لا يتضرر به الناس ولا يتبين بذلك عليهم أثره فلا بأس به والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي، قال: حَدَّثنا زهير، قال: حَدَّثنا أبو الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبيع حاضر لباد وذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض.
قال الشيخ في هذا دليل على أن عقد البيع لا يفسد إذا فعل ذلك ولو كان يقع فاسداً لم يكن فيه منع من أن يرتفق الناس ومن تزق بعضهم من بعضهم.
وقد كره بيع الحاضر للبادي أكثر أهل العلم وكان مجاهد يقول لا بأس به في هذا الزمان، وإنما كان النهي وقع عنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الحسن البصري يقول لا تبع للبدوي ولا تشتر له، وذهب بعضهم إلى أن النهي فيه بمعنى الإرشاد دون الإيجاب والله أعلم.
ومن باب من اشترى مصراة وكرهها
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من بر.
قال وحدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن محمد بن سيرين، عَن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن شاء ردها وصاعاً من طعام لا سمراء.
قال الشيخ اختلف أهل العلم واللغة في تفسير المصراة ومن أين أخذت واشتقت، فقال الشافعي التصرية أن تربط أخلاف الناقة والشاة وتترك من الحلب اليومين والثلاثة حتى يجتمع لها لبن فيراه مشتريها كثيرا ويزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها فإذا حلبها بعد تلك الحلبة حلبة أو اثنتين عرف أن ذلك(3/111)
ليس بلبنها وهذا غرر للمشتري.
وقال أبو عبيد المصراة الناقة أو البقرة أو الشاة التي قد صرى اللبن في ضرعها، يَعني حقن فيه وجمع أياماً فلم يحلب، وأصل التصرية حبس الماء وجمعه يقال منه صريت الماء، ويقال إنما سميت الصراة كأنها مياه اجتمعت.
قال أبو عبيد ولو كان من الربط لكان مصرورة أو مصررة، قال الشيخ كأنه يريد به رداً على الشافعي، قال الشيخ قول أبي عبيد حسن وقول الشافعي صحيح والعرب تصر ضروع الحلوبات إذا أرسلتها تسرح وسنمون ذلك الرباط صراراً فإذا راحت حلت تلك الأصرة وحلبت، ومن هذا حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لرجل يؤمن بالله وباليوم الآخر أن يحل صرار ناقة بغير إذن صاحبها فإنه خاتم أهلها عليها، ومن هذا قول عنترة: …العبد لا يحسن الكر ... إنما يحسن الحلب والصر
وقال مالك بن نويرة وكان بنو يربوع جمعوا صدقاتهم ليوجهوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم من ذلك ورد على رجل منهم صدقته، وقال أنا جنة لكم مما تكرهون وقال:
وقلت خذوها هذه صدقاتكم …مصررة أخلافها لم تجدَّدِ
سأجعل نفسي دون ما تجدونه …وأرهنكم يوماً بما قلته يدي
قال الشيخ وقد يحتمل أن يكون المصراة، أصله المصرورة أبدل احدى الراءين ياءً كقولهم تقضي البازي وأصله تقضض كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة فأبدلوا حرفا منها بحرف آخر ليس من جنسها؛ قال العجاج:
* تقضي البازي إذا البازي كسر *(3/112)
ومن هذا الباب قول الله تعالى {وقد خاب من دساها} [الشمس: 10] أي أخملها بمنع الخير وأصله من دستها، ومثل هذا في الكلام كثير.
وقد اختلف الناس في حكم المصراة فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه يردها ويرد معها صاعا من تمر قولا بظاهر الحديث، وهو قول مالك والشافعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف برد قيمة اللبن، وقال أبو حنيفة إذا حلب الشاة فليس له أن يردها ولكن يرجع على البائع بأرشها ويمسكها.
واحتج من ذهب إلى هذا القول بأنه خبر مخالف للأصول لأن فيه تقويم المتلف بغير النقود، وفيه إبطال رد المثل فيما له مثل، وفيه تقويم القليل والكثيرمن اللبن بقيمة واحدة وبمقدار واحد واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: الخراج بالضمان.
قال الشيخ والأصل أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله وجب القول به وصار أصلاً في نفسه وعلينا قبول الشريعة المبهمة كما علينا قبول الشريعة المفسرة والأصول إنما صارت أصولاً لمجيء الشريعة بها. وخبر المصراة قد جاء به الشرع من طرق جياد أشهرها هذا الطريق، فالقول فيه واجب وليس تركه لسائر الأصول بأولى من تركها له على أن تقويم المتلف بغير النقد موجود في بعض الأصول منها الدية في النفس مائة من الإبل، ومنها الغرة في الجنين. وقد جاء أيضاً تقويم القليل والكثير بالقيمة الواحدة كأرش الموضحة فإنها ربما أخذت أكثر من مساحة الرأس فيكون فيها خمس من الإبل وربما كانت قدر الأنملة فيجب الخمس من الإبل سواء.
وكذلك الدية في الأصابع سواء على اختلاف(3/113)
مقادير جمالها ومنفعتها. وجاءت السنة بالتسوية بين دية اللسان والعينين واليدين والرجلين. وأوجب أصحاب الرأي في الحاجبين وأهداب العينين وفي اللحية الدية الكاملة وأين منافع الحاجبين من اللسان واليدين والرجلين وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على من وجبت عليه في إبله ابنة مخاض وليس عنده إلاّ ابنة لبون أن يعطي المصدق شاتين أو عشرين درهماً جبراناً لنقصان ما بين السنين، ومعلوم أن ذلك قد يتفاوت ولا يتعدل في التقويم بكل مكان وكل زمان. وقد جعلوا أيضاً الحد في المهر عشرة دراهم على تسوية فيه بين الشريفة والوضيعة، وفي رد الآبق أربعين درهما ولم يفرقوا بين من رده من مسافة ثلاثة أيام وبين من رده من مسافة شهر، وليس في شيء من هذا سنة ولا خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يجوز رد السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن بينها وبين بعض السنن مخالفة في بعض أحكامها وقد قالوا بخبر الوضوء بالنبيذ وبخبر القهقهة ونقضها الطهارة في الصلاة مع مخالفتها الأصول وهما خبران ضعيفان عند أهل المعرفة بالحديث.
ثم أن تقويم المتلفات على ضربين أحدهما أن تقوم قيمة تعديل، والآخرأن تقوم قيمة توقيف؛ فقيمة التعديل ترتفع وتنخفض على قدر ارتفاع الشيء وانخفاضه وقيمة التوقيف هو ما جعل بإزاء الشيء الذي لا يكاد يضبط بمقدار معلوم واللبن غير معلوم المقدار، وقد يقل مرة ويكثر أخرى ويختلط باللبن الذي يحدث في ملك المشتري ولا يتميز منه. وإذا صار مجهولاً لا يضبط وكان لا يؤمن وقوع التنازع فيه بين البائع والمشتري وردت الشريعة فيه بتوقيف معلوم يفصل فيه بين المتبايعين ويكفيهما مؤنة الاجتهاد ويقطع به مادة النزاع كما وردت في الجنين إذ كانت بمنزلة المصراة في معنى الجهالة، وأما خبر الخراج(3/114)
بالضمان فمخرجه مخرج العموم، وخبر المصراة إنما جاء خاصا في حكم بعينه، والخاص يقضي على العام ولو جاء الخبران معاً مقترنين في الذكر لصح الترتيب فيهما ولاستقام الكلام ولم يتناقض عند تركيب أحدهما على الآخر، فكذلك إذا جاءا منفصلين غير مقترنين لأن مصدرهما عن قول من تجب طاعته ولا تجوز مخالفته.
قال الشيخ وقد أخذ كل واحد من أبي حنيفة ومالك بطرف من الحديث وترك الطرف الآخر، فقال أبو حنيفة لا خيار أكثر من ثلاث، واحتج بهذا الحديث ولم يقل برد الصاع، وقال مالك برد الصاع ولم يأخذ بالتوقيف في خيار الثلاث وصار إلى أن يرد متى وقف على العيب كان ذلك قبل الثلاث أو بعدها فكان أصح المذاهب قول من استعمل الحديث على وجهه وقال بجملة ما فيه.
وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز بيع شاة لبون بلبن ولا بشاة لبون، وذلك لأنه قد جعل للبن المصراة قسطاً من الثمن إذ كان كالشيء المودع في الشاة المقدور على استخراجه فإذا باع لبوناً بلبون فقد باع لبناً بلبن غير متساويبن، فأما بيع سمسم بسمسم فجائز، وإن كان العلم قد يحيط بأن في كل واحد منهما دهناً، الأ أنه غير مقدور على استخراجه كما كان مقدوراً على استخراج اللبن مع بقاء العين بهيئته فصار تبعاً للمبيع.
قال الشيخ ويدخل في هذا كل مصراة من الإبل والغنم والبقر والآدميات فلو اشترى رجل جارية ذات لبن لترضع ولده فوجدها مصراة كان هذا حكمها سواء لا فرق بينها وبين غيرها من الحيوان في هذا المعنى.
وقد اختلف النلس في مدة الخيار المشروط في البيع، فقال أبو حنيفة لا يجوز أكثر من ثلاث وهو قول الشافعي، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد(3/115)
قليله وكثيره جائز، وقال مالك هو على قدر الحاجة إليه فخيار الثوب يوم ويومان وفي الحيوان أسبوع ونحوه وفي الدور شهر وشهران وفي الضيعة سنة ونحوها. وفي قوله لا سمراء دليل على أنه لا يلزمه أن يعطيه غير التمر، وذهب بعضهم إلى أن كل إنسان يعطي من قوته فمن كان قوته التمر أعطى صاعا من تمر، ومن كان قوته الشعير أعطى صاعا من شعير، ومن كان قوته السمراء وهي الحنطة أعطى صاعا منها، وهذا خلاف ظاهر الحديث؛ إلاّ أن أبا داود وقد روي في هذا الحديث من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً وليس إسناده بذاك.
والمحفلة أي المصراة، وسميت محفلة لحصول اللبن واجتماعه في ضرعها.
ومن باب النهي عن الحكرة
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، قال: حَدَّثنا خالد عن عمرو بن يحيى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن المسيب عن معمر بن أبي معمر أحد بني عدي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحتكر إلا خاطىء فقلت لسعيد فإنك تحتكر قال ومعمر كان يحتكر.
قال الشيخ قوله ومعمر كان يحتكر يدل على أن المحظور فيه نوع دون نوع ولا يجوزعلى سعيد بن المسيب في علمه وفضله أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ثم يخالفه كفاحاً وهو على الصحابي أقل جوازاً وأبعد إمكاناً.
وقد اختلف الناس في الاحتكار فكرهه مالك والثوري في الطعام وغيره من السلع، وقال مالك يمنع من احتكار الكتان والصوف والزيت وكل شيء(3/116)
أضر بالسوق، إلاّ أنه قال ليست الفواكه من الحكرة.
وقال أحمد بن حنبل ليس الاحتكار إلاّ في الطعام خاصة لأنه قوت الناس وقال إنما يكون الاحتكار في مثل مكة والمدينة والثغور، وفرق بينهما وبين بغداد والبصرة وقال ان السفن تخترقها، وقال أحمد إذا دخل الطعام من ضيعته فحبسه فليس بحكرة، وقال الحسن والأوزاعي من جلب طعاما من بلد إلى بلد فحبسه ينتظر زيادة السعر فليس بمحتكر وإنما المحتكر من اعترض سوق المسلمين.
وقال الشيخ واحتكار معمر وابن المسيب متأول على مثل هذا الوجه الذي ذهب إليه أحمد بن حنبل، وإنما هذا الحديث جاء باللفظ العام والمراد منه معنى خاص، وقد روي عن ابن المسيب أنه كان يحتكر الزيت.
ومن باب كسر الدراهم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل قال أخبرنا معمر قال سمعت محمد بن فضاء يحدث عن أبيه عن علقمة بن عبد الله عن أبيه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلاّ من بأس.
قال الشيخ أصل السكة الحديدة التي يطبع عليها الدراهم والنهي إنما وقع عن كسر الدراهم المضروبة على السكة.
وقد اختلف الناس في المعنى الذي من أجله وقع النهي عنه فذهب بعضهم إلى أنه كره لما فيه من ذكر اسم الله سبحانه وتعالى، وذهب بعضهم إلى أنه كره من أجل الوضيعة وفيه تضييع للمال، وبلغني، عَن أبي العباس بن شريح أنه قال كانوا يقرضون الدراهم ويأخذون أطرافها فنهوا عنه. وحدثني اسماعيل بن أسيد قال سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول سمعت أبا داود يقول سألت أحمد بن حنبل(3/117)
أو سأل حضري سائل ومعي درهم صحيح فقلت اكسره له قال لا. وزعم بعض أهل العلم أنه كره قطعها وكسرها من أجل التدنيق. وقال الحسن لعن الله الدانق وأول من أحدث الدانق.
41!!! /50م ومن باب النهي عن الغش
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا سفيان بن عيينة عن العلاء عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من غش.
قال الشيخ قوله ليس منا من غش معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا يريد أن من غش أخاه وترك مناصحته فإنه قد ترك اتباعي والتمسك بسنتي.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه أراد بذلك نفيه عن دين الإسلام، وليس هذا التأويل بصحيح، وإنما وجهه ما ذكرت لك، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه أنا منك وإليك يريد بذلك المتابعة والموافقة. ويشهد بذلك قوله تعالى {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 36] .
ومن باب خيار المتبابعين
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلاّ بيع الخيار.
قال وحدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال أو يقول أحدهما لصاحبه اختر.
قال الشيخ اختلف الناس في التفرق الذي يصح بوجوده البيع فقالت طائفة هو التفرق بالأبدان، وإليه ذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب وأبو برزة(3/118)
الأسلمي رضي الله عنه، وبه قال شريح وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والزهري وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور.
وقال النخعي وأصحاب الرأي إذا تعاقدا صح البيع، وإليه ذهب مالك.
قال الشيخ وظاهر الحديث يشهد لمن ذهب إلى أن التفرق هو تفرق البدن وعلى هذا فسره ابن عمر وهو راوي الخبر، وكان إذا بايع رجلاً فأراد أن يستحق الصفقة مشى خطوات حتى يفارقه، وكذلك تأول أبو برزة في شأن الفرش الذي باعه الرجل من صاحبه وهما في المنزل، وقد ذكر القصة في هذا الباب أبو داود.
قال الشيخ وعلى هذا وجدنا أمرالناس في عرف اللغة وظاهر الكلام إذا قيل تفرق الناس كان المفهوم منه التمييز بالأبدان وإنما يعقل ما عداه من التفرق في الرأي والكلام بقيد وصله.
وحكى أبو عمر الزاهد أن أبا موسى النحوي سأل أبا العباس أحمد بن يحيى هل بين يتفرقان ويفترقان فرق، قال نعم أخبرنا ابن الأعرابي عن المفضل قال يفترقان بالكلام ويتفرقان بالأبدان.
قال الشيخ ولو كان تأويل الحديث على الوجه الذي صار إليه النخعي لخلا الحديث عن الفائدة وسقط معناه، وذلك أن العلم محيط بأن المشتري ما لم يوجد منه قبول البيع فهو بالخيار، وكذلك البائع خياره ثابت في ملكه قبل أن يعقد البيع وهذا من العلم العام الذي قد استقر بيانه من باب أن الناس مُخَلَّون وأملاكهم لا يكرهون على إخراجها من أيديهم ولا يملك عليهم إلاّ بطيب(3/119)
أنفسهم، والخبر الخاص إنما يروى في الحكم الخاص، وثبت أن المتبايعين هما المتعاقدان والبيع من الأسماء المشتقة من أفعال الفاعلين وهي لا تقع حقيقة إلاّ بعد حصول الفعل منهم، كقولك زان وسارق وإذا كان كذلك فقد صح أن المتبايعين هما المتعاقدان، وإذا كان كذلك فليس بعد العقد تفرق إلاّ التمييز بالأبدان.
ويشهد لصحة هذا الباب قول إلاّ بيع الخيار ومعناه أن تخيره قبل التفرق وهما بعدُ في المجلس فيقول له اختر. وبيان ذلك في رواية أيوب عن نافع وهو قوله إلاّ أن يقول لصاحبه اختر.
وقد تأول بعضهم إلاّ بيع الخيار على معنى خيار الشرط، وهذا تأويل فاسد وذلك أن الاستثناء من الاثبات نفي ومن النفي إثبات، والأول إثبات الخيار فلا يجوز أن يكون ما استثني منه أيضاً إثباتاً مثله، على أن قوله إلاّ أن يقول أحدهما لصاحبه اختر يقيد ما قاله هذا القائل ويهدمه.
واحتج بعض من ذهب إلى أن التفرق هو تفرق البدن بأن المتبايعين إنما يجتمعان بالإيجاب والقبول لأنهما كانا قبل ذلك متفرقين فلا يجوز أن يحصلا مفترقين بنفس الشيء الذي به وقع اجتماعهما عليه.
وأما مالك فإن أكثر شيء سمعت أصحابه يحتجون به في رد الحديث هو أنه قال ليس العمل عليه عندنا وليس للتفرق حد محدود يعلم.
قال الشيخ وليس هذا بحجة، أما قوله ليس العمل عليه عندنا فإنما هو كأنه قال أنا أرد هذا الحديث ولا أعمل به فيقال له الحديث حجة فلم رددته ولِمَ لم تعمل به وقد قال الشافعي رحم الله مالكاً لست أدري من اتهم في إسناد(3/120)
هذا الحديث اتهم نفسه أو نافعاً وأعظم أن أقول اتهم ابن عمر، فأما قوله ليس للتفرق حد يعلم فليس الأمر على ما توهمه والأصل في هذا ونظائره أن يرجع إلى عادة الناس وعرفهم ويعتبر حال المكان الذي هما فيه مجتمعان، فإذا كانا في بيت فإن التفرق إنما يقع بخروج أحدهما منه ولوكانا في دار واسعة فانتقل أحدهما عن مجلسه إلى بيت أو صفة أو نحو ذلك فإنه قد فارق صاحبه، وإن كانا في سوق أو على حانوت فهو بأن يولي عن صاحبه ويخطو خطوات ونحوها، وهذا كالعرف الجاري والعادة المعلومة في التقابض وهو يختلف في الأشياء، فمنها ما يكون بالتقابض فيه بأن يجعل الشيء في يده، ومنها ما يكون بالتخلية بينه وبين المبيع، وكذلك الأمر في الحرز الذي يتعلق به وجوب قطع اليد فإن منه ما يكون بالاغلاق والاقفال، ومنه ما يكون بيتا وحجاباً، ومنها ما يكون بالشرائح ونحوها وكل منها حرز على حسب ما جرت به العادة، والعرف أمر لا ينكره مالك بل يقول به وربما ترقى في استعماله إلى أشياء لا يقول بها غيره وذلك من مذهبه معروف فكيف صار إلى تركه في أحق المواضع به حتى يترك له الحديث الصحيح والله يغفر لنا وله وإن كان ابن أبي ذئب يستعظم هذا الصنيع من مالك وكان يتوعده بأمر لا أحب أن أحكيه والقصة في ذلك عنه مشهورة.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا الليث عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلاّ أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله.(3/121)
قال الشيخ وهذا قد يحتج به من يرى أن التفرق إنما هو بالكلام، قال وذلك أنه لو كان له الخيار في فسخ البيع لما احتاج إلى أن يستقيله.
قال الشيخ هذا الكلام وإن خرج بلفظ الاستقالة فمعناه الفسخ وذلك أنه قد علقه بمفارقته. والاستقالة قبل المفارقة وبعدها سواء لا تأثير لعدم التفرق بالأبدان فيها والمعنى أنه لا يحل له أن يفارقه خشية أن يختار فسخ البيع فيكون ذلك بمنزلة الاستقالة والدليل على ذلك ما تقدم من الأخبار والله أعلم.
ومن باب من باع بيعتين في بيعة
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من باع بيعتين في بيعة فله أوكسها أو الربا.
قال الشيخ رحمه الله لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث أو صحح البيع بأوكس الثمنين إلاّ شيء يحكى عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد وذلك لما يتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل، وإنما المشهور من طريق محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيعتين في بيعة حدثنا الأصم،، قال: حَدَّثنا الربيع،، قال: حَدَّثنا الشافعي،، قال: حَدَّثنا الدراوردي عن محمد بن عمرو. وحدثونا عن محمد بن إدريس الحنظلي حدثنا الأنصاري عن محمد بن عمرو، فأما رواية يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو على الوجه الذي ذكره أبو داود فيشبه أن يكون ذلك في حكومة في شيء بعينه كأنه أسلفه ديناراً في قفيزين إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر، قال له بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهر فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين(3/122)
في بيعة فيردان إلى أوكسهما وهو الأصل، فان تبايعا المبيع الثاني قبل أن يتناقضا الأول كانا مرتبين.
قال الشيخ وتفسير ما نهي عنه من بيعتين في بيعة على وجهين: أحدهما أن يقول بعتك هذا الثوب نقداً بعشرة ونسيئة بخمسة عشر فهذا لا يجوز لأنه لا يدري أيهما الثمن الذي يختاره منهما فيقع به العقد وإذا جهل الثمن بطل البيع.
والوجه الاخر: أن يقول بعتك هذا العبد بعشرين ديناراً على أن تبيعني جاريتك بعشرة دنانير، فهذا أيضاً فاسد لأنه جعل ثمن العبد عشرين ديناراً وشرط عليه أن يبيعه جاريته بعشرة دنانير، وذلك لا يلزمه وإذا لم يلزمه سقط بعض الثمن وإذا سقط بعضه صار الباقي مجهولا.
ومن هذا الباب أن يقول بعتك هذا الثوب بدينارين على أن تعطيني بهما دراهم صرف عشرين أو ثلاثين بدينار، فأما إذا باعه شيئين بثمن واحد كدار وثوب أو عبد وثوب فهذا جائز وليس من باب البيعتين في البيعة الواحدة، وإنما هي صفقة واحدة جمعت شيئين بثمن معلوم. وعقد البيعتين في بيعة واحدة على الوجه اللذين ذكرناهما عند أكثر الفقهاء فاسد.
وحكي عن طاوس أنه قال لا بأس أن يقول له هذا الثوب نقدا بعشرة وإلى شهر بخمسة عشر فيذهب به إلى أحدهما. وقال الحكم وحماد لا بأس به ما لم يفترقا.
وقال الأوزاعي لا بأس بذلك ولكن لا يفارقه حتى يُباته بأحد المعنيين فقيل له فإنه ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين، فقال هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين.
قال الشيخ هذا ما لا يشك في فساده فإما إذا باته على أحد الأمرين في مجلس العقد فهو صحيح لا خلف فيه وذكر ما سواه لغو لا اعتبار به.(3/123)
ومن باب السلف
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حَدَّثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير، عَن أبي المنهال عن عبد الله بن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث، فقال من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم.
قال الشيخ في هذا الحديث بيان أن السلف يجب أن يكون معلوماً بالأمر الذي يضبط ولا يختلف وأنه مهما كان مجهولاً بطل.
وفيه دليل على أنه قد يجوز السلم إلى سنة في الشيء الذي لا وجود له في أيام السنة إذا كان موجوداً في الغالب وقت محل الأجل، وذلك أن التمر اسم للرطب واليابس في قول أكثر أهل العلم. وعند بعض أهل اللغة اسم للرطب لا غير وعلى هذا ما جاء من النهي عن بيع التمر بالتمر وعلى الوجهين معاً، فقد أجاز السلم فيه السنة والسنتين والثلاث إذ كان قد وجدهم يفعلون ذلك فلم ينكره عليهم فكان تقريره ذلك إذناً لهم فيه وإجازة له، ومعلوم أن الرطب لا يوجد في وقت معلوم من السنة وهو معدوم في أكثر أيام السنة.
وفيه أن السلم جائز وزناً في الشيء الذي أصله الكيل لأنه عم ولم يخص، فقال في كيل معلوم أو وزن معلوم فخيره بين الأمرين فإذا صار الشيء المسلم فيه معلوماً بأحدهما جاز فيه السلم.
وفيه أن الآجال المجهولة كالحصاد وإلى العطاء وإلى قدوم الحاج يبطل السلم وأنها لا تجوز إلاّ أن تكون معلومة بالأمر الذي لا يختلف كالسنين والشهور والأيام المعلومة.(3/124)
وقد يحتج بهذا الحديث من لا يجيز السلم حالا وهو مذهب أبي حنيفة ومالك قالوا وذلك لقوله إلى أجل معلوم فشرط الأجل كما شرط الكيل والوزن.
وقال الشافعي إذا جاء أجلاً فهو حالاً أجود ومن الغرر أبعد، وليس ذكر الأجل عنده بمعنى الشرط وإنما هو أن يكون إلى أجل معلوم غير مجهول إذ كان مؤجلاً كما ليس ذكر الكيل والوزن شرطاً وإنما هو أن يكون معلوم الكيل والوزن إذ كان مكيلا أو موزونا ألست ترى أن السلم في المزروع جائز بالزرع وليس بمكيل ولا موزون فعلمت أنه إنما أراد الحصر له بما يضبط بمثله حتى يخرج من حد الجهالة ويسلم من الغرر ولو كان ذكر الكيل والوزن شرطاً في جواز السلم لم يجز إلاّ في مكيل أو موزون فكذلك الأجل والله أعلم.
ومن باب من أسلف في شيء ثم حوله إلى غيره
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، قال: حَدَّثنا أبو بدر عن زياد بن خيثمة عن سعد الطائي عن عطية بن سعد، عَن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره.
قال الشيخ إذا أسلف ديناراً في قفيز حنطة إلى شهر فحل الأجل فأعوزه البر فإن أبا حنيفة يذهب إلى أنه لا يجوز له أن يبيعه عوضا بالدينار ولكن يرجع برأس المال عليه قولا بعموم الخبر وظاهره. وعند الشافعي يجوز له أن يشتري عوضا بالدينار إذا تقايلا السلم وقبضه قبل التفرق لئلا يكون دينارين، فأما الاقالة فلا تجمز وهو معنى النهي عن صرف السلف إلى غيره عنده.
ومن باب وضع الجائحة
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا الليث عن بكيرعن عياض(3/125)
بن عبد الله، عَن أبي سعيد الخدري أنه قال أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا ما وجدتم وليس لكم إلاّ ذلك.
قال الشيخ قد تقدم الكلام في بيان اختلاف الناس في وضع الجوائح. وأما هذا الحديث فليس فيه ذكر الجائحة، وقد يحتمل أن يكون إنما أصيب في تلك الثمار بعدما جذها وأواها الجرين فطرقها لص أو جرفها سيل أو باعها فافتات الغريم بحقه وكل هذه الوجوه قد يصح رجوع إضافة المصيبة فيها إلى الثمار التي كان ابتاعها وإذا كان كذلك لم يجب الحكم بذهاب حق رب المال. وليس في الحديث أنه أمر أرباب الأموال أن يضعوا عنه شيئا من أثمان الثمار ثلثا أو أقل منه أو أكثر، إنما أمر الناس أن يعينوه ليقضي حقوقهم، فلما أبدع بهم أمرهم بالكف عنه إلى الميسرة وهذا حكم كل مفلس أحاط به الدين وليس له مال.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري وأحمد بن سعيد الهمداني قالا: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني ابن جريج وحدثنا محمد بن معمر، قال: حَدَّثنا أبو عاصم عن ابن جريج المعنى أن أبا الزبير المكي أخبره عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن بعت من أخيك ثمراً فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ثم تأخذ مال أخيك بغير حق.
قال الشيخ يشبه أن يكون إنما أراد بهذا القول التخفيف عنه والتسويغ له دون الإيجاب والإلزام ذلك أنه لا خلاف أن للمشتري الثمرة لو أراد بيعها بعد القبض كان له ذلك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار قبل بدو(3/126)
صلاحها وقبل أن تأمن العاهة فلو كانت إذا بيعت وقد بدا صلاحها مضمونة على البائع لم يكن لهذا النهي فائدة، وقد يحتمل أن يكون إنما أراد به الثمرة تباع قبل بدو الصلاح فيصيبها الجائحة والله أعلم.
ومن باب منع الماء
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن الأعمش عن أبني صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ.
قال الشيخ هذا في الرجل يحفر البئر في الأرض الموات فيملكها بالاحياء وحول البئر أو بقربها موات فيه كلأ ولا يمكن الناس أن يرعوه إلاّ بأن يبذل لهم ماءه ولا يمنعهم أن يسقوا ماشيتهم منه فأمره صلى الله عليه وسلم أن لا يمنع فضل مائه إياهم لأنه إذا فعل ذلك وحال بينه وبينهم فقد منعهم الكلأ لأنه لا يمكن رعيه والمقام فيه مع منعه الماء، وإلى هذا ذهب في معنى الحديث مالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد وهو معنى قول الشافعي والنهي في هذا عندهم على التحريم.
وقال غيرهم ليس النهي فيه على التحريم لكنه من باب المعروف فإن شح رجل على مائه لم ينتزع من يده والماء في هذا كغيره من صنوف الأموال لا يحل إلاّ بطيبة نفسه.
وذهب قوم إلي أنه لا يجوز له منع الماء ولكن يجب له القيمة على أصحاب المواشي وشبهوه بمن يضطر إلى طعام رجل فإن له أكله وعليه أداء قيمته. ولو لزمه بذل الماء بلا قيمة للزمه بذل الكلأ إذا كان في أرضه بلا قيمة وللزمه كذلك(3/127)
أن لا يمنع الماء زرع غيره إذا كان بقربه زرع لرجل لا يحيى إلاّ به.
قال الشيخ أما من تأول الحديث على معنى الاستحباب دون الإيجاب فإنه يحتاج إلى دليل يجوز معه ترك الظاهر، وأصل النهي علىالتحريم فمنع فضل الماء محظور على ما ورد به الظاهر، وأما من أوجب فيه القيمة فقد صار إلى المنع أيضاً وهو خلاف الخبر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء.
وقد ذكره أبو داود العطار عن عمرو بن دينار، عَن أبي المنهال عن إياس بن عبد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء.
وأما تشبيهه ذلك بالطعام فإنهما لا يشابهان لأن أصل الماء الإباحة وهو مستخلف ما دام في منعه والطعام متقوم منقطع المادة غير مستخلف، وقد جرت العادة بتمول الطعام سلماً كما يتمول سائر أنواع المال. والماء لا يتمول في غالب العرف وأما الزرع فليس له حرمة وللحيوان حرمة، والحديث إنما جاء في منع الماء الذى يمنع به الكلأ والزرع بمعزل عن ذلك.
قال الشيخ رحمه الله وأما الماء إذا جمعه صاحبه في صهريج أو بركة أوخزنه في جب أو قراه في حوض ونحوه فإن له أن يمنعه وهو شيء قد حازه على سبيل الاختصاص لا يشركه فيه غيره، وهو مخالف لماء البئر لأنه لا يستخلف استخلاف ماء الآبار ولا يكون له فضل في الغالب كفضل مياه الآبار، والحديث إنما جاء في منع الفضل دون الأصل ومعناه ما فضل عن حاجته وعن حاجة عياله وماشيته وزرعه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ قال حدثني أبي، قال: حَدَّثنا كهمس عن سيار بن منظور رجل من بني فزارة عن أبيه عن امرأة يقال لها بهيسة عن أبيها(3/128)
قالت استأذن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الماء، قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الملح.
قال الشيخ معناه الملح إذا كان في معدنه في أرض أو جبل غير مملوك فإن أحداً لا يمنع من أخذه، فأما إذا صار في حيز مالكه فهو أولى به وله منعه وبيعه والتصرف فيه كسائر أملاكه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا عيسى بن يونس، قال: حَدَّثنا حريز بن عثمان قال:، قال: حَدَّثنا أبو خداش أنه سمع رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار.
قال الشيخ هذا معناه الكلأ ينبت في موات الأرض يرعاه الناس ليس لأحد أن يختص به دون أحد ويحجزه عن غيره، وكان أهل الجاهلية إذا غزا الرجل منهم حمى بقعة من اللأرض لماشيته ترعاها يذود الناس عنها فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وجعل الناس فيها شِرعاً يتعاورونه بينهم0 فأما الكلأ إذا نبت في أرض مملوكة لمالك بعينه فهو مال له ليس لأحد أن يشركه فيه إلاّ بإذنه.
وأما قوله والنار فقد فسره بعض العلماء وذهب إلى أنه أراد به الحجارة التي توري النار يقول لا يمنع أحد أن يأخذ منها حجراً يقتدح به النار، فأما التي يوقدها الإنسان فله أن يمنع غيره من أخذها. وقال بعضهم ليس له أن يمنع من يريد يأخذ منها جذوة من الحطب التي قد احترق فصار جمراً وليس له أن يمنع من أراد أن يستصبح منها مصباحاً أو أدنى منها ضغثاً يشتعل بها لأن ذلك لا ينقص من عينها شيئاً والله أعلم.(3/129)
ومن باب بيع السنور
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة وعلي بن بحر، قال: حَدَّثنا عيسى عن الأعمش، عَن أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور.
قال الشيخ النهي عن بيع السنور متأول على أنه إنما كره من أجل أحد معنيين إما لأنه كالوحشي الذي لا يملك قياده ولا يصح التسليم فيه، وذلك لأنه ينتاب الناس في دورهم ويطوف عليهم فيها ثم يكاد ينقطع عنهم، وليس كالدواب التي تربط على الأوادي ولا كالطير الذي يحبس في الأقفاص، وقد يتوحش بعد الأنوسة ويتأبد حتى لا يقرب ولا يقدر عليه. فإن صاب المشتري له إلى أن يحبسه في بيته أو يشده في خيط أو سلسلة لم ينتفع به.
والمعنى الآخر أن يكون إنما نهى عن بيعه لئلا يتمانع الناس فيه وليتعاوروا ما يكون منه في دورهم فيرتفقوا به ما أقام عندهم ولا يتنازعوه إذا انتقل عنهم إلى غيرهم تنازع الملاك في النفيس من الأعلاق، وقيل إنما نهى عن بيع الوحشي منه دون الانسي، وقد تكلم بعض العلماء في إسناد هذا الحديث وزعم أنه غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وممن أجاز بيع السنور ابن عباس وإليه ذهب الحسن البصري وابن سيرين والحكم وحماد، وبه قال مالك بن أنس وسفيان الثورى وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وكره بيعه أبو هريرة وجابر وطاوس ومجاهد.
ومن باب ثمن الكلب
قال أبو داود: جدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن، عَن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ثمن الكلب،(3/130)
ومهر البغي وحلوان الكاهن.
قال الشيخ نهيه عن ثمن الكلب يدل على فساد بيعه لأن العقد إذا صح كان دفع الثمن واجباً مأموراً به لا منهياً عنه فدل نهيه عنه على سقوط وجوبه وإذا بطل الثمن بطل البيع لأن البيع إنما هوعقد على شيء بثمن معلوم، وإذا بطل الثمن بطل المثمن، وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فحملوها وباعوها وأكلوا أثمانها فجعل حكم الثمن والمثمن في التحريم سواء.
قال أبو داود: حدثنا أبو توبة، قال: حَدَّثنا أبو عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن قيس بن حبتر عن عبد الله بن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب فإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً.
قال الشيخ وهذا يؤكد معنى ما قلناه في الحديث الأول، ومعنى التراب ههنا الحرمان والخيبة كما يقال ليس في كفه إلاّ التراب، وكقوله صلى الله عليه وسلم وللعاهر الحجر يريد الخيبة إذ لاحظ له في الولد، وكان بعض السلف يذهب إلى استعمال الحديث على ظاهره ويرى أن يوضع التراب في كفه، وروي أن المقداد رأى رجلا يمدح رجلا فقام يحشي التراب بكفه في وجهه، وقال بهذا أمرنا، يَعني قوله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب.
وفي قوله إذا جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً دليل على أن لا قيمة للكب إذا تلف ولا يجب فيه عوض، وقال مالك بن أنس فيه القيمة ولا ثمن له.
قال الشيخ الثمن ثمنان ثمن التراضي عن البيوع وثمن التعديل عند الاتلاف وقد أسقطهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فاملأ كفه تراباً فثبت أن لا عوض له بوجه من الوجوه.(3/131)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا ابن وهب قال: حدثني معروف بن سويد الجُذامي عن علي بن رباح اللخمي حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل ثمن الكلب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي.
قال الشيخ إذا لم يحل ثمن الكلب لم يحل بيعه لأن البيع إنما هو على ثمن ومثمن فإذا فسد أحد الشقين فسد الشق الآخر وفي ذلك تحريم العقد من أصله.
وقد اختلف الناس في جواز بيع الكلب فروي، عَن أبي هريرة أنه قال هو من السحت وروي عن الحسن والحكم وحماد، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل، وقال أصحاب الرأي جائز بيع الكلب، وقال قوم ما أبيح اقتناؤه من الكلاب فبيعه جائز وما حرم اقتناؤه منها فبيعه محرم يحكى ذلك عن عطاء والنخعي، وقد حكينا عن مالك أنه كان يحرم ثمن الكلب ويوجب فيه القيمة لصاحبه على من أتلفه قالوا وذلك لأنه أبطل عليه منفعته وشبهوه بأم الولد لا يحل ثمنها وفيها القيمة على من أتلفها.
قال الشيخ جواز الانتفاع بالشيء إذا كان لأجل الضرورة لم يكن دالاً على جواز بيعه كالميتة يجوز الانتفاع للمضطر ولا يجوز بيعها.
ومن باب ثمن الميتة والخمر والخنزير
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الله بن وهب، قال: حَدَّثنا معاوية بن صالح عن عبد الوهاب بن بخت، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى حرم الخمر وثمنها وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه.
قال الشيخ فيه دليل على أن من أراق خمر البنصراني أو قتل خنزيراً له فإنه(3/132)
لا غرامة عليه لأنه لا ثمن لها في حكم الدين.
وفيه دليل على فساد بيع السرقين وبيع كل شيء نجس العين، وفيه دليل على أن بيع شعر الخنزير لا يجوز.
