(بَاب تَحْرِيمِ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ (وَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ السِّنَّوْرِ)
[1567] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ شَرُّ الْكَسْبِ مَهْرُ الْبَغِيِّ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ وَفِي رِوَايَةٍ ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ فَقَالَ زَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ أَمَّا مَهْرُ الْبَغِيِّ فهو ما تأخذه الزانية على الزنى وَسَمَّاهُ مَهْرًا لِكَوْنِهِ عَلَى صُورَتِهِ وَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ فَهُوَ مَا يُعْطَاهُ عَلَى كِهَانَتِهِ يُقَالُ مِنْهُ حَلَوْتُهُ حُلْوَانًا إِذَا أَعْطَيْتُهُ قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَصْلُهُ مِنَ الحلاوة شبه بالشئ الْحُلْوِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَأْخُذُهُ سَهْلًا بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا فِي مُقَابَلَةِ مَشَقَّةٍ يُقَالُ حَلَوْتُهُ إِذَا أَطْعَمْتُهُ الْحُلْوَ كَمَا يُقَالُ عَسَلْتُهُ إِذَا أَطْعَمْتُهُ الْعَسَلَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَيُطْلَقُ الْحُلْوَانُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مَهْرَ ابْنَتِهِ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ عَيْبٌ عِنْدَ النِّسَاءِ قَالَتِ امْرَأَةٌ تَمْدَحُ زَوْجَهَا لَا يَأْخُذُ الْحُلْوَانَ عَنْ بَنَاتِنَا قَالَ الْبَغَوِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْقَاضِي عِيَاضٌ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ حُلْوَانِ الْكَاهِنِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ مُحَرَّمٍ وَلِأَنَّهُ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ أُجْرَةِ الْمُغَنِّيَةِ لِلْغِنَاءِ وَالنَّائِحَةِ لِلنَّوْحِ وَأَمَّا الَّذِي جَاءَ فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنَ النَّهْيِ عَنْ كسب الاماء فالمراد به كسبهن بالزنى وَشِبْهِهِ لَا بِالْغَزْلِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهِمَا وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قال بن الْأَعْرَابِيِّ وَيُقَالُ حُلْوَانُ الْكَاهِنِ الشِّنْعُ وَالصِّهْمِيمُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَحُلْوَانُ الْعَرَّافِ أَيْضًا حَرَامٌ قَالَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَاهِنِ وَالْعَرَّافِ أَنَّ الْكَاهِنَ إِنَّمَا يَتَعَاطَى الْأَخْبَارَ عَنِ الْكَائِنَاتِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ وَيَدَّعِي معرفة الأسرار)(10/231)
والعراف هو الذى يدعى معرفة الشئ الْمَسْرُوقِ وَمَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْأُمُورِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا فَقَالَ إِنَّ الْكَاهِنَ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مُطَالَعَةَ عِلْمِ الْغَيْبِ وَيُخْبِرُ النَّاسَ عَنِ الْكَوَائِنِ قَالَ وَكَانَ فِي الْعَرَبِ كَهَنَةٌ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنَ الْأُمُورِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رُفَقَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَتَابِعَةٌ تُلْقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَارَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ يَسْتَدِرْكُ الْأُمُورَ بِفَهْمٍ أُعْطِيَهُ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُسَمَّى عَرَّافًا وَهُوَ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْأُمُورَ بِمُقَدِّمَاتِ أَسْبَابٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى مواقعها كالشئ يُسْرَقُ فَيَعْرِفُ الْمَظْنُونَ بِهِ السَّرِقَةُ وَتُتَّهَمُ الْمَرْأَةُ بِالرِّيبَةِ فَيَعْرِفُ مَنْ صَاحِبُهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُسَمِّي الْمُنَجِّمَ كَاهِنًا قَالَ وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِ الْكُهَّانِ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ وَعَلَى النَّهْيِ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ وَالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدْعُو الطَّبِيبَ كَاهِنًا وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ عَرَّافًا فَهَذَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي النَّهْيِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي آخِرِ كِتَابِهِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَيَمْنَعُ الْمُحْتِسَبُ مَنْ يَكْتَسِبُ بِالْكِهَانَةِ وَاللَّهْوِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذَ وَالْمُعْطِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَوْنِهِ مِنْ شَرِّ الْكَسْبِ وَكَوْنِهِ خَبِيثًا فَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا يَحِلُّ ثَمَنُهُ وَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُعَلَّمًا أَمْ لَا وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ أَمْ لَا وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَرَبِيعَةُ(10/232)
والأوزاعى والحكم وحماد والشافعى وأحمد وداود وبن الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَصِحُّ بَيْعُ الْكِلَابِ الَّتِي فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَتَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى متلفها وحكى بن الْمُنْذِرِ عَنْ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ جَوَازَ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ دُونَ غَيْرِهِ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَاتٌ إِحْدَاهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَكِنْ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفِهِ وَالثَّانِيَةُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَتَجِبُ الْقِيمَةُ وَالثَّالِثَةُ لَا يَصِحُّ وَلَا تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفِهِ دَلِيلُ الْجُمْهُورِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلَّا كلب صيد وفي رواية الا كلبا ضاريا وَأَنَّ عُثْمَانَ غَرَّمَ إِنْسَانًا ثَمَنَ كَلْبٍ قَتَلَهُ عشرين بعيرا وعن بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ التَّغْرِيمُ فِي إِتْلَافِهِ فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَقَدْ أَوْضَحْتُهَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَأَمَّا كَسْبُ الْحَجَّامِ وَكَوْنُهُ خَبِيثًا وَمِنْ شَرِّ الْكَسْبِ فَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ بِتَحْرِيمِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لَا يَحْرُمُ كَسْبُ الْحَجَّامِ وَلَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ لَا عَلَى الْحُرِّ وَلَا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ بِهَا فُقَهَاءُ الْمُحَدِّثِينَ يَحْرُمُ عَلَى الْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ وَاعْتَمَدُوا هذه الأحاديث وشبهها واحتج الجمهور بحديث بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ قَالُوا وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَحَمَلُوا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِي النهى على التنزيه والارتفاع عن دنئ الْأَكْسَابِ وَالْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُفَرَّقْ فِيهِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يطعم عبده مالا يَحِلُّ وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ فَهُوَ محمول على أنه لا ينفع أو عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ حَتَّى يَعْتَادَ النَّاسُ هِبَتَهُ وَإِعَارَتَهُ وَالسَّمَاحَةَ بِهِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْفَعُ وَبَاعَهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَكَانَ ثَمَنُهُ حَلَالًا هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ(10/233)
العلماء كافة الا ما حكى بن الْمُنْذِرِ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ وَأَمَّا ما ذكره الخطابى وأبو عمرو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ ضَعِيفٌ فَلَيْسَ كَمَا قَالَا بَلِ الحديث صحيح رواه مسلم وغيره وقول بن عَبْدِ الْبَرِّ إِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ غَيْرُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ غَلَطٌ مِنْهُ أَيْضًا لِأَنَّ مُسْلِمًا قَدْ رَوَاهُ فِي صَحِيحِهِ كما تروى مِنْ رِوَايَةِ مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ فَهَذَانِ ثِقَتَانِ رَوَيَاهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَهُوَ ثِقَةٌ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَبَيَانِ نَسْخِهِ وَبَيَانِ تَحْرِيمِ اقْتِنَائِهَا (إِلَّا لِصَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ)
[1570] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ) وَفِي رِوَايَةٍ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فَأَرْسَلَ فِي أَقْطَارِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُقْتَلَ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فَتُتُبِّعَتْ فِي الْمَدِينَةِ وَأَطْرَافِهَا فَلَا نَدَعُ كَلْبًا إِلَّا قَتَلْنَاهُ حَتَّى إِنَّا لَنَقْتُلُ كَلْبَ الْمِرْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يَتْبَعُهَا وَفِي رِوَايَةٍ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَوْ كلب زرع فقال بن عُمَرَ إِنَّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا وَفِي رِوَايَةِ جَابِرٍ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ حَتَّى ان المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهَا)(10/234)
وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شيطان وفي رواية بن الْمُفضَّلِ قَالَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي كلب الغنم والصيد والزرع وفي حديث بن عُمَرَ مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارٍ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ وَفِي رِوَايَةٍ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَلَا مَاشِيَةٍ ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيرطان كُلَّ يَوْمٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قتل الكلب الكلب والكلب العقور واختلفوا في قتل مالا ضَرَرَ فِيهِ فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا بِقَتْلِهَا كُلِّهَا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَنُهِيَ عَنْ قَتْلِهَا إِلَّا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ جَمِيعِ الْكِلَابِ الَّتِي لَا ضَرَرَ فِيهَا سَوَاءٌ الْأَسْوَدُ وَغَيْرُهُ وَيَسْتَدِلُّ لما ذكره بحديث بن الْمُغَفَّلِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ فِي قَتْلِ الْكِلَابِ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى مِنْ كَلْبِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ قَالَ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ قَالَ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا هَلْ كَلْبُ الصَّيْدِ وَنَحْوُهُ مَنْسُوخٌ مِنَ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ فِي الْحُكْمِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَأَنَّ الْقَتْلَ كَانَ عَامًّا فِي الْجَمِيعِ أَمْ كَانَ مَخْصُوصًا بِمَا سِوَى ذَلِكَ قَالَ وَذَهَبَ آخرون إلى جواز اتخاذ جميعها الْبَهِيمَ قَالَ الْقَاضِي وَعِنْدِي أَنَّ النَّهْيَ أَوَّلًا كَانَ نَهْيًا عَامًّا عَنِ اقْتِنَاءِ جَمِيعِهَا وَأَمَرَ بِقَتْلِ جَمِيعِهَا ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِهَا مَا سِوَى الْأَسْوَدِ وَمَنَعَ الِاقْتِنَاءَ فِي جَمِيعِهَا إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي(10/235)
هو ظاهر الأحاديث ويكون حديث بن الْمُغَفَّلِ مَخْصُوصًا بِمَا سِوَى الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ عَامٌّ فَيُخَصُّ مِنْهُ الْأَسْوَدُ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ وَأَمَّا اقْتِنَاءُ الْكِلَابِ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ وَيَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ لِلصَّيْدِ وَلِلزَّرْعِ وَلِلْمَاشِيَةِ وَهَلْ يَجُوزُ لِحِفْظِ الدُّورِ وَالدُّرُوبِ وَنَحْوِهَا فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِالنَّهْيِ إِلَّا لِزَرْعٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ وَأَصَحُّهَا يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى الثَّلَاثَةِ عَمَلًا بِالْعِلَّةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَهِيَ الْحَاجَةُ وَهَلْ يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْجَرْوِ وَتَرْبِيَتُهُ لِلصَّيْدِ أَوِ الزَّرْعِ أَوِ الْمَاشِيَةِ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا جَوَازُهُ قَوْلُهُ (قال بن عمران لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا) وَقَالَ سَالِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ هَذَا تَوْهِينًا لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا شَكًّا فِيهَا بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ وَحَرْثٍ اعْتَنَى بِذَلِكَ وَحَفِظَهُ وَأَتْقَنَهُ وَالْعَادَةُ أن المبتلى بشئ يتقنه مالا يتقنه غيره ويتعرف من أحكامه مالا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وهى اتخاذه للزرع من رواية بن الْمُغَفَّلِ وَمِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَهَا أيضا مسلم من رواية بن الْحَكَمِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ البجلى عن بن عمر فيحتمل أن بن عُمَرَ لَمَّا سَمِعَهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَحَقَّقَهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهَا عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَزَادَهَا فِي حَدِيثِهِ الَّذِي كَانَ يَرْوِيهِ بِدُونِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَذَكَّرَ فِي وَقْتٍ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَوَاهَا وَنَسِيَهَا فِي وَقْتٍ فَتَرَكَهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَيْسَ مُنْفَرِدًا بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ بَلْ وَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي رِوَايَتِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوِ انْفَرَدَ بِهَا(10/236)
لَكَانَتْ مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةً مُكَرَّمَةً
[1572] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ) فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ مَعْنَى الْبَهِيمِ الْخَالِصُ السَّوَادِ وَأَمَّا النُّقْطَتَانِ فَهُمَا نُقْطَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ بَيْضَاوَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَعْرُوفٌ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ) احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَيْدُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ وَلَا يَحِلُّ إِذَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ شَيْطَانٌ وإِنَّمَا حَلَّ صَيْدُ الْكَلْبِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ يَحِلُّ صَيْدُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ كَغَيْرِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ إِخْرَاجُهُ عَنْ جِنْسِ الْكِلَابِ وَلِهَذَا لَوْ وَلَغَ فِي إِنَاءٍ وَغَيْرِهِ وَجَبَ غَسْلُهُ كَمَا يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ الْأَبْيَضِ
[1573] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ) أَيْ مَا شَأْنُهُمْ أَيْ لِيَتْرُكُوهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِي) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ ضَارِي بِالْيَاءِ وَفِي بَعْضِهَا ضَارِيًا بِالْأَلِفِ بَعْدَ الْيَاءِ مَنْصُوبًا وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا(10/237)
إِلَّا كَلْبَ ضَارِيَةٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْأَوَّلَ رُوِيَ ضَارِي بِالْيَاءِ وَضَارٍ بِحَذْفِهَا وَضَارِيًا فَأَمَّا ضَارِيًا فَهُوَ ظَاهِرُ الْإِعْرَابِ وَأَمَّا ضَارِي وَضَارٍ فَهُمَا مَجْرُورَانِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى مَاشِيَةٍ وَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ كَمَاءِ الْبَارِدِ وَمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ولدار الآخرة وَسَبَقَ بَيَانُ هَذَا مَرَّاتٍ وَيَكُونُ ثُبُوتُ الْيَاءِ فِي ضَارِي عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ فِي إِثْبَاتِهَا فِي الْمَنْقُوصِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَالْمَشْهُورُ حَذْفُهَا وَقِيلَ إِنَّ لَفْظَةَ ضَارٍ هُنَا صِفَةٌ لِلرَّجُلِ الصَّائِدِ صَاحِبِ الْكِلَابِ الْمُعْتَادِ لِلصَّيْدِ فَسَمَّاهُ ضَارِيًا اسْتِعَارَةً كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ كَلْبَ صَائِدٍ وَأَمَّا رِوَايَةُ إِلَّا كَلْبَ ضَارِيَةٍ فَقَالُوا تَقْدِيرُهُ إِلَّا كَلْبَ ذِي كِلَابٍ ضَارِيَةٍ وَالضَّارِي هُوَ الْمُعَلَّمُ الصَّيْدَ الْمُعْتَادُ لَهُ يُقَالُ مِنْهُ ضَرِيَ الْكَلْبُ يَضْرِي كَشَرِيَ يَشْرِي ضَرًّا وَضَرَاوَةً وَأَضْرَاهُ صَاحِبُهُ أَيْ عَوَّدَهُ ذَلِكَ وَقَدْ ضَرِيَ بِالصَّيْدِ إِذَا لَهِجَ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ لِلَّحْمِ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ قَالَ جَمَاعَةٌ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ عَادَةً يُنْزَعُ إِلَيْهَا كَعَادَةِ الْخَمْرِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ لِأَهْلِهِ عَادَةً فِي أَكْلِهِ كَعَادَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي مُلَازَمَتِهِ وَكَمَا أَنَّ مَنِ اعْتَادَ الْخَمْرَ لَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهَا كَذَا مَنِ اعْتَادَ اللَّحْمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ(10/238)
عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ وَفِي رِوَايَةٍ قِيرَاطٌ فَأَمَّا روَايَةُ عَمَلِهِ فَمَعْنَاهُ مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ وَأَمَّا الْقِيرَاطُ هُنَا فَهُوَ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ نَقَصَ جُزْءٌ مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ وَأَمَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي قِيرَاطٍ وَقِيرَاطَيْنِ فَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي نَوْعَيْنِ مِنَ الْكِلَابِ أَحَدُهُمَا أَشَدُّ أَذًى مِنَ الْآخَرِ وَلِمَعْنًى فِيهِمَا أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ فَيَكُونُ الْقِيرَاطَانِ فِي الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِزِيَادَةِ فَضْلِهَا وَالْقِيرَاطُ فِي غَيْرِهَا أَوِ الْقِيرَاطَانِ فِي الْمَدَائِنِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْقُرَى وَالْقِيرَاطُ فِي الْبَوَادِي أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي زَمَنَيْنِ فَذَكَرَ الْقِيرَاطَ أَوَّلًا ثُمَّ زَادَ التَّغْلِيظَ فَذَكَرَ الْقِيرَاطَيْنِ قَالَ الرُّويَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ الْبَحْرِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِمَا يَنْقُصُ مِنْهُ فَقِيلَ يَنْقُصُ مِمَّا مَضَى مِنْ عَمَلِهِ وَقِيلَ مِنْ مُسْتَقْبَلِهِ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ نَقْصِ الْقِيرَاطَيْنِ فَقِيلَ يَنْقُصُ قِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ وَقِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ اللَّيْلِ أَوْ قِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ الْفَرْضِ وَقِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ النَّفْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ نُقْصَانِ الْأَجْرِ بِاقْتِنَاءِ الْكَلْبِ فَقِيلَ لِامْتِنَاعِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ دُخُولِ بَيْتِهِ بِسَبَبِهِ وَقِيلَ لِمَا يَلْحَقُ الْمَارِّينَ مِنَ الْأَذَى مِنْ تَرْوِيعِ الْكَلْبِ لَهُمْ وَقَصْدِهِ إِيَّاهُمْ وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُ لِاتِّخَاذِهِ مَا نُهِيَ عَنِ اتِّخَاذِهِ وَعِصْيَانِهِ فِي ذَلِكَ وَقِيلَ لِمَا يُبْتَلَى بِهِ مِنْ وُلُوغِهِ فِي غَفْلَةِ صَاحِبِهِ وَلَا يَغْسِلُهُ(10/239)
بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1576] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا) الْمُرَادُ بِالضَّرْعِ الْمَاشِيَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ وَمَعْنَاهُ مَنِ اقْتَنَى كلبا لغير زرع وماشية وقوله (وفد عليهم سفيان بن أبي زهير الشنائي) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مَنْسُوبٌ إِلَى أَزْدِ شَنُوءَةَ بِشِينٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ ثُمَّ هَاءٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ الشَّنَوِيَّ بِالْوَاوِ وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّسْهِيلِ وَرَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ شَنُوِيٌّ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى الْأَصْلِ
(باب حل أجرة الحجامة ذكر فيه الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم وأعطى الحجام أجره قال بن عَبَّاسٍ وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا فِي بَابِ تَحْرِيمِ ثَمَنِ الْكَلْبِ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي أُجْرَةِ الْحِجَامَةِ وَفِي هذه)(10/241)
الْأَحَادِيثِ إِبَاحَةُ نَفْسِ الْحِجَامَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَدْوِيَةِ وَفِيهَا إِبَاحَةُ التَّدَاوِي وَإِبَاحَةُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُعَالَجَةِ بِالتَّطَبُّبِ وَفِيهَا الشَّفَاعَةُ إِلَى أَصْحَابِ الْحُقُوقِ وَالدُّيُونِ فِي أَنْ يُخَفِّفُوا مِنْهَا وَفِيهَا جَوَازُ مُخَارَجَةِ الْعَبْدِ بِرِضَاهُ وَرِضَاءِ سَيِّدِهِ وَحَقِيقَةُ الْمُخَارَجَةِ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ تَكْتَسِبُ وَتُعْطِينِي مِنَ الْكَسْبِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا مَثَلًا وَالْبَاقِي لَكَ أَوْ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ كَذَا وَكَذَا وَيُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا
[1577] قَوْلُهُ (حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ) هُوَ بِطَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَهُوَ عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ اسْمُهُ نَافِعٌ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ) هُوَ بغين معجمة(10/242)
مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مِيمٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ زَايٍ مَعْنَاهُ لَا تَغْمِزُوا حَلْقَ الصَّبِيِّ بِسَبَبِ الْعُذْرَةِ وَهُوَ وَجَعُ الْحَلْقِ بَلْ دَاوُوهُ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيِّ وَهُوَ العود الهندي(10/243)
(باب تحريم بيع الخمر
[1578] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ وَلَعَلَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ) قَالَ فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ وَلَا يَبِعْ قَالَ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ منها في طريق المدينة فسفكوها) يعني رَاقُوهَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا بِتَحْرِيمٍ وَلَا غَيْرِهِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ لِلْأُصُولِيِّينَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا حُكْمَ وَلَا تَكْلِيفَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رسولا)(11/2)
وَالثَّانِي أَنَّ أَصْلَهَا عَلَى التَّحْرِيمِ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَالثَّالِثُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالرَّابِعُ عَلَى الْوَقْفِ وَهَذَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِ التَّنَفُّسِ وَنَحْوِهِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً بِلَا خِلَافٍ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا بَذْلُ النَّصِيحَةِ للمسلمين في دينهم ودنياهم لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَحَهُمْ فِي تَعْجِيلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَا دَامَتْ حَلَالًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَا يَشْرَبْ وَلَا يَبِعْ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا فِيهِ تَحْرِيمُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَالْعِلَّةُ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ كَوْنُهَا نَجِسَةً أَوْ لَيْسَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ مَقْصُودَةٌ فَيَلْحَقُ بِهَا جَمِيعُ النَّجَاسَاتِ كَالسِّرْجِينِ وَذَرْقِ الحمام وغيره وكذلك يلحق بها ماليس فيه منفعة مقصودة كَالسِّبَاعِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلِاصْطِيَادِ وَالْحَشَرَاتُ وَالْحَبَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ بيع شئ من ذلك وأما الحديث المشهور في كتب السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثمنه فمحمول على ما المقصود منه الأكل بخلاف ما المقصود منه غير ذلك كالعبد والبغل وَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ فَإِنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ وَبَيْعَهَا جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ) أَيْ أَدْرَكَتْهُ حَيًّا وَبَلَغَتْهُ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ قَوْلُهُ (فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ تَخْلِيلِهَا وَوُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ بِإِرَاقَتِهَا وَتَحْرِيمِ إِمْسَاكِهَا وَلَوْ جَازَ التَّخْلِيلُ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ وَنَهَاهُمْ عَنْ إِضَاعَتِهَا كَمَا نَصَحَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا قَبْلَ تَحْرِيمِهَا حِينَ تَوَقَّعَ نُزُولَ تَحْرِيمِهَا وَكَمَا نَبَّهَ أَهْلَ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ عَلَى دِبَاغِ جِلْدِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وَمِمَّنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ تَخْلِيلِهَا وَأَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ فِي أصح الروايتين عنه وجوزه الأوزاعي والليبث وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَأَمَّا إذا انقلبت بنفسها خلا فيظهر عِنْدَ جَمِيعِهِمْ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ سَحْنُونٍ الْمَالِكِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا يَطْهُرُ قَوْلُهُ(11/3)
[1579] (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ السَّبَئِيِّ) هُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ مَنْسُوبٌ إِلَى سَبَأٍ وَأَمَّا وَعْلَةُ فَبِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي حَدِيثِ الدِّبَاغِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَهْدَى إِلَيْهِ الْخَمْرَ (هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا قَالَ لَا) لَعَلَّ السُّؤَالَ كَانَ لِيَعْرِفَ حَالَهُ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ هَدِيَّتَهَا وامساكها وحملها وعزره عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ عَذَرَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ كَانَتْ عَلَى قُرْبِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَبْلَ اشْتِهَارِ ذَلِكَ وَفِي هَذَا أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً جَاهِلًا تحريمها لا إثم عليه ولا تعزيز قَوْلُهُ (فَسَارَّ إِنْسَانًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَ سَارَرْتَهُ فَقَالَ أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا) الْمُسَارِرُ الَّذِي خَاطَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي أَهْدَى الزاوية كَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَأَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ دَوْسٍ قَالَ الْقَاضِي وَغَلِطَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ فَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ عَنْ بَعْضِ أَسْرَارِ الْإِنْسَانِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ كِتْمَانُهُ كَتَمَهُ وَإِلَّا فَيَذْكُرُهُ قَوْلُهُ (فَفَتَحَ الْمَزَادَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمَزَادَ بِحَذْفِ الْهَاءِ فِي آخِرِهَا وَفِي بَعْضِهَا الْمَزَادَةَ بِالْهَاءِ وَقَالَ فِي أول الحديث أهدى راوية وهي مي قال أبو عبيد هما بمعنى وقال بن السِّكِّيتِ إِنَّمَا يُقَالُ لَهَا مَزَادَةٌ وَأَمَّا الرَّاوِيَةُ فَاسْمٌ لِلْبَعِيرِ خَاصَّةً وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ لِأَبِي عُبَيْدٍ فَإِنَّهُ سَمَّاهَا رَاوِيَةً وَمَزَادَةً قَالُوا سُمِّيَتْ رَاوِيَةً لِأَنَّهَا تَرْوِي صَاحِبَهَا وَمَنْ مَعَهُ وَالْمَزَادَةُ لِأَنَّهُ يَتَزَوَّدُ فِيهَا الماء(11/4)
فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ لِأَنَّهُ يُزَادُ فِيهَا جلد ليتسع وفي قوله ففتح المراد دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّ أَوَانِيَ الْخَمْرِ لَا تُكْسَرُ وَلَا تُشَقُّ بَلْ يُرَاقُ مَا فِيهَا وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا كَالْجُمْهُورِ وَالثَّانِيَةُ يُكْسَرُ الْإِنَاءُ وَيُشَقُّ السِّقَاءُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُمْ كَسَرُوا الدِّنَانَ فَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهَا (لَمَّا أُنْزِلَتِ
[1580] الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْتَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ) قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ هُوَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الرِّبَا بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَإِنَّ آية الربا آخر مانزل أَوْ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّهْيُ عَنِ التِّجَارَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ تَحْرِيمِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِتَحْرِيمِ التِّجَارَةِ حِينَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ ثُمَّ أُخْبِرَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الرِّبَا تَوْكِيدًا وَمُبَالَغَةً فِي إِشَاعَتِهِ وَلَعَلَّهُ حَضَرَ الْمَجْلِسَ مَنْ لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ تَحْرِيمُ التِّجَارَةِ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم(11/5)
(بَاب تَحْرِيمِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ
[1581] قَوْلُهُ (عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَالَ لَا هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا أَجْمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) يُقَالُ أَجْمَلَ الشَّحْمَ وَجَمَلَهُ أَيْ أَذَابَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا هُوَ حَرَامٌ فَمَعْنَاهُ لَا تَبِيعُوهَا فَإِنَّ بَيْعَهَا حَرَامٌ وَالضَّمِيرُ فِي هُوَ يَعُودُ إِلَى الْبَيْعِ لَا إِلَى الِانْتِفَاعِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ فِي طَلْيِ السُّفُنِ وَالِاسْتِصْبَاحِ بِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا فِي بَدَنِ الْآدَمِيِّ وَبِهَذَا قَالَ أَيْضًا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ الْجُمْهُورُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي شَيْءٍ أَصْلًا لِعُمُومِ النهي عن الانتفاع بالميتة الا ماخص وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ وَأَمَّا الزَّيْتُ وَالسَّمْنُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْأَدْهَانِ الَّتِي أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ فَهَلْ يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهَا وَنَحْوُهُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ وَغَيْرِ الْبَدَنِ أَوْ يُجْعَلُ مِنَ الزَّيْتِ صَابُونٌ أَوْ يُطْعِمُ الْعَسَلَ الْمُتَنَجِّسَ لِلنَّحْلِ أَوْ يُطْعِمُ الْمَيْتَةَ لِكِلَابِهِ أَوْ يُطْعِمُ الطَّعَامَ النَّجِسَ لدوابه)(11/6)
فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ السَّلَفِ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا جَوَازُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ وَرُوِيَ نحوه عن علي وبن عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ وَأَجَازَ أبوحنيفة وَأَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ وَغَيْرُهُمْ بَيْعَ الزَّيْتِ النَّجِسِ إِذَا بَيَّنَهُ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَفِي عُمُومِ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ جُثَّةِ الْكَافِرِ إِذَا قَتَلْنَاهُ وَطَلَبَ الْكُفَّارُ شِرَاءَهُ أَوْ دَفْعَ عِوَضٍ عَنْهُ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَبَذَلَ الْكُفَّارُ فِي جَسَدِهِ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْخُذْهَا وَدَفَعَهُ إِلَيْهِمْ وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا نَحْوَ هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا الْعِلَّةُ فِي مَنْعِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ النَّجَاسَةُ فَيَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ نَجَاسَةٍ وَالْعِلَّةُ فِي الْأَصْنَامِ كَوْنُهَا لَيْسَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ إِذَا كُسِرَتْ يُنْتَفَعُ بِرُضَاضِهَا(11/7)
فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ لِأَصْحَابِنَا مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ لِظَاهِرِ النَّهْيِ وَإِطْلَاقِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ اعْتِمَادًا عَلَى الِانْتِفَاعِ وَتَأَوَّلَ الْحَدِيثَ عَلَى مالم يُنْتَفَعْ بِرُضَاضِهِ أَوْ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ فِي الْأَصْنَامِ خَاصَّةً وَأَمَّا الْمَيْتَةُ وَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أن مالا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَحِلُّ أَكْلُ ثَمَنِهِ كَمَا فِي الشُّحُومِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ فَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْيَهُودِ وَالْمَلَاحِدَةِ بِأَنَّ الِابْنَ إِذَا وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ جَارِيَةً كَانَ الْأَبُ وَطِئَهَا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى الِابْنِ وَيَحِلُّ لَهُ بَيْعُهَا بِالْإِجْمَاعِ وَأَكْلُ ثَمَنِهَا قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا تَمْوِيهٌ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ لِأَنَّ جَارِيَةَ الْأَبِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الِابْنِ مِنْهَا غَيْرُ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَى هَذَا الْوَلَدِ دون غير مِنَ النَّاسِ وَيَحِلُّ لِهَذَا الِابْنِ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ سِوَى الِاسْتِمْتَاعِ وَيَحِلُّ لِغَيْرِهِ الِاسْتِمْتَاعُ وَغَيْرُهُ بِخِلَافِ الشُّحُومِ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ الْأَكْلُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ الْيَهُودِ وَكَذَلِكَ شُحُومُ الْمَيْتَةِ مُحَرَّمَةُ الْأَكْلِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَكَانَ مَا عَدَا الْأَكْلِ تَابِعًا لَهُ بخلاف موطوت الْأَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَابُ الرِّبَا)
مَقْصُورٌ وَهُوَ مِنْ رَبَا يَرْبُو فَيُكْتَبُ بِالْأَلِفِ وَتَثْنِيَتُهُ رِبَوَانِ وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ كَتْبُهُ وَتَثْنِيَتُهُ بِالْيَاءِ لِسَبَبِ الْكَسْرَةِ فِي أَوَّلِهِ وَغَلَّطَهُمُ الْبَصْرِيُّونَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَقَدْ كَتَبُوهُ فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّمَا كَتَبُوهُ بِالْوَاوِ لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ تَعَلَّمُوا الْخَطَّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَلُغَتُهُمُ الرَّبْوُ فَعَلَّمُوهُمْ صُورَةَ الْخَطِّ عَلَى لُغَتِهِمْ قَالَ وَكَذَا قَرَأَهَا أَبُو سِمَاكٍ الْعَدَوِيُّ بِالْوَاوِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْإِمَالَةِ بِسَبَبِ كَسْرَةِ الرَّاءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ لِفَتْحَةِ الْيَاءِ قَالَ وَيَجُوزُ كَتْبُهُ بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ وقال أهل اللغة(11/8)
والرماء بِالْمِيمِ وَالْمَدِّ هُوَ الرِّبَا وَكَذَلِكَ الرُّبْيَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالتَّخْفِيفِ لُغَةٌ فِي الرِّبَا وَأَصْلُ الرِّبَا الزِّيَادَةُ يُقَالُ رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ وَأَرْبَى الرَّجُلُ وَأَرْمَى عَامَلَ بِالرِّبَا وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْجُمْلَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي ضَابِطِهِ وَتَفَارِيعِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وأحل الله البيع وحرم الربا وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ وَنَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ فَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ لَا رِبَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السِّتَّةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ قَالَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ سِوَاهُمْ لَا يَخْتَصُّ بِالسِّتَّةِ بَلْ يَتَعَدَّى إِلَى مَا فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ مَا يُشَارِكُهَا فِي الْعِلَّةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي السِّتَّةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا جِنْسُ الْأَثْمَانِ فَلَا يَتَعَدَّى الرِّبَا مِنْهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْمَوْزُونَاتِ وَغَيْرِهَا لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ قَالَ وَالْعِلَّةُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ كَوْنُهَا مَطْعُومَةً فَيَتَعَدَّى الرِّبَا مِنْهَا إِلَى كُلِّ مَطْعُومٍ وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْعِلَّةُ فِيهَا كَوْنُهَا تُدَّخَرُ لِلْقُوتِ وَتَصْلُحُ لَهُ فَعَدَّاهُ إِلَى الزَّبِيبِ لِأَنَّهُ كَالتَّمْرِ وَإِلَى الْقُطْنِيَّةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ الْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْوَزْنُ وَفِي الْأَرْبَعَةِ الْكَيْلُ فَيَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ مَوْزُونٍ مِنْ نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ وَغَيْرِهِمَا وَإِلَى كُلِّ مَكِيلٍ كَالْجِصِّ وَالْأُشْنَانِ وَغَيْرِهِمَا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْعِلَّةُ فِي الْأَرْبَعَةِ كَوْنُهَا مَطْعُومَةً مَوْزُونَةً أَوْ مَكِيلَةً بِشَرْطِ الْأَمْرَيْنِ فَعَلَى هَذَا لَا رِبَا فِي الْبِطِّيخِ وَالسَّفَرْجَلِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِرِبَوِيٍّ لَا يُشَارِكُهُ فِي الْعِلَّةِ مُتَفَاضِلًا وَمُؤَجَّلًا وَذَلِكَ كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْحِنْطَةِ وَبَيْعِ الْفِضَّةِ بِالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَكِيلِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ وَأَحَدُهُمَا مُؤَجَّلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ إِذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ حَالًّا كَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّفَرُّقُ قَبْلَ التَّقَابُضِ إِذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مِمَّا يُشَارِكُهُ فِي الْعِلَّةِ كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ كَصَاعِ حِنْطَةٍ بِصَاعَيْ شَعِيرٍ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إِلَّا مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ بن عَبَّاسٍ فِي تَخْصِيصِ الرِّبَا بِالنَّسِيئَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِذَا بِيعَ الذَّهَبُ بِذَهَبٍ أَوِ الْفِضَّةُ بِفِضَّةٍ سُمِّيَتْ مُرَاطَلَةً وَإِذَا بِيعَتِ الْفِضَّةُ بِذَهَبٍ سُمِّيَ(11/9)
صَرْفًا لِصَرْفِهِ عَنْ مُقْتَضَى الْبِيَاعَاتِ مِنْ جَوَازِ الفاضل وَالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّأْجِيلِ وَقِيلَ مِنْ صَرِيفِهِمَا وَهُوَ تَصْوِيتُهُمَا فِي الْمِيزَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ
[1584] بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مِنْ جَيِّدٍ وَرَدِيءٍ وَصَحِيحٍ وَمَكْسُورٍ وَحُلِيٍّ وَتِبْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَسَوَاءٌ الْخَالِصُ وَالْمَخْلُوطُ بِغَيْرِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ) هُوَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ لَا تُفَضِّلُوا وَالشِّفُّ بِكَسْرِ الشِّينِ وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى النُّقْصَانِ فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ شَفَّ الدِّرْهَمُ بِفَتْحِ الشِّينِ يَشِفُّ بِكَسْرِهَا إِذَا زَادَ وَإِذَا نَقَصَ وَأَشَفَّهُ غَيْرُهُ يَشِفُّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ) الْمُرَادُ بِالنَّاجِزِ الْحَاضِرُ وَبِالْغَائِبِ الْمُؤَجَّلُ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْفِضَّةِ مُؤَجَّلًا وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ أَوْ بِالشَّعِيرِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْئَيْنِ اشْتَرَكَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا أَمَّا إِذَا بَاعَ دِينَارًا بِدِينَارٍ كِلَاهُمَا فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ الدِّينَارَ أَوْ بَعَثَ مَنْ أَحْضَرَ لَهُ دِينَارًا مِنْ بَيْتِهِ وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ(11/10)
بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الشَّرْطَ أَنْ لا يَتَفَرَّقَا بِلَا قَبْضٍ وَقَدْ حَصَلَ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بعد هذه ولا تبيعوا شيئا غائبا منها بِنَاجِزٍ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي عياض أنفق الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُؤَجَّلًا أَوْ غَابَ عَنِ الْمَجْلِسِ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَصْحَابَهُ وَغَيْرَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ(11/11)
الْأَلْفَاظِ تَوْكِيدًا وَمُبَالَغَةً فِي الْإِيضَاحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ رَبًّا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ)
[1586] فِيهِ لُغَتَانِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ وَالْمَدُّ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَأَصْلُهُ هَاكَ فَأُبْدِلَتِ الْمَدَّةُ مِنَ الْكَافِ وَمَعْنَاهُ خُذْ هَذَا وَيَقُولُ صَاحِبُهُ مِثْلَهُ وَالْمَدَّةُ مَفْتُوحَةٌ وَيُقَالُ بِالْكَسْرِ أَيْضًا وَمَنْ قَصَرَهُ قَالَ وَزْنُهُ وَزْنُ خَفْ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ هَا كخف والاثنين هاءا كخافا وللجمع هاؤا كَخَافُوا وَالْمُؤَنَّثَةِ هَاكِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُثَنِّي وَلَا يَجْمَعُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا يُغَيِّرُهَا فِي التَّأْنِيثِ بَلْ يَقُولُ فِي الْجَمِيعِ هَا قَالَ السِّيرَافِيُّ كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا صَوْتًا كَصَهْ وَمَنْ ثَنَّى وَجَمَعَ قَالَ لِلْمُؤَنَّثَةِ هَاكِ وَهَا لُغَتَانِ وَيُقَالُ فِي لُغَةٍ هَاءِ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ للذكر وللأنثى هاتي بزيادة ثاء وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُنْكِرُونَ هَا بِالْقَصْرِ وَغَلَّطَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ الْمُحَدِّثِينَ فِي رِوَايَةِ الْقَصْرِ وَقَالَ الصَّوَابُ الْمَدُّ وَالْفَتْحُ وَلَيْسَتْ بِغَلَطٍ بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً قَالَ الْقَاضِي وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى هَاءَكَ بِالْمَدِّ وَالْكَافِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَمَعْنَاهُ التَّقَابُضُ(11/12)
فَفِيهِ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِالرِّبَوِيِّ إِذَا اتَّفَقَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا سَوَاءٌ اتَّفَقَ جِنْسُهُمَا كَذَهَبٍ بِذَهَبٍ أَمِ اخْتَلَفَ كَذَهَبٍ بِفِضَّةٍ وَنَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِمُخْتَلِفِ الْجِنْسِ عَلَى مُتَّفِقِهِ وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ عَقِبَ الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ أَخَّرَهُ عَنِ الْعَقْدِ وَقَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ وَمَذْهَبُنَا صِحَّةُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْعَقْدِ يوما أو أياما واكثر مالم يَتَفَرَّقَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِأَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يُصَارِفَ صَاحِبَ الذَّهَبِ فَيَأْخُذَ الذَّهَبَ وَيُؤَخِّرَ دَفْعَ الدَّرَاهِمِ إِلَى مَجِيءِ الْخَادِمِ فَإِنَّمَا قَالَهُ لِأَنَّهُ ظَنَّ جَوَازَهُ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ وَمَا كَانَ بلغة حكم المسألة فأبلغه اياه عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَرَكَ الْمُصَارَفَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1587] (الْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ) فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ صِنْفَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ وَآخَرِينَ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمُعْظَمُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَسَعِيدٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدَّخَنَ صِنْفٌ وَالذُّرَةَ صِنْفٌ والارز صنف الا الليث بن سعد وبن وهب فقالا هذه الثلاثة صنف وَاحِدٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى) مَعْنَاهُ فَقَدْ فَعَلَ الرِّبَا الْمُحَرَّمَ فَدَافِعُ الزِّيَادَةِ وَآخُذُهَا عَاصِيَانِ مُرْبِيَانِ قَوْلُهُ (فَرَدَّ النَّاسُ) مَا أَخَذُوا هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ الْمَذْكُورَ بَاطِلٌ قَوْلُهُ (أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ) أو قَالَ وَإِنْ رَغِمَ يُقَالُ رَغِمَ(11/13)
بكسر الغين وفتحها ومعناه ذلك وَصَارَ كَاللَّاصِقِ بِالرُّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ وَفِي هَذَا الِاهْتِمَامُ بِتَبْلِيغِ السُّنَنِ وَنَشْرِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ لِمَعْنًى وَفِيهِ الْقَوْلُ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ لَهُ كَبِيرًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَدًا بِيَدٍ) حُجَّةٌ لِلْعُلَمَاءِ كَافَّةً فِي وُجُوبِ التَّقَابُضِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وَجَوَّزَ إسماعيل بن عليه التقرق عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالْأَحَادِيثِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ فَلَوْ بَلَغَهُ(11/14)
لَمَا خَالَفَهُ قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ الرَّبَعِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي رَبِيعَةَ
[1588] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ) يَعْنِي أَجْنَاسَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ(11/15)
قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ دَيْنًا) يَعْنِي مُؤَجَّلًا أَمَّا إِذَا بَاعَهُ بِعِوَضٍ فِي الذِّمَّةِ حَالٍّ فَيَجُوزُ كَمَا سَبَقَ قَوْلُهُ (أَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا)
[1590] يَعْنِي سَوَاءً وَمُتَفَاضِلًا وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ حَالًّا وَيَتَقَابَضَا فِي المجلس(11/16)
قَوْلُهُ (سَمِعَ عُلَيَّ بْنَ رَبَاحٍ) هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا وَقِيلَ يُقَالُ بِالْوَجْهَيْنِ فَالْفَتْحُ اسْمٌ وَالضَّمُّ لَقَبٌ قَوْلُهُ (عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ فَفَصَلْتُهَا فَوَجَدَتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفْصَلَ) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخٍ مُعْتَمَدَةٍ قِلَادَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ قِلَادَةً فِيهَا اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَقَعَ لِمُعْظَمِ شُيُوخِهِمْ قِلَادَةً فِيهَا اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَأَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ الْغَسَّانِيِّ مُصَلَّحَةً قِلَادَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا قَالَ وَهَذَا لَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ وَبِهِ يَصِحُّ الْكَلَامُ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا بِاثْنَيْ عَشَرَ وَهُوَ الَّذِي أَصْلَحَهُ صَاحِبُ أَبِي عَلِيٍّ الْغَسَّانِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْقَاضِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ مَعَ غَيْرِهِ بِذَهَبٍ حَتَّى يُفَصَّلَ فَيُبَاعَ الذَّهَبُ بِوَزْنِهِ ذَهَبًا وَيُبَاعَ الْآخَرُ بِمَا أَرَادَ وَكَذَا لَا تُبَاعُ فِضَّةٌ مَعَ غَيْرِهَا(11/17)
بِفِضَّةٍ وَكَذَا الْحِنْطَةُ مَعَ غَيْرِهَا بِحِنْطَةٍ وَالْمِلْحُ مَعَ غَيْرِهِ بِمِلْحٍ وَكَذَا سَائِرُ الرِّبَوِيَّاتِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فَصْلِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ الذَّهَبُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَكَذَلِكَ بَاقِي الرِّبَوِيَّاتِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ الْمَعْرُوفَةُ بِمَسْأَلَةِ مدعجوة وصورتها باع مدعجوة وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجُوزُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِهِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمَالِكِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَلَا يَجُوزُ بِمِثْلِهِ وَلَا بِدُونِهِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَآخَرُونَ يَجُوزُ بَيْعُ السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِذَهَبٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِمَّا فِيهِ ذَهَبٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِالذَّهَبِ إِذَا كَانَ الذَّهَبُ فِي الْمَبِيعِ تَابِعًا لِغَيْرِهِ وَقَدَّرُوهُ بِأَنْ يَكُونَ الثُّلُثَ فَمَا دُونَهُ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالذَّهَبِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ بَاعَهُ بِمِثْلِهِ مِنَ الذَّهَبِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَهَذَا غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْحَدِيثِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ الْقِلَادَةِ وَأَجَابَتِ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الذَّهَبَ كَانَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَقَدِ اشْتَرَاهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا قَالُوا وَنَحْنُ لَا نُجِيزُ هَذَا وَإِنَّمَا نُجِيزُ الْبَيْعَ إِذَا بَاعَهَا بِذَهَبٍ أَكْثَرَ مِمَّا فِيهَا فَيَكُونُ مَا زَادَ مِنَ الذَّهَبِ الْمُنْفَرِدِ فِي مُقَابَلَةِ الْخَرَزِ وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ مَعَ الذَّهَبِ الْمَبِيعِ فَيَصِيرُ كَعِقْدَيْنِ وَأَجَابَ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَيْعِ الْغَنَائِمِ لِئَلَّا يُغْبَنَ الْمُسْلِمُونَ فِي بَيْعِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ ضَعِيفَانِ لَا سِيَّمَا جَوَابُ الطَّحَاوِيِّ فَإِنَّهُ دَعْوًى مُجَرَّدَةٌ قَالَ أَصْحَابُنَا وَدَلِيلُ صِحَّةِ قَوْلِنَا وَفَسَادِ التَّأْوِيلَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يُبَاعُ حَتَّى يُفَصَّلَ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي اشْتِرَاطِ فَصْلِ أَحَدِهِمَا عن الآخر في البيع وانه لافرق بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الذَّهَبُ الْمَبِيعُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ بَيْعِ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنِ الْجُلَاحِ أَبِي كَثِيرٍ) هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ قَوْلُهُ (كُنَّا(11/18)
نُبَايِعُ الْيَهُودَ الْأُوقِيَّةَ الذَّهَبَ بِالدِّينَارَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ) يُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الْأُوقِيَّةَ مِنْ ذَهَبٍ وَخَرَزٍ وَغَيْرِهِ بِدِينَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَإِلَّا فَالْأُوقِيَّةُ وَزْنُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يَبْتَاعُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ ذَهَبٍ خَالِصٍ بِدِينَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَهَذَا سَبَبُ مُبَايَعَةِ الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ظَنُّوا جَوَازَهُ لِاخْتِلَاطِ الذَّهَبِ بِغَيْرِهِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حرام حتى يميز وَيُبَاعَ الذَّهَبُ بِوَزْنِهِ ذَهَبًا وَوَقَعَ هُنَا فِي النُّسَخِ الْوُقِيَّةَ الذَّهَبَ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ وَالْأَشْهُرُ الْأُوقِيَّةُ بِالْهَمْزِ فِي أَوَّلِهِ وَسَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ قَوْلُهُ (فَطَارَتْ لِي وَلِأَصْحَابِي قِلَادَةٌ) أَيْ حَصَلَتْ لَنَا مِنَ الْغَنِيمَةِ قَوْلُهُ (وَاجْعَلْ ذَهَبَكَ فِي كِفَّةٍ) هِيَ بِكَسْرِ الْكَافِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ كِفَّةُ الْمِيزَانِ وَكُلُّ مُسْتَدِيرٍ بِكَسْرِ الْكَافِ وَكُفَّةُ الثَّوْبِ وَالصَّائِدِ بِضَمِّهَا وَكَذَلِكَ كُلُّ مُسْتَطِيلٍ وَقِيلَ بالوجهين فيهما معا(11/19)
[1592] قَوْلُهُ (إِنَّ مَعْمَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ لِيَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ شَعِيرًا فَبَاعَهُ بِصَاعٍ وَزِيَادَةٍ فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ رُدَّهُ وَلَا تَأْخُذْهُ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامُ مِثْلًا بِمِثْلٍ قَالَ وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمئِذٍ الشَّعِيرَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَارِعَ) مَعْنَى يُضَارِعُ يُشَابِهُ وَيُشَارِكُ وَمَعْنَاهُ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمُمَاثِلِ فَيَكُونَ لَهُ حُكْمُهُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي كَوْنِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ صِنْفًا وَاحِدًا لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُمَا صِنْفَانِ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا كَالْحِنْطَةِ مَعَ الْأَرُزِّ وَدَلِيلُنَا مَا سَبَقَ عِنْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ مَعَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْمَرٍ هَذَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا خَافَ مِنْ ذَلِكَ فَتَوَرَّعَ عَنْهُ احْتِيَاطًا قَوْلُهُ (قَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ
[1593] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا قَالَ لَا وَاللَّهِ يارسول اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ(11/20)
بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ) أَمَّا الْجَنِيبُ فَبِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ مِنْ أَعْلَاهُ وَأَمَّا الْجَمْعُ فَبِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ وَهُوَ تَمْرٌ رَدِيءٌ وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ بِأَنَّهُ الْخَلْطُ مِنَ التَّمْرِ وَمَعْنَاهُ مَجْمُوعٌ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَامِلَ الَّذِي بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ هَذَا لِكَوْنِهِ كَانَ فِي أَوَائِلِ تَحْرِيمِ الرِّبَا أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْحَابُنَا وَمُوَافِقُوهُمْ فِي أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ وَهِيَ الْحِيلَةُ الَّتِي يَعْمَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ تَوَصُّلًا إِلَى مَقْصُودِ الرِّبَا بِأَنْ يُرِيدَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمِائَتَيْنِ فَيَبِيعَهُ ثَوْبًا بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ بِمِائَةٍ وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرَوْا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَآخَرِينَ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ هُوَ حَرَامٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا الْمِيزَانُ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا وَمُوَافِقُوهُمْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ(11/21)
وكذلك الميزان لا يجوز التفاصل فِيهِ فِيمَا كَانَ رِبَوِيًّا مَوْزُونًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا)
[1594] قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هِيَ كَلِمَةُ تَوَجُّعٍ وَتَحَزُّنٍ وَمَعْنَى عَيْنُ الرِّبَا أَنَّهُ حَقِيقَةُ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لُغَاتٌ الْفَصِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الرِّوَايَاتِ أَوَّهْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَهَاءٍ سَاكِنَةٍ وَيُقَالُ بِنَصَبِ الْهَاءِ مُنَوَّنَةً وَيُقَالُ أُوهِ بِإِسْكَانِ الْوَاو وَكَسْرِ الْهَاءِ مُنَوَّنَةً وَغَيْرُ مُنَوَّنَةٍ وَيُقَالُ أَوٍّ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مَكْسُورَةٍ مُنَوَّنَةٍ بِلَا هَاءٍ وَيُقَالُ آهْ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَتَنْوِينِ الْهَاءِ سَاكِنَةً مِنْ غَيْرِ وَاوٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لِمَنِ اشْتَرَى صَاعًا بِصَاعَيْنِ (هَذَا الرِّبَا فَرُدُّوهُ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ وَإِذَا رَدَّهُ اسْتَرَدَّ الثَّمَنَ فَإِنْ قِيلَ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَدِّهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَأَمَرَ فِيهَا بِرَدِّهِ فَبَعْضُ الرُّوَاةِ حَفِظَ ذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَحْفَظْهُ فَقَبِلْنَا زِيَادَةَ الثِّقَةِ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ لَحُمِلَتِ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا أَمَرَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْنَا ذَلِكَ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ مَعَ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ لَحَمَلْنَاهَا عَلَى أَنَّهُ جَهِلَ بَائِعَهُ وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ فَصَارَ مَالًا ضَائِعًا لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقِيمَتِهِ وَهُوَ(11/22)
التَّمْرُ الَّذِي قَبَضَهُ عِوَضًا فَحَصَلَ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي الْحَدِيثِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ قَوْلُهُ (سَأَلْتُ بن عَبَّاسٍ
[1594] عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَ أَيَدًا بِيَدٍ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ سألت بن عمر وبن عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا قَالَ فَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ مَا زَادَ فَهُوَ رِبًا فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِمَا فَذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ حَدِيثَ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ بَيْعِ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ وَذَكَرْتُ رجوع بن عمر وبن عَبَّاسٍ عَنْ إِبَاحَتِهِ إِلَى مَنْعِهِ وَفِي الْحَدِيثِ الذي بعده أن بن عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ
[1596] أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا رِبًا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ معنى ما ذكره أولا عن بن عمر وبن عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَعْتَقِدَانِ أَنَّهُ لَا رِبًا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارٍ بِدِينَارَيْنِ وَصَاعِ تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ مِنَ التَّمْرِ وَكَذَا الْحِنْطَةُ وَسَائِرُ الرِّبَوِيَّاتِ كَانَا يَرَيَانِ جَوَازَ بَيْعِ الْجِنْسِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَأَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُمُ(11/23)
فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا إِذَا كَانَ نَسِيئَةً وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّهُ سَأَلَهُمَا عَنِ الصَّرْفِ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا يَعْنِي الصَّرْفَ مُتَفَاضِلًا كَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَكَانَ مُعْتَمَدَهُمَا حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ ثُمَّ رجع بن عمر وبن عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَا بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْجِنْسِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا حِينَ بَلَغَهُمَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رُجُوعِهِمَا صَرِيحًا وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ تَدُلُّ عَلَى أن بن عمر وبن عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُمَا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ التَّفَاضُلِ فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ فَلَمَّا بَلَغَهُمَا(11/24)
رَجَعَا إِلَيْهِ وَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ فَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ تَأْوِيلَاتٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ وَهُوَ كَبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ مُؤَجَّلًا بِأَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدَهُ ثَوْبٌ مَوْصُوفٌ فَيَبِيعُهُ بِعَبْدٍ مَوْصُوفٍ مُؤَجَّلًا فَإِنْ بَاعَهُ بِهِ حَالًّا جَازَ الثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَإِنَّهُ لَا رِبًا فِيهَا مِنْ حَيْثُ التَّفَاضُلِ بَلْ يَجُوزُ تَفَاضُلُهَا يَدًا بِيَدٍ الثَّالِثُ أَنَّهُ مُجْمَلٌ وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا مُبَيِّنٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُبَيِّنِ وَتَنْزِيلُ الْمُجْمَلِ عَلَيْهِ هَذَا جَوَابُ الشَّافِعِيِّ(11/25)
رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا هِقْلٌ) هُوَ بِكَسْرِ الهاء واسكان القاف قَوْلُهُ (سَأَلَ شِبَاكٌ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ قَوْلُهُ (لَعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
[1598] آكل الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ) هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما وَفِيهِ تَحْرِيمُ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبَاطِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(11/26)
(بَاب أَخْذِ الْحَلَالِ وَتَرْكِ الشُّبُهَاتِ)
[1599] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى آخِرِهِ) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى عِظَمِ وَقْعِ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ وَأَنَّهُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ قَالَ جَمَاعَةٌ هُوَ ثُلُثُ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ يَدُورُ عَلَيْهِ وَعَلَى حَدِيثِ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَحَدِيثِ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المرء تركه مالا يَعْنِيهُ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ السِّخْتِيَانِيُّ يَدُورُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَحَدِيثِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَقِيلَ حَدِيثُ ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ وازهد مافي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَسَبَبُ عِظَمِ مَوْقِعِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ فِيهِ عَلَى إِصْلَاحِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَغَيْرِهَا وَأَنَّهُ يَنْبَغِي تَرْكُ الْمُشْتَبِهَاتِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِحِمَايَةِ دِينِهِ وَعِرْضِهِ وَحَذَّرَ مِنْ مُوَاقَعَةِ الشُّبُهَاتِ وَأَوْضَحَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْحِمَى ثُمَّ بَيَّنَ أَهَمَّ الْأُمُورِ وَهُوَ مُرَاعَاةُ الْقَلْبِ فَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم ألا وإن في الجسد مُضْغَةً إِلَى آخِرِهِ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد وبفساده يفسد باقيه وأما قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ حَلَالٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لَا يَخْفَى حِلُّهُ كَالْخُبْزِ وَالْفَوَاكِهِ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَالسَّمْنِ وَلَبَنِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَبَيْضِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ وَالنَّظَرُ وَالْمَشْيُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِيهَا حَلَالٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لَا شَكَّ فِي حِلِّهِ وَأَمَّا الْحَرَامُ الْبَيِّنُ فَكَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْبَوْلِ والدم المسفوح وكذلك الزنى وَالْكَذِبُ وَالْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالنَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَأَمَّا الْمُشْتَبِهَاتُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاضِحَةِ الْحِلِّ وَلَا الْحُرْمَةِ فَلِهَذَا لَا يَعْرِفُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَعْلَمُونَ حُكْمَهَا وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ(11/27)
فَيَعْرِفُونَ حُكْمَهَا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِصْحَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا تَرَدَّدَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ اجْتَهَدَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ فَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ الشرعي فإذا الحقه به صار حلالا وقد يكون دليله غَيْرَ خَالٍ عَنِ الِاحْتِمَالِ الْبَيِّنِ فَيَكُونُ الْوَرَعُ تَرْكَهُ وَيَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ لِلْمُجْتَهِدِ فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ مُشْتَبَهٌ فَهَلْ يُؤْخَذُ بِحِلِّهِ أَمْ بِحُرْمَتِهِ أَمْ يُتَوَقَّفُ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ حَكَاهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُخَرَّجَةٌ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَفِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ وَلَا إِبَاحَةٍ وَلَا غَيْرِهَا لِأَنَّ التَّكْلِيفَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّرْعِ وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَهَا التَّحْرِيمُ وَالثَّالِثُ الْإِبَاحَةُ وَالرَّابِعُ التَّوَقُّفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ) أَيْ حَصَلَ لَهُ الْبَرَاءَةُ لِدِينِهِ مِنَ الذَّمِّ الشَّرْعِيِّ وَصَانَ عِرْضَهُ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنْ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُلُوكَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ يَكُونُ لِكُلِّ مَلِكٍ مِنْهُمْ حِمًى يَحْمِيهِ عَنِ النَّاسِ وَيَمْنَعُهُمْ دُخُولَهُ فَمَنْ دَخَلَهُ أَوْقَعَ بِهِ الْعُقُوبَةَ وَمَنِ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ لَا يُقَارِبُ ذَلِكَ الْحِمَى خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ وَلِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا حِمًى وَهِيَ مَحَارِمُهُ أَيْ الْمَعَاصِي الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالْخَمْرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فَكُلُّ هَذَا حِمَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْ دَخَلَهُ بِارْتِكَابِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ وَمَنْ قَارَبَهُ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَمَنِ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ لم يقاربه ولا يتعلق بشئ يقربه من المعصية فلا يدخل في شئ مِنَ الشُّبُهَاتِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يقال صلح الشئ(11/28)
وَفَسَدَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالسِّينِ وَضَمِّهِمَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَالْمُضْغَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُمْضَغُ فِي الْفَمِ لِصِغَرِهَا قَالُوا الْمُرَادُ تَصْغِيرُ الْقَلْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْجَسَدِ مَعَ أَنَّ صَلَاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادَهُ تَابِعَانِ لِلْقَلْبِ وَفِي هذا الحديث التأكيد عَلَى السَّعْيِ فِي صَلَاحِ الْقَلْبِ وَحِمَايَتِهِ مِنَ الْفَسَادِ وَاحْتُجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ لَا فِي الرَّأْسِ وَفِيهِ خِلَافٌ مشهور مذهب أَصْحَابِنَا وَجَمَاهِيرِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ فِي الْقَلْبِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ فِي الدِّمَاغِ وَقَدْ يُقَالُ فِي الرَّأْسِ وَحَكَوُا الْأَوَّلَ أَيْضًا عَنِ الْفَلَاسِفَةِ وَالثَّانِي عَنِ الْأَطِبَّاءِ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ فِي الْقَلْبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كان له قلب وَبِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ صَلَاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادَهُ تَابِعًا لِلْقَلْبِ مَعَ أَنَّ الدِّمَاغَ مِنْ جُمْلَةِ الْجَسَدِ فَيَكُونُ صَلَاحُهُ وَفَسَادُهُ تَابِعًا لِلْقَلْبِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَحِلًّا لِلْعَقْلِ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ فِي الدِّمَاغِ بِأَنَّهُ إِذَا فَسَدَ الدِّمَاغُ فَسَدَ الْعَقْلُ وَيَكُونُ مِنْ فَسَادِ الدِّمَاغِ الصَّرَعُ فِي زَعْمِهِمْ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِفَسَادِ الْعَقْلِ عِنْدَ فَسَادِ الدِّمَاغِ مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ فِيهِ وَلَا امْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْمَازِرِيُّ لَا سِيَّمَا عَلَى أُصُولِهِمْ فِي الِاشْتِرَاكِ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ بَيْنَ الدِّمَاغِ والقلب وهم يجعلون بين رأس المعدة وَالدِّمَاغِ اشْتِرَاكًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِسَمَاعِ النُّعْمَانِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يُصِحُّونَ سَمَاعَ النُّعْمَانِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ حِكَايَةٌ ضَعِيفَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ كَثْرَةِ تَعَاطِيهِ الشُّبُهَاتِ يُصَادِفُ الْحَرَامَ وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ وَقَدْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ إِذَا نُسِبَ إِلَى تَقْصِيرٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَعْتَادُ التَّسَاهُلَ وَيَتَمَرَّنُ عَلَيْهِ وَيَجْسُرُ عَلَى شُبْهَةٍ ثُمَّ شُبْهَةٍ أَغْلَظَ مِنْهَا ثُمَّ أُخْرَى أَغْلَظَ وَهَكَذَا حَتَّى يَقَعَ فِي الْحَرَامِ عَمْدًا وَهَذَا نَحْوَ قَوْلِ السَّلَفِ الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ أَيْ تَسُوقُ إِلَيْهِ عَافَانَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الشَّرِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ) يُقَالُ أَوْشَكَ يُوشِكُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ أَيْ(11/29)
يُسْرِعُ وَيَقْرَبُ قَوْلُهُ أَتَمُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ وَأَكْبَرُ هُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ بِالْمُثَلَّثَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب بَيْعِ الْبَعِيرِ وَاسْتِثْنَاءِ رُكُوبِهِ فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ احتج بِهِ أَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الدَّابَّةِ وَيَشْتَرِطُ الْبَائِعُ لِنَفْسِهِ رُكُوبَهَا وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَسَافَةُ الرُّكُوبِ قَرِيبَةً وَحُمِلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ سَوَاءٌ قَلَّتِ الْمَسَافَةُ أَوْ كَثُرَتْ وَلَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثُّنْيَا وَبِالْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِأَنَّهَا قَضِيَّةُ عين تتطرق إليهااحتمالات قَالُوا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ قَالُوا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكُنْ)(11/30)
فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَضُرُّ الشَّرْطُ إِذَا كَانَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَلَعَلَّ الشَّرْطَ كَانَ سَابِقًا فَلَمْ يُؤَثِّرْ ثُمَّ تَبَرَّعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرْكَابِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ بِوُقِيَّةٍ وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ سَبَقَتْ مِرَارًا وَيُقَالُ أُوقِيَّةٌ وَهِيَ أَشْهَرُ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِطَلَبِ الْبَيْعِ مِنْ مَالِكِ السِّلْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِضْهَا لِلْبَيْعِ قَوْلُهُ (وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حُمْلَانَهُ) هُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ أَيِ الْحَمْلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم (أتراني ما كستك) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْمُمَاكَسَةُ هِيَ الْمُكَالَمَةُ فِي النَّقْصِ مِنَ الثَّمَنِ وَأَصْلُهَا النَّقْصُ وَمِنْهُ مَكْسُ الظَّالِمِ وَهُوَ مَا يَنْتَقِصُهُ وَيَأْخُذُهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ قَوْلُهُ (فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ) وَفِي رِوَايَةٍ بِخَمْسِ أَوَاقٍ وَزَادَنِي أُوقِيَّةً وَفِي بَعْضِهَا بِأُوقِيَّتَيْنِ وَدِرْهَمٍ أو درهمين وفي بعضها بأوقية ذهب وَفِي بَعْضِهَا بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ وَزَادَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَفِي رِوَايَةٍ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَفِي رِوَايَةٍ أَحْسِبُهُ بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ بِوُقِيَّةٍ أَكْثَرُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّاوُدِيُّ أُوقِيَّةُ الذَّهَبِ قَدْرُهَا مَعْلُومٌ وَأُوقِيَّةُ الْفِضَّةِ(11/31)
أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا قَالَ وَسَبَبُ اخْتِلَافِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ رَوَوْا بِالْمَعْنَى وَهُوَ جَائِزٌ فَالْمُرَادُ وُقِيَّةُ ذَهَبٍ كَمَا فَسَّرَهُ فِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أُوقِيَّةً مُطْلَقَةً وَأَمَّا مَنْ رَوَى خَمْسَ أَوَاقٍ فَالْمُرَادُ خَمْسُ أَوَاقٍ مِنَ الْفِضَّةِ وَهِيَ بِقَدْرِ قِيمَةِ أُوقِيَّةِ الذَّهَبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِأُوقِيَّةِ الذَّهَبِ عَمَّا وَقَعَ بِهِ الْعَقْدُ وعَنْ أَوَاقِ الْفِضَّةِ عَمَّا حَصَلَ بِهِ الْإِيْفَاءُ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ زِيَادَةً عَلَى الْأُوقِيَّةِ كَمَا قَالَ فَمَا زَالَ يَزِيدُنِي وَأَمَّا رِوَايَةُ أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ فَمُوَافِقَةٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أُوقِيَّةُ الذَّهَبِ حِينَئِذٍ وَزْنَ أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَأَمَّا رِوَايَةُ أُوقِيَّتَيْنِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ إِحْدَاهُمَا وَقَعَ بِهَا الْبَيْعُ وَالْأُخْرَى زِيَادَةٌ كَمَا قَالَ وَزَادَنِي أُوقِيَّةً وقوله ودرهم أَوْ دِرْهَمَيْنِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ وَزَادَنِي قِيرَاطًا وَأَمَّا رِوَايَةُ عِشْرِينَ دِينَارًا فَمَحْمُولَةٌ عَلَى دَنَانِيرَ صِغَارٍ كَانَتْ لَهُمْ وَرِوَايَةُ أَرْبَعُ أَوَاقٍ شَكَّ فِيهَا الرَّاوِي فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ) هُوَ بِفَاءٍ مفتوحة ثم قاف وهي خرازاته أَيْ مَفَاصِلُ عِظَامِهِ وَاحِدَتُهَا فَقَارَةٌ قَوْلُهُ (فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي عَرُوسٌ) هَكَذَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ عَرُوسٌ كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ لَفْظُهَا وَاحِدٌ لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي الْجَمْعِ فَيُقَالُ رَجُلٌ عَرُوسٌ وَرِجَالٌ عُرُسٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ وَامْرَأَةٌ عَرُوسٌ وَنِسْوَةٌ عَرَائِسُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَفَلَا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ(11/32)
سَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَضَبْطُ لَفْظِهِ وَالْخِلَافُ فِي مَعْنَاهُ مَعَ شَرْحِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَوْلُهُ (فَإِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ فَهُوَ لَكَ بِهَا قَالَ قَدْ أَخَذْتُهُ بِهِ) هَذَا قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ وَأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْمُعَاطَاةِ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ الْمُخْتَارَ انْعِقَادُهُ بِالْمُعَاطَاةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ بِالْمُعَاطَاةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْهَ فِيهِ عَنِ الْمُعَاطَاةِ وَالْقَائِلُ بِالْمُعَاطَاةِ يُجَوِّزُ هَذَا فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْمُعَاطَاةَ إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا حَضَرَ الْعِوَضَانِ فَأَعْطَى وَأَخَذَ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْضُرِ الْعِوَضَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِأَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِالْكِنَايَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذْتُهُ بِهِ مَعَ قَوْلِ جَابِرٍ هُوَ لَكَ وَهَذَانِ اللَّفْظَانِ كِنَايَةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ (أَعْطِهِ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ وَزِدْهُ) فِيهِ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الزِّيَادَةِ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ وَإِرْجَاحِ الْوَزْنِ قَوْلُهُ (فَأَخَذَهُ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الْحَرَّةِ) يَعْنِي حَرَّةَ الْمَدِينَةِ كَانَ قِتَالٌ وَنَهْبٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ هُنَاكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ(11/33)
قَوْلُهُ (فَبِعْتُهُ مِنْهُ بِخَمْسِ أَوَاقٍ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فَبِعْتُهُ مِنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ جَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ يُقَالُ بِعْتُهُ وَبِعْتُ مِنْهُ وَقَدْ كَثُرَ ذِكْرُ نَظَائِرِهِ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ) هُوَ مُكْرَمٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَأَمَّا الْعَمِّيُّ فَبِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي الْعَمِّ مِنْ تَمِيمٍ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ) هُوَ بِالنُّونِ والجيم(11/34)
مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي نَاجِيَةَ وَهُمْ مِنْ بَنِي أُسَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ هُمْ أَوْلَادُ نَاجِيَةَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تَحْتَ أُسَامَةَ بن لؤي قوله (فلما قدم صرار) هُوَ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمَكْسُورَةٍ وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ واشهر ولم يذكر الا كثرون غَيْرَهُ قَالَ الْقَاضِي وَهُوَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ وغيرهما وعند أكثر شيوخنا صرار بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَهُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هِيَ بِئْرٌ قَدِيمَةٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى طَرِيقِ الْعِرَاقِ قَالَ الْقَاضِي وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا بِئْرٌ قَالَ وَضَبَطَهُ بَعْضُ الرواة في مسلم وبعضهم في البخاري ضرار بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ خَطَأٌ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ فَلَمَّا قَدِمَ صِرَارَ غَيْرَ مَصْرُوفٍ وَالْمَشْهُورُ صَرْفُهُ قَوْلُهُ (أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَذُبِحَتْ) فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْبَقَرِ الذَّبْحُ لَا النَّحْرُ وَلَوْ عُكِسَ جَازَ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَنُحِرَتْ فَالْمُرَادُ بِالنَّحْرِ الذَّبْحُ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ قَوْلُهُ (أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْمَسْجِدَ فَأُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَفِيهِ أَنَّ نَافِلَةَ النَّهَارِ يُسْتَحَبُّ كَوْنُهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ اللَّيْلِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا فَوَائِدَ كَثِيرَةً إِحْدَاهَا هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ الظَّاهِرَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي انْبِعَاثِ جَمَلِ جَابِرٍ وَإِسْرَاعِهِ بَعْدَ إِعْيَائِهِ الثَّانِيَةُ جَوَازُ طَلَبِ الْبَيْعِ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِضْ سِلْعَتَهُ لِلْبَيْعِ الثَّالِثَةُ جَوَازُ الْمُمَاكَسَةِ فِي الْبَيْعِ وَسَبَقَ تَفْسِيرُهَا الرَّابِعَةُ اسْتِحْبَابُ سُؤَالِ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ أَصْحَابَهُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَالْإِشَارَةِ عَلَيْهِمْ بِمَصَالِحِهِمْ الْخَامِسَةُ اسْتِحْبَابُ نِكَاحِ الْبِكْرِ السَّادِسَةُ اسْتِحْبَابُ مُلَاعَبَةِ الزَّوْجَيْنِ السَّابِعَةُ(11/35)
فَضِيلَةُ جَابِرٍ فِي أَنَّهُ تَرَكَ حَظَّ نَفْسِهِ مِنْ نِكَاحِ الْبِكْرِ وَاخْتَارَ مَصْلَحَةَ أَخَوَاتِهِ بِنِكَاحِ ثَيِّبٍ تَقُومُ بِمَصَالِحِهِنَّ الثَّامِنَةُ اسْتِحْبَابُ الِابْتِدَاءِ بِالْمَسْجِدِ وَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فِيهِ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ التَّاسِعَةُ اسْتِحْبَابُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ الْعَاشِرَةُ اسْتِحْبَابُ ارجاح الميزان فيما يدفعه الحادية عشر أَنَّ أُجْرَةَ وَزْنِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ لِقَوْلِهِ لَا تُفَارِقُهُ زِيَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ جَوَازُ تَقَدُّمِ بَعْضِ الْجَيْشِ الرَّاجِعِينَ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَنَحْوِهَا وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سبق والله أعلم
(باب جواز اقتراض الحيوان واستحباب توفيته خيرا مما عليه
[1600] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ مَا أَجِدُ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا فَقَالَ أَعْطِهِ إِيَّاهُ فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحَسَنُهُمْ قَضَاءً) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَقَالُوا إِنَّا لَا نَجِدُ إِلَّا سِنًّا هُوَ خَيْرٌ مِنْ سِنِّهِ قَالَ فَاشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَوْ خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِنًّا فَأَعْطَاهُ سِنًّا)(11/36)
فَوْقَهُ وَقَالَ خِيَارُكُمْ مَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً أَمَّا الْبَكْرُ مِنَ الْإِبِلِ فَبِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ الصَّغِيرُ كَالْغُلَامِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْأُنْثَى بَكْرَةٌ وَقَلُوصٌ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ كَالْجَارِيَةِ فَإِذَا اسْتَكْمَلَ سِتَّ سِنِينَ وَدَخَلَ فِي السَّابِعَةِ وَأَلْقَى رَبَاعِيَةً بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ فَهُوَ رَبَاعٌ وَالْأُنْثَى رَبَاعِيَةٌ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَأَعْطَاهُ رَبَاعِيًا بِتَخْفِيفِهَا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِيَارُكُمْ مَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً قَالُوا مَعْنَاهُ ذَوُو الْمَحَاسِنِ سَمَّاهُمْ بِالصِّفَةِ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ مَحْسَنٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ أَحَاسِنُكُمْ جَمْعُ أَحْسَنَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الِاقْتِرَاضِ وَالِاسْتِدَانَةِ وَإِنَّمَا اقْتَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَاجَةِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الْمَغْرَمِ وَهُوَ الدَّيْنُ وَفِيهِ جَوَازُ اقْتِرَاضِ الْحَيَوَانِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُ يَجُوزُ قَرْضُ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ إِلَّا الْجَارِيَةَ لِمَنْ يَمْلِكُ وَطْأَهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ إِقْرَاضُهَا لِمَنْ لَا يَمْلِكُ وَطْأَهَا كَمَحَارِمِهَا وَالْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مذهب المزني وبن جَرِيرٍ وَدَاوُدَ أَنَّهُ يَجُوزُ قَرْضُ الْجَارِيَةِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَالثَّالِثُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَرْضُ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُمُ النَّسْخَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقَرْضِ وَفِيهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ قَرْضٍ وَغَيْرِهِ أَنْ يَرُدَّ أَجْوَدَ مِنَ الَّذِي عَلَيْهِ وَهَذَا مِنَ السُّنَّةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْقَرْضِ وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ فِي الْأَدَاءِ عَمَّا عَلَيْهِ وَيَجُوزُ لِلْمُقْرِضِ أَخْذُهَا سَوَاءٌ زَادَ فِي الصِّفَةِ أَوْ فِي الْعَدَدِ بِأَنْ أَقْرَضَهُ عَشَرَةً فَأَعْطَاهُ أَحَدَ عَشَرَ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْعَدَدِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَحُجَّةُ أَصْحَابِنَا عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً قَوْلُهُ (فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلُ الصَّدَقَةِ إِلَى آخِرِهِ) هَذَا مِمَّا يُسْتَشْكَلُ فَيُقَالُ فَكَيْفَ قَضَى مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ أَجْوَدَ مِنَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْغَرِيمُ مَعَ أَنَّ النَّاظِرَ فِي الصَّدَقَاتِ لَا يَجُوزُ تَبَرُّعُهُ مَنْهَا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(11/37)
اقْتَرَضَ لِنَفْسِهِ فَلَمَّا جَاءَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ اشْتَرَى مِنْهَا بَعِيرًا رَبَاعِيًّا مِمَّنِ اسْتَحَقَّهُ فَمَلَكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَمَنِهِ وَأَوْفَاهُ مُتَبَرِّعًا بِالزِّيَادَةِ مِنْ مَالِهِ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ أَجْوِبَةٌ غَيْرُهُ مِنْهَا أَنَّ الْمُقْتَرِضَ كَانَ بَعْضَ الْمُحْتَاجِينَ اقْتَرَضَ لِنَفْسِهِ فَأَعْطَاهُ مِنَ الصَّدَقَةِ حِينَ جَاءَتْ وَأَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ قَوْلُهُ
[1601] (كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا) فِيهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْكَلَامُ الْمُعْتَادُ فِي الْمُطَالَبَةِ وَهَذَا الْإِغْلَاظُ الْمَذْكُورُ مَحْمُولٌ عَلَى تَشَدُّدٍ فِي الْمُطَالَبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ فِيهِ قَدْحٌ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا يَقْتَضِي الْكُفْرَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَائِلَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ كَانَ كَافِرًا مِنَ الْيَهُودِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَاللَّهُ أعلم(11/38)
(باب جواز بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلا
[1602] قَوْلُهُ (جَاءَ عَبْدٌ فَبَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّهُ عَبْدٌ فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعْنِيهِ فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ ثُمَّ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا بَعْدُ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَعَبْدٌ هُوَ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ سَيِّدَهُ كَانَ مُسْلِمًا وَلِهَذَا بَاعَهُ بِالْعَبْدَيْنِ الْأَسْوَدَيْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا أو أنها كَانَا كَافِرَيْنِ وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ مِلْكِهِ للعبد الذي بايع على الهجرة أما بينة وَإِمَّا بِتَصْدِيقِ الْعَبْدِ قَبْلَ إِقْرَارِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْإِحْسَانِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ خَائِبًا بِمَا قَصَدَهُ مِنَ الْهِجْرَةِ وَمُلَازَمَةِ الصُّحْبَةِ فَاشْتَرَاهُ لِيُتِمَّ لَهُ مَا أَرَادَ وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ عَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْقِيمَةُ مُتَّفِقَةً أَوْ مُخْتَلِفَةً وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِذَا بِيعَ نَقْدًا وَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْحَيَوَانِ فَإِنْ بَاعَ عَبْدًا بِعَبْدَيْنِ أَوْ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إِلَى أَجَلٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ جَوَازُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ لَا يَجُوزُ وَفِيهِ مَذَاهِبُ لِغَيْرِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ)
بَاب الرَّهْنِ وَجَوَازِهِ فِي الْحَضَرِ كَالسَّفَرِ فِي الْبَابِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طعاما(11/39)
إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ) فِيهِ جَوَازُ مُعَامَلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ املاكهم على مافي أَيْدِيهِمْ وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّقَلُّلِ مِنَ الدُّنْيَا وَمُلَازَمَةِ الْفَقْرِ وَفِيهِ جَوَازُ الرَّهْنِ وَجَوَازُ رَهْنِ آلَةِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَجَوَازُ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً إِلَّا مُجَاهِدًا وَدَاوُدَ فَقَالَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي السَّفَرِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى دَلِيلِ خِطَابِ الْآيَةِ وَأَمَّا اشْتِرَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامَ مِنَ الْيَهُودِيِّ وَرَهْنُهُ عِنْدَهُ دُونَ الصَّحَابَةِ فَقِيلَ فَعَلَهُ بَيَانًا لِجَوَازِ ذَلِكَ وَقِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَعَامٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ إِلَّا عِنْدَهُ وَقِيلَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَا يَأْخُذُونَ رَهْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَقْبِضُونَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَعَدَلَ إِلَى مُعَامَلَةِ الْيَهُودِيِّ لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ مُعَامَلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا لم يتحقق تحريم مَا مَعَهُ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يبيع أهل الحرب سلاحا وآلة حرب ولا يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَلَا بَيْعَ مُصْحَفٍ وَلَا الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لِكَافِرٍ مُطْلَقًا وَاللَّهُ أعلم(11/40)
(بَابُ السَّلَمِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ السَّلَمُ وَالسَّلَفُ وَأَسْلَمَ وَسَلَّمَ وَأَسْلَفَ وَسَلَّفَ وَيَكُونُ السَّلَفُ أَيْضًا قَرْضًا وَيُقَالُ اسْتَسْلَفَ قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَشْتَرِكُ السَّلَمُ وَالْقَرْضُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِثْبَاتُ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ بِمَبْذُولٍ فِي الْحَالِ وَذَكَرُوا فِي حَدِّ السَّلَمِ عِبَارَاتٍ أَحْسَنُهَا أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ بِبَذْلٍ يُعْطَى عَاجِلًا سُمِّيَ سَلَمًا لِتَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَسُمِّيَ سَلَفًا لِتَقْدِيمِ رَأْسِ الْمَالِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ
[1604] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَلَّفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) فِيهِ جَوَازُ السَّلَمِ وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُهُ مَعْلُومًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُضْبَطُ بِهِ فَإِنْ كَانَ مَذْرُوعًا كَالثَّوْبِ اشْتُرِطَ ذِكْرُ ذُرْعَانٍ مَعْلُومَةٍ وَإِنْ كَانَ مَعْدُودًا كَالْحَيَوَانِ اشْتُرِطَ ذِكْرُ عَدَدٍ مَعْلُومٍ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ فَلْيَكُنْ كَيْلُهُ مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ فِي مَوْزُونٍ فَليَكُنْ وَزْنًا مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَلْيَكُنْ أَجَلُهُ مَعْلُومًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا اشْتِرَاطُ كَوْنِ السَّلَمِ مُؤَجَّلًا بَلْ يَجُوزُ حَالًّا لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ مؤجلا مع الغرر فجراز الْحَالِّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْغَرَرِ وَلَيْسَ ذِكْرُ الْأَجَلِ فِي الْحَدِيثِ لِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ بَلْ مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ أَجَلٌ فَليَكُنْ مَعْلُومًا كَمَا أَنَّ الْكَيْلَ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ بِالذَّرْعِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْكَيْلَ بِمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ فَلْيَكُنْ كَيْلًا مَعْلُومًا أَوْ فِي مَوْزُونٍ فَلْيَكُنْ وَزْنًا مَعْلُومًا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ السَّلَمِ الْحَالِّ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْمُؤَجَّلِ فَجَوَّزَ الْحَالَّ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ وَأَجْمَعُوا عَلَى اشْتِرَاطِ وَصْفِهِ بِمَا يُضْبَطُ بِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ سَلَّفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ تَمْرٌ بِالْمُثَنَّاةِ وَفِي بَعْضِهَا ثَمَرٌ)(11/41)
بِالْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ أَعَمُّ وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ بِالْوَاوِ لَا بِأَوْ وَمَعْنَاهُ إِنْ أَسْلَمَ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا فَليَكُنْ مَعْلُومًا وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمَكِيلِ وَزْنًا وَهُوَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ وَفِي جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمَوْزُونِ كَيْلًا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا جَوَازُهُ كَعَكْسِهِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ جَمِيعًا عن بن عُيَيْنَةَ) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا عَنِ بن عُيَيْنَةَ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الجلودي ووقع في رواية بن مَاهَانَ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ شُيُوخِهِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ عن بن عُلَيَّةَ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ وَآخَرُونَ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ بن مَاهَانَ قَالُوا وَمَنْ تَأَمَّلَ الْبَابَ عَرَفَ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي لِأَنَّ مُسْلِمًا ذَكَرَ أَوَّلًا حَدِيثَ بن عيينه عن بن أَبِي نَجِيحٍ وَفِيهِ ذِكْرُ الْأَجَلِ ثُمَّ ذَكَرَ حديث عبد الوارث عن بن أَبِي نَجِيحٍ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَجَلِ ثُمَّ ذكر حديث بن علية عن بن أَبِي نَجِيحٍ وَقَالَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ وَلَمْ يَذْكُرْ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ ذَكَرَ حديث سفيان الثوري عن بن أبي نجيح وقال بمثل حديث بن عُيَيْنَةَ يَذْكُرُ فِيهِ الْأَجَلَ(11/42)
(بَاب تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ فِي الْأَقْوَاتِ
[1605] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ) وفي رِوَايَةٍ لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْخَاطِئُ بِالْهَمْزِ هُوَ الْعَاصِي الْآثِمُ وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ قَالَ أَصْحَابُنَا الِاحْتِكَارُ الْمُحَرَّمُ هُوَ الِاحْتِكَارُ فِي الْأَقْوَاتِ خَاصَّةً وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ لِلتِّجَارَةِ وَلَا يَبِيعُهُ فِي الْحَالِ بَلْ يَدَّخِرُهُ ليغلوا ثَمَنُهُ فَأَمَّا إِذَا جَاءَ مِنْ قَرْيَتِهِ أَوِ اشْتَرَاهُ فِي وَقْتِ الرُّخْصِ وَادَّخَرَهُ أَوِ ابْتَاعَهُ فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ لِحَاجَتِهِ إِلَى أَكْلِهِ أَوِ ابْتَاعَهُ لِيَبِيعَهُ فِي وَقْتِهِ فَلَيْسَ بِاحْتِكَارٍ وَلَا تَحْرِيمَ فِيهِ وَأَمَّا غَيْرُ الْأَقْوَاتِ فَلَا يَحْرُمُ الِاحْتِكَارُ فِيهِ بِكُلِّ حَالٍ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ كَمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ طَعَامٌ واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجير عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَعْمَرٍ رَاوِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ فقال بن عبد البر وآخرون إنما كان يَحْتَكِرَانِ الزَّيْتَ وَحَمَلَا الْحَدِيثَ عَلَى احْتِكَارِ الْقُوتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَالْغَلَاءِ وَكَذَا حَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وآخرون وهو الصحيح قَوْلُ مُسْلِمٍ (وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ)(11/43)
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) قَالَ الْغَسَّانِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ الْمَقْطُوعَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى مَقْطُوعًا إِنَّمَا هُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي وَلَا يَضُرُّ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ مُتَابَعَةً وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَّصِلَةٍ بِرِوَايَةِ مَنْ سَمَّاهُمْ مِنَ الثِّقَاتِ وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَقَدْ جَاءَ مُسَمًّى فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ عَنْ خَالِدِ بن عبد الله عن عمر بن يحيى إسناده وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب النَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ
[1606] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلرِّبْحِ)
[1607] وَفِي رِوَايَةٍ إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يمحق المنفقة والممحقة بفتح أولهما وثالثهما واسكان ثانيهما وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الْحَلِفَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مَكْرُوهٌ وَيَنْضَمُّ إليه هنا تَرْوِيجُ السِّلْعَةِ وَرُبَّمَا)(11/44)
اغتر المشتري باليمين والله أعلم
(باب الشفعة
[1608] قَوْلُهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ أَوْ نَخْلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ) وَفِي رِوَايَةٍ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ فَيَأْخُذَ أَوْ يَدَعَ فَإِنْ أَبَى فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الشُّفْعَةُ مِنْ شَفَعْتُ الشَّيْءَ إِذَا ضَمَمْتُهُ وَثَنَيْتُهُ وَمِنْهُ شَفَعَ الْأَذَانَ وَسُمِّيَتْ شُفْعَةً لِضَمِّ نَصِيبٍ إِلَى نَصِيبٍ وَالرَّبْعَةُ وَالرَّبْعُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الباء والربع الدار والمسكن وَمُطْلَقُ الْأَرْضِ وَأَصْلُهُ الْمَنْزِلُ الَّذِي كَانُوا يَرْتَبِعُونَ فِيهِ وَالرَّبْعَةُ تَأْنِيثُ الرَّبْعِ وَقِيلَ وَاحِدَةٌ وَالْجَمْعُ الذي هو اسم الجنس ربع كثمرة وتمر وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ فِي العقار مالم يُقْسَّمْ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْحِكْمَةُ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ إزالة الضرر عن الشريك وحصت بِالْعَقَارِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَنْوَاعِ ضَرَرًا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِي الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْتِعَةِ وَسَائِرِ الْمَنْقُولِ قَالَ الْقَاضِي وَشَذَّ بَعْضُ النَّاسِ فَأَثْبَتَ الشُّفْعَةَ فِي الْعُرُوضِ وَهِيَ)(11/45)
رواية عن عطاء وتثبت في كل شئ حتى في الثوب وكذا حكاها عنه بن الْمُنْذِرِ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْبِنَاءِ الْمُنْفَرِدِ وَأَمَّا الْمَقْسُومُ فَهَلْ تَثْبُتُ فيه الشفعة بالجواز فِيهِ خِلَافٌ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ العلماء لا تثبت بالجوار وحكاه بن الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي الزِّيَادِ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ تَثْبُتُ بِالْجِوَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا فِي عَقَارٍ مُحْتَمِلٍ لِلْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الْحَمَّامِ الصَّغِيرِ وَالرَّحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَيْضًا مَنْ يَقُولُ بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فَهُوَ عام يتناول المسلم والكافر والذمي فتثبت للذمي الشفعة على المسلم كما تثبت للمسلم على الذمي هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا شُفْعَةَ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَفِيهِ ثُبُوتُ الشفعة للأعرابي كثبوتها للمقيم في البلدويه قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وبن الْمُنْذِرِ وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَا شُفْعَةَ لِمَنْ لَا يَسْكُنُ بِالْمِصْرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَى النَّدْبِ إِلَى إِعْلَامِهِ وَكَرَاهَةِ بَيْعِهِ قَبْلَ إِعْلَامِهِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَيَتَأَوَّلُونَ الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا وَيَصْدُقُ عَلَى الْمَكْرُوهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَلَالٍ وَيَكُونُ الْحَلَالُ بِمَعْنَى الْمُبَاحِ وَهُوَ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ وَالْمَكْرُوهُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ بَلْ هُوَ رَاجِحُ التَّرْكِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا لَوْ أَعْلَمَ الشَّرِيكَ(11/46)
بِالْبَيْعِ فَأَذِنَ فِيهِ فَبَاعَ ثُمَّ أَرَادَ الشَّرِيكُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حنيفة واصحابهم وعثمان البتي وبن أَبِي لَيْلَى وَغَيْرُهُمْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ وَقَالَ الْحَكَمُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ وَعَنْ أَحْمَدَ روايتان كالمذهبين والله أعلم
(باب غرز الخشب في جدار الجار
[1609] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ ثم يقول أبو هريرة مالي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ) قَالَ الْقَاضِي رُوِّينَا قَوْلُهُ خَشَبَةً فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْمُصَنَّفَاتِ خَشَبَةً بالإفراد وخشبة بِالْجَمْعِ قَالَ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ رَوْحِ بْنِ الفرج سألت أبا زيد والحرث بْنَ مِسْكِينٍ وَيُونُسَ بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْهُ فَقَالُوا كُلُّهُمْ خَشَبَةً بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْإِفْرَادِ قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ كُلُّ النَّاسِ يَقُولُونَهُ بِالْجَمْعِ إِلَّا الطَّحَاوِيَّ وَقَوْلُهُ بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ هُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ أَيْ بَيْنَكُمْ قَالَ الْقَاضِي قَدْ رَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ أَكْنَافَكُمْ بِالنُّونِ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا بَيْنَكُمْ وَالْكَنَفُ الْجَانِبُ وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنِّي أُصَرِّحُ بِهَا بَيْنَكُمْ وَأُوجِعُكُمْ بِالتَّقْرِيعِ بِهَا كَمَا يُضْرَبُ الْإِنْسَانُ بِالشَّيْءِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ قَوْلُهُ مالي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ أَيْ عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ وَالْخَصْلَةِ وَالْمَوْعِظَةِ أَوِ الْكَلِمَاتِ وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ ابي داود فنكسوا رؤوسهم فقال مالي أَرَاكُمْ أَعْرَضْتُمْ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ هَلْ هُوَ عَلَى النَّدْبِ إِلَى تَمْكِينِ الْجَارِ مِنْ وَضْعِ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ أَمْ عَلَى الْإِيجَابِ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ أَصَحُّهُمَا فِي الْمَذْهَبَيْنِ النَّدْبُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ وَالثَّانِي الْإِيجَابُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَهُوَ ظَاهِرُ الحديث ومن)(11/47)
قَالَ بِالنَّدْبِ قَالَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا عن العمل فلهذا قال مالي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ النَّدْبَ لَا الْإِيجَابَ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَطْبَقُوا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَغَصْبِ الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا
[1610] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ) وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقٍّ طَوَّقَهُ اللَّهُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْأَرَضُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفِيهَا لُغَةٌ قَلِيلَةٌ بِإِسْكَانِهَا حَكَاهَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْأَرَضِينَ سَبْعُ طَبَقَاتٍ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْمُمَاثَلَةِ عَلَى الْهَيْئَةِ وَالشَّكْلِ فَخِلَافُ الظَّاهِرِ وَكَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ سَبْعُ أَرَضِينَ مِنْ سَبْعِ أَقَالِيمَ لِأَنَّ الْأَرَضِينَ سَبْعُ طِبَاقٍ وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ أَبْطَلَهُ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُطَوَّقِ الظَّالِمُ بِشِبْرٍ مِنْ هَذَا الْإِقْلِيمِ شَيْئًا مِنْ إِقْلِيمٍ آخَرَ بِخِلَافِ طِبَاقِ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِهَذَا الشِّبْرِ فِي الْمِلْكِ فَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ مَلَكَهُ وَمَا تَحْتَهُ مِنَ الطِّبَاقِ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ جَاءَ فِي غِلَظِ الْأَرَضِينَ وَطِبَاقِهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ حَدِيثٌ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَأَمَّا التَّطْوِيقُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ فَقَالُوا يَحْتَمِلُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَحْمِلُ مِثْلَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ وَيُكَلَّفُ إِطَاقَةَ ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يُجْعَلُ)(11/48)
لَهُ كَالطَّوْقِ فِي عُنُقِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُطَوَّقُ إِثْمُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ كَلُزُومِ الطَّوْقِ بِعُنُقِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّطْوِيقِ فِي عنقه يطول اللَّهُ تَعَالَى عُنُقُهُ كَمَا جَاءَ فِي غِلَظِ جِلْدِ الْكَافِرِ وَعِظَمِ ضِرْسِهِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ الظُّلْمِ وَتَحْرِيمُ الْغَصْبِ وَتَغْلِيظُ عُقُوبَتِهِ وَفِيهِ إِمْكَانُ غَصْبِ الْأَرْضِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يتصور(11/49)
غَصْبُ الْأَرْضِ
[1612] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ) هُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ أَيْ قَدْرَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ يُقَالُ قِيدَ وَقَادَ وَقِيسَ وَقَاسَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَفِي الْبَابِ حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَنْقَبَةٌ لَهُ وَقَبُولُ دُعَائِهِ وجواز الدعاء على الظالم ومستدل أَهْلِ الْفَضْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(11/50)
(بَاب قَدْرِ الطَّرِيقِ إِذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ سَبْعَ أَذْرُعٍ وَفِي بَعْضِهَا سَبْعَةَ أَذْرُعٍ وَهُمَا صَحِيحَانِ وَالذِّرَاعُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالتَّأْنِيثُ أَفْصَحُ وَأَمَّا قَدْرُ الطَّرِيقِ فَإِنْ جَعَلَ الرَّجُلُ بَعْضَ أَرْضِهِ الْمَمْلُوكَ طَرِيقًا مُسَبَّلَةً لِلْمَارِّينَ فَقَدْرُهَا إِلَى خِيرَتِهِ وَالْأَفْضَلُ تَوْسِيعُهَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ مُرَادَةَ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَ أَرْضٍ لِقَوْمٍ وَأَرَادُوا إِحْيَاءَهَا فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ فَذَاكَ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ جُعِلَ سَبْعَ أَذْرُعٍ وَهَذَا مُرَادُ الْحَدِيثِ أَمَّا إِذَا وَجَدْنَا طَرِيقًا مَسْلُوكًا وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ لَكِنْ لَهُ عِمَارَةُ مَا حَوَالَيْهِ مِنَ الْمَوَاتِ وَيَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ الْمَارِّينَ قَالَ أَصْحَابُنَا وَمَتَى وَجَدْنَا جَادَّةً مُسْتَطْرَقَةً وَمَسْلَكًا مَشْرُوعًا نَافِذًا حَكَمْنَا بِاسْتِحْقَاقِ الِاسْتِطْرَاقِ فِيهِ بِظَاهِرِ الْحَالِ وَلَا يُعْتَبَرُ مُبْتَدَأُ مَصِيرِهِ شَارِعًا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ وَلَا يَحْتَاجُ مَا يَجْعَلُهُ شَارِعًا إِلَى لَفْظٍ فِي مَصِيرِهِ شَارِعًا وَمُسَبَّلًا هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ آخَرُونَ هَذَا فِي الْأَفْنِيَةِ إِذَا أَرَادَ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فَيُجْعَلُ طَرِيقُهُمْ عَرْضُهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ لِدُخُولِ الْأَحْمَالِ وَالْأَثْقَالِ وَمَخْرَجِهَا وَتَلَاقِيهَا قَالَ الْقَاضِي هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الاختلاف كما نص عليه في الحديث فأما إذا اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى قِسْمَتِهَا وَإِخْرَاجِ طَرِيقٍ منها كيف شاؤا فَلَهُمْ ذَلِكَ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا مِلْكُهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ)
(كِتَاب الْفَرَائِضِ هِيَ جَمْعُ فَرِيضَةٍ مِنَ الْفَرْضِ وَهُوَ التَّقْدِيرُ لِأَنَّ سُهْمَانَ الْفُرُوضِ مُقَدَّرَةٌ وَيُقَالُ لِلْعَالِمِ بالفرائض)(11/51)
فَرْضِيٌّ وَفَارِضٌ وَفَرِيضٌ كَعَالِمٍ وَعَلِيمٍ حَكَاهُ الْمُبَرِّدُ وَأَمَّا الْإِرْثُ فِي الْمِيرَاثِ فَقَالَ الْمُبَرِّدُ أَصْلُهُ الْعَاقِبَةُ وَمَعْنَاهُ الِانْتِقَالُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1614] (لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ بِحَذْفِ لَفْظَةِ يَرِثُ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَرِثُ الْكَافِرَ أَيْضًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ وَهُوَ مَذْهَبُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَسْرُوقٍ وَغَيْرِهِمْ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ نَحْوُهُ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ عَنْ هَؤُلَاءِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْإِسْلَامِ يعلو ولا يعلى عليه وحجة الجمهور هنا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ الْإِسْلَامِ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فَضْلُ الْإِسْلَامِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِمِيرَاثٍ فَكَيْفَ يُتْرَكُ بِهِ نَصُّ حَدِيثِ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَعَلَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ لَمْ يَبْلُغْهَا هَذَا الْحَدِيثُ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَرِثُ المرتد عند الشافعي ومالك وربيعة وبن أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِمْ بَلْ يَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ على وبن مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ لَكِنْ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ مَا كَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَالَ الْآخَرُونَ الْجَمِيعُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا تَوْرِيثُ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ مِنْ(11/52)
بَعْضٍ كَالْيَهُودِيِّ مِنَ النَّصْرَانِيِّ وَعَكْسِهِ وَالْمَجُوسِيِّ مِنْهُمَا وهما منه فقال به الشافعي وأبوحنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَآخَرُونَ وَمَنَعَهُ مَالِكٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ لَا يَرِثُ حَرْبِيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ وَلَا ذِمِّيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ قَالَ أَصْحَابُنَا وَكَذَا لَوْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فِي بَلَدَيْنِ مُتَحَارِبَيْنِ لَمْ يتوارثا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1615] (أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) وَفِي رِوَايَةٍ فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ وَفِي رِوَايَةٍ اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ بِأَوْلَى رَجُلٍ أَقْرَبُ رَجُلٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَلْيِ بِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى وَزْنِ الرَّمْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِأَوْلَى هُنَا أَحَقَّ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ الرَّجُلُ أَوْلَى بِمَالِهِ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ هنا على أحق لخلى عَنِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَنْ هُوَ الْأَحَقُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ ذَكَرٌ وَصْفَ الرَّجُلَ بِأَنَّهُ ذَكَرٌ تَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ وَهُوَ الذُّكُورَةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْعُصُوبَةِ وَسَبَبُ التَّرْجِيحِ فِي الْإِرْثِ وَلِهَذَا جُعِلَ للذكر مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الرِّجَالَ تَلْحَقُهُمْ مُؤَنٌ كَثِيرَةٌ بِالْقِيَامِ بِالْعِيَالِ وَالضِّيفَانِ وَالْأَرِقَّاءِ وَالْقَاصِدِينَ وَمُوَاسَاةِ السَّائِلِينَ وَتَحَمُّلِ الْغَرَامَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي تَوْرِيثِ الْعَصَبَاتِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْفُرُوضِ فَهُوَ لِلْعَصَبَاتِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فَلَا يَرِثُ عَاصِبٌ بَعِيدٌ مَعَ وُجُودِ قَرِيبٍ فَإِذَا(11/53)
خَلَّفَ بِنْتًا وَأَخًا وَعَمًّا فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ فَرْضًا وَالْبَاقِي لِلْأَخِ وَلَا شَيْءَ لِلْعَمِّ قَالَ أَصْحَابُنَا وَالْعَصَبَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ كَالِابْنِ وَابْنِهِ وَالْأَخِ وَابْنِهِ وَالْعَمِّ وَابْنِهِ وَعَمِّ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَابْنِهِمَا وَنَحْوِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ الْأَبُ وَالْجَدُّ عَصَبَةً وَقَدْ يَكُونُ لَهُمَا فَرْضٌ فَمَتَى كَانَ لِلْمَيِّتِ بن أو بن ابْنٍ لَمْ يَرِثِ الْأَبُ إِلَّا السُّدُسَ فَرْضًا ومتى لم يكن ولد ولا ولد بن وَرِثَ بِالتَّعْصِيبِ فَقَطْ وَمَتَى كَانَتْ بِنْتٌ أَوْ بنت بن أو بنتان أو بنتا بن أَخَذَ الْبَنَاتُ فَرْضَهُنَّ وَلِلْأَبِ مِنَ الْبَاقِي السُّدُسُ فَرْضًا وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ هَذَا أَحَدُ الْأَقْسَامِ وَهُوَ الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ الْقِسْمُ الثَّانِي الْعَصَبَةُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْبَنَاتُ بِالْبَنِينَ وَبَنَاتُ الِابْنِ بِبَنِي الِابْنِ وَالْأَخَوَاتُ بِالْإِخْوَةِ وَالثَّالِثُ الْعَصَبَةُ مَعَ غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَخَوَاتُ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ مَعَ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ فَإِذَا خَلَّفَ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ فَرْضًا وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ بِالتَّعْصِيبِ وَإِنْ خلف بنتا وبنت بن وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ أَوْ أُخْتًا لِأَبٍ فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ وَإِنْ خَلَّفَ بنتين وبنتي بن وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ وَلَا شَيْءَ لِبِنْتَيِ الِابْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ فَرْضِ جِنْسِ الْبَنَاتِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَحَيْثُ أَطْلَقَ الْعَصَبَةَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ كُلُّ ذَكَرٍ يُدْلِي بِنَفْسِهِ بِالْقَرَابَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ أُنْثَى وَمَتَى انْفَرَدَ الْعَصَبَةُ أَخَذَ جَمِيعَ الْمَالِ وَمَتَى كان مع أصحاب فروض مستغرقة فلا شئ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقُوا كَانَ لَهُ الْبَاقِي بعد فروضهم وأقرب العصبات البنون ثم بنوهم ثُمَّ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخٌ وَالْأَخُ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَدٌّ فَإِنْ كَانَ جَدٌّ وَأَخٌ فَفِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ ثُمَّ بَنُوهُمْ ثُمَّ أَعْمَامُ جَدِّ الْأَبِ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَهَكَذَا وَمَنْ أَدْلَى بِأَبَوَيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ يُدْلِي بِأَبٍ فَيُقَدَّمُ أَخٌ مِنْ أَبَوَيْنِ عَلَى أَخٍ مِنْ أَبٍ وَيُقَدَّمُ عَمٌّ لِأَبَوَيْنِ عَلَى عَمٍّ بِأَبٍ وَكَذَا الْبَاقِي ويقدم الأخ من الأب على بن الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّ جِهَةَ الْأُخُوَّةِ أَقْوَى وأقرب ويقدم بن أَخٍ لِأَبٍ عَلَى عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ وَيُقَدَّمُ عَمٌّ لأب على بن عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ وَكَذَا الْبَاقِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ وَأَخًا لِأَبٍ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ ولا شيء للأخ وقال بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ دُونَ الْأُخْتِ وَهَذَا(11/54)
الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ ظَاهِرٌ فِي الدَّلَالَةِ لِمَذْهَبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[1616] (عَنْ جَابِرٍ مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَعُودَانِي مَاشِيَانِ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ مَاشِيَانِ وَفِي بَعْضِهَا مَاشِيَيْنِ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ أَيْضًا وَتَقْدِيرُهُ وَهُمَا مَاشِيَانِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاسْتِحْبَابُ الْمَشْيِ فِيهَا قَوْلُهُ (فَأُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْتُ) الْوَضُوءُ هُنَا بِفَتْحِ الْوَاوِ الْمَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَفَضْلُ طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَنَحْوِهِمَا وَفَضْلُ مُؤَاكَلَتِهِمْ وَمُشَارَبَتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَفِيهِ ظُهُورُ آثَارِ بَرَكَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ رَدًّا عَلَى أَبِي يُوسُفَ الْقَائِلِ بِنَجَاسَتِهِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَبَّ مِنْ الْمَاءِ الْبَاقِي فِي الْإِنَاءِ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ الْبَرَكَةُ الْعُظْمَى فِيمَا لَاقَى أَعْضَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوءِ والله أعلم قوله (قلت يارسول اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ يَسْتَفْتُونَكَ قل الله يفتيكم في الكلالة) وَفِي رِوَايَةٍ فَنَزَلَتْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ للذكر مثل حظ الانثيين وَفِي رِوَايَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ فِيهِ جَوَازُ وَصِيَّةِ الْمَرِيضِ وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ عَقْلُهُ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِهِ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ وَحُضُورِ عَقْلِهِ وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا(11/55)
الْحَدِيثِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ وَيَتَأَوَّلُونَ هَذَا الْحَدِيثَ وَشَبَهَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ شَيْءٌ فَلِهَذَا لَمْ يَرُدَّ(11/56)
عَلَيْهِ شَيْئًا رَجَاءَ أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْيُ قَوْلُهُ
[1617] (إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنِّي لَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنَ الْكَلَالَةِ مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِيَ فِيهِ حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعَيْهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ يَا عُمَرُ أَلَا يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) أما آية الصيف فلأنها نزلت فِي الصَّيْفِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ إِلَى آخِرِهِ هَذَا مِنْ كَلَامِ عُمَرَ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا أَخَّرَ الْقَضَاءَ فِيهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ظُهُورًا يَحْكُمُ بِهِ فَأَخَّرَهُ حَتَّى يُتِمَّ اجْتِهَادَهُ فِيهِ وَيَسْتَوْفِيَ نَظَرَهُ وَيَتَقَرَّرَ عِنْدَهُ حُكْمُهُ ثُمَّ يَقْضِيَ بِهِ وَيُشِيعَهُ بَيْنَ النَّاسِ وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَغْلَظَ لَهُ لِخَوْفِهِ مِنَ اتِّكَالِهِ وَاتِّكَالِ غَيْرِهِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ صَرِيحًا وَتَرْكِهِمُ الِاسْتِنْبَاطَ مِنَ النُّصُوصِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة لأن النُّصُوصَ الصَّرِيحَةَ لَا تَفِي إِلَّا بِيَسِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْحَادِثَةِ فَإِذَا أُهْمِلَ الِاسْتِنْبَاطُ فَاتَ الْقَضَاءُ في(11/57)
مُعْظَمِ الْأَحْكَامِ النَّازِلَةِ أَوْ فِي بَعْضِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1618] وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّكَلُّلِ وَهُوَ التَّطَرُّفُ فَابْنُ الْعَمِّ مَثَلًا يُقَالُ لَهُ كَلَالَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عَمُودِ النَّسَبِ بَلْ عَلَى طَرَفِهِ وَقِيلَ مِنَ الْإِحَاطَةِ وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ وَهُوَ شِبْهُ عِصَابَةٍ تُزَيَّنُ بِالْجَوْهَرِ فَسُمُّوا كَلَالَةً لِإِحَاطَتِهِمْ بِالْمَيِّتِ مِنْ جَوَانِبِهِ وَقِيلَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ كَلَّ الشَّيْءُ إِذَا بَعُدَ وَانْقَطَعَ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ كَلَّتِ الرَّحِمُ إِذَا بَعُدَتْ وَطَالَ انْتِسَابُهَا وَمِنْهُ كَلَّ فِي مَشْيِهِ إِذَا انْقَطَعَ لِبُعْدِ مَسَافَتِهِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْكَلَالَةِ فِي الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ أَحَدُهَا الْمُرَادُ الْوِرَاثَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَتَكُونُ الْكَلَالَةُ مَنْصُوبَةً عَلَى تَقْدِيرِ يُورَثُ وِرَاثَةً كَلَالَةً وَالثَّانِي أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ ذَكَرًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوْ أُنْثَى كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَقِيمٌ وَامْرَأَةٌ عَقِيمٌ وَتَقْدِيرُهُ يُورَثُ كَمَا يُورَثُ فِي حَالِ كَوْنِهِ كَلَالَةً وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا أبو بكر الصديق وعمر وعلي وبن مسعود وزيد بن ثابت وبن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ اسْمٌ لِلْوَرَثَةِ الَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ احْتَجُّوا بِقَوْلِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ وَلَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَوْرُوثِ قَالَ الشِّيعَةُ الْكَلَالَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ جَدٌّ فَوَرَّثُوا الْإِخْوَةَ مَعَ الْأَبِ قَالَ الْقَاضِي وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ بن عَبَّاسٍ قَالَ وَهِيَ رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ لَا تَصِحُّ عَنْهُ بَلِ الصَّحِيحُ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ قَالَ وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ قَالَ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَرَثَةِ إِذَا كان فيهم جد هل الورثة كلالة أم لَا فَمَنْ قَالَ لَيْسَ الْجَدُّ أَبًا جَعَلَهَا كَلَالَةً وَمَنْ جَعَلَهُ أَبًا لَمْ يَجْعَلْهَا كَلَالَةً قَالَ الْقَاضِي وَإِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ بِنْتٌ فَالْوَرَثَةُ كَلَالَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْعَصَبَاتِ يَرِثُونَ مَعَ الْبِنْتِ وقال بن عَبَّاسٍ لَا تَرِثُ(11/58)
الْأُخْتُ مَعَ الْبِنْتِ شَيْئًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَقَالَتِ الشِّيعَةُ الْبِنْتُ تَمْنَعُ كَوْنَ الْوَرَثَةِ كَلَالَةً لِأَنَّهُمْ لَا يُوَرِّثُونَ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مَعَ الْبِنْتِ شَيْئًا وَيُعْطُونَ الْبِنْتَ كُلَّ الْمَالِ وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وهو يرثها وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ تَوْرِيثَ النِّصْفِ لِلْأُخْتِ بِالْفَرْضِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ فَعَدَمُ الْوَلَدِ شَرْطٌ لِتَوْرِيثِهَا النِّصْفَ فَرْضًا لَا لِأَجْلِ تَوْرِيثِهَا وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ عَدَمَ الْأَبِ فِي الْآيَةِ كَمَا ذَكَرَ عَدَمَ الْوَلَدِ مَعَ أَنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ لَا يَرِثَانِ مَعَ الْأَبِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ قَاعِدَةِ أَصْلِ الْفَرَائِضِ أَنَّ مَنْ أَدْلَى بِشَخْصٍ لَا يَرِثُ مَعَ وُجُودِهِ إِلَّا أَوْلَادُ الْأُمِّ فَيَرِثُونَ مَعَهَا وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مَنْ كَانَ مِنْ أَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ أَبٍ عِنْدَ عَدَمِ الَّذِينَ مِنْ أَبَوَيْنِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ فِي أَوَّلِهَا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وله أخ أو أخت قَوْلُهُ (عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي السفر) هو(11/59)
بِفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ بِإِسْكَانِهَا حَكَاهُ القاضي عن أكثر شيوخهم قوله
[1619] (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لَا يُصَلِّي عَلَى ميت عليه دين إلا وفاه لَهُ) إِنَّمَا كَانَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لِيُحَرِّضَ النَّاسَ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فِي حَيَاتِهِمْ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهَا لِئَلَّا تَفُوتَهُمْ صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَادَ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَقْضِي دَيْنَ مَنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) فِيهِ الْأَمْرُ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ) قِيلَ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْضِيهِ مِنْ مَالِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَقِيلَ مِنْ خَالِصِ مَالِ نَفْسِهِ وَقِيلَ كَانَ هَذَا الْقَضَاءُ وَاجِبًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ وَالْخِلَافُ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَضَاءِ دَيْنِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَقِيلَ يَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَقِيلَ لَا يَجِبُ وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا قَائِمٌ بِمَصَالِحِكُمْ فِي حَيَاةِ أَحَدِكُمْ وَمَوْتِهِ وَأَنَا وَلِيُّهُ فِي الْحَالَيْنِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَضَيْتُهُ مِنْ عِنْدِي إِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً(11/60)
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ لَا آخُذُ مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ خَلَّفَ عِيَالًا مُحْتَاجِينَ ضَائِعِينَ فَلْيَأْتُوا إِلَيَّ فَعَلَيَّ نَفَقَتُهُمْ وَمُؤْنَتُهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا مَوْلَاهُ وَأَيُّكُمْ تَرَكَ مَالًا فَإِلَى الْعَصَبَةِ مَنْ كَانَ) وَفِي رِوَايَةٍ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا أَمَّا الضَّيَاعُ وَالضَّيْعَةُ فَبِفَتْحِ الضَّادِ وَالْمُرَادُ عِيَالٌ مُحْتَاجُونَ ضَائِعُونَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ الضَّيَاعُ وَالضَّيْعَةُ هُنَا وَصْفٌ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ بِالْمَصْدَرِ أَيْ تَرَكَ أَوْلَادًا أَوْ عِيَالًا ذَوِي ضَيَاعٍ أَيْ لَا شَيْءَ لَهُمْ وَالضَّيَاعُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ مَا ضَاعَ ثُمَّ جُعِلَ اسْمًا لِكُلِّ مَا يَعْرِضُ لِلضَّيَاعِ وَأَمَّا الْكَلُّ فَبِفَتْحِ الْكَافِ قَالَ الخطابي وغيره المراد به ها هنا الْعِيَالُ وَأَصْلُهُ الثِّقَلُ وَمَعْنَى أَنَا مَوْلَاهُ أَيْ وليه وناصره والله أعلم(11/61)
(
كتاب الهبات)
(باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه قَوْلُهُ
[1620] (حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) مَعْنَاهُ تَصَدَّقْتُ بِهِ وَوَهَبْتُهُ لِمَنْ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْعَتِيقُ الْفَرَسُ النَّفِيسُ الْجَوَادُ السَّابِقُ قَوْلُهُ (فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ) أَيْ قَصَّرَ في القيام بعلفه أو مؤنته قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَبْتَعْهُ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ) هَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ فَيُكْرَهُ لِمَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ أَوْ أَخْرَجَهُ فِي زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِمَّنْ دَفَعَهُ هُوَ إِلَيْهِ أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يَتَمَلَّكَهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْهُ فَأَمَّا إِذَا وَرِثَهُ مِنْهُ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَكَذَا لَوِ انْتَقَلَ إِلَى ثَالِثٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ الْمُتَصَدِّقُ فَلَا كَرَاهَةَ هَذَا مَذْهَبُنَا ومذهب الجمهور وقام جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ النَّهْيُ عَنْ شِرَاءِ صَدَقَتِهِ للتحريم والله أعلم)(11/62)
(باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض (إلا ما وهبه لولده وأن سفل) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1622] (مَثَلُ الَّذِي يَرْجِعُ فِي صَدَقَتِهِ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ فَيَأْكُلُهُ) هَذَا ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بَعْدَ إِقْبَاضِهِمَا وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ أَمَّا إِذَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفُلَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَلَا رُجُوعَ فِي)(11/64)
هِبَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِيِ الْأَرْحَامِ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ يَرْجِعُ كُلُّ وَاهِبٍ إِلَّا الْوَلَدَ وَكُلَّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ
(باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة
[1623] قَوْلُهُ (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْجِعْهُ) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ فَارْدُدْهُ وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ قَالَ لَا قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ قَالَ فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ فَلَا تُشْهِدْنِي إذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُشْهِدْنِي على جور)(11/65)
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا وَإِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ أَمَّا قَوْلُهُ نَحَلْتُ فَمَعْنَاهُ وَهَبْتُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْهِبَةِ وَيَهَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ الْآخَرِ وَلَا يُفَضِّلَ وَيُسَوِّيَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَكُونُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَلَوْ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ أَوْ وَهَبَ لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَالْهِبَةُ صَحِيحَةٌ وَقَالَ طَاوُسٌ وَعُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُدُ هُوَ حَرَامٌ وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةِ لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ وَبِغَيْرِهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي قَالُوا وَلَوْ كَانَ حَرَامًا أَوْ بَاطِلًا لَمَا قَالَ هَذَا الْكَلَامَ فَإِنْ قِيلَ قَالَهُ تَهْدِيدًا قُلْنَا الْأَصْلُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ غَيْرُ هَذَا وَيَحْتَمِلُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ صِيغَةَ أَفْعِلْ عَلَى الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى الْإِبَاحَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(11/66)
لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ حَرَامٌ لِأَنَّ الْجَوْرَ هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الِاسْتِوَاءِ وَالِاعْتِدَالِ وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنِ الِاعْتِدَالِ فَهُوَ جور سواءكان حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا وَقَدْ وَضَحَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ فَيَجِبُ تَأْوِيلُ الْجَوْرِ عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هِبَةَ بَعْضِ الْأَوْلَادِ دُونَ بَعْضٍ صَحِيحَةٌ وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَهَبِ الْبَاقِينَ مِثْلَ هَذَا اسْتُحِبَّ رَدُّ الْأَوَّلِ قَالَ أَصْحَابُنَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَهَبَ الْبَاقِينَ مِثْلَ الْأَوَّلِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ اسْتُحِبَّ رَدُّ الْأَوَّلِ وَلَا يَجِبُ وَفِيهِ جَوَازُ رُجُوعِ الْوَالِدِ فِي هِبَتِهِ لِلْوَلَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهُوبَةِ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَتَقْدِيرُ الْأَوَّلِ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ الْمَوْهُوبَةِ قَوْلُهُ (فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً) أَيْ مَطَلَهَا(11/67)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَارِبُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ) قَالَ الْقَاضِي رُوِّينَاهُ قَارِبُوا بالْبَاءِ مِنَ الْمُقَارَبَةِ وَبِالنُّونِ مِنَ الْقِرَانِ وَمَعْنَاهُمَا صَحِيحٌ أَيْ سَوُّوا بَيْنَهُمْ فِي أَصْلِ الْعَطَاءِ وَفِي قَدْرِهِ قَوْلُهَا (انْحَلِ
[1624] ابْنِي غُلَامَكَ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ يُقَالُ نَحَلَ يَنْحَلُ كَذَهَبَ يَذْهَبُ
(بَاب الْعُمْرَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى
[1625] الَّذِي أَعْطَاهَا لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ) وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَقَدْ قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ فِيهَا وَهِيَ لِمَنْ أَعْمَرَ وَلِعَقِبِهِ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ جَابِرٌ إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ فَأَمَّا إِذَا قَالَ هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلى)(11/69)
صَاحِبِهَا وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ الْعُمْرَى جَائِزَةٌ وَفِي رِوَايَةٍ الْعُمْرَى مِيرَاثٌ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ العلماء العمرى قوله أعمرتك هذه الدار مئلا أَوْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ أَوْ حَيَاتَكَ أَوْ مَا عِشْتَ أَوْ حَيِيتَ أَوْ بَقِيتَ أَوْ مَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى وَأَمَّا عَقِبُ الرَّجُلِ فبكسر القاف ويجور إِسْكَانُهَا مَعَ فَتْحِ الْعَيْنِ وَمَعَ كَسْرِهَا كَمَا فِي نَظَائِرِهِ وَالْعَقِبُ هُمْ أَوْلَادُ الْإِنْسَانِ مَا تَنَاسَلُوا قَالَ أَصْحَابُنَا الْعُمْرَى ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا أَنْ يَقُولَ أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِوَرَثَتِكَ أَوْ لِعَقِبِكَ فَتَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ وَيَمْلِكُ بِهَذَا اللَّفْظِ رَقَبَةَ الدَّارِ وَهِيَ هِبَةٌ لَكِنَّهَا بِعِبَارَةٍ طَوِيلَةٍ فَإِذَا مَاتَ فَالدَّارُ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَلِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا تَعُودُ إِلَى الْوَاهِبِ بِحَالٍ خِلَافًا لِمَالِكٍ الحالُ الثَّانِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمَا سِوَاهُ فَفِي صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ صِحَّتُهُ وَلَهُ حُكْمُ الْحَالِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنَّمَا الْقَوْلُ الْقَدِيمُ أَنَّ الدَّارَ تَكُونُ لِلْمُعْمَرِ حَيَاتَهُ فَإِذَا مَاتَ عَادَتْ إِلَى الْوَاهِبِ أَوْ وَرَثَتِهِ لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِهَا حَيَاتَهُ فَقَطْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْقَدِيمُ أَنَّهَا(11/70)
عَارِيَةٌ يَسْتَرِدُّهَا الْوَاهِبُ مَتَى شَاءَ فَإِذَا مَاتَ عَادَتْ إِلَى وَرَثَتِهِ الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ فَإِذَا مِتَّ عَادَتْ إِلَيَّ أَوْ إِلَى وَرَثَتِي إِنْ كُنْتُ مِتُّ فَفِي صِحَّتِهِ خِلَافٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَهُ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ وَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْحَالِ الْأَوَّلِ وَاعْتَمَدُوا عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُطْلَقَةِ الْعُمْرَى جَائِزَةٌ وَعَدَلُوا بِهِ عَنْ قِيَاسِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَمْلِكُهَا مِلْكًا تَامًّا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ هَذَا مَذْهَبُنَا وَقَالَ أَحْمَدُ تَصِحُّ الْعُمْرَى الْمُطْلَقَةُ دُونَ الْمُؤَقَّتَةِ وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ الْعُمْرَى فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ تَمْلِيكٌ لِمَنَافِعِ الدَّارِ مَثَلًا وَلَا يَمْلِكُ فِيهَا رَقَبَةَ الدَّارِ بِحَالٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالصِّحَّةِ كَنَحْوِ مَذْهَبِنَا وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَهِيَ لَهُ بتلة) أي عطية ماضية غَيْرُ رَاجِعَةٍ إِلَى الْوَاهِبِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم(11/71)
(أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا إِلَى آخِرِهِ) الْمُرَادُ بِهِ إِعْلَامُهُمْ أَنَّ الْعُمْرَى هِبَةٌ صَحِيحَةٌ مَاضِيَةٌ يَمْلِكُهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ مِلْكًا تَامًّا لَا يَعُودُ إِلَى الْوَاهِبِ أَبَدًا فَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ فَمَنْ شَاءَ أَعْمَرَ وَدَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهَا كَالْعَارِيَةِ وَيُرْجَعُ فِيهَا وَهَذَا دَلِيلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ وَاللَّهُ أعلم(11/72)
قَوْلُهُ (اخْتَصَمُوا إِلَى طَارِقٍ مَوْلَى عُثْمَانَ) هُوَ طَارِقُ بْنُ عَمْرٍو وَلَّاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مروان المدينة بعد امارة بن الزبير(11/73)
(كِتَابُ الْوَصِيَّةِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ وَصَيْتُ الشَّيْءَ أُوصِيهِ إِذَا وَصَلْتُهُ وَسُمِّيَتْ وَصِيَّةً لِأَنَّهُ وَصَلَ مَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ بِمَا بَعْدَهُ وَيُقَالُ وَصَّى وَأَوْصَى إِيصَاءً وَالِاسْمُ الْوَصِيَّةُ وَالْوَصَاةُ وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ كِتَابِ الْوَصِيَّةِ هُوَ ابْتِدَاءُ الْفَوَاتِ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فَاتَتْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ صَاحِبَ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَسْمَعْهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فِي الْفُصُولِ الَّتِي فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْحِ وَسَبَقَ أَحَدُ الْمَوَاضِعِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَهَذَا أَوَّلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ وَاللَّفْظُ لِابْنِ مُثَنَّى قالا حدثنا يحيى وهو بن سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي نافع عن بن عُمَرَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ
[1627] فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثُ لَيَالٍ فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَمْرِ بِهَا لَكِنَّ مَذْهَبَنَا وَمَذْهَبَ الْجَمَاهِيرِ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ لَا وَاجِبَةٌ وَقَالَ دَاوُدُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ هِيَ وَاجِبَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَا دَلَالَةَ لَهُمْ فِيهِ فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِإِيجَابِهَا لَكِنْ إن)(11/74)
كان على الإنسان دين أوحق أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَنَحْوُهَا لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمُسْلِمِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا وَأَنْ يَكْتُبَهَا فِي صِحَّتِهِ وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ فِيهَا وَيَكْتُبُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَإِنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَصِيَّةِ بِهِ أَلْحَقَهُ بِهَا قَالُوا وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ يَوْمٍ مُحَقَّرَاتِ الْمُعَامَلَاتِ وجزيئات الْأُمُورِ الْمُتَكَرِّرَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ فَمَعْنَاهُ مَكْتُوبَةٌ وَقَدْ أشهد(11/75)
عَلَيْهِ بِهَا لَا أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْكِتَابَةِ بَلْ لَا يُعْمَلُ بِهَا وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَا هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكْفِي الْكِتَابُ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِلْإِمَامِ كَاسْتِحْبَابِهَا لِآحَادِ النَّاسِ وَمَعْنَى أَشْفَيْتُ عَلَى الْمَوْتِ أي قاربته وَأَشْرَفْتُ عَلَيْهِ يُقَالُ أَشْفَى عَلَيْهِ وَأَشَافَ قَالَهُ الهروى وقال بن قُتَيْبَةَ لَا يُقَالُ أَشْفَى إِلَّا فِي الشَّرِّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ الْوَجَعُ اسْمٌ لِكُلِّ مَرَضٍ وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَرِيضِ مَا يَجِدُهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مِنْ مُدَاوَاةٍ أَوْ دُعَاءِ صَالِحٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوِ اسْتِفْتَاءٍ عَنْ حَالِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّسَخُّطِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ قَادِحٌ فِي أَجْرِ مَرَضِهِ قَوْلُهُ (وَأَنَا ذُو مَالٍ) دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ جَمْعِ الْمَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ إِلَّا لِمَالٍ كَثِيرٍ قَوْلُهُ (وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي) أَيْ وَلَا يَرِثُنِي مِنَ الْوَلَدِ وَخَوَاصِّ الْوَرَثَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَرِثُنِي مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ قَوْلُهُ (أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ لَا الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) بِالْمُثَلَّثَةِ وَفِي بَعْضٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَالَ الْقَاضِي يَجُوزُ نَصْبُ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَرَفْعُهُ أَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الْإِغْرَاءِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أَعْطِ الثُّلُثَ وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ يَكْفِيكَ الثُّلُثُ أو أنه(11/76)
مُبْتَدَأٌ وَحُذِفَ خَبَرُهُ أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الْعَدْلِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ تَبَرُّعًا وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنْقِصَ مِنَ الثُّلُثِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وَارِثٌ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِإِجَازَتِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى نُفُوذِهَا بِإِجَازَتِهِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ وَأَمَّا مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ علي وبن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَمَّا قَوْلُهُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّدَقَةِ الْوَصِيَّةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّدَقَةَ الْمُنَجَّزَةَ وَهُمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً سَوَاءٌ لَا يَنْفُذُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِرِضَا الْوَارِثِ وَخَالَفَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا لِلْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ وَيَتَبَرَّعُ بِهِ كَالصَّحِيحِ وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرُ حَدِيثِ الثُّلُثُ كَثِيرٌ مَعَ حَدِيثِ الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ فِي مَرَضِهِ فَأَعْتَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) الْعَالَةُ الْفُقَرَاءُ وَيَتَكَفَّفُونَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ فِي أَكُفِّهِمْ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ رُوِّينَا قَوْلُهُ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَأَنَّ صِلَةَ الْقَرِيبِ الْأَقْرَبِ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَبْعَدِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى تَرْجِيحِ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ بِنِيَّتِهِ وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعِيَالِ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ طَاعَةً وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ الْإِنْسَانِ هِيَ مِنْ أَخَصِّ حُظُوظِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَشَهَوَاتِهِ وملاذه المباحة(11/77)
وَإِذَا وَضَعَ اللُّقْمَةَ فِي فِيهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْمُبَاحِ فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الطَّاعَةِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهَذِهِ اللُّقْمَةِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ فَغَيْرُ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى بِحُصُولِ الْأَجْرِ إِذَا أَرَادَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَقَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى يُثَابُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّوْمِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لِيَقُومَ إِلَى الْعِبَادَةِ نَشِيطًا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ لِيَكُفَّ نَفْسَهُ وَبَصَرَهُ وَنَحْوِهِمَا عن الحرام وليقضي حقها وليحصل وَلَدًا صَالِحًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً) فَقَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ أُخَلَّفُ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِي فَقَالَهُ إِمَّا إِشْفَاقًا مِنْ مَوْتِهِ بِمَكَّةَ لِكَوْنِهِ هَاجَرَ مِنْهَا وَتَرَكَهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَخَشِيَ أَنْ يَقْدَحَ ذَلِكَ فِي هِجْرَتِهِ أَوْ فِي ثَوَابِهِ عَلَيْهَا أَوْ خَشِيَ بقاءه بِمَكَّةَ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الرُّجُوعَ فِيمَا تَرَكُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أُخَلَّفُ عن هجرته قَالَ الْقَاضِي قِيلَ كَانَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقِيًا بَعْدَ الْفَتْحِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقِيلَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ فَأَمَّا مَنْ هَاجَرَ بَعْدَهُ فَلَا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عملا فالمراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه وفي هذا الحديث فضيلة طُولَ الْعُمْرِ لِلِازْدِيَادِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْحَثِّ عَلَى إِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَنْتَفِعَ بِزِيَادَةِ التَّاءِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَاشَ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقَ وَغَيْرَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ أَقْوَامٌ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَتَضَرَّرَ بِهِ الْكُفَّارُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِنَّهُمْ قُتِلُوا وَصَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَدِيَارُهُمْ وَوَلِيَ الْعِرَاقَ فَاهْتَدَى(11/78)
