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْيُمْنِ قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْحَادِي عَشْرَةَ وَفِي بَعْضِهَا الْحَادِيَةَ عَشْرَ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ قَوْلُهَا (أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ هُوَ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ أُذُنَيَّ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْحُلِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَالنَّوْسُ بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْحَرَكَةِ من كل شئ مُتَدَلٍّ يُقَالُ مِنْهُ نَاسَ يَنُوسُ نَوْسًا وَأَنَاسَهُ غَيْرُهُ أَنَاسَةً وَمَعْنَاهُ حَلَّانِي قِرَطَةً وَشُنُوفًا فَهيَ تَنَوَّسُ أَيْ تَتَحَرَّكُ لِكَثْرَتِهَا قَوْلُهَا (وَمَلَأَ مِنْ شحم عضدي) وقال العلماءمعناه أَسْمَنَنِي وَمَلَأ بَدَنِي شَحْمًا وَلَمْ تُرِدِ اخْتِصَاصَ الْعَضُدَيْنِ لَكِنْ إِذَا سَمِنَتَا سَمِنَ غَيْرُهُمَا قَوْلُهَا (وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي) هُوَ بِتَشْدِيدِ جِيمِ بَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ أَفْصَحُهُمَا الْكَسْرُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْفَتْحُ ضَعِيفَةٌ وَمَعْنَاهُ فرحني ففرحت وقال بن الْأَنْبَارِيِّ وَعَظَّمَنِي فَعَظُمْتُ عِنْدَ نَفْسِي يُقَالُ فُلَانٌ يتبجحبكذا أَيْ يَتَعَظَّمُ وَيَفْتَخِرُ قَوْلُهَا (وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ) أَمَّا قَوْلُهَا فِي غُنَيْمَةٍ فَبِضَمِّ الْغَيْنِ تَصْغِيرُ الْغَنَمِ أَرَادَتْ أَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا أَصْحَابَ غَنَمٍ لَا أَصْحَابَ خَيْلٍ وَإِبِلٍ لِأَنَّ الصَّهِيلَ أَصْوَاتُ الْخَيْلِ وَالْأَطِيطَ أَصْوَاتُ الْإِبِلِ وَحَنِينِهَا وَالْعَرَبُ لَا تَعْتَدُّ بِأَصْحَابِ الْغَنَمِ وَإِنَّمَا يَعْتَدُّونَ بِأَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَأَمَّا قَوْلُهَا بِشِقٍّ فَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ وَفَتْحِهَا وَالْمَعْرُوفُ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ وَالْمَشْهُورُ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ كَسْرُهَا وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ فَتْحُهَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ بِالْفَتْحِ قَالَ وَالْمُحَدِّثُونَ يَكْسِرُونَهُ قَالَ وَهُوَ مَوْضِعٌ وَقَالَ الهروي الصواب الفتح قال بن الْأَنْبَارِيِّ هُوَ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَهُوَ مَوْضِعٌ وَقَالَ بن أبي أويس وبن حَبِيبٍ يَعْنِي بِشِقِّ جَبَلِ لِقِلَّتِهِمْ وَقِلَّةِ غَنَمِهِمْ وَشِقِّ الْجَبَلِ نَاحِيَتُهُ وَقَالَ القبتيني وَيَقِطُونَهُ بِشِقٍّ بِالْكَسْرِ أَيْ بِشَظَفٍ مِنَ الْعَيْشِ وَجَهْدٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا عِنْدِي أَرْجَحُ وَاخْتَارَهُ أَيْضًا غَيْرُهُ فَحَصَلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَقَوْلُهَا وَدَائِسٌ هُوَ الَّذِي يَدُوسُ الزَّرْعَ فِي بَيْدَرِهِ قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ يُقَالُ دَاسَ(15/217)
الطعام درسه وقيل الدائس الأبدك قولهاومنق هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْسِرُ النُّونَ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فَتْحُهَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ بِفَتْحِهَا قَالَ وَالْمُحَدِّثُونَ يَكْسِرُونَهَا وَلَا أَدْرِي مَا مَعْنَاهُ قَالَ الْقَاضِي رِوَايَتُنَا فِيهِ بِالْفَتْحِ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي عبيد قال وقاله بن أَبِي أُوَيْسٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ مِنَ النَّقِيقِ وَهُوَ أَصْوَاتُ الْمَوَاشِي تَصِفُهُ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِ وَيَكُونُ مُنَقٍّ مِنْ أَنَقَّ إِذَا صَارَ ذَا نَقِيقٍ أَوْ دَخَلَ فِي النَّقِيقِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَتْحُهَا وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي يُنَقِّي الطَّعَامَ أَيْ يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ وَقُشُورِهِ وَهَذَا أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِ الْهَرَوِيِّ هُوَ الَّذِي يُنَقِّيهِ بِالْغِرْبَالِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ صَاحِبُ زَرْعٍ وَيَدُوسُهُ وَيُنَقِّيهِ قَوْلُهَا (فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ) مَعْنَاهُ لَا يُقَبِّحُ قَوْلِي فَيَرُدُّ بَلْ يَقْبَلُ مِنِّي وَمَعْنَى أَتَصَبَّحُ أَنَامُ الصُّبْحَةَ وَهِيَ بَعْدَ الصَّبَاحِ أَيْ أَنَّهَا مَكْفِيَّةٌ بِمَنْ يَخْدُمُهَا فَتَنَامُ وَقَوْلُهَا فأتقنح هو بالنون بَعْدَ الْقَافِ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِالنُّونِ قَالَ الْقَاضِي لَمْ نَرْوِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ إِلَّا بِالنُّونِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ بَعْضُهُمْ فَأَتَقَمَّحُ بِالْمِيمِ قَالَ وَهُوَ أَصَحُّ وَقَالَ أبو عبيد هو بالميم قال وَبَعْضُ النَّاسِ يَرْوِيهِ بِالنُّونِ وَلَا أَدْرِي مَا هَذَا وقَالَ آخَرُونَ النُّونُ وَالْمِيمُ صَحِيحَتَانِ فَأَيُّهُمَا مَعْنَاهُ أُرْوَى حَتَّى أَدَعَ الشَّرَابَ مِنَ شِدَّةِ الرِّيِّ وَمِنْهُ قَمَحَ الْبَعِيرُ يَقْمَحُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ الرِّيِّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَلَا أَرَاهَا قَالَتْ هَذِهِ إِلَّا لِعِزَّةِ الْمَاءِ عِنْدَهُمْ وَمَنْ قَالَهُ بِالنُّونِ فَمَعْنَاهُ أَقْطَعُ الْمَشْرَبَ وَأَتَمَهَّلُ فِيهِ وَقِيلَ هُوَ الشُّرْبُ بَعْدَ الرِّيِّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَنَحَتِ الْإِبِلُ إِذَا تَكَارَهَتْ وَتَقَنَّحْتُهُ أَيْضًا قَوْلُهَا (عُكُومُهَا رَدَاحٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ الْعُكُومُ الْأَعْدَالُ وَالْأَوْعِيَةُ الَّتِي فِيهَا الطَّعَامُ وَالْأَمْتِعَةُ وَاحِدُهَا عِكْمٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَرَدَاحٌ أَيْ عِظَامٌ كَبِيرَةٌ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ رَدَاحٌ إِذَا كَانَتْ عَظِيمَةَ الْأَكْفَالِ فَإِنْ قِيلَ رَدَاحٌ مُفْرَدَةٌ فَكَيْفَ وَصَفَ بِهَا الْعُكُومَ وَالْجَمْعُ لَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِالْمُفْرَدِ قَالَ الْقَاضِي جَوَابُهُ أَنَّهُ أَرَادَ كُلَّ عِكْمٍ مِنْهَا رَدَاحٌ أَوْ يَكُونُ رَدَاحٌ هُنَا مَصْدَرًا كَالذَّهَابِ قَوْلُهَا (وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ وَاسِعٌ وَالْفَسِيحُ مِثْلُهُ هَكَذَا فَسَّرَهُ الْجُمْهُورُ قَالَ الْقَاضِي وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ كَثْرَةَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ قَوْلُهَا (مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ(15/218)
شَطْبَةٍ) الْمَسَلُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَشَطْبَةٌ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ هَاءٍ وَهِيَ مَا شُطِبَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ أَيْ شُقَّ وَهِيَ السَّعَفَةُ لِأَنَّ الْجَرِيدَةَ تُشَقَّقُ مِنْهَا قُضْبَانٌ رِقَاقٌ مُرَادُهَا أَنَّهُ مُهَفْهَفٌ خَفِيفُ اللَّحْمِ كَالشَّطْبَةِ وَهُوَ مِمَّا يُمْدَحُ بِهِ الرَّجُلُ وَالْمَسَلُّ هُنَا مَصْدَرٌ بمعنى المسلول أي ماسل من قشره وقال بن الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ أَنَّهُ كَالسَّيْفِ سُلَّ مِنْ غِمْدِهِ قَوْلُهَا (وَتُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ) الذِّرَاعُ مُؤَنَّثَةٌ وَقَدْ تُذَكَّرُ وَالْجَفْرَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهِيَ الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ وَقِيلَ مِنَ الضَّأْنِ وَهِيَ مَا بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَفُصِلَتْ عَنْ أُمِّهَا وَالذَّكَرُ جَفْرٌ لِأَنَّهُ جَفَرَ جَنْبَاهُ أَيْ عَظُمَا قَالَ الْقَاضِي قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ الْجَفْرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ وَقَالَ بن الانباري وبن دُرَيْدٍ مِنْ أَوْلَادِ الضَّأْنِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَلِيلُ الْأَكْلِ وَالْعَرَبُ تَمْدَحُ بِهِ قَوْلُهَا طَوْعُ أَبِيهَا وَطَوْعُ أُمِّهَا أَيْ مُطِيعَةٌ لَهُمَا مُنْقَادَةٌ لِأَمْرِهِمَا قولها وملء كسائها أي ممتلئة الجسم سمينته وَقَالَتْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى صِفْرُ رِدَائِهَا بِكَسْرِ الصَّادِ وَالصِّفْرُ الْخَالِي قَالَ الْهَرَوِيُّ أَيْ ضَامِرَةُ الْبَطْنِ وَالرِّدَاءُ يَنْتَهِي إِلَى الْبَطْنِ وَقَالَ غَيْرُهُ مَعْنَاهُ أَنَّهَا خَفِيفَةٌ أَعْلَى الْبَدَنِ وَهُوَ مَوْضِعُ الرِّدَاءِ مُمْتَلِئَةٌ أَسْفَلَهُ وَهُوَ مَوْضِعُ الْكِسَاءِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةِ وَمِلْءُ إِزَارِهَا قال القاضي والأولى أن المراد امتلأ مَنْكِبَيْهَا وَقِيَامُ نَهْدَيْهَا بِحَيْثُ يَرْفَعَانِ الرِّدَاءَ عَنْ أَعْلَى جَسَدِهَا فَلَا يَمَسُّهُ فَيَصِيرُ خَالِيًا بِخِلَافِ أَسْفَلِهَا قَوْلُهَا (وَغَيْظُ جَارَتِهَا) قَالُوا الْمُرَادُ بِجَارَتِهَا ضَرَّتُهَا يَغِيظُهَا مَا تَرَى مِنْ حَسَنِهَا وَجَمَالِهَا وَعِفَّتِهَا وَأَدَبِهَا وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَعَقْرُ جَارَتِهَا هَكَذَا هُوَ فِي النَّسْخِ عَقْرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ قَالَ الْقَاضِي كَذَا ضَبَطْنَاهُ عَنْ جَمِيعِ شُيُوخِنَا قَالَ وَضَبَطَهُ الْجَيَّانِيُّ عَبْرُ بِضَمِّ العين واسكان الباء الموحدة وكذا ذكر هـ بن الْأَعْرَابِيِّ وَكَأَنَّ الْجَيَّانِيُّ أَصْلَحَهُ مِنْ كِتَابِ الْأَنْبَارِيِّ وَفَسَّرَهُ الْأَنْبَارِيُّ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنَ الِاعْتِبَارِ أَيْ تَرَى مِنْ حُسْنِهَا وَعِفَّتِهَا وَعَقْلِهَا مَا تُعْتَبَرُ بِهِ وَالثَّانِي مِنَ الْعَبْرَةِ وَهِيَ الْبُكَاءُ أَيْ تَرَى مِنْ ذَلِكَ مَا يُبْكِيهَا لِغَيْظِهَا وَحَسَدِهَا وَمَنْ رَوَاهُ بِالْقَافِ فَمَعْنَاهُ تَغَيُّظُهَا فَتَصِيرُ كمعقور وقيل تدهشها من قولهم عقر ذا دَهَشَ قَوْلُهَا (لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا) هُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بَيْنَ الْمُثَنَّاةِ وَالْمُثَلَّثَةِ أَيْ لَا تشيعه(15/219)
وَتُظْهِرُهُ بَلْ تَكْتُمُ سِرَّنَا وَحَدِيثَنَا كُلَّهُ وَرُوِيَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ تَنُثُّ وَهُوَ بِالنُّونِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْ لَا تُظْهِرُهُ قَوْلُهَا (وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا) الْمِيرَةُ الطَّعَامُ الْمَجْلُوبُ وَمَعْنَاهُ لَا تُفْسِدُهُ وَلَا تُفَرِّقُهُ وَلَا تَذْهَبُ بِهِ وَمَعْنَاهُ وَصْفُهَا بِالْأَمَانَةِ قَوْلُهَا (وَلَا تَمْلَأُ بيتنا تعشيشا) هو بالعين المهملة أَيْ لَا تَتْرُكُ الْكُنَاسَةَ وَالْقُمَامَةَ فِيهِ مُفَرَّقَةً كَعُشِّ الطَّائِرِ بَلْ هِيَ مُصْلِحَةٌ لِلْبَيْتِ مُعْتَنِيَةٌ بِتَنْظِيفِهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَخُونُنَا فِي طَعَامِنَا فِي زَوَايَا الْبَيْتِ كَأَعْشَاشِ الطَّيْرِ وَرُوِيَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ تَغْشِيشًا بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْغِشِّ قِيلَ فِي الطَّعَامِ وَقِيلَ مِنَ النَّمِيمَةِ أَيْ لَا تَتَحَدَّثُ بِنَمِيمَةٍ قَوْلُهَا (وَالْأَوْطَابُ تُمْخَضُ) هُوَ جَمْعُ وَطْبٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَهُوَ جَمْعٌ قَلِيلُ النَّظِيرِ وَفِي رِوَايَةٍ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ وَالْوِطَابُ وَهُوَ الْجَمْعُ الْأَصْلِيُّ وَهِيَ سَقِيَّةُ اللَّبَنِ الَّتِي يُمْخَضُ فِيهَا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ جَمْعُ وَطْبَةٍ قَوْلُهَا (يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَاهُ أَنَّهَا ذَاتُ كِفْلٍ عَظِيمٍ فَإِذَا اسْتَلْقَتْ عَلَى قَفَاهَا! نَتَأَ الْكِفْلُ بِهَا مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى تَصِيرَ تَحْتَهَا فَجْوَةً يَجْرِي فِيهَا الرُّمَّانُ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِالرُّمَّانَتَيْنِ هُنَا ثَدْيَاهَا وَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهَا نَهْدَيْنِ حَسَنَيْنِ صَغِيرَيْنِ كَالرُّمَّانَتَيْنِ قَالَ الْقَاضِي هَذَا أَرْجَحُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ مِنْ تَحْتِ صَدْرِهَا وَمَنْ تَحْتِ دِرْعِهَا وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِرَمْيِ الصِّبْيَانِ الرُّمَّانَ تَحْتَ ظُهُورِ أُمَّهَاتِهِمْ وَلَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَيْضًا بِاسْتِلْقَاءِ النِّسَاءِ كَذَلِكَ حَتَّى يُشَاهِدَهُ مِنْهُنَّ الرِّجَالُ قَوْلُهَا (فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سِرِّيًّا رَكِبَ شَرِيًّا) أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحَكَى الْقَاضِي عن بن السِّكِّيتِ أَنَّهُ حَكَى فِيهِ الْمُهْمَلَةَ وَالْمُعْجَمَةَ وَأَمَّا الثَّانِي فَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بِلَا خِلَافٍ فَالْأَوَّلُ مَعْنَاهُ سَيِّدًا شَرِيفًا وَقِيلَ سَخِيًّا وَالثَّانِي هُوَ الْفَرَسُ الَّذِي يَسْتَشْرِي فِي سَيْرِهِ أَيْ يُلِحُّ وَيَمْضِي بلا فتور ولا انكسار وقال بن السِّكِّيتِ هُوَ الْفَرَسُ الْفَائِقُ الْخِيَارُ قَوْلُهَا (وَأَخَذَ خَطِّيًّا) هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَكْثَرُ غَيْرَهُ وَمِمَّنْ حَكَى الْكَسْرَ أَبُو الْفَتْحِ الْهَمْدَانِيُّ فِي كِتَابِ الِاشْتِقَاقِ قَالُوا وَالْخَطِّيُّ الرُّمْحُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْخَطِّ قَرْيَةٍ مِنْ سَيْفِ الْبَحْرِ أَيْ سَاحِلِهِ عِنْدَ عَمَّانَ وَالْبَحْرَيْنِ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ قِيلَ لَهَا(15/220)
الْخَطُّ لِأَنَّهَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَالسَّاحِلُ يُقَالُ له الْخَطُّ لِأَنَّهُ فَاصِلٌ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَسُمِّيَتِ الرِّمَاحُ خَطِّيَّةٌ لِأَنَّهَا تُحْمَلُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَتُثَقَّفُ فِيهِ قَالَ الْقَاضِي وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْخَطَّ مَنْبَتُ الرِّمَاحِ قَوْلُهَا (وَأَرَاحَ عَلَيَّ نِعَمًا ثَرِيًّا) أَيْ أَتَى بِهَا إِلَى مُرَاحِهَا بِضَمِّ الْمِيمِ هُوَ مَوْضِعُ مَبِيتِهَا وَالنَّعَمُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بَعْضُهَا وَهِيَ الْإِبِلُ وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ النَّعَمَ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِبِلِ وَالثَّرِيُّ بِالْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْكَثِيرُ مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُ الثَّرْوَةُ فِي الْمَالِ وَهِيَ كَثْرَتُهُ قَوْلُهَا (وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا) فَقَوْلُهَا مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ أَيْ مِمَّا يَرُوحُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْعَبِيدِ وَقَوْلُهَا زَوْجًا أَيِ اثْنَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ صِنْفًا وَالزَّوْجُ يَقَعُ عَلَى الصِّنْفِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وكنتم أزواجا ثلاثة قَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ ذَابِحَةٍ زَوْجًا هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ ذَابِحَةٍ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ مِنْ كُلِّ مَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهَا وَهِيَ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ قَوْلُهُ (مِيرِي أَهْلَكِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْمِيرَةِ أَيْ أَعْطِيهِمْ وَافْضُلِي عَلَيْهِمْ وَصِلِيهِمْ قَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الثانية ولا تنقث ميرتنا تنقيثا فقولهاتنقث بِفَتْحِ التَّاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَضَمِّ الْقَافِ وَجَاءَ قولها تنقيثا مصدرا عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ جَائِزٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَمُرَادُهُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَقَعَتْ بِالتَّخْفِيفِ كَمَا ضَبَطْنَاهُ وَفِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ تُنَقِّثُ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هُوَ تَطْيِيبٌ لِنَفْسِهَا وَإِيضَاحٌ لِحُسْنِ عِشْرَتِهِ إِيَّاهَا وَمَعْنَاهُ أَنَا لَكَ كَأَبِي زَرْعٍ وَكَانَ زَائِدَةٌ أَوْ لِلدَّوَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وكان الله غفورا رحيما أَيْ كَانَ فِيمَا مَضَى وَهُوَ بَاقٍ كَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِيثِ أُمِّ زرع هذا فوائد منهااستحباب حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ لِلْأَهْلِ وَجَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ الخالية وأن المشبه بالشئ لا يلزم كونه مثله في كل شئ وَمِنْهَا أَنَّ كِنَايَاتُ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ إِلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ وَمِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِ أَبِي زَرْعٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أُمَّ زَرْعٍ(15/221)
كَمَا سَبَقَ وَلَمْ يَقَعْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَاقٌ بِتَشْبِيهِهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ قَالَ الْمَازِرِيُّ قَالَ بَعْضُهُمْ وَفِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ ذَكَرَ بَعْضُهُنَّ أَزْوَاجَهُنَّ بِمَا يَكْرَهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غِيبَةً لِكَوْنِهِمْ لَا يُعْرَفُونَ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ أَسْمَائِهِمْ وَإِنَّمَا الْغِيبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَنْ يَذْكُرَ إِنْسَانًا بِعَيْنِهِ أَوْ جَمَاعَةً بِأَعْيَانِهِمْ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا الِاعْتِذَارِ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ امْرَأَةً تَغْتَابُ زَوْجَهَا وَهُوَ مَجْهُولٌ فَأَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا هَذِهِ الْقَضِيَّةُ فَإِنَّمَا حَكَتْهَا عَائِشَةُ عَنْ نِسْوَةٍ مَجْهُولَاتٍ غَائِبَاتٍ لَكِنْ لَوْ وصفت اليوم امرأة زوجها بما يكرهه وهومعروف عِنْدَ السَّامِعِينَ كَانَ غِيبَةً مُحَرَّمَةً فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا يُعْرَفُ بَعْدَ الْبَحْثِ فَهَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا وَيَجْعَلُهُ كَمَنْ قَالَ فِي الْعَالِمِ مَنْ يَشْرَبُ أَوْ يَسْرِقُ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَفِيمَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ احْتِمَالٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ صَدَقَ الْقَائِلُ الْمَذْكُورُ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَ السَّامِعِ وَمَنْ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ غِيبَةً لِأَنَّهُ لَا يَتَأَذَّى إِلَّا بِتَعْيِينِهِ قَالَ وَقَدْ قَالَ ابراهيم لا يكون غيبة مالم يُسَمِّ صَاحِبَهَا بِاسْمِهِ أَوْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ بِمَا يَفْهَمُ بِهِ عَنْهُ وَهَؤُلَاءِ النِّسْوَةُ مَجْهُولَاتُ الْأَعْيَانِ وَالْأَزْوَاجِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُنَّ إِسْلَامٌ فَيُحْكَمَ فِيهِنَّ بِالْغِيبَةِ لَوْ تَعَيَّنَ فَكَيْفَ مَعَ الْجَهَالَةِ وَاللَّهُ أعلم(15/222)
(باب من فضائل فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2449] (إِنَّ بَنِي هَاشِمِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَلَا آذَنُ لَهُمْ ثُمَّ لَا آذَنُ لَهُمْ ثُمَّ لَا آذَنُ لهم إلا أن يحب بن أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ فَإِنَّمَا ابْنَتِي بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنِّي لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن وَاَللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ مَكَانًا وَاحِدًا أَبَدًا وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِنَّ فَاطِمَةَ مُضْغَةٌ مِنِّي وَأَنَا أَكْرَهُ أن يفتنوها أما البضعة فبفتح الباء لايجوز غَيْرُهُ وَهِيَ قِطْعَةُ اللَّحْمِ وَكَذَلِكَ الْمُضْغَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَأَمَّا يَرِيبُنِي فَبِفَتْحِ الْيَاءِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الحربي الريب ما رابك من شئ خِفْتَ عُقْبَاهُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ رَابَ وَأَرَابَ بِمَعْنًى وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ رَابَنِي الْأَمْرُ تَيَقَّنْتُ مِنْهُ الرِّيبَةَ وَأَرَابَنِي شَكَّكَنِي وَأَوْهَمَنِي وَحُكِيَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَيْضًا وَغَيْرِهِ كَقَوْلِ الْفَرَّاءِ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ(16/2)
تَحْرِيمُ إِيذَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ حَالٍ وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ وَإِنْ تَوَلَّدَ ذَلِكَ الْإِيذَاءُ مِمَّا كَانَ أَصْلُهُ مُبَاحًا وَهُوَ حَيٌّ وَهَذَا بِخِلَافِ غَيْرِهِ قَالُوا وَقَدْ أَعْلَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبَاحَةِ نِكَاحِ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ لِعَلِيٍّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَكِنْ نَهَى عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِعِلَّتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَذَى فَاطِمَةَ فَيَتَأَذَّى حِينَئِذٍ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَهْلِكُ مَنْ أَذَاهُ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى عَلِيٍّ وَعَلَى فَاطِمَةَ وَالثَّانِيَةُ خَوْفُ الْفِتْنَةِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ الْغَيْرَةِ وَقِيلَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ النَّهْيَ عَنْ جَمْعِهِمَا بَلْ مَعْنَاهُ أَعْلَمُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنَّهُمَا لَا تَجْتَمِعَانِ كَمَا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَاَللَّهِ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرَّبِيعِ وَيُحْتَمَلُ أن المراد تحريم جمعهما ويكون مَعْنَى لَا أُحَرِّمُ حَلَالًا أَيْ لَا أَقُولُ شَيْئًا يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ فَإِذَا أَحَلَّ شَيْئًا لَمْ أُحَرِّمْهُ وَإِذَا حَرَّمَهُ لَمْ أُحَلِّلْهُ وَلَمْ أَسْكُتْ عَنْ تَحْرِيمِهِ لِأَنَّ سُكُوتِي تَحْلِيلٌ لَهُ وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ الْجَمْعُ بَيْنَ بنت نبي(16/3)
اللَّهِ وَبِنْتِ عَدُوِّ اللَّهِ قَوْلُهُ (ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ) هُوَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ(16/4)
زَوْجُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصِّهْرُ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَأَقَارِبِهِ وَأَقَارِبِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ من صهرت الشئ وَأَصْهَرْتُهُ إِذَا قَرَّبْتُهُ وَالْمُصَاهَرَةُ مُقَارَبَةٌ بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَالْمُتَبَاعِدِينَ قَوْلُهَا
[2450] (فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ فَضَحِكْتُ) هَذِهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ مُعْجِزَتَانِ فَأَخْبَرَ بِبَقَائِهَا بَعْدَهُ وَبِأَنَّهَا أَوَّلُ أَهْلِهِ لَحَاقًا بِهِ وَوَقَعَ كَذَلِكَ(16/5)
وَضَحِكَتْ سُرُورًا بِسُرْعَةِ لَحَاقِهَا وَفِيهِ إِيثَارُهُمُ الْآخِرَةَ وَسُرُورُهُمْ بِالِانْتِقَالِ إِلَيْهَا وَالْخَلَاصِ مِنَ الدُّنْيَا قَوْلُهَا (فَأَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَذِكْرُ الْمَرَّتَيْنِ شَكٌّ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا كَمَا فِي بَاقِي الروايات قوله صلى الله عليه وسلم (لاأرى الْأَجَلَ إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ فَاتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي فَإِنَّهُ نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ) أُرَى(16/6)
بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّ وَالسَّلَفُ الْمُتَقَدِّمُ وَمَعْنَاهُ أَنَا مُتَقَدِّمٌ قُدَّامَكِ فَتَرِدِينَ عَلَيَّ وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَمَا تَرْضَيْ هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ ترضي وهو لغة والمشهور ترضين
(باب من فضائل أم سلمة رضي الله عنها)
قَوْلُهُ فِي السُّوقِ
[2451] (إِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْمَعْرَكَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَوْضِعُ الْقِتَالِ لِمُعَارَكَةِ الْأَبْطَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِيهَا وَمُصَارَعَتِهِمْ فَشَبَّهَ السُّوقَ وَفِعْلَ الشَّيْطَانِ بِأَهْلِهَا وَنَيْلَهُ مِنْهُمْ بِالْمَعْرَكَةِ لِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ كَالْغِشِّ وَالْخِدَاعِ وَالْأَيْمَانِ الْخَائِنَةِ وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالنَّجْشِ وَالْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَالشِّرَاءِ عَلَى شِرَائِهِ وَالسَّوْمِ عَلَى سَوْمِهِ وَبَخْسِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ قَوْلُهُ (وَبِهَا تُنْصَبُ رَايَتُهُ) إِشَارَةٌ إِلَى ثُبُوتِهِ هُنَاكَ وَاجْتِمَاعِ أَعْوَانِهِ إِلَيْهِ لِلتَّحْرِيشِ بَيْنَ النَّاسِ وَحَمْلِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا فَهِيَ مَوْضِعُهُ وَمَوْضِعُ أَعْوَانِهِ وَالسُّوقُ تُؤَنَّثُ وَتُذَكَّرُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقِيَامِ النَّاسِ فِيهَا عَلَى(16/7)
سُوقِهِمْ قَوْلُهُ (أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رَأَتْ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِأُمِّ سَلَمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَفِيهِ جَوَازُ رُؤْيَةِ الْبَشَرِ الْمَلَائِكَةَ وَوُقُوعِ ذَلِكَ وَيَرَوْنَهُمْ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى رُؤْيَتِهِمْ عَلَى صُوَرِهِمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى جِبْرِيلَ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ غَالِبًا وَرَآهُ مَرَّتَيْنِ عَلَى صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ قَوْلُهَا (يُخْبِرُ خَبَرَنَا) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَالنُّسَخِ وَعَنْ بَعْضِهِمْ يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ قَالَ وَهُوَ الصَّوَابُ وَقَدْ وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ عَلَى الصَّوَابِ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ زَيْنَبَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا)
قَوْلُهَا
[2452] (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا فَكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ أَيَّتَهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا قَالَتْ فَكَانَتْ أَطْوَلَنَا يَدًا زَيْنَبُ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَصَدَّقُ) مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُنَّ ظَنَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِطُولِ الْيَدِ طُولُ الْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ وَهِيَ الْجَارِحَةُ فَكُنَّ يَذْرَعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِقَصَبَةٍ فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ جَارِحَةً وَكَانَتْ زَيْنَبُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا فِي الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ فَمَاتَتْ زَيْنَبُ أَوَّلُهُنَّ فَعَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ طُولُ الْيَدِ فِي الصَّدَقَةِ وَالْجُودِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ فُلَانٌ طَوِيلُ(16/8)
الْيَدِ وَطَوِيلُ الْبَاعِ إِذَا كَانَ سَمْحًا جَوَادًا وَضِدُّهُ قَصِيرُ الْيَدِ وَالْبَاعِ وَجَدُّ الْأَنَامِلِ وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ بَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِزَيْنَبَ وَوَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظٍ مُتَعَقِّدٍ يُوهِمُ أَنَّ أَسْرَعَهُنَّ لَحَاقًا سَوْدَةُ وَهَذَا الْوَهَمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ أُمِّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا)
قَوْلُهُ
[2453] (انْطَلَقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ فَنَاوَلَتْهُ إِنَاءً فِيهِ شَرَابٌ فَلَا أَدْرِي أَصَادَفَتْهُ صَائِمًا أَوْ لَمْ يُرِدْهُ فَجَعَلَتْ تَصْخَبُ عَلَيْهِ وَتَذْمُرُ عَلَيْهِ) قَوْلُهُ تَصْخَبُ أَيْ تَصِيحُ وَتَرْفَعُ صَوْتَهَا إِنْكَارًا لِإِمْسَاكِهِ عَنْ شُرْبِ الشَّرَابِ وَقَوْلُهُ تَذْمُرُ هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَإِسْكَانِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ وَيُقَالُ تَذَمَّرُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالذَّالِ وَالْمِيمِ أَيْ تَتَذَمَّرُ وَتَتَكَلَّمُ بِالْغَضَبِ يُقَالُ ذَمَرَ يَذْمُرُ كَقَتَلَ يَقْتُلُ إِذَا غَضِبَ وَإِذَا تَكَلَّمَ بِالْغَضَبِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ الشَّرَابَ عَلَيْهَا إِمَّا لِصِيَامٍ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ فَغَضِبَتْ وَتَكَلَّمَتْ بِالْإِنْكَارِ وَالْغَضَبِ وَكَانَتْ تَدِلُّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهَا حَضَنَتْهُ وَرَبَّتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أُمُّ أَيْمَنَ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي وَفِيهِ أَنَّ لِلضَّيْفِ الِامْتِنَاعَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي يُحْضِرُهُ الْمُضِيفُ إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ صَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ قَوْلُهُ
[2454] (قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/9)
يَزُورُهَا) فِيهِ زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ وَفَضْلُهَا وَزِيَارَةُ الصَّالِحِ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ وَزِيَارَةُ الْإِنْسَانِ لِمَنْ كَانَ صَدِيقُهُ يَزُورُهُ وَلِأَهْلِ وُدِّ صَدِيقِهِ وَزِيَارَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ لِلْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ وَسَمَاعِ كَلَامِهَا وَاسْتِصْحَابُ الْعَالِمِ وَالْكَبِيرِ صَاحِبًا لَهُ فِي الزِّيَارَةِ وَالْعِيَادَةِ وَنَحْوِهِمَا وَالْبُكَاءُ حُزْنًا عَلَى فِرَاقِ الصَّالِحِينَ وَالْأَصْحَابِ وَإِنْ كَانُوا قَدِ انْتَقَلُوا إِلَى أَفْضَلَ مِمَّا كانوا عليه والله اعلم
(باب فَضَائِلِ أُمِّ سُلَيْمٍ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَبِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)
قَوْلُهُ
[2455] (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِ إلا على أُمِّ سُلَيْمٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إِنِّي أَرْحَمُهَا قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي) قَدْ قَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ عِنْدَ ذِكْرِ أُمِّ حَرَامٍ أُخْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهُمَا كَانَتَا خَالَتَيْنِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْرَمَيْنِ إِمَّا مِنَ الرَّضَاعِ وَإِمَّا مِنَ النَّسَبِ فَتَحِلُّ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهِمَا وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا خَاصَّةً لَا يَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا أَزْوَاجِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ فَفِيهِ جَوَازُ دُخُولِ الْمَحْرَمِ عَلَى مَحْرَمِهِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْعِ دُخُولِ الرَّجُلِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ أَرَادَ امْتِنَاعَ الْأَمَةِ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ فِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالتَّوَاضُعِ وَمُلَاطَفَةِ الضُّعَفَاءِ وَفِيهِ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَقَدْ رَتَّبَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا مَسَائِلَ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَمِثْلُهَ فِي الْقُرْآنِ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ(16/10)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2456] (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْفَةً قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذِهِ الْغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) أَمَّا الْخَشْفَةُ فَبِخَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ شِينٍ سَاكِنَةٍ مُعْجَمَتَيْنِ وَهِيَ حَرَكَةُ الْمَشْيِ وَصَوْتُهُ وَيُقَالُ أَيْضًا بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْغُمَيْصَاءُ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ مَمْدُودَةٌ وَيُقَالُ لَهَا الرُّمَيْصَاءُ أَيْضًا وَيُقَالُ بالسين قال بن عبد البرأم سُلَيْمٍ هِيَ الرُّمَيْصَاءُ وَالْغُمَيْصَاءُ وَالْمَشْهُورُ فِيهِ الْغَيْنُ وَأُخْتُهَا أُمُّ حَرَامٍ الرُّمَيْصَاءُ وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ وَالرَّمْصُ وَالْغَمْصُ قَذًى يَابِسٌ وَغَيْرُ يَابِسٍ يَكُونُ فِي أَطْرَافِ الْعَيْنِ وَهَذَا مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأُمِّ سُلَيْمٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2457] (سَمِعْتُ خَشْخَشَةً أَمَامِي فَإِذَا بِلَالٌ) هِيَ صَوْتُ الْمَشْيِ الْيَابِسِ اذا حك بعضه بعضا قَوْلُهُ
[2144] (فِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ مَعَ زَوْجِهَا أَبِي طَلْحَةَ حِينَ مَاتَ ابْنُهُمَا) هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَضَرْبُهَا لِمِثْلِ الْعَارِيَةِ دَلِيلٌ لِكَمَالِ عِلْمِهَا وَفَضْلِهَا وَعِظَمِ إِيمَانِهَا وَطُمَأْنِينَتِهَا قَالُوا وَهَذَا الْغُلَامُ الَّذِي تُوُفِّيَ هُوَ أبو عمير صاحب النغير وغابر لَيْلَتِكُمَا أَيْ مَاضِيهَا وَقَوْلُهُ لَا يَطْرُقُهَا طُرُوقًا أي لا(16/11)
يُدْخِلُهَا فِي اللَّيْلِ قَوْلُهُ (فَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ) هُوَ الطَّلْقُ وَوَجَعُ الْوِلَادَةِ وَفِيهِ اسْتِجَابَةُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَجَاءَ مِنْ وَلَدِهِ عَشَرَةُ رِجَالٍ عُلَمَاءُ أَخْيَارٌ وَفِيهِ كَرَامَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَبِي طَلْحَةَ وَفَضَائِلُ لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَفِيهِ تَحْنِيكِ الْمَوْلُودِ وَأَنَّهُ يُحْمَلُ إِلَى صَالِحٍ لِيُحَنِّكَهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ فِي يَوْمِ وِلَادَتِهِ وَاسْتِحْبَابُ التَّسْمِيَةِ بِعَبْدِ اللَّهِ وَكَرَاهَةُ الطُّرُوقِ لِلْقَادِمِ من سفر(16/12)
إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَهْلُهُ بِقُدُومِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِيهِ جَوَازُ وَسْمُ الْحَيَوَانِ لِيَتَمَيَّزَ وَلِيُعْرَفَ فَيَرُدَّهَا مَنْ وَجَدَهَا وَفِيهِ تَوَاضُعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووسمه بيده قَوْلُهُ
[2458] (لَا أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كَتَبَ اللَّهُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعْنَاهُ قَدَّرَ اللَّهُ لِي وَفِيهِ فَضِيلَةُ الصَّلَاةِ عَقِبَ الْوُضُوءِ وَأَنَّهَا سُنَّةٌ وَأَنَّهَا تُبَاحُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَاسْتِوَائِهَا وَغُرُوبِهَا وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ لِأَنَّهَا ذَاتُ سَبَبٍ وَهَذَا مذهبنا(16/13)
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وأمه رضي الله عَنْهُمَا)
قَوْلُهُ
[2459] (لَمَّا نَزَلَتْ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمنوا وعملوا الصالحات جناح قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل لي أنت منهم) معناه أن بن مَسْعُودٍ مِنْهُمْ قَوْلُهُ
[2460] (فَكُنَّا حِينًا وَمَا نَرَى بن مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِهِمْ وَلُزُومِهِمْ لَهُ) أَمَّا قَوْلُهُ كُنَّا فَمَعْنَاهُ مَكَثْنَا وَقَوْلُهُ حِينًا أَيْ زَمَانًا قَالَ الشَّافِعِيُّ وأصحابه ومحققوا أهل وَغَيْرُهُمْ الْحِينُ يَقَعُ عَلَى الْقِطْعَةِ مِنَ الدَّهْرِ طالت أم قصرت وقوله مَا نُرَى بِضَمِّ النُّونِ أَيْ مَا نَظُنُّ وَقَوْلُهُ كَثْرَةِ بِفَتْحِ الْكَافِ عَلَى الْفَصِيحِ الْمَشْهُورِ وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ كَسْرَهَا وَقَوْلُهُ دُخُولُهُمْ وَلُزُومُهُمْ جَمَعَهُمَا وَهُمَا اثْنَانِ هُوَ وَأُمُّهُ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ يَجُوزُ جَمْعُهُمَا(16/14)