واختلفوا في جواز الانتفاع به فكرهت طائفة ذلك وممن منع منه ابن سيرين والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق وقال أحمد وإسحاق الليف أحب إلينا وقد رخص فيه الحسن والأوزاعي ومالك وأصحاب الرأي.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك لعن الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا أثمانها.
قال الشيخ قوله جملوها معناها أذابوها حتى تصير ودكاً فيزول عنها اسم الشحم يقال جملت الشحم واجتملته إذا أذبته قال لبيد:
فاشتوى ليلة ريح واجتمل
وفي هذا بيان بطلان كل حيلة يحتال بها توصل إلى محرم وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه.
وفيه دليل على جواز الاستصباح بالزيت النجس فإن بيعه لا يجوز، وفي تحريمه ثمن الأصنام دليل على تحريم بيع جميع الصور المتخذة من الطين والخشب والحديد والذهب والفضة وما أشبه ذلك من اللعب ونحوها.(3/133)
وفي الحديث دليل على وجوب العبرة واستعمال القياس وتعدية معنى الاسم إلى المثل أو النظير خلاف قول من ذهب من أهل الظاهر إلى إبطالها، ألا تراه كيف ذم من عدل عن هذه الطريقة حتى لعن من كان عدوله عنها تذرعاً إلى الوصول به إلى محظور.
قال أبو داود: حدثنا مسدد أن بشر بن المفضل وخالد بن عبد الله حدثاهم المعنى عن خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود ثلاثاً إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وأن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه.
قال الشيخ هذا يؤكد ما مضى من القول على معنى الأحاديث المتقدمة وفيه دليل على فساد بيع الزيت الذي قد أصابته نجاسة.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا ابن إدريس ووكيع عن طعمة بن عمرو الجعفري عن عمرو بن بيان التغلبي عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من باع الخمر فليشقص الخنازير.
قال الشيخ قوله فليشقص معناه فليستحل أكلها، والتشقيص يكون من وجهين أحدهما أن يذبحها بالمشقص وهو نصل عريض.
والوجه الآخر أن يجعلها أشقاصا وأعضاء بعد ذبحها كما تُعضى أجزاء الشاة إذا أرادوا اصلاحها للأكل، ومعنى الكلام إنما هو توكيد التحريم والتغليظ فيه يقول من استحل بيع الخمر فليستحل أكل الخنزير فانهما في الحرمة والاثم سواء أي إذا كنت لا تستحل أكل لحم الخنزير فلا تستحل ثمن الخمر.(3/134)
ومن باب بيع الطعام قبل أن يستوفى
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه.
قال الشيخ أجمع أهل العلم على أن الطعام لا يجوز بيعه قبل القبض.
واختلفوا فيما عداه من الأشياء فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ما عدا الطعام بمنزلة الطعام إلاّ الدور والأرضون فإن بيعها قبل قبضها جائز.
وقال الشافعي ومحمد بن الحسن الطعام وغير الطعام من السلع والدور والعقار في هذا سواء لا يجوز بيع شيء منها حتى تقبض وهو قول ابن عباس.
وقال مالك بن أنس ما عدا المأكول والمشروب جائز أن يباع قبل أن يقبض، وقال الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق يجوز بيع كل منها ما خلا المكيل والموزون وروي ذلك عن ابن المسيب والحسن البصري والحكم وحماد.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو عَوانة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشترى أحدكم طعاما فلا يبعه حتى يقبضه، قال: وقال ابن عباس أحسب كل شيء مثل الطعام.
قال الشيخ يشبه أن يكون ابن عباس إنما قاس ما عدا الطعام على الطعام بعلة أنه عين مبيعه لم يقبض أو لأنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، والشيء المبيع ضمانه قبل القبض على البائع فلم يجز للمشتري ربحه.
واحتج بعض من ذهب إلى جواز بين ما عدا الطعام قبل أن يقبض بخبر ابن عمر أنهم كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيعون الإبل بالبقيع بالدنانير فيأخذون الدراهم وبالدراهم ويأخذون الدنانير فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع(3/135)
التقابض قبل التفرق قالوا وهذا بيع الثمن الذي وقع به العقد قبل قبضه فدل أن النهي مقصور على الطعام وحده وقالوا إن الملك ينتقل بنفس العقد بدليل أن المبيع لو كان عبداً فأعتقه المشتري قبل القبض عتق، وإذا ثبت الملك جاز التصرف ما لم يكن فيه إبطال حق لغيره.
قال الشيخ وقد يقال على الفرق بين الدراهم والدنانير إذا كانت أثماناً وبين غيرها أن معنى النهي أن تقصد بالتصرف في السلعة الربح وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ومقتضي الدراهم من الدنانيرلا يقصد به الربح إنما يريد به الاقتضاء والنقود مخالفة لغيرها من الأشياء لأنها أثمان وبعضها ينوب عن بعض وللحاكم أن يحكم على من أتلف على إنسان مالاً بأيهما شاء فكانا كالنوع الواحد من هذا المعنى.
وأما العتق فانه اتلاف واتلاف المشتري عين المبيع يقوم مقام القبض.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه، يَعني جزافاً.
قال السيخ القبوض تختلف في الأشياء حسب اختلافها في أنفسها وحسب اختلاف عادات الناس فيها فمنها ما يكون بأن يوضع المبيع في يد صاحبه ومنها ما يكون بالتخلية بينه وبين المشتري، ومنها ما يكون بالنقل من موضعه ومنها ما يكون بأن يكتال وذلك فيما بيع من المكيل كيلاً، فأما ما يباع منه جزافا صبرة مصمومة على الأرض فالقبض فيه أن ينقل ويحول من مكانه. فإن ابتاع طعاما كيلاً ثم أراد أن يبيعه بالكيل الأول لم يجز حتى يكيله على(3/136)
المشتري ثانيا، وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري.
وممن قال أنه لا يجوز بيعه بالكيل الأول حتى يكال ثانيا أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وهو مذهب الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي، وقال مالك إذا باعه نسيئة فهو المكروه فأما إذا باعه نقداً فلا بأس أن يبيعه بالكيل الأول، وروي عن عطاء أنه أجاز بيعه نساء كان أو نقداً.
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حَدَّثنا وكيع عن سفيان عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله، زاد أبو بكر قلت لابن عباس لم قال ألا ترى أنهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجى.
قال الشيخ قوله والطعام مُرجى أي مؤجل وكل شيء أخرته فقد أرجيته يقال أرجيت الشيء ورجيته أي أخرته؛ وقد يتكلم به مهموزاً وغير مهموز وليس هذا من باب الطعام الحاضر ولكنه من باب السلف وذلك مثل أن يشتري منه طعاماً بدينار إلى أجل فيبيعه قبل أن يقبضه منه بدينارين وهو غير جائز لأنه في التقدير بيع ذهب بذهب والطعام مؤجل غائب غير حاضر وإنما صار ذلك بيع ذهب بذهب على معناه لأن المسلف إذا باعه الطعام الذي لم يقبضه وأخذ منه ذهبا فإن البيع لا يصح فيه إذ كان الطعام الذي باعه منه مرجى مضموناً على غيره وإنما تقايل الذهبان في التقدير فكأنه إنما باعه ديناره الذي كان قد أسلفه في الطعام بدينارين وهو فاسد من وجهين أحدهما(3/137)
لأنه دينار بدينارين والآخر لأنه ناجز بغائب في بيع سبيله سبيل المصارفة.
ومن باب الرجل يقول عند البيع لا خلابة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايعت فقل لا خلابة.
قال الشيخ الخلابة مصدر خلبت الرجل إذا خدعته واخلُبه خلبا وخِلابة قال الشاعر:
شر الرجال الخالب المخلوب
ويستدل بهذا الحديث من يرى أن الكبير لا يحجر عليه إذ لو كان إلى الحجر عليه سبيل لحجر عليه ولأمر أن لا يبايع ولم يقتصرعلى قوله لا خلابة.
قال الشيخ والحجر على الكبير إذا كان سفيها مفسداً لماله واجب كهو على الصغير، وهذا الحديث إنما جاء في قصة حبان بن منقذ ولم يذكر صفة سفه ولا اتلافاً لماله وإنما جاء أنه كان يخدع في البيع وليس كل من غبن في شيء يجب أن يحجر عليه وللحجر حد فإذا لم يبلغ ذلك الحد لم يستحق الحجر.
وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهب بعضهم إلى أنه خاص في أمرحبان بن منقذ وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذا القول شرطاً له في بيوعه ليكون له الرد به إذا تبين الغبن في صفقته فكان سبيله سبيل من باع أو اشترى على شرط الخيار، وقال غيره الخبر على عمومه في حبان وغيره.
وقال مالك بن أنس في بيع المغابنة إذا لم يكن المشتري ذا بصيرة كان له فيه الخيار.(3/138)
وقال أحمد في بيع المسترسل يكره غابنه وعلى صاحب السلعة أن يستقصي له وقد حكي عنه أنه قال إذا بايعه وقال لا خلابة فله الرد، وقال أبو ثور البيع إذا غبن فيه أحد المتبايعين غبناً لا يتغابن الناس فيما بينهم بمثله فاسد كان المتبايعان خابري الأمر أو محجوراً عليهما.
وقال أكثر الفقهاء إذا تصادر المبايعان عن رضا وكانا عاقلين غير محجورين فغبن أحدهما فلا يرجع فيه.
ومن باب في العُربان
قال أبو داود: حدثنا القعنبي قال قرأت على مالك بن أنس أنه بلغه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان قال مالك وذلك فيما نرى والله أعلم، أن يشتري الرجل العبد أو يتكارى الدابة ثم يقول أعطيك ديناراً على أني إن تركت السلعة أو الكراء فما أعطيتك لك.
قال الشيخ هكذا تفسير بيع العربان وفيه لغتان عربان وأربان ويقال أيضل عربون وأربون.
وقد اختلف الناس في جواز هذا البيع فأبطله مالك والشافعي للخبر ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ويدخل ذلك في أكل المال بالباطل وأبطله أصحاب الرأي.
وقد روي عن ابن عمر أنه أجاز هذا البيع ويروي ذلك أيضاً عن عمر.
ومال أحمد بن حنبل إلى القول بإجازته وقال أي شيء أقدر أن أقول وهذا عمر رضي الله عنه، يَعني أنه أجازه وضعف الحديث فيه لأنه منقطع وكأن رواية مالك فيه عن بلاغ.(3/139)
ومن باب الرجل يبيع ما ليس عنده
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة، عَن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام قال يا رسول الله يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي افأبتاعه له من السوق قال لا تبع ما ليس عندك.
قوله لا تبع ما ليس عندك يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق أو جمله الشارد ويدخل في ذلك كل شيء ليس بمضمون عليه مثل أن يشتري سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها ويدخل في ذلك بيع الرجل مال غيره موقوفاً على إجازة المالك لأنه يبيع ما ليس عنده ولا في ملكه وهو غرر لأنه لا يدري هل يجيزه صاحبه أم لا والله أعلم.
ومن باب شرط في بيع
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب، قال: حَدَّثنا إسماعيل عن أيوب قال حدثني عمرو بن شعيب قال حدثني أبي عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم تضمن ولا تبع ما ليس عندك.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى بن سعيد عن زكريا عن عامر عن جابر، قال بعته، يَعني بعيراً من النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطت حملانه إلى أهلي قال في آخره تراني إنما ماكستك لأذهب بجملك خذ جملك وثمنه فهما لك.
قال الشيخ أما الحديث وقوله لا يحل سلف وبيع فهو من نوع ما تقدم(3/140)
بيانه فيما مضى عن نهيه عن بيعتين في بيعة وذلك مثل أن يقول له أبيعك هذا العبد بخمسين دينارا على أن تسلفني ألف درهم في متاع أبيعه منك إلى أجل أو يقول أبيعكه بحذا على أن تقرضي ألف درهم، ويكون معنى السلف القرض وذلك فاسد لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن فيدخل الثمن في حد الجهالة ولأن كل قرض جَرَّ منفعة فهو ربا.
وأما ربح ما لم يضمن فهو أن يبيعه سلعة قد اشتراها ولم يكن قبضها فهي من ضمان البائع الأول ليس من ضمانه فهذا لا يجوز بيعه حتى يقبضه قيكون من ضمانه.
وقوله لا تبع ما ليس عندك فقد فسرناه قبل.
وأما قوله ولا شرطان في بيع فإنه بمنزلة بيعتين وهو أن يقول بعتك هذا الثوب نقداً بدينار ونسيئة بدينارين فهذا بيع واحد تضمن شرطين يختلف المقصود منه باختلافهما وهو الثمن، ويدخله الغرر والجهالة ولا فرق في مثل هذا بين شرط واحد وبين شرطين أو شروط ذات عدد في مذاهب أكثر العلماء.
وفرق أحمد بن حنبل بين شرط واحد وبين شرطين اثنين فقال إذا اشترى منه ثوباً واشترط قصارته صح البيع فان شرط عليه مع القصارة الخياطة فسد البيع، قال الشيخ ولا فرق بين أن يشترط عليه شيئا واحداً أو شيئين لأن العلة في ذلك كله واحدة وذلك لأنه إذا قال بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم على أن تقصره لي فان العشرة التي هي الثمن تنقسم على الثوب وعلى أجرة القصارة فلا يدري حينئذ كم حصة الثوب من حصة الإجارة وإذا صار الثمن مجهولاً بطل البيع. وكذلك هذا في الشرطين وأكثر. وكل عقد جمع تجارة(3/141)
وإجارة فسبيله في الفساد هذا السبيل وفي معناه أن تبتاع منه قفيز حنطة بعشرة دراهم على أن يطحنه. أو أن تشتري منه حمل حطب على أن ينقله إلى منزله وما أشبه ذلك مما يجمع بيعا وإجارة.
والشروط على ضروب فمنها ما يناقض البيوع ويفسدها ومنها ما لا يلائمها ولا يفسدها، وقد روي المسلمون عند شروطهم وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهوباطل. فعلم أن بعض الشروط يصح وبعضها يبطل، وقال صلى الله عليه وسلم من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع. فهذه الشروط قد أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقد البيع ولم يرد العقد يفسد بها فعلمت أن ليس كل شرط مبطلاً للبيع.
وجماع هذا الباب أن ينظر فكل شرط كان من مصلحة العقد أو من مقتضاه فهو جائز مثل أن يبيعه على أن يرهنه داره أو يقيم له كفيلاً بالثمن فهذا من مصلحة العقد والشرط فيه جائز. وأما مقتضاه فهو مثل أن يبيعه عبداً على أن يحسن إليه وأن لا يكلفه من العمل ما لا يطيقه وما أشبه ذلك من الأمور التي يجب عليه أن يفعلها، وكذلك لو قال له بعتك هذه الدار على أن تسكنها أو تسكنها من شئت وتكريها وتتصرف فيها بيعاً وهبة وما أشبه ذلك مما له أن يفعله في ملكه فهذا شرط لا يقدح في العقد لأن وجوده ذكراً له وعدمه سكوتاً عنه في الحكم سواء.
وأما ما يفسد البيع من الشروط فهو كل شرط يدخل الثمن في حد الجهالة أو يوقع في العقد أو في تسليم المبيع غرراً أو يمنع المشتري من اقتضاء حق الملك من المبيع.(3/142)
فأما ما يدخل الثمن في حد الجهالة فهو أن يشتري منه سلعة ويشترط عليه نقلها إلى بيته أو ثوباً ويشترط عليه خياطته في نحو ذلك من الأمور، وكذلك إذا باعه عبدا على أن لا خسارة عليه، وأما ما يجلب الغرر مثل أن يبيعه داره بألف درهم ويشترط فيه رضاء الجيران أو رضاء زيد أو عمرو أو يبيعه دابة على أن يسلمها إليه بالري أو بأصبهان فهذا غرر لا يدري هل يسلم الحيوان إلى وقت التسليم وهل يرضى الجيران أم لا أو المكان الذي شرط تسليمه فيه أو لا، وأما منع المشتري من مقتضى العقد فهو أن يبيعه جارية على أن لا يبيعها أو لا يستخدمها أو لا يطأها ونحو ذلك من الأمور فهذه شروط تفسد البيع لأن العقد يقتضي التمليك واطلاق التصرف في الرقبة والمنفعة وهذه الشروط تقتضي الحجر الذي هو مناقض لموجب الملك فصار كأنه لم يبعه منه أو لم يملكه إياه. وأما حديث جابر وقوله واشترطت حملانه إلى أهلي فسنقول في تخرجه والتوفيق بينه وبين الحديث الأول ما يزول معه الخلاف على معاني ما قلناه إن شاء الله وذلك أنه قد اختلف الرواية فيه فروى شعبة بن المغيرة عن الشعبي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاره ظهر الجمل إلى المدينة.
وحدثنيه إبراهيم بن عبيد الله القصار، قال: حَدَّثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: حَدَّثنا يحيى بن محمد بن السكن، قال: حَدَّثنا يحيى بن كثير أبو غسان العنبري، قال: حَدَّثنا شعبة عن المغيرة عن الشعبي عن جابر قال بعت النبي صلى الله عليه وسلم جملاً فافقرني ظهره إلى المدينة.
قال الشيخ الافقار إنما هو في كلام العرب إعارة الظهر للركوب فدل هذا على أنه لم يكن عقد شرط في نفس البيع وقد يحتمل أن يكون ذلك عدة(3/143)
منه أي وعده له بالركوب والعقد إذا تجرد عن الشروط لم يضره ما يعقبه بعد ذلك من هذه الأمور، ويشبه أن يكون إنما رواه من رواه بلفظ الشرط لأنه إذا وعده الافقار والإعارة كان ذلك منه أمراً لا يشك الوفاء فيه فحل محل الشروط المذكورة والأمور الواجبة التي لا خلف فيها فعبر عنه بالشرط على هذا المعنى. على أن قصة جابر إذا تأملتها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستوف فيها أحكام البيوع من القبض والتسليم وغيرهما، وإنما أراد أن ينفعه ويهب له فاتخذ بيع الجمل ذريعة إلى ذلك ومن أجل ذلك جرى الأمر فيها على المساهلة ألا ترى أنه قد دفع إليه الثمن الذي سماه ورد إليه الجمل يدل على صحة ذلك؛ قوله أتراني إنما ماكستك لأخذ جملك.
وقد اختلف الناس فيمن اشترى دابة فاشترط فيها حملاناً للبائع، فقال أصحاب الرأي البيع باطل، وإليه ذهب الشافعي، وقال الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه البيع جائز والشرط ثابت على ظاهر حديث جابر بن عبد الله.
وفرق مالك بن أنس بين المكان القريب والبعيد فقال إن اشترط مكاناً قريبا فهو جائز وإن كان بعيداً فهو مكروه، وكذلك قال فيمن باع داراً على أن له سكناها مدة، فقال إن كان ذلك نحو الشهر والشهرين جاز، وإن كان المدة الطويلة لم يجز.
قال الشيخ وقد بقي في هذا الباب قسم ثالث من الشروط وهو بيع الرقبة بشرط العتق، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال إبراهيم النخعي كل شرط في بيع فإن البيع يهدمه إلا أن يكون عتاقة، وإلى هذا ذهب الشافعي في أظهر قوليه وهو مذهبه الجديد فقال إذا باع الرجل النسمة واشترط على المشتري(3/144)
عتقها أن البيع جائز والشرط ثابت، وقال في القديم البيع جائز والشرط باطل وهو مذهب ابن أبي ليلى وأبي ثور، وقال أبو حنيفة وأصحابه البيع فاسد، غير أنهم قالوا إن أعتقه جاز ولزمه الثمن في قول أبي حنيفة دون القيمة، وقال صاحباه يلزمه القيمة وهذا أقيس.
قال الشيخ وإنما فرق بين العتق وبين غيره من الشروط الخصوصية بالعتق من الغلبة في الأصول والسراية في ملك الغير، ألا ترى أن ملك المالك يمتنع على غيره من التصرف فيه ثم لا يمتنع من التصرف في العتق وهو إذا كان بينه وبين آخر عبد فأعتق نصيبه منه عتق نصيب شريكه عليه، وأيضاً فإنه لا يجوز أن يبيع الرجل ملكه من ملكه ثم جازت الكتابة لما تضمنه من العتق. فإذا كانت أحكامه تجري على التخصيص لم ينكر أن تجري شروطه على التخصيص كذلك، وحديث النهي عن بيع شرط عام وخبر العتق خاص والعام ينبىء على الخاص ويخرج عليه والله أعلم.
وحدثني محمد بن هاشم بن هشام، قال: حَدَّثنا عبد الله بن فيروز الديلمي، قال: حَدَّثنا محمد بن سليم الذهلي،، قال: حَدَّثنا عبد الوارث بن سعيد قال قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عن رجل باع بيعاً وشرط شرطاً فقال البيع باطل والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال البيع جائز والنشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال البيع جائز والشرط جائز فقلت يا سبحان الله ثلاثة من الفقهاء فقهاء العراق اختلفوا علي في مسألة واحدة فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال ما أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه(3/145)
عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط البيع باطل والشرط باطل وأتيت ابن أبي ليلى وأخبرته فقال ما أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة فأعتقها وقال يعنى اشترطي الولاء لأهلها البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال ما أدري ما قالا حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال بعت النبي صلى الله عليه وسلم ناقة أو جملاً وشرط لي حملاناً إلى المدينة البيع جائز والشرط جائز.
قال الشيخ هذه الأحاديث كلها متفقة على معاني ما قدمنا من البيان في ترتيب الشرائط ولخصناه من وجوهها في مواضعها.
فأما حديث بريرة فسنتكلم عليه في موضعه من كتاب العتق فإن ذلك المكان أملك به وروايته من طريق ابن أبي ليلى ههنا مختلفة وألفاظه منتجة وقد ذكره أبو داود على وجهه في كتاب العتق وسنبين معناه هناك ونوضحه إن شاء الله.
ومن باب عهدة الرقيق
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا أبان عن قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عهدة الرقيق ثلاثة أيام.
قال الشيخ معنى عهدة الرقيق أن يشتري العبد أو الجارية ولا يشترط البائع البراءة من العيب فما أصاب المشتري من عيب في الأيام الثلاثة لم يرد إلاّ ببينة وهكذا فسره قتادة فيما ذكره أبو داود عنه.
قال الشيخ وإلى هذا ذهب مالك بن أنس وقال هذا إذا لم يشترط البائع(3/146)
البراءة من العيب. قال وعهدة السنة من الجنون والجذام والبرص فإذا مضت السنة فقد برىء البائع من العهدة كلها قال ولا عهدة إلاّ في الرقيق خاصة، وهذا قول أهل المدينة ابن المسيب والزهري أعني عهدة السنة في كل داء عضال أي صعب، وكان الشافعي لا يعتبر الثلاث والسنة في شيء منها وينظر إلى العيب فان كان مما يحدث مثله في مثل المدة التي اشتراه فيها إلى وقت الخصومة فالقول قول البائع مع يمينه وإن كان لا يمكن حدوثه في تلك المدة رده على البائع. وضعف أحمد بن حنبل عهدة الثلاث في الرقيق، وقال لا يثبت في العهدة حديث. وقالوا لم يسمع الحسن من عقبة بن عامر شيئاً والحديث مشكوك فيه فمرة قال عن سمرة ومرة قال عن عقبة.
ومن باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم رأى فيه عيباً
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حَدَّثنا ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان.
قال الشيخ معنى الخراج الدخل والمنفعة ومن هذا قوله تعالى {أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير} [المؤمنون: 72] ويقال للعبد إذا كان لسيده عليه ضريبة مخارج، ومعنى قوله الخراج بالضمان المبيع إذا كان مما له دخل وغلة فإن مالك الرقبة الذي هو ضامن الأصل يملك الخراج بضمان الأصل فإذا ابتاع الرجل أرضاً فأشغلها أو ماشية فنتجها أودابة فركبها أو عبداً فاستخدمه ثم وجد به عيباً فله أن يرد الرقبة ولا شيء عليه فيما انتفع به لأنها لوتلفت ما بين مدة العقد والفسخ لكانت من ضمان المشتري فوجب أن يكون الخراج من حقه،(3/147)
واختلف أهل العلم في هذا فقال الشافعي ما حدث في ملك المشتري من غلة ونتاج ماشية وولد أمة فكل ذلك سواء لا يرد منه شيئا ويرد المبيع إن لم يكن ناقصا عما أخذه.
وقال أصحاب الرأي إذا كان ماشية فحلبها أو نخلاً أو شجراً فأكل ثمرها لم يكن له أن يرد بالعيب ويرجع بالأرش، وقالوا في الدار والدابة والعبد الغلة له ويرد بالعيب.
وقال مالك في أصواف الماشية وشعورها أنها للمشتري ويرد الماشية إلى البائع فأما أولادها فإنه يردها مع الأمهات.
واختلفوا في المبيع إذا كان جارية فوطئها المشتري ثم وجد بها عيبا، فقال أصحاب الرأي تلزمه ويرجع على البائع بأرش العيب، وكذلك قال الثوري وإسحاق بن راهويه، وقال ابن أبي ليلى يردها ويرد معها مهر مثلها.
وقال مالك إن كانت ثيبا ردها ولا يرد معها شيئاً وإن كانت بكراً فعليه ما نقص من ثمنها.
وقال الشافعي إن كانت ثيباً ردها ولا شيء عليه، وإن كانت بكراً لم يكن له ردها ورجع بما نقصها العيب من أصل الثمن.
وقال أصحاب الرأي الغصوب على البيوع من أجل أن ضمانها على الغاصب فلم يجعلوا عليه رد الغلة واحتجوا بالحديث وعمومه.
قال الشيخ والحديث إنما جاء في البيع وهو عقد يكون بين المتعاقدين بالتراضي وليس الغصب يعقد عن تراض من المتعاقدين، وإنما هو عدوان وأصله وفروعه سواء في وجوب الرد ولفظ الحديث مبهم لأن قوله الخراج بالضمان(3/148)
يحتمل أن يكون المعنى أن ضمان الخراج بضمان الأصل. واقتضاء العموم من اللفظ المبهم ليس بالبين الجواز والحديث في نفسه ليس بالقوي، إلاّ أن أكثر العلماء قد استعملوه في البيوع فالأحوط أن يتوقف عنه فيما سواه.
وقال محمد بن إسماعيل هذا حديث منكر ولا أعرف لمخلد بن خفاف غير هذا الحديث.
قال أبو عيسى الترمذي فقلت له فقد روي هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها فقال إنما رواه مسلم بن خالد الزنجي وهو ذاهب الحديث.
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد الفريابي،، قال: حَدَّثنا سفيان عن محمد بن عبد الرحمن عن مخلد الغفاري، قال كان بيني وبين أناس شركة في عبد فأقتويته وبعضنا غائب وذكر الحديث.
قال الشيخ قوله اقتويته، معناه استخدمته.
ومن باب إذا اختلف المتبايعان
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، قال: حَدَّثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حَدَّثنا أبي، عَن أبي عميس قال أخبرني عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده، قال اشترى الأشعث بن قيس رقيقاً من رقيق الخمس من عبيد الله بعشرين ألفاً فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم، فقال إنما أخذتهم بعشرة آلاف، فقال عبد الله فاختر رجلاً يكون بيني وبينك فقال الأشعث أنت بيني وبين نفسك، قال عبد الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا(3/149)
اختلف البيعان وليس بينهما بيِّنة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان.
قال وحدثنا عبد الله بن محمد النفيلي،، قال: حَدَّثنا هشيم، قال: حَدَّثنا ابن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود فذكر معناه.
قال الشيخ قول أو يتتاركان معناه أو يتفاسخان العقد.
واختلف أهل العلم في هذه المسألة فقال مالك والشافعي يقال للبائع احلف بالله ما بعت سلعتك إلاّ بما قلت، فان حلف البائع قيل للمشتري إما أن تأخذ السلعة بما قال البائع وإما أن تحلف ما اشتريتها إلاّ بما قلت فإن حلف برىء منها وردت السلعة على البائع وسواء عند الشافعي كانت السلعة قائمة أو تالفة فإنهما يتحالفان ويترادان.
وكذلك قال محمد بن الحسن ومعنى يترادان أي قيمة السلعة عند الاستملاك.
وقال النخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف القول قول المشتري مع يمينه بعد الاستملاك، وقول مالك قريب من قولهم بعد الاستملاك في أشهر الروايتين عنه. واحتج لهم بأنه قد روي في بعض الأخبار إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة فالقول ما يقول البائع ويترادان قالوا فدل اشتراطه قيام السلعة على أن الحكم عند استهلاكها بخلاف ذلك.
قال الشيخ وهذه اللفظة لا تصح من طريق النقل إنما جاء بها ابن أبي ليلى وقيل إنها من قول بعض الرواة، وقد يحتمل أن يكون إنما ذكر قيام السلعة بمعنى التغليب لا من أجل التفريق لأن أكثر ما يعرض فيه النزاع ويجب معه التحالف هو حال قيام السلعة وهذا كقوله تعالى {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23] .(3/150)
فذكره الحجور ليس بشرط يتغير به الحكم ولكنه غالب الحال وكقوله {إلاّ أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة: 229] ولم يجز ذكر الخوف من مذهب أكثر الفقهاء للفرق ولكن لأنه الغالب ولم يفرقوا في البيوع الفاسدة بين القائم والتالف منها فيما يجب من رد السلعة إن كانت قائمة والقيمة إن كانت تالفة. وهذا البيع مصيره إلى الفساد لأنا نرفعه من أصله إذا تحالفا ونجعله كأنه لم يقع ولسنا نثبته ثم نفسخه ولوكنا فعلنا ذلك لكان في ذلك تكذيب أحد الحالفين ولا معنى لتكذيبه مع إمكان تصديقه ويخرج ذلك على وجه يعذر فيه مثل أن يحمل أمره على الوهم وغلبة الظن في نحو ذلك.
واحتجوا فيه أيضاً بقوله اليمين على المدعى عليه، وهذا لا يخالف حديث التحالف لأن كل واحد منهما مدع من وجه ومدعى عليه من وجه آخر وليس اقتضاء أحد الحكمين منه بأولى من الآخر، وقد يجمع بين الخبرين أيضاً بأن يجعل اليمين على المدعى عليه إذ كانت يمين نفي وهذه يمين فيها إثبات.
قال الشيخ وأبو حنيفة لا يرى اليمين في الاثبات، وقد قال به ههنا مع قيام السلعة، وقد خالف أبو ثور جماعة الفقهاء في هذه المسألة فقال القول قول المشتري مع قيام السلعة، ويقال إن هذا خلاف الإجماع مع مخالفته الحديث والله أعلم.
وقد اعتذر له بعضهم أن في إسناد هذا الحديث مقالاً فمن أجل ذلك عدل عنه.
قال الشيخ هذا حديث قد اصطلح الفقهاء على قبوله وذلك يدل على أن له أصلاً كما اصطلحوا على قبول قوله لا وصية لوارث، وفي إسناده ما فيه.
قال الشيخ وسواء عند الشافعي كان اختلافهما في الثمن أو في الأجل أو(3/151)
في خيار الشرط أو في الرهن أو في الضمين فإنهما يتحالفان قولاً بعموم الخبر وظاهره إذ ليس فيه ذكر حال من الاختلاف دون حال.
وعند أصحاب الرأي لا يتحالفان إلاّ عند الاختلاف في الثمن.
ومن باب الشفعة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج، عَن أبي الزببر عن جابر، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل شرك ربعة أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باع فهو أحق به حتى يؤذنه.
قال الشيخ الربع والربعة المنزل الذي يربع به الإنسان ويتوطنه، يقال هذا ربع وهذه ربعة بالهاء كما قالوا دار ودارة.
وفي هذا الحديث إثبات الشفعة في الشركة وهو اتفاق من أهل العلم وليس فيه عن المقسوم من جهة اللفظ ولكن دلالته من طريق المفهوم أن لا شفعة في المقسوم كقوله الولاء لمن أعتق دلالته أنه لا ولاء إلاّ للمعتق.
وفيه دليل على أن الشفعة لا تجب إلاّ في الأرض والعقار دون غيرهما من العروض والأمتعة والحيوان ونحوها.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق، قال: حَدَّثنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر قال إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مال لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.
قال الشيخ هذا الحديث أبين في الدلالة على نفي الشفعة لغير الشريك من مثبته من الحديث الأول وكلمة إنما تعمل بركنيها فهي مثبتة للشيء نافية لما سواه،(3/152)
فثبت أنه لا شفعة في المقسوم.
وأما قوله فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فقد يحتج بكل لفظة منها قوم، أن اللفظة الأولى ففيها حجة لمن لم ير الشفعة في المقسوم، وأما اللفظة الأخرى فقد يحتج بها من يثبت الشفعة بالطريق وإن كان المبيع مقسوماً.
قال الشيخ ولا حجة لهم عندي في ذلك وإنما هو الطريق إلى المشاع دون المقسوم وذلك أن الطريق يكون في المشاع شائعاً بين الشركاء قبل القسمة وكل واحد منهم يدخل من حيث شاء ويتوصل إلى حقه من الجهات كلها، فإذا قسم العقار بينهم منع كل واحد منهم أن يتطرق شيئاً من حق صاحبه وأن يدخل إلى ملكه إلاّ من حيث جعل له فمعنى صرف الطرق هو هذا والله أعلم.
ثم إنه علق الحكم فيه بمعنيين أحدهما وقوع الحدود وصرف الطرق معاً فليس لهم أن يثبتوه بأحدهما وهو نفي صرف الطرق دون نفي وقوع الحدود.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، قال: حَدَّثنا الحسن بن الربيع، قال: حَدَّثنا ابن إدريس عن ابن جريج عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة أو عن سعيد بن المسيب أو عنهما جميعاً، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها.
قال الشيخ وفي هذا بيان أن الشفعة تبطل بنفس القسمة والتمييز بين الحصص بوقوع الحدود ويشبه أن يكون المعنى الموجب للشفعة دفع الضرر بسوء المشاركة والدخول في ملك الشريك، وهذا المعنى يرتفع بالقسمة وأملاك(3/153)
الناس لا يجوز الاعتراض عليها بغير حجة.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حَدَّثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة سمع عمرو بن الشريد سمع أبا رافع سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول الجارأحق بسقبه.
قال الشيخ السقب القرب يقال ذلك بالسين والصاد حميعاً قال الشاعر:
لا صقب دارها ولا أمم
وقد يحتج بهذا من يرى الشفعة بالجوار وإن كان مقاسماً، إلاّ أن هذا اللفظ مبهم يحتاج إلى بيان وليس في الحديث ذكر الشفعة فيحتمل أن يكون أراد الشفعة، وقد يحتمل أن يكون أراد أنه أحق بالبر والمعونه وما في معناهما، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال إن لي جارين إلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما منك داراً أو باباً.
وقد يحتمل أن يجمع بين الخبرين فيقال إن الجار أحق بسقبه إذا كان شريكاً فيكون معنى الحديثين على الوفاق دون الاختلاف واسم الجار قد يقع على الشريك لأنه قد يجاور شريكه ويساكنه في الدار المشتركة كالمرأة تسسى جارة لهذا المعني ويدل على ذلك قول الأعشى يريد زوجته:
أجارتنا بيني فإنك طالقه…… كذاك أمور الناس تغدو وطارقه
وقد تكلم أهل الحديث في إسناد هذا الحديث واضطراب الرواة فيه، فقال بعضهم عن عمرو بن الشريد، عَن أبي رافع، وقال بعضهم عن أبيه، عَن أبي رافع وأرسله بعضهم. وقال فيه قتادة عن عمرو بن شعيب عن الشريد والأحاديث التي جاءت في أن لا شفعة إلاّ للشريك أسانيدها جياد ليس في شيء منها اضطراب.(3/154)
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: حَدَّثنا شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جار الدار أحق بدار الجار والأرض.
قال الشيخ وهذا أيضاً قد يحتمل أن يتأول على الجار المشارك دون المقاسم كما قلناه في الحديث الأول وقد تكلموا في إسناده، قال يحيى بن معين لم يسمع الحسن من سمرة وإنما هو صحيفة وقعت إليه أو كما قال، وقال غيره سمع الحسن من سمرة حديث العقيقة حسب.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا هشيم قال أخبرنا عبد الملك عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحداً.
قال الشيخ عبد الملك بن أبي سليمان لين الحديث وقد تكلم الناس في هذا الحديث. وقال الشافعي نخاف أن لا يكون محفوظاً وأبو سلمة حافظ، وكذلك أبو الزبير ولا يعارض حديثهما بحديث عبد الملك.
وحكي عن شعبة أنه أنكر هذا الحديث وقال إن روى عبد الملك حديثا آخر مثل هذا تركت حديثه وجعله بعضهم رأياً لعطاء أدرجه عبد الملك في الحديث، وقال أبو عيسى الترمذي قلت لمحمد بن إسماعيل في هذا فقال تفرد به عبد الملك، وروي عن جابر خلاف هذا.
وحكي عن أمية بن خالد عن شعبة قال قلت له ما لك لا تحدث عن عبد الملك وأنت تحدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي وسيع عبد الملك بن أبي سليمان وأنه كان حسن الحديث قال من حسنه فرقت.
قال الشيخ قد يحتمل أيضاً أن يوفق بينه وبين الأحاديث المتقدمة فيتأول(3/155)
على المشاع لأن الطريق إنما يكون واحداً على الحقيقة في المشاع دون المقسوم.
وقد اختلف الناس في هذه المسألة فذهب أكثر العلماء إلى أن لا شفعة في المقسوم وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما؛ وإليه ذهب أهل المدينة سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز والزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور.
وقال أصحاب الرأي الشفعة واجبة للجار وإن كان مقاسماً على اختلاف بينهم في ترتيب الجوار، إلاّ أنهم لم يختلفوا أن الشريك مقدم على الجار المقاسم، وقالوا إن سلم الشريك في الدار فالشريك في الطريق أحق من جار الدار.
قال الشيخ وفي هذا ترك للقول بالشفعة لأن الجار الملاصق أقرب من الشريك في الطريق، واستدل مالك والشافعي بقوله والشفعة فيما لم يقسم على أن ما لا يحتمل القسم كالبئر ونحوها لا شفعة فيه.