عَلَى يَدَيْهِ خَلَائِقُ وَتَضَرَّرَ بِهِ خَلَائِقُ بِإِقَامَتِهِ الْحَقَّ فِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَنَحْوِهِمْ قَالَ الْقَاضِي قِيلَ لَا يُحْبِطُ أَجْرَ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِ بَقَاؤُهُ بِمَكَّةَ وَمَوْتُهُ بِهَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ وَإِنَّمَا كَانَ يُحْبِطُهُ مَا كَانَ بِالِاخْتِيَارِ قَالَ وَقَالَ قَوْمٌ مَوْتُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ مُحْبِطٌ هِجْرَتَهُ كَيْفَمَا ما كَانَ قَالَ وَقِيلَ لَمْ تُفْرَضِ الْهِجْرَةُ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) قَالَ الْقَاضِي اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ كَيْفَ كَانَ قَادِحٌ فِي هِجْرَتِهِ قَالَ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عِنْدِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ دُعَاءً عَامًّا وَمَعْنَى أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ أَيْ أتممها ولاتبطلها وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِتَرْكِ هِجْرَتِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ مُسْتَقِيمِ حَالِهِمُ الْمَرْضِيَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ) الْبَائِسُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَثَرُ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْقِلَّةُ قَوْلُهُ (يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلِ انْتَهَى كَلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فَقَالَ الرَّاوِي تَفْسِيرًا لِمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَرْثِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَجَّعُ لَهُ وَيَرِقُّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّةَ وَاخْتَلَفُوا فِي قَائِلِ هَذَا الْكَلَامِ مَنْ هُوَ فَقِيلَ هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ الْقَاضِي وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ فَقِيلَ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ هَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مكة ومات بها وقال بن هِشَامٍ إِنَّهُ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ وشهد بدار وَغَيْرَهَا وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَقِيلَ تُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ فِي الْهُدْنَةِ خَرَجَ مُجْتَازًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَعَلَى هَذَا(11/79)
وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ سَبَبُ بُؤْسِهِ سُقُوطُ هِجْرَتِهِ لِرُجُوعِهِ مُخْتَارًا وَمَوْتِهِ بِهَا وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ سَبَبُ بُؤْسِهِ مَوْتُهُ بِمَكَّةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْكَامِلِ بِالْمَوْتِ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَالْغُرْبَةِ عَنْ وَطَنِهِ إِلَى هجرة الله تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَجُلًا وَقَالَ لَهُ إِنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فَلَا تَدْفِنْهُ بِهَا وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ هَذَا هُوَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ هَذَا جَوَازُ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَفَرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْفَاءِ وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِالْكُوفَةِ كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَسْكُنُهَا هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَأَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاسْمُ أَبِي دَاوُدَ هَذَا عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ الثقة الزاهد الصالح العابد قال علي الْمَدِينِيِّ مَا أَعْلَمُ أَنِّي(11/80)
رَأَيْتُ بِالْكُوفَةِ أَعْبَدَ مِنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ وَقَالَ وَكِيعٌ إِنْ كَانَ يُدْفَعُ بِأَحَدٍ فِي زَمَانِنَا يَعْنِي الْبَلَاءَ وَالنَّوَازِلَ فَبِأَبِي دَاوُدَ تُوُفِّيَ سنة ثلاث وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ (عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ قَالُوا مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُرْسَلَةٌ وَالْأُولَى مُتَّصِلَةٌ لِأَنَّ أَوْلَادَ سَعْدٍ تَابِعِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ لِيُبَيِّنَ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا وَشَبَهُهُ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي وَعَدَ مُسْلِمٌ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ أَنَّهُ يَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا فَظَنَّ ظَانُّونَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مُفْرَدَةً وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذِكْرِهَا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي تَضَاعِيفِ كِتَابِهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ في أول هذا الشرح ولا بقدح هَذَا الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا فِي صِحَّةِ أَصْلِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ ثابت من طرق من غير جهة حميد عَنْ أَوْلَادِ سَعْدٍ وَثَبَتَ وَصْلُهُ عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ(11/81)
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْحِ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا رُوِيَ مُتَّصِلًا وَمُرْسَلًا فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مَحْكُومٌ بِاتِّصَالِهِ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ ثِقَةٍ وَقَدْ عَرَّضَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِتَضْعِيفِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنِ اعْتِرَاضِهِ الْآنَ وَفِي مَوَاضِعَ نَحْوَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنِ بن عَبَّاسٍ قَالَ لَوْ أَنَّ
[1629] النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبْعِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ(11/82)
قَوْلُهُ غَضُّوا بِالْغَيْنِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ نَقَصُوا وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ النَّقْصِ عَنِ الثُّلُثِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مُطْلَقًا وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ اسْتُحِبَّ الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ وَإِلَّا فَيُسْتَحَبُّ النَّقْصُ مِنْهُ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عنه أنه أوصى بالخمس وعن علي رضي الله عنه نحوه وعن بن عُمَرَ وَإِسْحَاقَ بِالرُّبْعِ وَقَالَ آخَرُونَ بِالسُّدُسِ وَآخَرُونَ بِدُونِهِ وَقَالَ آخَرُونَ بِالْعُشْرِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانُوا يَكْرَهُونَ الْوَصِيَّةَ بِمِثْلِ نصيب أحد الورثة وروى عن علي وبن عباس وعائشة وغيرهم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَهُ وَرَثَةٌ وَمَالُهُ قَلِيلٌ تَرْكُ الْوَصِيَّةِ قَوْلُهُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ حدثنا بن نُمَيْرٍ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ بن عَبَّاسٍ هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ الْجُلُودِيِّ فَفِي جَمِيعِهَا أَبُو كُرَيْبٍ وذكر القاضي أنه وقع في نسخة بن مَاهَانَ أَبُو كُرَيْبٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَفِي نُسْخَةِ الْجُلُودِيِّ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بَدَلَ أَبِي كُرَيْبٍ والصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب وُصُولِ ثَوَابِ الصَّدَقَاتِ إِلَى الْمَيِّتِ
[1630] قَوْلُهُ (إِنَّ أَبِي مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا وَلَمْ يُوصِ فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ) وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ)(11/83)
نَفْسُهَا وَإِنِّي أَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ فَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ قَوْلُهُ (افْتُلِتَتْ) بِالْفَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ أَيْ مَاتَتْ بَغْتَةً وَفَجْأَةً وَالْفَلْتَةُ وَالِافْتِلَاتُ مَا كَانَ بَغْتَةً وَقَوْلُهُ نَفْسُهَا بِرَفْعِ السِّينِ وَنَصْبِهَا هَكَذَا ضَبَطُوهُ وَهُمَا صحيحان الرفع على مالم يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَالنَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَأَمَّا قَوْلُهُ أَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ مَعْنَاهُ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ حِرْصِهَا عَلَى الْخَيْرِ أَوْ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ رَغْبَتِهَا فِي الْوَصِيَّةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ 1 جَوَازُ الصَّدَقَةِ عَنْ الْمَيِّتِ 2 وَاسْتِحْبَابُهَا 3 وَأَنَّ ثَوَابَهَا يَصِلُهُ وَيَنْفَعُهُ 4 وَيَنْفَعُ الْمُتَصَدِّقَ أَيْضًا وَهَذَا كُلُّهُ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْحِ فِي شَرْحِ مُقَدِّمَةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ 5 وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ التَّصَدُّقُ عَنْ مَيِّتِهِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ الثَّابِتَةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ وَجَبَ قَضَاؤُهَا مِنْهَا سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ أَمْ لَا وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سَوَاءٌ دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ وَبَدَلِ الصَّوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَدَيْنِ الْآدَمِيِّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ لَمْ يَلْزَمِ الْوَارِثَ قَضَاءُ دَيْنِهِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ قَضَاؤُهُ قَوْلُهُ(11/84)
فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ أَيْ هَلْ تُكَفِّرُ صَدَقَتِي عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته
[1631] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ عَمَلَ الْمَيِّتِ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ وَيَنْقَطِعُ تَجَدُّدُ الْثوَابِ لَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبَهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي خَلَّفَهُ مِنْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَصْنِيفٍ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ وَهِيَ الْوَقْفُ وَفِيهِ فَضِيلَةُ الزَّوَاجِ لِرَجَاءِ وَلَدٍ صَالِحٍ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِصِحَّةِ أَصْلِ الْوَقْفِ وَعَظِيمِ ثَوَابِهِ وَبَيَانُ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَالْحَثُّ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ وَالتَّرْغِيبُ فِي تَوْرِيثِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّصْنِيفِ وَالْإِيضَاحِ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْعُلُومِ الْأَنْفَعَ فَالْأَنْفَعَ وَفِيهِ أَنَّ الدُّعَاءَ يَصِلُ ثَوَابُهُ إِلَى الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَهُمَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا وَكَذَلِكَ قَضَاءُ الدَّيْنِ كَمَا سَبَقَ وَأَمَّا الْحَجُّ فَيَجْزِي عَنِ الْمَيِّتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ وَهَذَا دَاخِلٌ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ إِنْ كَانَ حَجًّا وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا وصى به فهو مِنْ بَابِ الْوَصَايَا وَأَمَّا إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَلِيَّ يَصُومُ عَنْهُ وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَجَعْلُ ثَوَابِهَا لِلْمَيِّتِ وَالصَّلَاةُ عَنْهُ وَنَحْوُهُمَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهَا لَا تَلْحَقُ الْمَيِّتَ وَفِيهَا خِلَافٌ وَسَبَقَ إِيضَاحُهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْحِ في شرح مقدمة صحيح مسلم)(11/85)
(
[1632]
قَوْلُهُ (أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ قَالَ إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ قَالَ فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وبن السبيل والضعيف لاجناح عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ) وَفِي رِوَايَةٍ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا أَمَّا قَوْلُهُ هُوَ أَنْفَسُ فَمَعْنَاهُ أَجْوَدُ وَالنَّفِيسُ الْجَيِّدُ وَقَدْ نَفُسَ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْفَاءِ نَفَاسَةً وَاسْمُ هَذَا الْمَالِ الَّذِي وَقَفَهُ عُمَرُ ثَمْغٌ بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مِيمٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ فَمَعْنَاهُ غَيْرُ جَامِعٍ وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ أَصْلٌ قَدِيمٌ أَوْ جُمِعَ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ أَصْلٌ فَهُوَ مُؤَثَّلٌ وَمِنْهُ مَجْدٌ مُؤَثَّلٌ أَيْ قَدِيمٌ وَأَثْلَةُ الشَّيْءِ أَصْلُهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ أَصْلِ الْوَقْفِ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِشَوَائِبِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْمَسَاجِدِ وَالسِّقَايَاتِ وَفِيهِ أَنَّ الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث إنما يتبع فيه شرط الواقف وفيه صحة شروط الواقف وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْوَقْفِ وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْإِنْفَاقِ مِمَّا يُحِبُّ وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ مُشَاوَرَةُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ فِي الْأُمُورِ وَطُرُقِ الْخَيْرِ وَفِيهِ أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ)(11/86)
عَنْوَةً وَأَنَّ الْغَانِمِينَ مَلَكُوهَا وَاقْتَسَمُوهَا وَاسْتَقَرَّتْ أَمْلَاكُهُمْ عَلَى حِصَصِهِمْ وَنَفَذَتْ تَصَرُّفَاتُهُمْ فِيهَا وَفِيهِ فَضِيلَةُ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْوَقْفِ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ يَأْكُلُ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ فَمَعْنَاهُ يَأْكُلُ الْمُعْتَادَ وَلَا يَتَجَاوَزُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَرْكِ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ له شئ يُوصِي فِيهِ قَوْلُهُ (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ) هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَحُكِيَ فَتْحُ الرَّاءِ
[1634] وَالصَّوَابُ الْمَشْهُورُ كَسْرُهَا قَوْلُهُ (سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى هَلْ أَوْصَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)(11/87)
فَقَالَ لَا قُلْتُ فَلِمَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةُ أَوْ فَلِمَ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ قَالَ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى)
[1635] وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا وَلَا أَوْصَى بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ
[1636] عَنْهُ كَانَ وَصِيًّا فَقَالَتْ مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ فَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِي أَوْ قَالَتْ حِجْرِي فَدَعَا بِالطَّسْتِ فَلَقَدِ انْخَنَثَ فِي حِجْرِي وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ مَاتَ فَمَتَى أَوْصَى أَمَّا قَوْلُهَا انْخَنَثَ فَمَعْنَاهُ مَالَ وَسَقَطَ وَأَمَّا حِجْرُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ حِجْرُ ثَوْبِهِ فَبِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ لَمْ يُوصِ فَمَعْنَاهُ لَمْ يُوصِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا غَيْرِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ مَا يَزْعُمُهُ الشِّيعَةُ وَأَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بخيبر وفدك فقد سلبها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَنَجَّزَ الصَّدَقَةَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي وَصِيَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَوَصِيَّتِهِ بِأَهْلِ بَيْتِهِ وَوَصِيَّتِهِ بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَبِإِجَازَةِ الْوَفْدِ فَلَيْسَتْ مُرَادَةً بِقَوْلِهِ لَمْ يُوصِ إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ مَقْصُودُ السَّائِلِ عَنِ الْوَصِيَّةِ فَلَا مُنَاقَضَةَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَقَوْلُهُ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ أَيْ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ نَصًّا وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ فَلِمَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةُ فَمُرَادُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إن ترك خيرا الوصية وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ السَّائِلَ أَرَادَ بِكَتْبِ الْوَصِيَّةِ النَّدْبَ إِلَيْهَا(11/88)
والله أعلم قوله
[1637] (عن بن عَبَّاسٍ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ) مَعْنَاهُ تَفْخِيمُ أَمْرِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْمَكْرُوهِ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ بن عباس وهو امتناع الكتاب ولهذا قال بن عَبَّاسٍ الرَّزِيَّةُ كُلُّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أن يكتب هذا الكتاب هذا مراد بن عَبَّاسٍ وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ تَرْكَ الْكِتَابِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اشْتَدَّ وَجَعُهُ (ائْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ أَوِ اللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا فَقَالُوا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهْجُرُ) وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ(11/89)
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَرَادَ الْكِتَابَ وَبَعْضَهُمْ وَافَقَ عُمَرَ وَأَنَّهُ لَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُومُوا اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ وَمِنْ تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَحَالِ مَرَضِهِ وَمَعْصُومٌ مِنْ تَرْكِ بَيَانِ مَا أُمِرَ بِبَيَانِهِ وَتَبْلِيغِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ تَبْلِيغَهُ وَلَيْسَ مَعْصُومًا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ الْعَارِضَةِ لِلْأَجْسَامِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا نَقْصَ فِيهِ لِمَنْزِلَتِهِ وَلَا فَسَادَ لِمَا تَمَهَّدَ مِنْ شَرِيعَتِهِ وَقَدْ سُحِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَارَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ وَلَمْ يَصْدُرْ منه صلى الله عليه وسلم وفي هَذَا الْحَالِ كَلَامٌ فِي الْأَحْكَامِ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي قَرَّرَهَا فَإِذَا عَلِمْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي هَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَقِيلَ أَرَادَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى الْخِلَافَةِ فِي إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ لِئَلَّا يَقَعَ نِزَاعٌ وَفِتَنٌ وَقِيلَ أَرَادَ كِتَابًا يُبَيِّنُ فِيهِ مُهِمَّاتِ الْأَحْكَامِ مُلَخَّصَةً لِيَرْتَفِعَ النِّزَاعُ فِيهَا وَيَحْصُلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ بِالْكِتَابِ حِينَ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَرْكُهُ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَنُسِخَ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ وَأَمَّا كَلَامُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ فِقْهِ عُمَرَ وَفَضَائِلِهِ وَدَقِيقِ نَظَرِهِ لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكْتُبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُورًا رُبَّمَا عَجَزُوا عَنْهَا وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَنْصُوصَةٌ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهَا فَقَالَ عُمَرُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى مَا فَرَّطْنَا في الكتاب من شيء وقوله اليوم أكملت لكم دينكم فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ دِينَهُ فَأَمِنَ الضَّلَالَ عَلَى الْأُمَّةِ وَأَرَادَ التَّرْفِيهَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ عُمَرُ أفقه من بن عَبَّاسٍ وَمُوَافِقِيهِ قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِهِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ إِنَّمَا قَصَدَ عُمَرُ التَّخْفِيفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يكتب مالا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ لَمْ يَتْرُكْهُ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَا لِغَيْرِهِ لقوله تعالى بلغ ما أنزل إليك كَمَا لَمْ يَتْرُكْ تَبْلِيغَ غَيْرِ ذَلِكَ لِمُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَهُ وَمُعَادَاةِ مَنْ عَادَاهُ وَكَمَا أَمَرَ فِي ذَلِكَ الْحَالِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَدْ حَكَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ اسْتِخْلَافَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ(11/90)
تَعَالَى ذَلِكَ كَمَا هَمَّ بِالْكِتَابِ فِي أَوَّلِ مَرَضِهِ حِينَ قَالَ وَارَأْسَاهُ ثُمَّ تَرَكَ الْكِتَابَ وَقَالَ يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ نَبَّهَ أُمَّتَهُ عَلَى اسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ بِتَقْدِيمِهِ إِيَّاهُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بَيَانَ أَحْكَامِ الدِّينِ وَرَفْعِ الْخِلَافِ فِيهَا فَقَدْ عَلِمَ عُمَرُ حُصُولَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا تَقَعُ وَاقِعَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَفِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ بَيَانُهَا نَصًّا أَوْ دَلَالَةً وَفِي تَكَلُّفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ مَعَ شِدَّةِ وَجَعِهِ كِتَابَةَ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ وَرَأَى عُمَرُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ إِيَّاهُ نَصًّا أَوْ دلالة تخفيفا عليه ولئلا ينسد بَابُ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَإِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ وَقَدْ كَانَ سَبَقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَكَّلَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ إِلَى اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ وَجَعَلَ لَهُمُ الْأَجْرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَرَأَى عُمَرُ الصَّوَابَ تَرْكُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضِيلَةِ الْعُلَمَاءِ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ التَّخْفِيفِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِنْكَارَ عَلَى عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِصْوَابِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ تَوَهَّمَ الْغَلَطَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ظَنَّ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ بِحَالٍ لَكِنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا غَلَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَجَعِ وَقُرْبِ الْوَفَاةِ مَعَ مَا اعْتَرَاهُ مِنَ الْكَرْبِ خَافَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِمَّا يَقُولُهُ الْمَرِيضُ مِمَّا لَا عَزِيمَةَ لَهُ فِيهِ فَتَجِدُ الْمُنَافِقُونَ بِذَلِكَ سَبِيلًا إِلَى الْكَلَامِ فِي الدِّينِ وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاجِعُونَهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ قَبْلَ أَنْ يَجْزِمَ فِيهَا بِتَحْتِيمٍ كَمَا رَاجَعُوهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْخِلَافِ وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فَأَمَّا إِذَا أَمَرَ بِالشَّيْءِ أَمْرَ عَزِيمَةٍ فَلَا يُرَاجِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَالَ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ وَقَدْ أَجْمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ دَرَجَتَهُ فَوْقَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فَلَمْ يُنَزِّهْهُ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ وَالْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ وَقَدْ سَهَى فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُنْكَرُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ حُدُوثُ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي مَرَضِهِ فَيَتَوَقَّفُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ حَقِيقَتُهُ فَلِهَذِهِ الْمَعَانِي وَشَبَهِهَا رَاجَعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ فَاسْتَصْوَبَ عُمَرُ مَا قَالَهُ قَالَ وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَى حَدِيثِ اخْتِلَافُ أُمَّتِي رحمة رجلان أحدهما مغموض عَلَيْهِ فِي دِينِهِ وَهُوَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ وَالْآخَرُ مَعْرُوفٌ بِالسُّخْفِ وَالْخَلَاعَةِ وَهُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا(11/91)
وَضَعَ كِتَابَهُ فِي الْأَغَانِي وَأَمْكَنَ فِي تِلْكَ الْأَبَاطِيلِ لَمْ يَرْضَ بِمَا تَزَوَّدَ مِنْ إِثْمِهَا حَتَّى صَدَّرَ كِتَابَهُ بِذَمِّ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَزَعَمَ أنهم يروون مالا يَدْرُونَ وَقَالَ هُوَ وَالْجَاحِظُ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ رَحْمَةً لَكَانَ الِاتِّفَاقُ عَذَابًا ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ اخْتِلَافُ الْأُمَّةِ رَحْمَةً فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فَإِذَا اخْتَلَفُوا سَأَلُوهُ فَبَيَّنَ لَهُمْ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ رَحْمَةً أَنْ يَكُونَ ضِدُّهُ عَذَابًا وَلَا يَلْتَزِمُ هَذَا وَيَذْكُرُهُ إِلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُتَجَاهِلٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه فَسَمَّى اللَّيْلَ رَحْمَةً وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النَّهَارُ عَذَابًا وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَإِنْكَارُ ذَلِكَ كُفْرٌ وَالثَّانِي فِي صِفَاتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْكَارُهَا بِدْعَةٌ وَالثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمُحْتَمِلَةِ وُجُوهًا فَهَذَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَكَرَامَةً لِلْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ إِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ لِلصَّحَابَةِ الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتُونِي أَكْتُبُ وَكَيْفَ عَصَوْهُ فِي أَمْرِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْأَوَامِرَ تُقَارِنُهَا قَرَائِنُ تَنْقُلُهَا مِنَ النَّدْبِ إِلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ قَالَ أَصْلُهَا لِلنَّدْبِ وَمِنَ الْوُجُوبِ إِلَى النَّدْبِ عِنْدَ مَنْ قَالَ أَصْلُهَا لِلْوُجُوبِ وَتَنْقُلُ القُرائنُ أَيْضًا صِيغَةَ أَفْعَلُ إِلَى الْإِبَاحَةِ وَإِلَى التَّخْيِيرِ وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْمَعَانِي فَلَعَلَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من القرائن مادل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ بَلْ جَعَلَهُ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ فَاخْتَلَفَ اخْتِيَارُهُمْ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِهِمْ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَأَدَّى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ هَذَا وَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ صدرمنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ جَازِمٍ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ هَجَرَ وَبِقَوْلِ عُمَرَ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَمَا قَارَنَهُ مِنَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا يَعْهَدُونَهُ مِنْ أُصُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى غَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ التَّبْلِيغِ الْمُعْتَادَةِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَهَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ دُونَ غَيْرِهِ فَخَالَفُوهُ وَلَعَلَّ عُمَرَ خَافَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَدْ يَتَطَرَّقُونَ إِلَى الْقَدْحِ فِيمَا اشْتَهَرَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَبَلَّغَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِكِتَابٍ يُكْتَبُ فِي خَلْوَةٍ وَآحَادٍ وَيُضِيفُونَ إِلَيْهِ شَيْئًا لشبهوا بِهِ عَلَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَلِهَذَا قَالَ عِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وْقَوْلُهُ أَهَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَهَجَرَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ(11/92)
أصح من رواية من روى هَجَرَ وَيَهْجُرُ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعْنَى هَجَرَ هَذَى وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا مِنْ قَائِلِهِ اسْتِفْهَامًا لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ لَا تَكْتُبُوا أَيْ لَا تَتْرُكُوا أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجْعَلُوهُ كَأَمْرِ مَنْ هَجَرَ فِي كَلَامِهِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَهْجُرُ وَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ الْأُخْرَى كَانَتْ خَطَأً مِنْ قَائِلِهَا قَالَهَا بِغَيْرِ تَحْقِيقٍ بَلْ لِمَا أَصَابَهُ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ لِعَظِيمِ مَا شَاهَدَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَفَاتِهِ وَعَظِيمِ الْمُصَابِ بِهِ وَخَوْفِ الْفِتَنِ وَالضَّلَالِ بَعْدَهُ وَأَجْرَى الْهُجْرَ مَجْرَى شِدَّةِ الْوَجَعِ وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ لَا عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ) مَعْنَاهُ دَعُونِي مِنَ النِّزَاعِ وَاللَّغَطِ الَّذِي شَرَعْتُمْ فِيهِ فَالَّذِي أَنَا فِيهِ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّأَهُّبِ لِلِقَائِهِ وَالْفِكْرِ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ أَفْضَلُ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ أَقْصَى عَدَنِ الْيَمَنِ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ وَأَمَّا فِي الْعَرْضِ فَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هِيَ مَا بَيْنَ حَفَرِ أَبِي مُوسَى إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ فِي الطُّولِ وَأَمَّا فِي الْعَرْضِ فَمَا بَيْنَ رَمْلِ يَرِينَ إِلَى مُنْقَطَعِ السَّمَاوَةِ وَقَوْلُهُ حَفَرُ أَبِي مُوسَى هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ أَيْضًا قَالُوا وَسُمِّيَتْ جَزِيرَةً لِإِحَاطَةِ الْبِحَارِ بِهَا مِنْ نَوَاحِيهَا وَانْقِطَاعِهَا عَنِ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ وَأَصْلُ الْجُزُرِ فِي اللُّغَةِ الْقِطَعُ وَأُضِيفَتْ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهَا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَدِيَارُهمُ الَّتِي هِيَ أَوْطَانُهُمْ وَأَوْطَانُ أَسْلَافِهِمْ وَحَكَى الْهَرَوِيُّ عن مالك أن جزيرة العرب هي المجينة وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ واليمامة وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ وَأَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ فَأَوْجَبُوا إِخْرَاجَ الْكُفَّارِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَقَالُوا لَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ سُكْنَاهَا وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ خَصَّ هَذَا الْحُكْمَ بِبَعْضِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَهُوَ الْحِجَازُ وَهُوَ عِنْدَهُ مَكَّةُ والمدينة والميامة وَأَعْمَالُهَا دُونَ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بِدَلِيلٍ آخَرَ مَشْهُورٍ(11/93)
فِي كُتُبِهِ وَكُتُبِ أَصْحَابِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَلَا يُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنَ التَّرَدُّدِ مُسَافِرِينَ فِي الْحِجَازِ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنَ الْإِقَامَةِ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ إِلَّا مَكَّةَ وَحَرَمَهَا فَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُ كَافِرٍ مِنْ دُخُولِهِ بِحَالٍ فَإِنْ دَخَلَهُ فِي خُفْيَةٍ وَجَبَ إِخْرَاجُهُ فإن مات ودفن فيه نبش وأخرج مالم يَتَغَيَّرْ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ دُخُولَهُمُ الْحَرَمَ وَحُجَّةُ الْجَمَاهِيرِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الحرام بعد عامهم هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا أَمْرٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بإجازة لوعود وضيافتهم واكرامهم تطبيبا لِنُفُوسِهِمْ وَتَرْغِيبًا لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَنَحْوِهِمْ وَإِعَانَةً عَلَى سَفَرِهِمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ سَوَاءٌ كَانَ الْوَفْدُ مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا لِأَنَّ الْكَافِرَ إِنَّمَا يَفِدُ غَالِبًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِنَا وَمَصَالِحِهِمْ قَوْلُهُ (وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ أَوْ قالها فأنسيتها) الساكت بن عَبَّاسٍ وَالنَّاسِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ الْمُهَلَّبُ الثَّالِثَةُ هِيَ تَجْهِيزُ جَيْشِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ فَقَدْ ذَكَرَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مَعْنَاهُ مَعَ إِجْلَاءِ الْيَهُودِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا جَوَازُ كِتَابَةِ الْعِلْمِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَرَّاتٍ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ جَاءَ فِيهَا حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ فَإِنَّ السَّلَفَ اخْتَلَفُوا فِيهَا ثُمَّ أَجْمَعَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى جَوَازِهَا وَبَيَّنَّا تَأْوِيلَ حَدِيثِ الْمَنْعِ وَمِنْهَا جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْتُبُ لَكُمْ أَيْ آمُرُ بِالْكِتَابَةِ وَمِنْهَا أَنَّ الْأَمْرَاضَ وَنَحْوَهَا لَا تُنَافِي النُّبُوَّةَ وَلَا تَدُلُّ عَلَى سُوءِ الْحَالِ قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا الْحَدِيثِ) مَعْنَاهُ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ(11/94)
صَاحِبَ مُسْلِمٍ سَاوَى مُسْلِمًا فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ وَاحِدٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَعَلَا هَذَا الْحَدِيثُ لِأَبِي إِسْحَاقَ بِرَجُلٍ قَوْلُهُ (مِنَ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ) هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ واسكانها والله أعلم(11/95)
(
[1638]
قَوْلُهُ (اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْضِهِ عَنْهَا) أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ طَاعَةً فَإِنْ نذر معصية أو مباحا كدخول السوق لم يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدنَا وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْضِهِ عَنْهَا دَلِيلٌ لِقَضَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَمَّا الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ فَمُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْبَدَنِيَّةُ فَفِيهَا خِلَافٌ قَدَّمْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ الحقوق المالية)(11/96)
الْوَاجِبَةَ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ زَكَاةٍ وَكَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ يَجِبُ قَضَاؤُهَا سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا كَدُيُونِ الْآدَمِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا لَا يَجِبُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ خِلَافٌ فِي الزَّكَاةِ إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَاخْتَلَفُوا فِي نَذْرِ أُمِّ سَعْدٍ هَذَا فَقِيلَ كَانَ نَذْرًا مُطْلَقًا وَقِيلَ كان صوما وقيل كان عتقا وَقِيلَ صَدَقَةٌ وَاسْتَدَلَّ كُلُّ قَائِلٍ بِأَحَادِيثَ جَاءَتْ فِي قِصَّةِ أُمِّ سَعْدٍ قَالَ الْقَاضِي وَيَحْتَمِلُ أن النذر كان غير ماورد فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ قَالَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ نَذْرًا فِي الْمَالِ أَوْ نَذْرًا مُبْهَمًا وَيُعَضِّدُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ فَقَالَ لَهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسق عنها الماء وأما أحاديث الصوم عنها فقد عَلَّلَهُ أَهْلُ الصَّنْعَةِ لِلِاخْتِلَافٍ بَيْنَ رُوَاتِهِ فِي سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ وَكَثْرَةِ اضْطِرَابِهِ وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَفَأَعْتِقُ عَنْهَا فَمُوَافِقَةٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَلَيْسَ فِيهِ قَطْعٌ بِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا عِتْقٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَنَا وَمَذْهَبَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ النَّذْرِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَالِيٍّ وَلَا إِذَا كَانَ مَالِيًّا وَلَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ سَعْدٍ هَذَا وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْوَارِثَ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَلَا يَلْزَمُ وَحَدِيثُ سَعْدٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْ تَرِكَتِهَا أَوْ تَبَرَّعَ بِهِ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِإِلْزَامِهِ ذلك والله أعلم قَوْلُهُ (أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يَنْهَانَا عَنِ
[1639] النَّذْرِ وَيَقُولُ إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الشحيح) وفي رواية عن بن عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ وَقَالَ إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ(11/97)
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَنْذِرُوا فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ
[1640] شَيْئًا وإنما يستخرج به من البخيل وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ النَّذْرِ وَقَالَ إِنَّهُ لَا يَرُدُّ مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا قَالَ الْمَازِرِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سبب النهي عن كون النذر يَصِيرُ مُلْتَزِمًا لَهُ فَيَأْتِي بِهِ تَكَلُّفًا بِغَيْرِ نَشَاطٍ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ كَوْنَهُ يَأْتِي بِالْقُرْبَةِ الَّتِي الْتَزَمَهَا(11/98)
فِي نَذْرِهِ عَلَى صُورَةِ الْمُعَاوَضَةِ لِلْأَمْرِ الَّذِي طَلَبَهُ فَيَنْقُصُ أَجْرُهُ وَشَأْنُ الْعِبَادَةِ أَنْ تَكُونَ مُتَمَحِّضَةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّهْيَ لِكَوْنِهِ قَدْ يَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَنَّ النَّذْرَ يَرُدُّ الْقَدَرَ وَيَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمُقَدَّرِ فَنَهَى عَنْهُ خَوْفًا مِنْ جَاهِلٍ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الرِّوَايَاتِ الْبَاقِيَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يأتي بهذه القربة تطوعا محضا مبتدأ وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهَا فِي مُقَابَلَةِ شِفَاءِ الْمَرِيضِ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَعَلَّقَ النَّذْرُ عَلَيْهِ وَيُقَالُ نَذَرَ ينذر وينذر بِكَسْرِ الذَّالِ فِي الْمُضَارِعِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ)
[1641] هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَاللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو وَقِيلَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو(11/99)
وَقِيلَ عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ وَقِيلَ النَّضْرُ بْنُ عَمْرٍو الْحَرَمِيُّ الْبَصْرِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (سَابِقَةُ الْحَاجِّ) يَعْنِي نَاقَتَهُ الْعَضْبَاءَ وَسَبَقَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ بَيَانُ الْعَضْبَاءِ وَالْقَصْوَى وَالْجَدْعَاءِ وَهَلْ هُنَّ ثَلَاثٌ أَمْ وَاحِدَةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ) أَيْ بِجِنَايَتِهِمْ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم للأسير حِينَ قَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ (لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ) إِلَى قَوْلِهِ فَفُدِيَ بِالرَّجُلَيْنِ مَعْنَاهُ لَوْ قُلْتَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْأَسْرِ حِينَ كُنْتَ مَالِكَ أَمْرِكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَسْرُكَ لَوْ أَسْلَمْتَ قَبْلَ الْأَسْرِ فَكُنْتَ فُزْتَ بِالْإِسْلَامِ وَبِالسَّلَامَةِ مِنَ الْأَسْرِ وَمِنَ اغْتِنَامِ مَالِكَ وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمْتَ بَعْدَ الْأَسْرِ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ فِي قَتْلِكَ وَيَبْقَى الْخِيَارُ بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَفِي هَذَا جَوَازُ الْمُفَادَاةِ وَأَنَّ إِسْلَامَ الْأَسِيرِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْغَانِمِينَ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْأَسْرِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ وَفَادَى بِهِ رَجَعَ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ وَلَوْ ثَبَتَ رُجُوعُهُ إِلَى دَارِهِمْ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ لِقُوَّةِ شَوْكَةِ عَشِيرَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْحَدِيثِ وَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ الْمَازِرِيُّ وَقَالَ كَيْفَ يُرَدُّ الْمُسْلِمُ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ وَهَذَا الْإِشْكَالُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِمَا ذَكَرْتُهُ قَوْلُهُ (وَأُسِرَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) هِيَ امْرَأَةُ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ (نَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ) هِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ(11/100)
وَفَتْحِ النُّونِ وَالْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ مُذَلَّلَةٌ قَوْلُهُ (وَنَذِرُوا بِهَا) هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الذَّالِ أَيْ عَلِمُوا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ) وَفِي رِوَايَةٍ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَنَذْرُهُ بَاطِلٌ لَا يَنْعَقِدُ وَلَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَا غَيْرُهَا وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَحْمَدُ تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِالْحَدِيثِ المروي عن عمر أن بْنِ الْحُصَيْنِ وَعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَأَمَّا حَدِيثُ كَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحْدَثِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَضَافَ النَّذْرَ إِلَى مُعَيَّنٍ لَا يَمْلِكُهُ بِأَنْ قَالَ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ عَبْدَ فُلَانٍ أَوْ أَتَصَدَّقَ بِثَوْبِهِ أَوْ بِدَارِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَأَمَّا إِذَا الْتَزَمَ فِي الذِّمَّةِ شَيْئًا لَا يَمْلِكُهُ فَيَصِحُّ نَذْرُهُ مِثَالُهُ قَالَ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْحَالِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةً وَلَا قِيمَتَهَا فَيَصِحُّ نَذْرُهُ وَإِنْ شُفِيَ الْمَرِيضُ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي ذِمَّتِهِ(11/101)
قَوْلُهُ (نَاقَةٌ ذَلُولٌ مُجَرَّسَةٌ) وَفِي رِوَايَةٍ مُدَرَّبَةٌ أَمَّا الْمُجَرَّسَةُ فَبِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَأَمَّا الْمُدَرَّبَةُ فَبِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُجَرَّسَةُ وَالْمُدَرَّبَةُ وَالْمُنَوَّقَةُ وَالذَّلُولُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ سَفَرِ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ وَلَا غَيْرِهِمَا إِذَا كَانَ سَفَرَ ضَرُورَةٍ كَالْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَكَالْهَرَبِ مِمَّنْ يُرِيدُ مِنْهَا فَاحِشَةً وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالنَّهْيُ عَنْ سَفَرِهَا وَحْدَهَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الضَّرُورَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا غَنِمُوا مَالًا لِلْمُسْلِمِ لَا يَمْلِكُونَهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ يَمْلِكُونَهُ إِذَا حَازُوهُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ وموضع الدلالة منه ظاهر وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (إِنَّ النَّبِيَّ
[1642] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ فَقَالَ مَا بَالُ هَذَا قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ) وَفِي رِوَايَةٍ يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ مُتَوَكِّئًا عَلَيْهِمَا
[1643] وَهُوَ مَعْنَى يُهَادَى وَفِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَةً فَأَمَرَتْنِي
[1644] أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْعَاجِزِ عَنِ الْمَشْيِ فَلَهُ الرُّكُوبُ وَعَلَيْهِ دَمٌ وَأَمَّا حَدِيثُ أُخْتِ عُقْبَةَ فَمَعْنَاهُ تَمْشِي فِي وَقْتِ قُدْرَتِهَا عَلَى الْمَشْيِ وَتَرْكَبُ إِذَا عَجَزَتْ عَنِ الْمَشْيِ أَوْ لَحِقَتْهَا مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ فَتَرَكبُ وَعَلَيْهَا دَمٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الدَّمِ فِي الصُّورَتَيْنِ هُوَ رَاجِحُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ وَالْقَوْلُ(11/102)
الثَّانِي لَا دَمَ عَلَيْهِ بَلْ يُسْتَحَبُّ الدَّمُ وَأَمَّا الْمَشْيُ حَافِيًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَفَاءُ بَلْ لَهُ لُبْسُ النَّعْلَيْنِ وَقَدْ جَاءَ حَدِيثُ أُخْتِ عقبة في سنن أبي داود مبينا أَنَّهَا رَكِبَتْ لِلْعَجْزِ قَالَ إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً وَأَنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ مَشْيِ أُخْتِكَ فَلْتَرْكَبْ ولتهد بدنة(11/103)
[1645] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهِ فَحَمَلَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى نَذْرِ اللِّجَاجِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إِنْسَانٌ يُرِيدُ الِامْتِنَاعَ مِنْ كَلَامِ زَيْدٍ مَثَلًا إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا مَثَلًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ غَيْرُهَا فَيُكَلِّمُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ وَبَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِنَا وَحَمَلَهُ مَالِكٌ وَكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ عَلَى النَّذْرِ الْمُطْلَقِ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ نَذْرٌ وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ النَّذْرِ وَقَالُوا هُوَ مُخَيَّرٌ فِي جَمِيعِ النُّذُورَاتِ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يمين والله أعلم
(كِتَاب الْأَيْمَانِ)
(بَاب النَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ
[1646] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فليحلف بالله)(11/104)
أَوْ لِيَصْمُتْ) وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي وَلَا بِآبَائِكُمْ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عن الحلف بغيرالله تَعَالَى أَنَّ الْحَلِفَ يَقْتَضِي تَعْظِيمَ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَحَقِيقَةُ الْعَظَمَةِ مُخْتَصَّةٌ بِاللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُضَاهِي به غيره وقد جاء عن بن عَبَّاسٍ لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ مِائَةَ مَرَّةٍ فَآثَمَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ فَأَبَرَّ فَإِنْ قِيلَ الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ فَجَوَابُهُ أَنَّ هذه كلمة تجري على اللسان لا تقصد بِهَا الْيَمِينُ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ تعالى بمخلوقاته كقوله تعالى والصافات والذاريات والطور والنجم فَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهِ قَوْلُهُ (مَا حَلَفْتُ بِهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا) مَعْنَى ذَاكِرًا قَائِلًا لَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِي وَلَا آثِرًا بالمد أي(11/105)
حَالِفًا عَنْ غَيْرِي وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ كُلِّهَا وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مَكْرُوهٌ ليس بحرام قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ
[1647] إِلَّا اللَّهُ) إِنَّمَا أُمِرَ(11/106)
بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّهُ تَعَاطَى تَعْظِيمَ صُورَةِ الْأَصْنَامِ حِينَ حَلَفَ بِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا إِذَا حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَصْنَامِ أَوْ قَالَ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَرِيءٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ بل عليه أن يستغفرالله تَعَالَى وَيَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَمْ لَا هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ أَنَا مُبْتَدِعٌ أَوْ بَرِيءٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ واليهودية واحتج بأن الله تعالى أوجب علىالمظاهر الْكَفَّارَةَ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ وَالْحَلِفُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُنْكَرٌ وَزُورٌ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إنما أمره يقول لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا حَتَّى يَثْبُتَ فِيهَا شَرْعٌ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الظِّهَارِ فَيُنْتَقَضُ بِمَا اسْتَثْنَوْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ) قَالَ العلماء أمر بالصدقة تكفيرا لخطيئته فِي كَلَامِهِ بِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا أَمَرَ أَنْ يُقَامِرَ بِهِ وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ بَلْ يَتَصَدَّقُ بِمَا تَيَسَّرَ مِمَّا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّدَقَةِ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فَلْيَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ قَالَ الْقَاضِي فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِذَا استقر(11/107)
فِي الْقَلْبِ كَانَ ذَنْبًا يُكْتَبُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْخَاطِرِ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ فِي الْقَلْبِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي وَلَا بِآبَائِكُمْ)
[1648] هَذَا الْحَدِيثُ مِثْلُ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ الطَّوَاغِي هِيَ الْأَصْنَامُ وَاحِدُهَا طاغية ومنه هذه طَاغِيَةُ دَوْسٍ أَيْ صَنَمُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ سُمِّيَ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ لِطُغْيَانِ الْكُفَّارِ بِعِبَادَتِهِ لِأَنَّهُ سَبَبُ طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَكُلُّ مَا جَاوَزَ الْحَدَّ فِي تَعْظِيمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ طَغَى فَالطُّغْيَانُ الْمُجَاوَزَةُ لِلْحَدِّ ومنه قوله تعالى لما طغى الماء أَيْ جَاوَزَ الْحَدَّ وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالطَّوَاغِي هُنَا مَنْ طَغَى مِنَ الْكُفَّارِ وَجَاوَزَ الْقَدْرَ الْمُعْتَادَ فِي الشَّرِّ وَهُمْ عُظَمَاؤُهُمْ وروى هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِيتِ وَهُوَ جَمْعُ طَاغُوتٍ وَهُوَ الصَّنَمُ وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْطَانِ أَيْضًا وَيَكُونُ الطَّاغُوتُ وَاحِدًا وَجَمْعًا ومذكرا ومؤنثا قال الله تعالى واجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وَقَالَ تَعَالَى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ الآية يكفروا به
(بَاب نَدْبِ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ (الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ أَرَى خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ
[1649] عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْيَمِينِ فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ وَكَانَ الْحِنْثُ خَيْرًا مِنَ التَّمَادِي عَلَى الْيَمِينِ اسْتُحِبَّ لَهُ الْحِنْثُ وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَهَذَا)(11/108)
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنِ الْحِنْثِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْيَمِينِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهَا بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ فَجَوَّزَهَا مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا وَجَمَاعَاتٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ قَالُوا يُسْتَحَبُّ كَوْنُهَا بَعْدَ الْحِنْثِ وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَأَمَّا التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ وَاسْتَثْنَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا حِنْثَ الْمَعْصِيَةِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَتِهِ لأن فيه إعانة علىالمعصية وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِجْزَائِهَا كَغَيْرِ الْمَعْصِيَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَشْهَبُ الْمَالِكِيُّ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ بِكُلِّ حَالٍ وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ ظَوَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْقِيَاسُ عَلَى تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَوْلُهُ (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ) أَيْ نَطْلُبُ مِنْهُ مَا يَحْمِلُنَا مِنَ الْإِبِلِ وَيَحْمِلُ أَثْقَالَنَا قَوْلُهُ فَأَمَرَ لَنَا بِثَلَاثِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى وَفِي رِوَايَةٍ بِخَمْسِ ذَوْدٍ وَفِي رِوَايَةٍ بِثَلَاثَةِ ذَوْدٍ بُقْعِ الذُّرَى أَمَّا الذُّرَى فَبِضَمِّ الذَّالِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ جَمْعُ ذُرْوَةٍ بِكَسْرِ الذال وضمها وذروة كُلُّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَسْنِمَةُ وَأَمَّا الْغُرُّ فَهِيَ الْبِيضُ وَكَذَلِكَ الْبُقْعُ الْمُرَادُ بِهَا الْبِيضُ وَأَصْلُهَا مَا كَانَ فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَمَعْنَاهُ أَمَرَ لَنَا بِإِبِلٍ بِيضِ الْأَسْنِمَةِ وَأَمَّا قوله بثلاث ذود فهو من إضافة الشئ إِلَى نَفْسِهِ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُطْلِقُ الذَّوْدَ عَلَى الْوَاحِدِ وَسَبَقَ إِيضَاحُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ بِثَلَاثِ وَفِي رِوَايَةٍ بِخَمْسِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا إِذْ لَيْسَ فِي ذِكْرِ الثَّلَاثِ نَفْيٌ لِلْخَمْسِ وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ بِثَلَاثَةِ ذَوْدٍ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ وَهُوَ صحيح يعود إلى معنى الإبل وهو(11/109)
إلا بعرة وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ) تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تعملون وَأَرَادَ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَانِي مَا حَمَلْتُكُمْ عَلَيْهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْحَيَ إِلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ أَوْ يَكُونُ المراد دخولهم في عموم مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَسْمِ فِيهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (أَسْأَلُهُ لَهُمُ الْحُمْلَانَ) بِضَمِّ الْحَاءِ أَيْ الْحَمْلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ) أَيْ الْبَعِيرَيْنِ(11/110)
الْمَقْرُونِ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ قَوْلُهُ (عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ) هُوَ بِزَايٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ قَوْلُهُ (فِي لَحْمِ الدَّجَاجِ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهُ) فِيهِ إِبَاحَةُ لَحْمِ الدَّجَاجِ وَمَلَاذِّ الْأَطْعِمَةِ وَيَقَعُ اسْمُ الدَّجَاجِ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وهو(11/111)
بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا قَوْلُهُ (بِنَهْبِ إِبِلٍ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ النَّهْبُ الْغَنِيمَةُ وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَجَمْعُهُ نِهَابٌ بِكَسْرِهَا وَنُهُوبٌ بِضَمِّهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَنْهُوبِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ قَوْلُهُ (أَغْفَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ) هو بإسكان اللام أي جعلناه غافلا معناه كُنَّا سَبَبَ غَفْلَتِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَنِسْيَانِهِ إِيَّاهَا وَمَا ذَكَّرْنَاهُ إِيَّاهَا أَيْ أَخَذْنَا مِنْهُ مَا أَخَذْنَا وَهُوَ ذَاهِلٌ عَنْ يَمِينِهِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا الصعق يعني بن حَزْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَنْ زَهْدَمٍ) هُوَ الصَّعِقُ بِفَتْحِ الصَّادِ(11/112)
وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِهَا وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ الصعق ومطر ليساقويين وَلَمْ يَسْمَعْهُ مَطَرٌ مِنْ زَهْدَمٍ وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ فَاسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فَاسِدٌ لِأَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْهُ متاصلا وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَابَعَةً لِلطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُتَابَعَاتِ يُحْتَمَلُ فِيهَا الضَّعْفُ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مُسْلِمٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ خُطْبَةِ كِتَابِهِ وَشَرَحْنَاهُ هُنَاكَ وَأَنَّهُ يَذْكُرُ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ متابعة للصحيحة وأما قوله إنهما ليساقويين فقد خالفه الأكثرون فقال يحي بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ هُوَ ثِقَةٌ فِي الصعق وقال أبو حاتم مابه بَأْسٌ وَقَالَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثُ فِي مَطَرٍ الْوَرَّاقِ هُوَ صَالِحٌ وَإِنَّمَا ضَعَّفُوا رِوَايَتَهُ عَنْ عَطَاءٍ خَاصَّةً قَوْلُهُ (عَنْ ضُرَيْبِ بْنِ نُقَيْرٍ) أَمَّا ضريب فبضاد معجمة مصغر ونقير بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَآخِرُهُ رَاءٌ هَذَا هوالمشهور الْمَعْرُوفُ عَنْ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ فِي كُتُبِ الْأَسْمَاءِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْفَاءِ وَقِيلَ نُفَيْلٌ بِالْفَاءِ وَآخِرُهُ لَامٌ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو السَّلِيلِ) هُوَ بِفَتْحِ السين المهملة(11/113)
وكسر اللام وهو ضريب بن نفير الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ حَلَفَ عَلَى
[1651] يَمِينٍ ثُمَّ رَأَى أَتْقَى لِلَّهِ فَلْيَأْتِ التَّقْوَى) هُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي(11/115)
هُوَ خَيْرٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1652] (يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسَألِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَفِي بَعْضِهَا أُكِلْتَ إِلَيْهَا بِالْهَمْزَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا كَرَاهَةُ سُؤَالِ الْوِلَايَةِ سَوَاءٌ وِلَايَةُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْحِسْبَةِ وَغَيْرِهَا وَمِنْهَا بَيَانُ أَنَّ مَنْ سَأَلَ الْوِلَايَةَ لَا يَكُونُ مَعَهُ إِعَانَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَكُونُ فيه كفاية لذلك العمل فينبغي أن لا يُوَلَّى وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نُوَلِّي عَمَلَنَا مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ إِلَى آخِرِهِ) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الجلودي حدئنا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَاسَرْجَسِيُّ(11/116)
قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بِهَذَا وَمُرَادُهُ أَنَّهُ عَلَا برجل
(باب اليمين عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ
[1653] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (يمينك على ما يصادقك عَلَيْهِ صَاحِبُكَ) وَفِي رِوَايَةٍ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ الْمُسْتَحْلِفُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَلِفِ بِاسْتِحْلَافِ الْقَاضِي فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فَحَلَّفَهُ الْقَاضِي فَحَلَفَ وَوَرَّى فنوى غير مانوى الْقَاضِي انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَاهُ الْقَاضِي وَلَا تَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَدَلِيلُهُ هَذَا الْحَدِيثُ وَالْإِجْمَاعُ فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اسْتِحْلَافِ الْقَاضِي وَوَرَّى تَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ وَلَا يَحْنَثُ سَوَاءٌ حَلَفَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَحْلِيفٍ أَوْ حَلَّفَهُ غَيْرُ الْقَاضِي وَغَيْرُ نَائِبِهِ فِي ذَلِكَ وَلَا اعْتِبَارَ بِنِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ غَيْرِ الْقَاضِي وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ إِلَّا إِذَا اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ فِي دَعْوَى تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ أَمَّا إِذَا حَلَفَ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافِ الْقَاضِي فِي دَعْوَى فَالِاعْتِبَارُ بِنِيَّةِ الْحَالِفِ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق تنفعه التورية ويكون الإعتبار بنية الحالف لأن القاضي ليس له التحليف بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِنَّمَا يَسْتَحْلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْرِيَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْنَثُ بِهَا فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهَا حَيْثُ يُبْطِلُ بِهَا حَقُّ مُسْتَحِقٍّ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَتَفْصِيلًا فَقَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحَالِفَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ وَمِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ حَقٍّ بِيَمِينِهِ لَهُ نِيَّتُهُ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لِغَيْرِهِ فِي حَقٍّ أَوْ وَثِيقَةٍ مُتَبَرِّعًا أَوْ بِقَضَاءٍ عَلَيْهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ يَمِينِهِ سَوَاءٌ حَلَفَ)(11/117)
مُتَبَرِّعًا بِالْيَمِينِ أَوْ بِاسْتِحْلَافٍ وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَقِيلَ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ وَقِيلَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَقِيلَ إِنْ كَانَ مُسْتَحْلَفًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِالْيَمِينِ فَعَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وهذا قول عبد الملك وسحنون وهو ظاهرقول مالك وبن القاسم وقيل عكسه وهي رواية يحيى عن بن الْقَاسِمِ وَقِيلَ تَنْفَعُهُ نِيَّتُهُ فِيمَا لَا يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ وَيَفْتَرِقُ التَّبَرُّعُ وَغَيْرُهُ فِيمَا يُقْضَى به عليه وهذا مروي عن بن الْقَاسِمِ أَيْضًا وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ فَهُوَ فِيهِ آثِمٌ حَانِثٌ وَمَا كَانَ عَلَى وجه العذر فلا بأس به وقال بن حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ فَلَهُ نِيَّتُهُ وَمَا كَانَ فِي حَقٍّ فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ قَالَ الْقَاضِي وَلَا خِلَافَ فِي إِثْمِ الْحَالِفِ بِمَا يَقَعُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ وَإِنْ وَرَّى وَاللَّهُ أعلم
(باب الإستثناء فِي ذَلِكَ وَلَا اعْتِبَارَ بِنِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ غَيْرِ الْقَاضِي وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ إِلَّا إِذَا اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ فِي دَعْوَى تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ أَمَّا إِذَا حَلَفَ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافِ الْقَاضِي فِي دَعْوَى فَالِاعْتِبَارُ بِنِيَّةِ الْحَالِفِ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا حَلَّفَهُ الْقَاضِي بالطلاق أو بالعتاق تنفعه التورية ويكون الاعتبار بنية الحالف لأن القاضي ليس له التحليف بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِنَّمَا يَسْتَحْلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْرِيَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْنَثُ بِهَا فلا يحوز فِعْلُهَا حَيْثُ يُبْطِلُ بِهَا حَقُّ مُسْتَحِقٍّ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَتَفْصِيلًا فَقَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحَالِفَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ وَمِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ حَقٍّ بِيَمِينِهِ لَهُ نِيَّتُهُ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لِغَيْرِهِ فِي حَقٍّ أَوْ وَثِيقَةٍ مُتَبَرِّعًا أَوْ بِقَضَاءٍ عَلَيْهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ يَمِينِهِ سَوَاءٌ حَلَفَ مُتَبَرِّعًا بِالْيَمِينِ أَوْ بِاسْتِحْلَافٍ وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَقِيلَ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ وَقِيلَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَقِيلَ إِنْ كَانَ مُسْتَحْلَفًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِالْيَمِينِ فَعَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَسَحْنُونٍ وَهُوَ ظاهر قول مالك وبن القاسم وقيل عكسه وهي رواية يحيى عن بن الْقَاسِمِ وَقِيلَ تَنْفَعُهُ نِيَّتُهُ فِيمَا لَا يُقْضَى به عليه ويفترق التبرع فِيمَا يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ بن الْقَاسِمِ أَيْضًا وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ فَهُوَ فِيهِ آثِمٌ حَانِثٌ وَمَا كَانَ عَلَى وجه العذر فلا بأس به وقال بن حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ فَلَهُ نِيَّتُهُ وَمَا كَانَ فِي حَقٍّ فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ قَالَ الْقَاضِي وَلَا خِلَافَ فِي إِثْمِ الْحَالِفِ بِمَا يقع به حق غيره وإن ورى الله أعلم
[1654] ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ إِذَا قَالَ سَأَفْعَلُ كَذَا أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أن يشاء الله وَلِهَذَا الْحَدِيثِ وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ وَقَالَ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْنَثْ بِفِعْلِهِ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَوْ)(11/118)
قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقُولَهُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَوَى قَبْلَ فَرَاغِ الْيَمِينِ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا قَالَ وَلَوْ جَازَ مُنْفَصِلًا كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ لَمْ يَحْنَثْ أَحَدٌ قَطُّ فِي يَمِينٍ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى كَفَّارَةٍ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي الِاتِّصَالِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ هُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ سُكُوتٍ بَيْنَهُمَا وَلَا تَضُرُّ سَكْتَةُ النَّفَسِ وَعَنْ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التابعين أن له الإستثناء مالم يقم من مجلسه وقال قتادة مالم يَقُمْ أَوْ يَتَكَلَّمْ وَقَالَ عَطَاءٌ قَدْرُ حَلَبَةِ نَاقَةٍ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أشهر وعن بن عَبَّاسٍ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ أَبَدًا مَتَى تَذَكَّرَهُ وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْمَنْقُولَ عَنْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ قَوْلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَرُّكًا قَالَ تَعَالَى وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نسيت وَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ حَلَّ الْيَمِينِ وَمَنْعَ الْحِنْثِ أَمَّا إِذَا اسْتَثْنَى فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِ ذلك سوى اليمين بالله تعالى فقال أنت طالق إن شاء الله تعالى أو أنت حر إن شاء الله تعالى أو أنت علي كظهر أمي إن شاء الله تَعَالَى أَوْ لِزَيْدٍ فِي ذِمَّتِي أَلْفُ دِرْهَمٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ إِنْ شُفِيَ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمْ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهَا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْنَثُ فِي طَلَاقٍ وَلَا عِتْقٍ وَلَا يَنْعَقِدُ ظِهَارُهُ وَلَا نَذْرُهُ وَلَا إِقْرَارُهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّصِلُ بِهِ قَوْلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَلَا تَكْفِي فِيهِ النِّيَّةُ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ(11/119)
وَأَحْمَدُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ مَالِكٍ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالنِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ انْفِصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ بَعْدُ فِي أَثْنَاءِ الْيَمِينِ أَوْ أَنَّ الَّذِي جَرَى مِنْهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِيَمِينٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَأَطُوفَنَّ) وَفِي بعض النسخ لا طيفن الليلة هما لغتان فصيحتان طاف بالشئ وَأَطَافَ بِهِ إِذَا دَارَ حَوْلَهُ وَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ فَهُوَ طَائِفٌ وَمُطِيفٌ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ لِسُلَيْمَانَ سِتُّونَ امْرَأَةً) وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعُونَ وَفِي رِوَايَةٍ تِسْعُونَ وَفِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ وَفِي رِوَايَةٍ مِائَةٌ هَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ الْقَلِيلِ نَفْيُ الْكَثِيرِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا مَرَّاتٍ وَهُوَ مِنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُصُولِيِّينَ وَفِي هَذَا بَيَانُ مَا خُصَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى إِطَاقَةِ هَذَا فِي لَيْلَةٍ واحدة وكان نبيا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً لَهُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَتَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَتَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هَذَا قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَنِّي لِلْخَيْرِ وَقَصَدَ بِهِ الْآخِرَةَ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِغَرَضِ الدُّنْيَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا وَاحِدَةٌ فَوَلَدَتْ نِصْفَ إِنْسَانٍ) وَفِي رِوَايَةٍ جَاءَتْ بِشِقِّ غُلَامٍ قِيلَ هُوَ الْجَسَدُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ كَانَ اسْتَثْنَى لَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ لَا أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ أَوِ الْمَلَكُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ) قِيلَ الْمُرَادُ بِصَاحِبِهِ الْمَلَكُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ وَقِيلَ الْقَرِينُ وَقِيلَ صَاحِبٌ لَهُ آدَمِيٌّ وَقَوْلُهُ نُسِّيَ ضَبَطَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ(11/120)
بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ وَهُوَ ظَاهِرٌ حَسَنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي حَاجَتِهِ) هُوَ بِفَتْحِ الإدراك إسم من الإدارك أَيْ لِحَاقًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَخَافُ دركا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَايْمِ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فِيهِ جَوَازُ الْيَمِينِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ ايْمُ اللَّهِ وَايْمَنُ اللَّهِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ هُوَ يَمِينٌ وَقَالَ أَصْحَابُنَا إِنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ وَإِلَّا فَلَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا) فِيهِ جَوَازُ قَوْلِ لَوْ وَلَوْلَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ لَوْ وَلَوْلَا(11/121)
قَالَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَفِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا بَابَ مَا يَجُوزُ مِنَ اللَّوْ وَأَدْخَلَ فِيهِ قَوْلَ لُوطٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أن لي بكم قوة وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ ولو مدلى الشهر لواصلت ولولا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَأَتْمَمْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ ولولا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَمْثَالَ هَذَا قال والذي ينفهم مِنْ تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ لَوْ وَلَوْلَا فِيمَا يَكُونُ لِلِاسْتِقْبَالِ مِمَّا امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُمْتَنَعِ مِنْ فِعْلِهِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ بَابِ لَوْلَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَابِ سِوَى ماهو للإستقبال أو ماهو حَقٌّ صَحِيحٌ مُتَيَقَّنٌ كَحَدِيثِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ دُونَ الْمَاضِي وَالْمُنْقَضِي أَوْ مافيه اعْتِرَاضٌ عَلَى الْغَيْبِ وَالْقَدَرِ السَّابِقِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا إِذَا قَالَهُ عَلَى جِهَةِ الْحَتْمِ وَالْقَطْعِ بِالْغَيْبِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّظَرِ إِلَى سَابِقِ قَدَرِهِ وَخَفِيِّ عِلْمِهِ عَلَيْنَا فَأَمَّا مَنْ قَالَهُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَرَدِّ الْأَمْرِ إِلَى الْمَشِيئَةِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ قَالَ الْقَاضِي وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لَوْلَا بِخِلَافِ لَوْ قَالَ الْقَاضِي وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُمَا سَوَاءٌ إِذَا اسْتُعْمِلَتَا فِيمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ الْإِنْسَانُ عِلْمًا وَلَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ مَقْدُورِ قَائِلِهِمَا مِمَّا هُوَ تَحَكُّمٌ عَلَى الْغَيْبِ وَاعْتِرَاضٌ عَلَى الْقَدَرِ كَمَا نُبِّهَ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ وَمِثْلُ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ لَوْ أطاعونا ما قتلوا لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ولو كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا ها هنا فرد الله تعالى عليهم باطلهم فقال فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين فَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَأَمَّا هَذَا الحديث الذي نحن فيه فإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن يقين نفسه أن سليمان لو قال إن شاء الله لجاهدوا إذ ليس هذا مما يدرك بالظن والإجتهاد وإنما أَخْبَرَ عَنْ حَقِيقَةٍ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ لَوْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مضاجعهم ولو ردوا لعادوا(11/122)
لما نهوا عنه وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ لَوْلَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لولا كتاب من الله سبق لمسكم وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلَنَا ولولا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُخْبِرٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَمَّا مَضَى أَوْ يَأْتِي عَنْ عِلْمٍ خَبَرًا قَطْعِيًّا وَكُلُّ مَا يَكُونُ مِنْ لَوْ وَلَوْلَا مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ عِلَّةِ امْتِنَاعِهِ مِنْ فِعْلِهِ مِمَّا يَكُونُ فِعْلُهُ فِي قُدْرَتِهِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِخْبَارُ حَقِيقَةٍ عَنِ امْتِنَاعِ شَيْءٍ لِسَبَبِ شَيْءٍ وَحُصُولِ شَيْءٍ لِامْتِنَاعِ شَيْءٍ وَتَأْتِي لَوْ غَالِبًا لِبَيَانِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ أَوِ النَّافِي فَلَا كَرَاهَةَ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتبعناكم والله أعلم
(باب النهي عن الإصرار على اليمين فيما (يتأذى به أهل الحالف مما ليس بحرام)
[1655] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ) أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَنْ فَبِفَتْحِ اللَّامِ وَهُوَ لَامُ الْقَسَمِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلَجَّ هُوَ بِفَتْحِ الياء واللام وتشديد الجيم وآثم بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ أَيْ أَكْثَرُ إِثْمًا وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ يَمِينًا تَتَعَلَّقُ بِأَهْلِهِ وَيَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ حِنْثِهِ وَيَكُونُ الْحِنْثُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْنَثَ فَيَفْعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ وَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ فَإِنْ قَالَ لَا أَحْنَثُ بَلْ أَتَوَرَّعُ عَنِ ارْتِكَابِ الْحِنْثِ وَأَخَافُ الْإِثْمَ فِيهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بِهَذَا الْقَوْلِ بَلِ اسْتِمْرَارُهُ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ وَإِدَامَةِ الضَّرَرِ عَلَى أَهْلِهِ أَكْثَرُ إِثْمًا مِنَ الْحِنْثِ وَاللِّجَاجُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ فَهَذَا مُخْتَصَرُ بَيَانِ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَنْزِيلِهِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحِنْثُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم)(11/123)
آثَمُ فَخَرَجَ عَلَى لَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْإِثْمِ لِأَنَّهُ قَصَدَ مُقَابَلَةَ اللَّفْظِ عَلَى زَعْمِ الْحَالِفِ وَتَوَهُّمِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمًا فِي الْحِنْثِ مَعَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِثْمُ عَلَيْهِ فِي اللِّجَاجِ أَكْثَرُ لَوْ ثَبَتَ الْإِثْمُ والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
(
[1656]
فِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْفِ بِنَذْرِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ نَذْرِ الْكَافِرِ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا لَا يَصِحُّ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ الْمَخْزُومِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْبُخَارِيُّ وبن جَرِيرٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا يَصِحُّ وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ حَدِيثِ عُمَرَ وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَيْ يُسْتَحَبُّ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ الْآنَ مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي نَذَرْتَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ بِغَيْرِ صَوْمٍ وَفِي صِحَّتِهِ بِاللَّيْلِ كَمَا يَصِحُّ بِالنَّهَارِ سَوَاءٌ كَانَتْ لَيْلَةً وَاحِدَةً أَوْ بَعْضَهَا أَوْ أَكْثَرَ وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا اعْتِكَافُ يَوْمٍ فَلَا تُخَالِفُ رِوَايَةَ اعْتِكَافِ لَيْلَةٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ اعْتِكَافِ لَيْلَةٍ وَسَأَلَهُ عَنِ اعْتِكَافِ يَوْمٍ فَأَمَرَهُ بِالْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَ فَحَصَلَ مِنْهُ صِحَّةُ اعْتِكَافِ اللَّيْلِ وَحْدَهُ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ نافع عن بن عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَسَأَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)(11/124)
فَقَالَ لَهُ أَوْفِ بِنَذْرِكَ فَاعْتَكَفَ عُمَرُ لَيْلَةً رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ إِسْنَادُهُ ثَابِتٌ هَذَا مَذْهَبُ الشافعي(11/125)
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وبن الْمُنْذِرِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ بن المنذر وهو مروى عن علي وبن مسعود وقال بن عمر وبن عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِصَوْمٍ وَهُوَ قول أكثر العلماء قوله (ذكر عند بن عُمَرَ عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَقَالَ لَمْ يَعْتَمِرْ مِنْهَا) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ عِلْمِهِ أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْحَجِّ اعْتِمَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ عَامَ حُنَيْنٍ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ رضي الله عنه والله أعلم(11/126)
(باب صحبة المماليك
[1657] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الرِّفْقُ بِالْمَمَالِيكِ وَحُسْنُ صُحْبَتِهِمْ وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ وَكَذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ بَعْدَهُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ عِتْقَهُ بِهَذَا لَيْسَ وَاجِبًا وَإِنَّمَا هُوَ مَنْدُوبٌ رَجَاءَ كَفَّارَةِ ذَنْبِهِ فِيهِ إِزَالَةُ إِثْمِ ظُلْمِهِ وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ لِعَدَمِ وُجُوبِ إِعْتَاقِهِ حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ بَعْدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ حِينَ لَطَمَ أَحَدُهُمْ خَادِمَهُمْ بِعِتْقِهَا قَالُوا لَيْسَ لَنَا خَادِمٌ غَيْرُهَا قَالَ فَلْيَسْتَخْدِمُوهَا فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهَا فَلْيُخَلُّوا سَبِيلَهَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِعْتَاقُ الْعَبْدِ لِشَيْءٍ مِمَّا يَفْعَلُهُ بِهِ مَوْلَاهُ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْخَفِيفِ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا كَثُرَ مِنْ ذَلِكَ وَشَنُعَ مِنْ ضَرْبٍ مُبَرِّحٍ مُنْهِكٍ لِغَيْرِ مُوجِبٍ لِذَلِكَ أَوْ حَرَقَهُ بِنَارٍ أَوْ قَطَعَ عُضْوًا لَهُ أَوْ أَفْسَدَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مُثْلَةٌ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ إِلَى عِتْقِ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ بِذَلِكَ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ وَيُعَاقِبُهُ السُّلْطَانُ عَلَى فِعْلِهِ وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِيمَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَ الْأَمَةِ أو لحية العبد واحتج مالك بحديث بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الَّذِي جَبَّ عَبْدَهُ فَأَعْتَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى مَنْ ضَرَبَهُ بِلَا ذَنْبٍ وَلَا)(11/127)
على سبيل التعليم والأدب قوله (أن بن عُمَرَ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا فَأَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ عُودًا أَوْ شَيْئًا فَقَالَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ مَا يَسْوَى هَذَا إِلَّا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ) هَكَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ مَا يَسْوَى وَفِي بَعْضِهَا مَا يُسَاوِي بِالْأَلِفِ وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الصَّحِيحَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَالْأُولَى عَدَّهَا أَهْلُ اللُّغَةِ فِي لَحْنِ الْعَوَامِّ وَأَجَابَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِأَنَّهَا تَغْيِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ لا أن بن عمر نطق بها ومعنى كلام بن عُمَرَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي إِعْتَاقِهِ أَجْرُ الْمُعْتِقِ تَبَرُّعًا وَإِنَّمَا عِتْقُهُ كَفَّارَةٌ لِضَرْبِهِ وَقِيلَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَقِيلَ بَلْ هُوَ مُتَّصِلٌ وَمَعْنَاهُ مَا أَعْتَقْتُهُ إِلَّا لِأَنِّي سَمِعْتُ كَذَا قَوْلُهُ (لَطَمْتُ مَوْلًى لَنَا فَهَرَبْتُ ثُمَّ جِئْتُ قُبَيْلَ الظهر
[1658] فصليت خلف أبي فدعاه ودعاني ثُمَّ قَالَ امْتَثِلْ مِنْهُ فَعَفَا) قَوْلُهُ امْتَثِلْ قِيلَ مَعْنَاهُ عَاقِبْهُ قِصَاصًا وَقِيلَ افْعَلْ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِكَ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى تَطْيِيبِ نَفْسِ الْمَوْلَى الْمَضْرُوبِ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ القصاص في الله وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا وَاجِبُهُ التَّعْزِيرُ لَكِنَّهُ تَبَرَّعَ فَأَمْكَنَهُ مِنَ الْقِصَاصِ فِيهَا وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْمَوَالِي وَاسْتِعْمَالُ التَّوَاضُعِ قَوْلُهُ (لَيْسَ لَنَا إِلَّا خَادِمٌ وَاحِدَةٌ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَالْخَادِمُ بِلَا هاء(11/128)
يُطْلَقُ عَلَى الْجَارِيَةِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ وَلَا يُقَالُ خَادِمَةٌ بِالْهَاءِ إِلَّا فِي لُغَةٍ شَاذَّةٍ قَلِيلَةٍ أَوْضَحْتُهَا فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ قَوْلُهُ (هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا وَيُقَالُ أَيْضًا أَسَافٌ قَوْلُهُ (عَجَزَ عَلَيْكَ إِلَّا حُرُّ وَجْهِهَا) مَعْنَاهُ عَجَزْتَ وَلَمْ تَجِدْ أَنْ تَضْرِبَ إِلَّا حُرَّ وَجْهِهَا وَحُرُّ الْوَجْهِ صفحته ومارق مِنْ بَشَرَتِهِ وَحُرُّ كُلِّ شَيْءٍ أَفْضَلُهُ وَأَرْفَعُهُ قِيلَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ عَجَزَ عَلَيْكَ أَيِ امْتَنَعَ عَلَيْكَ وَعَجَزَ بِفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ أَعْجَزْتُ أن أكون مثل هذا الغراب وَيُقَالُ بِكَسْرِهَا قَوْلُهُ (فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُعْتِقَهَا) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ رَضُوا بِعِتْقِهَا وَتَبَرَّعُوا بِهِ وَإِلَّا فَاللَّطْمَةُ إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَسَمَحُوا لَهُ بِعِتْقِهَا تَكْفِيرًا لِذَنْبِهِ قَوْلُهُ (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الصُّورَةَ مُحَرَّمَةٌ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمُ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ إِكْرَامًا لَهُ لِأَنَّ فِيهِ مَحَاسِنَ الْإِنْسَانِ(11/129)
وَأَعْضَاءَهُ اللَّطِيفَةَ وَإِذَا حَصَلَ فِيهِ شَيْنٌ أَوْ أَثَرٌ كَانَ أَقْبَحَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ (إِنَّهُ ضَرَبَ
[1659] غُلَامَهُ بِالسَّوْطِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ) فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ وَالْوَعْظُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَفْوِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَالْحُكْمُ كَمَا يَحْكُمُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْمَعْمَرِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ قِيلَ(11/130)
لَهُ الْمَعْمَرِيُّ لِأَنَّهُ رَحَلَ إِلَى مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ يَتْبَعُ أَحَادِيثَ مَعْمَرٍ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ غُلَامَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ فَقَالَ أَعُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ فَتَرَكَهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ لَعَلَّهُ لَمْ يَسْمَعِ اسْتِعَاذَتَهُ الْأُولَى لِشِدَّةِ غَضَبِهِ كَمَا لَمْ يَسْمَعْ نِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَكُونُ لَمَّا اسْتَعَاذَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَبَّهَ لِمَكَانِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ قَذَفَ
[1660] مملوكه بالزنى يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ(11/131)
لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنْ يُعَزَّرُ قَاذِفُهُ لِأَنَّ العبد ليس بمحصن وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ مَنْ هُوَ كَامِلُ الرِّقِّ وَلَيْسَ فِيهِ سَبَبُ حُرِّيَّةٍ وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ هَذَا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا أَمَّا فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ فَيُسْتَوْفَى لَهُ الْحَدُّ مِنْ قَاذِفِهِ لِاسْتِوَاءِ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي الْآخِرَةِ قَوْلُهُ (سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ نَبِيَّ التَّوْبَةِ) قَالَ الْقَاضِي وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ وَكَانَتْ تَوْبَةُ مَنْ قَبْلَنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ الْإِيمَانَ وَالرُّجُوعَ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَصْلُ التَّوْبَةِ الرجوع قَوْلُهُ عَنِ الْمَعْرُورِ
[1661] بْنِ سُوَيْدٍ هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالرَّاءِ الْمُكَرَّرَةِ قَوْلُهُ لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحُلَّةَ عِنْدَ الْعَرَبِ ثَوْبَانِ وَلَا تُطْلَقُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ (كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلَامٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) أَمَّا قَوْلُهُ رَجُلٌ مِنْ إِخْوَانِي فَمَعْنَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ إِخْوَانِي لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ أَيْ هَذَا التَّعْيِيرُ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيكَ خُلُقٌ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ فَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ التَّعْيِيرِ(11/132)
وَتَنْقِيصِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَأَنَّهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ قَوْلُهُ (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) مَعْنَى كَلَامِ أَبِي ذَرٍّ الِاعْتِذَارُ عَنْ سَبِّهِ أُمَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ يَعْنِي أَنَّهُ سَبَّنِي وَمَنْ سَبَّ إِنْسَانًا سَبَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَبَا السَّابِّ وَأُمَّهُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ هَذَا مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِلْمَسْبُوبِ أَنْ يَسُبَّ السَّابَّ نَفْسَهُ بِقَدْرِ مَا سَبَّهُ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِأَبِيهِ وَلَا لِأُمِّهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ) الضَّمِيرُ فِي هُمْ إِخْوَانُكُمْ يَعُودُ إِلَى الْمَمَالِيكِ وَالْأَمْرُ بِإِطْعَامِهِمْ مِمَّا يَأْكُلُ السَّيِّدُ وَإِلْبَاسُهُمْ مِمَّا يَلْبَسُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا فِعْلُ أَبِي ذَرٍّ فِي كِسْوَةِ غُلَامِهِ مِثْلَ كِسْوَتِهِ فَعَمَلٌ بِالْمُسْتَحَبِّ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ نَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ بِحَسَبِ الْبُلْدَانِ وَالْأَشْخَاصِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ نَفَقَةِ السَّيِّدِ وَلِبَاسِهِ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ حَتَّى لَوْ قَتَّرَ السَّيِّدُ عَلَى نَفْسِهِ تَقْتِيرًا خَارِجًا عَنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ إِمَّا زُهْدًا وَإِمَّا شُحًّا لَا يَحِلُّ لَهُ التَّقْتِيرُ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَإِلْزَامُهُ وَمُوَافَقَتُهُ إِلَّا بِرِضَاهُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَهُ من العمل مالا يُطِيقُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَزِمَهُ إِعَانَتُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ قَوْلُهُ (فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيَبِعْهُ) وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ وَهَذِهِ(11/133)
الثَّانِيَةُ هِيَ الصَّوَابُ الْمُوَافِقَةُ لِبَاقِي الرِّوَايَاتِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمَسْبُوبَ هُوَ بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ
[1662] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ) هُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وقد شرحناه والكسوة بِكَسْرِ الْكَافِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ الْكَسْرُ أَفْصَحُ وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ وَنَبَّهَ بِالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى سَائِرِ الْمُؤَنِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْعَبْدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
[1663] عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا صَنَعَ لِأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ وَقَدْ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ(11/134)
فَلْيَأْكُلْ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلًا فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ) قَالَ دَاوُدُ يَعْنِي لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَمَّا الْأُكْلَةُ فَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهِيَ اللُّقْمَةُ كَمَا فَسَّرَهُ وَأَمَّا الْمَشْفُوهُ فَهُوَ الْقَلِيلُ لِأَنَّ الشِّفَاهَ كَثُرَتْ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ قَلِيلًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْفُوهًا قَلِيلًا أَيْ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْمُوَاسَاةِ فِي الطَّعَامِ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ صَنَعَهُ أَوْ حَمَلَهُ لِأَنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَشَمَّ رَائِحَتَهُ وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ
[1664] لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْمُصْلِحِ أَجْرَانِ فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمَمْلُوكِ الْمُصْلِحِ وَهُوَ الناصح لسيده والقائم بعبادة ربه المتوجهة عَلَيْهِ وَأَنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ لِقِيَامِهِ(11/135)
بِالْحَقَّيْنِ وَلِانْكِسَارِهِ بِالرِّقِّ
[1665] وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ فَفِيهِ أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا جِهَادَ عَلَيْهِ وَلَا حَجَّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ وَأَرَادَ بِبِرِّ أُمِّهِ الْقِيَامَ بِمَصْلَحَتِهَا فِي النَّفَقَةِ وَالْمُؤَنِ وَالْخِدْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ مِنَ الرَّقِيقِ قَوْلُهُ (وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَحُجُّ حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ لِصُحْبَتِهَا) الْمُرَادُ بِهِ حَجُّ التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدَّمَ بِرَّ الْأُمِّ عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ بِرَّهَا فَرْضٌ فَقُدِّمَ عَلَى التَّطَوُّعِ وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مَنْعَ الْوَلَدِ مِنْ حَجَّةِ التَّطَوُّعِ دُونَ حَجَّةِ الْفَرْضِ قَوْلُهُ (قَالَ
[1666] كَعْبٌ لَيْسَ عَلَيْهِ حِسَابٌ وَلَا عَلَى مُؤْمِنٍ مُزْهِدٍ) الْمُزْهِدُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ وَمَعْنَاهُ قَلِيلُ الْمَالِ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ مَوَالِيهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ حِسَابٌ لِكَثْرَةِ أَجْرِهِ وَعَدَمِ مَعْصِيَتِهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ كَعْبٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِتَوْقِيفٍ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بالِاجْتِهَادِ لِأَنَّ مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ وَأُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ(11/136)
مَسْرُورًا قَوْلُهُ
[1667] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نِعِمَّا للملوك أَنْ يُتَوَفَّى يُحْسِنُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَصَحَابَةَ سَيِّدِهِ) أَمَّا نِعِمَّا فَفِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ قُرِئَ بِهِنَّ فِي السَّبْعِ إِحْدَاهَا كَسْرُ النُّونِ مَعَ إِسْكَانِ الْعَيْنِ وَالثَّانِيَةُ كَسْرُهُمَا وَالثَّالِثَةُ فَتْحُ النُّونِ مَعَ كَسْرِ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ مُشَدَّدَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أي نعم شيء هو ومعناه نعم ماهو فَأُدْغِمَتِ الْمِيمُ فِي الْمِيمِ قَالَ الْقَاضِي وَرَوَاهُ الْعُذْرِيُّ نُعْمًا بِضَمِّ النُّونِ مُنَوَّنًا وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْ لَهُ مَسَرَّةٌ وَقُرَّةُ عَيْنٍ يُقَالُ نُعْمًا لَهُ وَنِعْمَةً لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُحْسِنُ عِبَادَةَ اللَّهِ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِ يُحْسِنُ وَعِبَادَةَ مَنْصُوبَةٌ وَالصَّحَابَةُ هُنَا بِمَعْنَى الصُّحْبَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلُّهُ) وَذَكَرَ حَدِيثَ الِاسْتِسْعَاءِ وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ(11/137)
فِي كِتَابِ الْعِتْقِ مَبْسُوطَةً بِطُرُقِهَا وَعَجَبٌ مِنْ إعادة مسلم لها ها هنا عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِلَى إِعَادَتِهَا وَسَبَقَ هُنَاكَ شَرْحُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُوِّمَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْوَكْسُ الْغِشُّ وَالْبَخْسُ وَأَمَّا الشَّطَطُ فَهُوَ الْجَوْرُ يُقَالُ شَطَّ الرَّجُلُ وَأَشَطَّ وَاسْتَشَطَّ إِذَا جَارَ وَأَفْرَطَ وَأَبْعَدَ فِي مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ وَالْمُرَادُ يُقَوَّمُ بِقِيمَةِ عَدْلٍ لَا بِنَقْصٍ(11/138)
وَلَا بِزِيَادَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكٍ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ شَقِيصًا بِالْيَاءِ وَفِي بَعْضِهَا شِقْصًا بِحَذْفِهَا وَكَذَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ وَهُمَا لُغَتَانِ شِقْصٌ وَشَقِيصٌ كَنِصْفٍ وَنَصِيفٍ أَيْ نَصِيبٌ قَوْلُهُ
[1668] (إِنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَدَعَا بِهِمْ(11/139)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَقَرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ قَوْلُهُ فَجَزَّأَهُمْ هُوَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ ذَكَرَهُمَا بن السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ وَمَعْنَاهُ قَسَمَهُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا فَمَعْنَاهُ قَالَ فِي شَأْنِهِ قَوْلًا شَدِيدًا كَرَاهِيَةً لِفِعْلِهِ وَتَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى تَفْسِيرُ هَذَا الْقَوْلِ الشَّدِيدِ قَالَ لَوْ عَلِمْنَا مَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ كَانَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ تَغْلِيظًا وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ وَأَمَّا أَصْلُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وأحمد وإسحاق وداود وبن جَرِيرٍ وَالْجُمْهُورِ فِي إِثْبَاتِ الْقُرْعَةِ فِي الْعِتْقِ وَنَحْوِهِ وَأَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ عَبِيدًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنَ الثُّلُثِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَيُعْتِقُ ثُلُثَهُمْ بِالْقُرْعَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقُرْعَةُ بَاطِلَةٌ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ بَلْ يُعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ قِسْطَهُ وَيُسْتَسْعَى فِي الْبَاقِي لِأَنَّهَا خَطَرٌ وَهَذَا مَرْدُودٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وحكى أيضا عن بن الْمُسَيِّبِ قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأَخِيرِ (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ فقال لم يسمعه بن سِيرِينَ مِنْ عِمْرَانَ فِيمَا يُقَالُ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أبي المهلب(11/140)
عن عمران قاله بن الْمَدِينِيِّ قُلْتُ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ بن سِيرِينَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عِمْرَانَ وَلَوْ ثَبَتَ عَدَمُ سَمَاعِهِ مِنْهُ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَى الْإِمَامِ مُسْلِمٍ فِيهِ عَتَبٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَابَعَةً بَعْدَ ذِكْرِهِ الطُّرُقَ الصَّحِيحَةَ الْوَاضِحَةَ وَقَدْ سَبَقَ لِهَذَا نَظَائِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
(بَاب جَوَازِ بيع المدبر
[997] قول هـ (إَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ) مَعْنَى أَعْتَقَهُ عَنْ دُبُرٍ أَيْ دَبَّرَهُ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَسُمِّيَ هَذَا تَدْبِيرًا لأنه يحصل العتق فيه فِي دُبُرِ الْحَيَاةِ وَأَمَّا هَذَا الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ فَيُقَالُ لَهُ أَبُو مَذْكُورٍ وَاسْمُ الْغُلَامِ الْمُدَبَّرِ يَعْقُوبُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ قِيَاسًا عَلَى الْمُوصَى بِعِتْقِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَمِمَّنْ جَوَّزَهُ عَائِشَةُ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالسَّلَفِ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ قَالُوا وَإِنَّمَا بَاعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى سَيِّدِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ اقْضِ بِهِ دَيْنَكَ قَالُوا وَإِنَّمَا دَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَهُ لِيَقْضِيَ بِهِ دَيْنَهُ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يكن له مَالٌ غَيْرُهُ فَرَدَّ تَصَرُّفَهُ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ وَكَذَلِكَ يُرَدُّ تَصَرُّفُ مَنْ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ بَلْ بَاطِلٌ وَالصَّوَابُ نَفَاذُ تَصَرُّفِ مَنْ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّهُ فَعَلَ ذلك نظرا له إذا لَمْ يَتْرُكْ لِنَفْسِهِ مَالًا وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ أن الحديث)(11/141)
عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ بِكُلِّ حال مالم يَمُتِ السَّيِّدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ التَّدْبِيرِ ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُحْسَبُ عِتْقُهُ مِنَ الثُّلُثِ وَقَالَ اللَّيْثُ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرُ الْإِمَامِ فِي مَصَالِحِ رَعِيَّتِهِ وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا فِيهِ الرِّفْقُ بهم وبأبطالهم مَا يَضُرُّهُمْ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمُ الَّتِي يُمْكِنُ فَسْخُهَا وَفِيهِ جَوَازُ الْبَيْعِ فِيمَنْ يُدَبَّرُ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ الْآنَ وَقَدْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ قَوْلُهُ (وَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ الله) وفي رواية فاشتراه بن النَّحَّامِ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ هَكَذَا هو في جميع النسخ بن النَّحَّامِ بِالنُّونِ قَالُوا وَهُوَ غَلَطٌ وَصَوَابُهُ فَاشْتَرَاهُ النحام فإن المشتري هُوَ نُعَيْمٌ وَهُوَ النَّحَّامُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(11/142)
دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا نَحْمَةً لِنُعَيْمٍ وَالنَّحْمَةُ الصوت وقيل هي السلعة وقيل النحنحة والله أعلم
(
كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات)
(باب القسامة
[1669] ذَكَرَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ وطرقه حين وجد محيصة بن عَمِّهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَتِيلًا بِخَيْبَرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَوْلِيَائِهِ تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ أَوْ قَاتِلَكُمْ وَفِي رِوَايَةٍ تَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صَاحِبَكُمْ أَمَّا حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ فَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ فِيهِمَا وَبِتَخْفِيفِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَشْهَرُهُمَا التَّشْدِيدُ قَالَ القاضي حَدِيثُ الْقَسَامَةِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَقَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَبِهِ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّين وَالْكُوفِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ بِهِ وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ إِبْطَالُ الْقَسَامَةِ وَأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهَا وَلَا عَمَلَ بِهَا وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالْحَكَمُ بن عيينة وقتادة وأبو قلابة ومسلم بن خالد وبن عُلَيَّةَ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا هَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِهَا فَقَالَ مُعْظَمُ الْحِجَازِيِّينَ يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي الزِّنَادِ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَاللَّيْثِ)(11/143)
وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ وَهُوَ قول الشافعي في القديم وروى عن بن الزُّبَيْرِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَبُو الزِّنَادِ قُلْنَا بِهَا وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ إِنِّي لَأَرَى أَنَّهُمْ أَلْفُ رَجُلٍ فَمَا اخْتَلَفَ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ لَا يَجِبُ بِهَا الْقِصَاصُ وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعُثْمَانَ اللَّيْثِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَرُوِيَ أيضا عن أبي بكر وعمر وبن عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَحْلِفُ فِي الْقَسَامَةِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ يَحْلِفُ الْوَرَثَةُ وَيَجِبُ الْحَقُّ بِحَلِفِهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِالِابْتِدَاءِ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ صِحَاحٍ لَا تَنْدَفِعُ قَالَ مَالِكٌ الَّذِي أَجْمَعَتْ عليه الأئمة قديما وحديثا أن المدعين يبدؤن فِي الْقَسَامَةِ وَلِأَنَّ جَنَبَةَ الْمُدَّعِي صَارَتْ قَوِيَّةً بِاللَّوْثِ قَالَ الْقَاضِي وَضَعَّفَ هَؤُلَاءِ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى الِابْتِدَاءَ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهْمٌ مِنَ الرَّاوِينَ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الِابْتِدَاءَ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَلَمْ يَذْكُرْ رَدَّ الْيَمِينِ وَلِأَنَّ مَنْ رَوَى الِابْتِدَاءَ بِالْمُدَّعِينَ مَعَهُ زِيَادَةٌ وَرِوَايَاتُهَا صِحَاحٌ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا وَلَا تُعَارِضُهَا رِوَايَةُ مَنْ نَسِيَ وَقَالَ كُلُّ مَنْ لَمْ يُوجِبِ الْقِصَاصَ وَاقْتَصَرَ عَلَى الدِّيَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إِلَّا الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ فَقَالَا بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى تَقْتَرِنَ بِهَا شُبْهَةٌ يُغَلَّبُ الظَّنُّ بِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَسَامَةِ وَلَهَا سَبْعُ صُوَرٍ الْأُولَى أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ فِي حَيَاتِهِ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ وَهُوَ قَتَلَنِي أَوْ ضَرَبَنِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ أَوْ فَعَلَ بِي هَذَا مِنْ إِنْفَاذِ مَقَاتِلِي أَوْ جَرَحَنِي وَيَذْكُرُ الْعَمْدَ فَهَذَا مُوجِبٌ لِلْقَسَامَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَادَّعَى مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا قَالَ الْقَاضِي وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا مِنْ فُقَهَاءِ الأمصار غيرهما ولا روى عن غيرهما وخالف فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءَ كَافَّةً فَلَمْ يَرَ أَحَدٌ غيرهما في هذا أقسامه وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وُجُودَ الْأَثَرِ وَالْجُرْحِ فِي كَوْنِهِ قَسَامَةً وَاحْتَجَّ(11/144)
مَالِكٌ فِي ذَلِكَ بِقَضِيَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الموتى قَالُوا فَحَيِيَ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ أَيْضًا بِأَنَّ تِلْكَ حَالَةٌ يُطْلَبُ بهَا غَفْلَةُ النَّاسِ فَلَوْ شَرَطْنَا الشَّهَادَةَ وَأَبْطَلْنَا قَوْلَ الْمَجْرُوحِ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ الدِّمَاءِ غَالِبًا قَالُوا وَلِأَنَّهَا حَالَةٌ يَتَحَرَّى فِيهَا الْمَجْرُوحُ الصِّدْقَ وَيَتَجَنَّبُ الْكَذِبَ وَالْمَعَاصِيَ وَيَتَزَوَّدُ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى فَوَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُكْتَفَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلِهِ بِشَاهِدٍ أَمْ لابد مِنَ اثْنَيْنِ الثَّانِيَةُ اللَّوْثُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَمِنَ اللَّوْثِ شَهَادَةُ الْعَدْلِ وَحْدَهُ وَكَذَا قول جماعة ليسوا عدولا الثالثة إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ بِالْجُرْحِ فَعَاشَ بَعْدَهُ أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُفِيقَ مِنْهُ قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ هُوَ لَوْثٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حنيفة رضي الله عنه لاقسامة هُنَا بَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِشَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ الرَّابِعَةُ يُوجَدُ الْمُتَّهَمُ عِنْدَ الْمَقْتُولِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ أَوْ آتِيًا مِنْ جِهَتِهِ وَمَعَهُ آلَةُ الْقَتْلِ وعليه أثره من لطخ دم وغيره وَلَيْسَ هُنَاكَ سَبْعٌ وَلَا غَيْرُهُ مِمَّا يُمْكِنُ إِحَالَةُ الْقَتْلِ عَلَيْهِ أَوْ تَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ فَهَذَا لَوْثٌ مُوجِبٌ لِلْقَسَامَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ الْخَامِسَةُ أَنْ يَقْتَتِلَ طَائِفَتَانِ فَيُوجَدُ بَيْنَهُمَا قَتِيلٌ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وإسحاق وعن مالك رواية لإقسامه بَلْ فِيهِ دِيَةٌ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى إِنْ كَانَ مِنْ أَحَدِ الطَّائِفَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا فَعَلَى الطَّائِفَتَيْنِ دِيَتُهُ السَّادِسَةُ يُوجَدُ الْمَيِّتُ فِي زَحْمَةِ النَّاسِ قَالَ الشَّافِعِيُّ تَثْبُتُ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَتَجِبُ بِهَا الدِّيَةُ وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ هدر وقال الثوري واسحاق تجب دية فِي بَيْتِ الْمَالِ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وعلى السابعة أَنْ يُوجَدَ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ أَوْ قَبِيلَتِهِمْ أَوْ مَسْجِدِهِمْ فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَغَيْرُهُمْ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ هَذَا قَسَامَةٌ بَلِ الْقَتْلُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْتُلُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَيُلْقِيهِ فِي مَحَلَّةِ طَائِفَةٍ لِيُنْسَبَ إِلَيْهِمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلَّةِ أعدائه لا يغالطهم غَيْرُهُمْ فَيَكُونُ كَالْقِصَّةِ الَّتِي جَرَتْ بِخَيْبَرَ فَحَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ لِوَرَثَةِ الْقَتِيلِ لِمَا كَانَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ الْيَهُودِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سِوَاهُمْ وَعَنْ أَحْمَدَ نَحْوَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَمُعْظَمُ الْكُوفِيِّينَ وُجُودُ الْقَتِيلِ فِي الْمَحَلَّةِ وَالْقَرْيَةِ يُوجِبُ الْقَسَامَةَ وَلَا تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ عِنْدَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الصُّوَرِ السَّبْعِ السَّابِقَةِ إِلَّا هُنَا لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ هِيَ الصُّورَةُ الَّتِي حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا بِالْقَسَامَةِ وَلَا قَسَامَةَ عِنْدَهُمْ إِلَّا إِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ وَبِهِ أَثَرٌ قَالُوا فَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي الْمَسْجِدِ حَلَفَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ إِذَا ادَّعَوْا عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وُجُودُ(11/145)
الْقَتِيلِ فِي الْمَحَلَّةِ يُوجِبُ الْقَسَامَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَثَرٌ وَنَحْوُهُ عَنْ دَاوُدَ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبِّرِ الْكُبْرُ فِي السِّنِّ فَصَمَتَ وَتَكَلَّمَ صَاحِبَاهُ وَتَكَلَّمَ مَعَهُمَا) مَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَقْتُولَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَلَهُ أَخٌ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَلَهُمَا ابْنَا عَمٍّ وَهُمَا مُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ وَهُمَا أَكْبَرُ سِنًّا مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَلَمَّا أَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخُو الْقَتِيلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبِّرْ أَيْ يَتَكَلَّمُ أَكْبَرُ مِنْكَ وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الدَّعْوَى إِنَّمَا هِيَ لِأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا حَقَّ فِيهَا لِابْنَيْ عَمِّهِ وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْأَكْبَرُ وَهُوَ حُوَيِّصَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِكَلَامِهِ حَقِيقَةَ الدَّعْوَى بَلْ سَمَاعَ صُورَةِ الْقِصَّةِ وَكَيْفَ جَرَتْ فَإِذَا أَرَادَ حَقِيقَةَ الدَّعْوَى تَكَلَّمَ صَاحِبُهَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَكَّلَ حُوَيِّصَةَ فِي الدَّعْوَى وَمُسَاعَدَتِهِ أَوْ أُمِرَ بِتَوْكِيلِهِ وَفِي هَذَا فَضِيلَةُ السِّنِّ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْفَضَائِلِ وَلِهَذَا نَظَائِرُ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ بِهَا فِي الْإِمَامَةِ وَفِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ نَدْبًا وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ الْكُبْرَ فِي السِّنِّ مَعْنَاهُ يُرِيدُ الْكُبْرَ فِي السِّنِّ وَالْكُبْرُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ يُرِيدُ وَنَحْوِهَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِلْكُبْرِ بِاللَّامِ وَهُوَ صَحِيحٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا فَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ أَوْ قَاتِلَكُمْ) قَدْ يُقَالُ كَيْفَ عُرِضَتِ الْيَمِينُ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْيَمِينُ لِلْوَارِثِ خَاصَّةً وَالْوَارِثُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ خَاصَّةً وَهُوَ أَخُو الْقَتِيلِ وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَابْنَا عَمٍّ لَا مِيرَاثَ لَهُمَا مَعَ الْأَخِ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّ الْيَمِينَ تَخْتَصُّ بِالْوَارِثِ فَأَطْلَقَ الْخِطَابَ لَهُمْ وَالْمُرَادُ مَنْ تَخْتَصُّ بِهِ الْيَمِينُ وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ كَمَا سَمِعَ كَلَامَ الْجَمِيعِ فِي صُورَةِ قَتْلِهِ وَكَيْفِيَّةِ مَا جَرَى لَهُ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الدَّعْوَى وَقْتَ الْحَاجَةِ مُخْتَصَّةً بِالْوَارِثِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتستحقون(11/146)
قَاتِلَكُمْ أَوْ صَاحِبَكُمْ فَمَعْنَاهُ يَثْبُتُ حَقُّكُمْ عَلَى مَنْ حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ وَهَلْ ذَلِكَ الْحَقُّ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَجُوزُ لَهُمُ الْحَلِفُ إِذَا عَلِمُوا أَوْ ظَنُّوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا عَرَضَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَمِينَ إِنْ وُجِدَ فِيهِمْ هَذَا الشَّرْطَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِذْنَ لَهُمْ فِي الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ ظَنٍّ وَلِهَذَا قَالُوا كَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا) أَيْ تَبْرَأُ إِلَيْكُمْ مِنْ دَعْوَاكُمْ بِخَمْسِينَ يَمِينًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ يُخَلِّصُونَكُمْ مِنَ الْيَمِينِ بِأَنْ يَحْلِفُوا فَإِذَا حَلَفُوا انْتَهَتِ الْخُصُومَةُ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ وَخَلَصْتُمْ أَنْتُمْ مِنَ الْيَمِينِ وَفِي هَذَا دليل لصحة يمين الكافر والفاسق ويهود مَرْفُوعٌ غَيْرُ مُنَوَّنٍ لَا يَنْصَرِفُ لِأَنَّهُ اسْمُ للقبيلة وَالطَّائِفَةِ فَفِيهِ التَّأْنِيثُ وَالْعَلَمِيَّةُ قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى عَقْلَهُ) أَيْ دِيَتُهُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِهِ وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ عِنْدِهِ فَقَوْلُهُ وَدَاهُ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ دَفَعَ دِيَتَهُ وَفِي رِوَايَةٍ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ إِنَّمَا وَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ وَإِصْلَاحًا لِذَاتِ الْبَيْنَ فَإِنَّ أَهْلَ الْقَتِيلِ لَا يَسْتَحِقُّونَ إِلَّا أَنْ يَحْلِفُوا أَوْ يَسْتَحْلِفُوا الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَقَدِ امْتَنَعُوا مِنَ الْأَمْرَيْنِ وَهُمْ مَكْسُورُونَ بِقَتْلِ صَاحِبِهِمْ فَأَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَبْرَهُمْ وَقَطْعَ الْمُنَازَعَةِ وَإِصْلَاحَ ذَاتِ البين(11/147)
بدفع ديته من عنده وقوله فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ صَادَفَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّهَا غَلَطٌ مِنَ الرُّوَاةِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ لَا تُصْرَفُ هَذَا الْمَصْرِفَ بَلْ هِيَ لِأَصْنَافٍ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ صَرْفُهَا مِنْ إِبِلِ الزَّكَاةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ مَعْنَاهُ اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ بَعْدَ أَنْ مَلَكُوهَا ثُمَّ دَفَعَهَا تَبَرُّعًا إِلَى أهل القتيل وحكى القاضي عن بعض العلماءأنه يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ فِي مَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَتَأَوَّلَ هذا الحديث عليه وتأوله بعضهم علىأن أولياء القتيل كانوا محتاجين ممن تُبَاحُ لَهُمُ الزَّكَاةُ وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا قَدْرٌ كَثِيرٌ لَا يُدْفَعُ إِلَى الْوَاحِدِ الحامل مِنَ الزَّكَاةِ بِخِلَافِ أَشْرَافِ الْقَبَائِلِ وَلِأَنَّهُ سَمَّاهُ دِيَةً وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ دَفَعَهُ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الزَّكَاةِ اسْتِئْلَافًا لِلْيَهُودِ لَعَلَّهُمْ يُسْلِمُونَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى كَافِرٍ فَالْمُخْتَارُ مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مُرَاعَاةُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالِاهْتِمَامُ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقَسَامَةِ وَفِيهِ الِابْتِدَاءُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي فِي الْقَسَامَةِ وَفِيهِ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعِي فِي الْقَسَامَةِ وَفِيهِ جَوَازُ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَسَمَاعُ الدَّعْوَى فِي الدِّمَاءِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الْخَصْمِ وَفِيهِ جَوَازُ الْيَمِينِ بِالظَّنِّ وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ وَفِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ يَكُونُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) هَذَا مِمَّا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْوَارِثِ خَاصَّةً لَا على غيره من القبيلةوتأويله عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَعْنَاهُ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ يَمِينًا وَالْحَالِفُ هُمُ الْوَرَثَةُ فَلَا يَحْلِفُ أَحَدٌ مِنَ الْأَقَارِبِ غَيْرُ الْوَرَثَةِ يَحْلِفُ كُلُّ الْوَرَثَةِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قال أبو ثور وبن الْمُنْذِرِ وَوَافَقَنَا مَالِكٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَقَالَ يَحْلِفُ الْأَقَارِبُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَلَا تَحْلِفُ النِّسَاءُ وَلَا الصِّبْيَانُ وَوَافَقَهُ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا فَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ فَجَعَلَ الْحَالِفَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ غير الوارث(11/148)
لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ عَلَى حلف مَنْ يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ) الرُّمَّةُ بِضَمِّ الرَّاءِ الْحَبْلُ وَالْمُرَادُ هُنَا الْحَبْلُ الَّذِي يُرْبَطُ فِي رَقَبَةِ الْقَاتِلِ وَيُسَلَّمُ فِيهِ إِلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ إِنَّ الْقَسَامَةَ يَثْبُتُ فِيهَا الْقِصَاصُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ وَتَأَوَّلَهُ الْقَائِلُونَ لَا قِصَاصَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُسَلَّمَ لِيُسْتَوْفَى مِنْهُ الدِّيَةُ لِكَوْنِهَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ وَفِيهِ أَنَّ الْقَسَامَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى وَاحِدٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَقَالَ أَشْهَبُ وَغَيْرُهُ يحلف الأولياء على ما شاء وأولا يقتلوا إلا واحدا وقال الشافعي رضي الله عنه أن ادعوا على جماعة حلفوا عليهم وثبتت عليهم الدية على الصحيح عند الشَّافِعِيُّ وَعَلَى قَوْلٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ حَلَفُوا عَلَى وَاحِدٍ اسْتَحَقُّوا عَلَيْهِ وَحْدَهُ قَوْلُهُ (فَدَخَلْتُ مِرْبَدًا لَهُمْ يَوْمًا فَرَكَضَتْنِي نَاقَةٌ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ رَكْضَةً بِرِجْلِهَا) الْمِرْبَدُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْبَاءِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْإِبِلُ وَتُحْبَسُ وَالرَّبْدُ الْحَبْسُ وَمَعْنَى رَكَضَتْنِي رَفَسَتْنِي وَأَرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ ضَبَطَ الْحَدِيثَ(11/149)
وَحَفِظَهُ حِفْظًا بَلِيغًا قَوْلُهُ (فَوُجِدَ فِي شَرَبَةٍ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَهُوَ حَوْضٌ يَكُونُ فِي أَصْلِ النَّخْلَةِ وَجَمْعُهُ شَرَبٌ كَثَمَرَةٍ وَثَمَرٌ قَوْلُهُ (لَقَدْ رَكَضَتْنِي فَرِيضَةٌ مِنْ تِلْكَ الْفَرَائِضِ) الْمُرَادُ بِالْفَرِيضَةِ هُنَا النَّاقَةُ مِنْ تِلْكَ النُّوقِ الْمَفْرُوضَةِ فِي الدِّيَةِ وَتُسَمَّى الْمَدْفُوعَةَ فِي الزَّكَاةِ أَوْ فِي الدِّيَةِ فَرِيضَةً لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ أَيْ مُقَدَّرَةٌ بِالسِّنِّ وَالْعَدَدِ وَأَمَّا قَوْلُ الْمَازِرِيِّ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرِيضَةِ هُنَا(11/150)
النَّاقَةُ الْهَرِمَةُ فَقَدْ غَلِطَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ) هَذَا آخِرُ الْفَوَاتِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ مِنْ مُسْلِمٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ أَوَّلِهِ وَقَوْلُهُ عُقَيْبَ هَذَا حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي أَبُو لَيْلَى هُوَ أَوَّلُ سَمَاعِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُفْيَانَ مِنْ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ هكذا هو في معظم النسخ وفي نسخة الحافظ بن عَسَاكِرَ أَنَّ آخِرَ الْفَوَاتِ آخِرُ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَأَوَّلُ السَّمَاعِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ قَوْلُهُ (وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ) الْفَقِيرُ هُنَا عَلَى لَفْظِ الْفَقِيرِ فِي الْآدَمِيِّينَ وَالْفَقِيرُ(11/151)
هُنَا الْبِئْرُ الْقَرِيبَةُ الْقَعْرُ الْوَاسِعَةُ الْفَمُ وَقِيلَ هُوَ الْحَفِيرَةُ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ النَّخْلِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ) مَعْنَاهُ إِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ عَلَيْهِمْ بِقَسَامَتِكُمْ فَإِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ أَيْ يَدْفَعُوا إِلَيْكُمْ دِيَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يُعْلِمُونَا أَنَّهُمْ مُمْتَنِعُونَ مِنَ الْتِزَامِ أَحْكَامِنَا فَيُنْتَقَضُ(11/152)
عَهْدُهُمْ وَيَصِيرُونَ حَرْبًا لَنَا وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ بِالْقَسَامَةِ الدِّيَةُ دُونَ الْقِصَاصِ قَوْلُهُ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(
[1671]
فِيهِ حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ أَنَّهُمْ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَأَسْلَمُوا وَاسْتَوْخَمُوهَا وَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَخَرَجُوا فَصَحُّوا فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَسَاقُوا الذَّوْدَ فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرض وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ مَالِكٌ هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ فَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحَارِبُ قَدْ قَتَلَ فَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو مُصْعَبٍ الْمَالِكِيُّ الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ وَإِنْ قَتَلُوا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ هِيَ عَلَى التَّقْسِيمِ فَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا فَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ فَإِنْ أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا وَلَمْ يَقْتُلُوا طُلِبُوا حَتَّى يُعَزَّرُوا وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ عِنْدَنَا قَالَ أَصْحَابُنَا لِأَنَّ ضَرَرَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُخْتَلِفٌ فَكَانَتْ عُقُوبَاتُهَا مُخْتَلِفَةً وَلَمْ تَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الْمُحَارَبَةِ فِي الصَّحْرَاءِ وَهَلْ تَثْبُتُ فِي الْأَمْصَارِ فِيهِ خِلَافٌ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَثْبُتُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ تَثْبُتُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ هَذَا فَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ الْحُدُودِ وَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ وَقِيلَ لَيْسَ مَنْسُوخًا وَفِيهِمْ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُحَارَبَةِ وَإِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ مَا فَعَلَ قِصَاصًا لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا بِالرُّعَاةِ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ورواه بن إسحاق وموسى)(11/153)
بْنُ عُقْبَةَ وَأَهْلُ السِّيَرِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ النَّهْيُ عَنِ الْمُثْلَةِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ وَلَا نَهَى عَنْ سَقْيِهِمْ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ فَاسْتَسْقَى لَا يُمْنَعُ الْمَاءَ قَصْدًا فَيُجْمَعُ عَلَيْهِ عَذَابَانِ قُلْتُ قَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا الرُّعَاةَ وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ حُرْمَةٌ فِي سَقْيِ الْمَاءِ وَلَا غَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلطَّهَارَةِ أَنْ يَسْقِيَهُ لِمُرْتَدٍّ يَخَافُ الْمَوْتَ مِنَ الْعَطَشِ وَيَتَيَمَّمُ وَلَوْ كَانَ ذميا أو يهيمة وَجَبَ سَقْيُهُ وَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ حِينَئِذٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (إِنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ) هِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَآخِرُهَا نُونٌ ثُمَّ هَاءٌ وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَوْلُهُ (قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا) هِيَ بِالْجِيمِ وَالْمُثَنَّاةِ فَوْقُ وَمَعْنَاهُ اسْتَوْخَمُوهَا كَمَا فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَيْ لَمْ تُوَافِقْهُمْ وَكَرِهُوهَا لِسَقَمٍ أَصَابَهُمْ قَالُوا وَهُوَ مُشْتَقُّ مِنَ الْجَوَى وَهُوَ دَاءٌ فِي الْجَوْفِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَافْعَلُوا فَصَحُّوا) فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا إِبِلُ الصَّدَقَةِ وَفِي غَيْرِ مُسْلِمٍ أَنَّهَا لِقَاحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فَكَانَ بَعْضُ الْإِبِلِ لِلصَّدَقَةِ وَبَعْضُهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثَهُ طَاهِرَانِ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَتِهِمَا بِأَنَّ شُرْبَهُمُ الْأَبْوَالَ كَانَ لِلتَّدَاوِي وَهُوَ جَائِزٌ بِكُلِّ النَّجَاسَاتِ سِوَى الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرَاتِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ أَذِنَ لَهُمْ فِي شُرْبِ لَبَنِ الصَّدَقَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ أَلْبَانَهَا لِلْمُحْتَاجِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ إِذْ ذَاكَ مِنْهُمْ قَوْلُهُ (ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرُّعَاةِ فَقَتَلُوهُمْ) وَفِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ الرِّعَاءُ وَهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ رَاعٍ وَرُعَاةٌ كَقَاضٍ وَقُضَاةٌ وَرَاعٍ وَرِعَاءٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ(11/154)
وَبِالْمَدِّ مِثْلَ صَاحِبٍ وَصِحَابٍ قَوْلُهُ (وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ سَمَلَ بِاللَّامِ وَفِي بَعْضِهَا سَمَرَ بِالرَّاءِ وَالْمِيمُ مُخَفَّفَةٌ وَضَبَطْنَاهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فِي الْبُخَارِيِّ سَمَّرَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَمَعْنَى سَمَلَ بِاللَّامِ نَقَّاهَا وَأَذْهَبَ مَا فِيهَا وَمَعْنَى سَمَّرَ بِالرَّاءِ كَحَّلَهَا بِمَسَامِيرَ مَحْمِيَّةٍ وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى قَوْلُهُ (لَهُمْ بِلِقَاحٍ(11/155)
هِيَ جَمْعُ لِقْحَةٍ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا وَهِيَ النَّاقَةُ ذَاتُ الدُّرِّ قَوْلُهُ (وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ) أَيْ وَلَمْ يَكْوِهِمْ وَالْحَسْمُ فِي اللُّغَةِ كَيُّ الْعِرْقِ بالنار لينقطع الدَّمَ قَوْلُهُ (وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ الْمُومُ وَهُوَ الْبِرْسَامُ) الْمُومُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَأَمَّا الْبِرْسَامُ فَبِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ اخْتِلَالِ الْعَقْلِ وَيُطْلَقُ عَلَى وَرَمِ الرَّأْسِ(11/156)
وَوَرَمِ الصَّدْرِ وَهُوَ مُعَرَّبٌ وَأَصْلُ اللَّفْظَةِ سُرْيَانِيَّةٌ قَوْلُهُ (وَبَعَثَ مَعَهُمْ قَائِفًا يَقْتَصُّ أَثَرَهُمْ) الْقَائِفُ هُوَ الَّذِي يَتَتَبَّعُ الْآثَارَ وَغَيْرَهَا
()
[1672]
قَوْلُهُ (إَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا رَمَقٌ فَقِيلَ لَهَا أَقَتَلَكِ فُلَانٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا ثُمَّ قَالَ لَهَا الثَّانِيَةَ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا ثُمَّ سَأَلَهَا الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ نَعَمْ وَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ حجرين)(11/157)
وَفِي رِوَايَةٍ قَتَلَ جَارِيَةً مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى حُلِيٍّ لَهَا ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي قَلِيبٍ وَرَضَخَ رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ فَأَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجَمَ حَتَّى يَمُوتَ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَسَأَلُوهَا مَنْ صَنَعَ هذا بك فلان فُلَانٌ حَتَّى ذَكَرُوا الْيَهُودِيَّ فَأَوْمَتْ بِرَأْسِهَا فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ أَمَّا الْأَوْضَاحُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فَهِيَ قِطَعُ فِضَّةٍ كَمَا فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ (وَبِهَا رَمَقٌ) هُوَ بَقِيَّةُ الْحَيَاةِ وَالرُّوحِ وَالْقَلِيبُ الْبِئْرُ وَقَوْلُهُ رَضَخَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ وَرَضَّهُ بِالْحِجَارَةِ وَرَجَمَهُ بِالْحِجَارَةِ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ لِأَنَّهُ إِذَا وَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى حَجَرٍ وَرُمِيَ بِحَجَرٍ آخَرَ فَقَدْ رُجِمَ وَقَدْ رُضَّ وَقَدْ رُضِخَ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَجَمَهَا الرَّجْمَ الْمَعْرُوفَ مَعَ الرَّضْخِ لِقَوْلِهِ ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي قَلِيبٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا قَتْلُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَهُوَ إِجْمَاعُ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ وَمِنْهَا أَنَّ الْجَانِيَ عَمْدًا يُقْتَلُ قِصَاصًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَتَلَ فإن قتل بِسَيْفٍ قُتِلَ هُوَ بِالسَّيْفِ وَإِنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا قُتِلَ بِمِثْلِهِ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّ رَضَخَهَا فَرُضِخَ هُوَ وَمِنْهَا ثُبُوتُ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلَاتِ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمُحَدَّدَاتِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا قِصَاصَ إِلَّا فِي الْقَتْلِ بِمُحَدَّدٍ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ كَانَ مَعْرُوفًا بِقَتْلِ النَّاسِ بِالْمَنْجَنِيقِ أَوْ بِالْإِلْقَاءٍ فِي النَّارِ(11/158)
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي مُثَقَّلِ الْحَدِيدِ كَالدَّبُّوسِ أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ شِبْهَ عَمْدٍ بِأَنْ قَتَلَ بِمَا لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا فَتَعَمَّدَ الْقَتْلَ بِهِ كَالْعَصَا وَالسَّوْطِ وَاللَّطْمَةِ وَالْقَضِيبِ وَالْبُنْدُقَةِ وَنَحْوِهَا فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ يَجِبُ فِيهِ الْقَوْدُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَمِنْهَا وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى الَّذِي يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ وَمِنْهَا جَوَازُ سُؤَالِ الْجَرِيحِ مَنْ جَرَحَكَ وَفَائِدَةُ السُّؤَالِ أَنْ يُعْرَفَ الْمُتَّهَمُ لِيُطَالَبَ فَإِنْ أَقَرَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ وَإِنْ أَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمَجْرُوحِ هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ وقد سبق في باب القسامة وأن مَذْهَبَ مَالِكٍ ثُبُوتُ الْقَتْلِ عَلَى الْمُتَّهَمِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمَجْرُوحِ وَتَعَلَّقُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَذَا تَعَلُّقٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّ اعْتَرَفَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ مسلم في أحد رِوَايَاتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَإِنَّمَا قُتِلَ بِاعْتِرَافِهِ وَاللَّهُ أعلم
(باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه (فاتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه)
[1673] قوله (قاتل يعلى بن منية أو بن أُمَيَّةَ رَجُلًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ)(11/159)
فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أيعض أحدكم كما يعض الفحل لادية لَهُ) وَفِي رِوَايَةٍ
[1674] أَنَّ أَجِيرًا لِيَعْلَى عَضَّ رَجُلٌ ذِرَاعَهُ أَمَّا مُنْيَةُ فَبِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتُ وَهِيَ أُمُّ يَعْلَى وَقِيلَ جَدَّتُهُ وَأَمَّا أُمَيَّةُ فَهُوَ أَبُوهُ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ وَيَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ يَعْلَى هُوَ الْمَعْضُوضُ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ أَنَّ الْمَعْضُوضَ هو أَجِيرُ يَعْلَى لَا يَعْلَى فَقَالَ الْحُفَّاظُ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ أَجِيرُ يَعْلَى لَا يَعْلَى وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ جَرَتَا لِيَعْلَى وَلِأَجِيرِهِ فِي وَقْتٍ أَوْ وَقْتَيْنِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ) هُوَ بِالْحَاءِ أَيِ الْفَحْلُ مِنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلَالَةٌ لِمَنْ قَالَ إِنَّهُ إِذَا عَضَّ رَجُلٌ يَدَ غَيْرِهِ فَنَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ فَسَقَطَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ أَوْ فَكُّ لِحْيَتِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكَثِيرِينَ أَوِ الْأَكْثَرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ يَضْمَنُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ) هُوَ بِفَتْحِ الضَّادِ فِيهِمَا عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ وَمَعْنَاهُ يَعَضُّهَا قال أهل(11/160)
اللُّغَةِ الْقَضْمُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ
[1673] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا تَأْمُرنِي تَأْمُرنِي أَنْ آمُرَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ ادْفَعْ يَدَكَ حَتَّى يَعَضَّهَا ثُمَّ انْتَزِعْهَا) لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا أَمْرَهُ بِدَفْعِ يَدِهِ لِيَعَضَّهَا وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ أَيْ إِنَّكَ لَا تَدَعُ يَدَكَ فِي فِيهِ يَعَضُّهَا فَكَيْفَ تُنْكِرُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَزِعَ يَدَهُ مِنْ فِيكَ وَتُطَالِبُهُ بِمَا جَنَى فِي جَذْبِهِ لِذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا الْبَابُ مِمَّا تَتَبَّعَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا حَدِيثَ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ قَاتَلَ يَعْلَى وَذَكَرَ مِثْلَهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ ثُمَّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ بن يَعْلَى ثُمَّ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ بن يعلى ثم حديث بن جريج عن عطاء عن بن يَعْلَى ثُمَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ بُدَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى وَهَذَا اخْتِلَافٌ عَلَى عَطَاءٍ وَذَكَرَ أيضا حديث قريش بن يونس عن بن عون عن بن سيرين عن عمران ولم يذكر فيه نوعا منه ولا من بن سِيرِينَ مِنْ عِمْرَانَ وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ لِابْنِ سِيرِينَ عَنْ عِمْرَانَ شَيْئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ(11/161)
قُلْتُ الْإِنْكَارُ عَلَى مُسْلِمٍ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُ مِنَ الِاخْتِلَافِ عَلَى عَطَاءٍ ضعف الحديث ولا من كون بن سِيرِينَ لَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّمَاعِ مِنْ عِمْرَانَ وَلَا رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ شَيْئًا أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَ مِنْهُ بَلْ هُوَ مَعْدُودٌ فِيمَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَالثَّانِي لَوْ ثَبَتَ ضَعْفُ هَذَا الطَّرِيقِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ ضَعْفُ الْمَتْنِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِالطُّرُقِ الْبَاقِيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَقَدْ سَبَقَ مَرَّاتٍ أَنَّ مُسْلِمًا يَذْكُرُ فِي الْمُتَابَعَاتِ مَنْ هُوَ دُونَ شَرْطِ الصَّحِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها
[1675] قَوْلُهُ (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُخْتَ الرُّبَيِّعِ أُمَّ حَارِثَةَ جَرَحَتْ إِنْسَانًا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ فَقَالَتْ أُمُّ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَةَ وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أُمَّ الرُّبَيِّعِ الْقِصَاصُ كِتَابُ اللَّهِ)(11/162)
قَالَتْ لَا وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا قَالَ فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ هَذِهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ وَخَالَفَهُ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أن عمته الربيع كسرت ثنية حارثة وَطَلَبُوا إِلَيْهَا الْعَفْوَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَوْا إِلَّا الْقِصَاصَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوْا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَحَصَلَ الِاخْتِلَافُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْجَارِيَةَ أُخْتُ الرُّبَيِّعِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا الرُّبَيِّعُ بِنَفْسِهَا وَالثَّانِي أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْحَالِفَ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا هِيَ أُمُّ الرَّبِيعِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمَعْرُوفُ فِي الرِّوَايَاتِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ ذَكَرَهَا مِنْ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ وَكَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ كُتُبِ السُّنَنِ قُلْتُ إِنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ أَمَّا الرُّبَيِّعُ الجارحة في رواية البخاري وأخت الجارحة فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَهِيَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَأَمَّا أُمُّ الرَّبِيعِ الْحَالِفَةُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى (الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ) هُمَا مَنْصُوبَانِ أَيْ أَدُّوا الْقِصَاصَ وَسَلِّمُوهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ) أَيْ حُكْمُ كِتَابِ اللَّهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي السن وهو قوله والسن بالسن وَأَمَّا قَوْلُهُ وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا فَلَيْسَ مَعْنَاهُ رَدَّ حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الرَّغْبَةُ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ أَنْ يَعْفُوَ وَإِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفَاعَةِ إِلَيْهِمْ فِي الْعَفْوِ وإنما حلف ثقة بهم أن لا يحنثوه أو ثقة بفضل الله ولطفه أن لا يُحْنِثَهُ بَلْ يُلْهِمُهُمُ الْعَفْوَ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مَعْنَاهُ لَا يُحْنِثُهُ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا 1 جَوَازُ الْحَلِفِ فِيمَا يَظُنُّهُ الْإِنْسَانُ وَمِنْهَا جَوَازُ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ لَا يَخَافُ الْفِتْنَةَ بِذَلِكَ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا مَرَّاتٍ 2 وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ 3 وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْعَفْوِ 4 وَمِنْهَا أَنَّ الْخِيَرَةَ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ لَا إِلَى الْمُسْتَحَقِّ عليه(11/163)
5 - وَمِنْهَا إِثْبَاتُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسٍ وَلَا طَرَفٍ بَلْ تَتَعَيَّنُ دِيَةُ الْجِنَايَةِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى والأنثى بالأنثى الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ثُبُوتُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا مِمَّا يَقْبَلُ الْقِصَاصَ وَاحْتَجُّوا بقوله تعالى النفس بالنفس إِلَى آخِرِهَا وَهَذَا وَإِنْ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ لِلْأُصُولِيِّينَ فَإِنَّمَا الْخِلَافُ إِذَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِتَقْرِيرِهِ وَمُوَافَقَتِهِ فَإِنْ وَرَدَ كَانَ شَرْعًا لَنَا بِلَا خِلَافٍ وَقَدْ وَرَدَ شَرْعُنَا بِتَقْرِيرِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ يَجِبُ الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي النَّفْسِ وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَهَا وَمِنْهَا وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِذَا أَقَلَّهَا كُلَّهَا فَإِنْ كَسَرَ بَعْضَهَا فَفِيهِ وَفِي كَسْرِ سَائِرِ الْعِظَامِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ لِلْعُلَمَاءِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب مَا يُبَاحُ بِهِ دَمُ الْمُسْلِمِ
[1676] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِ وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ الزَّانِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ بَعْدَ النُّونِ وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ قُرِئَ بِهَا فِي السَّبْعِ كَمَا فِي قوله تعالى الكبير المتعال وَغَيْرِهِ وَالْأَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِي كُلِّ هَذَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ قَتْلِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَالْمُرَادُ)(11/164)
رَجْمُهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَسَيَأْتِي إِيضَاحُهُ وَبَيَانُ شُرُوطِهِ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْقِصَاصُ بِشَرْطِهِ وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِمْ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُرْتَدٍّ عَنِ الْإِسْلَامِ بِأَيِّ رِدَّةٍ كَانَتْ فَيَجِبُ قَتْلُهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَيَتَنَاوَلُ أَيْضًا كُلَّ خَارِجٍ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِبِدْعَةٍ أو بغي أوغيرهما وَكَذَا الْخَوَارِجُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا عَامٌّ يُخَصُّ مِنْهُ الصَّائِلُ وَنَحْوُهُ فَيُبَاحُ قَتْلُهُ فِي الدَّفْعِ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ لَا يَحِلُّ تَعَمُّدُ قَتْلِهِ قَصْدًا إِلَّا فِي هذه الثلاثة والله أعلم(11/165)
(باب ببان إثم من سن القتل
[1677] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُقْتَلُ نفس ظلما إلا كان على بن آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) الْكِفْلُ بِكَسْرِ الْكَافِ الْجُزْءُ وَالنَّصِيبُ وَقَالَ الْخَلِيلُ هُوَ الضِّعْفُ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَدَعَ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ كُلِّ مَنِ اقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ مِثْلَ عَمَلِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمِثْلُهُ من ابتدع شيأ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ كُلِّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى هُدًى وَمَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى ضَلَالَةٍ والله أعلم)(11/166)
(بَاب الْمُجَازَاةِ بِالدِّمَاءِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهَا أَوَّلُ (مَا يُقْضَى فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