بِالِاتِّفَاقِ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَجَمْعُ الِاثْنَيْنِ مَجَازٌ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَقَلُّهُ اثْنَانِ(16/15)
فجمعهما حقيقة قوله
[2462] (عن بن مَسْعُودٍ قَالَ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يوم القيامة ثُمَّ قَالَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ تَأْمُرُونَنِي أَنْ أقرأ إلى آخره) فيه مَحْذُوفٌ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِمَّا جَاءَ فِي غَيْرِ هذه الرواية معناه أن بن مسعود كان مصحفه يخالف مُصْحَفُ الْجُمْهُورِ وَكَانَتْ مَصَاحِفُ أَصْحَابِهِ كَمُصْحَفِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَأَمَرُوهُ بِتَرْكِ مُصْحَفِهِ وَبِمُوَافَقَةِ مُصْحَفِ الجمهور وطلبوا مُصْحَفَهُ أَنْ يَحْرُقُوهُ كَمَا فَعَلُوا بِغَيْرِهِ فَامْتَنَعَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ غُلُّوا مَصَاحِفَكُمْ أَيِ اكْتُمُوهَا وَمَنْ يغلل يأت بما غل يوم القيامة يَعْنِي فَإِذَا غَلَلْتُمُوهَا جِئْتُمْ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَفَى لَكُمْ بِذَلِكَ شَرَفًا ثُمَّ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَمَنْ هُوَ الَّذِي تَأْمُرُونَنِي أَنْ آخُذَ بِقِرَاءَتِهِ وَأَتْرُكَ مُصْحَفِي الَّذِي أَخَذْتُهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ
[2463] (وَلَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ قَالَ شَقِيقٌ فَجَلَسْتُ فِي حَلَقِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا يَعِيبُهُ) الْحَلَقُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَاللَّامِ وَيُقَالُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ قَالَ الْقَاضِي وَقَالَهَا الْحَرْبِيُّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَهُوَ جَمْعُ حَلْقَةٍ بِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ فَتْحَهَا أَيْضًا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فَتْحَهَا ضَعِيفٌ فَعَلَى قَوْلِ الْحَرْبِيِّ هُوَ كَتَمْرٍ وَتَمْرَةٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِالْفَضِيلَةِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِهِ لِلْحَاجَةِ وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ فَإِنَّمَا هُوَ لِمَنْ زَكَّاهَا وَمَدَحَهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ بَلْ لِلْفَخْرِ وَالْإِعْجَابِ وَقَدْ كَثُرَتْ(16/16)
تَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنَ الْأَمَاثِلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَدَفْعِ شَرٍّ عَنْهُ بِذَلِكَ أَوْ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ لِلنَّاسِ أَوْ تَرْغِيبٍ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَمِنَ الْمَصْلَحَةِ قَوْلُ يُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إني حفيظ عليم وَمِنْ دَفْعِ الشَّرِّ قَوْلُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَقْتِ حِصَارِهِ أَنَّهُ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَحَفَرَ بِئْرَ رُومَةَ وَمِنَ التَّرْغِيبِ قَوْلُ بن مَسْعُودٍ هَذَا وَقَوْلُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي وَقَوْلُ غَيْرِهِ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ وَأَشْبَاهُهُ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الرِّحْلَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالذَّهَابِ إِلَى الْفُضَلَاءِ حَيْثُ كَانُوا وَفِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُنْكِرُوا قَوْلَ بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَعْلَمُهُمْ وَالْمُرَادُ أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ يَكُونُ وَاحِدٌ أَعْلَمُ مِنْ آخَرَ بِبَابٍ مِنَ الْعِلْمِ أَوْ بِنَوْعٍ وَالْآخَرُ أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَقَدْ يَكُونُ وَاحِدٌ أَعْلَمُ مِنْ آخَرَ وَذَاكَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ بِزِيَادَةِ تَقْوَاهُ وَخَشْيَتِهِ وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَطَهَارَةِ قَلْبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةَ كل منهم أفضل من بن مَسْعُودٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2464] (خُذُوا القرآن من أربعة وذكر منهم بن مَسْعُودٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ سَبَبُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ ضَبْطًا لِأَلْفَاظِهِ وَأَتْقَنُ لِأَدَائِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَفْقَهَ فِي مَعَانِيهِ مِنْهُمْ أَوْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ تَفَرَّغُوا لِأَخْذِهِ مِنْهُ(16/17)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشَافَهَةً وَغَيْرُهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ أَوْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ تَفَرَّغُوا لِأَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُمْ أَوْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْإِعْلَامَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقَدُّمِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَتَمَكُّنِهِمْ وَأَنَّهُمْ أَقْعَدُ من غيرهم في ذلك فليؤخذ عنهم(16/18)
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ أبي بن كعب وجماعة من الأنصار)
رضي الله عَنْهُمْ قَوْلُهُ
[2465] (جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبِيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ) قَالَ الْمَازِرِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فِي تَوَاتُرِ الْقُرْآنِ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ غَيْرَ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَجْمَعْهُ فَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهُ الَّذِينَ عَلِمَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُهُمْ فَلَمْ يَنْفِهِمْ وَلَوْ نَفَاهُمْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ عِلْمِهِ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ رَوَى غَيْرُ مُسْلِمٍ حِفْظَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ مِنْهُمُ الْمَازِرِيُّ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ مِمَّنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَكَانَتِ الْيَمَامَةُ قَرِيبًا مِنْ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ جَامِعِيهِ يَوْمئِذٍ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ مِمَّنْ حَضَرَهَا وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا وَبَقِيَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِمَكَّةَ أَوْ غَيْرِهِمَا وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَنَحْوُهُمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ يَبْعُدُ كُلُّ الْبُعْدِ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوهُ مَعَ كَثْرَةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَكَيْفَ نَظُنُّ هَذَا بِهِمْ وَنَحْنُ نَرَى أَهْلَ عَصْرِنَا حَفِظَهُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ أُلُوفٌ مَعَ بُعْدِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَحْكَامٌ مُقَرَّرَةٌ يَعْتَمِدُونَهَا فِي سَفَرِهِمْ وَحَضَرِهِمْ إِلَّا الْقُرْآنَ وَمَا سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ نَظُنُّ بِهِمْ إِهْمَالِهِ فَكُلُّ هَذَا وَشِبْهُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدٌ يَجْمَعُ الْقُرْآنَ إِلَّا الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورُونَ الْجَوَابُ(16/19)
الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْهُ إِلَّا الْأَرْبَعَةُ لَمْ يَقْدَحْ فِي تَوَاتُرِهِ فَإِنَّ أَجْزَاءَهُ حَفِظَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ يَحْصُلُ التَّوَاتُرُ بِبَعْضِهِمْ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّوَاتُرِ أَنْ يَنْقُلَ جَمِيعُهُمْ جَمِيعَهُ بَلْ إِذَا نَقَلَ كُلَّ جُزْءٍ عَدَدُ التَّوَاتُرِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ مُتَوَاتِرَةً بِلَا شَكٍّ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا مُسْلِمٌ وَلَا مُلْحِدٌ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ قَوْلُهُ (قُلْتُ لِأَنَسٍ مَنْ أَبُو زَيْدٍ قَالَ أَحَدُ عُمُومَتِي) أبوزيد هَذَا هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ النُّعْمَانَ الْأَوْسِيُّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بَدْرِيٌّ يعرف بسعد القارىء اسْتُشْهِدَ بِالْقَادِسِيَّةِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال بن عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ فَقَالُوا هُوَ قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ الْخَزْرَجِيُّ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ بَدْرِيٌّ قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ جَيْشِ أَبِي عُبَيْدٍ بِالْعِرَاقِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[799] (إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال وَسَمَّانِي قَالَ نَعَمْ قَالَ فَبَكَى) وَفِي رِوَايَةٍ فجعل(16/20)
يَبْكِي أَمَّا بُكَاؤُهُ فَبُكَاءُ سُرُورٍ وَاسْتِصْغَارٍ لِنَفْسِهِ عَنْ تَأْهِيلِهِ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَإِعْطَائِهِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَالنِّعْمَةُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا كَوْنُهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَلِهَذَا قَالَ وَسَمَّانِي مَعْنَاهُ نَصَّ عَلَيَّ بِعَيْنِي أَوْ قَالَ اقْرَأْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ قَالَ بَلْ سَمَّاكَ فَتَزَايَدَتِ النِّعْمَةُ وَالثَّانِي قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَقِيلَ إِنَّمَا بَكَى خَوْفًا مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَأَمَّا تَخْصِيصُ هَذِهِ السُّورَةِ بِالْقِرَاءَةِ فَلِأَنَّهَا مَعَ وَجَازَتِهَا جَامِعَةٌ لِأُصُولٍ وَقَوَاعِدَ وَمُهِمَّاتٍ عَظِيمَةٍ وَكَانَ الْحَالُ يقتضي الاختصار وأما الحكمة في أمره بالقرا ءة عَلَى أُبَيٍّ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي هِيَ أَنْ يَتَعَلَّمَ أُبَيٌّ أَلْفَاظَهُ وَصِيغَةَ أَدَائِهِ وَمَوَاضِعَ الْوُقُوفِ وَصُنْعَ النَّغَمِ فِي نَغَمَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى أُسْلُوبٍ أَلِفَهُ الشَّرْعُ وَقَدَّرَهُ بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ مِنَ النَّغَمِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي غَيْرِهِ وَلِكُلٍّ ضَرْبٌ مِنَ النَّغَمِ مَخْصُوصٌ فِي النُّفُوسِ فَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ وَقِيلَ قَرَأَ عَلَيْهِ لِيَسُنَّ عَرْضَ الْقُرْآنِ عَلَى حُفَّاظِهِ الْبَارِعِينَ فِيهِ الْمُجِيدِينَ لِأَدَائِهِ وَلِيَسُنَّ التَّوَاضُعَ فِي أَخْذِ الْإِنْسَانِ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي النَّسَبِ وَالدِّينِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَرْتَبَةِ وَالشُّهْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِيُنَبِّهَ النَّاسَ عَلَى فَضِيلَةِ أُبَيٍّ فِي ذَلِكَ وَيَحُثَّهُمْ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ وَكَانَ كَذَلِكَ فَكَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسًا وَإِمَامًا مَقْصُودًا فِي ذَلِكَ مَشْهُورًا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(16/21)
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2466]
[2467] (اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَاهْتِزَازُ الْعَرْشِ تَحَرُّكُهُ فَرَحًا بِقُدُومِ رُوحِ سَعْدٍ وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَرْشِ تَمْيِيزًا حَصَلَ بِهِ هَذَا وَلَا مَانِعَ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ الْعَرْشَ تَحَرَّكَ لِمَوْتِهِ قَالَ وَهَذَا لَا يُنْكَرُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَرْشَ جِسْمٌ مِنَ الْأَجْسَامِ يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ قَالَ لَكِنْ لَا تَحْصُلُ فَضِيلَةُ سَعْدٍ بِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَرَكَتَهُ عَلَامَةً لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى مَوْتِهِ وَقَالَ آخَرُونَ الْمُرَادُ اهْتِزَازُ أَهْلِ الْعَرْشِ وَهُمْ حَمَلَتُهُ وَغَيْرِهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَالْمُرَادُ بِالِاهْتِزَازِ الِاسْتِبْشَارُ وَالْقَبُولُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ فُلَانٌ يَهْتَزُّ لِلْمَكَارِمِ لَا يُرِيدُونَ اضْطِرَابَ جِسْمِهِ وَحَرَكَتَهُ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ ارْتِيَاحَهُ إِلَيْهَا وَإِقْبَالَهُ عَلَيْهَا وَقَالَ الْحَرْبِيُّ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تعظيم شأن وفاته والعرب تنسب الشئ الْمُعَظَّمَ إِلَى أَعْظَمِ الْأَشْيَاءَ فَيَقُولُونَ أَظْلَمَتْ لِمَوْتِ فُلَانٍ الْأَرْضُ وَقَامَتْ لَهُ الْقِيَامَةُ وَقَالَ جَمَاعَةٌ الْمُرَادُ اهْتِزَازُ سَرِيرِ الْجِنَازَةِ وَهُوَ النَّعْشُ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ يَرُدُّهُ صَرِيحُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ اهْتَزَّ لِمَوْتِهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَإِنَّمَا قَالَ هَؤُلَاءِ هَذَا التَّأْوِيلَ لِكَوْنِهِمْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ الَّتِي فِي مُسْلِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2468] (فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَلْمِسُونَهَا) هُوَ بِضَمِّ(16/22)
الْمِيمِ وَكَسْرِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَلْيَنُ) الْمَنَادِيلُ جَمْعُ مِنْدِيلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ فِي الْمُفْرَدِ وَهُوَ هَذَا الَّذِي يُحْمَلُ فِي اليد قال بن الأعرابي وبن فَارِسٍ وَغَيْرُهُمَا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدْلِ وَهُوَ النَّقْلُ لِأَنَّهُ يُنْقَلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ وَقِيلَ مِنَ النَّدْلِ وَهُوَ الْوَسَخُ لِأَنَّهُ يُنْدَلُ بِهِ قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يُقَالُ مِنْهُ تَنَدَّلْتُ بِالْمِنْدِيلِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَيُقَالُ أَيْضًا تَمَنْدَلْتُ قَالَ وَأَنْكَرَ الْكَسَائِيُّ قَالَ وَيُقَالُ أَيْضًا تَمَدَّلْتُ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَظِيمِ مَنْزِلَةِ سَعْدٍ فِي الْجَنَّةِ وَأَنَّ أَدْنَى ثِيَابِهِ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ لِأَنَّ الْمِنْدِيلَ أَدْنَى الثِّيَابِ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْوَسَخِ وَالِامْتِهَانِ فَغَيْرُهُ أَفْضَلُ وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْجَنَّةِ لِسَعْدٍ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةُ حَرِيرٍ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ثَوْبُ حَرِيرٍ
[2469] وَفِي الْأُخْرَى جُبَّةُ قَالَ الْقَاضِي رِوَايَةُ الْجُبَّةِ بِالْجِيمِ والباء لأنه(16/23)
كَانَ ثَوْبًا وَاحِدًا كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ الْحُلَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا ثَوْبَيْنِ يَحُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَصِحُّ الْحُلَّةُ هُنَا وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ الْحُلَّةُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ جَدِيدٌ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِحِلِّهِ مِنْ طَيِّهِ فَيَصِحُّ وَقَدْ جَاءَ فِي كُتُبِ السِّيَرِ أنها كانت قباء وأما قوله أَهْدَى أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ فَسَبَقَ بَيَانُ حَالِ أُكَيْدِرٍ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي إِسْلَامِهِ وَنَسَبِهِ وَأَنَّ دَوْمَةَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَضَمِّهَا وَذَكَرْنَا مَوْضِعَهَا فِي كِتَابِ الْمَغَازِي وَسَبَقَ بَيَانُ أَحْكَامِ الْحَرِيرِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ أَبِي دجانة سماك بن حرشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
هُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ قَوْلُهُ
[2470] (فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ) هُوَ بِحَاءٍ ثُمَّ جِيمٍ هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ بِلَادِنَا وَفِي بَعْضِهَا بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ قَالَ فَهُمَا لُغَتَانِ وَمَعْنَاهُمَا تَأَخَّرُوا وَكَفُّوا قَوْلُهُ (فَفَلَقَ بِهِ هَامَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ شق رؤوسهم
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بن حرام والد جابر رضي الله عنه)
قوله
[2471] (جئ بِأَبِي مُسَجًّى وَقَدْ مُثِلَ بِهِ) الْمُسَجَّى الْمُغَطَّى وَمُثِلَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الثَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ يُقَالُ(16/24)
مثل بالقتيل والحيوان يمثل مثلا كقتل يقتل قَتْلًا إِذَا قَطَعَ أَطْرَافَهُ أَوْ أَنْفَهُ أَوْ أُذُنَهُ أَوْ مَذَاكِيرَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَالِاسْمُ الْمُثْلَةُ فَأَمَّا مَثَّلَ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ وَالرِّوَايَةُ هُنَا بِالتَّخْفِيفِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَمَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ) قَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ لِتَزَاحُمِهِمْ عَلَيْهِ لِبِشَارَتِهِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ وَمَا أُعِدَّ لَهُ من الكرامة عليه ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ إِكْرَامًا لَهُ وَفَرَحًا بِهِ أَوْ أَظَلُّوهُ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ جِسْمُهُ قَوْلُهُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْكِيهِ أَوْ لَا تَبْكِيهِ مازالت الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ) مَعْنَاهُ سَوَاءٌ بَكَتْ عَلَيْهِ أَمْ لَا فَمَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ أَيْ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ هَذَا وَغَيْرُهُ فَلَا يَنْبَغِي الْبُكَاءُ عَلَى مِثْلِ هَذَا(16/25)
وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لَهَا قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا قَالَ القاضي ووقع في نسخة بن مَاهَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ جَابِرٍ بَدَلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ الْجَيَّانِيُّ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو السعود الدمشقي قوله (جئ بِأَبِي مُجَدَّعًا) أَيْ مَقْطُوعَ الْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ قَالَ الْخَلِيلُ الْجَدْعُ قَطْعُ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ جُلَيْبِيبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ قَوْلُهُ
[2472] (كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ) أَيْ فِي سَفَرِ غَزْوٍ وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ) مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ فِي اتِّحَادِ طَرِيقَتِهِمَا وَاتِّفَاقِهِمَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى(16/26)
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه)
قوله
[2473] (فنثا عَلَيْنَا الَّذِي قِيلَ لَهُ) هُوَ بِنُونٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ أَيْ أَشَاعَهُ وَأَفْشَاهُ قَوْلُهُ (فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا) هِيَ بِكَسْرِ الصَّادِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْإِبِلِ وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقِطْعَةِ مِنَ الْغَنَمِ قَوْلُهُ (فَنَافَرَ أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا فَأَتَيَا الكاهن فخير أنيسا فأتانا أنيس بصرمتنا أو مثلها مَعَهَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمُنَافَرَةُ الْمُفَاخَرَةُ وَالْمُحَاكَمَةُ فَيَفْخَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ يَتَحَاكَمَانِ إِلَى رَجُلٍ لِيَحْكُمَ أَيُّهُمَا خَيْرٌ وَأَعَزُّ نَفَرًا وَكَانَتْ هَذِهِ الْمُفَاخَرَةُ فِي الشِّعْرِ أَيُّهُمَا أَشْعَرُ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَقَوْلُهُ (نَافَرَ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا) مَعْنَاهُ تَرَاهَنَ هُوَ وَآخَرُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ وَكَانَ الرَّهْنُ صِرْمَةُ ذَا وَصِرْمَةُ ذَاكَ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَفْضَلُ أَخْذَ الصِّرْمَتَيْنِ فَتَحَاكَمَا إِلَى الْكَاهِنِ فَحَكَمَ بِأَنَّ أُنَيْسًا أَفْضَلُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَخَيَّرَ أُنَيْسًا أَيْ جَعَلَهُ الْخِيَارَ وَالْأَفْضَلَ قَوْلُهُ (حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَلْقَيْتُ كَأَنِّي(16/27)
خِفَاءٌ) هُوَ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ الْكِسَاءُ وَجَمْعُهُ أَخْفِيَةٌ كَكِسَاءٍ وَأَكْسِيَةٍ قال القاضي ورواه بعضهم عن بن مَاهَانَ جُفَاءٌ بِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَهُوَ غُثَاءُ السَّيْلِ وَالصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ (فَرَاثَ عَلَيَّ) أَيْ أَبْطَأَ قَوْلُهُ (أَقْرَاءُ الشِّعْرِ) أَيْ طُرُقُهُ وَأَنْوَاعُهُ وَهِيَ بِالْقَافِ وَالرَّاءِ وَبِالْمَدِّ قَوْلُهُ (أَتَيْتُ مَكَّةَ فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ) يَعْنِي نَظَرْتُ إِلَى أَضْعَفِهِمْ فَسَأَلْتُهُ لِأَنَّ الضَّعِيفَ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ غَالِبًا وفي رواية بن مَاهَانَ فَتَضَيَّفْتُ بِالْيَاءِ وَأَنْكَرَهَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ قَالُوا لَا وَجْهَ لَهُ هُنَا قَوْلُهُ (كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ) يَعْنِي مِنْ كَثْرَةِ الدِّمَاءِ الَّتِي سَالَتْ في بصرتهم والنصب الصم وَالْحَجَرُ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَنْصِبُهُ وَتَذْبَحُ عِنْدَهُ فَيَحْمَرُّ بِالدَّمِ وَهُوَ بِضَمِّ الصَّادِ وَإِسْكَانِهَا وَجَمْعُهُ أَنْصَابٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قَوْلُهُ (حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي) يَعْنِي انْثَنَتْ لِكَثْرَةِ السِّمَنِ وَانْطَوَتْ قَوْلُهُ (وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سَخْفَةَ جُوعٍ) هِيَ بِفَتْحِ السِّينِ(16/28)
الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّهَا وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ رِقَّةُ الْجُوعِ وَضَعْفِهِ وَهُزَالِهِ قَوْلُهُ (فَبَيْنَا أَهْلُ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ إِضْحِيَانٍ إِذْ ضُرِبَ عَلَى أَسْمِخَتِهِمْ فَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ وَامْرَأَتَيْنِ مِنْهُمْ تَدْعُوَانِ إِسَافًا وَنَائِلَةَ) أَمَّا قَوْلُهُ قَمْرَاءَ فَمَعْنَاهُ مُقْمِرَةٌ طَالِعٌ قَمَرُهَا وَالْإِضْحِيَانُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَيْنَهُمَا وَهِيَ الْمُضِيئَةُ وَيُقَالُ ليلة أضحيان وإضحياته وَضَحْيَاءُ وَيَوْمٌ ضَحْيَانُ وَقَوْلُهُ عَلَى أَسْمِخَتِهِمْ هَكَذَا هو في جميع النسخ وهو جمع سماخ وَهُوَ الْخَرْقُ الَّذِي فِي الْأُذُنِ يُفْضِي إِلَى الرَّأْسِ يُقَالُ صِمَاخٌ بِالصَّادِ وَسِمَاخٌ بِالسِّينِ الصَّادِ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَالْمُرَادُ بِأَصْمِخَتِهِمْ هُنَا آذَانُهُمْ أَيْ نَامُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ أَيْ أَنَمْنَاهُمْ قَوْلُهُ (وَامْرَأَتَيْنِ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ بِالْيَاءِ وَفِي بَعْضِهَا وَامْرَأَتَانِ بِالْأَلِفِ وَالْأَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَرَأَيْتُ امْرَأَتَيْنِ قَوْلُهُ (فَمَا تَنَاهَتَا عَنْ قَوْلِهِمَا) أَيْ مَا انتهتا عَنْ قَوْلِهِمَا بَلْ دَامَتَا عَلَيْهِ وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ فَمَا تَنَاهَتَا عَلَى قَوْلِهِمَا وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا وَتَقْدِيرُهُ مَا تَنَاهَتَا مِنَ الدَّوَامِ عَلَى قَوْلِهِمَا قَوْلُهُ (فَقُلْتُ هَنٌ مِثْلُ الْخَشَبَةِ غَيْرَ أَنِّي لَا أَكْنِي) الْهَنُ وَالْهَنَةُ بِتَخْفِيفِ نونهما هو كناية عن كل شئ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ كِنَايَةً عَنِ الْفَرْجِ وَالذَّكَرِ فَقَالَ لَهُمَا وَمَثَّلَ الْخَشَبَةَ بِالْفَرْجِ وَأَرَادَ بِذَلِكَ سَبَّ إِسَافَ وَنَائِلَةَ وَغَيْظَ الْكُفَّارِ بِذَلِكَ قَوْلُهُ (فانطلقتا تولولان وتقولان لو كان ها هنا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا) الْوَلْوَلَةُ الدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالْأَنْفَارُ جمع نفر أو نفير وهوالذي يَنْفِرُ عِنْدَ الِاسْتِغَاثَةِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ أَنْصَارُنَا وَهُوَ بِمَعْنَاهُ وَتَقْدِيرُهُ لَوْ كَانَ هُنَا أَحَدٌ مِنْ أَنْصَارِنَا لَانْتَصَرَ لَنَا قَوْلُهُ (كَلِمَةٌ تَمْلَأُ الْفَمَ) أي عظيمة لا شئ أقبح منها كالشئ(16/29)
الذي يملأ الشئ وَلَا يَسَعُ غَيْرَهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا وَحِكَايَتُهَا كَأَنَّهَا تَسُدُّ فَمَ حَاكِيهَا وَتَمْلَؤُهُ لِاسْتِعْظَامِهَا قَوْلُهُ (فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الاسلام فقال وعليك ورحمة اللَّهِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَعَلَيْكَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ السَّلَامِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا أَنَّهُ إِذَا قَالَ فِي رَدِّ السَّلَامِ وَعَلَيْكَ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ جَوَابًا وَالْمَشْهُورُ مِنْ أَحْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالِ السَّلَفِ رَدُّ السَّلَامِ بِكَمَالِهِ فَيَقُولُ وعليكم السلام ورحمة الله أو ورحمته وبركاته وسبق ايضاحه في بابه قوله (فقد عني صَاحِبُهُ) أَيْ كَفَّنِي يُقَالُ قَدَعَهُ وَأَقْدَعَهُ إِذَا كَفَّهُ وَمَنَعَهُ وَهُوَ بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمْزَمَ (إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ) هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ أَيْ تُشْبِعُ شَارِبَهَا كَمَا يُشْبِعُهُ الطَّعَامُ قَوْلُهُ (غَبَرَتْ مَا غَبَرَتْ) أَيْ بَقِيَتْ مَا بَقِيَتْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/30)
(أنه قد وجهت لي أرض) أي أريت جِهَتَهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا أُرَاهَا إِلَّا يَثْرِبَ) ضَبَطُوهُ أُرَاهَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا وَهَذَا كَانَ قَبْلَ تَسْمِيَةِ الْمَدِينَةِ طَابَةَ وَطَيْبَةَ وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي النَّهْيِ عَنْ تَسْمِيَتِهَا يَثْرِبَ أَوْ أَنَّهُ سَمَّاهَا باسمها المعروف عند الناس حينئذ قوله (مابي رَغْبَةً عَنْ دِينِكُمَا) أَيْ لَا أَكْرَهُهُ بَلْ أَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُهُ (فَاحْتَمَلْنَا) يَعْنِي حَمَلْنَا أَنْفُسَنَا وَمَتَاعَنَا عَلَى إِبِلِنَا وَسِرْنَا قَوْلُهُ (إِيْمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ) قَوْلُهُ إِيْمَاءُ مَمْدُودٌ وَالْهَمْزَةُ فِي أَوَّلِهِ مَكْسُورَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحَكَى الْقَاضِي فَتْحَهَا ايضا وأشار إلى ترجيحه وليس براجح ورحضة بِرَاءٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَاتٍ قَوْلُهُ (شَنِفُوا لَهُ وَتَجَهَّمُوا) هُوَ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ فَاءٍ(16/31)
أَيْ أَبْغَضُوهُ وَيُقَالُ رَجُلٌ شَنِفٌ مِثَالُ حَذِرٍ أَيْ شَانِئٌ مُبْغِضٌ وَقَوْلُهُ تَجَهَّمُوا أَيْ قَابَلُوهُ بِوُجُوهٍ غَلِيظَةٍ كَرِيهَةٍ قَوْلُهُ (فَأَيْنَ كُنْتَ تَوَجَّهَ) هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْجِيمِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ تُوَجِّهُ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَوْلُهُ (فَتَنَافَرَا إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْكُهَّانِ) أَيْ تَحَاكَمَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ (أَتْحِفْنِي بِضِيَافَتِهِ) أَيْ خُصَّنِي بِهَا وَأَكْرِمْنِي بِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ التُّحْفَةُ بِإِسْكَانِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا هُوَ مَا يُكْرَمُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَتْحَفَهُ قَوْلُهُ
[2474] (إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ السَّامِيُّ) هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَنْسُوبٌ إِلَى أُسَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ(16/32)
وَعَرْعَرَةُ بِعَيْنَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ قَوْلُهُ (فَانْطَلَقَ الْآخَرُ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا الْأَخُ بَدَلَ الْآخَرِ وَهُوَ هُوَ فَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَوْلُهُ (مَا شَفَيْتنِي فِيمَا أَرَدْتُ) كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ فِيمَا بِالْفَاءِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِمَّا بِالْمِيمِ وَهُوَ أَجْوَدُ أَيْ مَا بَلَّغْتنِي غَرَضِي وَأَزَلْتُ عَنِّي هَمَّ كَشْفِ هَذَا الْأَمْرِ قَوْلُهُ (وَحَمَلَ شَنَّةً) هِيَ بِفَتْحِ الشِّينِ وَهِيَ الْقِرْبَةُ الْبَالِيَةُ قَوْلُهُ فَرَآهُ عَلِيٌّ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ (فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ) كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ تَبِعَهُ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَتْبَعُهُ قَالَ الْقَاضِي هِيَ أَحْسَنُ وَأَشْبَهُ بِمَسَاقِ الْكَلَامِ وَتَكُونُ بِإِسْكَانِ التَّاءِ أَيْ قَالَ لَهُ اتْبَعْنِي قَوْلُهُ (احْتَمَلَ قُرَيْبَتَهُ) بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى التَّصْغِيرِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قِرْبَتَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَهِيَ الشنة المذكورة قبله قوله (ماأني لِلرَّجُلِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ آنَ وَهُمَا لُغَتَانِ أَيْ مَا حَانَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَمَا بزيادة ألف(16/33)
الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ مُرَادَةٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَلَكِنْ حُذِفَتْ وَهُوَ جَائِزٌ قَوْلُهُ (فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ) أَيْ يَتْبَعُهُ قَوْلُهُ (لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ) هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ مِنْ لَأَصْرُخَنَّ أَيْ لَأَرْفَعَنَّ صَوْتِي بِهَا وَقَوْلُهُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَيُقَالُ بَيْنَ ظَهْرَيْهِمْ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ جَرِيرِ بن عبد الله رضي الله عَنْهُ)
قَوْلُهُ
[2475] (مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ) مَعْنَاهُ مَا مَنَعَنِي(16/34)
الدُّخُولَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَمَعْنَى ضَحِكَ تَبَسَّمَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَفَعَلَ ذَلِكَ إِكْرَامًا وَلُطْفًا وَبَشَاشَةً فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ هَذَا اللُّطْفِ لِلْوَارِدِ وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِجَرِيرٍ قَوْلُهُ
[2476] (ذُو الْخَلَصَةَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَحَكَى الْقَاضِي أَيْضًا ضَمَّ الْخَاءِ مَعَ فَتْحِ اللَّامِ وَحَكَى أَيْضًا فَتْحَ الْخَاءِ وَسُكُونَ اللَّامِ وَهُوَ بَيْتٌ فِي الْيَمَنِ كَانَ فِيهِ أَصْنَامٌ يَعْبُدُونَهَا قَوْلُهُ (وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ وَالْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ الْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ بِغَيْرِ وَاوٍ هَذَا اللَّفْظُ فِيهِ إِيهَامٌ وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَا الْخَلَصَةَ كَانُوا يُسَمُّونَهَا الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ وَكَانَتِ الكعبة الكريمة التي بمكة تسمى الكعبة الشاميةففرقوا بَيْنَهُمَا لِلتَّمْيِيزِ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فَيَتَأَوَّلُ اللَّفْظُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ وَيُقَالُ لِلَّتِي بِمَكَّةَ الشَّامِيَّةُ وَأَمَّا مَنْ رَوَاهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ الْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ بِحَذْفِ الْوَاوِ فَمَعْنَاهُ كَأَنْ يُقَالَ هَذَانِ اللَّفْظَانِ أَحَدُهُمَا لِمَوْضِعٍ وَالْآخَرُ لِلْآخَرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ هَلْ أَنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ وَالْكَعْبَةِ الْيَمَانِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ذِكْرُ الشَّامِيَّةِ وَهَمٌ وَغَلَطٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَالصَّوَابُ حَذْفُهُ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَالْوَهَمُ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلْ يُمْكِنُ تَأْوِيلُ هَذَا اللَّفْظِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ هَلْ أَنْتَ مُرِيحِي مِنْ قَوْلِهِمْ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ وَالشَّامِيَّةُ وَوُجُودُ هَذَا الْمَوْضِعِ الذي(16/35)
يَلْزَمُ مِنْهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ قَوْلُهُ (فَنَفَرْتُ) أَيْ خَرَجْتُ لِلْقِتَالِ قَوْلُهُ (تُدْعَى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ وَقَدَّرَ الْبَصْرِيُّونَ فِيهِ حَذْفًا أَيْ كَعْبَةَ الْجِهَةِ الْيَمَانِيَّةِ وَالْيَمَانِيَةُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ تَشْدِيدِهَا وَسَبَقَ إِيضَاحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلُهُ (كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ) قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ مَطْلِيٌّ بِالْقَطِرَانِ لِمَا بِهِ مِنَ الْجَرَبِ فَصَارَ أَسْوَدَ لِذَلِكَ يَعْنِي صَارَتْ سَوْدَاءَ مِنْ إِحْرَاقِهَا وَفِيهِ النِّكَايَةُ بِآثَارِ الباطل والمبالغة(16/36)
فِي إِزَالَتِهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ إِرْسَالِ الْبَشِيرِ بِالْفُتُوحِ وَنَحْوِهَا قَوْلُهُ (فَجَاءَ بَشِيرُ جَرِيرٍ أَبُو أَرْطَاةَ حُصَيْنُ بْنُ رَبِيعَةَ) هَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ حُصَيْنُ بِالصَّادِ وَفِي أَكْثَرِهَا حُسَيْنُ بِالسِّينِ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْوَجْهَيْنِ قَالَ وَالصَّوَابُ الصاد وهو الموجود في نسخة بن ماهان
(باب من فَضَائِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)
قَوْلُهُ
[2477] (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ النَّضْرِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ النَّضْرِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وفي نسخة العذرى أبوبكر بْنِ أَبِي النَّضْرِ قَالَ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ سَمَّاهُ الْحَاكِمُ أَحْمَدَ وَسَمَّاهُ الكلابادي مُحَمَّدًا هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِمَّنْ قَالَ اسمه أحمد عبد الله بن أحمد الدورقي وَقَالَ السِّرَاجُ سَأَلْتُهُ عَنِ اسْمِهِ فَقَالَ اسْمِي كُنْيَتِي وَهَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِي كِتَابِهِ الْكُنَى غَيْرَهَ وَالْمَشْهُورُ فِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم في بن عَبَّاسٍ (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ) فِيهِ فَضِيلَةُ الْفِقْهِ وَاسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ وَاسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ لِمَنْ عَمِلَ عَمَلًا خَيِّرًا مَعَ الْإِنْسَانِ وَفِيهِ إِجَابَةُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فَكَانَ مِنَ الْفِقْهِ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى(16/37)
(باب من فضائل بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)
قَوْلُهُ