وقال أبو حنيفة والثورى الشفعة فيها قائمة.
قال الشيخ وهذا أولى لأن القصد بقول الشفعة فيما لم يقسم ليس بيان ما تجب فيه الشفعة مما ينقسم أو لا ينقسم؛ إنما هو بيان سقوط الشفعة فيما قد قسم، فإذا كان معنى الشفعة إزالة الضرر فإن هذا المعنى قائم في البئر وفيما أشبهها، وإلى هذا ذهب أبو العباس بن سريج، فقال إذا كان إزالة الضرر فيما يمكن إزالته واجبة ففيما لا يمكن إزالته أولى.
ومن باب الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد،(3/156)
عَن أبي بكر بن محمد عن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل أفلس فأدرك الرجل متاعه بعينه فهو أحق به من غيره.
قال الشيخ وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم قد قال بها كثير من أهل العلم، وقد قضى بها عثمان رضي الله عنه وروي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولا يعلم لهما مخالف في الصحابة وهو قول عروة بن الزبير وبه قال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق.
وقال إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وابن شبرمة هو أسوة الغرماء.
وقال بعض من يحتج لقولهم هذا مخالف للأصول الثابتة ولمعانيها والمبتاع قد ملك السلعة وصارت من ضمانه فلا يجوز أن ينقض عليه ملكه، وتأولوا الخبر على الودائع والبيوع الفاسدة ونحوها.
قال الشيخ والحديث إذا صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس إلاّ التسليم له وكل حديث أصل برأسه ومعتبر بحكمه في نفسه فلا يجوز أن يعترض عليه بسائر الأصول المخالفة أو يتذرع إلى إبطاله بعدم النظير له وقلة الاشباه في نوعه وههنا أحكام خاصة وردت بها أحاديث، فصارت أصولاً كحديث الجنين وحديث القسامة والمصراة.
وروى أصحاب الرأي حديث النبيذ وحديت القهقهة في الصلاة وهما مع ضعف سندهما مخالفان للأصول فلم يمتنعوا من قبولها لأجل هذه العلة وأما نقض ملك المالك فقد جاء في غير موضع من الأصول، كالمشتري الشقص يملكه بالعقد ثم ينقض حق الشفيع ملكه فيسترجعه، وتملك المرأة الصداق بنفس(3/157)
العقد بدليل أنه لو كان عبداً فأعتقته أو باعته كان العتق نافذاً والبيع جائزاً ثم أنه إذا طلقها الزوج قبل الدخول انتقض الملك عليها في نصفه.
وقد يختلف المتبايعان في الثمن بعد العقد فيتحالفان ويعود الملك إلى البائع وقد يؤجر داره سنة بأجرة معلومة فتهدم الدار فيرد المؤاجر الأجرة ويكاتب عبده ثم يعجز فيبطل العقد ويعود ملكاً يتصرف فيه كما كان، وقد يقدم المرتهن بما في يده من الرهن على سائر الغرماء فيكون أحق به ولم يستنكر شيء من هذه الأمور ولم يعبأ بمخالفتها سائر الأصول، وكذلك الحكم في المفلس. وقد قال الكوفيون لو وهب عبداً له على عوض فأفلس المرتهن فإن رب الهبة أحق بعين ماله، والموهوب منه المال مالك عندهم ملكاً تاماً، ولكن لأجل تعلقه بالعوض ينفق عليه ملكه، وهذا بعينه هو حكم الإفلاس على معنى ما ورد به الخبر. وكذلك قالوا في المحال عليه إذا أفلس رجع المحتال على المحيل.
وأما تأويل من تأول الحديث وخرجه على الودائع ونحوها فإنه غير مستقيم لأن ذلك يعطل فائدة الخبر إذ كان ذلك أمراً معلوماً من طريق العلم العام من جهة الإجماع، والخبر الخاص إنما يرد لبيان حكم خاص، وأبو هريرة راوي الحديث قد تأوله على البيع الصحيح لما جاءه خصمان، فقال هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فدل على صحة ما ذهبنا إليه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً فوجد متاعه بعينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء.(3/158)
قال الشيخ ذهب مالك إلى جملة ما في هذا الحديث، وقال إن كان قبض شيئاً من ثمن السلعة فهو أسوة الغرماء.
وقال الشافعي لا فرق بين أن يكون قبض شيئاً أو لم يقبضه في أنه إذا وجد عين ماله كان أحق به.
وقال مالك إذا مات المبتاع فوجد البائع عين سلعته لم يكن أحق بها.
وعند الشافعي إذا مات المبتاع مفلساً والسلعة قائمة فلصاحبها الرجوع فيها.
وقد روي، عَن أبي هريرة من غير هذا الطريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به. وقد ذكره أبو داود في هذا الباب.
، قال: حَدَّثنا محمد بن بشار، قال: حَدَّثنا ابن أبي ذئب، عَن أبي المعتمر عن عمر بن خَلْده، عَن أبي هريرة.
وحديث مالك الذي احتج به مرسل غير متصل.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف الطائي،، قال: حَدَّثنا عبد الله بن عبد الجبار الخبايري،، قال: حَدَّثنا إسماعيل بن عياش عن الزبيدي عن الزهري، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث وقال فيه فإن كان قضاه من ثمنها شيئاً فما بقي فهو أسوة الغرماء وأيما امرىء هلك وعنده متاع بعينه اقتضى منه شيئاً أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء.
قال الشيخ وهذا الحديث مسنداً من هذا الطريق يضعفه أهل النقل في رجلين من رواته ورواه مالك مرسلا فدل أنه لا يثبت مسنداً ولو صح لكان(3/159)
متأولاً على أن البائع مات موسراً بدليل الخبر المتقدم الذي رواه عمر بن خلدة وأما إذا كان قد اقتضى شيئاً من الثمن فان الشافعي لا يجعله في بقية الثمن أسوة الغرماء وذلك لأن هذا الخبر لما لم يصح عنده متصلا صار إلى القياس فجمع بين الأمرين ولم يفرق لأن الذي له الارتجاع في كل الشيء كان له ذلك في بعضه كالشفيع إذا كان له أن يأخذ الشقص كله كان له أن يأخذ البعض الباقي بعد تلف البعض.
ومن باب من أحيا حسيراً
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد قال وحدثنا موسى، قال: حَدَّثنا أبان عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن الشعبي قال عن أبان أن عامر الشعبي حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له قال في حديث أبان قال عبيد الله فقلت عمن قال عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ وهذا الحديث مرسل وذهب أكثر الفقهاء إلى أن ملكها لم يزل عن صاحبها بالعجز عنها وسبيله سبيل اللقطة فإذا جاء ربها وجب على واجدها رد ذلك عليه.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق هي لمن أحياها إذا كان صاحبها تركها مهلكة واحتج إسحاق بحديث الشعبي هذا وقال عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة فيها وفي النواة التي يلقيها من يأكل التمران قال صاحبها لم أبحها للناس فالقول قوله ويستحلف إن لم يكن أباحها للناس.(3/160)
ومن باب الرهن
قال أبو داود: حدثنا هناد عن ابن المبارك عن زكريا عن الشعبي، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً وعلى الذي يركب ويحلب النفقة.
قال الشيخ قوله وعلى الذي يحلب ويركب النفقة كلام مبهم ليس في نفس اللفظ منه بيان من يركب ويحلب من الراهن أو المرتهن أو العدل الموضوع على يده الرهن.
وقد اختلف أهل العلم في تأويله فقال أحمد بن حنبل للمرتهن أن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة، وكذلك قل له إسحاق بن راهويه.
وقال أحمد بن حنبل ليس له أن ينتفع منه بشيء غيرهما.
وقال أبو ثور إذا كان الراهن ينفق عليه لم ينتفع به المرتهن وإن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه في يد المرتهن فأنفق عليه فله ركوبه واستخدام العبد، قال وذلك لقوله وعلى الذي يحلب ويركب النفقة.
وقال الشافعي منفعة الرهن للراهن ونفقته عليه، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الاحتفاط به للوثيقة.
وعلى هذا تأول قوله الرهن مركوب ومحلوب يرى أنه منصرف إلى الراهن الذي هو مالك الرقبة.
وقد روى نحو من هذا عن الشعبي وابن سيرين.
وفي قوله الرهن مركوب ومحلوب دليل على أنه من اعار الراهن أو أكراه(3/161)
من صاحبه لم يفسخ الرهن.
قال الشيخ رحمه الله وهذا أولى وأصح لأن الفروع تابعة لأصولها والأصل ملك الراهن، ألا ترى أنه لو رهنه وهو يسوى مائة، ثم زاد حتى صار يسوى مائتين ثم رجعت قيمته إلى عشرة إن ذلك كله في ملك الراهن.
ولم يختلفوا أن للمرتهن مطالبة الراهن بحقه مع قيام الرهن في يده ولأنه لا يجوز للمرتهن أن يجحد المال في هذه الحال ولو كان الرهن عبداً فمات كان على الراهن كفنه، فدل ذلك على ثبوت ملكه عليه وإن كان ممنوعا من إتلافه لما يتعلق به من حق المرتهن ولو جاز للمرتهن أن يركب ويحلب بقدر النفقة لكان ذلك معاوضة مجهول بمجهول وذلك غير جائز فدل على صحة تأول من تأوله على الراهن.
وقد روى الشافعي في هذا ما يؤكد قوله حديث الأصم.
قال أخبرنا الربيع، قال: حَدَّثنا الشافعي، قال: حَدَّثنا محمد بن إسماعيل بن أبى فديك عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه، قال ووصله ابن المسيب، عَن أبي هريرة من حديث ابن أبي أنيسة.
ففي هذا ما دل على صحة قول من ذهب إلى أن دره وركوبه للراهن دون المرتهن، فأما قوله لا يغلق الرهن معناه أنه لا يستغلق ولا ينعقد حتى لا يفك والغَلق الفكاك، وحقيقته أن الرهن وثيقة في يد المرتهن يترك في يده إلى غاية(3/162)
يكون مرجعها إلى الراهن وليس كالبيع يستغلق فيملك حتى لا يفك.
وقوله الرهن من صاحبه، معناه الرهن لصاحبه، والعرب تضع من موضع اللام قال الشاعر:
أمن آل ليلى عرفت الديارا ... أبجنب الشقيق خلا قفارا
وكقول زهير:
* أمن أم أوفى دِمنَة لم تكلم *
وإذا كان الرهن من ملك صاحبه كان تلفه من ملكه دون ملك المرتهن.
وفي قوله له غنمه دليل على أنه يملك من غنمه وهو دره وولده وسائرمنافعه ما لا يملك من الأصل في الحال، ولولا ذلك لم يكن لهذا التفصيل معنى ولا كان فيه فائدة إذ كان معلوماً أن الفروع تابعة في الملك لأصولها ولاحقة في الحكم بها.
وفيه دليل على أن المنافع غير داخلة في الرهن. وفيه دليل أن استدامة القبض ليس بشرط في الرهن، وذلك أن الراهن لا يركبها إلاّ وهي خارجة من قبض المرتهن غير أنه لا يركبها إلاّ نهاراً ويردها بالليل إلى المرتهن ولا يسافر بها.
وقد اختلف الفقهاء فيما يحدث للرهن من نماء أو نتاج وثمرة هل يدخل في الرهن أم لا.
فقال أصحاب الرأي الولد والنتاج والثمرة رهن مع الأصل، إلاّ أنهم فرقوا بين الرهن والولد في الضمان فقالوا الرهن مضمون والولد الحادث بعد الرهن غير مضمون.
وقال الشافعي النماء المتميز من الرهن لا يدخل في الرهن.
وفي قوله وعليه غرمه دليل على أن الرهن غير مضمون، وفيه دليل على أن(3/163)
مؤنته على الراهن، ومعنى الغرم النقص ههنا.
وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي وأحمد بن حنبل هو غير مضمون وقال مالك هو غير مضمون فيما يظهر هلاكه من عقار وحيوان ونحوهما، وما كان مما لا يظهر فهو مضمون.
وقال أصحاب الرأي إن كان الرهن أكثر مما رهن به فهلك بما فيه والمرتهن أمين في الفضل، وإن كان أقل رد عليه النقصان وكذلك قال سفيان الثوري وهو قول النخعي، واحتجوا بما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الرهن يترادان الفضل فإن أصابته جائحة برئ.
وليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ضمان الرهن حديث، وقد روى شريح والحسن والشعبي ذهبت الرهان بما فيها.
قال الشيخ ذكر أبو داود في هذا الباب حديثا لا يدخل في أبواب الرهن.
، قال: حَدَّثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حَدَّثنا جرير عن عمارة بن القعقاع، عَن أبي زرعة بن عمرو بن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة مكانهم من الله، قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرنا من هم، قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها وذكر الحديث.(3/164)
قال الشيخ قوله تحابوا بروح الله فسروه القرآن، وعلى هذا يتأول قوله: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] وسماه روحاً والله أعلم لأن القلوب تحيى به كما تكون حياة النفوس والأبدان بالأرواح.
ومن باب الرجل يأكل من مال ولده
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عمارة بن عمير عن عمته عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه.
قال الشيخ فيه من الفقه أن نفقة الوالدين واجبة على الولد إذا كان واجداً لها، واختلفوا في صفة من تجب لهم النفقة من الآباء والأمهات، فقال الشافعي إنما يجب ذلك للأب الفقير الزمن فإن كان له مال أو كان صحيح البدن غير زمن فلا نفقة له عليه.
وقال سائر الفقهاء نفقة الوالدين واجبة على الولد ولا أعلم أحدا منهم اشترط فيها الزمانة كما اشترطها الشافعي.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع، قال: حَدَّثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي مالاً وولداً وإن والدي يجتاح مالي، قال أنت ومالك لوالدك إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم.
قال الشيخ قوله يجتاح مالي، معناه يستأصله ويأتي عليه، والعرب تقول جاحهم الزمان، واجتاحهم إذا أتى على أموالهم، ومنه الجائحة وهي الآفة التي تصيب المال فتهلكه.(3/165)
ويشبه أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده مآله إنما هو سبب النفقة عليه، وإن مقدارما يحتاج إليه للنفقة عليه شيء كثير لا يسعه عفو ماله والفضل منه إلاّ بأن يجتاح أصله ويأتي عليه فلم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرخص له في ترك النفقة عليه، وقال له أنت ومالك لوالدك، على معنى أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من ماله نفسه وإذا لم يكن لك مال وكان لك كسب لزمك أن تكتسب وتنفق عليه، فإما أن يكون أراد به إباحة ماله وخلاه واعتراضه حتى يجتاحه ويأتي عليه لا على هذا الوجه فلا أعلم أحداً ذهب إليه من الفقهاء والله أعلم.
ومن باب الرجل يجد عين ماله عند رجل
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عوف،، قال: حَدَّثنا هشيم عن موسى بن السائب عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به ويتبع البيع من باعه.
قال الشيخ هذا في الغصوب ونحوها إذا وجد ماله المغصوب والمسروق عند رجل كان له أن يخاصمه فيه ويأخذ عين ماله منه ويرجع المأخوذ منه على من باعه إياه.
ومن باب الرجل يأخذ حقه من تحت يده
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس،، قال: حَدَّثنا زهير،، قال: حَدَّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن هنداً أم معاوية جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وبني فهل علي من جناح أن آخذ من ماله شيئا قال خذي(3/166)
ما يكفيك وبنيك بالمعروف.
قال الشيخ فيه من الفقه وجوب نفقة النساء على أزواجهن ووجوب نفقة الأولاد على الآباء، وفيه أن النفقة إنما هي على قدر الكفاية، وفيه جواز أن يحكم الحاكم بعلمه وذلك أنه لم يكلفها البينة فيما أدعته من ذلك إذ كان قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينهما من الزوجية وأنه كان كالمستفيض عندهم بخل أبي سفيان وما كان نسب إليه من الشح.
وفيه جواز الحكم على الغائب، وفيه جواز ذكر الرجل ببعض ما فيه من العيوب إذا دعت الحاجة إليه. وفيه جواز أن يقضي الرجل حقه من مال عنده لرجل له عليه حق يمنعه منه وسواء كان ذلك من جنس حقه أو من غير جنس حقه وذلك لأن معلوماً أن منزل الرجل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة وسائر المرافق التي تلزمه لهم ثم أطلق أذنها في أخذ كفايتها وكفاية أولادها من ماله ويدل على صحة ذلك قولها في غير هذه الرواية أن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يدخل على بيتي ما يكفيني وولدي.
قال الشيخ وقد استدل بعضهم من معنى هذا الحديث على وجوب نفقة خادم المرأة على الزوج قال وذلك أن أبا سفيان رجل رئيس في قومه ويبعد أن يتوهم عليه أن يمنع زوجته نفقتها ويشبه أن يكون ذلك منه في نفقة خادمها فوقعت الإضافة في ذلك إليها إذ كانت الخادم داخلة في ضمنها ومعدودة في جملتها والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء وأحمد بن إبراهيم قالا: حَدَّثنا طلق بن غنام عن شريك قال ابن العلاء وقيس، عَن أبي حصين، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا(3/167)
تخن من خانك.
قال الشيخ وهذا الحديث يعد في الظاهر مخالفاً لحديث هند وليس بينهما في الحقيقة خلاف وذلك لأن الخائن هو الذي يأخذ ما ليس له أخذه ظلماً وعدواناً فأما من كان مأذوناً له في أخذ حقه من مال خصمه واستدراك ظلامته منه فليس بخائن وإنما معناه لا تخن من خانك بأن تقابله بخيانة مثل خيانته وهذا لم يخنه لأنه يقبض حقاً لنفسه والأول يغتصب حقاً لغيره. وكان مالك بن أنس يقول إذا أودع رجل رجلاً ألف درهم فجحدها المودع ثم أودعه الجاحد ألفاً لم يجز له أن يجحده. قال ابن القاسم صاحبه أظنه ذهب إلى هذا الحديث.
وقال أصحاب الرأي يسعه أن يأخذ الألف قصاصاً عن حقه لو كان بدله حنطة أو شعيراً لم يسعه ذلك لأن هذا بيع وأن إذا كان مثله فهو قصاص.
وقال الشافعي يسعه أن يأخذه عن حقه في الوجهين جميعاً واحتج بخبر هند.
ومن باب قبول الهدايا
قال أبو داود: حدثنا علي بن بحر، قال: حَدَّثنا عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها.
قال الشيخ قبول النبي صلى الله عليه وسلم الهدية نوع من الكرم وباب من حسن الخلق يتألف به القلوب، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال تهادوا تحابوا، وكان أكل الهدية شعاراً له وأمارة من أماراته ووصف في الكتب المتقدمة بأنه قبل الهدية ولا يأكل الصدقة، وإنما صانه الله سبحانه عن الصدقة وحرمها عليه لأنهأ أوساخ الناس وكان صلى الله عليه وسلم إذا قبل الهدية أثاب عليها لئلا يكون لأحد عليه يد(3/168)
ولا يلزمه له منة، وقد قال الله عز وجل {لا أسألكم عليه أجراً} [الشورى: 23] فلو كان يقبلها ولا يثيب عليها لكانت في معنى الأجر، وهدية الولاة والحكام رشوة وهو صلى الله عليه وسلم رئيسهم وسيدهم فلم يجز له أن يأخذ ولا يعطي وأن يقبل ولا يثيب.
وقال بعض العلماء في قول الله تعالى {فلا تمنن تستكثر} [المدثر: 6] هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، قال ومعناه أن يهدي الشيء ليعتاض أكثر منه، قال وهذا لا يحرم على غيره كما يحرم عليه صلى الله عليه وسلم.
وقد ذهب غير واحد من الفقهاء إلى أن الهدية تقتضي الثواب وإن لم يشترط واستدل في ذلك بالحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهدى له أعرابي فأثابه فلم يرض، فقال صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن لا اتهب إلاّ من قرشي أو أنصاري أو دوسي، وقد ذكره أبو داود بمعناه في هذا الباب.
ومنهم من حمل أمر الناس في الهدية على وجوه وجعلهم في ذلك على ثلاث طبقات، فقال هبة الرجل ممن هو دونه كالخادم ونحوه إكرام له والطاف، وذلك غير مقتض ثواباً، وهبة الصغير لكبير طلب رفد ومنفعة والثواب فيها واجب، وهبة النظير لنظيره والغالب فيها معنى التودد والتقرب، وقد قيل إن فيها ثواباً فأما إذا وهب هبة واشترط فيها الثواب فهو لازم.
وقد ذهب بعض العلماء في ذلك إلى أنها عقد من عقود المعاوضات، وقال يجب أن يكون العوض معلوماً وأثبت فيها شرائط المبايعات من خيار الثلاث والرد بالعيب ونحوه.(3/169)
ومن باب الرجوع في الهدية
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا أبان وهمام وشعبة قالوا حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال العائد في هبته كالعائد في قيئه. قال همام قال قتادة ولا نعلم القيء إلاّ حراماً.
قال الشيخ هذا الحديث لفظه في التحريم عام ومعناه خاص وتفسيره في حديث ابن عمر الذي عقبه أبو داود بذكره.
، قال: حَدَّثنا مسدد قال، حَدَّثنا حسين المعلم، قال: حَدَّثنا عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلاّ الوالد فيما يعطي ولده.
قال الشيخ وإنما استثنى الوالد لأنه ليس كغيره من الأجانب والأباعد، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للأب حقا في مال ولده قال أنت ومالك لأبيك وهو إذا سرق ماله مع الغنى عنه لم يقطع ولو وطىء جاريته لم يحد وجعلت يده في ولايه مال الولد كيده، ألا ترى أنه يلي عليه البيع والشراء ويقبض له وإذا كان كذلك صار في الهبة منه والاسترجاع عنه في معنى من وهب ولم يقبض إذا كانت يده كيده وهو مأمون عليه غير متهم فيما يسترده منه فأمره محمول في ذلك على أنه نوع من السياسة وباب من الاستصلاح، وليس كذلك الأجنبي ومن ليس بأب من ذوي الأرحام وقد يظن به التهمة والعداوة وأن يكون إنما دعا إلى ارتجاعها عبث أو موجدةٌ في نحوها من الأمور.
وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي بظاهر هذا الحديث وجعل للأب(3/170)
الرجوع فيما وهب لابنه ولم يجعل له الرجوع فيما وهب للأجنبي.
وقال مالك له الرجوع فيما وهب له إلاّ أن يكون الشيء قد تغير في حاله فإن تغير لم يكن له أن يرتجعه.
وقال أبو حنيفة ليس للأب الرجوع فيما وهب لولده ولكل ذي رحم من ذوي أرحامه وله الرجوع فيما وهب للأجانب وتأولوا خبر ابن عمر على أن له الرجوع عند الحاجة إليه والمعنى في ذلك عند الشافعي أنه جعل ذلك بحق الأبوة والشركة التي له في ماله.
ومن باب الرجل يفضل بعض ولده على بعض في النحل
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا هشيم قال أخبرنا يسار قال وأخبرنا مغيرة قال وأخبرنا داود عن الشعبي ومجالد وإسماعيل بن سالم عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال نحلني أبي نحلاً. قال إسماعيل نحله غلاماً له قال فقالت له أمي عمرة بنت رواحة ايت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهده فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لم، فقال إني نحلت ابني النعمان نحلاً وأن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك، فقال ألك ولد سواه، قال قلت نعم قال فكلهم أعطيته مثل ما أعطيت النعمان، قال قلت لا قال فقال بعض هؤلاء المحدثين هذا جور وقال بعضهم هذا تلجئة فأشهد على هذا غيري.
قال الشيخ واختلف أهل العلم في جواز تفضيل بعض الأبناء على بعض في النحل والبر، فقال مالك والشافعي التفضيل مكروه فإن فعل ذلك نفذ، وكذلك قال أصحاب الرأي.
وعن طاوس أنه قال إن فعل ذلك لم ينفذ وكذلك قال إسحاق بن راهويه(3/171)
وهو قول داود.
وقال أحمد بن حنبل لا يجوز التفضيل، ويحكى ذلك أيضاً عن سفيان الثوري واستدل بعض من منع ذلك بقوله هذا جور، وبقوله هذا تلجئة والجور مردود والتلجئة غير جائز ويدل على ذلك حديثه الآخر.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال حدثني النعمان بن بشير قال أعطاه أبوه غلاماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الغلام، قال غلام أعطانيه أبي، قال فكل إخوتك أعطى كما أعطاك، قال لا قال فاردده.
واستدل من أجازه من رواية مالك عن الزهري عن ابن النعمان أن أباه بشير أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاماً؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أكل ولدك نحلت مثله، قال لا، قال فارجعه. حدثناه الأصم حدثنا الربيع، قال أخبرنا الشافعي عن مالك.
قالوا فقوله ارجعه يدل بظاهره على أنه قد رده بعد خروجه عن ملكه وأن للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه بعد القبض.
ويدل على ذلك أيضاً قوله أيسرك أن يكونوا في البر سواء فدل أن ذلك من قبيل البر واللطف لا من قبيل الوجوب واللزوم.
قالوا ويدل على ذلك أيضاً قوله أشهد على هذا غيري ولو لم يكن جائزاً لكانت الشهادة عليها باطلة من الناس كلهم.
وفي الخبر دليل على ثبوت ولاية الأب على ابنه الصغير وعلى جواز بيعه وشرائه وقبضه له وجواز بيع ماله من نفسه.(3/172)
وفيه دليل على جواز دخول الحاكم في الشهادات لأنهم إنما جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم ليشهدوه على ذلك.
وفيه دليل على جواز حكمه بعلمه لأن ذلك هو فائدة إشهاده، فأما قوله هذا جور فمعناه هذا ميل عن بعضهم إلى بعض وعدول عن الفعل الذي هو أفضل وأحسن، ولا خلاف أنه لو آثر بجميع ماله أجنبيا وحرمه أولاده أن فعله ماض فكيف يرد فعله في إيثار بعض أولاده على بعض. وقد فضل أبو بكر عائشة عنهما بجداد عشرين وسقاً ونحلها إياها دون أولاده وهم عدد فدل ذلك على جوازه وصحة وقوعه.
وقد قال بعض أهل العلم إنما كره ذلك لأنه يقع في نفس المفضول بالبر شيء فيمنعه ذلك من حسن الطاعه والبر، وربما كان سببا لعقوق الولد وقطيعة الرحم بينه وبين اخوته.
وذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يسوي بين أولاده الذكران والإناث في البر والصلة أيام حياته ولكن يفضل ويقسم على سهام الميراث وروي ذلك عن شريح.
وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه واحتج من رأى التسوية بين الذكر والانثى بقوله أليس يسرك أن يكونوا في البر واللطف سواء قال نعم أي فسو كذلك في العطية بينهم وقالوا ولم يستثن ذكراً من أنثى.
قال الشيخ ونقل محمد بن إسحاق في سيره أن بشيراً لم يكن له ابنة يومئذ وفعل أبي بكر في تقديم عائشة وتفضيلها بعشرين وسقا يؤيد المذهب الأول.
ومن باب عطية المرأة بغير إذن زوجها
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل، قال: حَدَّثنا(3/173)
خالد بن الحارث، قال: حَدَّثنا حسين عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجوز لامرأة عطية إلاّ بإذن زوجها.
قال الشيخ هذا عند أكثر العلماء على معنى حسن العشرة واستطابة نفس الزوج بذلك إلاّ أن مالك بن أنس قال ترد ما فعلت من ذلك حتى يأذن الزوج.
قال الشيخ ومحتمل أن يكون ذلك في غير الرشيد وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء تصدقن فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يتلقاها بكسائه وهذه عطية بغير إذن أزواجهن.
ومن باب العمرى والرقبى
قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني قال، حَدَّثنا محمد بن شعيب قال أخبرني الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أعمر عمرى فهي له ولعقبه يرثها من يرثه من عقبه.
قال الشيخ العمرى أن يقول الرجل لصاحبه أعمرتك هذه الدار ومعناه جعلتها لك مدة عمرك فهذا إذا اتصل به القبض كان تمليكاً لرقبة الدار وإذا ملكها في حياته وجاز له التصرف فيها ملكها بعده وارثه الذي يرث سائر أملاكه وهذا قول الشافعي وقول أصحاب الرأي.
ويحكى عن مالك أنه قال العمرى تمليك المنفعة دون الرقبة فإن جعلها عمرى له فهي له مدة عمره لا تورث فان جعلها له ولعقبه بعده كانت منفعته ميراثا لأهله.
قال الشيخ وفي قوله صلى الله عليه وسلم فهي له ولعقبه بيان وقوع الملك في الرقبة والمنفعة
معاً ويؤكد ذلك حديث الآخر من طريق مالك نفسه وقد رواه أبو داود في هذا الباب.(3/174)
، قال: حَدَّثنا محمد بن يحيى ومحمد بن المثنى قالا: حَدَّثنا بشر بن عمر، قال: حَدَّثنا مالك عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث.
قال الشيخ لا عذر لمالك بعد هذا والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ترقبوا ولا تعمروا فمن ارقب شيئاً أو اعمره فهو لورثته.
قال الشيخ والرقبى أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه فيكون الدار التي جعلها رقبي لآخر من بقي منهما.
وقال أبو حنيفة العمرى موروثة والرقبى عارية وعند الشافعي الرقبى موروثة كالعمرى وهو حكم ظاهر الحديث.
ومن باب تضمين العارية
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال على اليد ما أخذت حتى تؤدي ثم إن الحسن نسي قال هو أمينك لا ضمان عليه.
قال الشيخ في هذا الحديث دليل على أن العارية مضمونة وذلك أن على كلمة الزام وإذا حصلت اليد أخذه صار الأداء لازماً لها والأداء قد يتضمن العين إذا كادت موجودة والقيمة إذا صارت مستهلكة ولعله أملك بالقيمة منه بالعين.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن محمد وسلمة بن شبيب قالا: حَدَّثنا يزيد بن(3/175)
هارون قال أخبرنا شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه ادراعاً يوم حنين فقال اغصباً يا محمد قال لا بل عارية مضمونة.
قال الشيخ وهذا يؤكد ضمان العارية وفي قوله عارية مضمونة بيان ضمان قيمتها إذا تلفت لأن الأعيان لا تضمن ومن تأوله على أنها تؤدي ما دامت باقية فقد ذهب عن فائدة الحديث.
وقال قوم إذا اشترط ضمانها صارت مضمونة فان لم يشترط لم يضمن وهذا القول غير مطابق لمذاهب الأصول والشيء إذا كان حكمه في الأصل على الأمانة فإن الشرط لا يغيره عن حكم أصله ألا ترى أن الوديعة لما كانت أمانة كان شرط الضمان فيها غير مخرج لها عن حكم أصلها وإنما كان ذكر الضمان في حديث صفوان لأنه كان حديث العهد بالإسلام جاهلاً بأحكام الدين فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من حكم الإسلام أن العواري مضمونة ليقع له الوثيقة بأنها مردودة عليه غير ممنوعة منه في حال.
قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قال: حَدَّثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم.
قال الشيخ قوله مؤداة قضية الزام في أدائها عيناً حال القيام وقيمة عند التلف وقوله المنحة مردودة فإن المنحة هي ما يمنحه الرجل صاحبه من أرض يزرعها مدة ثم يردها أو شاة يشرب درها ثم يردها على صاحبها أو شجرة يأكل ثمرتها وجملتها أنها تمليك المنفعة دون الرقبة وهي من معنى العواري وحكمها الضمان كالعارية.(3/176)
وفيه دليل على أن المنحة إذا كانت مما ينقل ويلزم في نقلها مؤنة من كراء أو أجرة فإن جميع ذلك على الممنوح له لأنه قد إشترط عليه ردها وهي لا تكون مردودة حتى تصل إلى صاحبها. والزعيم الكفيل والزعامة الكفالة ومنه قيل لرئيس القوم الزعيم لأنه هو المتكفل بأمورهم.
وقد اختلف الناس في تضمين العارية فروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما سقوط الضمان فيها وقال شريح والحسن وإبراهيم لا ضمان فيها وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي واسحاق بن راهويه.
وروي عن ابن عباس وأبي هريرة أنهما قالا هي مضمونة وبه قال عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل. وقال مالك بن أنس ما ظهر هلاكه كالحيوان ونحوه غير مضمون وما خفي هلاكه من ثوب ونحوه فهو مضمون.
ومن باب من أفسد شيئاً يضمن مثله
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى عن سفيان قال حدثني فليت العامري عن جسرة بنت دجاجة قالت: قالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت صانعاً طعاماً مثل صفية صنعت طعاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثت به فأخذني أفْكَل فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت قال إناء مثل إناء وطعام مثل طعام.
قال الشيخ يشبه أن يكون هذا من باب المعونة والاصلاح دون بت الحكم بوجوب المثل فإن القصعة والطعام المصنوع ليس لهما مثل معلوم. ثم ان هذا طعام وإناء حملا من بيت صفية وما كان في بيوت أزواجه من طعام ونحوه فإن(3/177)
الظاهر منه والغالب عليه أنه ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمرء أن يحكم في ملكه وفيما تحت يده مما يجري مجرى الأملاك فيما يراه أرفق إلى الصلاح وأقرب وليس ذلك من باب ما يحمل عليه الناس من حكم الحكام في أبواب الحقوق والأموال، وفي إسناد الحديث مقال ولا أعلم أحداً من الفقهاء ذهب إلى أنه يجب في غير المكيل والموزون مثل إلاّ أن داود يحكى عنه أنه أوجب في الحيوان المثل وأوجب في العبد العبد، وفي العصفور العصفور وشبهه بحمار الصيد.
قال الشيخ والذي ذهب إليه في ذلك خلاف مذاهب عامة العلماء والحكم في جزاء الصيد حكم خاص في التقييد وحقوق الله تعالى تجري فيها المساهلة ولا تحمل على الاستقصاء وكمال الاستيفاء كحقوق الآدميين، وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم في المعتق شركاً له في عبد القيمة لا المثل فدل هذا على فساد ما ذهب إليه والأفْكَل الرِعدة.
ومن باب المواشي تفسد زرع قوم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي،، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
قال الشيخ وهذه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في هذا الباب، ويشبه أن يكون إنما فرق بين الليل والنهار في هذا لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار ويوكلون بها الحفاظ والنواطير. ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحوها بالنهار ويردونها مع الليل إلى المراح فمن خالف هذه العادة(3/178)
كان به خارجاً عن رسوم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع فكان كمن ألقى متاعه في طريق شارع أو تركه في غير موضع حرز فلا يكون على آخذه قطع.
وبالتفريق بين حكم الليل والنهار قال الشافعي.
وقال أصحاب الرأي لا فرق بين الأمرين ولم يجعلوا على أصحاب المواشي غرماً، واحتجوا بقول العجماء جبار.
قال الشيخ وحديث العجماء جبار عام وهذا حكم خاص والعام ينبئ على الخاص. ويرد إليه فالمصير في هذا إلى حديث البراء والله أعلم.
كتاب النكاح
ومن باب التحريض على النكاح
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى إذ لقيه عثمان فاستحلاه فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة قال لي تعال يا علقمة فجئت فقال له عثمان ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن بجارية بكراً لعله يرجع إليك عن نفسك ما كنت تعهد، فقال عبد الله لئن قلت ذلك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من استطاع منكم الباءة فليزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم فإنه له وجاء.
قال الشيخ الباءة كناية عن النكاح، وأصل الباءة الموضع الذي يأوي إليه الإنسان، ومنه اشتق مباءة الغنم وهو المراح الذي تأوي إليه عند الليل، والوجاء رض الأنثيين والخصا نزعهما.(3/179)
وفيه من الفقه استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه، وفيه دليل على أن النكاح غير واجب، ويحكى عن بعض أهل الظاهر أنه كان يراه على الوجوب وفيه دليل على جواز التعالج لقطع الباءة بالأدوية ونحوها.
وفيه دليل على أن المقصود في النكاح الوطء وأن الخيار في العُنَّة واجب.
ومن باب ما يؤمر من ترويج ذات الدين
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى بن سعيد قال حدثني عبيد الله قال حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تنكح النساء لأربع لمالها ولحسبها ولدينها ولجمالها فاظفر بذات الدين تربت يداك.
قال الشيخ فيه من الفقه مراعاة الكفاءة في المناكح وأن الدين أولى ما اعتبر فيها.
وقوله تربت يداك كلمة معناها الحث والتحريض وأصل ذلك في الدعاء على الإنسان، يقال ترب الرجل إذا افتقر وأترب إذا أثرى وأيسر، والعرب تطلق ذلك في كلامها ولا يقصد بها وقوع الأمر.
وزعم بعض أهل العلم إن القصد به في هذا الحديث وقوع الأمر وتحقيق الدعاء. وأخبرني بعض أصحابنا عن ابن الأنباري أحسبه رواه عن الزهري أنه قال إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك لأنه رأى أن الفقر خير من الغنى.
واختلف العلماء في تحديد الكفاءة فقال مالك بن أنس الكفاءة في الدين وأهل الإسلام كلهم بعضهم لبعض أكفاء وهو غالب مذهب الشافعي، وقد اعتبر فيها أيضاً الحرية وربما اعتبر غير ذلك أيضاً.
وقد روي معنى قول مالك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير وعمر بن عبد العزيز وابن سيرين وابن عون وحماد بن أبي سليمان.(3/180)
وقال سفيان الثوري الكفاءة الدين والحسب، وكان يرى التفريق إذا نكح المولى عربية، وكذلك قال أحمد بن حنبل.
وقال أصحاب الرأي قريش بعضهم لبعض أكفاء وكل من كان من الموالي له أبوان أو ثلاثة في الإسلام فبعضهم لبعض أكفاء، وإذا أعتق عبد أو أسلم ذمي فإنه ليس بكفؤ لامرأة لها أبوان أو ثلاثة في الإسلام من الموالي. وإذا تزوجت المرأة غير كفؤ فسلم أحد من الأولياء فليس لمن بقي من الأولياء أن يفرقوا بينهما.