[1678] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ) فِيهِ تَغْلِيظُ أَمْرِ الدِّمَاءِ وَأَنَّهَا أَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَذَا لِعِظَمِ أَمْرِهَا وَكَثِيرِ خَطَرِهَا وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الثَّانِي فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَهُوَ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ)
بَاب تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ
[1679] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض السنة اثنى عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ شَهْرُ مضر(11/167)
الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) أَمَّا ذُو الْقَعْدَةِ فَبِفَتْحِ الْقَافِ وَذُو الْحِجَّةِ بِكَسْرِ الْحَاءِ هَذِهِ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ وَيَجُوزُ فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ كَسْرُ الْقَافِ وَفَتْحُ الْحَاءِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أن الأشهر الْحُرُمَ الْأَرْبَعَةَ هِيَ هَذِهِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْأَدَبِ الْمُسْتَحَبِّ فِي كَيْفِيَّةِ عَدِّهَا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْأَدَبِ يُقَالُ الْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ لِيَكُونَ الْأَرْبَعَةُ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَعَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَطْبَقَ النَّاسُ مِنَ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ هَذَا التَّقْيِيدَ مُبَالَغَةً فِي إِيضَاحِهِ وَإِزَالَةً لِلَّبْسِ عَنْهُ قَالُوا وَقَدْ كَانَ بَيْنَ بَنِي مُضَرَ وَبَيْنَ رَبِيعَةَ اخْتِلَافٌ فِي رَجَبٍ فَكَانَتْ مُضَرُ تَجْعَلُ رَجَبًا هَذَا الشَّهْرَ الْمَعْرُوفَ الْآنَ وَهُوَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ وَكَانَتْ رَبِيعَةُ تَجْعَلُهُ رَمَضَانَ فَلِهَذَا أَضَافَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُضَرَ وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَقِيلَ إِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُسَمِّي رَجَبًا وَشَعْبَانَ الرَّجَبَيْنِ وَقِيلَ كَانَتْ تُسَمِّي جُمَادَى وَرَجَبًا جُمَادَيْنِ وَتُسَمِّي شَعْبَانَ رَجَبًا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَمَسَّكُونَ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَأْخِيرُ الْقِتَالِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَاتٍ فَكَانُوا إِذَا احْتَاجُوا إِلَى قِتَالٍ أَخَّرُوا تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ إِلَى الشَّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ صَفَرٌ ثُمَّ يُؤَخِّرُونَهُ فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى إِلَى شَهْرٍ آخَرَ وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ فِي سَنَةٍ بَعْدَ سَنَةٍ حَتَّى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ وَصَادَفَتْ حَجَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمَهُمْ وَقَدْ تَطَابَقَ الشَّرْعُ وَكَانُوا فِي تِلْكَ السَّنَةِ قَدْ حَرَّمُوا ذَا الْحِجَّةِ لِمُوَافَقَةِ الْحِسَابِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الِاسْتِدَارَةَ صَادَفَتْ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ كَانُوا يَنْسَئُونَ أَيْ يُؤَخِّرُونَ وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكفر فَرُبَّمَا احْتَاجُوا إِلَى الْحَرْبِ فِي الْمُحَرَّمِ فَيُؤَخِّرُونَ تَحْرِيمَهُ إِلَى صَفَرٍ ثُمَّ يُؤَخِّرُونَ صَفَرٍ فِي سَنَةٍ أُخْرَى فَصَادَفَ تِلْكَ السَّنَةَ رُجُوعَ الْمُحَرَّمِ إِلَى مَوْضِعِهِ وَذَكَرَ الْقَاضِي(11/168)
وُجُوهًا أُخَرَ فِي بَيَانِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَتْ بِوَاضِحَةٍ وَيُنْكَرُ بَعْضُهَا قَوْلُهُ (ثُمَّ قَالَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةَ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ إِلَى آخِرِهِ) هَذَا السُّؤَالُ وَالسُّكُوتُ وَالتَّفْسِيرُ أَرَادَ بِهِ التَّفْخِيمَ وَالتَّقْرِيرَ وَالتَّنْبِيهَ عَلَى عِظَمِ مَرْتَبَةِ هَذَا الشَّهْرِ وَالْبَلَدِ وَالْيَوْمِ وَقَوْلُهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ هَذَا مِنْ حُسْنِ أَدَبِهِمْ وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنَ الْجَوَابِ فَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الْإِخْبَارِ بِمَا يَعْرِفُونَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) الْمُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ بَيَانُ تَوْكِيدِ غِلَظِ تَحْرِيمِ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَذِكْرُ بَيَانِ إِعْرَابِهِ وَأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ يَقُولُ بِالتَّكْفِيرِ بِالْمَعَاصِي بَلِ الْمُرَادُ بِهِ كُفْرَانُ النِّعَمِ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنِ اسْتَحَلَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا شُبْهَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ) فِيهِ وُجُوبُ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَجِبُ تَبْلِيغُهُ بِحَيْثُ يَنْتَشِرُ قَوْلُهُ(11/169)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
((فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ) احْتَجَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ لِجَوَازِ رِوَايَةِ الْفُضَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ عِنْدَهُمْ وَلَا فِقْهَ إِذَا ضَبَطَ مَا يُحَدِّثُ به قَوْلُهُ (قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَخَذَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ) إِنَّمَا أَخَذَ بِخِطَامِهِ لِيَصُونَ الْبَعِيرَ مِنَ الِاضْطِرَابِ عَلَى صَاحِبِهِ وَالتَّهْوِيشِ عَلَى رَاكِبِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُطْبَةِ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ مِنْ مِنْبَرٍ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَغَيْرِهِمَا وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ كُلَّمَا ارْتَفَعَ كَانَ أَبْلَغَ فِي إِسْمَاعِهِ النَّاسَ وَرُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ وَوُقُوعِ كَلَامِهِ فِي نُفُوسِهِمْ قَوْلُهُ (انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا وَإِلَى جُزَيْعَةٍ مِنَ الْغَنَمِ فَقَسَمَهَا بَيْنَنَا) انْكَفَأَ بِهَمْزِ آخِرِهِ أَيِ انْقَلَبَ وَالْأَمْلَحُ هُوَ الَّذِي فيه بياض)(11/170)
وَسَوَادٌ وَالْبَيَاضُ أَكْثَرُ وَقَوْلُهُ جُزَيْعَةٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ جَزِيعَةٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي رِوَايَةِ الْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ الَّذِي ضَبَطَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْغَنَمِ تَصْغِيرُ جِزْعَةٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهِيَ الْقَلِيلُ مِنَ الشَّيْءِ يُقَالُ جَزَعَ لَهُ مِنْ مَالِهِ أي قطع وبالثاني ضبطه بن فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ قَالَ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الغنم وكأنها فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ كَضَفِيرَةٍ بِمَعْنَى مَضْفُورَةٍ قَالَ الْقَاضِي قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ قَوْلُهُ ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى آخر الحديث وهم من بن عون فيما قيل وإنما رواه بن سيرين عن أنس فأدرجه بن عَوْنٍ هُنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَرَوَاهُ عَنِ بن سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الحديث عن بن عَوْنٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هَذَا الْكَلَامَ فَلَعَلَّهُ تركه عمدا وقد رواه أيوب وقرة عن بن سِيرِينَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قَالَ الْقَاضِي وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي خُطْبَةِ عِيدِ الْأَضْحَى فَوَهِمَ فِيهَا الرَّاوِي فَذَكَرَهَا مَضْمُومَةً إِلَى خُطْبَةِ الْحَجَّةِ أوهما حَدِيثَانِ ضُمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى(11/171)
الْآخَرِ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذَا بَعْدَ هَذَا فِي كِتَابِ الضَّحَايَا مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ وَهِشَامٍ عن بن سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَأَمَرَ مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنْ يُعِيدَ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فَانْكَفَأَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا فَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ دَافِعٌ لِلْإِشْكَالِ
(بَاب صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ (وَتَمْكِينِ وَلِيِّ الْقَتِيلِ مِنْ الْقِصَاصِ وَاسْتِحْبَابِ طَلَبِ الْعَفْوِ مِنْهُ)
[1680] قَوْلُهُ (جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا قَتَلَ أَخِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَتَلْتَهُ فَقَالَ إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ قَالَ نَعَمْ قَتَلْتُهُ قَالَ كَيْفَ قَتَلْتَهُ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْتُهُ) أَمَّا النِّسْعَةُ فَبِنُونٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ سِينٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَهِيَ حَبْلٌ مِنْ جُلُودٍ مَضْفُورَةٍ وَقَرْنُهُ جَانِبُ رَأْسِهِ وَقَوْلُهُ (يَخْتَبِطُ) أَيْ يَجْمَعُ الْخَبْطَ وَهُوَ وَرَقُ الثَّمَرِ بِأَنْ يَضْرِبَ الشَّجَرَ بِالْعَصَا فَيَسْقُطُ ورقه فيجمعه)(11/172)
عَلَفًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْإِغْلَاظُ عَلَى الْجُنَاةِ وَرَبْطِهِمْ وَإِحْضَارِهِمْ إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفِيهِ سُؤَالُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى فَلَعَلَّهُ يُقِرُّ فَيَسْتَغْنِي الْمُدَّعِي وَالْقَاضِي عَنِ التَّعَبِ فِي إِحْضَارِ الشُّهُودِ وَتَعْدِيلِهِمْ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْإِقْرَارِ حُكْمٌ بِيَقِينٍ وَبِالْبَيِّنَةِ حُكْمٌ بِالظَّنِّ وَفِيهِ سُؤَالُ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ الْوَلِيَّ عَنِ الْعَفْوِ عَنِ الْجَانِي وَفِيهِ جَوَازُ الْعَفْوِ بَعْدَ بُلُوغِ الْأَمْرِ إِلَى الْحَاكِمِ وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ وَفِيهِ قَبُولُ الْإِقْرَارِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ قَوْلُهُ (فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ فَرَجَعَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَعَلَّهُ قَالَ بَلَى قَالَ فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاكَ قَالَ فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِنَّهُ انْطَلَقَ بِهِ فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ فَالصَّحِيحُ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي أَنَّهُ لَا فَضْلَ وَلَا مِنَّةً لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ منه بخلاف ما لو عفى عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ وَجَزِيلُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَجَمِيلُ الثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا وَقِيلَ فَهُوَ مِثْلُهُ فِي أَنَّهُ قَاتِلٌ وَإِنِ اخْتَلَفَا في التحريم والإباحة لكنهما استويا في طاعتهما الْغَضَبَ وَمُتَابَعَةِ الْهَوَى لَا سِيَّمَا وَقَدْ طَلَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ الْعَفْوَ وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ صَادِقٌ فيه لا يهام لمقصود صَحِيحٍ وَهُوَ أَنَّ الْوَلِيَّ رُبَّمَا خَافَ فَعَفَا وَالْعَفْوُ مَصْلَحَةٌ لِلْوَلِيِّ وَالْمَقْتُولِ فِي دِيَتِهِمَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبُوءُ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْجَانِي وَهُوَ إِنْقَاذُهُ مِنَ الْقَتْلِ فَلَمَّا كَانَ الْعَفْوُ مَصْلَحَةً تَوَصَّلَ(11/173)
إِلَيْهِ بِالتَّعْرِيضِ وَقَدْ قَالَ الضَّمْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُسْتَحَبُّ لِلْمُفْتِي إِذَا رَأَى مَصْلَحَةً فِي التَّعْرِيضِ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يُعَرِّضَ تَعْرِيضًا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ قَالُوا وَمِثَالُهُ أَنْ يَسْأَلَهُ إِنْسَانٌ عَنِ الْقَاتِلِ هَلْ لَهُ تَوْبَةٌ وَيَظْهَرُ لِلْمُفْتِي بِقَرِينَةٍ أَنَّهُ إِنْ أَفْتَى بِأَنَّ لَهُ تَوْبَةً تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ وَهِيَ أَنَّ الصَّائِلَ يَسْتَهْوِنُ الْقَتْلَ لِكَوْنِهِ يَجِدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ مَخْرَجًا فَيَقُولُ الْمُفْتِي الحالة هذه صح عن بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا تَوْبَةَ لِقَاتِلٍ فَهُوَ صادق في أنه صح عن بن عَبَّاسٍ وَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي لَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ ولا يوافق بن عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَكِنَّ السَّائِلَ إِنَّمَا يفهم منه موافقته بن عَبَّاسٍ فَيَكُونُ سَبَبًا لِزَجْرِهِ فَهَكَذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَمَنْ يَسْأَلُ عَنِ الْغِيبَةِ فِي الصَّوْمِ هل يُفْطِرُ بِهَا فَيَقُولُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ فِي هَذَيْنِ فَكَيْفَ تَصِحُّ إِرَادَتُهُمَا مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهُ لِيَقْتُلَهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلِ الْمُرَادُ غَيْرُهُمَا وَهُوَ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فِي الْمُقَاتَلَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْقِتَالِ عَصَبِيَّةً وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّعْرِيضُ كَمَا ذكرناه وسبب قوله ما قدمناه لكون الْوَلِيِّ يَفْهَمُ مِنْهُ دُخُولَهُ فِي مَعْنَاهُ وَلِهَذَا تَرَكَ قَتْلَهُ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ) فَقِيلَ مَعْنَاهُ يتحمل إثم المقتول باتلافه مهمته وَإِثْمَ الْوَلِيِّ لِكَوْنِهِ فَجَعَهُ فِي أَخِيهِ وَيَكُونُ قد أوحى إليه ص(11/174)
بِذَلِكَ فِي هَذَا الرَّجُلِ خَاصَّةً وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَعْنَاهُ يَكُونُ عَفْوُكَ عَنْهُ سَبَبًا لِسُقُوطِ إِثْمِكَ وَإِثْمِ أَخِيكَ الْمَقْتُولِ وَالْمُرَادُ إِثْمُهُمَا السَّابِقُ بِمَعَاصٍ لَهُمَا مُتَقَدِّمَةٍ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَذَا الْقَاتِلِ فَيَكُونُ مَعْنَى يَبُوءُ يَسْقُطُ وَأَطْلَقَ هَذَا اللَّفْظَ عليه مجازا قال القاضي وفي هذا الْحَدِيثِ أَنَّ قَتْلَ الْقِصَاصِ لَا يُكَفِّرُ ذَنْبَ القاتل بالكلية وإن كفرها يبنه وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَيَبْقَى حَقُّ الْمَقْتُولِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب دِيَةِ الْجَنِينِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ (وَشِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي)
[1681] قَوْلُهُ (إِنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا ضَرَبَتْهَا بِعَمُودِ فسطاط وهي حبلى فقتلتها أَمَّا قَوْلُهُ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ فَضَبَطْنَاهُ عَلَى شُيُوخِنَا فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ بِغُرَّةٍ بِالتَّنْوِينِ وَهَكَذَا قَيَّدَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِهِمْ وَفِي مُصَنَّفَاتِهِمْ فِي هَذَا وَفِي شُرُوحِهِمْ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الرِّوَايَةُ فِيهِ بِغُرَّةٍ بِالتَّنْوِينِ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنْهُ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِضَافَةِ قَالَ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَأَقْيَسُ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ الْوَجْهَيْنِ ثُمَّ قَالَ الصَّوَابُ رِوَايَةُ التَّنْوِينِ قُلْنَا وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ وَيُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ فِي بَابِ دِيَةِ جَنِينِ الْمَرْأَةِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُرَّةِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً وقد فسر الغرة في الحديث بعبد أو أمة قال العلماء وأو هُنَا لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلشَّكِّ وَالْمُرَادُ بِالْغُرَّةِ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ كَأَنَّهُ عَبَّرَ بِالْغُرَّةِ عَنِ الْجِسْمِ كُلِّهِ كَمَا قَالُوا أَعْتَقَ رَقَبَةً وَأَصْلُ الْغُرَّةِ بَيَاضٌ فِي الْوَجْهِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو المراد بالغرة الأبيض منهما خاصة قال ولا يجزئ الْأَسْوَدُ قَالَ وَلَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ)(11/175)
بِالْغُرَّةِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى شَخْصِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لَمَا ذَكَرَهَا وَلَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ هَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو وَهُوَ خِلَافُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ تَجْزِي فِيهَا السَّوْدَاءُ وَلَا تَتَعَيَّنُ الْبَيْضَاءُ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا عُشْرُ دِيَةِ الْأُمِّ أَوْ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الْأَبِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الغرة عند العرب أنفس الشئ وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْإِنْسَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ فَرِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ وَقَدْ أَخَذَ بِهَا بَعْضُ السَّلَفِ وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ أَوْ فَرَسٌ وَقَالَ دَاوُدُ كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْغُرَّةِ يَجْزِي وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْجَنِينِ هِيَ الْغُرَّةُ سَوَاءٌ كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى فَيَكْثُرُ فِيهِ النِّزَاعُ فَضَبَطَهُ الشَّرْعُ بِضَابِطٍ يَقْطَعُ النزاع وسواء كان خلقه كامل الأعضاء أم نَاقِصَهَا أَوْ كَانَ مُضْغَةً تَصَوَّرَ فِيهَا خَلْقُ آدَمِيٍّ فَفِي كُلِّ ذَلِكَ الْغُرَّةُ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ الْغُرَّةُ تَكُونُ لِوَرَثَتِهِ عَلَى مَوَارِيثِهِمُ الشَّرْعِيَّةِ وَهَذَا شخص يورث ولا يَرِثُ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ إِلَّا مَنْ بَعْضُهُ حُرُّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ فَإِنَّهُ رَقِيقٌ لَا يورث عندنا وهل يورث فيه قولان أصحهما ورث وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْجَنِينَ كَعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْأُمِّ فَتَكُونُ دِيَتُهُ لَهَا خَاصَّةً وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا كُلِّهِ إِذَا انْفَصَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا أَمَّا إِذَا انْفَصَلَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَيَجِبُ فِيهِ كَمَالُ دِيَةِ الْكَبِيرِ فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَجَبَ مِائَةُ بَعِيرٍ وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَخَمْسُونَ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَمَتَى وَجَبَتِ الْغُرَّةُ فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا عَلَى الْجَانِي هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَسَائِرِ الْكُوفِيِّينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْبَصْرِيُّونَ تَجِبُ عَلَى الْجَانِي وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ يَلْزَمُ الْجَانِيَ الْكَفَّارَةُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا(11/176)
قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْكَلَامُ قَدْ يُوهِمُ خِلَافَ مراده فالصواب أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي مَاتَتْ هِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا أُمُّ الْجَنِينِ لَا الْجَانِيَةُ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ في الحديث بعده بقوله فقتلتها وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ أَيْ الَّتِي قَضَى لَهَا بِالْغُرَّةِ فَعَبَّرَ بِعَلَيْهَا عَنْ لَهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالْعَقْلُ عَلَى عَصَبَتِهَا فَالْمُرَادُ عَصَبَةُ الْقَاتِلَةِ قَوْلُهُ (فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهَا ضَرَبَتْهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ هَذَا مَحْمُولٌ على حجر صغير وعمود صغير لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا فَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا يَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةَ عَلَى الْجَانِي وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجَمَاهِيرِ قَوْلُهُ (فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ) أَمَّا قَوْلُهُ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ فَنَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ وَهُوَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بن(11/177)
النَّابِغَةِ وَحَمَلٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ فَرُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُطَلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَمَعْنَاهُ يُهْدَرُ وَيُلْغَى وَلَا يُضْمَنُ وَالثَّانِي بَطَلَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْبُطْلَانِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُلْغَى أَيْضًا وَأَكْثَرُ نُسَخِ بِلَادِنَا بِالْمُثَنَّاةِ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ جُمْهُورَ الرُّوَاةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ضَبَطُوهُ بِالْمُوَحَّدَةِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ طُلَّ دَمُهُ بِضَمِّ الطَّاءِ وَأَطَلَّ أَيْ أَهْدَرَ وَأَطَلَّهُ الْحَاكِمُ وَطَلَّهُ أَهْدَرَهُ وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ طَلَّ دَمُهُ بِفَتْحِ الطَّاءِ فِي اللَّازِمِ وَأَبَاهَا الْأَكْثَرُونَ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى سَجْعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا ذَمَّ سَجْعَهُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَارَضَ بِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ وَرَامَ إِبْطَالَهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ تَكَلَّفَهُ فِي مُخَاطَبَتِهِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ السَّجْعِ مَذْمُومَانِ وَأَمَّا السَّجْعُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الْحَدِيثِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يُعَارِضُ بِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ وَلَا يَتَكَلَّفُهُ فَلَا نَهْيَ فِيهِ بَلْ هُوَ حَسَنٌ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ بَعْضَ السَّجْعِ هُوَ الْمَذْمُومُ وَاللَّهُ أعلم (قَوْلُهُ
[1682] (ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ ضَرَّتَهَا) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَتَيِ الرَّجُلِ ضَرَّةٌ لِلْأُخْرَى سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْمُضَارَّةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَادَةِ وَتَضَرُّرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِالْأُخْرَى قَوْلُهُ (فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ على(11/178)
عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ) هَذَا دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِعَصَبَاتِ الْقَاتِلِ سِوَى أَبْنَائِهِ وَآبَائِهِ
[1689] قَوْلُهُ (اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فِي مِلَاصِ الْمَرْأَةِ) فِي(11/179)
جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ مِلَاصٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَبِصَادٍ مُهْمَلَةٍ وَهُوَ جَنِينُ الْمَرْأَةِ وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ إِمْلَاصُ الْمَرْأَةِ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ أَمْلَصَتْ بِهِ وَأَزْلَقَتْ بِهِ وَأَمْهَلَتْ بِهِ وَأَخْطَأَتْ بِهِ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَهُوَ إِذَا وَضَعَتْهُ قَبْلَ أَوَانِهِ وَكُلُّ مَا زَلَقَ مِنَ الْيَدِ فَقَدْ مَلِصَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ مَلَصًا بِفَتْحِهَا وَأَمْلَصَ أَيْضًا لُغَتَانِ وَأَمْلَصْتُهُ أَنَا وَقَدْ ذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ فَقَالَ إِمْلَاصٌ بِالْهَمْزَةِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ قَالَ الْقَاضِي قَدْ جَاءَ مَلِصَ الشَّيْءُ إِذَا أَفْلَتَ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْجَنِينُ صَحَّ مِلَاصٌ مِثْلَ لَزِمَ لِزَامًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فِي مِلَاصِ الْمَرْأَةِ) هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ فَقَالَ وَهِمَ وَكِيعٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَخَالَفَهُ أَصْحَابُ هِشَامٍ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ الْمِسْوَرَ وَهُوَ الصَّوَابُ ولم يذكر مسلم غير حَدِيثِ وَكِيعٍ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ مَنْ خَالَفَهُ وَهُوَ الصَّوَابُ هَذَا قَوْلُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ عَنْ إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْمِسْوَرِ وَعُرْوَةَ لِيَتَّصِلَ الْحَدِيثُ فَإِنَّ عُرْوَةَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(كِتَاب الْحُدُودِ)
(بَابُ حَدِّ السَّرِقَةِ وَنِصَابِهَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رضي الله عنه صان الله تعالى الْأَمْوَالُ بِإِيجَابِ الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ وَلَمْ يُجْعَلْ ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغضب لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّرِقَةِ وَلِأَنَّهُ)(11/180)
يُمْكِنُ اسْتِرْجَاعُ هَذَا النَّوْعِ بِالِاسْتِدْعَاءِ إِلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَتَسْهُلُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ تَنْدُرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا فَعَظُمَ أَمْرُهَا وَاشْتَدَّتْ عُقُوبَتُهَا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَطْعِ السَّارِقِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي فُرُوعٍ مِنْهُ قَوْلُهُ (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
[1684] قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ السَّارِقَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَمْ تُقْطَعْ يَدُ السَّارِقِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقل من ثمن المجن وفي رواية بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ كَمَا سَبَقَ وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ وَقَدْرِهِ فَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ لَا يُشْتَرَطُ نِصَابٌ بَلْ يُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ والكثير وبه قال بن بِنْتِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَلَمْ يَخُصُّوا الْآيَةَ وَقَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَلَا تُقْطَعُ إِلَّا فِي نِصَابٍ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ(11/181)
الصَّحِيحَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ النِّصَابِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ النِّصَابُ رُبْعُ دِينَارٍ ذَهَبًا أَوْ مَا قِيمَتُهُ رُبْعُ دِينَارٍ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَلَا يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ دَاوُدَ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي رِوَايَةٍ تُقْطَعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ أَحَدُهُمَا ولا قطع فِيمَا دُونَ ذَلِكَ وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وبن شبرمة وبن أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَا تُقْطَعُ إِلَّا فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا تُقْطَعُ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أو ماقيمته ذَلِكَ وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّ النِّصَابَ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَعَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ دِرْهَمٌ وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ دِرْهَمَانِ وَعَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِبَيَانِ النِّصَابِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ لَفْظِهِ وَأَنَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ وَأَمَّا بَاقِي التَّقْدِيرَاتِ فَمَرْدُودَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا مَعَ مُخَالَفَتِهَا لِصَرِيحِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَمَّا رِوَايَةُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَانَ رُبْعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا وَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ صَرِيحِ لَفْظِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْدِيدِ النِّصَابِ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُحْتَمَلَةِ بَلْ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مُوَافَقَةِ لَفْظِهِ وَكَذَا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَمْ يَقْطَعْ(11/182)
يَدَ السَّارِقِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُبْعَ دِينَارٍ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيُوَافِقَ صَرِيحَ تَقْدِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَا يَحْتَجُّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةٍ جَاءَتْ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسَةُ فَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُعْمَلُ بِهَا لَوِ انْفَرَدَتْ فَكَيْفَ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِصَرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي التَّقْدِيرِ بِرُبْعِ دِينَارٍ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ اتِّفَاقًا لَا أَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ فِي قَطْعِ السَّارِقِ وَلَيْسَ فِي لَفْظِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ النِّصَابِ بِذَلِكَ وَأَمَّا رِوَايَةُ لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ أَوِ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ فَقَالَ جَمَاعَةٌ الْمُرَادُ بِهَا بَيْضَةُ الْحَدِيدِ وَحَبْلُ السَّفِينَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ وَأَنْكَرَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَا وَضَعَّفُوهُ فَقَالُوا بَيْضَةُ الْحَدِيدِ وَحَبْلُ السَّفِينَةِ لَهُمَا قِيمَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَيْسَ هَذَا السِّيَاقُ مَوْضِعَ اسْتِعْمَالِهِمَا بَلْ بَلَاغَةُ الْكَلَامِ تَأْبَاهُ وَلِأَنَّهُ لَا يُذَمُّ فِي الْعَادَةِ مَنْ خَاطَرَ بِيَدِهِ فِي شَيْءٍ لَهُ قَدْرٌ وَإِنَّمَا يُذَمُّ مَنْ خَاطَرَ بِهَا فِيمَا لَا قَدْرَ لَهُ فَهُوَ مَوْضِعُ تَقْلِيلٍ لَا تَكْثِيرٍ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ التَّنْبِيهُ عَلَى عَظِيمِ مَا خَسِرَ وَهِيَ يَدُهُ فِي مُقَابَلَةِ حَقِيرٍ مِنَ الْمَالِ وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ فَإِنَّهُ يُشَارِكُ الْبَيْضَةَ وَالْحَبْلَ فِي الْحَقَارَةِ أَوْ أَرَادَ جِنْسَ الْبَيْضِ وَجِنْسَ الْحِبَالِ أَوْ أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ الْبَيْضَةَ فَلَمْ يُقْطَعْ جَرَّهُ ذَلِكَ إِلَى سَرِقَةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا فَقُطِعَ فَكَانَتْ سَرِقَةُ الْبَيْضَةِ هِيَ سَبَبُ قَطْعِهِ أَوْ أن المراد به قد يسرق البيضة أوالحبل فَيَقْطَعُهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ سِيَاسَةً لَا قَطْعًا جَائِزًا شَرْعًا وَقِيلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ السَّرِقَةِ مُجْمَلَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانِ نِصَابٍ فَقَالَهُ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1685] قَوْلُهُ (ثَمَنُ الْمِجَنِّ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ وَكِلَاهُمَا ذُو ثَمَنٍ) الْمِجَنُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ(11/183)
مَا يُسْتَجَنُّ بِهِ أَيْ يُسْتَتَرُ وَالْحَجَفَةُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَفْتُوحَتَيْنِ هِيَ الدَّرَقَةُ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ وَقَوْلُهُ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ هُمَا مَجْرُورَانِ بَدَلٌ مِنَ الْمِجَنِّ وَقَوْلُهُ وَكِلَاهُمَا ذُو ثَمَنٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَكُونُ(11/184)
فِيمَا قَلَّ بَلْ يَخْتَصُّ بِمَا لَهُ ثَمَنٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَاتِ
[1687] قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ) هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ لَعْنِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْعُصَاةِ لِأَنَّهُ لَعْنٌ لِلْجِنْسِ لَا لِمُعَيَّنٍ وَلَعْنُ الْجِنْسِ جَائِزٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَلَا يَجُوزُ لَعْنُهُ قَالَ الْقَاضِي وأجاز بعضهم لعن المعين مالم يُحَدَّ فَإِذَا حُدَّ لَمْ يَجُزْ لَعْنُهُ فَإِنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَاطِلٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ اللَّعْنِ فَيَجِبُ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى الْمُعَيَّنِ لِيُجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِرْزُ مَشْرُوطٌ فَلَا قَطْعَ إِلَّا فِيمَا سُرِقَ مِنْ حِرْزٍ وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ مِمَّا عَدَّهُ أَهْلُ الْعُرْفِ حرزا لذلك الشيء فهو حرز له ومالا فَلَا وَخَالَفَهُمْ دَاوُدُ فَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحِرْزَ قَالُوا وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فِي الْمَسْرُوقِ شُبْهَةٌ فَإِنْ كَانَتْ لَمْ يُقْطَعْ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُطَالِبَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ بِالْمَالِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ أَوَّلًا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالزُّهْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ فَإِذَا سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فَإِذَا سَرَقَ ثَالِثًا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى فَإِنْ سَرَقَ رَابِعًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى فَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ عُزِّرَ ثُمَّ كُلَّمَا سَرَقَ عُزِّرَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْجَمَاهِيرُ تُقْطَعُ الْيَدُ مِنَ الرُّسْغِ وَهُوَ الْمَفْصِلُ بَيْنَ الْكَفِّ وَالذِّرَاعِ وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ مِنَ الْمَفْصِلِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تُقْطَعُ الرِّجْلُ مِنْ شَطْرِ الْقَدَمِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ تُقْطَعُ الْيَدُ مِنَ الْمَرْفَقِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَنْكِبِ والله أعلم(11/185)
(بَاب قَطْعِ السَّارِقِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ (وَالنَّهْيِ عَنْ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ) ذَكَرَ مُسْلِمٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْبَابِ الْأَحَادِيثَ فِي النَّهْيِ عَنِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ هَلَاكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَى الْإِمَامِ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَعَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّشْفِيعُ فِيهِ فَأَمَّا قَبْلَ بُلُوغِهِ إِلَى الْإِمَامِ فَقَدْ أَجَازَ الشَّفَاعَةَ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ صَاحِبَ شَرٍّ وَأَذًى لِلنَّاسِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُشْفَعْ فِيهِ وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا وَوَاجِبُهَا التَّعْزِيرُ فَتَجُوزُ الشَّفَاعَةُ وَالتَّشْفِيعُ فِيهَا سَوَاءٌ بَلَغَتِ الْإِمَامَ أَمْ لَا لِأَنَّهَا أَهْوَنُ ثُمَّ الشَّفَاعَةُ فِيهَا مُسْتَحَبَّةٌ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ صَاحِبَ أَذًى وَنَحْوِهِ
[1688] قَوْلُهُ (وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ مَحْبُوبُهُ وَمَعْنَى يَجْتَرِئُ يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْإِدْلَالِ وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَايْمِ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ) فِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ إِذَا كَانَ فِيهِ تَفْخِيمٌ)(11/186)
لِأَمْرٍ مَطْلُوبٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ كَثُرَتْ نَظَائِرُهُ فِي الْحَدِيثِ وَسَبَقَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ قَوْلُهُ (كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ فَكَلَّمُوهُ) الْحَدِيثَ قَالَ الْعُلَمَاءُ المراد أنها(11/187)
قُطِعَتْ بِالسَّرِقَةِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الْعَارِيَةُ تَعْرِيفًا لَهَا وَوَصْفًا لَهَا لَا أَنَّهَا سَبَبُ الْقَطْعِ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي سَائِرِ الطُّرُقِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهَا سَرَقَتْ وَقُطِعَتْ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَإِنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأَئِمَّةِ قَالُوا هَذِهِ الرِّوَايَةُ شَاذَّةٌ فَإِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِجَمَاهِيرِ الرُّوَاةِ وَالشَّاذَّةُ لَا يُعْمَلُ بِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ السَّرِقَةَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا عِنْدَ الرَّاوِي ذِكْرُ مَنْعِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ لَا الْإِخْبَارُ عَنِ السَّرِقَةِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ جَحَدَ الْعَارِيَةَ وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْتُهُ وَقَالَ أَحْمَدُ وإسحاق يجب القطع في ذلك
(باب حد الزنى
[1690] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سبيلا فأشار إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)(11/188)
فَبَيَّنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا هُوَ ذَلِكَ السَّبِيلُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقِيلَ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُفَسِّرٌ لَهَا وَقِيلَ مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ وَقِيلَ إِنَّ آيَةَ النُّورِ فِي الْبِكْرَيْنِ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الثَّيِّبَيْنِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ جَلْدِ الزَّانِي الْبِكْرِ مِائَةً وَرَجْمِ الْمُحْصَنِ وَهُوَ الثَّيِّبُ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِلَّا مَا حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الْخَوَارِجِ وَبَعْضِ العتزلة كَالنَّظَّامِ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِالرَّجْمِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَلْدِ الثَّيِّبِ مَعَ الرَّجْمِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَيُجْلَدُ ثُمَّ يُرْجَمُ وَبِهِ قَالَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَدَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ الْوَاجِبُ الرَّجْمُ وَحْدَهُ وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِذَا كَانَ الزَّانِي شَيْخًا ثَيِّبًا فَإِنْ كَانَ شَابًّا ثَيِّبًا اقْتُصِرَ عَلَى الرَّجْمِ وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَصَرَ عَلَى رَجْمِ الثَّيِّبِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قِصَّةُ مَاعِزٍ وَقِصَّةُ الْمَرْأَةِ الْغَامِدِيَّةِ وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا قَالُوا وَحَدِيثُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ مَنْسُوخٌ فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِكْرِ وَنَفْيُ سَنَةٍ فَفِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَالْجَمَاهِيرِ أَنَّهُ يَجِبُ نَفْيُهُ سَنَةً رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً وَقَالَ الْحَسَنُ لَا يَجِبُ النَّفْيُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا نَفْيَ عَلَى النِّسَاءِ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالُوا لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَفِي نَفْيِهَا تَضْيِيعٌ لَهَا وَتَعْرِيضٌ لَهَا لِلْفِتْنَةِ وَلِهَذَا نُهِيَتْ عَنِ الْمُسَافَرَةِ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ فَفِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلشَّافِعِيِّ أَحَدُهَا يُغَرَّبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَنَةً لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَبِهَذَا قال سفيان الثوري وأبو ثور وداود وبن جَرِيرٍ وَالثَّانِي يُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على المحصنات من العذاب وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَهَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ جَوَازُ تَخْصِيصِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ فَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِهِ أَوْلَى وَالثَّالِثُ لَا يُغَرَّبُ الْمَمْلُوكُ أَصْلًا وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَحَمَّادٌ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلَمْ يَذْكُرِ النَّفْيَ وَلِأَنَّ نَفْيَهُ يَضُرُّ سَيِّدَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْ سَيِّدِهِ وَأَجَابَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْ حَدِيثِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلنَّفْيِ وَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ النَّفْيِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مُوَافَقَتِهَا(11/189)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ) فَلَيْسَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاطِ بَلْ حَدُّ الْبِكْرِ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ سَوَاءٌ زَنَى بِبِكْرٍ أَمْ بِثَيِّبٍ وَحَدُّ الثَّيِّبِ الرَّجْمُ سَوَاءٌ زَنَى بِثَيِّبٍ أَمْ بِبِكْرٍ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى الْغَالِبِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبِكْرِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَنْ لَمْ يُجَامِعْ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ سَوَاءٌ كَانَ جَامَعَ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا أَمْ لَا وَالْمُرَادُ بِالثَّيِّبِ مَنْ جَامَعَ فِي دَهْرِهِ مَرَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ حُرٌّ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ هَذَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالرَّشِيدُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ) فِي هَذَا الْكَلَامِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا بَيَانُ أَنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فَيَزْدَادُ قُوَّةً وَالثَّانِيَةُ أَنَّ هُشَيْمًا مُدَلِّسٌ وَقَدْ قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَعَنْ مَنْصُورٍ وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مَنْصُورٍ وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا مَرَّاتٍ قَوْلُهُ (كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ) هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ) أَيْ عَلَتْهُ غَبَرَةٌ وَالرَّبْدُ تَغَيُّرُ الْبَيَاضِ إِلَى السَّوَادِ وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ لِعِظَمِ مَوْقِعِ الْوَحْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثقيلا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ رُجِمَ بالحجارة) التقيد بِالْحِجَارَةِ لِلِاسْتِحْبَابِ وَلَوْ رُجِمَ بِغَيْرِهَا جَازَ(11/190)
وهو شبيه بالتقييد بها في الاستنجاء
[1691] قَوْلُهُ (فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا) أَرَادَ بِآيَةِ الرَّجْمِ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ وَهَذَا مِمَّا نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَقَدْ وَقَعَ نَسْخُ حُكْمٍ دُونَ اللَّفْظِ وَقَدْ وَقَعَ نَسْخُهُمَا جَمِيعًا فَمَا نُسِخَ لَفْظُهُ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْقُرْآنِ فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى الْجُنُبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَفِي تَرْكِ الصَّحَابَةِ كِتَابَةَ هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ أَنَّ الْمَنْسُوخَ لَا يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ وَفِي إِعْلَانِ عُمَرَ بِالرَّجْمِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسُكُوتِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَاضِرِينَ عَنْ مُخَالَفَتِهِ بِالْإِنْكَارِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الرَّجْمِ وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ وَقَدْ تَمْتَنِعُ دَلَالَتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْجَلْدِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَوْلُهُ (فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ) هَذَا الَّذِي خَشِيَهُ قَدْ وَقَعَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَهَذَا مِنْ كَرَامَاتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ(11/191)
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَنْ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ وَسَبَقَ بَيَانُ صِفَةِ الْمُحْصَنِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِزِنَاهُ وَهُوَ مُحْصَنٌ يُرْجَمُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ ذُكُورٍ عُدُولٍ هَذَا إذا شهدوا على نفس الزنى وَلَا يُقْبَلُ دُونَ الْأَرْبَعَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي صِفَاتِهِمْ وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى مَنِ اعترف بالزنى وَهُوَ مُحْصَنٌ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ تَكْرَارِ إِقْرَارِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَسَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْحَبَلُ وَحْدَهُ فَمَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُوبُ الْحَدِّ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ وَتَابَعَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فَقَالُوا إِذَا حَبِلَتْ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ وَلَا عَرَفْنَا إِكْرَاهَهَا لَزِمَهَا الْحَدُّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ غَرِيبَةً طَارِئَةً وَتَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ قَالُوا وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهَا إلا كراه إِذَا لَمْ تَقُمْ بِذَلِكَ مُسْتَغِيثَةً عِنْدَ الْإِكْرَاهِ قَبْلَ ظُهُورِ الْحَمْلِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ لَا حَدَّ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ الْحَبَلِ سواء كان لَهَا زَوْجٌ أَوْ سَيِّدٌ أَمْ لَا سَوَاءٌ الْغَرِيبَةُ وَغَيْرُهَا وَسَوَاءٌ ادَّعَتِ الْإِكْرَاهَ أَمْ سَكَتَتْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا مُطْلَقًا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوِ اعتراف لأن الحدود تسقط بالشبهات قوله في الرجل الذي اعترف بالزنى فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ حَتَّى أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ بِهِ جُنُونٌ فَقَالَ لَا فَقَالَ هَلْ أُحْصِنْتَ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَدُ وَمُوَافِقُوهُمَا في أن الاقرار(11/192)
بالزنى لا يثبت ويرجم بِهِ الْمُقِرُّ حَتَّى يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ يَثْبُتُ الْإِقْرَارُ بِهِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَيُرْجَمُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَدَدًا وَحَدِيثُ الْغَامِدِيَّةِ لَيْسَ فِيهِ إِقْرَارُهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَاشْتَرَطَ بن أَبِي لَيْلَى وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِقْرَارَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (أبك جنون) إنما قَالَهُ لِيَتَحَقَّقَ حَالَهُ فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُصِرُّ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمَا يَقْتَضِي قَتْلَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ مَعَ أَنَّ لَهُ طَرِيقًا إِلَى سُقُوطِ الْإِثْمِ بِالتَّوْبَةِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ سَأَلَ قَوْمَهُ عَنْهُ فَقَالُوا مَا نَعْلَمُ به بأسا وهذا مبالغة في تحقق حَالِهِ وَفِي صِيَانَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْمَجْنُونِ بَاطِلٌ وَأَنَّ الْحُدُودَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَلْ أُحْصِنْتَ) فِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ يَسْأَلُ عَنْ شُرُوطِ الرَّجْمِ مِنَ الْإِحْصَانِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَمْ بِالْبَيِّنَةِ وَفِيهِ مُؤَاخَذَةُ الْإِنْسَانِ بِإِقْرَارِهِ قَوْلُهُ (حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) هُوَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ أَيْ كَرَّرَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَفِيهِ التَّعْرِيضُ للمقر بالزنى بِأَنْ يَرْجِعَ وَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ بِلَا خِلَافٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) فيه جوار اسْتِنَابَةِ الْإِمَامِ مَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ قَالَ الْعُلَمَاءُ لَا يَسْتَوْفِي الْحَدَّ إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ مَنْ فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَيْهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي الرَّجْمُ وَلَا يُجْلَدُ مَعَهُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي هَذَا قَوْلُهُ (فَرَجَمْنَاهُ(11/193)
بِالْمُصَلَّى) قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ وَالْأَعْيَادِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ وُقِفَ مَسْجِدًا لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ تُجُنِّبَ الرَّجْمُ فِيهِ وَتَلَطُّخُهُ بِالدِّمَاءِ والميتة قالوا والمراد بالمصلى هنا مُصَلَّى الْجَنَائِزِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ وَهُوَ مَوْضِعُ الْجَنَائِزِ بِالْمَدِينَةِ وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُصَلَّى الَّذِي لِلْعِيدِ وَلِغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا هَلْ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ) هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْقَافِ أَيْ أَصَابَتْهُ بِحَدِّهَا قَوْلُهُ (فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُحْصَنِ إِذَا أَقَرَّ بالزنى فَشَرَعُوا فِي رَجْمِهِ ثُمَّ هَرَبَ هَلْ يُتْرَكُ أَمْ يُتْبَعُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا يُتْرَكُ وَلَا يُتْبَعُ لِكَيْ أَنْ يُقَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ تُرِكَ وَإِنْ أَعَادَ رُجِمَ وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يُتْبَعُ وَيُرْجَمُ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا تَرَكْتُمُوهُ حَتَّى أَنْظُرَ فِي شَأْنِهِ وَفِي رِوَايَةٍ هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ فَلَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُلْزِمْهُمْ(11/194)
ذَنْبَهُ مَعَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ وَقَدْ ثَبَتَ إِقْرَارُهُ فَلَا يَتْرُكُهُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالرُّجُوعِ قَالُوا وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يُتْبَعُ فِي هَرَبِهِ لَعَلَّهُ يُرِيدُ الرُّجُوعَ وَلَمْ نَقُلْ إِنَّهُ سَقَطَ الرَّجْمُ بِمُجَرَّدِ الْهَرَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (رَجُلٌ قَصِيرٌ أَعْضَلُ) هُوَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ مُشْتَدُّ الْخَلْقِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَعَلَّكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ إِنَّهُ قَدْ زَنَى الْأَخِرُ) مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ الْإِشَارَةُ إِلَى تلقينه الرجوع عن الاقرار بالزنى وَاعْتِذَارِهِ بِشُبْهَةٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ فَاقْتَصَرَ في هذه الرواية على لعلك اختصارا وتنبيها وَاكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ وَالْحَالِ عَلَى الْمَحْذُوفِ أَيْ لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تلقين المقر بحد الزنى وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالدَّرْءِ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ التَّلْقِينُ فِيهَا وَلَوْ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ وَقَدْ جَاءَ تَلْقِينُ الرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (إِنَّهُ قَدْ زَنَى الْأَخِرُ) وَهُوَ بِهَمْزَةٍ مَقْصُورَةٍ وَخَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَمَعْنَاهُ الْأَرْذَلُ وَالْأَبْعَدُ وَالْأَدْنَى وَقِيلَ اللَّئِيمُ وَقِيلَ الشَّقِيُّ وَكُلُّهُ مُتَقَارِبٌ وَمُرَادُهُ نَفْسُهُ فَحَقَّرَهَا وَعَابَهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ فَعَلَ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ وَقِيلَ إِنَّهَا كِنَايَةٌ يُكَنِّي بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ إِذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِمَا يُسْتَقْبَحُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَلَا كُلَّمَا نَفَرْنَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس ي يَمْنَحُ أَحَدُهُمُ الْكُثْبَةَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إِحْدَاهُنَّ بَدَلَ أَحَدُهُمْ وَنَبِيبُ التَّيْسِ صَوْتُهُ عِنْدَ السِّفَادِ وَيَمْنَحُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالنُّونِ أَيْ يُعْطِي وَالْكُثْبَةُ بِضَمِّ الْكَافِ وَإِسْكَانِ(11/195)
الْمُثَلَّثَةِ الْقَلِيلُ مِنَ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ (أُتِيَ بِرَجُلٍ قَصِيرٍ أَشْعَثَ ذِي عَضَلَاتٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالضَّادِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْعَضَلَةُ كُلُّ لَحْمَةٍ صُلْبَةٍ مُكْتَنِزَةٍ قَوْلُهُ (تَخَلَّفَ أَحَدُكُمْ يَنِبُّ) هو بفتح الياء وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَّا جَعَلْتُهُ نَكَالًا) أَيْ عِظَةً وَعِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُ بِمَا أَصَبْتُهُ مِنْهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ لِيَمْتَنِعُوا مِنْ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ
[1693] (أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ قَالَ وَمَا بَلَغَكَ عَنِّي قَالَ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ قَالَ نَعَمْ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَالْمَشْهُورُ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ(11/196)
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ طَهِّرْنِي قَالَ الْعُلَمَاءُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَيَكُونُ قَدْ جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ أَنَّ قَوْمَهُ أَرْسَلُوهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَرْسَلَهُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هُزَالُ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ وَكَانَ مَاعِزٌ عِنْدَ هُزَالٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لَهُ الَّذِينَ حَضَرُوا مَعَهُ مَا جَرَى لَهُ أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ إِلَى آخِرِهِ قَوْلُهُ (فما أوثقناه وَلَا حَفَرْنَا لَهُ)
[1694] وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةَ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ وَذَكَرَ بَعْدَهُ فِي حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا أَمَّا قَوْلُهُ فَمَا أَوْثَقْنَاهُ فَهَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَأَمَّا الْحَفْرُ لِلْمَرْجُومِ وَالْمَرْجُومَةِ فَفِيهِ مَذَاهِبُ لِلْعُلَمَاءِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ لَا يُحْفَرُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ يُحْفَرُ لَهُمَا وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ يُحْفَرُ لِمَنْ يُرْجَمُ بِالْبَيِّنَةِ لَا مَنْ يُرْجَمُ بِالْإِقْرَارِ وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا لَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ سَوَاءٌ ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِالْإِقْرَارِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهَا يُسْتَحَبُّ الْحَفْرُ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا لِيَكُونَ أستر لها والثاني لا يستحب ولا يكره بل هو إلى خيرة الإمام والثالث وهو الأصح أن ثبت زناها بالبينة استحب وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَلَا لِيُمْكِنَهَا الْهَرَبَ إِنْ رَجَعَتْ فَمَنْ قَالَ بِالْحَفْرِ لَهُمَا احْتَجَّ بِأَنَّهُ حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ وَكَذَا لِمَاعِزٍ فِي رِوَايَةٍ وَيُجِيبُ هَؤُلَاءِ عَنِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي مَاعِزٍ أَنَّهُ لَمْ يَحْفِرْ لَهُ أَنَّ الْمُرَادَ حَفِيرَةٌ عَظِيمَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَخْصِيصِ الْحَفِيرَةِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ لَا يَحْفِرُ فَاحْتَجَّ بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى فَمَا أَوْثَقْنَاهُ وَلَا حَفَرْنَا لَهُ وَهَذَا الْمَذْهَبُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ(11/197)
مُنَابِذٌ لِحَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ وَلِرِوَايَةِ الْحَفْرِ لِمَاعِزٍ وَأَمَّا مِنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَيَحْمِلُ رِوَايَةَ الْحَفْرِ لِمَاعِزٍ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ تَرَكَ الْحَفْرَ حَدِيثُ الْيَهُودِيَّيْنِ الْمَذْكُورُ بَعْدَ هَذَا وَقَوْلُهُ جَعَلَ يَجْنَأُ عَلَيْهَا وَلَوْ حُفِرَ لَهُمَا لَمْ يَجْنَأْ عَلَيْهَا وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ حُفْرَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَرَمَيْنَاهُ بِالْعِظَامِ وَالْمَدَرِ وَالْخَزَفِ) هَذَا دَلِيلٌ لِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الرَّجْمَ يَحْصُلُ بِالْحَجَرِ أَوِ الْمَدَرِ أَوِ الْعِظَامِ أَوِ الْخَزَفِ أَوِ الْخَشَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْقَتْلُ وَلَا تَتَعَيَّنُ الْأَحْجَارُ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجْمًا بِالْحِجَارَةِ لَيْسَ هُوَ لِلِاشْتِرَاطِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْخَزَفُ قِطَعُ الْفُخَّارِ الْمُنْكَسِرِ قَوْلُهُ (حَتَّى أَتَى عُرْضَ الْحَرَّةِ) هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ جَانِبُهَا قَوْلُهُ (فَرَمَيْنَاهُ بجلاميد الحرة أي الحجارة الكبار واحدها جلد بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ وَجُلْمُودٌ بِضَمِّ الْجِيمِ قَوْلُهُ حَتَّى سَكَتَ) هُوَ بِالتَّاءِ فِي آخِرِهِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ قَالَ الْقَاضِي وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ سَكَنَ بِالنُّونِ وَالْأَوَّلُ الصَّوَابُ وَمَعْنَاهُمَا مَاتَ قَوْلُهُ (فَمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَلَا سَبَّهُ) أَمَّا عَدَمُ السَّبِّ فَلِأَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ لَهُ مَطْهَرَةٌ لَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَأَمَّا عَدَمُ الِاسْتِغْفَارِ(11/198)
فلئلا يغتر غيره فيقع في الزنى اتِّكَالًا عَلَى اسْتِغْفَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ
[1695] (جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَقَالَ وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي إِلَى آخِرِهِ) وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ قَالَتْ طَهِّرْنِي قَالَ وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ يُكَفِّرُ ذَنْبَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي حُدَّ لَهَا وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَتُهُ وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ إِثْمِ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ بِالتَّوْبَةِ وَهُوَ بِإِجْمَاعِ المسلمين إلا ما قدمناه عن بن عَبَّاسٍ فِي تَوْبَةِ الْقَاتِلِ خَاصَّةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ فَمَا بَالُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ لَمْ يَقْنَعَا بِالتَّوْبَةِ وَهِيَ مُحَصِّلَةٌ لِغَرَضِهِمَا وَهُوَ سُقُوطُ الْإِثْمِ بَلْ أَصَرَّا عَلَى الْإِقْرَارِ وَاخْتَارَا الرَّجْمَ فَالْجَوَابُ أَنَّ تَحْصِيلَ الْبَرَاءَةِ بِالْحُدُودِ وَسُقُوطِ الْإِثْمِ مُتَيَقَّنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا سِيَّمَا وَإِقَامَةُ الْحَدِّ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا التَّوْبَةُ فَيُخَافُ أَنْ لَا تَكُونَ نَصُوحًا وَأَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ شُرُوطِهَا فَتَبْقَى الْمَعْصِيَةُ وَإِثْمُهَا دَائِمًا عَلَيْهِ فَأَرَادَا حُصُولَ الْبَرَاءَةِ بِطَرِيقٍ مُتَيَقَّنٍ دُونَ مَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَرُوِّينَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ وَيْحَ كَلِمَةُ رَحْمَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(11/199)
(فيم أطهرك قال من الزنى) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فِيمَ بِالْفَاءِ وَالْيَاءِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَتَكُونُ فِي هُنَا لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ بِسَبَبِ مَاذَا أُطَهِّرُكَ قَوْلُهُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ قال حدثنا يحيى بن يعلى وهو بن الحارث المحاربي عن غيلان وهو بن جَامِعٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ) هَكَذَا فِي النُّسَخِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْلَى عَنْ غَيْلَانَ قَالَ الْقَاضِي وَالصَّوَابُ مَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ غَيْلَانَ فَزَادَ فِي الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِيهِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ السُّنَنِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ عن غيلان وهو الصواب وقد نبه فِي كِتَابِ السُّنَنِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ غَيْلَانَ وَهُوَ الصَّوَابُ وَقَدْ نَبَّهَ عَبْدُ الْغَنِيِّ عَلَى السَّاقِطِ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ فِي نُسْخَةِ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ مَاهَانَ وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنَ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أبي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا غَيْلَانُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ بن عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفضة الْآيَةُ فَهَذَا السَّنَدُ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ يَحْيَى بْنُ يَعْلَى سَمِعَ أَبَاهُ وَزَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ سَمَاعًا لِيَحْيَى بْنِ يَعْلَى هَذَا مِنْ غَيْلَانَ بَلْ قَالُوا سَمِعَ أَبَاهُ وَزَائِدَةَ قَوْلُهُ (فَقَالَ أَشَرِبَ خَمْرًا فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ) مَذْهَبُنَا الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ صِحَّةُ إِقْرَارِ السَّكْرَانِ وَنُفُوذُ أَقْوَالِهِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ وَالسُّؤَالُ عَنْ شُرْبِهِ الْخَمْرَ مَحْمُولٌ عِنْدنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ سَكْرَانَ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَمَعْنَى اسْتَنْكَهَهُ أَيْ شَمَّ رَائِحَةَ فَمِهِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَجُمْهُورُ الْحِجَازِيِّينَ أَنَّهُ يحد من وجد منه ريح الخمر وَإِنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِشُرْبِهَا وَلَا أَقَرَّ بِهِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا لَا يُحَدُّ بِمُجَرَّدِ رِيحِهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ عَلَى شُرْبِهِ أَوْ إِقْرَارِهِ وَلَيْسَ(11/200)
فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِأَصْحَابِ مَالِكٍ قَوْلُهُ (جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ) هِيَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَهِيَ بَطْنٌ مِنْ جُهَيْنَةَ قَوْلُهُ (فقال لها حتى تضعي مافي بَطْنِكِ) فِيهِ أَنَّهُ لَا تُرْجَمُ الْحُبْلَى حَتَّى تَضَعَ سَوَاءٌ كَانَ حَمْلُهَا مِنْ زِنًا أَوْ غَيْرِهِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُقْتَلَ جَنِينُهَا وَكَذَا لَوْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ وَهِيَ حَامِلٌ لَمْ تُجْلَدْ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى تَضَعَ وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُرْجَمُ إِذَا زَنَتْ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ كَمَا يُرْجَمُ الرَّجُلُ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُحْصَنَةً لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَالْإِجْمَاعَ مُتَطَابِقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرْجَمُ غَيْرُ الْمُحْصَنِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهَا قِصَاصٌ وَهِيَ حَامِلٌ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا حَتَّى تَضَعَ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا تُرْجَمُ الْحَامِلُ الزَّانِيَةُ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهَا بَعْدَ وَضْعِهَا حَتَّى تَسْقِيَ وَلَدَهَا اللبأ وَيَسْتَغْنِيَ عَنْهَا بِلَبَنِ غَيْرِهَا وَفِيهِ أَنَّ الْحَمْلَ يُعْرَفُ وَيُحْكَمُ بِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِنَا قَوْلُهُ (فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ) أَيْ قَامَ بِمُؤْنَتِهَا وَمَصَالِحِهَا وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْكَفَالَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الضَّمَانِ لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ (لَمَّا وَضَعَتْ قِيلَ قَدْ وَضَعَتِ الغامدية فقال(11/201)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ إِلَيَّ رضاعه يانبي اللَّهِ قَالَ فَرَجَمَهَا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهَا لَمَّا وَلَدَتْ جَاءَتْ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ قَالَتْ هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ قَالَ فَاذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرَجَمُوهَا فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ ظَاهِرُهُمَا الِاخْتِلَافُ فَإِنَّ الثَّانِيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ رَجْمَهَا كَانَ بَعْدَ فِطَامِهِ وَأَكْلِهِ الْخُبْزَ وَالْأُولَى ظَاهِرُهَا أَنَّهُ رَجَمَهَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ وَيَجِبُ تَأْوِيلُ الْأُولَى وَحَمْلُهَا عَلَى وَفْقِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا صَرِيحَةٌ لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا وَالْأُولَى لَيْسَتْ صَرِيحَةً فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ الْأُولَى وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ إِلَيَّ رَضَاعُهُ إِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ الْفِطَامِ وَأَرَادَ بِالرَّضَاعَةِ كَفَالَتُهُ وَتَرْبِيَتُهُ وَسَمَّاهُ رَضَاعًا مَجَازًا وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُرْجَمُ حَتَّى تَجِدَ مَنْ تُرْضِعُهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَرْضَعَتْهُ حَتَّى تَفْطِمَهُ ثُمَّ رُجِمَتْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِذَا وَضَعَتْ رُجِمَتْ وَلَا يُنْتَظَرُ حُصُولُ مُرْضِعَةٍ وَأَمَّا هَذَا الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي كَفَلَهَا فَقَصَدَ مَصْلَحَةً وَهُوَ الرِّفْقُ بِهَا وَمُسَاعَدَتُهَا عَلَى تَعْجِيلِ طَهَارَتِهَا بِالْحَدِّ لِمَا رَأَى بِهَا من الحرص(11/202)
التَّامِّ عَلَى تَعْجِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْفِطَامُ قَطْعُ الْإِرْضَاعِ لِاسْتِغْنَاءِ الْوَلَدِ عَنْهُ قَوْلُهُ (قال مالا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي) هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ إِمَّا وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَبِالْإِمَالَةِ وَمَعْنَاهُ إِذَا أَبَيْتِ أَنْ تَسْتُرِي عَلَى نَفْسِكِ وَتَتُوبِي وَتَرْجِعِي عَنْ قَوْلِكِ فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي فَتُرْجَمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَبْسُوطًا قَوْلُهُ (فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ) رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُعْجَمَةِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ تَرَشَّشَ وَانْصَبَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ) فِيهِ أَنَّ الْمَكْسَ مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الْمُوبِقَاتِ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُطَالَبَاتِ النَّاسِ لَهُ وظلاماتهم عِنْدَهُ وَتَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ وَانْتِهَاكِهِ لِلنَّاسِ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَصَرْفِهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهَا وَفِيهِ أَنَّ تَوْبَةَ الزَّانِي لَا تُسْقِطُ عَنْهُ حد الزنى وَكَذَا حُكْمُ حَدِّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ(11/203)
هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالثَّانِي أَنَّهَا تُسْقِطُ ذَلِكَ وَأَمَّا تَوْبَةُ الْمُحَارِبِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَتُسْقِطُ حَدَّ الْمُحَارَبَةِ بِلَا خلاف عندنا وعند بن عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ لَا تُسْقِطُ قَوْلُهُ (ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا ثُمَّ دُفِنَتْ) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ أَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ فَصَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهَا وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هِيَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَاللَّامِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ بِضَمِّ الصَّادِ قَالَ وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ بن أَبِي شَيْبَةَ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا قَالَ الْقَاضِي وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ صَلَاتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَاعِزٍ وَقَدْ ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْجُومِ فَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ لِلْإِمَامِ وَلِأَهْلِ الْفَضْلِ دُونَ بَاقِي النَّاسِ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرُ الْإِمَامِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَأَهْلُ الْفَضْلِ وَغَيْرُهُمْ وَالْخِلَافُ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ إِنَّمَا هُوَ فِي الْإِمَامِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ قَالُوا فَيُصَلَّى عَلَى الْفُسَّاقِ وَالْمَقْتُولِينَ فِي الْحُدُودِ وَالْمُحَارَبَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَلَى الْمَرْجُومِ وَقَاتِلِ نَفْسِهِ وقال قتادة لا يصلي على ولد الزنى وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ وَأَهْلَ الْفَضْلِ يُصَلُّونَ عَلَى الْمَرْجُومِ كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ وَأَجَابَ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ ضَعَّفُوا رِوَايَةَ الصَّلَاةِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ لَمْ يَذْكُرُوهَا وَالثَّانِي تَأَوَّلُوهَا عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بالصلاة أو دعا فسمى صلاة على مقتضاها في اللغة وهذان الجوابان فاسدان أما الأول فإن هذه الزيادة ثابتة فِي الصَّحِيحِ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَأَمَّا الثَّانِي فَهَذَا التَّأْوِيلُ مَرْدُودٌ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ إِنَّمَا يُصَارُ إليه إذا اضطربت الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ إِلَى ارْتِكَابِهِ وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَاللَّهُ(11/204)
أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَلِيِّ الْغَامِدِيَّةِ
[1696] (أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بِهَا) هَذَا الْإِحْسَانُ لَهُ سَبَبَانِ أَحَدُهُمَا الْخَوْفُ عَلَيْهَا مِنْ أَقَارِبِهَا أَنْ تَحْمِلَهُمُ الْغَيْرَةُ وَلُحُوقُ الْعَارِ بِهِمْ أَنْ يُؤْذُوهَا فَأَوْصَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَالثَّانِي أَمَرَ بِهِ رَحْمَةً لها إذ قد ثابت وحرص عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهَا لِمَا فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنَ النُّفْرَةِ مِنْ مِثْلِهَا وَإِسْمَاعِهَا الْكَلَامَ الْمُؤْذِي وَنَحْوَ ذَلِكَ فَنَهَى عَنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُهُ (فَأَمَرَ بِهَا فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ فَشُكَّتْ وَفِي بَعْضِهَا فَشُدَّتْ بِالدَّالِ بَدَلَ الْكَافِ وَهُوَ مَعْنَى الْأَوَّلِ وَفِي هَذَا اسْتِحْبَابُ جَمْعِ أَثْوَابِهَا عَلَيْهَا وَشَدِّهَا بِحَيْثُ لَا تَنْكَشِفُ عَوْرَتُهَا فِي تَقَلُّبِهَا وَتَكْرَارِ اضْطِرَابِهَا وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُرْجَمُ إِلَّا قَاعِدَةً وَأَمَّا الرَّجُلُ فَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَمُ قَائِمًا وَقَالَ مَالِكٌ قَاعِدًا وَقَالَ غَيْرُهُ يُخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ (فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ) وَفِي بَعْضِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا وَفِي حَدِيثِ مَاعِزٍ أَمَرَنَا أَنْ نَرْجُمَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيهَا كُلِّهَا دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ حُضُورُ الرَّجْمِ وَكَذَا لَوْ ثَبَتَ بِشُهُودٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ(11/205)
وَأَحْمَدُ يَحْضُرُ الْإِمَامُ مُطْلَقًا وَكَذَا الشُّهُودُ إِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ وَيَبْدَأُ الْإِمَامُ بِالرَّجْمِ إِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ ثَبَتَ بِالشُّهُودِ بَدَأَ الشُّهُودُ وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدًا مِمَّنْ رُجِمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[1697]
[1698] (أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ) مَعْنَى أَنْشُدُكَ أَسْأَلُكَ رَافِعًا نَشِيدِي وَهُوَ صَوْتِي وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الشِّينِ وَقَوْلُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَيْ بِمَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ اللَّهِ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَنْ يَقُولُ مِنْ جُفَاةِ الْخُصُومِ احْكُمْ بِالْحَقِّ بَيْنَنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ قَوْلُهُ (فَقَالَ الْخَصْمُ الْآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ أَكْثَرُ فِقْهًا مِنْهُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَفْقَهُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لِوَصْفِهِ إِيَّاهَا عَلَى وَجْهِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِأَدَبِهِ وَاسْتِئْذَانِهِ فِي الْكَلَامِ وَحَذَرِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَا تُقَدِّمُوا بين يدي الله ورسوله بِخِلَافِ خِطَابِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَى آخِرِهِ فَإِنَّهُ مِنْ جَفَاءِ الْأَعْرَابِ قَوْلُهُ (إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا) هُوَ بِالْعَيْنِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ أَجِيرًا وَجَمْعُهُ عُسَفَاءُ كَأَجِيرٍ وَأُجَرَاءَ وَفَقِيهٍ وَفُقَهَاءَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِحُكْمِ اللَّهِ وَقِيلَ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سبيلا وَفَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبِيلَ بِالرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَقِيلَ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى آيَةِ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ مِمَّا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَلْدُ قَدْ أَخَذَهُ من قوله تعالى الزانية والزاني وَقِيلَ الْمُرَادُ نَقْضُ صُلْحِهِمَا الْبَاطِلِ عَلَى الْغَنَمِ وَالْوَلِيدَةِ قَوْلُهُ (فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ) فِيهِ جَوَازُ اسْتِفْتَاءِ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَنِهِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينكر(11/206)
ذَلِكَ عَلَيْهِ وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِفْتَاءِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ أَفْضَلُ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ) أَيْ مَرْدُودَةٌ وَمَعْنَاهُ يَجِبُ رَدُّهَا إِلَيْكَ وَفِي هَذَا أَنَّ الصُّلْحَ الْفَاسِدَ يُرَدُّ وَأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ فِيهِ بَاطِلٌ يجب رده وأن الحدود لاتقبل الْفِدَاءَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الِابْنَ كَانَ بِكْرًا وَعَلَى أَنَّهُ اعترف وإلا فإقرار الأب عليه لايقبل أَوْ يَكُونُ هَذَا إِفْتَاءً أَيْ إِنْ كَانَ ابْنُكَ زَنَى وَهُوَ بِكْرٌ فَعَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (واغد ياأنيس عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ) أُنَيْسٌ هَذَا صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ وَهُوَ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْأَسْلَمِيُّ معدود في الشاميين وقال بن عَبْدِ الْبَرِّ هُوَ أُنَيْسُ بْنُ مَرْثَدٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَأَنَّهُ أَسْلَمِيٌّ وَالْمَرْأَةُ أَيْضًا أَسْلَمِيَّةٌ وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْثَ أُنَيْسٍ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى إِعْلَامِ الْمَرْأَةِ بِأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَذَفَهَا بِابْنِهِ فَيُعَرِّفُهَا بِأَنَّ لَهَا عِنْدَهُ حَدُّ الْقَذْفِ فَتُطَالِبُ بِهِ أَوْ تعفو عنه إلا أن تعترف بالزنى فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ بَلْ يَجِبُ عليها حد الزنى وَهُوَ الرَّجْمُ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْصَنَةً فَذَهَبَ إِلَيْهَا أنيس فاعترفت بالزنى فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهَا فَرُجِمَتْ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّ ظاهره أنه بعث لإقامة حد الزنى وهذا غير مراد لأن حد الزنى لَا يَحْتَاجُ لَهُ بِالتَّجَسُّسِ وَالتَّفْتِيشِ عَنْهُ بَلْ لَوْ أَقَرَّ بِهِ الزَّانِي اسْتُحِبَّ أَنْ يُلَقَّنَ الرُّجُوعَ كَمَا سَبَقَ فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا(11/207)
فِي هَذَا الْبَعْثِ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِذَا قُذِفَ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ فِي مَجْلِسِهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ لِيُعَرِّفَهُ بِحَقِّهِ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ أَمْ لَا يَجِبُ وَالْأَصَحُّ وُجُوبُهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُحْصَنَ يُرْجَمُ وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرجم وقد سبق بيان الخلاف فيه
[1699] قوله (إن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا إِلَى قَوْلِهِ فرجما) في هذا دليل لوجوب حد الزنى عَلَى الْكَافِرِ وَأَنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الرَّجْمُ إِلَّا عَلَى مُحْصَنٍ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُ لَمْ يَثْبُتْ إِحْصَانُهُ وَلَمْ يُرْجَمْ وَفِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقِيلَ لَا يُخَاطَبُونَ بِهَا وَقِيلَ إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالنَّهْيِ دُونَ الْأَمْرِ وَفِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ شَرْعِنَا وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَصِحُّ إِحْصَانُ الْكَافِرِ قَالَ وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا أَهْلَ ذِمَّةٍ وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَلِأَنَّهُ رَجَمَ الْمَرْأَةَ وَالنِّسَاءُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُنَّ مُطْلَقًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ لِتَقْلِيدِهِمْ وَلَا لِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ مِنْهُمْ فَإِنَّمَا هُوَ لِإِلْزَامِهِمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ الرَّجْمَ فِي التَّوْرَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يُغَيِّرُوهُ كَمَا غَيَّرُوا أَشْيَاءَ أَوْ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَلِهَذَا لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حِينَ كَتَمُوهُ قَوْلُهُ (نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا وَنَحْمِلُهُمَا) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ نَحْمِلُهُمَا بِالْحَاءِ وَاللَّامِ وَفِي بَعْضِهَا نُجَمِّلُهُمَا بِالْجِيمِ وَفِي بَعْضِهَا نُحَمِّمُهُمَا بِمِيمَيْنِ وَكُلُّهُ مُتَقَارِبٌ فَمَعْنَى الْأَوَّلِ نَحْمِلُهُمَا عَلَى الْحَمْلِ وَمَعْنَى الثَّانِي نُجَمِّلُهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْجَمَلِ وَمَعْنَى الثَّالِثِ نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا بِالْحُمَمِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ الْفَحْمُ وَهَذَا الثَّالِثُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهُ نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ رجم اليهوديان(11/208)
بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِالْإِقْرَارِ قُلْنَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ وَقَدْ جَاءَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِمَا أَرْبَعَةٌ(11/209)
أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ مُسْلِمِينَ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَلَا اعْتِبَارَ بِشَهَادَتِهِمْ وَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُمَا أقرا بالزنى قَوْلُهُ (رَجَمَ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ
[1701] وَامْرَأَتَهُ) أَيْ صاحبته التي زنا(11/210)
بِهَا وَلَمْ يُرِدْ زَوْجَتَهُ وَفِي رِوَايَةٍ وَامْرَأَةً قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1703] (إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا) التَّثْرِيبُ التَّوْبِيخُ وَاللَّوْمُ عَلَى الذَّنْبِ وَمَعْنَى تَبَيَّنَ زِنَاهَا تَحَقَّقَهُ إِمَّا بِالْبَيِّنَةِ وَإِمَّا بِرُؤْيَةٍ أَوْ عِلْمٍ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ فِي الْحُدُودِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ على وجوب حد الزنى عَلَى الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ وَفِيهِ أَنَّ السَّيِّدَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي طَائِفَةٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ لِلْجُمْهُورِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ لَا يُرْجَمَانِ سَوَاءٌ كَانَا مُزَوَّجَيْنِ أَمْ لَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُزَوَّجَةٍ وَغَيْرِهَا وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُوَبَّخُ الزَّانِيَ بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَقَطْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ) فِيهِ أَنَّ الزَّانِيَ إِذَا حُدَّ ثُمَّ زَنَى ثَانِيًا يَلْزَمُهُ حَدٌّ آخَرُ فَإِنْ زَنَى ثَالِثَةً لزمه حد آخر فإن حد ثم زنا لَزِمَهُ حَدٌّ آخَرُ وَهَكَذَا أَبَدًا فَأَمَّا إِذَا زَنَى مَرَّاتٍ وَلَمْ يُحَدَّ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَيَكْفِيهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لِلْجَمِيعِ وَفِيهِ(11/211)
تَرْكُ مُخَالَطَةِ الْفُسَّاقِ وَأَهْلِ الْمَعَاصِي وَفِرَاقِهِمْ وَهَذَا الْبَيْعُ الْمَأْمُورُ بِهِ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ هُوَ وَاجِبٌ وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الشَّيْءِ النَّفِيسِ بِثَمَنٍ حَقِيرٍ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ الْبَائِعُ عَالِمًا بِهِ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ فِيهِ خِلَافٌ وَاللَّهُ أعلم وهذا البيع الْمَأْمُورُ بِهِ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَهَا لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ عَيْبٌ وَالْإِخْبَارُ بِالْعَيْبِ وَاجِبٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكْرَهُ شَيْئًا وَيَرْتَضِيهِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَالْجَوَابُ لَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِأَنْ يُعِفَّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَصُونَهَا بِهَيْبَتِهِ أَوْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْهَا أَوْ يُزَوِّجُهَا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنِ بن شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ قَالَ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا) وفي(11/212)
الحديث الآخر أن عليا رضي الله تعالى عَنْهُ خَطَبَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ قَوْلَهُ وَلَمْ يُحْصَنْ غَيْرُ مَالِكٍ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى تَضْعِيفِهَا وَأَنْكَرَ الْحُفَّاظُ هَذَا عَلَى الطَّحَاوِيِّ قَالُوا بَلْ روى هذه اللفظة أيضا بن عيينة ويحيى بن سعيد عن بن شِهَابٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ فَحَصَلَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ صَحِيحَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ مُخَالِفٌ لِأَنَّ الْأَمَةَ تُجْلَدُ نِصْفَ جَلْدِ الْحُرَّةِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْأَمَةُ مُحْصَنَةً بِالتَّزْوِيجِ أَمْ لَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ مَنْ لَمْ يُحْصَنْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على المحصنات من العذاب فِيهِ بَيَانُ مَنْ أُحْصِنَتْ فَحَصَلَ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الْأَمَةَ الْمُحْصَنَةَ بِالتَّزْوِيجِ وَغَيْرَ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ وَهُوَ مَعْنَى مَا قَالَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَخَطَبَ النَّاسَ بِهِ فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي التَّقْيِيدِ في قوله تعالى فإذا أحصن مَعَ أَنَّ عَلَيْهَا نِصْفَ جَلْدِ الْحُرَّةِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْأَمَةُ مُحْصَنَةً أَمْ لَا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ نَبَّهَتْ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إِلَّا نِصْفُ جَلْدِ الْحُرَّةِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَنْتَصِفُ وَأَمَّا الرَّجْمُ فَلَا ينتصف(11/213)
فَلَيْسَ مُرَادًا فِي الْآيَةِ بِلَا شَكٍّ فَلَيْسَ لِلْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ الْمَوْطُوءَةِ فِي النِّكَاحِ حُكْمُ الْحُرَّةِ الْمَوْطُوءَةِ فِي النِّكَاحِ فَبَيَّنَتِ الْآيَةُ هَذَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ تُرْجَمُ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُرْجَمُ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُزَوَّجَةِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عَلَيْهَا نِصْفَ جَلْدِ الْمُزَوَّجَةِ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْهَا حَدِيثُ مَالِكٍ هَذَا وَبَاقِي الرِّوَايَاتِ الْمُطْلَقَةِ إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمُزَوَّجَةَ وَغَيْرَهَا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ نِصْفِ الْجَلْدِ عَلَى الْأَمَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُزَوَّجَةً أَمْ لَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ تَكُنْ مُزَوَّجَةً مِنَ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ ممن قاله بن عباس وطاوس وعطاء وبن جريج وأبو عبيدة قوله
[1705] (قال علي زنت أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديث عهد بِنِفَاسٍ فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحْسَنْتَ) فِيهِ أَنَّ الْجَلْدَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَمَةِ الزَّانِيَةِ وَأَنَّ النُّفَسَاءَ وَالْمَرِيضَةَ وَنَحْوَهُمَا يُؤَخَّرُ جَلْدُهُمَا إِلَى الْبُرْءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(11/214)
(بَاب حَدِّ الْخَمْرِ قَوْلُهُ (إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ وَفَعَلَهُ
[1706] أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ) وَفِي رِوَايَةٍ جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ قَالَ مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الْخَمْرِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا كَأَخَفِّ الْحُدُودِ قَالَ فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ أَرْبَعِينَ وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَلَدَ أَرْبَعِينَ ثُمَّ قَالَ لِلْجَلَّادِ أَمْسِكْ ثُمَّ قَالَ جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ أَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخَفُّ الْحُدُودِ فَهُوَ بِنَصْبِ أَخَفَّ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيِ اجْلِدْهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ أَوِ اجْعَلْهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَقَوْلُهُ (أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا) يَعْنِي الْعُقُوبَةَ الَّتِي هِيَ حَدُّ الْخَمْرِ وَقَوْلُهُ أَخَفُّ الْحُدُودِ يَعْنِي)(11/215)
الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ حَدُّ السَّرِقَةِ بقطع اليد وحد الزنى جلد مائة وحد القذف ثمانين فَاجْعَلْهَا ثَمَانِينَ كَأَخَفِّ هَذِهِ الْحُدُودِ وَفِي هَذَا جَوَازُ الْقِيَاسِ وَاسْتِحْبَابُ مُشَاوَرَةِ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي أَصْحَابَهُ وَحَاضِرِي مَجْلِسِهِ فِي الْأَحْكَامِ قَوْلُهُ
[1707] (وَكُلٌّ سُنَّةٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ سُنَّةٌ يُعْمَلُ بِهَا وَكَذَا فِعْلُ عُمَرَ وَلَكِنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ(11/216)
أَحَبُّ إِلَيَّ وَقَوْلُهُ (وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ) إِشَارَةً إِلَى الْأَرْبَعِينَ الَّتِي كَانَ جَلَدَهَا وَقَالَ لِلْجَلَّادِ أَمْسِكْ وَمَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي قَدْ جَلَدْتَهُ وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الثَّمَانِينَ وَفِيهِ أَنَّ فِعْلَ الصَّحَابِيِّ سُنَّةٌ يُعْمَلُ بِهَا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهَا سَوَاءٌ شَرِبَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِشُرْبِهَا وَإِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ هَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ وَخَلَائِقُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ طَائِفَةٍ شَاذَّةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا يُقْتَلُ بَعْدَ جَلْدِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ قَالَ جَمَاعَةٌ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ نَسَخَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَدْرِ حَدِّ الْخَمْرِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَآخَرُونَ حَدُّهُ أَرْبَعُونَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ ثَمَانِينَ وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ تَعْزِيرَاتٍ عَلَى تَسَبُّبِهِ فِي إِزَالَةِ عَقْلِهِ وَفِي تَعَرُّضِهِ لِلْقَذْفِ وَالْقَتْلِ وَأَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنِ الْجُمْهُورِ مِنَ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ قَالُوا حَدُّهُ ثَمَانُونَ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَأَنَّ فِعْلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْدِيدِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى نَحْوَ أَرْبَعِينَ وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جَلَدَ أَرْبَعِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ في الرواية الثانية وأما زيادة عمر فهي تعزيرات وَالتَّعْزِيرُ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إِنْ شَاءَ فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَرَآهُ عُمَرُ فَفَعَلَهُ وَلَمْ يَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عَلِيٌّ فَتَرَكُوهُ وَهَكَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ الزِّيَادَةَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَأَمَّا الْأَرْبَعُونَ فَهِيَ الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ حَدًّا لَمْ يَتْرُكْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَتْرُكْهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ فِعْلِ عُمَرَ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكُلٌّ سُنَّةٌ معناه الاقتصار(11/217)
على الأربعين وبلوغ الثَّمَانِينَ فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ ولا يشكل شئ مِنْهَا ثُمَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ حَدُّ الْحُرِّ فَأَمَّا الْعَبْدُ فَعَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ كما في الزنى وَالْقَذْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّارِبَ يُحَدُّ سَوَاءٌ سَكِرَ أَمْ لَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ وَهُوَ مَا سِوَى عَصِيرِ الْعِنَبِ مِنَ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ هُوَ حَرَامٌ يُجْلَدُ فِيهِ كَجَلْدِ شَارِبِ الْخَمْرِ الَّذِي هُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ سَوَاءٌ كَانَ يَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهُ أَوْ تَحْرِيمَهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحْرُمُ وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ هُوَ حَرَامٌ يُجْلَدُ بِشُرْبِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ دُونَ مَنْ يَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(11/218)
عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ فَنُسِبَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَبْقِهِ بِهِ وَنَسَبَهُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِفَضِيلَتِهِ وَكَثْرَةِ عِلْمِهِ وَرُجْحَانِهِ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدُ اللَّهِ الدَّانَاجُ) هُوَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالْجِيمِ ويقال له أيضا الدانا بحذف الجيم والداناه بِالْهَاءِ وَمَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ الْعَالِمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا حُضَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ) هُوَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حُضَيْنٌ بِالْمُعْجَمَةِ غَيْرُهُ قَوْلُهُ (فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا ثُمَّ جَلَدَهُ) هَذَا دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ مَنْ تَقَيَّأَ الْخَمْرَ يُحَدُّ حَدَّ الشَّارِبِ وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَهَا جَاهِلًا كَوْنَهَا خَمْرًا أَوْ مُكْرَهًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْحُدُودِ وَدَلِيلُ مَالِكٍ هُنَا قَوِيٌّ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى جَلْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ يُجِيبُ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذَا بِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلِمَ شُرْبَ الْوَلِيدِ فَقَضَى بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ وَظَاهِرُ كَلَامِ عُثْمَانَ يَرُدُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (إِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَا عَلِيُّ قُمْ فَاجْلِدْهُ فَقَالَ عَلِيٌّ قُمْ يَا حَسَنُ فَاجْلِدْهُ فَقَالَ حَسَنٌ وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قُمْ فَاجْلِدْهُ فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ أَمْسِكْ) مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ الْحَدُّ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الْإِمَامُ لِعَلِيٍّ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ لَهُ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ قُمْ فَاجْلِدْهُ أَيْ أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ بِأَنْ تَأْمُرَ مَنْ تَرَى بِذَلِكَ فَقَبِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ لِلْحَسَنِ قُمْ فَاجْلِدْهُ فَامْتَنَعَ الْحَسَنُ فَقَالَ لِابْنِ جَعْفَرٍ فَقَبِلَ فَجَلَدَهُ وَكَانَ عَلِيٌّ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّفْوِيضِ إِلَى مَنْ رَأَى كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ وَجَدَ عَلَيْهِ أَيْ غَضِبَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا الْحَارُّ الشَّدِيدُ الْمَكْرُوهُ وَالْقَارُّ الْبَارِدُ الْهَنِيءُ الطَّيِّبُ وَهَذَا مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ مَعْنَاهُ وَلِّ شدتها وأوساخها من تولى هنيئها ولذاتها والضمير عَائِدٌ إِلَى الْخِلَافَةِ وَالْوِلَايَةِ أَيْ كَمَا أَنَّ عُثْمَانَ وَأَقَارِبَهُ يَتَوَلَّوْنَ هَنِيءَ الْخِلَافَةِ وَيَخْتَصُّونَ بِهِ يَتَوَلَّوْنَ نَكِدَهَا وَقَاذُورَاتِهَا وَمَعْنَاهُ لِيَتَوَلَّ هَذَا الْجَلْدَ عُثْمَانُ بِنَفْسِهِ أَوْ بَعْضُ خَاصَّةِ أَقَارِبِهِ الْأَدْنَيْنَ والله أعلم قوله (قال أمسك ثم قَالَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُعَظِّمًا لِآثَارِ عُمَرَ وَأَنَّ حُكْمَهُ وَقَوْلَهُ سُنَّةٌ وَأَمْرَهُ حَقٌّ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خِلَافَ مَا يَكْذِبُهُ الشِّيعَةُ عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا فِي مُسْلِمٍ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ عَلِيًّا جلد(11/219)
الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ أَرْبَعِينَ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ ثَمَانِينَ وَهِيَ قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْجَلْدُ فِي الخمر ثمانين وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي قَلِيلِ الْخَمْرِ وَكَثِيرِهَا ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَلَدَ الْمَعْرُوفَ بِالنَّجَاشِيِّ ثَمَانِينَ قَالَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى عُمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ ثَمَانِينَ كَمَا سَبَقَ عَنْ رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ قَالَ وَهَذَا كُلُّهُ يُرَجِّحُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ جَلَدَ الْوَلِيدَ ثَمَانِينَ قَالَ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الْأَرْبَعِينَ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ جَلَدَهُ بِسَوْطٍ لَهُ رَأْسَانِ فَضَرَبَهُ بِرَأْسِهِ أَرْبَعِينَ فَتَكُونُ جُمْلَتُهَا ثَمَانِينَ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَهَذَا أَحَبُّ إلى عائد إلى الثمانين إلى فَعَلَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُخَالِفُ بَعْضَ مَا قَالَهُ وَذَكَرْنَا تَأْوِيلَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا كُنْتُ أُقِيمُ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتُ فَأَجِدُ مِنْهُ في نفسي إِلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ وَدَيْتُهُ لِأَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ) أَمَّا أَبُو حَصِينٍ هَذَا فَهُوَ بِحَاءِ مَفْتُوحَةٍ وَصَادٍ مَكْسُورَةٍ وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ وَأَمَّا عُمَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ فَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْيَاءِ فِي عُمَيْرُ وَفِي سَعِيدٍ وهَكَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَجَمِيعِ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْأَسْمَاءِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ وَوَقَعَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ عُمَيْرُ بْنِ سَعْدٍ بِحَذْفِ الْيَاءِ مِنْ سَعِيدٍ وَهُوَ غَلَطٌ وَتَصْحِيفٌ إِمَّا مِنَ الْحُمَيْدِيِّ وَإِمَّا مِنْ بَعْضِ النَّاقِلِينَ عَنْهُ وَوَقَعَ فِي الْمُهَذَّبِ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِنَا فِي الْمَذْهَبِ فِي بَابِ التَّعْزِيرِ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِحَذْفِ الْيَاءِ مِنَ الِاثْنَيْنِ وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ وَالصَّوَابُ(11/220)
إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِيهِمَا كَمَا سَبَقَ وَأَمَّا قَوْلُهُ (إِنْ مَاتَ وَدَيْتُهُ) فَهُوَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ غَرِمْتُ دِيَتَهُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَجْهُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ فَإِنَّهُ إِنْ مَاتَ وَدَيْتُهُ بِالْفَاءِ لَا بِاللَّامِ وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِالْفَاءِ وَقَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ) مَعْنَاهُ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ حدا مضبوطا وقد أجمع العلماء علىأن مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَجَلَدَهُ الْإِمَامُ أَوْ جَلَّادُهُ الْحَدَّ الشَّرْعِيَّ فَمَاتَ فَلَا دِيَةَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ لَا عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى جَلَّادِهِ وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَأَمَّا مَنْ مَاتَ مِنَ التَّعْزِيرِ فَمَذْهَبُنَا وُجُوبُ ضَمَانِهِ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَفِي مَحَلِّ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهمَا تَجِبُ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الْإِمَامِ وَالثَّانِي تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَفِي الْكَفَّارَةِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا فِي بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا وَالثَّانِي فِي مَالِ الْإِمَامِ هَذَا مَذْهَبُنَا وَقَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ لَا ضَمَانَ فِيهِ لَا عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب قَدْرِ أَسْوَاطِ التَّعْزِيرِ
[1708] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله عز وجل) ضبطوه يجلد بوجهين أحدهما بفتح الياء وكسر اللَّامِ وَالثَّانِي بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّعْزِيرِ هَلْ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ فَمَا دُونَهَا وَلَا تجوز الزِّيَادَةُ أَمْ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَشْهَبُ الْمَالِكِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالطَّحَاوِيُّ لَا ضَبْطَ لِعَدَدِ الضَّرَبَاتِ بَلْ ذَلِكَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الْحُدُودِ قَالُوا لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضرب)(11/221)
مَنْ نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ مِائَةً وَضَرَبَ صَبِيًّا أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ أَرْبَعِينَ وَقَالَ بن أَبِي لَيْلَى خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَعَنْ عُمَرَ لَا يُجَاوِزُ به ثمانين وعن بن أَبِي لَيْلَى رِوَايَةٌ أُخْرَى هُوَ دُونَ الْمِائَةِ وهو قول بن شبرمة وقال بن أبي ذئب وبن أَبِي يَحْيَى لَا يَضْرِبُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي الْأَدَبِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ لَا يَبْلُغُ بِتَعْزِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ أَدْنَى حُدُودِهِ فَلَا يَبْلُغُ بِتَعْزِيرِ الْعَبْدِ عِشْرِينَ وَلَا بِتَعْزِيرِ الْحُرِّ أَرْبَعِينَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا يَبْلُغُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَبْلُغُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرِينَ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَاوَزُوا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ وَتَأَوَّلَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِزَمَنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِي الْجَانِيَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرَ وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ) أَخْبَرَنِي عمرو يعني بن الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ تَابَعَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ وَخَالَفَهُمَا الليث وسعيد بن أبي أيوب وبن لَهِيعَةَ فَرَوَوْهُ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ لَمْ يَذْكُرُوا عَنْ أَبِيهِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مسلم بن ابراهيم فقال بن جُرَيْجٍ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْهُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ اللَّيْثِ وَمَنْ تَابَعَهُ عَنْ بُكَيْرٍ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ قَوْلُ عَمْرٍو صَحِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا
[1709] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تبايعوني على أن لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَسْرِقُوا ولا تقتلوا)(11/222)
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَلَا يَعْضَهُ بَعْضُنَا بَعْضًا فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَفِي الرِّوَايَةِ الأخرى بايعناه على أن لا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَلَا نَنْتَهِبُ وَلَا نَعْصِيَ فَالْجَنَّةُ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذلك الله تَعَالَى أما قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ وَفَى فَبِتَخْفِيفِ الْفَاءِ وَقَوْلُهُ وَلَا يَعْضَهْ هو بفتح الياء والضاد والمعجمة أي لا يستحب وَقِيلَ لَا يَأْتِي بِبُهْتَانٍ وَقِيلَ لَا يَأْتِي بِنَمِيمَةٍ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَمَوْضِعُ التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى آخِرِهِ الْمُرَادُ بِهِ مَا سِوَى الشِّرْكِ وَإِلَّا فَالشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ لَهُ وَتَكُونُ عُقُوبَتُهُ كَفَّارَةً لَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا تَحْرِيمُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَمِنْهَا الدَّلَالَةُ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ(11/223)
الْمَعَاصِيَ غَيْرَ الْكُفْرِ لَا يُقْطَعُ لِصَاحِبِهَا بِالنَّارِ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا بَلْ هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ يُكَفِّرُونَ بِالْمَعَاصِي وَالْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ لَا يَكْفُرُ وَلَكِنْ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مَبْسُوطَةً بِدَلَائِلِهَا وَمِنْهَا أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ ذَنْبًا يُوجِبُ الْحَدَّ فَحُدَّ سَقَطَ عَنْهُ الْإِثْمُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ اسْتِدْلَالًا بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ قَالَ وَلَكِنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ أَصَحُّ إِسْنَادًا وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَبْلَ حَدِيثِ عُبَادَةَ فَلَمْ يَعْلَمْ ثُمَّ عَلِمَ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَمِنْ نَفِيسِ الْكَلَامِ وَجَزْلِهِ قَوْلُهُ وَلَا نَعْصِي فَالْجَنَّةُ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ فَالْجَنَّةُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَلَا نَعْصِيَ وَقَدْ يَعْصِي الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ الذُّنُوبِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الرِّبَا وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَقَدْ يَتَجَنَّبُ الْمَعَاصِيَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ وَيُعْطَى أَجْرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَكُونُ لَهُ مَعَاصٍ غَيْرَ ذَلِكَ فَيُجَازَى بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ(11/224)
(باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار أي هدر
[1710] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الخمس) العجماء بالمدهى كُلُّ الْحَيَوَانِ سِوَى الْآدَمِيِّ وَسُمِّيَتِ الْبَهِيمَةُ عَجْمَاءَ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ وَالْجُبَارُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْهَدَرُ فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَتْلَفَتْ شَيْئًا بِالنَّهَارِ أَوْ أَتْلَفَتْ بِاللَّيْلِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ مَالِكِهَا أَوْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ فَهَذَا غَيْرُ مَضْمُونٌ وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ أَوْ رَاكِبٌ فَأَتْلَفَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ فَمِهَا وَنَحْوِهِ وَجَبَ ضَمَانُهُ فِي مَالِ الَّذِي هُوَ مَعَهَا سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ مُسْتَعِيرًا أَوْ غَاصِبًا أَوْ مُودَعًا أَوْ وَكِيلًا أَوْ غَيْرَهُ إِلَّا أَنْ تُتْلِفَ آدَمِيًّا فَتَجِبُ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي مَعَهَا وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ وَالْمُرَادُ بِجُرْحِ الْعَجْمَاءِ إِتْلَافُهَا سَوَاءٌ كَانَ بِجُرْحٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ الْقَاضِي أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ جِنَايَةَ الْبَهَائِمِ بِالنَّهَارِ لَا ضَمَانَ فِيهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَحَدٌ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ أَوْ سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ضَمَانِ مَا أَتْلَفَتْهُ وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ لَا ضَمَانَ بِكُلِّ حَالٍ إِلَّا أَنْ يَحْمِلَهَا الَّذِي هُوَ مَعَهَا عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَقْصِدَهُ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ الضَّارِيَةَ مِنَ الدَّوَابِّ كَغَيْرِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ يَضْمَنُ مَالِكُهَا مَا أَتْلَفَتْ وَكَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ إِذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالْإِفْسَادِ لِأَنَّ عَلَيْهِ رَبْطُهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَأَمَّا إِذَا أَتْلَفَتْ لَيْلًا فَقَالَ مَالِكٌ يَضْمَنُ صَاحِبُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ)(11/225)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ يَضْمَنُ إِنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ فِيمَا أَتْلَفَتْهُ الْبَهَائِمُ لَا فِي لَيْلٍ وَلَا فِي نَهَارٍ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيمَا رَعَتْهُ نَهَارًا وَقَالَ اللَّيْثُ وَسَحْنُونٌ يَضْمَنُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَ يَحْفِرُ مَعْدِنًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَوَاتٍ فَيَمُرُّ بِهَا مَارٌّ فَيَسْقُطُ فِيهَا فَيَمُوتُ أَوْ يَسْتَأْجِرُ أُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ فِيهَا فَيَقَعُ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُونَ فَلَا ضَمَانَ فِي ذَلِكَ وَكَذَا الْبِئْرُ جُبَارٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَحْفِرُهَا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَوَاتٍ فَيَقَعُ فِيهَا إِنْسَانٌ أَوْ غَيْرُهُ وَيَتْلَفُ فَلَا ضَمَانَ وَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِحَفْرِهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ فَمَاتَ فَلَا ضَمَانَ فَأَمَّا إِذَا حَفَرَ الْبِئْرَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَتَلِفَ فِيهَا إِنْسَانٌ فَيَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَةِ حَافِرِهَا وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الْحَافِرِ وَإِنْ تَلِفَ بِهَا غَيْرُ الْآدَمِيِّ وَجَبَ ضَمَانُهُ فِي مَالِ الْحَافِرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ) فَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ وَهُوَ زَكَاةٌ عِنْدَنَا وَالرِّكَازُ هُوَ دفين الْجَاهِلِيَّةِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ العراق هوالمعدن وَهُمَا عِنْدَهُمْ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَعَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَأَصْلُ الرِّكَازِ فِي اللُّغَةِ الثُّبُوتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(11/226)
(
كتاب الأقضية)
(باب اليمين على المدعى عليه قَالَ الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقَضَاءُ فِي الْأَصْلِ إِحْكَامُ الشَّيْءِ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ وَيَكُونُ الْقَضَاءُ إِمْضَاءَ الْحُكْمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَقَضَيْنَا إِلَى بني اسرائيل وَسُمِّيَ الْحَاكِمُ قَاضِيًا لِأَنَّهُ يُمْضِي الْأَحْكَامَ وَيَحْكُمُهَا وَيَكُونُ قَضَى بِمَعْنَى أَوْجَبَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ قَاضِيًا لِإِيجَابِهِ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَسُمِّيَ حَاكِمًا لِمَنْعِهِ الظَّالِمَ مِنَ الظُّلْمِ يُقَالُ حَكَمْتُ الرَّجُلَ وَأَحْكَمْتُهُ إِذَا مَنَعْتُهُ وَسُمِّيَتْ حَكَمَةُ الدَّابَّةِ لِمَنْعِهَا الدَّابَّةَ مِنْ رُكُوبِهَا رَأْسَهَا وَسُمِّيَتِ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً لِمَنْعِهَا النَّفْسَ مِنْ هَوَاهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1711] (لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالِهِمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَكَذَا رَوَى هَذَا الحديث البخاري ومسلم في صحيحهما مرفوعا من رواية بن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْأَصِيلِيُّ لَا يصح مرفوعا)(12/2)
إنما هو قول بن عَبَّاسٍ كَذَا رَوَاهُ أَيُّوبُ وَنَافِعٌ الْجُمَحِيُّ عَنِ بن أبي مليكة عن بن عَبَّاسٍ قَالَ الْقَاضِي قَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ من رواية بن جُرَيْجٍ مَرْفُوعًا هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي قُلْتُ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ بِأَسَانِيدِهِمَا عَنْ نَافِعِ بن عمر الجمحي عن بن أبي مليكة عن بن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْفُوعًا قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَوْ صحيح زيادة عن بن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لو يعطى الناس بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْإِنْسَانِ فِيمَا يَدَّعِيهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ أَوْ تَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ طَلَبَ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهِ لَا يُعْطَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أُعْطِيَ بِمُجَرَّدِهَا لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَاسْتُبِيحَ وَلَا يُمْكِنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَصُونَ مَالَهُ وَدَمَهُ وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَيُمْكِنُهُ صِيَانَتُهُمَا بِالْبَيِّنَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا أَنَّ الْيَمِينَ تَتَوَجَّهُ عَلَى كُلِّ مَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ حَقٌّ سَوَاءٌ كان بينه وبين المدعى اختلاطا أَمْ لَا وَقَالَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ إِنَّ الْيَمِينَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَّا عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ خُلْطَةٌ لِئَلَّا يَبْتَذِلَ السُّفَهَاءُ أَهْلَ الْفَضْلِ بِتَحْلِيفِهِمْ مِرَارًا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ فَاشْتُرِطَتِ الْخُلْطَةُ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْخُلْطَةِ فَقِيلَ هِيَ مَعْرِفَتُهُ بمعاملته ومدينته أبشاهد أَوْ بِشَاهِدَيْنِ وَقِيلَ تَكْفِي الشُّبْهَةُ وَقِيلَ هِيَ أَنْ تَلِيقَ بِهِ الدَّعْوَى بِمِثْلِهَا عَلَى مِثْلِهِ وَقِيلَ أَنْ يَلِيقَ بِهِ أَنْ يُعَامِلَهُ بِمِثْلِهَا وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ الْبَابِ وَلَا أَصْلَ لِاشْتِرَاطِ الْخُلْطَةِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ(12/3)
(باب وجوب الحكم بشاهد ويمين
[1712] قوله (عن بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ) فِيهِ جَوَازُ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْكُوفِيُّونَ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَنْدَلُسِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ لَا يُحْكَمُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ وَقَالَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ يُقْضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْأَمْوَالُ وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَلِيٌّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَمُعْظَمُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ جَاءَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هذه المسألة من رواية علي وبن عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعُمَارَةَ! بْنِ حَزْمٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شعبة رضي الله عنه قال الحفاظ أصح أحاديث الباب حديث بن عباس قال بن عَبْدِ الْبَرِّ لَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فِي إِسْنَادِهِ قَالَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي صِحَّتِهِ قَالَ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا حسان والله أعلم بالصواب)
باب بيان أن حكم الحاكم لا يغير الباطن
[1713] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ أَنْ يَكُونَ(12/4)
أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا أَمَّا أَلْحَنُ فَهُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ أَبْلَغُ وَأَعْلَمُ بِالْحُجَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) مَعْنَاهُ التَّنْبِيهُ عَلَى حَالَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَأَنَّ الْبَشَرَ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ وَبَوَاطِنِ الْأُمُورِ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُطْلِعَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ فِي أُمُورِ الْأَحْكَامِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَيُحْكَمُ بِالْبَيِّنَةِ وَبِالْيَمِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الظَّاهِرِ مَعَ إِمْكَانِ كَوْنِهِ فِي الْبَاطِنِ خِلَافَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ الْحُكْمَ بِالظَّاهِرِ وَهَذَا نَحْوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَفِي حَدِيثِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِيَ وَلَهَا شَأْنٌ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَأَطْلَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِ الْخَصْمَيْنِ فَحَكَمَ بِيَقِينِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى شَهَادَةٍ أَوْ يَمِينٍ لَكِنْ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ أَجْرَى لَهُ حُكْمَهُمْ فِي عَدَمِ الِاطَّلَاعِ عَلَى بَاطِنِ الْأُمُورِ لِيَكُونَ حُكْمُ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ حُكْمَهُ فَأَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى أَحْكَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ لِيَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَتَطِيبُ نُفُوسُ الْعِبَادِ لِلِانْقِيَادِ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْبَاطِنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ مُخَالِفٌ لِلْبَاطِنِ وَقَدِ اتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَرُّ عَلَى خَطَأٍ فِي الْأَحْكَامِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَقَاعِدَةِ الْأُصُولِيِّينَ لِأَنَّ مُرَادَ الْأُصُولِيِّينَ فِيمَا(12/5)
حَكَمَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ خَطَأٌ فِيهِ خِلَافٌ الْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ فَالَّذِينَ جَوَّزُوهُ قَالُوا لَا يُقَرُّ عَلَى إِمْضَائِهِ بَلْ يُعْلِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَيَتَدَارَكُهُ وَأَمَّا الَّذِي فِي الْحَدِيثِ فَمَعْنَاهُ إِذَا حَكَمَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ كَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ فَهَذَا إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ لَا يُسَمَّى الْحُكْمُ خَطَأً بَلِ الْحُكْمُ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بِهِ التَّكْلِيفُ وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِشَاهِدَيْنِ مَثَلًا فَإِنْ كَانَا شَاهِدَيْ زُورٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَالتَّقْصِيرُ مِنْهُمَا وَمِمَّنْ سَاعَدَهُمَا وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا عَيْبَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي حَكَمَ بِهِ لَيْسَ هُوَ حُكْمَ الشَّرْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْبَاطِنَ وَلَا يُحِلُّ حَرَامًا فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَا زُورٍ لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ يَحِلَّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ ذَلِكَ الْمَالُ وَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ لَمْ يَحِلَّ لِلْوَلِيِّ قَتْلُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا وَإِنْ شَهِدَا بِالزُّورِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَحِلَّ لِمَنْ عَلِمَ بِكَذِبِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ حُكْمِ الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحِلُّ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْفُرُوجَ دُونَ الْأَمْوَالِ فَقَالَ يَحِلُّ نِكَاحُ الْمَذْكُورَةِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصحيح ولا جماع مَنْ قَبْلَهُ وَمُخَالِفٌ لِقَاعِدَةٍ وَافَقَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَنَّ الْأَبْضَاعَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) مَعْنَاهُ إِنْ قَضَيْتُ لَهُ بِظَاهِرٍ يُخَالِفُ الباطن فهو حرام يؤول بِهِ إِلَى النَّارِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا) لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّخْيِيرَ بَلْ هُوَ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وكقوله سبحانه اعملوا ما شئتم قَوْلُهُ (سَمِعَ لَجَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ أُمِّ سَلَمَةَ) هِيَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْجِيمِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ جَلَبَةُ خَصْمٍ بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ وَهُمَا صَحِيحَانِ وَالْجَلَبَةُ وَاللَّجَبَةُ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ وَالْخَصْمُ هُنَا الْجَمَاعَةُ وَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ) هَذَا التَّقْيِيدُ بِالْمُسْلِمِ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الِاحْتِرَازَ(12/6)
مِنَ الْكَافِرِ فَإِنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ وَالْمُرْتَدِّ فِي هَذَا كَمَالِ الْمُسْلِمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب قَضِيَّةِ هِنْدٍ
[1714] قَوْلُهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا 1 وُجُوبُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَمِنْهَا 2 وُجُوبُ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ الْفُقَرَاءِ الصِّغَارِ وَمِنْهَا 3 أَنَّ النَّفَقَةَ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ لَا بِالْأَمْدَادِ وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ مُقَدَّرَةٌ بِالْأَمْدَادِ على الموسر كل يوم مدان وعلىالمعسر مُدٌّ وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَى أَصْحَابِنَا وَمِنْهَا 4 جَوَازُ سَمَاعِ كَلَامِ الْأَجْنَبِيَّةِ عِنْدَ الْإِفْتَاءِ وَالْحُكْمِ وَكَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ وَمِنْهَا 5 جَوَازُ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُهُ إِذَا كَانَ لِلِاسْتِفْتَاءِ وَالشَّكْوَى وَنَحْوِهِمَا وَمِنْهَا 6 أَنَّ مَنْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ اسْتِيفَائِهِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ حَقِّهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا ومنع ذلك)(12/7)
أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنْهَا 7 جَوَازُ إِطْلَاقِ الْفَتْوَى وَيَكُونُ الْمُرَادُ تَعْلِيقَهَا بِثُبُوتِ مَا يَقُولُهُ الْمُسْتَفْتِي وَلَا يَحْتَاجُ الْمُفْتِي أَنْ يَقُولَ إِنْ ثَبَتَ كَانَ الْحُكْمُ كَذَا وَكَذَا بَلْ يَجُوزُ لَهُ الْإِطْلَاقُ كَمَا أَطْلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ وَمِنْهَا 8 أَنَّ لِلْمَرْأَةِ مَدْخَلًا فِي كَفَالَةِ أَوْلَادِهَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِ أَبِيهِمْ قَالَ أَصْحَابُنَا إِذَا امْتَنَعَ الْأَبُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ الصَّغِيرِ أَوْ كَانَ غَائِبًا أَذِنَ الْقَاضِي لِأُمِّهِ فِي الْأَخْذِ مِنْ آلِ الْأَبِ أَوِ الِاسْتِقْرَاضِ عَلَيْهِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الصَّغِيرِ بِشَرْطِ أَهْلِيَّتِهَا وَهَلْ لَهَا الِاسْتِقْلَالُ بِالْأَخْذِ مِنْ مَالِهِ بغير اذن القاضي فيه وجهان مَبْنِيَّانِ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا فِي أَنَّ إِذْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهِنْدٍ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ إِفْتَاءً أَمْ قَضَاءً وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَانَ إِفْتَاءً وَأَنَّ هَذَا يَجْرِي فِي كُلِّ امْرَأَةٍ أَشْبَهَتْهَا فَيَجُوزُ وَالثَّانِي كَانَ قَضَاءً فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَمِنْهَا 9 اعْتِمَادُ الْعُرْفِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَحْدِيدٌ شَرْعِيٌّ وَمِنْهَا 10 جَوَازُ خُرُوجِ المزَّوْجَةِ مِنْ بَيْتِهَا لِحَاجَتِهَا إِذَا أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِي ذَلِكَ أَوْ عَلِمَتْ رِضَاهُ بِهِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ يُقْضَي عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا يُقْضَى فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الحديث للمسئلة لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حَاضِرًا بِهَا وَشَرْطُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنِ الْبَلَدِ أَوْ مُسْتَتِرًا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ أَوْ مُتَعَذِّرًا وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ فِي أَبِي سُفْيَانَ مَوْجُودًا فَلَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ بَلْ هُوَ إِفْتَاءٌ كما سبق والله أعلم قوله (جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ(12/8)
وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلَّهُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَمَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُعِزَّهُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَلَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ خِبَاءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَتْ بِقَوْلِهِا أَهْلُ خِبَاءٍ نَفْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَنَّتْ عَنْهُ بِأَهْلِ الْخِبَاءِ إِجْلَالًا لَهُ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ بِأَهْلِ الْخِبَاءَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَالْخِبَاءُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مَسْكَنِ الرَّجُلِ وَدَارِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ فَمَعْنَاهُ وَسَتَزِيدِينَ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَمَكَّنُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِكِ وَيَزِيدُ حُبُّكِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْوَى رُجُوعُكِ عَنْ بُغْضِهِ وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ آضَ يَئِيضُ أَيْضًا إِذَا رَجَعَ قَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ (إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ) أَيْ شَحِيحٌ وَبَخِيلٌ وَاخْتَلَفُوا فِي ضَبْطِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا(12/9)
الْقَاضِي أَحَدُهُمَا مِسِّيكٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ وَالثَّانِي بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَشْهَرُ فِي رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُمَا جَمِيعًا لِلْمُبَالَغَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ مِنْ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا قَالَ لَهَا لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَمَعْنَاهُ لَا حَرَجَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ أَيْ لَا تُنْفِقِي إلا بالمعروف أولا حَرَجَ إِذَا لَمْ تُنْفِقِي إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ
(بَاب النَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَالنَّهْيِ عَنْ مَنْعٍ وَهَاتِ (وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ أداء حق لزمه أو طلب مالا يستحقه) ق
[1715] وله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ) وفي الروايةِ الْأُخْرَى إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنْعًا وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ المال قال العلماء الرضى وَالسُّخْطُ وَالْكَرَاهَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُرَادُ بِهَا أمره ونهيه وثوابه وعقابه أو ارادته الثوات لبعض العباد)(12/10)
وَالْعِقَابَ لِبَعْضِهِمْ وَأَمَّا الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ فَهُوَ التَّمَسُّكُ بِعَهْدِهِ وَهُوَ اتِّبَاعُ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَحُدُودِهِ وَالتَّأَدُّبِ بِأَدَبِهِ وَالْحَبْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَهْدِ وَعَلَى الْأَمَانِ وَعَلَى الْوَصْلَةِ وَعَلَى السَّبَبِ وَأَصْلُهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ الْحَبْلَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ لِاسْتِمْسَاكِهِمْ بِالْحَبْلِ عِنْدَ شَدَائِدِ أُمُورِهِمْ وَيُوصِلُونَ بِهَا الْمُتَفَرِّقَ فَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْحَبْلِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَفَرَّقُوا فَهُوَ أَمْرٌ بِلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَأَلُّفِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَهَذِهِ إِحْدَى قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَاعْلَمْ أَنَّ الثلاثة المرضية احداها أن يعبدوه الثانية أن لا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا الثَّالِثَةُ أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ وَلَا يَتَفَرَّقُوا وَأَمَّا قِيلَ وَقَالَ فَهُوَ الخوض في أخبار الناس وحكايات مالا يَعْنِي مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَةِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا فِعْلَانِ فقيل مبنى لما لم يسم فاعله وقال فِعْلٌ مَاضٍ وَالثَّانِي أَنَّهُمَا اسْمَانِ مَجْرُورَانِ مُنَوَّنَانِ لِأَنَّ الْقِيلَ والْقَالَ وَالْقَوْلَ وَالْقَالَةَ كُلُّهُ بِمَعْنًى ومنه قوله ومن أصدق من الله قيلا وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ كَثُرَ الْقِيلُ وَالْقَالُ وَأَمَّا كَثْرَةُ السُّؤَالِ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَطْعُ فِي الْمَسَائِلِ وَالْإِكْثَارُ مِنَ السُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ وَلَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَرَوْنَهُ مِنَ التَّكَلُّفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَفِي الصَّحِيحِ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ سُؤَالُ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ السُّؤَالِ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ وَأَحْدَاثِ الزمان ومالا يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ هَذَا مِنَ النَّهْيِ عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ عَنْ حَالِهِ وَتَفَاصِيلِ أَمْرِهِ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي سُؤَالِهِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ حُصُولُ الْحَرَجِ في حق المسؤل فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُؤْثِرُ إِخْبَارَهُ بِأَحْوَالِهِ فَإِنْ أَخْبَرَهُ شَقَّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَذَبَهُ فِي الْإِخْبَارِ أَوْ تَكَلَّفَ التَّعْرِيضَ لَحِقَتْهُ الْمَشَقَّةُ وَإِنْ أَهْمَلَ جَوَابَهُ ارْتَكَبَ سُوءَ الْأَدَبِ وَأَمَّا إِضَاعَةُ الْمَالِ فَهُوَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوهِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَعْرِيضُهُ لِلتَّلَفِ وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ إِفْسَادٌ وَاللَّهُ لَا يجب الْمُفْسِدِينَ وَلِأَنَّهُ إِذَا أَضَاعَ مَالُهُ تَعَرَّضَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وأَمَّا عُقُوقُ الْأُمَّهَاتِ فَحَرَامٌ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى عَدِّهِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَكَذَلِكَ عُقُوقُ الْآبَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَإِنَّمَا(12/11)
اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ آكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْآبَاءِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ السَّائِلُ مَنْ أَبَرُّ قَالَ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ ثُمَّ أَبَاكَ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْعُقُوقِ يَقَعُ لِلْأُمَّهَاتِ وَيَطْمَعُ الْأَوْلَادُ فِيهِنَّ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْعُقُوقِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَأَمَّا وَأْدُ الْبَنَاتِ بِالْهَمْزِ فَهُوَ دَفْنُهُنَّ فِي حَيَاتِهِنَّ فَيَمُتْنَ تَحْتَ التُّرَابِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوبِقَاتِ لِأَنَّهُ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا قَطِيعَةَ الرَّحِمِ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْبَنَاتِ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ الَّذِي كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمَنْعًا وَهَاتِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَلَا وَهَاتِ فَهُوَ بِكَسْرِ التَّاءِ مِنْ هَاتِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَمْنَعَ الرَّجُلُ مَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ أو يطلب مالا يَسْتَحِقُّهُ وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ ثَلَاثًا وَكَرِهَ ثَلَاثًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[593] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ثَلَاثًا وَنَهَى عَنْ ثَلَاثٍ حَرَّمَ عُقُوقَ الْوَالِدِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَلَا وَهَاتِ وَنَهَى عَنْ ثَلَاثٍ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ) هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّ النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ خَرَجَ بِدَلِيلٍ آخَرَ وقَوْلُهُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ (عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنِ بن أَشْوَعَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ)(12/12)
هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ تَابِعِيُّونَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهُمْ خَالِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَشْوَعَ وَهُوَ تَابِعِيٌّ سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ سَلَمَةَ الْجُعْفِيَّ الصَّحَابِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ التَّابِعِيُّ الثَّالِثُ الشَّعْبِيُّ وَالرَّابِعُ كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ وَرَّادٌ قَوْلُهُ (كَتَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيَبْدَأُ سَلَامٌ عَلَيْكَ كَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ السَّلَامُ على من اتبع الهدى
(باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ قَوْلُهُ (عَنْ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) هَذَا الْإِسْنَادُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ تَابِعِيُّونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهُمْ يَزِيدُ فَمَنْ بَعْدَهُ
[1716] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) قَالَ الْعُلَمَاءُ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي)(12/13)
حَاكِمٍ عَالِمٍ أَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ بِإِصَابَتِهِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ وَفِي الْحَدِيثِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ قَالُوا فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ فَإِنْ حَكَمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ بَلْ هُوَ آثِمٌ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْحَقَّ أم لا لأن إصابته اتفاقه لَيْسَتْ صَادِرَةً عَنْ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ عَاصٍ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ سَوَاءٌ وَافَقَ الصَّوَابَ أَمْ لَا وَهِيَ مَرْدُودَةٌ كُلُّهَا وَلَا يُعْذَرُ فِي شئ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي السُّنَنِ الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَمِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَهُوَ مَنْ وَافَقَ الْحُكْمَ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآخَرُ مُخْطِئٌ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَقَدِ احْتَجَّتِ الطَّائِفَتَانِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ الْقَائِلُونَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَقَالُوا قَدْ جُعِلَ لِلْمُجْتَهِدِ أَجْرٌ فَلَوْلَا إِصَابَتُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَقَالُوا سَمَّاهُ مُخْطِئًا ولو كَانَ مُصِيبًا لَمْ يُسَمِّهِ مُخْطِئًا وَأَمَّا الْأَجْرُ فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ عَلَى تَعَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ قَالَ الْأَوَّلُونَ إِنَّمَا سَمَّاهُ مُخْطِئًا لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ النَّصَّ أَوِ اجْتَهَدَ فِيمَا لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي لفروع فَأَمَّا أُصُولُ التَّوْحِيدِ فَالْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ وَلَمْ يُخَالِفْ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَبْتَرِيُّ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ فَصَوَّبَا الْمُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا قَالَ الْعُلَمَاءُ الظَّاهِرُ أنهما أراد الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(12/14)
(بَاب كَرَاهَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ
[1717] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْقَضَاءِ فِي حَالِ الْغَضَبِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَيَلْتَحِقُ بِالْغَضَبِ كُلُّ حَالٍ يَخْرُجُ الْحَاكِمُ فِيهَا عَنْ سَدَادِ النَّظَرِ وَاسْتِقَامَةِ الْحَالِ كَالشِّبَعِ الْمُفْرِطِ وَالْجُوعِ الْمُقْلِقِ وَالْهَمِّ وَالْفَرَحِ الْبَالِغِ وَمُدَافَعَةِ الْحَدَثِ وَتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِأَمْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يُكْرَهُ لَهُ الْقَضَاءُ فِيهَا خَوْفًا مِنَ الْغَلَطِ فَإِنْ قَضَى فِيهَا صَحَّ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ وَقَالَ فِي اللقطة مالك وَلَهَا إِلَى آخِرِهِ وَكَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ والله أعلم)(12/15)
(باب نقص الْأَحْكَامِ الْبَاطِلَةِ وَرَدِّ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ
[1718] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذا ماليس مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ الرَّدُّ هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْدُودِ وَمَعْنَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي رَدِّ كُلِّ الْبِدَعِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ يُعَانِدُ بَعْضُ الْفَاعِلِينَ فِي بِدْعَةٍ سَبَقَ إِلَيْهَا فَإِذَا احْتُجَّ عَلَيْهِ بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى يَقُولُ أَنَا مَا أَحْدَثْتُ شَيْئًا فَيُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالثَّانِيَةِ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِرَدِّ كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ سَوَاءٌ أَحْدَثَهَا الْفَاعِلُ أَوْ سُبِقَ بِإِحْدَاثِهَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَمَنْ قَالَ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ يَقُولُ هَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ وَلَا يَكْفِي فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمُهِمَّةِ وَهَذَا جَوَابٌ فَاسِدٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَنْبَغِي حِفْظُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي ابطال المنكرات واشاعة الاستدلال به)
باب بيان خير الشهود
[1719] قَوْلُهُ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي(12/16)
بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بن عثمان عن بن أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ تَابِعِيُّونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُوهُ وَعَبْدُ الله بن عمرو بن عثمان وبن أبي عمرة وإسم بن أَبِي عَمْرَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحْصَنٍ الْأَنْصَارِيُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1719] (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قبل أن يسئلها) وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَأْوِيلَانِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا تَأْوِيلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ شَاهِدٌ فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِأَنَّهُ شَاهِدٌ لَهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ المختصة بهم فما تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَالْوَقْفُ وَالْوَصَايَا الْعَامَّةُ وَالْحُدُودُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَفْعُهُ إِلَى الْقَاضِي وَإِعْلَامُهُ بِهِ وَالشَّهَادَةُ قَالَ اللَّهُ تعالى وأقيموا الشهادة لله وَكَذَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِإِنْسَانٍ لَا يَعْلَمُهَا أَنْ يُعْلِمَهُ إِيَّاهَا لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ لَهُ عِنْدَهُ وَحُكِيَ تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَجَازِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا لَا قَبْلَهُ كَمَا يُقَالُ الْجَوَادُ يُعْطِي قَبْلَ السُّؤَالِ أَيْ يُعْطِي سَرِيعًا عَقِبَ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُنَاقَضَةٌ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي ذَمِّ مَنْ يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَقَدْ تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ هَذَا تَأْوِيلَاتٍ أَصَحُّهَا تَأْوِيلُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ مَعَهُ شَهَادَةٌ لِآدَمِيٍّ عَالِمٍ بِهَا فَيَأْتِي فَيَشْهَدُ بِهَا قَبْلَ أَنْ تُطْلَبَ مِنْهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى شَاهِدِ الزُّورِ فَيَشْهَدُ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يُسْتَشْهَدْ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَنْتَصِبُ شَاهِدًا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَشْهَدُ لِقَوْمٍ بِالْجَنَّةِ أَوْ بالنَّارِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(12/17)
(بَابُ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ
[1720] فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَضَاءِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ فِي الْوَلَدَيْنِ اللَّذَيْنِ أَخَذَ الذِّئْبُ أَحَدَهُمَا فَتَنَازَعَتْهُ أُمَّاهُمَا فَقَضَى بِهِ دَاوُدُ لِلْكُبْرَى فَلَمَّا مَرَّتَا بِسُلَيْمَانَ قَالَ أَقْطَعُهُ بَيْنَكُمَا نِصْفَيْنِ فَاعْتَرَفَتْ بِهِ الصُّغْرَى لِلْكُبْرَى بَعْدَ أَنْ قَالَتِ الْكُبْرَى اقْطَعْهُ فَاسْتَدَلَّ سُلَيْمَانُ بِشَفَقَةِ الصُّغْرَى عَلَى أَنَّهَا أُمُّهُ وَأَمَّا الْكُبْرَى فَمَا كَرِهَتْ ذَلِكَ بَلْ أَرَادَتْهُ لِتُشَارِكَهَا صَاحِبَتُهَا فِي الْمُصِيبَةِ بِفَقْدِ وَلَدِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ يَحْتَمِلُ أَنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِشَبَهٍ رَآهُ فِيهَا أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَتِهِ التَّرْجِيحُ بِالْكَبِيرِ أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي يَدِهَا وَكَانَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا فِي شَرْعِهِ وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَتَوَصَّلَ بِطَرِيقٍ مِنَ الْحِيلَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ بَاطِنِ الْقَضِيَّةِ فَأَوْهَمَهُمَا أَنَّهُ يُرِيدُ قَطْعَهُ لِيَعْرِفَ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهَا قَطْعُهُ فَتَكُونُ هِيَ أُمَّهُ فَلَمَّا أَرَادَتِ الْكُبْرَى قَطْعَهُ عَرَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمَّهُ فَلَمَّا قَالَتِ الصُّغْرَى مَا قَالَتْ عَرَفَ أَنَّهَا أُمُّهُ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَقْطَعُهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَ شَفَقَتِهِمَا لِتَتَمَيَّزَ لَهُ الْأُمُّ فَلَمَّا تَمَيَّزَتْ بِمَا ذَكَرْتُ عَرَفَهَا وَلَعَلَّهُ اسْتَقَرَّ الْكُبْرَى فَأَقَرَّتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ لِلصُّغْرَى فَحَكَمَ لِلصُّغْرَى بِالْإِقْرَارِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّفَقَةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَمِثْلُ هَذَا يَفْعَلُهُ الْحُكَّامُ لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الصَّوَابِ بِحَيْثُ إِذَا انْفَرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ حَكَمَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ حُكْمِ دَاوُدَ فِي الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ وَنَقَضَ حُكْمَهُ وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَنْقُضُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ مَذْكُورَةٍ أَحَدُهَا أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ جَزَمَ بِالْحُكْمِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَتْوَى مِنْ دَاوُدَ لَا حُكْمًا وَالثَّالِثُ لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ فَسْخُ الْحُكْمِ إِذَا رَفَعَهُ الْخَصْمُ إِلَى حَاكِمٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَهُ وَالرَّابِعُ أَنَّ سُلَيْمَانَ فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَةً إِلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ وَظُهُورِ الصِّدْقِ فَلَمَّا أَقَرَّتْ بِهِ الْكُبْرَى عَمِلَ بِإِقْرَارِهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ كَمَا إِذَا اعْتَرَفَ الْمَحْكُومُ لَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ أَنَّ الْحَقَّ هُنَا لِخَصْمِهِ قَوْلُهُ
[1720] (فَقَالَتِ الصُّغْرَى لَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا) مَعْنَاهُ لَا تَشُقَّهُ وَتَمَّ)(12/18)
الْكَلَامُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ فَقَالَتْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا بِالْوَاوِ فَيُقَالُ لَا وَيَرْحَمُكَ اللَّهُ قَوْلُهُ (السِّكِّينُ وَالْمُدْيَةُ) أَمَّا الْمُدْيَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وكسرها وفتحها سميت به لأنها تقطع مَدَى حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَالسِّكِّينُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ لُغَتَانِ وَيُقَالُ أَيْضًا سِكِّينَةٌ لِأَنَّهَا تُسَكِّنُ حَرَكَةَ الْحَيَوَانِ
(بَاب اسْتِحْبَابِ إِصْلَاحِ الْحَاكِمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ
[1721] ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ الرَّجُلِ الَّذِي بَاعَ الْعَقَارَ فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي فِيهِ جَرَّةَ ذَهَبٍ فَتَنَاكَرَاهُ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَ أَحَدُهُمَا بِنْتَهُ بن الْآخَرِ وَيُنْفِقَا وَيَتَصَدَّقَا مِنْهُ فِيهِ فَضْلُ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَأَنَّ الْقَاضِيَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِصْلَاحُ بين المتنازعين كما يستحب لغيره وقوله صَلَّى اللَّهُ
[1721] عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اشْتَرَى رَجُلٌ عَقَارًا) هُوَ الْأَرْضُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا وَحَقِيقَةُ الْعَقَارِ الْأَصْلُ سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنَ الْعُقْرِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا وَهُوَ الْأَصْلُ وَمِنْهُ عُقْرُ الدَّارِ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ شَرَى بغير)(12/19)
أَلِفٍ وَفِي بَعْضِهَا اشْتَرَى بِالْأَلِفِ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَشَرَى هُنَا بِمَعْنَى بَاعَ كَمَا في قوله تعالى وشروه بثمن بخس وَلِهَذَا قَالَ فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ إِنَّمَا بِعْتُكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(كِتَاب اللُّقَطَةِ هِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي قَالَهَا الْجُمْهُورُ وَاللُّغَةُ الثَّانِيَةُ لُقْطَةٌ بِإِسْكَانِهَا وَالثَّالِثَةُ لُقَاطَةٌ بِضَمِّ اللام والرابعة لقط بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ
[1722] قَوْلُهُ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أو للذئب قال فضالة الإبل قال مالك وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا)(12/20)
تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ لَا يَقَعُ اسْمُ الضَّالَّةِ إِلَّا عَلَى الْحَيَوَانِ يُقَالُ ضَلَّ الْإِنْسَانُ وَالْبَعِيرُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَهِيَ الضَّوَالُّ وَأَمَّا الْأَمْتِعَةُ وَمَا سِوَى الْحَيَوَانِ فَيُقَالُ لَهَا لُقَطَةٌ وَلَا يُقَالُ ضَالَّةٌ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ يُقَالُ لِلضَّوَالِّ الْهَوَامِي وَالْهَوَافِي وَاحِدَتُهَا هَامِيَةٌ وَهَافِيَةٌ وَهَمَتْ وَهَفَتْ وَهَمَلَتْ إِذَا ذَهَبَتْ عَلَى وَجْهِهَا بِلَا رَاعٍ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْرِفْ عِفَاصَهَا مَعْنَاهُ تَعْرِفُ لِتَعْلَمَ صِدْقَ وَاصِفِهَا مِنْ كَذِبِهِ وَلِئَلَّا يَخْتَلِطُ بِمَالِهِ وَيَشْتَبِهُ وَأَمَّا الْعِفَاصُ فَبِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبِالْفَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وهو الوعاء التي تَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ جِلْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَيُطْلَقُ الْعِفَاصُ أَيْضًا عَلَى الْجِلْدِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى رَأْسِ الْقَارُورَةِ لِأَنَّهُ كَالْوِعَاءِ لَهُ فَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ فِي فَمِ الْقَارُورَةِ مِنْ خَشَبٍ أَوْ جِلْدٍ أَوْ خِرْقَةٍ مَجْمُوعَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ الصِّمَامُ بِكَسْرِ الصَّادِ يُقَالُ عَفَصْتُهَا عَفْصًا إِذَا شَدَدْتُ الْعِفَاصَ عَلَيْهَا وَأَعْفَصْتُهَا إِعْفَاصًا إِذَا جَعَلْتُ لَهَا عِفَاصًا وَأَمَّا الْوِكَاءُ فَهُوَ الْخَيْطُ الذي يشد به الوعاء يقال أو كيته إِيكَاءً فَهُوَ مُوكًى بِلَا هَمْزٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَشَأْنَكَ بِهَا) هُوَ بِنَصْبِ النُّونِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَعَهَا سِقَاؤُهَا) فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَقْوَى عَلَى وُرُودِ الْمِيَاهِ وَتَشْرَبُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ وَتَمْلَأُ كِرْشَهَا بِحَيْثُ يَكْفِيهَا الْأَيَّامَ وَأَمَّا حِذَاؤُهَا(12/21)
فَبِالْمَدِّ وَهُوَ أَخْفَافُهَا لِأَنَّهَا تَقْوَى بِهَا عَلَى السَّيْرِ وَقَطْعِ الْمَفَاوِزِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ قَوْلِ رَبُّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَتَاعِ وَرَبُّ الْمَاشِيَةِ بِمَعْنَى صَاحِبُهَا الْآدَمِيُّ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ إِضَافَتَهُ إلى ماله رُوحٌ دُونَ الْمَالِ وَالدَّارِ وَنَحْوِهِ وَهَذَا غَلَطٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ جَاءَ ربها فأدها إليه وحتى يَلْقَاهَا رَبُّهَا وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِدْخَالُ رَبِّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً) فَمَعْنَاهُ إِذَا أَخَذْتَهَا فَعَرِّفْهَا سَنَةً فَأَمَّا الْأَخْذُ فَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ فِيهِ مَذَاهِبُ وَمُخْتَصَرُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا عِنْدَهُمْ يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ وَالثَّانِي يَجِبُ وَالثَّالِثُ إِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنُ عَلَيْهَا إِذَا تَرَكَهَا اسْتُحِبَّ الْأَخْذُ وَإِلَّا وَجَبَ وَأَمَّا تَعْرِيفُ سَنَةٍ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِهِ إِذَا كَانَتِ اللُّقَطَةُ لَيْسَتْ تَافِهَةً وَلَا فِي مَعْنَى التَّافِهَةِ وَلَمْ يُرِدْ حِفْظَهَا عَلَى صَاحِبهَا بَلْ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا سَنَةً بِالْإِجْمَاعِ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُرِدْ تَمَلُّكَهَا بَلْ أَرَادَ حِفْظَهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهَلْ يَلْزَمُهُ التَّعْرِيفُ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهُ بَلْ إِنْ جاء صاحبها وأثبتها دفعها إليه والادام حِفْظُهَا وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّعْرِيفُ لِئَلَّا تَضِيعَ عَلَى صَاحِبِهَا فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَيْنَ هِيَ حَتَّى يَطْلُبَهَا فَوَجَبَ تَعْرِيفُهَا وَأَمَّا الشَّيْءُ الْحَقِيرُ فَيَجِبُ تَعْرِيفُهُ زَمَنًا يُظَنُّ أَنَّ فَاقِدَهُ لَا يَطْلُبُهُ فِي الْعَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَالتَّعْرِيفُ أَنْ يَنْشُدَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ وَفِي الْأَسْوَاقِ وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ فَيَقُولُ مَنْ ضَاعَ مِنْهُ شَيْءٌ مَنْ ضَاعَ مِنْهُ حَيَوَانٌ مَنْ ضَاعَ مِنْهُ دَرَاهِمُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا فَيُعَرِّفُهَا أَوَّلًا فِي كُلِّ يَوْمٍ ثُمَّ فِي الْأُسْبُوعِ ثُمَّ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا) مَعْنَاهُ إِنْ جَاءَهَا صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَإِلَّا فَيَجُوزُ لَكَ أَنْ تَتَمَلَّكَهَا قَالَ أَصْحَابُنَا إِذَا عَرَّفَهَا فَجَاءَ صَاحِبُهَا فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا وَقَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْمُلْتَقِطُ فَأَثْبَتَ أَنَّهُ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ فَالْمُتَّصِلَةُ كَالسِّمَنِ فِي الْحَيَوَانِ وَتَعْلِيمِ صَنْعَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْمُنْفَصِلَةُ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ وَاكْتِسَابِ الْعَبْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا إِنْ جَاءَ مَنْ يَدَّعِيهَا وَلَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يصدقه الملتقط(12/22)
لَمْ يَجُزْ لَهُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ وَإِنْ صَدَّقَهُ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ هَذَا كُلُّهُ إِذَا جَاءَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْمُلْتَقِطُ فَأَمَّا إِذَا عَرَّفَهَا سَنَةً وَلَمْ يَجِدْ صَاحِبَهَا فَلَهُ أَنْ يُدِيمَ حِفْظَهَا لصَاحِبِهَا وَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَإِنْ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا فَمَتَى يَمْلِكُهَا فِيهِ أَوْجُهٌ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهَا لَا يَمْلِكُهَا حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِالتَّمَلُّكِ بِأَنْ يَقُولَ تَمَلَّكْتُهَا أَوِ اخْتَرْتُ تَمَلُّكَهَا وَالثَّانِي لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ وَالثَّالِثُ يَكْفِيهِ نِيَّةُ التَّمَلُّكِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى لَفْظٍ وَالرَّابِعُ يَمْلِكُ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ السَّنَةِ فَإِذَا تَمَلَّكَهَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا صَاحِبٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَسْبٌ مِنْ أَكْسَابِهِ لَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ تَمَلُّكِهَا أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ دُونَ الْمُنْفَصِلَةِ فَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَلِفَتْ بَعْدَ التَّمَلُّكِ لَزِمَ الْمُلْتَقِطَ بَدَلُهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَالَ دَاوُدُ لَا يَلْزَمُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ) مَعْنَاهُ الْإِذْنُ فِي أَخْذِهَا بِخِلَافِ الْإِبِلِ وَفَرَّقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بِأَنَّ الْإِبِلَ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْ مَنْ يَحْفَظُهَا لِاسْتِقْلَالِهَا بِحِذَائِهَا وَسِقَائِهَا وَوُرُودِهَا الْمَاءَ وَالشَّجَرَ وَامْتِنَاعِهَا مِنَ الذِّئَابِ وَغَيْرِهَا مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ وَالْغَنَمُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَلَكَ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَوْ صَاحِبُهَا أَوْ أَخُوكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي يَمُرُّ بِهَا أَوِ الذِّئْبُ فَلِهَذَا جَازَ أَخْذُهَا دُونَ الْإِبِلِ ثُمَّ إِذَا أَخَذَهَا وَعَرَّفَهَا سَنَةً وَأَكَلَهَا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا لَزِمَتْهُ غَرَامَتُهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَلْزَمُهُ غَرَامَتُهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ غَرَامَةً وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ وَأَجَابُوا عَنْ دَلِيلِ مَالِكٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْغَرَامَةَ وَلَا نَفَاهَا وَقَدْ عُرِفَ وُجُوبُهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا) هَذَا رُبَّمَا أَوْهَمَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْوِكَاءِ وَالْعِفَاصِ تَتَأَخَّرُ عَلَى تَعْرِيفِهَا سَنَةً وَبَاقِي الرِّوَايَاتِ صَرِيحَةٌ فِي تَقْدِيمِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى التَّعْرِيفِ فَيُجَابُ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذِهِ مَعْرِفَةٌ أُخْرَى وَيَكُونُ مَأْمُورًا بِمَعْرِفَتَيْنِ فَيَتَعَرَّفُهَا أَوَّلَ مَا يَلْتَقِطُهَا حَتَّى يَعْلَمَ صِدْقَ وَاصِفِهَا إِذَا وَصَفَهَا وَلِئَلَّا تَخْتَلِطَ وَتَشْتَبِهَ فَإِذَا عَرَّفَهَا سَنَةً وَأَرَادَ تَمَلُّكَهَا اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّفَهَا أَيْضًا مَرَّةً أُخْرَى تَعَرُّفًا وَافِيًا مُحَقَّقًا لِيَعْلَمَ قَدْرَهَا وَصِفَتَهَا فَيَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا إِذَا جَاءَ بَعْدَ تَمَلُّكِهَا وَتَلَفِهَا وَمَعْنَى اسْتَنْفِقْ بِهَا تَمَلَّكْهَا ثُمَّ أَنْفِقْهَا عَلَى نَفْسِكَ قَوْلُهُ (فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(12/23)
حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوِ احْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قال مالك وَلَهَا) الْوَجْنَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا وَفِيهَا لُغَةٌ رَابِعَةٌ أُجْنَةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهِيَ اللَّحْمُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْخَدَّيْنِ وَيُقَالُ رَجُلٌ مُوجِنٌ وَوَاجِنٌ أَيْ عَظِيمُ الْوَجْنَةِ وَجَمْعُهَا وَجَنَاتٌ وَيَجِيءُ فِيهَا اللُّغَاتُ الْمَعْرُوفَةُ فِي جَمْعِ قَصْعَةٍ وَحُجْرَةٍ وَكِسْرَةٍ وَفِيهِ جَوَازُ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَأَنَّهُ نَافِذٌ لَكِنْ يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّنَا وَلَا يُكْرَهُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ فِي الْغَضَبِ مَا يُخَافُ عَلَيْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فإن لم يجيء صَاحِبُهَا كَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ مَعْنَاهُ تَكُونُ أَمَانَةً عندك بعد السنة مالم تَتَمَلَّكْهَا فَإِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْكَ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَنْعَهُ مِنْ تَمَلُّكِهَا بَلْ لَهُ تَمَلُّكُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِلْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ الصَّرِيحَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا فَاسْتَنْفِقْهَا وَقَدْ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ أَيْ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِهَا بَلْ مَتَى جَاءَهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَإِلَّا فَبَدَلَهَا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِهَا(12/24)
بِالْكُلِّيَّةِ وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ التَّمْلِيكِ ضَمِنَهَا الْمُتَمَلِّكُ إِلَّا دَاوُدَ فَأَسْقَطَ الضَّمَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ) فِي هَذَا دَلَالَةٌ لِمَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُ إِذَا جَاءَ مَنْ وَصَفَ اللُّقَطَةَ بِصِفَاتِهَا وَجَبَ دَفْعُهَا إِلَيْهِ بِلَا بَيِّنَةٍ وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ لَا يَجِبُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَتَأَوَّلُونَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إِذَا صَدَّقَهُ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ وَلَا يَجِبُ فَالْأَمْرُ بِدَفْعِهَا بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِهِ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَاتِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (عَرِّفْهَا سَنَةً)
[1723] وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ(12/25)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا ثَلَاثَ سِنِينَ وَفِي رِوَايَةٍ سَنَةً وَاحِدَةً وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الرَّاوِيَ شَكَّ قَالَ لَا أَدْرِي قَالَ حَوْلٌ أَوْ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ وَفِي رِوَايَةٍ عَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قِيلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُطْرَحَ الشَّكُّ وَالزِّيَادَةُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ سَنَةً فِي رِوَايَةِ الشَّكِّ وَتُرَدُّ الزِّيَادَةُ لِمُخَالَفَتِهَا بَاقِي الْأَحَادِيثِ وَالثَّانِي أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ فَرِوَايَةُ زَيْدٍ فِي التَّعْرِيفِ سَنَةً محمولة على أقل ما يجزئ وَرِوَايَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي التَّعْرِيفِ ثَلَاثَ سِنِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَرَعِ وَزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ قَالَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِتَعْرِيفِ سَنَةٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ تَعْرِيفَ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ إِلَّا ما روى)(12/26)
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ(12/27)
[1724] قَوْلُهُ (نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ) يَعْنِي عَنِ الْتِقَاطِهَا لِلتَّمَلُّكِ وَأَمَّا الْتِقَاطُهَا لِلْحِفْظِ فَقَطْ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا) هَذَا دَلِيلٌ لِلْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا أَوْ حِفْظَهَا عَلَى صَاحِبِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالضَّالَّةِ هُنَا ضَالَّةَ الْإِبِلِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِلتَّمَلُّكِ بَلْ إِنَّهَا تُلْتَقَطُ لِلْحِفْظِ عَلَى صَاحِبِهَا فَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَنْ آوى ضالة فهو ضال مالم يُعَرِّفْهَا أَبَدًا وَلَا يَتَمَلَّكُهَا وَالْمُرَادُ بِالضَّالِّ الْمُفَارِقُ لِلصَّوَابِ وَفِي جَمِيعِ أَحَادِيثِ الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْتِقَاطَ اللُّقَطَةِ وَتَمَلُّكَهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى حكم حاكم ولا إلى إذن السلطان وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَفِيهَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ حَلْبِ الْمَاشِيَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا قَوْلُهُ
[1726] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ)(12/28)
خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلُ طَعَامُهُ فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ فَلَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وَفِي رِوَايَاتٍ فَيُنْتَثَلَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فِي آخِرِهِ بَدَلَ الْقَافِ وَمَعْنَى يُنْتَثَلُ يُنْثَرُ كُلُّهُ وَيُرْمَى الْمَشْرُبَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفِي الرَّاءِ لُغَتَانِ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ وَهِيَ كَالْغُرْفَةِ يُخْزَنُ فِيهَا الطَّعَامُ وَغَيْرُهُ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ بِالطَّعَامِ الْمَخْزُونِ الْمَحْفُوظِ فِي الْخِزَانَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا تَحْرِيمُ أَخْذِ مَالِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَالْأَكْلِ مِنْهُ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بين اللبن وغيره وسواء المحتاج وَغَيْرِهِ وَسَوَاءٌ الْمُحْتَاجُ وَغَيْرُهُ إِلَّا الْمُضْطَرَّ الَّذِي لَا يَجِدُ مَيْتَةً وَيَجِدُ طَعَامًا لِغَيْرِهِ فَيَأْكُلُ الطَّعَامَ لِلضَّرُورَةِ وَيَلْزَمُهُ بَدَلُهُ لِمَالِكِهِ عِنْدنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ لَا يَلْزَمُهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَطَعَامًا لِغَيْرِهِ فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ لِلْعُلَمَاءِ وَفِي مَذْهَبِنَا الْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ أَمَّا غَيْرُ الْمُضْطَرِّ إِذَا كَانَ لَهُ إِدْلَالٌ عَلَى صَاحِبِ اللَّبَنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الطَّعَامِ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَنَّ نَفْسَهُ تَطِيبُ بِأَكْلِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ الْأَكْلُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ هَذَا مَرَّاتٍ وَأَمَّا شُرْبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَهُمَا قَاصِدَانِ الْمَدِينَةَ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ لَبَنِ غَنَمِ الرَّاعِي فَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ وَجْهِهِ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا شَرِبَاهُ إِدْلَالًا عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَعْرِفَانِهِ أَوْ أَنَّهُ أُذِنَ لِلرَّاعِي أَنْ يَسْقِيَ مِنْهُ مَنْ مَرَّ بِهِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ عَرَّفَهُمْ إِبَاحَةَ ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ مَالُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ(12/29)
أَيْضًا إِثْبَاتُ الْقِيَاسِ وَالتَّمْثِيلِ فِي الْمَسَائِلِ وَفِيهِ أن اللبن يسمى طعاما فيحنث به مَنْ حَلَفَ لَا يَتَنَاوَلُ طَعَامًا إِلَّا أَنْ يكون لَهُ نِيَّةٌ تُخْرِجُ اللَّبَنَ وَفِيهِ أَنَّ بَيْعَ لَبَنِ الشَّاةِ بِشَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بَاطِلٌ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ وَجَوَّزَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب الضِّيَافَةِ وَنَحْوُهَا
[48] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ قَالُوا وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ يَوْمُهُ وَلَيْلَتُهُ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامِ فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ) وَقَالَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَفِي رِوَايَةٍ الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يُؤْثِمُهُ قَالَ يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلَا شئ له يقر بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالضِّيَافَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِهَا وَعَظِيمِ مَوْقِعِهَا وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الضِّيَافَةِ وَأَنَّهَا مِنْ مُتَأَكِّدَاتِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تعالى والجمهور هي سنة ليست بوجبة وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ هِيَ وَاجِبَةٌ يَوْمًا وَلَيْلَةً قال أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هِيَ وَاجِبَةٌ يَوْمًا وَلَيْلَةً عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَأَهْلِ)(12/30)
الْقُرَى دُونَ أَهْلِ الْمُدُنِ وَتَأَوَّلَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَأَشْبَاهَهَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَتَأَكُّدِ حَقِّ الضَّيْفِ كَحَدِيثِ غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ أَيْ مُتَأَكِّدُ الِاسْتِحْبَابِ وَتَأَوَّلَهَا الْخَطَّابِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ عَلَى الْمُضْطَرِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ الِاهْتِمَامُ بِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَإِتْحَافُهُ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ بِرٍّ وَإِلْطَافٍ وَأَمَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَيُطْعِمُهُ مَا تَيَسَّرَ وَلَا يَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ وَأَمَّا مَا كَانَ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَمَعْرُوفٌ إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ قَالُوا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ حَتَّى يُؤْثِمَهُ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ حَتَّى يُوقِعَهُ فِي الْإِثْمِ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْتَابُهُ لطُولِ مَقَامِهِ أَوْ يُعَرِّضُ لَهُ بِمَا يُؤْذِيهِ أو يظن به مالا يَجُوزُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظن إثم وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَقَامَ بَعْدَ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ مِنَ الْمُضِيفِ أَمَّا إِذَا اسْتَدْعَاهُ وَطَلَبَ زِيَادَةَ إِقَامَتِهِ أَوْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ إِقَامَتَهُ فَلَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ يُؤْثِمُهُ وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَلَوْ شَكَّ فِي حَالِ الْمُضِيفِ هَلْ تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ وَيَلْحَقُهُ بِهَا حَرَجٌ أَمْ لَا تَحِلُّ الزِّيَادَةُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ فَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ خير ولا شر لأنه مما لايعنيه ومن حسن إسلام المرء تركه مالا يَعْنِيهِ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْعَادَةِ وَكَثِيرٌ وَاللَّهُ(12/31)
أَعْلَمُ
[1727] وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ) فَقَدْ حَمَلَهُ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَتَأَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُضْطَرِّينَ فَإِنَّ ضِيَافَتَهُمْ وَاجِبَةٌ فَإِذَا لَمْ يُضِيفُوهُمْ فَلَهُمْ أن يأخذوا حاجتهم من مال الممتسين وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ أَعْرَاضِهِمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَذْكُرُونَ لِلنَّاسِ لُؤْمَهُمْ وَبُخْلَهُمْ وَالْعَيْبَ عَلَيْهِمْ وَذَمَّهُمْ وَالثَّالِثُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَكَانَتِ الْمُوَاسَاةُ وَاجِبَةً فَلَمَّا اتَّسَعَ الْإِسْلَامُ نُسِخَ ذَلِكَ هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي وَهُوَ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ قَائِلُهُ لَا يُعْرَفُ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ مَرَّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ شُرِطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةُ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ المسلمين وهذا أيضا ضعيف إنما صار هذا في زمن عمر رضي الله عنه قوله (عن أبي شريح العدوي) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ هُوَ وَاحِدٌ يُقَالُ لَهُ الْعَدَوِيُّ وَالْخُزَاعِيُّ وَالْكَعْبِيُّ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (ولا شئ لَهُ يَقْرِيهِ) هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَلَا يَقْرُونَنَا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ يقال قريت الضيف أقريه قرى(12/32)
(باب استحباب المواساة بفضول المال
[1728] قَوْلُهُ (بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ) أَمَّا قَوْلُهُ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ فَهَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا يَصْرِفُ فَقَطْ بِحَذْفِ بَصَرَهُ وَفِي بَعْضِهَا يَضْرِبُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ يَصْرِفُ رَاحِلَتَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْجُودِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرُّفْقَةِ وَالْأَصْحَابِ وَالِاعْتِنَاءِ بِمَصَالِحِ الْأَصْحَابِ وَأَمْرُ كَبِيرِ الْقَوْمِ أَصْحَابَهُ بِمُوَاسَاةِ الْمُحْتَاجِ وَأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ بِتَعَرُّضِهِ لِلْعَطَاءِ وَتَعْرِيضِهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ أَيْ مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ يَدْفَعُ به حاجته وفيه مواساة بن السَّبِيلِ وَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَإِنْ كَانَ لَهُ رَاحِلَةٌ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ أَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي وَطَنِهِ وَلِهَذَا يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ)(12/33)
(باب استحباب خلط الأزواد إذا قلت والمواساة فِيهَا
[1729] قَوْلُهُ (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ فَأَصَابَنَا جَهْدٌ حَتَّى هَمَمْنَا أَنْ نَنْحَرَ بَعْضَ ظَهْرِنَا فَأَمَرَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعْنَا مَزَاوِدَنَا فَبَسَطْنَا لَهُ نِطَعًا فَاجْتَمَعَ زَادُ الْقَوْمِ عَلَى النِّطَعِ قَالَ فَتَطَاوَلْتُ لِأَحْزُرَهُ كَمْ هُوَ فَحَزَرْتُهُ كَرَبْضَةِ الْعَنْزِ وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ قَالَ فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ حَشَوْنَا جربنا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مِنْ وَضُوءٍ فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا نُطْفَةٌ فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَحٍ فَتَوَضَّأْنَا كُلُّنَا نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَةً أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ قَالَ ثُمَّ جَاءَ بَعْدُ ثَمَانِيَةٌ فَقَالُوا هَلْ مِنْ طَهُورٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَغَ الْوَضُوءُ) أَمَّا قَوْلُهُ جَهْدٌ فَبِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَقَوْلُهُ مَزَاوِدَنَا هَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَوْ أَكْثَرِهَا وَفِي بَعْضِهَا أَزْوَادَنَا وَفِي بعضها تزوادنا بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا وَفِي النِّطَعِ لُغَاتٌ سَبَقَتْ أفصحن كَسْرُ النُّونِ وَفَتْحُ الطَّاءِ وَقَوْلُهُ كَرَبْضَةِ الْعَنْزِ أَيْ كَمَبْرَكِهَا أَوْ كَقَدْرِهَا وَهِيَ رَابِضَةٌ قَالَ القاضي الرواية فيه بفتح الراء وحكاه بن دُرَيْدٍ بِكَسْرِهَا قَوْلُهُ (حَشَوْنَا جُرُبَنَا) هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِهَا جَمْعُ جِرَابٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَيُقَالُ بِفَتْحِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَلْ مِنْ وَضُوءٍ) أَيْ مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا! وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ قَوْلُهُ (فِيهَا نُطْفَةٌ) هُوَ بِضَمِّ النُّونِ أَيْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَاءِ قَوْلُهُ (نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَةً) أَيْ نَصُبُّهُ صَبَّا شَدِيدًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَتَانِ ظَاهِرَتَانِ)(12/34)
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا تَكْثِيرُ الطَّعَامِ وَتَكْثِيرُ الْمَاءِ هَذِهِ الْكَثْرَةَ الظَّاهِرَةَ قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي تَحْقِيقِ الْمُعْجِزَةِ فِي هَذَا أَنَّهُ كُلَّمَا أُكِلَ مِنْهُ جُزْءٌ أَوْ شُرِبَ جُزْءٌ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى جُزْءًا آخَرَ يَخْلُفُهُ قَالَ وَمُعْجِزَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا الْقُرْآنُ وَهُوَ مَنْقُولٌ تَوَاتُرًا وَالثَّانِي مِثْلُ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَكَ فِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَقُولَ تَوَاتَرَتْ عَلَى المعنى كتواتر جود حاتم طيئ وَحِلْمِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ فَإِنَّهُ لَا يُنْقَلُ فِي ذَلِكَ قِصَّةٌ بِعَيْنِهَا مُتَوَاتِرَةً وَلَكِنْ تَكَاثَرَتْ أَفْرَادُهَا بِالْآحَادِ حَتَّى أَفَادَ مَجْمُوعُهَا تَوَاتُرَ الْكَرَمِ وَالْحِلْمِ وَكَذَلِكَ تَوَاتُرُ انْخِرَاقِ الْعَادَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي أَنْ تَقُولَ إِذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَجِيبِ وَأَحَالَ عَلَى حُضُورِهِ فِيهِ مَعَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَهُمْ يَسْمَعُونَ رِوَايَتَهُ وَدَعْوَاهُ أَوْ بَلَغَهُمْ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الْمُوَاسَاةِ فِي الزَّادِ وَجَمْعُهُ عِنْدَ قِلَّتِهِ وَجَوَازُ أَكْلِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الرِّبَا فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَحْوِ الْإِبَاحَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مُبِيحٌ لِرُفْقَتِهِ الْأَكْلَ مِنْ طَعَامِهِ وَسَوَاءٌ تَحَقَّقَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ أكل أكثرمن حِصَّتِهِ أَوْ دُونَهَا أَوْ مِثْلَهَا فَلَا بَأْسَ بِهَذَا لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِيثَارُ وَالتَّقَلُّلُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِي الطَّعَامِ قِلَّةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(كِتَاب الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ)
(بَاب جَوَازِ الْإِغَارَةِ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ (مِنْ غير تقدم إعلام بِالْإِغَارَةِ)
[1730] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ قال حدثنا سليم بن أخضر عن بن عَوْنٍ قَالَ كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ)(12/35)
عَنِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ قَالَ فَكَتَبَ إِلَيَّ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَدْ أَغَارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى سَبْيَهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَحْسِبُهُ قَالَ جُوَيْرِيَةُ أَوْ أَلْبَتَّةَ ابْنَةُ الْحَارِثِ وَحَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ) قَالَ وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَلَمْ يَشُكَّ أَمَّا قَوْلُهُ أَوْ أَلْبَتَّةَ فَمَعْنَاهُ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى قَالَ أَصَابَ يَوْمَئِذٍ بِنْتَ الْحَارِثِ وَأَظُنُّ شَيْخِي سُلَيْمَ بْنَ أَخْضَرَ سَمَّاهَا فِي رِوَايَتِهِ جُوَيْرِيَةَ أَوْ أعلم ذلك وأجزم به وأقوله أَلْبَتَّةَ وَحَاصِلُهُ أَنَّهَا جُوَيْرِيَةُ فِيمَا أَحْفَظُهُ إِمَّا ظَنًّا وَإِمَّا عِلْمًا وفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ هِيَ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بِلَا شَكٍّ قَوْلُهُ وَهُمْ غَارُّونَ هُوَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ غَافِلُونَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْإِغَارَةِ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ بِالْإِغَارَةِ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ حَكَاهَا الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي أَحَدُهَا يَجِبُ الْإِنْذَارُ مُطْلَقًا قال مَالِكٌ وَغَيْرُهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالثَّانِي لَا يَجِبُ مُطْلَقًا وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْهُ أَوْ بَاطِلٌ وَالثَّالِثُ يَجِبُ إِنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ وَلَا يَجِبُ إِنْ بَلَغَتْهُمْ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وبه قال نافع مولى بن عُمَرَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثور وبن المنذر والجمهور قال بن الْمُنْذِرِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى مَعْنَاهُ فَمِنْهَا هَذَا الْحَدِيثُ وَحَدِيثُ قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَحَدِيثُ قَتْلِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ لِأَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ عَرَبٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ(12/36)
مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يُسْتَرَقُّونَ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ
(بَاب تَأْمِيرِ الْإِمَامِ الْأُمَرَاءَ عَلَى الْبُعُوثِ (وَوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِآدَابِ الْغَزْوِ وَغَيْرِهَا) قَوْلُهُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ اغْزُوا باسم اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا) أَمَّا السَّرِيَّةُ فَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تَخْرُجُ مِنْهُ تُغِيرُ وَتَرْجِعُ إِلَيْهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ هِيَ الْخَيْلُ تَبْلُغُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَنَحْوَهَا قَالُوا سُمِّيَتْ سَرِيَّةً لِأَنَّهَا تَسْرِي فِي اللَّيْلِ وَيَخْفَى ذَهَابُهَا وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ يُقَالُ سَرَى وَأَسْرَى إِذَا ذَهَبَ لَيْلًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا تَغْدِرُوا) بِكَسْرِ الدَّالِ وَالْوَلِيدُ الصَّبِيُّ وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنَ الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَهِيَ تَحْرِيمُ الْغَدْرِ وَتَحْرِيمُ الْغُلُولِ وَتَحْرِيمُ قَتْلِ الصِّبْيَانِ إِذَا لَمْ يُقَاتِلُوا وَكَرَاهَةُ الْمُثْلَةِ وَاسْتِحْبَابُ وَصِيَّةِ الْإِمَامِ أُمَرَاءَهُ وَجُيُوشَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالرِّفْقِ بِأَتْبَاعِهِمْ وَتَعْرِيفِهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ فِي غَزْوِهِمْ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَمَا يَحِلُّ لَهُمْ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا يُسْتَحَبُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ)(12/37)
فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ) قَوْلُهُ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ ثُمَّ ادْعُهُمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه صواب الرواية ادعهم بِإِسْقَاطِ ثُمَّ وَقَدْ جَاءَ بِإِسْقَاطِهَا عَلَى الصَّوَابِ فِي كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْخِصَالِ الثَّلَاثِ وَلَيْسَتْ غَيْرَهَا وَقَالَ الْمَازِرِيُّ لَيْسَتْ ثُمَّ هُنَا زَائِدَةً بَلْ دَخَلَتْ لِاسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ وَالْأَخْذِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إن فعلوا ذلك فلهم ماللمهاجرين وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا اسْتُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ كَانُوا كَالْمُهَاجِرِينَ قَبْلَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وغير ذلك والأفهم أَعْرَابٌ كَسَائِرِ أَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ السَّاكِنِينَ فِي الْبَادِيَةِ مِنْ غَيْرِ هِجْرَةٍ وَلَا غَزْوٍ فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ والفئ وإنما يكون لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الزَّكَاةِ إِنْ كَانُوا بِصِفَةِ اسْتِحْقَاقِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ الصَّدَقَاتُ لِلْمَسَاكِينِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لا حق له في الفئ والفئ لِلْأَجْنَادِ قَالَ وَلَا يُعْطَى أَهْلُ الْفَيْءِ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَلَا أَهْلُ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْفَيْءِ وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْمَالَانِ سَوَاءٌ وَيَجُوزُ صَرْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى النَّوْعَيْنِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ قَالَ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بقوله(12/38)
تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ لَا يُسَلَّمُ لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ) هَذَا مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمُوَافِقُوهُمَا فِي جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا كِتَابِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا أَوْ غَيْرِهِمَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إِلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ ومجوسهم وقال الشافعي لا يقبل إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا وَيَحْتَجُّ بِمَفْهُومِ آيَةِ الْجِزْيَةِ وَبِحَدِيثِ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُتَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ لِأَنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ يُطْلَقُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ تَخْصِيصُهُمْ مَعْلُومًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَقَلُّهَا دِينَارٌ عَلَى الْغَنِيِّ وَدِينَارٌ عَلَى الْفَقِيرِ أَيْضًا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَأَكْثَرُهَا مَا يَقَعُ بِهِ التَّرَاضِي وَقَالَ مَالِكٌ هِيَ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْفِضَّةِ وقال أبو حنيقة رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَالْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَالْفَقِيرِ اثْنَا عَشَرَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذمة الله وَذِمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال العلماء الذمة هنا العهد وتخفروا بِضَمِّ التَّاءِ يُقَالُ أَخَفَرْتَ الرَّجُلَ إِذَا نَقَضْتَ عَهْدَهُ وَخَفَرْتَهُ أَمَّنْتُهُ وَحَمَيْتُهُ قَالُوا وَهَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ أَيْ لَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَنْقُضُهَا مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَّهَا وَيَنْتَهِكُ حُرْمَتَهَا بَعْضُ الْأَعْرَابِ وَسَوَادُ الْجَيْشِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حصن(12/39)
فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا) هَذَا النَّهْيُ أَيْضًا عَلَى التنَّزِيهِ وَالِاحْتِيَاطِ وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا بَلِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَقَدْ يُجِيبُ عَنْهُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مصيب بأن المراد أنك لا تأمن أَنْ يَنْزِلَ عَلَيَّ وَحْيٌ بِخِلَافِ مَا حَكَمْتَ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ هَيْصَمٍ) بفتح الهاء والصاد المهملة قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
[1732] عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا) وَفِي
[1733] الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ وأبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عَنْهُمَا يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا(12/40)
وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا وَفِي
[1734] حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا إِنَّمَا جَمَعَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُهُمَا فِي وَقْتَيْنِ فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى يَسِّرُوا لَصَدَقَ ذَلِكَ على من يسر مرة أومرات وَعَسَّرَ فِي مُعْظَمِ الْحَالَاتِ فَإِذَا قَالَ وَلَا تُعَسِّرُوا انْتَفَى التَّعْسِيرُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ وَكَذَا يُقَالُ فِي يَسِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا لأنهما قد يتطاوعان فِي وَقْتٍ وَيَخْتَلِفَانِ فِي وَقْتٍ وَقَدْ يَتَطَاوَعَانِ فِي شَيْءٍ وَيَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِالتَّبْشِيرِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَعَظِيمِ ثَوَابِهِ وَجَزِيلِ عَطَائِهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ وَالنَّهْيُ عَنِ التَّنْفِيرِ بِذِكْرِ التَّخْوِيفِ وَأَنْوَاعِ الْوَعِيدِ مَحْضَةً مِنْ غَيْرِ ضَمِّهَا إِلَى التَّبْشِيرِ وَفِيهِ تَأْلِيفُ مَنْ قَرُبَ إِسْلَامُهُ وَتَرْكُ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ مَنْ قَارَبَ الْبُلُوغَ مِنَ الصِّبْيَانِ وَمَنْ بَلَغَ وَمَنْ تَابَ مِنَ الْمَعَاصِي كُلُّهُمْ يُتَلَطَّفُ بِهِمْ وَيُدَرَّجُونَ فِي أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا وَقَدْ كَانَتْ أُمُورُ الْإِسْلَامِ فِي التَّكْلِيفِ عَلَى التَّدْرِيجِ فَمَتَى يُسِّرَ عَلَى الدَّاخِلِ فِي الطَّاعَةِ أَوِ الْمُرِيدِ لِلدُّخُولِ فِيهَا سَهُلَتْ عَلَيْهِ وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ غَالِبًا التَّزَايُدُ منها ومتى عسرت عليه أو شك أن لا يدخل فيها وإن دخل أو شك أَنْ لَا يَدُومَ أَوْ لَا يَسْتَحْلِيَهَا وَفِيهِ أَمْرُ الْوُلَاةِ بِالرِّفْقِ وَاتِّفَاقِ الْمُتَشَارِكِينَ فِي وِلَايَةٍ وَنَحْوِهَا وَهَذَا مِنَ الْمُهِمَّاتِ فَإِنَّ غَالِبَ الْمَصَالِحِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالِاتِّفَاقِ وَمَتَى حَصَلَ الِاخْتِلَافُ فَاتَ وَفِيهِ وَصِيَّةُ الْإِمَامِ الْوُلَاةَ وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ فَضْلٍ وَصَلَاحٍ كَمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ) هَذَا مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وقال لم(12/41)
يتابع بن عَبَّادٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ وَقَدْ رَوَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ سَعِيدٍ وَلَا يَثْبُتُ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ هَذَا كَلَامُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَلَا إِنْكَارَ على مسلم لأن بن عَبَّادٍ ثِقَةٌ وَقَدْ جَزَمَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَمْ يَضُرَّ مُسْلِمًا فَإِنَّ الْمَتْنَ ثَابِتٌ مِنَ الطرق(12/42)
(باب تحريم الغدر
[1736] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ) وَفِي رِوَايَةٍ
[1737] يُعْرَفُ بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
[1738] وَفِي رِوَايَةٍ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ اللِّوَاءُ الرَّايَةُ الْعَظِيمَةُ لَا يَمْسِكُهَا إِلَّا صَاحِبُ جَيْشِ الْحَرْبِ أَوْ صَاحِبُ دَعْوَةِ الْجَيْشِ وَيَكُونُ النَّاسُ تَبَعًا لَهُ قَالُوا فَمَعْنَى لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ أَيْ عَلَامَةٌ يُشْهَرُ بِهَا فِي النَّاسِ لِأَنَّ مَوْضُوعَ اللِّوَاءِ الشُّهْرَةُ مَكَانَ الرَّئِيسِ عَلَامَةً لَهُ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَنْصِبُ الْأَلْوِيَةَ فِي الْأَسْوَاقِ الْحَفِلَةِ لِغَدْرَةِ الْغَادِرِ لِتَشْهِيرِهِ بِذَلِكَ وَأَمَّا الْغَادِرُ فهو الَّذِي يُوَاعِدُ عَلَى أَمْرٍ وَلَا يَفِي بِهِ يُقَالُ غَدَرَ يَغْدِرُ بِكَسْرِ)(12/43)
الدَّالِ فِي الْمُضَارِعِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيَانُ غِلَظِ تَحْرِيمِ الْغَدْرِ لَا سِيَّمَا مِنْ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِأَنَّ غَدْرَهُ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى خَلْقٍ كَثِيرِينَ وَقِيلَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍ إِلَى الْغَدْرِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي تَعْظِيمِ كَذِبِ الْمَلِكِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي ذَمِّ الْإِمَامِ الْغَادِرِ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا هَذَا وَهُوَ نَهْيُ الْإِمَامِ أَنْ يَغْدِرَ فِي عُهُودِهِ لِرَعِيَّتِهِ وَلِلْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ أَوْ غَدْرُهُ لِلْأَمَانَةِ الَّتِي قَلَّدَهَا لِرَعِيَّتِهِ وَالْتَزَمَ الْقِيَامَ بِهَا وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا وَمَتَى خَانَهُمْ أَوْ تَرَكَ الشَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ أَوِ الرِّفْقَ بِهِمْ فَقَدْ غَدَرَ بِعَهْدِهِ وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَهْيَ الرَّعِيَّةِ عَنِ الْغَدْرِ بِالْإِمَامِ فَلَا يَشُقُّوا عَلَيْهِ الْعَصَا وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِمَا يُخَافُ حُصُولُ فِتْنَةٍ بِسَبَبِهِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ والله أعلم(12/44)
(باب جواز الخداع في الحرب
[1739]
[1740] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْحَرْبُ خُدْعَةٌ) فِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ مَشْهُورَاتٍ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَفْصَحَهُنَّ خَدْعَةٌ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ قَالَ ثَعْلَبٌ وَغَيْرُهُ وَهِيَ لُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والثَّانِيَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ وَالثَّالِثَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ خِدَاعِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ وَكَيْفَ أَمْكَنَ الْخِدَاعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ أَوْ أَمَانٍ فَلَا يَحِلُّ وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا فِي الْحَرْبِ قَالَ الطَّبَرِيُّ إِنَّمَا يَجُوزُ مِنَ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ الْمَعَارِيضُ دُونَ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ هَذَا كَلَامُهُ وَالظَّاهِرُ إِبَاحَةُ حَقِيقَةِ نَفْسِ الْكَذِبِ لَكِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى التعريض أفضل والله أعلم)
باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عِنْدَ اللِّقَاءِ
[1741] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1742] (لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ إِنَّمَا نَهَى عَنْ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الْإِعْجَابِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى النَّفْسِ وَالْوُثُوقِ بِالْقُوَّةِ وَهُوَ نَوْعُ بَغْيٍ وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قِلَّةَ الِاهْتِمَامِ(12/45)
بِالْعَدُوِّ وَاحْتِقَارَهُ وَهَذَا يُخَالِفُ الِاحْتِيَاطَ وَالْحَزْمَ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ إِذَا شَكَّ فِي الْمَصْلَحَةِ فِيهِ وَحُصُولِ ضَرَرٍ وَإِلَّا فَالْقِتَالُ كُلُّهُ فَضِيلَةٌ وَطَاعَةٌ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلِهَذَا تَمَّمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَقَدْ كَثُرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرِ بِسُؤَالِ الْعَافِيَةِ وَهِيَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِدَفْعِ جَمِيعِ الْمَكْرُوهَاتِ فِي الْبَدَنِ وَالْبَاطِنِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ الْعَامَّةَ لِي وَلِأَحِبَّائِي وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) فَهَذَا حَثٌّ عَلَى الصَّبْرِ فِي الْقِتَالِ وَهُوَ آكَدُ أَرْكَانِهِ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آدَابَ القتال في قوله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ ويصدون عن سبيل اللَّهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ فَمَعْنَاهُ ثَوَابُ اللَّهِ وَالسَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْجَنَّةِ عِنْدَ الضَّرْبِ بِالسُّيُوفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَشْيِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاحْضُرُوا فِيهِ بِصِدْقٍ وَاثْبُتُوا قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِمْ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِلَى آخِرِهِ) وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ قَالَ الْعُلَمَاءُ سَبَبُهُ أَنَّهُ أَمْكَنُ لِلْقِتَالِ فَإِنَّهُ وَقْتُ هُبُوبِ الرِّيحِ وَنَشَاطِ النُّفُوسِ وَكُلَّمَا طَالَ ازْدَادُوا نَشَاطًا وَإِقْدَامًا عَلَى عَدُوِّهِمْ وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَخَّرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَاةُ قَالُوا وَسَبَبُهُ(12/46)
فَضِيلَةُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا قَوْلُهُ (ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالِاسْتِنْصَارُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ كِتَابِ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَ وَاتِّفَاقُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَلَى رِوَايَتِهِ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْإِجَازَةِ وَقَدْ جَوَّزُوا الْعَمَلَ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْإِجَازَةِ وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ وَالْفِقْهِ وَمَنَعَتْ طَائِفَةٌ الرِّوَايَةَ بِهَا وَهَذَا غَلَطٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ دُعَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ) أَيْ أَزْعِجْهُمْ وَحَرِّكْهُمْ بِالشَّدَائِدِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الزِّلْزَالُ)(12/47)
وَالزَّلْزَلَةُ الشَّدَائِدُ الَّتِي تُحَرِّكُ النَّاسَ
[1743] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ التَّسْلِيمُ لِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّدُّ عَلَى غُلَاةِ الْقَدَرِيَّةِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ الشَّرَّ غَيْرُ مُرَادٍ وَلَا مُقَدَّرٍ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَضَمِّنٌ أَيْضًا لِطَلَبِ النَّصْرِ وَجَاءَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ وَجَاءَ بَعْدَهُ أَنَّهُ قَالَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا فَقَالَهُ فِي الْيَوْمَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْحَرْبِ
[1744] قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَتَحْرِيمِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِذَا لَمْ يُقَاتِلُوا فَإِنْ قَاتَلُوا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ يُقْتَلُونَ وَأَمَّا شُيُوخُ الْكُفَّارِ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ رَأْيٌ قُتِلُوا وَإِلَّا فَفِيهِمْ وَفِي الرُّهْبَانِ خِلَافٌ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُقْتَلُونَ وَالْأَصَحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قتلهم)(12/48)
(بَاب جَوَازِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْبَيَاتِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ
[1745] قَوْلُهُ (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الذَّرَارِيِّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَبِيتُونَ فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ فَقَالَ هُمْ مِنْهُمْ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا سُئِلَ عَنِ الذَّرَارِيِّ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَنَقَلَ الْقَاضِي هَذِهِ عَنْ رِوَايَةِ جُمْهُورِ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ وَهِيَ الصَّوَابُ فَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى فَقَالَ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ بَلْ هِيَ تَصْحِيفٌ قَالَ وَمَا بَعْدَهُ هُوَ تَبْيِينُ الْغَلَطِ فِيهِ قُلْتُ وَلَيْسَتْ بَاطِلَةً كَمَا ادَّعَى الْقَاضِي بَلْ لَهَا وَجْهٌ وَتَقْدِيرُهُ سُئِلَ عَنْ حُكْمِ صِبْيَانِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ بِالْقَتْلِ فَقَالَ هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ أَيْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَحْكَامَ آبَائِهِمْ جَارِيَةٌ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيرَاثِ وَفِي النِّكَاحِ وَفِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْمُرَادُ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدُوا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَمَّا الْحَدِيثُ السَّابِقُ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَالْمُرَادُ بِهِ إِذَا تَمَيَّزُوا وَهَذَا الْحَدِيثُ الذي ذكرناه من جواز بيانهم وَقَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْبَيَاتِ هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي)(12/49)
حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورِ وَمَعْنَى الْبَيَاتُ وَيَبِيتُونَ أَنْ يُغَارَ عَلَيْهِمْ بِاللَّيْلِ بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ الرَّجُلُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيُّ وَأَمَّا الذَّرَارِيُّ فَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا لُغَتَانِ التَّشْدِيدُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَالْمُرَادُ بِالذَّرَارِيِّ هُنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ الْبَيَاتِ وَجَوَازِ الْإِغَارَةِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ مِنْ غَيْرِ إِعْلَامِهِمْ بِذَلِكَ وَفِيهِ أَنَّ أَوْلَادَ الْكُفَّارِ حُكْمُهُمْ فِي الدُّنْيَا حُكْمُ آبَائِهِمْ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَفِيهِمْ إِذَا مَاتُوا قَبْلَ الْبُلُوغِ ثلاثة مذاهب الصحيح أنهم في الجنة والثاني فِي النَّارِ وَالثَّالِثُ لَا يُجْزَمُ فِيهِمْ بِشَيْءٍ والله أعلم
(باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها
[1746] قَوْلُهُ (حَرَّقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَّعَ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) قوله حرق بتشديد الراء والبويرة بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ مَوْضِعُ نَخْلِ بَنِي النضير واللينة الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ هِيَ أَنْوَاعُ الثَّمَرِ كُلُّهَا إِلَّا الْعَجْوَةَ وَقِيلَ كِرَامُ النَّخْلِ وَقِيلَ كُلُّ النَّخْلِ وَقِيلَ كُلُّ الْأَشْجَارِ لِلِينِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا أَنَّ أَنْوَاعَ نَخْلِ الْمَدِينَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ نَوْعًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ قَطْعِ شَجَرِ الْكُفَّارِ وَإِحْرَاقِهِ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن القاسم ونافع مولى بن عُمَرَ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عنه فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمْ لَا يَجُوزُ)(12/50)
قَوْلُهُ (وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ ...
()
الْمُسْتَطِيرُ الْمُنْتَشِرُ وَالسَّرَاةُ بِفَتْحِ السِّينِ أشراف القوم ورؤساؤهم والله أعلم)
(باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة
[1747] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ وَلَا آخَرُ قَدْ بَنَى بُنْيَانًا وَلَمَّا يَرْفَعْ سَقْفَهَا وَلَا آخَرُ قَدِ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ مُنْتَظِرٌ وِلَادَهَا) أَمَّا الْبُضْعُ فَهُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَهُوَ فَرْجُ الْمَرْأَةِ وَأَمَّا الْخَلِفَاتُ فَبِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ الْحَوَامِلُ وَفِي هذا الحديث أن الأمور المهمة ينبغي أن لا تُفَوَّضَ إِلَّا إِلَى أُولِي الْحَزْمِ وَفَرَاغِ الْبَالِ لَهَا وَلَا تُفَوَّضُ إِلَى مُتَعَلِّقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِهَا)(12/51)
لِأَنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُ عَزْمَهُ وَيُفَوِّتُ كَمَالَ بَذْلِ وُسْعِهِ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَغَزَا فَأَدْنَى لِلْقَرْيَةِ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فَأَدْنَى بِهَمْزَةِ قَطْعٍ قَالَ الْقَاضِي كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فأدنى رباعي إما أن يكون تعدية لدنى أَيْ قَرُبَ فَمَعْنَاهُ أَدْنَى جُيُوشَهُ وَجُمُوعَهُ لِلْقَرْيَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَدْنَى بِمَعْنَى حَانَ أَيْ قَرُبَ فَتْحُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ أَدْنَتِ النَّاقَةُ إِذَا حَانَ نِتَاجُهَا وَلَمْ يَقُولُوهُ فِي غَيْرِ النَّاقَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ لِلشَّمْسِ أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ الْقَرْيَةَ) قَالَ الْقَاضِي اخْتُلِفَ فِي حَبْسِ الشَّمْسِ الْمَذْكُورِ هُنَا فَقِيلَ رُدَّتْ عَلَى أَدْرَاجِهَا وَقِيلَ وُقِفَتْ وَلَمْ تُرَدَّ وَقِيلَ أُبْطِئَ بِحَرَكَتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ قَالَ وَيُقَالُ إِنَّ الَّذِي حُبِسَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِسَتْ لَهُ الشَّمْسُ مَرَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ شُغِلُوا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتْ فَرَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ذَكَرَ ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَالثَّانِيَةُ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ انْتَظَرَ الْعِيرَ الَّتِي أَخْبَرَ بِوُصُولِهَا مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ في زيادته على سيرة بن إِسْحَاقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فَأَقْبَلَتِ النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ فَقَالَ فِيكُمْ غُلُولٌ) هَذِهِ كَانَتْ عَادَةَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْغَنَائِمِ أَنْ يَجْمَعُوهَا فَتَجِيءَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلَهَا فَيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِقَبُولِهَا وَعَدَمِ الْغُلُولِ فَلَمَّا جَاءَتْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فَأَبَتْ أَنْ تَأْكُلَهَا عُلِمَ أَنَّ فِيهِمْ غُلُولًا فَلَمَّا رَدُّوهُ جَاءَتْ فَأَكَلَتْهَا وَكَذَلِكَ كَانَ أَمْرُ قُرْبَانِهِمْ إِذَا تُقُبِّلَ جَاءَتْ نَارٌ مِنَ(12/52)
السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَوَضَعُوهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ بِالصَّعِيدِ) يَعْنِي وَجْهَ الْأَرْضِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْغَنَائِمِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا وَأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب الْأَنْفَالِ
[1748] قَوْلُهُ (عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَخَذَ أَبِي مِنَ الْخُمُسِ سَيْفًا فَأَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَبْ لِي هَذَا فَأَبَى قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قل الأنفال لله والرسول) فَقَوْلُهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَخَذَ أَبِي هُوَ من تلوين الخطابي وَتَقْدِيرُهُ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ أَبِيهِ بِحَدِيثٍ قَالَ فِيهِ قَالَ أَبِي أَخَذْتُ حُكْمَ الْغَنَائِمِ مِنَ الْخُمُسِ سَيْفًا إِلَى آخِرِهِ قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِبَاحَتِهَا قَالَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ وَقَدْ رُوِيَ فِي تَمَامِهِ مَا بَيَّنَهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ خُذْ سَيْفَكَ إِنَّكَ سَأَلْتَنِيهِ وَلَيْسَ لِي وَلَا لَكَ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ لِي وَجَعَلْتُهُ لَكَ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقِيلَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خمسه وللرسول وَأَنَّ مُقْتَضَى آيَةِ الْأَنْفَالِ وَالْمُرَادَ بِهَا أَنَّ الْغَنَائِمَ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً كُلُّهَا ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا للغانمين بالآية الأخرى وهذا قول بن عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ وَقِيلَ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَأَنَّ التَّنْفِيلَ مِنَ الْخُمُسِ وَقِيلَ هِيَ مُحْكَمَةٌ)(12/53)
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِلَ مِنَ الْغَنَائِمِ مَا شَاءَ لِمَنْ شَاءَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ وَقِيلَ مُحْكَمَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَالْمُرَادُ أَنْفَالُ السَّرَايَا قَوْلُهُ (عَنْ سَعْدٍ قَالَ نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ أَصَبْتُ سَيْفًا) لَمْ يَذْكُرْ هُنَا مِنَ الْأَرْبَعِ إِلَّا هَذِهِ الْوَاحِدَةَ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ الْأَرْبَعَ بَعْدَ هَذَا فِي كِتَابِ الْفَضَائِلِ وَهِيَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَتَحْرِيمُ الخمر ولا تطرد الذين يدعون ربهم وَآيَةُ الْأَنْفَالِ قَوْلُهُ (أَأُجْعَلُ كَمَنْ لَا غَنَاءَ له) هو بفتح الغين وبالمد وَهُوَ الْكِفَايَةُ قَوْلُهُ (فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ اثْنَا عَشَرَ وَفِي بَعْضِهَا اثْنَيْ عَشَرَ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَجْعَلُ الْمُثَنَّى بِالْأَلِفِ سَوَاءٌ كَانَ مَرْفُوعًا أَوْ مَنْصُوبًا أَوْ مَجْرُورًا وَهِيَ لُغَةُ أَرْبَعِ قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ وَقَدْ كَثُرَتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تعالى إن هذان لساحران
[1749] قَوْلُهُ (فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِّلُوا بَعِيرًا) بَعِيرًا وَفِي رِوَايَةٍ وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا بَعِيرًا فِيهِ إِثْبَاتُ النَّفْلِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ النَّفْلِ هَلْ هُوَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا أَوْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلشَّافِعِيِّ وَبِكُلٍّ مِنْهَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ(12/54)
الْعُلَمَاءِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ مِنْ خُمُسِ الخمس وبه قال بن الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَآخَرُونَ وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَآخَرُونَ وَأَجَازَ النَّخَعِيُّ أَنْ تُنَفَّلَ السَّرِيَّةُ جَمِيعَ مَا غَنِمَتْ دُونَ بَاقِي الْجَيْشِ وَهُوَ خِلَافُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ نَفَّلَهُمُ الْإِمَامُ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْعَتِيدِ دُونَ الْغَنِيمَةِ جَازَ وَالتَّنْفِيلُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ صَنَعَ صنعا جَمِيلًا فِي الْحَرْبِ انْفَرَدَ بِهِ وَأَمَّا قَوْلُ بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا النَّفْلِ نُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا إِلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ السَّرِيَّةِ نُفِّلَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْفُقَهَاءُ الْأَنْفَالُ هِيَ الْعَطَايَا مِنَ الْغَنِيمَةِ غَيْرُ السَّهْمِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْقِسْمَةِ وَاحِدُهَا نَفَلٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ إِسْكَانُهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا فَمَعْنَاهُ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ سُهْمَانُ جَمِيعِ الْغَانِمِينَ اثْنَا عَشَرَ وَهَذَا غَلَطٌ فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا كَانَتْ سُهْمَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةِ وَنَفَّلَ السَّرِيَّةَ سِوَى هَذَا بَعِيرًا بَعِيرًا قَوْلُهُ (وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا) وَفِي رِوَايَةٍ نُفِّلُوا بَعِيرًا فَلَمْ يُغَيِّرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي رِوَايَةٍ وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا بَعِيرًا وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ نَفَّلَهُمْ فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجُوزُ نِسْبَتُهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا(12/55)
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ بَعْثِ السَّرَايَا وَمَا غَنِمَتْ تَشْتَرِكُ فِيهِ هِيَ وَالْجَيْشُ إِنِ انْفَرَدَتْ عَنِ الْجَيْشِ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ وَأَمَّا إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْبَلَدِ وَأَقَامَ الْجَيْشُ فِي الْبَلَدِ فَتُخْتَصُّ هِيَ بِالْغَنِيمَةِ وَلَا يُشَارِكُهَا الْجَيْشُ وَفِيهِ إِثْبَاتُ التَّنْفِيلِ لِلتَّرْغِيبِ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْقِتَالِ ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّنْفِيلَ يَكُونُ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ سَوَاءٌ الْأُولَى وَغَيْرُهَا وَسَوَاءٌ غَنِيمَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّامِيِّينَ لَا يُنَفَّلُ فِي أَوَّلِ غَنِيمَةٍ(12/56)
وَلَا يُنَفَّلُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةٍ قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قد كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ وَالْخُمُسُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ كُلِّهِ) قَوْلُهُ كُلِّهِ مَجْرُورٌ تأكيد لِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي كُلِّ الْغَنَائِمِ وَرَدٌّ عَلَى مَنْ جَهِلَ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فَاغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا فِي جُزْءٍ جَمَعْتُهُ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ حِينَ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب اسْتِحْقَاقِ الْقَاتِلِ سَلَبَ الْقَتِيلِ
[1751] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ جَلِيسًا لِأَبِي قَتَادَةَ قَالَ قَالَ أَبُو قَتَادَةَ وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ قَالَ مُسْلِمٌ وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ قَالَ مُسْلِمٌ وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ وَاللَّفْظُ لَهُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ إِلَى آخِرِهِ) اعْلَمْ أَنَّ قوله في)(12/57)
الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ وَقَوْلَهُ فِي الثَّانِي وَسَاقَ الْحَدِيثَ يَعْنِي بِهِمَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ عَادَةِ مُسْلِمٍ فَاحْفَظْ مَا حَقَّقْتُهُ لَكَ فَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْكُتَّابِ غَلِطَ فِيهِ وَتَوَهَّمَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ قَبْلَهُمَا كَمَا هُوَ الْغَالِبُ الْمَعْرُوفُ مِنْ عَادَةِ مُسْلِمٍ حَتَّى إِنَّ هَذَا الْمُشَارَ إِلَيْهِ تَرْجَمَ لَهُ بَابًا مُسْتَقِلًّا وَتَرْجَمَ لِلطَّرِيقِ الثَّالِثِ بَابًا آخَرَ وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ فَاحْذَرْهُ وَإِذَا تَدَبَّرْتَ الطُّرُقَ الْمَذْكُورَةَ تَيَقَّنْتَ مَا حَقَقْتُهُ لَكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاسْمُ أَبِي مُحَمَّدٍ هَذَا نَافِعُ بْنُ عَبَّاسٍ الْأَقْرَعُ الْمَدَنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ مَوْلَاهُمْ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةٌ تَابِعِيُّونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعُمَرُ وَأَبُو مُحَمَّدٍ قَوْلُهُ (كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ انهزام وخيفة ذهبوا فيه وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ فِي بَعْضِ الْجَيْشِ وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ فَلَمْ يُوَلُّوا وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَقَدْ نَقَلُوا إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ انْهَزَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّهُ انْهَزَمَ بِنَفْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ بَلْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِإِقْدَامِهِ وَثَبَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ قَوْلُهُ (فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يَعْنِي ظَهَرَ عَلَيْهِ وَأَشْرَفَ عَلَى قَتْلِهِ أَوْ صَرْعِهِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ لِقَتْلِهِ قَوْلُهُ (فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ) هُوَ مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالْكَتِفِ قَوْلُهُ (فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ شِدَّةً كَشِدَّةِ الْمَوْتِ وَيَحْتَمِلُ قَارَبْتُ الْمَوْتَ قَوْلُهُ (ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا وَجَلَسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ والليث والثوري وأبو ثور وأحمد وإسحاق وبن جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ سَلَبَ الْقَتِيلِ فِي جميع الحروب(12/58)
سَوَاءٌ قَالَ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْلَ ذَلِكَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ أَمْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ قَالُوا وَهَذِهِ فَتْوَى مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإِخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَوْلِ أَحَدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُمَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ سَلَبَ الْقَتِيلِ بَلْ هُوَ لِجَمِيعِ الْغَانِمِينَ كَسَائِرِ الْغَنِيمَةِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْأَمِيرُ قَبْلَ الْقِتَالِ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا وَجَعَلُوا هَذَا إِطْلَاقًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ بِفَتْوَى وَإِخْبَارِ عَامٍّ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْقِتَالِ وَاجْتِمَاعِ الْغَنَائِمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْتَرِطُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ أَنْ يَغْزُوَ بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِ كَافِرٍ مُمْتَنِعٍ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقَاتِلَ لَوْ كَانَ مِمَّنْ لَهُ رَضْخٌ وَلَا سَهْمَ لَهُ كَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ اسْتَحَقَّ السَّلَبَ وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا الْمُقَاتِلُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّامِيُّونَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إِلَّا فِي قَتِيلٍ قَتَلَهُ قَبْلَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ فَأَمَّا مَنْ قَتَلَ فِي الْتِحَامِ الْحَرْبِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْمِيسِ السَّلَبِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا عند أصحابه لا يخمس وهو ظاهر الأحاديث وبه قال أحمد وبن جرير وبن الْمُنْذِرِ وَآخَرُونَ وَقَالَ مَكْحُولٌ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ يُخَمَّسُ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخطاب رضي الله عنه واسحاق وبن رَاهَوَيْهِ يُخَمَّسُ إِذَا كَثُرَ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ اخْتَارَهَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي أَنَّ الْإِمَامَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ خَمَّسَهُ وَإِلَّا فَلَا وَأَمَّا قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ) فَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِالدَّلَالَةِ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ وَمَنْ وَافَقَهُمَا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ السَّلَبَ لَا يُعْطَى إِلَّا لِمَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ يُعْطَى بِقَوْلِهِ بِلَا بَيِّنَةٍ قَالَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ السَّلَبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِ وَاحِدٍ وَلَمْ يُحَلِّفْهُ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ الْقَاتِلُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ وَقَدْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا تُلْغَى وَقَدْ يَقُولُ الْمَالِكِيُّ هَذَا مَفْهُومٌ وَلَيْسَ هُوَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ وَيُجَابُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(12/59)
لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى الْحَدِيثُ فَهَذَا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَّا مَا يَحْتَجُّ بِهِ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ باقرار من هو في يده فضعيف لأن الْإِقْرَارَ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا كَانَ الْمَالُ مَنْسُوبًا إِلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ وَالْمَالُ هُنَا مَنْسُوبٌ إِلَى جَمِيعِ الْجَيْشِ وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَاقِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَاهَا اللَّهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ) هَكَذَا فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لَاهَا اللَّهِ إِذًا بِالْأَلِفِ وَأَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ وَقَالُوا هُوَ تَغْيِيرٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَصَوَابُهُ لَاهَا اللَّهِ ذا بغير ألف في أوله وقالوا وها بِمَعْنَى الْوَاوِ الَّتِي يُقْسَمُ بِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا وَاللَّهِ ذَا قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْنَاهُ لَاهَا اللَّهِ ذَا يَمِينِي أَوْ ذَا قَسَمِي وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ ذَا زَائِدَةٌ وَفِيهَا لُغَتَانِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ قَالُوا وَيَلْزَمُ الْجَرُّ بَعْدَهَا كَمَا يَلْزَمُ بَعْدَ الْوَاوِ قَالُوا وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَلَا يُقَالُ لَاهَا وَاللَّهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تَكُونُ يَمِينًا قَالَ أَصْحَابُنَا إِنْ نَوَى بِهَا الْيَمِينَ كَانَتْ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَعَارَفَةً فِي الْأَيْمَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ (لَا يَعْمِدُ فَضَبَطُوهُ) بِالْيَاءِ وَالنُّونِ وَكَذَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَيُعْطِيكَ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ وَكِلَاهُمَا ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُصْرَةً لِدِينِ اللَّهِ وَشَرِيعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولتكون كلمة الله هي العليا) وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأبي بكر الصديق في إِفْتَائِهِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِدْلَالِهِ لِذَلِكَ وَتَصْدِيقِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(12/60)
فِي ذَلِكَ وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَبِي قَتَادَةَ فَإِنَّهُ سَمَّاهُ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ مَنَاقِبِهِ وَفِيهِ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ يُعْطِيكَ سَلَبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ) أَمَّا بَنُو سَلِمَةَ فَبِكَسْرِ اللَّامِ وَأَمَّا الْمَخْرَفُ فَبِفَتْحِ الميم والراء وهذا هوالمشهور وَقَالَ الْقَاضِي رُوِّينَاهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ كَالْمَسْجِدِ وَالْمَسْكِنِ بِكَسْرِ الْكَافِ وَالْمُرَادُ بِالْمَخْرَفِ هُنَا الْبُسْتَانُ وَقِيلَ السِّكَّةُ مِنَ النَّخْلِ تَكُونُ صَفَّيْنِ يُخْرِفُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ أَيْ يَجْتَنِي وَقَالَ بن وَهْبٍ هِيَ الْجُنَيْنَةُ الصَّغِيرَةُ وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ نَخَلَاتٌ يَسِيرَةٌ وَأَمَّا الْمِخْرَفُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ فَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ مَا يُجْتَنَى مِنَ الثِّمَارِ وَيُقَالُ اخْتَرَفَ الثَّمَرَ إِذَا جَنَاهُ وَهُوَ ثَمَرٌ مَخْرُوفٌ قَوْلُهُ (فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ) هُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَ الْأَلِفِ أَيِ اقْتَنَيْتُهُ وَتَأَصَّلْتُهُ وَأَثَلَةُ الشَّيْءِ أَصْلُهُ قَوْلُهُ (لَا تُعْطِهِ أُضَيْبِعَ مِنْ قُرَيْشٍ) قَالَ الْقَاضِي اخْتَلَفَ رُوَاةُ كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَرْفِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا رِوَايَةُ السَّمَرْقَنْدِيِّ أُصَيْبِغَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالثَّانِي رِوَايَةُ سائر الرواة أضييع بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ رُوَاةُ الْبُخَارِيِّ فَعَلَى الثَّانِي هُوَ تَصْغِيرُ ضَبْعٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ أبا قتادة بأنه أسد صغر هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ وَشَبَّهَهُ بِالضُّبَيْعِ لِضَعْفِ افْتِرَاسِهَا وَمَا تُوصَفُ بِهِ مِنَ الْعَجْزِ وَالْحُمْقِ وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَوَصْفَهُ بِهِ لِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ وَقِيلَ حَقَّرَهُ وَذَمَّهُ بِسَوَادِ لَوْنِهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ صَاحِبُ لَوْنٍ غَيْرِ مَحْمُودٍ وَقِيلَ وَصَفَهُ بِالْمَهَانَةِ وَالضَّعْفِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْأُصَيْبِغُ نَوْعٌ(12/61)
مِنَ الطَّيْرِ قَالَ وَيَجُوزُ أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِنَبَاتٍ ضَعِيفٍ يُقَالُ لَهُ الصُّيْبِغَا أَوَّلُ مَا يَطْلُعُ مِنَ الْأَرْضِ يَكُونُ مِمَّا يَلِي الشَّمْسَ مِنْهُ أَصْفَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1752] قَوْلُهُ (تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعِ مِنْهُمَا) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ أَضْلَعِ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْعَيْنِ وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ الْأَصْوَبُ قَالَ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ أَصْلَحَ بِالصَّادِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ قَالَ وَكَذَا رَوَاهُ مُسَدَّدٌ قُلْتُ وَكَذَا وَقَعَ فِي حَاشِيَةِ بَعْضِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ وَأَجْوَدُ مَعَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ صَحِيحَانِ وَلَعَلَّهُ قَالَهُمَا جَمِيعًا وَمَعْنَى أَضْلَعَ أَقْوَى قَوْلُهُ (لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ) أَيْ شَخْصِي شَخْصَهُ قَوْلُهُ (حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا) أَيْ لَا أُفَارِقُهُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُنَا وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَجَلًا قَوْلُهُ (فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَزُولُ فِي النَّاسِ) مَعْنَاهُ لَمْ أَلْبَثْ قَوْلُهُ يَزُولُ هُوَ بِالزَّايِ وَالْوَاوِ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا وَكَذَا رَوَاهُ الْقَاضِي عَنْ جَمَاهِيرِ شُيُوخِهِمْ قال ووقع عند بعضهم عن بن مَاهَانَ يَرْفُلُ بِالرَّاءِ وَالْفَاءِ قَالَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَوْجَهُ وَمَعْنَاهُ يَتَحَرَّكُ وَيُزْعِجُ وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالَةٍ وَلَا فِي مَكَانٍ وَالزَّوَالُ الْقَلَقُ قَالَ فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ فَمَعْنَاهُ يُسْبِلُ ثِيَابَهُ وَدِرْعَهُ وَيَجُرُّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيُّكُمَا قَتَلَهُ) فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا قَتَلْتُهُ فَقَالَ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا قَالَا لَا فنظر في السيفين فقال كلا كما قَتَلَهُ وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ(12/62)
بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا اشْتَرَكَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ فِي جِرَاحَتِهِ لَكِنَّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ثَخِنَهُ أَوَّلًا فَاسْتَحَقَّ السَّلَبَ وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلا كما قَتَلَهُ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ الْآخَرِ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَهُ مُشَارَكَةً فِي قَتْلِهِ وَإِلَّا فَالْقَتْلُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ السَّلَبِ وَهُوَ الْإِثْخَانُ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُتَمَنِّعًا إِنَّمَا وُجِدَ مِنْ مُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ فَلِهَذَا قَضَى لَهُ بِالسَّلَبِ قَالُوا وَإِنَّمَا أَخَذَ السَّيْفَيْنِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِمَا عَلَى حَقِيقَةِ كَيْفِيَّةِ قَتْلِهِمَا فَعَلِمَ أَنَّ بن الْجَمُوحِ أَثْخَنَهُ ثُمَّ شَارَكَهُ الثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ وَبَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ السَّلَبَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي السَّلَبِ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي السَّلَبِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ وَقَدْ سَبَقَ الرَّدُّ عَلَى مذهبهم هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ بن عَفْرَاءَ فَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ الْمَاجِشُونِ وَجَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ الَّذِي ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ وَذَكَرَهُ أَيْضًا مِنْ رواية بن مَسْعُودٍ وَأَنَّ ابْنَيْ عَفْرَاءَ ضَرَبَاهُ حَتَّى بَرَدَ وَذَكَرَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا وَذَكَرَ غَيْرُهُمَا أن بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَجْهَزَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ رَأْسَهُ وَكَانَ وَجَدَهُ وَبِهِ رَمَقٌ وَلَهُ مَعَهُ خَبَرٌ مَعْرُوفٌ قَالَ الْقَاضِي هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ السِّيَرِ قُلْتُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ وَكَانَ الْإِثْخَانُ مِنْ مُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَجَاءَ بن مَسْعُودٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَفِيهِ رَمَقٌ فَحَزَّ رَقَبَتَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ 1 الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْخَيْرَاتِ 2 وَالِاشْتِيَاقُ إِلَى الْفَضَائِلِ 3 وَفِيهِ الْغَضَبُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ أَنَّهُ 4 ينبغي أن لا يُحْتَقَرَ أَحَدٌ فَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ مَنْ يُسْتَصْغَرُ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرٍ أَكْبَرَ مِمَّا فِي النُّفُوسِ وأحق ذلك الْأَمْرِ كَمَا جَرَى لِهَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ وَاحْتَجَّتْ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَاتِلِ السَّلَبَ(12/63)
يَكْفِي فِيهِ قَوْلُهُ بِلَا بَيِّنَةٍ وَجَوَابُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ لَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا قَوْلُهُ
[1753] (عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ فَأَرَادَ سَلَبَهُ فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لِخَالِدٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ قَالَ! اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ادْفَعْهُ إِلَيْهِ فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ فَقَالَ هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتُغْضِبَ فَقَالَ لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ هل أنتم تاركوا لِي أُمَرَائِي إِلَى آخِرِهِ) هَذِهِ الْقَضِيَّةُ جَرَتْ في غزوة موتة سَنَةَ ثَمَانٍ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ يُسْتَشْكَلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْقَاتِلَ قَدِ اسْتَحَقَّ السَّلَبَ فَكَيْفَ مَنَعَهُ إِيَّاهُ وَيُجَابُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَعَلَّهُ أَعْطَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْقَاتِلِ وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ تَعْزِيرًا لَهُ وَلِعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ لِكَوْنِهِمَا أَطْلَقَا أَلْسِنَتَهُمَا فِي خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَانْتَهَكَا حُرْمَةَ الْوَالِي وَمَنْ وَلَّاهُ الْوَجْهُ الثَّانِي لَعَلَّهُ اسْتَطَابَ قَلْبَ صَاحِبِهِ فَتَرَكَهُ صَاحِبُهُ بِاخْتِيَارِهِ وَجَعَلَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ اسْتَطَابَةَ قَلْبِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ فِي إِكْرَامِ الْأُمَرَاءِ قَوْلُهُ (فَاسْتُغْضِبَ فَقَالَ لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ) فِيهِ جَوَازُ الْقَضَاءِ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَنُفُوذِهِ وَأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ قَرِيبًا وَاضِحَةً قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم (هل أنتم تاركوا إلى أُمَرَائِي) هَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ تَارِكُوا(12/64)
بِغَيْرِ نُونٍ وَفِي بَعْضِهَا تَارِكُونَ بِالنُّونِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ أَيْضًا وَهِيَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَقَدْ جَاءَتْ بِهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْأُمَرَاءِ وَالرَّعِيَّةِ (فَصَفْوُهُ لَكُمْ يَعْنِي الرَّعِيَّةَ وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ) يَعْنِي عَلَى الْأُمَرَاءِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الصَّفْوُ هُنَا بِفَتْحِ الصَّادِ لَا غَيْرَ وَهُوَ الْخَالِصُ فَإِذَا أَلْحَقُوهُ الْهَاءَ فَقَالُوا الصَّفْوَةُ كَانَتِ الصَّادُ مَضْمُومَةً وَمَفْتُوحَةً وَمَكْسُورَةً ثَلَاثُ لُغَاتٍ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّعِيَّةَ يَأْخُذُونَ صَفْوَ الْأُمُورِ فَتَصِلُهُمْ أَعْطِيَاتُهُمْ بِغَيْرِ نَكَدٍ وَتُبْتَلَى الْوُلَاةُ بِمُقَاسَاةِ الْأُمُورِ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ عَلَى وُجُوهِهَا وَصَرْفِهَا فِي وُجُوهِهَا وَحِفْظِ الرَّعِيَّةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ وَإِنْصَافِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ثُمَّ مَتَى وَقَعَ عَلَقَةٌ أَوْ عَتَبٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ تَوَجَّهَ عَلَى الْأُمَرَاءِ دُونَ النَّاسِ قَوْلُهُ (غَزْوَةُ مُؤْتَةَ) هِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ ثُمَّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيَجُوزُ تَرْكُ الْهَمْزِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ وَهِيَ قَرْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي طَرَفِ الشَّامِ عِنْدَ الْكَرْكِ قَوْلُهُ (وَرَافَقَنِي مَدَدِي) يعني رجل(12/65)
من المدد والذين جاؤا يَمُدُّونَ جَيْشَ مُؤْتَةَ وَيُسَاعِدُونَهُمْ
[1754] قَوْلُهُ (فَبَيْنَا نَحْنُ نتضحى) أي نتغذى مَأْخُوذٌ مِنْ الضَّحَاءِ بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الضَّادِ وَهُوَ بَعْدَ امْتِدَادِ النَّهَارِ وَفَوْقَ الضُّحَى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ قَوْلُهُ (ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِهِ) أَمَّا الطَّلَقُ فَبِفَتْحِ الطَّاءِ وَاللَّامِ وَبِالْقَافِ وَهُوَ الْعِقَالُ مِنْ جِلْدٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ حَقَبِهِ فَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْقَافِ وَهُوَ حَبْلُ الشَّدِّ عَلَى حَقْوِ الْبَعِيرِ قَالَ الْقَاضِي لَمْ يُرْوَ هَذَا الْحَرْفُ إِلَّا بِفَتْحِ الْقَافِ قَالَ وَكَانَ بَعْضُ شيوخنا يقول صوابه بِإِسْكَانِهَا أَيْ مِمَّا احْتَقَبَ خَلْفَهُ وَجَعَلَهُ فِي حقيبته وهي الرفادة في مؤخر الْقَتَبِ وَوَقَعَ هَذَا الْحَرْفُ فِي سُنَنِ أَبِي داود حقوه وفسره مؤخره قال القاضي والأشبه عندي أن يكون حقوه فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ حُجْزَتُهُ وَحِزَامُهُ وَالْحَقْوُ مَعْقِدُ الْإِزَارِ مِنَ الرَّجُلِ وَبِهِ سُمِّيَ الْإِزَارُ حَقْوًا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ السَّمَرْقَنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ جَعْبَتِهِ بِالْجِيمِ وَالْعَيْنِ فَإِنْ صَحَّ وَلَمْ يَكُنْ تَصْحِيفًا فَلَهُ وَجْهٌ بِأَنْ عَلَّقَهُ بِجَعْبَةِ سِهَامِهِ وَأَدْخَلَهُ فِيهَا قَوْلُهُ (وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ) ضَبَطُوهُ عَلَى وَجْهَيْنِ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَرِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ بِفَتْحِ الضَّادِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ أَيْ حَالَةُ ضَعْفٍ وَهُزَالٍ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الصَّوَابُ وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ جَمْعُ ضَعِيفٍ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفِينَا ضَعْفٌ بِحَذْفِ الْهَاءِ قَوْلُهُ (خَرَجَ يَشْتَدُّ) أَيْ يَعْدُو وَقَوْلُهُ (ثُمَّ أَنَاخَهُ فَقَعَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَثَارَهُ) أَيْ رَكِبَهُ ثُمَّ بَعَثَهُ قَائِمًا قَوْلُهُ (نَاقَةٌ وَرْقَاءُ) أَيْ في لونها(12/66)
سَوَادٌ كَالْغُبْرَةِ قَوْلُهُ (فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي) أَيْ سَلَلْتُهُ قَوْلُهُ (فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ فَنَدَرَ) هُوَ بِالنُّونِ أَيْ سَقَطَ قَوْلُهُ (فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَالَ مَنْ قتل الرجل قالوا بن الْأَكْوَعِ قَالَ لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ) فِيهِ اسْتِقْبَالُ السَّرَايَا وَالثَّنَاءُ عَلَى مَنْ فَعَلَ جَمِيلًا وَفِيهِ قَتْلُ الْجَاسُوسِ الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَهُوَ كَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَمَرَهُمْ بِطَلَبِهِ وَقَتْلِهِ وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُعَاهَدُ وَالذِّمِّيُّ فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ يَصِيرُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ فَإِنْ رَأَى اسْتِرْقَاقَهُ أَرَقَّهُ وَيَجُوزُ قَتْلُهُ وَقَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ شُرِطَ عَلَيْهِ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِذَلِكَ وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى يُعَزِّرُهُ الْإِمَامُ بِمَا يَرَى مِنْ ضَرْبٍ وَحَبْسٍ وَنَحْوِهِمَا وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجْتَهِدُ فِيهِ الْإِمَامُ وَلَمْ يُفَسِّرِ الِاجْتِهَادَ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ كِبَارُ أَصْحَابِهِ يُقْتَلُ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْكِهِ بِالتَّوْبَةِ قَالَ الْمَاجِشُونِ إِنْ عُرِفَ بِذَلِكَ قُتِلَ وَإِلَّا عُزِّرَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ الْقَاتِلَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ وَأَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاحُ هَذَا كُلِّهِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ مُجَانَسَةِ الْكَلَامِ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكَلُّفٌ وَلَا فَوَاتُ مَصْلَحَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب التَّنْفِيلِ وَفِدَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَسَارَى
[1755] قَوْلُهُ (فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ سَاعَةٌ) هَكَذَا رَوَاهُ جُمْهُورُ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَفِي رِوَايَةِ بعضهم)(12/67)
بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ سَاعَةٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ (أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَرَّسْنَا ثُمَّ شَنَّ الْغَارَةَ) التَّعْرِيسُ النُّزُولُ آخِرَ اللَّيْلِ وَشَنَّ الْغَارَةَ فَرَّقَهَا قَوْلُهُ (وَانْظُرْ إِلَى عُنُقٍ مِنَ النَّاسِ) أَيْ جَمَاعَةٌ قَوْلُهُ (فِيهِمُ الذَّرَارِيُّ) يَعْنِي النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ قَوْلُهُ (وَفِيهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ عَلَيْهَا قَشْعٌ مِنْ أَدَمٍ) هُوَ بِقَافٍ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَفِي الْقَافِ لُغَتَانِ فَتْحُهَا وَكَسْرُهَا وَهُمَا مَشْهُورَتَانِ وَفَسَّرَهُ فِي الْكِتَابِ بِالنِّطْعِ وَهُوَ صَحِيحٌ قَوْلُهُ (فَنَفَّلَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْنَتَهَا) فِيهِ جَوَازُ التَّنْفِيلِ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ التَّنْفِيلُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ وَقَدْ يُجِيبُ عَنْهُ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ حَسَبَ قِيمَتَهَا لِيُعَوِّضَ أَهْلَ الْخُمُسِ عَنْ حِصَّتِهِمْ قَوْلُهُ (وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْكِنَايَةِ عَنِ الْوِقَاعِ بِمَا يُفْهِمُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ فَقُلْتُ هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبَعَثَ بِهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُسِرُوا بِمَكَّةَ) فِيهِ جَوَازُ الْمُفَادَاةِ وَجَوَازُ فِدَاءِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ الْكَافِرَاتِ وَفِيهِ جَوَازُ التفريق(12/68)
بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا الْبَالِغِ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ عِنْدَنَا وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِيهَابِ الْإِمَامِ أَهْلَ جَيْشِهِ بَعْضَ مَا غَنِمُوهُ لِيُفَادِيَ بِهِ مُسْلِمًا أَوْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَتَأَلَّفُ بِهِ مَنْ فِي تَأَلُّفِهِ مَصْلَحَةٌ كَمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا وَفِيِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ وَفِيهِ جَوَازُ قَوْلِ الْإِنْسَانِ لِلْآخَرِ لِلَّهِ أَبُوكَ وَلِلَّهِ دَرُّكَ وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ مَعْنَاهُ وَاضِحًا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ
(بَاب حُكْمِ الْفَيْءِ قَوْلُهُ
[1756] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا أَقَمْتُمْ فِيهَا فَسَهْمُكُمْ فِيهَا وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ) قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأُولَى الْفَيْءَ الَّذِي لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ بَلْ جَلَا عَنْهُ أَهْلُهُ أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهِ فَيَكُونُ سَهْمُهُمْ فِيهَا أَيْ حَقُّهُمْ مِنَ الْعَطَايَا كَمَا يُصْرَفُ الْفَيْءُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالثَّانِيَةِ مَا أُخِذَ عَنْوَةً فَيَكُونُ غَنِيمَةً يُخْرَجُ مِنْهُ الْخُمُسُ وَبَاقِيهِ لِلْغَانِمِينَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ أَيْ بَاقِيهَا وَقَدْ يَحْتَجُّ مَنْ لَمْ يُوجِبِ الْخُمُسَ فِي الْفَيْءِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ الْخُمْسَ فِي الْفَيْءِ كَمَا أَوْجَبُوهُ كُلُّهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَالَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ سِوَاهُ لَا خُمُسَ فِي الْفَيْءِ قال بن الْمُنْذِرِ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَ الشَّافِعِيِّ قَالَ بِالْخُمُسِ فِي الْفَيْءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[1757] (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عُمَرَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ)(12/69)
يَحْيَى أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَهَكَذَا هُوَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ وَأَكْثَرُهَا عَنْ عَمْرٍو عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ وَكَذَا ذَكَرَهُ خَلَفُ الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَسَقَطَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ ذِكْرُ الزُّهْرِيِّ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ فَقَالَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ بَعْضِ النَّاقِلِينَ عَنْ مُسْلِمٍ قَطْعًا لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ فِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ فَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ قَوْلُهُ (كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَمَّا الْكُرَاعُ فَهُوَ الْخَيْلُ وَقَوْلُهُ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ أَيْ يَعْزِلُ لَهُمْ نَفَقَةَ سَنَةٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ يُنْفِقُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ فَلَا تَتِمُّ عَلَيْهِ السَّنَةُ وَلِهَذَا تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عَلَى شَعِيرٍ اسْتَدَانَهُ لِأَهْلِهِ وَلَمْ يَشْبَعْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِكَثْرَةِ جُوعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُوعِ عِيَالِهِ وَقَوْلُهُ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً هَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا خُمُسَ فِي الْفَيْءِ كَمَا سَبَقَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْجَبَهُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ مِنَ الْفَيْءِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ وَخُمُسُ خُمُسِ الْبَاقِي فَكَانَ لَهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ لِذَوِي الْقُرْبَى واليتامى والمساكين وبن السَّبِيلِ وَيُتَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ أَيْ مُعْظَمُهَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ ادِّخَارِ قُوتِ سَنَةٍ وَجَوَازُ الِادِّخَارِ لِلْعِيَالِ وَأَنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الِادِّخَارِ فِيمَا يَسْتَغِلُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ قَرْيَتِهِ كَمَا(12/70)
جَرَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ السُّوقِ وَيَدَّخِرُهُ لقوت عياله فإن كان في وقت ضيق الطعام لم يجز بل يشتري مالا يَضِيقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَقُوتِ أَيَّامٍ أَوْ شَهْرٍ وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ سَعَةٍ اشْتَرَى قُوتَ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ هَكَذَا نَقَلَ الْقَاضِي هَذَا التَّفْصِيلَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَعَنْ قَوْمٍ إِبَاحَتُهُ مُطْلَقًا وأما مالم يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَالْإِيجَافُ الْإِسْرَاعُ قَوْلُهُ (فَجِئْتُهُ حِينَ تَعَالَى النَّهَارُ) أَيْ ارْتَفَعَ وَهُوَ بِمَعْنَى مَتَعَ النَّهَارُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُهُ (فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِهِ جَالِسًا عَلَى سَرِيرٍ مُفْضِيًا إِلَى رُمَالِهِ) هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ مَا يُنْسَجُ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ وَنَحْوِهِ لِيُضْطَجَعَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ مُفْضِيًا إِلَى رُمَالِهِ يَعْنِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُمَالِهِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الرُّمَالِ فِرَاشٌ أَوْ غَيْرُهُ قَوْلُهُ (فَقَالَ لِي يَا مَالِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ يَا مَالِ وَهُوَ تَرْخِيمُ مَالِكٍ بِحَذْفِ الْكَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُ اللَّامِ وَضَمُّهَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فَمَنْ كَسَرَهَا تَرَكَهَا عَلَى مَا كَانَتْ وَمَنْ ضَمَّهَا جَعَلَهُ اسْمًا مُسْتَقِلًّا قَوْلُهُ (دَفُّ أَهْلِ أَبْيَاتٍ من قومك) الدف المشي بسرعة كأنهم جاؤوا مُسْرِعِينَ لِلضُّرِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ وَقِيلَ السَّيْرُ الْيَسِيرُ قَوْلُهُ (وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ) هُوَ بإسكان الضاد بالخاء الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ الْقَلِيلَةُ قَوْلُهُ (فَجَاءَ يَرْفَا) هُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبِالْفَاءِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ مَنْ هَمَزَهُ وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ فِي بَابِ الْفَيْءِ تُسَمِّيهِ الْيَرْفَا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهُوَ حَاجِبُ(12/71)
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ (اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الْكَاذِبِ إِلَى آخِرِهِ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهُ هَذَا الْكَاذِبُ إِنْ لَمْ يُنْصِفْ فَحَذَفَ الْجَوَابَ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ الْمَازِرِيُّ هَذَا اللَّفْظُ الَّذِي وَقَعَ لَا يَلِيقُ ظَاهِرُهُ بِالْعَبَّاسِ وَحَاشَ لِعَلِيٍّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بَعْضُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَضْلًا عَنْ كُلِّهَا وَلَسْنَا نَقْطَعُ بِالْعِصْمَةِ إِلَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ شَهِدَ لَهُ بِهَا لَكِنَّا مَأْمُورُونَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَنَفْيِ كُلِّ رَذِيلَةٍ عَنْهُمْ وَإِذَا انْسَدَّتْ طُرُقُ تَأْوِيلِهَا نَسَبْنَا الْكَذِبَ إِلَى رُوَاتِهَا قَالَ وَقَدْ حَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْضَ النَّاسِ عَلَى أَنْ أَزَالَ هَذَا اللَّفْظَ مِنْ نُسْخَتِهِ تَوَرُّعًا عَنْ إِثْبَاتِ مِثْلِ هَذَا وَلَعَلَّهُ حَمَلَ الْوَهْمَ عَلَى رُوَاتِهِ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَإِذَا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهِ وَلَمْ نُضِفِ الْوَهْمَ إِلَى رُوَاتِهِ فَأَجْوَدُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَدَرَ مِنَ الْعَبَّاسِ عَلَى جِهَةِ الادلال على بن أخيه لأنه بمنزلة ابنه وقال مالا يعتقده وما يعلم براءة ذمة بن أَخِيهِ مِنْهُ وَلَعَلَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ رَدْعَهُ عَمَّا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِيهِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ يَتَّصِفُ بِهَا لَوْ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ عن قصد وأن عليا كان لا يراها إِلَّا مُوجِبَةً لِذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيُّ شَارِبُ النَّبِيذِ نَاقِصُ الدِّينِ وَالْحَنَفِيُّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَاقِصٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مُحِقٌّ فِي اعْتِقَادِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ جَرَتْ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ وَعُثْمَانُ وَسَعْدٌ وَزُبَيْرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ مَعَ تَشَدُّدِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْتَقِدُ ظَاهِرَهُ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّكُمَا جِئْتُمَا أَبَا بَكْرٍ فَرَأَيْتُمَاهُ كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا وَكَذَلِكَ ذَكَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ كَذَلِكَ وَتَأْوِيلُ هَذَا عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّكُمَا تَعْتَقِدَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ نَفْعَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ خِلَافَ مَا فَعَلْتُهُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ فَنَحْنُ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِكُمَا لَوْ أَتَيْنَا مَا أَتَيْنَا وَنَحْنُ مُعْتَقِدَانِ مَا تَعْتَقِدَانِهِ لَكُنَّا بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا يُخَالَفُ إِذَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ(12/72)
وَيُتَّهَمُ فِي قَضَايَاهُ فَكَانَ مُخَالَفَتُكُمَا لَنَا تُشْعِرُ مَنْ رَآهَا أَنَّكُمْ تَعْتَقِدَانِ ذَلِكَ فِينَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ عَنْ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَنَّهُمَا تَرَدَّدَا إِلَى الْخَلِيفَتَيْنِ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَتَقْرِيرُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُمَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ فَأَمْثَلُ مَا فِيهِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمَا طَلَبَا أَنْ يَقْسِمَاهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ينفقان بها على حسب ما ينفعهما الْإِمَامُ بِهَا لَوْ وَلِيَهَا بِنَفْسِهِ فَكَرِهَ عُمَرُ أَنْ يُوقِعَ عَلَيْهَا اسْمَ الْقِسْمَةِ لِئَلَّا يُظَنَّ لِذَلِكَ مَعَ تَطَاوُلِ الْأَزْمَانِ أَنَّهَا مِيرَاثٌ وَأَنَّهُمَا وَرِثَاهُ لَا سِيَّمَا وَقِسْمَةُ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْبِنْتِ وَالْعَمِّ نِصْفَانِ فَيَلْتَبِسُ ذَلِكَ وَيُظَنُّ أَنَّهُمْ تَمَلَّكُوا ذَلِكَ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ مَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ لَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُغَيِّرْهَا عَنْ كَوْنِهَا صَدَقَةً وَبِنَحْوِ هَذَا احْتَجَّ السَّفَّاحُ فَإِنَّهُ لَمَّا خَطَبَ أَوَّلَ خُطْبَةٍ قَامَ بِهَا قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مُعَلِّقٌ فِي عُنُقِهِ الْمُصْحَفَ فَقَالَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَّا مَا حَكَمْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ خَصْمِي بِهَذَا الْمُصْحَفِ فَقَالَ مَنْ هُوَ خَصْمُكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي مَنْعِهِ فَدَكٍ قَالَ أَظَلَمَكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَنْ بَعْدَهُ قَالَ عُمَرُ قَالَ أَظَلَمَكَ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ فِي عُثْمَانَ كَذَلِكَ قَالَ فَعَلِيٌّ ظَلَمَكَ فَسَكَتَ الرَّجُلُ فَأَغْلَظَ لَهُ السَّفَّاحُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ طَلَبَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِيرَاثَهَا مِنْ أَبِيهَا عَلَى أَنَّهَا تَأَوَّلَتِ الْحَدِيثَ إِنْ كَانَ بَلَغَهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نُورَثُ عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي لَهَا بَالٌ فَهِيَ الَّتِي لَا تُورَثُ لَا مَا يَتْرُكُونَ مِنْ طَعَامٍ وَأَثَاثٍ وَسِلَاحٍ وَهَذَا التَّأْوِيلُ خِلَافُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَلَيْسَ مَعْنَاهُ إِرْثُهُنَّ مِنْهُ بَلْ لِكَوْنِهِنَّ مَحْبُوسَاتٍ عَنِ الْأَزْوَاجِ بِسَبَبِهِ أَوْ لِعِظَمِ حَقِّهِنَّ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِفَضْلِهِنَّ وَقِدَمِ هِجْرَتِهِنَّ وَكَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَلِكَ اخْتُصِصْنَ بِمَسَاكِنِهِنَّ لَمْ يَرِثْهَا وَرَثَتُهُنَّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَفِي تَرْكِ فَاطِمَةَ مُنَازَعَةَ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ احْتِجَاجِهِ عَلَيْهَا بِالْحَدِيثِ التَّسْلِيمُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَضِيَّةِ وأنها لَمَّا بَلَّغَهَا الْحَدِيثَ وَبَيَّنَ لَهَا التَّأْوِيلَ تَرَكَتْ رَأْيَهَا ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا وَلَا مِنْ ذُرِّيَّتِهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَبُ مِيرَاثٍ ثُمَّ وَلِيَ عَلِيٌّ الْخِلَافَةَ فَلَمْ يَعْدِلْ بِهَا عَمَّا فَعَلَهُ أبو بكر وعمر رضي الله عنه فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَلَبَ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ إِنَّمَا كَانَ طَلَبَ تَوَلِّي الْقِيَامِ بِهَا بِأَنْفُسِهِمَا وَقِسْمَتِهَا بَيْنَهُمَا كَمَا سَبَقَ قَالَ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ هِجْرَانِ فَاطِمَةَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَعْنَاهُ انْقِبَاضُهَا عَنْ لِقَائِهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْهِجْرَانِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي هُوَ تَرْكُ السَّلَامِ وَالْإِعْرَاضُ عِنْدَ اللِّقَاءِ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (فَلَمْ تُكَلِّمْهُ) يَعْنِي فِي هَذَا الْأَمْرِ أَوْ لِانْقِبَاضِهَا لَمْ تَطْلُبْ مِنْهُ حَاجَةً وَلَا اضْطُرَّتْ إلى لقائه فتكلمه ولم ينقل قط أنهما الْتَقَيَا فَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ(12/73)
وَلَا كَلَّمَتْهُ قَالَ وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي وَكَلَّمْتُكُمَا فِي وَاحِدَةٍ جِئْتَ يَا عَبَّاسُ تسألني نصيبك من بن أَخِيكَ وَجَاءَنِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فِيهِ إِشْكَالٌ مَعَ إِعْلَامِ أَبِي بَكْرٍ لَهُمْ قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا نُورَثُ وَجَوَابُهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ إِنَّمَا طَلَبَ الْقِيَامَ وَحْدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَحْتَجُّ هَذَا بِقُرْبِهِ بِالْعُمُومَةِ وَذَلِكَ بِقُرْبِ امْرَأَتِهِ بِالْبُنُوَّةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا طَلَبَا مَا عَلِمَا مَنْعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنَعَهُمَا مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَبَيَّنَ لَهُمَا دَلِيلَ الْمَنْعِ وَاعْتَرَفَا لَهُ بِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوَلَّى أَمْرَ كُلِّ قَبِيلَةٍ سَيِّدُهُمْ وَتُفَوَّضُ إِلَيْهِ مَصْلَحَتُهُمْ لأنه أعرف بهم وَأَرْفَقُ بِهِمْ وَأَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَأْنَفُوا مِنَ الِانْقِيَادِ لَهُ ولِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَابْعَثُوا حكما من أهله وحكما من أهلها وَفِيهِ جَوَازُ نِدَاءِ الرَّجُلِ بِاسْمِهِ مِنْ غَيْرِ كنية وفِيهِ جَوَازُ احْتِجَابِ الْمُتَوَلِّي فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ لِطَعَامِهِ أَوْ وُضُوئِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَفِيهِ جَوَازُ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَفِيهِ اسْتِشْهَادُ الْإِمَامِ عَلَى مَا يَقُولُهُ بِحَضْرَةِ الْخَصْمَيْنِ الْعُدُولِ لِتَقْوَى حُجَّتُهُ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ وَقَمْعِ الْخَصْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه عنه اتَّئِدَا) أَيْ اصْبِرَا وَأَمْهِلَا قَوْلُهُ (أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ) أَيْ أَسْأَلُكُمْ بِاللَّهِ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّشِيدِ وَهُوَ رفع الصوت يقال أنشدتك ونشدتك بالله قوله صلى الله عليه وسلم (لا نورث ما تركناه صدقة) هو برفع صدقة وما بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ الَّذِي تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَفَعَتْهُ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ جَهَلَةِ الشِّيعَةِ يُصَحِّفُهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يُورَثُونَ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَرَثَةِ مَنْ يَتَمَنَّى مَوْتَهُ فَيَهْلِكُ وَلِئَلَّا يُظَنَّ بِهِمُ الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا لِوَارِثِهمِ فَيَهْلِكَ الظَّانُّ وَيَنْفِرَ النَّاسُ عَنْهُمْ(12/74)
قَوْلُهُ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَاصَّةٍ لَمْ يَخْصُصْ بِهَا أَحَدًا غَيْرَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا أفاء الله على رسوله الْآيَةُ) ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَعْنَى هَذَا احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا تَحْلِيلُ الْغَنِيمَةِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ وَالثَّانِي تَخْصِيصُهُ بِالْفَيْءِ إِمَّا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ كَمَا سَبَقَ مِنَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ قَالَ وَهَذَا الثَّانِي(12/75)
أَظْهَرُ لِاسْتِشْهَادِ عُمَرَ عَلَى هَذَا بِالْآيَةِ قَوْلُهُ
[1759] (فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ) أَمَّا هِجْرَانُهَا فَسَبَقَ تَأْوِيلُهُ وَأَمَّا كَوْنُهَا عَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَقِيلَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَقِيلَ ثَلَاثَةً وَقِيلَ شَهْرَيْنِ وَقِيلَ سَبْعِينَ يَوْمًا فَعَلَى الصَّحِيحِ قَالُوا تُوُفِّيَتْ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ قَوْلُهُ (إِنَّ عَلِيًّا دَفَنَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَيْلًا) فِيهِ جَوَازُ الدَّفْنِ لَيْلًا وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنَّ النَّهَارَ أَفْضَلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ قَوْلُهُ (وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وِجْهَةٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلَيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الْأَشْهُرَ) أَمَّا تَأَخُّرُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْبَيْعَةِ فَقَدْ ذَكَرَهُ عَلِيٌّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَاعْتَذَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَعَ هَذَا فَتَأَخُّرُهُ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الْبَيْعَةِ وَلَا فِيهِ أَمَّا الْبَيْعَةُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا مُبَايَعَةُ كُلِّ النَّاسِ وَلَا كُلِّ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعِقْدِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ مُبَايَعَةُ مَنْ تَيَسَّرَ إِجْمَاعُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ وَأَمَّا عَدَمُ الْقَدْحِ فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى الْإِمَامِ فَيَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ وَيُبَايِعَهُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إِذَا عَقَدَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِلْإِمَامِ الِانْقِيَادُ لَهُ وأن لا يظهر خلافا ولا يشق لعصا وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي قَبْلَ بَيْعَتِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ خِلَافًا وَلَا شَقَّ الْعَصَا وَلَكِنَّهُ تَأَخَّرَ عَنِ الْحُضُورِ عِنْدَهُ للعذر(12/77)
الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَكُنِ انْعِقَادُ الْبَيْعَةِ وَانْبِرَامُهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى حُضُورِهِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُضُورُ لِذَلِكَ وَلَا لِغَيْرِهِ فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ لَمْ يَحْضُرْ وَمَا نُقِلَ عَنْهُ قَدْحٌ فِي الْبَيْعَةِ وَلَا مُخَالَفَةٌ وَلَكِنْ بَقِيَ فِي نَفْسِهِ عَتَبٌ فَتَأَخَّرَ حُضُورُهُ إِلَى أَنْ زَالَ الْعَتَبُ وَكَانَ سَبَبُ الْعَتَبِ أَنَّهُ مَعَ وَجَاهَتِهِ وَفَضِيلَتِهِ فِي نَفْسِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَقُرْبِهِ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك رَأَى أَنَّهُ لَا يُسْتَبَدُّ بِأَمْرٍ إِلَّا بِمَشُورَتِهِ وَحُضُورِهِ وَكَانَ عُذْرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ وَاضِحًا لِأَنَّهُمْ رَأَوُا الْمُبَادَرَةَ بِالْبَيْعَةِ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَخَافُوا مِنْ تَأْخِيرِهَا حُصُولَ خِلَافٍ وَنِزَاعٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ عَظِيمَةٌ وَلِهَذَا أَخَّرُوا دَفْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عَقَدُوا الْبَيْعَةَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ أَهَمَّ الْأُمُورِ كَيْلَا يَقَعَ نِزَاعٌ فِي مَدْفِنِهِ أَوْ كَفَنِهِ أَوْ غُسْلِهِ أَوِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَفْصِلُ الْأُمُورَ فَرَأَوْا تقدم الْبَيْعَةِ أَهَمَّ الْأَشْيَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ ائْتِنَا وَلَا يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ كَرَاهِيَةَ مَحْضَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهِ لَا تَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ) أَمَّا كَرَاهَتُهُمْ لِمَحْضَرِ عمر فلما علموا من شدته وصدعه بما يظهر له فخافوا أن ينتصر لأبي بكر رضي الله عنه فيتكلم بكلام يوحش قُلُوبَهُمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ طَابَتْ عَلَيْهِ وَانْشَرَحَتْ لَهُ فَخَافُوا أَنْ يَكُونَ حُضُورُ عُمَرَ سَبَبًا لِتَغَيُّرِهَا وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ لَا تَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ خَافَ أَنْ يُغْلِظُوا عَلَيْهِ فِي الْمُعَاتَبَةِ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ لِينُ أَبِي بَكْرٍ وَصَبْرِهِ عَنِ الْجَوَابِ عَنْ نَفْسِهِ وَرُبَّمَا رَأَى مِنْ كَلَامِهِمْ مَا غَيَّرَ قَلْبَهُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ خَاصَّةٌ أَوْ عَامَّةٌ وَإِذَا حَضَرَ عُمَرُ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا كَوْنُ عُمَرَ حَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ فَحَنَّثَهُ أَبُو بَكْرٍ وَدَخَلَ وَحْدَهُ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِبْرَارَ الْقَسَمِ إِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْإِنْسَانُ إذا أمكن(12/78)
احْتِمَالُهُ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَا تَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الْحَدِيثُ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ قَوْلُهُ (وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ) هُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ يُقَالُ نَفِسْتُ عَلَيْهِ بِكَسْرِ الْفَاءِ أَنْفَسُ بِفَتْحِهَا نَفَاسَةً وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَسَدِ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فَإِنِّي لَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الْحَقِّ) مَعْنَى شَجَرَ الِاخْتِلَافُ وَالْمُنَازَعَةُ وَقَوْلُهُ لَمْ آلُ أَيْ لَمْ أُقَصِّرْ قَوْلُهُ (فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ صَلَاةَ الظُّهْرِ رَقِيَ عَلَى المنبر) هو بكسر القاف يقال رقى يرقى كَعَلِمَ يَعْلَمُ وَالْعَشِيُّ بِحَذْفِ الْهَاءِ هُوَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ صَلَّى إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ إِمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ صِحَّةِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَانْعِقَادِ الإجماع عليها(12/79)
قَوْلُهُ (كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ) مَعْنَاهُ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَيُقَالُ عَرَوْتَهُ وَاعْتَرَيْتَهُ وَعَرَرْتَهُ وَاعْتَرَرْتَهُ إِذَا أَتَيْتَهُ تَطْلُبُ مِنْهُ حَاجَةً
[1760] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَقْسِمْ وَرَثَتِي دِينَارًا مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا التَّقْيِيدُ بِالدِّينَارِ هُوَ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا سِوَاهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يره وَقَالَ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يؤده إليك قَالُوا وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ النَّهْيَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ وَإِرْثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ وَمَعْنَاهُ لَا يَقْتَسِمُونَ شَيْئًا لِأَنِّي لَا أُورَثُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ وَبِهِ قَالَ جماهيرهم وحكى القاضي عن بن عُلَيَّةَ وَبَعْضِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا لَمْ يُورَثْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ أَنْ جَعَلَ مَالَهُ كُلَّهُ صَدَقَةً وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ ثُمَّ إِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ لَا يُورَثُونَ وَحَكَى الْقَاضِي عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ عَدَمُ الْإِرْثِ بَيْنَهُمْ مُخْتَصٌّ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آل يعقوب وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ وِرَاثَةُ الْمَالِ وَقَالَ وَلَوْ أَرَادَ وِرَاثَةَ النُّبُوَّةِ لَمْ يَقُلْ وَإِنِّي خِفْتُ الموالي من ورائي إذ لا يخاف الموالي عَلَى النُّبُوَّةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَالصَّوَابُ مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُورَثُونَ وَالْمُرَادُ بِقِصَّةِ زَكَرِيَّا وَدَاوُدَ وِرَاثَةُ النُّبُوَّةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْإِرْثِ بَلْ قِيَامُهُ مَقَامَهُ وَحُلُولُهُ مَكَانَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمُؤْنَةُ عَامِلِي(12/81)
فَقِيلَ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ وَالنَّاظِرُ فِيهَا وَقِيلَ كُلُّ عَامِلٍ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ خَلِيفَةٍ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ عَامِلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَائِبٌ عَنْهُ فِي أُمَّتِهِ وَأَمَّا مَؤنَةُ نِسَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقَ بَيَانُهَا قَرِيبًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ صَدَقَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَالَ صَارَتْ إِلَيْهِ بِثَلَاثَةِ حُقُوقٍ أَحَدُهَا مَا وُهِبَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ وَصِيَّةُ مُخَيْرِيقٍ الْيَهُودِيِّ لَهُ عِنْدَ إِسْلَامِهِ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَتْ سَبْعَ حَوَائِطَ فِي بَنِي النَّضِيرِ وما أعطاه الأنصار من أرضهم وهو مالا يَبْلُغُهُ الْمَاءُ وَكَانَ هَذَا مِلْكًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي حَقُّهُ مِنَ الْفَيْءِ مِنْ أَرْضِ بَنِي النَّضِيرِ حِينَ أَجْلَاهُمْ كَانَتْ لَهُ خَاصَّةً لِأَنَّهَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَأَمَّا مَنْقُولَاتُ بَنِي النَّضِيرِ فَحَمَلُوا مِنْهَا مَا حَمَلَتْهُ الْإِبِلُ غَيْرَ السِّلَاحِ كَمَا صَالَحَهُمْ ثُمَّ قَسَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَاقِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَتِ الْأَرْضُ لِنَفْسِهِ وَيُخْرِجُهَا فِي نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ نِصْفُ أَرْضِ فَدَكٍ صَالَحَ أَهْلَهَا بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ أَرْضِهَا وَكَانَ خَالِصًا لَهُ وَكَذَلِكَ ثُلُثُ أَرْضِ وَادِي الْقُرَى أَخَذَهُ فِي الصُّلْحِ حِينَ صَالَحَ أَهْلَهَا الْيَهُودَ وَكَذَلِكَ حِصْنَانِ مِنْ حُصُونِ خَيْبَرَ وَهُمَا الْوَطِيخُ وَالسَّلَالِمُ أَخَذَهُمَا صُلْحًا الثَّالِثُ سَهْمُهُ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَمَا افْتَتَحَ فِيهَا عَنْوَةً فَكَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا مِلْكًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لَا حَقَّ فيها لأحد غيره لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَسْتَأْثِرُ بِهَا بَلْ يُنْفِقُهَا عَلَى أَهْلِهِ وَالْمُسْلِمِينَ وَلِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَكُلُّ هَذِهِ صَدَقَاتٌ مُحَرَّمَاتُ التَّمَلُّكِ بَعْدَهُ والله أعلم(12/82)
(باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين قَوْلُهُ
[1762] (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ فِي النَّفْلِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا وَفِي بَعْضِهَا لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا بِالْأَلِفِ فِي الرَّاجِلِ وَفِي بَعْضِهَا لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَالْمُرَادُ بِالنَّفْلِ هُنَا الْغَنِيمَةُ وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ النَّفْلِ لِكَوْنِهَا تُسَمَّى نَفْلًا لُغَةً فَإِنَّ النَّفْلَ فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ وَالْعَطِيَّةُ وَهَذِهِ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَهْمِ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ يَكُونُ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ سَهْمَانِ بِسَبَبِ فَرَسِهِ وسهم بسبب نفسه ممن قال بهذا بن عباس ومجاهد والحسن وبن سِيرِينَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وإسحاق وأبو عبيد وبن جَرِيرٍ وَآخَرُونَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ فَقَطْ سَهْمٌ لَهَا وَسَهْمٌ لَهُ قَالُوا وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِهِ هَذَا أَحَدٌ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ هَذَا الْحَدِيثُ وَهُوَ صَرِيحٌ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي الرَّجُلِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ وَمَنْ رَوَى وَلِلرَّاجِلِ رِوَايَتُهُ مُحْتَمِلَةٌ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهَا عَلَى مُوَافَقَةِ الْأُولَى جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ وَيَرْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَا وَرَدَ مُفَسَّرًا فِي غَيْرِ هذه الرواية في حديث بن عُمَرَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَبِي أُسَامَةَ وَغَيْرِهِمْ بِإِسْنَادِهِمْ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمٌ له وسهمان لفرسه ومثله من رواية بن عَبَّاسٍ وَأَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ حَضَرَ بِأَفْرَاسٍ لَمْ يُسْهَمْ إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ وَيُرْوَى مِثْلُهُ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ وَمَكْحُولٍ ويحيى الأنصاري وبن وَهْبٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِكِيِّينَ قَالُوا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ يُسْهَمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ)(12/83)
(بَاب الْإِمْدَادِ بِالْمَلَائِكَةِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَإِبَاحَةِ الْغَنَائِمِ قَوْلُهُ
[1763] (لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ) اعْلَمْ أَنَّ بَدْرًا هُوَ مَوْضِعُ الْغَزْوَةِ الْعُظْمَى الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ مَاءٌ مَعْرُوفٌ وَقَرْيَةٌ عَامِرَةٌ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ قال بن قُتَيْبَةَ بَدْرٌ بِئْرٌ كَانَتْ لِرَجُلٍ يُسَمَّى بَدْرًا فَسُمِّيَتْ بِاسْمِهِ قَالَ أَبُو الْيَقْظَانِ كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بِإِسْنَادِهِ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ فِيهِ ضُعَفَاءُ أَنَّهَا كَانَتْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ قَالَ الْحَافِظُ وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهَا كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَثَبَتَ فِي صحيح البخاري عن بن مَسْعُودٍ أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ يَوْمًا حَارًّا قَوْلُهُ (فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بربه اللهم انجزلي مَا وَعَدْتَنِي) أَمَّا يَهْتِفُ فَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ بَعْدَ الْهَاءِ وَمَعْنَاهُ يَصِيحُ وَيَسْتَغِيثُ بِاللَّهِ بِالدُّعَاءِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ في الدعاء ورفع اليدين فيه وأنة لابأس بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي الدُّعَاءِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الأرض)(12/84)
ضَبَطُوهُ تَهْلِكْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّهَا فَعَلَى الْأَوَّلِ تُرْفَعُ الْعِصَابَةُ عَلَى أَنَّهَا فَاعِلٌ وَعَلَى الثَّانِي تنصب تكون مَفْعُولَةً وَالْعِصَابَةُ الْجَمَاعَةُ قَوْلُهُ (كَذَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبِّكَ) الْمُنَاشَدَةُ السُّؤَالُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّشِيدِ وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ هَكَذَا وَقَعَ لِجَمَاهِيرِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ كَذَاكَ بِالذَّالِ وَلِبَعْضِهِمْ كَفَاكَ بِالْفَاءِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ حَسْبُكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبِّكَ وَكُلٌّ بِمَعْنًى وَضَبَطُوا مُنَاشَدَتَكَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ قَالَ الْقَاضِي مَنْ رَفَعَهُ جَعَلَهُ فَاعِلًا بِكَفَاكَ وَمَنْ نَصَبَهُ فَعَلَى الْمَفْعُولِ بِمَا فِي حَسْبُكَ وَكَفَاكَ وَكَذَاكَ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ مِنَ الْكَفِّ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ الْمُنَاشَدَةُ إِنَّمَا فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرَاهُ أَصْحَابُهُ بِتِلْكَ الْحَالِ فَتَقْوَى قُلُوبُهُمْ بِدُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ مَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ وَقَدْ كَانَ وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا الْعِيرَ وَإِمَّا الْجَيْشَ وَكَانَتِ الْعِيرُ قَدْ ذَهَبَتْ وَفَاتَتْ فَكَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ حُصُولِ الْأُخْرَى لَكِنْ سَأَلَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ وَتَنْجِيزَهُ مِنْ غَيْرِ أَذًى يَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَنِّي مُمِدُّكُمْ بألف من الملائكة مردفين أَيْ مُعِينُكُمْ وَالْإِمْدَادُ الْإِعَانَةُ وَمُرْدِفِينَ مُتَتَابِعِينَ وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ قَوْلُهُ (أَقْدِمْ حَيْزُومُ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ سَاكِنَةً ثُمَّ زَايٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ وَاوٍ ثُمَّ مِيمٍ قَالَ الْقَاضِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعُذْرِيِّ حَيْزُونُ بِالنُّونِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ لِسَائِرِ الرُّوَاةِ وَالْمَحْفُوظُ وَهُوَ اسْمُ فَرَسِ الْمَلَكِ وَهُوَ مُنَادَى بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ أَيْ يَا حَيْزُومُ وَأَمَّا أَقْدِمْ فضبطوه بوجهين أصحهما وأشهرهما ولم يذكر بن دُرَيْدٍ وَكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ غَيْرَهُ أَنَّهُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ وَبِكَسْرِ الدَّالِ مِنَ الْإِقْدَامِ قَالُوا وَهِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ(12/85)
لِلْفَرَسِ مَعْلُومَةٌ فِي كَلَامِهِمْ وَالثَّانِي بِضَمِّ الدَّالِ وَبِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَضْمُومَةٍ مِنَ التَّقَدُّمِ قَوْلُهُ (فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ) الْخَطْمُ الْأَثَرُ عَلَى الْأَنْفِ وَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ قَوْلُهُ (هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا) يَعْنِي أَشْرَافَهَا الْوَاحِدُ صِنْدِيدٌ بِكَسْرِ الصَّادِ وَالضَّمِيرُ فِي صَنَادِيدِهَا يَعُودُ عَلَى أَئِمَّةِ الْكُفْرِ أَوْ مَكَّةَ قَوْلُهُ (فَهَوِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بكر) هو بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ أَحَبَّ ذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَهُ يُقَالُ هوى الشيء بكسر الواو يهوى بِفَتْحِهَا هَوًى وَالْهَوَى الْمَحَبَّةُ قَوْلُهُ (وَلَمْ يَهْوَ ما قلت) هكذا هو في بَعْضِ النُّسَخِ وَلَمْ يَهْوَ وَفِي كَثِيرٍ مِنْهَا وَلَمْ يَهْوِي بِالْيَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ بِإِثْبَاتِ الباء مَعَ الْجَازِمِ وَمِنْهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ بِالْيَاءِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ(12/86)
أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنْمِي وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَتَّى يثخن في الأرض أَيْ يُكْثِرَ الْقَتْلَ وَالْقَهْرَ فِي الْعَدُوِّ
(بَاب رَبْطِ الْأَسِيرِ وَحَبْسِهِ وَجَوَازِ الْمَنِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
[1764] (فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سِوَارِي الْمَسْجِدِ) أَمَّا أُثَالٌ فَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ وَهُوَ مَصْرُوفٌ وَفِي هَذَا جَوَازُ رَبْطِ الْأَسِيرِ وحبسه وجواز إدخال المسجد الكافر وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ سَوَاءٌ كَانَ الكافر كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَهُ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ لَا يَجُوزُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجُوزُ لِكِتَابِيٍّ دُونَ غَيْرِهِ وَدَلِيلُنَا عَلَى الْجَمِيعِ هَذَا الْحَدِيثُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الحرام فَهُوَ خَاصٌّ بِالْحَرَمِ وَنَحْنُ نَقُولُ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُهُ الْحَرَمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ) اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ)(12/87)
فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَعْنَاهُ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ صاحب دم لدمه موقع يشتفى بقتله قَاتِلَهُ وَيُدْرِكُ قَاتِلُهُ بِهِ ثَأْرَهُ أَيْ لِرِيَاسَتِهِ وَفَضِيلَتِهِ وَحُذِفَ هَذَا لِأَنَّهُمْ يَفْهَمُونَهُ فِي عُرْفِهِمْ وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَاهُ تَقْتُلُ مَنْ عَلَيْهِ دَمٌ وَمَطْلُوبٌ بِهِ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا عَتَبَ عَلَيْكَ فِي قَتْلِهِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ ذَا ذَمٍّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ ذَا ذِمَامٍ وَحُرْمَةٍ فِي قَوْمِهِ وَمَنْ إِذَا عَقَدَ ذِمَّةً وَفَّى بِهَا قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّهَا تَقْلِبُ الْمَعْنَى فَإِنَّ مَنْ لَهُ حُرْمَةٌ لَا يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ قُلْتُ وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا عَلَى مَعْنَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أَيْ تَقْتُلُ رَجُلًا جَلِيلًا يَحْتَفِلُ قَاتِلُهُ بِقَتْلِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا قَتَلَ ضَعِيفًا مَهِينًا فَإِنَّهُ لَا فَضِيلَةَ فِي قَتْلِهِ وَلَا يُدْرِكُ بِهِ قَاتِلُهُ ثَأْرَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) فِيهِ جَوَازُ الْمَنِّ عَلَى الْأَسِيرِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ (فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ) قَالَ أَصْحَابُنَا إِذَا أَرَادَ الْكَافِرُ الْإِسْلَامَ بَادَرَ بِهِ وَلَا يُؤَخِّرُهُ لِلِاغْتِسَالِ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي تَأْخِيرِهِ بَلْ يُبَادِرُ بِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَمَذْهَبُنَا أَنَّ اغْتِسَالَهُ وَاجِبٌ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ فِي الشِّرْكِ سَوَاءٌ كَانَ اغْتَسَلَ مِنْهَا أَمْ لَا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنْ كَانَ اغْتَسَلَ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا وَجَبَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ ويَسْقُطُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ بِالْإِسْلَامِ كَمَا تَسْقُطُ الذُّنُوبُ وَضَعَّفُوا هَذَا بِالْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُقَالُ يَسْقُطُ أَثَرُ الْحَدَثِ بِالْإِسْلَامِ هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ أَجْنَبَ فِي الْكُفْرِ أَمَّا إِذَا لَمْ يُجْنِبْ أَصْلًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَالْغُسْلُ مُسْتَحَبٌّ لَهُ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَآخَرِينَ وَقَالَ أَحْمَدُ وَآخَرُونَ يَلْزَمُهُ الْغُسْلُ قَوْلُهُ (فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ) هَكَذَا هُوَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا نَخْلٌ بِالْخَاءِ(12/88)
الْمُعْجَمَةِ وَتَقْدِيرُهُ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ فِيهِ مَاءٌ فَاغْتَسَلَ مِنْهُ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُهُمْ صَوَابُهُ نَجْلٌ بِالْجِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ الْمُنْبَعِثُ وَقِيلَ الْجَارِي قُلْتُ بَلِ الصَّوَابُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ صَحَّتْ بِهِ وَلَمْ يُرْوَ إِلَّا هَكَذَا وَهُوَ صَحِيحٌ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ) وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ هَذَا مِنْ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَمُلَاطَفَةٌ لِمَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ مِنَ الْأَشْرَافِ الَّذِينَ يَتْبَعُهُمْ عَلَى إِسْلَامِهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ قَوْلُهُ (وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ) يَعْنِي بَشَّرَهُ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَمَّا أَمْرُهُ بِالْعُمْرَةِ فَاسْتِحْبَابٌ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا سِيَّمَا مِنْ هَذَا الشَّرِيفِ الْمُطَاعِ إِذَا أَسْلَمَ وَجَاءَ مُرَاغِمًا لِأَهْلِ مَكَّةَ فَطَافَ وَسَعَى وَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَأَغَاظَهُمْ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (قَالَ لَهُ قَائِلٌ أَصَبَوْتَ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ أَصَبَوْتَ وَهِيَ لُغَةٌ وَالْمَشْهُورُ أَصَبَأْتَ بالهمز وعلى(12/89)
الْأَوَّلِ جَاءَ قَوْلُهُمْ الصُّبَاةُ كَقَاضٍ وَقُضَاةٍ قَوْلُهُ في حديث بن الْمُثَنَّى (إِلَّا أَنَّهُ قَالَ إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ) هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمُحَقَّقَةِ إِنْ تَقْتُلْنِي بِالنُّونِ وَالْيَاءِ فِي آخِرِهَا وَفِي بَعْضِهَا بِحَذْفِهَا وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ مِثْلَ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ
(بَاب إِجْلَاءِ الْيَهُودِ مِنْ الْحِجَازِ قَوْلُهُ صَلَّى
[1765] اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ (أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا فقَالُوا قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أُرِيدُ) مَعْنَاهُ أُرِيدُ أَنْ تَعْتَرِفُوا أَنِّي بَلَّغْتُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ تَجْنِيسِ الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ وَأَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَأَمَّا إِخْرَاجُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي آخِرِ كِتَابِ الْوَصَايَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) مَعْنَاهُ مُلْكُهَا وَالْحُكْمُ فِيهَا وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ هَذَا لِأَنَّهُمْ حَارَبُوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)(12/90)
كما ذكره بن عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ بَعْدَ هذه
[1766] قوله (عن بن عُمَرَ أَنَّ يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى حَارَبَتْ قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساؤهم وَأَوْلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ) فِي هَذَا أَنَّ الْمُعَاهَدَ وَالذِّمِّيَّ إِذَا نَقَضَ الْعَهْدَ صَارَ حَرْبِيًّا وَجَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلِلْإِمَامِ سَبْيُ مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ وَلَهُ الْمَنُّ عَلَى مَنْ أَرَادَ وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا مَنَّ عَلَيْهِ ثُمَّ ظَهَرَتْ مِنْهُ مُحَارَبَةٌ انْتَقَضَ عَهْدُهُ وَإِنَّمَا يَنْفَعُ الْمَنُّ فِيمَا مَضَى لَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ فِي أَمَانٍ ثُمَّ حَارَبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَظَاهَرُوا قُرَيْشًا عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهُمُ الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ (يَهُودُ بَنِي قَيْنُقَاعَ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَيُقَالُ بِضَمِّ النُّونِ وفتحها وكسرها ثلاث لغات مشهورات(12/91)
(باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن (على حكم حاكم عدل أهل للحكم)
[1768] قَوْلُهُ (نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) فِيهِ جَوَازُ التَّحْكِيمِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي مُهِمَّاتِهِمُ الْعِظَامِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى عَلِيٍّ التَّحْكِيمَ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ جَوَازُ مُصَالَحَةِ أَهْلِ قَرْيَةٍ أَوْ حِصْنٍ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ صَالِحٍ لِلْحُكْمِ أَمِينٍ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ وَعَلَيْهِ الْحُكْمُ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وإِذَا حَكَمَ بِشَيْءٍ لَزِمَ حُكْمُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَلَا لَهُمُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَلَهُمُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْحُكْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَأَرْسَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)(12/92)
إِلَى سَعْدٍ فَأَتَاهُ عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ دَنَا مِنَ الْمَسْجِدِ كَذَا هُوَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ وَأَرَاهُ وَهْمًا إِنْ كَانَ أَرَادَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ جَاءَ مِنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرْسَلَ إِلَى سَعْدٍ نَازِلًا عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَمِنْ هُنَاكَ أَرْسَلَ إِلَى سَعْدٍ لِيَأْتِيَهُ فَإِنْ كَانَ الرَّاوِي أَرَادَ مَسْجِدًا اخْتَطَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَاكَ كَانَ يُصَلِّي فِيهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ لَمْ يَكُنْ وَهَمًا قَالَ وَالصَّحِيحُ مَا جَاءَ فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ فَلَمَّا دَنَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فَلَمَّا طَلَعَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كذا وقع في كتاب بن أَبِي شَيْبَةَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَسْجِدَ تَصْحِيفٌ مِنْ لَفْظِ الرَّاوِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ خَيْرِكُمْ) فِيهِ إِكْرَامُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَتَلَقِّيهِمْ بِالْقِيَامِ لَهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا هَكَذَا احْتَجَّ بِهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ قَالَ الْقَاضِي وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ وَيَمْثُلُونَ قِيَامًا طُولَ جُلُوسِهِ قُلْتُ الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ مُسْتَحَبٌّ وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْهُ شَيْءٌ صَرِيحٌ وَقَدْ جَمَعْتُ كُلَّ ذَلِكَ مَعَ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي جُزْءٍ وَأَجَبْتُ فِيهِ عَمَّا تَوَهَّمَ النَّهْيَ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِينَ عَنَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ هَلْ هُمُ الْأَنْصَارُ خَاصَّةً أَمْ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَعَهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ (إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ فِيهِمْ إِلَى سَعْدٍ قَالَ الْقَاضِي يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضُوا بِرَدِّ الْحُكْمِ إِلَى سَعْدٍ فَنُسِبَ إِلَيْهِ قَالَ وَالْأَشْهَرُ أَنَّ الْأَوْسَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَفْوَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حُلَفَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ يَعْنِي مِنَ الْأَوْسِ يُرْضِيهِمْ بِذَلِكَ فَرَضُوا بِهِ فَرَدَّهُ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْأَوْسِيِّ قَوْلُهُ (وَسَبْيِ ذُرِّيَّتِهِمْ) سَبَقَ أَنَّ الذُّرِّيَّةَ تُطْلَقُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مَعًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (لقد(12/93)
حَكَمْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ) الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَلِكُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتُؤَيِّدُهَا الرِّوَايَاتُ الَّتِي قَالَ فِيهَا لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ قَالَ الْقَاضِي رُوِّينَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِكَسْرِ اللَّامِ بِغَيْرِ خِلَافٍ قَالَ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا فَإِنْ صَحَّ الْفَتْحُ فَالْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَقْدِيرُهُ بِالْحُكْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى
[1769] قَوْلُهُ (رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ له بن الْعَرِقَةِ) هُوَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمَكْسُورَةٍ ثُمَّ قَافٍ قَالَ الْقَاضِي قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هِيَ أمه قال بن الْكَلْبِيِّ اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ حِبَّانُ بِكَسْرِ الْحَاءِ بْنُ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَيْصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ قَالَ وَاسْمُ الْعَرِقَةِ قِلَابَةُ بِقَافٍ مَكْسُورَةٍ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ الْحَارِثِ وَسُمِّيَتْ بِالْعَرِقَةِ لِطِيبِ رِيحِهَا وَكُنْيَتُهَا أُمُّ فَاطِمَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (رَمَاهُ فِي الْأَكْحَلِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هُوَ عِرْقٌ مَعْرُوفٌ قَالَ الْخَلِيلُ إِذَا قُطِعَ فِي الْيَدِ لَمْ يُرْقَأِ الدَّمُ وَهُوَ عِرْقُ الْحَيَاةِ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ شُعْبَةٌ لَهَا اسْمٌ قَوْلُهُ (فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ(12/94)
فِيهِ جَوَازُ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَجَوَازُ مُكْثِ الْمَرِيضِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ جَرِيحًا قَوْلُهُ (إِنَّ سَعْدًا تَحَجَّرَ كَلْمُهُ لِلْبُرْءِ) الْكَلْمُ بِفَتْحِ الْكَافِ الْجُرْحُ وَتَحَجَّرَ أَيْ يَبِسَ قَوْلُهُ (فَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتِي فِيهَا) هَذَا لَيْسَ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ تَمَنَّاهُ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ وَهَذَا إِنَّمَا تَمَنَّى انْفِجَارَهَا لِيَكُونَ شَهِيدًا قَوْلُهُ (فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ لَبَّتِهِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ مُشَدَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَهِيَ النَّحْرُ وَفِي بَعْضِ الْأُصُولِ مِنْ لِيتِهِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَبَعْدَهَا ياء مثناة من تحت ساكنة والليت صَفْحَةُ الْعُنُقِ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ لَيْلَتِهِ قَالَ الْقَاضِي قَالُوا وَهُوَ الصَّوَابُ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ قَوْلُهُ(12/95)
(فلم يرعهم) أي لم يفجأهم ويأتيهم بَغْتَةً قَوْلُهُ (فَإِذَا سَعْدٌ جُرْحُهُ يَغِذُّ دَمًا) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ يَغِذُّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْضًا وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ الرُّوَاةِ وَفِي بَعْضِهَا يَغْذُ بِإِسْكَانِ الْغَيْنِ وَضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَمَعْنَاهُ يَسِيلُ يُقَالُ غَذَّ الْجُرْحُ يَغِذُّ إِذَا دَامَ سَيَلَانُهُ وَغَذَا يَغْذُو سَالَ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَمَا زَالَ يَسِيلُ حَتَّى مَاتَ قَوْلُهُ فِي الشِّعْرِ (أَلَا يَا سَعْدُ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍ ... فَمَا فَعَلَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ ...