[2478] (قِطْعَةُ إِسْتَبْرَقٍ) هُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَرَى عَبْدَ اللَّهِ رَجُلًا صَالِحًا) هُوَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَرَى أَيْ أَعْلَمُهُ وَاعْتَقَدُهُ صَالِحًا وَالصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ قَوْلُهُ
[2479] (وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِيهِ دَلِيلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمُوَافِقِيهِمْ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي النَّوْمِ فِي المسجد قوله (له قَرْنَانِ كَقَرْنَيِ الْبِئْرِ) هُمَا الْخَشَبَتَانِ اللَّتَانِ عَلَيْهِمَا الْخُطَّافُ وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي فِي جَانِبِ الْبَكْرَةِ قاله بن دُرَيْدٍ وَقَالَ الْخَلِيلُ هُمَا مَا يُبْنَى حَوْلَ الْبِئْرِ وَيُوضَعُ عَلَيْهِ الْخَشَبَةَ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْمِحْوَرُ وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الْبَكْرَةُ قَوْلُهُ (لَمْ تُرَعْ) أَيْ لَا رَوْعَ عَلَيْكَ ولا ضرر(16/38)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِيهِ فَضِيلَةُ صَلَاةِ اللَّيْلِ قَوْلُهُ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ خَالِدِ خَتْنُ الْفِرْيَابِيِّ الْخَتْنُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُثَنَّاةِ فَوْقُ أَيْ زَوْجُ ابْنَتِهِ وَالْفِرْيَابِيُّ بكسر الفاء ويقال له الفريابي والفرايابي ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَشْهُورَةٍ مَنْسُوبٌ إِلَى فِرْيَابَ مَدِينَةٍ مَعْرُوفَةٍ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[2480] (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ) وَذَكَرَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَثِّرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِجَابَةِ دُعَائِهِ وَفِيهِ فَضَائِلُ لِأَنَسٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يُفَضِّلُ الْغَنِيَّ عَلَى الْفَقِيرِ وَمَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ الْفَقِيرِ أَجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ هَذَا قَدْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَارَكَ لَهُ فِيهِ وَمَتَى بُورِكَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فِتْنَةٌ وَلَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبِهِ ضَرَرٌ وَلَا تَقْصِيرٌ فِي حَقٍّ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآفَاتِ الَّتِي تَتَطَرَّقُ إِلَى سَائِرِ الْأَغْنِيَاءِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَفِيهِ هَذَا الْأَدَبُ(16/39)
البديع وهو أنه إذا دعا بشئ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدُّنْيَا يَنْبَغِي أَنْ يَضُمَّ إِلَى دُعَائِهِ طَلَبَ الْبَرَكَةِ فِيهِ وَالصِّيَانَةِ وَنَحْوِهِمَا وَكَانَ أَنَسٌ وَوَلَدُهُ رَحْمَةً وَخَيْرًا وَنَفْعًا بِلَا ضَرَرٍ بِسَبَبِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادَوْنَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ) مَعْنَاهُ وَيَبْلُغُ عَدَدُهُمْ نحو المائة(16/40)
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ دَفَنَ مِنْ أَوْلَادِهِ قَبْلَ مَقْدَمِ الْحَجَّاجِ بْنِ يوسف مائة وعشرين والله اعلم
(باب من فضائل عبد الله بن سلام رضي الله عنه)
قَوْلُهُ
[2483] (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِحَيٍّ يَمْشِي أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ وعلي فِي الْجَنَّةِ إِلَى آخِرِ الْعَشَرَةَ وَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ عُكَّاشَةَ مِنْهُمْ وَثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ وَغَيْرَهَمْ(16/41)
وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِقَوْلِ سَعْدٍ فَإِنَّ سَعْدًا قَالَ مَا سَمِعْتُهُ وَلَمْ يَنْفِ أَصْلَ الْإِخْبَارِ بِالْجَنَّةِ لِغَيْرِهِ وَلَوْ نَفَاهُ كَانَ الْإِثْبَاتُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ قَوْلُهُ
[2484] (عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ قَوْلُهُ (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِيهَا ثُمَّ خَرَجَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِيهِمَا ثُمَّ خَرَجَ وَفِي بَعْضِهَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ ظَاهِرَةٌ وَأَمَّا إِثْبَاتُ فِيهَا أَوْ فِيهِمَا فَهُوَ الْمَوْجُودُ لِمُعْظَمِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ وَفِيهِ نَقْصٌ وَتَمَامُهُ مَا ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزَ فِيهِمَا قَوْلُهُ (مَا يَنْبَغِي لأحد أن يقول مالا يَعْلَمُ) هَذَا إِنْكَارٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حَيْثُ قَطَعُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ بَلَغَهُمْ خَبَرُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وقاص بأن بن سَلَامٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَسْمَعْ هُوَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَرِهَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ تَوَاضُعًا وَإِيثَارًا لِلْخُمُولِ وَكَرَاهَةً لِلشُّهْرَةِ قَوْلُهُ (فَجَاءَنِي مِنْصَفٌ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْضًا وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِالْخَادِمِ والوصيف وهو صحيح قالوا هوالوصيف الصَّغِيرُ الْمُدْرِكُ لِلْخِدْمَةِ قَوْلُهُ (فَرَقِيتُ هُوَ) بِكَسْرِ الْقَافِ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ الصَّحِيحَةِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ جَاءَ بِالرِّوَايَتَيْنِ فِي(16/42)
3 - مُسْلِمٍ وَالْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ(16/43)
قَوْلُهُ (فَإِذَا أَنَا بِجَوَادٍ عَنْ شِمَالِي) الْجَوَادُ جَمْعُ جَادَّةٌ وَهِيَ الطَّرِيقُ الْبَيِّنَةُ الْمَسْلُوكَةُ وَالْمَشْهُورُ فِيهَا جَوَادٌّ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَدْ تُخَفَّفُ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ قَوْلُهُ (وَإِذَا جَوَادٌ مَنْهَجٌ عَنْ يَمِينِي) أَيْ طُرُقٌ وَاضِحَةٌ بَيِّنَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ وَالنَّهْجُ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ وَنَهَجَ الْأَمْرَ وَأَنْهَجَ إِذَا وَضَحَ وَطَرِيقٌ مَنْهَجٌ وَمِنْهَاجُ وَنَهِجُ أَيْ بَيِّنٌ وَاضِحٌ قَوْلُهُ (فَزَجَلَ بِي) هُوَ بِالزَّايِ وَالْجِيمِ أَيْ رَمَى بِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ(16/44)
(بَاب فَضَائِلِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
هُوَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ عَاشَ هُوَ وَآبَاؤُهُ الثَّلَاثَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَعَاشَ حَسَّانُ سِتِّينَ سَنَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ
[2485] (إِنَّ حَسَّانَ أَنْشَدَ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ بِإِذْنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِيهِ جَوَازُ إِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ مُبَاحًا وَاسْتِحْبَابُهُ إِذَا كَانَ(16/45)
في ممادح الاسلام وأهله
[2486] أوفي هِجَاءِ الْكُفَّارِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى قِتَالِهِمْ أَوْ تَحْقِيرِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَكَذَا كَانَ شِعْرُ حَسَّانَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ لِمَنْ قَالَ شِعْرًا مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَفِيهِ جَوَازُ الِانْتِصَارِ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَجُوزُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِهِمْ بِشَرْطِهِ وَرُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ
[2487] (يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ يُدَافِعُ وَيُنَاضِلُ قَوْلُهُ
[2488] (يُشَبِّبُ بِأَبْيَاتٍ لَهُ فَقَالَ حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ) أَمَّا قَوْلُهُ يُشَبِّبُ فَمَعْنَاهُ يَتَغَزَّلُ كَذَا فَسَّرَهُ فِي الْمَشَارِقِ وَحَصَانٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ مُحْصَنَةٌ عَفِيفَةٌ وَرَزَانٌ كَامِلَةُ الْعَقْلِ ورجل رزين وقوله ما تزن أي ماتتهم يُقَالُ زَنَنْتُهُ وَأَزْنَنْتُهُ إِذَا ظَنَنْتُ بِهِ خَيْرًا أو شرا(16/46)
وَغَرْثَى بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ أَيْ جَائِعَةٌ وَرَجُلٌ غَرْثَانُ وَامْرَأَةٌ غَرْثَى مَعْنَاهُ لا تغتاب الناس لأنها لَوْ اغْتَابَتْهُمْ شَبِعَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ قَوْلُهُ
[2489] (يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي أَبِي سُفْيَانَ قَالَ كَيْفَ بِقَرَابَتِي مِنْهُ قَالَ وَاَلَّذِي أَكْرَمَكَ لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْخَمِيرِ فَقَالَ حَسَّانُ وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُكَ الْعَبْدُ) وَبَعْدَ هَذَا بَيْتِ لَمْ يَذْكُرْهُ مُسْلِمٌ وَبِذِكْرِهِ تَتِمُّ الْفَائِدَةُ وَالْمُرَادُ وَهُوَ وَمَنْ وَلَدَتْ أَبْنَاءُ زُهْرَةَ مِنْهُمُو كِرَامٌ وَلَمْ يَقْرَبْ عَجَائِزُكَ الْمَجْدَ الْمُرَادُ بِبِنْتِ مَخْزُومٍ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرِ وَأَبِي طَالِبٍ وَمُرَادُهُ(16/47)
بِأَبِي سُفْيَانَ هَذَا الْمَذْكُورُ الْمَهْجُوُّ أَبُو سُفْيَانَ بن الحارث بن عبد المطلب وهو بن عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَقَوْلُهُ وَلَدَتْ أَبْنَاءُ زُهْرَةَ مِنْهُمْ مُرَادُهُ هَالَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أُمُّ حَمْزَةَ وَصْفِيَّةَ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَوَالِدُكُ الْعَبْدُ فَهُوَ سَبٌّ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ أُمَّ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالِدِ أَبِي سُفْيَانَ هَذَا هِيَ سُمَيَّةُ بِنْتُ مُوهِبٍ وَمُوهِبٌ غُلَامٌ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَكَذَا أُمُّ أَبِي سُفْيَانَ بن الحارث كانت كذلك وهومراده بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَقْرَبْ عَجَائِزُكَ الْمَجْدَ قَوْلُهُ لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْخَمِيرِ الْمُرَادُ بِالْخَمِيرِ الْعَجِينُ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمَعْنَاهُ لَأَتَلَطَّفَنَّ فِي تَخْلِيصِ نَسَبِكَ مِنْ هَجْوِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى جُزْءٌ مِنْ نَسَبِكَ فِي نَسَبِهِمُ الَّذِي نَالَهُ الْهَجْوُ كَمَا أَنَّ الشَّعْرَةَ إِذَا سُلَّتْ مِنَ الْعَجِينِ لَا يَبْقَى مِنْهَا شئ فيه بخلاف ما لو سلت من شئ صلب فانهار بما انْقَطَعَتْ فَبَقِيَتْ مِنْهَا فِيهِ بَقِيَّةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2490] (اهْجُوَا قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الرَّمْيُ بِهَا وَأَمَّا الرِّشْقُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ اسْمٌ لِلنَّبْلِ الَّتِي تُرْمَى دَفْعَةً وَاحِدَةً وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ رَشْقِ النَّبْلِ وَفِيهِ جَوَازُ هَجْوِ الكفار مالم يَكُنْ أَمَانٌ وَأَنَّهُ لَا غِيبَةَ فِيهِ وَأَمَّا أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِجَائِهِمْ وَطَلَبُهُ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَلَمْ يَرْضَ قَوْلَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي حَتَّى أَمَرَ حَسَّانَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ النِّكَايَةُ فِي الْكُفَّارِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْجِهَادِ فِي الْكُفَّارِ وَالْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ وَكَانَ هَذَا الْهَجْوُ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ فَكَانَ مَنْدُوبًا لِذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ كَفِّ أَذَاهُمْ وَبَيَانِ نَقْصِهِمْ وَالِانْتِصَارِ بِهِجَائِهِمُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الْعُلَمَاءُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْدَأَ الْمُشْرِكُونَ بِالسَّبِّ وَالْهِجَاءِ مَخَافَةً مِنْ سَبِّهِمُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يدعون(16/48)
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ علم وَلِتَنْزِيهِ أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْفُحْشِ إِلَّا أَنْ تدعو إلى ذلك ضرورة لابتدائهم به فيكف أَذَاهُمْ وَنَحْوَهُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (قَدْ آنَ لَكُمْ) أَيْ حَانَ لَكُمْ (أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الْأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ بِذَنَبِهِ هُنَا لسانه فشبهه نَفْسَهُ بِالْأَسَدِ فِي انْتِقَامِهِ وَبَطْشِهِ إِذَا اغْتَاظَ وَحِينَئِذٍ يَضْرِبُ بِذَنَبِهِ جَنْبَيْهِ كَمَا فَعَلَ حَسَّانُ بِلِسَانِهِ حِينَ أَدْلَعَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ فَشَبَّهَ نَفْسَهُ بِالْأَسَدِ وَلِسَانَهُ بِذَنَبِهِ قَوْلُهُ (ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ) أَيْ أَخْرَجَهُ عَنِ الشَّفَتَيْنِ يُقَالُ دَلَعَ لِسَانَهُ وَأَدْلَعَهُ وَدَلَعَ اللِّسَانِ بِنَفْسِهِ قَوْلُهُ لَأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الْأَدِيمِ أَيْ لَأُمَزِّقَنَّ أَعْرَاضَهُمْ تَمْزِيقَ الْجِلْدِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى) أَيْ شَفَى الْمُؤمِنِينَ وَاشْتَفَى هُوَ بِمَا نَالَهُ مِنْ أَعْرَاضِ الْكُفَّارِ وَمَزَّقَهَا وَنَافَحَ عن الاسلام والمسلمين قوله (هجوت محمدا برا تَقِيًّا) وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ حَنِيفًا بَدَلُ تَقِيًّا فَالْبَرُّ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْوَاسِعُ الْخَيْرِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبِرِّ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ الِاتِّسَاعُ فِي الْإِحْسَانِ وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ وَقِيلَ البر هنا(16/49)
بِمَعْنَى الْمُتَنَزِّهُ عَنِ الْمَآثِمَ وَأَمَّا الْحَنِيفُ فَقِيلَ هُوَ الْمُسْتَقِيمُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ الْمَائِلُ إِلَى الْخَيْرِ وَقِيلَ الْحَنِيفُ التَّابِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ) أَيْ خُلُقُهُ قوله (فإن أبي ووالدتي وَعِرْضِي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ) هَذَا مِمَّا احتج به بن قُتَيْبَةَ لِمَذْهَبِهِ أَنَّ عِرْضَ الْإِنْسَانِ هُوَ نَفْسُهُ لَا أَسْلَافُهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عِرْضَهُ وَأَسْلَافَهُ بِالْعَطْفِ وَقَالَ غَيْرُهُ عِرْضُ الرَّجُلِ أُمُورُهُ كُلُّهَا الَّتِي يُحْمَدُ بِهَا وَيُذَمُّ مِنْ نَفْسِهِ وَأَسْلَافِهِ وَكُلُّ مَا لَحِقَهُ نَقْصٌ يَعِيبُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وِقَاءُ فَبِكَسْرِ الْوَاوِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مَا وَقَيْتَ بِهِ الشئ قَوْلُهُ (تُثِيرُ النَّقْعَ) أَيْ تَرْفَعُ الْغُبَارَ وَتُهَيِّجُهُ قَوْلُهُ (مِنْ كَنَفَيْ كَدَاءِ) هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ جَانِبَيْ كَدَاءِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَبِالْمَدِّ هِيَ ثَنِيَّةٌ عَلَى بَابِ مَكَّةَ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الْبَيْتِ إِقْوَاءٌ مُخَالِفٌ لِبَاقِيهَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ غَايَتُهَا كَدَاءِ وَفِي بَعْضِهَا مَوْعِدُهَا كَدَاءِ قَوْلُهُ (يُبَارِينَ الْأَعِنَّةَ) وَيُرْوَى يُبَارِعْنَ الْأَعِنَّةَ قَالَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ هُوَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا لِصَرَامَتِهَا وَقُوَّةِ نُفُوسِهَا تُضَاهِي أَعِنَّتَهَا بِقُوَّةِ جَبْذِهَا لَهَا وَهِيَ مُنَازَعَتُهَا لَهَا أَيْضًا قَالَ الْقَاضِي وَفِي رواية بن الْحَذَّاءِ يُبَارِينَ الْأَسِنَّةَ وَهِيَ الرِّمَاحُ قَالَ فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَمَعْنَاهَا أَنَّهُنَّ يُضَاهِينَ قَوَامَهَا وَاعْتِدَالَهَا قَوْلُهُ (مُصْعِدَاتٍ) أَيْ مُقْبِلَاتٍ إِلَيْكُمْ وَمُتَوَجِّهَاتٍ يُقَالُ أَصْعَدَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا مُبْتَدِئًا وَلَا يُقَالُ لِلرَّاجِعِ قَوْلُهُ (عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظِّمَاءُ) أَمَّا أَكْتَافُهَا فَبِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ وَالْأَسَلُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا لَامٌ هَذِهِ رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ وَالْأَسَلُ الرِّمَاحُ وَالظِّمَاءُ الرِّقَاقُ فَكَأَنَّهَا لِقِلَّةِ مَائِهَا عِطَاشٌ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالظِّمَاءِ الْعِطَاشُ لِدِمَاءِ الْأَعْدَاءِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْأُسْدُ الظِّمَاءُ بِالدَّالِ أَيِ الرِّجَالُ الْمُشْبِهُونَ لِلْأُسْدِ الْعِطَاشِ إِلَى دِمَائِكُمْ قَوْلُهُ (تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ) أَيْ تَظَلُّ خُيُولُنَا مُسْرِعَاتٍ(16/50)
يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا قَوْلُهُ (تُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ) أَيْ تَمْسَحُهُنَّ النِّسَاءُ بِخُمُرِهِنَّ بِضَمِّ الْخَاءِ وَالْمِيمِ جَمْعُ خِمَارٍ أَيْ يُزِلْنَ عَنْهُنَّ الْغُبَارَ وَهَذَا لِعَزَّتِهَا وَكَرَامَتِهَا عِنْدَهُمْ وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّهُ رُوِيَ بِالْخَمْرِ بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ خَمْرَةَ وَهُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ الْأَبْلَغُ فِي إِكْرَامِهَا قَوْلُهُ (وَقَالَ اللَّهُ قَدْ يَسَّرْتُ جُنْدًا) أَيْ هَيَّأْتُهُمْ وَأَرْصَدْتُهُمْ قَوْلُهُ (عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ) هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ مَقْصُودُهَا وَمَطْلُوبُهَا قَوْلُهُ (لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ) أَيْ مُمَاثِلٌ وَلَا مُقَاوِمٌ والله اعلم(16/51)
(باب من فضائل أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
قَوْلُهُ
[2491] (فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ) أَيْ مُغْلَقٌ قَوْلُهُ (خَشْفَ قَدَمِي) أَيْ صَوْتَهُمَا فِي الْأَرْضِ وَخَضْخَضَةُ الْمَاءِ صَوْتُ تَحْرِيكِهِ وَفِيهِ اسْتِجَابَةُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْفَوْرِ بِعَيْنِ الْمَسْئُولِ وَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم واستحباب حمدالله عِنْدَ حُصُولِ النِّعَمِ(16/52)
قَوْلُهُ
[2492] (كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي) أَيْ أُلَازِمُهُ وَأَقْنَعُ بِقُوتِي وَلَا أَجْمَعُ مَالًا لِذَخِيرَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلَا أَزِيدُ عَلَى قُوتِي وَالْمُرَادُ مِنْ حَيْثُ حَصَلَ الْقُوتُ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْخِدْمَةِ بِالْأُجْرَةِ قَوْلُهُ (يَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ وَاَللَّهُ الْمَوْعِدُ(16/53)
مَعْنَاهُ فَيُحَاسِبُنِي إِنْ تَعَمَّدْتُ كَذِبًا وَيُحَاسِبُ مَنْ ظَنَّ بِي السُّوءَ قَوْلُهُ
[2492] (يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ يَشْغَلُهُمْ وَحُكِيَ ضَمُّهَا وهو غريب والصفق هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّبَايُعِ وَكَانُوا يُصَفِّقُونَ بِالْأَيْدِي مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَالسُّوقُ مُؤَنَّثَةٌ وَيُذَكَّرُ سُمِّيَتْ بِهِ لِقِيَامِ النَّاسِ فِيهَا عَلَى سُوقِهِمْ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَسْطِ ثَوْبِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلُهُ
[2493] (كُنْتُ أُسَبِّحُ فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي) مَعْنَى أُسَبِّحُ أُصَلِّي نَافِلَةً وَهِيَ السُّبْحَةُ بِضَمِّ السِّينِ قِيلَ الْمُرَادُ هُنَا صَلَاةُ الضُّحَى قَوْلُهُ (لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ) أَيْ يُكْثِرُهُ وَيُتَابِعُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(16/54)
(باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة وأهل بدر رضي الله عنهم قَوْلُهُ
[2494] (رَوْضَةَ خَاخٍ) هِيَ بِخَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً فِي جَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَفِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ وَالْكُتُبِ وَوَقَعَ في البخاري من رواية أبي عوانة حاج بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَالْجِيمِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَلَطِ أَبِي عَوَانَةَ وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِذَاتِ حَاجٍّ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ وَهِيَ مَوْضِعٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ عَلَى طَرِيقِ الْحَجِيجِ وَأَمَّا رَوْضَةُ خَاخٍ فَبَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَقَالَ الصَّائِدِيُّ هِيَ بِقُرْبِ مَكَّةَ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ) الظَّعِينَةُ هُنَا الْجَارِيَةُ وَأَصْلُهَا الْهَوْدَجُ وَسُمِّيَتْ بِهَا الْجَارِيَةُ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِيهِ وَاسْمُ هَذِهِ الظَّعِينَةُ سَارَةُ مَوْلَاةٌ لِعِمْرَانَ بْنِ أَبِي صَيْفِيٍّ الْقُرَشِيِّ وَفِي هَذَا مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ هَتْكُ أَسْتَارِ الْجَوَاسِيسِ بِقِرَاءَةِ كُتُبِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً وَفِيهِ هَتْكُ سِتْرِ الْمَفْسَدَةِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ كَانَ فِي السِّتْرِ مَفْسَدَةٌ وَإِنَّمَا يُنْدَبُ السِّتْرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَلَا يَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ وَعَلَى هَذَا تُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي النَّدْبِ إِلَى السِّتْرِ وَفِيهِ أَنَّ الْجَاسُوسَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ لَا يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ وَهَذَا الْجِنْسُ كَبِيرَةٌ قَطْعًا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِيذَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كبيرة بلا شك لقوله تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ الْعَاصِي وَلَا يُعَزَّرُ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَفِيهِ إِشَارَةُ جُلَسَاءِ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ بِمَا يَرَوْنَهُ كَمَا أَشَارَ عُمَرُ بِضَرْبِ عُنُقِ حَاطِبٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ يُعَزَّرُ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ يُقْتَلُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ وَبَعْضُهُمْ يُقْتَلُ وَإِنْ تَابَ)(16/55)
وَقَالَ مَالِكٌ يَجْتَهِدُ فِيهِ الْإِمَامُ قَوْلُهُ (تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا) هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ تَجْرِي قَوْلُهُ (فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا) هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ شَعْرِهَا الْمَضْفُورِ وَهُوَ جَمْعُ عَقِيصَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فقد غفرت لَكُمْ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ الْغُفْرَانُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَإِلَّا فَإِنْ تَوَجَّهَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ أَوْ غَيْرُهُ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ(16/56)
وَأَقَامَهُ عُمَرُ عَلَى بَعْضِهِمْ قَالَ وَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِسْطَحًا الْحَدَّ وَكَانَ بَدْرِيًّا قَوْلُهُ (عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَامِّ وَفِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ الْمِقْدَادَ بَدَلَ أَبِي مَرْثَدٍ وَلَا مُنَافَاةَ بَلْ بَعَثَ الْأَرْبَعَةَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ وَأَبَا مَرْثَدٍ قَوْلُهُ
[2495] (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ) فِيهِ فَضِيلَةُ أَهْلِ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةِ وَفَضِيلَةُ حَاطِبٍ لِكَوْنِهِ مِنْهُمْ وَفِيهِ أَنَّ لفظة الكذب هي الاخبار عن الشئ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا سَوَاءٌ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ وَخَصَّتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْعَمْدِ وَهَذَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ وسبقت المسئلةفي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يُسْتَعْمَلُ الْكَذِبُ إِلَّا فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمَاضِي بخلاف مَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ والله اعلم(16/57)
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ)
أَهْلِ بَيْعَةِ الرُّضْوَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2496] (لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ مِنَ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطْعًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ حَدِيثِ حَاطِبٍ وَإِنَّمَا قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِلتَّبَرُّكِ لَا لِلشَّكِّ وَأَمَّا قَوْلُ حَفْصَةَ بَلَى وَانْتِهَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا فَقَالَتْ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا واردها فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ ثم ننجي الذين اتقوا فِيهِ دَلِيلٌ لِلْمُنَاظَرَةِ وَالِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْشَادِ وَهُوَ مَقْصُودُ حَفْصَةَ لَا أَنَّهَا أَرَادَتْ رَدَّ مَقَالَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُرُودِ فِي الْآيَةِ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى جَهَنَّمَ فَيَقَعُ فِيهَا أَهْلُهَا وَيَنْجُو الْآخَرُونَ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ أَبِي مُوسَى وَأَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما في
[2497] الحديث الاول فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ)(16/58)
الْبِشَارَةِ وَاسْتِحْبَابُ الِازْدِحَامِ فِيمَا يُتَبَرَّكُ بِهِ وَطَلَبُهُ مِمَّنْ هُوَ مَعَهُ وَالْمُشَارَكَةُ فِيهِ قَوْلُهُ
[2498] (فَنَزَا منه الماء(16/59)
هُوَ بِالنُّونِ وَالزَّايِ أَيْ ظَهَرَ وَارْتَفَعَ وَجَرَى وَلَمْ يَنْقَطِعْ قَوْلُهُ (عَلَى سَرِيرٍ مُرْمَلٍ وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ وَقَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَمَا مُرْمَلٌ فَبِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَرِمَالٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَهُوَ الَّذِي يُنْسَجُ فِي وَجْهِهِ بِالسَّعَفِ وَنَحْوِهِ وَيُشَدُّ بِشَرِيطٍ وَنَحْوِهِ يُقَالُ مِنْهُ أَرْمَلْتُهُ فَهُوَ مُرْمَلٌ وَحُكِيَ رَمَلْتُهُ فَهُوَ مَرْمُولٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ فَكَذَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فَقَالَ الْقَابِسِيُّ الَّذِي أَحْفَظُهُ فِي غَيْرِ هَذَا السَّنَدِ عَلَيْهِ فِرَاشٌ قَالَ وَأَظُنُّ لَفْظَةَ مَا سَقَطَتْ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ وَتَابَعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ مَا سَاقِطَةٌ وَأَنَّ الصَّوَابَ إِثْبَاتُهَا قَالُوا وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي تَخْيِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ عَلَى رِمَالِ سَرِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبَيْهِ قَوْلُهُ (ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ إِلَى آخِرِهِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ وَاسْتِحْبَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِيهِ وَأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَنَسٌ أَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَ الرَّفْعُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ فَوْقَ ثَلَاثِينَ مَوْطِنًا(16/60)
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ الْأَشْعَرِيِّينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2499] (إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ) أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُونَ بِالدَّالِ مِنَ الدُّخُولِ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ الرُّوَاةِ فِي مُسْلِمٍ وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ وَوَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ الْكِتَابَيْنِ يَرْحَلُونَ بِالرَّاءِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الرَّحِيلِ قَالَ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ قُلْتُ وَالْأُولَى صَحِيحَةٌ أَوْ أَصَحُّ وَالْمُرَادُ يَدْخُلُونَ مَنَازِلَهُمْ إِذَا خَرَجُوا لِشُغْلٍ ثُمَّ رَجَعُوا وَفِيهِ دَلِيلٌ لِفَضِيلَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ وَفِيهِ أَنَّ الْجَهْرَ بِالْقُرْآنِ فِي اللَّيْلِ فَضِيلَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِيذَاءٌ لِنَائِمٍ أَوْ لِمُصَلٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا وَلَا رِيَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالرُّفْقَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمِنْهُمْ حَكِيمٌ إِذَا لَقِيَ الْخَيْلَ أَوْ قَالَ الْعَدُوَّ قَالَ لَهُمْ إِنَّ أَصْحَابِي يَأْمُرُونَكُمْ أَنْ تَنْظُرُوهُمْ) أَيْ تَنْتَظِرُوهُمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى اُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِي الْمُرَادِ بِحَكِيمٍ هُنَا فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ هُوَ اسْمُ عَلَمٍ لِرَجُلٍ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ هُوَ صِفَةٌ مِنَ الْحِكْمَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2500] (إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ إلى آخره(16/61)
مَعْنَى أَرْمَلُوا فَنِيَ طَعَامُهُمْ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ الْأَشْعَرِيِّينَ وَفَضِيلَةُ الْإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ وَفَضِيلَةُ خَلْطِ الازواد في السفر وفضيلة جمعها في شئ عِنْدَ قِلَّتِهَا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ يَقْسِمُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْقِسْمَةَ الْمَعْرُوفَةَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ بِشُرُوطِهَا وَمَنْعَهَا فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَاشْتِرَاطَ الْمُوَاسَاةِ وَغَيْرِهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هُنَا إِبَاحَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَمُوَاسَاتُهُمْ بِالْمَوْجُودِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ) سَبَقَ تَفْسِيرُهُ فِي بَابِ فَضَائِلِ جُلَيْبِيبَ
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ أَبِي سُفْيَانَ صخر بْنِ حَرْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ
[2501] (أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْقِرِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِ الْقَافِ مَنْسُوبٌ إِلَى مَعْقِرَ وَهِيَ نَاحِيَةٌ مِنَ الْيَمَنِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو زميل قال حدثني بن عَبَّاسِ قَالَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَلَا يُقَاعِدُونَهُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ثَلَاثٌ أَعْطِنِيهِنَّ قَالَ نَعَمْ قَالَ عِنْدِي أَحْسَنُ الْعَرَبِ وَأَجْمَلُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ أُزَوِّجُكَهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَتُؤَمِّرُنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ نَعَمْ)(16/62)
قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ وَلَوْلَا أَنَّهُ طَلَبَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا قَالَ نَعَمْ) أَمَّا أَبُو زُمَيْلٍ فَبِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَاسْمُهُ سِمَاكُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحَنَفِيُّ الْيَمَامِيُّ ثُمَّ الْكُوفِيُّ وَأَمَّا قَوْلُهُ أَحْسَنُ الْعَرَبِ وَأَجْمَلُهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنُهُ خَلْقًا وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي فَضَائِلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ بَعْدَهُ فِي نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى ولد وأرعاه لزوج قال أبوحاتم السِّجِسْتَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَيْ وَأَجْمَلُهُمْ وَأَحْسَنُهُمْ وَأَرْعَاهُمْ لَكِنْ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إِلَّا مُفْرَدًا قَالَ النَّحْوِيُّونَ مَعْنَاهُ وَأَجْمَلُ مَنْ هُنَاكَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الحديث من الاحاديث المشهورةبالاشكال وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ إِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهَذَا مَشْهُورٌ لَا خِلَافَ فِيهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ قَبْلَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ قَالَ أَبُو عبيدة وخليفة بن خياط وبن الْبَرْقِيِّ وَالْجُمْهُورُ تَزَوَّجَهَا سَنَةَ سِتٍّ وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَاخْتَلَفُوا أَيْنَ تَزَوَّجَهَا فَقِيلَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ قُدُومِهَا مِنَ الْحَبَشَةِ وَقَالَ الْجُمْهُورُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ عَقَدَ لَهُ عَلَيْهَا هُنَاكَ فَقِيلَ عُثْمَانُ وَقِيلَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي بِإِذْنِهَا وَقِيلَ النَّجَاشِيُّ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِيرَ الْمَوْضِعِ وَسُلْطَانِهِ قَالَ الْقَاضِي وَاَلَّذِي فِي مُسْلِمٍ هُنَا أَنَّهُ زَوَّجَهَا أَبُو سُفْيَانَ غَرِيبٌ جِدًّا وَخَبَرُهَا مَعَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ وَرَدَ الْمَدِينَةَ فِي حَالِ كُفْرِهِ مَشْهُورٌ ولم يزد القاضي على هذا وقال بن حَزْمٍ هَذَا الْحَدِيثُ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِدَهْرٍ وَهِيَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأَبُوهَا كافر وفي رواية عن بن حَزْمٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ مَوْضُوعٌ قَالَ وَالْآفَةُ فِيهِ مِنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ الرَّاوِي عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا على بن حَزْمٍ وَبَالَغَ فِي الشَّنَاعَةِ عَلَيْهِ قَالَ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ جَسَارَتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ هَجُومًا عَلَى تَخْطِئَةِ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ وَإِطْلَاقِ اللِّسَانِ فِيهِمْ قَالَ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ نَسَبَ عِكْرِمَةَ بْنَ عَمَّارٍ إِلَى وَضْعِ الْحَدِيثِ وَقَدْ وَثَّقَهُ وَكِيعٌ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا وَكَانَ مستجاب الدعوة قال وما توهمه بن حَزْمٍ مِنْ مُنَافَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِتَقَدُّمِ زَوَاجِهَا غَلَطٌ مِنْهُ وَغَفْلَةٌ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَهُ تَجْدِيدَ عَقْدِ النِّكَاحِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ لِأَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا يَرَى عَلَيْهَا غَضَاضَةً مِنْ رِيَاسَتِهِ وَنَسَبِهِ أن تزوج بنته بِغَيْرِ رِضَاهُ أَوْ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ إِسْلَامَ الْأَبِ فِي مِثْلِ هَذَا(16/63)
يَقْتَضِي تَجْدِيدَ الْعَقْدِ وَقَدْ خَفِيَ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا عَلَى أَكْبَرِ مَرْتَبَةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ مِمَّنْ كَثُرَ عِلْمُهُ وَطَالَتْ صُحْبَتُهُ هَذَا كَلَامُ أَبِي عَمْرٍو رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّدَ الْعَقْدَ وَلَا قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِهِ فَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ نَعَمْ أَنَّ مَقْصُودَكَ يَحْصُلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَقِيقَةِ عَقْدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب من فضائل جعفر وَأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ)
وَأَهْلِ سَفِينَتِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلُهُ
[2502] (أَنَا وَأَخَوَانٌ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ) هكذا هو في النسخ أصغرهماوالوجه أَصْغَرُ مِنْهُمَا قَوْلُهُ (فَأَسْهَمَ لَنَا أَوْ قَالَ أَعْطَانَا مِنْهَا) هَذَا الْإِعْطَاءُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بِرِضَا الْغَانِمِينَ وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَا يُؤَيِّدُهُ وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ فَشَرِكُوهُمْ فِي سُهْمَانِهِمْ(16/64)
قَوْلُهَا لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[2503] (كَذَبْتَ) أَيْ أَخْطَأْتَ وَقَدْ اسْتَعْمَلُوا كَذَبَ بِمَعْنَى أَخْطَأَ قَوْلُهَا (وَكُنَّا فِي دَارِ الْبُعَدَاءِ الْبُغَضَاءِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْبُعَدَاءُ فِي النَّسَبِ الْبُغَضَاءُ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ إِلَّا النَّجَاشِيِّ وَكَانَ يَسْتَخْفِي بِإِسْلَامِهِ عَنْ قومه ويورى لَهُمْ قَوْلُهَا (يَأْتُونِي أَرْسَالًا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ أفواجا(16/65)
فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ يُقَالُ أَوْرَدَ إِبِلِهِ أَرْسَالًا أَيْ مُتَقَطِّعَةً مُتَتَابِعَةً وَأَوْرَدَهَا عِرَاكًا أَيْ مُجْتَمِعَةً والله اعلم
(باب من فضائل سلمان وبلال وصهيب رضي الله عَنْهُمْ)
قَوْلُهُ
[2504] (أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ فَقَالُوا مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا) ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْقَصْرِ وَفَتْحِ الْخَاءِ وَالثَّانِي بِالْمَدِّ وَكَسْرِهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَهَذَا الْإِتْيَانُ لِأَبِي سُفْيَانَ كَانَ وَهُوَ كَافِرٌ فِي الْهُدْنَةِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفِي هَذَا فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِسَلْمَانَ وَرُفْقَتِهِ هَؤُلَاءِ وَفِيهِ مُرَاعَاةُ قُلُوبِ الضُّعَفَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ وَإِكْرَامِهِمْ وَمُلَاطَفَتِهِمْ قَوْلُهُ (يَا إِخْوَتَاهُ أغضبتكم قالوا لا يغفر الله لك ياأخي) أما قولهم ياأخي فَضَبَطُوهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى التَّصْغِيرِ وَهُوَ تَصْغِيرُ تَحْبِيبٍ وَتَرْقِيقٌ وَمُلَاطَفَةٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ نَهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ وَقَالَ قُلْ عَافَاكَ اللَّهُ رَحِمَكَ اللَّهُ لَا تَزِدْ أَيْ لَا تَقُلْ قَبْلَ الدُّعَاءِ لَا فَتَصِيرُ صُورَتُهُ صُورَةَ نَفْيِ الدُّعَاءِ قَالَ بَعْضُهُمْ قُلْ لَا وَيَغْفِرُ لَكَ اللَّهُ(16/66)
(باب من فضائل الانصار رضي الله عَنْهُمْ قَوْلُهُ
[2505] (بَنُو سَلِمَةَ) هُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَوْلُهُ
[2508] (فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْثَلًا) هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَإِسْكَانِ الثَّانِيَةِ وَبِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِهَا كَذَا رُوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ وَهُمَا مَشْهُورَانِ قَالَ الْقَاضِي جُمْهُورُ الرُّوَاةِ بِالْفَتْحِ قَالَ وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ وَلِبَعْضِهِمْ هُنَا وَفِي الْبُخَارِيِّ)(16/67)
بِالْكَسْرِ وَمَعْنَاهُ قَائِمًا مُنْتَصِبًا قَالَ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مُقْبِلًا وَلِلْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مُمْتَنًّا بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقَ وَنُونٍ مِنَ الْمِنَّةِ أَيْ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِمْ قَالَ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ هَذَا وَضَبَطَهُ بَعْضُ المتقنين مُمْتِنًا بِكَسْرِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ أَيْ قِيَامًا طَوِيلًا قَالَ الْقَاضِي وَالْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ
[2509] (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلَا بِهَا) هَذِهِ الْمَرْأَةُ إِمَّا مَحْرَمٌ لَهُ كَأُمِّ سُلَيْمٍ وَأُخْتِهَا وَإِمَّا الْمُرَادُ بِالْخَلْوَةِ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ سُؤَالًا خَفِيًّا بحضرة ناس ولم تكن خَلْوَةً مُطْلَقَةً وَهِيَ الْخَلْوَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2510] (الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ جَمَاعَتِي وَخَاصَّتِي الَّذِينَ أَثِقُ بِهِمْ وَأَعْتَمِدُهُمْ فِي أُمُورِي قَالَ الْخَطَّابِيُّ ضَرَبَ مَثَلًا بِالْكَرِشِ لِأَنَّهُ مُسْتَقَرُّ غِذَاءِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ بَقَاؤُهُ وَالْعَيْبَةُ وِعَاءٌ مَعْرُوفٌ أَكْبَرُ مِنَ الْمِخْلَاةِ يَحْفَظُ الْإِنْسَانُ فِيهَا ثِيَابَهُ وَفَاخِرَ مَتَاعِهِ وَيَصُونُهَا ضَرَبَهَا مَثَلًا لِأَنَّهُمْ أَهْلُ سِرِّهِ وَخَفِيِّ أَحْوَالِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ النَّاسَ سَيَكْثُرُونَ وَيَقِلُّونَ) أَيْ وَيَقِلُّ الْأَنْصَارُ وَهَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَاعْفُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ) وفي بعض الاصول عن سيئتهم والمراد بذلك فيما(16/68)
سوى الحدود قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2511]
[2512] (خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ) أَيْ خَيْرُ قَبَائِلِهِمْ وَكَانَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْهَا تَسْكُنُ مَحَلَّةً فَتُسَمَّى تِلْكَ الْمَحَلَّةُ دَارَ بني فلان ولهذاجاء فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَنُو فُلَانٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الدَّارِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَتَفْضِيلِهِمْ عَلَى قَدْرِ سَبْقِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمَآثِرَهِمْ فِيهِ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ تَفْضِيلِ الْقَبَائِلِ وَالْأَشْخَاصِ بِغَيْرِ مُجَازَفَةٍ وَلَا هَوًى وَلَا يَكُونُ هَذَا غِيبَةً قوله (سمعت أبا أسيد خطيبا عند بن عُتْبَةَ) أَمَّا أُسَيْدٌ فَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ فَتْحَهَا وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَخَطِيبًا بِكَسْرِ الطَّاءِ اسْمُ فَاعِلٍ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ خَطَبَنَا بِفَتْحِهَا فعل ماض قوله (عند بن عُتْبَةَ) بِالْمُثَنَّاةِ فَوْقُ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَامِلُ عَمِّهِ(16/69)
مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَوْلُهُ (خُلِّفْنَا) أَيْ أُخِّرْنَا فَجُعِلْنَا آخِرَ النَّاسِ وَفِي حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَخِدْمَتِهِ لِأَنَسٍ إِكْرَامًا لِلْأَنْصَارِ دَلِيلٌ لِإِكْرَامِ الْمُحْسِنِ وَالْمُنْتَسِبِ إِلَيْهِ وإِنْ كَانَ أَصْغَرَ سِنًّا وَفِيهِ تَوَاضُعُ جَرِيرٍ وَفَضِيلَتُهُ وَإِكْرَامُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِحْسَانُهُ إِلَى مَنِ انْتَسَبَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/70)
(باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة)
وتميم ودوس وطىء قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2514]
[2515]
[2516]
[2518] (وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُسَالَمَةِ وَتَرْكُ الْحَرْبِ قِيلَ هُوَ دُعَاءٌ وَقِيلَ خَبَرٌ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ هُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ مَأْخُوذٌ مِنْ سَالَمْتُهُ إِذَا لَمْ تَرَ مِنْهُ مَكْرُوهًا فَكَأَنَّهُ دَعَا لَهُمْ بِأَنْ يَصْنَعَ اللَّهُ بِهِمْ مَا يُوَافِقُهُمْ فَيَكُونُ سَالَمَهَا بِمَعْنَى سَلَّمَهَا وَقَدْ جَاءَ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ(16/72)
كَقَاتَلَهُ اللَّهُ أَيْ قَتَلَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2517] (اللَّهُمَّ الْعَنْ بَنِي لِحْيَانَ وَرِعْلًا) لِحْيَانُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ هذيل ورعل بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفِيهِ جَوَازُ لعن الكفار(16/73)
جملة أوالطائفة مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
[2519]
[2520] (الانصار ومزينة ومن كان من بني عبد الله ومن ذكر مَوَالِيَّ دُونَ النَّاسِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَاهُمْ) أَيْ وَلِيُّهُمْ وَالْمُتَكَفِّلُ بِهِمْ وَبِمَصَالِحِهِمْ وَهُمْ مَوَالِيهِ أَيْ نَاصِرُوهُ وَالْمُخْتَصُّونَ بِهِ قَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ بِبَنِي عَبْدِ اللَّهِ هُنَا بَنُو عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ غَطَفَانَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ فَسَمَّتْهُمُ الْعَرَبُ بَنِي مُحَوِّلَةَ لتحويل(16/74)
اسْمِ أَبِيهِمْ قَوْلُهُ
[2521] (وَالْحَلِيفَيْنِ أَسَدُ وَغَطَفَانُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْحِلْفِ أَيِ الْمُتَحَالِفَيْنِ قَوْلُهُ(16/75)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2522] (إِنَّهُمْ لَأَخْيَرُ مِنْهُمْ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ لَأَخْيَرُ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ تَكَرَّرَتْ فِي الْأَحَادِيثِ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يُنْكِرُونَهَا وَيَقُولُونَ الصَّوَابُ خَيْرٌ وَشَرٌّ وَلَا يُقَالُ أَخْيَرُ وَلَا أَشَرُّ وَلَا يُقْبَلُ إِنْكَارُهُمْ فَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةُ الِاسْتِعْمَالِ وَأَمَّا تَفْضِيلُ هَذِهِ الْقَبَائِلِ فَلِسَبْقِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَآثَارِهِمْ فِيهِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي سَيِّدُ بَنِي تَمِيمٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ الضَّبِّيُّ) قَالَ الْقَاضِي كَذَا وَقَعَ هُنَا وَضَبَّةُ لَا تَجْتَمِعُ فِي بَنِي تَمِيمٍ إِنَّمَا ضَبَّةُ بْنُ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ وَفِي قُرَيْشٍ أَيْضًا ضَبَّةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ قَالَ وَقَدْ نَسَبَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ كَمَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ قُلْتُ وَفِي هُذَيْلٍ أَيْضًا ضَبَّةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَبِّيًّا(16/76)
بِالْحِلْفِ أَوْ مَجَازًا لِمُقَارَبَتِهِ فَإِنَّ تَمِيمًا تَجْتَمِعُ هي وضبية قَرِيبًا قَوْلُهُ
[2523] (أَوَّلُ صَدَقَةٍ بَيَّضَتْ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوهَ أَصْحَابِهِ صدقة طئ) أي سرتهم وأفرحتهم وطىء بالهمزة على(16/77)
الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ تَرْكُهُ وَسَبَقَ بَيَانُهُ وَالْمَلَاحِمُ مَعَارِكُ الْقِتَالِ وَالْتِحَامُهُ
(بَاب خِيَارِ النَّاسِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2526] (تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ فَخِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا) هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي فَضَائِلِ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَقُهُوا بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا أَيْ صَارُوا فُقَهَاءَ وَعُلَمَاءَ وَالْمَعَادِنُ الْأُصُولُ وَإِذَا كَانَتِ الْأُصُولُ شَرِيفَةً كانت(16/78)
الْفُرُوعُ كَذَلِكَ غَالِبًا وَالْفَضِيلَةُ فِي الْإِسْلَامِ بِالتَّقْوَى لكن إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا شَرَفُ النَّسَبِ ازْدَادَتْ فَضْلًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَتَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً حَتَّى يَقَعَ فِيهِ) قَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِسْلَامُ كَمَا كَانَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ مِنْ مَسْلَمَةِ الْفَتْحِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً لَمَّا دَخَلَ فِيهِ أَخْلَصَ وَأَحَبَّهُ وَجَاهَدَ فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ هُنَا الْوِلَايَاتُ لِأَنَّهُ إِذَا أُعْطِيهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِينَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ إِنَّهُ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ فَسَبَبُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ نِفَاقٌ مَحْضٌ وَكَذِبٌ وَخِدَاعٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا وَيُظْهِرُ لَهَا أَنَّهُ مِنْهَا فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ(16/79)
(بَاب مِنْ فَضَائِلِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2527] (خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ) فِيهِ فَضِيلَةُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ وَفَضْلُ هَذِهِ الْخِصَالِ وَهِيَ الْحَنْوَةُ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ وَحُسْنُ تَرْبِيَتِهِمْ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا يَتَامَى وَنَحْوُ ذَلِكَ مُرَاعَاةُ حَقِّ الزَّوْجِ فِي مَالِهِ وَحِفْظِهِ وَالْأَمَانَةِ فِيهِ وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا وَصِيَانَتِهِ ونحو ذلك ومعنى ركبن الابل نساءالعرب وَلِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الْحَدِيثِ لَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ نِسَاءَ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْعَرَبَ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي الجملة وأما الافراد فيدخل بها الخصوص ومعنى ذَاتُ يَدِهِ أَيْ شَأْنُهُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ وَمَعْنَى أَحْنَاهُ أَشْفَقُهُ وَالْحَانِيَةُ عَلَى وَلَدِهَا الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ يُتْمِهِمْ فَلَا تَتَزَوَّجُ فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَلَيْسَتْ بِحَانِيَةٍ قَالَ الْهَرَوِيُّ وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ فَضْلِ أَبِي سُفْيَانَ قَرِيبًا بَيَانُ أَحْنَاهُ وأرعاه وأن معناه أحناهن والله اعلم)(16/80)
(باب مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم)
بين أصحابه رضي الله عنهم
[2528] ذَكَرَ فِي الْبَابِ الْمُؤَاخَاةَ وَالْحِلْفَ وَحَدِيثَ لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ
[2529] وَحَدِيثَ أَنَسٍ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ والانصار في داري بِالْمَدِينَةِ قَالَ الْقَاضِي قَالَ الطَّبَرِيُّ لَا يَجُوزُ الْحِلْفُ الْيَوْمَ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ وَالْمُوَارَثَةَ به وبالمؤاخاة كله منسوخ لقوله تعالى وأولوا(16/81)
الارحام بعضهم أولى ببعض وَقَالَ الْحَسَنُ كَانَ التَّوَارُثُ بِالْحِلْفِ فَنُسِخَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ قُلْتُ أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِرْثِ فَيُسْتَحَبُّ فيه المخالفة عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا الْمُؤَاخَاةُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْمُحَالَفَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّنَاصُرُ فِي الدِّينِ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَإِقَامَةُ الْحَقِّ فَهَذَا بَاقٍ لَمْ يُنْسَخْ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2530] (لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ) فَالْمُرَادُ بِهِ حِلْفُ التَّوَارُثِ وَالْحِلْفُ عَلَى مَا مَنَعَ الشرع منه والله أعلم(16/82)
(باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه سلم)
أمان لأصحابه وبقاء أصحابه أمان للأمة قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2531] (النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَمَنَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَالْأَمْنُ وَالْأَمَانُ بِمَعْنًى وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ النُّجُومَ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً فَالسَّمَاءُ بَاقِيَةٌ فَإِذَا انْكَدَرَتِ النُّجُومُ وَتَنَاثَرَتْ فِي الْقِيَامَةِ وَهَنَتِ السَّمَاءُ فَانْفَطَرَتْ وَانْشَقَّتْ وَذَهَبَتْ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ أَيْ مِنَ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ وَارْتِدَادِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْأَعْرَابِ وَاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَنْذَرَ بِهِ صَرِيحًا وَقَدْ وَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ) مَعْنَاهُ مِنْ ظُهُورِ الْبِدَعِ وَالْحَوَادِثِ فِي الدِّينِ وَالْفِتَنِ فِيهِ وَطُلُوعِ قَرْنِ الشَّيْطَانِ وَظُهُورِ الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ وَانْتَهَاكِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(بَاب فَضْلِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2532] (يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ) هُوَ بِفَاءٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ أَيْ جَمَاعَةٌ وَحَكَى الْقَاضِي فِيهِ بِالْيَاءِ مُخَفَّفَةً بِلَا هَمْزٍ وَلُغَةً أُخْرَى فَتْحُ الْفَاءِ حَكَاهَا عَنِ الْخَلِيلِ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ(16/83)
وَالْبَعْثُ هُنَا الْجَيْشُ قَوْلُهُ
[2533] (عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالسِّينِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي سَلْمَانَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (خير كم قَرْنِي) وَفِي رِوَايَةٍ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ إِلَى آخِرِهِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ قَرْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أَصْحَابُهُ وَقَدْ قَدَّمْنَا(16/84)
أَنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ سَاعَةً فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَرِوَايَةُ خَيْرُ النَّاسِ عَلَى عُمُومِهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ جُمْلَةُ الْقَرْنِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُ الصَّحَابِيِّ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا أَفْرَادُ النِّسَاءِ عَلَى مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَغَيْرِهِمَا بَلِ الْمُرَادُ جُمْلَةُ الْقَرْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ قَرْنٍ بِجُمْلَتِهِ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَرْنِ هُنَا فَقَالَ الْمُغِيرَةُ قَرْنُهُ أَصْحَابُهُ وَاَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ وَالثَّالِثُ أَبْنَاءُ أَبْنَائِهِمْ وَقَالَ شَهْرٌ قَرْنُهُ مَا بَقِيَتْ عَيْنٌ رَأَتْهُ وَالثَّانِي مَا بَقِيَتْ عَيْنٌ رَأَتْ مَنْ رَآهُ ثُمَّ كَذَلِكَ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْقَرْنُ كُلُّ طَبَقَةٍ مُقْتَرِنِينَ فِي وَقْتٍ وَقِيلَ هُوَ لِأَهْلِ مُدَّةٍ بُعِثَ فِيهَا نَبِيٌّ طَالَتْ مُدَّتُهُ أَمْ قَصُرَتْ وَذَكَرَ الْحَرْبِيُّ الِاخْتِلَافَ فِي قَدْرِهِ بِالسِّنِينَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ إِلَى مِائَةٍ وعشرين ثم قال وليس منه شئ وَاضِحٌ وَرَأَى أَنَّ الْقَرْنَ كُلُّ أُمَّةٍ هَلَكَتْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا أَحَدٌ وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ الْقَرْنُ عَشْرُ سِنِينَ وَقَتَادَةُ سَبْعُونَ وَالنَّخَعِيُّ أَرْبَعُونَ وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَعَبْدُ الملك بن عمير مائة وقال بن الْأَعْرَابِيِّ هُوَ الْوَقْتُ هَذَا آخِرُ نَقْلِ الْقَاضِي وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَرْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةُ وَالثَّانِي التَّابِعُونَ وَالثَّالِثُ تَابِعُوهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم (ثم يجئ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِيُنُهُ شَهَادَتَهُ) هَذَا ذَمٌّ لِمَنْ يَشْهَدُ وَيَحْلِفُ مَعَ شَهَادَتِهِ وَاحْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ من خلف معها وجمهور(16/85)
العلماء أنها لاترد وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالشَّهَادَةِ فَتَارَةً تَسْبِقُ هَذِهِ وَتَارَةً هَذِهِ وَفِي الرِّوَايَةِ الاخرى تبدر شهادة أحدهم وهو يعنى تَسْبِقُ قَوْلُهُ يَنْهَوْنَنَا عَنِ الْعَهْدِ وَالشَّهَادَاتِ أَيِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالشَّهَادَةِ وَقِيلَ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ قَوْلِهِ عَلَى عَهْدِ اللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ يَتَخَلَّفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ يَتَخَلَّفُ وَفِي بَعْضِهَا يَخْلُفُ بِحَذْفِ التاء وكلاهما صحيح أي يجئ بَعْدَهُمْ خَلْفٌ بِإِسْكَانِ اللَّامِ هَكَذَا الرِّوَايَةُ وَالْمُرَادُ خَلْفُ سُوءٍ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْخَلْفُ مَا صَارَ عِوَضًا عَنْ غَيْرِهِ وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ خَلَفَ بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ لَكِنْ يُقَالُ فِي الْخَيْرِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَإِسْكَانِهَا لُغَتَانِ الْفَتْحُ أَشْهَرُ وَأَجْوَدُ وفي الشر باسكانها عن الْجُمْهُورِ وَحُكِيَ أَيْضًا فَتْحُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2534] (ثُمَّ يَخْلُفُ قَوْمٌ يُحِبُّونَ السَّمَانَةَ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا) وَفِي رِوَايَةٍ وَيَظْهَرُ قَوْمٌ فِيهِمُ السِّمَنُ السَّمَانَةُ بِفَتْحِ السِّينِ هِيَ السمن قال جمهور العلماءفي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الْمُرَادُ بِالسِّمَنِ هُنَا كَثْرَةُ اللحم ومعناه أنه يكثر ذلك فيهم وليسن مَعْنَاهُ أَنْ يَتَمَحَّضُوا سِمَانًا قَالُوا وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ(16/86)
مَنْ يَسْتَكْسِبُهُ وَأَمَّا مَنْ هُوَ فِيهِ خِلْقَةً فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا وَالْمُتَكَسِّبُ لَهُ هُوَ الْمُتَوَسِّعُ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ زَائِدًا عَلَى الْمُعْتَادِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالسِّمَنِ هُنَا أَنَّهُمْ يَتَكَثَّرُونَ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ وَيَدَّعُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الشَّرَفِ وَغَيْرَهِ وَقِيلَ الْمُرَادُ جَمْعُهُمُ الْأَمْوَالَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا) هَذَا الْحَدِيثُ فِي ظَاهِرِهِ مُخَالَفَةٌ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ خَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الذَّمَّ فِي ذَلِكَ لِمَنْ بَادَرَ بِالشَّهَادَةِ فِي حق الآدمي هو عالم بها قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهَا صَاحِبُهَا وَأَمَّا الْمَدْحُ فَهُوَ لِمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةُ الْآدَمِيِّ وَلَا يَعْلَمُ بها صاحبها فيخبره بها ليستشهد بِهَا عِنْدَ الْقَاضِي إِنْ أَرَادَ وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةُ حِسْبَةٍ وَهِيَ الشَّهَادَةُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَأْتِي الْقَاضِيَ وَيَشْهَدُ بِهَا وَهَذَا مَمْدُوحٌ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِحَدٍّ وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي السِّتْرِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَقِيلَ فِيهِ اقوال ضعيفة منها قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالذَّمِّ مُطْلَقًا وَنَابَذَ حَدِيثَ المدح ومنها مَنْ حَمَلَهُ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ وَمِنْهَا قَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ(16/87)
وَكُلُّهَا فَاسِدَةٌ وَاحْتَجَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَذْهَبِهِ فِي مَنْعِهِ الشَّهَادَةَ عَلَى الْإِقْرَارِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ قَبُولُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2535] (وَيَخُونُونَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ يَتَمَنَّوْنَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَفِي بَعْضِهَا يُؤْتَمَنُونَ وَمَعْنَاهُ يَخُونُونَ خِيَانَةً ظَاهِرَةً بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مَعَهَا أَمَانَةٌ بِخِلَافِ مَنْ خَانَ بِحَقِيرٍ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَانَ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْأَمَانَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم (وينذرون ولا يوفون) هوبكسر الذَّالِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ وَفِي رِوَايَةٍ يَفُونَ وَهُمَا صَحِيحَانِ يُقَالُ وَفَى وَأَوْفَى فِيهِ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ النَّذْرِ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَائِلُ لِلنُّبُوَّةِ وَمُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ كُلَّ الْأُمُورِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا وَقَعَتْ كَمَا أَخْبَرَ قَوْلُهُ (سَمِعْتُ أَبَا جَمْرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ) أَمَّا أَبُو جَمْرَةَ فَبِالْجِيمِ وَهُوَ أَبُو جَمْرَةَ نصْرُ بْنُ عِمْرَانَ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ ثُمَّ فِي مَوَاضِعَ وَلَا خلاف أنه المراد(16/88)
هنا وَأَمَّا زَهْدَمُ فَبِزَايٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُضَرِّبٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ قَوْلُهُ
[2536] (عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ عَنْ عَائِشَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَقَالَ إِنَّمَا رَوَى الْبَهِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ الْقَاضِي قَدْ صَحَّحُوا رِوَايَتَهُ عَنْ عَائِشَةَ وَقَدْ ذكر البخاري روايته عن عائشة
(باب بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على رأس مائة سنة لا يبقى)
نفس منفوسة ممن هو موجود الآن قوله صلى الله عليه وسلم
[2537] (أريتكم لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظهر الارض أحد قال بن عُمَرَ وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْقَى(16/89)
مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْخَرِمَ ذَلِكَ الْقَرْنُ) وَفِي
[2538]
[2539]
[2538] رِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ يَقُولُ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ الْيَوْمَ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمئِذٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ فَسَّرَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَفِيهَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَالْمُرَادُ أَنَّ كل نفس منفوسة كانت تلك اللَّيْلَةَ عَلَى الْأَرْضِ لَا تَعِيشُ بَعْدَهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ سَوَاءٌ قَلَّ أَمْرُهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَمْ لَا وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ عَيْشِ أَحَدٍ يُوجَدُ بَعْدَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَوْقَ مِائَةِ سَنَةٍ وَمَعْنَى نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ أَيْ مَوْلُودَةٍ وَفِيهِ احْتِرَازُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْ شَذَّ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ فَقَالَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَيِّتٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى حَيَاتِهِ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ فَضَائِلِهِ وَيَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْبَحْرِ لَا عَلَى الْأَرْضِ أَوْ أَنَّهَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ قَوْلُهُ (فَوَهَلَ النَّاسُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ أَيْ غَلِطُوا يُقَالُ وَهَلَ بِفَتْحِ الْهَاءِ يَهِلُ بِكَسْرِهَا وَهْلًا كَضَرِبَ يَضْرِبُ ضَرْبًا أي غلط وذهب وهنه إِلَى خِلَافِ الصَّوَابِ وَأَمَّا وَهِلْتُ بِكَسْرِهَا أَهَلُ بِفَتْحِهَا وَهَلًا كَحَذِرْتُ أَحْذَرُ حَذَرًا فَمَعْنَاهُ فَزِعْتُ وَالْوَهَلُ بِالْفَتْحِ الْفَزَعُ قَوْلُهُ (يَنْخَرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنُ) أَيْ يَنْقَطِعُ وَيَنْقَضِي قَوْلُهُ (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبِ السِّقَايَةِ عَنْ جَابِرٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قول معتمر بن سلمان سمعت أبي قال حدثنا أبو(16/90)
ضرة ثُمَّ قَالَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَدِيثِ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَالْقَائِلُ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ سُلَيْمَانُ والد(16/91)
مُعْتَمِرٍ فَسُلَيْمَانُ يَرْوِيهِ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ إِلَيْهِ عَنِ اثْنَيْنِ أَبِي نَضْرَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبِ السِّقَايَةِ كلاهما عن جابر والله اعلم
(باب تحريم سب الصحابة)
قَوْلُهُ
[2540] (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيِّ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيِّ هَذَا وَهَمٌ وَالصَّوَابُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ وَالنَّاسُ قَالَ وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ يَرْوِيهِ الْأَعْمَشُ وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فَرَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاخْتُلِفَ عَلَى أَبِي عَوَانَةَ عَنْهُ فَرَوَاهُ عَفَّانُ وَيَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ كَذَلِكَ وَرَوَاهُ مُسَدَّدٌ وَأَبُو كَامِلٍ وَشَيْبَانُ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ فَقَالُوا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَكَذَا قَالَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ وَالْخَرَشِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ وَالصَّوَابُ مِنْ رِوَايَاتِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَرَوَاهُ زَائِدَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ والله اعلم(16/92)
وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَرَامٌ مِنْ فَوَاحِشِ الْمُحَرَّمَاتِ سَوَاءٌ مَنْ لَابَسَ الْفِتَنَ مِنْهُمْ وَغَيْرُهُ لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ مُتَأَوِّلُونَ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ فَضَائِلِ الصَّحَابَةَ مِنْ هَذَا الشَّرْحِ قَالَ الْقَاضِي وَسَبُّ أَحَدِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ يُقْتَلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2541] (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ماأدرك مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ النَّصِيفُ النِّصْفُ وَفِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ نِصْفُ بِكَسْرِ النُّونِ وَنُصْفُ بِضَمِّهَا وَنَصْفُ بِفَتْحِهَا وَنَصِيفٌ بِزِيَادَةِ الْيَاءِ حَكَاهُنَّ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ عَنِ الْخَطَّابِيِّ وَمَعْنَاهُ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ ثَوَابُهُ فِي ذَلِكَ ثَوَابَ نَفَقَةِ أَحَدِ أَصْحَابِي مُدًّا وَلَا نِصْفَ مُدٍّ قَالَ الْقَاضِي وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ بَابِ فَضَائِلِ الصَّحَابَةَ عَنِ الْجُمْهُورِ مِنْ تَفْضِيلِ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ عَلَى جَمِيعِ مَنْ بَعْدَهُمْ وَسَبَبُ تَفْضِيلِ نَفَقَتِهِمْ أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ وَضِيقِ الْحَالِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ إِنْفَاقَهُمْ كَانَ فِي نُصْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِمَايَتِهِ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْدَهُ وَكَذَا جِهَادُهُمْ وَسَائِرُ طَاعَتِهِمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أولئك أعظم درجة الْآيَةُ هَذَا كُلُّهُ مَعَ مَا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الشَّفَقَةِ وَالتَّوَدُّدِ وَالْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْإِيثَارِ وَالْجِهَادِ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَفَضِيلَةِ الصُّحْبَةِ وَلَوْ لَحْظَةً لَا يُوَازِيهَا عَمَلٌ وَلَا تُنَالُ درجتها بشئ وَالْفَضَائِلُ لَا تُؤْخَذُ بِقِيَاسٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ قَالَ الْقَاضِي وَمِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ وَقَاتَلَ مَعَهُ وَأَنْفَقَ وَهَاجَرَ وَنَصَرَ لَا لِمَنْ رَآهُ مَرَّةً كَوُفُودِ الْأَعْرَابِ أَوْ صَحِبَهُ آخِرًا بَعْدَ الْفَتْحِ وَبَعْدَ إِعْزَازِ الدِّينِ مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ هِجْرَةٌ وَلَا أَثَرٌ فِي الدِّينِ وَمَنْفَعَةُ(16/93)
الْمُسْلِمِينَ قَالَ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ والله اعلم
(باب من فضائل أويس القرني رضي الله عنه قَوْلُهُ
[2542] (أُسَيْرُ بْنُ جَابِرٍ) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَيُقَالُ أُسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو وَيُقَالُ يُسْرُ بِضَمِّ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ وَفِي قِصَّةِ أُوَيْسٍ هَذِهِ مُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ كَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ هُنَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ قال بن مَاكُولَا وَيُقَالُ أُوَيْسُ بْنُ عَمْرٍو قَالُوا وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَمْرٍو قَالَ الْقَائِلُ قُتِلَ بِصِفِّينَ وَهُوَ الْقَرَنِيُّ مِنْ بَنِي قَرَنٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَهِيَ بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ وَهُوَ قَرَنُ بْنُ ردمان بن ناجبة بْنِ مُرَادٍ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُرَادٌ اسْمُهُ جَابِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أُدَدَ بْنِ صُحْبِ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَّادٍ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ بَطْنٍ من مراد واليه نُسِبَ هُوَ الصَّوَابُ وَلَا خِلَافَ فيهِ وفِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى قَرْنِ الْمَنَازِلِ الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ مِيقَاتِ الْإِحْرَامِ لِأَهْلِ نَجْدٍ وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ وَسَبَقَ هُنَاكَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ قَوْلُهُ وَفِيهِمْ رَجُلٌ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ أَيْ يَحْتَقِرُهُ وَيَسْتَهْزِئُ بِهِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُخْفِي حَالَهُ وَيَكْتُمُ السِّرَّ الَّذِي بَيْنَهُ وبين الله عزوجل ولا يظهر منه شئ يَدُلُّ لِذَلِكَ وَهَذِهِ طَرِيقُ الْعَارِفِينَ وَخَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ) وَفِي الرواية)(16/94)
الْأُخْرَى قَالَ لِعُمَرَ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ هَذِهِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأُوَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ طَلَبِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ إِلَى آخِرِهِ) هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ خَيْرُ التَّابِعِينَ وَقَدْ يُقَالُ قَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ سَعِيدًا أَفْضَلَ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهَا لَا فِي الْخَيْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ أَيْضًا قَوْلُهُ (أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ) هُمُ الْجَمَاعَةُ الْغُزَاةُ الَّذِينَ يَمُدُّونَ جُيُوشَ الْإِسْلَامِ فِي الْغَزْوِ وَاحِدُهُمْ مَدَدٌ قَوْلُهُ (أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ) هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ المعجمة(16/95)
وَبِإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمَدِّ أَيْ ضِعَافِهِمْ وَصَعَالِيكِهِمْ وَأَخْلَاطِهِمُ الَّذِينَ لَا يُؤْبَهُ لَهُمْ وَهَذَا مِنْ إِيثَارِ الْخُمُولِ وَكَتْمِ حَالِهِ قَوْلُهُ (رَثَّ الْبَيْتِ) هُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَلِيلَ الْمَتَاعِ وَالرَّثَاثَةُ وَالْبَذَاذَةُ بِمَعْنًى وَهُوَ حَقَارَةُ الْمَتَاعِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَفِي حَدِيثِهِ فَضْلُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَفَضْلُ الْعُزْلَةِ وَإِخْفَاءُ الْأَحْوَالِ
(بَاب وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ مِصْرَ)
قَوْلُهُ
[2543] (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُمَاسَةَ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَتَفْتَحُونَ(16/96)
أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا فَإِذَا رَأَيْتَ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَاخْرُجْ مِنْهَا) قَالَ فَمَرَّ بِرَبِيعَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنَيْ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ يتنَازعَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَخَرَجَ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةٍ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ وَفِيهَا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا أَوْ قَالَ ذِمَّةً وَصِهْرًا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْقِيرَاطُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَغَيْرِهِمَا وَكَانَ أَهْلُ مِصْرَ يُكْثِرُونَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ وَأَمَّا الذِّمَّةُ فَهِيَ الْحُرْمَةُ وَالْحَقُّ وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى الذِّمَامُ وَأَمَّا الرَّحِمُ فَلِكَوْنِ هَاجَرَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ وَأَمَّا الصِّهْرُ فَلِكَوْنِ مَارِيَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُمْ وَفِيهِ مُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا إِخْبَارُهُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ تَكُونُ لَهُمْ قُوَّةٌ وَشَوْكَةٌ بَعْدَهُ بِحَيْثُ يَقْهَرُونَ الْعَجَمَ وَالْجَبَابِرَةَ وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يَفْتَحُونَ مِصْرَ وَمِنْهَا تَنَازُعُ الرَّجُلَيْنِ فِي مَوْضِعِ اللَّبِنَةِ وَوَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَمَعْنَى يَقْتَتِلَانِ يَخْتَصِمَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي بَصْرَةَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ) هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ(16/97)
(بَاب فَضْلِ أَهْلِ عُمَانَ
[2544] (عُمَانَ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَهِيَ مَدِينَةُ بِالْبَحْرَيْنِ وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ يَعْنِي عَمَّانَ الْبَلْقَاءِ وَهَذَا غَلَطٌ وَفِيهِ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ وَفَضْلُهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ)
بَاب ذِكْرِ كَذَّابِ ثَقِيفٍ وَمُبِيرِهَا
(قَوْلُهُ
[2545] (رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ) قَوْلُهُ عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ هِيَ عَقَبَةٌ بِمَكَّةَ وَأَبُو خُبَيْبٍ بضم الخاء المعجمة كنية بن الزبير كني بأبيه خُبَيْبٍ وَكَانَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ وَلَهُ ثَلَاثُ كُنًى ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَآخَرُونَ أَبُو خُبَيْبٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَأَبُو بُكَيْرٍ فِيهِ اسْتِحْبَابُ السَّلَامِ على الميت في قبره وغيره وتكرير السلام ثلاثا كما كرر بن عُمَرَ وَفِيهِ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَوْتَى بِجَمِيلِ صِفَاتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِابْنِ عُمَرَ لِقَوْلِهِ بِالْحَقِّ فِي الْمَلَأِ وَعَدَمِ اكْتِرَاثِهِ بِالْحَجَّاجِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْلُغُهُ مَقَامُهُ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ فلم يمنعه ذلك أن يقول الحق ويشهد لِابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَا يَعْلَمُهُ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَبُطْلَانِ مَا أَشَاعَ عَنْهُ الْحَجَّاجُ مِنْ قَوْلِهِ أنه عدو)(16/98)
الله وظالم ونحوه فأراد بن عمر براءة بن الزُّبَيْرِ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ وَأَعْلَمَ النَّاسَ بِمَحَاسِنِهِ وَأَنَّهُ ضِدُّ مَا قَالَهُ الحجاج ومذهب أهل الحق أن بن الزُّبَيْرِ كَانَ مَظْلُومًا وَأَنَّ الْحَجَّاجَ وَرُفْقَتَهُ كَانُوا خَوَارِجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا) أَيْ عَنِ الْمُنَازَعَةِ الطَّوِيلَةِ قَوْلُهُ فِي وَصْفِهِ (وَصُولًا لِلرَّحِمِ) قَالَ الْقَاضِي هُوَ أَصَحُّ مَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْإِخْبَارِيِّينَ وَوَصَفَهُ بِالْإِمْسَاكِ وَقَدْ عَدَّهُ صَاحِبُ كِتَابِ الْأَجْوَدِ فِيهِمْ وَهُوَ الْمَعْرُوفِ مِنْ أَحْوَالِهِ قَوْلُهُ (وَاَللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ شَرُّهَا أُمَّةُ خَيْرٍ) هَكَذَا هُوَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِنَا لَأُمَّةُ خَيْرٍ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا لَأُمَّةُ سُوءٍ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ السَّمَرْقَنْدِيِّ قَالَ وَهُوَ خَطَأٌ وَتَصْحِيفٌ قَوْلُهُ (ثُمَّ نفذ بن عُمَرَ) أَيِ انْصَرَفَ قَوْلُهُ (يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ) أَيْ يَجُرُّكِ بِضَفَائِرِ شَعْرِكِ قَوْلُهُ (أَرُونِي سِبْتَيَّ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ وَهِيَ النَّعْلُ الَّتِي لَا شَعْرَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ (ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ) هُوَ بِالْوَاوِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَاهُ يُسْرِعُ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ مَعْنَاهُ يَتَبَخْتَرُ قَوْلُهُ (ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ) هُوَ بِكَسْرِ النُّونِ قَالَ الْعُلَمَاءُ النِّطَاقُ أَنْ تَلْبَسَ المرأة ثوبها ثم تشد وسطها بشئ وَتَرْفَعَ وَسَطَ ثَوْبِهَا(16/99)
وَتُرْسِلَهُ عَلَى الْأَسْفَلِ تَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ مُعَانَاةِ الْأَشْغَالِ لِئَلَّا تَعْثِرَ فِي ذَيْلِهَا قِيلَ سُمِّيَتْ أَسْمَاءُ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُطَارِفُ نِطَاقًا فَوْقَ نِطَاقٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا شَقَّتْ نِطَاقَهَا الْوَاحِدَ نِصْفَيْنِ فَجَعَلَتْ أَحَدَهُمَا نِطَاقًا صَغِيرًا وَاكْتَفَتْ بِهِ وَالْآخَرَ لِسُفْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا وَفِي الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ أَوْضَحُ مِنْ لَفْظِ مُسْلِمٍ قَوْلُهَا لِلْحَجَّاجِ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكُ إِلَّا إِيَّاهُ) أَمَّا أَخَالُكَ فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ أَشْهَرُ وَمَعْنَاهُ أَظُنُّكَ وَالْمُبِيرُ الْمُهْلِكُ وَقَوْلُهَا فِي الْكَذَّابِ فَرَأَيْنَاهُ تَعْنِي به المحتار بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ كَانَ شَدِيدَ الْكَذِبِ وَمِنْ أَقْبَحِهِ ادَّعَى أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ المراد بالكذاب هنا المحتار بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ وَبِالْمُبِيرِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب فَضْلِ فَارِسَ)
فِيهِ
[2546] فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمْ وَجَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي مواضعها(16/100)
(باب قوله صلى الله عليه وسلم)
الناس كابل مائة لا تجد فيها راحلة
[2547] قال بن قُتَيْبَةَ الرَّاحِلَةُ النَّجِيبَةُ الْمُخْتَارَةُ مِنَ الْإِبِلِ لِلرُّكُوبِ وَغَيْرِهِ فَهِيَ كَامِلَةُ الْأَوْصَافِ فَإِذَا كَانَتْ فِي إِبِلٍ عُرِفَتْ قَالَ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاسَ مُتَسَاوُونَ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فَضْلٌ فِي النَّسَبِ بَلْ هُمْ أَشْبَاهٌ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ الرَّاحِلَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْجَمَلُ النَّجِيبُ وَالنَّاقَةُ النَّجِيبَةُ قَالَ وَالْهَاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ فهامة ونسابة قال والمعنى الذي ذكره بن قُتَيْبَةَ غَلَطٌ بَلْ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الزَّاهِدَ فِي الدُّنْيَا الْكَامِلَ فِي الزُّهْدِ فِيهَا وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ قَلِيلٌ جِدًّا كَقِلَّةِ الرَّاحِلَةِ فِي الْإِبِلِ هَذَا كَلَامُ الْأَزْهَرِيِّ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ كلام بن قُتَيْبَةَ وَأَجْوَدُ مِنْهُمَا قَوْلُ آخَرِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ الْمَرْضِيُّ الْأَحْوَالُ مِنَ النَّاسِ الْكَامِلُ الْأَوْصَافُ الْحَسَنُ الْمَنْظَرُ الْقَوِيُّ عَلَى الْأَحْمَالِ وَالْأَسْفَارِ سُمِّيَتْ رَاحِلَةً لِأَنَّهَا تَرْحَلُ أَيْ يُجْعَلُ عَلَيْهَا الرَّحْلُ فَهِيَ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٌ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أَيْ مَرْضِيَّةٍ ونظائره(16/101)
(كِتَاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ)
(بَاب بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَأَنَّهُمَا أَحَقُّ بِهِ)
قَوْلُهُ
[2548] (مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ أُمُّكَ إِلَى آخِرِهِ) الصَّحَابَةُ هُنَا بِفَتْحِ الصَّادِ بِمَعْنَى الصُّحْبَةِ وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى بِرِّ الْأَقَارِبِ وَأَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّهَمْ بِذَلِكَ ثُمَّ بَعْدَهَا الْأَبَ ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَسَبَبُ تَقْدِيمِ الْأُمِّ كَثْرَةُ تَعَبِهَا عَلَيْهِ وَشَفَقَتُهَا وَخِدْمَتُهَا وَمُعَانَاةُ الْمَشَاقِّ فِي حَمْلِهِ ثُمَّ وَضْعِهِ ثُمَّ إِرْضَاعِهِ ثُمَّ تَرْبِيَتِهِ وَخِدْمَتِهِ وَتَمْرِيضِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَنَقَلَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ تُفَضَّلُ فِي الْبِرِّ عَلَى الْأَبِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ خِلَافًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْجُمْهُورُ بِتَفْضِيلِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ بِرُّهُمَا سَوَاءٌ قَالَ وَنَسَبَ بَعْضُهُمْ هَذَا إِلَى مَالِكٍ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ لِصَرِيحِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأُمَّ وَالْأَبَ آكَدُ حُرْمَةً فِي الْبِرِّ(16/102)
مِمَّنْ سِوَاهُمَا قَالَ وَتَرَدَّدَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَجْدَادِ وَالْإِخْوَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ قَالَ أَصْحَابُنَا يُسْتَحَبُّ أَنْ تُقَدَّمَ فِي الْبِرِّ الْأُمُّ ثُمَّ الْأَبُ ثُمَّ الْأَوْلَادُ ثُمَّ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ ثُمَّ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ ثُمَّ سَائِرُ الْمَحَارِمِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ كَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَيُقَدَّمُ مَنْ أَدْلَى بِأَبَوَيْنِ عَلَى مَنْ أَدْلَى بِأَحَدِهِمَا ثُمَّ بِذِي الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ كَابْنِ الْعَمِّ وَبِنْتِهِ وَأَوْلَادِ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ بِالْمُصَاهَرَةِ ثُمَّ بِالْمَوْلَى مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَلِ ثُمَّ الْجَارِ وَيُقَدَّمُ الْقَرِيبُ الْبَعِيدُ الدَّارِ عَلَى الْجَارِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الْقَرِيبُ فِي بَلَدٍ آخَرَ قُدِّمَ عَلَى الْجَارِ الْأَجْنَبِيِّ وَأَلْحَقُوا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ بِالْمَحَارِمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَعَمْ وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ) قَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ مَرَّاتٌ عَنْ مثل هذا وأنه لاتراد بِهِ حَقِيقَةُ الْقَسَمِ بَلْ هِيَ كَلِمَةٌ تَجْرِي على اللسان دعامة للكلام وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ قَوْلُهُ
[2549] (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) وَفِي رِوَايَةٍ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ(16/103)
وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا هَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ لِعِظَمِ فَضِيلَةِ بِرِّهِمَا وَأَنَّهُ آكَدُ مِنَ الْجِهَادِ وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجِهَادُ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا فَلَوْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ لَمْ يُشْتَرَطْ إِذْنِهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ وَشَرَطَهُ الثَّوْرِيُّ هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَحْضُرَ الصَّفَّ وَيَتَعَيَّنِ الْقِتَالَ وَإِلَّا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَأَنَّ عُقُوقَهُمَا حَرَامٌ مِنَ الْكَبَائِرِ وَسَبَقَ بيانه مبسوطا في كتاب الايمان(16/104)
(باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها)
[2550] فِيهِ قِصَّةُ جُرَيْجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ آثَرَ الصَّلَاةَ عَلَى إِجَابَتِهَا فَدَعَتْ عَلَيْهِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الصَّوَابُ فِي حَقِّهِ إِجَابَتَهَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةِ نَفْلٍ وَالِاسْتِمْرَارُ فِيهَا تَطَوُّعٌ لَا وَاجِبٌ وَإِجَابَةُ الْأُمِّ وَبِرُّهَا وَاجِبٌ وَعُقُوقُهَا حَرَامٌ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَفِّفَ الصَّلَاةَ وَيُجِيبَهَا ثُمَّ يَعُودَ لِصَلَاتِهِ فَلَعَلَّهُ خَشِيَ أَنَّهَا تَدْعُوهُ إِلَى مُفَارَقَةِ صَوْمَعَتِهِ وَالْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتِهَا وَحُظُوظِهَا وَتُضْعِفُ عَزْمَهُ فِيمَا نَوَاهُ وَعَاهَدَ عَلَيْهِ قَوْلُهَا (فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهِ الْمُومِسَاتِ) هِيَ بضم الميم الاولى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ أَيِ الزَّوَانِي الْبَغَايَا الْمُتَجَاهِرَاتِ بِذَلِكَ وَالْوَاحِدَةُ مُومِسَةٌ وَتَجْمَعُ عَلَى مَيَامِيسَ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 0وَكَانَ رَاعِي ضَأْنٍ يَأْوِي إِلَى دَيْرِهِ) الدَّيْرُ كَنِيسَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْعِمَارَةِ تَنْقَطِعُ فِيهَا رُهْبَانُ النَّصَارَى لِتَعَبُّدِهِمْ وَهُوَ بِمَعْنَى الصَّوْمَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ نَحْوَ الْمَنَارَةِ يَنْقَطِعُونَ فِيهَا عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فجاؤوا بفؤوسهم(16/105)
هو مهموز ممدود جمع فأس بالهمزة وهي هذه المعروفة كرأس ورؤوس وَالْمَسَاحِي جَمْعُ مِسْحَاةٍ وَهِيَ كَالْمِجْرَفَةِ إِلَّا أَنَّهَا مِنْ حَدِيدٍ ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ) فَذَكَرَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِمُ الصَّبِيُّ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي حَدِيثِ السَّاحِرِ وَالرَّاهِبِ وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ الصَّبِيَّ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَهْدِ بَلْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ صَاحِبِ الْمَهْدِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا قَوْلُهُ (بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا) أَيْ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ لِانْفِرَادِهَا بِهِ قَوْلُهُ(16/106)
(يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ قَالَ فُلَانٌ الرَّاعِي) قَدْ يُقَالُ إِنَّ الزَّانِيَ لَا يَلْحَقَهُ الْوَلَدُ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ يَلْحَقُهُ وَالثَّانِي الْمُرَادُ مِنْ مَاءِ مَنْ أَنْتَ وَسَمَّاهُ أَبًا مَجَازًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَرَّ رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ) الْفَارِهَةُ بِالْفَاءِ النَّشِيطَةُ الْحَادَّةُ الْقَوِيَّةُ وَقَدْ فَرُهْتُ بِضَمِّ الرَّاءِ فَرَاهَةً وَفَرَاهِيَةً وَالشَّارَةُ الْهَيْئَةُ وَاللِّبَاسُ قَوْلُهُ (فَجَعَلَ يَمَصُّهَا) بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ فَقَالَتْ حَلْقَى) مَعْنَى تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ أَقْبَلَتْ عَلَى الرَّضِيعِ تُحَدِّثُهُ وَكَانَتْ أَوَّلًا لَا تَرَاهُ أَهْلًا لِلْكَلَامِ فَلَمَّا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْكَلَامَ عَلِمَتْ أَنَّهُ أَهْلٌ لَهُ فَسَأَلَتْهُ وَرَاجَعَتْهُ وَسَبَقَ بَيَانُ حَلْقَى فِي كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلُهُ فِي الْجَارِيَةِ الَّتِي نَسَبُوهَا إلى(16/107)
السَّرِقَةِ وَلَمْ تَسْرِقْ (اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا) أَيِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي سَالِمًا مِنَ الْمَعَاصِي كَمَا هِيَ سَالِمَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِثْلَهَا فِي النِّسْبَةِ إِلَى بَاطِلٍ تَكُونُ مِنْهُ بَرِيًّا وَفِي حَدِيثِ جُرَيْجٍ هَذَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا عِظَمُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَتَأَكُّدُ حَقِّ الْأُمِّ وَأَنَّ دُعَاءَهَا مُجَابٌ وَأَنَّهُ إذا تعارضت الامور بدئ بأهما وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ لِأَوْلِيَائِهِ مَخَارِجَ عِنْدَ ابْتِلَائِهِمْ بِالشَّدَائِدِ غَالِبًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ يتق الله يجعل له مخرجا وَقَدْ يُجْرِي عَلَيْهِمُ الشَّدَائِدَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ زِيَادَةً فِي أَحْوَالِهِمْ وَتَهْذِيبًا لَهُمْ فَيَكُونُ لُطْفًا وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ بِالْمُهِمَّاتِ وَمِنْهَا أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَعْرُوفًا فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلنَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ زَعَمَ اخْتِصَاصَهُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَمِنْهَا إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَفِيهِ أَنَّ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ قَدْ تَقَعُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَطَلَبِهِمْ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا تَقَعُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَطَلَبِهِمْ وَفِيهِ أَنَّ الْكَرَامَاتِ قَدْ تَكُونُ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ وَادَّعَى أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِمِثْلِ إِجَابَةِ دُعَاءٍ وَنَحْوِهِ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ وَإِنْكَارٌ لِلْحِسِّ بَلِ الصَّوَابُ جَرَيَانُهَا بِقَلْبِ الْأَعْيَانِ وَإِحْضَارُ الشَّيْءِ من العدم ونحوه قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2551] (رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ مَعْنَاهُ ذَلَّ وَقِيلَ كُرِهَ وَخُزِيَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ الرُّغْمُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا(16/108)
وَكَسْرِهَا وَأَصْلُهُ لَصْقُ أَنْفِهِ بِالرِّغَامِ وَهُوَ تُرَابٌ مُخْتَلَطٌ بِرَمْلٍ وَقِيلَ الرُّغْمُ كُلُّ مَا أَصَابَ الانف مما يؤذيه وفيه الْحَثِّ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَعِظَمِ ثَوَابِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بِرَّهُمَا عِنْدَ كِبَرِهِمَا وَضَعْفِهِمَا بِالْخِدْمَةِ أَوِ النَّفَقَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَمَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ فَاتَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ وأرغم الله انفه
(باب فضل صلة اصدقاء الاب والام ونحوهما)
قَوْلُهُ
[2552] (إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ) قَالَ الْقَاضِي رَوَيْنَاهُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا أَيْ صَدِيقًا مِنْ أَهْلِ مَوَدَّتِهِ وَهِيَ مَحَبَّتُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ) وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةُ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ تَوَلَّى الْوُدُّ هُنَا مَضْمُومُ الْوَاوِ وَفِي هَذَا فَضْلُ صِلَةِ أَصْدِقَاءِ(16/109)
الْأَبِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِبِرِّ الْأَبِ وَإِكْرَامِهِ لِكَوْنِهِ بِسَبَبِهِ وَتَلْتَحِقُ بِهِ أَصْدِقَاءُ الْأُمِّ وَالْأَجْدَادِ وَالْمَشَايِخِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْأَحَادِيثُ فِي إِكْرَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَائِلَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْلُهُ (كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ) مَعْنَاهُ كَانَ يَسْتَصْحِبُ حِمَارًا لِيَسْتَرِيحَ عَلَيْهِ إِذَا ضَجِرَ مِنْ رُكُوبِ الْبَعِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَفْسِيرِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ)
قَوْلُهُ
[2553] (عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ) هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ هَذَا وَهَمٌ وَصَوَابُهُ الْكِلَابِيُّ فَإِنَّ النَّوَّاسَ كِلَابِيَّ مَشْهُورٌ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ الْمَشْهُورُ(16/110)
أَنَّهُ كِلَابِيٌّ وَلَعَلَّهُ حَلِيفُ لِلْأَنْصَارِ قَالَا وَهُوَ النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قُرْطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي كِلَابٍ كَذَا نَسَبُهُ الْعَلَائِيُّ عن يحيى بن معين وسمعان بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكِ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْبِرُّ يَكُونُ بِمَعْنَى الصِّلَةِ وَبِمَعْنَى اللُّطْفِ وَالْمَبَرَّةِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ وَبِمَعْنَى الطَّاعَةِ وهذه الامور هي مجامع حسن الْخُلُقِ وَمَعْنَى حَاكَ فِي صَدْرِكِ أَيْ تَحَرَّكَ فِيهِ وَتَرَدَّدَ وَلَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ الصَّدْرُ وَحَصَلَ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ الشَّكُّ وَخَوْفُ كَوْنِهِ ذَنْبًا قَوْلُهُ (مَا مَنَعَنِي مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شئ) وَقَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ كَالزَّائِرِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِهِ إِلَيْهَا مِنْ وَطَنِهِ لِاسْتِيطَانِهَا وَمَا مَنَعَهُ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهِيَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْوَطَنِ وَاسْتِيطَانِ الْمَدِينَةِ إِلَّا الرَّغْبَةُ فِي سُؤَالِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّهُ كَانَ سَمِحَ بِذَلِكَ لِلطَّارِئِينَ دُونَ الْمُهَاجِرِينَ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَفْرَحُونَ بِسُؤَالِ الْغُرَبَاءِ الطَّارِئِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَحْتَمِلُونَ فِي السُّؤَالِ وَيَعْذِرُونَ وَيَسْتَفِيدُ الْمُهَاجِرُونَ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ أَنَسٌ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ في كتاب الايمان وكان عجبا أن يجئ الرَّجُلُ الْعَاقِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَيَسْأَلَهُ وَاَللَّهُ اعلم(16/111)
(بَاب صِلَةِ الرَّحِمِ وَتَحْرِيمِ قَطِيعَتِهَا)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2554] (قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى قَالَ فَذَلِكَ لَكِ) وَفِي الرواية
[2555] الاخرى الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الرَّحِمُ الَّتِي تُوصَلُ وَتُقْطَعُ وَتُبَرُّ إِنَّمَا هِيَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَإِنَّمَا هِيَ قَرَابَةٌ وَنَسَبٌ تَجْمَعُهُ رَحِمُ وَالِدَةٍ وَيَتَّصِلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الِاتِّصَالُ رَحِمًا وَالْمَعْنَى لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْقِيَامُ وَلَا الْكَلَامُ فَيَكُونُ ذِكْرُ قِيَامِهَا هُنَا وَتَعَلُّقُهَا ضَرْبُ مَثَلٍ وَحُسْنُ اسْتِعَارَةٍ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ وَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ شَأْنِهَا وَفَضِيلَةُ وَاصِلِيهَا وَعَظِيمُ إِثْمِ قَاطِعِيهَا بِعُقُوقِهِمْ لِهَذَا سُمِّيَ الْعُقُوقُ قَطْعًا وَالْعَقُّ الشَّقُّ كَأَنَّهُ قَطَعَ ذَلِكَ السَّبَبَ الْمُتَّصِلَ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَامَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَتَعَلَّقَ بِالْعَرْشِ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهَا بِهَذَا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَالْعَائِذُ المستعيذ وهو المعتصم بالشئ الْمُلْتَجِئُ إِلَيْهِ الْمُسْتَجِيرُ بِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَحَقِيقَةُ الصِّلَةِ الْعَطْفُ وَالرَّحْمَةُ فَصِلَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ(16/112)
وَتَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ لُطْفِهِ بِهِمْ وَرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ وَعَطْفِهِ بِإِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ أَوْ صِلَتِهِمْ بِأَهْلِ مَلَكُوتِهِ الْأَعْلَى وَشَرْحِ صُدُورِهِمْ لِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَلَا خِلَافَ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَقَطِيعَتَهَا مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ قَالَ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ تَشْهَدُ لِهَذَا وَلَكِنَّ الصِّلَةَ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ وَأَدْنَاهَا تَرْكُ الْمُهَاجَرَةِ وَصِلَتُهَا بِالْكَلَامِ وَلَوْ بِالسَّلَامِ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ القدرة والحاجة فمنها واجب ومنها مستحب لووصل بعض الصلة ولم يَصِلْ غَايَتَهَا لَا يُسَمَّى قَاطِعًا وَلَوْ قَصَّرَ عَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي لَهُ لَا يُسَمَّى وَاصِلًا قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الرَّحِمِ الَّتِي تَجِبُ صِلَتُهَا فَقِيلَ هُوَ كُلُّ رَحِمٍ مَحْرَمٍ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى حَرُمَتْ مُنَاكَحَتُهُمَا فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ وَلَا أَوْلَادُ الْأَخْوَالِ وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا فِي النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ وَجَوَازِ ذَلِكَ فِي بَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَقِيلَ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ رَحِمٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي الْمِيرَاثِ يَسْتَوِي الْمَحْرَمُ وَغَيْرُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ فِي أَهْلِ مِصْرَ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا وَحَدِيثُ إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ مَعَ أَنَّهُ لَا مَحْرَمِيَّةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2556] (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ) هَذَا الْحَدِيثُ يَتَأَوَّلُ تَأْوِيلَيْنِ سَبَقَا فِي نَظَائِرِهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَحَدُهُمَا حَمْلَهُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْقَطِيعَةَ بِلَا سَبَبٍ وَلَا شُبْهَةٍ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهَا فَهَذَا كَافِرٌ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَبَدًا وَالثَّانِي(16/113)
مَعْنَاهُ وَلَا يَدْخُلُهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَعَ السَّابِقِينَ بَلْ يُعَاقَبُ بِتَأَخُّرِهِ الْقَدْرِ الَّذِي يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2557] (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) يُنْسَأَ مهموز أي يؤخر والاثر الاجل لانه تابع للحياة في أثرها وبسط الرِّزْقِ تَوْسِيعُهُ وَكَثْرَتُهُ وَقِيلَ الْبَرَكَةُ فِيهِ وَأَمَّا التَّأْخِيرُ فِي الْأَجَلِ فَفِيهِ سُؤَالٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ أَنَّ الْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ مُقَدَّرَةٌ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولا يستقدمون وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِأَجْوِبَةٍ الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِالْبَرَكَةِ فِي عُمْرِهِ وَالتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَاتِ وَعِمَارَةِ أَوْقَاتِهِ بِمَا يَنْفَعَهُ فِي الْآخِرَةِ وَصِيَانَتِهَا عَنِ الضَّيَاعِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَالثَّانِي أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ وَفِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَظْهَرُ لَهُمْ فِي اللَّوْحِ أَنَّ عُمْرُهُ سِتُّونَ سَنَةً إِلَّا أَنْ يَصِلَ رَحِمَهُ فَإِنْ وَصَلَهَا زِيدَ لَهُ أَرْبَعُونَ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا سَيَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى يَمْحُو الله ما يشاء ويثبت فيه النسبة إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا سَبَقَ بِهِ قدره ولا زِيَادَةَ بَلْ هِيَ مُسْتَحِيلَةٌ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ظَهَرَ لِلْمَخْلُوقِينَ تُتَصَوَّرُ الزِّيَادَةُ وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمُرَادَ بَقَاءُ ذِكْرِهِ الْجَمِيلَ بَعْدَهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ(16/114)
حَكَاهُ الْقَاضِي وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي يَصِلُ قَرَابَتَهُ وَيَقْطَعُونَهُ
[2558] (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذلك) المل بفتح الميم الرماد الحار وتسفهم بضم التاء وكسر السين وتشديد الفاء والظهير الْمُعِينُ وَالدَّافِعُ لِأَذَاهُمْ وَقَوْلُهُ أَحْلُمُ عَنْهُمْ بِضَمِّ اللَّامِ وَيَجْهَلُونَ أَيْ يُسِيئُونَ وَالْجَهْلُ هُنَا الْقَبِيحُ مِنَ الْقَوْلِ وَمَعْنَاهُ كَأَنَّمَا تُطْعِمُهُمُ الرَّمَادَ الْحَارَّ وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْأَلَمِ بِمَا يَلْحَقُ آكِلِ الرَّمَادَ الْحَارَّ مِنَ الْأَلَمِ وَلَا شئ عَلَى هَذَا الْمُحْسِنِ بَلْ يَنَالُهُمُ الْإِثْمُ الْعَظِيمُ فِي قَطِيعَتِهِ وَإِدْخَالِهِمُ الْأَذَى عَلَيْهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِنَّكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ تُخْزِيهِمْ وَتُحَقِّرُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ لِكَثْرَةِ إِحْسَانِكَ وَقَبِيحِ فِعْلِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْحَقَارَةِ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ كَمَنْ يُسَفُّ الْمَلُّ وَقِيلَ ذَلِكَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ مِنْ إِحْسَانِكَ كَالْمَلِّ يُحَرِّقُ أَحْشَاءَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ التَّحَاسُدِ وَالتَّبَاغُضِ وَالتَّدَابُرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2559] (لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ اخوانا)(16/115)
التَّدَابُرُ الْمُعَادَاةُ وَقِيلَ الْمُقَاطَعَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُوَلِّي صَاحِبَهُ دُبُرَهُ وَالْحَسَدُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ وَهُوَ حَرَامٌ وَمَعْنَى كُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا أَيْ تَعَامَلُوا وَتَعَاشَرُوا مُعَامَلَةَ الْإِخْوَةِ وَمُعَاشَرَتِهِمْ فِي الْمَوَدَّةِ وَالرِّفْقِ وَالشَّفَقَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الْخَيْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَعَ صَفَاءِ الْقُلُوبِ وَالنَّصِيحَةِ بِكُلِّ حَالٍ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَفِي النَّهْيِ عَنِ التَّبَاغُضِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّبَاغُضِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ الْجَهْضَمِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ وَكَذَا نَقَلَهُ الْجَيَّانِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وغيرهما عن الْحُفَّاظِ وَعَنْ عَامَّةِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ بِالْعَكْسِ قَالُوا وَهُوَ غَلَطٌ قَالُوا وَالصَّوَابُ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ الْجَهْضَمِيُّ تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ هُوَ وَأَبُوهُ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ مَاتَ الْأَبُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرَ وَمَاتَ الِابْنُ فِي شَعْبَانَ تِلْكَ السَّنَةِ قَالَ الْقَاضِي قَدِ اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ(16/116)
عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَنَّ الصَّوَابَ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ دُونَ عَكْسِهِ مَعَ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْهُمَا إِلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لِنَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ سَمَاعٌ مِنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِالْمُعَاصَرَةِ وَإِمْكَانِ اللِّقَاءِ قَالَ فَفِي نَفْيِهِمْ لِرِوَايَةِ النُّسَخِ الَّتِي فِيهَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ نَظَرٌ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَاَلَّذِي قَالَهُ الْحُفَّاظُ هُوَ الصَّوَابُ وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَا انْتَقَدُوهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سَمَاعِ الِابْنِ مِنْ وَهْبٍ سَمَاعَ الْأَبِ مِنْهُ وَلَا يُقَالُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ فَكِتَابُ مُسْلِمٍ وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْأَكْثَرُونَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَوَّبَهُ الْحُفَّاظُ
(بَاب تَحْرِيمِ الهجرة فوق ثلاثة ايام بِلَا عُذْرٍ شَرْعِيٍّ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2560]
[2561]
[2562] (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ الْهَجْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَإِبَاحَتُهَا فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ وَالثَّانِي بِمَفْهُومِهِ قَالُوا وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ عَلَى الْغَضَبِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعُفِيَ عَنِ الْهِجْرَةِ فِي الثَّلَاثَةِ لِيَذْهَبَ ذَلِكَ الْعَارِضُ وَقِيلَ إِنَّ الْحَدِيثَ لَا يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الْهِجْرَةِ فِي الثَّلَاثَةِ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ لَا يُحْتَجُّ بِالْمَفْهُومِ وَدَلِيلِ الْخِطَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 0يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا) وَفِي رِوَايَةٍ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا هُوَ بِضَمِّ الصَّادِ وَمَعْنَى يَصُدُّ يُعْرِضُ أَيْ يُوَلِّيهِ عُرْضَهُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَهُوَ جَانِبُهُ وَالصُّدُّ بِضَمِّ الصَّادِ وَهُوَ أَيْضًا الْجَانِبُ وَالنَّاحِيَةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) أَيْ هُوَ أَفْضَلُهُمَا وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُمَا أَنَّ السَّلَامَ يَقْطَعُ الْهِجْرَةَ وَيَرْفَعُ الاثم فيها ويزيله وقال احمد وبن الْقَاسِمِ الْمَالِكِيُّ إِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لَمْ يَقْطَعِ السَّلَامُ هِجْرَتَهُ قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ كَاتَبَهُ أَوْ رَاسَلَهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ عَنْهُ هَلْ يَزُولُ إِثْمُ الْهِجْرَةِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَزُولُ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ وَأَصَحُّهُمَا(16/117)
يَزُولُ لِزَوَالِ الْوَحْشَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ) قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْبَلُ خِطَابَ الشَّرْعِ وينتفع به
(باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها)
قوله صلى الله عيه وَسَلَّمَ