وروي عن ابن عباس أنه لم ير المولى كفؤاً للعربية، وروي مثل ذلك عن سلمان الفارسي.
ومن باب تزويج الابكار
قال أبو داود: كتب إلي حسين بن حريث المروزي حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال غربها قال أخاف أن تتبعها نفسي، قال فاستمتع منها.
قال الشيخ قوله لا تمنع يد لامس، معناه الريبة وأنها مطاوعة لمن أرادها لا ترد يده وقوله غربها معناه أبعدها يريد الطلاق وأصل الغرب البعد.
وفيه دليل على جواز نكاح الفاجرة وإن كان الاختيار غير ذلك.
وأما قوله {والزانية لا ينكحنها إلاّ زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [النور: 3] فإنما نزلت في امرأة من الكفار خاصة وهي بغي بمكة يقال لها عناق، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
ومعنى قوله فاستمتع منها أي لا تسمها إلاّ بقدر ما تقضي متعة النفس منها(3/181)
ومن وطئها والاستمتاع من الشيء الانتفاع به إلى مدة، ومن هذا نكاح المتعة الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه قوله تعالى {إنما هذه الحياة الدنيا متاع} [غافر: 39] أي متعة إلى حين ثم تنقطع.
ومن باب الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها
قال أبو داود: حدثنا عمر بن عون، قال: حَدَّثنا أبو عَوانة عن قتادة وعبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها.
قال الشيخ قد ذهب غير واحد من العلماء إلى ظاهر هذا الحديث ورأوا أن من أعتق أمة كان له أن يتزوجها بأن يجعل عتقها عوضاً عن بعضها، وممن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري وإبراهيم النخعي والزهري وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحكى ذلك أيضاً عن الأوزاعي.
وكره ذلك مالك بن أنس وقال هذا لا يصلح، وكذلك قال أصحاب الرأي.
وقال الشافعي إذا قالت الأمة أعتقني على أن أنكحك وصداقي عتقي فأعتقها على ذلك فلها الخيار في أن تنكح أو تدع ويرجع عليها بقيمتها فإن نكحته ورضيت بالقيمة التي عليها فلا بأس.
وتأول هذا الحديث من لم يجز النكاح على أنه خاص للنبي صلى الله عليه وسلم إذ كانت له خصائص في النكاح ليست لغيره وقال بعضهم معناه أنه لم يجعل لها صداقا؛ وإنما كانت في معنى الموهونه التي كان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بها، إلاّ أنها لما استبيح نكاحها بالعتق صار العتق كالصداق لها وهذا كقول الشاعر:
* وأُمهرن أرماحاً من الحظ ذبلاُ *
أي استبحن بالرماح فصرن كالمهيرات، وكقول الفرزدق.(3/182)
وذات حليل أنكحتنا رماحنا ... حلالاً لمن يَبني بها لم تطلق
واحتج أهل المقالة الأولى بأنها لو قالت طلقني على أني أخيط لك ثوباً لزمها ذلك إذا طلقها: فكذلك إذا قالت أعتقني على أن أنكحك.
وحكوا عن أحمد بن حنبل أنه قال لا خلاف أن صفية كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل من نكاحها غير هذه اللفظة فدل أنها سبب النكاح.
قال الشيخ وأجاب عن الفصل الأول بعض من خالفهم فقال إنما صح هذا في الثوب لأنه فعل والفعل يثبت في الذمة كالعين والنكاح عقد والعقد لا يثبت في الذمة والعتق على النكاح كالسلم فيه ولو أسلم رجل امرأة عشرة دراهم على أن يتزوج بها لم يصح كذلك هذا.
فأما الفصل الاخر وهو ما حكي عن أحمد فقد يحتمل أن يكون ذلك خصوصاً للنبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قد استأنف عقد النكاح عليها ولم ينقل ذلك مقروناً بالحديث لأن من سنته صلى الله عليه وسلم أن النكاح لا ينعقد إلاّ بالكلام أو بما يقوم مقامه من الإيماء في الأخرس ونحوه، ويحمل ما خفي من ذلك على حكم ما ظهر، وروي أنه نكحها وجعل عتقها صداقها فإن ثبت ذلك فلا حاجة بنا معه إلى التأويل والله أعلم.
ومن باب من قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة.
وفي هذا الحديث بيان أن حرمة الرضاع في المناكح كحرمة الأنساب وأن(3/183)
المرتضعين من الرجال والنساء باللبن الواحد كالمنتسبين منهم إلى النسب الواحد وهذا قد يجري على عمومه في تحريم المرضعة وذوي أرحامها على المرضع مجرى النسب، وذلك أنه إذا أرضعته صارت أماً له فحرم عليه نكاحها ونكاح ذات محارمها، وهي لا تحرم على أبيه ولا على أخيه ولا على ذوي أنسابه غير أولاده وأولاد أولاده.
وفيه دليل على أن الرضاع بلبن السفاح لا يوقع الحرمة بين الرضيع وبين المسافح وأولاده كما تقع الحرمة من لادته ولا يثبت به النسب.
وفيه أن ما يلحق به النسب من نكاح صحيح أونكاح بشبهة من مسلمة أو ذمية فإنه يحرم بالرضاع فيه النكاح.
وفيه أن الجمع بين الأختين من الرضاع محرم، وكذلك بين المرأة وعمتها أو خالتها من الرضاع.
وفيه أن لبن الضِرار محرم كغيره من اللبن الذي ليس بضرار، وكان ابن أبي ذئب يقول لبن الضرار لا يحرم من النكاح وعامة أهل العلم على خلافه.
ومن باب لبن الفحل
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير العبدي قال أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة قالت دخل عليّ أفلح بن أبي القعيس فاستترت منه فقال تستترين مني وأنا عمك، قالت قلت من أين، قال أرضعتك امرأة أخي قالت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنه عمك فليلج عليك.
قال الشيخ تنزيل هذا الباب أن يجعل المرضع بمنزلة الولد من زوج المرضعة(3/184)
وهو لوكان ولد من مائه حرم على أخيه إذ كان له عما، فكذلك إذا رضع من لبن كان حدوثه بفعله لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الرضاع في التحريم كالولادة، وقد قال عامة الفقهاء بتحريم لبن الفحل وانتشار الحرمة به إلاّ نفر يسير منهم إسماعيل بن علية وداود الأصفهاني، وقد روي ذلك عن ابن المسيب.
ومن باب رضاعة الكبير
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر، قال: حَدَّثنا شعبة قال وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن أشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها المعنى واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل قال حفص فشق ذلك عليه وتغير وجهه ثم اتفقا قالت يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، فقال، يَعني انظرن من أخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة.
قال الشيخ معناه أن الرضاعة التي تقع بها الحرمة هي ما كان في الصغر، والرضيع طفل يقوته اللبن ويسد جوعه؛ وأما ما كان منه بعد ذلك في الحال التي لا تسد جوعه اللبن ولا يشبعه إلاّ الخبز واللحم وما في معناهما من الثقل فلا حرمة له.
وقد اختلف العلماء في تحديد مدة الرضاع فقالت طائفة منهم أنها حولان، وإليه ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه، واحتجوا بقوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 233] قالوا فدل أن مدة الحولين إذا انقضت فقد انقطع حكمها ولا عبرة لما زاد بعد تمام المدة.(3/185)
وقال أبو حنيفة حولان وستة أشهر وخالفه صاحباه، وقال زفر بن الهذيل ثلاث سنين.
ويحكى عن مالك أنه جعل حكم الزيادة على الحولين إذا كانت يسيراً حكم الحولين.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، قال: حَدَّثنا وكيع عن سليمان بن المغيرة، عَن أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا رضاع إلاّ ما أنشر العظم وأنبت اللحم.
قال الشيخ أنشر العظم معناه ما شد العظم وقواه، والإنشار بمعنى الإحياء في قوله تعالى {ثم إذا شاء أنشره} [عبس: 22] ويروى أنشز العظم بالزاي معجمة ومعناه زاد في حجمه فنشره.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن أبي صالح حدثنا عنبسة قال حدثني يونس عن ابن شهاب قال حدثني عروة بن الزبير عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن أبا حذيفة بن عتبة بن عبد شمس تبنىَّ سالماً وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه حتى أنزل الله تعالى في ذلك {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5] إلى قوله {فاخوانكم في الدين ومواليكم} [الأحزاب: 5] فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم أن له أباً كان مولى وأخاً في الدين فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نرى سالماً ولداً فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فُضُلاً وقد أنزل الله تعالى فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/186)
أرضعيه فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة فبذلك كانت عائشة تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى ترضع في المهد، وقلن لعائشة والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس.
قال الشيخ ذهب عامة أهل العلم في هذا إلى قول أم سلمة وحملوا الأمر في ذلك على أحد الوجهين إما على الخصوص وإما على النسخ ولم يروا العمل به.
وقد استدل الشافعي بهذا الحديث على أن العدد الذي يقع به حرمة الرضاع هو الخمس وهو مع ذلك لا يقول برضاع الكبير فكأنه يقول إن الخبر تضمن أمرين رضاع الكبير وتعليق الحكم على عدد الخمس فإذا جرى النسخ في أحدهما لمعنى لم يوجب نسخ الآخر مع عدم ذلك المعنى، وقد يصح الاستدلال للواجب بما ليس بواجب ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين مر به الرجل فسلم عليه وهو يبول لم يرد عليه السلام حتى تيمم بالتراب فضرب كفيه فمسح بهما وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه فاتخذه العلماء أصلا في إيجاب الضربتين في التيمم ومسح الذراعين وإن كان ذلك منه في غير موضع الوجوب.
وقولها ويراني فضلاً أي يراني مبتذلة في ثياب مهنتي، يقال تفضلت المرأة إذا تبذلت في ثياب مهنتها.
ومن باب هل يحرم ما دون خمس رضعات
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن عبد الله بن(3/187)
أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن عشر رضعات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن علئشه رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرم المصة ولا المصتان.
قال الشيخ وهذا يؤيد ما ذهب إليه الشافعي من اعتبار عدد الخمس في التحريم إلاّ أن أكثر الفقهاء قد ذهبوا إلى أن القليل من الرضاع وكثيره محرم وهو قول سفيان الثوري ومالك والأوزاعي وإليه ذهب أصحاب الرأي.
وقال أبو عبيد لا يحرم أقل من ثلاث رضعات كأنه ذهب إلى استعمال دليل الخطاب من قوله لا يحرم المصة والمصتان فكان ما زاد على المصتين وهو الثلاث بخلاف حكم ما دونها وهو قول أبي ثور وداود.
وقد حكي عن بعضهم أن التحريم لا يقع بأقل من عشر رضعات وهو قول شاذ لا اعتبار به.
وأما قولها فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مما يقرأ من القرآن فإنها تريد بذلك قرب عهد النسخ من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار بعض من لم يبلغه النسخ يقرأه على الرسم الأول.
وفيه دليل على جواز نسخ رسم التلاوة وبقاء الحكم ونظيره نسخ التلاوة في الرجم وبقاء حكمه، إلاّ أن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد فلم يجز أن يثبت ذلك بين الدفتين والأحكام تثبت بأخبار الآحاد فجاز أن يقع العمل بها والله أعلم.(3/188)
ومن باب الرضخ عند الفصال
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد بن النفيلي، قال: حَدَّثنا أبو معاوية وحدثنا ابن العلاء، قال: حَدَّثنا ابن إدريس عن هشام بن عروة عن أبيه عن حجاج بن حجاج عن أبيه، قال قلت يا رسول الله ما يذهب عني مذَمة الرضاع قال الغرة العبد أو الأمة.
قوله مذمة الرضاع يريد ذمام الرضاع وحقه، وفيه لغتان مَذَمَّة ومَذِمَّة بكسر الذال وفتحها تقول أنها قد خدمتك وأنت طفل وحضنتك وأنت صغير فكافئها بخادم يخدمها تكفيها المهنة قضاء لذمامها وجزاء لها على إحسانها.
ومن باب ما يكره الجمع بينهن من النساء
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا داود بن أبي هند عن عامر، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على ابنة أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها ولا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى.
قال الشيخ يشبه أن يكون المعنى في ذلك ما يخاف من وقوع العداوة بينهن ما لأن المشاركة في الحظ من الزوج توقع المنافسة بينهن فيكون منها قطيعة الرحم، وعلى هذا المعنى تحريم الجمع بين الأختين المملوكتين في الوطء وهو أكثر قول أهل العلم.
وقياسه أن لا يجمع بين الأمة وبين عمتها أو خالتها في الوطء.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح المصري، قال: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة(3/189)
رضي الله عنها عن قول الله تعالى {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] الآية قالت يا ابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فتشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها.
قوله بغير أن يقسط في صداقها، معناه بغيرأن يعدل فيه فيبلغ به سنة مهر مثلها، يقال أقسط الرجل في الحكم اذا عدل، وقسط إذا جار قال الله تعالى {واقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات: 9] وقال {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} [الجن: 15] قال وتأويل الآية وبيان معناها أن الله تعالى خاطب أولياء اليتامى فقال {وإن خفتم من أنفسكم المشاحة في صدقاتهن وأن لا تعدلوا فتبلغوا بهن صداق أمثالهن فلا تنكحوهن وانكحوا غيرهن من الغائب اللواتي أحل الله لكم خطبتهن من واحدة إلى أربع وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة فانكحوا منهن واحدة أو ما ملكتم من الإماء} .
ومن باب نكاج المتعة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن إسماعيل بن أمية عن الزهري، قال كنا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النساء فقال له رجل يقال له الربيع بن سبرة أشهد على أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجة الوداع.
قال الشيخ تحريم نكاح المتعة كالإجماع بين المسلمين وقد كان ذلك مباحاً في صدر الإسلام ثم حرمه في حجة الوداع وذلك في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق اليوم فيه خلاف بين الأئمة إلاّ شيئا ذهب إليه بعض الروافض.(3/190)
وكان ابن عباس يتأول في إباحته للمضطر إليه بطول العزبة وقلة اليسار والجدة ثم توقف عنه وأمسك عن الفتوى به. حدثنا ابن السماك، قال: حَدَّثنا الحسن بن سلام السواق، قال: حَدَّثنا الفضل بن دكين، قال: حَدَّثنا عبد السلام عن الحجاج، عَن أبي خالد عن المنهال عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس هل تدري ما صنعت وبما أفتيت قد سارت بفتياك الركبان وقالت فيه الشعراء، قال وما قالت، قلت قالوا:
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى تصدر الناس
فقال ابن عباس إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت ولا حللت إلاّ مثل ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الحنزير وما تحل إلاّ للمضطر وما هي إلاّ كالميتة والدم ولحم الخنزير.
قال الشيخ فهذا يبين لك أنه إنما سلك فيه مذهب القياس وشبهه بالمضطر إلى الطعام وهو قياس غير صحيح لأن الضرورة في هذا الباب لاتتحقق كهي في باب الطعام الذي به قوام النفس وبعدمه يكون التلف، وإنما هذا من باب غلبة الشهوة ومصابرتها ممكنة وقد تحسم حدتها بالصوم والعلاج فليس أحدهما في حكم الضرورة كالآخر.
ومن باب في الشغار
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك وحدثنا مسدد،، قال: حَدَّثنا يحيى عن عبيد الله كلاهما عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار قال مسدد في حديثه قلت لنافع ما الشغار، قال ينكح ابنة الرجل وينكحه ابنته بغير(3/191)
صداق وينكح أخت الرجل وينكحه أخته بغير صداق.
قال الشيخ تفسير الشغار ما بينه نافع، وقد روى أبو داود أيضاً في هذا الباب بإسناده عن الأعرج أن العباس بن عبد الله بن العباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته وأنكحه عبد الرحمن ابنته وكانا جعلاه صداقاً فأمر معاوية بالتفرقة بينهما وقال هذا الشغار الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.
قال الشيخ فإذا وقع النكاح على هذه الصفة كان باطلاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وأصل الفروج على الحظر والحظر لا يرتفع بالحظر وإنما يرتفع بالإباحة.
ولم يختلف الفقهاء أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المرأة على عمتها أو خالتها على التحريم، وكذلك نهيه عن نكاح المتعة فكذلك هذا.
وممن أبطل هذا النكاح مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد.
وقال أصحاب الرأي وسفيان الثوري النكاح جائز ولكل واحدة منهما مهر مثلها، ومعنى النهي في هذا عندهم أن يستحل الفرج بغير مهر.
وقال بعضهم أصل الشغر في اللغة الرفع، يقال شغر الكلب برجله إذا رفعها عند البول قال فإنما يسمى هذا النكاح شغاراً لأنهما رفعا المهر بينهما.
قال الشيخ وهذا القائل لا ينفصل ممن قال بل سمي شعارا لأنه رفع العقد من أصله فارتفع النكاح والمهر معاً ويبين لك أن النهي قد انطوى على الأمرين معاً أن البدل ههنا ليس شيئاً غير العقد ولا العقد شيئاً غير البدل فهو إذا فسد مهراً فسد عقداً وإذا أبطلته الشريعة فإنما أفسدته على الجهة التي كانوا يوقعونه وكانوا يوقعونه مهراً وعقدا فوجب أن يفسدا معاً.(3/192)
وكان ابن أبي هريرة يشبهه برجل تروج امرأة واستثنى عضوا من أعضائها وهو ما لا خلاف في فساده.
قال فكذلك الشغار لأن كل واحد منهما قد زوج وليته واستثنى بعضه حتى جعله مهراً لصاحبتها.
وعلله بعضهم فقال لأن المعقود له معقود به وذلك لأن العقد لها وبها فصار كالعبد تزوج على أن يكون رقبته صداقا للزوجة.
ومن باب في التحليل
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حَدَّثنا زهير قال حدثني إسماعيل عن عامر عن الحارث عن علي قال إسماعيل وأراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن المحلل والمحلل له.
قال الشيخ أما إذا كان ذلك عن شرط بينهما فالنكاح فاسد لأنه عقد تناهى إلى مدة كنكاح المتعة، وإذا لم يكن ذلك شرطاً وكان نية وعقيدة فهو مكروه، فإن أصابها الزوج ثم طلقها وانقضت العدة فقد حلت للزوج الأول وقد كره غير واحد من العلماء أن يضمرا أو ينويا أو أحدهما التحليل وإن لم يشترطاه.
وقال إبراهيم للنخعي لا يحللها لزوجها الأول إلاّ أن يكون نكاح رغبة فإن كان نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الثانى أو المرأة أنه محلل فالنكاح باطل ولا تحل للأول.
وقال سفيان الثوري إذا تزوجها وهو يريد أن يحلها لزوجها ثم بدا له أن يمسكها(3/193)
لا يعجبني إلاّ أن يفارقها ويستأنف نكاحاً جديداً، وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال مالك بن أنس يفرق بينهما على كل حال.
ومن باب نكاج العبد بغير إذن سيده
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن وكيع،، قال: حَدَّثنا الحسن بن صالح عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما عبد تروج بغير إذن مواليه فهو عاهر.
قال الشيخ العاهر الزاني والعهر الزنى، وإنما بطل نكاح العبد من أجل أن رقبته ومنفعته مملوكتان لسيده وهو إذا اشتغل بحق الزوجة لم يتفرغ لخدمة سيده وكان في ذلك ذهاب حقه فأبطل النكاح إبقاء لمنفعته على صاحبه، وممن أبطل عقد هذا النكاح الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقال مالك وأصحاب الرأي إن أجازه السيد جاز وإن أبطله بطل، وعند الشافعي لا يثبت النكاح وإن أجازه السيد لأن عقد النكاح لا يقع عنده موقوفاً على إجازة الولي.
ومن باب الرجل يخطب على خطبة أخيه
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه.
قال الشيخ نهيه عن ذلك نهي تأديب وليس بنهي تحريم يبطل العقد، وهو قول أكثر العلماء، إلاّ أن مالك بن أنس قال إن خطبها على خطبة أخيه فملكها فرق بينهما إلاّ أن يكون قد دخل بها فلا يفرق بينهما.
وقال داود إن خطبها رجل بعد الأول وعقد عليها فالنكاح باطل.(3/194)
وفي قوله على خطبة أخيه دليل على أن ذلك إنما نهي عنه إذا كان الخاطب الأول مسلماً ولا يضيق ذلك إذا كان الخاطب الأول يهودياً أو نصرانياً لقطع الله الأخوة بين المسلمين وبين الكفار.
وقال الشافعي إنما نهي عن ذلك في حال دون حال وهو أن تأذن المخطوبة في إنكاح رجل بعينه فلا يحل لأحد أن يخطبها في تلك الحالة حتى يأذن الخاطب له واحتج بحديث فاطمة بنت قيس. حدثناه الأصم حدثنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها في عدتها من طلاق زوجها إذا حللت فآذنيني، قالت فلما حللت أخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه على عاتقه أنكحي أسامة، قالت ففعلت فاغتبطت به.
قال الشيخ فخطبته إياها لأسامة على خطبة معاوية وأبي جهم تدل على جواز ذلك إن لم يكن وقع الركون منها إلى الخاطب الأول أو الإذن منها فيه.
وفي هذا الحديث أنواع من الفقه منها جواز التعريض للمرأة بالخطبة في عدتها وفيه أن المال معتبر في بعض أنواع المكافأة. وفيه دليل على جواز نكاح المولى القرشية. وفيه دليل على جواز تأديب الرجل امرأته.
وفيه دليل على أن المستشار إذا ذكر الخاطب عند المخطوبة ببعض ما فيه من العيوب على وجه النصيحة لها والإرشاد إلى ما فيه حظها لم يكن ذلك غيبة يأثم فيها.
وقوله لا يضع عصاه عن عاتقه يتأول على وجهين أحدهما التأديب والضرب لها والآخر أن يكون معناه الأسفار والظعن عن وطنه، يقال رفع الرجل عصاه(3/195)
إذا سار ووضع عصاه إذا نزل وأقام.
ومن باب الرجل ينظر إلى المرأة
وهو يريد أن يتزوجها
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حَدَّثنا محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن واقد بن عبد الرحمن، يَعني ابن سعد بن معاذ عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل.
قال الشيخ إنما أبيح له النظر إلى وجهها وكفيها فقط ولا ينظر إليها حاسراً ولا يطلع على شيء من عورتها وسواء كانت أذنت له في ذلك أو لم تأذن وإلى هذه الجملة ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، وإلى نحو هذا أشار سفيان الثوري.
ومن باب الولي
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، قال: حَدَّثنا ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل ثلاث مرات فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له.
قوله أيما امرأة كلمة استيفاء واستيعاب، وفيه إثبات الولاية على النساء كلهن ويدخل فيها البكر والثيب والشريفة والوضيعة والمولى ههنا العصبة.
وفيه بيان أن المرأة لا تكون ولية نفسها وفيه دليل على أن ابنها ليس من أوليائها إذا لم يكن عصبة لها.(3/196)
وفيه بيان أن العقد إذا وقع لا بإذن الأولياء كان باطلاً، وإذا وقع باطلاً لم يصححه إجازة الأولياء، وفي إبطال هذا النكاح وتكراره القول ثلاثاً تأكيد لفسخه ورفعه من أصله، وفيه إبطال الخيار في النكاح.
وفيه دليل على أن وطء الشبهة يوجب المهر وايجاب المهر إيجاب درء الحدود وإثبات النسب ونشر الحرمة.
وفي قوله فالمهر لها بما أصاب منها دليل على أن المهر إنما يجب بالإصابة فإن الدخول إنما هو كناية عنها.
وقوله فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له، يريد به تشاجر العضل والممانعة في العقد دون تشاجر المشاحة في السبق إلى العقد، فأما إذا تشاجروا في العقد ومراتبهم في الولاية سواء فالعقد لمن سبق إليه منهم إذا كان ما فعل من ذلك نظراً لها.
ومعنى قوله بغير إذن مواليها هو أن يلي العقد الولي أو يوكل بتزويجها غيره فيأذن له في العقد عليها.
وزعم أبو ثور أن الولي إذا أذن للمرأة في أن تعقد على نفسها صح عقدها النكاح على نفسها، واستدل بهذه اللفظة في الحديث، ومعناه التوكيل بدليل ما روي أن النساء لا تلين عقد النكاح.
وقد تكلم بعض أهل العلم في إسناد هذا الحديث وضعفه بشيء حدثنيه الحسن بن يحيى بن حمويه عن علي بن عبد العزيز، عَن أبي عبيد،، قال: حَدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، وذكر الحديث قال وزاد في آخره شيئا ما أرى أحداً يذكره غيره.(3/197)
قال ابن جريج ثم لقيت الزهري فذكرت ذلك له فلم يعرفه.
قال الشيخ ذكر أبو عيسى الترمذي عن يحيى بن معين أنه قال لم يذكر هذا الحديث عن ابن جريج إلاّ إسماعيل بن علية، قال يحيى وسماع إسماعيل من ابن جريج ليس بذلك إنما صحح كتبه على كتب عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد فيما سمع من ابن جريج وضعف يحيى رواية إسماعيل عن ابن جريج.
قال أبوعيسى وحديث عائشة رضي الله عنها هذا عندي حديث حسن صحيح وقد رواه الحجاج بن أرطاة وجعفر بن ربيعة عن الزهري عن عروة عن عائشة ورواه هشام بن عروة أيضاً.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن قدامة بن أعين،، قال: حَدَّثنا أبو عبيدة الحداد عن يونس وإسرائيل، عَن أبي إسحاق، عَن أبي بردة، عَن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا نكاح إلاّ بولي.
قال الشيخ قوله لا نكاح إلاّ بولي فيه نفي ثبوت النكاح على معمومه ومخصوصه إلاّ بولي.
وقد تأوله بعضهم على نفي الفضيلة والكمال وهذا تأويل فاسد لأن العموم يأتي على أصله جوازاً أو كمالاً، والنفي في المعاملات يوجب الفساد لأنه ليس لها إلاّ جهة واحدة، وليس كالعبادات والقرب التي لها جهتان من جواز ناقص وكامل، وكذلك تأويل من زعم أنها ولية نفسها. وتأول معنى الحديث على أنها إذا عقدت على نفسها فقد حصل نكاحها بولي، وذلك أن الولي هو الذي يلي على غيره، ولو جاز هذا في الولاية لجاز مثله في الشهادة فتكون هي الشاهدة(3/198)
على نفسها فلما كان في الشاهد فاسداً كان في الولي مثله.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس،، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أم حبيبة أنها كانت عند ابن جحش فهلك عنها، وكان فيمن هاجر إلى أرض الحبشة فزوجها النجاشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عندهم.
قال الشيخ إنما ساق النجاشي المهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأضيف التزويج إليه وكان الذي عقد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ووكله بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث به إلى الحبشة في ذلك، وقد روي أن الذي ولي تزويجها بالعقد عليها خالد بن سعيد بن العاص وهو ابن عم أبي سفيان إذ كان أبوها أبو سفيان كافراً لا ولاية له على مسلمة.
وقد يحتمل أيضاً أن يكون النجاشي قد عقد أولاً فكان ذلك بمعنى التسمية فلم يعتبر صحته ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري فاستأنف العقد وألزمه والله أعلم.
ومن باب في العضل
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى قال حدثني أبو عامر عبد الملك بن عمرو، قال: حَدَّثنا عباد بن راشد عن الحسن قال حدثني معقل بن يسار، قال كانت لي أخت تخطب إليّ فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه ثم طلقها طلاقا له رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتاني يخطبها فقلت والله لا أنكحها أبداً، قال ففيّ نزلت هذه الآية {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا(3/199)
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة: 232] الاية قال فكفرت عن يميني فأنكحتها إياه.
قال الشيخ هذا أدل آية في كتاب الله تعالى على أن النكاح لا يصح إلاّ بعقد ولي ولو كان لها سبيل إلى أن تنكح نفسها لم يكن للعضل معنى ولا كان المنع يتحقق من جهة الولي. ولو كان عقد المرأه على نفسها يصح إذا تروجها كفء لم يتعذر عليها أن تفعل ذلك، وقد كان الذي خطبها إنما هو ابن عمها المكافىء لها في النسب المتقدم لها في الصحبة فدل ما قلناه على صحة ما ذهبنا إليه والله أعلم.
وقد اختلف الناس في عقد النكاح بغير ولي، فقال بظاهر الحديث جماعة منهم سفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد، وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، وبه قال ابن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وقتادة.
وفرق مالك بن أنس بين المرأة الشريفة والدنيئة فقال لا بأس أن تستخلف المرأه الدنيئة على نفسها من يزوجها، فأما على امرأة لها قدر وغنى فإن تلك لا ينبغى أن يزوجها إلاّ الأولياء أو السلطان.
وقال أبو حنيفة إذا زوجت المرأة نفسها بشاهدين من كفوٍ فهو جائز.
وقال يعقوب ومحمد النكاح موقوف حتى يجيزه الولي والحاكم.
ومن باب إذا نكح الوليان
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل،، قال: حَدَّثنا حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما.(3/200)
قال الشيخ اتفق أهل العلم على هذا ما لم يقع الدخول من الثاني بها فإن وقع الدخول بها فإن مالكاً زعم أنه لا يفرق بينهما، وكذلك روي عن عطاء، وهذا إذا كان قد علم نكاح المتقدم منهما من المتأخر فإن زوجاها معاً هذا من زيد وهذا من عمرو ولا يعلم أيهما المتقدم فالنكاح مفسوخ في قول أكثر الفقهاء.
وزعم بعضهم أنه يفرق بينهما ويقال لهما طلقاها جميعاً حتى تبين ممن كانت زوجة له، وهو قول أبي ثور.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، قال حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلاّ أن يأتين بفاحشة مبينة} [النساء: 19] وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابة فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها فاحكم الله عن ذلك أو نهى عن ذلك.
قال الشيخ قوله أحكم الله معناه منع، قال جرير بن الخَطَفي:
ابني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا
ومن باب الاستئمار
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان، قال حدثني يحيى، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا البكر إلاّ بإذنها، قالوا يا رسول الله وما إذنها قال: أن تسكت.
قال ظاهر الحديث يدل على أن البكر إذا أنكحت قبل أن تستأذن فتصمت أن النكاح باطل كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تستأمر فتأذن بالقول،(3/201)
وإلى هذا ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري وهو قول أصحاب الرأي.
وقال مالك بن أنس وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه إنكاح الأب البكر البالغ جائز وإن لم تستأذن، ومعنى استئذانها عندهم إنما هو على استطابة النفس دون الوجوب كما جاء الحديث باستئمار أمهاتهن وليس ذلك بشرط في صحة العقد.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد (ح) وحدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زريع المعنى قال حدثني محمد بن عمرو، قال: حَدَّثنا أبو سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها.
قال الشيخ فيه دليل على أن الصغيرة لا يزوجها غير الأب وذلك لأنها لا تستأمر إلاّ بعد البلوغ إذ لا معنى لإذنها ولا عبرة لإبائها قبل ذلك فثبت أنها لا تزوج حتى تبلغ الوقت الذي يصح منها الإذن أو الامتناع، واليتيمة ههنا هي البكر البالغ التي مات أبوها قبل بلوغها فلزمها اسم اليتم فدعيت به وهي بالغ، والعرب ربما ادعت الشيء بالاسم الأول الذي إنما سمي به لمعنى متقدم ثم ينقطع ذلك المعنى ولا يزول الاسم من ذلك أنهم يسمون الرجل المستجمع السن غلاماً وحد الغلومة ما بين أيام الصبى إلى أوقات الشباب.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال كان الغلام الذي قتله الخضر رجلاً مستجمع السن وقالت ليلى الأخيلية:
إذا ورد الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العقام الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها(3/202)
فجعلته غلاماً وهو رجل محتنك السن وكذلك مذهبهم في نسبة الشيء واضافته إلى من كان مرة يملكه، كقولهم دار عمرو بن حُريث، وبستان ابن عامر، وقصر أوس، وقبة الحجاج. وقد يلي الرجل الإمارة والقضاء زماناً ثم يعزل فيدعى أميراً أو قاضياً، ومثل هذا كثير في كلامهم. وكذلك اليتيمة المذكورة في هذا الحديث هي التي قد لزمها اسم اليتم في صغرها بموت أبيها فاشتهرت به ثم دعيت بذلك في الكبر على هذا المعنى الذي وصفناه بدليل ما تقدم ذكره من الكلام في أول الفصل والله أعلم.
وقد اختلف أهل العلم في جواز نكاح غير الأب الصغيرة، فقال الشافعي لا يزوجها غير الأب والجد، ولا يزوجها الأخ ولا العم ولا الوصي.
وقال الثوري لا يزوجها الوصي. وقال حماد بن أبي سليمان ومالك بن أنس للوصي أن يزوج اليتيمة قبل البلوغ، وروي ذلك عن شريح.
وقال أصحاب الرأي لا يزوجها الوصي حتى يكون ولياً لها. وللولي أن يزوجها وإن لم يكن وصياً إلاّ أن لها الخيار إذا بلغت.
ومن باب البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا حسين بن محمد، قال: حَدَّثنا جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ ففى هذا الحديث حجة لمن لم ير نكاح الأب ابنته البكر جائزاً إلا يإذنها. وفيه أيضاً حجة لمن رأى عقد النكاح يثبت مع الخيار؛ غير أن أبا داود ذكر على أثره في هذا الباب أن المعروف من هذا الحديث أنه مرسل غير(3/203)
متصل؛ كذا رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ابن عباس.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن إسماعيل بن أمية، قال أخبرني الثقة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمروا النساء في بناتهن.
قال الشيخ مؤامرة الأمهات في بضع البنات ليس من أجل أنهن تملكن من عقد النكاح شيئاً، ولكن من جهة استطابة أنفسهن وحسن العشرة معهن، ولأن ذلك أبقى للصحبة وأدعى إلى الإلفة بين البنات وأزواجهن إذا كان مبدأ العقد برضاء من الأمهلت ورغبة منهن، وإذا كان بخلاف ذلك لم يؤمن تضريتهن ووقوع الفساد من قبلهن والبنات إلى الأمهات أميل ولقولهن أقبل، فمن أجل هذه الأمور يستحب مؤامرتهن في العقد على بناتهن والله أعلم.
وقد يحتمل أن يكون ذلك لعلة أخرى غير ما ذكرناه، وذلك أن المرأة ربما علمت من خاص أمر ابنتها ومن سر حديثها أمراً لا يستصلح لها معه عقد النكاح، وذلك مثل العلة تكون بها، والآفة تمنع من إيفاء حقوق النكاح وعلى نحو هذا يتأول قوله ولا تزوج البكر إلاّ بإذنها وإذنها سكوتها، وذلك أنها قد تستحي من أن تفصح بالإذن وأن تظهر الرغبة في النكاح فيستدل بسكوتها على سلامتها من آفة تمنع الجماع، أو بسبب لا يصلح معه النكاح لا يعلمه غيرها والله أعلم.
ومن باب الثيب
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس وعبد الله بن مسلمة قالا: حَدَّثنا مالك(3/204)
عن عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأيّم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها واذنها صماتها.
قال الشيخ قد استدل أصحاب الشافعي بقوله الأيم أحق بنفسها من وليها، على أن ولي البكر أحق بها من نفسها، وذلك من طريق دلالة المفهوم لأن الشيء إذا قيد بأخص أوصافه دل على أن ما عداه بخلافه، وقالوا والأسماء للتعريف والأوصاف للتعليل.
قالوا والمراد بالأيم ههنا الثنيب لأنه قابلها بالبكر فدل على أنه أراد بالأيم الثيب.
وقد جاء ذكر الثيب في هذا الحديث من رواية زياد بن سعد عن عبد الله بن الفضل بإسناده، قال الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأمرها أبوها.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان بن زياد عن زياد بن سعد عن عبد الله بن الفضل بإسناده، قال الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها، قال أبو داود أبوها ليس بمحفوظ.
قالوا فقوله الثيب أحق بنفسها من وليها يجمع نصاً ودلالة والعمل واجب بالدلالة وجوبه بالنص ودلالته أن غير الثيب وهي البكر حكمها خلاف حكم الثيب في كونها أحق بنفسها، وتأولوا استئمار البكر على معنى استطابة النفس دون الوجوب.
قالوا ومعنى قوله أحق بنفسها أي في اختيار الغير لا في العقد بدليل أنها لو عقدت على نفسها لغير كفوء رد النكاح من غير خلاف فيه.
وقد استدل به أصحاب أبي حنيفة في أن للمرأة أن تعقد على نفسها بغيرإذن الولي، إلاّ أنهم لم يفرقوا بين البكر البالغ والثيب في ذلك، وقد دل الحديث(3/205)
على التفرقة.
وقد يحتج به أصحاب داود أيضاً لمذهبهم أن البكر لا يزوجها غير الولي، وأن للثيب أن تعقد على نفسها.
وفيه حجة لمن رأى الإشارة والإيماء من الصحيح الناطق يقوم مقام الكلام.
وعند الشافعي أن إذن البكر والاستدلال بصماتها على رضاها إنما هو بمعنى الاستحباب دون الوجوب وذلك خاص في الأب والجد فإن زوجها غير أبيها فإنه لا يرى صماتها إذناً في النكاح.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عبد الرحمن ومجمع ابني يزيد الأنصاريين عن خنساء بنت خدام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له فرد نكاحها.
قال الشيخ ذكرها الثيوبة في هذا الحديث يدل على أن حكم البكر بخلاف ذلك، والأوصاف إنما تذكر تعليلاً.
وأما خبر عكرمة أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر أبو داود أنه خبر مرسل.
وإسناد حديث خنساء بنت خدام إسناد جيد متصل وقد قيل أنه كان نكاح ضرار ورووا فيه سبباً لم يحضرني إسناده.
ومن باب الاكفاء
قال أبو داود: حدثنا عبد الواحد بن غياث، قال: حَدَّثنا حماد، قال: حَدَّثنا محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ(3/206)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني بياضة انكحوا أبا هند وانكحوا إليه، قال وإن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة.