()
هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنِ الْمُعْظَمِ وَفِي بَعْضِهَا لِمَا فَعَلَتْ بِاللَّامِ بَدَلَ الْفَاءِ وَقَالَ وَهُوَ الصَّوَابُ وَالْمَعْرُوفُ فِي السِّيَرِ قَوْلُهُ ... (تَرَكْتُمْ قِدْرَكُمْ لَا شَيْءَ فِيهَا ... وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةٌ تَفُورُ)
) هَذَا مَثَلٌ لِعَدَمِ النَّاصِرِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ تَرَكْتُمْ قِدْرَكُمْ الْأَوْسَ لِقِلَّةِ حُلَفَائِهِمْ فَإِنَّ حُلَفَاءَهُمْ قُرَيْظَةُ وَقَدْ قُتِلُوا وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةٌ تَفُورُ الخروج لِشَفَاعَتِهِمْ فِي حُلَفَائِهِمْ بَنِي قَيْنُقَاعَ حَتَّى مَنَّ عليهم(12/96)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَهُمْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَهُوَ أَبُو حُبَابٍ الْمَذْكُورُ فِي الْبَيْتِ الْآخَرِ قَوْلُهُ (كَمَا ثَقُلَتْ بِمَيْطَانَ الصُّخُورُ) هُوَ اسْمُ جَبَلٍ مِنْ أَرْضِ أَجَازَ فِي دِيَارِ بَنِي مُزَيْنَةَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ هُوَ بِكَسْرِهَا وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتُ وَآخِرُهُ نُونٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ بِمَيْطَارٍ بِالرَّاءِ قال القاضي وفي رواية بن مَاهَانَ بِحَيْطَانَ بِالْحَاءِ مَكَانَ الْمِيمِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَالَ وَإِنَّمَا قَصَدَ هَذَا الشَّاعِرُ تَحْرِيضَ سَعْدٍ عَلَى اسْتِبْقَاءِ بَنِي قُرَيْظَةَ حُلَفَائِهِ وَيَلُومُهُ عَلَى حُكْمِهِ فِيهِمْ وَيُذَكِّرُهُ بِفِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَيَمْدَحُهُ بِشَفَاعَتِهِ فِي حُلَفَائِهِمْ بَنِي قَيْنُقَاعَ
(بَاب الْمُبَادَرَةِ بِالْغَزْوِ وَتَقْدِيمِ أَهَمِّ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ قَوْلُهُ
[1770] (نَادَى فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ انْصَرَفَ عَنِ الْأَحْزَابِ أَنْ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقَالَ آخَرُونَ لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ) هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ صَلَاةِ الخوف من رواية بن عمر)(12/97)
أَيْضًا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْأَحْزَابِ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ مِنَّا فَذُكِرَ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا منهم أما جميعهم بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي كَوْنِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَقَدْ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَقِيلَ لِلَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ لَا تُصَلُّوا الظُّهْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَلِلَّذِينَ صَلَّوْا بِالْمَدِينَةِ لَا تُصَلُّوا الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قِيلَ لِلْجَمِيعِ وَلَا تُصَلُّوا الْعَصْرَ وَلَا الظُّهْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قِيلَ لِلَّذِينَ ذَهَبُوا أَوَّلًا لَا تُصَلُّوا الظُّهْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَلِلَّذِينَ ذَهَبُوا بَعْدَهُمْ لَا تُصَلُّوا الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْمُبَادَرَةِ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ ضِيقِ وَقْتِهَا وَتَأْخِيرِهَا فَسَبَبُهُ أَنَّ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ الصَّلَاةَ مَأْمُورٌ بِهَا فِي الْوَقْتِ مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بني قريظة المبادرة بالذهاب إليهم وأن لا يُشْتَغَلَ عَنْهُ بِشَيْءٍ لَا أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَأْخِيرٌ فَأَخَذَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِهَذَا الْمَفْهُومِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى لَا إِلَى اللَّفْظِ فَصَلَّوْا حِينَ خَافُوا فَوْتَ الْوَقْتِ وَأَخَذَ آخَرُونَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَحَقِيقَتِهِ فَأَخَّرُوهَا وَلَمْ يُعَنِّفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاسِ وَمُرَاعَاةِ الْمَعْنَى وَلِمَنْ يَقُولُ بِالظَّاهِرِ أَيْضًا وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُعَنَّفُ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا فَعَلَهُ بِاجْتِهَادِهِ إِذَا بَذَلَ وُسْعَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَلِلْقَائِلِ الْآخَرِ أَنْ يَقُولَ لَمْ يُصَرِّحْ بِإِصَابَةِ الطَّائِفَتَيْنِ بَلْ تَرَكَ تَعْنِيفَهُمْ وَلَا خِلَافَ فِي تَرْكِ تَعْنِيفِ الْمُجْتَهِدِ وَإِنْ أَخْطَأَ إِذَا بَذَلَ وُسْعَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب رَدِّ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ مِنْ الشَّجَرِ وَالثَّمَرِ (حِينَ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِالْفُتُوحِ) قَوْلُهُ
[1771] (لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ المدينة قدموا وليس بأيديهم شئ وَكَانَ الْأَنْصَارُ أَهْلَ الْأَرْضِ)(12/98)
وَالْعَقَارِ فَقَاسَمَهُمُ الْأَنْصَارُ عَلَى أَنْ أَعْطَوْهُمْ أَنْصَافَ ثمار أموالهم كل عام ويكفوهم العمل والمؤنة ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ خَيْبَرَ وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمُ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ قَالَ الْعُلَمَاءُ لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ آثَرَهُمُ الْأَنْصَارُ بِمَنَائِحَ مِنْ أَشْجَارِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهَا مَنِيحَةً مَحْضَةً وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَعْمَلَ فِي الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ نِصْفُ الثِّمَارِ وَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ أَنْ يَقْبَلَهَا مَنِيحَةً مَحْضَةً هَذَا لِشَرَفِ نُفُوسِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ أَنْ يَكُونُوا كَلًّا وَكَانَ هَذَا مُسَاقَاةً وَفِي مَعْنَى الْمُسَاقَاةِ فَلَمَّا فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ خَيْبَرُ اسْتَغْنَى الْمُهَاجِرُونَ بِأَنْصِبَائِهِمْ فِيهَا عَنْ تِلْكَ الْمَنَائِحِ فَرَدُّوهَا إِلَى الْأَنْصَارِ فَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْأَنْصَارِ فِي مُوَاسَاتِهِمْ وَإِيثَارِهِمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الْإِسْلَامِ وَإِكْرَامِ أَهْلِهِ وَأَخْلَاقِهِمُ الْجَمِيلَةِ وَنُفُوسِهِمُ الطَّاهِرَةِ وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ من قبلهم يحبون من هاجر إليهم الْآيَةَ قَوْلُهُ (وَكَانَ الْأَنْصَارُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ) أَرَادَ بِالْعَقَارِ هُنَا النَّخْلَ قَالَ الزَّجَّاجُ الْعَقَارُ كل ماله أَصْلٌ قَالَ وَقِيلَ إِنَّ النَّخْلَ خَاصَّةً يُقَالُ لَهُ الْعَقَارُ قَوْلُهُ (وَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا لها) هو بكسر العين جمع عذق بفتحها وهي النخلة ككلب وكلاب وبئر وبئار قوله (فأعطاها رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ أَيْمَنَ) هَذَا دَلِيلٌ لِمَا قَدَّمْنَا عَنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مَا أَعْطَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى الْمُسَاقَاةِ بَلْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ منيحة ومواساة(12/99)
وَهَذَا مِنْهُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا أَعْطَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِمَارَهَا يَفْعَلُ فِيهَا مَا شَاءَ مِنْ أَكْلِهِ بِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَضَيْفِهِ وَإِيثَارِهِ بِذَلِكَ لِمَنْ شَاءَ فَلِهَذَا آثَرَ بِهَا أُمَّ أَيْمَنَ وَلَوْ كَانَتْ إِبَاحَةً لَهُ خَاصَّةً لَمَا أَبَاحَهَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبِيحَ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمَوْهُوبِ لَهُ نَفْسُ رَقَبَةِ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ قَوْلُهُ (رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمُ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ منائح ثمار أي إباحة للثمار لا تمليك لا رقاب النَّخْلِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ هِبَةً لِرَقَبَةِ النَّخْلِ لَمْ يَرْجِعُوا فِيهَا فَإِنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَإِنَّمَا كَانَتْ إِبَاحَةً كَمَا ذَكَرْنَا وَالْإِبَاحَةُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَتَى شَاءَ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَرْجِعُوا فِيهَا حَتَّى اتَّسَعَتِ الْحَالُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ بِفَتْحِ خَيْبَرَ وَاسْتَغْنَوْا عَنْهَا فَرَدُّوهَا عَلَى الْأَنْصَارِ فَقَبِلُوهَا وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم ذلك قوله (قال بن شِهَابٍ وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أُمِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيفَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ) هذا تصريح من بن شِهَابٍ أَنَّ أُمَّ أَيْمَنَ أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حَبَشِيَّةٌ وَكَذَا قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ سَبْيِ الْحَبَشَةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ وَقِيلَ إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَبَشِيَّةً وَإِنَّمَا الْحَبَشِيَّةُ امْرَأَةٌ أُخْرَى وَاسْمُ أُمِّ أَيْمَنَ الَّتِي هِيَ أُمُّ أُسَامَةَ بَرَكَةُ كُنِّيَتْ بِابْنِهَا أَيْمَنَ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَبَشِيِّ صَحَابِيٌّ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ(12/100)
وَغَيْرُهُ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ قِطْعَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أُمِّ أَيْمَنَ فِي بَابِ الْقَافَةِ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ أُمِّ أَيْمَنَ إِنَّهَا امْتَنَعَتْ مِنْ رَدِّ تِلْكَ الْمَنَائِحِ حَتَّى عَوَّضَهَا عَشَرَةَ أَمْثَالِهِ إِنَّمَا فَعَلَتْ هَذَا لِأَنَّهَا ظَنَّتْ أَنَّهَا كَانَتْ هِبَةً مُؤَبَّدَةً وَتَمْلِيكًا لِأَصْلِ الرَّقَبَةِ وَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِطَابَةَ قَلْبِهَا فِي اسْتِرْدَادِ ذَلِكَ فَمَا زَالَ يَزِيدُهَا فِي الْعِوَضِ حَتَّى رَضِيَتْ وَكُلُّ هَذَا تَبَرُّعٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِكْرَامٌ لَهَا لِمَا لَهَا مِنْ حَقِّ الْحَضَانَةِ وَالتَّرْبِيَةِ قَوْلُهُ (وَاللَّهِ لَا نُعْطِيكَاهُنَّ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ نُعْطِيكَاهُنَّ بِالْأَلِفِ بَعْدَ الْكَافِ وَهُوَ صَحِيحٌ فَكَأَنَّهُ أَشْبَعَ فَتْحَةَ الْكَافِ فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا أَلِفٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَاللَّهِ مَا نُعْطَاكَهُنَّ وَفِي بَعْضِهَا لَا نُعْطِيكَهُنَّ والله أعلم(12/101)
(بَاب جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ طَعَامِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِيهِ
[1772] حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ (أَنَّهُ أَصَابَ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ رُمِيَ إِلَيْنَا جِرَابٌ فِيهِ طَعَامٌ وَشَحْمٌ أَمَّا الْجِرَابُ فَبِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ الْكَسْرُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَهُوَ وِعَاءٌ مِنْ جِلْدٍ وَفِي هَذَا إِبَاحَةُ أَكْلِ طَعَامِ الغنيمة في دار الحرب قال القاضي أجمع العلماء على جواز أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَاتِهِمْ وَيَجُوزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ اسْتِئْذَانَهُ إِلَّا الزُّهْرِيُّ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مَعَهُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَى عِمَارَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَخْرَجَهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا غَيْرِهَا فَإِنْ بِيعَ مِنْهُ شَيْءٌ لِغَيْرِ الْغَانِمِينَ كَانَ بَدَلُهُ غَنِيمَتَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرْكَبَ دَوَابُّهُمْ وَيُلْبَسَ ثِيَابُهُمْ وَيُسْتَعْمَلَ سِلَاحُهُمْ فِي حَالِ الْحَرْبِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ وَشَرَطَ الْأَوْزَاعِيُّ إِذْنَهُ وَخَالَفَ الْبَاقِينَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ أَكْلِ شُحُومِ ذَبَائِحِ الْيَهُودِ وَإِنْ كَانَتْ شُحُومُهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة والجمهور لا كراهة فيها وقال مالك هي مكروهة وقال أشهب وبن الْقَاسِمِ الْمَالِكِيَّانِ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ هِيَ مُحَرَّمَةٌ وَحُكِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حل لكم قَالَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُرَادُ بِهِ الذَّبَائِحُ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهَا شَيْئًا لَا لَحْمًا وَلَا شَحْمًا وَلَا غَيْرَهُ وَفِيهِ حِلُّ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يُخَالِفْ إِلَّا الشِّيعَةُ وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ إِبَاحَتُهَا سَوَاءٌ سَمَّوْا اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهَا أَمْ لَا وَقَالَ قَوْمٌ لَا يَحِلُّ إِلَّا أَنْ يُسَمُّوا اللَّهَ تَعَالَى فَأَمَّا إِذَا ذَبَحُوا عَلَى اسْمِ الْمَسِيحِ أَوْ كَنِيسَةٍ وَنَحْوِهَا فَلَا تَحِلُّ تِلْكَ)(12/102)
الذَّبِيحَةُ عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم فاستحببت منه) بعني لِمَا رَآهُ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى أَخْذِهِ أَوْ لِقَوْلِهِ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شيئا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب كُتُبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (إلى هرقل ملك الشام يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ (هِرَقْلَ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَيُقَالُ هِرْقِلُ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ وَهُوَ اسْمُ علم له ولقبه قصير وَكَذَا كُلُّ مَنْ مَلَكَ الرُّومَ يُقَالُ لَهُ قصير
[1773] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي سُفْيَانَ انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَعْنِي الصُّلْحَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَتِ الْحُدَيْبِيَةُ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ قَوْلُهُ (دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ) هُوَ بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ اخْتُلِفَ فِي الرَّاجِحَةِ مِنْهُمَا وادعى بن السِّكِّيتِ أَنَّهُ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ قَوْلُهُ (عَظِيمُ)(12/103)
بُصْرَى) هِيَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَهِيَ مَدِينَةُ حُورَانَ ذَاتُ قَلْعَةٍ وَأَعْمَالٍ قَرِيبَةٌ مِنْ طَرَفِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي بَيْنَ الشَّامِ وَالْحِجَازِ وَالْمُرَادُ بِعَظِيمِ بُصْرَى أَمِيرُهَا قَوْلُهُ عَنْ هِرَقْلَ (إنَّهُ سَأَلَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلَهُ عَنْهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا سَأَلَ قَرِيبَ النَّسَبِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ وَأَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ فِي نَسَبِهِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ إِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ أَيْ لَا تَسْتَحْيُوا مِنْهُ فَتَسْكُتُوا عَنْ تَكْذِيبِهِ إِنْ كَذَبَ قَوْلُهُ (وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ أَهْوَنَ فِي تَكْذِيبِهِ إِنْ كَذَبَ لِأَنَّ مُقَابَلَتَهُ بِالْكَذِبِ فِي وَجْهِهِ صَعْبَةٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَسْتَقْبِلْهُ قَوْلُهُ (دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ) هُوَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِهَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَهُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ لُغَةٍ بِلُغَةٍ أُخْرَى وَالتَّاءُ فِيهِ أَصْلِيَّةٌ وَأَنْكَرُوا عَلَى الْجَوْهَرِيِّ كَوْنَهُ جَعَلَهَا زَائِدَةً قَوْلُهُ (لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ الْكَذِبُ لَكَذَبْتُ) مَعْنَاهُ لَوْلَا خِفْتُ أَنَّ رُفْقَتِي يَنْقُلُونَ عَنِّي الْكَذِبَ إِلَى قَوْمِي وَيَتَحَدَّثُونَهُ فِي بِلَادِي لَكَذَبْتُ عَلَيْهِ لِبُغْضِي إِيَّاهُ وَمَحَبَّتِي نَقْصَهُ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْكَذِبَ قَبِيحٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا هُوَ قَبِيحٌ فِي الْإِسْلَامِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثُرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ وَهُوَ بِضَمِّ الثَّاءِ وَكَسْرِهَا وَقَوْلُهُ (كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ) أَيْ نَسَبُهُ قَوْلُهُ (فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فَهَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَالِكٍ(12/104)
وَرُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ بكسر الميم وملك بِفَتْحِهَا مَعَ كَسْرِ اللَّامِ وَالثَّانِي مَنْ بِفَتْحِ الميم وملك بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ بِحَذْفِ مِنْ قَوْلُهُ (وَمَنْ يَتْبَعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ) يَعْنِي بِأَشْرَافِهِمْ كِبَارَهُمْ وَأَهْلَ الْأَحْسَابِ فِيهِمْ قَوْلُهُ (سَخْطَةً لَهُ) هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ وَالسَّخَطُ كراهة الشيء وعدم الرضى بِهِ قَوْلُهُ (يَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا) هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ نُوَبًا نَوْبَةٌ لَنَا وَنَوْبَةٌ لَهُ قَالُوا وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُسْتَقِيِينَ بِالسَّجْلِ وَهِيَ الدَّلْوُ الْمَلْأَى يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَجْلٌ قَوْلُهُ (فَهَلْ يَغْدِرُ) هُوَ بِكَسْرِ الدَّالِ وَهُوَ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ قَوْلُهُ وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا يَعْنِي مُدَّةَ الْهُدْنَةِ وَالصُّلْحِ الَّذِي جَرَى يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا) يَعْنِي فِي أَفْضَلِ أَنْسَابِهِمْ وَأَشْرَفِهَا قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ انْتِحَالِهِ الْبَاطِلَ وَأَقْرَبُ إِلَى انْقِيَادِ النَّاسِ لَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الضُّعَفَاءَ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ فَلِكَوْنِ الْأَشْرَافِ يَأْنَفُونَ مِنْ تَقَدُّمِ مِثْلِهِمْ عَلَيْهِمْ وَالضُّعَفَاءُ لَا يَأْنَفُونَ فَيُسْرِعُونَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَأَمَّا سُؤَالُهُ عَنِ الرِّدَّةِ فَلِأَنَّ مَنْ دخل على(12/105)
بَصِيرَةٍ فِي أَمْرٍ مُحَقَّقٍ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ دَخَلَ فِي أَبَاطِيلَ وَأَمَّا سُؤَالُهُ عَنِ الْغَدْرِ فَلِأَنَّ مَنْ طَلَبَ حَظَّ الدُّنْيَا لَا يُبَالِي بِالْغَدْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى ذَلِكَ وَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ لَمْ يَرْتَكِبْ غَدْرًا وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْقَبَائِحِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ) يَعْنِي انشراح الصدور وأصلها اللُّطْفُ بِالْإِنْسَانِ عِنْدَ قُدُومِهِ وَإِظْهَارُ السُّرُورِ بِرُؤْيَتِهِ يُقَالُ بَشَّ بِهِ وَتَبَشْبَشَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ مَعْنَاهُ يَبْتَلِيهِمُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِيَعْظُمَ أَجْرُهُمْ بِكَثْرَةِ صَبْرِهِمْ وَبَذْلِهِمْ وُسْعَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ (قُلْتُ يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ) أَمَّا الصِّلَةُ فَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَذَلِكَ بِالْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَحُسْنِ الْمُرَاعَاةِ وَأَمَّا الْعَفَافُ الْكَفُّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ الْعِفَّةُ الْكَفُّ عَمَّا لَا يحل ولا يحمل يقال عف يعف عفة وَعَفَافًا وَعَفَافَةً وَتَعَفَّفَ وَاسْتَعَفَّ وَرَجُلٌ عَفٌّ وَعَفِيفٌ(12/106)
وَالْأُنْثَى عَفِيفَةٌ وَجَمْعُ الْعَفِيفِ أَعِفَّةٌ وَأَعِفَّاءُ قَوْلُهُ (إِنْ يَكُنْ مَا يَقُولُ حَقًّا إِنَّهُ نَبِيٌّ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ هِرَقْلُ أَخَذَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ فَفِي التَّوْرَاةِ هَذَا أَوْ نَحْوَهُ مِنْ عَلَامَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَهُ بِالْعَلَامَاتِ وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى النُّبُوَّةِ فَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الظَّاهِرَةُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ فَهَكَذَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ) هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَهُوَ أَصَحُّ فِي الْمَعْنَى وَمَعْنَاهُ لَتَكَلَّفْتُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ وَارْتَكَبْتُ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ أُقْتَطَعَ دُونَهُ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ صِدْقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا شَحَّ فِي الْمُلْكِ وَرَغِبَ فِي الرِّيَاسَةِ فَآثَرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ لَوَفَّقَهُ كَمَا وَفَّقَ النَّجَاشِيَّ وَمَا زَالَتْ عَنْهُ الرِّيَاسَةُ وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَوْفِيقَهُ قَوْلُهُ (ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ إثم الأريسيين ويا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبينكم) الْآيَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ جُمَلٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَأَنْوَاعٌ مِنَ الْفَوَائِدِ مِنْهَا 1 دُعَاءُ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ وَهَذَا الدُّعَاءُ وَاجِبٌ وَالْقِتَالُ قَبْلَهُ حَرَامٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَتْ بَلَغَتْهُمْ فَالدُّعَاءُ مُسْتَحَبٌّ هَذَا مَذْهَبُنَا وَفِيهِ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِهَادِ وَمِنْهَا 2 وُجُوبُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ فِي بَعْثِهِ مَعَ دِحْيَةَ فَائِدَةٌ وَهَذَا إِجْمَاعُ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ وَمِنْهَا 3 اسْتِحْبَابُ تَصْدِيرِ الْكِتَابِ(12/107)
بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَإِنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِ كَافِرًا وَمِنْهَا 4 أَنَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فهو أجزم الْمُرَادُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْكِتَابُ كَانَ ذَا بَالٍ بَلْ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الْعِظَامِ وَبَدَأَ فِيهِ بِالْبَسْمَلَةِ دُونَ الْحَمْدِ وَمِنْهَا 5 أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا وَأَنْ يَبْعَثَ بِذَلِكَ إِلَى الْكُفَّارِ وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ الْمُسَافَرَةِ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ أَيْ بِكُلِّهِ أَوْ بِجُمْلَةٍ مِنْهُ وَذَلِكَ أَيْضًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا خِيفَ وُقُوعُهُ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ وَمِنْهَا 6 أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ وَالْكَافِرِ مَسُّ آيَةٍ أَوْ آيَاتٍ يَسِيرَةٍ مَعَ غَيْرِ الْقُرْآنِ وَمِنْهَا 7 أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَالرَّسَائِلِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَبْدَأَ الْكَاتِبُ بِنَفْسِهِ فَيَقُولُ مِنْ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ فِي كِتَابِهِ صِنَاعَةُ الْكِتَابِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ كَمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ رَوَى فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً وَآثَارًا قَالَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ قَالَ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا تَصْدِيرُ الْكِتَابِ وَالْعُنْوَانِ قَالَ وَرَخَّصَ جَمَاعَةٌ فِي أَنْ يَبْدَأَ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ فَيَقُولَ فِي التَّصْدِيرِ وَالْعُنْوَانِ إِلَى فُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَبَدَأَ باسم معاوية وعن محمد بن الْحَنَفِيَّةِ وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَالَ وَأَمَّا الْعُنْوَانُ فَالصَّوَابُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ إِلَى فُلَانٍ وَلَا يَكْتُبَ لِفُلَانٍ لِأَنَّهُ إِلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا عَلَى مَجَازٍ قَالَ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمِنْهَا 8 التَّوَقِّي فِي الْمُكَاتَبَةِ وَاسْتِعْمَالُ الْوَرَعِ فِيهَا فَلَا يُفْرِطُ وَلَا يُفَرِّطُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ فَلَمْ يَقُلْ مَلِكِ الرُّومِ لِأَنَّهُ لَا مُلْكَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ إِلَّا بِحُكْمِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ وَلَّاهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ وَلَّاهُ مَنْ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا يَنْفُذُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْكُفَّارِ مَا تُنْفِذُهُ الضَّرُورَةُ وَلَمْ يَقُلْ إِلَى هِرَقْلَ فَقَطْ بَلْ أَتَى بِنَوْعٍ مِنَ الْمُلَاطَفَةِ فَقَالَ عَظِيمِ الرُّومِ أَيِ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ وَيُقَدِّمُونَهُ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِلَانَةِ الْقَوْلِ لِمَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ تَعَالَى ادْعُ إِلَى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وقال تعالى فقولا له قولا لينا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَمِنْهَا 9 اسْتِحْبَابُ الْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ وَتَحَرِّي الْأَلْفَاظِ الْجَزْلَةِ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْلِمْ تَسْلَمْ فِي نِهَايَةٍ مِنَ الِاخْتِصَارِ وَغَايَةٍ مِنَ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ وَجَمْعِ الْمَعَانِي مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَدِيعِ التَّجْنِيسِ وَشُمُولِهِ لِسَلَامَتِهِ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا بِالْحَرْبِ وَالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ وَأَخْذِ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ(12/108)
10 - أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ هُنَا وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ منهم رجل من أهل الكتاب الحديث 11 الْبَيَانُ الْوَاضِحُ أَنَّ مَنْ كَانَ سَبَبًا لِضَلَالَةٍ أَوْ سَبَبَ مَنْعٍ مِنْ هِدَايَةٍ كَانَ آثِمًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أثقالهم 12 وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ أَمَّا بَعْدُ فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ لِهَذِهِ بَابًا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ ذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى فِي مُسْلِمٍ الْأَرِيسِيِّينَ وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ وَفِي كُتُبِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَعَلَى هَذَا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ عَلَى أَوْجُهٍ أَحَدُهَا بِيَاءَيْنِ بَعْدَ السِّينِ وَالثَّانِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ السِّينِ وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْهَمْزَةُ مَفْتُوحَةٌ وَالرَّاءُ مَكْسُورَةٌ مُخَفَّفَةٌ وَالثَّالِثُ الْإِرِّيسِينَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الراء وبيان وَاحِدَةٍ بَعْدَ السِّينِ وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي مُسْلِمٍ وَفِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إِثْمَ الْيَرِيسِيِّينَ بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِيَاءَيْنِ بَعْدَ السِّينِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا أَنَّهُمُ الْأَكَّارُونَ أَيِ الْفَلَّاحُونَ وَالزَّرَّاعُونَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ رَعَايَاكَ الَّذِينَ يَتْبَعُونَكَ وَيَنْقَادُونَ بِانْقِيَادِكَ وَنَبَّهَ بِهَؤُلَاءِ عَلَى جَمِيعِ الرَّعَايَا لِأَنَّهُمُ الْأَغْلَبُ وَلِأَنَّهُمْ أَسْرَعُ انْقِيَادًا فَإِذَا أَسْلَمَ أَسْلَمُوا وَإِذَا امْتَنَعَ امْتَنَعُوا وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةٍ رُوِّينَاهَا فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ وَفِي غَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَكَّارِينَ وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَإِلَّا فَلَا يَحُلْ بَيْنَ الْفَلَّاحِينَ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ وَفِي رواية بن وَهْبٍ وَإِثْمُهُمْ عَلَيْكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْفَلَّاحِينَ الزَّرَّاعِينَ خَاصَّةً بَلِ الْمُرَادُ بِهِمْ جَمِيعُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ الثَّانِي أَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَهُمْ أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرِيسٍ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْأَرُوسِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى وَلَهُمْ مَقَالَةٌ فِي كُتُبِ الْمَقَالَاتِ وَيُقَالُ لَهُمْ الْأَرُوسِيَّونَ الثَّالِثُ أَنَّهُمُ الْمُلُوكُ الَّذِينَ(12/109)
يَقُودُونَ النَّاسَ إِلَى الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ) وَهُوَ بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ بِدَعْوَتِهِ وَهِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا أَدْعُوكَ بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْأُولَى وَمَعْنَاهَا الْكَلِمَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ قَالَ الْقَاضِي وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَاعِيَةٌ هُنَا بِمَعْنَى دَعْوَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ليس لها من دون الله كاشفة أَيْ كَشْفٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) هَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ لَا يُبْتَدَأُ الْكَافِرُ بِالسَّلَامِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ كَافِرًا بِالسَّلَامِ وَأَجَازَهُ كَثِيرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَهَذَا مَرْدُودٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَسَتَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ لِاسْتِئْلَافٍ أَوْ لِحَاجَةٍ إِلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ (وَكَثُرَ اللَّغَطُ) هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَإِسْكَانِهَا وَهِيَ الْأَصْوَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ قَوْلُهُ (لَقَدْ أمر أمر بن أَبِي كَبْشَةَ) أَمَّا أَمِرَ فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الميم أي عظم وأما قوله بن أَبِي كَبْشَةَ فَقِيلَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ كَانَ يَعْبُدُ الشِّعْرَى وَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ فِي عِبَادَتِهَا فَشَبَّهُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي دِينِهِمْ كَمَا خَالَفَهُمْ أَبُو كَبْشَةَ رُوِّينَا عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ فِي كِتَابِ الْأَنْسَابِ قَالَ لَيْسَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ عَيْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ مُجَرَّدَ التَّشْبِيهِ وَقِيلَ إِنَّ أَبَا كَبْشَةَ جَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم من قبل أمه قال بن قُتَيْبَةَ وَكَثِيرُونَ وَقِيلَ هُوَ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى السَّعْدِيُّ حَكَاهُ بن بَطَّالٍ وَآخَرُونَ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ أَبُو الحسن الجرجاني التشابه إنما قالوا بن أَبِي كَبْشَةَ عَدَاوَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسَبُوهُ إِلَى نَسَبٍ لَهُ غَيْرِ نَسَبِهِ الْمَشْهُورِ إِذْ لَمْ يُمْكِنُهُمُ الطَّعْنُ فِي نَسَبِهِ الْمَعْلُومِ الْمَشْهُورِ قَالَ وَقَدْ كَانَ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ جَدُّهُ أَبُو آمِنَةَ يُكَنَّى أَبَا كَبْشَةَ وَكَذَلِكَ عَمْرُو بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسَدٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ أَبُو سَلْمَى أُمِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ يُدْعَى أَبَا كَبْشَةَ قَالَ وَكَانَ فِي أَجْدَادِهِ أَيْضًا مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ أَبُو كَبْشَةَ وَهُوَ أَبُو قَبِيلَةِ أُمِّ وَهْبِ بن عبد مناف أبو آمِنَةَ أُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خُزَاعِيٌّ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَعْبُدُ الشِّعْرَى وَكَانَ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ يُدْعَى أَبَا كَبْشَةَ وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى السَّعْدِيُّ قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ مِثْلَ هَذَا كُلِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ حبيب(12/110)
البغدادي وزاد بن مَاكُولَا فَقَالَ وَقِيلَ أَبُو كَبْشَةَ عَمُّ وَالِدِ حَلِيمَةَ مُرْضِعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ) بَنُو الْأَصْفَرِ هم الروم قال بن الْأَنْبَارِيِّ سُمُّوا بِهِ لِأَنَّ جَيْشًا مِنَ الْحَبَشَةِ غَلَبَ عَلَى بِلَادِهِمْ فِي وَقْتٍ فَوَطِئَ نِسَاءَهُمْ فَوَلَدْنَ أَوْلَادًا صُفْرًا مِنْ سَوَادِ الْحَبَشَةِ وَبَيَاضِ الرُّومِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيُّ نُسِبُوا إِلَى الْأَصْفَرِ بْنِ الرُّومِ بْنِ عِيصُو بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي هَذَا أَشْبَهُ مِنْ قَوْلِ بن الْأَنْبَارِيِّ قَوْلُهُ (مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللَّهُ) أَمَّا حِمْصُ فَغَيْرُ مصروفة لأنها مؤنثة علم عجمية وَأَمَّا إِيلِيَاءُ فَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ أَشْهَرُهَا إِيلِيَاءُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ بَيْنَهُمَا وَبِالْمَدِّ وَالثَّانِيَةُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهَا بِالْقَصْرِ وَالثَّالِثَةُ إِلْيَاءُ بِحَذْفِ الْيَاءِ الْأُولَى وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَبِالْمَدِّ حَكَاهُنَّ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَآخَرُونَ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي يعلى الموصلي في سند بن عَبَّاسٍ الْإِيلِيَاءُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ قِيلَ مَعْنَاهُ بَيْتُ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللَّهُ فَمَعْنَاهُ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ وَأَنَالَهُ إِيَّاهُ وَيُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَ اللَّهُ تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة والله أعلم(12/111)
(بَاب كُتُبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ملوك الكفار (يدعوهم إلى الإسلام قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ) هُوَ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى مَعْنٍ وَقَالَ السَّمْعَانِيُّ هُوَ مِنْ وَلَدِ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مُسْلِمٌ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ مُسْلِمٌ حَدَّثَنِيهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ أَخْبَرَنِي خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ) هَذِهِ الْأَسَانِيدُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ بَصْرِيٌّ بَغْدَادِيٌّ وَلَا يَنْقُضُ هَذَا مَا ذَكَرْتُهُ وَفِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي تَصْرِيحُ قَتَادَةَ بِالسَّمَاعِ مِنْ أَنَسٍ فَزَالَ مَا يُخَافُ مِنْ لَبْسِهِ لَوِ اقْتُصِرَ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ
[1774] إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَإِلَى قَيْصَرَ وَإلَى النَّجَاشِيِّ وَإِلَى كُلِ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَمَّا كِسْرَى فَبِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ)(12/112)
مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَقَيْصَرُ لَقَبُ مَنْ مَلَكَ الروم والنجاشي لكل من ملك الحبشة وخاقان لكل من ملك الترك وفرعون لكل من ملك القبط والعزيز لكل من ملك مصر وتبع لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ حِمْيَرَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ مُكَاتَبَةِ الْكُفَّارِ وَدُعَاؤِهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْعَمَلُ بِالْكِتَابِ وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَابُ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ حُنَيْنٌ وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَرَاءَ عَرَفَاتٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلًا وَهُوَ مَصْرُوفٌ كَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ
[1775] قوله (قال بن عَبَّاسٌ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَزِمْتُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ نُفَارِقْهُ) أبو سفيان هذا هو بن عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ اسْمُهُ هُوَ كُنْيَتُهُ وَقَالَ آخَرُونَ اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ وَمِمَّنْ قَالَهُ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَغَيْرُهُمْ وَفِي هَذَا عَطْفُ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَذَبُّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ قَوْلُهُ (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجُذَامِيُّ) أَمَّا قَوْلُهُ بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ فَكَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَرِوَايَةٍ أُخْرَى بَعْدَهَا إِنَّهَا بَغْلَةٌ بَيْضَاءُ وَقَالَ فِي آخِرِ الْبَابِ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ وَهِيَ وَاحِدَةٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ لَا يُعْرَفُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ سِوَاهَا وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا دُلْدُلُ وَأَمَّا قَوْلُهُ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ فَهُوَ بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مُخَفَّفَةٍ ثُمَّ أَلِفٍ ثُمَّ ثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ فَرْوَةُ بْنُ نَعَامَةَ بِالْعَيْنِ وَالْمِيمِ)(12/113)
وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفُوا فِي إِسْلَامِهِ فَقَالَ الطَّبَرِيُّ أَسْلَمَ وَعَمَّرَ عُمْرًا طَوِيلًا وَقَالَ غَيْرُهُمْ لَمْ يُسْلِمْ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الَّذِي أَهْدَاهَا لَهُ مَلِكُ أَيْلَةَ وَاسْمُ ملك أيله فيما ذكره بن إِسْحَاقَ يَحْنَةُ بْنُ رَوْبَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ قَبُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةَ الْكَافِرِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ هدايا العمال غلول مع حديث بن اللُّتْبِيَّةِ عَامِلِ الصَّدَقَاتِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ رَدَّ بَعْضَ هَدَايَا الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ إِنَّا لَا نَقْبَلُ زَبَدَ الْمُشْرِكِينَ أَيْ رَفْدُهُمْ فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ نَاسِخَةٌ لِقَبُولِ الْهَدِيَّةِ قَالَ وَقَالَ الْجُمْهُورُ لَا نَسْخَ بَلْ سَبَبُ الْقَبُولِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصٌ بِالْفَيْءِ الْحَاصِلِ بِلَا قِتَالٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَقَبِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ طَمِعَ فِي إِسْلَامِهِ وَتَأْلِيفِهِ لِمَصْلَحَةٍ يَرْجُوهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَكَافَأَ بَعْضَهُمْ وَرَدَّ هَدِيَّةَ مَنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي إِسْلَامِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي قَبُولِهَا مَصْلَحَةٌ لِأَنَّ الْهَدِيَّةَ تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَالْمَوَدَّةَ وَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعُمَّالِ وَالْوُلَاةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ قَبُولُهَا لِنَفْسِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَإِنْ قَبِلَهَا كَانَتْ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يُهْدِهَا إِلَيْهِ إِلَّا لِكَوْنِهِ إِمَامَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ هُوَ مُحَاصِرُهُمْ فَهِيَ غَنِيمَةٌ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا قول الأوزاعي ومحمد بن الحسن وبن القاسم وبن حبيب وحكاه بن حَبِيبٍ عَمَّنْ لَقِيَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ لِلْإِمَامِ خَالِصَةٌ بِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَأَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ وَقَالَ الطَّبَرِيُّ إِنَّمَا رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَدَايَا الْمُشْرِكِينَ مَا عَلِمَ أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَقِيلَ مَا كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ اسْتِئْلَافُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ قَالَ وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ بَعْدُ إِجْرَاؤُهَا مَجْرَى مَالِ الْكُفَّارِ مِنَ الْفَيْءِ أَوِ الْغَنِيمَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحَالِ وَهَذَا مَعْنَى هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ أَيْ إِذَا خَصُّوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّهَا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِحُكْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ إِنَّمَا قَبِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَايَا كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّنْ كَانَ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ كَالْمُقَوْقِسِ وَمُلُوكِ الشَّامِ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقْبَلُ زَبَدُ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أُبِيحَ لَنَا ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُنَاكَحَتُهُمْ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَقَالَ أَصْحَابُنَا مَتَى أَخَذَ الْقَاضِي أَوِ الْعَامِلُ هَدِيَّةً مُحَرَّمَةً لَزِمَهُ رَدُّهَا إِلَى مُهْدِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ رُكُوبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَغْلَةَ فِي مَوْطِنِ الْحَرْبِ وَعِنْدَ اشْتِدَادِ النَّاسِ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ(12/114)
وَلِأَنَّهُ أَيْضًا يَكُونُ مُعْتَمَدًا يَرْجِعُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِهِ وَبِمَكَانِهِ وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا عَمْدًا وَإِلَّا فَقَدْ كَانَتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَاسٌ مَعْرُوفَةٌ وَمِمَّا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ شَجَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَدُّمُهُ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ إِلَى جَمْعِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ فَرَّ النَّاسُ عَنْهُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ حِينَ غَشَوْهُ وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الثَّبَاتِ وَالشَّجَاعَةِ وَالصَّبْرِ وَقِيلَ فَعَلَ ذَلِكَ مُوَاسَاةً لِمَنْ كَانَ نَازِلًا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَخْبَرَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِشُجَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ إِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا الَّذِي يُحَاذِي بِهِ وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَّقُونَ بِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ) هِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي بَايَعُوا تَحْتَهَا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَمَعْنَاهُ نَادِ أَهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَوْلُهُ (فَقَالَ عَبَّاسٌ وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا) ذَكَرَ الْحَازِمِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ أَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى سَلْعٍ فَيُنَادِي غِلْمَانَهُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَهُمْ فِي الْغَابَةِ فَيُسْمِعُهُمْ قَالَ وَبَيْنَ سَلْعٍ والْغَابَةِ ثَمَانِيَةُ أَمْيَالٍ قَوْلُهُ (فو الله لَكَأَنَّ عَطَفْتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةَ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا فَقَالُوا يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِرَارَهُمْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الْفِرَارُ مِنْ جَمِيعِهِمْ وَإِنَّمَا فَتَحَهُ عَلَيْهِمْ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْ مُسْلِمَةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُؤَلَّفَةِ وَمُشْرِكِيهَا الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا وَإِنَّمَا كَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ فَجْأَةً لِانْصِبَابِهِمْ عَلَيْهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَرَشْقِهِمْ بِالسِّهَامِ وَلِاخْتِلَاطِ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ وَمِمَّنْ يَتَرَبَّصُ بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِرَ وَفِيهِمْ نِسَاءٌ وَصِبْيَانُ خَرَجُوا لِلْغَنِيمَةِ فَتَقَدَّمَ إِخْفَاؤُهُمْ فَلَمَّا رَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ وَلَّوْا فَانْقَلَبَتْ أُولَاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سَكِينَتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَكَرَ(12/115)
اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ وَهُوَ بِنَصْبِ الْكُفَّارِ أَيْ مَعَ الْكُفَّارِ قَوْلُهُ (وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ) هِيَ بِفَتْحِ الدَّالِ يَعْنِي الِاسْتِغَاثَةَ وَالْمُنَادَاةَ إِلَيْهِمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ هُوَ شِبْهُ التَّنُّورِ يُسْجَرُ فِيهِ وَيُضْرَبُ مَثَلًا لِشِدَّةِ الْحَرْبِ الَّتِي يُشْبِهُ حَرُّهَا حَرَّهُ وَقَدْ قَالَ آخَرُونَ الْوَطِيسُ هُوَ التَّنُّورُ نَفْسُهُ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ هِيَ حِجَارَةٌ مُدَوَّرَةٌ إِذَا حَمِيَتْ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ يَطَأُ عَلَيْهَا فَيُقَالُ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ وَقِيلَ هُوَ الضَّرْبُ فِي الْحَرْبِ وَقِيلَ هُوَ الْحَرْبُ الَّذِي يَطِيسُ النَّاسُ أَيْ يَدُقُّهُمْ قَالُوا وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَدِيعِهِ الَّذِي لَمْ يُسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (فَرَمَاهُمْ بِالْحَصَيَاتِ ثُمَّ قَالَ انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا) هَذَا فِيهِ مُعْجِزَتَانِ ظَاهِرَتَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَاهُمَا فِعْلِيَّةٌ وَالْأُخْرَى خَبَرِيَّةٌ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِهَزِيمَتِهِمْ وَرَمَاهُمْ بِالْحَصَيَاتِ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهَا وُجُوهَهُمْ فَقَالَ شَاهَتِ الْوُجُوهُ فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ مُعْجِزَتَانِ خَبَرِيَّةٌ وَفِعْلِيَّةٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَذَ قَبْضَةً مِنْ حَصًى وَقَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَرَمَى بِذَا مَرَّةً وَبِذَا مَرَّةً وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَذَ قَبْضَةً وَاحِدَةً(12/116)
مَخْلُوطَةً مِنْ حَصًى وَتُرَابٍ قَوْلُهُ (فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مَا زِلْتُ أَرَى قُوَّتَهُمْ ضَعِيفَةً
[1776] قَوْلُهُ (قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ يَا أَبَا عُمَارَةَ فَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلَاحٌ) هَذَا الْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَ بِهِ الْبَرَاءُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ بَدِيعِ الْأَدَبِ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ فَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَافَقَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْبَرَاءُ لَا وَاللَّهِ مَا فَرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ جَرَى لَهُمْ كَذَا وَكَذَا وَأَمَّا قَوْلُهُ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ فَهُوَ بِالشِّينِ وَآخِرُهُ نُونٌ جَمْعُ شَابٍّ وَقَوْلُهُ أَخِفَّاؤُهُمْ جَمْعُ خَفِيفٍ وَهُمُ الْمُسَارِعُونَ الْمُسْتَعْجِلُونَ وَوَقَعَ هَذَا الْحَرْفُ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَالْهَرَوِيِّ وَغَيْرِهِمْ جُفَاءً بِجِيمٍ مضمومة(12/117)
وَبِالْمَدِّ وَفَسَّرَهُ بِسُرْعَانِهِمْ قَالُوا تَشْبِيهًا بِجَفَاءِ السَّيْلِ وهو غثاؤه قال القاضي رضي الله تعالى عَنْهُ إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَمَعْنَاهَا مَا سَبَقَ مِنْ خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنِ انْضَافَ إِلَيْهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَعِدُّوا وَإِنَّمَا خَرَجَ لِلْغَنِيمَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ فَشَبَّهَهُ بِغُثَاءِ السَّيْلِ وأما قوله حسرا فهو بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ بِغَيْرِ دُرُوعٍ وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلَاحٌ والحاسر مَنْ لَا دِرْعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ مَصْدَرٌ وَأَمَّا الرِّشْقُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ اسْمٌ لِلسِّهَامِ الَّتِي تَرْمِيهَا الْجَمَاعَةُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَضَبَطَ الْقَاضِي الرِّوَايَةَ هُنَا بِالْكَسْرِ وَضَبَطَهُ غَيْرُهُ بِالْفَتْحِ كَمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا وَهُوَ الْأَجْوَدُ وَإِنْ كَانَا جَيِّدَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فَرَمَوْهُ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ فَهُوَ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قال أهل اللغة يقال رشقه يرشقه وأرشقه ثُلَاثِيٌّ وَرُبَاعِيٌّ وَالثُّلَاثِيُّ أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ قَوْلُهُ (فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ) أَيْ دَعَا فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ قِيَامِ الْحَرْبِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنا النبي لا كذب أنا بن عَبْدِ الْمُطَّلِبْ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ الْمَازِرِيُّ أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ كَوْنَ الرَّجَزِ شِعْرًا لِوُقُوعِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى ومَا عَلَّمْنَاهُ الشَّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي له وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَاحْتُجَّ بِهِ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْخَلِيلِ فِي أَنَّهُ شِعْرٌ وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ الشِّعْرَ هُوَ مَا قُصِدَ إِلَيْهِ وَاعْتَمَدَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُوقِعَهُ مَوْزُونًا مُقَفًّى يَقْصِدُهُ إِلَى الْقَافِيَةِ وَيَقَعُ فِي أَلْفَاظِ الْعَامَّةِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَوْزُونَةِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إِنَّهَا شِعْرٌ وَلَا صَاحِبُهَا شَاعِرٌ وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوْزُونِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَنْ تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وَقَوْلِهِ تَعَالَى نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يُسَمِّيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ شِعْرًا لِأَنَّهُ لَمْ تُقْصَدْ تَقْفِيَتُهُ وجعله شعرا(12/118)
قَالَ وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فَأَوْقَعَهُ ذَلِكَ فِي أَنْ قَالَ الرِّوَايَةُ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ بِفَتْحِ الْبَاءِ حِرْصًا مِنْهُ عَلَى أَنْ يُفْسِدَ الرَّوِيَّ فَيَسْتَغْنِيَ عَنِ الِاعْتِذَارِ وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي عَنِ الْمَازِرِيِّ قُلْتُ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ السَّعْدِيُّ الصَّقَلِّيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَطَّاعِ فِي كتابه الشافي في علم القوافي قد رأي قَوْمٍ مِنْهُمُ الْأَخْفَشُ وَهُوَ شَيْخُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ بَعْدَ الْخَلِيلِ أَنَّ مَشْطُورَ الرَّجَزِ وَمَنْهُوكَهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ وَقَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وسلم هل أنت إلا أصبع دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا النَّبِيُّ لَا كذب أنا بن عبد المطلب وأشباه هذا قال بن الْقَطَّاعِ وَهَذَا الَّذِي زَعَمَهُ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ غَلَطٌ بَيِّنٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّاعِرَ إِنَّمَا سُمِّيَ شَاعِرًا لِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّهُ شَعَرَ الْقَوْلَ وَقَصَدَهُ وَأَرَادَهُ وَاهْتَدَى إِلَيْهِ وَأَتَى بِهِ كَلَامًا مَوْزُونًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ مُقَفًّى فَإِنْ خَلَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَوْ بَعْضِهَا لَمْ يَكُنْ شِعْرًا وَلَا يَكُونُ قَائِلُهُ شَاعِرًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ كَلَامًا مَوْزُونًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ وَقَصَدَ الشِّعْرَ أَوْ أَرَادَهُ وَلَمْ يُقَفِّهِ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ الْكَلَامُ شِعْرًا وَلَا قَائِلُهُ شَاعِرًا بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَكَذَا لَوْ قَفَّاهُ وَقَصَدَ بِهِ الشِّعْرَ وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ مَوْزُونًا لَمْ يَكُنْ شِعْرًا وَكَذَا لَوْ أَتَى بِهِ مَوْزُونًا مُقَفًّى لَكِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشِّعْرَ لَا يَكُونُ شِعْرًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَأْتُونَ بِكَلَامٍ مَوْزُونٍ مُقَفًّى غَيْرَ أَنَّهُمْ مَا قَصَدُوهُ وَلَا أَرَادُوهُ وَلَا يُسَمَّى شِعْرًا وَإِذَا تُفُقِّدَ ذَلِكَ وُجِدَ كَثِيرًا فِي كَلَامِ النَّاسِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السُّؤَّالِ اخْتِمُوا صَلَاتَكُمْ بِالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْمَوْزُونَ لَا يَكُونُ شِعْرًا إِلَّا بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْقَصْدُ وَغَيْرُهُ مِمَّا سَبَقَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ بِكَلَامِهِ ذَلِكَ الشِّعْرَ وَلَا أَرَادَهُ فَلَا يُعَدُّ شِعْرًا وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَانْتَسَبَ إِلَى جَدِّهِ دُونَ أَبِيهِ وَافْتَخَرَ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ الِافْتِخَارَ فِي حَقِّ أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ شُهْرَتُهُ بِجَدِّهِ أَكْثَرَ لِأَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ تُوُفِّيَ شَابًّا فِي حَيَاةِ أَبِيهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَبْلَ اشْتِهَارِ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مَشْهُورًا شُهْرَةً ظاهرة شائعة وكان سيد أهل مكة وكان كثير من الناس يدعون النبي صلى الله عليه وسلم بن عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَنْسُبُونَهُ إِلَى جَدِّهِ لِشُهْرَتِهِ وَمِنْهُ حَدِيثُ هَمَّامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي قَوْلِهِ أَيُّكُمُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَدْ كَانَ مُشْتَهِرًا عِنْدَهُمْ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بُشِّرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ سَيَظْهَرُ وَسَيَكُونُ شَأْنُهُ عَظِيمًا وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَهَ بِذِلْكَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ وَقِيلَ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ رَأَى(12/119)
رُؤْيَا تَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْكِيرَهُمْ بِذَلِكَ وَتَنْبِيهَهُمْ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُ لِتَقْوَى نُفُوسُهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ أَيْضًا بِأَنَّهُ ثَابِتٌ مُلَازِمٌ لِلْحَرْبِ لَمْ يُوَلِّ مَعَ مَنْ وَلَّى وَعَرَّفَهُمْ مَوْضِعَهُ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ الرَّاجِعُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَيْ أَنَا النَّبِيُّ حَقًّا فَلَا أَفِرُّ وَلَا أَزُولُ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ فِي الْحَرْبِ أَنَا فلان وأنا بن فلان ومثله قول سلمة أنا بن الْأَكْوَعِ وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَقَدْ صَرَّحَ بِجَوَازِهِ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَفِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالُوا وَإِنَّمَا يُكْرَهُ قَوْلُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِافْتِخَارِ كَفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِيُّ) هُوَ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ وَالْمِصِّيصِيُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ الْأُولَى هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَيُقَالُ أَيْضًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ قَوْلُهُ (فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ يَعْنِي كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنْ جَرَادٍ وَكَأَنَّهَا شُبِّهَتْ بِرِجْلِ الْحَيَوَانِ لِكَوْنِهَا قِطْعَةً مِنْهُ قَوْلُهُ (بِرِشْقٍ) هُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا قَوْلُهُ (فَانْكَشَفُوا) أَيِ انْهَزَمُوا وَفَارَقُوا مَوَاضِعَهُمْ وَكَشَفُوهَا قَوْلُهُ (كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ البأس نتقى به وإن الشجاع منا للذي(12/120)
يُحَاذِي بِهِ) احْمِرَارُ الْبَأْسِ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْحَرْبِ وَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِحُمْرَةِ الدِّمَاءِ الْحَاصِلَةِ فِيهَا فِي الْعَادَةِ أَوْ لِاسْتِعَارِ الْحَرْبِ وَاشْتِعَالِهَا كَاحْمِرَارِ الْجَمْرِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ حَمِيَ الْوَطِيسُ وَفِيهِ بَيَانُ شَجَاعَتِهِ(12/121)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(وَعِظَمِ وُثُوقِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا إِلَى قَوْلِهِ مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْهَزِمًا فَقَالَ لَقَدْ رجع بن الْأَكْوَعِ فَزِعًا) قَالَ الْعُلَمَاءُ قَوْلُهُ مُنْهَزِمًا حَالٌ من بن الْأَكْوَعِ كَمَا صَرَّحَ أَوَّلًا بِانْهِزَامِهِ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْهَزَمَ وَقَدْ قَالَتِ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْهَزَمَ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّهُ انْهَزَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ وَقَدْ نَقَلُوا إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ انْهِزَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ الْعَبَّاسُ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذَيْنِ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ يَكُفَّانِهَا عَنْ إِسْرَاعِ التَّقَدُّمِ إِلَى الْعَدُوِّ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْبَرَاءُ فِي حَدِيثِهِ السَّابِقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1777] (شَاهَتِ الْوُجُوهُ) أَيْ قَبُحَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ)
(بَاب عزوة الطَّائِفِ
[1778] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَعْمَى الشَّاعِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ)(12/122)
حَاصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ الطائف) هكذا هو فِي نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمرو بفتح العين وهو بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ الْقَاضِي كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْجُلُودِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْأُصُولِ عَنِ بن مَاهَانَ قَالَ وَقَالَ الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ صوابه بن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَذَا ذكره البخاري وكذا صوبه الدارقطني وذكر بن أَبِي شَيْبَةَ الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ثم قال أن بن عُقْبَةَ حَدَّثَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَدْ ذَكَرَ خَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ في كتاب الأطراف في مسند بن عمر ثم في مسند بن عَمْرٍو وَأَضَافَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَى الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمِيعًا وَأَنْكَرُوا هَذَا عَلَى خَلَفٍ وَذَكَرَهُ أَبُو مسعود الدمشقي في الأطراف عن بن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ فِي مُسْنَدِ بن عُمَرَ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي كُتُبِ الْأَدَبِ عَنْ قُتَيْبَةَ وَأَخْرَجَهُ هُوَ ومسلم جميعا في المغازى عن بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ وَالْحَدِيثُ مِنْ حَدِيثِ بن عُيَيْنَةَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ هَكَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِالشَّكِّ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبُرْقَانِيُّ الْأَصَحُّ بن عمر بن الخطاب قال وكذا أخرجه بن مسعود في مسند بن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ وَلَيْسَ لِأَبِي العباس هذا في مسند بن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَقَدْ ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ فِي كتاب السير عن بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَطْ
[1778] قَوْلُهُ (حَاصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ الطَّائِفِ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَقَالَ إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ أَصْحَابُهُ نَرْجِعُ وَلَمْ نفتتحه فَقَالَ اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ فَغَدَوْا عَلَيْهِ فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ(12/123)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
()
مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَدَ الشَّفَقَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَالرِّفْقَ بِهِمْ بِالرَّحِيلِ عَنِ الطَّائِفِ لِصُعُوبَةِ أَمْرِهِ وَشِدَّةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ فِيهِ وَتَقْوِيَتِهِمْ بِحِصْنِهِمْ مع أنه صلى الله عليه وسلم علم أورجى أَنَّهُ سَيَفْتَحُهُ بَعْدَ هَذَا بِلَا مَشَقَّةٍ كَمَا جَرَى فَلَمَّا رَأَى حِرْصَ أَصْحَابِهِ عَلَى الْمُقَامِ وَالْجِهَادِ أَقَامَ وَجَدَّ فِي الْقِتَالِ فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الْجِرَاحُ رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ قَصَدَهُ أَوَّلًا مِنَ الرِّفْقِ بِهِمْ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ لِمَا رَأَوْا مِنَ الْمَشَقَّةِ الظَّاهِرَةِ وَلَعَلَّهُمْ نَظَرُوا فَعَلِمُوا أَنَّ رَأْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرْكُ وَأَنْفَعُ وَأَحْمَدُ عَاقِبَةً وَأَصْوَبُ مِنْ رَأْيِهِمْ فَوَافَقُوا عَلَى الرَّحِيلِ وَفَرِحُوا فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا مِنْ سُرْعَةِ تَغَيُّرِ رَأْيِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ)
(بَاب غَزْوَةِ بَدْرٍ قَوْلُهُ
[1779] (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا لَأَخَضْنَاهَا) قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا قَصَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِبَارَ الْأَنْصَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ لِلْقِتَالِ وَطَلَبِ الْعَدُوِّ وَإِنَّمَا بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّنْ يَقْصِدُهُ فَلَمَّا عَرَضَ الْخُرُوجَ لِعِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ فَأَجَابُوهُ أَحْسَنَ جَوَابٍ بِالْمُوَافَقَةِ التَّامَّةِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ وَغَيْرِهَا وَفِيهِ اسْتِشَارَةُ الْأَصْحَابِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَالْخِبْرَةِ قَوْلُهُ أَنْ نُخِيضَهَا يَعْنِي الْخَيْلَ وَقَوْلُهُ بَرْكَ الْغِمَادِ أَمَّا بَرْكُ فَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَرِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي)(12/124)
عَنْ رِوَايَةِ الْمُحَدِّثِينَ قَالَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ صَوَابُهُ كَسْرُ الرَّاءِ قَالَ وَكَذَا قَيَّدَهُ شُيُوخُ أَبِي ذَرٍّ فِي الْبُخَارِيِّ كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ هُوَ بِالْفَتْحِ لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ قَالَ وَوَقَعَ لِلْأَصِيلِيِّ وَالْمُسْتَمْلِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْحَمَوِيِّ بِالْكَسْرِ قُلْتُ وَذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الرَّاءَ سَاكِنَةٌ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنِ الْأَصِيلِيِّ أَنَّهُ ضَبَطَهُ بِإِسْكَانِهَا وَفَتْحِهَا وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ وَأَمَّا الْغِمَادُ فَبِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَمَضْمُومَةٍ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ لَكِنَّ الْكَسْرَ أَفْصَحُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَالضَّمُّ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَحَكَى صاحب المشارق والمطالع الوجهين عن بن دُرَيْدٍ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشَّرْحِ ضَبَطْنَاهُ في الصحيحين بالكسر قال وحكى بن دُرَيْدٍ فِيهِ الضَّمَّ وَالْكَسْرَ وَقَالَ الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ فِي أَسْمَاءِ الْأَمَاكِنِ هُوَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَيُقَالُ بِضَمِّهَا قَالَ وَقَدْ ضَبَطَهُ بن الْفُرَاتِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ بِالضَّمِّ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا سَمِعْتُهُ مِنَ الْمَشَايِخِ بِالْكَسْرِ قَالَ وَهُوَ مَوْضِعٌ مِنْ وَرَاءِ مَكَّةَ بِخَمْسِ لَيَالٍ بِنَاحِيَةِ السَّاحِلِ وَقِيلَ بَلْدَتَانِ هَذَا قَوْلُ الْحَازِمِيِّ وَقَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ هُوَ مَوْضِعٌ بِأَقَاصِي هَجَرَ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ بَرْكُ الْغِمَادِ وَسَعَفَاتُ هَجَرَ كِنَايَةٌ يُقَالُ فِيمَا تَبَاعَدَ قَوْلُهُ (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ انْصَرَفَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَضْرِبُوهُ إِذَا صَدَقَكُمْ وَتَتْرُكُوهُ إِذَا(12/125)
كَذَبَكُمْ) مَعْنَى انْصَرَفَ سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَخْفِيفِهَا إِذَا عَرَضَ أَمْرٌ فِي أَثْنَائِهَا وَهَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ تَضْرِبُوهُ وَتَتْرُكُوهُ بِغَيْرِ نُونٍ وَهِيَ لُغَةٌ سَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ أَعْنِي حَذْفَ النُّونِ بِغَيْرِ نَاصِبٍ وَلَا جَازِمٍ وَفِيهِ جَوَازُ ضَرْبِ الْكَافِرِ الَّذِي لَا عَهْدَ لَهُ وَإِنْ كَانَ أَسِيرًا وَفِيهِ مُعْجِزَتَانِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ إِحْدَاهُمَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَصْرَعِ جَبَابِرَتِهِمْ فَلَمْ يَنْفُذْ أَحَدٌ مَصْرَعَهُ الثَّانِيَةُ إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْغُلَامَ الَّذِي كَانُوا يَضْرِبُونَهُ يَصْدُقُ إِذَا تَرَكُوهُ وَيَكْذِبُ إِذَا ضَرَبُوهُ وَكَانَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ والله أعلم قوله (فماط أَحَدُهُمْ) أَيْ تَبَاعَدَ
(بَاب فَتْحِ مَكَّةَ قَوْلُهُ
[1780] (فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ) هِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ وَهُمَا الْمَيْمَنَةُ وَالْمَيْسَرَةُ وَيَكُونُ الْقَلْبُ بَيْنَهُمَا وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ على الحسر هو بصم الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ)(12/126)
أَيِ الَّذِينَ لَا دُرُوعَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ (فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي) أَيْ جَعَلُوا طَرِيقَهُمْ فِي بَطْنِ الْوَادِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ) أَيِ ادْعُهُمْ لِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ) ثُمَّ قَالَ فَأَطَافُوا إِنَّمَا خَصَّهُمْ لِثِقَتِهِ بِهِمْ وَرَفْعًا لِمَرَاتِبِهِمْ وَإِظْهَارًا لِجَلَالَتِهِمْ وَخُصُوصِيَّتِهِمْ قَوْلُهُ (وَوَبَّشَتْ قريش أو باشا لَهَا) أَيْ جَمَعَتْ جُمُوعًا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى وَهُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ قَوْلُهُ (فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا) أَيْ لَا يَدْفَعُ أَحَدٌ عَنْ نَفْسِهِ قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو سُفْيَانَ أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أُبِيحَتْ وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا أُبِيدَتْ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ أَيِ اسْتُؤْصِلَتْ قُرَيْشٌ بِالْقَتْلِ وَأُفْنِيَتْ وَخَضْرَاؤُهُمْ بِمَعْنَى جَمَاعَتِهِمْ وَيُعَبَّرُ عَنِ الْجَمَاعَةِ الْمُجْتَمِعَةِ بِالسَّوَادِ وَالْخُضْرَةِ وَمِنْهُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ) اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ عَلَى أَنَّ دُورَ مَكَّةَ مَمْلُوكَةٌ يَصِحُّ بَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا لِأَنَّ أَصْلَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْآدَمِيِّينَ تَقْتَضِي الْمِلْكَ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَجَازٌ وَفِيهِ تَأْلِيفٌ لِأَبِي سُفْيَانَ وَإِظْهَارٌ لِشَرَفِهِ(12/127)
قَوْلُهُ (فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَذَكَرَ نُزُولَ الْوَحْيِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ قَالُوا لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ قَالُوا قَدْ كَانَ ذَلِكَ قَالَ كَلَّا إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ وَاللَّهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذُرَانِكُمْ) مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُمْ رَأَوْا رَأْفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَكَفَّ الْقَتْلِ عَنْهُمْ فَظَنُّوا أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى سُكْنَى مَكَّةَ وَالْمُقَامِ فِيهَا دَائِمًا وَيَرْحَلُ عَنْهُمْ وَيَهْجُرُ المدينة فشق ذلك عليهم وأوحى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا قَالُوا نَعَمْ قَدْ قُلْنَا هَذَا فَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَالَ كَلَّا إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ مَعْنَى كَلَّا هُنَا حَقًّا وَلَهَا مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا حَقًّا وَالْآخَرُ النَّفْيُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَيَأْتِينِي الْوَحْيُ وَأُخْبَرُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَهَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَشَبَهِهَا فَثِقُوا بِمَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُخْبِرُكُمْ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ والآخر لا تفتتنوا بِإِخْبَارِي إِيَّاكُمْ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَتُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ(12/128)
مَمَاتُكُمْ) فَمَعْنَاهُ أَنِّي هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى دِيَارِكُمْ لِاسْتِيطَانِهَا فَلَا أَتْرُكُهَا وَلَا أَرْجِعُ عَنْ هِجْرَتِي الْوَاقِعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ أَنَا مُلَازِمٌ لَكُمْ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ أَيْ لَا أحي إِلَّا عِنْدَكُمْ وَلَا أَمُوتُ إِلَّا عِنْدَكُمْ وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ هَذَا بكوا واعتذروا وقالوا وَاللَّهِ مَا قُلْنَا كَلَامَنَا السَّابِقَ إِلَّا حِرْصًا عَلَيْكَ وَعَلَى مُصَاحَبَتِكَ وَدَوَامِكَ عِنْدَنَا لِنَسْتَفِيدَ مِنْكَ وَنَتَبَرَّكَ بِكَ وَتَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِكَ هُوَ بِكَسْرِ الضَّادِ أَيْ شُحًّا بِكَ أَنْ تُفَارِقَنَا وَيَخْتَصَّ بِكَ غَيْرُنَا وَكَانَ بُكَاؤُهُمْ فَرَحًا بِمَا قَالَ لَهُمْ وَحَيَاءً مِمَّا خَافُوا أَنْ يَكُونَ بَلَغَهُ عَنْهُمْ مِمَّا يستحي مِنْهُ قَوْلُهُ (فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ) فِيهِ الِابْتِدَاءُ بِالطَّوَافِ فِي أَوَّلِ دُخُولِ مَكَّةَ سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَهُوَ يَوْمُ الْفَتْحِ غَيْرَ مُحْرِمٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ وَالْأَحَادِيثُ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَخْصِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ مَنْ دَخَلَهَا بَعْدَهُ لِحَرْبٍ أَوْ بَغْيٍ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ دُخُولُهَا حَلَالًا فَلَيْسَ كَمَا نُقِلَ بَلْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَآخَرِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا حَلَالًا لِلْمُحَارِبِ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا لِمَنْ يَخَافُ مِنْ ظَالِمٍ لَوْ ظَهَرَ لِلطَّوَافِ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ أَصْلًا فَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِحْرَامُ وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلُهُ (فَأَتَى عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ فَجَعَلَ يَطْعَنُهُ بِسِيَةِ قَوْسِهِ) السِّيَةُ بِكَسْرِ السِّينِ وتخفيف الياء(12/129)
الْمَفْتُوحَةِ الْمُنْعَطِفُ مِنْ طَرَفَيِ الْقَوْسِ وَقَوْلُهُ يَطْعُنُ بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا فِي لُغَةٍ وَهَذَا الْفِعْلُ إِذْلَالٌ لِلْأَصْنَامِ وَلِعَابِدِيهَا وَإِظْهَارٌ لِكَوْنِهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه قَوْلُهُ (جَعَلَ يَطْعُنُ فِي عَيْنِهِ وَيَقُولُ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ كَانَ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ النُّصُبُ الصَّنَمُ وَفِي هَذَا اسْتِحْبَابُ قِرَاءَةِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عِنْدَ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ قَوْلُهُ (ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى احْصُدُوهُمْ حَصْدًا) هُوَ بِضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ إِنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلُ السِّيَرِ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فُتِحَتْ صُلْحًا وَادَّعَى الْمَازِرِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ انْفَرَدَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِقَوْلِهِ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ قَالُوا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ فَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ آمِنِينَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا وَبِحَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ أَجَارَتْ رَجُلَيْنِ أَرَادَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ فَكَيْفَ يَدْخُلُهَا صُلْحًا وَيَخْفَى ذَلِكَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى يُرِيدَ قَتْلَ رَجُلَيْنِ دَخَلَا فِي الْأَمَانِ وَكَيْفَ يُحْتَاجُ إِلَى أَمَانِ أُمِّ هَانِئٍ بَعْدَ الصُّلْحِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ قَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم احصدوهم وقتل خَالِدٌ مَنْ قَتَلَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ قِتَالًا وَأَمَّا أَمَانُ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَأَمَانُ أُمِّ هَانِئٍ فَكُلُّهُ مَحْمُولٌ(12/130)
عَلَى زِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ لَهُمْ بِالْأَمَانِ وَأَمَّا هَمُّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَتْلِ الرَّجُلَيْنِ فَلَعَلَّهُ تَأَوَّلَ مِنْهُمَا شَيْئًا أَوْ جَرَى مِنْهُمَا قِتَالٌ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَمَا أَشْرَفَ أَحَدٌ يَوْمئِذٍ لَهُمْ إِلَّا أَنَامُوهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَشْرَفَ مُظْهِرًا لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (قُلْنَا ذَاكَ يَا رَسُولَ الله قال فما اسمي إذا كَلَّا إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ هَذَا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي نَبِيٌّ لِإِعْلَامِي إِيَّاكُمْ بِمَا تَحَدَّثْتُمْ بِهِ سِرًّا وَالثَّانِي لَوْ فَعَلْتُ هَذَا الَّذِي خِفْتُمْ مِنْهُ وَفَارَقْتُكُمْ وَرَجَعْتُ إِلَى اسْتِيطَانِ مَكَّةَ لَكُنْتُ نَاقِضًا لِعَهْدِكُمْ فِي مُلَازَمَتِكُمْ وَلَكَانَ هَذَا غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمَا اشْتُقَّ مِنْهُ اسْمِي وَهُوَ الْحَمْدُ فَإِنِّي كُنْتُ أُوصَفُ حِينَئِذٍ بِغَيْرِ الْحَمْدِ قَوْلُهُ (وَفَدْنَا إِلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِينَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَكَانَ كُلُّ رجل منا بصنع طَعَامًا يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ فَكَانَتْ نَوْبَتِي) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ اشْتَرَاكِ الْمُسَافِرِينَ فِي الْأَكْلِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ مكارم الأخلاق وليس هذا من باب المعارضة حتى يشترط فيه المساواة في الطعام وأن لا يَأْكُلَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُرُوءَاتِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ فَيَجُوزُ وَإِنْ تَفَاضَلَ الطَّعَامُ وَاخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ وَيَجُوزُ وَإِنْ أَكَلَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ شَأْنُهُمْ إِيثَارَ بَعْضِهِمْ بعضا قوله (فجاؤا إِلَى الْمَنْزِلِ وَلَمْ يُدْرِكْ طَعَامُنَا فَقُلْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لَوْ حَدَّثْتَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُدْرِكَ طَعَامُنَا فَقَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَى آخِرِهِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ وَجَوَازُ(12/131)
دُعَائِهِمْ إِلَيْهِ قَبْلَ إِدْرَاكِهِ وَاسْتِحْبَابُ حَدِيثِهِمْ فِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ بِمَا فِيهِ بَيَانُ أَحْوَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَغَزَوَاتِهِمْ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَنْشَطُ النُّفُوسُ لِسَمَاعِهِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ ضُرٌّ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا وَلَا أَذًى لِأَحَدٍ لِتَنْقَطِعَ بِذَلِكَ مُدَّةُ الِانْتِظَارِ وَلَا يَضْجَرُوا وَلِئَلَّا يَشْتَغِلَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي غِيبَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ فِي الْجَمْعِ مَشْهُورٌ بِالْفَضْلِ أَوْ بِالصَّلَاحِ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الْحَدِيثُ فَإِنْ لَمْ يَطْلُبُوا اسْتُحِبَّ لَهُ الِابْتِدَاءُ بِالْحَدِيثِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَدِيهِمْ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُمْ قَوْلُهُ (وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْبَيَاذِقَةِ وَبَطْنِ الْوَادِي) الْبَيَاذِقَةُ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ وَبِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَقَافٍ وَهُمُ الرَّجَّالَةُ قَالُوا وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَأَصْلُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَصْحَابُ رِكَابِ الْمَلِكِ وَمَنْ يَتَصَرَّفُ فِي أُمُورِهِ قِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِخِفَّتِهِمْ وَسُرْعَةِ حَرَكَتِهِمْ هَكَذَا الرِّوَايَةُ فِي هَذَا الْحَرْفِ هُنَا وَفِي غَيْرِ مُسْلِمٍ أَيْضًا قَالَ الْقَاضِي هَكَذَا رِوَايَتُنَا فِيهِ قَالَ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ السَّاقَةُ وَهُمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ آخِرَ الْعَسْكَرِ وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيَاذِقَةِ بِأَنَّهُمْ رَجَّالَةٌ وَسَاقَةٌ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ الشَّارِفَةُ وَفَسَّرُوهُ بِالَّذِينَ يُشْرِفُونَ عَلَى مَكَّةَ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا فِي بَطْنِ الْوَادِي وَالْبَيَاذِقَةُ هُنَا هُمُ الْحُسَّرُ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ وَهُمْ رَجَّالَةٌ لَا دُرُوعَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ (وَقَالَ مَوْعِدُكُمُ الصَّفَا) يَعْنِي قَالَ هَذَا لِخَالِدٍ وَمَنْ مَعَهُ الَّذِينَ أَخَذُوا أَسْفَلَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَأَخَذَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ أَعْلَى مَكَّةَ قَوْلُهُ (فَمَا أَشْرَفَ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَنَامُوهُ) أَيْ مَا ظَهَرَ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلُوهُ فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ أَوْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَسْكَنُوهُ بِالْقَتْلِ كَالنَّائِمِ يُقَالُ نَامَتِ الرِّيحُ إِذَا سَكَنَتْ وَضَرَبَهُ(12/132)
حَتَّى سَكَنَ أَيْ مَاتَ وَنَامَتِ الشَّاةُ وَغَيْرُهَا مَاتَتْ قَالَ الْفَرَّاءُ النَّائِمَةُ الْمَيِّتَةُ هَكَذَا تَأَوَّلَ هذه اللفظة(12/133)
الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَمَنْ قَالَ فُتِحَتْ صُلْحًا يَقُولُ أَنَامُوهُ أَلْقَوْهُ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1782] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ قُرَيْشًا يُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ وَلَا يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَمَا ارْتَدَّ غَيْرُهُمْ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ حُورِبَ وَقُتِلَ صَبْرًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ ظُلْمًا صَبْرًا فَقَدْ جَرَى عَلَى قُرَيْشٍ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ مِنْ عُصَاةِ قُرَيْشٍ غَيْرُ مُطِيعٍ كَانَ اسْمُهُ الْعَاصِي فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطِيعًا) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عُصَاةُ هُنَا جَمْعُ الْعَاصِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ لَا مِنَ الصِّفَاتِ أَيْ مَا أَسْلَمَ مِمَّنْ كَانَ اسْمُهُ الْعَاصِ مِثْلُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَالْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ أَبُو الْبُخْتُرِيِّ وَالْعَاصِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ وَالْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ وَالْعَاصِ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِمْ سِوَى الْعَاصِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْعُذْرِيِّ فَغَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَهُ فَسَمَّاهُ مُطِيعًا وَإِلَّا فَقَدْ أَسْلَمَتْ عُصَاةُ قُرَيْشٍ وَعُتَاتُهُمْ كُلُّهُمْ بحمد الله تعالى ولكنه تَرَكَ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَاسْمُهُ أَيْضًا الْعَاصِ فَإِذَا صَحَّ هَذَا فَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا لِمَا غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ وَجُهِلَ اسْمُهُ لَمْ يُعَرِّفْهُ الْمُخْبِرُ بِاسْمِهِ فَلَمْ يَسْتَثْنِهِ كَمَا اسْتَثْنَى مُطِيعَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(12/134)
(بَابُ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَالْجِعِرَّانَةِ لُغَتَانِ التَّخْفِيفُ وَهُوَ الْأَفْصَحُ وَالتَّشْدِيدُ وَسَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلُهُ
[1783] (هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى قَاضَى هُنَا فَاصَلَ وَأَمْضَى أَمْرَهُ عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَضَى الْقَاضِي أَيْ فَصَلَ الْحُكْمَ وَأَمْضَاهُ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ تِلْكَ السَّنَةُ عَامَ الْمُقَاضَاةِ وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ كُلُّهُ مِنْ هَذَا وَغَلَّطُوا مَنْ قَالَ إِنَّهَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ لِقَضَاءِ الْعُمْرَةِ التي صدعنها لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ الْمَصْدُودِ عَنْهَا إِذَا تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ فِي أَوَّلِ الْوَثَائِقِ وَكُتُبِ الْإِمْلَاكِ وَالصَّدَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ أَوْ هَذَا مَا أَصْدَقَ أَوْ وَقَفَ أَوْ أَعْتَقَ وَنَحْوَهُ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ وَجَمِيعِ الْبُلْدَانِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بالاسم الشهور من غير زيادة خلافا لمن قال لابد مِنْ أَرْبَعَةٍ الْمَذْكُورِ وَأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَنَسَبِهِ وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الصُّلْحَ عَلَى مَا رَآهُ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ وَفِيهِ احْتِمَالُ الْمَفْسَدَةِ الْيَسِيرَةِ لِدَفْعِ أَعْظَمَ مِنْهَا أَوْ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِذَلِكَ قَوْلُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ امْحُهُ فَقَالَ مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِالَّذِي أَمْحَاهُ وَهِيَ لُغَةٌ فِي أَمْحُوهُ وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ الْمُسْتَحَبِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتِيمَ مَحْوِ عَلِيٍّ بِنَفْسِهِ وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ)(12/135)
وَلَوْ حَتَّمَ مَحْوَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَلِيٍّ تَرْكُهُ وَلَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ قَوْلُهُ (وَلَا يَدْخُلُهَا بِسِلَاحٍ إِلَّا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ) قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ جلبان السلاح هو القراب وما فيه والجلبان بِضَمِّ الْجِيمِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ ضَبَطْنَاهُ جُلُبَّانُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قال وكذا رواه الأكثرون وصوبه بن قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ وَصَوَّبَهُ هُوَ وَثَابِتٌ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَابِتٌ سِوَاهُ وَهُوَ أَلْطَفُ مِنَ الْجِرَابِ يَكُونُ مِنَ الْأُدُمِ يُوضَعُ فِيهِ السَّيْفُ مُغْمَدًا وَيَطْرَحُ فِيهِ الرَّاكِبُ سَوْطَهُ وَأَدَاتَهُ وَيُعَلِّقُهُ فِي الرَّحْلِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا شَرَطُوا هَذَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أن لا يَظْهَرَ مِنْهُ دُخُولُ الْغَالِبِينَ الْقَاهِرِينَ وَالثَّانِي أَنَّهُ إِنْ عَرَضَ فِتْنَةٌ أَوْ نَحْوُهَا يَكُونُ فِي الِاسْتِعْدَادِ بِالسِّلَاحِ صُعُوبَةٌ قَوْلُهُ (اشْتَرَطُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فَيُقِيمُوا بِهَا ثَلَاثًا) قَالَ الْعُلَمَاءُ سَبَبُ هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْمُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْإِقَامَةِ وَأَمَّا مَا فَوْقَهَا فَلَهُ حُكْمُ الْإِقَامَةِ وقَدْ رَتَّبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا قَصْرُ الصَّلَاةِ فِيمَنْ نَوَى إِقَامَةً فِي بَلَدٍ فِي طَرِيقِهِ وَقَاسُوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً قَوْلُهُ (لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبَيْتِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا(12/136)
أُحْصِرَ عِنْدَ الْبَيْتِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رواية جميع الرواة سوى بن الْحَذَّاءِ فَإِنَّ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْبَيْتِ وَهُوَ الوجه وأما أحصر وَحُصِرَ فَسَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَرِنِي مَكَانَهَا فَأَرَاهُ مكانها فمحاها وكتب بن عَبْدِ اللَّهِ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ احْتَجَّ بِهَذَا اللَّفْظِ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب ذَلِكَ بِيَدِهِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَقَالَ فِيهِ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ فَكَتَبَ وَزَادَ عَنْهُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ وَلَا يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ فَكَتَبَ قَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ إِمَّا بِأَنْ كَتَبَ ذَلِكَ الْقَلَمُ بِيَدِهِ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا يَكْتُبُ أَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَهُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ حَتَّى كَتَبَ وَجَعَلَ هَذَا زيادة في معجزته فإنه كان أميا فكما علمه مالم يعلم من العلم وجعله يقرأ مالم يقرأ ويتلو مالم يكن يتلو كذلك علمه أن يكتب مالم يكن يكتب وخط مالم يكن يَخُطَّ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَوْ أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ قَالُوا وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي وَصْفِهِ بِالْأُمِّيَّةِ وَاحْتَجُّوا بِآثَارٍ جَاءَتْ فِي هَذَا عَنِ الشعبي وبعض السلف وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَتَبَ قَالَ الْقَاضِي وَإِلَى جَوَازِ هَذَا ذَهَبَ الْبَاجِيُّ وَحَكَاهُ عَنِ السِّمَنَانِيِّ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى مَنْعِ هَذَا كُلِّهِ قَالُوا وَهَذَا الَّذِي زَعَمَهُ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُبْطِلُهُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كتاب ولا تخطه بيمينك وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ قَالُوا وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَتَبَ مَعْنَاهُ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ كَمَا يُقَالُ رَجَمَ مَاعِزًا وَقَطَعَ السَّارِقَ وَجَلَدَ الشَّارِبَ أَيْ أَمَرَ بِذَلِكَ وَاحْتَجُّوا(12/137)
بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اكْتُبْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ الْقَاضِي وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ لَمْ يَتْلُ وَلَمْ يَخُطَّ أَيْ مِنْ قَبْلِ تَعْلِيمِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَبْلِهِ فَكَمَا جَازَ أَنْ يَتْلُوَ جَازَ أَنْ يَكْتُبَ وَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي كَوْنِهِ أُمِّيًّا إِذْ لَيْسَتِ الْمُعْجِزَةُ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا فَإِنَّ الْمُعْجِزَةَ حَاصِلَةٌ بِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلًا كَذَلِكَ ثُمَّ جَاءَ بِالْقُرْآنِ وَبِعُلُومٍ لَا يَعْلَمُهَا الْأُمِّيُّونَ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ظَاهِرٌ قَالَ وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكْتُبَ فَكَتَبَ كَالنَّصِّ أَنَّهُ كَتَبَ بِنَفْسِهِ قَالَ وَالْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ مَجَازٌ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ قَالَ وَقَدْ طَالَ كَلَامُ كُلِّ فِرْقَةٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَشَنَّعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ عَلَى الْأُخْرَى فِي هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ كُلِّهَا يَوْمُ الثَّالِثِ بِإِضَافَةِ يَوْمٍ إِلَى الثَّالِثِ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ جَوَازُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ منه أي أَيْ يَوْمُ الزَّمَانِ الثَّالِثِ قَوْلُهُ (فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ قَالُوا لِعَلِيٍّ هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ فَأْمُرْهُ أَنْ يَخْرُجَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ فَخَرَجَ) هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ حَذْفٌ وَاخْتِصَارٌ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَقَعْ فِي عَامِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَكَانُوا شَارَطُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَجِيءَ بِالْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَعْتَمِرَ وَلَا يُقِيمَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَجَاءَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَأَقَامَ إِلَى أَوَاخِرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالُوا لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هَذَا الْكَلَامَ فَاخْتَصَرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْإِقَامَةَ وَهَذَا الْكَلَامَ كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ بِكَوْنِهِ مَعْلُومًا وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ أَحْوَجُوهُمْ إِلَى أَنْ يَطْلُبُوا(12/138)
مِنْهُمُ الْخُرُوجَ وَيَقُومُوا بِالشَّرْطِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الطَّلَبَ كَانَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بِيَسِيرٍ وَكَانَ عَزْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَلَى الِارْتِحَالِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ فَاحْتَاطَ الْكُفَّارُ لِأَنْفُسِهِمْ وَطَلَبُوا الِارْتِحَالَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ بِيَسِيرٍ فَخَرَجُوا عِنْدَ انْقِضَائِهَا وَفَاءً بِالشَّرْطِ لَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِيمِينَ لَوْ لَمْ يُطْلَبِ ارْتِحَالُهُمْ قَوْلُهُ
[1784] (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا بِسْمِ اللَّهِ فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ولكن اكتب ما نعرف بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ) قَالَ الْعُلَمَاءُ وَافَقَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ كِتَابَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَأَنَّهُ كَتَبَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ وَكَذَا وَافَقَهُمْ فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَتَرَكَ كِتَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا وَافَقَهُمْ فِي رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَيْنَا دُونَ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ وَإِنَّمَا وَافَقَهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ لِلْمَصْلَحَةِ الْمُهِمَّةِ الْحَاصِلَةِ بِالصُّلْحِ مَعَ أَنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ أَمَّا الْبَسْمَلَةُ وَبِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَكَذَا قَوْلُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ أَيْضًا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ وَصْفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ وَلَا فِي تَرْكِ وَصْفِهِ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا بِالرِّسَالَةِ مَا يَنْفِيهَا فَلَا مَفْسَدَةَ فِيمَا طَلَبُوهُ وَإِنَّمَا كَانَتِ المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب مالا يَحِلُّ مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ(12/139)
وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا شَرْطُ رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ وَمَنْعِ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِكْمَةَ فِيهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ثُمَّ كَانَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ اللَّهُ لِلَّذِينَ جَاءُونَا مِنْهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَيْهِمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَهَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْمَصْلَحَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى إِتْمَامِ هَذَا الصُّلْحِ مَا ظَهَرَ مِنْ ثَمَرَاتِهِ الْبَاهِرَةِ وَفَوَائِدِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ الَّتِي كَانَتْ عَاقِبَتُهَا فَتْحَ مَكَّةَ وَإِسْلَامَ أَهْلِهَا كُلِّهَا وَدُخُولَ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَبْلَ الصُّلْحِ لَمْ يَكُونُوا يَخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَظَاهَرُ عِنْدَهُمْ أُمُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هِيَ وَلَا يَحِلُّونَ بِمَنْ يُعْلِمُهُمْ بِهَا مُفَصَّلَةً فَلَمَّا حَصَلَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ اخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَذَهَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَكَّةَ وَحَلُّوا بِأَهْلِهِمْ وَأَصْدِقَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَسْتَنْصِحُونَهُ وَسَمِعُوا مِنْهُمْ أَحْوَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَصَّلَةً بِجُزْئِيَّاتِهَا وَمُعْجِزَاتِهِ الظَّاهِرَةَ وَأَعْلَامَ نُبُوَّتِهِ الْمُتَظَاهِرَةَ وَحُسْنَ سِيرَتِهِ وَجَمِيلَ طَرِيقَتِهِ وَعَايَنُوا بِأَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فَمَا زَلَّتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ حَتَّى بَادَرَ خَلْقٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَسْلَمُوا بَيْنَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ وَازْدَادَ الْآخَرُونَ مَيْلًا إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ لِمَا كَانَ قَدْ تَمَهَّدَ لَهُمْ مِنَ الْمَيْلِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ فِي الْبَوَادِي يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ إِسْلَامَ قُرَيْشٍ فَلَمَّا أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمَتِ الْعَرَبُ فِي الْبَوَادِي قَالَ تَعَالَى إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دين الله أفواجا قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ) هُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتُ مُخَفَّفَةٍ ثُمَّ أَلِفٍ ثُمَّ هَاءٍ فِي الْوَقْفِ وَالدَّرْجِ عَلَى وَزْنَيْ مِيَاهٍ وَشِيَاهٍ قَوْلُهُ (قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى آخِرِهِ) أَرَادَ بِهَذَا تَصْبِيرَ النَّاسِ عَلَى الصُّلْحِ وَإِعْلَامِهِمْ بِمَا يُرْجَى بَعْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ فَإِنَّهُ يُرْجَى مَصِيرُهُ إِلَى خَيْرٍ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ فِي الِابْتِدَاءِ مِمَّا تَكْرَهُهُ النُّفُوسُ كَمَا كَانَ شَأْنُ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِنَّمَا قَالَ سَهْلٌ هَذَا الْقَوْلَ حين(12/140)
ظَهَرَ مِنْ أَصْحَابَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرَاهَةَ التَّحْكِيمِ فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا جَرَى يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ كَرَاهَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ الصُّلْحَ وَأَقْوَالِهِمْ فِي كَرَاهَتِهِ وَمَعَ هَذَا فَأَعْقَبَ خَيْرًا عَظِيمًا فَقَرَّرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصُّلْحِ مَعَ أَنَّ إِرَادَتَهُمْ كَانَتْ مُنَاجَزَةَ كُفَّارِ مَكَّةَ بِالْقِتَالِ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قوله (فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا) هِيَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ النَّقِيصَةُ وَالْحَالَةُ النَّاقِصَةُ قَالَ الْعُلَمَاءُ لَمْ يَكُنْ سُؤَالُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَلَامُهُ الْمَذْكُورُ شَكًّا بَلْ طَلَبًا لِكَشْفِ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ وَحَثًّا عَلَى إِذْلَالِ الْكُفَّارِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ كَمَا عُرِفَ مِنْ خُلُقِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقُوَّتِهِ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ وَإِذْلَالِ الْمُبْطِلِينَ وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُمَرَ بِمِثْلِ جَوَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ عَلَى عَظِيمِ فَضْلِهِ وَبَارِعِ عِلْمِهِ وَزِيَادَةِ عِرْفَانِهِ وَرُسُوخِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَزِيَادَتِهِ فِيهِ كُلِّهِ عَلَى غَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ (فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْحِ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فأقرأه إياه فقال يا رسول الله(12/141)
أو فتح هُوَ قَالَ نَعَمْ فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ) الْمُرَادُ أَنَّهُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فتحا مبينا وَكَانَ الْفَتْحُ هُوَ صُلْحَ يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَ عمر أو فتح هُوَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا وَفِيهِ إِعْلَامُ الْإِمَامِ وَالْعَالِمِ كِبَارَ أَصْحَابِهِ بمَا يَقَعُ لَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَالْبَعْثِ إِلَيْهِمْ لِإِعْلَامِهِمْ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (يَوْمُ أَبِي جَنْدَلٍ) هُوَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ وَاسْمُ أبي جندل العاص بن سهيل بن عمر وقوله أمر بفظعنا أي يشق علينا ونخافه قوله (إلى أَمْرَكُمْ) هَذَا يَعْنِي الْقِتَالَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي حَصِينٍ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ قَوْلُهُ (عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ قَالَ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَتَحْنَا مِنْهُ فِي خُصْمٍ إِلَّا انْفَجَرَ عَلَيْنَا مِنْهُ خُصْمٌ) هَكَذَا وَقَعَ هذا(12/142)
الْحَدِيثُ فِي نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ كُلِّهَا وَفِيهِ مَحْذُوفٌ وَهُوَ جَوَابُ لَوْ تَقْدِيرُهُ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَدَدْتُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ تَرَى إِذِ المجرمون وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ولو ترى إذ الظالمون موقوفون وَنَظَائِرُهُ فَكُلُّهُ مَحْذُوفُ جَوَابِ لَوْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ مَا فَتَحْنَا مِنْهُ خُصْمًا فَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ وَمَعْنَاهُ مَا أَصْلَحْنَا مِنْ رَأْيِكُمْ وَأَمْرِكُمْ هذا ناحية إلا انفتحت أُخْرَى وَلَا يَصِحُّ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ مَا فَتَحْنَا مِنْهُ خُصْمًا فَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي وَهُوَ غَلَطٌ أَوْ تَغْيِيرٌ وَصَوَابُهُ مَا سَدَدْنَا مِنْهُ خُصْمًا وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَا سَدَدْنَا وَبِهِ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ وَيَتَقَابَلُ سَدَدْنَا بِقَوْلِهِ إِلَّا انْفَجَرَ وَأَمَّا الْخُصْمُ فَبِضَمِّ الْخَاءِ وَخُصْمُ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفُهُ وَنَاحِيَتُهُ وَشَبَّهَهُ بِخُصْمِ الرَّاوِيَةِ وَانْفِجَارِ الْمَاءِ مِنْ طَرَفِهَا أَوْ بِخُصْمِ الغرارة والخرج وانصباب مافيه بِانْفِجَارِهِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ مُصَالَحَةِ الْكُفَّارِ إِذَا كَانَ فِيهَا مَصْلَحَةٌ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَمَذْهَبُنَا أَنَّ مُدَّتَهَا لَا تَزِيدُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ مُسْتَظْهِرًا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ مُسْتَظْهِرًا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَفِي قَوْلٍ يَجُوزُ دون سنة وقال مالك لاحد لِذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ قَلَّ أَمْ كَثُرَ بحسب رأى الإمام والله أعلم(12/143)
(باب الوفاء بالعهد
[1787] قَوْلُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ (خَرَجْتُ أَنَا وأبي حسيل) إلى آخره هو حُسَيْلٌ بِحَاءٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ سِينٍ مَفْتُوحَةٍ مُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ يَاءٍ ثُمَّ لَامٍ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا حِسْلٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ السِّينِ وَهُوَ وَالِدُ حُذَيْفَةَ وَالْيَمَانُ لَقَبٌ لَهُ وَالْمَشْهُورُ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ الْيَمَانِ بِالنُّونِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ بَعْدَهَا وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ وَالصَّحِيحُ الْيَمَانِيُّ بِالْيَاءِ وَكَذَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي وَشَدَّادُ بْنُ الْهَادِي وَالْمَشْهُورُ لِلْمُحَدِّثِينَ حَذْفُ الْيَاءِ وَالصَّحِيحُ إِثْبَاتُهَا قَوْلُهُ (فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَقَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا قُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ فَأَخَذُوا عَلَيْنَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ انْصَرِفَا نَفْي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ وَإِذَا أَمْكَنَ التَّعْرِيضُ فِي الْحَرْبِ فَهُوَ أَوْلَى وَمَعَ هَذَا يَجُوزُ الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ وَفِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَكَذِبُ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَفِيهِ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَقَدِ اخْتَلَفَ العلماء في الأسير يعاهد الكفار أن لا يَهْرَبَ مِنْهُمْ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بَلْ مَتَى أَمْكَنَهُ الْهَرَبُ هَرَبَ وَقَالَ مَالِكٌ يَلْزَمُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهُوهُ فَحَلَفَ لَا يَهْرَبُ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ وَأَمَّا قَضِيَّةُ حُذَيْفَةَ وَأَبِيهِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ اسْتَحْلَفُوهُمَا لَا يُقَاتِلَانِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَفَاءِ وَهَذَا لَيْسَ لِلْإِيجَابِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِتَرْكِ الْجِهَادِ مَعَ الْإِمَامِ وَنَائِبِهِ وَلَكِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَشِيعَ عَنْ أَصْحَابِهِ نَقْضُ الْعَهْدِ وَإِنْ)(12/144)
كَانَ لَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشِيعَ عَلَيْهِمْ لَا يَذْكُرُ تَأْوِيلًا
(بَاب غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ
[1788] قَوْلُهُ (كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ رَجُلٌ لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ مَا قَالَ) مَعْنَاهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَالَغَ فِي نُصْرَتِهِ وَلَزَادَ عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِهِ فِي لَيْلَةِ الْأَحْزَابِ وَقَصَدَ زَجْرَهُ عَنْ ظَنِّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ أَكْثَرَ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ قَوْلُهُ (وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ) هُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ الْبَرْدُ وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا (قُرِرْتُ) هُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ بَرَدْتُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ) هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مَعْنَاهُ لَا تُفَزِّعْهُمْ عَلَيَّ وَلَا تُحَرِّكْهُمْ عَلَيَّ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تُنَفِّرْهُمْ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَالْمُرَادُ لَا تُحَرِّكْهُمْ عَلَيْكَ فَإِنَّهُمْ إِنْ أَخَذُوكَ كَانَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيَّ لِأَنَّكَ رَسُولِي وَصَاحِبِي قوله (فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي)(12/145)
فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ) يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَجِدِ الْبَرْدَ الَّذِي يَجِدُهُ النَّاسُ وَلَا مِنْ تِلْكَ الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ شَيْئًا بَلْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْهُ بِبَرَكَةِ إِجَابَتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَابِهِ فِيمَا وَجَّهَهُ لَهُ وَدُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ اللُّطْفُ بِهِ وَمُعَافَاتُهُ مِنَ الْبَرْدِ حَتَّى عَادَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَجَعَ وَوَصَلَ عَادَ إِلَيْهِ الْبَرْدُ الَّذِي يَجِدُهُ النَّاسُ وَهَذِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظَةُ الْحَمَّامِ عَرَبِيَّةٌ وَهُوَ مُذَكَّرٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَمِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ قَوْلُهُ (فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ أَيْ يُدْفِئُهُ وَيُدْنِيهِ مِنْهَا وَهُوَ الصَّلَا بِفَتْحِ الصَّادِ وَالْقَصْرِ وَالصِّلَاءُ بِكَسْرِهَا وَالْمَدِّ قَوْلُهُ (كَبِدِ الْقَوْسِ) هُوَ مِقْبَضُهَا وَكَبِدُ كُلِّ شَيْءٍ وَسَطُهُ قَوْلُهُ (فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا) الْعَبَاءَةُ بِالْمَدِّ وَالْعَبَايَةُ بِزِيَادَةِ يَاءٍ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الصُّوفِ وَهُوَ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ وَسَوَاءٌ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَفِيهِ وَلَا كَرَاهِيَةَ فِي ذَلِكَ قَالَ الْعَبْدَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَقَالَتِ الشِّيعَةُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الصُّوفِ وَتَجُوزُ فِيهِ وَقَالَ مَالِكٌ يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ قَوْلُهُ (فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ قُمْ يَا نَوْمَانُ) هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَهُوَ كَثِيرُ النَّوْمِ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي النِّدَاءِ كَمَا اسْتَعْمَلَهُ هُنَا وَقَوْلُهُ (أَصْبَحْتُ) أَيْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ بَعْثُ الْجَوَاسِيسِ وَالطَّلَائِعِ لِكَشْفِ خَبَرِ الْعَدُوِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(12/146)
(بَاب غَزْوَةِ أُحُدٍ
[1789] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الأزدي وكذا قاله البخاري في التاريخ وبن أبي حاتم في كتابه وغيرهما وذكره بن عَدِيٍّ وَالسَّمْعَانِيُّ فَقَالَا هُوَ قَيْسِيٌّ فَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَخَاهُ أُمَيَّةَ بْنَ خَالِدٍ فَنَسَبَهُ قَيْسِيًّا وَذَكَرَهُ الْبَاجِيُّ فَقَالَ الْقَيْسِيُّ الْأَزْدِيُّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَانِ نِسْبَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ لِأَنَّ الْأَزْدَ مِنَ الْيَمَنِ وَقَيْسَ مِنْ مَعَدٍّ قَالَ وَلَكِنْ قَيْسُ هُنَا لَيْسَ قَيْسَ غَيْلَانَ بَلْ قَيْسَ بْنَ يُونَانَ مِنَ الْأَزْدِ فَتَصِحُّ النِّسْبَتَانِ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي زِيَادِ بْنِ رَبَاحٍ الْقَيْسِيِّ وَيُقَالُ رِيَاحٌ كَذَا نَسَبَهُ مُسْلِمٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْقَيْسِيُّ وَقَالَ فِي النُّذُورِ التَّيْمِيُّ قِيلَ لَعَلَّهُ مِنْ تَيْمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فَيَجْتَمِعُ النِّسْبَتَانِ وَإِلَّا فَتَيْمُ قُرَيْشٍ لَا تجْتَمِعُ هِيَ وَقَيْسٌ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ضَبْطِ هَدَّابٍ هَذَا مَرَّاتٍ وَأَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ هُدْبَةُ بِضَمِّ الْهَاءِ قِيلَ هُدْبَةُ اسْمٌ وَهَدَّابٌ لَقَبٌ وَقِيلَ عَكْسُهُ قَوْلُهُ (فَلَمَّا رَهِقُوهُ) هُوَ بِكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ غَشُوهُ وَقَرُبُوا مِنْهُ أَرْهَقَهُ أَيْ غَشِيَهُ قَالَ صَاحِبُ الْأَفْعَالِ رَهِقْتُهُ وَأَرْهَقْتُهُ أَيْ أَدْرَكْتُهُ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ قِيلَ لَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْمَكْرُوهِ قَالَ وَقَالَ ثَابِتٌ كُلُّ شَيْءٍ دَنَوْتَ مِنْهُ فَقَدْ رَهِقْتَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُ سَبْعَةُ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ فَقُتِلَتِ السَّبْعَةُ فَقَالَ لِصَاحِبَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا) الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ مَا أنصفنا بإسكان الفاء وأصحابنا مَنْصُوبٌ مَفْعُولٌ بِهِ هَكَذَا ضَبَطَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَمَعْنَاهُ مَا أَنْصَفَتْ قُرَيْشٌ الأنصار لكون)(12/147)
القرشيين لَمْ يَخْرُجَا لِلْقِتَالِ بَلْ خَرَجَتِ الْأَنْصَارُ وَاحِدًا بعدو أحد وَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مَا أَنْصَفَنَا بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا الَّذِينَ فَرُّوا مِنَ الْقِتَالِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُنْصِفُوا لِفِرَارِهِمْ قَوْلُهُ
[1790] (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا وَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ وَذَكَرَ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ رُوَاةِ كِتَابِ مُسْلِمٍ أَنَّهُمْ جَعَلُوا أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ بَدَلَ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى قَالَ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ (وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ) هِيَ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَهِيَ السِّنُّ الَّتِي تَلِي الثَّنِيَّةَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَلِلْإِنْسَانِ أَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ وَفِي هَذَا وُقُوعُ الِانْتِقَامِ وَالِابْتِلَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لِيَنَالُوا جَزِيلَ الْأَجْرِ وَلِتَعْرِفَ أُمَمُهُمْ وَغَيْرُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ وَيَتَأَسَّوْا بِهِمْ قَالَ الْقَاضِي وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ مِنَ الْبَشَرِ تُصِيبُهُمْ مِحَنُ الدُّنْيَا وَيَطْرَأُ عَلَى أَجْسَامِهِمْ مَا يَطْرَأُ عَلَى أَجْسَامِ الْبَشَرِ لِيَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ وَلَا يُفْتَتَنَ بِمَا ظَهَرَ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَتَلْبِيسِ الشيطان من أمرهم مالبسه عَلَى النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ قَوْلُهُ (وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ لُبْسِ الْبَيْضَةِ وَالدُّرُوعِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَصُّنِ فِي الْحَرْبِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي التَّوَكُّلِ قَوْلُهُ (يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنِّ) أَيْ يَصُبُّ عَلَيْهَا بِالتُّرْسِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ الْمُدَاوَاةِ وَمُعَالَجَةِ الْجِرَاحِ وَأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ لِأَنَّ(12/148)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يموت قَوْلُهُ (دُووِيَ جُرْحُهُ) هُوَ بِوَاوَيْنِ وَيَقَعُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ وَتَكُونُ الْأُخْرَى مَحْذُوفَةً كَمَا حُذِفَتْ مِنْ دَاوُدَ فِي(12/149)
الْخَطِّ
[1792] قَوْلُهُ (إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَى نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) فِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحِلْمِ وَالتَّصَبُّرِ وَالْعَفْوِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى قَوْمِهِمْ وَدُعَائِهِمْ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَالْغُفْرَانِ وَعُذْرِهِمْ فِي جِنَايَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَهَذَا النَّبِيُّ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَقَدْ جَرَى لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ قَوْلُهُ (وَهُوَ يَنْضِحُ الدَّمَ عَنْ جَبِينِهِ) هُوَ بِكَسْرِ الضَّادِ أَيْ يَغْسِلُهُ وَيُزِيلُهُ
(بَاب اشْتِدَادِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ
[1793] (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فَقَوْلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ احْتِرَازٌ مِمَّنْ يَقْتُلُهُ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لِأَنَّ مَنْ يَقْتُلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ قَاصِدًا قَتْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)(12/150)
(باب مالقى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) قَوْلُهُ
[1794] (أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ إِلَى آخِرِهِ) السَّلَا بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ مَقْصُورٌ وَهُوَ اللِّفَافَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْوَلَدُ فِي بَطْنِ النَّاقَةِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ وَهِيَ مِنَ الْآدَمِيَّةِ الْمَشِيمَةُ قَوْلُهُ (فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ) هُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ كَيْفَ اسْتَمَرَّ فِي الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى ظَهْرِهِ وَأَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَجِسٍ قَالَ لِأَنَّ الْفَرْثَ وَرُطُوبَةَ الْبَدَنِ طَاهِرَانِ وَالسَّلَا مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا النَّجِسُ الدَّمُ وَهَذَا الْجَوَابُ يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَآخَرِينَ نَجَاسَتُهُ وَهَذَا الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا السَّلَا يَتَضَمَّنُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الدَّمِ فِي الْعَادَةِ وَلِأَنَّهُ ذَبِيحَةُ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ فَهُوَ نَجِسٌ وَكَذَلِكَ اللَّحْمُ وَجَمِيعُ أَجْزَاءِ هَذَا الْجَزُورِ وَأَمَّا الْجَوَابُ الْمَرْضِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ مَا وُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ فَاسْتَمَرَّ فِي سُجُودِهِ اسْتِصْحَابًا لِلطَّهَارَةِ وَمَا نَدْرِي هَلْ كَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ فَرِيضَةً فَتَجِبُ إِعَادَتُهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَنَا أَمْ غَيْرَهَا فَلَا تَجِبُ فَإِنْ وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ فالوقت موسع لها فإن قيل يبعد أن لا يُحِسُّ بِمَا وَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ قُلْنَا وَإِنْ أَحَسَّ بِهِ فَمَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ نَجَاسَةٌ وَاللَّهُ أعلم)(12/151)
قَوْلُهُ (لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ) هِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَحُكِيَ إِسْكَانُهَا وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَمَعْنَاهُ لَوْ كَانَ لِي قُوَّةٌ تَمْنَعُ أَذَاهُمْ أَوْ كَانَ لِي عَشِيرَةٌ بِمَكَّةَ تَمْنَعُنِي وَعَلَى هَذَا مَنَعَةٌ جَمْعُ مَانِعٍ كَكَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ قَوْلُهُ (وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا) فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ ثَلَاثًا وَقَوْلُهُ وَإِذَا سَأَلَ هُوَ الدُّعَاءُ لَكِنْ عَطَفَهُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ تَوْكِيدًا قَوْلُهُ (ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بِالْقَافِ واتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ غَلَطٌ وَصَوَابُهُ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بِالتَّاءِ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بَعْدَ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ عَلَى الصَّوَابِ وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَلَطٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْوَلِيدُ بن عقبة بالقاف هو بن أَبِي مُعَيْطٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْتَ مَوْجُودًا أَوْ كَانَ طِفْلًا صَغِيرًا جِدًّا فَقَدْ أُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ قَدْ! نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ لِيَمْسَحَ عَلَى رَأْسِهِ قَوْلُهُ (وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ) وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تَسْمِيَةُ السَّابِعِ أَنَّهُ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَوْلُهُ (وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ(12/152)
لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ) هَذِهِ إِحْدَى دَعَوَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَابَةُ وَالْقَلِيبُ هِيَ الْبِئْرُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ وَإِنَّمَا وُضِعُوا فِي الْقَلِيبِ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَلِئَلَّا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِرَائِحَتِهِمْ وَلَيْسَ هُوَ دَفْنًا لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يَجِبُ دَفْنُهُ قَالَ أَصْحَابُنَا بَلْ يُتْرَكُ فِي الصَّحْرَاءِ إِلَّا أَنْ يُتَأَذَّى بِهِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى بِبَدْرٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ السِّيَرِ قَالُوا إِنَّ عُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ وَهُوَ أَحَدُ السَّبْعَةِ كَانَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ فَاتَّهَمَهُ فِي حَرَمِهِ وَكَانَ جَمِيلًا فَنَفَخَ فِي إِحْلِيلِهِ سِحْرًا فَهَامَ مَعَ الْوُحُوشِ فِي بَعْضِ جَزَائِرِ الْحَبَشَةِ فَهَلَكَ قَالَ الْقَاضِي وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ رَأَى أَكْثَرَهُمْ بِدَلِيلِ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ مِنْهُمْ وَلَمْ يُقْتَلْ بِبَدْرٍ بَلْ حُمِلَ مِنْهَا أَسِيرًا وَإِنَّمَا قَتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبْرًا بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ بَدْرٍ بِعِرْقِ الظُّبْيَةِ قُلْتُ الظُّبْيَةُ ظَاءٌ مُعْجَمَةٌ مَضْمُومَةٌ ثُمَّ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتُ ثُمَّ هَاءٌ هَكَذَا ضَبَطَهُ الْحَازِمِيُّ في كتابه المؤتلف في الأماكن قال قَالَ الْوَاقِدِيُّ هُوَ مِنَ الرَّوْحَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةَ قَوْلُهُ (تَقَطَّعَتْ(12/153)
أَوْصَالُهُ فَلَمْ يُلْقَ فِي الْبِئْرِ) الْأَوْصَالُ الْمَفَاصِلُ قَوْلُهُ (فَلَمْ يُلْقَ) هَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْقَافِ فَقَطْ وَفِي أَكْثَرهَا فَلَمْ يُلْقَى بِالْأَلِفِ وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى لُغَةٍ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ وَقَرِيبًا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ (وَكَانَ يُسْتَحَبُّ ثَلَاثًا) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا يُسْتَحَبُّ بِالْبَاءِ الموحدة(12/154)
فِي آخِرِهِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ رُوِيَ بِهَاءٍ وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ قَالَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَمَعْنَاهُ الْإِلْحَاحُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1795] (فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلا بقرن الثعالب) أي لم أوطن لِنَفْسِي وَأَتَنَبَّهْ لِحَالِي وَلِلْمَوْضِعِ الَّذِي أَنَا ذَاهِبٌ إِلَيْهِ وَفِيهِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ قَرْنِ الثَّعَالِبِ لِكَثْرَةِ هَمِّي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ قَالَ الْقَاضِي قرن الثعالب هو قَرْنُ الْمَنَازِلِ وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ وَهُوَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ وَأَصْلُ الْقَرْنِ كُلُّ جَبَلٍ صَغِيرٍ يَنْقَطِعُ مِنْ جَبَلٍ كَبِيرٍ قَوْلُهُ (إِنْ شِئْتَ أَطْبَقْتُ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ) هُمَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبِالْخَاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهُمَا جَبَلَا مَكَّةَ أَبُو قُبَيْسٍ وَالْجَبَلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم
[1796] (هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله مالقيت ...