[2563] (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ ظَنِّ السُّوءِ(16/118)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ هُوَ تَحْقِيقُ الظَّنِّ وَتَصْدِيقُهُ دُونَ مَا يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْلَكُ وَمُرَادُ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الظَّنِّ مَا يَسْتَمِرُّ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَيَسْتَقِرُّ فِي قَلْبِهِ دُونَ مَا يَعْرِضُ فِي الْقَلْبِ وَلَا يَسْتَقِرُّ فَإِنَّ هَذَا لَا يُكَلَّفُ بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ تَجَاوَزَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا تَحَدَّثَتْ به الأمة مالم تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمِدْ وَسَبَقَ تَأْوِيلُهُ عَلَى الْخَوَاطِرِ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ الظَّنُّ الَّذِي يَأْثَمُ بِهِ هُوَ مَا ظَنَّهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ لَمْ يَأْثَمْ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ بِظَنٍّ مُجَرَّدٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ عَلَى أَصْلٍ وَلَا نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا) الْأَوَّلُ بِالْحَاءِ وَالثَّانِي بِالْجِيمِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّحَسُّسُ بِالْحَاءِ الِاسْتِمَاعُ لِحَدِيثِ الْقَوْمِ وَبِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنِ الْعَوْرَاتِ وَقِيلَ بِالْجِيمِ التَّفْتِيشُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَالنَّامُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ وَقِيلَ بِالْجِيمِ أَنْ تَطْلُبُهُ لِغَيْرِكَ وَبِالْحَاءِ أَنْ تَطْلُبَهُ لِنَفْسِكَ قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَهُوَ طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْأَخْبَارِ الْغَائِبَةِ وَالْأَحْوَالِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا) قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَسَدَ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ وَأَمَّا الْمُنَافَسَةُ وَالتَّنَافُسُ فَمَعْنَاهُمَا الرَّغْبَةُ في الشئ وَفِي الِانْفِرَادِ بِهِ وَنَافَسْتُهُ مُنَافَسَةً إِذَا رَغِبْتُ فيما رغب فيه قيل مَعْنَى الْحَدِيثِ التَّبَارِي فِي الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا وَحُظُوظِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَهْجُرُوا) كَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا(16/119)
تَهَاجَرُوا وَهُمَا بِمَعْنًى وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْهِجْرَةِ وَمُقَاطَعَةِ الْكَلَامِ وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا تهجروا أي تَتَكَلَّمُوا بِالْهُجْرِ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْقَبِيحُ وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَالنَّجْشُ فَسَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَقَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّنَاجُشِ هُنَا ذَمُّ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ التَّنَاجُشُ الْمَذْكُورُ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ وَلَا رَغْبَةَ لَهُ فِي شِرَائِهَا بَلْ لِيَغُرَّ غَيْرَهُ في شرائها
(باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله قَوْلُهُ
[2564] (عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ) بِضَمِّ الْكَافِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ) أَمَّا كَوْنُ الْمُسْلِمِ أَخَا الْمُسْلِمِ فَسَبَقَ شَرْحُهُ قَرِيبًا وَأَمَّا لَا يَخْذُلُهُ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ الْخَذْلُ تَرْكُ الْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ وَمَعْنَاهُ إِذَا اسْتَعَانَ بِهِ فِي دَفْعِ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ لَزِمَهُ إِعَانَتَهُ إِذَا أَمْكَنَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ وَلَا يَحْقِرُهُ هُوَ بِالْقَافِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ لَا يَحْتَقِرَهُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَصْغِرُهُ)(16/120)
وَيَسْتَقِلُّهُ قَالَ الْقَاضِي وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ لَا يَخْفِرُهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ أَيْ لَا يَغْدِرُ بِعَهْدِهِ وَلَا يَنْقُضُ أَمَانَهُ قَالَ وَالصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي غَيْرِ كِتَابِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَرُوِيَ لَا يَحْتَقِرُهُ وَهَذَا يَرُدُّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (التقوى ها هنا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ) وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ لَا يَحْصُلُ بِهَا التَّقْوَى وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِمَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ عَظَمَةِ الله تعالى وخشيته ومراقبته ومعنى نظرالله هُنَا مُجَازَاتُهُ وَمُحَاسَبَتُهُ أَيْ إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ على مافي الْقَلْبِ دُونَ الصُّوَرِ الظَّاهِرَةِ وَنَظَرُ اللَّهِ رُؤْيَتُهُ محيط بكل شئ وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي هَذَا كُلِّهِ بِالْقَلْبِ وَهُوَ مِنْ نَحْوِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ الْحَدِيثَ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَاحْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ لَا فِي الرَّأْسِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي حَدِيثِ أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ قَوْلُهُ (جعفر بن برقان) هوبضم الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ(16/121)
(باب النهي عن الشحناء)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2565] (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ) الْحَدِيثَ قَالَ الْقَاضِي قَالَ الْبَاجِيُّ مَعْنَى فَتْحِهَا كَثْرَةُ الصَّفْحِ وَالْغُفْرَانِ وَرَفْعُ الْمَنَازِلِ وَإِعْطَاءُ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ قَالَ الْقَاضِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ فَتْحَ أَبْوَابِهَا عَلَامَةٌ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا هُوَ بِالرَّاءِ السَّاكِنَةِ وَضَمِّ الْكَافِ وَالْهَمْزَةُ فِي أَوَّلِهِ همزة وَصْلٌ أَيْ أَخِّرُوا يُقَالُ رَكَاهُ يَرْكُوهُ رَكْوًا إِذَا أَخَّرَهُ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْوِيهِ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَرْكَيْتُ الامر اذا أخرته وذكر غيره أنه روي بِقَطْعِهَا وَوَصْلِهَا وَالشَّحْنَاءُ الْعَدَاوَةُ كَأَنَّهُ(16/122)
شحن بغضا له لملائه وأنظروا هَذَيْنِ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ أَخِّرُوهُمَا حَتَّى يَفِيئَا أَيْ يرجعا إلى الصلح والمودة
(باب فضل الحب في اللَّهُ تَعَالَى)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2566] (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي) فِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ اللَّهُ يَقُولُ وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ كَافَّةٌ إِلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يُقَالُ يَقُولُ اللَّهُ بَلْ يُقَالُ قَالَ اللَّهُ وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ جَاءَ بِجَوَازِهِ الْقُرْآنُ في قوله تعالى والله يقول الحق وَأَحَادِيثٌ صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي أَيْ بِعَظَمَتِي وَطَاعَتِي لَا لِلدُّنْيَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي أَيْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْ لَهُ ظِلٌّ مَجَازًا كَمَا فِي الدُّنْيَا وَجَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ ظِلُّ عَرْشِي قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي ظِلِّهِ مِنَ الْحَرِّ وَالشَّمْسِ وَوَهَجِ الْمَوْقِفِ وَأَنْفَاسِ الْخَلْقِ قَالَ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَقَالَ عِيسَى بْنُ دينار معناه كفه من الْمَكَارِهِ وَإِكْرَامُهُ وَجَعْلُهُ فِي كَنَفِهِ وَسِتْرِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الظِّلَّ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ يُقَالُ هُوَ فِي عَيْشٍ ظَلِيلٍ أَيْ طَيِّبٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/123)
[2567] (فَأَرْصَدَ اللَّهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا) مَعْنَى أَرْصَدَهُ أقعده يرقبه والمدرجة بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ هِيَ الطَّرِيقُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَدْرُجُونَ عَلَيْهَا أَيْ يَمْضُونَ وَيَمْشُونَ قَوْلُهُ (لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةِ تَرُبُّهَا) أَيْ تَقُومُ بِإِصْلَاحِهَا وَتَنْهَضُ إِلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ قَوْلُهُ (بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَحَبَّةُ اللَّهِ عَبْدَهُ هِيَ رَحْمَتُهُ لَهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ وَإِرَادَتُهُ لَهُ الْخَيْرَ وَأَنْ يَفْعَلَ بِهِ فِعْلَ الْمُحِبِّ مِنَ الْخَيْرِ وَأَصْلُ الْمَحَبَّةِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ مَيْلُ الْقَلْبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا سَبَبٌ لِحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى الْعَبْدَ وَفِيهِ فَضِيلَةُ زِيَارَةِ الصَّالِحِينَ وَالْأَصْحَابِ وَفِيهِ أَنَّ الْآدَمِيِّينَ قَدْ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ
(بَاب فَضْلِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2568] (عَائِدُ الْمَرِيضِ فِي مَخْرَفَةِ الْجَنَّةِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ خُرْفَةِ الْجَنَّةِ بِضَمِّ الْخَاءِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا خُرْفَةُ الجنة قال جناها أي يؤول بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْجَنَّةِ وَاجْتِنَاءِ ثِمَارِهَا وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى فَضْلِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَسَبَقَ شَرْحُ ذلك واضحا في بابه قوله في أسنايد هذا الحديث(16/124)
(عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنِ الْأَشْعَثِ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْ إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ أَحَادِيثُ أَبِي قِلَابَةَ كُلُّهَا عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا أبو الاشعث الا هذا الحديث قوله عزوجل
[2569] (مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي قَالَ يَا رَبُّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِيَ فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتنِي(16/125)
عِنْدَهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا أَضَافَ الْمَرَضَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمُرَادُ الْعَبْدُ تَشْرِيفًا لِلْعَبْدِ وَتَقْرِيبًا لَهُ قَالُوا وَمَعْنَى وَجَدْتنِي عِنْدَهُ أَيْ وَجَدْتَ ثَوَابِي وَكَرَامَتِي وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي لَوْ أَسْقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي أَيْ ثَوَابَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب ثَوَابِ الْمُؤْمِنِ فِيمَا يُصِيبُهُ)
مِنْ مَرَضٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا قَوْلُهَا
[2570] (مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشَدُّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْوَجَعُ هُنَا(16/126)
الْمَرَضُ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَرَضٍ وَجَعًا قَوْلُهُ
[2571] (إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا) الْوَعْكُ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ قِيلَ هُوَ الْحُمَّى وَقِيلَ أَلَمُهَا وَمَغَثُهَا وَقَدْ وَعَكَ الرَّجُلُ يُوعَكُ فَهُوَ مَوْعُوكٌ قَوْلُهُ (يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ(16/127)
هُوَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ قَوْلُهُ
[2572] (إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لِلَّذِينَ ضَحِكُوا مِمَّنْ عَثَرَ بِطُنْبِ فُسْطَاطٍ لَا تَضْحَكُوا فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الضَّحِكِ مِنْ مِثْلِ هَذَا إِلَّا أَنْ يَحْصُلَ غَلَبَةٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَأَمَّا تَعَمُّدُهُ فَمَذْمُومٌ لِأَنَّ فِيهِ إِشْمَاتًا بِالْمُسْلِمِ وَكَسْرًا لِقَلْبِهِ والطنب بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِهَا هُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْفُسْطَاطُ وَهُوَ الْخِبَاءُ وَنَحْوُهُ وَيُقَالُ فُسْتَاطٌ بِالتَّاءِ بَدَلَ الطَّاءِ وَفُسَّاطٌ بِحَذْفِهَا مَعَ تَشْدِيدِ السِّينِ وَالْفَاءُ مَضْمُومَةٌ وَمَكْسُورَةٌ فِيهِنَّ فَصَارَتْ سِتُّ لغات قوله صلى الله عليه وسلم (مامن مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كُتِبَتْ له درجة ومحيت عنه بها خطيئة) وفي رواية إلا رفعه الله بها درجة أو حط عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا وَفِي رِوَايَةٍ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ له بها حسنة أو حطت عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَنْفَكُّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ ساعة من شئ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَفِيهِ تَكْفِيرُ الْخَطَايَا بِالْأَمْرَاضِ والاسقام ومصايب الدُّنْيَا وَهُمُومِهَا وإِنْ قَلَّتْ مَشَقَّتُهَا وَفِيهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَزِيَادَةُ الْحَسَنَاتِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطَايَا فَقَطْ وَلَا تَرْفَعُ دَرَجَةً وَلَا تُكْتَبُ(16/128)
حسنة قال وروي نحوه عن بن مَسْعُودٍ قَالَ الْوَجَعُ لَا يُكْتَبُ بِهِ أَجْرٌ لَكِنْ تُكَفَّرُ بِهِ الْخَطَايَا فَقَطْ وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَكْفِيرُ الْخَطَايَا وَلَمْ تَبْلُغْهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ الْمُصَرِّحَةُ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَكَتْبِ الْحَسَنَاتِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ الْأَنْبِيَاءِ أَشَدَّ بَلَاءً ثُمَّ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ أَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِكَمَالِ الصَّبْرِ وَصِحَّةِ الِاحْتِسَابِ وَمَعْرِفَةِ أَنَّ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِيَتِمَّ لَهُمُ الْخَيْرُ وَيُضَاعَفُ لَهُمُ الْأَجْرُ وَيَظْهَرُ صَبْرُهُمْ وَرِضَاهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا قَصَّ الله بها من خطيئته) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ قَصَّ وَفِي بعضها نقص(16/129)
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2573] (مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمَّ يُهِمُّهُ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ) الْوَصَبُ الْوَجَعُ اللَّازِمُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ولهم عذاب واصب أي لازم ثابت والنصب التَّعَبُ وَقَدْ نَصِبَ يَنْصَبُ نَصَبًا كَفَرِحَ يَفْرَحُ فرحا ونصبه غيره وأنصبه لغتان والسقم بِضَمِّ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَفَتْحِهِمَا لُغَتَانِ وَكَذَلِكَ الحزن والحزن فيه اللغتان ويهمه قَالَ الْقَاضِي هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ على مالم يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَضَبَطَهُ غَيْرُهُ يَهُمُّهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ أَيْ يَغُمُّهُ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَوْلُهُ
[2574] (عن بن مُحَيْصِنٍ شَيْخٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ مُسْلِمٌ هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنٍ) وَهَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ بِلَادِنَا أَنَّ مُسْلِمًا قَالَ هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنَ وَفِي بَعْضِهَا هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَمُحَيْصِنُ بِالنُّونِ فِي آخِرِهِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَغَارِبَةِ بِحَذْفِهَا وَهُوَ تَصْحِيفٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَارِبُوا) أَيْ اقْتَصِدُوا فَلَا تَغْلُوا وَلَا تُقَصِّرُوا بَلْ تَوَسَّطُوا (وَسَدِّدُوا) أَيْ اقْصِدُوا السَّدَادَ وَهُوَ الصَّوَابُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى النُّكْبَةَ يَنْكُبُهَا) وَهِيَ مِثْلُ الْعَثْرَةِ يَعْثُرُهَا بِرِجْلِهِ(16/130)
وَرُبَّمَا جُرِحَتْ أُصْبُعُهُ وَأَصْلُ النَّكْبِ الْكَبُّ وَالْقَلْبُ قوله صلى الله عليه وسلم
[2575] (مالك ياأم السَّائِبِ تُزَفْزِفِينَ) بِزَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ وَفَاءَيْنِ وَالتَّاءُ مَضْمُومَةٌ قَالَ الْقَاضِي تُضَمُّ وَتُفْتَحُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَادَّعَى الْقَاضِي أَنَّهَا رِوَايَةُ جَمِيعِ رَوَاةِ مُسْلِمٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ بِلَادِنَا بِالرَّاءِ وَالْفَاءِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ بِالرَّاءِ وَالْقَافِ مَعْنَاهُ تَتَحَرَّكِينَ حَرَكَةً شَدِيدَةً أَيْ تَرْعَدِينَ
[2576] وَفِي حَدِيثِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّرْعَ يُثَابُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ ثَوَابِ(16/131)
(بَاب تَحْرِيمِ الظُّلْمِ)
قَوْلُهُ تَعَالَى
[2577] (إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ تَقَدَّسْتُ عَنْهُ وَتَعَالَيْتُ وَالظُّلْمُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَيْفَ يُجَاوِزُ سُبْحَانَهُ حَدًّا وَلَيْسَ فَوْقَهُ مَنْ يُطِيعُهُ وَكَيْفَ يَتَصَرَّفُ فِي غَيْرِ مُلْكٍ وَالْعَالَمُ كُلُّهُ فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَأَصْلُ التَّحْرِيمِ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ فَسَمَّى تَقَدُّسَهُ عَنِ الظُّلْمِ تَحْرِيمًا لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمَمْنُوعِ فِي أَصْلِ عَدَمِ الشئ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَجَعَلْتُهُ بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا) هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ لَا تَتَظَالَمُوا وَالْمُرَادُ لَا يَظْلِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى يَا عِبَادِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا وَزِيَادَةُ تَغْلِيظٍ فِي تَحْرِيمِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ) قَالَ الْمَازِرِيُّ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ خُلِقُوا عَلَى الضَّلَالِ إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ قَالَ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ وَصْفَهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ لَوْ تُرِكُوا وَمَا فِي طِبَاعِهِمْ مِنْ إِيثَارِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّاحَةِ وَإِهْمَالِ النَّظَرِ لَضَلُّوا وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْمُهْتَدِيَ هُوَ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وبهدي اللَّهُ اهْتَدَى وَبِإِرَادَةِ اللَّهِ(16/132)
تَعَالَى ذَلِكَ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ هِدَايَةَ بَعْضِ عِبَادِهِ وَهُمُ الْمُهْتَدُونَ وَلَمْ يُرِدْ هِدَايَةَ الْآخَرِينَ وَلَوْ أَرَادَهَا لَاهْتَدَوْا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمُ الْفَاسِدِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ هداية الجميع جل الله أن يريد مالا يقع أو يقع مالا يُرِيدُ قَوْلُهُ تَعَالَى (مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ) الْمِخْيَطُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْيَاءِ هُوَ الْإِبْرَةُ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا تَقْرِيبٌ إِلَى الْأَفْهَامِ وَمَعْنَاهُ لَا يُنْقِصُ شَيْئًا أَصْلًا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ أَيْ لَا يَنْقُصُهَا نَفَقَةٌ لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ نَقْصٌ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ النَّقْصُ الْمَحْدُودَ الْفَانِيَ وَعَطَاءُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ وَهُمَا صِفَتَانِ قَدِيمَتَانِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا نَقْصٌ فَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمِخْيَطِ فِي الْبَحْرِ لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْقِلَّةِ وَالْمَقْصُودُ التَّقْرِيبُ إِلَى الْإِفْهَامِ بِمَا شَاهَدُوهُ فَإِنَّ الْبَحْرَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَرْئِيَّاتِ عَيَانًا وَأَكْبَرِهَا وَالْإِبْرَةُ مِنْ أَصْغَرِ الْمَوْجُودَاتِ مَعَ أَنَّهَا صَقِيلَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ تُخْطِئُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا وَفَتْحِ الطَّاءِ يقال خطئ(16/133)
يَخْطَأُ إِذَا فَعَلَ مَا يَأَثَمُ بِهِ فَهُوَ خَاطِئٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنا كنا خاطئين وَيُقَالُ فِي الْإِثْمِ أَيْضًا أَخْطَأَ فَهُمَا صَحِيحَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2578]
[2579] (اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ الْقَاضِي قِيلَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَكُونُ ظُلُمَاتٍ عَلَى صَاحِبِهِ لَا يَهْتَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبِيلًا حَتَّى يَسْعَى نُورُ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الظُّلُمَاتِ هُنَا الشَّدَائِدُ وَبِهِ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى قُلْ مَنْ يُنْجِيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ والبحر أَيْ شَدَائِدِهِمَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْأَنْكَالِ وَالْعُقُوبَاتِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) قَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْهَلَاكَ هُوَ الهلاك الذي أخبر عنهم بِهِ فِي الدُّنْيَا بِأَنَّهُمْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ هَلَاكُ الْآخِرَةِ وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ جَمَاعَةُ الشُّحُّ أَشَدُّ الْبُخْلِ وَأَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْبُخْلِ وَقِيلَ هُوَ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ وَقِيلَ الْبُخْلُ فِي أَفْرَادِ الْأُمُورِ وَالشُّحُّ عَامٌّ وَقِيلَ الْبُخْلُ فِي أَفْرَادِ الْأُمُورِ وَالشُّحُّ بِالْمَالِ وَالْمَعْرُوفِ وقيل الشح الحرص على ماليس عِنْدَهُ وَالْبُخْلُ بِمَا عِنْدَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2580] (مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ) أَيْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا ولطف(16/134)
بِهِ فِيهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةَ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ) فِي هَذَا فَضْلُ إِعَانَةِ الْمُسْلِمِ وَتَفْرِيجِ الْكُرَبِ عَنْهُ وَسَتْرِ زَلَّاتِهِ وَيَدْخُلُ فِي كَشْفِ الْكُرْبَةِ وتفريجها من ازالها بماله أوجاهه أو مساعدته والظاهر أنه يدخل فيه من أزالها بإشارته وَرَأْيِهِ وَدَلَالَتِهِ وَأَمَّا السَّتْرُ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ هُنَا فَالْمُرَادُ بِهِ السَّتْرُ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ فَأَمَّا المعروف بذلك فيستحب أن لا يُسْتَرَ عَلَيْهِ بَلْ تُرْفَعَ قَضِيَّتَهُ إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَى هَذَا يُطْمِعُهُ فِي الْإِيذَاءِ وَالْفَسَادِ وَانْتَهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَجَسَارَةِ غَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ هَذَا كُلُّهُ فِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ وانقضت أما مَعْصِيَةٌ رَآهُ عَلَيْهَا وَهُوَ بَعْدُ مُتَلَبِّسٌ بِهَا فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِإِنْكَارِهَا عَلَيْهِ وَمَنْعُهُ مِنْهَا عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهَا فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعُهَا إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إِذَا لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ وَأَمَّا جُرْحُ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْأُمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَالْأَيْتَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ جُرْحُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَا يَحِلُّ السَّتْرُ عَلَيْهِمْ إِذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِمْ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ بَلْ مِنَ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُسْتَرُ فِيهِ هَذَا السَّتْرُ مَنْدُوبٌ فَلَوْ رَفَعَهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَأْثَمْ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ هَذَا خِلَافُ الْأَوْلَى وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2581] (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا إِلَى آخِرِهِ) مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الْمُفْلِسِ وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ وَمَنْ قَلَّ مَالُهُ فَالنَّاسُ يُسَمُّونَهُ(16/135)
مُفْلِسًا وَلَيْسَ هُوَ حَقِيقَةُ الْمُفْلِسِ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَزُولُ وَيَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ وَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ بِيَسَارٍ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْمُفْلِسِ هَذَا الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ الْهَالِكُ الْهَلَاكَ التَّامَّ وَالْمَعْدُومُ الْإِعْدَامَ الْمُقَطَّعَ فَتُؤْخَذُ حَسَنَاتُهُ لِغُرَمَائِهِ فَإِذَا فَرَغَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَوُضِعَ عَلَيْهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَتَمَّتْ خَسَارَتُهُ وَهَلَاكُهُ وَإِفْلَاسُهُ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ غَلَطٌ مِنْهُ وَجَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عُوقِبَ بِفِعْلِهِ وَوِزْرِهِ وَظُلْمِهِ فَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ لِغُرَمَائِهِ فَدُفِعَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَلَمَّا فَرَغَتْ وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ قُوبِلَتْ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَعَدْلِهِ فِي عِبَادِهِ فَأُخِذَ قَدْرُهَا مِنْ سَيِّئَاتِ خُصُومِهِ فَوُضِعَ عَلَيْهِ فَعُوقِبَ بِهِ فِي النَّارِ فَحَقِيقَةُ الْعُقُوبَةِ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ وَلَمْ يُعَاقَبْ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَظُلْمٍ مِنْهُ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السَّنَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2582] 0لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِحَشْرِ الْبَهَائِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِعَادَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُعَادُ أَهْلُ التَّكْلِيفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَكَمَا يُعَادُ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ وَعَلَى هَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا الْوُحُوشُ حشرت وَإِذَا وَرَدَ لَفْظُ الشَّرْعِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحَشْرِ وَالْإِعَادَةِ(16/136)
فِي الْقِيَامَةِ الْمُجَازَاةُ وَالْعِقَابُ وَالثَّوَابُ وَأَمَّا الْقِصَاصُ مِنَ الْقَرْنَاءِ لِلْجَلْحَاءِ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ قِصَاصِ التكليف إذلا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا بَلْ هُوَ قِصَاصُ مُقَابَلَةٍ وَالْجَلْحَاءُ بِالْمَدِّ هِيَ الْجَمَّاءُ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2583] (إن الله عزوجل يُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) مَعْنَى يُمْلِي يُمْهِلُ وَيُؤَخِّرُ وَيُطِيلُ لَهُ فِي الْمُدَّةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُلْوَةِ وَهِيَ الْمُدَّةُ وَالزَّمَانُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا وَمَعْنَى لَمْ يُفْلِتْهُ لَمْ يُطْلِقْهُ وَلَمْ يَنْفَلِتْ مِنْهُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ أَفْلَتَهُ أَطْلَقَهُ وَانْفَلَتَ تَخَلَصَ مِنْهُ
(باب نصر الاخ ظالما أو مظلوما)
قَوْلُهُ
[2584] (اقْتَتَلَ غُلَامَانِ) أَيْ تَضَارَبَا وَقَوْلُهُ فَنَادَى المهاجر يال المهاجرين ونادى الانصاري يال الانصار) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ يَالَ بِلَامٍ مَفْصُولَةٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا يَا لَلْمُهَاجِرِينَ وَيَا لَلْأَنْصَارِ بِوَصْلِهَا وَفِي بَعْضِهَا يَا آلَ الْمُهَاجِرِينَ بِهَمْزَةٍ ثُمَّ لَامٍ مَفْصُولَةٍ وَاللَّامُ مَفْتُوحَةٌ فِي الْجَمِيعِ وَهِيَ لَامُ الِاسْتِغَاثَةِ وَالصَّحِيحُ بِلَامٍ مَوْصُولَةٍ وَمَعْنَاهُ أَدْعُو الْمُهَاجِرِينَ وَأَسْتَغِيثُ بِهِمْ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ كَرَاهَةٌ مِنْهُ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ التَّعَاضُدِ بِالْقَبَائِلِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتِهَا وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَأْخُذُ حُقُوقَهَا بِالْعَصَبَاتِ وَالْقَبَائِلِ فَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ وَفَصَلِ الْقَضَايَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِذَا اعْتَدَى إِنْسَانٌ عَلَى آخَرَ حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَأَلْزَمَهُ مُقْتَضَى عِدْوَانِهِ كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/137)
فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ لَا بَأْسَ فَمَعْنَاهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ بَأْسٌ مِمَّا كُنْتُ خِفْتُهُ فَإِنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ يُوجِبُ فِتْنَةً وَفَسَادًا وَلَيْسَ هُوَ عَائِدًا إِلَى رَفْعِ كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ قَوْلُهُ 0فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ) هُوَ بِسِينٍ مُخَفَّفَةٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ ضَرَبَ دُبُرَهُ وَعَجِيزَتَهُ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ سَيْفٍ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) أَيْ قَبِيحَةٌ كَرِيهَةٌ مُؤْذِيَةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/138)
مِنَ الْحِلْمِ وَفِيهِ تَرْكُ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُخْتَارَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى بَعْضِ الْمَفَاسِدِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْهُ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفَ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى جَفَاءِ الْأَعْرَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ لِتَقْوَى شَوْكَةُ الْمُسْلِمِينَ وَتَتِمُّ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَيَتَمَكَّنُ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤَلَّفَةِ وَيَرْغَبُ غَيْرُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ يُعْطِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ لِذَلِكَ وَلَمْ يَقْتُلِ الْمُنَافِقِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِإِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ وَقَدْ أُمِرَ بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْدُودِينَ فِي أَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَهُ إِمَّا حَمِيَّةً وَإِمَّا لِطَلَبِ دُنْيَا أَوْ عَصَبِيَّةً لِمَنْ مَعَهُ مِنْ عَشَائِرِهِمْ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ بَقِيَ حُكْمُ الْإِغْضَاءِ عَنْهُمْ وَتَرْكُ قِتَالِهِمْ أَوْ نُسِخَ ذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَنُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَقِيلَ قَوْلٌ ثَالِثٌ أنه إنما كان العفو عنهم مالم يظهروا نفاقهم فاذا أظهروه قتلوا
(باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2585] (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرَ
[2586] مَثَلُ الْمَؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ إِلَى آخِرَهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي تَعْظِيمِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَحَثِّهِمْ عَلَى التَّرَاحُمِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّعَاضُدِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ وَفِيهِ جواز التشبيه(16/139)
وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِتَقْرِيبِ الْمَعَانِي إِلَى الْأَفْهَامِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (تداعى لها سَائِرُ الْجَسَدِ) أَيْ دَعَا بَعْضُهُ بَعْضًا إِلَى الْمُشَارَكَةِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَدَاعَتِ الْحِيطَانُ أي تساقطت أو قربت من التساقط
(باب النهي عن السباب)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2587] (الْمُسْتَبَّانِ مَا قالا فعلى البادئ مالم يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ) مَعْنَاهُ أَنَّ إِثْمَ السِّبَابِ(16/140)
الْوَاقِعِ مِنَ اثْنَيْنِ مُخْتَصٌّ بِالْبَادِئِ مِنْهُمَا كُلُّهُ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الثَّانِي قَدْرَ الِانْتِصَارِ فَيَقُولُ لِلْبَادِئِ أَكْثَرَ مِمَّا قَالَ لَهُ وَفِي هَذَا جَوَازُ الِانْتِصَارِ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَقَدْ تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة قال الله تَعَالَى وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عليهم من سبيل وَقَالَ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ ينتصرون وَمَعَ هَذَا فَالصَّبْرُ وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عزم الامور وللحديث المذكور بعد هذا مازاد اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَاعْلَمْ أَنَّ سِبَابَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ حَرَامٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَلَا يَجُوزُ لِلْمَسْبُوبِ أَنْ يَنْتَصِرَ إِلَّا بِمِثْلِ ما سبه مالم يَكُنْ كَذِبًا أَوْ قَذْفًا أَوْ سَبًّا لِأَسْلَافِهِ فَمِنْ صُوَرِ الْمُبَاحِ أَنْ يَنْتَصِرَ بِيَا ظَالِمُ يَا أَحْمَقُ أَوْ جَافِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَنْفَكُّ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ قَالُوا وَإِذَا انْتَصَرَ الْمَسْبُوبُ اسْتَوْفَى ظُلَامَتَهُ وَبَرِئَ الْأَوَّلُ مِنْ حَقِّهِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ إِثْمُ الِابْتِدَاءِ أَوِ الْإِثْمُ الْمُسْتَحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ يَرْتَفِعُ عَنْهُ جَمِيعُ الْإِثْمِ بِالِانْتِصَارِ مِنْهُ وَيَكُونُ مَعْنَى عَلَى الْبَادِئِ أَيْ عَلَيْهِ اللَّوْمُ وَالذَّمُّ لَا الْإِثْمُ
(بَاب اسْتِحْبَابِ الْعَفْوِ وَالتَّوَاضُعِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2588] (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ) ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَارَكُ فِيهِ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّاتِ فَيَنْجَبِرُ نَقْصُ الصُّورَةِ بِالْبَرَكَةِ الْخَفِيَّةِ وَهَذَا مُدْرَكٌ بِالْحِسِّ وَالْعَادَةِ وَالثَّانِي أَنَّهُ وَإِنْ نَقَصَتْ صُورَتُهُ كَانَ فِي الثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ جَبْرٌ لِنَقْصِهِ وَزِيَادَةٌ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (وما زادالله عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا) فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ سَادَ وَعَظُمَ فِي الْقُلُوبِ وَزَادَ عِزُّهُ وَإِكْرَامُهُ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ وَعِزُّهُ هُنَاكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا(16/141)