قال الشيخ في هذا الحديث حجة لمالك ولمن ذهب مذهبه في أن الكفاءة بالدين وحده دون غيره وأبو هند مولى بني بياضة ليس من أنفسهم. والكفاءة معتبرة في قول أكثر العلماء بأربعة أشياء بالدين والحرية والنسب والصناعة، ومنهم من اعتبر فيها السلامة من العيوب واليسار فيكون جماعها ست خصال.
ومن باب تزويج من لم تولد
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن المثنى قالا: حَدَّثنا يزيد بن هارون أخبرنا عبد الله بن يزيد بن مِقْسَم الثقفي من أهل الطائف، قال حدثتني سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونه بنت كَرْدَمٍ قالت خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنا إليه أبي وهو على ناقة له ومعه درة كدرة الكتاب فسمعت الأعراب والناس وهم يقولون الطبطبية الطبطبية الطبطبية فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه فأقرَّ له ووقف عليه واستمع منه فقال إني حضرت جيش عِثران قال ابن المثنى جيش غثران فقال طارق بن المرقع من يعطيني رمحاً بثوابه، فقلت وما ثوابه، قال أزوجه أول بنت تكون لي فأعطيته رمحي ثم غبت عنه حتى علمت أنه قد ولد له جارية وبلغت ثم جئته فقلت له أهلي جهزهن إليّ فحلف أن لا يفعل حتى أصدقه صداقاً جديداً غير الذي كان بيني وبينه وحلفت أن لا أصدق غير الذي أعطيته، فقال رسول(3/207)
الله صلى الله عليه وسلم: وبقرن أيّ النساء هي اليوم، قال قد رأت القتير قال أرى أن تتركها قال فراعني ذلك ونظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى ذلك مني، قال: لا تأثم ولا يأثم صاحبك.
قال الشيخ قولها يقولون الطبطبية يحتمل وجهين أحدهما أن يكون أرادت بها حكاية وقع الأقدام أي يقولون بأرجلهم على الأرض طب طب.
والوجه الآخر أن يكون كناية عن الدرة يريد صوتها إذا خفقت.
وقوله بقرن أي النساء يريد سن أي النساء هي، والقرن بنو سنٍ واحد، يقال هؤلاء قرن زمان كذا، وأنشدني أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:
إذا مضى القرن الذي أنت فيهم …وخلفت في قرن فأنت غريب
والقتير الشيب، ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أشار عليه بتركها لأن عقد النكاح على معدوم العين فاسد، وإنما كان ذلك منه موعداً له، فلما رأى أن ذلك لا يفي بما وعد وأن هذا لا يقلع عما طلب أشار عليه بتركها والإعراض عنها لما خاف عليهما من الإثم إذا تنازعا وتخاصما إذ كان كل واحد منهما قد حلف أن يفعل غير ما حلف عليه صاحبه وتلطف صلى الله عليه وسلم في صرفه عنها بالمسألة عن سنها حتى قرر عنده أنها قد رأت القتير أي الشيب وكبرت وأنه لا حظ له في نكاحها.
وفيه دليل على أن للحاكم أن يشير على أحد الخصمين بما هو أدعى إلى الصلاح وأقرب إلى التقوى.
ومن باب في الصداق
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن محمد، قال: حَدَّثنا يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم، عَن أبي سلمة قال سألت عائشة(3/208)
رضي الله عنها عن صداق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ثنتا عشرة أوقية ونَش فقلت وما نش قالت نصف أوقية.
قال الشيخ الأوقية أربعون درهماً والنش عشرون درهماً، وهو اسم موضوع لهذا القدر من الدراهم غير مشتق من شيء سواه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب الثقفي، قال: حَدَّثنا مُعلى بن منصور، قال: حَدَّثنا ابن المبارك،، قال: حَدَّثنا معمر عن الزهري عن عروة عن أم حبيبة أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة.
قال الشيخ معنى قوله زوجها النجاشي أي ساق إليها المهر فأضيف عقد النكاح إليه لوجود سببه منه وهو المهر.
وقد روى أصحاب السير أن الذي عقد النكاح عليها خالد بن سعيد بن العاص وهو أبو عمر بن أبي سفيان وأبو سفيان إذ ذلك مشرك وقبل نكاحها عمرو بن أمية الضمري وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
ومن باب أقل المهر
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن ثابت البناني وحميد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردغ زعفران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَهيم فقال يا رسول الله تزوجت امرأة قال ما أصدقتها، قال وزن نواة من ذهب قال أولم ولو بشاة.(3/209)
قال الشيخ ردغ الزعفران أثر لونه وخضابه، وقوله مَهيم كلمة يمانية معناه مالك وما شأنك، ويشبه أن يكون المسألة إنما عرضت من حاله من أجل الصفرة التي رآها عليه من ردغ الزعفران، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل فأنكرها، ويشبه أن يكون ذلك شيئاً يسيراً فرخص له فيه لقلته.
ووزن نواة من ذهب فسروها خمسة دراهم من ذهب وهو اسم معروف لمقدار معلوم.
وقوله أولم ولو بشاة من الوليمة وهو طعام الأملاك.
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن جبريل البغدادي أخبرنا يزيد أخبرنا موسى بن مسلم بن رومان، عَن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أعطى في صداق امرأة ملء عكفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل.
قال الشيخ فيه دليل على أن أقل المهر غير موقت بشيء معلوم وإنما هو على ما تراضى به المتناكحان.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه لا توقيت في أقل المهر وأدناه هو ما تراضوا به. قال سعيد بن المسيب لو أصدقها سوطاً لحملت له. وقال مالك أقل المهر ربع دينار.
وقال أصحاب الرأي أقله عشرة دراهم، وقدروه بما يقطع فيه يد السارق عندهم، وزعموا أن كل واحد منهما إتلاف عضو.
ومن باب التزويج على العمل يعمل
قال أبو داود: حدثنا القعنبي، عَن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك(3/210)
فقامت قياما طويلاً، فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شيء تصدقها إياه فقال ما عندي إلاّ إزاري هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك فالتمس شيئاً، قال لا أجد شيئاً، قال فالتمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهل معك من القرآن شيء قال نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد زوجتكها بما معك من القرآن.
قال الشيخ فيه من الفقه أن منافع الحر قد يجوز أن يكون صداقاً كأعيان الأموال ويدخل فيه الإجارة وما كان في معناها من خياطة ثوب ونقل متاع ونحو ذلك من الأمور.
وفيه دليل على جواز الأجرة على تعليم القرآن والباء في قوله بما معك باء التعويض كما تقول بعتك هذا الثوب بدينار أو بعشرة دراهم؛ ولو كان معناها ما تأوله بعض أهل العلم من أنه إنما زوجه إياها لحفظه القرآن تفضيلاً له لجعلت المرأة موهوبة بلا مهر وهذه خصوصية ليست لغير النبي صلى الله عليه وسلم ولولا أنه أراد به معنى المهر لم يكن لسؤاله إياها هل معك من القرآن شيء معنى لأن التزويج ممن لا يحسن القرآن جائز جوازه ممن يحسنه. وليس في الحديث أنه جعل المهر ديناً عليه إلى أجل فكان الظاهر أنه جعل تعليمه القرآن إياها مهراً لها.
وفي للخبر دليل على أن المكافأة إنما هي في حق الدين والحرية دون النسب والمال، ألا ترى أنه لم يسأل هل هو كفؤ لها أم لا، وقد علم من حاله أنه لا مال له.
وفيه دليل على أنه لا حد لأقل المهر، وفيه أنه لم يسألها هل أنت في عدة من(3/211)
زوج أو وطء شبهة أو نحو ذلك أم لا، وهذا شيء يفعله الحكام احتياطاً فلو ترك تارك وحمل الأمر على ظاهر الحال وصدقها على قولها كان ذلك جائزاً ما لم يعلم خلافه.
وقد اختلف الناس في جواز النكاح على القرآن، فقال الشافعي بجوازه على ظاهر الحديث، وقال مالك لا يجوز وهو قول أصحاب الرأي.
وقال أحمد بن حنبل أكرهه، وكان مكحول يقول ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعله.
وقال الشافعي فيمن نكح هذا النكاح إذا طلقها قبل أن يدخل بها ففيه قولان أحدهما أن لها نصف المثل والآخر أن لها نصف أجر التعليم.
ومن باب من تزوج ولم يفرض
لها صداقاً ومات عنها
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة، قال: حَدَّثنا يزيد بن زريع، قال: حَدَّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس وأبي حسان عن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن مسعود أتى في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها الصداق فاختلفوا إليه شهراً أو قال مرات؛ قال فإني أقول فيها إن لها صداقا كصداق نسائها لا وكس ولا شطط وإن لها الميراث وعليها العدة فإن يكن صواباً فمن الله عز وجل، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان. والله ورسواه بريئان، فقام ناس من أشجع فيهم الجراح وأبو سنان فقالوا يا ابن مسعود نحن نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاها فينا في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت ففرح بها ابن مسعود فرحاً شديداً.
قال الشيخ قوله لا وكس ولا شطط الوكس، النقصان والشطط العدوان(3/212)
وهو الزيادة على قدر الحق، يقال أشط الرجل في الحكم إذا تعدى الحق وجاوزه قال الشاعر:
ألا يا لقومي قد أشطت عواذلي …فيزعمن أن أودي بحقي باطل
وفيه من الفقه جواز الاجتهاد في الحوادث من الأحكام فيما لم يوجد فيه نص مع إمكان أن يكون فيها نص وتوقيف.
وقوله فإن يكن صواباً فمن الله أي من توفيق الله وان يكن خطأ فمني ومن تسويل الشيطان وتلبيسه على وجه الحق فيه.
وقوله والله ورسوله بريئان، يريد أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يتركا شيئاً لم يبينّاه في الكتاب أو في السنة ولم يرشدا إلى صواب الحق فيه إما نصاً وإما دلالة فهما بريئان من أن يضاف إليهما الخطأ الذي يؤتي المرء فيه من جهة عجزه وتقصيره.
وفيه بيان أن المفوضة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول بها كان لها مهر المثل وإليه ذهب أصحاب الرأي وهو أصح قولين للشافعي فإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة ولها نصف مهر، واعتبر الشافعي مهر المثل بنساء عصبتها اختها وعمتها وبنات أعمامها وليست أمها ولا خالتها من نسائها.
ومن باب في تزويج الصغار
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب وأبو كامل قالا: حَدَّثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بنت سبع سنين، قال سليمان أو ست ودخل بي وأنا بنت تسع.
قال الشيخ في هذا دلالة على أن البكر التي أمر باستئذانها في النكاح إنما هي البالغ دون الصغيرة التي لم تبلغ لأنه لا معنى لاذن من لم تكن بالغاً ولا(3/213)
اعتبار برضاها ولا بسخطها.
وكان أحمد بن حنبل يجعل هذا حداً في تزويج الأبكار لغير الآباء والأجداد ويقول لا أرى للولي ولا للقاضي أن يزوج اليتيمة حتى تبلغ تسع سنين فإذا بلغت تسع سنين فرضيت فلا خيار لها.
قال الشيخ ولعله قد بلغه أن نساء العرب أو أكثرهن يدركن إذا بلغن هذا السن والله أعلم.
ومن باب المقام عند البكر
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب قال حدثني يحيى عن سفيان قال حدثني محمد بن أبي بكر عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبيه عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثا، ثم قال ليس لك على أهلك هوان إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي.
قال الشيخ اختلف العلماء في تأويل ذلك، فقال بعضهم الثلاث تخصيص للثيب لا يحتسب بها عليها ويستأنف القسم فيما يستقبل، وكذلك السبع للبكر وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقد روي ذلك عن الشعبي.
وقال أصحاب الرأي البكر والثيب في القسم سواء وهو قول الحكم وحماد. وقال الأوزاعي إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثا وإذا تزوج الثيب على البكر يمكث يومين.
قال الشيخ السبع في البكر والثلاث في الثيب حق العقد خصوصاً لا يحاسبان على ذلك ولكن يكون لهما عفواً بلا قصاص.(3/214)
وقوله إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي ليس فيه دليل على سقوط حقها الواجب لها إذا لم يسبع لها وهو الثلاث التي هي بمعنى التسويغ لها ولو كان ذلك بمعنى التبدئة ثم يحاسب عليها لم يكن للتخيير معنى لأن الإنسان لا يخير بين جميع الحق وبين بعضه فدل على أنه بمعنى التخصيص.
قال الشيخ ويشبه أن يكون هذا من المعروف الذي أمر الله تعالى به في قوله {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19] وذلك أن البكر لما فيها من الخفر والحياء تحتاج إلى فضل إمهال وصبر وحسن تأن ورفق ليتوصل الزوج إلى الأرب منها، والثيب قد جربت الأزواج وارتاضت بصحبة الرجال فالحاجة إلى ذلك في أمرها أقل إلاّ أنها تخص بالثلاث تكرمة لها وتأسيساً للإلفة فيما ببنه وبينها والله أعلم.
ومن باب الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقد
قال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن اسحاق الطالقاني، قال: حَدَّثنا عبدة، قال: حَدَّثنا سعيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال لما تزوج عليٌ فاطمة رضي الله عنهما، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطها شيئاً، قال ما عندي شيء، قال أين درعك الحُطمية.
قال الشيخ الحطمية منسوبة إلى حطمة بطن من عبد القيس كانوا يعملون الدروع. ويقال إنها الدرع السابغة التي تحطم السلاح.
وقد اختلف الناس في الدخول قبل أن يعطي من المهر شيئاً فكان ابن عمر يقول لا يحل لمسلم أن يدخل على امرأته حتى يقدم إليها حقل أو كثر.
وروي عن ابن عباس الكراهية في ذلك وكذلك عن قتادة والزهري.
وقال مالك بن أنس لا يدخل حتى يقدم شيئاً من صداقها أدناه ربع دينار(3/215)
أو ثلاثة دراهم سواء فرض لها أو لم يكن فرض.
وكان الشافعي يقول في القديم إن لم يسم لها مهراً كرهت أن يطأها قبل أن يسمي أو يعطيها شيئاً، وقول سفيان الثوري قريب من هذا ورخص في ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري والنخعي وهو قول أحمد وإسحاق.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن معمر، قال: حَدَّثنا محمد بن بكر البرساني قال أخبرنا ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم عليه الرجل ابنته أو أخته.
قال الشيخ وهذا يتأول على ما يشترطه الولي لنفسه سوى المهر، وقد اختلف الناس في وجوبه فقال سفيان الثوري ومالك بن أنس في الرجل ينكح المرأة على أن لأبيها كذا وكذا شيئاً اتفقا عليه سوى المهر أن ذلك كله للمرأة دون الأب وكذلك روي عن عطاء وطاوس، وقال أحمد هو للأب ولا يكون ذلك لغيره من الأولياء لأن يد الأب مبسوطة في مال الولد.
وروي عن علي بن الحسين أنه زوج ابنته رجلاً واشترط لنفسه مالاً، وعن مسروق أنه زوج ابنته رجلاً واشترط لنفسه عشرة آلاف درهم يجعلها في الحج والمساكين.
وقال الشافعي إذا فعل ذلك فلها مهر المثل ولا شيء للولي.
ومن باب ما يقال للمتزوج
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن محمد عن سهيل عن أبيه، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال: بارك الله لك وبارك(3/216)
عليك وجمع بينكما في خير.
قال الشيخ قوله رفأ يريد هناه ودعا له وكان من عادتهم أن يقولوا بالرفاء والبنين وأصله من الرفىء وهو على معنيين أحدهما التسكين؛ يقال رفوت الرجل إذا سكنت ما به من روع قال الشاعر:
رفوني وقالوا يا خويلد لم تُرع …فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
والآخر أن يكون بمعنى الموافقة والملائمة ومنه رفوت الثوب، وفيه لغتان يقال رفوت الثوب ورفأته وأنشد أبو زيد:
عمامة غير جد واسعة …أخيطها تارة وأرفأها
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقال للمتزوج بالرفاء والبنين.
ومن باب من تزوج امرأة فوجدها حبلى
قال أبو داود: حدثنا مخلد بن خالد والحسن بن علي وابن أبي السري العسقلاني المعنى قالوا أخبرنا عبد الرزاق، قال: حَدَّثنا ابن جريج عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن رجل من الأنصار قال ابن أبي السري من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل من الأنصار ثم اتفقوا يقال له بصرة، قال تزوجت امرأة بكراً في سترها فدخلت عليها فإذا هي حبلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لها الصداق بما استحللت من فرجها والولد عبد لك فإذا ولدت فاجلدوها أو قال فحدوها.
قال أبو داود: روى هذا الحديث قتادة عن سعيد بن يزيد عن ابن المسيب ويحيى بن أبي كثير عن يزيد بن نعيم عن ابن المسيب وعطاء الخراساني عن ابن المسيب أرسلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.(3/217)
قال الشيخ هذا الحديث لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به وهو مرسل ولا أعلم أحداً من العلماء اختلف في أن ولد الزنا حر إذا كان من حرة فكيف يستعبده ويشبه أن يكون معناه أن ثبت الخبر أنه أوصاه به خيراً أو أمره باصطناعه وتربيته واقتنائه لينتفع بخدمته إذا بلغ فيكون كالعبد له في الطاعة مكافأة له على إحسانه وجزاء لمعروفه.
وفيه حجة إن ثبت الحديث لمن رأى الحمل من الفجور يمنع عقد النكاح وهو قول سفيان الثوري وأبي يوسف وأحمد بن حنبل وإسحاق.
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن النكاح جائز وهو قول الشافعي والوطء على مذهبه مكروه ولا عدة عليها في قول أبي يوسف وكذلك عند الشافعي.
قال الشيخ ويشبه أن يكون إنما جعل لها صداق المثل دون المسمى لأن في هذا الحديث من رواية زيد بن نعيم عن ابن المسيب أنه فرق بينهما ولو كان النكاح وقع صحيحاً لم يجب التفريق لأن حدوث الزنا بالمنكوحة لا يفسخ النكاح ولا يوجب للزوج الخيار. ويحتمل أن يكون الحديث إن كان له أصل منسوخا والله أعلم.
ومن باب في القسم بين النساء
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: حَدَّثنا همام، قال: حَدَّثنا قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل.
قال الشيخ في هذا دلالة على توكيد وجوب القسم بين الضرائر الحرائر وإنما المكروه من الميل هو ميل العشرة الذي يكون معه بخس الحق دون ميل(3/218)
القلوب فإن القلوب لا تملك فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي في القسم بين نسائه ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تواخذني فيما لا أملك، وفي هذا نزل قوله تعالى {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولوحرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} [النساء: 129] .
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: حَدَّثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غيرأن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة.
قال الشيخ فيه إثبات القرعة وفيه أن القسم قد يكون بالنهار كما يكون بالليل وفيه أن الهبة قد تجري في حقوق عشرة الزوجية كما تجري في حقوق الأموال.
واتفق أكثر أهل العلم على أن المرأة التي تخرج بها في السفر لا يحسب عليها بتلك المدة للبواقي ولا تقاص بما فاتهن في أيام الغيبة إذا كان خروجها بقرعة.
وزعم بعض أهل العلم أن عليه أن يوفي للبواقي ما فاتهن أيام غيبته حتى يساوينها في الحظ. والقول الأول أولى لاجتماع عامة أهل العلم عليه، ولأنها إنما أرفقت بزيادة الحظ بما يلحقها من مشقة السفر وتعب السير والقواعد خليات من ذلك فلو سوى بينها وبينهن لكان في ذلك العدول عن الانصاف والله أعلم.
ومن باب الرجل يتزوج امرأة ويشرط لها دارها
قال أبو داود: حدثنا عيسى بن حماد المصري، قال: حَدَّثنا اليث عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي الخير عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أحق(3/219)
الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج.
قال الشيخ كان أحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه يريان أن من تزوج امرأة على أن لا يخرجها من دارها أو لا يخرج بها إلى البلد أو ما أشبه ذلك أن عليه الوفاء بذلك وهو قول الأوزاعى وقد روي معناه عن عمر رضي الله عنه.
وقال سفيان وأصحاب الرأي إن شاء ينقلها عن دارها كان له؛ وكذلك قال الشافعي ومالك، وقال النخعي كل شرط في نكاح فإن النكاح يهدمه إلاّ الطلاق وهو مذهب عطاء والشعبي والزهري وقتادة وابن المسيب والحسن وابن سيرين قال وتأويل الحديث على مذهب هؤلاء أن يكون ما يشترطه من ذلك خاصاً في المهر والحقوق الواجبة التي هي مقتضى العقد دون غيرها مما لا يقتضيه والله أعلم.
ومن باب في ضرب النساء
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تضربوا إماء الله فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذئِرن النساء على أزواجهن فرخص في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن فقال صلى الله عليه وسلم: لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم.
قوله ذئرن معناه سوء الخلق والجرأة على الأزواج والذائر المغتاظ على خصمه المستعد للشر، ويقال اذرأت الرجل بالشر إذا اغريته به فيكون معناه على هذا أنهن أغرين بأزواجهن واستخففن بحقوقهم.
وفي الحديث من الفقه أن ضرب النساء في منع حقوق النكاح مباح إلاّ أنه ضرب غير مبرح.(3/220)
وفيه بيان أن الصبر على سوء أخلاقهن والتجافي عما يكون منهن أفضل.
ومن باب حق المرأة على الزوج
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد قال أخبرنا أبو قزعة سويد بن حجر الباهلي عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه، قال أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلاّ في البيت.
قال الشيخ في هذا إيجاب النفقة والكسوة لها وليس في ذلك حد معلوم، وإنما هو على المعروف وعلى قدر وسع الزوج وجِدته وإذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم حقا لها فهولازم للزوج حضر أو غاب وإن لم يجده في وقته كان ديناً عليه إلى أن يؤديه إليها كسائر الحقوق الواجبة، وسواء فرض لها القاضي عليه أيام غيبته أو لم يفرض.
وفي قوله ولا تضرب الوجه دلالة على جواز الضرب على غير الوجه إلاّ أنه ضرب غير مبرح، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه نهياً عاماً لا تضرب آدمياً ولا بهيمة على الوجه.
وقوله ولا تقبح معناه لا يسمعها المكروه ولا يشتمها بأن يقول قبحك الله وما أشبهه من الكلام.
وقوله لا تهجر إلاّ في البيت أي لا تهجرها إلاّ في المضجع ولا تتحول عنها أو تحولها إلى دار أخرى.
ومن باب ما يؤمر به من غض البصر
قال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري قال أخبرنا شريك، عَن أبي(3/221)
ربيعة الإيادي عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة.
قال الشيخ النظرة الأولى إنما تكون له لا عليه إذا كانت فجأة من غير قصد أو تعمد وليس له أن يكرر النظر ثانية ولا له أن يتعمده بدءا كان أو عودا.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، قال: حَدَّثنا سفيان، قال: حَدَّثنا يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد، عَن أبي زرعة عن جرير، قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال اصرف بصرك.
قال الشيخ ويروى اطرق بصرك حدثنا ابن الأعرابي، قال: حَدَّثنا علي بن عبد العزيز، قال: حَدَّثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن يونس بن عبيد عن عمر بن سعيد، عَن أبي زرعة عن جرير، قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال اطرق بصرك.
قال الشيخ الأطراق أن يقبل ببصره إلى صدره والصرف أن يقبله إلى الشق الآخر أو الناحية الأخرى.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو عَوانة عن الأعمش، عَن أبي وائل، عَن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تباشر المرأة المرأة لتنعتها لزوجها كأنما ينظر إليها.
قال الشيخ فيه دلالة على أن الحيوان قد يضبط بالصفة ضبط حصر وإحالة واستدلوا به على جواز السلم في الحيوان.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حَدَّثنا أبو ثور عن معمر قال أخبرنا طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة(3/222)
عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق تمنّى وتشتهي والفرج يصدق ذلك ويكذبه.
قال الشيخ قوله اشبه باللمم يريد بذلك ما عفا الله عنه من صغائر الذنوب وهو معنى قوله تعالى {الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلاّ اللمم} [الشورى: 37] وهو ما يلم به الإنسان من صغائر الذنوب التي لا يكاد يسلم منها إلاّ من عصمه الله تعالى وحفظه وإنما سمي النظر زنا والقول زنا لأنهما مقدمتان للزنا فإن البصر رائد واللسان خاطب والفرج مصدق للزنا ومحقق له بالفعل.
وفي قوله والفرج يصدق ذلك ويكذبه مستدل لمن جعل المتلوط زانياً يجلد أو يرجم كسائر الزناة وذلك أنه قد واقع الفرج بفرجه وهو صورة الزنا حقيقة.
ومن باب وطء السبايا
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن عمر بن ميسرة، قال: حَدَّثنا يزيد بن زريع، قال: حَدَّثنا سعيد عن قتادة عن صالح بن أبي الخليل، عَن أبي علقمة الهاشمي، عَن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين بعثاً إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا فكأن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله في ذلك {والمحصنات من النساء إلاّ ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24] أي فهن لهم حلال إذا انقضت عدتهن.
قال الشيخ المحصنات من النساء معناه المتزوجات، وفيه بيان أن الزوجين إذا سبيا معاً فقد وقعت الفرقة بينهما كما لو سبي أحدهما دون الآخر.
وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأبو ثور واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم السبي، وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائض حتى تحيض، ولم(3/223)
يسأل عن ذات زوج وغيرها ولا عمن كانت سبيت منهن مع الزوج أو وحدها فدل أن الحكم في ذلك واحد.
وقال أبو حنيفة إذا سبيا جميعاً فهما على نكاحهما الأول وقال الأوزاعي ما كان في المقاسم فهما على نكاحهما فإن اشتراهما رجل فشاء أن يجمع بينهما جمع وإن شاء فرق بينهما واتخذها لنفسه بعد أن يستبرئها بحيضة.
وفي قوله إذا انقضت عدتهن دليل على ثبوت أنكحة أهل الشرك ولولا ذلك لم يكن للعدة معنى.
وقد تأول ابن عباس الاية في الأمة يشتريها ولها زوج، فقال بيعها طلاقها وللمشتري اتخلذها لنفسه وهو خلاف أقاويل عامة العلماء، وحديث بريرة يدل على خلاف قوله.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي، قال: حَدَّثنا مسكين، قال: حَدَّثنا شعبة عن يزيد بن خمير عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، عَن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة فرأى امرأة مُخجاً فقال لعل صاحبها ألمَّ بها قالوا نعم، قال لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره كيف يورثه وهولا يحل له.
قال الشيخ المخج الحامل المقرب، وفيه بيان أن وطئ الحبالى من النساء لا يجوز حتى يضعن حملهن.
وقوله كيف يورثه وهو لا يحل له أم كيف يستخدمه وهو لا يحل له، يريد أن ذلك الحمل قد يكون من زوجها المشرك فلا يحل له استلحاقه وتوريثه، وقد يكون منه إذا وطئها أن ينفش ما كان في الظاهر حملاً وتعلق من وطئه فلا يجوز له سبيه واستخدامه.(3/224)
وفي هذا دليل على أنه لا يجوز استرقاق الولد بعد الوطء إذا كان وضع الحمل بعده بمدة تبلغ أدنى مدة الحمل وهو ستة أشهر.
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون، قال: حَدَّثنا شريك عن قيس بن وهب، عَن أبي الودّاك، عَن أبي سعيد الخدري ورفعه أنه صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة.
قال الشيخ فيه من الفقه أن السبي ينقض الملك المتقدم ويفسخ النكاح.
وفيه دليل على أن استحداث الملك يوجب الاستبراء في الإماء فلا توطأ ثيب ولا عذراء حتى تستبري بحيضة ويدخل في ذلك المكاتبة إذا عجزت فعادت إلى الملك المطلق؛ وكذلك من رجعت إلى ملكه بإقالة بعد البيع وسواء كانت الأمة مشتراة من رجل أو امرأة لأن العموم يأتي على ذلك أجمع.
وفي قوله حتى تحيض دليل على أنه إذا اشتراها وهي حائض فإنه لا يعتد بتلك الحيضة حتى تستبرىء بحيضة مستأنفة.
وقد يستدل بهذا الحديث من يى أن الحامل لا تحيض وأن الدم الذي ترام أيام حيضها غير محكوم له بحكم الحيض في ترك الصلاة والصيام، قال وذلك لأنه جعل الحيض دليل براءة الرحم فلو صح وجوده مع الحمل لانتقضت دلالته في الاستبراء ولم يكن للفرق الذي جاء في هذا الحديث بينهما معنى، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي.
وقال الشافعي الحامل تحيض وإذا رأت الدم المعتاد أمسكت عن الصلاة وإنما جعل الحيض في الحامل علماً لبراءة الرحم من طريق الظاهر فإذا جاء ما هو(3/225)
أظهر منه وأقوى في الدلالة سقط اعتباره ويأمرها بأن تمسك عن الصلاة ولا تنقضي عدتها إلاّ بوضع الحمل، وذهب إلى أن وجود الدم لا يمنع من وجود الاعتداد بالحمل كما لم يمنع وجوده في المتوفى عنها زوجها من الاعتداد بالأربعة الأشهر والعشر.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي، قال: حَدَّثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق، قال حدثني يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي مرزوق عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره، يَعني اتيان الحبالى.
قال الشيخ شبه صلى الله عليه وسلم الولد إذا علق بالرحم بالزرع إذا نبت ورسخ في الأرض وفيه كراهة وطء الحبلى إذا كان الحبل من غير الواطىء على الوجوه كلها، وقد يستدل به من يرى الحاق الولد بالواطئين إذا كان ذلك منهما، وقالوا قد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الولد بالزرع أي كما يزيد الماء في الزرع كذلك يزيد المني في الولد.
قال الشيخ وهذا تشبيه علي معنى التقريب وهو في قوله زرع غيره قطع إضافة ملك الزرع عن الساقى وإثباته لرب الزرع وهو الزارع فقياسه في التشبيه به أن لا يكون الولد لهما جميعاً وإنما يكون لأحدهما.
ومن باب جامع النكاج
قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ قال حدثني محمد بن يونس بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس قال إن ابن عمر والله يغفر له. أوهم إنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم(3/226)
في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلاّ على حرف واحد، وذلك أستر ما تكون المرأة فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شريحاً منكراً ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت إنما كنا نؤتى على حرف فأصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى شرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة: 223] أي مقبلات ومدبرات، يَعني بذلك موضع الولد.
قال الشيخ قوله أوهم ابن عمر هكذا وقع في الرواية والصواب وهم بغير ألف يقال وهم الرجل إذا غلط في الشيء، ووهم مفتوحة الهاء إذا ذهب وهمه إلى الشيء وأوهم بالألف إذا أسقط من قراءته أو كلامه شيئاً، ويشبه أن يكون قد بلغ ابن عباس عن ابن عمر في تأويل الآية شيء خلاف ما كان يذهب إليه ابن عباس.
وقوله يشرحون النساء أصل الشرح في اللغة البسط ومنه انشراح الصدر بالأمر وهو انفتاحه ومن هذا قولهم شرحت المسألة إذا فتحت المنغلق منها وبينت المشكل من معناها.
وقوله حتى شرى أمرهما أي ارتفع وعظم، وأصله من قولك شرى البرق إذا لج في اللمعان واستشرى الرجل إذا لج في الأمر.
وفيه بيان تحري إتيان النساء في أدبارهن مع ما جاء في النهي في ذلك في سائر الأخبار.(3/227)
ومن باب في اتيان الحائض
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد، قال: حَدَّثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة اخرجوها من البيت ولم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة: 222] إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء غير النكاح، فقالت اليهود ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه فجاء أُسيد بن حضير وعباد بن بشر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا ننكحهن في المحيض فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهما فظننا أنه لم يجد عليهما.
معناه علمناه وذلك أنه لا يدعوهما إلى مجالسته ومواكلته إلاّ وهو غير واجد عليهما والظن يكون بمعنيين أحدهما بمعنى الحسبان والآخر بمعنى اليقين فكان اللفظ الأول منصرفاً إلى الحسبان والآخر إلى العلم وزوال الشك كقول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم بالفارسي المسردد
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء ومسدد قالا: حَدَّثنا حفص عن الشيباني عن عبد الله بن شداد عن خالته ميمونه بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض أمرها أن تتزر ثم يباشرها.
قال الشيخ في هذا دليل على أن ما تحت الازار من الحيض حمى لا يقرب،(3/228)
وإليه ذهب مالك بن أنس وأبو حنيفة وهو قول سعيد بن المسيب وشريح وعطاء وطاوس وقتادة.
ورخص بعضهم في اتيانها دون الفرج وهو قول عكرمة، وإلى نحو من هذا أشار الشافعي.
وقال إسحاق إن جامعها دون الفرج لم يكن به بأس، وقول أبي يوسف ومحمد قريب من ذلك.
ومن باب في العزل
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا الفضل بن دُكين، قال: حَدَّثنا زهير، عَن أبي الزبير عن جابر، قال جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، فقال أعزل عنها إن شئت فأنه سيأتيها ما قدر لها، قال فلبث الرجل ثم أتاه فقال إن الجارية قد حملت، قال قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها.
قال في هذا الحديث من العلم اباحة العزل عن الجواري، وقد رخص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين وكرهه بعض الصحابة.
وروي عن ابن عباس أنه قال تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الجارية وإليه ذهب أحمد بن حنبل.
وقال مالك لا يعزل عن الحرة إلاّ بإذنها ولا يعزل عن الجارية إذا كانت زوجة إلاّ بإذن أهلها ويعزل عن أمته بغير إذن.
وفي الحديث دلالة على أنه إذا أقر بوطء أمته وادعى العزل فان الولد لاحق به إلاّ أن يدعي الاستبراء وهذا على قول من يرى الأمة فراشاً وإليه ذهب الشافعي.(3/229)
ومن باب ما يكره من ذكر الرجل
ما يكون بينه وبين أهله
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا بشر، قال: حَدَّثنا الجريري، عَن أبي نضرة قال حدثني شيخ من طفاوة قال تثوّيت أبا هريرة بالمدينة فلم أر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشد تشميراً وأقوم على ضيف منه وساق الحديث إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن نَّساني الشيطان شيئاً من صلواتي فليسبح القوم وليصفق النساء.
قوله تثويت أبا هريرة معناه جئته ضيفاً، والثوى معناه الضيف وهذا كما تقول تضيفته إذا ضفته وقوله فليسبح القوم يريد الرجال دون النساء ومرسل اسم القوم في اللغة إنما ينطلق على الرجال دون النساء قال زهير:
وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
ويدل على ذلك قوله وليصفق النساء فقابل النساء فدل أنهن لم يدخلن فيهم.
كتاب الطلاق
ومن باب المرأة تسأل زوجها طلاق امرأة له
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صَحْفَتَها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها.
قال الشيخ قوله لتستفرغ صحفتها مثل يريد بذلك الاستئثار عليها بحظها فتكون كمن أفرغ صحفة غيره فكفأ ما في انائه فقلبه في إناء نفسه.(3/230)
ومن باب كراهية الطلاق
قال أبو داود: حدثنا كثير بن عبيد، قال: حَدَّثنا محمد بن خالد عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابغض الحلال إلى الله الطلاق.
قال الشيخ المشهور في هذا عن محارب بن دثار مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ابن عمر، ومعنى الكراهة فيه منصرف إلى السبب الجالب للطلاق وهو سوء العشرة وقلة الموافقة لا إلى نفس الطلاق فقد أباح الله الطلاق وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طلق بعض نسائه ثم راجعها، وكانت لابن عمر امرأة يحبها وكان عمر رضي الله عنه يكره صحبته إياها فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا به وقال يا عبد الله طلق امرأتك فطلقها وهو لا يأمر بأمر يكرهه الله.
ومن باب طلاق السنة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم أن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.
قال الشيخ قوله فتلك العدة التي أمرالله أن يطلق لها النساء، فيه بيان أن الاقراء التي تعتد بها هي الاطهار دون الحيض، وذلك أن قوله فتلك إشارة إلى ما دل الكلام المتقدم.
وقد تقدم ذكر الحيض قبل ذلك فلم يعلق الحكم عليه ثم أتبعه ذكر الطهر(3/231)
وقال عند ذلك فتلك العدة التي أمر الله فعلم أنه وقت العدة وزمانه.
ومعنى الكلام في قوله لها معنى في يريد إنهاء العدة التي يطلق فيها النساء كما يقول القائل كتبت لخمس خلون من الشهر أي وقت خلا فيه من الشهر خمس ليال وإذا كان وقت الطلاق الطهر ثبت أنه محل العدة، وهو معنى قوله فطلقوهن لعدتهن أي في وقت عدتهن. وبيان ذلك قوله واحصوا العدة فعلم أن العدة التي أمر أن يطلق لها هي التي تحيضها، ومما يؤكد ذلك قوله ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق فدل أن الطهر هو المعتد به في الاقراء ولولا أنه كذلك لأمره بأن يهل حتى يكون آخر وقت الطهر وتشارف الحيض فيقول له حينئذ طلق لأنه إنما نهى عن الطلاق في الحيض لئلا يطول عليها العدة فلم يكن ليجوزه في هذا وذلك المعنى بعينه موجود.
وفي الحديث دليل على أن الطلاق في الحيض بدعة وأن من طلق في الحيض وكانت المرأة مدخولاً بها وقد بقي من طلاقها شيء فان عليه أن يراجعها.
وفي قوله وإن شاء طلق قبل أن يمس دليل على أن من طلق امرأته في طهر كان أصابها فيه فإن عليه مراجعتها لأن كل واحد منهما مطلق لغير السنة وإذا اجتمعا في هذه العلة وجب أن يجتمعا في وجوب حكم الرجعة وهذا على معنى وجوب استعمال حكم السنة فيه.
وقال مالك بن أنس يلزمه لزوماً لا يسعه غير ذلك.
وفيه دليل على أن طلاق البدعة يقع كوقوعه للسنة إذ لو لم يكن واقعاً لم يكن لمراجعته إياها معنى.
وقالت الخوارج والروافض إذا طلق في وقت الحيض لم تطلق.(3/232)
وفيه دلالة على أنه لا يحتاج في مراجعتها إلى إذن الولي أو رضاء المرأة لأنه أمره بمراجعتها وأطلق فعلها له من غير شرط قرنه به.
وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن السنة أن لا يطلق أكثر من واحدة فان جمع بين التطليقتين أو الثلاثة فهو بدعة، وهو قول مالك وأصحاب الرأي. ووجه الاستدلال منه أنه لما أمره أن لا يطلق في الطهر الذي يلي الحيض علم أنه ليس له أن يطلقها بعد الطلقة الأولى حتى يستبرئها بحيضة فيخرج من هذا ان ليس للرجل إيقاع تطليقتين في قرء واحد.
وقال الشافعي إنما هي في الوقت دون العدد وله أن يطلقها واحدة وثنتين وثلاثاً، وتأول أصحابه الخبر على أنه إنما منعه من طلاقها في ذلك الطهر لئلا تطول عليها العدة لأن المراجعة لم تكن تنفعها حينئذ فإذا كان كذلك كان يجب عليه أن يجامعها في الطهر ليتحقق معنى المراجعة، وإذا جامعها لم يكن له أن يطلق لأن الطلاق السني هو الذي يقع في طهر لم يجامع فيه على أن أكثر الروايات أنه قال مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق، هكذا رواية يونس بن جبير عن ابن عمر وكذلك رواية أنس بن سيرين وزيد بن أسلم وأبو وائل، وكذلك رواه سالم عن ابن عمر من طريق محمد بن عبد الرحمن عن سالم وإنما روى هذه الزيادة نافع عنه، وقد روي أيضاً عن سالم من طريق الزهري.
وقد زعم بعض أهل العلم أن من قال لزوجته وهي حائض إذا طهرت فأنت طالق فإنه غير مطلق للسنة، واستدل بقوله ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق،(3/233)
قال فالمطلق للسنة هو الذي يكون مخيراً في وقت طلاقه بين إيقاع الطلاق وتركه ومن سبق منه هذا القول في وقت الحيض زائل عنه الخيار في وقت الطهر.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا وكيع عن سفيان عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سالم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت أو وهي حامل.
قال الشيخ في هذا بيان أنه إذا طلقها وهي حامل فهو مطلق للسنة ويطلقها أي وقت شاء في الحمل وهو قول عامة العلماء، إلاّ أن أصحاب الرأي اختلفوا فيها فقال أبو حنيفة وأبو يوسف يجعل بين وقوع التطليقتين شهراً حتى يستوفي الطلقات الثلاث.
وقال محمد بن الحسن وزفر لا يوقع عليها وهي حامل أكثر من تطليقة واحدة ويتركها حتى تضع حملها ثم يوقع سائر التطليقات.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي قال حدثني يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال حدثني يونس بن جبير قال سألت عبد الله بن عمر قال قلت رجل طلق امرأته وهي حائض، قال تعرف عبد الله بن عمر قلت نعم، قال فإن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل عدتها، قال فقلت فيعتد بها قال فمه أرأيت إن عجز واستحمق.
قال الشيخ فيه بيان إن الطلاق في الحيض واقع ولولا أنه قد وقع لم يكن لأمره بالمراجعة معنى.
وفي قوله أرأيت إن عجز واستحمق حذف واضمار كأنه يقول أرأيت إن(3/234)
عجز واستحمق أسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه.
وفي قوله ثم ليطلقها في قبل عدتها بيان أنها تستقبل عدتها وتنشئها من لدن وقت وقوع الطلاق وهي حال الطهر.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع قال كيف ترى في رجل طلق امرأته، حائضاً قال طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، فقال عبد الله فردها عليّ ولم يرها شيئاً.
قال الشيخ حديث يونس بن جبير أثبت من هذا، وقال أبو داود جاءت الأحاديث كلها بخلاف ما رواه أبو الزبير، وقال أهل الحديث لم يرْو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لم يره شيئا باتاً يحرم معه المراجعة ولا تحل له إلاّ بعد زوج أو لم يره شيئاً جائزاً في السنة ماضياً في حكم الاختيار وإن كان لازماً على سبيل الكراهة والله أعلم.
ومن باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني بعض بني رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ما يغني عني إلاّ كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة واخوته ثم قال لجلسائه(3/235)
أترون فلاناً يشبه منه كذا أو كذا من عبد يزيد، قالوا نعم قال لعبد يزيد طلقها ففعل، ثم قال راجع امرأتك أم ركانة، فقال إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله ققال قد علمت ارجعها وتلا {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] الآية.
قال الشيخ في إسناد هذا الحديث مقال لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع ولم يسمعه والمجهول لا يقوم به الحجة.
وقد روى أبو داود هذا الحديث بإسناد أجود منه أن ركانة طلق امرأته البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت إلاّ واحدة فقال ركانة والله ما أردت إلاّ واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمان عمر والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنهما.
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وإبراهيم بن خالد الكلبي في آخرين قالوا حدثنا الشافعي قال حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة وذكر الحديث، قال أبو داود وهذا أولى لأنهم ولد الرجل وأهله وهم أعلم به.
قال الشيخ قد يحتمل أن يكون حديث ابن جريج إنما رواه الراوي على المعنى دون اللفظ وذلك أن الناس قد اختلفوا في البتة، فقال بعضهم هي ثلاثة، وقال بعضهم هي واحدة وكأن الراوي له ممن يذهب مذهب الثلاث فحكي أنه قال إني طلقتها ثلاثا يريد البتة التي حكمها عنده حكم الثلاث والله أعلم.
وكان أحمد بن حنبل يضعف طرق هذه الأحاديث كلها.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج، قال أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس أتعلم إنما(3/236)
كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثاً إمارة عمر قال ابن عباس نعم.
قال الشيخ اختلف الناس في تأويل ما روي من هذا عن ابن عباس فقال بعضهم قد كان هذا في الصدر الأول ثم نسخ.
قال الشيخ وهذا لا وجه له لأن النسخ إنما يكون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم والوحي غير منقطع فأما في زمان عمر رضي الله عنه فلا معنى للنسخ، وقد استقرت أحكام الشريعة وانقطع الوحي وإنما هو زمان الاجتهاد والرأي فيما لم يبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نص وتوقيف وحدثني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر، وروى هذا الحديث، ثم روي عن ابن عبد الحكم عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثا حرمت عليك، قال ابن المنذر فغير جائز أن يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم يفتي بخلافه.
قال الشيخ ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفا إلى طلاق البتة، لأنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ركانة أنه جعل البتة واحدة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراها واحدة، ثم تتابع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث وإليه ذهب غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم، روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه جعلها ثلاثاً، وكذلك روي عن ابن عمر وكان يقول ابت الطلاق طلاق البتة، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل. وهذا كصنيعه بشارب الخمر فإن الحد كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر أربعين(3/237)
ثم ان عمر لما رأى الناس تتابعوا في الخمر واستخفوا بالعقوبة فيها، قال أرى أن تبلغ فيها حد المفتري لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذي افترى وكان ذلك عن ملأ من الصحابة فلا ينكر أن يكون الأمر في طلاق البتة على شاكلته.
وفيه وجه آخر ذهب إليه أبو العباس بن شريح قال يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث وهو أن يفرق بين اللفظ كأنه يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق فكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر والناس على صدقهم وسلامتهم ولم يكن ظهر فيهم الخب والخداع، فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التوكيد ولا يريدون الثلاث، فلما رأى عمر رضي الله عنه في زمانه أموراً ظهرت وأحوالاً تغيرت منه من حمل اللفظ على التكرار وألزمهم الثلاث.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الملك بن مروان،، قال: حَدَّثنا أبو النعمان، قال: حَدَّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس؛ قال أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر؛ فلما رأى الناس تتابعوا فيها قال أجيزوهن عليهم.
قال الشيخ وهذا تأويل ثالث وهو أن ذلك إنما جاء في طلاق غير المدخول بها، وقد ذهب إلى هذا الرأي جماعة من أصحاب ابن عباس منهم سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار وقالوا من طلق البكر ثلاثاً فهي واحدة. وعامة أهل العلم على خلاف قولهم.
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن وابن أبي ليلى والأوزاعي والليث بن سعد(3/238)
ومالك بن أنس فيمن تابع بين كلامه فقال لإمرأته التي لم يدخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق ثلاثاً لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره، غير أن مالكاً قال إذا لم يكن له نية، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد وإسحاق تبين بالأولى ولا حكم لما بعدها.
ومن باب في سنة طلاق العبد
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب قال حدثني يحيى بن سعيد، قال: حَدَّثنا علي بن المبارك قال حدثني يحيى بن كثير أن عمر بن معتب أخبره أن أبا حسن مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس في مملوك كانت تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم أعتقها بعد ذلك هل يصلح له أن يخطبها قال نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ لم يذهب إلى هذا أحد من العلماء فيما أعلم، وفي إسناده مقال، وقد ذكرأبو داود عن أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق أن ابن المبارك قال (1) أبوالحسن هذا قال لقد تحمل صخرة عظيمة.
قال الشيخ يريد بذلك إنكار ما جاء به من الحديث ومذهب عامة الفقهاء أن المملوكة إذا كانت تحت مملوك فطلقها تطليقين أنها لا تحل له إلاّ بعد زوج.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود، قال: حَدَّثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن مظاهر عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان قال أبو داود الحديثان جميعا ليس العمل عليهما.
قال الشيخ اختلف العلماء في هذا فقالت طائفة الطلاق بالرجال والعدة بالنساء
_________
(1) هنا بياض في النسخة المصرية قدر كلمة وهي محررة في الطرطوشية (ص298) إلا أن معظمها قد أكلتها الأرضة وتعسر عليّ فهمها ولعلها لما سمع إلخ آدم.(3/239)
روي ذلك عن ابن عمر وزيد بن ثابت وابن عباس وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وإذا كانت أمة تحت حر فطلاقها ثلاث وعدتها قرءان وإن كانت حرة تحت عبد فطلاقها اثنتان وعدتها ثلاثة اقراء في قول هؤلاء.
وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري الحرة تعتد ثلاثة اقراء كانت تحت حر أو عبد وطلاقها ثلاث كالعدة، والأمة تعتد قرأين وتطلق بطلقتين سواء كانت تحت حر أو عبد.
قال الشيخ والحديث حجة لأهل العراق إن ثبت ولكن أهل الحديث ضعفوه ومنهم من تأوله على أن يكون الزوج عبداً.
ومن باب الطلاق قبل النكاح
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا هشام قال وحدثنا عبد الله بن الصباح العطار، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن عبد الصمد قالا: حَدَّثنا الوراق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا طلاق إلاّ فيما تملك ولا عتق إلاّ فيما تملك، ولا بيع إلاّ فيما تملك، زاد ابن الصباح ولا وفاء نذر فيما لا تملك.
قال الشيخ قوله لا طلاق ومعناه نفي حكم الطلاق المرسل على المرأة قبل أن تملك بعقد النكاح وهويقتضي نفي وقوعه على العموم سواء كان في امرأة بعينها أو في نساء لا بأعيانهن.
وقد اختلف الناس في هذا فروي عن علي وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهم لم يروا طلاقاً إلاّ بعد النكاح، وروي ذلك عن شريح وابن المسيب وعطاء(3/240)
وطاوس وسعيد بن جبير وعروة وعكرمة وقتادة وإليه ذهب الشافعي.
وروي عن ابن مسعود إيقاع الطلاق قبل النكاح وبه قال الزهري وإليه ذهب أصحاب الرأي.
وقال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى إن خص امرأة بعينها أو قال من قبيلة أو بلد بعينه جاز وإن عم فليس بشيء، وكذلك قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
وقال سفيان الثوري نحواً من ذلك إذا قال إلى سنة أو وقت معلوم.
وقال أحمد بن حنبل وأبو عبيد إن كان نكح لم يؤمر بالفراق وإن لم يكن نكح لم يؤمر بالتزويج، وقد روي نحواً من هذا عن الأوزاعي.
قال الشيخ وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره وأجراه على عمومه إذ لا حجة مع من فرق بين حال وحال والحديث حديث حسن.
وقال أبو عيسى الترمذي سألت محمد بن إسماعيل فقلت أي شيء أصح في الطلاق قبل النكاح فقال حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وسئل ابن عباس عن هذا فقرأ قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب: 49] الآية.
وقوله ولا بيع إلاّ فيما تملك لا أعلم خلافاً أنه لوباع سلعة لا يملكها ثم ملكها أن البيع لا يصح فيها، فكذلك إذا طلق امرأة لم يملكها ثم ملكها وكذلك هذا في النذر وسنذكر الخلاف فيه في موضعه إن شاء الله.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حَدَّثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير قال حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب بإسناده ومعناه زاد ومن(3/241)
حلف على قطيعة رحم فلا يمين له.
قال الشيخ هذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون أراد به اليمين المطلقة من الايمان فيكون معنى قوله لا يمين له أي لا يبر في يمينه ولكنه يحنث ويكفر كما روي أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.
والوجه الآخر أن يكون أراد به النذر الذي مخرجه مخرج اليمين كقوله إن فعلت كذا فلله عليّ أن أذبح ولدي فإن هذه يمين باطلة لا يلزم الوفاء بها ولا يلزمه فيها كفارة ولا فدية، وكذلك هذا فيمن نذر أن يذبح ولده على سبيل التبرر والتقرب فالنذر لا ينعقد فيه والوفاء لا يلزم به وليس فيه كفارة والله أعلم.
ومن باب الطلاق على إغلاق
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري أن يعقوب بن إبراهيم حدثهم قال حدثني أبي، عَن أبي إسحاق عن ثور بن يزيد الحمصي عن محمد بن عبيد الله بن صالح الذي كان يسكن إيلياء عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا طلاق ولا عتاق في اغلاق.
قال الشيخ معنى الإغلاق الإكراه وكان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم لا يرون طلاق المكره طلاقاً.
وهو قول شريح وعطاء وطاوس وجابر بن زيد والحسن وعمر بن عبد العزيز والقاسم وسالم. وإليه ذهب مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وكان الشعبي والنخعي والزهري وقتادة يرون طلاق المكره جائزاً.(3/242)
وإليه ذهب أصحاب الرأي وقالوا في بيع المكره أنه غير جائز.
وقال شريح القيد كره والوعيد كره، وقال أحمد بن حنبل الكره إذا كان القتل أو الضرب الشديد.
وقال أصحاب الشافعي في الكره إنما لا يمضي طلاقه إذا ورى عنه بشيء مثل أن ينوي طلاقاً من وثاق أو نحوه كما يكره على الكفر فيؤدي وهويعتقد بقلبه الايمان.
ومن باب الطلاق على الهزل
قال أبو داود: حدثنا القعنبي، قال: حَدَّثنا عبد العزيز، يَعني ابن محمد عن عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة.
قال الشيخ اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل فإنه مؤاخذ به ولا ينفعه أن يقول كنت لاعباً أو هازلاً أو لم أنو به طلاقاً أو ما أشبه ذلك من الأمور.
واحتج بعض العلماء في ذلك بقول الله تعالى {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} [البقرة: 231] وقال لو أطلق للناس ذلك لتعطلت الأحكام ولم يشأ مطلق أو ناكح أو معتق أن يقول كنت في قولي هازلاً فيكون في ذلك إبطال أحكام الله سبحانه وتعالى وذلك غير جائز فكل من تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه ولم يقبل منه أن يدعى خلافه وذلك تأكيد لأمر الفروج واحتياط له والله أعلم.
واختلفوا في الخطأ والنسيان في الطلاق فقال عطاء وعمرو بن دينار فيمن(3/243)
حلف على أمرلا يفعله بالطلاق ففعله ناسياً أنه لا يحنث.
وقال الزهري ومكحول وقتادة يحنث وإليه ذهب مالك وأصحاب الرأي وهو قول الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى.
وقال الشافعي يحنث في الحكم وكان أحمد بن حنبل يحنثه في الطلاق ويقف عند إيجاب الحنث في سائر الايمان إذا كان ناسياً.
ومن باب ما عنى به الطلاق والنيات فيه
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، قال: حَدَّثنا سفيان، قال: حَدَّثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
قال الشيخ قوله إنما الأعمال بالنيات معناه أن صحة الأعمال ووجوب أحكامها إنما يكون بالنية فإن النية هي المصرفة لها إلى جهاتها ولم يرد به أعيان الأعمال لأن أعيانها حاصلة بغير نية ولو كان المراد به أعيانها لكان خلفاً من القول وكلمة إنما مرصدة لإثبات الشيء ونفي ما عداه.
وفي الحديث دليل على أن المطلق إذا طلق بصريح لفظ الطلاق أو ببعض المكاني التي يطلق بها ونوى عدداً من أعداد الطلاق كان ما نواه من العدد واقعا واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، وإلى هذه الجملة ذهب الشافعي. وصرف الألفاظ على مصارف النيات، وقال في الرجل يقول لامرأته أنت طالق ونوى به ثلاثاً إنما تطلق ثلاثاً، وكذلك قال مالك بن أنس وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد(3/244)
وقد روي ذلك عن عروة بن الزبير.
وقال أصحاب الرأي واحدة وهو أحق بها وكذلك قال سفيان الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل.
وقال أصحاب الرأي في المكانى مثل قوله أنت بائن أو بتة فإنه يسأل عن نيته فإن لم ينو الطلاق لم يقع عليها طلاق وإن نوى الطلاق فهو ما نوى إن أراد واحدة فواحدة وإن نوى ثنتين فهي واحدة بائنة لأنها كلمة واحدة ولا يقع على اثنتين وإن نوى ثلاثا فهو ثلاث. وإن نوى الطلاق ولم ينو عدداً منه فهي واحدة بائنة، وكذلك كل كلام يشبه الفرقة مما أراد به الطلاق فهو مثل هذا كقوله حبلك على غاربك أو قد خليت سبيلك ولا ملك لي عليك والحقي بأهلك واستبري واعتدي.
قال الشيخ وهذا كله عند الشافعي سواء فإن كان لم يرد به طلاقاً فليس بطلاق وإن أراد طلاقاً ولم ينو عدداً فهو تطليقة واحدة يملك فيها الرجعة وإن نوى ثنتين فهو ثنتان وإن نوى ثلاثاً فهو ثلاث وهذا أشبه بمعنى الحديث والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وسليمان بن داود المهري قالا: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمى، قال سمعت كعب بن مالك فساق قصته في تبوك قال حتى إذا مضت أربعون من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل بها، قال لا بل اعتزلها فلا تقربها، فقلت لامرأتي الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي(3/245)
الله في هذا الأمر.
قال الشيخ في هذا دلالة على أنه قال لها الحقي بأهلك ولم يرد به طلاقا فإنه لا يكون طلاقا والكنايات كلها على قياسه. وقال أبو عبيد في قوله الحقي بأهلك هو تطليقة يكون فيها البعل مالكاً للرجعة الا أن يكون أراد ثلاثاً.
ومن باب في الخيار
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو عَوانة عن الأعمش، عَن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعد ذلك شيئا.
قال الشيخ فيه دلالة على أنهن لو كن اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقاً.
وقد اختلف أهل العلم فيمن يخير امرأته فقال أكثر الفقهاء أمرها بيدها ما لم تقم من محلها فإن قامت ولم تطلق نفسها فقد خرج الأمر من يدها فيما بعد وإلى هذا ذهب مالك والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وقد روي ذلك عن شريح ومسروق وعطاء ومجاهد والشعبي والنخعي.
وقال الزهري وقتادة والحسن أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره ولا يبطل خيارها بقيامها من المجلس.
واختلفوا فيه إذا اختارت نفسها فروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا هي واحدة وهي أحق بها وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.(3/246)
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هي واحدة بائنة وبه قال أصحاب الرأي.
وقال مالك بن أنس إذا اختارت نفسها فهي ثلاث وإن اختارت زوجها يكون واحدة وهو أحق بها وروي ذلك عن الحسن البصري.
ومن باب في البتة
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وإبراهيم بن خالد والكلبي وأبو ثور في آخرين قالوا حدثنا محمد بن إدريس الشافعي حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال والله ما أردت إلاّ واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما أردت إلاّ واحدة، فقال ركانة والله ما أردت إلاّ واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلقها الثانية في زمان عمر رضي الله عنه، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنه.
قال أبو داود أول لفظ إبراهيم وآخره لفظ ابن السرح.
قال الشيخ فيه بيان أن طلاق البتة واحدة إذا لم يرد بها أكثر من واحدة وأنها رجعية غير بائن.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حلفه في الطلاق فدل أن للايمان مدخلاً في الأنكحة وأحكام الفروج كهو في الأموال.
وفيه أن يمين الحكم إنما تصح إذا كان باستحلاف من الحاكم دون ما كان تبرعاً منها من قبل الحالف.
وفيه أن اليمين باسم النساء كاف على التجريد وإن لم يصلها بالتغليظ مثل(3/247)
أن يقول بالله العظيم أو بالله الذي لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب مع سائر ما يقرن به من الألفاط التي قد جرت به عادة بعض الحكام.
وقد اختلف الناس في البتة فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أنها واحدة يملك الرجعة فيها، وروي نحوه عن سعيد بن جبير.
وقال عطاء يدين فإن أراد واحدة فهي واحدة وإن أراد ثلاثا فثلاث، وهو قول الشافعي، وقال في البتة أنها ثلاث وروي ذلك عن ابن عمر أيضاً وهو قول ابن المسيب وعروة بن الزبير والزهري. وبه قال مالك وابن أبي ليلى والأوزاعي.
وقال أحمد بن حنبل أخشى أن يكون ثلاثاً ولا أجترىء أفتي به.
وقال أصحاب الرأي هي واحدة بائنة إن لم يكن له نية وإن نوى ثلاثاً فهو ثلاث.
ومن باب الوسوسة في الطلاق
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا هشام عن قتادة عن زرارة بن أوفى، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما لم تتكلم به أو تعمل به وبما حدثت به أنفسها.
قال الشيخ في هذا الحديث من الفقه أن حديث النفس وما يوسوس به قلب الإنسان لا حكم له في شيء من أمور الدين.
وفيه أنه إذا طلق امرأته بقلبه ولم يتكلم به بلسانه فإن الطلاق غير واقع، وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وقتادة والثوري وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال الزهري إذا عزم على ذلك وقع الطلاق لفظ به أو لم يلفظ، وإلى هذا(3/248)
ذهب مالك بن أنس والحديث حجة عليه.
وقد أجمعوا على أنه لوعزم على الظهار لم يلزمه حتى يلفظ به وهوبمعنى الطلاق وكذلك لو حدث نفسه بالقذف لم يكن قذفاً ولو حدث نفسه في الصلاة لم يكن عليه إعادة وقد حرم الله تعالى الكلام في الصلاة فلو كان حديث النفس بمعنى الكلام لكانت صلاته تبطل.
وإما إذا كتب بطلاق امرأته فقد يحتمل أن يكون ذلك طلاقاً لأنه قال ما لم تتكلم به أو تعمل به والكتابة نوع من العمل. إلاّ أنه قد اختلف العلماء في ذلك، فقال محمد بن الحسن إذا كتب بطلاق امرأته فقد لزمه الطلاق. وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال مالك والأوزاعي إذا كتب وأشهد عليه فله أن يرجع ما لم يوجه الكتاب، وإذا وجه الكتاب إليها فقد وقع الطلاق عند الشافعي وإذا كتب ولم يرد به طلاقا لم يقع.
وفرق بعضهم بين أن يكتبه في بياض وبين أن يكتبه على الأرض فأوقعه إذا كتب فيما يكتب فيه من ورق أو لوح ونحوهما وأبطله إذا كتب على الأرض.
ومن باب الرجل يقول لامرأته يا اختي
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن خالد، عَن أبي تميمة الهجيمي أن رجلاً قال لامرأته يا أخية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أختك هي فكره ذلك ونهى عنه.
قال الشيخ إنما كره ذلك من أجل أنه مظنة التحريم وذلك أن من قال لامرأته أنت كأختي وأراد به الظهار كان ظهاراً كما تقول أنت كأمي، وكذلك هذا(3/249)
في كل امرأة من ذوات المحارم، وعامة أهل العلم أو أكثرهم متفقون على هذا إلاّ أن ينوي بهذا الكلام الكرامة فلا يلزمه الظهار، وإنما اختلفوا فيه إذا لم يكن له نية، فقال كثير منهم لا يلزمه شيء.
وقال أبو يوسف إذا لم يكن له نية فهو تحريم. وقال محمد بن الحسن هو ظهار إذا لم يكن له نية فكره له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول لئلا يلحقه بذلك ضرر في أهل أو يلزمه كفارة في مال.
ومن باب في الظهار
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء المعني قالا: حَدَّثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو عن عطاء قال ابن العلاء بن علقمة بن عياش عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر؛ قال ابن العلاء البياضي كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً حتى يتابع بي حتى أصبح فظاهرت منها حتى انسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن نزوت عليها، فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لا والله؛ فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال أنت بذلك يا سلمة، قلت أنا بذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين وأنا صابر لأمر الله عز وجل فأحكم فيّ بما أراك الله سبحانه وتعالى، قال حرر رقبة، قلت والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي، قال فصم شهرين متتابعين، فقال وهل أصبت الذي أصبت إلاّ من الصيام، قال فأطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً، قلت والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحِشين(3/250)
ما أملك لنا طعاماً، قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمرني أو أمر لي بصدقتكم.
قال الشيخ قوله أنت بذاك يا سلمة معناه أنت الملم طاك والمرتكب له، وقوله بتنا وحِشين معناه بتنا مقفرين لا طعام لنا يقال رجل وحش وقوم أوحاش قال الشاعر:
وإن بات وحشاً ليلة لم يضق بها ... ذراعاً ولم يصبح لها وهو خاشع
ويقال لصاحب الدواء توحش أي احتم.
وفيه دليل على أن الظهار الموقت ظهار كالمطق منه وهو إذا ظاهر من امرأته إلى مدة ثم أصابها قبل أنقضاء تلك المدة.
واختلفوا فيه إذا بر فلم يحنث، فقال مالك بن أنس وابن أبي ليلى إذا قال لامرأته أنت عليّ كظهر أمي إلى الليل لزمته الكفارة وإن لم يقربها.
وقال أكثر أهل العلم لا شيء عليه إذا لم يقربها وللشافعي في الظهار الموقت قولان أحدهما أنه ليس بظهار. وفيه دليل على أن معنى العود لما قال في الظهار ليس بأن يكرر اللفظ فيظاهر منها مرتين كما ذهب إليه بعض أهل الظاهر.
وفيه حجة لمن ذهب إلى جواز أن يضع الرجل صدقته في صنف واحد من الأصناف الستة ولا يفرقها على السهام.
وفي قوله أعتق رقبة دليل على أنه إذا أعتق رقبة ما كانت من صغير أوكبير أعور كان أو أعرج فإنها تجزيه إلاّ ما منع دليل الاجماع منه وهو الزمن الذي لا حراك به.(3/251)
وفيه حجة لأبي حنيفة في أن خمس عشرة صاعاً لا يجزىء عن الكفارة في الظهار، غير أنه قال يجزيه ثلاثون صاعاً من البر لكل مسكين نصف صاع.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يحيى بن آدم، قال: حَدَّثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة، قالت ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه فأنزل عز وجل آية الظهار فقال يعتق رقبة، قالت لا يجد قال يصوم شهرين متتابعين قالت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال فليطعم ستين مسكيناً، قالت ما عنده من شيء يتصدق به قال فأتي ساعتئذ بعرق من تمر، قلت يا رسول الله وأنا أعينه بعرق آخر، قال قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك. قالت والعرق ستون صاعاً.
قال الشيخ أصل العرق السفيفة التي تنسج من الخوص فتتخذ منها المكاتل والزبل، وقد جاء تفسيره في هذا الحديث أنه ستون صاعاً.
وروى أبو داود عن محمد بن إسحاق أن العرق مكتل يسع ثلاثين صاعاً. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن العرق زنبيل يسع خمسة عشر صاعاً فدل على أن العرق قد يختلف في السعة والضيق فيكون بعض الأعراق أكبر وبعضها أصغر فذهب الشافعي منها إلى التقدير الذي جاء في خبر أبي هريرة من رواية أبي سلمة وهو خمسة عشر صاعاً في كفارة المجامع في شهر رمضان، وكذلك قال الأوزاعي وأحمد بن حنبل لكل مسكين مد، وكذلك قال مالك إلاّ أنه قال بعد هشام وهو مد وثلث.(3/252)
وذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي إلى حديث سلمة بن صخر وهو أحوط الأمرين، وقد يحتمل أن يكون الواجب عليه ستين صاعاً ثم يؤتى بخمسة عشر صاعاً فيقول له تصدق بها ولا يدل ذلك على أنها تجزيه عن جميع الكفارة ولكنه يتصدق بها في الوقت ويكون الباقي ديناً عليه حتى يجده كما يكون للرجل على صاحبه ستون صاعاً فيجيئه بخمسة عشر صاعاً فإنه يأخذها منه ويطالبه بخمسة وأربعين، إلاّ أن إسناد حديث أبي هريرة أجود وأحسن اتصالاً من حديث سلمة بن صخر.
وقال أبو عيسى سألت محمد بن إسماعيل عن حديث محمد بن إسحاق عن سليمان بن يسار فقال هو مرسل سليمان بن يسار لم يدرك سلمة بن صخر.
وقد روى أبو داود حديث سلمة بن صخر من غير طريق ابن إسحاق وذكر فيه العرق مقداراً لنحو خمسة عشر صاعاً على وفاق حديث أبي هريرة ورواه أبو داود في هذا الباب.
، قال: حَدَّثنا ابن السرح، قال: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني ابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار، وذكر الحديث قال فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأعطاه إياه وهو قريب من خمسة عشر صاعاً فقال تصدق بها فقال يا رسول الله على أفقر مني ومن أهلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كله أنت وأهلك.
قال الشيخ وقد ذكرت معنى قوله كله أنت وأهلك في كتاب الصيام وكرهت إعادته ههنا.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن هشام بن عروة أن جميلة كانت تحت أوس بن الصامت وكان رجل به لمم فإذا اشتد لممه ظاهر(3/253)
من امرأته فأنزل الله عز وجل فيه كفارة الظهار.
قال الشيخ معنى اللمم ههنا الإلمام بالنساء وشدة الحرص والتوقان إليهن يدل على ذلك قوله في هذا الحديث من الرواية الأولى كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، وليس معنى اللمم ههنا الخبل والجنون ولو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحالة لم يكن يلزمه شيء من كفارة ولا غيرها والله أعلم.
ومن باب الخلع
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن الشماس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه، فقالت أنا حبيبة بنت سهل، فقال ما شأنك، قالت لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها، فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه حبيبة بنت سهل وذكرت ما شاء الله أن تذكر، وقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ منها فأخذ منها وجلست في أهلها.
قال الشيخ في هذا الحديث دليل على أن الخلع فسخ وليس بطلاق ولو كان طلاقا لاقتضي فيه شرائط الطلاق من وقوعه في طهر لم تمس فيه المطلقة ومن كونه صادراً من قبل الزوج وحده من غير مرضاة المرأة فلما لم يتعرف النبي صلى الله عليه وسلم الحال في ذلك فأذن له في مخالعتها في مجلسه ذلك دل على أن الخلع فسخ وليس بطلاق، ألا ترى أنه لما طلق ابن عمر زوجته وهي حائض أنكر عليه ذلك وأمر بمراجعتها وامساكها حتى تطهر فيطلقها طاهراً قبل أن يمسها.(3/254)
وإلى هذا ذهب ابن عباس واحتج بقول الله تعالى {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229] قال ثم ذكر الخلع فقال {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229] ثم ذكر الطلاق فقال {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230] فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً وإلى هذا ذهب طاوس وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور.
وروي عن علي وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أن الخلع تطليقة بائنة، وبه قال الحسن وإبراهيم النخعي وعطاء وابن المسيب وشريح والشعبي ومجاهد ومكحول والزهري وهو قول سفيان وأصحاب الرأي، وكذلك قال مالك والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وهو أصحهما والله أعلم.
وفي الخبر دليل على أن الخلع جائز على أثر الضرب وإن كان مكروهاً مع الأذى، وفيه أنه قد أخذ منها جميع ما كان أعطاها.
وقد اختلف الناس في هذا فكان سعيد بن المسيب يقول لا يأخذ منها جميع ما أعطاها ولا يزيد على ما ساق إليها شيئاً، وذهب أكثر الفقهاء إلى أن ذلك جائز على ما تراضيا عليه قل ذلك أو كثر.
وفيه دليل على أنه لا سكنى للمختلعة على الزوج.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الرحمن البزار، قال: حَدَّثنا علي بن بحر القطان، قال: حَدَّثنا هشام بن يوسف عن معمر عن عمر بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة.(3/255)
قال الشيخ هذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق وذلك أن الله تعالى قال {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] فلو كانت مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد.
ومن باب المملوكة تحت الرجل
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أن مغيثاً كان عبداً فقال يا رسول الله اشفع إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بريرة اتقي الله فإنه زوجك وأبو ولدك، فقالت يا رسول الله تأمرني بذلك قال لا إنما أنا شافع وكان دموعه تسيل على خده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: ألا تعجب من حب مغيث بريرة وبغضها إياه.
قال الشيخ كان الشافعي يقول حديث بريرة هو الأصل في باب المكافأة في النكاح ولا أعلم خلافاً أن الأمة إذا كانت تحت عبد فعتقت أن لها الخيار وإنما اختلفوا فيها إذا كانت تحت حر، فقال مالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد واسحاق لا خيار لها. وقال الشعبي والنخعي وحماد وأصحاب الرأي وسفيان الثوري لها الخيار وأصل هذا الباب حديث بريرة.
وقد اختلفت الروايات فيه عن عائشة رضي الله عنها فروى عنها أهل الحجاز أنها قالت كان زوج بريرة عبداً كذلك رواه عروة بن الزبير والقاسم بن محمد(3/256)
وروى أهل الكوفة أن زوجها كان حراً كذلك رواه الأسود بن يزيد عنها وقد ذكر أبو داود هذه الأحاديث في هذا الباب فكانت رواية أهل الحجاز أولى لأن عائشة رضي الله عنها عمة القاسم وخالة عروة وكانا يدخلان عليها بلا حجاب والأسود يسمع كلامها من وراء حجاب.
وقد قيل ان قوله كان زوجها حراً إنما هو من كلام الأسود لا من قول عائشة وحديث ابن عباس هذا لم يعارضه شيء وهو يخبر أنه كان عبداً وقد ذكر اسمه وأثبت صفته فدل ذلك على صحة رواية أهل الحجاز. وفي قولها تأمرني بذلك دليل على أن أصل أمره صلى الله عليه وسلم على الحتم والوجوب.
ومن باب المملوكين يعتقان معاً هل تخير المرأة
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب، قال: حَدَّثنا عبيد الله بن عبد المجيد، قال: حَدَّثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن وهب عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تعتق مملوكين لها، يَعني زوجين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة.
قال الشيخ وفي هذا دلالة على أن الخيار بالعتق إنما يكون للأمة إذا كانت تحت عبد ولوكان لها خيار إذا كانت تحت حر لم يكن لتقديم عتق الزوج عليها معنى ولا فيه فائدة.
ومن باب إذا اسلم أحد الزوجين
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي قال أخبرني أبو أحمد عن إسرائيل عن سماك(3/257)
عن عكرمة عن ابن عباس قال أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول.
قال الشيخ وفي هذا دليل على أن النكاح متى علم بين زوجين فادعت المرأة الفرقة فإن القول في ذلك قول الزوج وإن قولها في إبطال النكاح غير مقبول والشك لا يزحم اليقين. ولا أعلم خلافاً أنه إذا لم يتقدم إسلام أحد الزوجين إسلام الآخر وكانت المرأة مدخولاً بها ثم أسلم الآخر قبل انقضاء العدة فهما على الزوجية في قول الزهري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقال مالك بن أنس إذا أسلم الرجل قبل امرأته وقعت الفرقة إذا عرض عليها الإسلام فلم تقبل.
وقال سفيان الثوري في المرأة إذا أسلمت عرض على زوجها الإسلام فان أسلم فهما على نكاحهما وإن أبى أن يسلم فرق بينهما؛ وكذلك قال أصحاب الرأي إذا كان في دار الإسلام. وإن أسلمت المرأة ثم لحق الزوج بدار الكفر فقد بانت منه لافتراق الدين فإن أسلمت وهما في دار الحرب ولم يخرجا أو واحد منهما إلى دار الإسلام فهو أحق بها إن أسلم قبل أن تنقضي العدة فإذا انقضت العدة فلا سبيل له عليها.
وقال ابن شبرمة تبين منه كما تسلم ولا سبيل له عليها إلاّ بخطبة، وبه قال أبو ثور وروي ذلك عن الحسن وعكرمة وعمر بن عبد العزيز وعطاء وطاوس.
ومن باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عمرو الرازي، قال: حَدَّثنا سلمة بن الفضل قال(3/258)
وحدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يزيد المعنى، عَن أبي إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب رضي الله عنها علي أبي العاص بالنكاح الأول لم يحدث شيئا، قال محمد بن عمرو في حديثه بعد ست سنين، وقال الحسن بن علي بعد سنتين.
قال الشيخ وهذا إن صح فإنه يحتمل أن يكون عدتها قد تطاولت لاعتراض سبب حتى بلغت المدة المذكورة في الحديث إما الطولى منهما وإما القصرى، إلاّ أن حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس نسخه، وقد ضعف أمره علي بن المديني وغيره من علماء الحديث وقد حدثونا عن محمد بن إسماعيل الصائغ،، قال: حَدَّثنا سعيد بن منصور، قال: حَدَّثنا أبو معاوية، قال: حَدَّثنا الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد، فقد عارض هذه الرواية رواية داود بن الحصين وفيها زيادة ليست في رواية داود بن الحصين والمثبت أولى من النافي غير أن محمد بن إسماعيل قال حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب، وقال أبو عيسى الترمذي قال زيد بن هارون العمل في هذا على حديث عمرو بن شعيب وإن كان إسناد حديث ابن عباس أجود.