()
لَفْظُ مَا هُنَا بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ الَّذِي لَقِيتِهِ مَحْسُوبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ أَنَّ الرَّجَزَ هَلْ هُوَ شِعْرٌ وَأَنَّ مَنْ قَالَ هُوَ شِعْرٌ قال شرط الشعر أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا وَهَذَا لَيْسَ مَقْصُودًا وَأَنَّ الرواية المعروفة)(12/155)
دَمِيتِ وَلَقِيتِ بِكَسْرِ التَّاءِ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَسْكَنَهَا قَوْلُهُ (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ فَنُكِبَتْ إِصْبُعُهُ) كَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ فِي غَارٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْكِنَانِيُّ لَعَلَّهُ غَازِيًا فَتَصَحَّفَ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي بَعْضِ الْمُشَاهَدِ وَكَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ يُرَادُ بِالْغَارِ هُنَا الْجَيْشُ وَالْجَمْعُ لَا الْغَارِ الَّذِي هُوَ الْكَهْفُ فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ بَعْضِ الْمُشَاهَدِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا ظَنُّكَ بِامْرِئٍ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَارَيْنِ أَيْ الْعَسْكَرَيْنِ وَالْجَمْعَيْنِ قَوْلُهُ (وَاشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ما ودعك ربك وما قلى) قال بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا وَدَّعَكَ أَيْ مَا قَطَعَكَ مُنْذُ أَرْسَلَكَ وَمَا قَلَى أَيْ مَا أَبْغَضَكَ وَسُمِّيَ الْوَدَاعُ وَدَاعًا(12/156)
لِأَنَّهُ فِرَاقٌ وَمُتَارَكَةٌ وَقَوْلُهُ مَا قَرِبَكَ هُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْمُضَارِعُ يَقْرَبُكَ بِفَتْحِهَا وَقَوْلُهُ مَا وَدَّعَكَ هُوَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ عَلَى الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ وَقُرِئَ فِي الشَّاذِّ بِتَخْفِيفِهَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ مِنْ وَدَعَهُ يَدَعُهُ مَعْنَاهُ مَا تَرَكَكَ قَالَ الْقَاضِي النَّحْوِيُّونَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَأْتِيَ مِنْهُ مَاضٍ أَوْ مَصْدَرٌ قَالُوا وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْهُ الْمُسْتَقْبَلُ وَالْأَمْرُ لَا غَيْرَ وَكَذَلِكَ يَذَرُ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ جَاءَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ مِنْهُمَا جَمِيعًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ ... وَكَأَنَّ مَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ ... أَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ الَّذِي وَدَعُوا ...
(وَقَالَ مَا الَّذِي غَالَهُ فِي الْوَادِ حَتَّى يَدَعَهُ غَالَهُ بِالْغَيْنِ المعجمة أي أخذه قَوْلُهُ
[1798] (رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فدكية) إلا كاف بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيُقَالُ وِكَافٌ أَيْضًا وَالْقَطِيفَةُ دِثَارٌ مخمل جَمْعُهَا قَطَائِفُ وَقُطُفٌ وَالْفَدَكِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى فَدَكٍ بَلْدَةٍ مَعْرُوفَةٍ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مِنَ الْمَدِينَةِ قَوْلُهُ (وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ وَهُوَ يَعُودُ سعد بن عباد) 1 فِيهِ جَوَازُ الْإِرْدَافِ عَلَى الْحِمَارِ وَغَيْرِهِ مِنَ الدَّوَابِّ إِذَا كَانَ مُطِيقًا وَفِيهِ 2 جَوَازُ الْعِيَادَةِ رَاكِبًا وَفِيهِ 3 أَنَّ رُكُوبَ الْحِمَارِ لَيْسَ بِنَقْصٍ في حق)(12/157)
الْكِبَارِ قَوْلُهُ (عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ هُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنْ غُبَارِ حَوَافِرِهَا) قَوْلُهُ (خَمَّرَ أَنْفَهُ) أَيْ غَطَّاهُ قَوْلُهُ (فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِيهِ جَوَازُ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (أَيُّهَا الْمَرْءُ لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا بِأَلِفٍ فِي أَحْسَنَ أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ جَمَاهِيرِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ قَالَ وَوَقَعَ الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ الْأَحْسَنَ مِنْ هَذَا بِالْقَصْرِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ قَالَ الْقَاضِي وَهُوَ عِنْدِي أَظْهَرُ وَتَقْدِيرُهُ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ تَقْعُدَ فِي بَيْتِكَ وَلَا تَأْتِينَا قَوْلُهُ (فَلَمْ يَزَلْ يُخَفِّضُهُمْ) أَيْ يُسَكِّنُهُمْ وَيُسَهِّلُ الْأَمْرَ بَيْنَهُمْ قَوْلُهُ (وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ) بِضَمِّ الْبَاءِ عَلَى التَّصْغِيرِ قَالَ الْقَاضِي وَرُوِّينَا فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ الْبَحِيرَةِ مُكَبَّرَةً وَكِلَاهُمَا بِمَعْنًى وَأَصْلُهَا الْقَرْيَةُ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَدِينَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيَعْصِبُوهُ بِالْعِصَابَةِ) مَعْنَاهُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ مَلِكَهُمْ(12/158)
وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا مَلَّكُوا إِنْسَانًا أَنْ يتوجوه ويعصبوا قَوْلُهُ (شَرِقَ بِذَلِكَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ غَصَّ وَمَعْنَاهُ حَسَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان ذلك بسبب نفاقه عفانا اللَّهُ الْكَرِيمُ قَوْلُهُ (وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ) مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِسْلَامَ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا ظَاهِرَ النِّفَاقِ
[1799] قَوْلُهُ (وَهِيَ أَرْضٌ سَبَخَةٌ) هِيَ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْبَاءِ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ لِمُلُوحَةِ أَرْضِهَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِلْمِ وَالصَّفْحِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فِي اللَّهِ تَعَالَى وَدَوَامِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَأَلُّفِ قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(12/159)
(بَاب قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1800] (مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ) سَبَبُ السُّؤَالِ عَنْهُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ مَاتَ لِيَسْتَبْشِرَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ وَيَنْكَفَّ شَرُّهُ عَنْهُمْ قَوْلُهُ (ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَكَ) هَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَرَكَ بِالْكَافِ وَفِي بَعْضِهَا بَرَدَ بِالدَّالِ فَمَعْنَاهُ بِالْكَافِ سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ وَبِالدَّالِ مَاتَ يُقَالُ بَرَدَ إِذَا مَاتَ قَالَ الْقَاضِي رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ بَرَدَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْكَافِ قَالَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ مُحَقِّقُونَ الْكَافَ وَأَنَّ ابني عفراء تركاه عفيرا وبهذا كلم بن مَسْعُودٍ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَلَهُ مَعَهُ كَلَامٌ آخر كثير مذكور في غير مسلم وبن مَسْعُودٍ هُوَ الَّذِي أَجْهَزَ عَلَيْهِ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ قَوْلُهُ (وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ) أَيْ لَا عَارَ عَلَيَّ فِي قَتْلِكُمْ إِيَّايَ قَوْلُهُ (لَوْ غير أكار قتلني) الأكار الزَّرَّاعُ وَالْفَلَّاحُ وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ نَاقِصٌ وَأَشَارَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى ابْنَيْ عَفْرَاءَ اللَّذَيْنِ قَتَلَاهُ وَهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ وَنَخِيلٍ وَمَعْنَاهُ لَوْ كَانَ الَّذِي قَتَلَنِي غَيْرَ أَكَّارٍ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ وَأَعْظَمَ لِشَأْنِي وَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ نَقْصٌ فِي ذَلِكَ)
بَاب قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ طَاغُوتِ الْيَهُودِ
[1801] ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِيهِ قِصَّةَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ مَعَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ بِالْحِيلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ مُخَادَعَتِهِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ ذَلِكَ وَجَوَابِهِ فَقَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ إِنَّمَا قَتَلَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَقَضَ عَهْدَ النبي(12/160)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(وَهَجَاهُ وَسَبَّهُ وَكَانَ عاهده أن لا يُعِينَ عَلَيْهِ أَحَدًا ثُمَّ جَاءَ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُعِينًا عَلَيْهِ قَالَ وَقَدْ أَشْكَلَ قَتْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى بَعْضِهِمْ وَلَمْ يَعْرِفِ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَالَ الْقَاضِي قِيلَ هَذَا الْجَوَابُ وَقِيلَ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِأَمَانٍ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ وَإِنَّمَا كَلَّمَهُ فِي أَمْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَاشْتَكَى إِلَيْهِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ عَهْدٌ وَلَا أَمَانٌ قَالَ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ قَتْلَهُ كَانَ غَدْرًا وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ إِنْسَانٌ فِي مَجْلِسِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَمَرَ بِهِ عَلِيٌّ فَضُرِبَ عُنُقُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْغَدْرُ بَعْدَ أَمَانٍ مَوْجُودٍ وَكَانَ كَعْبٌ قَدْ نَقَضَ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُؤَمِّنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَرُفْقَتُهُ وَلَكِنَّهُ اسْتَأْنَسَ بِهِمْ فَتَمَكَّنُوا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ وَلَا أَمَانٍ وَأَمَّا تَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِبَابِ الْفَتْكِ فِي الْحَرْبِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْحَرْبُ بَلِ الْفَتْكُ هُوَ الْقَتْلُ عَلَى غِرَّةٍ وَغَفْلَةٍ وَالْغِيلَةُ نَحْوُهُ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُهُمْ عَلَى جَوَازِ اغْتِيَالِ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنَ الْكُفَّارِ وَتَبْيِيتِهِ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ إِلَى الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ (ائْذَنْ لِي فَلْأَقُلْ) مَعْنَاهُ ائْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ عَنِّي وَعَنْكَ ما رأيته مصلحة من التعريض وغيره فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ بَاطِنُهُ صَحِيحٌ وَيَفْهَمُ مِنْهُ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذَا جَائِزٌ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا مالم يَمْنَعْ بِهِ حَقًّا شَرْعِيًّا قَوْلُهُ (وَقَدْ عَنَّانَا) هَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ الْجَائِزِ بَلِ الْمُسْتَحَبِّ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي الْبَاطِنِ أَنَّهُ أَدَّبَنَا بِآدَابِ الشَّرْعِ التي فيها تعب لكنه تعب في مرضات اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَحْبُوبٌ لَنَا وَالَّذِي فَهِمَ الْمُخَاطَبُ مِنْهُ الْعَنَاءَ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْبُوبٍ قَوْلُهُ (وَأَيْضًا وَاللَّهِ لِتَمَلُّنَّهُ) هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْمِيمِ أي يتضجرن مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ)(12/161)
هذا الضجر قوله (يسب بن أَحَدِنَا فَيُقَالُ رُهِنَ فِي وَسْقَيْنِ مِنْ تَمْرٍ) هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ يُسَبُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ السَّبِّ وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِ رواة كِتَابَ مُسْلِمٍ يَشِبُّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ المعجمة من الشباب والصواب الأول والوسق بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا وَأَصْلُهُ الْحِمْلُ قَوْلُهُ (نَرْهَنُكَ اللأمة) هي بالهمز وَفَسَّرَهَا فِي الْكِتَابِ بِأَنَّهَا السِّلَاحُ وَهُوَ كَمَا قَالَ قَوْلُهُ (وَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْحَارِثِ وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ) أَمَّا الحارث فهو الحارث بن أوس بن أَخِي سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَأَمَّا أَبُو عَبْسٍ فَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَهُوَ جَبْرٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ كما ذكره في الكتاب ويقال بن جَابِرٍ وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ شَهِدَ بَدْرًا وَسَائِرَ الْمَشَاهِدِ وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدَ الْعُزَّى وَهُوَ وَقَعَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَأَبُو عَبْسٍ بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضِهَا وَأَبِي عِيسٍ بِالْيَاءِ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ أَيْضًا وَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي يَأْتِيهِ قَوْلُهُ (كَأَنَّهُ صوت دم أي صوت طالب أو سوط سَافِكِ دَمٍ) هَكَذَا فَسَّرُوهُ قَوْلُهُ (فَقَالَ إِنَّمَا هَذَا مُحَمَّدٌ وَرَضِيعُهُ وَأَبُو نَائِلَةَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لَنَا شَيْخُنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ صَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدٌ وَرَضِيعُهُ أَبُو نَائِلَةَ وَكَذَا ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ أَبَا نَائِلَةَ كَانَ رَضِيعًا لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَةَ قَالَ وَهَذَا عِنْدِي لَهُ وَجْهٌ إِنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ رَضِيعًا لِمُحَمَّدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(12/162)
(باب غزوة خيبر
[1365] قوله (فصلينا عندها صلاة الْغَدَاةَ بِغَلَسٍ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّبْكِيرِ بِالصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ تَسْمِيَةُ صَلَاةِ الصُّبْحِ غَدَاةً فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا فِي كِتَابِ الْمُسَاقَاةِ وَذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ جَوَازَ الْإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ إِذَا كَانَتْ مُطِيقَةً وَأَنَّ إِجْرَاءَ الْفَرَسِ وَالْإِغَارَةَ لَيْسَ بِنَقْصٍ وَلَا هَادِمٍ لِلْمُرُوءَةِ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ وَهُوَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقِتَالِ قَوْلُهُ (وَانْحَسَرَ الْإِزَارُ عَنْ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لَأَرَى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى أَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَتْ عَوْرَةً مِنَ الرَّجُلِ وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ آخَرِينَ أَنَّهَا عَوْرَةٌ وَقَدْ جَاءَتْ بِكَوْنِهَا عَوْرَةً أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ وَتَأَوَّلَ أَصْحَابُنَا حَدِيثَ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ انْحَسَرَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لِضَرُورَةِ الْإِغَارَةِ وَالْإِجْرَاءِ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ اسْتَدَامَ كَشْفُ الْفَخِذِ مَعَ إِمْكَانِ السَّتْرِ وَأَمَّا قَوْلُ أَنَسٍ فَإِنِّي لَأَرَى بَيَاضَ)(12/163)
فَخِذِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ فَجْأَةً لَا أَنَّهُ تَعَمَّدَهُ وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَرَ الْإِزَارَ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ انْحَسَرَ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَجَابَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَنْ هَذَا فَقَالَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَهُ بِانْكِشَافِ عَوْرَتِهِ وَأَصْحَابُنَا يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا يَمْتَنِعُ مِثْلُهُ قَوْلُهُ (اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ قَالَ الْقَاضِي قِيلَ تَفَاءَلَ بِخَرَابِهَا بِمَا رَآهُ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ آلَاتِ الْخَرَابِ مِنَ الْفُوسِ وَالْمَسَاحِي وَغَيْرِهَا وَقِيلَ أَخَذَهُ مِنَ اسْمِهَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ) السَّاحَةُ الْفِنَاءُ وَأَصْلُهَا الْفَضَاءُ بَيْنَ الْمَنَازِلِ فَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِشْهَادِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ بِالْقُرْآنِ فِي الْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ وَقَدْ جَاءَ لِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا فِي فَتْحِ مَكَّةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَطْعُنُ فِي الْأَصْنَامِ وَيَقُولُ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ قَالَ الْعُلَمَاءُ يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى ضَرْبِ الْأَمْثَالِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ وَالْمَزْحِ وَلَغْوِ الْحَدِيثِ فَيُكْرَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ (مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ) هُوَ الْجَيْشُ وَقَدْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالُوا سُمِّيَ خَمِيسًا لِأَنَّهُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ مَيْمَنَةٌ وَمَيْسَرَةٌ وَمُقَدِّمَةٌ وَمُؤَخِّرَةٌ وَقَلْبٌ قَالَ الْقَاضِي وَرُوِّينَاهُ بِرَفْعِ الْخَمِيسُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ مُحَمَّدٌ وَبِنَصَبِهَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ قَوْلُهُ (أَصَبْنَاهَا عَنْوَةً) هِيَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ قَهْرًا لَا صُلْحًا قَالَ الْقَاضِي قَالَ الْمَازِرِيُّ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا كُلَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنِ بن شِهَابٍ أَنَّ بَعْضَهَا فُتِحَ عَنْوَةً وَبَعْضَهَا صُلْحًا قَالَ وَقَدْ يُشْكِلُ مَا رُوِيَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ قَسَمَهَا نِصْفَيْنِ نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَتِهِ وَنِصْفًا لِلْمُسْلِمِينَ(12/164)
قَالَ وَجَوَابُهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ حَوْلَهَا ضِيَاعٌ وَقُرًى أَجْلَى عَنْهَا أَهْلُهَا فَكَانَتْ خَالِصَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا سِوَاهَا لِلْغَانِمِينَ فَكَانَ قَدْرُ الَّذِي خَلَوْا عَنْهُ النِّصْفَ فَلِهَذَا قُسِمَ نِصْفَيْنِ قَالَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِغَارَةَ عَلَى الْعَدُوِّ يُسْتَحَبُّ كَوْنُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ عِنْدَ الصُّبْحِ لِأَنَّهُ وَقْتُ غِرَّتِهِمْ وَغَفْلَةِ أَكْثَرِهِمْ ثُمَّ يُضِيءُ لَهُمُ النَّهَارُ لِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بِخِلَافِ مُلَاقَاةِ الْجُيُوشِ وَمُصَافَفَتِهِمْ وَمُنَاصَبَةِ الْحُصُونِ فَإِنَّ هَذَا يُسْتَحَبُّ كَوْنُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِيَدُومَ النَّشَاطُ بِبَرْدِ الْوَقْتِ بِخِلَافِ ضِدِّهِ قوله (وخرجوا بفؤوسهم ومكاتلهم ومرورهم) الفؤس بالهمزة جمع فأس بالهمزة كرأس ورؤس والمكاتل جَمْعُ مِكْتَلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ الْقُفَّةُ يُقَالُ لَهُ مِكْتَلٌ وَقُفَّةٌ وَزَبِيلٌ وَزَنْبِلٌ وزِنْبِيلٌ وَعِرْقٌ وسفيفة بالسين المهملة وبفاءين والمرور جَمْعُ مَرٍّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهِيَ الْمَسَاحِي قَالَ الْقَاضِي قِيلَ هِيَ حِبَالُهُمُ الَّتِي يَصْعَدُونَ بِهَا إلى النخل واحدها مر ومر وَقِيلَ مَسَاحِيهِمْ وَاحِدُهَا مَرٌّ لَا غَيْرَ
[1802] قَوْلُهُ (أَلَا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيَّاتِكَ) وَفِي(12/165)
بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ هُنَيْهَاتِكَ أَيْ أَرَاجِيزِكَ وَالْهَنَةُ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَفِيهِ جَوَازُ إِنْشَاءِ الأراجيز وغيرها من الشعر وسماعها مالم يَكُنْ فِيهِ كَلَامٌ مَذْمُومٌ وَالشِّعْرُ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ قَوْلُهُ (فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ) فيه استحباب الحدا في الأسفار لتنشط النُّفُوسِ وَالدَّوَابِّ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ وَاشْتِغَالِهَا بِسَمَاعِهِ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِأَلَمِ السَّيْرِ قَوْلُهُ (اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا) كَذَا الرِّوَايَةُ قَالُوا وَصَوَابُهُ فِي الْوَزْنِ لَاهُمَّ أَوْ تَاللَّهِ أو وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْتَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَوَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ قَوْلُهُ (فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا) قَالَ الْمَازِرِيُّ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُشْكِلَةٌ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فَدَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا يُقَالُ لَهُ سُبْحَانَهُ فَدَيْتُكَ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَكْرُوهٍ يُتَوَقَّعُ حُلُولُهُ بِالشَّخْصِ فَيَخْتَارُ شَخْصٌ آخَرُ أَنْ يَحِلَّ ذَلِكَ بِهِ وَيَفْدِيهِ منه قال ولعل هذا وقع مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ كَمَا يُقَالُ قَاتَلَهُ اللَّهُ وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرِبَتْ يَدَاكَ وَتَرِبَتْ يَمِينُكَ وَوَيْلُ أُمِّهِ وَفِيهِ كُلُّهُ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْفَادِيَ مُبَالِغٌ في طلب رضى الْمُفَدَى حِينَ بَذَلَ نَفْسَهُ عَنْ نَفْسِهِ لِلْمَكْرُوهِ فَكَانَ مُرَادُ الشَّاعِرِ أَنِّي أَبْذُلُ نَفْسِي فِي رِضَاكَ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُهُ إِلَى جِهَةٍ صَحِيحَةٍ فَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ وَاسْتِعَارَتُهُ وَالتَّجَوُّزُ بِهِ يَفْتَقِرُ إِلَى وُرُودِ الشَّرْعِ بِالْإِذْنِ فِيهِ قَالَ وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فدا لَكَ رَجُلًا يُخَاطِبُهُ وَفَصَلَ بَيْنَ الْكَلَامِ فَكَأَنَّهُ قَالَ فَاغْفِرْ ثُمَّ دَعَا إِلَى رَجُلٍ يُنَبِّهُهُ فقال فدالك ثُمَّ عَادَ إِلَى تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَقَالَ مَا اقْتَفَيْنَا قَالَ وَهَذَا تَأْوِيلٌ يَصِحُّ مَعَهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى لَوْلَا أَنَّ فِيهِ تَعَسُّفًا اضْطَرَّنَا إِلَيْهِ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ وَقَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُعَلَّقِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مَا يُسَهِّلُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ (إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا أَتَيْنَا بِالْمُثَنَّاةِ فِي أَوَّلِهِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ رُوِيَ بِالْمُثَنَّاةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ فَمَعْنَى الْمُثَنَّاةِ إِذَا صِيحَ بِنَا لِلْقِتَالِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَكَارِمِ أَتَيْنَا وَمَعْنَى الْمُوَحَّدَةِ أَبَيْنَا الْفِرَارَ وَالِامْتِنَاعَ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ فِدَاءً لَكَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ وَالْفَاءُ مَكْسُورَةٌ حَكَاهُ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ فَأَمَّا في المصدر(12/166)
فَالْمَدُّ لَا غَيْرَ قَالَ وَحَكَى الْفَرَّاءُ فَدًى لك مفتوح مقصور قال وَرُوِّينَاهُ هُنَا فِدَاءٌ لَكَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَيْ لَكَ نَفْسِي فِدَاءٌ أَوْ نفسي فداء لك وبالنصب عَلَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَى اقْتَفَيْنَا اكْتَسَبْنَا وَأَصْلُهُ الِاتِّبَاعُ قَوْلُهُ (وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا) اسْتَغَاثُوا بِنَا وَاسْتَفْزَعُونَا لِلْقِتَالِ قِيلَ هِيَ مِنَ التَّعْوِيلِ عَلَى الشَّيْءِ وهو الاعتماد عليه وقيل مِنَ الْعَوِيلِ وَهُوَ الصَّوْتُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ هَذَا السَّائِقُ قَالُوا عَامِرٌ قَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ وَجَبَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْلَا أَمْتَعْتَنَا بِهِ) مَعْنَى وَجَبَتْ أَيْ ثَبَتَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ وَسَيَقَعُ قَرِيبًا وَكَانَ هَذَا مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الدُّعَاءَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ اسْتُشْهِدَ فَقَالُوا هَلَّا أَمْتَعْتَنَا بِهِ أَيْ وَدِدْنَا أَنَّكَ لَوْ أَخَّرْتَ الدُّعَاءَ لَهُ بِهَذَا إِلَى وَقْتٍ آخَرَ لِنَتَمَتَّعَ بِمُصَاحَبَتِهِ وَرُؤْيَتِهِ مُدَّةً قَوْلُهُ (أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ) أَيْ جُوعٌ شَدِيدٌ قَوْلُهُ (لَحْمُ حُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ) هَكَذَا هُوَ حُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ بِإِضَافَةِ حُمُرٍ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ فَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ تَقْدِيرُهُ حُمُرُ الْحَيَوَانَاتِ الْإِنْسِيَّةِ وَأَمَّا الْإِنْسِيَّةُ فَفِيهَا لُغَتَانِ وَرِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَآخَرُونَ أَشْهَرُهُمَا كَسْرُ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانُ النُّونِ قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ رِوَايَةُ أَكْثَرِ الشُّيُوخِ وَالثَّانِيَةُ فَتْحُهُمَا جَمِيعًا وَهُمَا جَمِيعًا نِسْبَةٌ إِلَى الْإِنْسِ وَهُمُ النَّاسُ لِاخْتِلَاطِهَا بِالنَّاسِ(12/167)
بِخِلَافِ حُمُرِ الْوَحْشِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا) هَذَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا الْحَدِيثِ وَشَرْحُهُ مَعَ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَمُخْتَصَرُ الْأَمْرِ بِإِرَاقَتِهِ أَنَّ السَّبَبَ الصَّحِيحَ فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا لِأَنَّهَا نَجِسَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ نَهَى لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَالثَّالِثُ لِأَنَّهَا أَخَذُوهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ هُمَا لِأَصْحَابِ مَالِكٍ الْقَائِلِينَ بِإِبَاحَةِ لُحُومِهَا وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ أَوْ يُهْرِيقُوهَا وَيَغْسِلُوهَا قَالَ أَوْ ذَاكَ) فَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ فَرَأَى كَسْرَهَا ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِغَسْلِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ لَهُ لَأَجْرَانِ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ لَأَجْرَانِ بِالْأَلِفِ وَفِي بَعْضِهَا لَأَجْرَيْنِ بِالْيَاءِ وَهُمَا صَحِيحَانِ لَكِنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَشْهَرُ الْأَفْصَحُ وَالْأَوَّلُ لُغَةُ أَرْبَعِ قَبَائِلَ من العرب ومنها قوله تعالى إن هذان لساحران وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْأَجْرَيْنِ ثَبَتَا لَهُ لِأَنَّهُ جَاهَدَ مُجَاهِدٌ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي شَرْحِهِ فَلَهُ أَجْرٌ بِكَوْنِهِ جَاهِدًا أَيْ مُجْتَهِدًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى شَدِيدَ الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَلَهُ أَجْرٌ آخَرُ بِكَوْنِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَمَّا قَامَ بِوَصْفَيْنِ كَانَ لَهُ أَجْرَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ) هَكَذَا رَوَاهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ لَجَاهِدٌ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَتَنْوِينِ الدَّالِ مُجَاهِدٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَنْوِينِ الدَّالِ أَيْضًا وَفَسَّرُوا لَجَاهِدٌ بِالْجَادِّ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ أَيْ إِنَّهُ(12/168)
لَجَادٌّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَالْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ الْغَازِي وَقَالَ الْقَاضِي فِيهِ وَجْهٌ آخر أنه جمع اللفظين توكيدا قال بن الْأَنْبَارِيِّ الْعَرَبُ إِذَا بَالَغَتْ فِي تَعْظِيمِ شَيْءٍ اشْتَقَّتْ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ لَفْظًا آخَرَ عَلَى غَيْرِ بِنَائِهِ زِيَادَةً فِي التَّوْكِيدِ وَأَعْرَبُوهُ بِإِعْرَابِهِ فَيَقُولُونَ جَادٌّ مُجِدٌّ وَلَيْلٌ لَائِلٌ وَشِعْرٌ شَاعِرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَرَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ وَبَعْضُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ لَجَاهَدَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالدَّالِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مَجَاهِدَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَنَصْبِ الدَّالِ بِلَا تَنْوِينٍ قَالَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بِهَا مِثْلَهُ) ضَبَطْنَا هَذِهِ اللَّفْظَةَ هُنَا فِي مُسْلِمٍ بِوَجْهَيْنِ وَذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَيْضًا الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ جماهير رواة البخاري ومسلم مشى بها بفتح الميم وَبَعْدَ الشِّينِ يَاءٌ وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ المشى وبها جَارٌّ وَمَجْرُورٌ وَمَعْنَاهُ مَشَى بِالْأَرْضِ أَوْ فِي الْحَرْبِ وَالثَّانِي مُشَابِهًا بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَنْوِينِ الْهَاءِ مِنَ الْمُشَابَهَةِ أَيْ مُشَابِهًا لِصِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الْقِتَالِ أَوْ غَيْرِهِ مِثْلَهُ وَيَكُونُ مُشَابِهًا مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ رَأَيْتُهُ مُشَابِهًا وَمَعْنَاهُ قَلَّ عَرَبِيٌّ يُشْبِهُهُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَضَبَطَهُ بعض رواة البخاري نشأ بها بِالنُّونِ وَالْهَمْزِ أَيْ شَبَّ وَكَبِرَ وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى الْحَرْبِ أَوِ الْأَرْضِ أَوْ بِلَادِ الْعَرَبِ قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ أَوْجُهُ الرِّوَايَاتِ قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنِي أبو الطاهر أخبرنا بن وهب أخبرني يونس عن بن شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَنَسَبَهُ غَيْرُ بن وهب فقال بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ قَالَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ(12/169)
مُسْلِمٍ وَهُوَ صَحِيحٌ وَهَذَا مِنْ فَضَائِلِ مُسْلِمٍ وَدَقِيقِ نَظَرِهِ وَحُسْنِ خِبْرَتِهِ وَعَظِيمِ إِتْقَانِهِ وَسَبَبُ هَذَا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ وَالنَّسَائِيَّ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ بن شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ أبو دَاوُدُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الصَّوَابُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كعب وَأَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ هَذَا هُوَ شَيْخُ أَبِي دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عن بن وَهْبٍ قَالَ الْحُفَّاظُ وَالْوَهْمُ فِي هَذَا مِنَ بن وَهْبٍ فَجَعَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ رَاوِيًا عَنْ سَلَمَةَ وَجَعَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ رَاوِيًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ بَلْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَرْوِيهِ عَنْ سَلَمَةَ وَإِنَّمَا عَبْدُ اللَّهِ وَالِدُهُ فَذُكِرَ فِي نَسَبِهِ لِأَنَّ لَهُ رِوَايَةً فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَاحْتَاطَ مُسْلِمٌ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه(12/170)
فَلَمْ يَذْكُرْ فِي رِوَايَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَعَبْدَ الله كما رواه بن وَهْبٍ بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَمْ ينسبه لأن بن وهب لم يَنْسُبْهُ وَأَرَادَ مُسْلِمٌ تَعْرِيفَهُ فَقَالَ قَالَ غَيْرُ بن وَهْبٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ فَحَصَلَ تَعْرِيفُهُ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ للتعريف إلى بن وَهْبٍ وَحَذَفَ مُسْلِمٌ ذِكْرَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ رواية بن وَهْبٍ وَهَذَا جَائِزٌ فَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ عَنْ رَجُلَيْنِ كَانَ لَهُ حَذْفُ أَحَدِهِمَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْآخَرِ فَأَجَازُوا هَذَا الْكَلَامَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ فَإِذَا كَانَ عُذْرٌ بِأَنْ كَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ غَلَطًا كَمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَانَ الْجَوَازُ أَوْلَى
(بَاب غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَهِيَ الْخَنْدَقُ
[1803] قَوْلُهُ (الْمَلَأُ قَدْ أَبَوْا عَلَيْنَا) هُمْ أَشْرَافُ الْقَوْمِ وَقِيلَ هُمُ الرِّجَالُ لَيْسَ فِيهِمْ نِسَاءٌ وَهُوَ مَهْمُوزٌ مَقْصُورٌ كَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَمَعْنَى أَبَوْا عَلَيْنَا امْتَنَعُوا مِنْ إِجَابَتِنَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الرَّجَزِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْكَلَامِ فِي حَالِ الْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ وَفِيهِ عَمَلُ الْفُضَلَاءِ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا وَمُسَاعَدَتُهُمْ فِي أعمال)(12/171)
البر
[1804] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ) أَيْ لَا عَيْشَ بَاقٍ أو لا عيش مطلوب والله أعلم(12/172)
(باب غزوة ذي قرد وغيرها قَوْلُهُ
[1806] (كَانَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْعَى بِذِي قَرَدٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ والراء بالدال الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ مَاءٌ عَلَى نَحْوِ يَوْمٍ مِنَ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي بِلَادَ غَطَفَانَ وَاللِّقَاحُ جَمْعُ لِقْحَةٍ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا وَهِيَ ذَاتُ اللَّبَنِ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ وَسَبَقَ بَيَانُهَا قَوْلُهُ (فَصَرَخْتُ ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ يَا صَبَاحَاهُ) فِيهِ جَوَازُ مِثْلِهِ لِلْإِنْذَارِ بِالْعَدُوِّ وَنَحْوِهِ قَوْلُهُ (فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَقُولُ)(12/173)
أنا بن الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ ...
()
فِيهِ جَوَازُ قَوْلِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْقِتَالِ وَتَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ شُجَاعًا لِيُرْعِبَ خَصْمَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ الْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ قَالُوا مَعْنَاهُ الْيَوْمَ يَوْمُ هَلَاكِ اللِّئَامِ وَهُمُ الرُّضَّعُ مِنْ قَوْلِهِمْ لَئِيمٌ رَاضِعٌ أَيْ رَضَعَ اللُّؤْمَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَقِيلَ لِأَنَّهُ يَمُصُّ حَلَمَةَ الشَّاةِ وَالنَّاقَةِ لِئَلَّا يُسْمِعَ السُّؤَّالَ وَالضِّيفَانَ صَوْتَ الْحِلَابِ فَيَقْصِدُوهُ وَقِيلَ لِأَنَّهُ يَرْضَعُ طَرَفَ الْخِلَالِ الَّذِي يُخَلِّلُ بِهِ أَسْنَانَهُ وَيَمُصُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْيَوْمَ يُعْرَفُ مَنْ رَضَعَ كَرِيمَةً فَأَنْجَبَتْهُ أَوْ لَئِيمَةً فَهَجَّنَتْهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْيَوْمَ يُعْرَفُ مَنْ أَرْضَعَتْهُ الْحَرْبُ مِنْ صِغَرِهِ وَتَدَرَّبَ بِهَا وَيُعْرَفُ غَيْرُهُ قَوْلُهُ (حَمَيْتُ الْقَوْمَ الْمَاءَ) أَيْ مَنَعْتُهُمْ إِيَّاهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ) هُوَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَمَعْنَاهُ فَأَحْسِنْ وَارْفُقْ وَالسَّجَاحَةُ السُّهُولَةُ أَيْ لَا تَأْخُذْ بِالشِّدَّةِ بَلِ ارْفُقْ فَقَدْ حَصَلَتِ النكابة في العدو ولله الحمد قوله
[1807] (قدمنا المدينة وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ) هَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ وفي)(12/174)
رِوَايَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِائَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةٍ قَوْلُهُ (فَقَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَبَا الرَّكِيَّةِ) الْجَبَا بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورٌ وَهِيَ مَا حَوْلَ الْبِئْرِ وَأَمَّا الرَّكِيُّ فَهُوَ الْبِئْرُ وَالْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ رَكِيٌّ بِغَيْرِ هَاءٍ وَوَقَعَ هُنَا الرَّكِيَّةُ بِالْهَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ حَكَاهَا الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ قَوْلُهُ (فَإِمَّا دَعَا وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا فَجَاشَتْ فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ بَسَقَ بِالسِّينِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ يُقَالُ بَزَقَ وَبَصَقَ وَبَسَقَ ثلاث لغات بمعنى والسين قليلة الاستعمال وجاشت أَيِ ارْتَفَعَتْ وَفَاضَتْ يُقَالُ جَاشَ الشَّيْءُ يَجِيشُ جَيَشَانًا إِذَا ارْتَفَعَ وَفِي هَذَا مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَبَقَ مِرَارًا كَثِيرَةً التَّنْبِيهِ عَلَى نَظَائِرِهَا قَوْلُهُ (وَرَآنِي عَزِلًا) ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا فَتْحُ الْعَيْنِ مَعَ كَسْرِ الزَّايِ وَالثَّانِي ضَمُّهُمَا وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْكِتَابِ بِالَّذِي لَا سِلَاحَ مَعَهُ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا أَعْزَلَ وَهُوَ أَشْهَرُ اسْتِعْمَالًا قَوْلُهُ (حَجَفَةٌ أَوْ دَرَقَةٌ) هُمَا شَبِيهَتَانِ بِالتُّرْسِ قَوْلُهُ (اللهم(12/175)
ابْغِنِي حَبِيبًا) أَيْ أَعْطِنِي قَوْلُهُ (ثُمَّ إِنَّ المشركين راسلونا الصلح) هكذا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ رَاسَلُونَا مِنَ الْمُرَاسَلَةِ وَفِي بَعْضِهَا رَاسُّونَا بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَحَكَى الْقَاضِي فَتْحَهَا أَيْضًا وَهُمَا بِمَعْنَى رَاسَلُونَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ رَسَّ الْحَدِيثَ يَرُسُّهُ إِذَا ابْتَدَأَهُ وَقِيلَ مِنْ رَسَّ بَيْنَهُمْ أَيْ أَصْلَحَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَاتَحُونَا مِنْ قَوْلِهِمْ بَلَغَنِي رَسَّ مِنَ الْخَبَرِ أَيْ أَوَّلَهُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَاسَوْنَا بِالْوَاوِ أَيِ اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَهُمْ عَلَى الصُّلْحِ وَالْوَاوُ فِيهِ بَدَلٌ مِنَ الْهَمْزَةِ وَهُوَ مِنَ الْأُسْوَةِ قَوْلُهُ (كُنْتُ تَبَعًا لِطَلْحَةَ) أَيْ خَادِمًا أَتْبَعُهُ قَوْلُهُ (أَسْقِي فَرَسَهُ وَأَحُسُّهُ) أَيْ أَحُكُّ ظَهْرَهُ بِالْمِحَسَّةِ لِأُزِيلَ عَنْهُ الْغُبَارَ وَنَحْوَهُ قَوْلُهُ (أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا) أَيْ كَنَسْتُ مَا تَحْتَهَا مِنَ الشَّوْكِ قَوْلُهُ (قُتِلَ بن زُنَيْمٍ) هُوَ بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ النُّونِ قَوْلُهُ (فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي) أَيْ سَلَلْتُهُ قَوْلُهُ (وَأَخَذْتُ سِلَاحَهُمْ فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا فِي يَدِي) الضِّغْثُ الْحُزْمَةُ قَوْلُهُ (جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْعَبَلَاتِ يُقَالُ لَهُ مِكْرِزٌ) هُوَ بِمِيمٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ كَافٍ ثُمَّ رَاءٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ زَايٍ وَالْعَبَلَاتُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ(12/176)
وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ الْعَبَلَاتُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ أُمَيَّةُ الصُّغْرَى وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهِمْ عَبَلِيٌّ تَرُدُّهُ إِلَى الْوَاحِدِ قَالَ لِأَنَّ اسْمَ أُمِّهِمْ عَبْلَةٌ قَالَ الْقَاضِي أُمَيَّةُ الْأَصْغَرُ وَأَخَوَاهُ نَوْفَلٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عبد شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ نُسِبُوا إِلَى أُمٍّ لَهُمْ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ اسْمُهَا عَبْلَةُ بِنْتُ عُبَيْدٍ قَوْلُهُ (عَلَى فَرَسٍ مُجَفَّفٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ الْأُولَى الْمُشَدَّدَةِ أَيْ عَلَيْهِ تِجْفَافٌ بِكَسْرِ التَّاءِ وَهُوَ ثَوْبٌ كَالْجُلِّ يَلْبَسُهُ الْفَرَسُ لِيَقِيَهُ مِنَ السِّلَاحِ وَجَمْعُهُ تَجَافِيفُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دَعُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ وَثِنَاهُ) أَمَّا الْبَدْءُ فَبِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ وَبِالْهَمْزِ أَيِ ابْتِدَاؤُهُ وَأَمَّا ثِنَاهُ فوقع في أكثر النسخ ثناه بثاء مُثَلَّثَةٌ مَكْسُورَةٌ وَفِي بَعْضِهَا ثُنْيَاهُ بِضَمِّ الثَّاءِ وَبِيَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ بَعْدَ النُّونِ وَرَوَاهُمَا جَمِيعًا القاضي وذكر الثاني عن رواية بن مَاهَانَ وَالْأَوَّلُ عَنْ غَيْرِهِ قَالَ وَهُوَ الصَّوَابُ أَيْ عَوْدَةٌ ثَانِيَةٌ قَوْلُهُ (بَنِي لِحْيَانَ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ قَوْلُهُ (لِمَنْ رَقِيَ الْجَبَلَ وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ (فَرَقِيتُ) كِلَاهُمَا بِكَسْرِ الْقَافِ قَوْلُهُ (فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي لِحْيَانَ جَبَلٌ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ) هَذِهِ اللَّفْظَةُ ضَبَطُوهَا بِوَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَحَدُهُمَا وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِضَمِّ الْهَاءِ على(12/177)
الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ هَمُّوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وخافوا عائلتهم يقال همني الأمر وأهمني وقيل همني إذا بني وأهمني اغمني قَوْلُهُ (وَخَرَجْتُ بِفَرَسٍ لِطَلْحَةَ أُنَدِّيهِ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ أُنَدِّيهِ بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ نُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ دَالٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي فِي الشَّرْحِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُوَاةِ مُسْلِمٍ غَيْرَ هَذَا وَنَقَلَهُ فِي الْمَشَارِقِ عَنْ جَمَاهِيرِ الرُّوَاةِ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي الْحَذَّاءِ فِي مُسْلِمٍ أُبْدِيهِ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ النُّونِ وَكَذَا قاله بن قُتَيْبَةَ أَيْ أُخْرِجُهُ إِلَى الْبَادِيَةِ وَأُبْرِزُهُ إِلَى مَوْضِعِ الْكَلَأِ وَكُلُّ شَيْءٍ أَظْهَرْتَهُ فَقَدْ أَبْدَيْتَهُ وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ بِالنُّونِ وَهِيَ رِوَايَةُ جَمِيعِ الْمُحَدِّثِينَ وَقَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ وَالْأَزْهَرِيِّ وَجَمَاهِيرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُورِدَ الْمَاشِيَةَ الْمَاءَ فَتُسْقَى قَلِيلًا ثُمَّ تُرْسَلَ فِي الْمَرْعَى ثُمَّ تَرِدَ الْمَاءَ فَتَرِدَ قَلِيلًا ثُمَّ تُرَدَّ إِلَى الْمَرْعَى قَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَنْكَرَ بن قُتَيْبَةَ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ وَالْأَصْمَعِيِّ كَوْنَهُمَا جَعَلَاهُ بِالنُّونِ وَزَعَمَ أَنَّ الصَّوَابَ بِالْبَاءِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ أخطأ بن قُتَيْبَةَ وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ قَوْلُهُ (فَأَصُكُّ سَهْمًا فِي رَحْلِهِ حَتَّى خَلَصَ نَصْلُ السَّهْمِ إِلَى كَتِفِهِ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ رحلة بالحاء وكتفه بالتاء بَعْدَهَا فَاءٌ وَكَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ وكذا هو في أكثر الروايات(12/178)
والأول هو الأظهر وفي بعضها رجله بالجيم وكعبه بِالْعَيْنِ ثُمَّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَالُوا وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَأَصُكُّهُ بِسَهْمٍ فِي نُغْضِ كَتِفِهِ قَالَ الْقَاضِي فِي الشَّرْحِ هَذِهِ رِوَايَةُ شُيُوخِنَا وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُصِيبَ أَعْلَى مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ فَيُصِيبَ حِينَئِذٍ إذا أنفذ كَتِفَهُ وَمَعْنَى أَصُكُّ أَضْرِبُ قَوْلُهُ (فَمَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ) أَيْ أَعْقِرُ خَيْلَهُمْ وَمَعْنَى أَرْمِيهِمْ أَيْ بِالنَّبْلِ قَالَ الْقَاضِي وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ هُنَا أُرَدِّيهِمْ بِالدَّالِ قَوْلُهُ (فَجَعَلْتُ أُرَدِّيهِمْ بِالْحِجَارَةِ) أَيْ أَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ الَّتِي تُسْقِطُهُمْ وَتُنْزِلُهُمْ قَوْلُهُ (جَعَلْتُ عَلَيْهِمْ آرَامًا مِنَ الْحِجَارَةِ) هُوَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَهِيَ الْأَعْلَامُ وَهِيَ حِجَارَةٌ تُجْمَعُ وَتُنْصَبُ فِي الْمَفَازَةِ يُهْتَدَى بِهَا وَاحِدُهَا إِرَمٌ كَعِنَبٍ وَأَعْنَابٍ قَوْلُهُ (وَجَلَسْتُ عَلَى رَأْسِ قَرْنٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهُوَ كُلُّ جَبَلٍ صَغِيرٍ مُنْقَطِعٍ عَنِ الْجَبَلِ الْكَبِيرِ قَوْلُهُ (لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرْحِ) هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ أَيْ شِدَّةٌ قَوْلُهُ (يتخللون الشجر(12/179)
أَيْ يَدْخُلُونَ مِنْ خِلَالِهَا أَيْ بَيْنَهَا قَوْلُهُ (مَاءٌ يُقَالُ لَهُ ذَا قَرَدٍ) كَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ ذَا بِأَلِفٍ وَفِي بَعْضِهَا ذُو قَرَدٍ بِالْوَاوِ وَهُوَ الْوَجْهُ قَوْلُهُ (فَحَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَلَامٍ مُشَدَّدَةٍ غَيْرِ مَهْمُوزَةٍ أَيْ طَرَدْتُهُمْ عَنْهُ وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي أَجْلَيْتُهُمْ عَنْهُ بِالْجِيمِ قال(12/180)
الْقَاضِي كَذَا رِوَايَتُنَا فِيهِ هُنَا غَيْرُ مَهْمُوزٍ قَالَ وَأَصْلُهُ الْهَمْزُ فَسَهَّلَهُ وَقَدْ جَاءَ مَهْمُوزًا بَعْدَ هَذَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ (فَأَصُكُّهُ بِسَهْمٍ فِي نُغْضِ كَتِفِهِ) هُوَ بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ ثم غيرن مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَهُوَ الْعَظْمُ الرَّقِيقُ عَلَى طَرَفِ الْكَتِفِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ تَحَرُّكِهِ وَهُوَ النَّاغِضُ أَيْضًا قَوْلُهُ (يَا ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ أَكْوَعُهُ بُكْرَةَ قُلْتُ نَعَمْ) مَعْنَى ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ فَقَدَتْهُ وَقَوْلُهُ أَكْوَعُهُ هُوَ بِرَفْعِ الْعَيْنِ أَيْ أَنْتَ الْأَكْوَعُ الَّذِي كُنْتَ بُكْرَةَ هَذَا النَّهَارِ وَلِهَذَا قَالَ نَعَمْ وَبُكْرَةَ مَنْصُوبٌ غَيْرُ مَنُونٍ قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يُقَالُ أَتَيْتُهُ بُكْرَةً بِالتَّنْوِينِ إِذَا أَرَدْتَ أَنَّكَ لَقِيتَهُ بَاكِرًا فِي يَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ قَالُوا وَإِنْ أَرَدْتَ بُكْرَةَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ قُلْتَ أَتَيْتُهُ بُكْرَةَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِأَنَّهَا مِنَ الظُّرُوفِ غَيْرِ الْمُتَمَكِّنَةِ قَوْلُهُ (وَأَرْدَوْا فَرَسَيْنِ عَلَى ثَنِيَّةٍ) قَالَ الْقَاضِي رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْمُعْجَمَةِ قَالَ وَكِلَاهُمَا مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى فَبِالْمُعْجَمَةِ مَعْنَاهُ خَلَّفُوهُمَا وَالرَّذِيُّ الضَّعِيفُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَبِالْمُهْمَلَةِ مَعْنَاهُ أَهْلَكُوهُمَا وَأَتْعَبُوهُمَا حتى أسقطوهما تركوهما وَمِنْهُ التَّرْدِيَةُ وَأَرَدَتِ الْفَرَسُ الْفَارِسَ أَسْقَطْتُهُ قَوْلُهُ وَلَحِقَنِي عَامِرٌ بِسَطِيحَةٍ فِيهَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ السَّطِيحَةُ إِنَاءٌ مِنْ جُلُودٍ سُطِحَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَالْمَذْقَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قَلِيلٌ مِنْ لَبَنٍ مَمْزُوجٍ بِمَاءٍ قَوْلُهُ (وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي حَلَأْتُهُمْ عَنْهُ) كَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ حَلَأْتُهُمْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْهَمْزِ وفي بعضها حليتهم عَنْهُ بِلَامٍ مُشَدَّدَةٍ غَيْرِ مَهْمُوزٍ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا قَوْلُهُ (نَحَرَ نَاقَةً مِنَ(12/181)
الْإِبِلِ الَّذِي اسْتُنْفِذَتْ مِنَ الْقَوْمِ) كَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الَّذِي وَفِي بَعْضِهَا الَّتِي وَهُوَ أَوْجَهُ لِأَنَّ الْإِبِلَ مُؤَنَّثَةٌ وَكَذَا أَسْمَاءُ الْجُمُوعِ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّينَ وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ أَيْضًا وَأَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى الْغَنِيمَةِ لَا إِلَى لَفْظِ الْإِبِلِ قَوْلُهُ (ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَنْيَابُهُ وَقِيلَ أَضْرَاسُهُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ) هَذَا فِيهِ اسْتِحْبَابُ الثَّنَاءِ عَلَى الشُّجْعَانِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْفَضَائِلِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ صَنِيعِهِمُ الْجَمِيلَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّرْغِيبِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي الْإِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ الْجَمِيلِ وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ مَنْ يُأْمَنُ الْفِتْنَةُ عَلَيْهِ بِإِعْجَابٍ وَنَحْوِهِ قَوْلُهُ (ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ فَجَمَعَهُمَا لِي) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى سَهْمِ الرَّاجِلِ كان نفلا(12/182)
وَهُوَ حَقِيقٌ بِاسْتِحْقَاقِ النَّفْلِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لبديع صنعه في هذه الغزوة قوله (وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَا يُسْبَقُ شَدًّا) يَعْنِي عَدْوًا عَلَى الرِّجْلَيْنِ قَوْلُهُ (فَطَفَرْتُ) أَيْ وَثَبْتُ وَقَفَزْتُ قَوْلُهُ (فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ أَسْتَبْقِي نَفَسِي) مَعْنَى رَبَطْتُ حَبَسْتُ نَفْسِي عَنِ الْجَرْيِ الشَّدِيدِ وَالشَّرَفُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ وَقَوْلُهُ أَسْتَبْقِي نَفَسِي بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ لِئَلَّا يَقْطَعَنِي الْبَهْرُ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَقْدَامِ وَهُوَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ إِذَا تَسَابَقَا بِلَا عِوَضٍ فَإِنْ تَسَابَقَا عَلَى عِوَضٍ فَفِي صِحَّتِهَا خِلَافٌ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لَا تَصِحُّ قَوْلُهُ (فَجَعَلَ عَمِّي عَامِرٌ يَرْتَجِزُ بالقوم(12/183)
هَكَذَا قَالَ هُنَا عَمِّي وَقَدْ سَبَقَ فِي حديث أبي الطاهر عن بن وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ أَخِي فَلَعَلَّهُ كَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَكَانَ عَمَّهُ مِنَ النَّسَبِ قَوْلُهُ (يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ) هُوَ بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ يَرْفَعُهُ مَرَّةً وَيَضَعُهُ أُخْرَى وَمِثْلُهُ خَطَرَ الْبَعِيرُ بِذَنَبِهِ يَخْطِرُ بِالْكَسْرِ إِذَا رَفَعَهُ مَرَّةً وَوَضَعَهُ مَرَّةً قَوْلُهُ (شَاكِ السِّلَاحِ) أَيْ تَامُّ السِّلَاحِ يُقَالُ رَجُلٌ شَاكِي السِّلَاحِ وَشَاكِ السِّلَاحِ وَشَاكٍ فِي السِّلَاحِ مِنَ الشَّوْكَةِ وَهِيَ الْقُوَّةُ وَالشَّوْكَةُ أَيْضًا السِّلَاحُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذات الشوكة تكون لكم قَوْلُهُ (بَطَلٌ مُجَرَّبٌ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ مجرب بالشجاعة وقهر الفرسان والبطل الشجاع يقال بَطُلَ الرَّجُلُ بِضَمِّ الطَّاءِ يَبْطُلُ بَطَالَةً وَبُطُولَةً أَيْ صَارَ شُجَاعًا قَوْلُهُ (بَطَلٌ مُغَامِرٌ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَرْكَبُ غَمَرَاتِ الْحَرْبِ وَشَدَائِدَهَا وَيُلْقِي نَفْسَهُ فِيهَا قَوْلُهُ (وَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ) أي(12/184)
يضربه من أسفله هو بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ السِّينِ وَضَمِّ الْفَاءِ قَوْلُهُ (وَهُوَ أَرْمَدُ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ رَمِدَ الْإِنْسَانُ بِكَسْرِ الْمِيمِ يَرْمَدُ بِفَتْحِهَا رَمَدًا فَهُوَ رَمِدٌ وَأَرْمَدُ إِذْ هَاجَتْ عَيْنُهُ قَوْلُهُ (أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ) حَيْدَرَةُ اسْمٌ لِلْأَسَدِ وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ سُمِّيَ أَسَدًا فِي أَوَّلِ وِلَادَتِهِ وَكَانَ مَرْحَبٌ قَدْ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ أَسَدًا يَقْتُلُهُ فَذَكَّرَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ لِيُخِيفَهُ وَيُضْعِفَ نَفْسَهُ قَالُوا وَكَانَتْ أُمُّ عَلِيٍّ سَمَّتْهُ أَوَّلَ وِلَادَتِهِ أَسَدًا بِاسْمِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ أَسَدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ سَمَّاهُ عَلِيًّا وَسُمِّيَ الْأَسَدُ حَيْدَرَةَ لِغِلَظِهِ وَالْحَادِرُ الْغَلِيظُ الْقَوِيُّ وَمُرَادُهُ أَنَا الأسد على جرأته وإقدامه وقوته قوله (أو فيهم بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ) مَعْنَاهُ(12/185)
أَقْتُلُ الْأَعْدَاءَ قَتْلًا وَاسِعًا ذَرِيعًا وَالسَّنْدَرَةُ مِكْيَالٌ وَاسِعٌ وَقِيلَ هِيَ الْعَجَلَةُ أَيْ أَقْتُلُهُمْ عَاجِلًا وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّنْدَرَةِ وَهِيَ شَجَرَةُ الصَّنَوْبَرِ يُعْمَلُ مِنْهَا النَّبْلُ وَالْقِسِيُّ قَوْلُهُ (فَضَرَبَ رَأْسَ مَرْحَبٍ) يَعْنِي عَلِيًّا فَقَتَلَهُ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ قَاتِلُ مَرْحَبٍ وَقِيلَ إِنَّ قاتل مرحب هو محمد بن مسلمة قال بن عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ الدُّرَرُ فِي مُخْتَصَرِ السير قال محمد بن إسحاق ان محمد بن مَسْلَمَةَ هُوَ قَاتِلُهُ قَالَ وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّمَا كان قاتله عليا قال بن عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا ثُمَّ رَوَى ذَلِكَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَلَمَةَ وَبُرَيْدَةَ قَالَ بن الْأَثِيرِ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ قَاتِلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْوَاعًا مِنَ الْعِلْمِ سِوَى مَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِنْهَا أَرْبَعُ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَاهَا تَكْثِيرُ مَاءِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالثَّانِيَةُ إِبْرَاءُ عَيْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالثَّالِثَةُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ مُسْلِمٍ هَذِهِ وَالرَّابِعَةُ إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ يَقِرُّونَ فِي غَطَفَانَ وَكَانَ كَذَلِكَ وَمِنْهَا جَوَازُ الصُّلْحِ مَعَ الْعَدُوِّ وَمِنْهَا بَعْثُ الطَّلَائِعِ وَجَوَازُ الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَرْجُلِ بِلَا عِوَضٍ وَفَضِيلَةُ الشَّجَاعَةِ وَالْقُوَّةِ وَمِنْهَا مَنَاقِبُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَأَبِي قَتَادَةَ وَالْأَحْزَمِ الْأَسْعَدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنْهَا جَوَازُ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ فَعَلَ جَمِيلًا وَاسْتِحْبَابُ ذَلِكَ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا وَمِنْهَا جَوَازُ عَقْرِ خَيْلِ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ وَاسْتِحْبَابُ الرَّجَزِ فِي الْحَرْبِ وَجَوَازُ قَوْلِ الرَّامِي وَالطَّاعِنِ وَالضَّارِبِ خُذْهَا وَأَنَا فُلَانٌ أو بن فُلَانٍ وَمِنْهَا جَوَازُ الْأَكْلِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَاسْتِحْبَابُ التَّنْفِيلِ مِنْهَا لِمَنْ صَنَعَ صَنِيعًا جَمِيلًا فِي الْحَرْبِ وَجَوَازُ الْإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ الْمُطِيقَةِ وَجَوَازُ الْمُبَارَزَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ كَمَا بَارَزَ عَامِرٌ وَمِنْهَا مَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الشَّهَادَةِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا وَمِنْهَا القاء(12/186)
النَّفْسِ فِي غَمَرَاتِ الْقِتَالِ وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّغْرِيرِ بِالنَّفْسِ فِي الْجِهَادِ فِي الْمُبَارَزَةِ وَنَحْوِهَا وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ الْقِتَالِ يَكُونُ شَهِيدًا سَوَاءٌ مَاتَ بِسِلَاحِهِمْ أَوْ رَمَتْهُ دَابَّةٌ أَوْ غَيْرُهَا أَوْ عَادَ عَلَيْهِ سِلَاحُهُ كَمَا جَرَى لِعَامِرٍ وَمِنْهَا تَفَقُّدُ الْإِمَامِ الْجَيْشَ وَمَنْ رَآهُ بِلَا سِلَاحٍ أَعْطَاهُ سِلَاحًا
(بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ الْآيَةَ
[1808] قَوْلُهُ (يُرِيدُونَ غِرَّتَهُ) أَيْ غَفْلَتَهُ قَوْلُهُ (فَأَخَذَهُمْ سَلَمًا) ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ وَالثَّانِي بِإِسْكَانِ اللَّامِ مَعَ كَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا قَالَ الْحُمَيْدِيُّ وَمَعْنَاهُ الصُّلْحُ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ هَكَذَا ضَبَطَهُ الْأَكْثَرُونَ قَالَ فِيهِ وَفِي الشَّرْحِ الرِّوَايَةُ الْأُولَى أَظْهَرُ وَمَعْنَاهَا أَسَرَهُمْ وَالسَّلَمُ الْأَسْرُ وَجَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالسِّينِ قَالَ وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِسْلَامُ وَالْإِذْعَانُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أَيْ الِانْقِيَادَ وَهُوَ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ والاثنين والجمع قال بن الْأَثِيرِ هَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالْقِصَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْخَذُوا صُلْحًا وَإِنَّمَا أُخِذُوا قَهْرًا وَأَسْلَمُوا أَنْفُسَهُمْ عَجْزًا قَالَ وَلِلْقَوْلِ الْآخَرِ وَجْهٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجْرِ مَعَهُمْ قِتَالٌ بَلْ عَجَزُوا عَنْ دَفْعِهِمْ وَالنَّجَاةِ مِنْهُمْ فَرَضُوا بِالْأَسْرِ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ صُولِحُوا عَلَى ذَلِكَ)
بَاب غَزْوَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ
[1809] قَوْلُهُ (أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِضَمِّ الْحَاءِ(12/187)
الْمُهْمَلَةِ وَبِالنُّونَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ وَالْخِنْجَرُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي فِي الشَّرْحِ إِلَّا الْفَتْحَ وَذَكَرَهُمَا مَعًا فِي الْمَشَارِقِ وَرَجَّحَ الْفَتْحَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَوْهَرِيُّ غَيْرَ الْكَسْرِ فَهُمَا لُغَتَانِ وَهِيَ سِكِّينٌ كَبِيرَةٌ ذَاتُ حَدَّيْنِ وَفِي هَذَا الْغَزْوُ بِالنِّسَاءِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَوْلُهَا (بَقَرْتُ بَطْنَهُ) أَيْ شَقَقْتُهُ قَوْلُهَا { (اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا مِنَ الطُّلَقَاءِ) } هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَطْلَقَهُمْ وَكَانَ فِي إِسْلَامِهِمْ ضَعْفٌ فَاعْتَقَدَتْ أُمُّ سَلِيمٍ أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ وَأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْقَتْلَ بِانْهِزَامِهِمْ وَغَيْرِهِ وَقَوْلُهَا مَنْ بَعْدَنَا أَيْ مَنْ سِوَانَا
[1810] قَوْلُهُ (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ فَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى) فِيهِ خُرُوجُ النِّسَاءِ فِي الْغَزْوِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِنَّ فِي السَّقْيِ وَالْمُدَاوَاةِ وَنَحْوِهِمَا وَهَذِهِ الْمُدَاوَاةُ لِمَحَارِمِهِنَّ وَأَزْوَاجِهِنَّ وَمَا كَانَ مِنْهَا لِغَيْرِهِمْ لَا يَكُونُ فِيهِ(12/188)
مَسُّ بَشَرَةٍ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ
[1811] قَوْلُهُ (أَبُو مَعْمَرٍ الْمِنْقَرِيُّ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَفَتْحِ الْقَافِ مَنْسُوبٌ إِلَى مِنْقَرِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مُقَاعِسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ تميم بن مرة بن أد بْنِ طَلْحَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نذار بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ قَوْلُهُ (مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ) أَيْ مُتَرِّسٌ عَنْهُ لِيَقِيَهُ سِلَاحَ الْكُفَّارِ قَوْلُهُ (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ) أَيْ شَدِيدَ الرَّمْيِ قَوْلُهُ (الْجَعْبَةُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ قَوْلُهُ (أَرَى خَدَمَ سُوقِهَا) هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْوَاحِدَةُ خِدْمَةٌ وَهِيَ الْخَلْخَالُ وَأَمَّا السُّوقُ فَجَمْعُ سَاقٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لِلْخَدَمِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَهْيٌ لِأَنَّ هَذَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ قَبْلَ أَمْرِ النِّسَاءِ بِالْحِجَابِ وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهِنَّ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّهُ تَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَى نَفْسِ السَّاقِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ تِلْكَ النَّظْرَةُ فَجْأَةً بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلَمْ يَسْتَدِمْهَا قَوْلُهُ (نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ) هَذَا مِنْ مَنَاقِبِ أَبِي طَلْحَةَ الْفَاخِرَةِ قَوْلُهُ (عَلَى مُتُونِهِمَا) أَيْ عَلَى(12/189)
ظُهُورِهِمَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِلَاطُ النِّسَاءِ فِي الْغَزْوِ بِرِجَالِهِنَّ فِي حَالِ الْقِتَالِ لِسَقْيِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ
(بَاب النِّسَاءِ الْغَازِيَاتِ يُرْضَخُ لَهُنَّ وَلَا يُسْهَمُ (وَالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ صِبْيَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ) قوله
[1812] (فقال بن عَبَّاسٍ لَوْلَا أَنْ أَكْتُمَ عِلْمًا مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ) يَعْنِي إِلَى نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ مِنَ الْخَوَارِجِ معناه أن بن عَبَّاسٍ يَكْرَهُ نَجْدَةً لِبِدْعَتِهِ وَهِيَ كَوْنُهُ مِنَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ وَلَكِنْ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْعِلْمِ لَمْ يُمْكِنْهُ كَتْمُهُ فَاضْطُرَّ إِلَى جَوَابِهِ وَقَالَ لَوْلَا أَنْ أَكْتُمَ عِلْمًا مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ أَيْ لَوْلَا أَنِّي إِذَا تَرَكْتُ الْكِتَابَةَ أَصِيرُ كَاتِمًا لِلْعِلْمِ مُسْتَحِقًّا لِوَعِيدِ كَاتِمِهِ لَمَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ (كَانَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَيُحْذَيْنَ مِنَ الْغَنِيمَةِ) وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ فِيهِ حُضُورُ النِّسَاءِ الْغَزْوَ وَمُدَاوَاتُهُنَّ الْجَرْحَى كَمَا سَبَقَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ {وَقَوْلُهُ يُحْذَيْنَ} هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ {أَيْ يُعْطَيْنَ تِلْكَ الْعَطِيَّةَ وَتُسَمَّى الرَّضْخُ وَفِي هَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ وَلَا تَسْتَحِقُّ السَّهْمَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ} وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ تَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إِنْ كَانَتْ تُقَاتِلُ أَوْ تُدَاوِي الْجَرْحَى وَقَالَ مَالِكٌ لَا رَضْخَ لَهَا وَهَذَانِ المذهبان مردودان بهذا الحديث الصحيح الصَّرِيحِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا (وَسَأَلْتُ)(12/190)
عَنِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ هَلْ كَانَ لَهُمْ سَهْمٌ معلوم إذا حضروا البأس وأنهم لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَهْمٌ مَعْلُومٌ إِلَّا أَنْ يُحْذَيَا مِنْ غَنَائِمِ الْقَوْمِ) فِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ يُرْضَخُ لَهُ وَلَا يُسْهَمُ لَهُ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا رَضْخَ لَهُ كَمَا قَالَ فِي الْمَرْأَةِ وقال الحسن وبن سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ إِنْ قَاتَلَ أُسْهِمَ لَهُ قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ فَلَا تَقْتُلِ الصِّبْيَانَ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ صِبْيَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُوَ حَرَامٌ إِذَا لَمْ يُقَاتِلُوا وَكَذَلِكَ النساء فإن قاتلوا أجاز قَتْلُهُمْ قَوْلُهُ (وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ فَلَعَمْرِي إِنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُتُ لِحْيَتُهُ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ ضَعِيفُ الْعَطَاءِ مِنْهَا فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ مَا يَأْخُذُ النَّاسُ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ) مَعْنَى هَذَا مَتَى يَنْقَضِي حُكْمُ الْيُتْمِ وَيَسْتَقِلُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَأَمَّا نَفْسُ الْيُتْمِ فَيَنْقَضِي بِالْبُلُوغِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حُكْمَ الْيُتْمِ لَا يَنْقَطِعُ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ وَلَا بِعُلُوِّ السِّنِّ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ الرُّشْدُ فِي دِينِهِ وَمَالِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الصِّبْيَانِ وَصَارَ رَشِيدًا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ وَيَجِبُ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ضَابِطٍ لَهُ وَأَمَّا الْكَبِيرُ إِذَا طَرَأَ تَبْذِيرُهُ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وُجُوبُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حنيفة لا يحجر قال بن الْقَصَّارِ وَغَيْرُهُ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَكَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ قَوْلُهُ (وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْخُمُسِ لِمَنْ هُوَ وَإِنَّا كُنَّا نَقُولُ هُوَ لَنَا فَأَبَى عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَاكَ) مَعْنَاهُ خُمُسُ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِذَوِي الْقُرْبَى وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فقال الشافعي مثل قول بن عَبَّاسٍ وَهُوَ أَنَّ خُمُسَ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ يَكُونُ لِذَوِي الْقُرْبَى وَهُمْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَقَوْلُهُ (أَبَى علينا قومنا ذاك) أي رأوا أنه لَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ(12/191)
إِلَيْنَا بَلْ يَصْرِفُونَهُ فِي الْمَصَالِحِ وَأَرَادَ بِقَوْمِهِ وُلَاةَ الْأَمْرِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَقَدْ صَرَّحَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ بِأَنَّ سُؤَالَ نَجْدَةَ لِابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ المسائل كان في فتنة بن الزبير وكانت فتنة بن الزُّبَيْرِ بَعْدَ بِضْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً مِنَ الْهِجْرَةِ {وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ أَنَّ بن عباس اراد بقوله أبي ذاك عينا قَوْمُنَا مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ} قَوْلُهُ (فَلَا تَقْتُلِ الصِّبْيَانَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تَعْلَمُ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي قَتَلَ) مَعْنَاهُ أَنَّ الصِّبْيَانَ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ وَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ وَقَتْلِهِ صَبِيًّا فَإِنَّ الْخَضِرَ مَا قَتَلَهُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى التَّعْيِينِ كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ وما فعلته عن أمري فَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ تَعْلَمُ مِنْ صَبِيٍّ ذَلِكَ فَاقْتُلْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَتْلُ قَوْلُهُ (وَتُمَيِّزُ الْمُؤْمِنَ فَتَقْتُلُ الْكَافِرَ وَتَدَعُ الْمُؤْمِنَ) مَعْنَاهُ مَنْ يَكُونُ إِذَا عَاشَ إِلَى الْبُلُوغِ مُؤْمِنًا وَمَنْ يَكُونُ إِذَا عَاشَ كَافِرًا فَمَنْ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَبْلُغُ كَافِرًا فَاقْتُلْهُ كَمَا عَلِمَ الْخَضِرُ أَنَّ ذَلِكَ الصَّبِيَّ لَوْ بَلَغَ لَكَانَ كَافِرًا وَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّكَ أَنْتَ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ فَلَا تَقْتُلْ(12/192)
صَبِيًّا قَوْلُهُ (لَوْلَا أَنْ يَقَعَ فِي أُحْمُوقَةٍ مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ) هِيَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ يَعْنِي فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَمْقَى وَيَرَى رَأْيًا كَرَأْيِهِمْ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ أَرُدَّهُ عَنْ نَتْنٍ يَقَعُ فِيهِ مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ يَعْنِي بِالنَّتْنِ الْفِعْلَ الْقَبِيحَ وَكُلُّ مُسْتَقْبَحٍ يُقَالُ لَهُ النَّتْنُ وَالْخَبِيثُ وَالرِّجْسُ وَالْقَذَرُ وَالْقَاذُورَةُ قَوْلُهُ (لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ وَيُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدٌ) يَعْنِي لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ حُكْمُ الْيُتْمِ كَمَا سَبَقَ وَأَرَادَ بِالِاسْمِ الْحُكْمَ قَوْلُهُ (وَلَا نَعْمَةَ عَيْنٍ) هُوَ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا أَيْ مَسَرَّةُ(12/193)
عَيْنٍ وَمَعْنَاهُ لَا تُسَرُّ عَيْنُهُ يُقَالُ نَعْمَةُ عَيْنٍ وَنُعْمَةُ عَيْنٍ وَنَعَامَةُ عَيْنٍ وَنُعْمَى عَيْنٍ نعما ونعيم ونعيم عين وَنَعَامُ عَيْنٍ بِمَعْنًى وَأَنْعَمَ اللَّهُ عَيْنَكُ أَيْ أَقَرَّهَا فَلَا يَعْرِضُ لَكَ نَكَدٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ قَوْلُهُ (إِذَا حَضَرُوا الْبَأْسَ) بِالْبَاءِ الموحدة وهو الشدة والمراد هنا الحرب(12/194)
(باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ فِي الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَجَابِرٍ وَبُرَيْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً
[1814] وَفِي رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ قَاتَلَ فِي ثَمَانٍ مِنْهُنَّ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَغَازِي فِي عَدَدِ غَزَوَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وسراياه فذكر بن سَعْدٍ وَغَيْرُهُ عَدَدَهُنَّ مُفَصَّلَاتٍ عَلَى تَرْتِيبِهِنَّ فَبَلَغَتْ سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزَاةً وَسِتًّا وَخَمْسِينَ سَرِيَّةً قَالُوا قَاتَلَ فِي تِسْعٍ مِنْ غَزَوَاتِهِ وَهِيَ بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْمُرَيْسِيعُ وَالْخَنْدَقُ وَقُرَيْظَةُ وَخَيْبَرُ وَالْفَتْحُ وَحُنَيْنٌ وَالطَّائِفُ هَكَذَا عَدُّوا الْفَتْحَ فِيهَا وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ فُتِحَتْ مَكَّةُ عَنْوَةً وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ الْخِلَافِ فِيهَا وَلَعَلَّ بُرَيْدَةَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ قَاتَلَ فِي ثَمَانٍ إِسْقَاطَ غَزَاةَ الْفَتْحِ وَيَكُونُ مَذْهَبُهُ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ قَوْلُهُ (قُلْتُ فَمَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَالَ ذَاتُ الْعُسَيْرِ أَوِ الْعُشَيْرِ) هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ الْعُسَيْرُ أَوْ الْعُشَيْرُ الْعَيْنُ مَضْمُومَةٌ وَالْأَوَّلُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالثَّانِي بِالْمُعْجَمَةِ وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ هِيَ ذَاتُ الْعُشَيْرَةِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ وَجَاءَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي يَعْنِي مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَسِيرٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بِحَذْفِ الْهَاءِ قَالَ وَالْمَعْرُوفُ فِيهَا الْعُشَيْرَةُ مُصَغَّرَةٌ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْهَاءِ قَالَ وَكَذَا ذَكَرَهَا أَبُو إِسْحَاقَ {وَهِيَ مِنْ أَرْضِ مَذْحِجٍ} قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ)(12/195)
هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَفِي بَعْضِهَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَيْضًا الِاخْتِلَافَ فِيهِ قَالَ وَقَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ الصَّوَابُ زُهَيْرٌ وَأَمَّا وُهَيْبٌ فَخَطَأٌ قَالَ لِأَنَّ وُهَيْبًا لَمْ يَلْقَ أَبَا إِسْحَاقَ وَذَكَرَ خَلَفٌ فِي الْأَطْرَافِ فَقَالَ زُهَيْرٌ وَلَمْ يَذْكُرْ وُهَيْبًا قَوْلُهُ
[1813] (عَنْ جَابِرٍ لَمْ أَشْهَدْ بَدْرًا وَلَا أُحُدًا) قَالَ الْقَاضِي كَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ جَابِرًا لَمْ يشهدهما وقد ذكر أبوعبيد أنه شهد بدرا قال بن عَبْدِ الْبَرِّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْهُمَا وَقَدْ ذكر بن الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ شَهِدَ أُحُدًا قَوْلُهُ (عَنْ جَابِرٍ قَالَ غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَلَمْ أَشْهَدْ أُحُدًا وَلَا بَدْرًا) هَذَا صَرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ مُنْحَصِرَةً فِي تِسْعَ عَشْرَةَ بَلْ زَائِدَةً وَإِنَّمَا مُرَادُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَبُرَيْدَةَ بِقَوْلِهِمَا تِسْعَ عَشْرَةَ أَنَّ مِنْهَا تِسْعَ عَشْرَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَابِرٌ فَقَدْ أَخْبَرَ جَابِرٌ أَنَّهَا إِحْدَى وَعِشْرُونَ كَمَا تَرَى وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ بُرَيْدَةَ سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً فَلَيْسَ فيه نفي الزيادة(12/196)
(باب غزوة ذات الرقاع قَوْلُهُ
[1816] (وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ) أَيْ يَرْكَبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَوْبَةً فِيهِ جَوَازُ مِثْلِ هَذَا إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمَرْكُوبِ قَوْلُهُ فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ قَرِحَتْ مِنَ الْحَفَاءِ قَوْلُهُ (فَسُمِّيَتْ ذَاتُ الرِّقَاعِ لِذَلِكَ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهَا وَقَالَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ بِجَبَلٍ هُنَاكَ فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَحُمْرَةٌ وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِاسْمِ شَجَرَةٍ هُنَاكَ وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَلْوِيَتِهِمْ رِقَاعٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِالْمَجْمُوعِ {قَوْلُهُ (وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ) فِيهِ استحباب اخفاء)(12/197)
الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمَا يُكَابِدُهُ الْعَبْدُ مِنَ الْمَشَاقِّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ مِثْلَ بَيَانِ حُكْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا وُجِدَ لِلسَّلَفِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ}
(بَاب كَرَاهَةِ الِاسْتِعَانَةِ في الغزو بكافر إلا لحاجة (أو كونه حسن الرأي في المسلمين)
[1817] قَوْلُهُ (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحِرَّةِ الْوَبَرَةِ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيعِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ قَالَ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِإِسْكَانِهَا وَهُوَ مَوْضِعٌ عَلَى نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ) وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَانَ بِصَفْوَانَ بْنِ أمية قبل)(12/198)
إِسْلَامِهِ فَأَخَذَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ إِنْ كَانَ الْكَافِرُ حَسَنَ الرَّأْيِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِ اسْتُعِينَ بِهِ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ وَحَمَلَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ وَإِذَا حَضَرَ الْكَافِرُ بِالْإِذْنِ رُضِخَ لَهُ وَلَا يُسْهَمُ لَهُ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ يُسْهَمُ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ ثُمَّ مَضَى حتى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ حَتَّى إِذَا كُنَّا فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ مَعَ الْمُوَدِّعِينَ فَرَأَتْ ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِقَوْلِهِا كُنَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(كِتَاب الْإِمَارَةِ)
(بَاب النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ وَالْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ
[1818] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (النَّاسُ
[1819] تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ لِكَافِرِهِمْ) وَفِي رِوَايَةٍ النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَفِي رِوَايَةٍ
[1820] لَا يَزَالُ هَذَا)(12/199)
الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَشْبَاهُهَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنَّ الْخِلَافَةَ مُخْتَصَّةٌ بِقُرَيْشٍ لَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِأَحَدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُمْ وَمَنْ خَالَفَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ أَوْ عَرَّضَ بِخِلَافٍ مِنْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَالَ الْقَاضِي اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ قُرَشِيًّا هُوَ مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً قَالَ وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى الْأَنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ عَدَّهَا الْعُلَمَاءُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ فِيهَا قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ قَالَ وَلَا اعْتِدَادَ بِقَوْلِ النَّظَّامِ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ وَلَا بِسَخَافَةِ ضِرَارِ بْنِ عمرو في قوله أن غير القرشي من النبط وغيرهم يقدم على القرشي لهو أن خَلْعِهِ إِنْ عَرَضَ مِنْهُ أَمْرٌ وَهَذَا الَّذِي قاله من باطل القول وزخرفه مع ماهو عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَمَعْنَاهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْجَاهِلِيَّةِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ رُؤَسَاءَ الْعَرَبِ وَأَصْحَابَ حَرَمِ اللَّهِ وَأَهْلَ حَجِّ بَيْتِ اللَّهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَنْظُرُ إِسْلَامَهُمْ فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَفُتِحَتْ مَكَّةُ تَبِعَهُمُ النَّاسُ وَجَاءَتْ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَكَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ هُمْ أَصْحَابُ الْخِلَافَةِ وَالنَّاسُ تَبَعٌ لَهُمْ وَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُسْتَمِرٌّ إِلَى آخِرِ الدُّنْيَا مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ وقد ظهر(12/200)
مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْآنَ الْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ مِنْ غَيْرِ مُزَاحَمَةٍ لَهُمْ فيها وتبقى كذلك ما بقي اثْنَانِ كَمَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى فَضِيلَةِ الشَّافِعِيِّ قَالَ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيمُ قُرَيْشٍ فِي الْخِلَافَةِ فَقَطْ قُلْتُ هُوَ حُجَّةٌ فِي مَزِيَّةِ قُرَيْشٍ عَلَى غَيْرِهِمْ وَالشَّافِعِيُّ قُرَشِيٌّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1821] (إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنان عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) وَفِي رِوَايَةٍ لا يزال أمر الناس ماضيا ماوليهم اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ الْقَاضِي قَدْ تَوَجَّهَ هُنَا سُؤَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا وَهَذَا مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً إِلَّا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْأَرْبَعَةُ وَالْأَشْهُرُ الَّتِي بُويِعَ فِيهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ فِي حَدِيثِ الخلافة ثلاثون سنة خلافة النبوة وقد جاءمفسرا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا وَلَمْ يُشْتَرَطْ هَذَا فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ السُّؤَالُ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ وَلِيَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ قَالَ وَهَذَا اعْتِرَاضٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل لا يلي إلا اثنى عَشَرَ خَلِيفَةً وَإِنَّمَا قَالَ يَلِي وَقَدْ وَلِيَ هذا العدد ولا يضركونه وُجِدَ بَعْدَهُمْ غَيْرُهُمْ(12/201)
هَذَا إِنْ جُعِلَ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ كُلُّ وَالٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُسْتَحِقَّ الْخِلَافَةِ الْعَادِلِينَ وَقَدْ مَضَى مِنْهُمْ مَنْ عُلِمَ وَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْعَدَدِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ قَالَ وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ يَتَّبِعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَالَ الْقَاضِي وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَدْ وُجِدَ إِذَا تَتَبَّعْتَ التَّوَارِيخَ فَقَدْ كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ وَحْدَهَا مِنْهُمْ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ بَعْدَ أَرْبَعمِائَةِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ يَدَّعِيهَا وَيُلَقَّبُ بِهَا وَكَانَ حِينَئِذٍ فِي مِصْرَ آخَرُ وَكَانَ خَلِيفَةَ الْجَمَاعَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِبَغْدَادَ سِوَى مَنْ كَانَ يَدَّعِي ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ قَالَ وَيُعِضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ بَعْدَ هَذَا سَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قالوا فما تأمرنا قال فوا بيعة الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ(12/202)
مَنْ يَعِزُّ الْإِسْلَامُ فِي زَمَنِهِ وَيَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ كُلُّهُمْ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَهَذَا قَدْ وُجِدَ قَبْلَ اضْطِرَابِ أَمْرِ بَنِي أُمَيَّةَ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي زَمَنِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ وَخَرَجَ عَلَيْهِ بَنُو الْعَبَّاسِ وَيَحْتَمِلُ أَوْجُهًا أُخَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (فَقَالَ كَلِمَةً صَمَّنِيهَا النَّاسُ) هُوَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ أَصَمُّونِي عَنْهَا فَلَمْ أَسْمَعْهَا لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ صَمَّتَنِيهَا النَّاسُ أَيْ سَكَّتُونِي عَنِ السُّؤَالِ عَنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1822] (عُصَيْبَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَفْتَتِحُونَ الْبَيْتَ الْأَبْيَضَ بَيْتَ كِسْرَى) هَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ فَتَحُوهُ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ(12/203)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْعُصَيْبَةُ تَصْغِيرُ عُصْبَةٍ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ وَكِسْرَى بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا أَعْطَى اللَّهُ أَحَدَكُمْ خَيْرًا فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ) هُوَ مِثْلُ حَدِيثِ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَا الْفَرَطُ عَلَى الْحَوْضِ) الْفَرَطُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ السَّابِقُ إِلَيْهِ وَالْمُنْتَظِرُ لِسَقْيِكُمْ مِنْهُ وَالْفَرَطُ وَالْفَارِطُ هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْقَوْمَ إِلَى الْمَاءِ لِيُهَيِّئَ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ (عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلى بن سَمُرَةَ الْعَدَوِيِّ) كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْعَدَوِيُّ قَالَ الْقَاضِي هَذَا تَصْحِيفٌ فَلَيْسَ هُوَ بِعَدَوِيٍّ إِنَّمَا هُوَ عَامِرِيٌّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَيُصَحَّفُ بِالْعَدَوِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب الاستخلاف وتركه
[1823] قوله (راغب وراهب) أي راج وَخَائِفٌ وَمَعْنَاهُ النَّاسُ صِنْفَانِ أَحَدُهُمَا يَرْجُو وَالثَّانِي يَخَافُ أَيْ رَاغِبٌ فِي حُصُولِ شَيْءٍ مِمَّا عندي أو راهب مني وقيل أَرَادَ أَنِّي رَاغِبٌ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَاهِبٌ مِنْ عَذَابِهِ فَلَا أُعَوِّلُ عَلَى مَا أَتَيْتُمْ بِهِ عَلَيَّ وَقِيلَ الْمُرَادُ الْخِلَافَةُ أَيِ النَّاسُ فِيهَا ضِرْبَانِ رَاغِبٌ فِيهَا فَلَا أُحِبُّ)(12/204)
تَقْدِيمَهُ لِرَغْبَتِهِ وَكَارِهٌ لَهَا فَأَخْشَى عَجْزَهُ عَنْهَا قَوْلُهُ (إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي إِلَى آخِرِهِ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أجمعوا علىأن الْخَلِيفَةَ إِذَا حَضَرَتْهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ وَقَبْلَ ذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ وَيَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ فَإِنْ تَرَكَهُ فَقَدِ اقْتَدَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا وَإِلَّا فَقَدِ اقْتَدَى بِأَبِي بَكْرٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى انْعِقَادِ الْخِلَافَةِ بِالِاسْتِخْلَافِ وَعَلَى انْعِقَادِهَا بِعَقْدِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِإِنْسَانٍ إِذَا لَمْ يَسْتَخْلِفِ الْخَلِيفَةُ وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ جَعْلِ الْخَلِيفَةِ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ جَمَاعَةٍ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِالسِّتَّةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَصْبُ خَلِيفَةٍ وَوُجُوبُهُ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْأَصَمِّ أَنَّهُ قَالَ لَا يَجِبُ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَجِبُ بِالْعَقْلِ لَا بِالشَّرْعِ فَبَاطِلَانِ أَمَّا الْأَصَمُّ فَمَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي بَقَاءِ الصَّحَابَةِ بِلَا خَلِيفَةٍ فِي مُدَّةِ التَّشَاوُرِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ وَأَيَّامَ الشُّورَى بَعْدَ وَفَاةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ لِنَصْبِ الْخَلِيفَةِ بَلْ كَانُوا سَاعِينَ فِي النَّظَرِ فِي أَمْرِ مَنْ يُعْقَدُ لَهُ وَأَمَّا الْقَائِلُ الْآخَرُ فَفَسَادُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَلَا يُحَسِّنُهُ وَلَا يُقَبِّحُهُ وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ لَا بِذَاتِهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى خَلِيفَةٍ(12/205)
وَهُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ الْقَاضِي وخالف في ذلك بكر بن أُخْتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ فَزَعَمَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى أبي بكر وقال بن رَاوَنْدِيِّ نَصَّ عَلَى الْعَبَّاسِ وَقَالَتِ الشِّيعَةُ وَالرَّافِضَةُ عَلَى عَلِيٍّ وَهَذِهِ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ وَجَسَارَةٌ عَلَى الِافْتِرَاءِ وَوَقَاحَةٌ فِي مُكَابَرَةِ الْحِسِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى اخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى تَنْفِيذِ عَهْدِهِ إِلَى عُمَرَ وَعَلَى تَنْفِيذِ عَهْدِ عُمَرَ بِالشُّورَى وَلَمْ يُخَالِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا أَحَدٌ وَلَمْ يَدَّعِ عَلِيٌّ وَلَا الْعَبَّاسُ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَصِيَّةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَقَدِ اتَّفَقَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ عَلَى جَمِيعِ هَذَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ ذِكْرِ وَصِيَّةٍ لَوْ كَانَتْ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَصِيَّةٌ فَقَدْ نَسَبَ الْأُمَّةَ إِلَى اجْتِمَاعِهَا عَلَى الْخَطَأِ وَاسْتِمْرَارِهَا عَلَيْهِ وَكَيْفَ يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنْ يَنْسِبَ الصَّحَابَةَ إِلَى الْمُوَاطَأَةِ عَلَى الْبَاطِلِ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ لَنُقِلَ فَإِنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ قَوْلُهُ (آلَيْتُ أَنْ أَقُولَهَا) أَيْ حَلَفْتُ(12/206)
(بَاب النَّهْيِ عَنْ طَلَبِ الْإِمَارَةِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا قَوْلُهُ
[1652] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَسَألِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ أُكِلْتَ عَلَيْهَا) هَكَذَا هُوَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ أَوْ أَكْثَرِهَا أُكِلْتَ بِالْهَمْزِ وَفِي بَعْضِهَا وُكِلْتَ قَالَ الْقَاضِي هُوَ فِي أَكْثَرِهَا بِالْهَمْزِ قَالَ والصواب بالواو أي أسلمت إليها ولم يَكُنْ مَعَكَ إِعَانَةٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ قَوْلُهُ
[1733] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّا وَاللَّهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ) يُقَالُ حَرَصَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا أَكْثَرُ الناس ولو حرصت بمؤمنين قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ لَا يُوَلَّى مَنْ سَأَلَ الْوِلَايَةَ أَنَّهُ يُوكَلُ إِلَيْهَا وَلَا)(12/207)
تَكُونُ مَعَهُ إِعَانَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ السَّابِقِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ إِعَانَةٌ لَمْ يَكُنْ كُفْئًا وَلَا يُوَلَّى غَيْرُ الْكُفْءِ وَلِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةً لِلطَّالِبِ وَالْحَرِيصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً) فِيهِ إِكْرَامُ الضَّيْفِ بِهَذَا وَنَحْوِهِ قَوْلُهُ فِي الْيَهُودِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ (ثُمَّ ارْتَدَّ فَقَالَ لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ) فِيهِ وُجُوبُ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ وَفِي قَدْرِهَا وَفِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ وَفِي أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجَمَاهِيرُ من السلف والخلف يستتاب ونقل بن الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَقَالَ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَالْمَاجِشُونُ الْمَالِكِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ لَا يُسْتَتَابُ وَلَوْ تَابَ نَفَعَتْهُ تَوْبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَسْقُطُ قَتْلُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وقال عطاء إن كان ولد مسلما لم يستتب وإن كان ولد كافرا فأسلم ثم ارتد يستتاب واختلفوا في أن الِاسْتِتَابَةُ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَأَنَّهَا فِي الْحَالِ وَلَهُ قَوْلٌ إِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا أَنَّهُ يُسْتَتَابُ شَهْرًا قَالَ الْجُمْهُورُ(12/208)
وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي أَنَّهَا تُقْتَلُ إِذَا لَمْ تَتُبْ وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالْجَمَاهِيرِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ تُسْجَنُ الْمَرْأَةُ وَلَا تُقْتَلُ وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وفيه أن لِأُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ إِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ لَا يُقِيمُهُ إِلَّا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَلَا يُقِيمُهُ عَامِلُ السَّوَادِ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَضَاءِ إِذَا كَانَتْ وِلَايَتُهُمْ مُطْلَقَةً لَيْسَتْ مختبصة بِنَوْعٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ تُقِيمُ الْقُضَاةُ الْحُدُودَ وَيَنْظُرُونَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَا يَخْتَصُّ بِضَبْطِ الْبَيْضَةِ مِنْ إِعْدَادِ الْجُيُوشِ وَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا وِلَايَةَ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ قَوْلُهُ (أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ وَأَرْجُو فِي نَوْمَتِي مَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي) مَعْنَاهُ أَنِّي أَنَامُ بِنِيَّةِ الْقُوَّةِ وَإِجْمَاعِ النفس للعبادة وتنشيطها لِلطَّاعَةِ فَأَرْجُو فِي ذَلِكَ الْأَجْرَ كَمَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي أَيْ صَلَوَاتِي
(بَاب كَرَاهَةِ الْإِمَارَةِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ قَوْلُهُ
[1825] (حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ بَكْرِ بن عمرو عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن بن حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْإِسْنَادُ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ بَكْرٍ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ نُسْخَةِ الْجُلُودِيِّ الَّتِي هِيَ طَرِيقُ بلادنا قال ووقع عند بن مَاهَانَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ وَبَكْرٌ بِوَاوِ الْعَطْفِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ قَالَهُ عَبْدُ الغني قلت)(12/209)
وَلَمْ يَذْكُرْ خَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَافِ غَيْرَهُ واسم بن حُجَيْرَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَهُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وَاسْمُ أَبِي حَبِيبٍ سُوَيْدٌ وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَرْبَعَةٌ تَابِعِيُّونَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهُمْ يَزِيدُ وَالثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي بَعْدَهُ
[1826] (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حرب وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن المقرئ قَالَ زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِهِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أبي جعفر في هذا الاسناد فرواه سعيد بن أبي أيوب عنه كما سبق ورواه بن لهيعة عنه عن مسلم بن أبي مريم عَنْ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَلَمْ يَحْكُمِ الدَّارَقُطْنِيُّ فِيهِ بِشَيْءٍ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ إِسْنَادًا وَمَتْنًا وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَحْفَظُ من بن لَهِيعَةَ وَأَمَّا الْمُقْرِئُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمَذْكُورُ عَقِبَهُ وَاسْمُ أَبِي أَيُّوبَ وَالِدِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ مِقْلَاصٌ الْخُزَاعِيُّ الْمِصْرِيُّ وَاسْمُ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ سُفْيَانُ بْنُ هَانِئٍ مَنْسُوبٌ إِلَى جَيْشَانَ بِفَتْحِ الْجِيمِ قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَمَنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي اجْتِنَابِ الْوِلَايَاتِ لَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ تِلْكَ الْوِلَايَةِ وَأَمَّا الْخِزْيُ والندامة فهو في حَقُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا أَوْ كَانَ أَهْلًا وَلَمْ يَعْدِلْ فِيهَا فَيُخْزِيهِ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَفْضَحُهُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَعَدَلَ فِيهَا فَلَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ تَظَاهَرَتْ بِهِ(12/210)
الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كَحَدِيثِ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ هُنَا عَقِبَ هَذَا أَنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَلِكَثْرَةِ الْخَطَرِ فِيهَا حَذَّرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَكَذَا حَذَّرَ الْعُلَمَاءُ وَامْتَنَعَ مِنْهَا خَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى حِينَ امْتَنَعُوا
(بَاب فَضِيلَةِ الأمير الْعَادِلِ وَعُقُوبَةِ الْجَائِرِ وَالْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ (بِالرَّعِيَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ)
[1827] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا) أَمَّا قَوْلُهُ وَلُوا فَبِفَتْحِ الْوَاوِ وَضَمِّ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ كَانَتْ لَهُمْ عليه ولاية والمقسطون هم العادلون وقد فسره في آخر الحديث والأقساط والقسط بكسر القاف العدل يقال أقسط أقساطا فَهُوَ مُقْسِطٌ إِذَا عَدَلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وأقسطوا إن الله يحب المقسطين وَيُقَالُ قَسَطَ يَقْسِطُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ قسوطا وَقَسْطًا بِفَتْحِ الْقَافِ فَهُوَ قَاسِطٌ وَهُمْ قَاسِطُونَ إِذَا جَارُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فكانوا لجهنم حطبا وَأَمَّا الْمَنَابِرُ فَجَمْعُ مِنْبَرٍ سُمِّيَ بِهِ لِارْتِفَاعِهِ قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَنَابِرَ حقيقة عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ قُلْتُ الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ وَيَكُونُ متضمنا للمنازل الرفيعة فهم على منابر حقيقة وَمَنَازِلُهُمْ رَفِيعَةٌ أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ فَهُوَ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْحِ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نَتَكَلَّمُ فِي تَأْوِيلِهِ وَلَا نَعْرِفُ مَعْنَاهُ لَكِنْ نَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ وَأَنَّ لَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ)(12/211)
السلف وطوائف من المتكلمين والثاني أنها تؤول عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَعَلَى هَذَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ عَنِ الْيَمِينِ الْحَالَةُ الحسنة والمنزلة الرفيعة قال قال بن عَرَفَةَ يُقَالُ أَتَاهُ عَنْ يَمِينِهِ إِذَا جَاءَهُ مِنَ الْجِهَةِ الْمَحْمُودَةِ وَالْعَرَبُ تَنْسِبُ الْفِعْلَ الْمَحْمُودَ وَالْإِحْسَانَ إِلَى الْيَمِينِ وَضِدَّهُ إِلَى الْيَسَارِ قَالُوا واليمين مأخوذة مِنَ الْيُمْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ فَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْيَمِينِ جَارِحَةً تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْفَضْلَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ عَدَلَ فِيمَا تَقَلَّدَهُ مِنْ خِلَافَةٍ أَوْ إِمَارَةٍ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ حِسْبَةٍ أَوْ نَظَرٍ عَلَى يَتِيمٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَقْفٍ وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ
[1828] عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَمَاسَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الشِّينِ وَضَمِّهَا وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ قَوْلُهُ (مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا) أَيْ مَا كَرِهْنَا وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا قَوْلُهَا (أَمَا إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِيَّ محمد بن أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ) فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فَضْلُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ لِسَبَبِ عَدَاوَةٍ وَنَحْوِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ قَتْلِ مُحَمَّدٍ هَذَا قِيلَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَقِيلَ بَلْ قُتِلَ أَسِيرًا بَعْدَهَا وَقِيلَ وُجِدَ بَعْدَهَا فِي خَرِبَةٍ فِي جَوْفِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَأَحْرَقُوهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرَ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ(12/212)
هَذَا مِنْ أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ عَنِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّاسِ وَأَعْظَمِ الْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ بِهِمْ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِهَذَا الْمَعْنَى
[1829] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الرَّاعِي هُوَ الْحَافِظُ الْمُؤْتَمَنُ الْمُلْتَزِمُ صَلَاحَ مَا قَامَ عَلَيْهِ وَمَا هُوَ تَحْتَ نَظَرِهِ فَفِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ تَحْتَ نَظَرِهِ شَيْءٌ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ قوله(12/213)
[142] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
((مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) هَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي بَعْدَهُ سَبَقَ شَرْحُهُمَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِلًّا لِغِشِّهِمْ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَيَخْلُدُ فِي النَّارِ وَالثَّانِي)(12/214)
أَنَّهُ لَا يَسْتَحِلُّهُ فَيَمْتَنِعُ مِنْ دُخُولِهَا أَوَّلَ وَهْلَةٍ مَعَ الْفَائِزِينَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ أَيْ وَقْتَ دُخُولِهِمْ بَلْ يُؤَخَّرُ عَنْهُمْ عُقُوبَةً لَهُ إِمَّا فِي النَّارِ وَإِمَّا فِي الْحِسَابِ وَإِمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وُجُوبُ النَّصِيحَةِ عَلَى الْوَالِي لِرَعِيَّتِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَالنَّصِيحَةِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ قَبْلَ حَالَةِ الْمَوْتِ نَافِعَةٌ قَوْلُهُ (لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ بِيَ حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَوْلَا أَنِّي فِي الْمَوْتِ لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ(12/215)
قَبْلَ هَذَا الْحَالِ وَرَأَى وُجُوبَ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ الَّذِي عِنْدَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِئَلَّا يَكُونَ مُضَيِّعًا لَهُ وَقَدْ أُمِرْنَا كُلُّنَا بِالتَّبْلِيغِ
[1830] قَوْلُهُ (إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَتِهِمْ) يَعْنِي لَسْتَ مِنْ فُضَلَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَأَهْلِ الْمَرَاتِبِ مِنْهُمْ بَلْ مِنْ سَقْطِهِمْ وَالنُّخَالَةُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ مِنْ نُخَالَةِ الدَّقِيقِ وَهِيَ قُشُورُهُ وَالنُّخَالَةُ وَالْحُقَالَةُ وَالْحُثَالَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَوْلُهُ (وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفِي غَيْرِهِمْ) هَذَا مِنْ جَزْلِ الْكَلَامِ وَفَصِيحِهِ وَصِدْقِهِ الَّذِي يَنْقَادُ لَهُ كُلُّ مُسْلِمٍ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كُلُّهُمْ هُمْ صَفْوَةُ النَّاسِ وِسَادَاتُ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ قُدْوَةٌ لَا نُخَالَةَ فِيهِمْ وَإِنَّمَا جَاءَ التَّخْلِيطُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَفِيمَنْ بَعْدَهُمْ كَانَتِ النُّخَالَةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ) قَالُوا هُوَ الْعَنِيفُ فِي رعيته لايرفق بِهَا فِي سَوْقِهَا وَمَرْعَاهَا بَلْ يَحْطِمُهَا فِي ذَلِكَ وَفِي سَقْيِهَا وَغَيْرِهِ وَيَزْحَمُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ بِحَيْثُ يُؤْذِيهَا وَيَحْطِمُهَا
(بَاب غِلَظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ
[1831] قَوْلُهُ (ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِغِلَظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ وَأَصْلُ الْغُلُولِ الْخِيَانَةُ مُطْلَقًا ثُمَّ غَلَبَ اخْتِصَاصُهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِالْخِيَانَةِ فِي الْغَنِيمَةِ قَالَ نَفْطَوَيْهِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَيْدِي مغلولة عنه أي محبوسة يقال غل غلولاوأغل إِغْلَالًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ أُلْفِيَنَّ بِضَمِّ الهمزة وبالفاء المكسورة أىلاأجدن أَحَدَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَمَعْنَاهُ لَا تَعْمَلُوا عَمَلًا أَجِدُكُمْ بِسَبَبِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ قَالَ الْقَاضِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعُذْرِيِّ لَا أَلْقَيَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْقَافِ وَلَهُ وَجْهٌ كَنَحْوِ مَا سبق لكن المشهور الأول والرغاء بِالْمَدِّ صَوْتُ الْبَعِيرِ وَكَذَا الْمَذْكُورَاتُ بَعْدَ وَصْفِ)(12/216)
كُلِّ شَيْءٍ بِصَوْتِهِ وَالصَّامِتُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالشَّفَاعَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ وَيَكُونُ ذَلِكَ أَوَّلًا غَضَبًا عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ ثُمَّ يَشْفَعُ فِي جَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي شَفَاعَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الْعُرُوضِ وَالْخَيْلِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْغُلُولِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ غَصْبًا فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالزَّكَاةِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ رَدَّ مَا غَلَّهُ فَإِنْ تَفَرَّقَ الْجَيْشُ وَتَعَذَّرَ إِيصَالُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَيْهِ فَفِيهِ خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ كَسَائِرِ الأموال الضائعة وقال بن مسعود وبن عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ يَدْفَعُ خُمُسَهُ إِلَى الْإِمَامِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ عُقُوبَةِ الْغَالِّ فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ يُعَزَّرُ عَلَى(12/217)
حَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ وَلَا يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْحَسَنُ وَالْأَوْزَاعِيُّ يُحَرَّقُ رَحْلُهُ وَمَتَاعُهُ كُلُّهُ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَّا سِلَاحَهُ وَثِيَابَهُ الَّتِي عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ إِلَّا الْحَيَوَانَ وَالْمُصْحَفَ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي تَحْرِيقِ رَحْلِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سَالِمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَلَوْ صَحَّ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ إِذَا كَانَتِ الْعُقُوبَةُ بِالْأَمْوَالِ كَأَخْذِ شَطْرِ الْمَالِ مِنْ مَانِعِ الزَّكَاةِ وَضَالَّةِ الْإِبِلِ وَسَارِقِ التَّمْرِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ هَدَايَا الْعُمَّالِ
[1832] قَوْلُهُ (اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا من الأسد يقال له بن اللُّتْبِيَّةِ) أَمَّا الْأَسْدُ فَبِإِسْكَانِ)(12/218)
السِّينِ وَيُقَالُ لَهُ الْأَزْدِيُّ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَيُقَالُ لَهُمْ الْأَزْدُ وَالْأَسْدُ وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ في الرواية الثانية وأما اللُّتْبِيَّةُ فَبِضَمِّ اللَّامِ وَإِسْكَانِ التَّاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَهَا قَالُوا وَهُوَ خَطَأٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِفَتْحِهَا وَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا قَالُوا وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا وَالصَّوَابُ اللُّتْبِيَّةُ بِإِسْكَانِهَا نِسْبَةً إِلَى بني لتب قبيلة معروفة وإسم بن اللُّتْبِيَّةِ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ حَرَامٌ وَغُلُولٌ لِأَنَّهُ خَانَ فِي وِلَايَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ فِي عُقُوبَتِهِ وَحَمْلِهِ مَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا ذَكَرَ مِثْلَهُ فِي الْغَالِّ وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ السَّبَبَ فِي تَحْرِيمِ الْهَدِيَّةِ عَلَيْهِ وَأَنَّهَا بِسَبَبِ الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ الْهَدِيَّةِ لِغَيْرِ الْعَامِلِ فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ مَا يقبضه العالم وَنَحْوِهِ بِاسْمِ الْهَدِيَّةِ وَأَنَّهُ يَرُدُّهُ إِلَى مُهْدِيهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَإِلَى بَيْتِ الْمَالِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوْ شَاةٍ تَيْعِرُ) هُوَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقُ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَمَفْتُوحَةٍ وَمَعْنَاهُ تَصِيحُ وَالْيُعَارُ صَوْتُ الشَّاةِ قَوْلُهُ (ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبِطَيْهِ) هِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا وَالْفَاءُ سَاكِنَةٌ فِيهِمَا وَمِمَّنْ ذَكَرَ اللُّغَتَيْنِ فِي الْعَيْنِ الْقَاضِي هُنَا وَفِي الْمَشَارِقِ وَصَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَالْأَشْهَرُ الضَّمُّ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَآخَرُونَ عُفْرَةُ الْإِبِطِ هِيَ الْبَيَاضُ لَيْسَ بِالنَّاصِعِ(12/219)
بَلْ فِيهِ شَيْءٌ كَلَوْنِ الْأَرْضِ قَالُوا وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَفَرِ الْأَرْضِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْفَاءِ وَهُوَ وَجْهُهَا قَوْلُهُ (فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ) فِيهِ مُحَاسَبَةُ الْعُمَّالِ لِيُعْلَمَ مَا قَبَضُوهُ وَمَا صَرَفُوا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا) هَكَذَا هُوَ ببعض النسخ فلا عرفن وَفِي بَعْضِهَا لَا أَعْرِفَنَّ بِالْأَلِفِ عَلَى النَّفْيِ قَالَ الْقَاضِي هَذَا أَشْهَرُ قَالَ وَالْأَوَّلُ هُوَ رِوَايَةُ أَكْثَرِ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ (بَصَرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي) مَعْنَاهُ أَعْلَمُ هَذَا الْكَلَامَ يَقِينًا وَأَبْصَرَتْ عَيْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حين(12/220)
تَكَلَّمَ بِهِ وَسَمِعَتْهُ أُذُنِي فَلَا شَكَّ فِي عِلْمِي بِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاللَّهِ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فِيهِ تَوْكِيدُ الْيَمِينِ بِذِكْرِ اسْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ (وَسَلُوا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مَعِي) فِيهِ اسْتِشْهَادُ الرَّاوِي وَالْقَائِلِ بِقَوْلِ مَنْ يُوَافِقُهُ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ السامع وأبلغ في طمأنينته قوله (وحدثناه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ إِلَى قَوْلِهِ قَالَ عُرْوَةُ فَقُلْتُ لِأَبِي حُمَيْدٍ أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مِنْ فِيهِ إِلَى أُذُنِي) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا حُمَيْدٍ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي هُنَا عَنْ رِوَايَةِ الْجُمْهُورِ وَوَقَعَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النُّسَخِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَهَذَا وَاضِحٌ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مُتَّصِلٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ قَالَ عُرْوَةُ فَقُلْتُ لِأَبِي حُمَيْدٍ أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مِنْ فِيهِ إِلَى أُذُنِي فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ عُرْوَةَ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي حُمَيْدٍ فَاتَّصَلَ الْحَدِيثُ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالطُّرُقِ الْكَثِيرَةِ السَّابِقَةِ قَوْلُهُ (فَجَاءَ بِسَوَادٍ كَثِيرٍ) أَيْ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَأَشْخَاصٍ بَارِزَةٍ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ وَالسَّوَادُ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ(12/221)
[1833] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَتَمَنَا مِخْيَطًا) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ وَهُوَ الْإِبْرَةُ قَوْلُهُ (عَدِيُّ بْنُ عَمِيرَةَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ قَالَ الْقَاضِي وَلَا يُعْرَفُ مِنَ الرِّجَالِ أَحَدٌ يُقَالُ لَهُ عُمَيْرَةُ بِالضَّمِّ بَلْ كُلُّهُمْ بِالْفَتْحِ وَوَقَعَ فِي النَّسَائِيِّ الْأَمْرَانِ
(بَاب وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ (وَتَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِهَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَعَلَى تَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا القاضي)(12/222)
عِيَاضٌ وَآخَرُونَ
[1834] قَوْلُهُ (نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَطِيعُوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم في عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَتَهُ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ هَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقِيلَ هُمُ الْعُلَمَاءُ وَقِيلَ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ الصَّحَابَةُ خَاصَّةً فَقَطْ فَقَدْ أَخْطَأَ
[1835] قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أميري فقد(12/223)
أَطَاعَنِي) وَقَالَ فِي الْمَعْصِيَةِ مِثْلَهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاعَةِ الْأَمِيرِ فَتَلَازَمَتِ الطَّاعَةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1836] (عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ تَجِبُ طَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِيمَا يَشُقُّ وَتَكْرَهُهُ النُّفُوسُ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ كَانَتْ لِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ فَتُحْمَلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُطْلِقَةُ لِوُجُوبِ طَاعَةِ وُلَاةِ(12/224)
الْأُمُورِ عَلَى مُوَافَقَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ لا سمع ولا طاعة في المعصية والأثرة بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ وَيُقَالُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ حَكَاهُنَّ فِي الْمَشَارِقِ وَغَيْرِهِ وَهِيَ الِاسْتِئْثَارُ وَالِاخْتِصَاصُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ أَيْ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اخْتَصَّ الْأُمَرَاءُ بِالدُّنْيَا وَلَمْ يُوصِلُوكُمْ حَقَّكُمْ مِمَّا عِنْدَهُمْ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الْحَثِّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَسَبَبُهَا اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أجوالهم فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ قَوْلُهُ
[1837] (إِنَّ خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ) يَعْنِي مَقْطُوعَهَا وَالْمُرَادُ أَخَسُّ الْعَبِيدِ أَيْ أَسْمَعُ وَأُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ كَانَ دَنِيءَ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ مَقْطُوعَ الْأَطْرَافِ فَطَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ وَتُتَصَوَّرُ إِمَارَةُ الْعَبْدِ إِذَا وَلَّاهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أَوْ إِذَا تَغَلَّبَ عَلَى الْبِلَادِ بِشَوْكَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ عَقْدِ الْوِلَايَةِ لَهُ مَعَ الِاخْتِيَارِ بل شرطها(12/225)
الْحُرِّيَّةُ قَوْلُهُ
[1840] (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا فَأَوْقَدَ نَارًا وَقَالَ(12/226)
ادْخُلُوهَا إِلَى قَوْلِهِ لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) هَذَا مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ أَنَّهُ لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا هِيَ فِي الْمَعْرُوفِ وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ هَذَا الْأَمِيرُ قِيلَ أَرَادَ امْتِحَانَهُمْ وَقِيلَ كَانَ مَازِحًا قِيلَ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا إِنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) هَذَا مِمَّا عَلِمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ وَهَذَا التَّقْيِيدُ بِيَوْمِ القيامة مبين(12/227)
لِلرِّوَايَةِ الْمُطْلَقَةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا لَوْ دَخَلُوهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ) هَكَذَا هُوَ لِمُعْظَمِ الرُّوَاةِ وَفِي مُعْظَمِ النُّسَخِ بَوَاحًا بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضِهَا(12/228)
بَرَاحًا وَالْبَاءُ مَفْتُوحَةٌ فِيهِمَا وَمَعْنَاهُمَا كُفْرًا ظَاهِرًا وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعَاصِي وَمَعْنَى عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ أَيْ تَعْلَمُونَهُ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَا تُنَازِعُوا وُلَاةَ الْأُمُورَ فِي وِلَايَتِهِمْ وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ فَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ السُّلْطَانُ بِالْفِسْقِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَنْعَزِلُ وَحُكِيَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا فَغَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَسَبَبُ عَدَمِ انْعِزَالِهِ وَتَحْرِيمِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَتَكُونُ الْمَفْسَدَةُ فِي عَزْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي بَقَائِهِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَنْعَقِدُ لِكَافِرٍ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ انْعَزَلَ قَالَ وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَةَ الصَّلَوَاتِ وَالدُّعَاءَ إِلَيْهَا قَالَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمُ الْبِدْعَةُ قَالَ وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ تَنْعَقِدُ لَهُ وَتُسْتَدَامُ لَهُ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ قَالَ الْقَاضِي فَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ كُفْرٌ وَتَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ أَوْ بِدْعَةٌ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْوِلَايَةِ وَسَقَطَتْ طَاعَتُهُ وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ وَخَلْعُهُ وَنَصْبُ إِمَامٍ عَادِلٍ إِنْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ إِلَّا لِطَائِفَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِيَامُ بِخَلْعِ الْكَافِرِ وَلَا يَجِبُ فِي الْمُبْتَدِعِ إِلَّا إِذَا ظَنُّوا الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ تَحَقَّقُوا الْعَجْزَ لَمْ يَجِبِ الْقِيَامُ وَلْيُهَاجِرِ الْمُسْلِمُ عَنْ أَرْضِهِ إِلَى غَيْرِهَا وَيَفِرَّ بِدِينِهِ قَالَ وَلَا تَنْعَقِدُ لِفَاسِقٍ ابْتِدَاءً فَلَوْ طَرَأَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فِسْقٌ قَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبُ خَلْعُهُ إِلَّا أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ وَحَرْبٌ وَقَالَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَالظُّلْمِ وَتَعْطِيلِ الْحُقُوقِ وَلَا يُخْلَعُ وَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَلْ يَجِبُ وَعْظُهُ وَتَخْوِيفُهُ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَقَدِ ادَّعَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ فِي هَذَا الْإِجْمَاعَ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ هَذَا بِقِيَامِ الحسن وبن الزُّبَيْرِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَبِقِيَامِ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى الحجاج مع بن الأشعث وتأول هذا القائل قوله أن لا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ فِي أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ قِيَامَهُمْ عَلَى الْحَجَّاجِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْفِسْقِ بَلْ لِمَا غَيَّرَ مِنَ الشَّرْعِ وَظَاهَرَ مِنَ الْكُفْرِ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْخِلَافَ كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1709] قَوْلُهُ (بَايَعْنَا عَلَى السَّمْعِ) الْمُرَادُ بِالْمُبَايَعَةِ الْمُعَاهَدَةُ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْبَيْعِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ كَانَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَكَذَا هَذِهِ البيعة(12/229)
تَكُونُ بِأَخْذِ الْكَفِّ وَقِيلَ سُمِّيَتْ مُبَايَعَةً لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُعَاوَضَةِ لِمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى من عَظِيمَ الْجَزَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة الْآيَةَ قَوْلُهُ (وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ مَعْنَاهُ نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فِي كل زمان ومكان الكبار والصفار لَا نُدَاهِنُ فِيهِ أَحَدًا وَلَا نَخَافُهُ هُوَ وَلَا نَلْتَفِتُ إِلَى الْأَئِمَّةِ فَفِيهِ الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَإِنْ خَافَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ سَقَطَ الْإِنْكَارُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ وَوَجَبَتْ كَرَاهَتُهُ بِقَلْبِهِ هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ وَحَكَى الْقَاضِي هُنَا في بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْإِنْكَارِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَبَسَطْتُهُ بَسْطًا شافيا
(باب الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ) هَذَا الْحَدِيثُ أَوَّلُ الْفَوَاتِ الثَّالِثِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ مُسْلِمٍ بَلْ رَوَاهُ عَنْهُ بِالْإِجَازَةِ وَلِهَذَا قَالَ عَنْ مُسْلِمٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي الْفُصُولِ السَّابِقَةِ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْإِمَامُ جُنَّةٌ) أَيْ كَالسِّتْرِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَيَمْنَعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَحْمِي بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ وَيَتَّقِيهِ النَّاسُ وَيَخَافُونَ سَطْوَتَهُ وَمَعْنَى يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ أَيْ يُقَاتَلُ مَعَهُ الْكُفَّارُ وَالْبُغَاةُ وَالْخَوَارِجُ وَسَائِرُ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ مُطْلَقًا وَالتَّاءُ فِي يُتَّقَى مُبْدَلَةٌ من الواو)(12/230)
(باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ قَوْلُهُ
[1842] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ) أَيْ يَتَوَلَّوْنَ أُمُورَهُمْ كَمَا تَفْعَلُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ بِالرَّعِيَّةِ وَالسِّيَاسَةُ الْقِيَامُ عَلَى الشيء بما يصلحه وفي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ قَوْلِ هَلَكَ فُلَانٌ إِذَا مَاتَ وَقَدْ كَثُرَتِ الْأَحَادِيثُ بِهِ وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ قَوْلُهُ تَعَالَى حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَتَكُونُ خُلَفَاءُ فتكثر قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ فُوابَيْعَةَ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ) قَوْلُهُ فَتَكْثُرُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ مِنَ الْكَثْرَةِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ قَالَ الْقَاضِي وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ فَتَكْبُرُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ كَأَنَّهُ مِنْ إِكْبَارِ قَبِيحِ أَفْعَالِهِمْ وَهَذَا تَصْحِيفٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَةٍ بَعْدَ خَلِيفَةٍ فَبَيْعَةُ الْأَوَّلِ صَحِيحَةٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا وَبَيْعَةُ الثَّانِي بَاطِلَةٌ يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ طَلَبُهَا وَسَوَاءٌ عَقَدُوا لِلثَّانِي عَالِمِينَ بِعَقْدِ الأول جَاهِلِينَ وَسَوَاءٌ كَانَا فِي بَلَدَيْنِ أَوْ بَلَدٍ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي بَلَدِ الْإِمَامِ الْمُنْفَصِلِ)(12/231)
وَالْآخَرُ فِي غَيْرِهِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَقِيلَ تَكُونُ لِمَنْ عُقِدَتْ لَهُ فِي بَلَدِ الْإِمَامِ وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ وَهَذَانِ فَاسِدَانِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ لِخَلِيفَتَيْنِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ اتَّسَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ الْإِرْشَادِ قَالَ أصحابنا لا يجوز عقدها شخصين قَالَ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِاثْنَيْنِ فِي صُقْعٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَالَ فَإِنْ بَعُدَ مَا بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ وَتَخَلَّلَتْ بَيْنَهُمَا شُسُوعٌ فَلِلِاحْتِمَالِ فِيهِ مَجَالٌ قَالَ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْقَوَاطِعِ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَصْلِ وَأَرَادَ بِهِ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَلِظَوَاهِرِ إِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1843] (سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ قَالَ تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ) هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْإِخْبَارُ مُتَكَرِّرًا وَوُجِدَ مُخْبَرُهُ مُتَكَرِّرًا وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي ظَالِمًا عَسُوفًا فَيُعْطَى حَقَّهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ وَلَا يُخْلَعُ بَلْ يُتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ أَذَاهُ وَدَفْعِ شَرِّهِ وَإِصْلَاحِهِ وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا ذِكْرُ اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْأَثَرَةِ وَتَفْسِيرِهَا وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا اسْتِئْثَارُ الْأُمَرَاءِ بِأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ(12/232)
[1844] (وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ) هُوَ مِنَ الْمُنَاضَلَةِ وَهِيَ الْمُرَامَاةُ بِالنُّشَّابِ قَوْلُهُ (وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ) هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالشِّينِ وَهِيَ الدَّوَابُّ الَّتِي تَرْعَى وَتَبِيتُ مَكَانَهَا قَوْلُهُ (الصَّلَاةَ جَامِعَةً) هُوَ بِنَصْبِ الصَّلَاةِ عَلَى الْإِغْرَاءِ وَجَامِعَةً عَلَى الْحَالِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا) هَذِهِ اللَّفْظَةُ رُوِيَتْ عَلَى أَوْجُهٍ أَحَدُهَا وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ الرُّوَاةِ يُرَقِّقُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبِقَافَيْنِ أَيْ يَصِيرُ بَعْضُهَا رَقِيقًا أَيْ خَفِيفًا لِعِظَمِ مَا بَعْدَهُ فَالثَّانِي يَجْعَلُ الْأَوَّلَ رَقِيقًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَقِيلَ يَدُورُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَيَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَسُوقُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ بِتَحْسِينِهَا وَتَسْوِيلِهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي فَيَرْفُقُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا فَاءٌ مَضْمُومَةٌ وَالثَّالِثُ فَيَدْفِقُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ وَبِالْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ يَدْفَعُ وَيَصُبُّ وَالدَّفْقُ الصَّبُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلْيَأْتِ إلى الناس الذي يجب أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) هَذَا مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَدِيعِ حِكَمِهِ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهَا وَأَنَّ الْإِنْسَانَ يلزم أن لا يَفْعَلَ مَعَ النَّاسِ إِلَّا مَا يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلُوهُ مَعَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(12/233)
(فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ) مَعْنَاهُ ادْفَعُوا الثَّانِيَ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَلَى الْإِمَامِ فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِحَرْبٍ وَقِتَالٍ فَقَاتِلُوهُ فَإِنْ دَعَتِ الْمُقَاتَلَةُ إِلَى قَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ مُتَعَدٍّ فِي قتاله قوله (فقلت له هذا بن عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ وَلَا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إِلَى آخِرِهِ) الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْروِ بْنِ الْعَاصِ وَذِكْرَ الْحَدِيثِ فِي تَحْرِيمِ مُنَازَعَةِ الْخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ وَأَنَّ الثَّانِيَ يُقْتَلُ فَاعْتَقَدَ هَذَا الْقَائِلُ هَذَا الْوَصْفَ فِي مُعَاوِيَةَ لِمُنَازَعَتِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَتْ قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَةُ عَلِيٍّ فَرَأَى هَذَا أَنَّ نَفَقَةَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَجْنَادِهِ وَأَتْبَاعِهِ فِي حَرْبِ عَلِيٍّ وَمُنَازَعَتِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ إِيَّاهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمِنْ قَتْلِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ قِتَالٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مَالًا فِي مُقَاتَلَتِهِ قَوْلُهُ (أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ) هَذَا فِيهِ دَلِيلٌ لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْمُتَوَلِّينَ لِلْإِمَامَةِ بِالْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ إِجْمَاعٍ وَلَا عَهْدٍ قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ(12/234)
الْكَعْبَةِ الصَّائِدِيِّ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِالصَّادِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جَمِيعِ النُّسَخِ قال وَهُوَ غَلَطٌ وَصَوَابُهُ الْعَائِذِيِّ بِالْعَيْنِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قاله بن الحباب والنسابة هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تاريخه والسمعاني في الأنساب فقالا هُوَ الصَّائِدِيُّ وَلَمْ يَذْكُرَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدِ اجْتَمَعَ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَالسَّمْعَانِيُّ عَلَى الصَّائِدِيِّ قَالَ السَّمْعَانِيُّ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى صَائِدٍ بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ قَالَ وَصَائِدٌ اسْمُ كَعْبِ بْنِ شُرَحْبِيلَ بن شراحبيل بْنِ عَمْرِو بْنِ حُشَمِ بْنِ حَاسِدِ بْنِ حشَيمِ بْنِ حَوَانَ بْنِ نَوْفِ بْنِ هَمْدَانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَحْبَارِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ
(بَاب الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عِنْدَ ظُلْمِ الْوُلَاةِ وَاسْتِئْثَارِهِمْ
[1845]
[1846] تَقَدَّمَ شَرْحُ أَحَادِيثِهِ فِي الْأَبْوَابِ قَبْلَهُ وَحَاصِلُهُ الصَّبْرُ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَأَنَّهُ لَا تَسْقُطُ طَاعَتُهُمْ بِظُلْمِهِمْ والله أعلم)(12/235)
(باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (وفي كل حال وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة) قَوْلُهُ
[1847] (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ قَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَاكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ الدَّخَنُ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَصْلُهُ أَنْ تَكُونَ فِي لَوْنِ الدَّابَّةِ كُدُورَةٌ إلى سواد قالوا والمراد)(12/236)
هنا أن لا تَصْفُوَ الْقُلُوبُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَلَا يَزُولُ خُبْثُهَا وَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الصفا قَالَ الْقَاضِي قِيلَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ بَعْدَ الشَّرِّ أَيَّامُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ الْمُرَادُ الْأَمْرُ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَيَهْتَدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي) الْهَدْيُ الْهَيْئَةُ وَالسِّيرَةُ وَالطَّرِيقَةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمِ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ مِنَ الْأُمَرَاءِ يَدْعُو إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ ضَلَالٍ آخَرَ كَالْخَوَارِجِ والقزامطة وَأَصْحَابِ الْمِحْنَةِ وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ هَذَا لُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامِهِمْ وَوُجُوبُ طَاعَتِهِ وَإِنْ فَسَقَ وَعَمِلَ الْمَعَاصِيَ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَفِيهِ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا وَقَدْ وَقَعَتْ كُلُّهَا قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي سَلَّامٍ قَالَ قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا عِنْدِي مُرْسَلٌ لِأَنَّ أَبَا سَلَّامٍ لَمْ يَسْمَعْ حُذَيْفَةَ وَهُوَ كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَكِنَّ الْمَتْنَ صَحِيحٌ متصل بالطريق(12/237)
الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا أَتَى مُسْلِمٌ بِهَذَا مُتَابِعَةً كَمَا تَرَى وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُولِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ إِذَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مُتَّصِلًا تَبَيَّنَّا بِهِ صِحَّةَ الْمُرْسَلِ وَجَازَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَيَصِيرُ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ
[1848] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي قَيْسِ بْنِ رِيَاحٍ) هُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْمُثَنَّاةِ وَهُوَ زِيَادُ بْنُ رِيَاحٍ الْقَيْسِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ بَعْدَهُ وَقَالَهُ الْبُخَارِيُّ بِالْمُثَنَّاةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَقَالَهُ الْجَمَاهِيرُ بِالْمُثَنَّاةِ لَا غَيْرَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) هِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ عَلَى صِفَةِ مَوْتِهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ فَوْضَى لَا إِمَامَ لَهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ) هِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَالْمِيمُ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ وَالْيَاءُ مُشَدَّدَةٌ أَيْضًا قَالُوا هِيَ الْأَمْرُ الْأَعْمَى لَا يَسْتَبِينُ وَجْهُهُ كَذَا قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْجُمْهُورُ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ هَذَا كَتَقَاتُلِ الْقَوْمِ لِلْعَصَبِيَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً) هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ بِالْعَيْنِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا وَغَيْرِهَا وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْعُذْرِيِّ بِالْغَيْنِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ(12/238)
فِي الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ يُقَاتِلُ لِشَهْوَةِ نَفْسِهِ وَغَضْبَةٍ لَهَا وَيُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهَا يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ وَمَعْنَاهُ إِنَّمَا يُقَاتِلُ عَصَبِيَّةً لِقَوْمِهِ وَهَوَاهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَتَحَاشَى بِالْيَاءِ وَمَعْنَاهُ لَا يَكْتَرِثُ بِمَا يَفْعَلُهُ فِيهَا وَلَا يَخَافُ وَبَالَهُ(12/239)
وَعُقُوبَتَهُ
[1851] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى يوم القيامة) لا حجة له) أي لاحجة لَهُ فِي فِعْلِهِ وَلَا عُذْرَ لَهُ يَنْفَعُهُ(12/240)