رَفَعَهُ اللَّهُ) فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَرْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَيُثْبِتُ لَهُ بِتَوَاضُعِهِ فِي الْقُلُوبِ مَنْزِلَةً وَيَرْفَعُهُ اللَّهُ عِنْدَ النَّاسِ وَيُجِلُّ مَكَانَهُ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ ثَوَابُهُ فِي الْآخِرَةِ وَرَفْعُهُ فِيهَا بِتَوَاضُعِهِ فِي الدُّنْيَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ مَوْجُودَةٌ فِي الْعَادَةِ مَعْرُوفَةٌ وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ الْوَجْهَيْنِ مَعًا فِي جَمِيعِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2589] (الْغِيبَةُ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَهَتَّهُ) يُقَالُ بَهَتَهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ مُخَفَّفَةٍ قُلْتُ فِيهِ الْبُهْتَانِ وَهُوَ الباطل والغيبة ذِكْرُ الْإِنْسَانِ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا يَكْرَهُ وَأَصْلُ الْبَهْتِ أَنْ يُقَالَ لَهُ الْبَاطِلُ فِي وَجْهِهِ وَهُمَا حَرَامَانِ لَكِنْ تُبَاحُ الْغِيبَةُ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ وَذَلِكَ لِسِتَّةِ أَسْبَابٍ أَحَدُهَا التَّظَلُّمُ فَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْصَافِهِ مِنْ ظَالِمِهِ فَيَقُولُ ظَلَمَنِي فُلَانٌ أَوْ فَعَلَ بِي كَذَا الثَّانِي الِاسْتِغَاثَةُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَرَدِّ الْعَاصِي إِلَى الصَّوَابِ فَيَقُولُ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتَهُ فُلَانٌ يَعْمَلُ كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ الثَّالِثُ الِاسْتِفْتَاءُ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي ظَلَمَنِي فُلَانٌ أَوْ أَبِي أَوْ أَخِي أَوْ زَوْجِي بِكَذَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ وَمَا طَرِيقِي فِي الْخَلَاصِ مِنْهُ وَدَفْعِ ظُلْمِهِ عَنِّي وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَقُولَ فِي رَجُلٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ وَالِدٍ وَوَلَدٍ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّعْيِينُ جَائِزٌ لِحَدِيثِ هِنْدٍ وَقَوْلِهَا إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ الرَّابِعُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرِّ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا جَرْحُ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُصَنِّفِينَ وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ وَاجِبٌ صَوْنًا لِلشَّرِيعَةِ وَمِنْهَا الْإِخْبَارُ بِعَيْبِهِ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ فِي مواصلته(16/142)
وَمِنْهَا إِذَا رَأَيْتَ مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا مَعِيبًا أَوْ عَبْدًا سَارِقًا أَوْ زَانِيًا أَوْ شَارِبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ تَذْكُرَهُ لِلْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَعْلَمْهُ نَصِيحَةً لَا بِقَصْدِ الْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَادِ وَمِنْهَا إِذَا رَأَيْتَ مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّدُ إِلَى فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ يَأْخُذُ عَنْهُ عِلْمًا وَخِفْتَ عَلَيْهِ ضَرَرَهُ فَعَلَيْكَ نَصِيحَتَهُ بِبَيَانِ حَالِهِ قَاصِدًا النَّصِيحَةَ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ لَا يَقُومُ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أَوْ لِفِسْقِهِ فَيَذْكُرُهُ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَغْتَرُّ بِهِ وَيَلْزَمُ الِاسْتِقَامَةَ الْخَامِسُ أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كَالْخَمْرِ وَمُصَادَرَةِ النَّاسِ وَجِبَايَةِ الْمُكُوسِ وَتَوَلِّي الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِهِ إِلَّا بِسَبَبٍ آخَرَ السَّادِسُ التَّعْرِيفُ فَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْرَجِ وَالْأَزْرَقِ وَالْقَصِيرِ وَالْأَعْمَى وَالْأَقْطَعِ وَنَحْوِهَا جَازَ تَعْرِيفُهُ بِهِ وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِهِ تَنَقُّصًا وَلَوْ أَمْكَنَ التَّعْرِيفُ بِغَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب بِشَارَةِ مَنْ ستر الله تعالى عليه فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2590] (لَا يَسْتُرُ اللَّهُ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْتُرُ مَعَاصِيَهُ وَعُيُوبَهُ عَنْ إِذَاعَتِهَا فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ وَالثَّانِي تَرْكُ مُحَاسَبَتِهِ عَلَيْهَا وَتَرْكُ ذِكْرِهَا قَالَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ يَقُولُ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا إِلَا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَسَبَقَ شَرْحُهُ قريبا)(16/143)
(باب مداراة من يتقي فحشه)
قَوْلُهُ
[2591] (أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ فَلَبِئْسَ بن الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ قَالَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ) قَالَ الْقَاضِي هَذَا الرَّجُلُ هُوَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَهُ لِيَعْرِفَهُ النَّاسُ وَلَا يَغْتَرُّ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُ قَالَ وَكَانَ مِنْهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعده مادل على ضعف ايمانه وارتد مع المرتدين وجئ بِهِ أَسِيرًا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوَصْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِأَنَّهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَمَا وَصَفَ وَإِنَّمَا أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ تَأَلُّفًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُدَارَاةُ مَنْ يُتَّقَى فُحْشُهُ وَجَوَازُ غِيبَةِ الْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ فِسْقَهُ وَمَنْ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْهُ وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا فِي بَابِ الْغِيبَةِ وَلَمْ يَمْدَحْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا ذِكْرُ أَنَّهُ أَثْنَى عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَلَا فِي قَفَاهُ إِنَّمَا تألفه بشئ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ لِينِ الْكَلَامِ وَأَمَّا بِئْسَ بن الْعَشِيرَةِ أَوْ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ فَالْمُرَادُ بِالْعَشِيرَةِ قَبِيلَتُهُ أَيْ بِئْسَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْهَا(16/144)
(بَاب فَضْلِ الرِّفْقِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2592] (مَنْ يُحْرَمُ الرِّفْقَ يُحْرَمُ الْخَيْرَ) وَفِي رِوَايَةٍ
[2593] إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي على الرفق مالا يعطي على العنف ومالا يُعْطِي عَلَى سِوَاهُ وَفِي رِوَايَةٍ
[2594] لَا يَكُونُ الرفق في شئ إلا زانه ولا ينزع من شئ إِلَّا شَانَهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَلَيْكَ بِالرِّفْقِ أَمَّا الْعُنْفُ فَبِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا حَكَاهُنَّ الْقَاضِي وَغَيْرُ الضَّمِّ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَهُوَ ضِدُّ الرِّفْقِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَضْلُ الرِّفْقِ وَالْحَثُّ عَلَى التَّخَلُّقِ وَذَمُّ الْعُنْفِ وَالرِّفْقُ سَبَبُ كُلِّ خَيْرٍ وَمَعْنَى يُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ أَيْ يُثِيبُ عَلَيْهِ مالا يُثِيبُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ يَتَأَتَّى به من الاغراض ويسهل من المطالب مالا يَتَأَتَّى بِغَيْرِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ ففِيهِ تَصْرِيحٌ بِتَسْمِيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَوَصْفِهِ بِرَفِيقٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ لَا يُوصَفُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَّا بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ أَوْ سَمَّاهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عليه وأما مالم يَرِدْ إِذْنٌ فِي إِطْلَاقِهِ وَلَا وَرَدَ مَنْعٌ فِي وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فَفِيهِ خِلَافٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَلَا يُوصَفُ بِحِلٍّ وَلَا(16/145)
حُرْمَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ قَالَ وَلِلْأُصُولِيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ خِلَافٌ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ الْآحَادِ فَقَالَ بَعْضُ حُذَّاقِ الْأَشْعَرِيَّةِ يَجُوزُ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ عِنْدَهُ يَقْتَضِي الْعَمَلَ وَهَذَا عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْعَمَلِيَّاتِ لَكِنَّهُ يَمْنَعُ إِثْبَاتَ أَسْمَائِهِ تَعَالَى بِالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ يُعْمَلُ بِهَا فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ وَقَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ يَمْنَعُ ذَلِكَ فَمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فَهِمَ مِنْ مَسَالِكِ الصَّحَابَةِ قَبُولَهُمْ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا وَمَنْ مَنَعَ لَمْ يُسَلِّمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ إِجْمَاعٌ فِيهِ فَبَقِيَ عَلَى الْمَنْعِ قَالَ الْمَازِرِيُّ فَإِطْلَاقُ رَفِيقٍ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِغَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ الْآحَادِ جَرَى فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَفِيقٌ صِفَةُ فِعْلٍ وَهِيَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الرِّفْقِ لِعِبَادِهِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَفِيقًا وَغَيْرَهُ مِمَّا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ فِي بَابِ تَحْرِيمِ الكبر وذكرنا أنه اختيار امام الحرمين(16/146)
(باب النهي عن لعن الدواب وغيرها)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاقَةِ الَّتِي لَعَنَتْهَا الْمَرْأَةُ
[2595] (خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ) وَفِي رِوَايَةٍ
[2596] لَا تُصَاحِبُنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ إِنَّمَا قَالَ هَذَا زَجْرًا لَهَا وَلِغَيْرِهَا وَكَانَ قَدْ سَبَقَ نَهْيُهَا وَنَهْيُ غَيْرِهَا عَنِ اللَّعْنِ فَعُوقِبَتْ بِإِرْسَالِ النَّاقَةِ وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ مُصَاحَبَتِهِ لِتِلْكَ النَّاقَةِ فِي الطَّرِيقِ وَأَمَّا بَيْعُهَا وَذَبْحُهَا وَرُكُوبُهَا(16/147)
فِي غَيْرِ مُصَاحَبَتِهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي كَانَتْ جَائِزَةً قَبْلَ هَذَا فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى الْجَوَازِ لِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُصَاحَبَةِ فَبَقِيَ الْبَاقِي كَمَا كَانَ وَقَوْلُهُ نَاقَةً وَرْقَاءَ بِالْمَدِّ أَيْ يُخَالِطُ بَيَاضُهَا سَوَادٌ وَالذَّكَرُ أَوْرَقُ وَقِيلَ هِيَ الَّتِي لَوْنُهَا كَلَوْنِ الرَّمَادِ قَوْلُهُ (فَقَالَتْ حِلْ) هِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ لِلْإِبِلِ وَاسْتِحْثَاثٍ يُقَالُ حِلْ حِلْ بِإِسْكَانِ اللَّامِ فِيهِمَا قَالَ الْقَاضِي وَيُقَالُ أَيْضًا حِلٍ حِلٍ بِكَسْرِ اللَّامِ فِيهِمَا بِالتَّنْوِينِ وَبِغَيْرِ تَنْوِينٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَأَعْرُوهَا) هُوَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَبِضَمِّ الرَّاءِ يُقَالُ أَعْرَيْتُهُ وَعَرَّيْتُهُ إِعْرَاءً وَتَعْرِيَةً فَتَعَرَّى وَالْمُرَادُ هُنَا خُذُوا مَا عَلَيْهَا مِنَ الْمَتَاعِ وَرَحْلِهَا وَآلَتِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2597] (لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا وَلَا يَكُونَ اللَّعَّانُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فِيهِ الزَّجْرِ عَنِ اللَّعْنِ وَأَنَّ مَنْ تَخَلَّقَ بِهِ لَا يَكُونُ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ فِي الدُّعَاءِ يُرَادُ بِهَا الْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ الدُّعَاءُ بِهَذَا مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ بَيْنَهُمْ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَجَعَلَهُمْ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَكَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فَمَنْ دَعَا عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِاللَّعْنَةِ وَهِيَ الْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ نِهَايَةِ الْمُقَاطَعَةِ وَالتَّدَابُرِ وَهَذَا غَايَةُ مَا يَوَدُّهُ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ وَيَدْعُو عَلَيْهِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ لِأَنَّ القاتل يقطعه(16/148)
عَنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَهَذَا يَقْطَعُهُ عَنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ مَعْنَى لَعْنَ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ فِي الْإِثْمِ وَهَذَا أَظْهَرُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ فَمَعْنَاهُ لَا يَشْفَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُشَفَّعُ الْمُؤْمِنُونَ فِي إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ وَلَا شُهَدَاءَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْأُمَمِ بِتَبْلِيغِ رُسُلِهِمْ إِلَيْهِمُ الرِّسَالَاتِ وَالثَّانِي لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ فِي الدُّنْيَا أَيْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهِمْ لِفِسْقِهِمْ وَالثَّالِثُ لَا يُرْزَقُونَ الشَّهَادَةَ وَهِيَ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْبَغِي لصديق أن يكون لعانا ولا يكون اللعانون شُفَعَاءَ بِصِيغَةِ التَّكْثِيرِ وَلَمْ يَقُلْ لَاعِنًا وَاللَّاعِنُونَ لِأَنَّ هَذَا الذَّمَّ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ كَثُرَ مِنْهُ اللَّعْنُ لَا لِمَرَّةٍ وَنَحْوِهَا وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ أَيْضًا اللَّعْنُ الْمُبَاحُ وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَهُوَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَشَارِبَ الْخَمْرِ وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَالْمُصَوِّرِينَ وَمَنِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَتَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ وَغَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ هُوَ مَشْهُورٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَوْلُهُ
[2598] (بَعَثَ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءَ بِأَنْجَادٍ مِنْ عِنْدِهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبَعْدَهَا نُونٌ ثُمَّ جِيمٌ وَهُوَ جَمْعُ نَجَدٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْجِيمِ وهومتاع الْبَيْتِ الَّذِي يُزَيِّنُهُ مِنْ فُرُشٍ وَنَمَارِقَ وَسُتُورٍ وَقَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ بِإِسْكَانِ الْجِيمِ قَالَ وَجَمْعُهُ نُجُودٌ(16/149)
حَكَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ فَهُمَا لُغَتَانِ وَوَقَعَ في رواية بن ماهان بخادم بالخاء المعجمة والمشهور الاول
(باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه)
أو ليس هو اهلا لذلك كان له زكاة واجرا ورحمة قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2600]
[2602] 0اللَّهُمَّ إِنَّمَا أنا بشر فأي المسلمين لعنته أوسببته فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا) وَفِي
[2601] رِوَايَةٍ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً وَفِي
[2601]
[2602] رِوَايَةٍ فأي المؤمنين آذيته شتمته لعنته جلدته(16/150)
فاجعلها لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً وَقُرْبَةً وَفِي رِوَايَةٍ
[2603] إِنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ تَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُبَيِّنَةٌ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى أُمَّتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِمَصَالِحِهِمْ وَالِاحْتِيَاطِ لَهُمْ وَالرَّغْبَةِ فِي كُلِّ مَا يَنْفَعُهُمْ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ آخِرًا تُبَيِّنُ المراد بباقي الروايات الطلقة وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ دُعَاؤُهُ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَكَفَّارَةً وزكاة ونحو(16/151)
ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ والسب واللعن ونحوه وكان مسلما والافقد دَعَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُمْ رَحْمَةً فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَدْعُو عَلَى مَنْ لَيْسَ هُوَ بأهل للدعاء عَلَيْهِ أَوْ يَسُبُّهُ أَوْ يَلْعَنُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَالْجَوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاءُ وَمُخْتَصَرُهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُسْتَوْجِبٌ لَهُ فَيَظْهَرُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِحْقَاقَهُ لِذَلِكَ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَيَكُونُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ وَالثَّانِي أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبِّهِ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ هُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي وَصْلِ كَلَامِهَا بِلَا نِيَّةٍ كَقَوْلِهِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ وعَقْرَى حَلْقَى وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا كَبِرَتْ سِنُّكِ وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بطنه ونحو ذلك لا يقصدون بشئ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ فَخَافَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أن يصادف شئ مِنْ ذَلِكَ إِجَابَةً فَسَأَلَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَغِبَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً وَكَفَّارَةً وَقُرْبَةً وَطَهُورًا وَأَجْرًا وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ هَذَا مِنْهُ فِي النَّادِرِ وَالشَّاذِّ مِنَ الْأَزْمَانِ وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا مُنْتَقِمًا لِنَفْسِهِ وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ قَالُوا ادْعُ عَلَى دَوْسٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي(16/152)
فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ) فَقَدْ يُقَالُ ظَاهِرُهُ أَنَّ السَّبَّ وَنَحْوَهُ كان بسبب الغضب وجوابه ماذكره الْمَازِرِيُّ قَالَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَيَّ دُعَاءِهُ وَسَبِّهُ وَجَلْدِهُ كَانَ مِمَّا يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ وَالثَّانِي زَجْرُهُ بِأَمْرٍ آخَرَ فَحَمَلَهُ الْغَضَبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَخَيَّرِ فيهما وهوسبه أَوْ لَعْنُهُ وَجَلْدُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَيْسَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَعْنَى اجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً أَيْ رَحْمَةً كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الرَّحْمَةُ قَوْلُهُ جَلَدَّهُ قَالَ وَهِيَ لُغَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا هِيَ جَلَدْتُهُ مَعْنَاهُ أَنَّ لُغَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ لِعَامَّةِ الْعَرَبِ جَلَدْتُهُ بِالتَّاءِ وَلُغَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ جَلَدّهُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ عَلَى إِدْغَامِ الْمِثْلَيْنِ وَهُوَ جَائِزٌ قَوْلُهُ (سَالَمٍ مَوْلَى النَّصْرِيِّيْنِ) بِالنُّونِ وَالصَّادِ(16/153)
الْمُهْمَلَةِ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٌ قَوْلُهُ
[2603] (حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بن عمار قال حدثنا إسحاق بن أَبِي طَلْحَةَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَهُوَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ قَوْلُهُ (كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ) فَقَوْلُهُ وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ يَعْنِي أُمُّ سُلَيْمٍ هِيَ أُمُّ أَنَسٍ قَوْلُهُ فَقَالَ لِلْيَتِيمَةِ أَنْتِ هِيَهْ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وهي هاء السكت قولها (لا يكبرسني أَوْ قَالَتْ قَرْنِي) بِفَتْحِ الْقَافِ وَهُوَ نَظِيرُهَا فِي الْعُمْرِ قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ لَا يَطُولُ عُمْرُهَا لِأَنَّهُ إِذَا طَالَ عُمْرُهُ طَالَ عُمْرُ قرنه وهذا الذي قاله فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ طُولِ عُمْرِ أَحَدِ الْقَرْنَيْنِ طُولُ عُمْرِ الْآخَرِ فَقَدْ يكون سنهما واحد وَيَمُوتُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم لها لاكبر سِنُّكِ فَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ بَلْ هو(16/154)
جَارٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَلْفَاظِ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَلُوثُ خِمَارَهَا) هُوَ بِالْمُثَلَّثَةِ فِي آخِرِهِ أَيْ تُدِيرُهُ عَلَى رَأْسِهَا قَوْلُهُ (عَنْ ابي حمزة القصاب عن بن عَبَّاسٍ) أَبُو حَمْزَةَ هَذَا بِالْحَاءِ وَالزَّايِ اسْمُهُ عِمْرَانُ بْنُ أَبِي عَطَاءٍ الْأَسَدِيُّ الْوَاسِطِيُّ الْقَصَّابُ بياع القصب قالوا وليس له عن بن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير هذا الحديث وله عن بن عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ يَكْرَهُ مُشَارَكَةَ الْمُسْلِمِ الْيَهُودِيَّ وَكُلُّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَبُو جَمْرَةَ عن بن عَبَّاسٍ فَهُوَ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ وَهُوَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ إِلَّا هَذَا الْقَصَّابُ فَلَهُ فِي مُسْلِمٍ هَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ لَا ذِكْرَ لَهُ في البخاري قوله
[2604] (عن بن عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَارَيْتُ خَلْفَ بَابٍ فَجَاءَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً وَقَالَ اذْهَبِ ادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ) وَفَسَّرَ الرَّاوِي أَيْ قَفَدَنِي أَمَّا حَطَأَنِي فَبِحَاءٍ ثُمَّ طَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ وَبَعْدَهَا همزة(16/155)
وقفدني بِقَافٍ ثُمَّ فَاءٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ وَقَوْلُهُ حَطْأَةً بِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَهُوَ الضَّرْبُ بِالْيَدِ مَبْسُوطَةٍ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا بِابْنِ عَبَّاسٍ مُلَاطَفَةً وَتَأْنِيسًا وَأَمَّا دُعَاؤُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ لَا يَشْبَعَ حِينَ تَأَخَّرَ فَفِيهِ الْجَوَابَانِ السَّابِقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَرَى عَلَى اللِّسَانِ بِلَا قَصْدٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَهُ لِتَأَخُّرِهِ وَقَدْ فَهِمَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الباب وجعله غيره من مناقب معاويةلانه فِي الْحَقِيقَةِ يَصِيرُ دُعَاءً لَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ تَرْكِ الصِّبْيَانَ يَلْعَبُونَ بِمَا لَيْسَ بِحَرَامٍ وَفِيهِ اعْتِمَادُ الصَّبِيِّ فِيمَا يُرْسِلُ فِيهِ مِنْ دُعَاءِ إِنْسَانٍ وَنَحْوِهِ مِنْ حَمْلِ هَدِيَّةٍ وَطَلَبِ حَاجَةٍ وَأَشْبَاهِهِ وَفِيهِ جَوَازُ إِرْسَالِ صَبِيِّ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا وَلَا يُقَالُ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي مَنْفَعَةِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ هَذَا قَدْرٌ يَسِيرٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْمُسَامَحَةِ بِهِ لِلْحَاجَةِ وَاطَّرَدَ بِهِ الْعُرْفُ وَعَمَلُ الْمُسْلِمِينَ والله اعلم
(باب ذم ذي الوجهين وتحريم فعله)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2556] (إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ) هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ وَالْمُرَادُ مَنْ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَمُخَالِفٌ لِلْآخَرِينَ مُبْغِضٌ فَإِنْ أَتَى كُلَّ طائفة بالاصلاح ونحوه فمحمود(16/156)
(باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2605] (لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يُنْمِي خَيْرًا) هَذَا الْحَدِيثُ مُبَيِّنٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ الْكَذَّابُ الْمَذْمُومُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ بَلْ هَذَا مُحْسِنٌ قوله (قال بن شهاب ولم أسمع يرخص في شئ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ)(16/157)
الْحَرْبُ وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا) قَالَ الْقَاضِي لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْكَذِبِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَاخْتَلَفُوا في المراد بالكذب المباح فيها ماهو فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَأَجَازُوا قَوْلَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِلْمَصْلَحَةِ وَقَالُوا الْكَذِبُ الْمَذْمُومُ مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ فعله كبيرهم وإني سقيم وَقَوْلُهُ إِنَّهَا أُخْتِي وَقَوْلُ مُنَادِي يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ ظَالِمٌ قَتْلَ رَجُلٍ هُوَ عِنْدَهُ مُخْتَفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ لَا يَجُوزُ الْكَذِبُ في شئ أَصْلًا قَالُوا وَمَا جَاءَ مِنَ الْإِبَاحَةِ فِي هَذَا الْمُرَادُ بِهِ التَّوْرِيَةُ وَاسْتِعْمَالُ الْمَعَارِيضِ لَا صَرِيحُ الْكَذِبِ مِثْلَ أَنْ يَعِدَ زَوْجَتَهُ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا وَيَكْسُوَهَا كَذَا وَيَنْوِي إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ وَحَاصِلُهُ أَنْ يَأْتِي بِكَلِمَاتٍ مُحْتَمَلَةٍ يَفْهَمُ الْمُخَاطَبُ مِنْهَا مَا يُطَيِّبُ قَلْبَهُ وَإِذَا سَعَى فِي الْإِصْلَاحِ نَقَلَ عَنْ هَؤُلَاءِ إِلَى هَؤُلَاءِ كَلَامًا جَمِيلًا وَمِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ وَوَرَّى وَكَذَا فِي الْحَرْبِ بِأَنْ يَقُولَ لِعَدُوِّهِ مَاتَ إِمَامُكُمُ الْأَعْظَمُ وَيَنْوِي إِمَامَهُمْ فِي الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ أَوْ غَدًا يَأْتِينَا مَدَدٌ أَيْ طَعَامٌ وَنَحْوُهُ هَذَا مِنَ الْمَعَارِيضِ الْمُبَاحَةِ فَكُلُّ هذا جائز وتأولوا قصة ابراهيم ويوسف وماجاء مِنْ هَذَا عَلَى الْمَعَارِيضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا كَذِبُهُ لِزَوْجَتِهِ وَكَذِبُهَا لَهُ فَالْمُرَادُ بِهِ فِي إِظْهَارِ الْوُدِّ وَالْوَعْدِ بِمَا لَا يَلْزَمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَأَمَّا الْمُخَادَعَةُ فِي مَنْعِ مَا عَلَيْهِ أو عليها أو أخذ ماليس لَهُ أَوْ لَهَا فَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ والله اعلم(16/158)
(بَاب تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ)
وَهِيَ نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2606] (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ) هَذِهِ اللَّفْظَةُ رَوَوْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعِضَهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى وَزْنِ الْعِدَةِ وَالزِّنَةِ وَالثَّانِي الْعَضْهُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ عَلَى وَزْنِ الْوَجْهِ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَشْهَرُ فِي رِوَايَاتِ بِلَادِنَا وَالْأَشْهَرُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَكُتُبِ غَرِيبِهِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّهُ رِوَايَةُ أَكْثَرِ شُيُوخِهِمْ وَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَلَا أُنَبِّئكُمْ مَا الْعَضْهُ الْفَاحِشُ الْغَلِيظُ التَّحْرِيمُ(16/159)
(بَاب قُبْحِ الْكَذِبِ وَحُسْنِ الصِّدْقِ وَفَضْلِهِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2607] (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْخَالِصِ مِنْ كُلِّ مَذْمُومٍ وَالْبِرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ كُلِّهِ وَقِيلَ الْبِرُّ الْجَنَّةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْجَنَّةَ وَأَمَّا الْكَذِبُ فَيُوصِلُ إِلَى الْفُجُورِ وهوالميل عَنِ الِاسْتِقَامَةِ وَقِيلَ الِانْبِعَاثُ فِي الْمَعَاصِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) وَفِي رِوَايَةٍ لِيَتَحَرَّى الصِّدْقَ وَلِيَتَحَرَّى الْكَذِبَ وَفِي رِوَايَةٍ عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ وَهُوَ قَصْدُهُ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ وَعَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهِ فَإِنَّهُ إِذَا تَسَاهَلَ فِيهِ كَثُرَ مِنْهُ فَعُرِفَ بِهِ وَكَتَبَهُ اللَّهُ لِمُبَالَغَتِهِ صِدِّيقًا إِنِ اعْتَادَهُ أَوْ كَذَّابًا إِنِ اعْتَادَهُ وَمَعْنَى يُكْتَبُ هُنَا يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ الْوَصْفَ بِمَنْزِلَةِ الصِّدِّيقِينَ وَثَوَابِهِمْ أَوْ صِفَةِ الْكَذَّابِينَ وَعِقَابِهِمْ وَالْمُرَادُ إِظْهَارُ ذَلِكَ لِلْمَخْلُوقِينَ إِمَّا بِأَنْ يَكْتُبَهُ فِي ذَلِكَ لِيَشْتَهِرَ بِحَظِّهِ مِنَ الصِّفَتَيْنِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَإِمَّا بِأَنْ يُلْقِيَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَأَلْسِنَتِهِمْ كما يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ وَالْبَغْضَاءُ وَإِلَّا فَقَدَرُ اللَّهِ تعالى(16/160)
وكتابه السابق قد سبق بِكُلِّ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بِبِلَادِنَا وَغَيْرِهَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيعِ النُّسَخِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْحُمَيْدِيُّ وَنَقَلَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ عن كتاب مسلم في حديث بن مثنى وبن بَشَّارٍ زِيَادَةً وَإِنَّ شَرَّ الرَّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ وإن الكذب لا يصلح منه جدولا هَزْلٌ وَلَا يَعِدِ الرَّجُلُ صَبِيَّهُ ثُمَّ يُخْلِفْهُ وَذَكَرَ أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَهَا أَيْضًا أَبُو بَكْرٍ الْبُرْقَانِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ وَلَيْسَتْ عِنْدَنَا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي الرَّوَايَا هُنَا جَمْعُ رَوِيَّةٍ وَهِيَ مَا يَتَرَوَّى فِيهِ الانسان ويستعد به أَمَامَ عَمَلِهِ وَقَوْلُهُ قَالَ وَقِيلَ جَمْعُ رَاوِيَةٍ أي حامل وناقل له والله اعلم
(باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شئ يذهب الغضب)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2608] (مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبُ فِيكُمْ قَالَ قُلْنَا الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ بِالرَّقُوبِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا قَالَ فَمَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ قُلْنَا الَّذِي لَا يصرعه(16/161)
الرِّجَالُ قَالَ لَيْسَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) أَمَّا الرَّقُوبُ فَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَالصُّرَعَةُ بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَأَصْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الَّذِي يَصْرَعُ النَّاسَ كَثِيرًا وَأَصْلُ الرَّقُوبِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الَّذِي لَا يَعِيشُ لَهُ وَلَدٌ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّكُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ الرَّقُوبَ الْمَحْزُونَ هُوَ الْمُصَابُ بِمَوْتِ أَوْلَادِهِ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ شَرْعًا بَلْ هُوَ مَنْ لَمْ يَمُتْ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِ فِي حَيَاتِهِ فَيَحْتَسِبُهُ يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ مُصِيبَتِهِ بِهِ وَثَوَابُ صَبْرِهِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ لَهُ فَرَطًا وَسَلَفًا وَكَذَلِكَ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ الصُّرَعَةَ الْمَمْدُوحُ الْقَوِيُّ الْفَاضِلُ هُوَ الْقَوِيُّ الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ بَلْ يَصْرَعُهُمْ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ شَرْعًا بَلْ هُوَ مَنْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ فَهَذَا هُوَ الْفَاضِلُ الْمَمْدُوحُ الَّذِي قَلَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّقِ بِخُلُقِهِ وَمُشَارَكَتِهِ فِي فَضِيلَتِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ مَوْتِ الْأَوْلَادِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِمْ وَيَتَضَمَّنُ الدَّلَالَةَ لِمَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ بِتَفْضِيلِ التَّزَوُّجِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي النِّكَاحِ وَفِيهِ كَظْمُ الْغَيْظِ وَإِمْسَاكُ النَّفْسِ عِنْدَ الْغَضَبِ(16/162)
عَنِ الِانْتِصَارِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالْمُنَازَعَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي اشْتَدَّ غَضَبُهُ
[2610] (إِنِّي لَأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فِيهِ أَنَّ الْغَضَبَ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْغَضَبِ أَنْ يَسْتَعِيذَ فَيَقُولَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْغَضَبِ وَأَمَّا قَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي اشْتَدَّ غَضَبُهُ هَلْ تَرَى بِي مِنْ جُنُونٍ فَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يُفَقَّهْ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَتَهَذَّبْ بِأَنْوَارِ الشَّرِيعَةِ الْمُكَرَّمَةِ وَتَوَهَّمَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَجْنُونِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَلِهَذَا يَخْرُجُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ اعْتِدَالِ حَالِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِالْبَاطِلِ وَيَفْعَلُ الْمَذْمُومَ وَيَنْوِي الْحِقْدَ وَالْبُغْضَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْقَبَائِحِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْغَضَبِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قال له أوصني لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ لَا تَغْضَبْ فَلَمْ يَزِدْهُ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى لَا تَغْضَبْ مَعَ تَكْرَارِهِ الطَّلَبَ وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ فِي عِظَمِ مَفْسَدَةِ الْغَضَبِ وَمَا يَنْشَأُ مِنْهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ هَلْ تَرَى بِي مِنْ جُنُونٍ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَوْ مِنْ جُفَاةِ الاعراب والله اعلم(16/163)
(باب خلق الانسان خلقا لا يتمالك)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2611] (يُطِيفُ بِهِ) قال اهل اللغة طاف بالشئ يَطُوفُ طَوْفًا وَطَوَافًا وَأَطَافَ يُطِيفُ إِذَا اسْتَدَارَ حَوَالَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ) عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ الْأَجْوَفُ صَاحِبُ الْجَوْفِ وَقِيلَ هُوَ الَّذِي دَاخِلُهُ خَالٍ وَمَعْنَى لَا يَتَمَالَكُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَيَحْبِسُهَا عَنِ الشَّهَوَاتِ وَقِيلَ لَا يَمْلِكُ دَفْعَ الْوَسْوَاسِ عَنْهُ وَقِيلَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَالْمُرَادُ جِنْسُ بَنِي آدَمَ(16/164)
(بَاب النَّهْيِ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2612] (إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبْ) وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَلْطِمَنَّ الْوَجْهَ وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا تَصْرِيحٌ بِالنَّهْيِ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ لِأَنَّهُ لَطِيفٌ يَجْمَعُ الْمَحَاسِنَ وَأَعْضَاؤُهُ نَفِيسَةٌ لَطِيفَةٌ وَأَكْثَرُ الْإِدْرَاكِ بِهَا فَقَدْ يُبْطِلُهَا ضَرْبُ الْوَجْهِ وَقَدْ يَنْقُصُهَا وقد يشوه الوجه والشين فيه فاحش لانه بَارِزٌ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ سَتْرُهُ وَمَتَى ضَرَبَهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ شَيْنٍ غَالِبًا وَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ إِذَا ضَرَبَ زَوْجَتَهُ أَوْ وَلَدَهُ أَوْ عبده ضرب تأديب فليجتنب الوجه وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/165)
(فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) فَهُوَ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بَيَانُ حُكْمِهَا وَاضِحًا وَمَبْسُوطًا وَأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُمْسِكُ عَنْ تَأْوِيلِهَا وَيَقُولُ نُؤْمِنُ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَأَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ وَلَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِهَا وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ أَحْوَطُ وَأَسْلَمُ وَالثَّانِي أَنَّهَا تُتَأَوَّلُ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ ليس كمثله شئ قَالَ الْمَازِرِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ ثَابِتٌ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَكَأَنَّ مَنْ نَقَلَهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ لَهُ وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَقَدْ غلط بن قُتَيْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَأَجْرَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وقال لِلَّهِ تَعَالَى صُورَةٌ لَا كَالصُّوَرِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ لِأَنَّ الصُّورَةَ تُفِيدُ التَّرْكِيبَ وكل مركب محدث والله تعالى ليس بمحدث فليس هُوَ مُرَكَّبًا فَلَيْسَ مُصَوَّرًا قَالَ وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُجَسِّمَةِ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ لَمَّا رَأَوْا أَهْلَ السنة يقولون الباري سبحانه وتعالى شئ لَا كَالْأَشْيَاءِ طَرَدُوا الِاسْتِعْمَالَ فَقَالُوا جِسْمٌ لَا كالاجسام والفرق أن لفظ شئ لَا يُفِيدُ الْحُدُوثَ وَلَا يَتَضَمَّنُ مَا يَقْتَضِيهِ وَأَمَّا جِسْمٌ وَصُورَةٌ فَيَتَضَمَّنَانِ التَّأْلِيفَ وَالتَّرْكِيبَ وَذَلِكَ دليل الحدوث قال العجب من بن قُتَيْبَةَ فِي قَوْلِهِ صُورَةٌ لَا كَالصُّوَرِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ عَلَى رَأْيهِ يَقْتَضِي خَلْقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ فَالصُّورَتَانِ عَلَى رَأْيهِ سَوَاءٌ فَإِذَا قَالَ لَا كَالصُّوَرِ تَنَاقَضَ قَوْلُهُ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا إِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ صُورَةٌ لَا كَالصُّوَرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَلَّفٍ وَلَا مُرَكَّبٍ فَلَيْسَ بصورة حقيقة وَلَيْسَتِ اللَّفْظَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُوَافِقًا عَلَى افْتِقَارِهِ إِلَى التَّأْوِيلِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ الضَّمِيرُ فِي صُورَتِهِ عَائِدٌ عَلَى الْأَخِ الْمَضْرُوبِ وَهَذَا ظَاهِرُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَعُودُ إِلَى آدَمَ وَفِيهِ ضَعْفٌ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ الْمُرَادُ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَاخْتِصَاصٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى نَاقَةَ الله وَكَمَا يُقَالُ فِي الْكَعْبَةِ بَيْتُ اللَّهِ وَنَظَائِرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَالِكٍ الْمَرَاغِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) الْمَرَاغِيِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمَرَاغَةِ بَطْنٍ مِنَ الْأَزْدِ(16/166)
لَا إِلَى الْبَلَدِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَرَاغَةِ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ ضَبْطِهِ وَأَنَّهُ مُنْتَسِبٌ إِلَى بَطْنٍ مِنَ الْأَزْدِ هُوَ الصَّحِيحُ المشهور ولم يذكر الجمهور غيره وذكر بن جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى مَوْضِعٍ بِنَاحِيَةِ عُمَانَ وَذَكَرَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ أَنَّهُ الْمُرَاغِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَلَعَلَّهُ تَصْحِيفٌ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَشْهُورُ الْفَتْحُ وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ الْجَيَّانِيُّ وَالْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ وَالسَّمْعَانِيُّ فِي الْأَنْسَابِ وَخَلَائِقُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الرِّوَايَةِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ قَالَ السَّمْعَانِيُّ وَقِيلَ إِنَّهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ قَالَ وَالْمَشْهُورُ الْفَتْحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِمَنْ عَذَّبَ النَّاسَ بِغَيْرِ حَقٍّ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2613] (إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّعْذِيبِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ التَّعْذِيبُ بِحَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ (أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْبَاطِ) هُمْ فَلَّاحُو الْعَجَمِ قَوْلُهُ (وَأَمِيرُهُمْ يَوْمئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ) هَكَذَا هُوَ في معظم النسخ(16/167)
عمير بالتصغير بن سَعْدٍ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ وَفِي بَعْضِهَا عُمَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَزِيَادَةِ يَاءٍ قَالَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ هُوَ الْمَوْجُودُ لِأَكْثَرِ شُيُوخِنَا وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَأَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِمْصَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ يُسَبِّحُ وَجَدُّهُ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَحَدُ الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ أَمِيرُهُمْ عَلَى فِلَسْطِينَ) هِيَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ بِلَادُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهَا قَوْلُهُ (فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا) ضَبَطُوهُ بالخاء المعجمة والمهملة والمعجمة أشهر وأحسن(16/168)
(باب أمر من مر بسلاح في مسجد أو سوق أو غيرهما)
من المواضع الجامعة للناس أن يمسك بنصالها قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2614]
[2615] (لِلَّذِي يَمُرُّ بِالنَّبْلِ فِي الْمَسْجِدِ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا لِئَلَّا يُصِيبَ بِهَا أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فِيهِ هَذَا الْأَدَبُ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ بِنِصَالِهَا عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُرُورِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَالنُّصُولُ وَالنِّصَالُ جَمْعُ نَصْلٍ وَهُوَ حَدِيدَةُ السَّهْمِ وَفِيهِ اجْتِنَابُ كُلِّ مَا يُخَافُ مِنْهُ ضَرَرٌ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي مُوسَى سَدَّدْنَاهَا بَعْضُنَا فِي وُجُوهِ بَعْضٍ أَيْ قَوَّمْنَاهَا إِلَى وُجُوهِهِمْ وَهُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ السَّدَادِ وَهُوَ الْقَصْدُ والاستقامة
(باب النهي عن الاشارة بالسلاح إلى مسلم)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2616] (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ(16/169)
لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ) فِيهِ تَأْكِيدُ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ وَالنَّهْيُ الشَّدِيدُ عَنْ تَرْوِيعِهِ وَتَخْوِيفِهِ وَالتَّعَرُّضِ لَهُ بِمَا قَدْ يُؤْذِيهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مُبَالَغَةٌ فِي إِيضَاحِ عُمُومِ النَّهْيِ فِي كُلِّ أَحَدٍ سَوَاءٌ مَنْ يُتَّهَمُ فِيهِ وَمَنْ لَا يُتَّهَمُ وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا هَزْلًا وَلَعِبًا أَمْ لَا لِأَنَّ تَرْوِيعَ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْبِقُهُ السِّلَاحُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَلَعْنُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ هَكَذَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ وَفِيهِ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ حَتَّى يَدَعَهُ وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2617] (لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشيطان ينزع في يده) هكذا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ لَا يُشِيرُ بِالْيَاءِ بَعْدَ الشِّينِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَهُوَ نَهْيٌ بِلَفْظِ الخبر كقوله تعالى لا تضار والدة وَقَدْ قَدَّمْنَا مَرَّاتٍ أَنَّ هَذَا أَبْلَغُ مِنْ لفظ النهي ولعل الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ ضَبَطْنَاهُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيعِ(16/170)
رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ وَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا وَمَعْنَاهُ يَرْمِي فِي يَدِهِ وَيُحَقِّقُ ضَرْبَتَهُ وَرَمْيَتَهُ وَرُوِيَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْإِغْرَاءِ أَيْ يَحْمِلُ عَلَى تَحْقِيقِ الضَّرْبِ بِهِ وَيُزَيَّنُ ذَلِكَ
(بَاب فَضْلِ إِزَالَةِ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ)
هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ ظَاهِرَةٌ فِي فَضْلِ إِزَالَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَذَى شَجَرَةً
[2617] تُؤْذِي أَوْ غُصْنَ شَوْكٍ أَوْ حَجَرًا يُعْثَرُ بِهِ أَوْ قَذَرًا أَوْ جِيفَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطريق من شعب الايمان كماسبق فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى فَضِيلَةِ كُلِّ مَا نَفَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَزَالَ عَنْهُمْ ضَرَرًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ) أَيْ يَتَنَعَّمُ فِي الْجَنَّةِ بِمَلَاذِهَا بِسَبَبِ قَطْعِهِ الشَّجَرَةَ قَوْلُهُ
[2618] (عَنْ أَبَانِ بْنِ صَمْعَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْوَازِعِ) أَمَّا أَبَانٌ فَقَدْ سَبَقَ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُهُ وَتَرْكُهُ وَالصَّرْفُ أَجْوَدُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَصَمْعَةُ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مِيمٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ قِيلَ إِنَّ أَبَانًا هَذَا هو والد عتبة الغلام الزاهد المشهور وابو الْوَازِعِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ اسْمُهُ جَابِرُ بْنُ عَمْرٍو الرَّاسِبِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ(16/171)
مُوَحَّدَةٌ وَهِيَ نِسْبَةٌ إِلَى بَنِي رَاسِبٍ قَبِيلَةٍ مَعْرُوفَةٍ نَزَلَتِ الْبَصْرَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَمِرَّ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ عَامَّةِ الرُّوَاةِ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ أَزِلْهُ وَفِي بَعْضِهَا وَأَمِزِ بِزَايٍ مُخَفَّفَةٍ وَهِيَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ
(بَاب تَحْرِيمِ تَعْذِيبِ الْهِرَّةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْذِي)
[2242] فِيهِ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ قَتْلِ الْحَيَّاتِ وَسَبَقَ هُنَاكَ أَنَّ خَشَاشَ الْأَرْضِ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا أَيْ هَوَامَّهَا وَحَشَرَاتِهَا وَرُوِيَ عَلَى غَيْرِ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ(16/172)
وَمَعْنَى عُذِّبَتْ فِي هِرَّةٍ أَيْ بِسَبَبِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2619] (مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ) أَيْ مِنْ أَجْلِهَا يُمَدُّ وَيُقْصَرُ يُقَالُ مِنْ جَرَّائِكَ وَمِنْ جَرَّاكَ وَجَرِيرِكَ وَأَجْلِكَ بِمَعْنًى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تُرَمْرِمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ تُرَمْرِمُ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الثَّانِيَةِ وَفِي بَعْضِهَا تُرَمِّمُ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى وَرَاءٍ وَاحِدَةٍ وَفِي بَعْضِهَا تَرَمَّمُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْمِيمِ أَيْ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ بِشَفَتَيْهَا
(بَاب تَحْرِيمِ الْكِبْرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2620] (الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فَالضَّمِيرُ فِي إِزَارُهُ وَرِدَاؤُهُ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلْعِلْمِ بِهِ وَفِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ يُنَازِعُنِي ذَلِكَ أُعَذِّبُهُ وَمَعْنَى يُنَازِعُنِي يَتَخَلَّقُ بِذَلِكَ فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى الْمُشَارِكِ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ فِي الْكِبْرِ مُصَرِّحٌ بِتَحْرِيمِهِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ إِزَارًا وَرِدَاءً فَمَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ حَسَنَةٌ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ فُلَانٌ شعاره)(16/173)
الزُّهْدُ وَدِثَارُهُ التَّقْوَى لَا يُرِيدُونَ الثَّوْبَ الَّذِي هُوَ شِعَارٌ أَوْ دِثَارٌ بَلْ مَعْنَاهُ صِفَتُهُ كَذَا قَالَ الْمَازِرِيُّ وَمَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ هُنَا أَنَّ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ يُلْصَقَانِ بِالْإِنْسَانِ وَيَلْزَمَانِهِ وَهُمَا جَمَالٌ لَهُ قَالَ فَضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلًا لِكَوْنِ الْعِزِّ وَالْكِبْرِيَاءِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَحَقَّ وَلَهُ أَلْزَمَ وَاقْتَضَاهُمَا جَلَالُهُ وَمِنْ مَشْهُورِ كَلَامِ الْعَرَبِ فُلَانٌ وَاسِعُ الرِّدَاءِ وَغَمِرُ الرِّدَاءِ أَيْ وَاسِعُ الْعَطِيَّةِ
(بَاب النَّهْيِ عَنْ تَقْنِيطِ الْإِنْسَانِ مِنْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2621] (أَنَّ رَجُلًا قَالَ وَاَللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ مَنْ ذَا الَّذِي يتألى على ان لا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ) مَعْنَى يَتَأَلَّى يَحْلِفُ وَالْأَلْيَةُ الْيَمِينُ وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ بِلَا تَوْبَةٍ إِذَا شَاءَ اللَّهُ غُفْرَانَهَا وَاحْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهِ فِي إِحْبَاطِ الْأَعْمَالِ بِالْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهَا لَا تُحْبَطُ إِلَّا بِالْكُفْرِ وَيُتَأَوَّلُ حُبُوطُ عَمَلِ هَذَا عَلَى أَنَّهُ أُسْقِطَتْ حَسَنَاتُهُ فِي مُقَابَلَةِ سَيِّئَاتِهِ وَسُمِّيَ إِحْبَاطًا مَجَازًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَرَى مِنْهُ أَمْرٌ آخَرُ أَوْجَبَ الْكُفْرَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَكَانَ هَذَا حُكْمَهُمْ
(بَاب فَضْلِ الضُّعَفَاءِ وَالْخَامِلِينَ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2622] (رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ) الْأَشْعَثُ الْمُلَبَّدُ الشَّعْرِ الْمُغَبَّرُ غير مدهون ولا مرجل) ومدفوع بِالْأَبْوَابِ أَيْ لَا قَدْرَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ فهم يدفعونه(16/174)
عَنْ أَبْوَابِهِمْ وَيَطْرُدُونَهُ عَنْهُمْ احْتِقَارًا لَهُ لَوْ أقسم على الله لأبره أي لو حلف على وقوع شئ أَوْقَعَهُ اللَّهُ إِكْرَامًا لَهُ بِإِجَابَةِ سُؤَالِهِ وَصِيَانَتِهِ مِنَ الْحِنْثِ فِي يَمِينِهِ وَهَذَا لِعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا عِنْدَ النَّاسِ وَقِيلَ مَعْنَى الْقَسَمِ هُنَا الدُّعَاءُ وَإِبْرَارُهُ إِجَابَتُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب النَّهْيِ عَنْ قَوْلِ هَلَكَ النَّاسُ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2623] (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ) روي أهلكهم على وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ رَفْعُ الْكَافِ وَفَتْحُهَا وَالرَّفْعُ أَشْهَرُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ رَوَيْنَاهَا فِي حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي تَرْجَمَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَهُوَ مِنْ أَهْلَكِهِمْ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ الرَّفْعُ أَشْهَرُ وَمَعْنَاهَا أَشَدُّهُمْ هَلَاكًا وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَتْحِ فَمَعْنَاهَا هُوَ جَعَلَهُمْ هَالِكِينَ لَا أَنَّهُمْ هَلَكُوا فِي الْحَقِيقَةِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا الذَّمَّ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِزْرَاءِ عَلَى النَّاسِ وَاحْتِقَارِهِمْ وَتَفْضِيلِ نَفْسِهِ عَلَيْهِمْ وَتَقْبِيحِ أَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ سِرَّ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ قَالُوا فَأَمَّا مَنْ قَالَ ذَلِكَ تَحَزُّنًا لِمَا يَرَى فِي نَفْسِهِ وَفِي النَّاسِ مِنَ النَّقْصِ فِي أَمْرِ الدِّينِ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ لَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا هَكَذَا فَسَّرَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَتَابَعَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ لا يزال الرجل يعيب الناس وتذكر مَسَاوِيَهُمْ وَيَقُولُ فَسَدَ النَّاسُ وَهَلَكُوا وَنَحْوَ ذَلِكَ فإذا فعل(16/175)
ذَلِكَ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ أَيْ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُمْ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْإِثْمِ فِي عَيْبِهِمْ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْعُجْبِ بِنَفْسِهِ وَرُؤْيَتِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ)
[2624]
[2625] فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْوَصِيَّةُ بِالْجَارِ وَبَيَانُ عِظَمِ حَقِّهِ وَفَضِيلَةُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ (فَأَصِبْهُمْ مِنْهُ بِمَعْرُوفٍ) أَيْ أَعْطِهِمْ مِنْهُ شَيْئًا(16/176)
(بَاب اسْتِحْبَابِ طَلَاقَةِ الْوَجْهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2626] (وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ) رُوِيَ طَلْقٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أوجه اسكان اللام وكسرها وطليق بِزِيَادَةِ يَاءٍ وَمَعْنَاهُ سَهْلٌ مُنْبَسِطٌ فِيهِ الْحَثُّ عَلَى فَضْلِ الْمَعْرُوفِ وَمَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ حَتَّى طَلَاقَةُ الْوَجْهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ
(بَاب اسْتِحْبَابِ الشَّفَاعَةِ فِيمَا لَيْسَ بِحَرَامٍ)
[2627] فِيهِ اسْتِحْبَابُ الشَّفَاعَةِ لِأَصْحَابِ الْحَوَائِجِ الْمُبَاحَةِ سَوَاءٌ كَانَتِ الشَّفَاعَةُ إِلَى سُلْطَانٍ وَوَالٍ وَنَحْوِهِمَا أَمْ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ وَسَوَاءٌ كَانَتِ الشَّفَاعَةُ إِلَى سُلْطَانٍ فِي كَفِّ ظُلْمٍ أَوْ إِسْقَاطِ تَعْزِيرٍ أَوْ في(16/177)
تخليص عطاء لمحتاج أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ فَحَرَامٌ وَكَذَا الشَّفَاعَةُ فِي تَتْمِيمِ بَاطِلٍ أَوْ إِبْطَالِ حَقٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ حَرَامٌ
(بَاب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السواء)
فِيهِ تَمْثِيلُهُ
[2628] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَلِيسَ الصَّالِحَ بِحَامِلِ الْمِسْكِ وَالْجَلِيسَ السُّوءِ بِنَافِخِ الْكِيرِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالْمُرُوءَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَالنَّهْيُ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الشَّرِّ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَمَنْ يَغْتَابُ النَّاسَ أَوْ يَكْثُرُ فُجْرُهُ وَبَطَالَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْمَذْمُومَةِ وَمَعْنَى (يُحْذِيَكَ) يُعْطِيكَ وَهُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ وَفِيهِ طَهَارَةُ الْمِسْكِ وَاسْتِحْبَابِهِ وَجَوَازُ بَيْعِهِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَمِيعِ هَذَا وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ وَنُقِلَ عَنِ الشِّيعَةِ نَجَاسَتُهُ وَالشِّيعَةُ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى طَهَارَتِهِ الْإِجْمَاعُ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم واما أن يبتاع مِنْهُ وَالنَّجَسُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ فِي بَدَنِهِ وَرَأْسِهِ وَيُصَلِّي بِهِ وَيُخْبِرُ أَنَّهُ أَطْيَبُ الطِّيبِ ولم يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ قَالَ الْقَاضِي وَمَا رُوِيَ مِنْ كَرَاهَةِ الْعُمَرَيْنِ لَهُ فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ مِنْهُمَا عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُمَا بِالْكَرَاهَةِ بَلْ صَحَّتْ قِسْمَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمِسْكَ عَلَى نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ والمعروف عن بن عُمَرَ اسْتِعْمَالُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ(16/178)
(بَاب فَضْلِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْبَنَاتِ)
فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَضْلُ الْإِحْسَانِ إِلَى الْبَنَاتِ وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِنَّ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى سَائِرِ أُمُورِهِنَّ قَوْلُهُ0ابْنُ بَهْرَامَ) هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2629] (مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بشئ) إِنَّمَا سَمَّاهُ ابْتِلَاءً لِأَنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَهُنَّ فِي العادة قال اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وجهه مسودا وهو كظيم قَوْلُهُ
[2630] (إِنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى بن عَيَّاشٍ حَدَّثَهُ عَنْ عِرَاكٍ) هُوَ عَيَّاشٌ بِالْمُثَنَّاةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ واسم أَبِي زِيَادٍ مَيْثَرَةُ الْمَدَنِيُّ الْمَخْزُومِيُّ(16/179)
مولى عبد الله بن عياش بالمعجمة بن أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2631] (مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ) وَمَعْنَى عَالَهُمَا قَامَ عَلَيْهِمَا بِالْمُؤْنَةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَنَحْوِهِمَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَوْلِ وَهُوَ الْقُرْبُ وَمِنْهُ ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَمَعْنَاهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ
(بَاب فَضْلِ مَنْ يَمُوتُ لَهُ وَلَدٌ فَيَحْتَسِبَهُ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2632] (لا يموت لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسُّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ مَا يَنْحَلُّ بِهِ الْقَسَمُ وَهُوَ الْيَمِينُ وَجَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ قَوْلُهُ تعالى وإن منكم إلا واردها وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالْقَسَمُ مُقَدَّرٌ أَيْ وَاَللَّهِ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا وَقِيلَ الْمُرَادُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ وقال بن قتيبة معناه تقليل مدة ورودها قَالَ وَتَحِلَّةُ الْقَسَمِ تُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَقِيلَ تَقْدِيرُهُ وَلَا تَحِلَّةُ الْقَسَمِ(16/180)
أَيْ لَا تَمَسُّهُ أَصْلًا وَلَا قَدْرًا يَسِيرًا كَتَحِلَّةِ الْقَسَمِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ مِنْكُمْ إلا واردها الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَيْهَا وَقِيلَ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2633] (ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الِاثْنَيْنِ) فَقَالَ وَاثْنَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ بِهِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ(16/181)
سُؤَالِهَا أَوْ قَبْلِهُ وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ وَوَاحِدًا قَوْلُهُ
[2634] (لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ) أَيْ لَمْ يَبْلُغُوا سِنَّ التَّكْلِيفِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الْحِنْثُ وَهُوَ الْإِثْمُ قَوْلُهُ
[2635] (صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ) هُوَ بِالدَّالِ وَالْعَيْنِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَاتِ وَاحِدُهُمْ دُعْمُوصٍ بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ صِغَارُ أَهْلِهَا وَأَصْلُ الدُّعْمُوصِ دُوَيْبَّةٌ تَكُونُ فِي الْمَاءِ لَا تُفَارِقُهُ أَيْ أَنَّ هَذَا الصَّغِيرَ فِي الْجَنَّةِ لَا يُفَارِقُهَا وَقَوْلُهُ (بِصَنِفَةِ ثَوْبكَ) هُوَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ طَرَفُهُ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا صَنِيفَةٌ قوله0فَلَا يَتَنَاهَى) أَوْ قَالَ يَنْتَهِي حَتَّى يُدْخِلُهُ الله وأباه الجنة يتناهى(16/182)
وَيَنْتَهِي بِمَعْنًى أَيْ لَا يَتْرُكُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2636] (لَقَدْ احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنَ النَّارِ) أَيْ امْتَنَعْتِ بِمَانِعٍ وَثِيقٍ وَأَصْلُ الْحَظْرِ الْمَنْعُ وَأَصْلُ الْحِظَارِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا مَا يُجْعَلُ حَوْلَ الْبُسْتَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ قُضْبَانٍ وغيرها كالحائط وفي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ أَمَّا أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فَالْإِجْمَاعُ مُتَحَقِّقٌ عَلَى أَنَّهُمْ في الجنة واما أَطْفَالُ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَطْعِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ الْإِجْمَاعَ فِي كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَطْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بهم ذريتهم وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينِ فِيهَا وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لَهُمْ كَالْمُكَلَّفِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَابُ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَمَرَ جِبْرِيلَ فَأَحَبَّهُ وَأَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ)
ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ وَذَكَرَ فِي الْبُغْضِ نَحْوَهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ
[2637] مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ هِيَ إِرَادَتُهُ الْخَيْرَ لَهُ وَهِدَايَتُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَيْهِ(16/183)
وَرَحْمَتُهُ وَبُغْضُهُ إِرَادَةَ عِقَابِهِ أَوْ شَقَاوَتِهِ وَنَحْوِهِ وَحُبُّ جِبْرِيلَ وَالْمَلَائِكَةِ يُحْتَمَلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ وَثَنَاؤُهُمْ عَلَيْهِ وَدُعَاؤُهُمْ وَالثَّانِي أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ عَلَى ظَاهِرِهَا الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَهُوَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ وَاشْتِيَاقُهُ إِلَى لِقَائِهِ وَسَبَبُ حُبِّهِمْ إِيَّاهُ كَوْنُهُ مُطِيعًا لِلَّهِ تَعَالَى مَحْبُوبًا لَهُ وَمَعْنَى يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ أَيِ الْحُبُّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَرِضَاهُمْ عَنْهُ فَتَمِيلُ إِلَيْهِ الْقُلُوبِ وَتَرْضَى عَنْهُ وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ فَتُوضَعُ لَهُ الْمَحَبَّةُ قَوْلُهُ (وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ) أَيْ أَمِيرُ الْحَجِيجِ(16/184)
(بَاب الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2638] (الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ جُمُوعٌ مُجْتَمَعَةٌ أَوْ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَأَمَّا تَعَارَفُهَا فَهُوَ لِأَمْرٍ جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَقِيلَ إِنَّهَا مُوَافَقَةُ صِفَاتِهَا الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهَا وَتَنَاسُبُهَا فِي شِيَمِهَا وَقِيلَ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مُجْتَمِعَةً ثُمَّ فُرِّقَتْ فِي أَجْسَادِهَا فَمَنْ وَافَقَ بِشِيَمِهِ أَلِفَهُ وَمَنْ بَاعَدَهُ نَافَرَهُ وَخَالَفَهُ وَقَالَ الخطابي وغيره تآلفها هو ماخلقها اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ السَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاوَةِ فِي الْمُبْتَدَأِ وَكَانَتِ الْأَرْوَاحُ قِسْمَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ فَإِذَا تَلَاقَتِ الْأَجْسَادُ فِي الدُّنْيَا ائْتَلَفَتْ وَاخْتَلَفَتْ بِحَسَبِ مَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ فَيَمِيلُ الْأَخْيَارُ إِلَى الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارُ إلى الاشرار والله اعلم(16/185)
(باب المرء مع من أحب)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عن الساعة
[2639] 0ماأعددت لَهَا قَالَ حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولَهُ قَالَ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) وَفِي
[2640]
[2641] رِوَايَاتٍ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ فِيهِ فَضْلُ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْخَيْرِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَمِنْ فَضْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ امْتِثَالُ أَمْرِهِمَا وَاجْتِنَابُ نَهْيهِمَا وَالتَّأَدُّبُ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَحَبَّةِ الصَّالِحِينَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُمْ إِذْ لَوْ عَمِلَهُ لَكَانَ مِنْهُمْ وَمِثْلَهُمْ وَقَدْ صُرِّحَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا بِذَلِكَ فَقَالَ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ لَمَّا نَفْيِ لِلْمَاضِي الْمُسْتَمِرِّ فَيَدُلُّ عَلَى نَفْيهِ فِي الْمَاضِي وَفِي الْحَالِ بِخِلَافِ لَمْ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْمَاضِي فَقَطْ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مَعَهُمْ أَنْ تَكُونَ مَنْزِلَتُهُ وَجَزَاؤُهُ مِثْلَهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَوْلُهُ (مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَثِيرِ) ضَبَطُوهُ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُمَا صَحِيحَانِ وَقَوْلُهُ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ ولا صدقة(16/186)
أي غير الفرائض معناه ماأعددت لها كثير نافلة من صلاة ولاصيام وَلَا صَدَقَةٍ قَوْلُهُ (عِنْدَ سُدَّةِ(16/187)
الْمَسْجِدِ) هِيَ الظِّلَالُ الْمُسَقَّفَةُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَكِنْ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ بَلْ ذَكَرَهُ مُتَابَعَةً وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَذْكُرُ فِي الْمُتَابَعَةِ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ والله اعلم(16/188)
(بَاب إِذَا أُثْنِيَ عَلَى الصَّالِحِ فَهِيَ بُشْرَى وَلَا تَضُرُّهُ)
قَوْلُهُ
[2642] (أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ) وَفِي رِوَايَةٍ وَيُحِبُّهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ هَذِهِ الْبُشْرَى الْمُعَجَّلَةُ لَهُ بِالْخَيْرِ وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ فَيُحَبِّبُهُ إِلَى الْخَلْقِ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ يُوضِعُ لَهُ الْقَبُولَ فِي الْأَرْضِ هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمِدَهُ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ مِنْهُ لِحَمْدِهِمْ وَإِلَّا فَالتَّعَرُّضُ مَذْمُومٌ
(كِتَاب الْقَدَرِ)
(بَاب كَيْفِيَّةِ خَلْقِ الْآدَمِيِّ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَكِتَابَةِ رِزْقِهِ)
وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقَاوَتِهِ وَسَعَادَتِهِ قَوْلُهُ
[2643] (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ(16/189)
فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ تَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سَعِيدٌ) أَمَّا قَوْلُهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فَمَعْنَاهُ الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ الْمَصْدُوقُ فِيمَا يَأْتِي مِنَ الْوَحْيِ الكريم وأما قوله إن أحدكم فبكسر الْهَمْزَةِ عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ بِكَتْبِ رِزْقِهِ هُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ فِي أَوَّلِهِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَرْبَعٍ وَقَوْلُهُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ مَرْفُوعٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَهُوَ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ إِرْسَالَهُ يَكُونُ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هذه يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم باربعين او خمسة واربعين ليلة فيقول يارب أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَفِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ إِنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالرَّحِمِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا بِإِذْنِ اللَّهِ لِبِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ لِلْمَلَكِ ملازمة ومراعاة لحال النطفة وأنه يقول يارب هَذِهِ عَلَقَةٌ هَذِهِ مُضْغَةٌ فِي أَوْقَاتِهَا فَكُلُّ وَقْتٍ يَقُولُ فِيهِ مَا صَارَتْ إِلَيْهِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَعْلَمُ سُبْحَانَهُ وَلِكَلَامِ الْمَلَكِ وَتَصَرُّفِهِ أَوْقَاتٌ أَحَدُهَا حِينَ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى نُطْفَةً ثُمَّ يَنْقُلُهَا عَلَقَةً وَهُوَ أَوَّلُ عِلْمِ الْمَلَكِ بِأَنَّهُ وَلَدٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ نُطْفَةٍ تَصِيرُ وَلَدًا وَذَلِكَ عَقِبَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى وَحِينَئِذٍ يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقَاوَتَهُ أَوْ سَعَادَتَهُ ثُمَّ لِلْمَلَكِ فِيهِ تَصَرُّفٌ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَهُوَ تَصْوِيرُهُ(16/190)
وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وَعَظْمِهِ وَكَوْنُهُ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ وَهِيَ مُدَّةُ الْمُضْغَةِ وَقَبْلَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ لِأَنَّ نَفْخِ الرُّوحِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ صُورَتِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ فَإِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يارب أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى فَيَقْضِي رَبُّكُ مَا شَاءَ ويكتب الملك ثم يقول يارب أجله فيقول ربك ماشاء ويكتب الملك وذكر رزقه فقال الْقَاضِي وَغَيْرُهُ لَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلِ الْمُرَادُ بِتَصْوِيرِهَا وَخَلْقُ سَمْعِهَا إِلَى آخِرِهِ أَنَّهُ يَكْتُبُ ذَلِكَ ثُمَّ يَفْعَلُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِأَنَّ التَّصْوِيرَ عَقِبَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْعَادَةِ وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ وَهِيَ مُدَّةُ الْمُضْغَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلْقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فكسونا العظام لحما ثم يكون للملك فيه تصوير آخر وهووقت نَفْخِ الرُّوحِ عَقِبَ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ حِينَ يَكْمُلُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ نَفْخَ الرُّوحِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَقَوْلُهُ ثُمَّ يُبْعَثُ بِحَرْفِ ثُمَّ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ كَتْبِ الْمَلَكِ هَذِهِ الْأُمُورِ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ وَالْأَحَادِيثُ الْبَاقِيَةُ تَقْتَضِي الْكَتْبَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ ثم يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمُلْكُ فَيُؤْذَنُ فَيَكْتُبُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَمُتَعَلِّقٌ بِهِ لَا بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَالْمُرَادُ بِإِرْسَالِ الْمَلَكِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَمْرُهُ بِهَا وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ وَإِلَّا فَقَدْ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ موكل بالرحم وانه يقول يارب نطفة يارب عَلَقَةٌ قَالَ الْقَاضِي وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقًا قَالَ يارب أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ لَا يُخَالِفُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُضْغَةِ بَلِ ابْتِدَاءٌ لِلْكَلَامِ وَإِخْبَارٌ عَنْ حَالَةٍ أُخْرَى فَأَخْبَرَ أَوَّلًا بِحَالِ الْمَلَكِ مَعَ النُّطْفَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ إِظْهَارَ خَلْقِ النُّطْفَةِ عَلَقَةً كَانَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ الْمُرَادُ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرَ مِنَ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ(16/191)