قال الشيخ وإنما ضعفوا حديث عمرو بن شعيب من قبل الحجاج بن أرطاة لأنه معروف بالتدليس.
وحكي عن محمد بن عقيل أن يحيى بن سعيد قال لم يسمعه حجاج من عمرو.
قال الشيخ وفي الحديث دليل أن افتراق الدارين لا تأثير له في إيقاع الفرقة وذلك أن أبا العاص كان بمكة بعد أن أطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفكه عن أسره(3/259)
وكان قد أخذ عليه أن يجهز زينب إليه ففعل ذلك وقدمت زينب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقامت بها.
وقد روي أن جماعة من النساء ردهن النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجهن بالنكاح الأول منهن امرأة عكرمة بن أبي جهل وكان خرج إلى اليمن وهند بنت عتبة أسلم أبو سفيان خارج الحرم وهي مقيمة بمكة وهي دار حرب لم يستول عليها النبي صلى الله عليه وسلم بعد فلما عاد إليها وأسلمت هند كانا على نكاحهما.
وقد تكلم الناس في ترويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب من أبي العاص ومعلوم أنها لم تزل مسلمة وكان أبو العاص كافراً ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما زوجها منه قبل نزول قوله عز وجل {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221] ثم أسلم أبو العاص فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعا في الإسلام والنكاح معاً.
ومن باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا هشيم قال وحدثنا وهب بن بقية قال أخبرنا هشيم عن ابن أبي ليلى عن حميضة بنت الشمردل عن الحارث بن قيس قال مسدد بن عميرة وقال وهب الأسدي قال، أسلمت وعندي ثماني نسوة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اختر منهن أربعاً، وقال بعضهم في إسناده قيس بن الحارث.
قال الشيخ قوله اختر منهن أربعاً، ظاهره يدل على أن الاختيار في ذلك إليه يمسك من شاء منهن سواء كان عقد عليهن في عقد واحد أو متفرقات(3/260)
لا يعتبر المتقدمة في العقد ولا المتأخرة منهن لأن الأمر قد فوض إليه في الاختيار من غير استفصال، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأراه قول محمد بن الحسن، وقد روي ذلك عن الحسن البصري.
وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري إن نكحهن في عقد واحد فرق بينه وبينهن وإن كان نكح واحدة بعد الأخرى حبس أربعا منهن الأولى فالأولى وترك سائرهن.
قال الشيخ معنى الاختيار المذكور في الحديث يبطل إذا لم يكن له إلاّ حبس الأوليات فدل ذلك على أنه يختار من شاء منهن الأولى والأخرى في ذلك سواء ومن اعتبر فيهن هذا المعنى لزمه أن يعتبر أوصاف عقودهن فيما مضى فلا يجيز منهل العقود التي خلت عن الشهود والأولياء ولا العقود التي وقعت في أيام العدة من الزوج الأول فإذا لم يكن هذا معتبراً فيها لأنه حكم ثابت من أحكام الجاهلية وقد لقيه الإسلام بالعفو، فكذلك التقديم والتأخير لا فرق بين الأمرين في ذلك فأما الأعيان فإنها قائمة غير فائتة وليست كالأوصاف التى قد فاتت بفوات الزمان الذي قد وقع فيه العقد فلا يقر الزوج على نكاح امرأة من ذوات المحارم اللاتي لو أراد ابتداء العقد عليهن في حال الإسلام لم يحللن.
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين، قال: حَدَّثنا وهب بن جرير عن أبيه قال سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أيى حبيب، عَن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال طلق أيتهما شئت.
قال الشيخ في هذا بيان أن الاختيار إليه في إمساك من شاء منهن من المتقدمة(3/261)
والمتأخرة. وفيه حجة لمن ذهب إلى أن اختيار إحداهما لا يكون فسخاً لنكاح الأخرى حتى يطلقها.
ومن باب إذا أسلم أحد الأبوين مع من يكون الولد
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: حَدَّثنا عيسى، قال: حَدَّثنا عبد الحميد بن جعفر قال أخبرني أبي عن جدي رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع ابنتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعد ناحيه وقال لها اقعدي ناحية، قال وأقعد الصبية بينهما؛ ثم قال ادعواها فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها.
قال الشيخ في هذا بيان أن الولد الصغير إذا كان بين المسلم والكافر فإن المسلم أحق به، وإلى هذا ذهب الشافعي.
وقال أصحاب الرأي في الزوجين يفترقان بالطلاق والزوجة ذمية ان الأم أحق بأولادها ما لم تزوج ولا فرق في ذلك بين الذمية والمسلمة.
ومن باب اللعان
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي، فقال له يا عاصم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأل عنها، فأقبل عويمر حتى أتى(3/262)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها، فقال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها فطلقها عويمر ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب فكانت تلك سنة المتلاعنين.
قال الشيخ قوله كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها يريد به المسألة عما لا حاجة بالسائل إليها دون ما به إليه الحاجة، وذلك أن عاصماً إنما كان يسأل لغيره لا لنفسه فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهة في ذلك إيثاراً لستر العورات وكراهة لهتك الحرمات.
وقد وجدنا المسألة في كتاب الله عز وجل على وجهين أحدهما ما كان على وجه التبين والتعلم فيما يلزم الحاجة إليه من أمر الدين. والآخر ما كان على طريق التكلف والتعنت فأباح النوع الأول وأمر به وأجاب عنه فقال تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7] وقال {فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} [يونس: 94] وقال في قصة موسى والخضر {فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} [الكهف: 70] وقال {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187] فأوجب على من يسأل عن علم أن يجيب عنه وأن يبين ولا يكتم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار، وقال عز وجل {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189] {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} [البقرة: 222] {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} [الأنفال: 1] ، وقال في النوع الاخر {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] ، {يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم(3/263)
أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها} [النازعات: 43] وعاب مسألة بني إسرائيل في قصة البقرة لما كان على سبيل التكلف لما لا حاجة بهم إليه، وقد كانت الغنية وقعت بالبيان المتقدم فيها وكل ما كان من المسائل على هذا الوجه فهو مكروه، فإذا وقع السكوت عن جوابه فإنما هو زجر وردع للسائل؛ وإذا وقع الجواب فهو عقوبة وتغليظ.
وفي قوله هي طالق ثلاثا دليل على أن إيقاع التطليقات الثلاث مباح ولو كان محرماً لأشبه أن يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في ذلك ويبين بطلانه لمن بحضرته لأنه لا يجوز عليه أن يجري بحضرته باطل فلا ينكره ولا يرده.
وقد يحتج به من يرى أن الفرقة لا تقع بنفس اللعان حتى يفرق بينهما الحكام وذلك أن الفرقة لوكانت واقعة بينهما لم يكن للتطليقات الثلاث معنى.
وقد يحتج بذلك أيضاً من يرى الفرقة بنفس اللعان على وجه آخر وذلك أن الفرقة لو لم تكن واقعة باللعان لكانت المرأة في حكم المطلقات ثلاثاً.
وقد أجمعوا على أنها ليست في حكم المطلقات ثلاثاً تحل له بعد زوج فدل على أن الفرقة واقعة قبل، ويشبه أن يكون إنما دعاه إلى هذا القول أنه لما قيل له لا سبيل لك عليها وجد من ذلك في نفسه فقال كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثاً يريد بذلك تحقيق ما مضى من الفرقة وتوكيده.
وقوله فكانت سنة المتلاعنين يريد التفريق بينهما.
وقد اختلف في الوقت الذي يزول فيه فراش المرأة وتقع فيه الفرقة، فقال مالك والأوزاعي إذا التعن الرجل والمرأة جميعاً وقعت الفرقة، وروي ذلك عن ابن عباس.(3/264)
وقال الشافعي إذا التعن الرجل وقعت الفرقة وإن لم تكن المرأة التعنت بعد.
وقال أصحاب الرأي الفرقة إنما تقع بتفريق الحاكم بينهما بعد أن يتلاعنا معا.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، قال إنا لليلة جمعة في المسجد إذ دخل رجل من الأنصار في المسجد، فقال لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم به جلدتموه أو قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ والله لأسألن عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان من الغد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال اللهم افتح وجعل يدعو فنزلت آية اللعان {والذين يرمون أزواحهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} [النور: 6] هذه الاية فابتلى به ذلك الرجل من بين الناس فجاء هو وامرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاها فشهد الرجل أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين ثم لعن الخامسة عليه إن كان من الكاذبين، قال فذهبت لتلتعن فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مه فأبت ففعلت، فلما أدبرا قال لعلها أن تجيء به أسود جعداً فجاءت به أسود جعداً.
قوله اللهم افتح اللهم احكم أو بين الحكم فيه، والفتاح الحاكم ومنه قوله تعالى {ثم افتح بيننا بالحق. وهو الفتاح العليم} [سبأ: 26] وفي قوله لعلها أن تجيء به أسود جعداً دليل على أن المرأة كانت حاملاً وأن اللعان وقع على الحمل.
وممن رأى اللعان على نفي الحمل مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي.
وقال أبو حنيفه لا يلاعن بالحمل لأنه لا يدري لعله ريح.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: حَدَّثنا ابن وهب عن عياض(3/265)
بن عبد الله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذا الخبر قال فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنه، قال سهل حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً.
قوله فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل وجهين أحدهما إيقاع الطلاق وانفاذه وهذا على قول من زعم أن اللعان لا يوجب الفرقة، وأن فراق العجلاني امرأته إنما كان بالطلاق، وهو قول عثمان البتي.
والوجه الآخر أن يكون معناه انفاذ الفرقة الداائمة المتأبدة، وهذا على قول من لا يراها تصلح للزوج بحال وإن أكذب نفسه فيما رماها به. وإلى هذا ذهب الثسافعي ومالك والأوزاعي والثوري ويعقوب وأحمد وإسحاق وشهد لذلك قوله ولا يجتمعان أبداً.
وقال الشافعي إن كانت زوجته أمة فلاعنها ثم اشتراها لم تحل له إصابتها لأن الفرقة وقعت متأبدة فصارت كحرمة الرضاع.
ومذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن أنه إدا كذب نفسه ثبت النسب ولحقه الولد.
وفيه دليل على أن الزوج إذا طلقها قبل العان لم يكن ذلك مانعاً من وجوب اللعان عليه. وقال الحسن والشعبي والقاسم بن محمد في الرجل يقذف زوجته ثم يطلقها ثلاثاً أن يلاعنها، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وذلك أن القذف كان وهي زوجة.
وقال أصحاب الرأي لا حد ولا لعان في ذلك، وهو قول حماد بن أبى سليمان وحكي عن الثوري.(3/266)
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار، قال: حَدَّثنا ابن أبي عدي قال أخبرنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك قال يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول البينة وإلا فحد في ظهرك، فقال هلال والذي بعثك بالحق نبياً إني لصادق ولينزلن الله عز وجل في أمري ما يبرىء ظهري من الحد فنزلت {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلاّ أنفسهم} [النور: 6] فقرأ حتى بلغ من الصادقين فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاءا، فقام هلال بن أمية فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب ثم قامت فشهدت فلما كان عند الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وقالوا لها إنها موجبة؛ قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها سترجع وقالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الاليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن.
قال الشيخ فيه من الفقه أن الزوج إذا قذف امرأته برجل بعينه ثم تلاعنا فإن اللعان يسقط عنه الحد فيصير في التقدير ذكره المقذوف به تبعاً لا يعتبر حكمه وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية البينة أو حد في ظهرك فلما تلاعنا لم يعرض لهلال بالحد ولا روي في شيء من الأخبار أن شريكاً بن سحماء عفا عنه فعلم أن الحد الذي كان يلزمه بالقذف سقط عنه باللعان وذلك لأنه مضطر إلى ذكر من يقذفها به لإزالة الضرر عن نفسه فلم يحمل أمره على القصد له بالقذف(3/267)
وادخال الضرر عليه.
وقال الشافعي وإنما يسقط الحد عنه إذا ذكر الرجل وسماه في اللعان فإن لم يفعل ذلك حد له.
وقال أبو حنيفة الحد لازم له وللرجل مطالبته به وقال مالك يحد للرجل ويلاعن للزوجة.
وفي قوله البينة وإلا حد في ظهرك دليل على أنه إذا قذف زوجته ثم لم يأت بالبينة ولم يلاعن كان عليه الحد. وقال أبو حنيفة إذا لم يلتعن الزوج فلا شيء عليه.
وفي قوله عند الخامسة إنها موجبة دليل على أن اللعلن لا يتم إلاّ باستيفاء عدد الخمس. وإليه ذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة إذا جاء بأكثر العدد ناب عن الجميع، وقوله الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل من تائب فيه دليل على أن البينتين إذا تعارضتا تهاترتا وسقطتا.
وفيه دليل على أن الإمام إنما عليه أن يحكم بالظاهر وإن كانت هناك شبهة تعترض وأمور تدل على خلافه، ألا تراه يقول لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن.
والخدلج الساقين هو الغليظه.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، وذكر قصة هلال بن أمية وساقها بطولها وقال بعد أن ذكر التلاعن ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمي ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها(3/268)
وقال إن جاءت به أصيهب أريصح أثيبج حمش الساقين سابغ الاليتين فهو للذي رميت به.
قال الشيخ وفيه من الفقه بيان أن اللعان فسخ وليس بطلاق وأنه ليس للملاعنة على زوجها سكنى ولا نفقة، وإليه ذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن اللعان تطليقة بائنة ولها السكنى والنفقة في العدة.
قال الشيخ وفيه بيان أن من رمى الملاعنة أو ولدها إن عليه الحد وهو قول أكثر العلماء.
وقال أصحاب الرأي إن كان جرى اللعان بينهما بالقذف لا على نفي الولد فإن قاذفها يحد، وإن كان لاعنها على ولد نفاه لم يكن على الذي يقذفها حد.
وقال أبوعبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى هذا المذهب عنهم وحجتهم فيه ان قالوا معها ولد لا أب له قالوا فإن مات ذلك الولد كان على من يرميها بعده الحد، وتعجب أبو عبيد من سقوط الحد وثبوته لحياة رجل ووفاته وقال لا يصح في رأي ولا نظر.
وفيه دلالة على جواز الاستدلال بالشبه.
وفيه بيان أن من لا يجوز الاستدلال به لا يحكم به إذا كان هناك ما هو أقوى منه في الدلالة على ضد موجبه ولو كان للشبه هنا حكم لوجب عليها الحد إذا جاءت به على النعت المكروه.
وفيه من العلم أن التحلية بالنعوت المعيبة إذا أريد بها التعريف لم تكن غيبه يأثم بها قائلها. والاصيهب تصغير الأصهب وهو الذي يعلوه صهبة وهي كالشقرة(3/269)
والأريصح تصغير الأرسح وهو خفيف الاليتين أبدلت السين منه صادا، وقد يكون أيضاً تصغير الأرصع أبدلت عينه حاء.
قال الأصمعي الأرصع الأرسخ والأشيج تصغير الأشج وهو الناتىء الثبج والثبج ما بين الكاهل ووسط الظهر والحمش الدقيق الساقين والخدلج العظيم الساقين والجمالي العظيم الخلق شبه خلقه بخلق الجمل، يقال ناقة جمالية إذا شبهت بالفحل من الإبل في عظم الخلق.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة.
قال الشيخ يحتج به من لا يرى البينونه تقع بين المتلاعنين إلاّ بتفريق الحاكم وذلك لإضافة التفريق بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استشهدوا في ذلك أيضاً بالفسوخ التي يحتاج فيها إلى حضرة الحكام فإنها لا يقع إلاّ بهم.
وذهب الشافعي إلى أن التفريق بينهما واقع بنفس اللعان أو بنفس اللعن، إلاّ أنه لما جرى التلاعن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضيف التفريق ونسب إلى فعله كما تقوم البينة إما بالشهادة أو بإقرار المدعى عليه فيثبت الحق بهما عليه ثم يضاف الأمر في ذلل إلى قضاء القاضي ولو وجب أن لا يكون التفرقة إلاّ بأمر الحاكم لوجب أن لا ينفى الولد عن الزوج إلاّ بحكم الحاكم لأنه قد نسق عليه في الدكر فقيل فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين وألحق الوك بالأم فإذا جاز أن يلحق الولد بالأم وينقطع نسبه عن الأب من غير صنع للحاكم فيه جاز أن يقع الفرقة بينهما من غير صنع له فيه والله أعلم.(3/270)
قال وانما معنى قوله فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنبن أي بين أن الفرقة وقعت بينهم باللعان.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن جعغر الوركاني، قال: حَدَّثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سهل بن سعد في خبر المتلاعنين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابصروها فإن جاءت به أدعج العينين عظيم الاليتين فلا أراه إلاّ قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلاّ كاذباً.
قال الشيخ الوحرة دويبة وجمعها وحر، ومنه قيل فلان وحر الصدر إذا دبت العداوه في قلبه كدبيب الوحر.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل قال0 حدثنا سفيان بن عيينة قال سمع عمر وسعيد بن جبير يقول سمعت ابن عمر يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها، قال يا رسول الله مالي قال لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كذبت عليها فذلك أبعد لك.
قال الشيخ قوله لا سبيل لك عليها فيه بيان وقوع الفرقة بينهما باللعان خلاف قول عثمان البتي أن اللعان لا يوجب الفرقة.
وفيه دلالة على أن الفرقة باللعان متأبدة ولو كان له عليها سبيل إذا كذب نفسه لاستثناه، فقال إلاّ أن تكذب نفسك فيكون لك عليها حينئذ سبيل فلما أطلق الكلام دل على تأبيد الفرقة.
وفيه بيان أن زوج الملاعنة لا يرجع عليها بالمهر وإن أقرت المرأة بالزنا أو قامت عليها البينة بذلك.(3/271)
قال الشيخ وهذا في المدخول بها، ألا تراه يقول فهو بما استحللت من فرجها فأما غير المدخول بها فقد اختلف الناس فيها، فقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير يلاعنها ولها نصف الصداق، وإليه ذهب مالك والأوزاعي.
وقال الحكم وحماد لها الصداق كاملاً، وقال الزهري يتلاعنان ولا صداق لها.
ومن باب إذا شك في الولد
قال أبو داود: حدثنا ابن أبي خلف، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن سعيد، عَن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي جاءت بولد أسود فقال هل لك من إبل، قال نعم، قال فما ألوانها، قال حمر، قال فهل لك فيها من أورق، قال إن فيها لورقاً، قال فأنّى تراه، قال عسى أن يكون نزعه عرق، قال وهذا عسى أن يكون نزعه عرق.
قال الشيخ هذا القول من السائل تعريض بالريبة كأنه يريد نفي الولد بحكم النبي صلى الله عليه وسلم فإن الولد للفراش ولم يجعل خلاف الشبه واللون دلالة يجب الحكم بها وضرب له المثل بما يوجد من اختلاف الألوان في الإبل وفحلها ولقاحها واحد.
وفي هذا إثبات القياس وبيان أن المتشابهين حكمهما من حيث اشتبها واحد.
وفيه دليل على أن الرجل إذا ولدت له امرأته ولداً فقال ليس مني لم يصر قاذفاً لها بنفس هذا القول لجواز أن يكون ليس منه لكن لغيره بوطء شبهة أو من زوج متقدم.
وفيه دليل على أن الحد لا يجب في المكاني وإنما يجب بالقذف الصريح.
ومن باب ادعاء ولد الزنا
قال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا معمر عن سليم، يَعني(3/272)
ابن أبي الذيال قال حدثني بعض أصحابنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا مساعاة في الإسلام من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته ومن ادعى ولداً لغير رشدة فلا يرث ولا يورث.
قال الشيخ المساعاة الزنا، وكان الأصمعي يجعل المساعاة في الإماء دون الحرائر وذلك لأنهن يسعين لمواليهن فيكتسبن لهم بضرائب كانت عليهن فأبطل صلى الله عليه وسلم المساعاة في الإسلام ولم يلحق النسب لها وعفا عما كان منها في الجاهلية وألحق النسب به؛ ويقال هذا ولد رِشدة ورَشدة لغتان.
قال أبو داود: حدثنا شيبان بن فروخ، قال: حَدَّثنا محمد بن راشد قال وحدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يزيد بن هارون، قال: حَدَّثنا محمد بن راشد وهو أشبع عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن كل مستلحق استلحق بعبد أبيه الذي يدعى له ادعاه وورثته فقضى أن من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحق وليس له مما قسم قبله من الميراث شيء وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، فإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق ولا يورث، وإن كان الذي يدعى له وهو ادعاه فهو ولد زنية من حرة كانت أو أمة.
قال الشيخ هذه أحكام وقعت في أول زمان النشريعة وكان حدوثها بين الجاهلية وبين قيام الإسلام، وفى ظاهر هذا الكلام تعقد وإشكال، وتحرير ذلك وبيانه أن أهل الجاهلية كانت لهم إماء تساعين وهن البغايا اللواتى ذكرهن(3/273)
الله تعالى في قوله {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} [النور: 33] إذ كان ساداتهن يلمون بهن ولا يجتنبوهن فإذا جاءت الواحدة منهن بولد وكان سيدها يطأها وقد وطئها غيره بالزنا فربما ادعاه الزاني وادعاه السيد فحكم صلى الله عليه وسلم بالولد لسيدها لأن الأمة فراش له كالحرة ونفاه عن الزاني
فإن دعى للزاني مدة وبقي على ذلك إلى أن مات السيد ولم يكن ادعاه في حياته ولا أنكره، ثم ادعاه ورثته بعد موته واستلحقوه فإنه يلحق به ولا يرث أباه ولا يشارك إخوته الذين استلحقوه في ميراثهم من أبيهم إذا كانت القسمة قد مضت قبل أن يستلحقه الورثة وجعل حكم ذلك حكم ما مضى في الجاهلية فعفا عنه ولم يرد إلى حكم الإسلام، فإن أدرك ميراثا لم يكن قد قسم إلى أن ثبت نسبه باستلحاق الورثة إياه كان شريكهم فيه أسوة من يساويه في النسب منهم فإن مات من إخوته بعد ذلك أحد ولم يخلف من يحجبه عن الميراث ورثه فإن كان سيد الأمة أنكر الحمل وكان لم يدعه فإنه لا يلحق به وليس لورثته أن يستلحقوه بعد موته، وهذا شبيه بقصة عبد بن زمعة وسعد بن مالك ودعواهما في ابن أمة زمعة، فقال سعد ابن أخي عهد إليّ فيه أخي، وقال عبد بن زمعة أخي ولد على فراش أبي فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش فصار ابناً لزمعة. وسنذكر هذا الحديث في موضعه من هذا الكتاب ونورده هناك شرحاً وبياناً إن شاء الله تعالى.(3/274)
ومن باب القافة
قال أبو داود: حدثنا مسدد وعثمان بن أبي شيبة المعنى وابن السرح قالوا حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مسدد وابن السرح يوماً مسروراً، وقال عثمان يعرف أسارير وجهه، فقال أي عائشة ألم تري أن مجززاً المدلجي رأى زيداً وأسامة قد غطيا رؤوسهما بقطيفة وبدت أقدامهما، فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض. قال أبو داود كان أسامة أسود وكان زيد أبيض.
قال الشيخ فيه دليل على ثبوت أمرالقافة وصحة لقولهم في إلحاق الولد وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يظهر السرور إلاّ بما هو حق عنده، وكان الناس قد ارتابوا بأمر زيد بن حارثة وابنه أسامه وكال زيد أبيض وجاء أسامة أسود، فلما رأى الناس في ذلك وتكلموا بقول كان يسوء رسول الله صلى الله عليه وسلم سماعه فلما سمع هذا القول من مجزز فرح به وسري عنه.
وممن أثبت الحكم بالقافة عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء ومالك والأوزاعي(3/275)
والشافعي وأحمد وعامة أهل الحديث.
وقال أهل الرأي في الولد المشكل يدعيه اثنان يقضى به لهما وأبطلوا الحكم بالقافة.
واختلفت أقاويلهم في ذلك فقال أبو حنيفة يلحق الولد برجلين وكذلك بامرأتين. وقال أبو يوسف يلحق برجلين ولا يلحق بامرأتين.
وقال محمد يلحق بالآباء وإن كثروا، ولا يلحق إلاّ بأم واحدة.
واختلف القائلون بالقافة إذا قالت إن الولد منهما جميعاً.
قال الشافعي إذا كان الولد كبيراً قيل له انتسب إلى أيهما شئت. وقال أبو ثور يلحق بهما (برهما وبزناته) (1) وقاله عمر.
وقوله تعرف أسارير وجهه، قال أبو عبيد الأسارير الخطوط في الوجه والجبهة.
ومن باب من قال في القرعة إذا تنازعوا في الولد
قال أبو داود: حدثنا مسدد، حَدَّثنا يحيى عن الأجلح عن الشعبى عن عبد الله بن الخليل عن زيد بن أرقم قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من اليمن فقال إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا علياً يختصمون إليه في ولد وقد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فقال لاثنين طيبا بالولد لهذا فغليا، ثم قال لاثنين طيبا بالولد لهذا فغليا، ثم قال لاثنين طيبا بالولد لهذا فغليا، فقال أنتم شركاء متشاكسون إني مقرع بينكم فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية فأقرع بينهم فجعله لمن قرع فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسه أو نواجذه.
قال الشيخ: فيه دليل على أن الولد لا يلحق بأكثر من أب واحد؛ وفيه إثبات القرعة في أمر الولد وإحقاق القارع وللقرعة مواضع غير هذا في العتق
_________
(1) كذا في الأصل.(3/276)
وتساوي البينتين في الشيء يتداعاه اثنان فصاعداً. وفي الخروج بالنساء في الأسفار وفي قسم المواريث وإفراز الحصص بها. وقد قال بجميع وجوهها نفر من العلماء ومنهم من قال بها في بعض هذه المواضع ولم يقل بها في بعض.
وممن ذهب إلى ظاهره إسحاق بن راهويه وقال هو السنة في دعوى الولد. وقال به الشافعي قديماً وقيل لأحمد في حديث زيد هذا فقال حديث القافة أحب إليَّ وقد تكلم بعضهم في إسناده.
ومن باب وجوه النكاج التي كان يتناكح بها أهل الجاهلية
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حَدَّثنا عنبسة بن خالد حدثني يونس بن يزيد قال: قال محمد بن مسلم بن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها.
ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إن أحب وإنما يفعل رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.
ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم قد عرفتم الذى كان من أمركم وقد ولدت وهو ابنك يا فلان فتسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها.(3/277)
ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات يكنّ علماً لمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت فوضعت حملها أجمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلاّ نكاح أهل الإسلام اليوم.
قال الشيخ الطمث دم الحيض، وقولها التاطه معنى استلحقته، وأصل اللواط الإلصاق.
ومن باب الولد للفراش
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور ومسدد قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة، فقال سعد أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن انظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه ابنه. وقال عبد بن زمعة أخي ابن أمة أبي ولد على فراش أبي فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبهاً بيناً بعتبة فقال الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة، زاد مسدد وقال هو أخوك يا عبد.
قال الشيخ: قد ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا يقتنون الولائد ويضربون عليهم الضرائب فيكتسبن بالفجور، وكان من سيرتهم إلحاق النسب بالزناة إذا ادعوا الولد كهو في النكاح، وكانت لزمعة أمة كان يلم بها وكانت له عليها ضريبة فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة بن أبي وقاص وهلك عتبة كافراً لم يسلم فعهد إلى سعد أخيه أن يستلحق الحمل الذي بان في زمعة وكان لزمعة ابن يقال له عبد فخاصم سعد عبد بن زمعة في الغلام الذي ولدته الأمة(3/278)
فقال سعد هو ابن أخي على ما كان عليه الأمر في الجاهلية. وقال عبد بن زمعه بل هو أخي ولد على فراش أبي على ما استقر حكم الإسلام فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة وأبطل دعوى الجاهلية.
قال الشيخ فيه إثبات الدعوى في الولد كهي في الأملاك والأموال وأن الأمة فراش كالحرة، وأن للورثة أن يقروا بوارث لم يكن وأنهم إذا اجتمعوا على ذلك ثبت نسبه ولحق بأبيهم، فإن قيل إن جميع ورثة زمعة لم يقروا بأن هذا الغلام ابن لزمعة، وإنما جرى في هذه القصة ذكر عبد بن زمعة فقد قيل قد روي أنه لم يكن لزمعة معه يوم مات وارث غير عبد بن زمعة وكان عبد بمنزلة جميع الورثة، وقد لا ينكر أنه إن ثبت كون سودة من الورثة أن تكون قد وكلت أخاها بالدعوى أو تكون قد أقرت بذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يذكر في القصة.
قال الشيخ: والاعتبار في هذا إنما هو بقول من استحق المال بالإرث سواء كان ذلك من نسب أو زوجية فلو كان له ابن واحد فادعى أخاً ألق به لأنه جميع الورثة وإن كانت معه زوجة فأنكرت لم يثبت النسب ولو كان الوارث بنتاً واحدة فأقرت به لم تلحو لأنها لا ترث جميع المال إلاّ ان تكون معتقة فتلحق لأنها ترث جميع المال نصف بالنسب والباقي بالولاء، كل هذا على مذهب الشافعي.
وفى قوله احتجبي منه يا سودة حجة لمن ذهب إلى أن من فجر بامرأة حرمت على أولاده، واليه ذهب أهل الرأي وسفيان الثوري والأوزاعى وأحمد لأنه لما رأى الشبه بعتبة علم أنه من مائه فأجراه في النحريم مجرى النسب وأمرها(3/279)
بالاحتجاب منه. وقال مالك والشافعي وأبو ثور لا تحرم عليه، وتأولوا قوله لسودة احتجبي منه على معنى الاستحباب والاستظهار بالتنره عن الشبه وقد كان جائزاً أن لا يردها لو كان أخاً لها ثابت النسب. ولأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ماليس لغيرهن من النساء لقوله تعالى {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} [الأحزاب: 32] الآية.
ويستدل بالشبه في بعض الأمور لنوع من الاعتبار ثم لا يقطع الحكم به، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الملاعنة إن جاءت به كذا وكذا فما أراه إلاّ كذب عليها، وإن جاءت به كذا وكذا فما اراه إلا صدق عليها فجاءت به على النعت المكروه ثم لم يحكم به، وإنما حكم بالشبه في موضع لم يوجد منه شيء أقوى منه كالحاكم بالفاقة. وأبطل معنى الشبه في الملاعنة لأن وجود الفراش أقوى منه.
وهذا كما يحكم في الحادثة بالقياس إذا لم يكن فيها نص في هذا الباب فإذا وجد فيها ظاهر ترك له القياس.
وفي قوله هو أخوك يا عبد بن زمعة ما قطع الشبه ورفع الأشكال.
وفي بعض الروايات احتجبي منه فإنه ليس لك بأخ وليس بالثابت.
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قام رجل فقال يا رسول الله إن فلاناً ابني عاهرت بأمه في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا دعوة في الإسلام ذهب أمر الجاهلية الولد للفراش وللعاهر الحجر.
قال الشيخ: الدعوة بكسر الدال ادعاء الولد. وقوله الولد للفراش يريد(3/280)
لصاحب الفراش. وقوله وللعاهر الحجر يحسب أكثر الناس أن معنى الحجر هنا الرجم بالحجارة، وليس الأمر كذلك لأنه ليس كل زان يرجم وإنما يرجم بعض الزناة وهوالمحصن؛ ومعنى الحجر هنا الحرمان والخيبة كقولك إذا خيبت الرجل وآيسته من الشيء ما لك غير التراب وما في يدك غير الحجر ونحوه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا جاءك صاحب الكلب يطلب ثمنه فاملأ كفه تراباً، يريد أن الكلب لا ثمن له فضرب المثل بالتراب الذي ليست له قيمة ومثله قول الشاعر:
تراب لأهلي لا ولا نعمةً لهم……لشد إذا ما قد تعبدني أهلي
أي لا طاعة لهم ولا قبول لقولهم ولذلك عطف عليه بلا، ولو كان معناه الإثبات لم يسبق عليه بحرف النفي.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي بن ميمون أبو يحيى حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رباح قال زوجني أهلي أمة لهم رومية فوقعت عليها فولدت غلاماً أسود مثلي فسميته عبد الله، ثم وقعت عليها فولدت غلاماً أسود مثلي فسميته عبيد الله، ثم طبن لها غلام لأهلي رومي يقال له يوحنا فراطنها بلسانه فولدت غلاماً كأنه وزغة من الوزغات فقلت لها ما هذا فقالت هذا ليوحنه فرفعنا إلى عثمان أحسبه قال مهدي قال فسألهما فاعترفا فقال لهما أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى أن الولد للفراش وأحسبه قال فجلدها وجلده وكانا مملوكين.(3/281)
قال الشيخ: قوله طِبن معناه فطن يقال طبن الرجل للشيء وتبن طبناً وطبانة إذا فطن له ومعناه أنه فطن للشر وخبثها، قال كثير: طبن العدو لها فغير حالها.
ومن باب من هو أحق بالولد
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد السلمي حدثنا الوليد، عَن أبي عمرو، يَعني الأوزاعي حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقان لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت أحق به ما لم تنكحي.
قال الشيخ: الحواء اسم للمكان الذي يحوي الشيء، والحواء أيضاً أخبية تضرب ويدانى بينها يقال هذا حواء واحدة، ومعنى هذا الكلام معنى الادلاء بزيادة الحرمة وذلك أنها شاركت الأب في الولادة ثم استبدت بهذه الأمرر خصوصاً وهى معاني الحضانة من حيث لا شركة للأب فيها فاستحقت التقدم عند المنازعة في أمر الولد.
ولم يختلفوا أن الأم أحق بالولد الطفل من الأب ما لم تتزوج فإذا فإذا تزوجت فلا حق لها في حضانة، فإن كانت لها أم فأمها تقوم مقامها ثم الجدات من قبل الأم أحق به ما بقيت منهن واحدة.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق وأبو عاصم عن ابن جريج أخبرني زياد عن هدل بن أسامة أن أبا ميمونه سلمى مولى من أهل المدينة رجل صدق قال بينما أنا جالس مع أبي هريرة جاءته امرأة فارسية معها ابن لها فادعياه وقد طلقها زوجها، فقالت يا أبا هريرة ورطنت بالفارسيه زوجى(3/282)
يريد أن يذهب بابني فقال أبو هريرة استهما عليه ورطن لها بذلك فجاء زوجها فقال من يحاقنى في ولدي فقال أبو هريرة اللهم إني لا أقول هذا إلاّ أني سمعت امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده فقالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استهما عليه فقال زوجها من يحاقني في ولدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به.
قال الشيخ: وهذا في الغلام الذي قد عقل واستغنى عن الحضانة فإذا كان كذلك خير بين أبويه.
واختلف فيه فقال الشافعي إذا صار ابن سبع أو ثماني سنين خير، وقال أحمد يخير إذا كبر. وقال أهل الرأي والثوري الأم أحق بالغلام حتى يأكل وحده ويلبس وحده والجارية حتى تحيضى ثم الأب أحق الوالدين.
وقال مالك الأم أحق بالجواري وإن حضن حتى ينكحن والغلمان فهي أحق بهم حتى يحتلموا.
ويشبه أن يكون من ترك التخيير وصار إلى أن الأب أحق به إذا استغنى عن الحضانة إنما ذهب إلى أن الأم إنما حظها الحضانة لأنها أرفق به فإذا جاوز الولد حق المحضانة فإنه إلى الأب أحوج للمعاش والأدب، والأب أبصر بأسبابهما وأوفى له من الأم ولو ترك الصبي واختياره مال إلى البطالة.
ومن باب في نفقة المبتوتة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن(3/283)
حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطته فقال والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لها ليس لك عليه نفقة وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال إن تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك وإذا حللت فآذنيني قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطاني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد قالت فكرهته ثم قال انكحي أسامة بن زيد فنكحته فجعل الله فيه خيراً كثيراً واغتبطت.
قال الشيخ: معنى البتة هنا الطلاق وقد روي أنها كانت آخر تطليقة بقيت لها من الثلاث. وفيه دليل أن المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، واختلف فيها فقالت طائفة لا نفقة لها ولا سكنى إلاّ أن تكون حاملاً وروي ذلك عن ابن عباس وأحمد وروي عن فاطمة أنها قالت لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة.
وقالت طائفة لها السكنى والنفقة حاملاً كانت أو غير حامل. وقاله عمر وسفيان وأهل الرأي.
وقالت طائفة لها السكنى ولا نفقة قاله مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وابن المسيب والحسن وعطاء والشعبي، واحتجوا بقوله {أسكنوهن} الآية فأوجب السكنى عاماً، وأن نقل النبي صلى الله عليه وسلم إياها من بيت أحمائها إلى بيت ابن أم مكتوم فليس فيه إبطال السكنى بل فيه إثباته وإنما هو اختيار لموضع السكنى.
واختلف في سبب ذلك فقالت عائشة كانت فاطمة في مكان وحش فخيف(3/284)
عليها فرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتقال.
وقال ابن المسيب إنما نقلت عن بيت حمائها لطول لسانها وهو معنى قوله {ولا يخرجن إلاّ أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق: 1] الآية وقد بيناه.
ومن باب المبتوتة تخرج بالنهار
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير عن جابر قال طلقت خالتي ثلاثاً فخرجت تجّد نخلاً لها فلقيها رجل فنهاها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال لها: اخرجي فجدي نخلك لعلك ان تصدقي منه أو تفعلي خيراً.
قال الشيخ: وجه استدلال أبي داود منه في أن للمعتدة من الطلاق أن تخرج بالنهار هو أن النخل لا يجد عادة إلاّ نهاراً، وقد نهي عن جداد الليل ونخل الأنصار قريب من دورهم فهي إذا خرجت بكرة للجداد رجعت إلى بيتها للمبيت. وهذا في المعتدة من التطليقات الثلاث.
فأما الرجعية فإنها لا تخرج ليلاً ولا نهاراً.