(بَاب حُكْمِ مَنْ فَرَّقَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُجْتَمِعٌ
[1852] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ) الْهَنَاتُ جَمْعُ هَنَةٍ وَتُطْلَقُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْفِتَنُ وَالْأُمُورُ الْحَادِثَةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) فِيهِ الْأَمْرُ بِقِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ أَرَادَ تَفْرِيقَ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ قُوتِلَ وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ شَرُّهُ إِلَّا بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ)(12/241)
كَانَ هَدَرًا فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَاقْتُلُوهُ مَعْنَاهُ إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ) معناه يفرق جماعتكم كما تفرق العصاة االمشقوقة وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَتَنَافُرِ النُّفُوسِ
(بَاب إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1853] (إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِقَتْلِهِ وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاحُ هَذَا فِي الْأَبْوَابِ السَّابِقَةِ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عقدها لخليفتين وقد سبق قريبا نقل الْإِجْمَاعُ فِيهِ وَاحْتِمَالُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ)
بَاب وُجُوبِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْأُمَرَاءِ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ (وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ مَا صَلَّوْا وَنَحْوِ ذَلِكَ) قَوْلُهُ
[1854] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ(12/242)
سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا أَفَلَا نقاتلهم قال لا ماصلوا) هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ بِالْإِخْبَارِ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَوَقَعَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ عَرَفَ فَقَدْ بَرِئَ وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ فَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ فَظَاهِرَةٌ وَمَعْنَاهُ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ إِثْمِهِ وَعُقُوبَتِهِ وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِنْكَارَهُ بِيَدِهِ ولَا لِسَانِهِ فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِهِ وَلْيَبْرَأْ وَأَمَّا مَنْ رَوَى فَمَنْ عَرَفَ فَقَدْ بَرِئَ فَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَمَنْ عَرَفَ الْمُنْكَرَ وَلَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ فَقَدْ صَارَتْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ إِثْمِهِ وَعُقُوبَتِهِ بِأَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدَيْهِ أَوْ بِلِسَانِهِ فَإِنْ عَجَزَ فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ مَعْنَاهُ ولَكِنَّ الْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ عَلَى مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ لَا يأثم بمجرد السكوت بل إنما يأثم بالرضى به أو بأن لا يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ أَوْ بِالْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ أفلا نقاتلهم قال لا ماصلوا فَفِيهِ مَعْنَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَى الْخُلَفَاءِ(12/243)
بمجرد الظلم أو الفسق مالم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام
(باب خيار الأئمة وشرارهم قوله
[1855] (عن رزيق بْنِ حَيَّانَ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزاي وتأخيرها على وجهين) ذكره البخاري وبن أبي حاتم والدارقطني وعبد الغني بن سعيد المصري وبن مَاكُولَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمُؤْتَلِفِ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ وَالدِّمَشْقِيُّ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ مُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَبِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ شَرْحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ)(12/244)
وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ) مَعْنَى يُصَلُّونَ أَيْ يَدْعُونَ قَوْلُهُ (فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ فَجَثَا بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَفِي بَعْضِهَا فَجَذَا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فَأَمَّا بِالثَّاءِ فَيُقَالُ مِنْهُ جَثَا على ركبتيه يجثو وجثا يجثى جثوا وَجُثِيًّا فِيهِمَا وَأَجْثَاهُ غَيْرُهُ وَتَجَاثَوْا عَلَى الرُّكَبِ جثى وجثى بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا وَأَمَّا جَذَا فَهُوَ الْجُلُوسُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ نَاصِبَ الْقَدَمَيْنِ وَهُوَ الْجَاذِي وَالْجَمْعُ جَذَا مِثْلَ نَائِمٍ وَنِيَامٍ قَالَ الْجُمْهُورُ الْجَاذِي أَشَدُّ اسْتِيفَازًا مِنَ الْجَاثِي وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو هُمَا لُغَتَانِ(12/245)
بَاب اسْتِحْبَابِ مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ الْجَيْشَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْقِتَالِ وَبَيَانِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَوْلُهُ
[1856] (كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ) وَفِي رِوَايَةٍ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ
[1857] وَفِي رِوَايَةٍ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَ فِي صحيحهما وَأَكْثَرُ رِوَايَتِهِمَا أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَكَذَا ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ أَكْثَرَ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ أَلْفًا وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ وَكَسْرًا فَمَنْ قَالَ أَرْبَعُمِائَةٍ لَمْ يَعْتَبِرِ الْكَسْرَ وَمَنْ قَالَ خَمْسُمِائَةٍ اعْتَبَرَهُ وَمَنْ قَالَ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ تَرَكَ بَعْضَهُمْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُتْقِنِ الْعَدَّ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ وَرِوَايَةِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ
[1858] (بَايَعْنَاهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ على أن لا نَفِرَّ وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ) وَفِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ(13/2)
يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَوْتِ وَهُوَ مَعْنَى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ وَفِي رِوَايَةِ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ الْبَيْعَةُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْبَيْعَةُ على الاسلام والجهاد وفى حديث بن عمر وعبادة بايعنا على السمع والطاعة وأن لا ننازع الأمر أهله وفى رواية عن بن عُمَرَ فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ الْبَيْعَةُ عَلَى الصَّبْرِ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَجْمَعُ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا وَتُبَيِّنُ مَقْصُودَ كُلِّ الرِّوَايَاتِ فَالْبَيْعَةُ عَلَى أن لا نَفِرَّ مَعْنَاهُ الصَّبْرُ حَتَّى نَظْفَرَ بِعَدُوِّنَا أَوْ نُقْتَلَ وَهُوَ مَعْنَى الْبَيْعَةِ عَلَى الْمَوْتِ أَيْ نَصْبِرُ وَإِنْ آلَ بِنَا ذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ لَا أَنَّ الْمَوْتَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَكَذَا الْبَيْعَةُ عَلَى الْجِهَادِ أَيْ وَالصَّبْرُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَجِبُ عَلَى الْعَشَرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصْبِرُوا لِمِائَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَا يَفِرُّوا مِنْهُمْ وَعَلَى الْمِائَةِ الصَّبْرُ لِأَلْفِ كَافِرٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَصَارَ الْوَاجِبُ مصابرة المثلين فقط هذا مذهبنا ومذهب بن عباس ومالك(13/3)
وَالْجُمْهُورِ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مُجَرَّدُ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ أَمْ يُرَاعَى وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَاعَى لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ بَايَعْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم على أن لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا إِلَى آخِرِهِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ وَقَبْلَ فَرْضِ الْجِهَادِ قَوْلُهُ (سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا كُنَّا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ) هَذَا مُخْتَصَرٌ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لما وصلوا الحديبية وجدوا بئرها إنما تنزه مِثْلَ الشِّرَاكِ فَبَسَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فيها ودعا فيها(13/4)
بالبركة فجاست فَهِيَ إِحْدَى الْمُعْجِزَاتِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّ السَّائِلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلِمَ أَصْلَ الْحَدِيثِ وَالْمُعْجِزَةِ فِي تَكْثِيرِ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَى فِيهَا وَلَمْ يَعْلَمْ عَدَدَهُمْ فَقَالَ جَابِرٌ كُنَّا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَلَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ أَوْ أَكْثَرَ لَكَفَانَا وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ دَعَا عَلَى بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ أَيْ دَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَةِ قَوْلُهُ فِي الشَّجَرَةِ
[1859] (إِنَّهَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَكَانُهَا فِي العام المقبل) قال العلماء سبب خفائها أن لا يُفْتَتَنَ النَّاسُ بِهَا لِمَا جَرَى تَحْتَهَا مِنَ الْخَيْرِ وَنُزُولِ الرِّضْوَانِ وَالسَّكِينَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَوْ بَقِيَتْ ظَاهِرَةً مَعْلُومَةً لَخِيفَ تَعْظِيمُ الْأَعْرَابِ وَالْجُهَّالِ إِيَّاهَا وَعِبَادَتُهُمْ لَهَا فَكَانَ خَفَاؤُهَا رَحْمَةً مِنَ الله تعالى(13/5)
(باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه
[1862] قَوْلُهُ (إِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ تَعَرَّبْتَ قَالَ لَا وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِي فِي الْبَدْوِ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ تَرْكِ الْمُهَاجِرِ هِجْرَتَهُ وَرُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ وَعَلَى أَنَّ ارتداد المهاجر أعرابيا من الكبائر قال ولهذا أَشَارَ الْحَجَّاجُ إِلَى أَنْ أَعْلَمَهُ سَلَمَةُ أَنَّ خُرُوجَهُ إِلَى الْبَادِيَةِ إِنَّمَا هُوَ بِإِذْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَلَعَلَّهُ رَجَعَ إِلَى غَيْرِ وَطَنِهِ أَوْ لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي مُلَازَمَةِ الْمُهَاجِرِ أَرْضَهُ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا وَفَرْضَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنُصْرَتِهِ أَوْ لِيَكُونَ مَعَهُ أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ وَأَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَأَذَلَّ الْكُفْرَ وَأَعَزَّ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَقَالَ مَضَتِ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا أَيِ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ لِمُوَاسَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُؤَازَرَتِهِ)(13/6)
وَنُصْرَةِ دِينِهِ وَضَبْطِ شَرِيعَتِهِ قَالَ الْقَاضِي وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمْ فَقِيلَ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى غَيْرِهِمْ بَلْ كَانَتْ نَدْبًا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرِ الْوُفُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفَتْحِ بِالْهِجْرَةِ وَقِيلَ إِنَّمَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى مَنْ لَمْ يُسْلِمْ كُلُّ أهل بلدة لئلا يبقى فى طلوع أَحْكَامِ الْكُفَّارِ
(بَاب الْمُبَايَعَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ وَالْخَيْرِ وَبَيَانِ مَعْنَى لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ
[1863] قَوْلُهُ (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبَايِعُهُ عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ إِنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ مَضَتْ لِأَهْلِهَا وَلَكِنْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ وَالْخَيْرِ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْهِجْرَةَ الْمَمْدُوحَةَ الْفَاضِلَةَ الَّتِي لِأَصْحَابِهَا الْمَزِيَّةُ الظَّاهِرَةُ)(13/7)
إِنَّمَا كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ وَسَائِرِ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ فَإِنَّ الْخَيْرَ أَعَمُّ مِنَ الْجِهَادِ وَمَعْنَاهُ أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ
[1353] قَوْلِهِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ مَكَّةَ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ فَلَا تُتَصَوَّرُ مِنْهَا الْهِجْرَةُ وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْهِجْرَةَ الْفَاضِلَةَ الْمُهِمَّةَ الْمَطْلُوبَةَ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا أَهْلُهَا امْتِيَازًا ظَاهِرًا انْقَطَعَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَمَضَتْ لِأَهْلِهَا الَّذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ قَوِيَ وَعَزَّ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ عِزًّا ظَاهِرًا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1864] (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ تَحْصِيلَ الْخَيْرِ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ قَدِ انْقَطَعَ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَلَكِنْ حَصِّلُوهُ بِالْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَفِي هَذَا الْحَثُّ عَلَى نِيَّةِ الْخَيْرِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ يُثَابُ عَلَى النِّيَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) مَعْنَاهُ إِذَا طَلَبَكُمُ الْإِمَامُ لِلْخُرُوجِ إلى الجهاد(13/8)
فَاخْرُجُوا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ فَرْضَ عَيْنٍ بَلْ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا فَعَلَهُ مَنْ تَحْصُلُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِنْ تَرَكُوهُ كُلُّهُمْ أَثِمُوا كُلُّهُمْ قَالَ أَصْحَابُنَا الْجِهَادُ الْيَوْمَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ الْكُفَّارُ بِبَلَدِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ كِفَايَةٌ وَجَبَ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ تَتْمِيمُ الْكِفَايَةِ وَأَمَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ كَانَ أَيْضًا فَرْضَ كِفَايَةٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ بِأَنَّهُ كَانَ تَغْزُو السَّرَايَا وَفِيهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ
[1865] (إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ لَشَدِيدٌ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَهَلْ تُؤْتِي صَدَقَتَهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ من عملك شيئا) أما يترك فَبِكَسْرِ التَّاءِ مَعْنَاهُ لَنْ يُنْقِصَكَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكَ شَيْئًا حَيْثُ كُنْتَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُرَادُ بِالْبِحَارِ هُنَا الْقُرَى وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْقُرَى الْبِحَارَ وَالْقَرْيَةَ الْبُحَيْرَةَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُرَادُ بِالْهِجْرَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هَذَا الْأَعْرَابِيُّ مُلَازَمَةُ الْمَدِينَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكُ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ فَخَافَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن لا يَقْوَى لَهَا وَلَا يَقُومَ بِحُقُوقِهَا وَأَنْ يَنْكُصَ عَلَى عَقِبَيْهِ فَقَالَ لَهُ إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ الَّتِي سَأَلْتَ عَنْهَا لَشَدِيدٌ وَلَكِنِ اعْمَلْ بِالْخَيْرِ فِي وَطَنِكَ وَحَيْثُ مَا كُنْتَ فَهُوَ يَنْفَعُكَ ولاينقصك اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ(13/9)
(بَاب كَيْفِيَّةِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ
[1866] قَوْلُهَا (كَانَ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ يُمْتَحَنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أيها النبى إذا جاءك المؤمنات إِلَى آخِرِه مَعْنَى يُمْتَحَنَّ يُبَايِعُهُنَّ عَلَى هَذَا الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَقَوْلُهَا (فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ) مَعْنَاهُ فَقَدْ بَايَعَ الْبَيْعَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَوْلُهَا (وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ غَيْرَ أَنَّهُ يُبَايِعُهُنَّ بِالْكَلَامِ) فِيهِ أَنَّ بَيْعَةَ النِّسَاءِ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ كَفٍّ وَفِيهِ أَنَّ بَيْعَةَ الرِّجَالِ بِأَخْذِ الْكَفِّ مَعَ الْكَلَامِ وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَ الْأَجْنَبِيَّةِ يُبَاحُ سَمَاعُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَنَّ صَوْتَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وأنه لايلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة كتطبب وقصد وَحِجَامَةٍ وَقَلْعِ ضِرْسٍ وَكَحْلِ عَيْنٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا تُوجَدُ امْرَأَةٌ تَفْعَلُهُ جَازَ لِلرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ فِعْلُهُ لِلضَّرُورَةِ وَفِي قَطُّ خَمْسُ لُغَاتٍ)(13/10)
فَتْحُ الْقَافِ وَتَشْدِيدُ الطَّاءِ مَضْمُومَةً وَمَكْسُورَةً وَبِضَمِّهِمَا وَالطَّاءُ مُشَدَّدَةٌ وَفَتْحِ الْقَافِ مَعَ تَخْفِيفِ الطَّاءِ سَاكِنَةً وَمَكْسُورَةً وَهِيَ لِنَفْيِ الْمَاضِي قَوْلُهَا فِي الرواية الأخرى (مَا مَسَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ امْرَأَةً قَطُّ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا فَإِذَا أَخَذَ عَلَيْهَا فَأَعْطَتْهُ قَالَ اذْهَبِي فَقَدْ بَايَعْتُكِ) هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَا مَسَّ امْرَأَةً قَطُّ لَكِنْ يَأْخُذُ عَلَيْهَا الْبَيْعَةَ بِالْكَلَامِ فَإِذَا أَخَذَهَا بِالْكَلَامِ قَالَ اذْهَبِي فقد بايعتك وهذا التقدير مضرح بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَلَا بُدَّ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب الْبَيْعَةِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ
[1867] قَوْلُهُ (كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا فِيمَا اسْتَطَعْتَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فِيمَا اسْتَطَعْتَ أَيْ قُلْ فِيمَا اسْتَطَعْتُ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْفَتِهِ بِأُمَّتِهِ يُلَقِّنُهُمْ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ فِيمَا اسْتَطَعْتُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي عُمُومِ بيعة مالا يُطِيقُهُ وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا رَأَى الْإِنْسَانُ مَنْ يلتزم مالا يُطِيقُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ لَا تَلْتَزِمْ مالا تطيق فيترك بَعْضَهُ وَهُوَ مِنْ نَحْوِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ)(13/11)
(باب بيان سن البلوغ وَهُوَ السِّنُّ الَّذِي يَجْعَلُ صَاحِبَهُ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي أَحْكَامِ الْقِتَالِ وغير ذلك
[1868] قوله (عن بن عُمَرَ أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد وهو بن أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ يوم الخندق وهو بن خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُ) هَذَا دَلِيلٌ لِتَحْدِيدِ الْبُلُوغِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ والأوزاعى وبن وَهْبٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَصِيرُ مُكَلَّفًا وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ فَتَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ مِنْ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهِ وَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّجُلِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَيُقْتَلُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ وَهَذَا الْحَدِيثِ يَرُدُّهُ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أُحُدًا كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ فَيَكُونُ الْخَنْدَقُ سَنَةَ أَرْبَعٍ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَهُ بِسَنَةٍ قَوْلُهُ (لَمْ يُجِزْنِي وَأَجَازَنِي) الْمُرَادُ جَعَلَهُ رَجُلًا لَهُ حُكْمُ الرِّجَالِ المقاتلين)(13/12)
(بَاب النَّهْيِ أَنْ يُسَافَرَ بِالْمُصْحَفِ إِلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ إِذَا خِيفَ وُقُوعُهُ بِأَيْدِيهِمْ)
[1869] قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْمُسَافَرَةِ بِالْمُصْحَفِ إِلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ وَهِيَ خَوْفُ أَنْ يَنَالُوهُ فَيَنْتَهِكُوا حُرْمَتَهُ فَإِنْ أُمِنَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بِأَنْ يَدْخُلَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرِينَ عَلَيْهِمْ فَلَا كَرَاهَةَ وَلَا مَنْعَ مِنْهُ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَآخَرُونَ وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ من أصحابنا بالنهى مطلقا وحكى بن الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْجَوَازَ مُطْلَقًا وَالصَّحِيحُ عَنْهُ مَا سَبَقَ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَلِطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَزَعَمَ أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ(13/13)
إِلَيْهِمْ كِتَابٌ فِيهِ آيَةٌ أَوْ آيَاتٌ وَالْحُجَّةُ فِيهِ كِتَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ قَالَ الْقَاضِي وَكَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
(بَابُ الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْخَيْلِ وَتَضْمِيرِهَا)
فِيهِ ذِكْرُ حَدِيثِ مُسَابَقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ وَغَيْرِ الْمُضَمَّرَةِ وَفِيهِ جَوَازُ الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْخَيْلِ وَجَوَازُ تَضْمِيرِهَا وَهُمَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا لِلْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ وَتَدْرِيبِ الْخَيْلِ وَرِيَاضَتِهَا وَتَمَرُّنِهَا عَلَى الْجَرْي وَإِعْدَادِهَا لِذَلِكَ لِيُنْتَفَعَ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي الْقِتَالِ كَرًّا وَفَرًّا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أن المسابقة بينهما مُبَاحَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بَيْنَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخَيْلِ قَوِيِّهَا مَعَ ضَعِيفِهَا وَسَابِقِهَا مَعَ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا ثَالِثٌ أَمْ لَا فَأَمَّا الْمُسَابَقَةُ بِعِوَضٍ فَجَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَسَابِقَيْنِ أَوْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَيَكُونَ مَعَهُمَا مُحَلِّلٌ وَهُوَ ثَالِثٌ عَلَى فَرَسٍ مُكَافِئٍ لِفَرَسَيْهِمَا وَلَا يُخْرِجُ الْمُحَلِّلُ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا لِيَخْرُجَ هَذَا الْعَقْدُ عَنْ صُورَةِ الْقِمَارِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ عِوَضٍ فِي الْمُسَابَقَةِ
[1870] قَوْلُهُ (سَابَقَ بِالْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ) يُقَالُ أُضْمِرَتْ وَضُمِّرَتْ وَهُوَ أَنْ يُقَلَّلَ عَلَفُهَا مُدَّةً وَتُدْخَلَ بَيْتًا كَنِينًا وَتُجَلَّلَ فِيهِ لِتَعْرَقَ وَيَجِفَّ عَرَقُهَا فَيَجِفَّ لَحْمُهَا وَتَقْوَى عَلَى الْجَرْيِ قَوْلُهُ (مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ) هِيَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ سَاكِنَةٍ وَبِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي وَآخَرُونَ الْقَصْرُ أَشْهَرُ وَالْحَاءُ مَفْتُوحَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّهَا قَالَ وَهُوَ خَطَأٌ قَالَ الْحَازِمِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَيُقَالُ فِيهَا أَيْضًا الْحَيْفَاءُ بِتَقْدِيمِ الْيَاءِ عَلَى الْفَاءِ وَالْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهَا الْحَفْيَاءُ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بَيْنَ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَالْحَفْيَاءِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ وَأَمَّا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ فَهِيَ عِنْدَ الْمَدِينَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْمَدِينَةِ يَمْشِي مَعَهُ الْمُوَدِّعُونَ إِلَيْهَا(13/14)
قَوْلُهُ (مَسْجِدُ بَنِي زُرَيْقٍ) بِتَقْدِيمِ الزَّايِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ قَوْلِ مَسْجِدِ فُلَانٍ وَمَسْجِدِ بَنِي فُلَانٍ وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عن بن عُمَرَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ وَذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ إسماعيل بن علية عن أيوب عن بن نافع عن نافع عن بن عمر فزاد بن نَافِعٍ قَالَ وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو مَسْعُودٍ مَحْفُوظٌ عن الجماعة من أصحاب بن عُلَيَّةَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَرْوِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعَلِيُّ بن المديني وداود عن بن علية عن أيوب عن بن نافع عن نافع عن بن عُمَرَ وَهَذَا شَاهِدٌ لِمَا ذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ ورواه جماعة عن زهير عن بن عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ كَمَا رَوَاهُ مسلم من غير ذكر بن نافع قوله(13/15)
(عن بن عُمَرَ فَجِئْتُ سَابِقًا فَطَفَّفَ بِيَ الْفَرَسُ الْمَسْجِدَ) أى علا وثب إِلَى الْمَسْجِدِ وَكَانَ جِدَارُهُ قَصِيرًا وَهَذَا بَعْدَ مجاوزته الغاية لأن الغاية هي هذا الْمَسْجِدُ وَهُوَ مَسْجِدُ بَنِي زُرَيْقٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(باب فضيلة الخيل وأن الخير معقود بنواصيها)
[1871] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَأجْرُ وَالْغَنِيِمَةُ) وَفِي رِوَايَةٍ الْخَيْرُ مَعْقُوصٌ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ وَفِي رِوَايَةٍ الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ الْمَعْقُودُ وَالْمَعْقُوصُ بِمَعْنًى وَمَعْنَاهُ مَلْوِيٌّ مَضْفُورٌ فِيهَا وَالْمُرَادُ بِالنَّاصِيَةِ هُنَا الشَّعْرُ الْمُسْتَرْسِلُ عَلَى الْجَبْهَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا وَكَنَّى بِالنَّاصِيَةِ عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْفَرَسِ يُقَالُ فُلَانٌ مُبَارَكُ النَّاصِيَةِ وَمُبَارَكُ الْغُرَّةِ أَيِ الذَّاتِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اسْتِحْبَابُ رِبَاطِ الْخَيْلِ وَاقْتِنَائِهَا لِلْغَزْوِ وَقِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ فَضْلَهَا وَخَيْرَهَا وَالْجِهَادَ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الشُّؤْمُ قَدْ يَكُونُ فِي الْفَرَسِ فَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْخَيْلِ الْمُعَدَّةِ لِلْغَزْوِ وَنَحْوِهِ أَوْ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشُّؤْمَ يَجْتَمِعَانِ فِيهَا فإنه فسر الخير بالأجر والمغنم ولايمتنع مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ(13/16)
الْفَرَسُ مِمَّا يُتَشَاءَمُ بِهِ
[1872] قَوْلُهُ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْوِي نَاصِيَةَ فَرَسٍ بِإِصْبَعِهِ) قَالَ الْقَاضِي فِيهِ اسْتِحْبَابُ خِدْمَةِ الرَّجُلِ فَرَسَهُ الْمُعَدَّةَ لِلْجِهَادِ
[1873] قَوْلُهُ (عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ) هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ(13/17)
وَالْقَافِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى بَارِقٍ وَهُوَ جَبَلٌ بِالْيَمَنِ تَرَكَتْهُ الْأَزْدُ وَهُمُ الْأَسْدُ بِإِسْكَانِ السِّينِ فَنُسِبُوا إِلَيْهِ وَقِيلَ إِلَى بَارِقِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَدِيٍّ وَيُقَالُ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَعُرْوَةِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَعُرْوَةِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ أَبِي الجعد
(باب ما يكره من صفات الخيل)
[1875] قَوْلُهُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنَ الْخَيْلِ) وَفَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنْ يَكُونَ فِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى بَيَاضٌ وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى أَوْ يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الشِّكَالِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ هُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ثَلَاثُ قَوَائِمَ محجلة وواحدة(13/18)
مُطْلَقَةً تَشْبِيهًا بِالشِّكَالِ الَّذِي تُشَكَّلُ بِهِ الْخَيْلُ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي ثَلَاثِ قَوَائِمَ غَالِبًا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَدْ يَكُونُ الشِّكَالُ ثَلَاثَ قَوَائِمَ مطلقة وواحدة محجلة قال ولاتكون الْمُطْلَقَةُ مِنَ الْأَرْجُلِ أَوِ الْمُحَجَّلَةُ إِلَّا الرِّجْلَ وقال بن دُرَيْدٍ الشِّكَالُ أَنْ يَكُونَ مُحَجَّلًا مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ فِي يَدِهِ وَرِجْلِهِ فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا قِيلَ الشِّكَالُ مُخَالِفٌ قَالَ الْقَاضِي قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمُطَرِّزِ قِيلَ الشِّكَالُ بَيَاضُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى وَالْيَدِ الْيُمْنَى وَقِيلَ بَيَاضُ الرِّجْلِ الْيُسْرَى وَالْيَدِ الْيُسْرَى وَقِيلَ بَيَاضُ الْيَدَيْنِ وَقِيلَ بَيَاضُ الرِّجْلَيْنِ وَقِيلَ بَيَاضُ الرِّجْلَيْنِ وَيَدٍ وَاحِدَةٍ وَقِيلَ بَيَاضُ الْيَدَيْنِ وَرِجْلٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا كَرِهَهُ لِأَنَّهُ عَلَى صُورَةِ الْمَشْكُولِ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ الْجِنْسُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَجَابَةٌ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ أَغَرَّ زَالَتِ الْكَرَاهَةُ لِزَوَالِ شَبَهِ الشِّكَالِ
(بَاب فَضْلِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
[1876] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا إِلَى قَوْلِهِ أَنْ أُدْخِلَهُ(13/19)
الْجَنَّةَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى تَكَفَّلَ اللَّهُ وَمَعْنَاهُمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذَا الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأموالهم بأن لهم الجنة الْآيَةَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ جِهَادًا بِالنَّصْبِ وَكَذَا قَالَ بَعْدَهُ وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَتَقْدِيرُهُ لَا يُخْرِجُهُ الْمُخْرِجُ وَيُحَرِّكُهُ الْمُحَرِّكُ إِلَّا لِلْجِهَادِ وَالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ قَوْلُهُ (لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي) مَعْنَاهُ لَا يُخْرِجُهُ إِلَا مَحْضُ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (وَتَصْدِيقَ كَلِمَتِهِ) أَيْ كَلِمَةُ الشَّهَادَتَيْنِ وَقِيلَ تَصْدِيقُ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا لِلْمُجَاهِدِ مِنْ عَظِيمِ ثَوَابِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ) ذَكَرُوا فِي ضَامِنٌ هُنَا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بِمَعْنَى مَضْمُونٌ كَمَاءٍ دَافِقٍ وَمَدْفُوقٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ بِمَعْنَى ذُو ضَمَانٍ قَوْلُهُ تَعَالَى (أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَدْخُلَ عِنْدَ مَوْتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الشُّهَدَاءِ أَحْيَاءٌ عند ربهم يرزقون(13/20)
وَفِي الْحَدِيثِ أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ دُخُولَهُ الْجَنَّةَ عِنْدَ دُخُولِ السَّابِقِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ وَلَا مُؤَاخَذَةٍ بِذَنْبٍ وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ مُكَفِّرَةً لِذُنُوبِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَوْلُهُ (أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ نَائِلًا مَا نَالَ مِنَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ) قَالُوا مَعْنَاهُ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ بِلَا غَنِيمَةٍ إِنْ لَمْ يَغْنَمْ أَوْ مِنَ الْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ مَعًا إِنْ غَنِمُوا وَقِيلَ إِنَّ أَوْ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ أَيْ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَكَذَا وَقَعَ بِالْوَاوِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ بِالْوَاوِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَمِنَ أَنَّ الْخَارِجَ لِلْجِهَادِ يَنَالُ خَيْرًا بِكُلِّ حَالٍ فَإِمَّا أَنْ يُسْتَشْهَدَ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ بِأَجْرٍ وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ بِأَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده مامن كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ) أَمَّا الْكَلْمُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ فَهُوَ الْجُرْحُ وَيُكْلَمُ بِإِسْكَانِ الْكَافِ أَيْ يُجْرَحُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ لايزول عنه الدم بغسل ولاغيره وَالْحِكْمَةُ فِي مَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْئَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَاهِدَ فَضِيلَتِهِ وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْيَمِينِ وَانْعِقَادِهَا بِقَوْلِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَنَحْوِ هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنَ الْحَلِفِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا الْيَمِينُ تَكُونُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ أَوْ مَا دَلَّ عَلَى ذَاتِهِ قَالَ الْقَاضِي واليد هنا(13/21)
بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ قَوْلُهُ (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ خَلْفَهَا وَبَعْدَهَا وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ وَأَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ بَعْضَ مَا يَخْتَارُهُ لِلرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتِ الْمَصَالِحُ بَدَأَ بِأَهَمِّهَا وَفِيهِ مُرَاعَاةُ الرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ وَالسَّعْيِ فِي زَوَالِ الْمَكْرُوهِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ قَوْلُهُ (لوددت أن أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ) فِيهِ فَضِيلَةُ الْغَزْوِ وَالشَّهَادَةِ وَفِيهِ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ وَالْخَيْرِ وَتَمَنِّي مَا لايمكن فِي الْعَادَةِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَفِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ فرض كفاية لافرض عَيْنٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ) هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْغَزْوِ وَأَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَخْلَصَ فِيهِ وَقَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا قَالُوا وَهَذَا الْفَضْلُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَفِي إِقَامَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ هُوَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْمُثَلَّثَةِ بَيْنَهُمَا وَمَعْنَاهُ يَجْرِي مُتَفَجِّرًا أَيْ كَثِيرًا وَهُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَتَفَجَّرُ دَمًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذَا طُعِنَتْ) الضَّمِيرُ فِي كَهَيْئَتِهَا يعود على الجراحة وإذا طُعِنَتْ بِالْأَلِفِ بَعْدَ الذَّالِ كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ) هُوَ(13/22)
بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهُوَ الرِّيحُ
(بَاب فَضْلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى)
[1877] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ وَحُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ ظَاهِرُ هَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ شُعْبَةَ ترويه عَنْ قَتَادَةَ وَحُمَيْدٍ جَمِيعًا عَنْ أَنَسٍ قَالَ وَصَوَابُهُ أَنَّ أَبَا خَالِدٍ يَرْوِيهِ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ وَيَرْوِيهِ أَبُو خَالِدٍ أَيْضًا عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ وَهَكَذَا قَالَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ الْقَاضِي فَيَكُونُ حُمَيْدٌ مَعْطُوفًا عَلَى شُعْبَةَ لَا عَلَى قتادة قال وقد ذكره بن أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَبِي خَالِدٍ عَنْ حُمَيْدٍ وَشُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ فَبَيَّنَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَيْضًا إِيهَامٌ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ حُمَيْدًا يَرْوِيهِ عَنْ قَتَادَةَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ كَذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ(13/23)
حُمَيْدًا يَرْوِيهِ عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَبَقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مامن نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أنها ترجع إلى الدنيا ولاأن لها الدنيا وما فيها الاالشهيد إِلَى آخِرِهِ) هَذَا مِنْ صَرَائِحِ الْأَدِلَّةِ فِي عَظِيمِ فَضْلِ الشَّهَادَةِ وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ الْمَشْكُورُ وَأَمَّا سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ شَهِيدًا فَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ لِأَنَّهُ حَيٌّ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ شَهِدَتْ وَحَضَرَتْ دَارَ الاسلام وَأَرْوَاحَ غَيْرِهِمْ إِنَّمَا تَشْهَدُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ بن الْأَنْبَارِيِّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَقِيلَ لِأَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ وَقِيلَ لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ يَشْهَدُونَهُ فَيَأْخُذُونَ رُوحَهُ وَقِيلَ لِأَنَّهُ شُهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَخَاتِمَةِ الْخَيْرِ بِظَاهِرِ حَالِهِ وَقِيلَ لِأَنَّ عَلَيْهِ شَاهِدًا بِكَوْنِهِ شَهِيدًا وَهُوَ الدَّمُ وَقِيلَ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلَاغِ الرُّسُلِ الرِّسَالَةَ إِلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُشَارِكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِي هَذَا الْوَصْفِ
[1878] قَوْلُهُ (مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ لَا تَسْتَطِيعُوهُ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ لاتستطيعوه وَفِي بَعْضِهَا لَا تَسْتَطِيعُونَهُ(13/24)
بِالنُّونِ وَهَذَا جَارٍ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ أَيْضًا وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ حَذْفُ النُّونُ من غير ناصب ولاجازم وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا وَنَظَائِرُهَا مَرَّاتٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ) مَعْنَى الْقَانِتِ هُنَا الْمُطِيعُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَظِيمُ فَضْلِ الْجِهَادِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْقِيَامَ بِآيَاتِ اللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَقَدْ جعل المجاهد مثل من لايفتر عَنْ ذَلِكَ فِي لَحْظَةٍ مِنَ اللَّحَظَاتِ وَمَعْلُومٌ أن هذا لايتأتى لِأَحَدٍ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاتستطيعونه وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1879] قَوْلُهُ (إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَجَرَ الرِّجَالَ الَّذِينَ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ) فِيهِ كَرَاهَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ فى المساجد يوم الجمعة وغيره وأنه لايرفع الصوت بعلم ولاغيره عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْوِيشِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(13/25)
(بَاب فَضْلِ الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
[1880] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) الْغَدْوَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ السَّيْرُ أَوَّلَ النهار إلى الزوال والروحة السير من الزوال إلى آخر النهار وأو هُنَا لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلشَّكِّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرَّوْحَةَ يَحْصُلُ بِهَا هَذَا الثَّوَابُ وَكَذَا الْغَدْوَةُ وَالظَّاهِرُ أنه لايختص ذَلِكَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ مِنْ بَلْدَتِهِ بَلْ يَحْصُلُ هَذَا الثَّوَابُ بِكُلِّ غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ فِي طريقه إلى الغزو وكذا غدوه وَرَوْحَةٍ فِي مَوْضِعِ الْقِتَالِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يُسَمَّى غَدْوَةً وَرَوْحَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فَضْلَ الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَثَوَابَهُمَا خَيْرٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا كُلِّهَا لو ملكها انسان وَتَصَوَّرَ تَنَعُّمَهُ بِهَا كُلِّهَا لِأَنَّهُ زَائِلٌ وَنَعِيمَ الْآخِرَةِ بَاقٍ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ وَمَعْنَى نَظَائِرِهِ مِنْ تَمْثِيلِ(13/26)
أمور الآخرة وثوابها بأمور الدنيا أنها خيرمن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ مَلَكَهَا إِنْسَانٌ وَمَلَكَ جَمِيعَ مَا فِيهَا وَأَنْفَقَهُ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ وَلَيْسَ تَمْثِيلُ الْبَاقِي بِالْفَانِي عَلَى ظَاهِرِ إِطْلَاقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1882] قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنَا بن أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٌ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ عَنْ رِوَايَةِ الْجُلُودِيِّ قَالَ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ بن مَاهَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مروان فذكر بن أبى شيبة بدل بن أبي عمر قال والصواب الأول(13/27)
(باب بيان ما أعده الله تعالى للمجاهد فى الجنة من الدرجات)
[1884] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ الدَّرَجَاتِ هُنَا الْمَنَازِلُ الَّتِي بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ فِي الظَّاهِرِ وَهَذِهِ صِفَةُ مَنَازِلِ الْجَنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي أَهْلِ الْغُرَفِ أَنَّهُمْ يَتَرَاءَوْنَ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ الرِّفْعَةُ بِالْمَعْنَى مِنْ كَثْرَةِ النَّعِيمِ وَعَظِيمِ الْإِحْسَانِ مِمَّا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ولابصفة مَخْلُوقٍ وَأَنَّ أَنْوَاعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ يَتَفَاضَلُ تَفَاضُلًا كَثِيرًا وَيَكُونُ تَبَاعُدُهُ فِي الْفَضْلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي الْبُعْدِ قَالَ الْقَاضِي وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(13/28)
(بَاب مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُفِّرَتْ خَطَايَاهُ إِلَّا الدَّيْنَ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ تَكْفِيرِ خَطَايَاهُ إِنْ قُتِلَ
[1885] (نَعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ ثُمَّ أَعَادَهُ فَقَالَ إِلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ) فِيهِ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ الْعَظِيمَةُ لِلْمُجَاهِدِ وهى تكفير خطاياه كلها إلاحقوق الْآدَمِيِّينَ وَإِنَّمَا يَكُونُ تَكْفِيرُهَا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مدبر وفيه أن الأعمال لاتنفع إلابالنية وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ) لَعَلَّهُ احْتِرَازٌ مِمَّنْ يُقْبِلُ فِي وَقْتٍ وَيُدْبِرُ فِي وَقْتٍ وَالْمُحْتَسِبُ هُوَ الْمُخْلِصُ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنْ قَاتَلَ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ لِغَنِيمَةٍ أَوْ لِصِيتٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فليس له هذا الثواب ولاغيره وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا الدَّيْنَ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَمِيعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَأَنَّ الْجِهَادَ وَالشَّهَادَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا يُكَفِّرُ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ حُقُوقَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الدَّيْنَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهِ فِي الْحَالِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلاالدين فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1886] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قيس قال(13/29)
وحدثنا بن عَجْلَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ) الْقَائِلِ وَحَدَّثَنَا بن عَجْلَانَ هُوَ سُفْيَانُ قَوْلُهُ (عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ) الْأَوَّلُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالثَّانِي بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقِتْبَانِيُّ بِالْقَافِ مَكْسُورَةً ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَنْسُوبٌ إِلَى قِتْبَانَ بَطْنٍ مِنْ رعين
(باب فى بيان أن أرواح الشهداء فى الجنة وأنهم احياء عند ربهم يرزقون)
[1887] قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَذَكَرَ إِسْنَادَهَ إِلَى مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ(13/30)
عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ ربهم يرزقون قالَ أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ) قَالَ الْمَازِرِيُّ كَذَا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ينسبه فيقول عبد الله بن عمرو وذكره أبومسعود الدمشقى فى مسند بن مَسْعُودٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قُلْتُ وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ بِلَادِنَا الْمُعْتَمَدَةِ وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ مَنْسُوبًا فِي مُعْظَمِهَا وَذَكَرَهُ خَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ وَالْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِي مسند بن مسعود وهوالصواب وَهَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعٌ لِقَوْلِهِ إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّهَدَاءِ (أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ) فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَمُ وَهِيَ الَّتِي يُنَعَّمُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ هَذَا إِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَة أَيْضًا وَغَيْرُهُمْ إِنَّهَا لَيْسَتْ مَوْجُودَةً وَإِنَّمَا تُوجَدُ بَعْدَ الْبَعْثِ فِي الْقِيَامَةِ قَالُوا وَالْجَنَّةُ الَّتِي أُخْرِجَ مِنْهَا آدَمُ غَيْرُهَا وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ وَفِيهِ إِثْبَاتُ مُجَازَاةِ الْأَمْوَاتِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ قَبْلَ الْقِيَامَةِ قَالَ الْقَاضِي وَفِيهِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ لاتفنى فَيُنَعَّمُ الْمُحْسِنُ وَيُعَذَّبُ الْمُسِيءُ وَقَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ قَالَتْ تَفْنَى قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ هُنَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ وَالنَّسَمَةُ تُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الْإِنْسَانِ جِسْمًا وَرُوحًا وَتُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ مفردة وهو المراد بها فى هذا التَّفْسِيرِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ بِالرُّوحِ وَلِعِلْمِنَا بِأَنَّ الْجِسْمَ يَفْنَى وَيَأْكُلُهُ التُّرَابُ وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ حتى(13/31)
يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الْقَاضِي وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ وَقَالَ هُنَا الشُّهَدَاءُ لِأَنَّ هَذِهِ صِفَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أَحْيَاءٌ عِنْدَ ربهم يرزقون وَكَمَا فَسَّرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّمَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ كَمَا جاء فى حديث بن عُمَرَ وَكَمَا قَالَ فِي آلِ فِرْعَوْنَ النَّارُ يعرضون عليها غدوا وعشيا قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ فَيَدْخُلُونَهَا الْآنَ بِدَلِيلِ عُمُومِ الْحَدِيثِ وَقِيلَ بَلْ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَفْنِيَةِ قُبُورِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ وَفِي غَيْرِ مُسْلِمٍ بِطَيْرٍ خُضْرٍ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ بِحَوَاصِلِ طَيْرٍ وَفِي الْمُوَطَّأِ إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ فِي صُورَةِ طَيْرٍ أَبْيَضَ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى هَذَا الْأَشْبَهُ صِحَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ طَيْرٌ أَوْ صُورَةُ طَيْرٍ وَهُوَ أَكْثَرُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرواية لاسيما مَعَ قَوْلِهِ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ قَالَ الْقَاضِي وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ هَذَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ آخَرُونَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنْكَرُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بَلْ رِوَايَةُ طَيْرٍ أَوْ جَوْفِ طَيْرٍ أَصَحُّ مَعْنًى وَلَيْسَ لِلْأَقْيِسَةِ وَالْعُقُولِ فِي هَذَا حُكْمٌ وَكُلُّهُ مِنَ الْمُجَوَّزَاتِ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الرُّوحَ إِذَا خَرَجَتْ من المؤمن أوالشهيد فِي قَنَادِيلَ أَوْ أَجْوَافِ طَيْرٍ أَوْ حَيْثُ يشاء كان ذلك ووقع ولم يبعد لاسيما مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَرْوَاحَ أَجْسَامٌ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْمُنَعَّمَ أَوِ الْمُعَذَّبَ مِنَ الْأَرْوَاحِ جُزْءٌ مِنَ الْجَسَدِ تَبْقَى فِيهِ الرُّوحُ وَهُوَ الَّذِي يَتَأَلَّمُ وَيُعَذَّبُ وَيَلْتَذُّ وَيُنَعَّمُ وَهُوَ الذى يقول رب ارجعون وَهُوَ الَّذِي يَسْرَحُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ فَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يُصَوَّرَ هَذَا الْجُزْءُ طَائِرًا أَوْ يُجْعَلَ فِي جَوْفِ طَائِرٍ وَفِي قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ الْقَاضِي وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الروح ما هي اختلافا لايكاد يُحْصَرُ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْمَعَانِي وَعِلْمِ الباطن المتكلمين لاتعرف حقيقته ولايصح وَصْفُهُ وَهُوَ مِمَّا جَهِلَ الْعِبَادُ عِلْمَهُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَغَلَتِ الْفَلَاسِفَةُ فَقَالَتْ بِعَدَمِ الرُّوحِ وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَطِبَّاءِ هُوَ الْبُخَارُ اللَّطِيفُ السَّارِي فِي الْبَدَنِ وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ شُيُوخِنَا هُوَ الْحَيَاةُ وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ مُشَابِكَةٌ لِلْجِسْمِ يَحْيَى لِحَيَاتِهِ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِمَوْتِ الْجِسْمِ عِنْدَ فِرَاقِهِ وَقِيلَ هُوَ بَعْضُ الْجِسْمِ وَلِهَذَا وُصِفَ بِالْخُرُوجِ وَالْقَبْضِ وَبُلُوغِ الْحُلْقُومِ وَهَذِهِ صِفَةُ الأجسام لاالمعانى وَقَالَ بَعْضُ مُقَدَّمِي أَئِمَّتِنَا هُوَ جِسْمٌ لَطِيفٌ مُتَصَوَّرٌ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ دَاخِلَ الْجِسْمِ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَغَيْرُهُمْ إِنَّهُ النَّفَسُ الدَّاخِلُ(13/32)
وَالْخَارِجُ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ الدَّمُ هَذَا مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الرُّوحَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ مُتَخَلِّلَةٌ فِي الْبَدَنِ فَإِذَا فَارَقَتْهُ مَاتَ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفُوا فِي النَّفْسِ وَالرُّوحِ فَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَهُمَا لَفْظَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وَقِيلَ إِنَّ النَّفْسَ هِيَ النَّفَسُ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ وَقِيلَ هِيَ الدَّمُ وَقِيلَ هِيَ الْحَيَاةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ تَعَلَّقَ بِحَدِيثِنَا هَذَا وَشِبْهِهِ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ الْقَائِلِينَ بِالتَّنَاسُخِ وَانْتِقَالِ الْأَرْوَاحِ وَتَنْعِيمِهَا فِي الصُّوَرِ الْحِسَانِ الْمُرَفَّهَةِ وَتَعْذِيبِهَا فِي الصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ الْمُسَخَّرَةِ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَهَذَا ضَلَالٌ بَيِّنٌ وَإِبْطَالٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ مِنَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ يَعْنِي يَوْمَ يَجِيءُ بِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا إِلَخْ) هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي إِكْرَامِهِمْ وَتَنْعِيمِهِمْ إِذْ قَدْ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مَا لايخطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ثُمَّ رَغَّبَهُمْ فِي سُؤَالِ الزِّيَادَةِ فَلَمْ يَجِدُوا مَزِيدًا عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ فسألوه حين رأوه أنه لابد مِنْ سُؤَالٍ أَنْ يُرْجِعَ أَرْوَاحَهُمْ إِلَى أَجْسَادِهِمْ ليجاهدوا ويبذلوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْتَلِذُّوا بِالْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب فَضْلِ الحهاد وَالرِّبَاطِ)
[1888] قَوْلُهُ (أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ فَقَالَ رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ) قَالَ الْقَاضِي هَذَا عَامٌّ(13/33)
مَخْصُوصٌ وَتَقْدِيرُهُ هَذَا مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ وَإِلَّا فَالْعُلَمَاءُ أَفْضَلُ وَكَذَا الصِّدِّيقُونَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ الْعُزْلَةِ عَلَى الِاخْتِلَاطِ وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الِاخْتِلَاطَ أَفْضَلُ بِشَرْطِ رَجَاءِ السَّلَامَةِ مِنَ الْفِتَنِ وَمَذْهَبُ طَوَائِفَ أَنَّ الِاعْتِزَالَ أَفْضَلَ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاعْتِزَالِ فِي زَمَنِ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ أَوْ هُوَ فِيمَنْ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ وَلَا يَصْبِرُ عَلَيْهِمْ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْخُصُوصِ وَقَدْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ مُخْتَلِطِينَ فَيُحَصِّلُونَ مَنَافِعَ الِاخْتِلَاطِ كَشُهُودِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَحِلَقِ الذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَمَّا الشِّعْبُ فَهُوَ مَا انْفَرَجَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ الشِّعْبِ خُصُوصًا بَلِ الْمُرَادُ الِانْفِرَادُ وَالِاعْتِزَالُ وَذَكَرَ الشِّعْبَ مِثَالًا لِأَنَّهُ خَالٍ عَنِ النَّاسِ غَالِبًا وَهَذَا الْحَدِيثُ نَحْوُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ حِينَ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّجَاةِ فَقَالَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ
[1889] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ(13/34)
عِنَانَ فَرَسِهِ) الْمَعَاشُ هُوَ الْعَيْشُ وَهُوَ الْحَيَاةُ وَتَقْدِيرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ خَيْرِ أَحْوَالِ عَيْشِهِمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَى مَتْنِهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ) مَعْنَاهُ يُسَارِعُ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ مَتْنُهُ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً وَهِيَ الصَّوْتُ عِنْدَ حُضُورِ العدو وهى بفتح الهاء وإسكان الياء والفزعة بِإِسْكَانِ الزَّايِ وَهِيَ النُّهُوضُ إِلَى الْعَدُوِّ وَمَعْنَى يَبْتَغِي الْقَتْلَ مَظَانَّهُ يَطْلُبُهُ فِي مَوَاطِنِهِ الَّتِي يُرْجَى فِيهَا لِشِدَّةِ رَغْبَتِهِ فِي الشَّهَادَةِ وَفِي هذا الحديث فضيلة الجهاد والرباط وَالْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ) الْغُنَيْمَةُ بِضَمِّ الْغَيْنِ تَصْغِيرُ الْغَنَمِ أَيْ قطعة منها والشعفة بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْعَيْنِ أَعْلَى الْجَبَلِ(13/35)
(بَاب بَيَانِ الرَّجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ)
[1890] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُسْتَشْهَدُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْلِمُ فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُسْتَشْهَدُ) قَالَ الْقَاضِي الضَّحِكُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ الضَّحِكُ الْمَعْرُوفُ فِي حَقِّنَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ مِنَ الْأَجْسَامِ وَمِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ تَغَيُّرُ الْحَالَاتِ وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الرِّضَا بِفِعْلِهِمَا وَالثَّوَابُ عَلَيْهِ وَحَمْدُ فِعْلِهِمَا وَمَحَبَّتُهُ وَتَلَقِّي رُسُلِ اللَّهِ لَهُمَا بِذَلِكَ لِأَنَّ الضَّحِكَ مِنْ أَحَدِنَا إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ مُوَافَقَتِهِ مَا يَرْضَاهُ وَسُرُورِهِ وَبِرِّهِ لِمَنْ يَلْقَاهُ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا ضَحِكُ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يُوَجِّهُهُمْ لِقَبْضِ رُوحِهِ وَإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ كَمَا يُقَالُ قَتَلَ السُّلْطَانُ فُلَانًا أَيْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ(13/36)
(باب من قتل كافرا ثم سدد)
[1891] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا) وَفِي رِوَايَةٍ لايجتمعان فِي النَّارِ اجْتِمَاعًا يَضُرُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ قِيلَ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مُؤْمِنٌ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ قَالَ الْقَاضِي فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ قَتَلَ كَافِرًا فِي الْجِهَادِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُكَفِّرًا لِذُنُوبِهِ حَتَّى لَا يُعَاقَبَ عَلَيْهَا أَوْ يَكُونُ بِنِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ أَوْ حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِقَابُهُ إِنْ عُوقِبَ بِغَيْرِ النَّارِ كَالْحَبْسِ فِي الْأَعْرَافِ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوَّلًا وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَوْ يَكُونَ إِنْ عُوقِبَ بِهَا فى غير موضع عقاب الكفار ولايجتمعان فِي إِدْرَاكِهَا قَالَ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ (اجْتِمَاعًا يَضُرُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ) فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اجْتِمَاعٌ مَخْصُوصٌ قَالَ وَهُوَ مُشْكِلُ الْمَعْنَى وأوجه مافيه أن يكون معناه ماأشرنا إليه أنهما لايجتمعان فِي وَقْتٍ إِنِ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ فَيُعَيِّرُهُ بِدُخُولِهِ مَعَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَنْفَعْهُ إِيمَانُهُ وَقَتْلُهُ إِيَّاهُ وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ لَكِنْ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُؤْمِنٌ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَدَّدَ وَمَعْنَاهُ اسْتَقَامَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى وَلَمْ يَخْلِطْ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ أَصْلًا سَوَاءٌ قَتَلَ كَافِرًا أَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ قَالَ الْقَاضِي وَوَجْهُهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ثُمَّ سَدَّدَ عَائِدًا عَلَى الْكَافِرِ الْقَاتِلِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ تَغَيَّرَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَأَنَّ صَوَابَهُ مُؤْمِنٌ قَتَلَهُ كَافِرٌ ثُمَّ سَدَّدَ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ لايجتمعان فِي النَّارِ اجْتِمَاعًا يَضُرُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَيْ لايدخلانها لِلْعِقَابِ وَيَكُونُ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنِ اجْتِمَاعِ الْوُرُودِ وَتَخَاصُمِهِمْ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ هَذَا آخِرُ كَلَامِ القاضي(13/37)
(باب فضل الصدقة فى سبيل الله تعالى وتضعيفها)
[1892] قَوْلُهُ (جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ) مَعْنَى مَخْطُومَةٌ أَيْ فِيهَا خِطَامٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الزِّمَامِ وَسَبَقَ شَرْحُهُ مَرَّاتٍ قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ لَهُ أَجْرُ سَبْعِمِائَةِ نَاقَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكُونَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ بِهَا سَبْعُمِائَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَخْطُومَةٌ يَرْكَبُهُنَّ حَيْثُ شَاءَ لِلتَّنَزُّهِ كَمَا جَاءَ فِي خَيْلِ الْجَنَّةِ وَنَجْبِهَا وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب فَضْلِ إِعَانَةِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَرْكُوبٍ وَغَيْرِهِ وَخِلَافَتِهِ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ)
[1893] قَوْلُهُ (أُبْدِعَ بِي) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بُدِّعَ بى بحذف الهمزة وبتشديد الدَّالِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ قَالَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ وَمَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَآخَرُونَ(13/38)
بِالْأَلِفِ وَمَعْنَاهُ هَلَكَتْ دَابَّتِي وَهِيَ مَرْكُوبِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ) فِيهِ فَضِيلَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ وَالْمُسَاعَدَةِ لِفَاعِلِهِ وفيه فضيلة تعليم العلم ووظائف العبادات لاسيما لِمَنْ يَعْمَلُ بِهَا مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ وَغَيْرِهِمْ وَالْمُرَادُ بِمِثْلِ أَجْرِ فَاعِلِهِ أَنَّ لَهُ ثَوَابًا بِذَلِكَ الفعل كما أن لفاعله ثوابا ولايلزم أَنْ يَكُونَ قَدْرُ ثَوَابِهِمَا سَوَاءً
[1894] قَوْلُهُ (إِنَّ فتى من أسلم قال يارسول اللَّهِ إِنِّي أُرِيدَ الْغَزْوَ وَلَيْسَ مَعِي مَا أَتَجَهَّزُ بِهِ قَالَ ائْتِ فُلَانًا فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ تَجَهَّزَ فَمَرِضَ إِلَى آخِرِهِ) فِيهِ فَضِيلَةُ الدلالة على الخير وفيه أن مانوى الْإِنْسَانُ صَرْفَهُ فِي جِهَةِ بِرٍّ فَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجِهَةُ يُسْتَحَبُّ لَهُ بَذْلُهُ فِي جِهَةٍ أُخْرَى مِنَ الْبِرِّ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالنَّذْرِ قَوْلُهُ صَلَّى(13/39)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1895] (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا) أَيْ حَصَلَ لَهُ أَجْرٌ بِسَبَبِ الْغَزْوِ وَهَذَا الْأَجْرُ يَحْصُلُ بِكُلِّ جِهَادٍ وَسَوَاءٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَلِكُلِّ خَالِفٍ لَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةٍ لَهُمْ وَإِنْفَاقٍ عَلَيْهِمْ أَوْ مُسَاعَدَتِهِمْ فِي أَمْرِهِمْ وَيَخْتَلِفُ قَدْرُ الثَّوَابِ بِقِلَّةِ ذَلِكَ وَكَثْرَتِهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ فَعَلَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ قَامَ بِأَمْرٍ مِنْ مُهِمَّاتِهِمْ قَوْلُهُ
[1896] (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي لِحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا) أَمَّا بَنُو لِحْيَانَ فَبِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ بَنِي لِحْيَانَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُفَّارًا فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بَعْثًا يَغْزُونَهُمْ وَقَالَ لِذَلِكَ الْبَعْثِ لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ نِصْفُ عَدَدِهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَأَمَّا كَوْنُ الْأَجْرِ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا خَلَفَ الْمُقِيمُ الْغَازِيَ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ كَمَا شَرَحْنَاهُ قَرِيبًا وَكَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَاقِي الْأَحَادِيثِ قوله (فى(13/40)
إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ) هُوَ بِالرَّاءِ وَاسْمُهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْنَصْرِيُّ بِالنُّونِ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى شَدَّادِ بْنِ الْهَادِي وَيُقَالُ مَوْلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ وَيُقَالُ مَوْلَى دَوْسٍ وَيُقَالُ لَهُ سَالِمُ سَبَلَاتٍ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ وَهُوَ سَالِمُ الْبُرْدِ بِالرَّاءِ وَآخِرُهُ دَالٌ وَهُوَ سَالِمٌ مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ بِالنُّونِ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى شَدَّادٍ وَهُوَ سَالِمٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ وَهُوَ سَالِمٌ مَوْلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ وَهُوَ سَالِمٌ مَوْلَى الْمَهْرَبَيْنِ وَهُوَ سَالَمٌ مَوْلَى دَوْسٍ وَهُوَ سَالِمٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّوْسِيُّ وَلِسَالِمٍ هَذَا نَظَائِرُ فِي هَذَا وهو أن يكون للانسان أسماء أوصفات وَتَعْرِيفَاتٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ بِوَاحِدٍ مِنْهَا وَصَنَّفَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ فِي هذا كتابا حسنا وصنف فيه غيره
(باب حرمة نساء المجاهدين وإثم من خانهم فيهن)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1897] (حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ) هَذَا فِي شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا تَحْرِيمُ التَّعَرُّضِ لَهُنَّ بِرِيبَةٍ مِنْ نَظَرٍ مُحَرَّمٍ وَخَلْوَةٍ وَحَدِيثٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالثَّانِي فِي بِرِّهِنَّ(13/41)
وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِنَّ الَّتِي لَا يَتَرَتَّبُ عليها مفسدة ولايتوصل بِهَا إِلَى رِيبَةٍ وَنَحْوِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَخُونُ الْمُجَاهِدَ فِي أَهْلِهِ (إِنَّ الْمُجَاهِدَ يَأْخُذُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شَاءَ فَمَا ظَنُّكُمْ) مَعْنَاهُ مَا تَظُنُّونَ فِي رَغْبَتِهِ فِي أَخْذِ حَسَنَاتِهِ وَالِاسْتِكْثَارِ منها فى ذلك المقام أى لايبقى مِنْهَا شَيْئًا إِنْ أَمْكَنَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب سُقُوطِ فَرْضِ الْجِهَادِ عَنْ الْمَعْذُورِينَ)
[1898] قَوْلُهُ (فَجَاءَ بِكَتِفٍ يَكْتُبُهَا) فِيهِ جَوَازُ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَلْوَاحِ وَالْأَكْتَافِ وَفِيهِ طَهَارَةُ عَظْمِ الْمُذَكَّى وَجَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من المؤمنين غير أولى الضرر الْآيَةَ فِيهِ دَلِيلٌ لِسُقُوطِ الْجِهَادِ عَنِ الْمَعْذُورِينَ ولكن لايكون ثَوَابُهُمْ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ بَلْ لَهُمْ ثَوَابُ نِيَّاتِهِمْ إِنْ كَانَ لَهُمْ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَفِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ(13/42)
كِفَايَةٍ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ عَيْنٍ وَبَعْدَهُ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَرْضَ كِفَايَةٍ مِنْ حِينِ شُرِعَ وَهَذِهِ الْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عظيما وقوله تعالى غير أولى الضرر قُرِئَ غَيْرَ بِنَصْبِ الرَّاءِ وَرَفْعِهَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فى السبع قرأ نافع وبن عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِنَصْبِهَا وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا وَقُرِئَ فِي الشَّاذِّ بِجَرِّهَا فَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَمَنْ رَفَعَ فَوَصْفٌ لِلْقَاعِدِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ وَمَنْ جَرَّ فَوَصْفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ قَوْلُهُ (فشكا إليه بن أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ) أَيْ عَمَاهُ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا ضَرَارَتَهُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَحَكَى صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ أنه ضبط ضررا به والصواب الأول
(باب ثبوت الجنة للشهيد)
[1899] (قال رجل أين أنا يارسول اللَّهِ إِنْ قُتِلْتُ قَالَ فِي الْجَنَّةِ فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فِيهِ ثُبُوتُ(13/43)
الجنة للشهيد وفيه المبادرة بالخير وأنه لايشتغل عَنْهُ بِحُظُوظِ النُّفُوسِ
[1900] قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِيُّ) بِالْجِيمِ وَالنُّونِ وَأَمَّا الْمِصِّيصِيُّ فَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَالصَّادِ الْمُشَدَّدَةِ وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ الْأَوَّلُ أَشْهَرُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمِصِّيصَةِ الْمَدِينَةِ الْمَعْرُوفَةِ قَوْلُهُ (جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّبِيتِ هُوَ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ وَهُمْ قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ
[1901] قَوْلُهُ (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُسَيْسَةَ عَيْنًا) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بُسَيْسَةَ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَبِسِينَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتُ سَاكِنَةٌ قَالَ الْقَاضِي هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ قَالَ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ قَالَ وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ بَسْبَسُ بِبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا سِينٌ سَاكِنَةٌ وَهُوَ بسبس بن عمرو ويقال بن بِشْرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْخَزْرَجِ وَيُقَالُ حَلِيفٌ لَهُمْ قُلْتُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ اسْمًا لَهُ وَالْآخَرُ لَقَبًا وَقَوْلُهُ (عَيْنًا) أَيْ مُتَجَسِّسًا وَرَقِيبًا قَوْلُهُ (مَا صَنَعَتْ عَيرُ أَبِي سُفْيَانَ) هِيَ الدَّوَابُّ الَّتِي تَحْمِلُ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ قَالَ فِي الْمَشَارِقِ الْعَيرُ هِيَ الْإِبِلُ وَالدَّوَابُّ تَحْمِلُ(13/44)
الطعام وغيره من التجارات قال ولاتسمى عيرا إلااذا كَانَتْ كَذَلِكَ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ الْعَيْرُ الْإِبِلُ تَحْمِلُ الْمِيرَةَ وَجَمْعُهَا عِيَرَاتٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْيَاءِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ) هِيَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ شيئا نطلبه والظهر الدَّوَابُّ الَّتِي تُرْكَبُ قَوْلُهُ (فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهْرَانِهِمْ) هُوَ بِضَمِّ الظَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ أَيْ مَرْكُوبَاتِهِمْ فِي هَذَا اسْتِحْبَابُ التَّوْرِيَةِ فِي الحرب وأن لايبين الْإِمَامُ جِهَةَ إِغَارَتِهِ وَإِغَارَةِ سَرَايَاهُ لِئَلَّا يَشِيعَ ذَلِكَ فَيَحْذَرَهُمُ الْعَدُوُّ قَوْلُهُ (فِي عُلُوِّ الْمَدِينَةِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (لايتقدمن أحد منكم إلى شئ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ) أَيْ قُدَّامَهُ مُتَقَدِّمًا فى ذلك الشئ لئلا يفوت شئ من المصالح التى لاتعلمونها قَوْلُهُ (عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ قَوْلُهُ (بَخٍ بَخٍ) فِيهِ لُغَتَانِ إِسْكَانُ الْخَاءِ وَكَسْرُهَا مُنَوَّنًا وَهِيَ كَلِمَةٌ تُطْلَقُ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَتَعْظِيمِهِ فِي الْخَيْرِ قَوْلُهُ (لَا والله يارسول الله الارجاءة أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ رَجَاءَةَ بِالْمَدِّ وَنَصْبِ التَّاءِ وفى بعضها رجاء بلاتنوين وَفِي بَعْضِهَا بِالتَّنْوِينِ(13/45)
مَمْدُودَانِ بِحَذْفِ التَّاءِ وَكُلُّهُ صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ وَمَعْنَاهُ وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُهُ لِشَيْءٍ إِلَّا لِرَجَاءِ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَوْلُهُ (فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ) هُوَ بِقَافٍ وَرَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ نُونٍ أَيْ جُعْبَةِ النُّشَّابِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَغَارِبَةِ فِيهِ تَصْحِيفٌ قَوْلُهُ (لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التمرثم قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ) فِيهِ جَوَازُ الِانْغِمَارِ فِي الْكُفَّارِ وَالتَّعَرُّضِ لِلشَّهَادَةِ وَهُوَ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ
[1902] قَوْلُهُ (وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ وَيُقَالُ أَيْضًا بِحَضَرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالضَّادِ بِحَذْفِ الْهَاءِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ إِنَّ الْجِهَادَ وَحُضُورَ مَعْرَكَةِ الْقِتَالِ طَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَسَبَبٌ لِدُخُولِهَا قَوْلُهُ (كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ) هُوَ بِفَتْحِ(13/46)
الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَبِالنُّونِ وَهُوَ غِمْدُهُ
[677] قَوْلُهُ (وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ) مَعْنَاهُ يَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ مُسَبَّلًا لِمَنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَهُ لِطَهَارَةٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَفِيهِ جَوَازُ وَضْعِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ كَانُوا يَضَعُونَ أَيْضًا أَعْذَاقَ التَّمْرِ لِمَنْ أَرَادَهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاخلاف فِي جَوَازِ هَذَا وَفَضْلِهِ قَوْلُهُ (وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ) أَصْحَابُ الصُّفَّةِ هُمُ الْفُقَرَاءُ الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَأْوُونَ إِلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ لَهُمْ فِي آخِرِهِ صُفَّةٌ وَهُوَ مَكَانٌ مُنْقَطِعٌ مِنَ الْمَسْجِدِ مُظَلَّلٌ عَلَيْهِ يَبِيتُونَ فِيهِ قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَالْقَاضِي وَأَصْلُهُ مِنْ صُفَّةِ الْبَيْتِ وهى شئ كَالظُّلَّةِ قُدَّامَهُ فِيهِ فَضِيلَةُ الصَّدَقَةِ وَفَضِيلَةُ الِاكْتِسَابِ مِنَ الْحَلَالِ لَهَا وَفِيهِ جَوَازُ الصُّفَّةِ فِي الْمَسْجِدِ وَجَوَازُ الْمَبِيتِ فِيهِ بِلَا كَرَاهَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ (اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا) فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلشُّهَدَاءِ وَثُبُوتُ الرِّضَا مِنْهُمْ وَلَهُمْ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى رَضِيَ الله عنهم ورضوا عنه(13/47)
قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِطَاعَتِهِمْ وَرَضُوا عَنْهُ بِمَا أَكْرَمَهُمْ بِهِ وَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالرِّضَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِفَاضَةُ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى إِرَادَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ
[1903] قَوْلُهُ (لِيَرَانِي اللَّهُ مَا أَصْنَعُ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ لِيَرَانِي بِالْأَلِفِ وَهُوَ صَحِيحٌ ويكون ما أصنع بدلامن الضَّمِيرِ فِي أَرَانِي أَيْ لِيَرَى اللَّهُ مَا أَصْنَعُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ بِيَاءٍ بَعْدَ الرَّاءِ ثُمَّ نُونٍ مُشَدَّدَةٍ وَهَكَذَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَعَلَى هَذَا ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَيَرَيَنَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ أَيْ يَرَاهُ اللَّهُ وَاقِعًا بَارِزًا وَالثَّانِي لَيُرِيَنَّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ لَيُرِيَنَّ اللَّهُ النَّاسَ ما أصنعه وَيُبْرِزُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ قَوْلُهُ (فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا) مَعْنَاهُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمُبْهَمَةِ أَيْ قَوْلُهُ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ مَخَافَةَ أَنْ يُعَاهِدَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِهَا فَيَعْجَزَ عَنْهُ أَوْ تَضْعُفَ بِنْيَتُهُ عَنْهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَلِيَكُونَ إِبْرَاءً لَهُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ قَوْلُهُ (وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ وَاهًا كَلِمَةُ تَحَنُّنٍ وَتَلَهُّفٍ قَوْلُهُ (أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ) مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَدَهُ رِيحَهَا مِنْ مَوْضِعِ الْمَعْرَكَةِ وَقَدْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ من مسيرة خمسمائة عام(13/48)
(بَاب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العليا فهو فِي سَبِيلِ اللَّهُ)
[1904] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْأَعْمَالَ إِنَّمَا تُحْسَبُ بِالنِّيَّاتِ الصَّالِحَةِ وَأَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَخْتَصُّ بِمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العليا قَوْلُهُ (الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ) أَيْ لِيَذْكُرَهُ النَّاسُ بِالشَّجَاعَةِ وَهُوَ بِكَسْرِ الذَّالِ قَوْلُهُ (وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً) هِيَ الْأَنَفَةُ وَالْغَيْرَةُ وَالْمُحَامَاةُ عَنْ عَشِيرَتِهِ(13/49)
قَوْلُهُ (فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ وَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ إليه الا أنه كان قائما) فيه أنه لابأس أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفْتِي وَاقِفًا إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ مِنْ ضِيقِ مَكَانٍ أَوْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ طَالِبُ الْحَاجَةِ وَفِيهِ إِقْبَالُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَنْ يُخَاطِبُهُ
(بَاب مَنْ قَاتَلَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ اسْتَحَقَّ النَّارَ)
[1905] قَوْلُهُ (تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ أَيُّهَا الشَّيْخُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ لَهُ نَاتِلٌ الشَّامِّيُّ هُوَ بِالنُّونِ فِي أَوَّلِهِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ فَوْقُ وَهُوَ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ الْحِزَامِيُّ الشَّامِيُّ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ وَهُوَ تَابِعِيٌّ وَكَانَ أَبُوهُ صَحَابِيًّا وَكَانَ نَاتِلٌ كَبِيرَ قَوْمِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَازِي وَالْعَالِمِ وَالْجَوَّادِ وَعِقَابِهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِدْخَالِهِمُ النَّارَ دَلِيلٌ عَلَى(13/50)
تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الرِّيَاءِ وَشِدَّةِ عُقُوبَتِهِ وَعَلَى الْحَثِّ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مخلصين له الدين وفيه أن العمومات الْوَارِدَةَ فِي فَضْلِ الْجِهَادِ إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ مُخْلِصًا وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَعَلَى الْمُنْفِقِينَ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى مُخْلِصًا قَوْلُهُ (تَفَرَّجَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَيْ تَفَرَّقُوا بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ
(بَاب بَيَانِ قَدْرِ ثَوَابِ مَنْ غَزَا فَغَنِمَ وَمَنْ لَمْ يَغْنَمْ)
[1906] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ(13/51)
أَجْرِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سَرِيَّةٍ تُخْفِقُ وَتُصَابُ إِلَّا تَمَّ أُجُورُهُمْ قَالَ أَهْلُ اللغة الاخفاق أن يغزو فَلَا يَغْنَمُوا شَيْئًا وَكَذَلِكَ كُلُّ طَالِبِ حَاجَةٍ إِذَا لَمْ تَحْصُلْ فَقَدْ أَخْفَقَ وَمِنْهُ أَخْفَقَ الصَّائِدُ إِذَا لَمْ يَقَعْ لَهُ صَيْدٌ وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَالصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَنَّ الْغُزَاةَ إِذَا سَلِمُوا أَوْ غَنِمُوا يَكُونُ أَجْرُهُمْ أَقَلَّ مِنْ أَجْرِ مَنْ لَمْ يَسْلَمْ أَوْ سَلِمَ وَلَمْ يَغْنَمْ وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ هِيَ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنْ أَجْرِ غَزْوِهِمْ فَإِذَا حَصَلَتْ لَهُمْ فَقَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمُ الْمُتَرَتَّبَ عَلَى الْغَزْوِ وَتَكُونُ هَذِهِ الْغَنِيمَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْرِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِهِ مِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا أَيْ يَجْتَنِيهَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَأْتِ حَدِيثٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ يُخَالِفُ هَذَا فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدِ اخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ مَعْنَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَعْدَ حِكَايَتِهِ فِي تَفْسِيرِهِ أَقْوَالًا فَاسِدَةً مِنْهَا قَوْلُ مَنْ زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح ولايجوز أَنْ يَنْقُصَ ثَوَابُهُمْ بِالْغَنِيمَةِ كَمَا لَمْ يَنْقُصْ ثَوَابُ أَهْلِ بَدْرٍ وَهُمْ أَفْضَلُ الْمُجَاهِدِينَ وَهِيَ أَفْضَلُ غَنِيمَةٍ قَالَ وَزَعَمَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ أَنَّ أَبَا هَانِئٍ حُمَيْدَ بْنَ هَانِئٍ رَاوِيَةٌ مَجْهُولٌ وَرَجَّحُوا الْحَدِيثَ السَّابِقَ فِي أَنَّ الْمُجَاهِدَ يَرْجِعُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ فَرَجَّحُوهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ لِشُهْرَتِهِ وَشُهْرَةِ رِجَالِهِ وَلِأَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا فِي مُسْلِمٍ خَاصَّةً وَهَذَا الْقَوْلٌ بَاطِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ فَإِنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ رُجُوعُهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الْغَنِيمَةَ تَنْقُصُ الْأَجْرَ أَمْ لَا وَلَا قَالَ أَجْرُهُ كَأَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ فَهُوَ مُطْلَقٌ وَهَذَا مُقَيَّدٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَبُو هَانِئٍ مَجْهُولٌ فَغَلَطٌ فَاحِشٌ بَلْ هُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ رَوَى عنه الليث بن سعد وحيوة وبن وَهْبٍ وَخَلَائِقُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَيَكْفِي فِي تَوْثِيقِهِ احْتِجَاجُ مُسْلِمٍ بِهِ فِي صَحِيحِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أنه(13/52)
لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَلَيْسَ لَازِمًا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ كَوْنُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي أَحَدِهِمَا وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي غَنِيمَةِ بَدْرٍ فَلَيْسَ فِي غَنِيمَةِ بَدْرٍ نَصٌّ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَغْنَمُوا لَكَانَ أَجْرُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَجْرِهِمْ وَقَدْ غَنِمُوا فَقَطْ وَكَوْنُهُمْ مَغْفُورًا لَهُمْ مَرَضِيًّا عَنْهُمْ وَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَلْزَمُ أَلَّا تَكُونَ وَرَاءَ هَذَا مَرْتَبَةٌ أُخْرَى هِيَ أَفْضَلُ مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ شَدِيدُ الْفَضْلِ عَظِيمُ الْقَدْرِ وَمِنَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ لَعَلَّ الَّذِي تَعَجَّلَ ثُلُثَيْ أَجْرِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي غَنِيمَةٍ أُخِذَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ إِذْ لَوْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ وَجْهِهَا لَمْ يَكُنْ ثُلُثُ الْأَجْرِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الَّتِي أَخْفَقَتْ يَكُونُ لَهَا أَجْرٌ بِالْأَسَفِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ فَيُضَاعَفُ ثَوَابُهَا كَمَا يُضَاعَفُ لِمَنْ أُصِيبَ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ مُبَايِنٌ لِصَرِيحِ الْحَدِيثِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ الْغَزْوِ وَالْغَنِيمَةِ مَعًا فَنَقَصَ ثَوَابُهُ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَابُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ)
[1907] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) الْحَدِيثَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ وَصِحَّتِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ هُوَ ثُلُثُ الْإِسْلَامِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَدْخُلُ فِي سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْفِقْهِ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ رُبْعُ الْإِسْلَامِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ يَنْبَغِي لِمَنْ صَنَّفَ كِتَابًا أَنْ يَبْدَأَ فِيهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَنْبِيهًا لِلطَّالِبِ عَلَى تَصْحِيحِ النِّيَّةِ وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا(13/53)
عَنِ الْأَئِمَّةِ مُطْلَقًا وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وغيره فابتدؤا به قبل كل شئ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ قَالَ الْحُفَّاظُ وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَا عَنْ عُمَرَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ وَلَا عَنْ عَلْقَمَةَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَلَا عَنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَعَنْ يَحْيَى انْتَشَرَ فَرَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْ إِنْسَانٍ أَكْثَرُهُمْ أَئِمَّةٌ وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ لَيْسَ هُوَ مُتَوَاتِرًا وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ لِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ التَّوَاتُرِ فِي أَوَّلِهِ وَفِيهِ طُرْفَةٌ مِنْ طُرَفِ الْإِسْنَادِ فَإِنَّهُ رَوَاهُ ثَلَاثَةٌ تَابِعِيُّونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ يَحْيَى وَمُحَمَّدٌ وَعَلْقَمَةُ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرُهُمْ لَفْظَةُ إِنَّمَا مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ وَتَنْفِي مَا سِوَاهُ فَتَقْدِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ الأعمال تحسب بنية ولاتحسب إِذَا كَانَتْ بِلَا نِيَّةٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أن الطهارة وهى الوضوء والغسل والتيمم لاتصح الا بالنية وكذلك الصلوة والزكوة وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالِاعْتِكَافُ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ وَأَمَّا إِزَالَةُ النجاسة فالمشهور عندنا أنها لاتفتقر إِلَى نِيَّةٍ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ التُّرُوكِ والتَّرْكُ لايحتاج إِلَى نِيَّةٍ وَقَدْ نَقَلُوا الْإِجْمِاعَ فِيهَا وَشَذَّ بعض أصحابنا فأوجبها وهو باطل وَتَدْخُلُ النِّيَّةُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْقَذْفِ وَمَعْنَى دُخُولِهَا أَنَّهَا إِذَا قَارَنَتْ كِنَايَةً صَارَتْ كَالصَّرِيحِ وان أتى بصريح طلاق ونوى طلقتين أوثلاثا وَقَعَ مَا نَوَى وَإِنْ نَوَى بِصَرِيحٍ غَيْرِ مُقْتَضَاهُ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ولايقبل مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (وانما لامرىء مَا نَوَى) قَالُوا فَائِدَةُ ذِكْرِهِ بَعْدَ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ بَيَانُ أَنَّ تَعْيِينَ الْمَنَوِيِّ شَرْطٌ فلو كان على انسان صلوة مقضية لايكفيه أن ينوى الصلوة الْفَائِتَةَ بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ كَوْنَهَا ظُهْرًا أَوْ غَيْرَهَا وَلَوْلَا اللَّفْظُ الثَّانِي لَاقْتَضَى الْأَوَّلُ صِحَّةَ النِّيَّةِ بِلَا تَعْيِينٍ أَوْ أَوْهَمَ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَمَنْ كَانَ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ ورسوله(13/54)
مَعْنَاهُ مَنْ قَصَدَ بِهِجْرَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ قَصَدَ بِهَا دُنْيَا أَوِ امْرَأَةً فَهِيَ حَظُّهُ وَلَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْهِجْرَةِ وَأَصْلُ الْهِجْرَةِ) 55 التَّرْكُ وَالْمُرَادُ هُنَا تَرْكُ الْوَطَنِ وَذِكْرُ الْمَرْأَةِ مَعَ الدُّنْيَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَاءَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَقِيلَ لَهُ مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى زِيَادَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ تَنْبِيهًا عَلَى مَزِيَّتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب اسْتِحْبَابِ طَلَبِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهُ تَعَالَى)
[1908] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ)
[1909] وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى مُفَسَّرٌ مِنَ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَمَعْنَاهُمَا جَمِيعًا أَنَّهُ إِذَا سَأَلَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ أُعْطِيَ مِنْ ثَوَابِ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى فِرَاشِهِ وَفِيهِ استحباب سؤال الشهادة واستحباب نية الخير(13/55)
(باب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو)
[1910] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ مَاتَ ولم يغزو ولم يحدث نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَنُرَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَوْلُهُ نَرَى بِضَمِّ النُّونِ أَيْ نظن وهذا الذى قاله بن الْمُبَارَكِ مُحْتَمَلٌ وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ إِنَّهُ عَامٌّ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَشْبَهَ المنافقين المتخلفين عن الجهاد فى هذاالوصف فَإِنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ أَحَدُ شُعَبِ النِّفَاقِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ نَوَى فِعْلَ عِبَادَةٍ فمات قبل فعلها لايتوجه عَلَيْهِ مِنَ الذَّمِّ مَا يُتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَنْوِهَا وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَأَخَّرَهَا بِنِيَّةِ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي أَثْنَائِهِ فَمَاتَ قَبْلَ فِعْلِهَا أَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ بَعْدَ التَّمَكُّنِ إِلَى سَنَةٍ أُخْرَى فَمَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ هَلْ يَأْثَمُ أَمْ لَا وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَأْثَمُ فِي الحج دون الصلوة لان مدة الصلوة قَرِيبَةٌ فَلَا تُنْسَبُ إِلَى تَفْرِيطٍ بِالتَّأْخِيرِ بِخِلَافِ الحج وقيل يأثم فيهما وقيل لايأثم فِيهِمَا وَقِيلَ يَأْثَمُ فِي الْحَجِّ الشَّيْخُ دُونَ الشَّابِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(13/56)
(بَاب ثَوَابِ مَنْ حَبَسَهُ عَنْ الْغَزْوِ مَرَضٌ أَوْ عُذْرٌ آخَرُ)
[1911] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا ولا قطعتم واديا الاكانوا معكم حبسهم المرض) وفى رواية الاشركوكم فِي الْأَجْرِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ شَرِكَهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ بِمَعْنَى شَارَكَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ النِّيَّةِ فِي الْخَيْرِ وَأَنَّ مَنْ نَوَى الْغَزْوَ وَغَيْرَهَ مِنَ الطَّاعَاتِ فَعَرَضَ لَهُ عُذْرٌ مَنَعَهُ حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ نِيَّتِهِ وَأَنَّهُ كُلَّمَا أَكْثَرَ مِنَ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ ذَلِكَ وَتَمَنَّى كَوْنَهُ مَعَ الْغُزَاةِ وَنَحْوِهُمْ كَثُرَ ثَوَابُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب فَضْلِ الْغَزْوِ فِي الْبَحْرِ)
[1912] قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَتَفْلِي رَأْسَهَ وَيَنَامُ عِنْدَهَا) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَحْرَمًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واختلفوا فى كيفية ذلك فقال بن عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ كَانَتْ إِحْدَى خَالَاتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَتْ خَالَةً لِأَبِيهِ(13/57)
أَوْ لِجَدِّهِ لِأَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ كَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَوْلُهُ (تَفْلِي) بِفَتْحِ التَّاءِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ فِيهِ جَوَازُ فَلْيِ الرَّأْسِ وَقَتْلِ الْقَمْلِ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا قَتْلُ الْقَمْلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْذِيَاتِ مُسْتَحَبٌّ وَفِيهِ جَوَازُ مُلَامَسَةِ الْمَحْرَمِ فِي الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَجَوَازُ الْخَلْوَةِ بِالْمَحْرَمِ وَالنَّوْمِ عِنْدَهَا وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ الضَّيْفِ عِنْدَ الْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ مِمَّا قَدَّمَتْهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَكْلَهُ مِنْ طَعَامِهِ قَوْلُهَا (فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ) هَذَا الضَّحِكُ فَرَحًا وَسُرُورًا بِكَوْنِ أُمَّتِهِ تَبْقَى بَعْدَهُ مُتَظَاهِرَةً بِأُمُورِ الْإِسْلَامِ قَائِمَةً بِالْجِهَادِ حَتَّى فِي الْبَحْرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ) الثَّبَجُ بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ جِيمٍ وَهُوَ ظَهْرُهُ وَوَسَطُهُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ) قِيلَ هُوَ صِفَةٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ صِفَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَيْ يَرْكَبُونَ مَرَاكِبَ الْمُلُوكِ لِسَعَةِ حَالِهِمْ وَاسْتِقَامَةِ أَمْرِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ قَوْلُهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ (ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِيَ مِنْهُمْ وَكَانَ دَعَا لَهَا فِي الْأُولَى قَالَ أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَاهُ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى وَأَنَّهُ عَرَضَ فِيهَا غَيْرَ الْأَوَّلِينَ وَفِيهِ مُعْجِزَاتٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا إِخْبَارُهُ بِبَقَاءِ أُمَّتِهِ بَعْدَهُ وَأَنَّهُ تَكُونُ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَقُوَّةٌ وَعَدَدٌ وَأَنَّهُمْ يَغْزُونَ وَأَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ وَأَنَّ أُمَّ حَرَامٍ تَعِيشُ إِلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ وَأَنَّهَا تَكُونُ مَعَهُمْ وَقَدْ وُجِدَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ ذَلِكَ وَفِيهِ فَضِيلَةٌ(13/58)
لِتِلْكَ الْجُيُوشِ وَأَنَّهُمْ غُزَاةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَتَى جَرَتِ الْغَزْوَةُ الَّتِي تُوُفِّيَتْ فِيهَا أُمُّ حَرَامٍ فِي الْبَحْرِ وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي مُسْلِمٍ أَنَّهَا رَكِبَتِ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا فَهَلَكَتْ قَالَ الْقَاضِي قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْأَخْبَارِ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّ فِيهَا ركبت أم حرام وزوجها إلى قبرص فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا هُنَاكَ فَتُوُفِّيَتْ وَدُفِنَتْ هُنَاكَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ مَعْنَاهُ فِي زَمَانِ غَزْوِهِ فِي الْبَحْرِ لَا فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ قَالَ وَقِيلَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَتِهِ قَالَ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي دَلَالَةِ قَوْلِهِ فِي زَمَانِهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَكَرِهَ مَالِكٌ رُكُوبَهَ لِلنِّسَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُنَّ غَالِبًا التَّسَتُّرُ فِيهِ وَلَا غَضُّ الْبَصَرِ عن المتصرفين فيه ولايؤمن انْكِشَافُ عَوْرَاتِهِنَّ فِي تَصَرُّفِهِنَّ لَا سِيَّمَا فِيمَا صَغُرَ مِنَ السُّفْيَانِ مَعَ ضَرُورَتِهِنَّ إِلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَنْعُ رُكُوبِهِ وَقِيلَ إِنَّمَا مَنَعَهُ الْعُمَرَانِ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الدنيا لا للطاعات وقد روى عن بن عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ إِلَّا لِحَاجٍّ أَوْ مُعْتَمِرٍ أَوْ غَازٍ وَضَعَّفَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ رُوَاتُهُ مَجْهُولُونَ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ(13/59)
فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَوْتَ فِيهِ سَوَاءٌ فِي الْأَجْرِ لِأَنَّ أُمَّ حَرَامٍ مَاتَتْ وَلَمْ تُقْتَلْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ شُهَدَاءُ إِنَّمَا يَغْزُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ حَدِيثَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى (وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْعَمَتْهُ) وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَتَزَوَّجَهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ بَعْدُ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِعُبَادَةَ حَالَ دُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتُحْمَلُ الْأُولَى عَلَى مُوَافَقَةِ الثَّانِيَةِ وَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَمَّا صار حالا لها بعد ذلك قوله (وحدثناه مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هَكَذَا(13/60)
هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ نُسَخِهِمْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ فَزَادَ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ رُمْحٍ
(بَاب فَضْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)
[1913] قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامٍ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا قَوْلُهُ (شُرَحْبِيلُ بْنِ السَّمِطِ) يُقَالُ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَيُقَالُ بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ) هَذِهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُرَابِطِ وَجَرَيَانُ عَمَلِهِ عليه بَعْدَ مَوْتِهِ فَضِيلَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وَالْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَمِنَ الْفُتَّانَ) ضَبَطُوا أَمِنَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَمِنَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ والثانى أو من بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِوَاوٍ وَأَمَّا الْفُتَّانُ فَقَالَ الْقَاضِي رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ بِضَمِّ الْفَاءِ جَمْعُ فَاتِنٍ قَالَ وَرِوَايَةُ الطَّبَرِيِّ بِالْفَتْحِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ أُومِنَ مِنْ فَتَّانِي الْقَبْرِ(13/61)
(بَاب بَيَانِ الشُّهَدَاءِ)
[1914] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ) فِيهِ فَضِيلَةُ إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَهُوَ كُلُّ مُؤْذٍ وَهَذِهِ الْإِمَاطَةُ أَدْنَى شُعَبِ الْإِيمَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ الله) وفى رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَذَكَرَ الْمَطْعُونَ وَالْمَبْطُونَ وَالْغَرِقَ وَصَاحِبَ الْهَدْمِ وَصَاحِبَ ذَاتِ الْجَنْبِ وَالْحَرِقَ وَالْمَرْأَةَ تَمُوتُ بِجُمْعٍ
[1915] وَفِي رِوَايَةِ لِمُسْلِمٍ مَنْ قُتِلَ فِي سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لَمْ يُخَرِّجَاهُ فَأَمَّا الْمَطْعُونُ فَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الطَّاعُونِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَأَمَّا الْمَبْطُونُ فَهُوَ صَاحِبُ دَاءِ الْبَطْنِ وَهُوَ الْإِسْهَالُ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ هُوَ الَّذِي بِهِ الِاسْتِسْقَاءُ وَانْتِفَاخُ البطن وقيل(13/62)
هُوَ الَّذِي تَشْتَكِي بَطْنُهُ وَقِيلَ هُوَ الَّذِي يَمُوتُ بِدَاءِ بَطْنِهِ مُطْلَقًا وَأَمَّا الْغَرِقُ فَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ من يموت تحته وصاحب ذَاتِ الْجَنْبِ مَعْرُوفٌ وَهِيَ قُرْحَةٌ تَكُونُ فِي الْجَنْبِ بَاطِنًا وَالْحَرِيقُ الَّذِي يَمُوتُ بِحَرِيقِ النَّارِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ فَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا وَالضَّمُّ أَشْهَرُ قِيلَ الَّتِي تَمُوتُ حَامِلًا جَامِعَةً وَلَدَهَا فِي بَطْنِهَا وَقِيلَ هِيَ الْبِكْرُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ فَمَعْنَاهُ بِأَيِّ صِفَةٍ مَاتَ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَوْتَاتُ شَهَادَةً بِتَفَضُّلِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ شِدَّتِهَا وَكَثْرَةِ أَلَمِهَا وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الصَّحِيحِ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ صَحِيحٍ مَنْ قُتِلَ دُونَ سَيْفِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ غَيْرِ الْمَقْتُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابُ الشُّهَدَاءِ وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بَيَانُ هَذَا وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ شَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ وَشَهِيدٌ فِي الْآخِرَةِ دُونَ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ هُنَا وَشَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَنْ غَلَّ فِي الْغَنِيمَةِ أَوْ قُتِلَ مُدْبِرًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَيَانٍ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُقْسِمٍ أَشْهَدُ عَلَى أَخِيكَ أَنَّهُ زَادَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَنْ غَرِقَ فَهُوَ شَهِيدٌ) هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا عَلَى أَخِيكَ بِالْخَاءِ(13/63)
وَفِي بَعْضِهَا عَلَى أَبِيكَ بِالْبَاءِ وَهَذَا هُوَ الصواب قال القاضي وقع فى رواية بن مَاهَانَ عَلَى أَبِيكَ وَهُوَ الصَّوَابُ وَفِي رِوَايَةِ الْجُلُودِيِّ عَلَى أَخِيكَ وَهُوَ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ عَلَى أَبِيكَ كَمَا سَبَقَ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ وَإِنَّمَا قاله بن مُقْسِمٍ لِسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(باب فضل الرمى والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه)
[1917] قَوْلُهُ (ثُمَامَةَ بْنَ شُفَيٍّ) هُوَ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُشَدَّدَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قوة أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ قَالَهَا ثَلَاثًا) هَذَا تَصْرِيحٌ بِتَفْسِيرِهَا وَرَدَ لِمَا يَحْكِيهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ سِوَى هَذَا وَفِيهِ وَفِي الْأَحَادِيثِ بَعْدَهُ فَضِيلَةُ الرَّمْيِ وَالْمُنَاضَلَةِ وَالِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْمُشَاجَعَةُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ اسْتِعْمَالِ السِّلَاحِ وَكَذَا الْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ وَغَيْرِهَا كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ وَالْمُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ التَّمَرُّنُ عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّدَرُّبُ وَالتَّحَذُّقُ فِيهِ وَرِيَاضَةُ الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ
[1918] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ وَيَكْفِيكُمُ اللَّهُ فَلَا يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ) الْأَرَضُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ على المشهور(13/64)
وحكى الجوهرى لغة شاذة بإسكانها ويعجز بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَبِفَتْحِهَا فِي لُغَةٍ ومعناه الندب إلى الرمى
[1919] قوله (بن شَمَاسَةَ) بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِهَا قَوْلُهُ (لَمْ أُعَانِيهِ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ لَمْ أُعَانِيهِ بِالْيَاءِ وَفِي بَعْضِهَا لَمْ أُعَانِهِ بِحَذْفِهَا وَهُوَ الْفَصِيحُ وَالْأَوَّلُ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ سَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى) هَذَا تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ فِي نِسْيَانِ الرَّمْيِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً لِمَنْ تركه بلاعذر وسبق تفسير فليس منافى كِتَابِ الْإِيمَانِ
(بَاب قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ)
[1920] قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (ولا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى(13/65)
يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ) هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ مَعَ مَا يُشْبِهُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي تَأْتِي فَتَأْخُذُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَيْ تَقْرُبَ السَّاعَةُ وَهُوَ خُرُوجُ الرِّيحِ وَأَمَّا هَذِهِ الطَّائِفَةُ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَقَالَ(13/66)
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إِنَّمَا أَرَادَ أَحْمَدُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ قُلْتُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مُفَرَّقَةٌ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ شُجْعَانٌ مُقَاتِلُونَ وَمِنْهُمْ فُقَهَاءُ وَمِنْهُمْ مُحَدِّثُونَ وَمِنْهُمْ زُهَّادٌ وَآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفَ وَنَاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ أَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنَ الْخَيْرِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ بَلْ قَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ هَذَا الْوَصْفَ مَا زَالَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْآنَ وَلَا يَزَالُ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ وَفِيهِ دَلِيلُ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَهُوَ أَصَحُّ مَا اسْتُدِلَّ بِهِ لَهُ مِنَ الْحَدِيثِ وَأَمَّا حَدِيثُ لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ) هُوَ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ أَيْ عَادَاهُمْ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَأَى إِلَيْهِمْ وَنَأَوْا إِلَيْهِ أَيْ نَهَضُوا لِلْقِتَالِ قَوْلُهُ (مسلمة بن مُخَلَّدٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَزَالُ أهل(13/67)
[1925] الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيُّ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْغَرْبِ الْعَرَبُ وَالْمُرَادُ بِالْغَرْبِ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا غَالِبًا وَقَالَ آخَرُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْغَرْبُ مِنَ الأرض وقال معاذهم بِالشَّامِ وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخِرُهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقِيلَ هُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْغَرْبِ أَهْلُ الشِّدَّةِ وَالْجَلَدِ وَغَرْبُ كُلِّ شَيْءٍ حَدُّهُ
(بَاب مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الدَّوَابِّ فِي السَّيْرِ وَالنَّهْيِ عَنْ التَّعْرِيسِ فِي الطَّرِيقِ)
[1926] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الْأَرْضِ وإِذَا سَافَرْتُمْ(13/68)
بِهَا فِي السَّنَةِ فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا) الْخِصْبُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَهُوَ كَثْرَةُ الْعُشْبِ وَالْمَرْعَى وَهُوَ ضِدُّ الْجَدْبِ وَالْمُرَادُ بِالسَّنَةِ هُنَا الْقَحْطُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أى بالقحوط ونقيها بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَهُوَ الْمُخُّ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الرِّفْقِ بِالدَّوَابِّ وَمُرَاعَاةُ مَصْلَحَتِهَا فَإِنْ سَافَرُوا فِي الْخِصْبِ قَلَّلُوا السَّيْرَ وَتَرَكُوهَا تَرْعَى فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَفِي أَثْنَاءِ السَّيْرِ فَتَأْخُذُ حَظَّهَا مِنَ الْأَرْضِ بِمَا تَرْعَاهُ مِنْهَا وَإِنْ سَافَرُوا فِي الْقَحْطِ عَجَّلُوا السَّيْرَ لِيَصِلُوا الْمَقْصِدَ وَفِيهَا بَقِيَّةٌ مِنْ قُوَّتِهَا وَلَا يُقَلِّلُوا السَّيْرَ فَيَلْحَقَهَا الضَّرَرُ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ مَا تَرْعَى فَتَضْعُفُ وَيَذْهَبُ نِقْيُهَا وَرُبَّمَا كَلَّتْ وَوَقَفَتْ وَقَدْ جَاءَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا عَرَّسْتُمْ فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ التَّعْرِيسُ النُّزُولُ فِي أَوَاخِرِ اللَّيْلِ لِلنَّوْمِ وَالرَّاحَةِ هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَالْأَكْثَرِينَ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ هُوَ النُّزُولُ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْأَوَّلُ وَهَذَا أَدَبٌ مِنْ آدَابِ السَّيْرِ وَالنُّزُولِ أَرْشَدَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْحَشَرَاتِ وَدَوَابَّ الْأَرْضِ مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ وَالسِّبَاعِ تَمْشِي فِي الليل على الطرق لِسُهُولَتِهَا وَلِأَنَّهَا تَلْتَقِطُ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ مِنْ مَأْكُولٍ وَنَحْوِهِ وَمَا تَجِدُ فِيهَا مِنْ رِمَّةٍ وَنَحْوِهَا فَإِذَا عَرَّسَ الْإِنْسَانُ فِي الطَّرِيقِ رُبَّمَا مَرَّ بِهِ مِنْهَا مَا يُؤْذِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنِ الطَّرِيقِ(13/69)
(بَاب السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ وَاسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْمُسَافِرِ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ قَضَاءِ شُغْلِهِ)
[1927] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) مَعْنَاهُ يَمْنَعُهُ كَمَالَهَا وَلَذِيذَهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ وَمُقَاسَاةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالسُّرَى وَالْخَوْفِ وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَخُشُونَةِ الْعَيْشِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) النَّهْمَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ هِيَ الْحَاجَةُ وَالْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْلِ بَعْدَ قَضَاءِ شُغْلِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِمُهِمٍّ
(بَاب كَرَاهَةِ الطُّرُوقِ وَهُوَ الدُّخُولُ لَيْلًا لِمَنْ وَرَدَ مِنْ سَفَرٍ)
[1928] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا وَكَانَ يَأْتِيهِمْ غَدْوَةً أَوْ عشية) وفى(13/70)
رِوَايَةٍ إِذَا قَدِمَ أَحَدُكُمْ لَيْلًا فَلَا يَأْتِيَنَّ أَهْلَهُ طُرُوقًا حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ أن يأتى أهله طروقا وفى الرواية الأخرى نَهَى أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنَهُمْ أَوْ يطلب عثراتهم أما قوله صلى الله عليه وسلم في الأخيرة يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ فَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ أَيْ فِي اللَّيْلِ وَالطُّرُوقُ بِضَمِّ الطَّاءِ هُوَ الْإِتْيَانُ فِي اللَّيْلِ وَكُلُّ آتٍ فِي اللَّيْلِ فَهُوَ طَارِقٌ وَمَعْنَى تَسْتَحِدُّ الْمُغِيبَةُ أَيْ تُزِيلُ شَعْرَ عَانَتِهَا وَالْمَغِيبَةُ الَّتِي غَابَ زَوْجُهَا وَالِاسْتِحْدَادُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْحَدِيدَةِ وَهِيَ الْمُوسَى وَالْمُرَادُ إِزَالَتُهُ كَيْفَ كَانَ وَمَعْنَى يَتَخَوَّنُهُمْ يَظُنُّ خِيَانَتَهُمْ وَيَكْشِفُ أَسْتَارَهُمْ وَيَكْشِفُ هَلْ خَانُوا أَمْ لَا وَمَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ يكوه لِمَنْ طَالَ سَفَرُهُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَى امْرَأَتِهِ لَيْلًا بَغْتَةً فَأَمَّا مَنْ كَانَ سَفَرُهُ قَرِيبًا تَتَوَقَّعُ امْرَأَتُهُ إِتْيَانَهُ لَيْلًا فَلَا بَأْسَ كَمَا قَالَ فِي إِحْدَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ إِذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ وَإِذَا كَانَ فِي قَفْلٍ عَظِيمٍ أَوْ عَسْكَرٍ وَنَحْوِهِمْ وَاشْتُهِرَ قُدُومُهُمْ وَوُصُولُهُمْ وَعَلِمَتِ امْرَأَتُهُ وَأَهْلُهُ أَنَّهُ(13/71)
قَادِمٌ مَعَهُمْ وَأَنَّهُمُ الْآنَ دَاخِلُونَ فَلَا بَأْسَ بِقُدُومِهِ مَتَى شَاءَ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي نَهَى بِسَبَبِهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَتَأَهَّبُوا وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْدَمْ بَغْتَةً وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا جَاءَ فِي
[715] الْحَدِيثِ الْآخِرِ أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا أَيْ عِشَاءً كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ فَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ وَهُوَ مَفْرُوضٌ فِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا الدُّخُولَ فِي أَوَائِلِ النَّهَارِ بَغْتَةً فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ لِيَبْلُغَ قُدُومُهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَتَأَهَّبَ النِّسَاءُ وَغَيْرُهُنَّ والله أعلم(13/72)
(كِتَاب الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ وَمَا يُؤْكَلُ مِنْ الْحَيَوَانِ)
(بَاب الصَّيْدِ بِالْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ)
[1929] قَوْلُهُ (إنِّي أُرْسِلُ كِلَابِي الْمُعَلَّمَةَ إِلَى آخِرِهِ) مَعَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الِاصْطِيَادِ فِيهَا كُلِّهَا إِبَاحَةُ الِاصْطِيَادِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُوَ مُبَاحٌ لِمَنِ اصْطَادَ لِلِاكْتِسَابِ وَالْحَاجَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْأَكْلِ وَثَمَنِهِ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنِ اصْطَادَ لِلَّهْوِ وَلَكِنْ قَصَدَ تَذْكِيَتَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ فَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَجَازَهُ الليث وبن عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ فَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ نِيَّةِ التَّذْكِيَةِ فَهُوَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ وَإِتْلَافُ نَفْسٍ عَبَثًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ قُلْتُ وَإِنْ قَتَلْنَ قَالَ وَإِنْ قَتَلْنَ مَا لَمْ يُشْرِكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مَعَهَا) وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى إِرْسَالِ الصَّيْدِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ عَلَى الصَّيْدِ وَعِنْدَ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَمْ سُنَّةٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّهَا سُنَّةٌ فَلَوْ تَرَكَهَا سَهْوًا أَوْ عَمْدًا حَلَّ الصَّيْدُ وَالذَّبِيحَةُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَمْ يَحِلَّ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ أَحْمَدَ فِي صَيْدِ الجوارح وهو مروى عن بن سِيرِينَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ إِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا حَلَّتِ الذَّبِيحَةُ وَالصَّيْدُ وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا(13/73)
فَلَا وَعَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ تَرْكُهَا وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ بَلْ هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى وَالصَّحِيحُ الْكَرَاهَةُ وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وانه لفسق وَبِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى حُرِّمَتْ عليكم الميتة إلى قوله إلا ما ذكيتم فَأَبَاحَ بِالتَّذْكِيَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ وَلَا وُجُوبِهَا فَإِنْ قِيلَ التَّذْكِيَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالتَّسْمِيَةِ قُلْنَا هِيَ فِي اللُّغَةِ الشَّقُّ وَالْفَتْحُ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لكم وَهُمْ لَا يُسَمُّونَ وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا فَنَأْكُلُ مِنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمُّوا وَكُلُوا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ هِيَ الْمَأْمُورُ بِهَا عِنْدَ أَكْلِ كُلِّ طَعَامٍ وَشُرْبِ كُلِّ شَرَابٍ وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا مما لم يذكر اسم الله عليه أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وما أهل به لغير الله ولأن الله تعالى قال وانه لفسق وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْ أَكَلَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ لَيْسَ بِفَاسِقٍ فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِيُجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَاتِ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَمَلَهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَأَجَابُوا عَنِ الْأَحَادِيثِ فِي التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا لِلِاسْتِحْبَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ) فِي إِطْلَاقِهِ دَلِيلٌ لِإِبَاحَةِ الصَّيْدِ بِجَمِيعِ الْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ مِنَ الْأُسُودِ وَغَيْرِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وقال الحسن البصرى والنخعى وقتادة وأحمد واسحق لَا يَحِلُّ صَيْدُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ شَيْطَانٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ) فِيهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حِلِّ مَا قَتَلَهُ الْكَلْبُ الْمُرْسَلُ كَوْنُهُ كَلْبًا مُعَلَّمًا وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْإِرْسَالُ فَلَوْ أَرْسَلَ غَيْرَ مُعَلَّمٍ أَوِ اسْتُرْسِلَ الْمُعَلَّمُ بِلَا إِرْسَالٍ لَمْ يَحِلَّ مَا قَتَلَهُ فَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْمُعَلَّمُ إِذَا اسْتُرْسِلَ فَلَا يَحِلُّ مَا قَتَلَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْأَصَمِّ مِنْ إِبَاحَتِهِ وَإِلَّا مَا حكاه بن الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يَحِلُّ إِنْ كَانَ صَاحِبُهُ أَخْرَجَهُ لِلِاصْطِيَادِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا لَمْ يُشْرِكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مَعَهَا) فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إِذَا شَارَكَهُ كَلْبٌ آخَرُ وَالْمُرَادُ كَلْبٌ آخَرٌ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْسَلَهُ مَنْ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ أَوْ شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ فَإِنْ تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا شَارَكَهُ كَلْبٌ أَرْسَلَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ عَلَى ذَلِكَ الصَّيْدِ حَلَّ قَوْلُهُ (قُلْتُ إِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ فَأُصِيبُ فَقَالَ إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْهُ وان أصابه(13/74)
بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْ الْمِعْرَاضُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ خَشَبَةٌ ثَقِيلَةٌ أَوْ عَصًا فِي طَرَفِهَا حَدِيدَةٌ وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ حَدِيدَةٍ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ الْهَرَوِيُّ هُوَ سَهْمٌ لَا رِيشَ فِيهِ وَلَا نَصْلَ وَقَالَ بن دُرَيْدٍ هُوَ سَهْمٌ طَوِيلٌ لَهُ أَرْبَعُ قُذَذٍ رِقَاقٍ فَإِذَا رَمَى بِهِ اعْتَرَضَ وَقَالَ الْخَلِيلُ كَقَوْلِ الْهَرَوِيِّ وَنَحْوُهُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَقِيلَ هُوَ عُودٌ رَقِيقُ الطَّرَفَيْنِ غَلِيظُ الْوَسَطِ إِذَا رُمِيَ بِهِ ذَهَبَ مُسْتَوِيًا وَأَمَّا خَزَقَ فَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ وَمَعْنَاهُ نَفَذَ وَالْوَقْذُ وَالْمَوْقُوذُ هُوَ الَّذِي يُقْتَلُ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ مِنْ عَصًا أَوْ حَجَرٍ وَغَيْرِهِمَا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَالْجَمَاهِيرِ أَنَّهُ إِذَا اصْطَادَ بِالْمِعْرَاضِ فَقَتَلَ الصَّيْدَ بِحَدِّهِ حَلَّ وَإِنْ قَتَلَهُ بِعَرْضِهِ لَمْ يَحِلَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ يَحِلُّ مُطْلَقًا وَكَذَا قَالَ هؤلاء وبن أبى ليلى أنه يحل ما قتله بالبندقية وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَالَ الجماهير لا يحل صيد البندقية مُطْلَقًا لِحَدِيثِ الْمِعْرَاضِ لِأَنَّهُ كُلَّهُ رَضٌّ وَوَقْذٌ وَهُوَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ وَقِيذٌ أَيْ مَقْتُولٌ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ وَالْمَوْقُوذَةُ الْمَقْتُولَةُ بِالْعَصَا وَنَحْوِهَا وَأَصْلُهُ مِنَ الْكَسْرِ وَالرَّضِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ) هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مَنْعِ أَكْلِ مَا أَكَلَتْ مِنْهُ الْجَارِحَةُ وَجَاءَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ كُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ إِذَا قَتَلَتْهُ الْجَارِحَةُ الْمُعَلَّمَةُ مِنَ الْكِلَابِ وَالسِّبَاعِ وَأَكَلَتَ مِنْهُ فَهُوَ حَرَامٌ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ بن عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والحسن والشعبى(13/75)
وَالنَّخَعِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ واسحق وأبو ثور وبن الْمُنْذِرِ وَدَاوُدُ وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وسلمان الفارسى وبن عُمَرَ وَمَالِكٌ يَحِلُّ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيِّ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَحَمَلُوا حَدِيثَ عَدِيٍّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِحَدِيثِ عَدِيٍّ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل فكلوا مما أمسكن عليكم وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُمْسَكْ عَلَيْنَا بَلْ عَلَى نفسه(13/76)
وَقَدَّمُوا هَذَا عَلَى حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ لِأَنَّهُ أَصَحُّ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةِ عَلَى مَا إِذَا أَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ قَتَلَهُ وَخَلَّاهُ وَفَارَقَهُ ثُمَّ عَادَ فَأَكَلَ مِنْهُ فَهَذَا لَا يَضُرُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا جَوَارِحُ الطَّيْرِ إِذَا أَكَلَتْ مِمَّا صَادَتْهُ فَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالرَّاجِحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ تَحْرِيمُهُ وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ بِإِبَاحَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهَا ذَلِكَ بِخِلَافِ السِّبَاعِ وَأَصْحَابُنَا يَمْنَعُونَ هَذَا الدَّلِيلَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عليكم فَإِنَّمَا إِبَاحَتُهُ بِشَرْطِ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ أُمْسِكَ عَلَيْنَا وَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ أَمْسَكَ لَنَا أَمْ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ إِبَاحَتِهِ وَالْأَصْلُ تَحْرِيمُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ غَيْرِ الْمُحَدَّدِ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّ ذَكَاتَهُ أَخْذُهُ) مَعْنَاهُ إِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ الصَّيْدَ وَقَتْلَهُ إِيَّاهُ ذَكَاةٌ شَرْعِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ الْكَلْبُ لَكِنْ تَرَكَهُ وَلَمْ تَبْقَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ أَوْ بَقِيَتْ وَلَمْ يَبْقَ زَمَانٌ يُمَكِّنُ صَاحِبَهُ لِحَاقَهُ وَذَبْحَهُ فَمَاتَ حَلَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ أَخْذَهُ قَوْلُهُ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَكَانَ لَنَا جَارًا وَدَخِيلًا وَرَبِيطًا بِالنَّهْرَيْنِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الدَّخِيلُ وَالدَّخَّالُ الَّذِي يُدَاخِلُ الْإِنْسَانَ وَيُخَالِطُهُ فِي أُمُورِهِ وَالرَّبِيطُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُرَابِطِ وَهُوَ الْمُلَازِمُ وَالرِّبَاطُ الْمُلَازَمَةُ قَالُوا وَالْمُرَادُ هُنَا رَبْطُ نَفْسِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَعَنِ الدُّنْيَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ(13/77)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ إِذَا أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ وَجَبَ ذَبْحُهُ وَلَمْ يَحِلَّ إِلَّا بِالذَّكَاةِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَمَا نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ خلافه فباطل لاأظنه يَصِحُّ عَنْهُمَا وَأَمَّا إِذَا أَدْرَكَهُ وَلَمْ تَبْقَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ بِأَنْ كَانَ قَدْ قَطَعَ حُلْقُومَهُ وَمُرَّيْهِ أَوْ أَجَافَهُ أَوْ خَرَقَ أَمْعَاءَهُ أَوْ أَخْرَجَ حَشْوَتَهُ فَيَحِلُّ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ بِالْإِجْمَاعِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ وَيُسْتَحَبُّ إِمْرَارُ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِهِ لِيُرِيحَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا قَتَلَهُ) فِيهِ بَيَانُ قَاعِدَةٍ مُهِمَّةٍ وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الشَّكُّ فِي الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ لِلْحَيَوَانِ لَمْ يَحِلَّ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُهُ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ حَيًّا وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَذَكَّاهُ حَلَّ وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ اشْتَرَكَ فِي إِمْسَاكِهِ كَلْبُهُ وَكَلْبُ غَيْرِهِ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ حِينَئِذٍ فِي الْإِبَاحَةِ عَلَى تَذْكِيَةِ الْآدَمِيِّ لَا عَلَى إِمْسَاكِ الْكَلْبِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْإِبَاحَةُ بِإِمْسَاكِ الْكَلْبِ إِذَا قَتَلَهُ وَحِينَئِذٍ إِذَا كَانَ مَعَهُ كَلْبٌ آخَرُ لَمْ يَحِلَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَإِنْ غَابَ عَنْكَ(13/78)
يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إِنْ شِئْتَ) هَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إِذَا أَثَّرَ جُرْحُهُ فَغَابَ عَنْهُ فَوَجَدَهُ مَيْتًا وَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ غَيْرُ سَهْمِهِ حَلَّ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِي الصَّيْدِ وَالسَّهْمِ وَالثَّانِي يَحْرُمُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالثَّالِثُ يَحْرُمُ فِي الْكَلْبِ دُونَ السَّهْمِ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَقْرَبُ إِلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمُخَالِفَةُ لَهُ فَضَعِيفَةٌ وَمَحْمُولَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَكَذَا الأثر عن بن عَبَّاسٍ كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ أَيْ كُلْ مَا لَمْ يَغِبْ عَنْكَ دُونَ مَا غَابَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ) هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ
[1930] قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ (إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ نَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا) هَكَذَا رَوَى هَذَا(13/79)
الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ إِنَّا نُجَاوِرُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورِهِمُ الْخِنْزِيرَ وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتِهِمُ الْخَمْرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَكُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا قَدْ يُقَالُ هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ إِذَا غُسِلَتْ وَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا بَعْدَ الْغُسْلِ سَوَاءٌ وُجِدَ غَيْرُهَا أَمْ لَا وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ اسْتِعْمَالِهَا إِنْ وُجِدَ غَيْرُهَا وَلَا يَكْفِي غَسْلُهَا فِي نَفْيِ الْكَرَاهَةِ وَإِنَّمَا يَغْسِلُهَا وَيَسْتَعْمِلُهَا إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ فِي آنِيَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَطْبُخُونَ فِيهَا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ الْأَكْلِ فِيهَا بَعْدَ الْغَسْلِ لِلِاسْتِقْذَارِ وَكَوْنِهَا مُعْتَادَةً لِلنَّجَاسَةِ كَمَا يُكْرَهُ الْأَكْلُ فِي الْمِحْجَمَةِ الْمَغْسُولَةِ وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَمُرَادُهُمْ مُطْلَقُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي النَّجَاسَاتِ فَهَذِهِ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهَا قَبْلَ غَسْلِهَا فَإِذَا غُسِلَتْ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا اسْتِقْذَارٌ وَلَمْ يُرِيدُوا نَفْيَ الْكَرَاهَةِ عَنْ آنِيَتِهِمُ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَا أَصَبْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ) هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يحل(13/80)
لا بذكاة
[1931] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ) هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ أَوَّلُ عَوْدِ سَمَاعِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُفْيَانَ مِنْ مُسْلِمٍ وَالَّذِي قَبْلَهُ هُوَ آخِرُ فَوَاتِهِ الثَّالِثُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي الْكِتَابِ فَوَاتٌ بَعْدَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْ مَا لَمْ يُنْتِنْ) وَفِي رِوَايَةٍ فِيمَنْ يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ هَذَا النَّهْيُ عن أكله للنتن محمول على التنزيه لا على التحريم وكذا سائر اللحوم والأطعمة المنتنة يكره أكلها وَلَا يَحْرُمُ إِلَّا أَنْ يُخَافَ مِنْهَا الضَّرَرُ خَوْفًا مُعْتَمَدًا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَحْرُمُ اللَّحْمُ المنتن وهو ضعيف والله أعلم(13/81)
(باب تحريم أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذى مخلب من الطير)
[1932] قَوْلُهُ (نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَفِي رِوَايَةٍ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ) الْمِخْلَبُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْمِخْلَبُ لِلطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ بِمَنْزِلَةِ الظُّفُرِ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَدَاوُدَ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَقَالَ(13/82)
مَالِكٌ يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُرَادُ بِذِي النَّابِ مَا يُتَقَوَّى بِهِ وَيُصْطَادُ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا الْآيَةَ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَالُوا وَالْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُحَرَّمًا إِلَّا الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ ثُمَّ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ
[1933] قَوْلُهُ (عَنْ عَبِيدَةَ بْنِ سفيان) هو بفتح العين(13/83)
وكسر الياء
[1934] قوله (عن ميمون بن مهران عن بن عَبَّاسٍ) هَكَذَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَقَدْ صَحَّ سَمَاعُ مَيْمُونٍ مِنَ بن عَبَّاسٍ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا قَدْ يُخَالِفُ هَذَا
(باب اباحة ميتات البحر)
[1935] قَوْلُهُ (بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ) فِيهِ أَنَّ الْجُيُوشَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَمِيرٍ يَضْبِطُهَا وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ أَفْضَلَهُمْ أَوْ مِنْ أَفْضَلِهِمْ قَالُوا وَيُسْتَحَبُّ لِلرُّفْقَةِ مِنَ النَّاسِ وَإِنْ قَلُّوا أَنْ يُؤَمِّرُوا بَعْضَهُمْ عَلَيْهِمْ وَيَنْقَادُوا لَهُ قَوْلُهُ (نَتَلَقَّى عَيرًا لِقُرَيْشٍ) قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعَيرَ هِيَ الْإِبِلُ الَّتِي تَحْمِلُ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ صَدِّ أَهْلِ الْحَرْبِ وَاغْتِيَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ لِأَخْذِ مَالِهِمْ وَاغْتِنَامِهِ قَوْلُهُ (وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لم يجد لنا غيره فكان أبو عبيدة يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً نَمُصُّهَا كَمَا يَمُصُّ الصَّبِيُّ ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ) أَمَّا الْجِرَابُ فَبِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا الْكَسْرُ أَفْصَحُ وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ وَنَمُصُّهَا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا الْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَسَبَقَ بَيَانُ لُغَاتِهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَفِي هَذَا بَيَانُ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَالصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ وَخُشُونَةِ الْعَيْشِ وَإِقْدَامِهِمْ عَلَى الْغَزْوِ مع هذا الْحَالِ قَوْلُهُ (وَزَوَّدَنَا جِرَابًا لَمْ يَجِدْ لَنَا غيره فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة(13/84)
وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْنُ نَحْمِلُ أَزْوَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا وَفِي رِوَايَةٍ فَفَنِيَ زَادُهُمْ فَجَمَعَ أَبُو عُبَيْدَةَ زَادَهُمْ فِي مِزْوَدٍ فَكَانَ يقوتنا حتى كان يصيبنا كل يوم تمرة وفى الموطأ ففنى زادهم وكان مزودى تمرا وَكَانَ يُقَوِّتُنَا حَتَّى كَانَ يُصِيبُنَا كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةً وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِمُسْلِمٍ كَانَ يُعْطِينَا قَبْضَةً قَبْضَةً ثُمَّ أَعْطَانَا تَمْرَةً تَمْرَةً قَالَ الْقَاضِي الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّدَهُمُ الْمِزْوَدَ زَائِدًا عَلَى مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَغَيْرِهَا مِمَّا وَاسَاهُمْ بِهِ الصَّحَابَةُ وَلِهَذَا قَالَ وَنَحْنُ نَحْمِلُ أَزْوَادَنَا قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يكُنْ فِي زَادِهِمْ تَمْرٌ غَيْرُ هَذَا الْجِرَابِ وَكَانَ مَعَهُمْ غَيْرُهُ مِنَ الزَّادِ وَأَمَّا إِعْطَاءُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِيَّاهُمْ تَمْرَةً تَمْرَةً فإنما كان فى الحال الثانى بَعْدَ أَنْ فَنِيَ زَادُهُمْ وَطَالَ لُبْثُهُمْ كَمَا فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى مَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ عَنْ آخِرِ الْأَمْرِ لَا عَنْ أَوَّلِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَمْرَةً تَمْرَةً إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ أَنْ قَسَمَ عَلَيْهِمْ قَبْضَةً قَبْضَةً فَلَمَّا قَلَّ تَمْرُهُمْ قَسَمَهُ عَلَيْهِمْ تَمْرَةً تَمْرَةً ثُمَّ فرغ وفقدوا التمرة ووجدوا أَلَمًا لِفَقْدِهَا وَأَكَلُوا الْخَبَطَ إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْعَنْبَرِ قَوْلُهُ (فَجَمَعَ أَبُو عُبَيْدَةَ زَادَنَا فِي مِزْوَدٍ فَكَانَ يُقَوِّتُنَا) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَهُ بِرِضَاهُمْ وَخَلَطَهُ لِيُبَارَكَ لَهُمْ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي مَوَاطِنَ وَكَمَا كَانَ الْأَشْعَرِيُّونَ يَفْعَلُونَ وَأَثْنَى عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ يُسْتَحَبُّ لِلرُّفْقَةِ مِنَ الْمُسَافِرِينَ خَلْطُ أَزْوَادِهِمْ لِيَكُونَ أبرك وأحسن فى العشرة وأن لا يَخْتَصَّ بَعْضُهُمْ بِأَكْلٍ دُونَ بَعْضٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ) هُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ الرَّمْلُ الْمُسْتَطِيلُ الْمُحْدَوْدَبُ
قَوْلُهُ (فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَيْتَةٌ ثُمَّ قَالَ بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وقد اضطررتم فكلوا فأقما عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا) وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ(13/85)
أَنَّهُمْ تَزَوَّدُوا مِنْهُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ حِينَ رَجَعُوا هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا قَالَ فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَأَكَلَهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهَ عَنْهُ قَالَ أَوَّلًا بِاجْتِهَادِهِ إِنَّ هَذَا مَيْتَةٌ وَالْمَيْتَةُ حَرَامٌ فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَكْلُهَا ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَقَالَ بَلْ هُوَ حَلَالٌ لَكُمْ وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً لِأَنَّكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَيْتَةَ لِمَنْ كَانَ مُضْطَرًّا غَيْرَ بَاغٍ ولاعاد فَكُلُوا فَأَكَلُوا مِنْهُ وَأَمَّا طَلَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَحْمِهِ وَأَكْلِهِ ذَلِكَ فإنما أراد به المبالغة فى تطيب نفوسهم فى حله وأن لَا شَكَّ فِي إِبَاحَتِهِ وَأَنَّهُ يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ أَوْ أَنَّهُ قَصَدَ التَّبَرُّكَ بِهِ لِكَوْنِهِ طُعْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خَارِقَةً لِلْعَادَةِ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهَا وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِسُؤَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ وَمَتَاعِهِ إِدْلَالًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ السُّؤَالِ الْمَنْهِيِّ عنه انما ذلك فى حق الأجانب للتمول ونحو وَأَمَّا هَذِهِ فَلِلْمُؤَانَسَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالْإِدْلَالِ وَفِيهِ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَجُوزُ بَعْدَهُ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُفْتِي أَنْ يَتَعَاطَى بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي يَشُكُّ فِيهَا الْمُسْتَفْتِي إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى الْمُفْتِي وَكَانَ فِيهِ طُمَأْنِينَةٌ لِلْمُسْتَفْتِي وَفِيهِ إِبَاحَةُ مَيْتَاتِ الْبَحْرِ كُلِّهَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا مَاتَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِاصْطِيَادٍ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَةِ السَّمَكِ قَالَ أَصْحَابُنَا يَحْرُمُ الضُّفْدَعُ لِلْحَدِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا قَالُوا وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أصح يَحِلُّ جَمِيعُهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَالثَّانِي لَا يَحِلُّ وَالثَّالِثُ يَحِلُّ مَا لَهُ نَظِيرٌ مَأْكُولٌ فِي الْبَرِّ دُونَ مَا لَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فَعَلَى هَذَا تُؤْكَلُ خَيْلُ الْبَحْرِ وَغَنَمُهُ وَظِبَاؤُهُ دُونَ كَلْبِهِ وَخِنْزِيرِهِ وَحِمَارِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَالْحِمَارُ وَإِنْ كان فى البر مَأْكُولٌ وَغَيْرُهُ وَلَكِنَّ الْغَالِبَ غَيْرُ الْمَأْكُولِ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ إِلَّا الضُّفْدَعَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وعثمان وبن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَبَاحَ مَالِكٌ الضُّفْدَعَ وَالْجَمِيعَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحِلُّ غَيْرُ السمك وأما السمك الطافئ وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْبَحْرِ بِلَا سَبَبٍ فَمَذْهَبُنَا إِبَاحَتُهُ وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وأبو أيوب وعطاء مكحول وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَطَاوُسٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحِلُّ دَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ قال بن عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ صَيْدُهُ مَا صِدْتُمُوهُ وَطَعَامُهُ مَا قَذَفَهُ وَبِحَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا وَبِحَدِيثِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَبِأَشْيَاءَ مَشْهُورَةٍ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ وَجَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ وما مات فيه فطفا فلا(13/86)
تأكلوا فحديث ضيعف بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لو لم يعارضه شئ كيف وهو معارض بما ذكرنا وَقَدْ أَوْضَحْتُ ضَعْفَ رِجَالِهِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ فَإِنْ قِيلَ لَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ الْعَنْبَرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُضْطَرِّينَ قُلْنَا الِاحْتِجَاجُ بِأَكْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ قَوْلُهُ (ولقد رأيتنا تغترف مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ) أَمَّا الْوَقْبُ فبفتح الواو واسكان القاف والباء الموحدة وهو داخل عينه ونقرتها والقلال بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قُلَّةٍ بِضَمِّهَا وَهِيَ الْجَرَّةُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي يُقِلُّهَا الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ يحملها والفدر بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ هِيَ الْقِطَعُ وَقَوْلُهُ كَقَدْرِ الثَّوْرِ رَوَيْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا أَحَدُهُمَا بِقَافٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ دَالٍ سَاكِنَةٍ أَيْ مِثْلُ الثَّوْرِ وَالثَّانِي كَفِدَرِ بِفَاءٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ دَالٍ مَفْتُوحَةٍ جَمْعُ فِدْرَةٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَادَّعَى الْقَاضِي أَنَّهُ تَصْحِيفٌ وَأَنَّ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ قَوْلُهُ (ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ جَعَلَ عليه رحلا قوله (وتوزدنا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ) هُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ اللَّحْمُ يُؤْخَذُ فَيُغْلَى اعلاء ولا ينضج(13/87)
وَيُحْمَلُ فِي الْأَسْفَارِ يُقَالٍ وَشَقْتُ اللَّحْمَ فَاتَّشَقَ وَالْوَشِيقَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ وَالْجَمْعُ وَشَائِقُ وَوُشُقٌ وَقِيلَ الوشيق الْقَدِيدُ قَوْلُهُ (ثَابَتْ أَجْسَامِنَا) أَيْ رَجَعَتْ إِلَى القوة قوله (فيأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فتصبه) كذا هو فى النسخ فتصبه وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَأَقَامَهَا فَأَنَّثَهَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ وَوَجْهُ التَّذْكِيرِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْعُضْوَ قَوْلُهُ (وَجَلَسَ فِي حَجَاجِ عَيْنِهِ نَفَرٌ) هُوَ بِحَاءٍ ثُمَّ جِيمٍ مُخَفَّفَةٍ وَالْحَاءُ مَكْسُورَةٌ وَمَفْتُوحَةٌ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَهُوَ بِمَعْنَى وَقْبِ عَيْنِهِ الْمَذْكُورِ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ قَوْلُهُ (إِنَّ رَجُلًا نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ ثَلَاثًا ثُمَّ ثَلَاثًا ثُمَّ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ) وَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي نَحَرَ الْجَزَائِرَ هُوَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عبادة رضى الله قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى (فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَأَكَلْنَا مِنْهَا نِصْفَ شَهْرٍ وَفِي الثَّالِثَةِ فَأَكَلَ مِنْهَا الْجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ مَنْ رَوَى شَهْرًا هُوَ الْأَصْلُ وَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ وَمَنْ رَوَى دُونَهُ لَمْ يَنْفِ الزِّيَادَةَ وَلَوْ نَفَاهَا قَدَّمَ الْمُثْبَتَ وَقَدْ قَدَّمْنَا مَرَّاتٍ أَنَّ الْمَشْهُورَ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الزِّيَادَةِ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ إِثْبَاتُ الزِّيَادَةِ كَيْفَ وَقَدْ عَارَضَهُ فَوَجَبَ قَبُولُ الزِّيَادَةِ وَجَمَعَ الْقَاضِي بينهما(13/88)
بِأَنَّ مَنْ قَالَ نِصْفَ شَهْرٍ أَرَادَ أَكَلُوا مِنْهُ تِلْكَ الْمُدَّةَ طَرِيًّا وَمَنْ قَالَ شَهْرًا أراد قَدَّدُوهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ قَدِيدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (سِيفُ الْبَحْرِ) هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ وإسكان المثناة تحت وهو ساحله كما قاله فِي الرِّوَايَتَيْنِ قَبْلَهُ قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ وَذَكَرَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَخْبَرْنَا أَبُو الْمُنْذِرِ الْقَزَّازُ) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا الْقَزَّازُ بِالْقَافِ وَفِي أَكْثَرِهَا الْبَزَّازُ بِالْبَاءِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَيْضًا اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِيهِ وَالْأَشْهَرُ بِالْقَافِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّمْعَانِيُّ فِي الْأَنْسَابِ وَآخَرُونَ وَذَكَرَهُ خَلَفُ الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَافِ بِالْبَاءِ عَنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَكِنْ عَلَيْهِ تَضْبِيبٌ فَلَعَلَّهُ يُقَالُ بالوجهين فالقزاز بزاز وأبو المنذر هذا اسْمُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ الْمُثَنَّى كَذَا سماه أحمد بن حنبل فيما ذكره بن أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِهِ وَاقْتَصَرَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ هُوَ صَدُوقٌ وَأَمَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِالْكِتَابَةِ عنه وهو من أفراد مسلم(13/89)
(باب تحريم أكل لحم الحمر الانسية)
[1407] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ) أَمَّا الْإِنْسِيَّةُ فَبِإِسْكَانِ النُّونِ مَعَ كَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا وَسَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَشَرْحُ أَحَادِيثِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَأَمَّا الْحُمُرُ الْإِنْسِيَّةُ فَقَدْ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِهَا وَفِي رِوَايَةٍ
[1936] حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(13/90)
وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَفِي رِوَايَاتٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ الْقُدُورَ تَغْلِي فَأَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا وَقَالَ لَا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِهَا شَيْئًا وَفِي رِوَايَةٍ نُهِينَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ أَو ذَاكَ
[1940] وَفِي رِوَايَةٍ نَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْهَا فَإِنَّهُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَفِي رِوَايَةٍ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ أَوْ نَجَسٌ فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ الْجَمَاهِيرُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدِهِمْ بِتَحْرِيمِ لُحُومِهَا لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة وقال بن عَبَّاسٍ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ وَعَنْ مَالِكٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ أَشْهَرُهَا أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ شَدِيدَةً وَالثَّانِيَةُ حَرَامٌ وَالثَّالِثَةُ مُبَاحَةٌ وَالصَّوَابُ التَّحْرِيمُ كَمَا قَالَهُ الْجَمَاهِيرُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي شئ أطعم أهلى إلا شئ مِنْ حُمُرٍ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنَا السَّنَةُ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إِلَّا سِمَانَ حُمُرٌ وَإِنَّكَ حَرَّمْتَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ فَإِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَّالِ الْقَرْيَةِ يَعْنِي بِالْجَوَّالِ(13/91)
الَّتِي تَأْكُلُ الْجُلَّةَ وَهِيَ الْعَذِرَةُ فَهَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ مُخْتَلَفُ الْإِسْنَادِ شَدِيدُ الِاخْتِلَافِ وَلَوْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ والله أعلم قوله
[1937] (نادى أن اكفؤا الْقُدُورَ) قَالَ الْقَاضِي ضَبَطْنَاهُ بِأَلِفِ الْوَصْلِ وَفَتْحِ الْفَاءِ مِنْ كَفَأْتُ ثُلَاثِيٌ وَمَعْنَاهُ قَلَبْتُ قَالَ وَيَصِحُّ قَطْعُ الْأَلِفِ وَكَسْرُ الْفَاءِ مِنْ أَكْفَأْتُ رُبَاعِيٌّ وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى عِنْدَ كَثِيرِينَ مِنْ أهل اللغة منهم الخليل والكسائى وبن(13/92)
السكيت وبن قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ يُقَالُ كَفَأْتُ وَلَا يُقَالُ أَكْفَأْتُ بِالْأَلِفِ قَوْلُهُ (لُحُومُ الْحُمُرِ نِيئَةٌ وَنَضِيجَةٌ) هُوَ بِكَسْرِ النُّونِ وَبِالْهَمْزِ أَيْ غَيْرُ مَطْبُوخَةٍ
[1939] قَوْلُهُ (كَانَ حَمُولَةَ النَّاسِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيِ الَّذِي يَحْمِلُ مَتَاعَهَمْ
[1802] قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي قُدُورِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ أَوْ نُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ أَوْ ذَاكَ) هَذَا صريح فى(13/93)
نَجَاسَتِهَا وَتَحْرِيمِهَا وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فَإِنَّهَا رِجْسٌ وَفِي الْأُخْرَى رِجْسٌ أَوْ نَجَسٌ وَفِيهِ وُجُوبُ غَسْلِ مَا أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ وَأَنَّ الْإِنَاءَ النَّجِسَ يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى سَبْعٍ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ أَحْمَدَ يَجِبُ سَبْعٌ فِي الْجَمِيعِ عَلَى أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ وَيَصْدُقُ ذَلِكَ عَلَى مَرَّةٍ وَلَوْ وَجَبَتِ الزِّيَادَةُ لَبَيَّنَهَا فَإِنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ مَنْ هُوَ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ مِمَّنْ لَا يَفْهَمُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ إِلَّا مُقْتَضَاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ مَرَّةٌ وَأَمَّا أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا بِكَسْرِهَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بِوَحْيٍ أَوْ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ نُسِخَ وَتَعَيَّنَ الْغَسْلُ وَلَا يَجُوزُ الْيَوْمَ الْكَسْرُ لِأَنَّهُ إِتْلَافُ مَالٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا غُسِلَ الْإِنَاءُ النَّجِسُ فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(13/94)
(باب إباحة أكل لحم الْخَيْلِ)
[1941] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ جَابِرٌ أَكَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَحُمُرَ الْوَحْشِ وَنَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ
[1942] وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ قَالَتْ نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْنَاهُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وفضالة بن عبيد وأنس بن مالك وأسماء بنت أَبِي بَكْرٍ وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَعَطَاءٌ وَشُرَيْحٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ وَدَاوُدُ وَجَمَاهِيرُ المحدثين وغيرهم وكرهها طائفة منهم بن عَبَّاسٍ وَالْحَكَمُ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَأْثَمُ بِأَكْلِهِ وَلَا يُسَمَّى حَرَامًا وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَكْلَ وَذَكَرَ الْأَكْلَ مِنَ الْأَنْعَامِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبِحَدِيثِ صَالِحِ بْنِ يحيى بن المقدم عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ(13/95)
وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ رَوَاهُ أَبُو داود والنسائى وبن مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَنْسُوخٌ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ مُوسَى بْنِ هَارُونَ الْحَمَّالِ بِالْحَاءِ الْحَافِظِ قال هذا حديث ضعيف قال ولايعرف صالح بن يحيى ولاأبوه وَقَالَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نَظَرٌ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا إِسْنَادٌ مُضْطَرِبٌ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ قَالَ وَصَالِحُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَا يُعْرَفُ سَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ وَقَالَ النَّسَائِيُّ حَدِيثُ الْإِبَاحَةِ أَصَحُّ قَالَ وَيُشْبِهُ إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَحَادِيثِ الْإِبَاحَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ وَبِأَحَادِيثَ أُخَرَ صَحِيحَةٍ جَاءَتْ بِالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النَّهْيِ حَدِيثٌ وَأَمَّا الْآيَةُ فَأَجَابُوا عَنْهَا بِأَنَّ ذِكْرَ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْفَعَتَهُمَا مُخْتَصَّةٌ بِذَلِكَ فَإِنَّمَا خُصَّ هَذَانِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخَيْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حُرِّمَتْ عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فَذَكَرَ اللَّحْمَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَقْصُودِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ وَدَمِهِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ قَالُوا وَلِهَذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ حَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَى الْخَيْلِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ وتحمل أثقالكم وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ هَذَا تَحْرِيمُ حَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَى الْخَيْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (نَحَرْنَا فَرَسًا) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ذَبَحْنَا فَرَسًا وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ نَحَرْنَا كَمَا ذَكَرَ مُسْلِمٌ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ فَمَرَّةً نَحَرُوهَا وَمَرَّةً ذَبَحُوهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَضِيَّةً وَاحِدَةً وَيَكُونَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ مَجَازًا وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَتِ الْحَقِيقَةُ وَالْحَقِيقَةُ غَيْرُ مُتَعَذِّرَةٍ بَلْ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ وَهِيَ(13/96)
أَنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُ الْمَنْحُورِ وَنَحْرُ الْمَذْبُوحِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فَاعِلُهُ مُخَالِفًا الْأَفْضَلَ وَالْفَرَسُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَابُ إِبَاحَةِ الضَّبِّ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ
[1943] أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الضَّبِّ لَسْتُ بِآكِلِهِ وَلَا مُحَرِّمِهِ وَفِي رِوَايَاتٍ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ وَفِي رِوَايَةٍ
[1944] أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُوا فَإِنَّهُ حَلَالٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي وَفِي رِوَايَةٍ
[1945]
[1946] أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَهُ مِنْهُ فَقِيلَ أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ فَأَكَلُوهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ مَعْنَى أَعَافُهُ أَكْرَهُهُ تَقَذُّرًا وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الضَّبَّ حَلَالٌ لَيْسَ بمكروه إلا)(13/97)
مَا حُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ كَرَاهَتِهِ وَإِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا هُوَ(13/98)
حَرَامٌ وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ وَإِنْ صَحَّ عَنْ أَحَدٍ فَمَحْجُوجٌ بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ قَوْلُهُ (ضَبٌّ مَحْنُوذٌ) أَيْ مَشْوِيٌّ وَقِيلَ الْمَشْوِيُّ عَلَى الرَّضْفِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُحْمَاةُ قَوْلُهُ (إِنَّ خَالِدًا أَخَذَ الضَّبَّ فَأَكَلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ) هَذَا مِنْ بَابِ الْإِدْلَالِ وَالْأَكْلِ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ وَالصَّدِيقِ الَّذِي لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ وَخَالِدٌ أَكَلَ هَذَا فِي بَيْتِ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ وَبَيْتِ صَدِيقِهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانٍ لَا سِيَّمَا وَالْمُهْدِيَةُ خَالَتُهُ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ جَبْرَ قَلْبِ خَالَتِهِ أُمِّ حُفَيْدٍ الْمُهْدِيَةِ قَوْلُهُ فِي مَيْمُونَةَ
[1946] (وهى خالته وخالة بن عَبَّاسٍ) يَعْنِي خَالَةَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَخَالَةَ بن عباس وأم خالد لبابة الصغرى وأم بن عَبَّاسٍ لُبَابَةُ الْكُبْرَى وَمَيْمُونَةُ وَأُمُّ حُفَيْدٍ كُلُّهُنَّ أَخَوَاتٌ وَالِدُهُنَّ الْحَارِثُ قَوْلُهُ (قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حفيدة) وفى الرواية الأخر أُمُّ حُفَيْدٍ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أُمُّ حُفَيْدَةَ بالهاء(13/99)
وَفِي بَعْضِهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ النَّضْرِ أُمُّ حُمَيْدٍ وَفِي بَعْضِهَا حُمَيْدَةُ وَكُلُّهُ بِضَمِّ الْحَاءِ مُصَغَّرٌ قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَالْأَصْوَبُ وَالْأَشْهَرُ أُمُّ حُفَيْدٍ بِلَا هَاءٍ وَاسْمُهَا هُزَيْلَةُ وكذا ذكرها بن عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ) كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ(13/100)
النُّسَخِ النِّسْوَةُ الْحُضُورُ
[1947] قَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ إِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّيْءَ وَسُكُوتُهُ عَلَيْهِ إِذَا فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ يَكُونُ دَلِيلًا لِإِبَاحَتِهِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ أَذَنْتُ فِيهِ وَأَبَحْتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْكُتُ عَلَى بَاطِلٍ وَلَا يُقِرُّ مُنْكَرًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1948] قَوْلُهُ (دَعَانَا عَرُوسٌ بِالْمَدِينَةِ) يَعْنِي رَجُلًا تَزَوَّجَ قَرِيبًا وَالْعَرُوسُ يَقَعُ عَلَى(13/101)
الْمَرْأَةِ وَعَلَى الرَّجُلِ قَوْلُهُ (قُرِّبَ إِلَيْهِمْ خِوَانٌ) هُوَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ الْكَسْرُ أَفْصَحُ والجمع أخونة وخون وليس الْمُرَادُ بِهَذَا الْخِوَانِ مَا نَفَاهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي قَوْلِهِ مَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ بَلْ شَيْءٌ مِنْ نَحْوِ السُّفْرَةِ
[1951] قَوْلُهُ إِنَّا بِأَرْضٍ مَضَبَّةٍ) فِيهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ إِحْدَاهُمَا فَتْحُ الْمِيمِ وَالضَّادِ وَالثَّانِيَةُ ضَمُّ الْمِيمِ وَكَسْرُ الضَّادِ والأول أشهر(13/102)
وَأَفْصَحُ أَيْ ذَاتُ ضِبَابٍ كَثِيرَةٍ قَوْلُهُ (إِنِّي فِي غَائِطِ مُضِبَّةٍ) الْغَائِطُ الْأَرْضُ الْمُطَمْئِنَةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَمَسَخَهُمْ دَوَابَّ يَدِبُّونَ فِي الْأَرْضِ) أَمَّا يَدِبُّونَ فَبِكَسْرِ الدَّالِ وَأَمَّا دَوَابُّ فَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِهَا دَوَابًّا بِالْأَلِفِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْجَارِي عَلَى الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب إِبَاحَةِ الْجَرَادِ)
[1952] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ) هُوَ بِالْفَاءِ وَالرَّاءِ وَهُوَ أَبُو يَعْفُورٍ الْأَصْغَرُ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ نِسْطَاسٍ وَأَمَّا أَبُو يَعْفُورٍ الْأَكْبَرُ فَيُقَالُ لَهُ وَاقِدٌ ويقال وقدان وَسَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَكِتَابِ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ (غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ) فِيهِ إِبَاحَةُ الْجَرَادِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَتِهِ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْجَمَاهِيرُ يَحِلُّ سَوَاءٌ مَاتَ بِذَكَاةٍ أَوْ بِاصْطِيَادِ مُسْلِمٍ أَوْ مَجُوسِيٍّ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءٌ قُطِعَ بعضه(13/103)
أَوْ أُحْدِثَ فِيهِ سَبَبٌ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ إِلَّا إِذَا مَاتَ بِسَبَبٍ بِأَنْ يُقْطَعَ بَعْضُهُ أَوْ يُسْلَقَ أَوْ يُلْقَى فِي النَّارِ حَيًّا أَوْ يُشْوَى فَإِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ فِي وِعَاءٍ لَمْ يَحِلَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب إِبَاحَةِ الْأَرْنَبِ)
[1953] قَوْلُهُ (فَاسْتَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَوْا عَلَيْهِ فَلَغَبُوا) مَعْنَى اسْتَنْفَجْنَا أَثَرْنَا وَنَفَرْنَا وَمَرُّ الظَّهْرَانِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالظَّاءِ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ قَوْلُهُ (فَلَغَبُوا) هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ فِي اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ وَفِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ بِكَسْرِهَا حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَضَعَّفُوهَا أَيْ أَعْيَوْا وَأَكْلُ الْأَرْنَبِ(13/104)
حَلَالٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وبن أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمَا كَرِهَاهَا دَلِيلُ الْجُمْهُورِ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ أَحَادِيثَ مِثْلِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النهى عنها شئ
(بَاب إِبَاحَةِ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الِاصْطِيَادِ والعدو وكراهة الخذف ذُكِرَ فِي الْبَابِ
[1954] النَّهْيُ عَنِ الْخَذْفِ لِكَوْنِهِ لَا يَنْكَأُ الْعَدُوَّ وَلَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ وَلَكِنْ يَفْقَأُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ أَمَّا الْخَذْفُ فَبِالْخَاءِ وَالذَّالِ مُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ رَمْيُ الْإِنْسَانِ بِحَصَاةٍ أَوْ نواة ونحوهما يجعلها بين أصبعيه السبابتين أوالابهام وَالسَّبَّابَةِ وَقَوْلُهُ (يَنْكَأُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِالْهَمْزِ فِي آخره هكذا هو فى)(13/105)
الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ قَالَ الْقَاضِي كَذَا رَوَيْنَاهُ قَالَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ يَنْكِي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ غَيْرِ مَهْمُوزٍ قَالَ الْقَاضِي وَهُوَ أَوْجَهُ لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ نَكَأْتُ الْقُرْحَةَ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ إِلَّا عَلَى تَجَوُّزٍ وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ النِّكَايَةِ يُقَالُ نَكَيْتُ الْعَدُوَّ وَأَنْكَيْتُهُ نِكَايَةً وَنَكَأْتُ بِالْهَمْزِ لُغَةٌ فِيهِ قَالَ فَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ تَتَوَجَّهُ رِوَايَةُ شُيُوخِنَا وَيَفْقَأُ الْعَيْنَ مَهْمُوزٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ الْخَذْفِ لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ وَيُخَافُ مَفْسَدَتُهُ وَيَلْتَحِقُ بِهِ كُلُّ مَا شَارَكَهُ فِي هَذَا وَفِيهِ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ حَاجَةٌ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ وَتَحْصِيلِ الصَّيْدِ فَهُوَ جَائِزٌ وَمِنْ ذَلِكَ رَمْيُ الطُّيُورِ الْكِبَارِ بِالْبُنْدُقِ إِذَا كَانَ لَا يَقْتُلُهَا غَالِبًا بَلْ تُدْرَكُ حَيَّةً وَتُذَكَّى فَهُوَ جَائِزٌ قَوْلُهُ (أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف ثم تخذف لاأكلمك أَبَدًا) فِيهِ هِجْرَانُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُسُوقِ وَمُنَابِذِي السُّنَّةِ مَعَ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ هِجْرَانُهُ دَائِمًا وَالنَّهْيُ عَنِ الْهِجْرَانِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ هَجَرَ لِحَظِّ نَفْسِهِ وَمَعَايِشِ الدُّنْيَا وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَنَحْوُهُمْ فَهِجْرَانُهُمْ دَائِمًا وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يُؤَيِّدُهُ مَعَ نَظَائِرَ لَهُ كَحَدِيثِ كعب بن مالك وغيره
(باب الأمر باحسان الدبح والقتل وتحديد الشفرة)
[1955] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ كتب الاحسان على كل شئ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ(13/106)
فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) أَمَّا الْقِتْلَةُ فَبِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ الْهَيْئَةُ وَالْحَالَةُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ فَوَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ أَوْ أكثرها فأحسنوا الذبح بفتح الذال بغيرها وَفِي بَعْضِهَا الذِّبْحَةَ بِكَسْرِ الذَّالِ وَبِالْهَاءِ كَالْقِتْلَةِ وَهِيَ الْهَيْئَةُ وَالْحَالَةُ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلْيُحِدَّ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ يُقَالُ أَحَدَّ السِّكِّينَ وَحَدَّدَهَا وَاسْتَحَدَّهَا بِمَعْنًى وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ بِإِحْدَادِ السِّكِّينِ وَتَعْجِيلِ إِمْرَارِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُسْتَحَبُّ أن لا يحد السكين بحضرة الذبيحة وأن لا يَذْبَحَ وَاحِدَةً بِحَضْرَةِ أُخْرَى وَلَا يَجُرَّهَا إِلَى مَذْبَحِهَا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ عَامٌّ فِي كُلِّ قَتِيلٍ مِنَ الذَّبَائِحِ وَالْقَتْلُ قِصَاصًا وَفِي حَدٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْجَامِعَةِ لِقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ أعلم
(باب النهى عن صبر البهائم وهو حبسها لتقتل برمى ونحوه)
[1956] قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ) وَفِي(13/107)
[1957] رِوَايَةٍ لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا قَالَ الْعُلَمَاءُ صَبْرُ الْبَهَائِمِ أَنْ تُحْبَسَ وَهِيَ حَيَّةٌ لِتُقْتَلَ بِالرَّمْيِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ مَعْنَى لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا أَيْ لَا تَتَّخِذُوا الْحَيَوَانَ الْحَيَّ غَرَضًا تَرْمُونَ إِلَيْهِ كَالْغَرَضِ مِنَ الْجُلُودِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
[1958] رِوَايَةِ بن عُمَرَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا وَلِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ وَإِتْلَافٌ لِنَفْسِهِ وَتَضْيِيعٌ لِمَالِيَّتِهِ وَتَفْوِيتٌ لِذَكَاتِهِ إِنْ كَانَ مُذَكًّى وَلِمَنْفَعَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُذَكًّى قَوْلُهُ (نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ طَيْرًا وَالْمُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ وَالْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ يُقَالُ لَهُ طَائِرٌ وَالْجَمْعُ طَيْرٌ وَفِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ إِطْلَاقُ الطَّيْرِ عَلَى الْوَاحِدِ وَهَذَا الْحَدِيثُ جَارٍ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ قَوْلُهُ (وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نبلهم(13/108)
هُوَ بِهَمْزِ خَاطِئَةٍ أَيْ مَا لَمْ يُصِبِ الْمَرْمَى وَقَوْلُهُ خَاطِئَةٍ لُغَةٌ وَالْأَفْصَحُ مُخْطِئَةٌ يُقَالُ لِمَنْ قَصَدَ شَيْئًا فَأَصَابَ غَيْرَهُ غَلَطًا أَخْطَأَ فهو مخطىء وفى لغة قليلة خطأ فَهُوَ خَاطِئٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ جَاءَ عَلَى اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ حَكَاهَا أَبُو عُبَيْدٍ وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(كِتَابُ الْأَضَاحِي)
(بَابُ وَقْتِهَا)
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ فِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ أُضْحِيَةٌ وَإِضْحِيَةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَجَمْعُهَا أَضَاحِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا وَاللُّغَةُ الثَّالِثَةُ ضَحِيَّةٌ وَجَمْعُهَا ضَحَايَا وَالرَّابِعَةُ أَضْحَاةٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْجَمْعُ أَضْحَى كَأَرْطَاةٍ وَأَرْطَى وَبِهَا سُمِّيَ يَوْمُ الْأَضْحَى قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ سميت بذلك لأنها تفعل فى الأضحى وَهُوَ ارْتِفَاعُ النَّهَارِ وَفِي الْأَضْحَى لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ لُغَةُ قَيْسٍ وَالتَّأْنِيثُ لُغَةُ تَمِيمٍ قَوْلُهُ(13/109)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1960] (مَنْ كَانَ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلِ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ نُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ) وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى اسْمِ اللَّهِ قَالَ الْكُتَّابُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا قِيلَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَيَّنَ كَتْبُهُ بِالْأَلِفِ وَإِنَّمَا تُحْذَفُ الْأَلِفُ إِذَا كُتِبَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِكَمَالِهَا وَقَوْلُهُ قَبْلِ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ نُصَلِّيَ الْأَوَّلُ بِالْيَاءِ وَالثَّانِي بِالنُّونِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الْمُوسِرِ فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ هِيَ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِ إِنْ تَرَكَهَا بِلَا عُذْرٍ لَمْ يَأْثَمْ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَبُو بكر الصديق وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَبِلَالٌ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَعَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وبن الْمُنْذِرِ وَدَاوُدُ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ رَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُوسِرِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُوسِرِ إِلَّا الْحَاجَّ بِمِنًى وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ بِالْأَمْصَارِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُوجِبُهَا عَلَى مُقِيمٍ يملك نصابا والله أعلم وَأَمَّا وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْبَحَهَا بَعْدَ صَلَاتِهِ مَعَ الْإِمَامِ وَحِينَئِذٍ تجْزِيهِ بِالْإِجْمَاعِ قَالَ بن المنذر وأجمعوا أنها لاتجوز قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بعد ذلك فقال الشافعى وداود وبن الْمُنْذِرِ وَآخَرُونَ يَدْخُلُ وَقْتُهَا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَمَضَى قَدْرُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَخُطْبَتَيْنِ فَإِنْ ذَبَحَ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ أَجْزَأَهُ سَوَاءٌ صَلَّى الْإِمَامُ أَمْ لَا وَسَوَاءٌ صَلَّى الضُّحَى أَمْ لَا وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى وَالْبَوَادِي وَالْمُسَافِرِينَ وَسَوَاءٌ ذَبَحَ الْإِمَامُ أُضْحِيَّتَهُ أَمْ لَا وَقَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَدْخُلُ وَقْتُهَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى وَالْبَوَادِي إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي وَلَا يَدْخُلُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ وَيَخْطُبَ فَإِنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهَا إِلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَخُطْبَتِهِ وَذَبْحِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ لَا يَجُوزُ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَيَجُوزُ بَعْدَهَا قَبْلَ ذَبْحِ الْإِمَامِ وَسَوَاءٌ عِنْدَهُ أَهْلُ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَنَحْوُهُ عن الحسن(13/110)
والأوزاعى واسحق بْنِ رَاهَوَيْهِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَا يَجُوزُ بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَبْلَ خُطْبَتِهِ وَفِي أَثْنَائِهَا وَقَالَ رَبِيعَةُ فِيمَنْ لَا إِمَامَ لَهُ إِنْ ذَبَحَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَا يُجْزِيهِ وَبَعْدَ طُلُوعِهَا يُجْزِيهِ وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجُوزُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهُ وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب وجبير بن مطعم وبن عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الْأَسَدِيُّ فَقِيهُ أَهْلِ الشَّامِ وَمَكْحُولٌ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ تَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ وَيَوْمَيْنِ بَعْدَهُ وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وعلى وبن عُمَرَ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ تَجُوزُ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ يَوْمَ النَّحْرِ خَاصَّةً وَلِأَهْلِ الْقُرَى يَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لَا تَجُوزُ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ خَاصَّةً وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا تَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذِي الْحِجَّةِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّضْحِيَةِ فِي لَيَالِي أَيَّامِ الذَّبْحِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجُوزُ لَيْلًا مَعَ الْكَرَاهَةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ لَا تُجْزِيهِ فِي اللَّيْلِ بَلْ تَكُونُ شَاةَ لَحْمٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ) هُوَ بِمَعْنَى رِوَايَةِ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ أَيْ قَائِلًا بِاسْمِ اللَّهِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَاهُ وَقَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ أربعة أوجه أحدها أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَلْيَذْبَحْ لِلَّهِ وَالْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ وَالثَّانِي مَعْنَاهُ فَلْيَذْبَحْ بِسُنَّةِ اللَّهِ وَالثَّالِثُ بتسمية الله(13/111)
عَلَى ذَبِيحَتِهِ إِظْهَارًا لِلْإِسْلَامِ وَمُخَالَفَةً لِمَنْ يَذْبَحُ لِغَيْرِهِ وَقَمْعًا لِلشَّيْطَانِ وَالرَّابِعُ تَبَرُّكًا بِاسْمِهِ وَتَيَمُّنًا بِذِكْرِهِ كَمَا يُقَالُ سِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَسِرْ بِاسْمِ اللَّهِ وَكَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُقَالَ افْعَلْ كَذَا عَلَى اسْمِ اللَّهِ قَالَ لأن اسمه سبحانه على كل شئ قال القاضي هذا ليس بشئ قَالَ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ قَوْلُهُ (شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ أَضْحًى ثُمَّ خَطَبَ) قَوْلُهُ أَضْحًى مَصْرُوفٌ وَفِي هَذَا أَنَّ الْخُطْبَةَ لِلْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَهُوَ إِجْمَاعُ النَّاسِ الْيَوْمَ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ ثُمَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ
[1961] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ) مَعْنَاهُ أَيْ لَيْسَتْ ضَحِيَّةً وَلَا ثَوَابَ فِيهَا بَلْ هِيَ لَحْمٌ لَكَ تَنْتَفِعُ بِهِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمْتَهُ لِأَهْلِكَ قَوْلُهُ (إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً مِنَ الْمَعْزِ فَقَالَ ضَحِّ بِهَا وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِكَ) وَفِي رِوَايَةٍ وَلَا تَجْزِي جذعة عن أحد بعدك أما قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَجْزِي فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ هَكَذَا الرِّوَايَةُ فِيهِ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ وَالْكُتُبِ وَمَعْنَاهُ لَا تَكْفِي مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي(13/112)
والد عن ولده وَفِيهِ أَنَّ جَذَعَةَ الْمَعْزِ لَا تَجْزِي فِي الأضحية وهذا متفق عليه قوله (يارسول اللَّهِ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ اللَّحْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ) قَالَ الْقَاضِي كَذَا رَوَيْنَاهُ فِي مُسْلِمٍ مَكْرُوهٌ بِالْكَافِ وَالْهَاءِ مِنْ طَرِيقِ السِّنْجَرِيِّ وَالْفَارِسِيِّ وَكَذَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ رَوَيْنَاهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعُذْرِيِّ مَقْرُومٌ بِالْقَافِ وَالْمِيمِ قَالَ وَصَوَّبَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَقَالَ مَعْنَاهُ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ يُقَالُ قَرِمْتُ إِلَى اللَّحْمِ وَقَرِمْتُهُ إِذَا اشْتَهَيْتُهُ قَالَ وَهِيَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ عَرَفْتُ أَنَّهُ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ فَتَعَجَّلْتُ وَأَكَلْتُ وَأَطْعَمْتُ أَهْلِي وَجِيرَانِي وَكَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ الْقَاضِي وَأَمَّا رِوَايَةُ مَكْرُوهٌ فَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا صَوَابُهُ اللَّحَمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ تَرْكُ الذَّبْحِ وَالتَّضْحِيَةِ وَبَقَاءُ أَهْلِهِ فِيهِ بِلَا لَحْمٍ حَتَّى يَشْتَهُوهُ مَكْرُوهٌ وَاللَّحَمُ بِفَتْحِ الْحَاءِ اشْتِهَاءُ اللَّحْمِ قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ لِيَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ مَعْنَاهُ ذَبْحُ مَا لَا يَجْزِي فِي الْأُضْحِيَّةِ مِمَّا هُوَ لَحْمٌ مَكْرُوهٌ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ هَذَا آخِرُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيُّ مَعْنَاهُ هَذَا يَوْمٌ طَلَبُ اللَّحَمِ فِيهِ مَكْرُوهٌ شَاقٌّ وَهَذَا حَسَنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عِنْدِي عَنَاقَ لَبَنٍ) الْعَنَاقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهِيَ الْأُنْثَى مِنَ الْمَعْزِ إِذَا قَوِيَتْ مَا لَمْ تَسْتَكْمِلْ سَنَةً وَجَمْعُهَا أَعْنُقٌ وَعُنُوقٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَنَاقَ لَبَنٍ فَمَعْنَاهُ صَغِيرَةٌ قَرِيبَةٌ مِمَّا تَرْضَعُ قَوْلُهُ (عِنْدِي عَنَاقَ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ) أَيْ أَطْيَبُ لَحْمًا وَأَنْفَعُ لِسِمَنِهَا وَنَفَاسَتِهَا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الضَّحَايَا طِيبُ اللَّحْمِ لَا كَثْرَتُهُ فَشَاةٌ نَفِيسَةٌ أَفْضَلُ مِنْ شَاتَيْنِ غَيْرِ سَمِينَتَيْنِ بِقِيمَتِهَا وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَقِّ وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّ تَكْثِيرَ الْعَدَدِ فِي الْعَقِّ مَقْصُودٌ فَهُوَ الْأَفْضَلُ بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ) مَعْنَاهُ أَنَّكَ ذَبَحْتَ صُورَةً نَسِيكَتَيْنِ وَهُمَا هَذِهِ وَالَّتِي ذَبَحَهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ أَفْضَلُ لِأَنَّ هَذِهِ حَصَلَتْ بِهَا التَّضْحِيَةُ وَالْأُولَى وَقَعَتْ شَاةَ لَحْمٍ لَكِنْ لَهُ فِيهَا ثَوَابٌ لَا بِسَبَبِ التَّضْحِيَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تَقَعْ أُضْحِيَّةً بَلْ لِكَوْنِهِ(13/113)
قَصَدَ بِهَا الْخَيْرَ وَأَخْرَجَهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَلِهَذَا دَخَلَهُمَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فَقَالَ هَذِهِ خَيْرُ النَّسِيكَتَيْنِ فَإِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تَتَضَمَّنُ أَنَّ فِي الْأُولَى خَيْرًا أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا تَجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) مَعْنَاهُ جَذَعَةُ الْمَعْزِ وَهُوَ مُقْتَضَى سِيَاقِ الْكَلَامِ وَإِلَّا فَجَذَعَةُ الضَّأْنِ تَجْزِي قَوْلُهُ (عِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ) الْمُسِنَّةُ هِيَ الثَّنِيَّةُ وَهِيَ أَكْبَرُ مِنَ الْجَذَعَةِ بِسَنَةٍ فَكَانَتْ هَذِهِ(13/114)
الْجَذَعَةُ أَجْوَدَ لِطِيبِ لَحْمِهَا وَسِمَنِهَا
[1962] قَوْلُهُ (وَذَكَرَ هَنَةً مِنْ جِيرَانِهِ) أَيْ حَاجَةً قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الَّذِي رَخَّصَ لَهُ فِي جَذَعَةِ الْمَعْزِ (لَا أَدْرِي أَبَلَغَتْ رُخْصَتُهُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لَا) هَذَا الشَّكُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ السَّابِقِ بِأَنَّهَا لَا تَبْلُغُ غَيْرَهُ وَلَا تَجْزِي أَحَدًا بَعْدَهُ قَوْلُهُ (وَانْكَفَأَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَبْشَيْنِ فَذَبَحَهُمَا) انْكَفَأَ مَهْمُوزٌ أَيْ مَالَ وَانْعَطَفَ وَفِيهِ إِجْزَاءُ الذَّكَرِ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَذْبَحَهَا بِنَفْسِهِ وَهُمَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا وَفِيهِ جَوَازُ التَّضْحِيَةِ بِحَيَوَانَيْنِ قَوْلُهُ (فَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا أَوْ قَالَ فَتَجَزَّعُوهَا) هُمَا بِمَعْنًى وهذا شك من الراوي فى أحد اللَّفْظَتَيْنِ وَقَوْلُهُ غُنَيْمَةٌ بِضَمِّ الْغَيْنِ تَصْغِيرُ الْغَنَمِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيِّ (ثُمَّ خَطَبَ فَأَمَرَ مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنْ يُعِيدَ ذِبْحًا) أَمَّا ذِبْحًا فَاتَّفَقُوا عَلَى ضَبْطِهِ بِكَسْرِ الذَّالِ أَيْ حَيَوَانًا يُذْبَحُ كقول الله تعالى وفديناه بذبح وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنْ يُعِيدَ فَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالْيَاءِ مِنَ الْإِعَادَةِ(13/116)
وَفِي كَثِيرٍ مِنْهَا أَنْ يُعِدَّ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَلَكِنْ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ الْإِعْدَادِ وَهُوَ التَّهْيِئَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب سِنِّ الْأُضْحِيَّةِ)
[1963] قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم (لا تذبحوا إلامسنة إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُسِنَّةُ هِيَ الثَّنِيَّةُ مِنْ كل شئ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَمَا فَوْقَهَا وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ يُجْزِي الْجَذَعُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَالضَّأْنِ وَحُكِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ وَأَمَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً يُجْزِي سواء وجد غيره أم لاوحكوا عن بن عمر والزهرى أنهما قالا لايجزى وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُمَا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْأَفْضَلِ وتقديره يستحب لكم أن لاتذبحوا إِلَّا مُسِنَّةً فَإِنْ عَجَزْتُمْ فَجَذَعَةَ ضَأْنٍ وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَنْعِ جَذَعَةِ الضَّأْنِ وَأَنَّهَا لَا تُجْزِي بِحَالٍ وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْجُمْهُورَ يُجَوِّزُونَ الْجَذَعَ مِنَ الضأن مع وجود غيره وعدمه وبن عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ يَمْنَعَانِهِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَعَدَمِهِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِحْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُجْزِي الضَّحِيَّةُ بِغَيْرِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إلا ما حكاه بن الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِبَقَرَةِ الْوَحْشِ عَنْ سَبْعَةٍ وَبِالظَّبْيِ عَنْ وَاحِدٍ وَبِهِ قَالَ(13/117)
دَاوُدُ فِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ مَا لَهُ سَنَةٌ تَامَّةٌ هَذَا هوالأصح عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدِ أَهْلِ اللُّغَةِ وغيرهم وقيل ماله سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقِيلَ سَبْعَةٌ وَقِيلَ ثَمَانِيَةٌ وَقِيلَ بن عَشْرَةٍ حَكَاهُ الْقَاضِي وَهُوَ غَرِيبٌ وَقِيلَ إِنْ كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنْ بَيْنِ شَابَّيْنِ فَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ هَرِمَيْنِ فَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَنْوَاعِ الْبَدَنَةُ ثُمَّ الْبَقَرَةُ ثُمَّ الضَّأْنُ ثُمَّ الْمَعْزُ وَقَالَ مَالِكٌ الْغَنَمُ أَفْضَلُ لِأَنَّهَا أَطْيَبُ لَحْمًا حُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْبَدَنَةَ تُجْزِي عَنْ سَبْعَةٍ وَكَذَا الْبَقَرَةُ وأما الشاة فلاتجزى إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ بِالِاتِّفَاقِ فَدَلَّ عَلَى تَفْضِيلِ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِيمَا بَعْدَ الْغَنَمِ فَقِيلَ الْإِبِلُ أَفْضَلُ مِنَ الْبَقَرَةِ وَقِيلَ البقرة أفضل من الابل وهوالأشهر عِنْدَهُمْ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ سَمِينِهَا وَطَيِّبِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي تَسْمِينِهَا فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ اسْتِحْبَابُهُ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ كُنَّا نُسَمِّنُ الْأُضْحِيَّةَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَرَاهَةَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَشَبَّهَ بِالْيَهُودِ وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ
[1964] قَوْلُهُ (فَأَمَرَهُمْ أَلَّا يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَالِكٌ فِي أَنَّهُ لَا يُجْزِي الذَّبْحُ إِلَّا بَعْدَ ذَبْحِ الْإِمَامِ كَمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَالْجُمْهُورُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ زَجْرُهُمْ عَنِ التَّعْجِيلِ الَّذِي قَدْ يُؤَدِّي إِلَى فِعْلِهَا قَبْلَ الْوَقْتِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَاقِي الْأَحَادِيثِ التَّقْيِيدُ بِالصَّلَاةِ وَأَنَّ مَنْ ضَحَّى بَعْدَهَا أَجْزَأَهُ وَمَنْ لَا فَلَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ
[1965] أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى أَصْحَابِهِ ضَحَايَا فَبَقِيَ عَتُودٌ فَقَالَ ضَحِّ بِهِ أَنْتَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْعَتُودُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ خَاصَّةً وَهُوَ مَا رَعَى وَقَوِيَ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ هُوَ مَا بَلَغَ سَنَةً وَجَمْعُهُ أَعْتِدَةٌ وعدان(13/118)
بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الدَّالِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ كَانَتْ هَذِهِ رُخْصَةً لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ كَمَا كَانَ مِثْلُهَا رُخْصَةً لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عازب السابق قال البيهقى وقد رَوَيْنَا ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ثُمَّ رَوَى ذَلِكَ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَمًا أَقْسِمُهَا ضَحَايَا بَيْنَ أَصْحَابِي فَبَقِيَ عَتُودٌ مِنْهَا فَقَالَ ضَحِّ بِهَا أنت ولارخصة لِأَحَدٍ فِيهَا بَعْدَكَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَعَلَى هَذَا يحمل أيضا مارويناه عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ غَنَمًا فَأَعْطَانِي عَتُودًا جَذَعًا فَقَالَ ضَحِّ بِهِ فَقُلْتُ إِنَّهُ جَذَعٌ مِنَ الْمَعْزِ أُضَحِّي بِهِ قَالَ نَعَمْ ضَحِّ بِهِ فَضَحَّيْتُ هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جيد حسن وليس فيه رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنَ الْمَعْزِ وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ عَتُودٌ وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مُتَعَيَّنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ بَعْجَةَ) هُوَ بالباء الموحدة مفتوحة
(باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل والتسمية والتكبير)
[1966] قَوْلُهُ (ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ وَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ ووضع رجله(13/119)
على صفاحهما) قال بن الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ الْأَمْلَحُ هُوَ الْأَبْيَضُ الْخَالِصُ الْبَيَاضِ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ هُوَ الْأَبْيَضُ وَيَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ السواد وقال أبوحاتم هُوَ الَّذِي يُخَالِطُ بَيَاضَهُ حُمْرَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هو الأسوديعلوه حُمْرَةٌ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ هُوَ الَّذِي فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَالْبَيَاضُ أَكْثَرُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هُوَ الْأَبْيَضُ الَّذِي فِي خَلَلِ صُوفِهِ طَبَقَاتٌ سُودٌ وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ هُوَ الْمُتَغَيِّرُ الشَّعْرِ بِسَوَادٍ وَبَيَاضٍ وَقَوْلُهُ أَقْرَنَيْنِ أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَرْنَانِ حَسَنَانِ قَالَ الْعُلَمَاءُ فَيُسْتَحَبُّ الْأَقْرَنُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ تَضْحِيَةِ الْإِنْسَانِ بِعَدَدٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَاسْتِحْبَابُ الْأَقْرَنِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّضْحِيَةِ بِالْأَجْمِ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ لَهُ قَرْنَانِ وَاخْتَلَفُوا فِي مكسورة القرن فجوزه الشافعى وأبو حنيفة والجمهور سواءكان يدمى أم لاوكرهه مَالِكٌ إِذَا كَانَ يُدْمِي وَجَعَلَهُ عَيْبًا وَأَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ اسْتِحْسَانِهَا وَاخْتِيَارِ أَكْمَلِهَا وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعُيُوبَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ وهو المرض والعجف والعور والعرج البين لاتجزى التضحية بها وكذا ماكان فِي مَعْنَاهَا أَوْ أَقْبَحَ كَالْعَمَى وَقَطْعِ الرِّجْلِ وَشِبْهِهِ وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ هَذَا لَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم فى صحيحهما ولكنه صحيح رواه أبوداود وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَحَسَنَةٍ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مَا أَحْسَنَهُ مِنْ حَدِيثٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ أَمْلَحَيْنِ فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ اسْتِحْسَانِ لَوْنِ الْأُضْحِيَّةِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ قَالَ أَصْحَابُنَا أَفْضَلُهَا الْبَيْضَاءُ ثُمَّ الصَّفْرَاءُ ثُمَّ الْغَبْرَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا يَصْفُو بَيَاضُهَا ثُمَّ الْبَلْقَاءُ وَهِيَ الَّتِي بَعْضُهَا أَبْيَضُ وَبَعْضُهَا أَسْوَدُ ثم السوداء وأما قوله فى الحديث الآخر يطأفى سَوَادٍ وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ فمعناه أنقوائمه وَبَطْنَهُ وَمَا حَوْلَ عَيْنَيْهِ أَسْوَدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يتولى الانسان ذبح أضحيته بنفسه ولايوكل فى ذبحها الالعذر وَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْهَدَ ذَبْحَهَا وَإِنِ اسْتَنَابَ فيها مسلما جاز بلاخلاف وَإِنِ اسْتَنَابَ كِتَابِيًّا كُرِهَ كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ وَأَجْزَأَهُ وَوَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ الْمُوَكِّلِ(13/120)
هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الامالكا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْهَا ويجوز أن يستنيب صبيا أوامرأة حَائِضًا لَكِنْ يُكْرَهُ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ وَفِي كَرَاهَةِ تَوْكِيلِ الْحَائِضِ وَجْهَانِ قَالَ أَصْحَابُنَا الْحَائِضُ أَوْلَى بِالِاسْتِنَابَةِ مِنَ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيُّ أَوْلَى مِنَ الْكِتَابِيِّ قَالَ أَصْحَابُنَا وَالْأَفْضَلُ لِمَنْ وَكَّلَ أَنْ يُوَكِّلَ مُسْلِمًا فَقِيهًا بِبَابِ الذَّبَائِحِ وَالضَّحَايَا لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِشُرُوطِهَا وَسُنَنِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَسَمَّى) فِيهِ إِثْبَاتُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الضَّحِيَّةِ وَسَائِرِ الذَّبَائِحِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنْ هَلْ هُوَ شَرْطٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ إِيضَاحُهُ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ قَوْلُهُ (وَكَبَّرَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّكْبِيرِ مَعَ التَّسْمِيَةِ فَيَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ قَوْلُهُ (وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا) أَيْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ وَهِيَ جَانِبُهُ وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِيَكُونَ أَثْبَتَ له وأمكن لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعهمن إِكْمَالِ الذَّبْحِ أَوْ تُؤْذِيهِ وَهَذَا أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ بِالنَّهْيِ عَنْ هَذَا
[1967] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَلُمِّي الْمُدْيَةَ) أَيْ هَاتِيهَا وَهِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا وَهِيَ السِّكِّينُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ) هُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ وبالذال المعجمة(13/121)
أَيْ حَدِّدِيهَا وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي الْأَمْرِ بِإِحْسَانِ الْقِتْلَةِ وَالذَّبْحِ وَإِحْدَادِ الشَّفْرَةِ قَوْلُهُ (وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ ضَحَّى بِهِ) هَذَا الْكَلَامُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتَقْدِيرُهُ فَأَضْجَعَهُ وَأَخَذَ فِي ذَبْحِهِ قَائِلًا بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ مُضَحِّيًا به ولفظه ثمهنا متأولة على ماذكرته بِلَا شَكٍّ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِضْجَاعِ الْغَنَمِ فِي الذبح وأنها لاتذبح قائمة ولاباركة بَلْ مُضْجَعَةً لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهَا وَبِهَذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ وَعَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ إِضْجَاعَهَا يَكُونُ عَلَى جَانِبِهَا الْأَيْسَرِ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عَلَى الذَّابِحِ فِي أَخْذِ السِّكِّينِ بِالْيَمِينِ وَإِمْسَاكِ رَأْسِهَا بِالْيَسَارِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ) فِيهِ دَلِيلٌ لِاسْتِحْبَابِ قَوْلِ الْمُضَحِّي حَالَ الذَّبْحِ مَعَ التَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي قَالَ أَصْحَابُنَا وَيُسْتَحَبُّ مَعَهُ اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ تَقَبَّلْ مِنِّي فَهَذَا مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَسَنِ وَجَمَاعَةٍ وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَكَرِهَ مَالِكٌ اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ وَقَالَ هي بدعةواستدل بِهَذَا مَنْ جَوَّزَ تَضْحِيَةَ الرَّجُلِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَاشْتِرَاكَهُمْ مَعَهُ فِي الثَّوَابِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَزَعَمَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ أومخصوص وَغَلَّطَهُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ النَّسْخَ وَالتَّخْصِيصَ لايثبتان بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى
(بَاب جَوَازِ الذَّبْحِ بِكُلِّ مَا أنهر الدم الاالسن والظفر وسائرالعظام)
[1968] قوله (قلت يارسول اللَّهِ إِنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مدى قال أعجل أوأرن) أَمَّا أَعْجِلْ فَهُوَ بِكَسْرِ(13/122)
الْجِيمِ وَأَمَّا أَرِنْ فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَرُوِيَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وَرُوِيَ أَرْنِي بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَزِيَادَةِ يَاءٍ وَكَذَا وَقَعَ هُنَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ صوابه أرن على وزن أعجل وهو بمعناه وهومن النشاط والخفة أى أعجل ذبحها لئلاتموت خَنْقًا قَالَ وَقَدْ يَكُونُ أَرِنْ عَلَى وَزْنِ أَطِعْ أَيْ أَهْلِكْهَا ذَبْحًا مِنْ أَرَانَ الْقَوْمُ إِذَا هَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ قَالَ وَيَكُونُ أَرْنِ عَلَى وزن أعط بمعنى أدم الحز ولاتفتر من قولهم رنوت اذاأدمت النَّظَرَ وَفِي الصَّحِيحِ أَرْنِ بِمَعْنَى أَعْجِلْ وَأَنَّ هَذَا شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي هَلْ قَالَ أَرْنِ أَوْ قَالَ أَعْجِلْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَدْ رَدَّ بَعْضُهُمْ عَلَى الْخَطَّابِيِّ قَوْلَهُ إِنَّهُ مِنْ أَرَانَ الْقَوْمَ إِذَا هَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ لِأَنَّ هَذَا لايتعدى وَالْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ مُتَعَدٍّ عَلَى مَا فَسَّرَهُ وَرُدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ إِنَّهُ أَأْرَنَ إِذْ لَا تَجْتَمِعُ هَمْزَتَانِ إِحْدَاهُمَا سَاكِنَةٌ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي هَذَا إِيرَنْ بِالْيَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى أَرْنِي بِالْيَاءِ سَيَلَانُ الدَّمِ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ صَوَابُ اللفظة بالهمزة والمشهور بلاهمز وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ) أَمَّا السِّنُّ وَالظُّفُرُ فَمَنْصُوبَانِ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِلَيْسَ وَأَمَّا أَنْهَرَهُ فَمَعْنَاهُ أَسَالَهُ وَصَبَّهُ بِكَثْرَةٍ وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِجَرْيِ الْمَاءِ فِي النَّهَرِ يُقَالُ نَهَرَ الدَّمَ وَأَنْهَرْتُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ كُلِّهَا وَفِيهِ مَحْذُوفٌ أَيْ وَذُكِرَ اسم الله عليه أومعه وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الذَّكَاةِ مَا يقطع ويجرى الدم ولايكفى رضها ودمغها بما لايجرى الدَّمَ قَالَ الْقَاضِي وَذَكَرَ الْخُشْنِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا أَنْهَزَ بِالزَّايِ وَالنَّهْزُ بِمَعْنَى الدَّفْعِ قَالَ وَهَذَا غَرِيبٌ وَالْمَشْهُورُ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَذَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَالْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِ الذَّبْحِ وَإِنْهَارِ الدَّمِ تَمَيُّزُ حَلَالِ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ مِنْ حَرَامِهِمَا وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ لِبَقَاءِ دَمِهَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِجَوَازِ الذَّبْحِ بِكُلِّ مُحَدَّدٍ يَقْطَعُ إِلَّا الظُّفُرَ وَالسِّنَّ وَسَائِرَ الْعِظَامِ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ السَّيْفُ وَالسِّكِّينُ وَالسِّنَانُ وَالْحَجَرُ وَالْخَشَبُ وَالزُّجَاجُ وَالْقَصَبُ وَالْخَزَفُ وَالنُّحَاسُ وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ الْمُحَدَّدَةِ فَكُلُّهَا تَحْصُلُ بِهَا الذَّكَاةُ الاالسن وَالظُّفُرَ وَالْعِظَامَ كُلَّهَا أَمَّا الظُّفْرُ فَيَدْخُلُ فِيهِ ظُفْرُ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ الْحَيَوَانَاتِ وَسَوَاءٌ المتصل والمنفصل الطاهر والنجس فكله لاتجوز الذَّكَاةُ بِهِ لِلْحَدِيثِ وَأَمَّا السِّنُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ سِنُّ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ الطَّاهِرُ وَالنَّجِسُ وَالْمُتَّصِلُ وَالْمُنْفَصِلُ وَيَلْحَقُ بِهِ سَائِرُ الْعِظَامِ مِنْ كُلِّ الْحَيَوَانِ المتصل منها والمنفصل الطاهر والنجس فكله لاتجوز الذكاة(13/123)
بِشَيْءٍ مِنْهُ قَالَ أَصْحَابُنَا وَفَهِمْنَا الْعِظَامَ مِنْ بَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلَّةَ فِي قَوْلِهِ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ أَيْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ لِكَوْنِهِ عَظْمًا فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُ عَظْمًا فَكُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ العظم لاتجوز الذكاة بهوقد قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي كُلِّ مَا تَضَمَّنَهُ عَلَى مَا شَرَحْتُهُ وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وأبوثور وَدَاوُدُ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَبُو حنيفة وصاحباه لايجوز بِالسِّنِّ وَالْعَظْمِ الْمُتَّصِلَيْنِ وَيَجُوزُ بِالْمُنْفَصِلَيْنِ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَاتٌ أَشْهَرُهَا جَوَازُهُ بِالْعَظْمِ دُونَ السِّنِّ كَيْفَ كَانَا وَالثَّانِيَةُ كَمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ وَالثَّالِثَةُ كَأَبِي حَنِيفَةَ والرابعة حكاها عنه بن الْمُنْذِرِ يَجُوزُ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِالسِّنِّ وَالظُّفُرِ وعن بن جريح جَوَازُ الذَّكَاةِ بِعَظْمِ الْحِمَارِ دُونَ الْقِرْدِ وَهَذَا مع ماقبله بَاطِلَانِ مُنَابِذَانِ لِلسُّنَّةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَمُوَافِقُوهُمْ لاتحصل الذكاة إلابقطع الحلقوم والمرئ بكمالهما ويستحب قطع الودجين ولايشترط وهذا أصح الروايتين عن أحمد وقال بن الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ الحلقوم والمرئ وَالْوَدَجَيْنِ وَأَسَالَ الدَّمَ حَصَلَتِ الذَّكَاةُ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ بَعْضِ هَذَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُشْتَرَطُ قطع الحلقوم والمرئ وَيُسْتَحَبُّ الْوَدَجَانِ وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وبن الْمُنْذِرِ يُشْتَرَطُ الْجَمِيعُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَطَعَ ثَلَاثَةً مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَجْزَأَهُ وَقَالَ مالك يجب قطع الحلقوم والودجين ولايشترط المرئ وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنِ اللَّيْثِ أَيْضًا وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَكْفِي قَطْعُ الْوَدَجَيْنِ وَعَنْهُ اشْتِرَاطُ قَطْعِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا قَالَ اللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ وعن أبى يوسف ثلاث روايات إحدها كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِيَةُ إِنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَاثْنَيْنِ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ حَلَّتْ وَإِلَّا فَلَا وَالثَّالِثَةُ يشترط قطع الحلقوم والمرئ وَأَحَدِ الْوَدَجَيْنِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِنْ قَطَعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ أَكْثَرَهُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ فَكُلْ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذَبْحِ الْمَنْحُورِ وَنَحْرِ الْمَذْبُوحِ وَقَدْ جَوَّزَهُ الْعُلَمَاءُ كافة إلاداود فَمَنَعَهُمَا وَكَرِهَهُ مَالِكٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَفِي رِوَايَةٍ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِبَاحَةُ ذَبْحِ الْمَنْحُورِ دُونَ نَحْرِ الْمَذْبُوحِ وَأَجْمَعُوا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ وَفِي الْغَنَمِ الذَّبْحُ وَالْبَقَرُ كالغنم عندنا وعند الجمهور وقيل يتخيربين ذَبْحِهَا وَنَحْرِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ) مَعْنَاهُ فَلَا تَذْبَحُوا بِهِ فإنه يتنجس(13/124)
بِالدَّمِ وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْعِظَامِ لِئَلَّا تَنْجُسَ لِكَوْنِهَا زَادَ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَقَدْ نُهِيتُمْ عن التشبيه بِالْكُفَّارِ وَهَذَا شِعَارٌ لَهُمْ قَوْلُهُ (فَأَصَبْنَا نَهْبَ ابل وغنم فندمنها بعير فرماهرجل بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) أَمَّا النَّهْبُ بِفَتْحِ النُّونِ فَهُوَ الْمَنْهُوبُ وكان هذا النهب غنيمة وقوله (فندمنها بَعِيرٌ) أَيْ شَرَدَ وَهَرَبَ نَافِرًا وَالْأَوَابِدُ النُّفُورُ وَالتَّوَحُّشُ وَهُوَ جَمْعُ آبِدَةٍ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُخَفَّفَةِ وَيُقَالُ مِنْهُ أَبَدَتْ بِفَتْحِ الْبَاءِ تَأْبُدُ بِضَمِّهَا وَتَأْبِدُ بِكَسْرِهَا وَتَأَبَّدَتْ وَمَعْنَاهُ نَفَرَتْ مِنَ الْإِنْسِ وَتَوَحَّشَتْ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ(13/125)
دَلِيلٌ لِإِبَاحَةِ عَقْرِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَنِدُّ وَيُعْجَزُ عن ذبحه ونحره قال أصحابنا وغيرهم الحيوانالمأكول الذى لاتحل مَيْتَتُهُ ضَرْبَانِ مَقْدُورٌ عَلَى ذَبْحِهِ وَمُتَوَحِّشٌ فَالْمَقْدُورُ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَةِ كَمَا سَبَقَ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْإِنْسِيِّ وَالْوَحْشِيِّ إِذَا قَدَرَ عَلَى ذَبْحِهِ بِأَنْ أَمْسَكَ الصَّيْدَ أَوْ كَانَ مُتَأَنِّسًا فَلَا يَحِلُّ إِلَّا بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَةِ وأما المتوحش كالصيد فجميع أجزائه يذبح مادام مُتَوَحِّشًا فَإِذَا رَمَاهُ بِسَهْمٍ أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ جَارِحَةً فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْهُ وَمَاتَ بِهِ حَلَّ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا إِذَا تَوَحَّشَ إِنْسِيٌّ بِأَنَ نَدَّ بعير أو بقرة أو فرس أوشردت شَاةٌ أَوْ غَيْرُهَا فَهُوَ كَالصَّيْدِ فَيَحِلُّ بِالرَّمْيِ إِلَى غَيْرِ مَذْبَحِهِ وَبِإِرْسَالِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الجوارح عليه وكذا لوتردى بعير أوغيره فِي بِئْرٍ وَلَمْ يُمْكِنْ قَطْعُ حُلْقُومِهِ وَمَرِيئِهِ فهو كالبعير الناد فى حله بالرمى بلاخلاف عِنْدَنَا وَفِي حِلِّهِ بِإِرْسَالِ الْكَلْبِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لايحل قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّوَحُّشِ مُجَرَّدَ الْإِفْلَاتِ بل متى تيسر لحوقه بعد ولوباستعانة بمن يمسكه ونحوذلك فليس متوحشا ولايحل حينئذ الابالذبح فِي الْمَذْبَحِ وَإِنْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ فِي الْحَالِ جاز رميه ولايكلف الصَّبْرَ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ فِي فَخِذِهِ أَوْ خَاصِرَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ بَدَنِهِ فَيَحِلُّ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ عَقْرِ النَّادِّ كَمَا ذَكَرْنَا عَلِيُّ بْنُ أبى طالب وبن مسعود وبن عمر وبن عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حنيفة وأحمد وإسحاقوأبو ثور والمزنى وداود والجمهوروقال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَرَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ وَمَالِكٌ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِذَكَاةٍ فِي حَلْقِهِ كَغَيْرِهِ دَلِيلُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ رَافِعٍ الْمَذْكُورُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْحُلَيْفَةُ هَذِهِ مَكَانٌ مِنْ تِهَامَةَ بَيْنَ حَاذَّةَ وَذَاتِ عِرْقٍ وَلَيْسَتْ بِذِي الْحُلَيْفَةِ الَّتِي هِيَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُؤْتَلِفُ فِي أَسْمَاءِ الْأَمَاكِنِ لَكِنَّهُ قَالَ الْحُلَيْفَةُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ ذِي وَالَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَكَأَنَّهُ يُقَالُ بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ (فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلًا فَعَجِلَ الْقَوْمُ فَأَغْلَوْا بِهَا الْقُدُورَ فَأَمَرَ بِهَا فَكُفِئَتْ) مَعْنَى كُفِئَتْ أَيْ قُلِبَتْ وَأُرِيقَ مَا فِيهَا وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ انْتَهَوْا إِلَى دار الاسلام والمحل الذى لايجوز فِيهِ الْأَكْلُ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ فَإِنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إِنَّمَا يُبَاحُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَالَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ الْمَالِكِيُّ إِنَّمَا أُمِرُوا بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ عُقُوبَةً لَهُمْ لِاسْتِعْجَالِهِمْ فِي السَّيْرِ وَتَرْكِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(13/126)
فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ مُتَعَرِّضًا لِمَنْ يَقْصِدُهُ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ إِرَاقَةِ الْقُدُورِ إِنَّمَا هُوَ إِتْلَافٌ لِنَفْسِ الْمَرَقِ عُقُوبَةً لَهُمْ وَأَمَّا نَفْسُ اللَّحْمِ فَلَمْ يُتْلِفُوهُ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ جُمِعَ ورد إلى المغنم ولايظن أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِتْلَافِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ لِلْغَانِمِينَ وَقَدْ نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ مَعَ أَنَّ الْجِنَايَةَ بِطَبْخِهِ لَمْ تَقَعْ من جميع مستحقى الغنيمة اذمن جُمْلَتِهِمْ أَصْحَابُ الْخُمُسِ وَمِنَ الْغَانِمِينَ مَنْ لَمْ يَطْبُخْ فَإِنْ قِيلَ فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ حَمَلُوا اللَّحْمَ إِلَى الْمَغْنَمِ قُلْنَا وَلَمْ يُنْقَلْ أَيْضًا أَنَّهُمْ أَحْرَقُوهُ وَأَتْلَفُوهُ وَإِذَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَقْلٌ صَرِيحٌ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا بِخِلَافِ إِكْفَاءِ قُدُورِ لَحْمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَإِنَّهُ أَتْلَفَ مَا فِيهَا مِنْ لَحْمٍ وَمَرَقٍ لِأَنَّهَا صَارَتْ نَجِسَةً وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا إِنَّهَا رِجْسٌ أَوْ نَجَسٌ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ وَأَمَّا هَذِهِ اللُّحُومُ فكانت طاهرة منتفعا بها بلاشك فلايظن إِتْلَافُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنَ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ قِيمَةَ هَذِهِ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ فَكَانَتِ الْإِبِلُ نَفِيسَةً دُونَ الْغَنَمِ بِحَيْثُ كَانَتْ قِيمَةُ البعير عشر شياه ولايكون هذا مخالفالقاعدة الشَّرْعِ فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ فِي إِقَامَةِ الْبَعِيرِ مَقَامَ سَبْعِ شِيَاهٍ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي قِيمَةِ الشِّيَاهِ وَالْإِبِلِ الْمُعْتَدِلَةِ وَأَمَّا هَذِهِ القسمة فكانت قضية اتفق فيها ماذكرناه مِنْ نَفَاسَةِ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ وَفِيهِ أَنَّ قسمة الغنيمة لايشترط فِيهَا قِسْمَةُ كُلِّ نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ قَوْلُهُ (فَنُذَكِّي بِاللِّيطِ) هُوَ بِلَامٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَهِيَ قُشُورُ الْقَصَبِ وَلِيطُ كُلِّ شَيْءٍ قُشُورُهُ وَالْوَاحِدَةُ لِيطَةٌ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ أَفَنَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا وَهَذَا فَأَجَابَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَابٍ جَامِعٍ لِمَا سَأَلُوهُ وَلِغَيْرِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فقال كل ماأنهر الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ قَوْلُهُ (فَرَمَيْنَاهُ بِالنَّبْلِ حَتَّى وَهَصْنَاهُ) هُوَ بِهَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مُخَفَّفَةٍ ثُمَّ صَادٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ ثم نون(13/127)
وَمَعْنَاهُ رَمَيْنَاهُ رَمْيًا شَدِيدًا وَقِيلَ أَسْقَطْنَاهُ إِلَى الْأَرْضِ وَوَقَعَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ رَهَصْنَاهُ بِالرَّاءِ أَيْ حَبَسْنَاهُ
(بَاب بَيَانِ مَا كَانَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ فى الاسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء)
[1969] قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ) قَالَ الْقَاضِي لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ عِلَّةٌ فِي رَفْعِهِ لِأَنَّ الْحُفَّاظَ مِنْ أَصْحَابِ سُفْيَانَ لَمْ يَرْفَعُوهُ وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَرَوَاهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا مِمَّا وَهِمَ فِيهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَالْقَعْنَبِيَّ وَأَبَا خَيْثَمَةَ واسحاق وغيرهم رووه عن بن عُيَيْنَةَ مَوْقُوفًا قَالَ وَرَفْعُ الْحَدِيثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ سُفْيَانَ فَقَدْ رَفَعَهُ صَالِحٌ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَالزُّبَيْدِيُّ وَمَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ كُلُّهُمْ رَوَوْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَرْفُوعًا هَذَا كَلَامُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْمَتْنُ صَحِيحٌ بِكُلِّ حَالٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ(13/128)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاكُمْ أَنْ تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلاتأكلوا)
[1970] وفى حديث بن عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لايأكل أَحَدُكُمْ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَالَ سالم وكان بن عمر لايأكل لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَذَكَرَ
[1972] حَدِيثُ جَابِرٍ مِثْلَهُ فِي النَّهْيِ ثُمَّ قَالَ كُلُوا بَعْدُ وَادَّخِرُوا وَتَزَوَّدُوا
[1971] وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهُ دَفَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الْأَضْحَى فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّخِرُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَصَدَّقُوا ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ إِنَّمَا كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا وَذَكَرَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَسَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَثَوْبَانَ وَبُرَيْدَةَ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَخْذِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ قَوْمٌ يَحْرُمُ إِمْسَاكُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ وَالْأَكْلُ مِنْهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ وَإِنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ باق كما قاله على وبن عمر وقال جماهير العلماءيباح الْأَكْلُ وَالْإِمْسَاكُ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَالنَّهْيُ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الأحاديث المصرحة بالنسخ لاسيما حديث بريدة وهذامن نَسْخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ هُوَ نَسْخًا بَلْ كَانَ التَّحْرِيمُ لِعِلَّةٍ فَلَمَّا زَالَتْ زَالَ لِحَدِيثِ سَلَمَةَ وَعَائِشَةَ وَقِيلَ كَانَ النَّهْيُ الأول للكراهة لاللتحريم قَالَ هَؤُلَاءِ وَالْكَرَاهَةُ بَاقِيَةٌ إِلَى الْيَوْمِ وَلَكِنْ لَا يَحْرُمُ قَالُوا وَلَوْ وَقَعَ مِثْلُ تِلْكَ الْعِلَّةِ الْيَوْمَ فَدَفَّتْ دَافَّةٌ وَاسَاهُمُ النَّاسُ وَحَمَلُوا على هذا مذهب على وبن عُمَرَ وَالصَّحِيحُ نَسْخُ النَّهْيِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ لَمْ يبق تحريم ولاكراهة فيباح(13/129)
الْيَوْمَ الِادِّخَارُ فَوْقَ ثَلَاثٍ وَالْأَكْلُ إِلَى مَتَى شَاءَ لِصَرِيحِ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَعْدَ ثَلَاثٍ) قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الثَّلَاثِ مِنْ يَوْمِ ذَبْحِهَا وَيَحْتَمِلُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَبْحُهَا إِلَى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَالَ وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الدَّافَّةُ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ قَوْمٌ يَسِيرُونَ جَمِيعًا سَيْرًا خَفِيفًا وَدَفَّ يَدِفُّ بِكَسْرِ الدال ودافة الأعراب من يردمنهم الْمِصْرَ وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ وَرَدَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْأَعْرَابِ لِلْمُوَاسَاةِ قَوْلُهُ (دَفَّ أَبْيَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الْأَضْحَى) هِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا وَالضَّادُ سَاكِنَةٌ فِيهَا كُلِّهَا وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنَّمَا تُفْتَحُ إِذَا حُذِفَتِ الْهَاءُ فَيُقَالُ بِحَضَرِ فُلَانٍ قَوْلُهُ (إِنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ(13/130)
الْأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ وَيَجْمُلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ) قَوْلُهُ يَجْمُلُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مَعَ كَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا وَيُقَالُ بِضَمِّ الْيَاءِ مَعَ كَسْرِ الْمِيمِ يُقَالُ جَمَلْتُ الدُّهْنَ أُجْمِلُهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَأَجْمُلُهُ بِضَمِّهَا جَمْلًا وَأَجْمَلْتُهُ إِجْمَالًا أَيْ أَذَبْتُهُ وَهُوَ بِالْجِيمِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا) هَذَا تَصْرِيحٌ بِزَوَالِ النَّهْيِ عَنِ ادِّخَارِهَا فَوْقَ ثَلَاثٍ وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالصَّدَقَةِ مِنْهَا وَالْأَمْرُ بِالْأَكْلِ فَأَمَّا الصَّدَقَةُ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ أُضْحِيَّةَ تَطَوُّعٍ فَوَاجِبَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْهَا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ بِمُعْظَمِهَا قَالُوا وَأَدْنَى الْكَمَالِ أَنْ يَأْكُلَ الثُّلُثَ وَيَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ وَيُهْدِي الثُّلُثَ وَفِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ يَأْكُلُ النِّصْفَ وَيَتَصَدَّقُ بِالنِّصْفِ وَهَذَا الْخِلَافُ فِي قَدْرِ أَدْنَى الْكَمَالِ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَأَمَّا الْإِجْزَاءُ فيجزيه الصدقة بما يقع عليه الاسم كماذكرنا ولنا وجه أنه لاتجب الصدقة بشيء منها وأماالأكل منها فيستحب ولايجب هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلاما حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْأَكْلَ منها وهو قول أبى الطيب بن سلمة من أصحابنا حكاه عنه الماوردىلظاهر هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مَعَ قَوْلِهِ تعالى فكلوا منها وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْإِبَاحَةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ بَعْدَ الْحَظْرِ كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي الْأَمْرِ الْوَارِدِ بعد الحظر(13/131)
فَالْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ كما لوورد ابتداء وقال جِمَاعَةٌ مِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ (قُلْتُ لِعَطَاءٍ قَالَ جَابِرٌ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ نَعَمْ) ووقع فى البخارى لابدل قَوْلِهِ هُنَا نَعَمْ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَسِيَ فِي وقت فقال لاوذكر فى وقت فقال نعم
[1973] قوله (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نضرة وكذا ذكره أبوعلى الْغَسَّانِيُّ وَالْقَاضِي عَنْ نُسْخَةِ الْجُلُودِيِّ وَالْكِسَائِيِّ قَالَا وفى نسخة بن مَاهَانَ سَعِيدٌ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ مِنْ غَيْرِ ذكر قَتَادَةَ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَخَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ فى طريق بن أبى شيبة وبن الْمُثَنَّى (عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) هذا خلاف عادة مسلم فى الاقتصاروكان مُقْتَضَى عَادَتِهِ حَذْفَ أَبِي سَعِيدٍ فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى أَبِي نَضْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ ح ويتحول(13/132)
فَإِنَّ مَدَارَ الطَّرِيقَيْنِ عَلَى أَبِي نَضْرَةَ وَالْعِبَارَةُ فِيهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَكَانَ يَنْبَغِي تَرْكُهُ فِي الْأُولَى قَوْلُهُ (إِنَّ لَهُمْ عِيَالًا وَحَشَمًا وَخَدَمًا) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْحَشَمُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالشِّينِ هُمْ اللَّائِذُونَ بِالْإِنْسَانِ يَخْدُمُونَهُ وَيَقُومُونَ بِأُمُورِهِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ هُمْ خَدَمُ الرَّجُلِ وَمَنْ يَغْضَبُ لَهُ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَغْضَبُونَ لَهُ وَالْحِشْمَةُ الْغَضَبُ وَيُطْلَقُ عَلَى الِاسْتِحْيَاءِ أيضا ومنه قولهم فلان لايحتشم أَيْ لَا يَسْتَحِي وَيُقَالُ حَشَمْتُهُ وَأَحْشَمْتُهُ إِذَا أغضبته واذا أخجلته فاستحيى الْخَجْلَةَ وَكَأَنَّ الْحَشَمَ أَعَمُّ مِنَ الْخَدَمِ فَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1974] (إِنَّ ذَلِكَ عَامٌّ كَانَ النَّاسُ فِيهِ بِجَهْدٍ فَأَرَدْتُ أَنْ يفشوا فِيهِمْ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ يَفْشُوَ بِالْفَاءِ وَالشِّينِ أَيْ يَشِيعَ لَحْمُ الْأَضَاحِيِّ فِي النَّاسِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ الْمُحْتَاجُونَ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ يُعِينُوا بِالْعَيْنِ مِنَ الْإِعَانَةِ قَالَ الْقَاضِي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ أَشْبَهُ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ أَوْجَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْجَهْدُ هُنَا بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَالْفَاقَةُ
[1975] قَوْلُهُ (عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم(13/133)
ضَحِيَّتَهُ ثُمَّ قَالَ يَا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ هَذِهِ فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ هَذَا فِيهِ تَصْرِيحٌ بِجَوَازِ ادِّخَارِ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ فَوْقَ ثَلَاثٍ وَجَوَازُ التَّزَوُّدِ مِنْهُ وَفِيهِ أَنَّ الادخار والتزود فى الأسفار لايقدح فِي التَّوَكُّلِ وَلَا يُخْرِجُ صَاحِبَهُ عَنِ التَّوَكُّلِ وَفِيهِ أَنَّ الضَّحِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُسَافِرِ كَمَا هِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُقِيمِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا ضَحِيَّةَ عَلَى الْمُسَافِرِ وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله تعالى عنه وقال مالك وجماعة لاتشرع لِلْمُسَافِرِ بِمِنًى وَمَكَّةَ
[1977] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَنَهَيْتُكُمْ(13/134)
عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا وَلَا تَشْرَبُوا مسكرا) هذا الحديث مماصرح فِيهِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ جَمِيعًا قَالَ الْعُلَمَاءُ يُعْرَفُ نَسْخُ الْحَدِيثِ تَارَةً بِنَصٍّ كَهَذَا وَتَارَةً بِإِخْبَارِ الصَّحَابِيِّ كَكَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَتَارَةً بِالتَّارِيخِ إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ وَتَارَةً بِالْإِجْمَاعِ كَتَرْكِ قَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي المرة الرابعة والاجماع لاينسخ لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ نَاسِخً أَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ فَسَبَقَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَأَمَّا الِانْتِبَاذُ فِي الْأَسْقِيَةِ فَسَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَسَنُعِيدُهُ قَرِيبًا فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَذْكُرُ هُنَاكَ اخْتِلَافَ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَأْوِيلَ الْمُؤَوَّلِ مِنْهَا وَأَمَّا لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ فَذَكَرْنَا حُكْمَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب الْفَرَعِ والعتيرة)
[1976] قوله صلى الله عليه وسلم (لافرع ولاعتيرة) وَالْفَرَعُ أَوَّلُ النِّتَاجِ كَانَ يُنْتَجُ لَهُمْ فَيَذْبَحُونَهُ قال(13/135)
أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ الْفَرَعُ بِفَاءٍ ثُمَّ رَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَيُقَالُ فِيهِ الْفَرَعَةُ بالهاء والعتيرة بعين مهملة مفتوحة ثم تاءمثناة مِنْ فَوْقُ قَالُوا وَالْعَتِيرَةُ ذَبِيحَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَّلِ مِنْ رَجَبٍ وَيُسَمُّونَهَا الرَّجَبِيَّةُ أَيْضًا وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَفْسِيرِ الْعَتِيرَةِ بِهَذَا وَأَمَّا الْفَرْعُ فَقَدْ فَسَّرَهُ هُنَا بِأَنَّهُ أَوَّلُ النِّتَاجِ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَآخَرُونَ هو أول نتاج البهيمة كانوا يذبحونه ولايملكونه رَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِي الْأُمِّ وَكَثْرَةِ نَسْلِهَا وَهَكَذَا فَسَّرَهُ كَثِيرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ هُوَ أَوَّلُ النِّتَاجِ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِآلِهَتِهِمْ وَهِيَ طَوَاغِيتُهُمْ وَكَذَا جَاءَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَقِيلَ هُوَ أَوَّلُ النِّتَاجِ لِمَنْ بَلَغَتْ إِبِلُهُ مِائَةً يَذْبَحُونَهُ وَقَالَ شِمْرٌ قَالَ أَبُو مَالِكٍ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا بَلَغَتْ إِبِلُهُ مِائَةً قَدَّمَ بِكْرًا فَنَحَرَهُ لِصَنَمِهِ وَيُسَمُّونَهُ الْفَرَعَ وَقَدْ صَحَّ الْأَمْرُ بِالْعَتِيرَةِ وَالْفَرَعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَجَاءَتْ بِهِ أَحَادِيثُ مِنْهَا حَدِيثُ نُبَيْشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَادَى رَجُلٌ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ قَالَ اذْبَحُوا لله فى أى شهر كان وبروا لله وَأَطْعِمُوا قَالَ إِنَّا كُنَّا نُفْرِعُ فَرَعًا فِي الجاهلية فما تأمرنا فقال فى كل سائمة فرع تعدوه ما شيتك حَتَّى إِذَا اسْتَحْمَلَ ذَبَحْتَهُ فَتَصَدَّقْتَ بِلَحْمِهِ رَوَاهُ أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة قال بن الْمُنْذِرِ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ السَّائِمَةُ مِائَةٌ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفرعةمن كل خمسين واحدة وفى رواية من كل خمسين شاة شاة قال بن الْمُنْذِرِ حَدِيثُ عَائِشَةَ صَحِيحٌ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ الرَّاوِي أَرَاهُ عَنْ جَدِّهِ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْفَرَعِ قَالَ الْفَرَعُ حَقٌّ وَأَنْ تَتْرُكُوهُ حَتَّى يَكُونَ بكرا أو بن مخاض أو بن لبون فتعطيه أرملة أوتحمل عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفا إناؤك وَتُوَلِّهِ نَاقَتَكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرَعُ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ حِينَ يولد ولاشبع فيه ولهذا قال تذبحه فَيَلْزَقَ لَحْمُهُ بِوَبَرِهِ وَفِيهِ أَنَّ ذَهَابَ وَلَدِهَا يَدْفَعُ لَبَنَهَا وَلِهَذَا قَالَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكْفَأَ يَعْنِي إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَكَأَنَّكَ كَفَأْتَ إناءك وأرقته وأشاربه إلى ذهاب اللين وفيه أنه يُفْجِعَهَا بِوَلَدِهَا وَلِهَذَا قَالَ وَتُوَّلِهِ(13/136)
ناقتك فأشار بتركه حتى يكون بن مخاض وهو بن سَنَةٍ ثُمَّ يَذْهَبُ وَقَدْ طَابَ لَحْمُهُ وَاسْتَمْتَعَ بلبن أمه ولاتشق عَلَيْهَا مُفَارَقَتُهُ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْهَا هَذَا كَلَامُ أَبِي عُبَيْدٍ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ أَوْ قَالَ بِمِنًى وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْعَتِيرَةِ فَقَالَ مَنْ شَاءَ عَتَرَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ وَمَنْ شَاءَ فَرَّعَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ قال يارسول اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَذْبَحُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ذَبَائِحَ فِي رَجَبٍ فَنَأْكُلُ مِنْهَا وَنُطْعِمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابأس بِذَلِكَ وَعَنْ أَبِي رَمْلَةَ عَنْ مُخْنِفِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ كُنَّا وُقُوفًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ ياأيها النَّاسُ إِنَّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَّةً وَعَتِيرَةً هَلْ تَدْرِي مَا الْعَتِيرَةُ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى الرَّجَبِيَّةَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفُ الْمَخْرَجِ لأن أبارملة مَجْهُولٌ هَذَا مُخْتَصَرُ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْفَرَعُ شَيْءٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطْلُبُونَ بِهِ الْبَرَكَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَذْبَحُ بكر ناقته أوشاته فَلَا يَغْذُوهُ رَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِيمَا يَأْتِي بَعْدَهُ فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ فَرِّعُوا إِنْ شِئْتُمْ أَيِ اذْبَحُوا إِنْ شِئْتُمْ وَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا كَانُوا يَصْنَعُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَوْفًا أَنْ يُكْرَهَ فِي الْإِسْلَامِ فَأَعْلَمَهُمْ أنه لاكراهة عَلَيْهِمْ فِيهِ وَأَمَرَهُمُ اسْتِحْبَابًا أَنْ يُغْذُوَهُ ثُمَّ يُحْمَلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرَعُ حَقٌّ معناه ليس بباطل وهوكلام عَرَبِيٌّ خَرَجَ عَلَى جَوَابِ السَّائِلِ قَالَ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لافرع ولاعتيرة أى لافرع واجب ولاعتيرة وَاجِبَةٌ قَالَ وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ أَبَاحَ لَهُ الذَّبْحَ وَاخْتَارَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَرْمَلَةً أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي العتيرة اذبحوالله فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ أَيِ اذْبَحُوا إِنْ شِئْتُمْ وَاجْعَلُوا الذَّبْحَ لِلَّهِ فِي أَيِّ شَهْرٍ كان لاأنها فِي رَجَبٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ اسْتِحْبَابُ الْفَرَعِ والعتيرة وأجابوا عن حديث لافرع ولاعتيرة بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا جَوَابُ الشَّافِعِيِّ السَّابِقُ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْوُجُوبِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ ماكانوا يَذْبَحُونَ لِأَصْنَامِهِمْ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمَا لَيْسَا كَالْأُضْحِيَّةِ فِي الِاسْتِحْبَابِ أَوْ فِي ثَوَابِ إِرَاقَةِ الدَّمِ فَأَمَّا تفرقة اللحم على المساكين فبر وصدقة وقدنص الشَّافِعِيُّ فِي سُنَنِ حَرْمَلَةَ أَنَّهَا إِنْ تَيَسَّرَتْ كُلَّ شَهْرٍ كَانَ حَسَنًا هَذَا تَلْخِيصُ حُكْمِهَا فِي مَذْهَبِنَا وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَسْخِ الْأَمْرِ بِالْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ وَاللَّهُ أعلم(13/137)
(باب نهى من ذخل عليه عشر ذى الحجة وهومريد التَّضْحِيَةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ أَوْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا)
[1977] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحى فلايمس من شعره وبشره شيئا) وفى رواية فلايأخذن شعرا ولايقلمن ظُفُرًا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَرَبِيعَةُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُدُ وَبَعْضُ أصحاب الشافعى أنه يحرم عليه أخذ شئ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ فِي وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تنزيه وليس بحرام وقال أبو حنيفة لايكره وقال مالك فى رواية لايكره وَفِي رِوَايَةٍ يُكْرَهُ وَفِي رِوَايَةٍ يَحْرُمُ فِي التَّطَوُّعِ دُونَ الْوَاجِبِ وَاحْتَجَّ مَنْ حَرَّمَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْآخَرُونَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يقلده ويبعث به ولايحرم عَلَيْهِ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ الْبَعْثُ بِالْهَدْيِ أَكْثَرُ مِنْ إِرَادَةِ التَّضْحِيَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لايحرم ذَلِكَ وَحَمَلَ أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْ أَخْذِ الظُّفُرِ والشعر النهى عن إزالة الظفر بقلم أوكسر أَوْ غَيْرِهِ وَالْمَنْعُ(13/138)
مِنْ إِزَالَةِ الشَّعْرِ بِحَلْقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ أَوْ نَتْفٍ أَوْ إِحْرَاقٍ أَوْ أَخْذِهِ بِنَوْرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَوَاءُ شَعْرُ الْإِبْطِ وَالشَّارِبِ وَالْعَانَةِ وَالرَّأْسِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ شُعُورُ بَدَنِهِ قَالَ إبراهيم المروزى وغيره من أصحابناحكم أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كُلِّهَا حُكْمُ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ وَدَلِيلُهُ الرواية السابقة فلايمس مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا قَالَ أَصْحَابُنَا وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ أَنْ يَبْقَى كَامِلَ الْأَجْزَاءِ لِيُعْتِقَ مِنَ النَّارِ وَقِيلَ التَّشَبُّهُ بِالْمُحْرِمِ قَالَ أَصْحَابُنَا هذا غلط لأنه لايعتزل النساء ولايترك الطِّيبَ وَاللِّبَاسَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَتْرُكُهُ الْمُحْرِمُ قَوْلُهُ (عَنْ عُمَرَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) كَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عُمَرُ بِضَمِّ العين فى كل هذه الطرق والاطريق حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَلْوَانِيِّ فَفِيهَا عَمْرٌو بِفَتْحِ العين والاطريق أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ فَفِيهَا عَمْرًا أَوْ عُمَرَ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ الْوَجْهَانِ مَنْقُولَانِ فِي اسْمِهِ قَوْلُهُ (عَمَّارُ بْنُ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيُّ هُوَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَآخِرُهُ تَاءٌ تُكْتَبُ هَاءً قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ) هُوَ بِكَسْرِ الذَّالِ أَيْ حَيَوَانٌ يُرِيدُ ذَبْحَهُ فَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَحِمْلٍ بِمَعْنَى مَحْمُولٍ ومنه قوله تعالى(13/139)
وفديناه بذبح قَوْلُهُ (كُنَّا فِي الْحَمَّامِ قُبَيْلَ الْأَضْحَى فَأَطْلَى فيه أناس فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَمَّامِ إِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَكْرَهُ هَذَا وَيَنْهَى عَنْهُ فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ يَا بن أَخِي هَذَا حَدِيثٌ قَدْ نُسِيَ وَتُرِكَ حَدَّثَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ وَذَكَرَ حَدِيثَهَا السَّابِقَ) أَمَّا قَوْلُهُ فَأَطْلَى فِيهِ أُنَاسٌ فَمَعْنَاهُ أَزَالُوا شَعْرَ الْعَانَةِ بِالنَّوْرَةِ وَالْحَمَّامُ مُذَكَّرٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَمِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ وَقَوْلُهُ إِنَّ سَعِيدًا يَكْرَهُ هَذَا يَعْنِي يَكْرَهُ إِزَالَةَ الشَّعْرِ فِي عَشْرِ ذِي الحجة لمن يريد التضحية لاأنه يَكْرَهُ مُجَرَّدَ الْإِطْلَاءِ وَدَلِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ احْتِجَاجُهُ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْإِطْلَاءِ إِنَّمَا فِيهِ النَّهْيُ عَنْ إِزَالَةِ الشَّعْرِ وَقَدْ نقل بن عبد البر عن بن الْمُسَيِّبِ جَوَازَ الْإِطْلَاءِ فِي الْعَشْرِ بِالنَّوْرَةِ فَإِنْ صح هذا عنه فهومحمول على أنه أفتى به انسانا لايريد التَّضْحِيَةَ قَوْلُهُ (عَنْ عُمَرَ بْنِ مُسْلِمٍ الْجُنْدَعِيِّ) وَفِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ قَالَ اللَّيْثِيُّ الْجُنْدَعِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَبِفَتْحِ الدَّالِ وَضَمِّهَا وَجُنْدَعٌ بَطْنٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ وَسَبَقَ بَيَانُهُ أَوَّلَ الْكِتَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(13/140)
(بَاب تَحْرِيمِ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَعْنِ فَاعِلِهِ)
[1978] قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ) وفى رواية لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ أَمَّا لَعْنُ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ فَمِنَ الْكَبَائِرِ وَسَبَقَ ذَلِكَ مَشْرُوحًا وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَالْمُرَادُ بِمَنَارِ الْأَرْضِ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَامَاتُ حُدُودِهَا وَأَمَّا الْمُحْدِثُ بِكَسْرِ الدَّالِ فَهُوَ مَنْ يَأْتِي بِفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ وَسَبَقَ شَرْحُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ وَأَمَّا لذبح لِغَيْرِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَذْبَحَ بِاسْمِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَنْ ذَبَحَ لِلصَّنَمِ أَوِ الصليب أو لموسى أولعيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا أَوْ لِلْكَعْبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فكل هذا حرام ولاتحل هَذِهِ الذَّبِيحَةُ سَوَاءٌ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا فَإِنْ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ تَعْظِيمَ الْمَذْبُوحِ لَهُ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِبَادَةَ لَهُ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا فَإِنْ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ صَارَ بِالذَّبْحِ مُرْتَدًّا وَذَكَرَ الشَّيْخُ ابراهيم المروزى من أصحابنا أن مايذبح عِنْدَ اسْتِقْبَالِ السُّلْطَانِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ أَفْتَى أَهْلُ بُخَارَةَ بِتَحْرِيمِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الرَّافِعِيُّ هَذَا إِنَّمَا يَذْبَحُونَهُ اسْتِبْشَارًا بِقُدُومِهِ فَهُوَ كَذَبْحِ الْعَقِيقَةِ لِوِلَادَةِ الْمَوْلُودِ ومثل هذا لايوجب التَّحْرِيمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (إِنَّ عَلِيًّا غَضِبَ حِينَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسِرُّ إِلَيْكَ إِلَى آخِرِهِ فِيهِ إِبْطَالُ مَا تَزْعُمُهُ الرَّافِضَةُ وَالشِّيعَةُ وَالْإِمَامِيَّةُ مِنَ الْوَصِيَّةِ إِلَى عَلِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ(13/141)
مِنَ اخْتِرَاعَاتِهِمْ وَفِيهِ جَوَازُ كِتَابَةِ الْعِلْمِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ الْآنَ وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ قَوْلُهُ (مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ به الناس كافة الاما كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي) هَكَذَا تُسْتَعْمَلُ كَافَّةً حَالًا وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْمُصَنِّفِينَ مِنَ اسْتِعْمَالِهَا مُضَافَةً وَبِالتَّعْرِيفِ كَقَوْلِهِمْ هَذَا قَوْلُ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَمَذْهَبُ الْكَافَّةِ فَهُوَ خَطَأٌ مَعْدُودٌ فِي لَحْنِ الْعَوَامِّ وَتَحْرِيفِهِمْ وَقَوْلُهُ قِرَابُ سَيْفِي هُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ وِعَاءٌ مِنْ جِلْدٍ أَلْطَفُ مِنَ الْجِرَابِ يَدْخُلُ فِيهِ السَّيْفُ بِغِمْدِهِ وَمَا خَفَّ مِنَ الْآلَةِ وَاللَّهُ أعلم(13/142)
(كِتَاب الْأَشْرِبَةِ)
(بَاب تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَبَيَانِ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَمِنْ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُسْكِرُ)
[1979] قَوْلُهُ (أَصَبْتُ شَارِفًا) هِيَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْفَاءِ وَهِيَ النَّاقَةُ الْمُسِنَّةُ وَجَمْعُهَا شُرُفٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِهَا قَوْلُهُ (أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهَا إِذْخِرًا لِأَبِيعَهُ وَمَعِي صَائِغٌ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَأَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى وَلِيمَةِ فَاطِمَةَ) أَمَّا قَيْنُقَاعُ فَبِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَيَجُوزُ صَرْفُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْحَيِّ وَتَرْكُ صَرْفِهِ عَلَى إِرَادَةِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الطَّائِفَةِ وَفِيهِ اتِّخَاذُ الْوَلِيمَةِ لِلْعُرْسِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ وَمَنْ دُونَهُ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ فِي الْأَعْمَالِ وَالِاكْتِسَابِ بِالْيَهُودِيِّ وَفِيهِ جَوَازُ الِاحْتِشَاشِ لِلتَّكَسُّبِ وَبَيْعِهِ وَأَنَّهُ لاينقص الْمُرُوءَةَ وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الْوَقُودِ لِلصَّوَّاغِينَ وَمُعَامَلَتِهِمْ قَوْلُهُ (مَعَهُ قَيْنَةٌ تُغَنِّيهِ) الْقَيْنَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ الْجَارِيَةُ الْمُغَنِّيَةُ قَوْلُهُ (أَلَا يَا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ) الشُّرُفُ بِضَمِّ الشِّينِ وَالرَّاءِ وَتَسْكِينِ الرَّاءِ أَيْضًا كَمَا سَبَقَ جَمْعُ(13/143)
شَارِفٍ وَالنِّوَاءُ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَبِالْمَدِّ أى السمانجمع نَاوِيَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَهِيَ السَّمِينَةُ وَقَدْ نَوَتِ النَّاقَةُ تَنْوِي كَرَمَتْ تَرْمِي يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ إِذَا سَمِنَتْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي النِّوَاءِ أَنَّهَا بِكَسْرِ النُّونِ وَبِالْمَدِّ هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَيَقَعُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ النَّوَى بِالْيَاءِ وَهُوَ تَحْرِيفٌ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ رواه بن جَرِيرٍ ذَا الشَّرَفِ النَّوَى بِفَتْحِ الشِّينِ وَالرَّاءِ وَبِفَتْحِ النُّونِ مَقْصُورًا قَالَ وَفَسَّرَهُ بِالْبُعْدِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ قَالَ وَهُوَ غَلَطٌ فِي الرِّوَايَةِ وَالتَّفْسِيرِ وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ تَمَامُ هَذَا الشِّعْرِ ... أَلَا يَا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ ... وَهُنَّ مُعَقَّلَاتٌ بِالْفَنَاءِ ... ... ضَعِ السِّكِّينَ فِي اللَّبَّاتِ مِنْهَا ... وَضَرِّجْهُنَّ حَمْزَةُ بِالدِّمَاءِ ... وَعَجِّلْ مِنْ أَطَايِبِهَا لِشُرْبٍ ... قَدِيدًا مِنْ طَبِيخٍ أو شواء ...
قوله (فجب أسمنتهما) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى اجْتَبَّ وَفِي رِوَايَةِ لِلْبُخَارِيِّ أَجَبَّ وَهَذِهِ غَرِيبَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى قَطَعَ قَوْلُهُ (وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا) أَيْ شَقَّهَا وَهَذَا الْفِعْلُ الَّذِي جَرَى مِنْ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ شُرْبِهِ الْخَمْرَ وَقَطْعِ أَسْنِمَةِ النَّاقَتَيْنِ وَبَقْرِ خواصرهما وأكل لحمهما وغير ذلك لااثم عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ أَمَّا أَصْلُ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ فَكَانَ مُبَاحًا لِأَنَّهُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وأما ما قد يقوله بعض من لاتحصيل لَهُ إِنَّ السُّكْرَ لَمْ يَزَلْ مُحَرَّمًا فَبَاطِلٌ لاأصل له ولايعرف أَصْلًا وَأَمَّا بَاقِي الْأُمُورِ فَجَرَتْ مِنْهُ فِي حال عدم التكليف فلااثم عَلَيْهِ فِيهَا كَمَنْ شَرِبَ دَوَاءً لِحَاجَةٍ فَزَالَ بِهِ عَقْلُهُ أَوْ شَرِبَ شَيْئًا يَظُنُّهُ خَلًّا فَكَانَ خَمْرًا أَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ فَشَرِبَهَا وَسَكِرَ فَهُوَ فِي حَالِ السُّكْرِ غَيْرُ مكلف ولااثم عَلَيْهِ فِيمَا يَقَعُ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا غَرَامَةُ مَا أَتْلَفَهُ فَيَجِبُ فى ماله(13/144)
فَلَعَلَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَبْرَأَهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِقِيمَةِ مَا أَتْلَفَهُ أَوْ أَنَّهُ أَدَّاهُ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَّاهُ عَنْهُ لِحُرْمَتِهِ عِنْدَهُ وَكَمَالِ حَقِّهِ وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُ وَقَرَابَتِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ شَيْبَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرَّمَ حَمْزَةَ النَّاقَتَيْنِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَا أَتْلَفَهُ السَّكْرَانُ مِنَ الْأَمْوَالِ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ كالمجنون فان الضمان لايشترط فيه التكليف ولهذا أوجب اللهتعالى فِي كِتَابِهِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ وَأَمَّا هَذَا السَّنَامُ الْمَقْطُوعُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ نَحْرُهُمَا فَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ ما أبين منحى فَهُوَ مَيْتٌ وَفِيهِ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ السُّنَنِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ ذَكَّاهُمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الشِّعْرُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فَإِنْ كَانَ ذَكَّاهُمَا فَلَحْمُهُمَا حَلَالٌ باتفاق العلماء إلاما حكى عن عكرمة واسحاق وداود أنه لايحل ماذبحه سَارِقٌ أَوْ غَاصِبٌ أَوْ مُتَعَدٍّ وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ حِلُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَّاهُمَا وَثَبَتَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهُمَا فَهُوَ أَكْلٌ فِي حالة السكر المباح ولااثم فِيهِ كَمَا سَبَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَهْقِرُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ الْقَهْقَرَى الرُّجُوعُ إلى وراءووجهه اليك اذا ذهب عنك وقال أبو عمر وهو الاخصار فِي الرُّجُوعِ أَيِ الْإِسْرَاعُ فَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ خرج مسرعا والأول هو المشهور المعروف وَإِنَّمَا رَجَعَ الْقَهْقَرَى خَوْفًا مِنْ أَنْ يَبْدُوَ مِنْ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى(13/145)
عَنْهُ أَمْرٌ يَكْرَهُهُ لَوْ وَلَّاهُ ظَهْرَهُ لِكَوْنِهِ مَغْلُوبًا بِالسُّكْرِ قَوْلُهُ (أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ مِنَ الصَّوَّاغِينَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَفِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ مِنَ الْبُخَارِيِّ مِنَ الصَّوَّاغِينَ فَفِيهِ دَلِيلٌ لِصِحَّةِ اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ فِي قَوْلِهِمْ بِعْتُ مِنْهُ ثَوْبًا وَزَوَّجْتُ مِنْهُ وَوَهَبْتُ مِنْهُ جَارِيَةً وَشِبْهِ ذَلِكَ وَالْفَصِيحُ حَذْفُ مِنْ فَإِنَّ الْفِعْلَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّ اسْتِعْمَالَ مِنْ فِي هَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَقَدْ جَمَعْتُ مِنْ ذَلِكَ نَظَائِرَ كَثِيرَةً فِي تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ فِي حَرْفِ الْمِيمِ مَعَ النُّونِ وَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي زِيَادَتِهَا فِي الْوَاجِبِ قَوْلُهُ (وَشَارِفَايَ مُنَاخَانِ) هَكَذَا فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ مُنَاخَانِ وَفِي بَعْضِهَا مُنَاخَتَانِ بِزِيَادَةِ التَّاءِ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ نُسَخُ الْبُخَارِيِّ وَهُمَا صَحِيحَانِ فَأَنَّثَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَذَكَّرَ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ قَوْلُهُ (فَبَيْنَا أَنَا أجمع لشار فى مَتَاعًا مِنَ الْأَقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ وَشَارِفَايَ مُنَاخَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَجَمَعْتُ حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ فَإِذَا شَارِفَيَّ قَدِ اجْتُبَّتْ أَسْنِمَتُهُمَا) هَكَذَا فِي بَعْضَ نُسَخِ بِلَادِنَا وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ أَكْثَرِ نُسَخِهِمْ وَسَقَطَتْ لَفْظَةُ وَجَمَعْتُ الَّتِي عَقِبَ قَوْلِهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَتَّى جَمَعْتُ مَكَانَ حِينَ جَمَعْتُ قَوْلُهُ (فاذا شار فى قَدِ اجْتُبَّتْ أَسْنِمَتُهُمَا) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النسخ فاذا شارفى وفى بعضها فاذاشارفاى وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ أَوْ يَقُولُ فَإِذَا شَارِفَتَايَ إِلَّا أَنْ يَقْرَأَ فَإِذَا شَارِفِي بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى لَفْظِ الْإِفْرَادِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ جِنْسَ الشَّارِفِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الشَّارِفَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا) هَذَا الْبُكَاءُ وَالْحُزْنُ الَّذِي أَصَابَهُ سَبَبُهُ مَا خَافَهُ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي حَقِّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجِهَازِهَا وَالِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهَا تَقْصِيرُهُ أَيْضًا بِذَلِكَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لِمُجَرَّدِ الشَّارِفَيْنِ مِنْ حَيْثُ هما من متاع الدنيابل لما قدمناه(13/146)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (هُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) وَالشَّرْبُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهُمُ الْجَمَاعَةُ الشَّارِبُونَ قَوْلُهُ (فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِدَائِهِ فارتداه) هكذا هوفى النُّسَخِ كُلِّهَا فَارْتَدَاهُ وَفِيهِ جَوَازُ لِبَاسِ الرِّدَاءِ وَتَرْجَمَ لَهُ الْبُخَارِيُّ بَابًا وَفِيهِ أَنَّ الْكَبِيرَ اذا خرج من منزله تجمل بثيابه ولايقتصر على مايكون عَلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَهَذَا مِنَ الْمُرُوءَاتِ وَالْآدَابِ الْمَحْبُوبَةِ قَوْلُهُ (فَطَفِقَ يَلُومُ حَمْزَةَ) أَيْ جَعَلَ يَلُومُهُ يُقَالُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا حَكَاهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَالْمَشْهُورُ الْكَسْرُ وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ والأعناق
قَوْلُهُ (إِنَّهُ ثَمِلٌ) بِفَتْحِ(13/147)
الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ سَكْرَانُ
[1980] قَوْلُهُ (وما شرابهم إلاالفضيخ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ) قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ الْفَضِيخُ أَنْ يَفْضَخَ الْبُسْرِ وَيَصُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَيَتْرُكَهُ حَتَّى يَغْلِيَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ مَا فُضِخَ مِنَ الْبُسْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهُ نَارٌ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ تَمْرٌ فَهُوَ خَلِيطٌ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ تَصْرِيحٌ بِتَحْرِيمِ جَمِيعِ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ وَأَنَّهَا كُلَّهَا تُسَمَّى خَمْرًا وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْفَضِيخُ وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالرُّطَبُ وَالْبُسْرُ وَالزَّبِيبُ وَالشَّعِيرُ وَالذُّرَةُ وَالْعَسَلُ وَغَيْرُهَا وَكُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ وَتُسَمَّى خَمْرًا هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِنَّمَا يَحْرُمُ عَصِيرُ العنب ونقيع الزبيب النئ فأما المطبوخ منهما والنئ والمطبوخ مما سواهما فحلال مالم يُشْرَبْ وَيُسْكِرْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّمَا يَحْرُمُ عَصِيرُ ثَمَرَاتِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ قَالَ فَسُلَافَةُ الْعِنَبِ يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا إِلَّا أَنْ يُطْبَخَ حَتَّى يَنْقُصَ ثُلُثَاهَا وَأَمَّا نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَقَالَ يحل مَطْبُوخُهُمَا وَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ شَيْئًا قَلِيلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِحَدٍّ كَمَا اعْتُبِرَ فِي سُلَافَةِ العنب قال والنئ منه حرام قال ولكنه لايحد شاربه هذا كله مالم يُشْرَبْ وَيُسْكِرْ فَإِنْ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَوْنُهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ الْمُسْكِرَاتِ فَوَجَبَ طَرْدُ الْحُكْمِ فِي الْجَمِيعِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْإِسْكَارِ وَذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ قُلْنَا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَإِنْ لَمْ(13/148)
يُسْكِرْ وَقَدْ عَلَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَحْرِيمَهُ كَمَا سَبَقَ فَإِذَا كَانَ مَا سِوَاهُ فِي مَعْنَاهُ وَجَبَ طَرْدُ الْحُكْمِ فِي الْجَمِيعِ وَيَكُونُ التَّحْرِيمُ لِلْجِنْسِ الْمُسْكِرِ وَعُلِّلَ بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْجِنْسِ فِي الْعَادَةِ قَالَ الْمَازِنِيُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ آكَدُ مِنْ كُلِّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ وَلَنَا فِي الِاسْتِدْلَالِ طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إِذَا شَرِبَ سُلَافَةَ الْعِنَبِ عِنْدَ اعْتِصَارِهَا وَهِيَ حُلْوَةٌ لَمْ تُسْكِرْ فَهِيَ حَلَالٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنِ اشْتَدَّتْ وَأَسْكَرَتْ حَرُمَتْ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ تَخَلَّلَتْ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيلِ آدَمِيٍّ حَلَّتْ فَنَظَرْنَا إِلَى مُسْتَبْدَلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَتَجَدُّدِهَا عِنْدَ تَجَدُّدِ الصِّفَاتِ وَتَبَدُّلِهَا فَأَشْعَرَنَا ذَلِكَ بِارْتِبَاطِ هَذِهِ الأحكام بهذه الصفة وقام ذلك مقام التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ بِالنُّطْقِ فَوَجَبَ جَعْلُ الْجَمِيعِ سَوَاءً فِي الْحُكْمِ وَأَنَّ الْإِسْكَارَ هُوَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ هَذِهِ إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ وَالثَّانِيَةُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَقَوْلِهِ نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وحديث كل مسكر خمر وحديث بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ هُنَا فِي آخِرِ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ(13/149)
فى حديث أنس (أنهم أراقوها بحبر الرَّجُلِ الْوَاحِدِ) فِيهِ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّ هَذَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ (فَجَرَتْ فِي سكك المدينة) أى طرقها وفى هذه الأحاديث أنها لاتطهر بالتخليل وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وجوزه أبوحنيفة وفيه أنه لايجوز إِمْسَاكُهَا وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ قَوْلُهُ (إِنِّي لَقَائِمٌ أَسْقِيهِمْ وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لصغير السن خدمة الكبار هذا اذا(13/150)
تتساووا فِي الْفَضْلِ أَوْ تَقَارَبُوا
[1980] قَوْلُهُ (فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ) الْمِهْرَاسُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ حَجَرٌ مَنْقُورٌ وَهَذَا الْكَسْرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَجِبُ كَسْرُهَا وَإِتْلَافُهَا كَمَا يَجِبُ إِتْلَافُ الْخَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هَذَا وَاجِبًا فَلَمَّا ظَنُّوهُ كَسَرُوهَا وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَذَرَهُمْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمُ الحكم وهو غسلهامن غَيْرِ كَسْرٍ وَهَكَذَا الْحُكْمُ الْيَوْمَ فِي أَوَانِي الْخَمْرِ وَجَمِيعِ ظُرُوفِهِ سَوَاءٌ الْفَخَّارُ وَالزُّجَاجُ وَالنُّحَاسُ والحديد والخشب والجلود فكلها تطهر بالغسل ولايجوز كسرها(13/151)
(باب تحريم تخليل الْخَمْرِ)
[1983] قَوْلُهُ (إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلافقال لا) هذا دليل الشافعى والجمهور أنه لايجوز تخليل الخمر ولاتطهر بِالتَّخْلِيلِ هَذَا إِذَا خَلَّلَهَا بِخُبْزٍ أَوْ بَصَلٍ أوخميرة أو غير ذلك مما يلقى فيها فهي بَاقِيَةً عَلَى نَجَاسَتِهَا وَيَنْجُسُ مَا أُلْقِيَ فِيهَا ولايطهر هَذَا الْخَلُّ بَعْدَهُ أَبَدًا لَا بِغَسْلٍ وَلَا بِغَيْرِهِ أَمَّا إِذَا نُقِلَتْ مِنَ الشَّمْسِ إِلَى الظِّلِّ أَوْ مِنَ الظِّلِّ إِلَى الشَّمْسِ فَفِي طَهَارَتِهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا تَطْهُرُ هَذَا الَّذِي ذكرناه من أنها لاتطهر إِذَا خُلِّلَتْ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو حَنِيفَةُ تَطْهُرُ وَعَنْ مَالِكٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ أَصَحُّهَا عَنْهُ أَنَّ التَّخْلِيلَ حَرَامٌ فَلَوْ خَلَّلَهَا عَصَى وَطَهُرَتْ وَالثَّانِيَةُ حَرَامٌ وَلَا تَطْهُرُ وَالثَّالِثَةُ حَلَالٌ وَتَطْهُرُ وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا إِذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا طَهُرَتْ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سَحْنُونٍ الْمَالِكِيِّ أَنَّهَا لاتطهر فَإِنْ صَحَّ عَنْهُ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وبيان أنها ليست بدواء)
[1984] قَوْلُهُ (إِنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَى أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا(13/152)
فَقَالَ إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ) هَذَا دَلِيلٌ لِتَحْرِيمِ اتِّخَاذِ الْخَمْرِ وَتَخْلِيلِهَا وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ فَيَحْرُمُ التَّدَاوِي بِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ فَكَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهَا بِلَا سَبَبٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّدَاوِي بِهَا وَكَذَا يَحْرُمُ شُرْبُهَا لِلْعَطَشِ وَأَمَّا إِذَا غَصَّ بِلُقْمَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُسِيغُهَا بِهِ إِلَّا خَمْرًا فَيَلْزَمُهُ الْإِسَاغَةُ بِهَا لِأَنَّ حُصُولَ الشِّفَاءِ بِهَا حِينَئِذٍ مَقْطُوعٌ بِهِ بِخِلَافِ التَّدَاوِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب بَيَانِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يُنْبَذُ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ يُسَمَّى خَمْرًا)
[1985] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ) وَفِي رِوَايَةٍ الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ وَفِي رِوَايَةٍ الْكَرْمِ وَالنَّخْلِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِذَةَ الْمُتَّخَذَةَ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهَا تُسَمَّى خَمْرًا وَهِيَ حَرَامٌ إِذَا كَانَتْ مُسْكِرَةً وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَا سَبَقَ وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الْخَمْرِيَّةِ عَنْ نَبِيذِ الذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ بِأَنَّهَا(13/153)
كُلَّهَا خَمْرٌ وَحَرَامٌ وَوَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَسْمِيَةُ الْعِنَبِ كَرْمًا وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ النَّهْيُ عَنْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ بَيَانًا لِلْجَوَازِ وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ بَلْ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهِ لِلتَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فى لسانهم الغالب فى استعمالهم
(باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين)
[1986] قوله (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزبيب والبسر والتمر) وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا وَنَهَى أَنْ يُنْبَذَ الرُّطَبُ وَالْبُسْرُ جَمِيعًا وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ وَبَيْنَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ بِنَبْذٍ وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ شرب النبيذ منكم فليشربه زبيبا فردا أوتمرا فردا أو بسرافردا وَفِي رِوَايَةٍ
[1988] لَا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنِ انْتِبَاذِ الْخَلِيطَيْنِ وشربهما وهما تمر وزبيب أوتمر وَرُطَبٌ أَوْ تَمْرٌ وَبُسْرٌ أَوْ رُطَبٌ وَبُسْرٌ أَوْ زَهْوٌ وَوَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ سَبَبُ الْكَرَاهَةِ فِيهِ أَنَّ الْإِسْكَارَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ فَيَظُنُّ الشَّارِبُ أَنَّهُ لَيْسَ مُسْكِرًا وَيَكُونُ مُسْكِرًا وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الجمهور أن هذا النهى لكراهة التنزيه ولايحرم ذلك مالم يَصِرْ مُسْكِرًا وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ بعض المالكية هو حرام وقال أبوحنيفة وأبو يوسف فى رواية عنه لاكراهة فيه ولابأس بِهِ لِأَنَّ مَا حَلَّ مُفْرَدًا حَلَّ مَخْلُوطًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا مُنَابَذَةٌ(13/154)
لِصَاحِبِ الشَّرْعِ فَقَدْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا كَانَ مَكْرُوهًا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي أَنَّ النَّهْيَ هَلْ يَخْتَصُّ بِالشُّرْبِ أَمْ يَعُمُّهُ وَغَيْرَهُ والأصح(13/155)
التَّعْمِيمُ وَأَمَّا خَلْطُهُمَا فِي الِانْتِبَاذِ بَلْ فِي معجون وغيره فلابأس بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1988] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لاتنتبذوا الزَّهْوَ) هُوَ بِفَتْحِ الزَّاي وَضَمِّهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ أَهْلُ الْحِجَازِ يَضُمُّونَ وَالزَّهْوَ هُوَ الْبُسْرُ الْمُلَوَّنُ الَّذِي بَدَا فِيهِ حُمْرَةٌ أَوْ صُفْرَةٌ وَطَابَ وَزَهَتِ النَّخْلُ تَزْهُو زَهْوًا وَأَزْهَتْ تُزْهِي وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ أَزْهَتْ بِالْأَلِفِ وَأَنْكَرَ غَيْرُهُ زهت بلاألف وأثبتهما الجمهور(13/156)
ورجحوا زهت بحذف الألف وقال بن الْأَعْرَابِيِّ زَهَتْ ظَهَرَتْ وَأَزْهَتِ احْمَرَّتْ أَوِ اصْفَرَّتْ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ قَوْلُهُ (وَهُوَ أَبُو كَثِيرٍ الْغُبَرِيُّ) بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ
[1990] قَوْلُهُ (كَتَبَ إِلَى أَهْلِ جُرَشَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الراء وهو بلد باليمن(13/157)
(باب النهى عن الانتباذ فى المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ وأنه اليوم حلال مالم يصر مسكرا)
هَذَا الْبَابُ قَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ وَبَيَانُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَحُكْمُ الِانْتِبَاذِ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَأَوْضَحْنَا كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَلَا نُعِيدُ هُنَا إِلَّا ما يحتاج إليه مع مالم يَسْبِقْ هُنَاكَ وَمُخْتَصَرُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ(13/158)
الِانْتِبَاذُ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا فيها ولانعلم بِهِ لِكَثَافَتِهَا فَتَتْلَفُ مَالِيَّتُهُ وَرُبَّمَا شَرِبَهُ الْإِنْسَانُ ظَانًّا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا فَيَصِيرُ شَارِبًا لِلْمُسْكِرِ وَكَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِإِبَاحَةِ الْمُسْكِرِ فَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ وَاشْتَهَرَ تَحْرِيمُ الْمُسْكِرِ وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ نُسِخَ ذَلِكَ وَأُبِيحَ لَهُمُ الِانْتِبَاذُ فى كل وعاء بشرط أن لاتشربوا مُسْكِرًا وَهَذَا صَرِيحٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ هذه الأحاديث (كنت نهيتكم عن الانتباذ الافى سقاء فاشربوا فى كل وعاء غير أن لاتشربوا مُسْكِرًا) قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ (أَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُقَيَّرِ وَالْحَنْتَمُ الْمَزَادَةُ الْمَجْبُوبَةُ وَلَكِنِ اشْرَبْ فِي سِقَائِكَ وَأَوْكِهِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِبِلَادِنَا وَالْحَنْتَمُ الْمَزَادَةُ الْمَجْبُوبَةُ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمَاهِيرِ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَمُعْظَمِ النُّسَخِ قَالَ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالْحَنْتَمُ وَالْمَزَادَةُ الْمَجْبُوبَةُ قَالَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَالْأُولَى تَغْيِيرٌ وَوَهَمٌ قَالَ وَكَذَا ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ وَعَنِ الْحَنْتَمِ وَعَنِ الْمَزَادَةِ الْمَجْبُوبَةِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالْحَنْتَمُ وَالدُّبَّاءُ وَالْمَزَادَةُ الْمَجْبُوبَةُ قَالَ وَضَبَطْنَاهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَجْبُوبَةُ بِالْجِيمِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُكَرَّرَةِ قال وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ الْمَخْنُوثَةُ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ نُونٍ وَبَعْدَ الْوَاوِ ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنَ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ إِنَّهَا بِالْجِيمِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَثَابِتٌ هِيَ الَّتِي قُطِعَ رَأْسُهَا فَصَارَتْ كَهَيْئَةِ الدَّنِّ وَأَصْلُ الْجَبِّ الْقَطْعُ وَقِيلَ هِيَ الَّتِي قُطِعَ رَأْسُهَا وَلَيْسَتْ لَهَا عزلاءمن أَسْفَلِهَا يَتَنَفَّسُ الشَّرَابُ مِنْهَا فَيَصِيرُ شَرَابُهَا مُسْكِرًا ولايدرى بِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَكِنِ اشْرَبْ فِي سِقَائِكَ وَأَوْكِهِ(13/159)
قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَنَّ السِّقَاءَ إِذَا أُوكِيَ أُمِنَتْ مَفْسَدَةُ الْإِسْكَارِ لِأَنَّهُ مَتَى تَغَيَّرَ نَبِيذُهُ وَاشْتَدَّ وَصَارَ مُسْكِرًا شَقَّ الْجِلْدَ الْمُوكَى فَمَا لم يشقه لايكون مُسْكِرًا بِخِلَافِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمَزَادَةِ الْمَجْبُوبَةِ وَالْمُزَفَّتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَوْعِيَةِ الْكَثِيفَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يَصِيرُ فيها مسكرا ولايعلم قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ يعنى بن الْفَضْلِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا الْفَضْلُ بِغَيْرِ مِيمٍ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ مُعْظَمِ نُسَخِ بِلَادِهِمْ وَهُوَ الصَّوَابُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَغَارِبَةِ الْمُفَضَّلُ بِالْمِيمِ وَهُوَ خَطَأٌ(13/160)
صَرِيحٌ وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا فِي بَابِ الِانْتِبَاذِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصواب(13/161)
باتفاق نسخ الجميع قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَذَكَرَ الْإِسْنَادَ الثَّانِي إِلَى شُعْبَةَ عَنْ يَحْيَى أَبِي عُمَرَ الْبَهْرَانِيِّ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ بِلَادِنَا يَحْيَى أَبِي عُمَرَ بِالْكُنْيَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَقَعَ لِجَمِيعِ شُيُوخِهِمْ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ بِالْبَاءِ وَالنُّونِ نِسْبَةً قَالَ وَلِبَعْضِهِمْ يَحْيَى بْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ وَكِلَاهُمَا وَهَمٌ وَإِنَّمَا هُوَ يَحْيَى بْنُ عُبَيْدٍ أَبُو عُمَرَ الْبَهْرَانِيُّ وَكَذَا جَاءَ بَعْدَ هَذَا فِي بَابِ الِانْتِبَاذِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّوَابِ
[1996] باب النهي عَنِ الْجَرِّ) هُوَ بِمَعْنَى الْجِرَارِ الْوَاحِدَةُ جَرَّةٌ وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْجِرَارِ مِنَ الْحَنْتَمِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَنْسُوخٌ كَمَا سَبَقَ(13/162)
قَوْلُهُ (قُلْتُ يَعْنِي لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَيُّ شَيْءٍ نَبِيذُ الْجَرِّ فَقَالَ كُلُّ شَيْءٍ يُصْنَعُ مِنَ المدر) هذا تصريح من بن عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْجَرَّ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْجِرَارِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْمَدَرِ الَّذِي هُوَ التُّرَابُ(13/163)
قَوْلُهُ (وَنَهَى عَنِ النَّقِيرِ وَهِيَ النَّخْلَةُ تُنْسَحُ نَسْحًا أَوْ تُنْقَرُ نَقْرًا) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ وَالنَّسْحُ بِسِينٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ أَيْ تُقْشَرُ ثُمَّ تُنْقَرُ فَتَصِيرُ نَقِيرًا وَوَقَعَ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ تُنْسَجُ بِالْجِيمِ قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ هُوَ تَصْحِيفٌ وَادَّعَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَفِي التِّرْمِذِيِّ بِالْجِيمِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ مُعْظَمُ نسخ مسلم بالحاء قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ سَلَمَةَ) هُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُقَدِّمَةِ هذا الشرح(13/165)
قوله (ينبذ له فى نور مِنْ حِجَارَةٍ) هُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى تَوْرٍ مِنْ بِرَامٍ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ حِجَارَةٍ وَهُوَ قَدَحٌ كَبِيرٌ كَالْقِدْرِ يُتَّخَذُ تَارَةً مِنَ الْحِجَارَةِ وَتَارَةً مِنَ النُّحَاسِ وَغَيْرِهِ
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِنَسْخِ النَّهْيِ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الْكَثِيفَةِ كَالدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ تَوْرَ الْحِجَارَةِ أَكْثَفُ مِنْ هَذِهِ كُلِّهَا وَأَوْلَى بِالنَّهْيِ مِنْهَا فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَبَذَ لَهُ فِيهِ دَلَّ عَلَى النَّسْخِ(13/166)
وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ إِلَى آخِرِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم (نهيتكم عن النبيذ إلافى سقاء فاشربوا فى الأسقية كلها ولاتشربوا مُسْكِرًا) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الظُّرُوفِ وإن الظروف أو ظرفا لايحل شيئا ولايحرمه وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ فِي ظُرُوفِ الْأَدَمِ فَاشْرَبُوا فى كل وعاء غير أن لاتشربوا مُسْكِرًا قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ فِيهَا تَغْيِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَصَوَابُهُ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عن الأشربة إلافى ظُرُوفِ الْأَدَمِ فَحَذَفَ لَفْظَةَ إِلَّا الَّتِي لِلِاسْتِثْنَاءِ ولابد مِنْهَا قَالَ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى فِيهَا تَغْيِيرٌ أَيْضًا وَصَوَابُهَا فَاشْرَبُوا فِي الْأَوْعِيَةِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْأَسْقِيَةَ وَظُرُوفَ الْأَدَمِ لَمْ تَزَلْ مُبَاحَةً مَأْذُونًا فِيهَا وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ غَيْرِهَا مِنَ(13/167)
الْأَوْعِيَةِ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى كُنْتُ نهيتكم عن الانتباذ الافى سِقَاءٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّ صَوَابَ الرِّوَايَتَيْنِ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عن الانتباذ الافى سِقَاءٍ فَانْتَبِذُوا وَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ وَمَا سِوَى هَذَا تَغْيِيرٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ مُعَرِّفِ بْنِ وَاصِلٍ) هُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَيُقَالُ بِفَتْحِهَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ وَيُقَالُ فِيهِ مَعْرُوفٌ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ لَمَّا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيذِ) الْحَدِيثَ هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ بِبِلَادِنَا وَمُعْظَمُ النُّسَخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ عمرو وبواو من الخط وهو بن عمرو بن العاص ووقع فى بعضها بن عمر بضم العين يعنى بن الْخَطَّابِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ نُسَخَهُمْ أَيْضًا اخْتَلَفَتْ فِيهِمْ وَأَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْغَسَّانِيَّ قَالَ الْمَحْفُوظُ بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ صَاحِبُ بن عيينة وبن أَبِي شَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فى مسند بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ وَنَسَبَهُ إِلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَكَذَا ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (لَمَّا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيذِ فِي الْأَوْعِيَةِ قَالُوا لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ فَأَرْخَصَ لَهُمْ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ) هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيذِ فِي الْأَوْعِيَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَوَقَعَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيذِ فِي الْأَسْقِيَةِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ الْمَدِينِيِّ(13/168)