وقال أبو حنيفة لا تخرج المبتوتة ليلاً ولا نهاراً كالرجعية. وقال الشافعي تخرج نهاراً لا ليلاً على ظاهر الحديث.
ومن باب احداد المتوفى عنها
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن حميد عن نافع عن زينب بنت أبي سلمة، قالت سمعت أمي أم سلمة تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا مرتين أو ثلاثا كل ذلك(3/285)
يقول لا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت احداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول، قال حميد فقلت لزينب وما ترمى بالبعرة على رأس الحول، فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حشاً ولبست شر ثيابها ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعره فترمى بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيبب أو غيره.
قال الشيح: قال القعنبي تفتض هو من فضضت الشيء إذا كسرته أو فرقته ومنه فض خاتم الكتاب {ولانفضوا من حولك} [آل عمران: 159] أي تكسر ما كانت فيه من العدة وتخرج منه بالدابة. والحش البيت الصغير، ومعنى رميها بالبعرة أى كأنها تقول كان جلوسها بالبيت وحبسها نفسها سنة كالرمية بالبعير في جنب ما كان يجب في حق الزوج.
ومن باب في المتوفى عنها تنتقل
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عميرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قالت فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له فقال كيف قلت فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي قالت(3/286)
فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً قالت فلما كان عثمان بن عفان أرسل الي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به.
قال الشيخ: فيه أن للمتوفى عنها زوجها السكنى وأنها لا تعتد إلاّ في بيت زوجها. وقال أبو حنيفة لها السكنى ولا تبيت إلاّ في بيتها وتخرج نهاراً إذا شاءت. وبه قال مالك والثوري والشافعي وأحمد وقال محمد (ابن الحسن) المتوفى عنها لا تخرج في العدة. وعن عطاء وجابر والحسن وعلي وابن عباس وعائشة تعتد حيث شاءت.
وفي قوله لا حتى يبلغ الكتاب أجله بعد إذنه لها في الانتقال دليل على جواز وقوع نسخ النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يفعل.
ومن باب ما تجتنب المعتدة
قال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثني هشام بن حسان (ح) وحدثنا عبد الله بن الجراح القهستاني عن عبد الله، يَعني ابن أبي بكر السهمي عن هشام وهذا لفظ ابن الجراح عن حفصة عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحد المرأة فوق ثلاث إلاّ على زوج فانها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلاّ ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلاّ أدنى طهرتها إذا طهرت من محيضها نبيذة من قسط أو أظفار قال يعقوب مكان عصب إلاّ مغسولاً وزاد يعقوب ولا تختضب.
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثني بديل عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة(3/287)
زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا المشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل.
العصب من الثياب ما عصب غزله فصبغ قبل أن ينسج كالبرود والحبر ونحوه والممشق ما صبغ بالمنشق وهو يشبه المغرة. وقوله بنبذة من قسط يريد اليسير منه والنبيذ القليل من الشيء والنبيذة تصغيره وظهور الهاء فيه لأنه نوى بها القطعة منه.
واختلف فيما تجتنبه المحد من الثياب فقال الشافعي كل صبغ كانت زينة أو وشي كان لزينة في ثوب أو يلمع كان من العصب والحبرة فلا تلبسه الحاد غليظاً كان أو رقيقاً.
وقال مالك لا تلبس مصبوغاً بعصفر أو ورس أو زعفران.
قال الشيخ ويشبه أن لا يكره على مذهبهم لبس العصب والحبر ونحوه وهو أشبه بالحديث من قول من منع منه.
وقالوا لا تلبس شيئا من الحلي وقال مالك لا خاتماً ولا حلة. والخضاب مكروه في قول الأكثر.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني مخرمة عن أبيه قال سمعت المغيرة بن الضحاك يقول أخبرتني أم حكيم بنت أسيد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء قال أحمد الصواب بكحل الجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة فسألتها عن كحل الجلاء فقالت لا تكتحلي به إلاّ من أمر لا بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار ثم قالت عند ذلك أم سلمة دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/288)
حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبراً فقال ما هذا يا أم سلمة فقلت إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب قال أنه يشب الوجه فلا تجعليه إلاّ بالليل وتنزعينه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قالت قلت بأي شيء امتشط يا رسول الله قال: بالسدر تغلفين به رأسك.
قال الشيخ: كحل الجلاء هو الاثمد لجلوه البصر ومعنى يشب الوجه أي يوقد اللون وأصله من نشبت النار أنشبها إذا أوقدتها. واختلف في الكحل فقال الشافعي كل كحل كان زينة لا خير فيه كالاثمد ونحوه مما يحسن موقعه في عينها، فأما الكحل الفارسي ونحوه إذا احتاجت إليه فلا بأس إذ ليس فيه زينة بل يزيد العين مَرَهاً وقبحاً.
ورخص في الكحل عند الضرورة أهل الرأي ومالك بالكحل الأسود ونحوه عن عطاء والنخعي.
ومن باب في عدة الحامل
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته فكتب عمر بن عبد الله بن عتبة يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة(3/289)
الوداع وهي حامل فلم تنشب ان وضعت حملها بعد وفاته فلما تعالت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها مالي أراك متجملة لعلك ترتجين النكاح إنك والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي.
قال الشيخ: تعالت من نفاسها أي طهرت من دمها واختلف العلماء فيه فقال علي وابن عباس تنتظر المتوفى عنها آخر الأجلين، ومعناه أن تمكث حتى تضع حملها فإن كانت مدة الحمل من وقت وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً فقد حلت وإن وضعت قبل ذلك تربصت إلى أن تستوفي المدة.
وقال عامة العلماء انقضاء عدتها من ضع الحمل طالت المدة أو قصرت، وهو قول عمر وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة ومالك والأوزاعي والثوري وأهل الرأي والشافعي.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قال عثمان حدثنا وقال ابن العلاء أخبرنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله، قال من شاء لاعنته لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشر.
قال الشيخ: يريد سورة الطلاق إذ أن نزول هذه السورة كان بعد نزول البقرة فقال في الطلاق {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملن} [الطلاق: 4] وفي البقرة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} [البقرة: 234] الآية فظاهر كلامه يدل على أنه(3/290)
حمله على النسخ فذهب إلى أن ما في سورة الطلاق ناسخ لما في سورة البقرة، وعامة العلماء لا يحملونه على النسخ بل يرتبون إحدى الآيتين على الأخرى فيجعلون التي في سوره البقرة في عدد الحوابل وهذه في الحوامل.
ومن باب في عدة أم الولد
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد أن محمد بن جعفر حدثهم (ح) وحدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن مطر عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال لا تلبسوا علينا سنة قال ابن مثنى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر، يَعني أم الولد.
قال الشيخ: لا تلبسوا علينا سنة نبينا يحتمل وجهين أحدهما أن يريد بذلك سنة كان يرويها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً والآخر أن يكون ذلك منه على معنى السنة في الحرائر ولو كان معنى السنة التوقيف لأشبه أن يصرح به وأيضاً فإن التلبيس لا يقع في النصوص إنما يكون غالبا في الرأي.
وتأوله بعضهم على أنه إنما جاء في أم ولد بعينها كان أعتقها صاحبها ثم تزوجها وهذه إذا مات عنها مولاه الذي هو زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً إن لم تكن حاملاً بلا خلاف بين العلماء.
واختلف في عدة أم الولد فذهب الأوزاعي وإسحاق في ذلك إلى حديث عمرو بن العاص وقالا تعتد أم الولد أربعة أشهر وعشراً كالحرة. وقال ابن المسيب وابن جبير والحسن وابن سيرين.
وقال الثوري وأهل الرأي عدتها ثلاث حيض وقاله علي وابن مسعود وعطاء والنخعي.
وقال مالك والشافعي وأحمد عدتها حيضة، وقاله ابن عمر وعروة والقاسم(3/291)
والشعبي والزهري.
ومن باب المبتوتة
لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح غيره
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت زوجاً غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجها الأول قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحل للأول حتى تذوق الآخر ويذوق عسيلتها.
قال الشيخ: العسيلة تصغير العسل وقيل إن الهاء إنما ثبتت فيها على نية اللذة. وقيل إن العسل تؤنث وتذكر.
وقال ابن المنذر فيه دلالة على أنه إن واقعها وهي نائمة أو مغمى عليها لا تحس باللذة فإنها لا تحل للزوج الأول لأنها لم تذق العسيلة، وإنما يكون ذواقها بأن تحس باللذة.
كتاب الحدود
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أيوب عن عكرمة أن علياً كرم الله وجهه أحرق ناساً ارتدوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنه فقال لم أكن لأحرقهم بالنار ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تعذبوا بعذاب الله وكنت قاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: من بدل دينه فاقتلوه فبلغ ذلك علياً فقال ويح أم ابن عباس.
قوله ويح أم ابن عباس لفظه لفظ الدعاء عليه ومعناه المدح له والإعجاب(3/292)
بقوله وهذا كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي بصير ويل أمه مسعر حرب وكقول عمر رضي الله عنه حين أعجبه قول الوادعي في تفضيل سهمان الخيل على المقاديف هبلت الوادعي أمه يريد ما أعلمه أو ما أصوب رأيه أو ما أشبه ذلك الكلام وكقول الشاعر:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا …وماذا يرد الليل حين يؤوب
ويقال ويح وويس بمعنى واحد وقيل ويح كلمة رحمة وروي ذلك عن الحسن.
وقد اختلف الناس فيما كان من علي كرم الله وجهه في أمر المرتدين فروى عكرمة أنه أحرقهم بالنار، وزعم بعضهم أنه لم يحرقهم بالنار ولكنه حفر لهم أسراباً ودخن عليهم واستتابهم فلم يتوبوا حتى قتلهم الدخان، واحتج أهل الروية الأولى بقول الشاعر فيهم.
انشدنا ابن الأعرابي، عَن أبي ميسرة عن الحميدي عن سفيان بن عيينة عن بعضهم في هذه القصة.
لترم بي المنايا حيث شاءت ... إذا لم ترم بي في الحضرتين
إذا ما قربوا حطباً وناراً ... فذاك الموت نقداً غير دين
زعموا أنه حفر لهم حفراً وأشعل النار وأمر أن يرمى بهم فيها.
واختلف أهل العلم فيمن قتل رجلاً بالنار فأحرقه بها هل يفعل به مثل ذلك أم لا، فقال غير واحد من أهل العلم يحرق القاتل بالنار، وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وروي معنى ذلك عن الشعبي وعمر بن عبد العزيز.
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه يقتل بالسيف وروي ذلك عن عطاء.(3/293)
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سنان الباهلي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله إلاّ في إحدى ثلاث زنى بعد إحصان فإنه يرجم. ورجل خرج محارباً لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض. أو يقتل نفساً فيقتل بها.
قلت في هذا الحديث دلالة على أن الإمام بالخيار في أمرالمحاربين بين أن يقتل أو يصلب أو ينفي من الأرض، وإلى هذا ذهب مالك بن أنس وأبو ثور.
وروي عن الحسن ومجاهد وعطاء والنخعي، وقال الشافعي تقام عليهم الحدود بقدر جناياتهم لمن قتل منهم وأخذ مالاً قتل وصلب، وإذا قتل ولم يأخذ مالاً قتل ولم يصلب ودفع إلى أوليائه ليدفنوه. ومن أخذ مالاً ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى وخلي، ومن حضر وهيّب وكثر أو كان ردءاً يدفع عنهم عزر وحبس، وروي معنى ذلك عن ابن عباس إلاّ أنه قال إن لم يقتل ولم يأخذ مالاً بقي، وممن ذهب إلى قول ابن عباس قتادة والنخعي.
وقال الأوزاعى نحواً من ذلك ومذهب أبي حنيفة وأصحابه قريب من ذلك. وفي قوله أويقتل نفساً فيقتل بها مستدل من جهة العموم لمن رأى قتل الحر بالعبد.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا قرة بن خالد حدثنا حميد بن هلال حدثنا أبو بردة، عَن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل، قال فلما قدم عليه معاذ قال انزل وألقى له وسادة وإذا رجل عنده موثق؛ قال ما هذا قال هذا كان يهودياً فأسلم ثم راجع دينه دين السوء قال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسول، قال اجلس نعم قال لا أجلس(3/294)
حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل.
قلت الظاهر من هذا الخبر أنه رأى قتله من غير استتابة ولا استتابة (1) وذهب إلى هذا الرأي عبيد بن عمير وطاوس، وقد روى ذلك أيضاً عن الحسن البصري.
وروي عن عطاء أنه قال إن كان أصله مسلماً فارتد فإنه لا يستتاب وإن كان مشركاً فأسلم ثم ارتد فإنه يستتاب.
وقال أكثر أهل العلم لا يقتل حتى يستتاب إلا أنهم اختلفوا في مدة الاستتابة فقال بعضهم يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل، روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال أحمد وإسحاق؛ وقال مالك بن أنس أرى الثلاث حسناً وإنه ليعجبني.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يستتاب ثلاث مرات في ثلاث أيام. وقال الشافعي في أحد قوليه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مكانه، قال وهذا أقيس في النظر وعن الزهري يستتاب ثلاث مرات فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
قلت وروى أبو داود هذه القصة من طريق الحماني عن يزيد بن أبي بردة عن أبيه، عَن أبي موسى فقال فيها وكان قد استتيب قبل ذلك فرواها من طريق المسعودي عن القاسم قال فلم يترك حتى ضرب عنقه وما استتابه.
ومن باب من سب النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو داود: حدثنا عباد بن موسى الختلي حدثنا إسماعيل بن جعغر المدني عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة حدثنا ابن عباس رضي الله عنه أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فنهاها فلا تنتهي فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه فأخذ المعول فوضعه في بطنها واتكأ عليها
_________
(1) هكذا في الأصل.(3/295)
فقتلها فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها.
المعول شبه المشمل ونصنله دقيق ماض، وفيه بيان ان ساب النبي صلى الله عليه وسلم مقتول وذلك أن السب منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتداد عن الدين ولا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله ولكن إذا كان الساب ذمياً فقد اختلفوا فيه فقال مالك بن أنس من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلاّ أن يسلم وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال الشافعي يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه الذمة.
واحتج في ذلك بخبر كعب بن الأشرف وقد ذكرناه في كتاب الجهاد.
وحكي، عَن أبي حنيفة أنه قاله لا يقتل الذمي بشتم النبي صلى الله عليه وسلم ما هم عليه من الشرك أعظم.
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله ونصر بن الفرج قالا: حَدَّثنا أبو أسامة عن يزيد بن زريع عن يونس بن عبيد عن حميد بن هلال عن عبد الله بن مطرف عن ابن أبي برزة قال كنت عند أبي بكر رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه فقلت تأذن لى يا خليفة رسول الله فاضرب عنقه قال فأذهب كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إليّ فقال ما الذي قلت آنفاً، قلت ائذن لي اضرب عنقه قال أكنت فاعلاً لو أمرتك قال نعم؛ قال لا والله ما كانت لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت أخبرني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر قال: قال أحمد بن حنبل في معنى هذا الحديث أي لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلاً إلا بإحدي الثلاث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس(3/296)
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل.
قلت وفيه دليل على أن التعزير ليس بواجب وللإمام أن يعزر فيما يستحق به التأديب وله أن يعفو فلا يفعل ذلك.
ومن باب في المحاربة
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب، عَن أبي قلابة عن أنس أن قوماً من عكل أو قال من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم في أول النهار فأرسل في اثارهم فما ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.
قال أبو قلابة وهؤلاء قوم قتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
قوله فاجتووا المدينة معناه عافوا المقام بالمدينة وأصابهم بها الجوى في بطونهم يقال اجتويت المكان إذا كرهت الإقامة به لضرر يلحقك فيه واللقاح ذوات الدر من الإبل واحدتها لقحة.
قوله سمر أعينهم يريد أنه كحلهم بمسامير محماة والمشهور من هذا في أكثر الروايات سمل باللام أي فقأ أعينهم قال أبو ذؤيب.
فالعين بعدهم كأن حداقها …سملت بشوك فهي عور تدمع
وفي الحديث من الفقه أن إبل الصدقة قد تجوز لأبناء السبيل شرب ألبانها وذلك أن هذه اللقاح كانت من إبل الصدقة، روي ذلك في هذا الحديث من غير(3/297)
هذا الطريق حدثناه ابن الأعرابي حدثنا الزعفراني حدثنا عمر حدثنا حماد حدثنا حميد وقتادة وثابت عن أنس فذكر القصة وقال فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيل الصدقة وفيه إباحة التداوي بالمحرم عند الضروري لأن الأبوال كلها نجسة من مأكول اللحم وغير مأكوله.
قال أبو داود: حدثنا عمر بن عثمان حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى، عَن أبي قلابة عن أنس بن مالك وذكر القصة وقال فيها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قافة فأتي بهم فأنزل الله عز وجل {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً} [المائدة: 33] الآية.
القافة جمع القائف وهو الذي يتبع الأثر ويطلب الضالة والهارب.
قلت وقد اختلف الناس فيمن نزلت فيه هذه الآية فروي مدرجاً في هذا الخبر أنها نزلت في هؤلاء، وقد ذكر أبو قلابة أن هؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
وذهب الحسن البصري أيضاً إلى أن الآية إنما نزلت في الكفار دون المسلمين وذلك أن المسلم لا يحارب الله ورسوله، وقال أكثر العلماء نزلت الآية في أهل الإسلام، والدليل على ذلك قوله {إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة: 34] والإسلام يحقن الدم قبل القدرة وبعدها فعلم أن المراد به المسلمون، فأما قوله يحاربون الله ورسوله فمعناه يحاربون المسلمين الذين هم حزب الله وحزب رسوله فأضيف ذلك إلى الله وإلى الرسول إذ كان هذا الفعل في الخلاف لأمرهما راجعاً إلى مخالفتهما، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم من آذى لي ولياً فقد بادرني بالمحاربة.(3/298)
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس وذكر الحديث قال ولقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا.
قوله يكدم الأرض أي يتناولها بفمه ويعض عليها بأسنانه؛ وأصل الكدم العض والعرب تقول في قلة المرعى ما بقيت عندنا إلا كدامة ترعاها الإبل أي مقدار ما تتناولها بمقاديم أسنانها.
وقد اختلف الناس في تأويل هذا الصنيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فروي عن ابن سيرين أن هذا إنما كان منه قبل أن تنزل الحدود وعن أبي الزناد أنه قال: لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود فوعظه ونهاه عن المثلة فلم يعد.
قلت وروى سليمان التيمي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سمل أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة، حدثنيه الحسن بن يحيى، عَن أبي المنذر عن الفضل بن سهل الأعرج عن يحيى بن غيلان عن يزيد بن زريع عن سليمان التيمي يريد أنه إنما اقتص منهم على أمثال فعلهم.
ومن باب الحد يشفع فيه
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني وقتيبة بن سعيد قالا: حَدَّثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها فقالوا ومن يجترىء إلاّ أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فاختطب فقال إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت(3/299)
رسول الله صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها.
إنما أنكر عليه الشفاعة في الحد لأنه إنما تشفع إليه بعد أن بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفعوا إليه فيه فأما قبل أن يبلغ الإمام فإن الشفاعة جائزة والستر على المذنبين مندوب إليه، وقد روي ذلك عن الزبير بن العوام وابن عباس رضي الله عنهما وهو مذهب الأوزاعي.
وقال أحمد بن حنبل تشفع في الحد ما لم يبلغ السلطان.
وقال مالك بن أنس من لم يعرف بأذى الناس وإنما كانت تلك منه زلة فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام.
وفيه دليل على أن القطع لا يزول عن السارق بأن يوهب له المتاع ولو كان ذلك مسقطاً عنه الحد لأشبه أن يطلب أسامة إلى المسروق منه أن يهبه منها فيكون ذلك أعود عليها من الشفاعة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن جعفر بن مسافر ومحمد بن سليمان الأنباري قالا: حَدَّثنا ابن أبي فديك عن عبد الملك بن زيد نسبه جعفر إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن محمد بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلاّ الحدود.
قلت قال الشافعي في تفسير الهيئة من لم يظهر منه ريبة.
وفيه دليل على أن الإمام مخير في التعزير إن شاء عزر وإن شاء ترك ولو كان التعزير واجبا كالحد لكان ذو الهيئة وغيره في ذلك سواء.
ومن باب التلقين في الحد
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن إسحاق بن(3/300)
عبد الله بن أبي طلحة، عَن أبي المنذر مولى أبي ذر، عَن أبي أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخالك سرقت قال بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً فأمر به فقطع.
قلت وجه هذا الحديت عندي والله أعلم أنه ظن بالمعترف بالسرقة غفلة أو يكون قد ظن أنه لا يعرف معنى السرقة ولعله قد كان مالاً له أو اختلسه أو نحو ذلك مما يخرج من هذا الباب عن معاني السرقة والمعترف به قد يحسب أن حكم ذلك حكم السرقه فوافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستثبت الحكم فيه إذ كان من سنته أن الحدود تدرأ بالشبهات، وروي عنه أنه قال: ادرؤوا الحدود ما استطعتم وأمرنا بالستر على المسلمين فكره أن يهتكه وهو يجد السبيل إلى ستره فلما تبين وجود السرقة منه يقيناً أقام الحد عليه وأمر بقطعه.
على أن في إسناد هذا الحديث مقالاً والحديث إذا رواه رجل مجهول لم يكن حجة ولم يجب الحكم به.
وقد روي تلقين السارق عن جماعة من الصحابة وأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجل فسأله أسرقت قل لا قال فقال لا فتركه ولم يقطعه.
وروي مثل ذلك، عَن أبي الدرداء وأبي هريرة، وكان أحمد وإسحاق لا يريان بأساً بتلقين السارق إذا أتي به، وكذلك قال أبو ثور إذا كان السارق امرأة أو مصعوقاً.
ومن باب ما يقطع فيه السارق
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن الزهري قال سمعته منه عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في(3/301)
ربع دينار فصاعداً قال وحدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم القطع في ربع دينار فصاعداً.
قوله القطع في ربع دينار فصاعداً معناه القطع الذي أوجبه الله في السرقة إنما يجب فيما بلغ منها ربع دينار وكان مورده مورد التهديد ولذلك عرفه بالألف واللام ليعقل أنه إشارة إلى معهود، وهذا الحديث هو الأصل فيما يجب فيه قطع الأيدي وبه تعتبر السرقات وإليه ترد قيمتها ما كانت من دراهم أو متاع أو غيرها.
وروى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنها، وبه قال عمر بن عبد العزيز وهو مذهب الأوزاعي والشافعي، وفيه إبطال مذهب أهل الظاهر فيما ذهبوا إليه من إيجاب القطع في الكثير والقليل وهو مذهب الخوارج.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم.
قلت وذهب مالك إلى هذا وجعل الحد فيما يجب فيه القطع ثلاثة دراهم، ورد إليها قيم السرقات مما كانت ذهباً أو متاعاً أو ما كان من شيء.
وقال أحمد بن حنبل إن سرق ذهباً فبلغ ربع دينار قطع وإن سرق فضة كان مبلغها ثلاثة دراهم قطع وإن سرق متاعاً بلغ قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قولاً بالخبرين معاً.
قلت المذهب الأول في رد القيم إلى ربع الدينار أصح وذلك إن أصل النقد(3/302)
في ذلك الزمان الدنانير فجاز أن يقوم بها الدراهم ولم يجز أن يقوم الدنانير بالدراهم ولهذا كتب في الصكوك قديماً عشرة دراهم وزن سبعة فصرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها والدنانير لا تختلف فيها اختلاف الدراهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ خذ من كل حالم ديناراً.
وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قطع سارقاً في أترجة قومت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً فدل على أن العبرة للذهب ومن أجل ذلك قومت الدراهم بها فقيل من صرف اثني عشر درهما بدينار.
وأما تقويم المجن بالدراهم فقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل أن الشيء التافه قد جرت العادة بتقويمه بالدراهم، وإنما تقوم الأشياء النفيسة بالدنانير لأنها أنفس من النقود وأكرم جواهر الأرض فتكون هذه الدراهم الثلاثة التي هي ثمن المجن قد تبلغ قيمتها ربع دينار والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن السري العسقلاني وهذا لفظه قالا: حَدَّثنا ابن نمير عن محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم.
قلت وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه وجعلوه حداً فيما يقطع فيه اليد وهو قول سفيان الثوري، وقد روى ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه.
قلت وهذا حكم تنفيذ وليس في موضع التحديد لأنه إذا كان السارق مقطوعاً في ربع دينار فلأن يكون مقطوعاً في دينار أولى وكذلك إذا قطع في ثلاثة دراهم يبلغ قيمتها ربع دينار فهو بأن يقطع في عشرة دراهم أولى.(3/303)
وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة لا يقطع الخمس إلاّ في خمسة دراهم وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلاف الرواية الأولى.
ومن باب ما لا قطع فيه
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أن عبداً سرق ودياً من حائط رجل فغرسه في حائط سيده فاستعدى صاحب الودي على العبد مروان بن الحكم فسجن مروان العبد وأراد قطع يده فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج فسأله عن ذلك فأخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا قطع في ثمر ولا كثر ومشى معه إلى مروان فحدثه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر مروان بالعبد فأرسل.
الودي صغار النخل واحدتها ودية والكثر جمار النخل ومعنى الثمر في هذا الحديث ما كان معلقاً بالنخل قبل أن يجذ ويحرز وقد تأوله الشافعي قال حوائط المدينة ليست بحرز وأكثرها يدخل من جوانبها ومن سرق من حائط شيئاً من ثمر معلق لم يقطع فإذا أواه الجرين قطع ولم يفرق بين الفاكهة والطعام الرطب وبين الدراهم والدنانير وسائر الأمتعة في السارق إذا سرق منها شيئاً من حرز أو غير حرز فبلغت قيمته ما يقطع فيه اليد فإنه مقطوع.
وقال مالك في الثمر مثل قول الشافعي. وقال أبو حنيفة بظاهر حديث رافع بن خديج فأسقط القطع عمن سرق ثمراً أو كثراً من حرز أو غير حرز وقاس عليهما سائر الفواكه الرطبة واللحوم والجبون والألبان والأشربة وسائر ما كان في معناها.(3/304)
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل عن الثمر المعلق قال ما أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع.
قلت هذا يؤيد ما ذهب إليه الشافعي في معنى الحديث الأول ويليق أن الحال لا تختلف في الأموال من جهة أعيانها لكن تفترق من جهة مواضعها التي تؤويها وتحرزها، وأما الخبنة فهو ما يحمله الرجل في ثوبه، ويقال أصل الخبنة ذلاذل الثوب.
والجرين البيدر وهو حرز الثمار وما كان في مثل معناها كما كان المراح حرز الغنم. وإنما تحرز الأشياء على قدر الإمكان فيها وجريان العادة في الناس في مثلها. ويشبه أن يكون إنما أباح لذي الحاجة الأكل منه لأن في المال حق العشر فإذا أدته الضرورة إليه أكل منه وكان محسوباً لصاحبه مما عليه من الصدقة وصارت يده في التقدير كيد صاحبها لأجل الضرورة؛ فأما إذا حمل منه في ثوب أو نحوه فإن ذلك ليس من باب الضرورة إنما هو من باب الاستحلال فيغرم ويعاقب، إلاّ أنه لا قطع لعدم الحرز ومضاعفة الغرامة نوع من الردع والتنكيل، وقد قال به غير واحد من الفقهاء وقد بينا أقاويلهم في ذلك في باب الزكاة.
ومن باب القطع في الخيانة والخلسة
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي حدثنا محمد بن بكر حدثنا ابن جريج حدثنا(3/305)
الزبير قال جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على المنتهب قطع ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا.
وبهذا الإسناد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على الخائن قطع.
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرنا عيسى بن يونس عن ابن جريج، عَن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله فزاد ولا على المختلس قطع.
قلت أجمع عامة أهل العلم على أن المختلس والخائن لا يقطعان وذلك أن الله سبحانه إنما أوجب القطع على السارق. والسرقة إنما هي أخذ المال المحفوظ سراً عن صاحبه والاختلاس غير محترز منه فيه. وقد قيل إن القطع إنما سقط عن الخائن لأن صاحب المال قد أعان على نفسه في ذلك بائتمانه إياه وكذلك المختلس وقد يحتمل أن يكون إنما سقط القطع عنه لأن صاحبه قد يمكنه رفعه عن نفسه بمجاهدته وبالاستغاثة بالناس فإذا قصر في ذلك ولم يفعل صار كأنه أتي من قبل نفسه.
وحكي عن إياس بن معاوية أنه قال يقطع المختلس، ويحكى عن داود أنه كان يرى القطع على من أخذ مالاً لغيره سواء أخذه من حرز أو غير حرز وهذا الحديث حجة عليه.
ومن باب من سرق من حرز
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة حدثنا اسباط عن سماك بن حرب عن حميد ابن أخت صفوان عن صفوان بن أمية قال كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهماً فجاء رجل فاختلسها مني فأخذ الرجل فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع فأتيته، فقلت(3/306)
أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال فهلا كان هذا من قبل أن تأتيني به.
قلت في هذا دليل على أن الحرز معتبر في الأشياء حسب ما تعارفه الناس في حرز مثلها وذلك أن النائم في المسجد الذي ينتابه الناس ولا يحجب عن دخوله أحد لا يقدر من الاحتراز والتحفظ في ثوبه على أكثر من أن يبسطه فينام عليه أو يتوسده فيضع رأسه عليه أو يشد طرفاً منه في طرف يديه إلى نحو ذلك من الأمور فإذا اغتاله مغتال فذهب به كان سارقاً له من حرز يجب عليه ما يجب على سارق الأموال من الخزائن المستوثق منها بالاغلاق والاقفال، وفي معناه من وضع نفقته في كمه فطرّه إنسان فإنه سارق يقطع يده كما لو أخذها من صندوق أو خزانة وكذلك
هذا فيمن وضع ثوبه بين يديه واستنقع في ماء فأخذه آخذ على وجه السرقة ويدخل في ذلك من أخرج متاعاً من جوالق أو حل بعيراً من قطار أو أخذ متاعاً من فسطاط مضروب أو من خيمة ضربها صاحبها فنام فيها أو على بابها فهذا كله حرز وإنما ينظر في هذا الباب إلى سيرة الناس وعاداتهم في إحراز أنواع الأموال على اختلاف أماكنها فكل ما كان مأخوذاً من حرز مثله وكان مبلغه ما يجب فيه القطع وجب قطع يد سارقه.
واحتج من رأى أن المتاع المسروق لا قطع فيه إذا ملكه السارق قبل أن يرفع إلى الإمام بقوله فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به، قالوا فقد دل هذا على أنه لو وهبه منه أو أبرأه من ذلك قبل أن يرفعه إلى الإمام سقط عنه القطع. واختلف الفقهاء في هذا فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل لا يسقط عنه القطع وإن وهب منه المتاع أو باعه منه أو أبرأه.(3/307)
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا رد السرقة إلى أهلها قبل أن يرفع إلى الإمام ثم أتي به الإمام فشهد عليه الشهود لم يقطع.
وقال أبو حنيفة إذا وهب له السرقة لم يقطع وأحسبه لا يفرق بين ذلك كان قبل رفعه إلى الإمام أو بعده.
ومن باب القطع في العارية إذا جحدت
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي ومخلد بن خالد المعنى قالا: حَدَّثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها فقطعت يدها.
قلت مذهب عامة أهل العلم أن المستعير إذا جحد العارية لم يقطع لأن الله سبحانه إنما أوجب القطع على السارق وهذا خائن ليس بسارق.
وفي قوله لا قطع على الخائن دليل على سقوط القطع عنه، وذهب إسحاق بن راهويه إلى إيجاب القطع عليه قولاً بظاهر الحديث.
وقال أحمد بن حنبل لا أعلم شيئاً يدفعه، يَعني حديث المخزومية.
قلت وهذا الحديث مختصر وليس مستقصى لفظه وسياقه وإنما قطعت المخزومية لأنها سرقت وذلك بين في حديث عائشة رحمها الله الذي رواه أبو داود في باب قبل هذا.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القصة.
قولها أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت يفصح بالسرقة ويصرح بذكرها(3/308)
ويثبت أنها سبب القطع لا جحد العارية وإنما ذكرت الاستعارة والجحد في هذه القصة تعريفاً لها بخاص صفتها إذ كانت كثيرة الاستعارة حتى عرفت بذلك كما عرفت بأنها مخزومية إلاّ أنها لما استمر بها هذا الصنع ترقت إلى السرقة وتجرأت حيث سرقت فأمرالنبي صلى الله عليه وسلم بقطعها.
وقد روى مسعود بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت وبيان هذا الحديث في حديث عائشة رضي الله عنها من رواية الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها.
أفلا تراه يتمثل بالسرقة ويذكرها مرة بعد أخرى وفي ذلك بيان لما قلناه وإنما خلا بعض الروايات عن ذكر السرقة لأن القصد إنما كان في سياق هذا الحديث إلى إبطال الشفاعة في الحدود والتغليظ لمن رام تعطيلها ولم يقع العناية بذكر السرقة وبيان حكمها وما يجب على السارق من القطع إذ كان ذلك من القطع إذ كان ذلك من العلم المشهور المستفيض في الخاص والعام وقد أتى ما يجب على السارق من القطع إذ كان أتى الكتاب على بيانه فلم يضر ترك ذكره والسكوت عنه ههنا والله أعلم.
ومن باب المجنون يسرق أو يصيب حداً
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنه قال أتي عمر رضي الله عنه بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناساً فأمر بها عمر رضي الله عنه أن ترجم فمر بها على علي كرم الله وجهه، فقال ما شأن هذه فقالوا مجنونة بني فلان زنت فأمر بها أن ترجم، فقال ارجعوا بها ثم أتاه فقال يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل قال بلى قال فما بال هذه ترجم قال لا شيء قال فأرسلها قال فأرسلها قال فجعل يكبر.
قلت لم يأمر عمررضي الله عنه برجم مجنونه مطبق عليها في الجنون ولا يجوز أن يخفى هذا ولا على أحد ممن بحضرته، ولكن هذه امرأة كانت تجن مرة وتفيق أخرى فرأى عمر رضي الله عنه أن لا يسقط عنها الحد لما يصيبها من الجنون إذ كان الزنا منها في حال الإفاقة، ورأى علي كرم الله(3/309)
وجهه أن الجنون شبهة يدرأ بها الحد عمن يبتلي به والحدود تدرأ بالشبهات لعلها قد أصابت ما أصابت وهي في بقية من بلائها فوافق اجتهاد عمر رضي الله عنه اجتهاده في ذلك فدرأ عنها الحد والله أعلم بالصواب.
ومن باب الغلام يصيب الحد
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان حدثنا عبد الملك بن عمير حدثنا عطية القرظي قال كنت من سبي قريظة وكانوا ينظرون فيمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم ينبت.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه.
قلت اختلف أهل العلم في حد البلوغ الذي إذا بلغه الصبي أقيم عليه الحد، فقال الشافعي إذا احتلم الغلام أو بلغ خمس عشرة سنة فإن حكمه حكم البالغين(3/310)
في إقامة الحد عليه وكذلك الجارية إذا بلغت خمس عشرة سنة أوحاضت.
وأما الانبات فإنه لا يكون حداّ للبلوغ وإنما يفصل به بين أهل الشرك فيقتل مقاتليهم ويترك غير مقاتليهم بالإنبات.
وقال الأوزاعي وأحمد بن حنبل في بلوغ الغلام خمس عشرة سنة مثل قول الشافعي. وقال أحمد وإسحاق الإنبات بلوغ يقام به الحد على من أنبت.
وحكي مثل ذلك عن مالك بن أنس في الإنبات فاما في السن فإنه قال إذا احتلم الغلام أو بلغ من السن ما لا يتجاوزه غلام إلاّ احتلم فحكمه حكم الرجال ولم يجعل الخمس عشرة سنة حداً في ذلك.
وقال سفيان سمعنا أن الحلم أدناه أربع عشرة وأقصاه ثماني عشرة سنة فإذا جاءت الحدود أخذنا بأقصاها.
وذهب أبو حنيفة إلى أن حد البلوغ في استكمال ثماني عشرة سنة إلاّ أن يحتلم قبل ذلك، وفي الجارية استكمال سبع عشرة سنة إلاّ أن تحيض قبل ذلك.
قلت يشبه أن يكون المعنى عند من فرق بين أهل الإسلام وبين أهل الكفر حين جعل الإنبات في الكفار بلوغاً ولم يعتبره في المسلمين هو أن أهل الكفر لا يوقف على بلوغهم من جهة السن ولا يمكن الرجوع إلى قولهم لأنهم متهمون في ذلك لدفع القتل عن أنفسهم، فأما المسلمون وأولادهم فقد يمكن الوقوف على مقادير أسنانهم لأن أسنانهم محفوظة وأوقات المواليد فيهم مؤرخة.
ومن باب الرجل يسرق في الغزو أيقطع
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني حيوة عن عياش بن عباس القتباني عن شنم بن تبيان ويزيد بن صبح الأصبحي(3/311)
عن جنادة بن أبي أمية قال كنا مع بسر بن أرطأة في البحر فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بُختية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته.
قلت يشبه أن يكون هذا إنما سرق البختية في البر ورفعوه إليه في البحر فقال عند ذلك هذا القول.
وهذا الحديث إن ثبت فإنه يشبه أن يكون إنما أسقط عنه الحد لأنه لم يكن إماماً وإنما كان أميراً أو صاحب جيش وأمير الجيش لا يقيم الحدود في أرض الحرب على مذاهب بعض الفقهاء إلاّ أن يكون الإمام أو يكون أميراً واسع المملكة كصاحب العراق والشام أو مصر ونحوها من البلدان، فإنه يقيم الحدود في عسكره وهو قول أبي حنيفة.
وقال الأوزاعي لا يقطع أمير العسكر حتى يقفل من الدرب فإذا قفل قطع وأما أكثر الفقهاء فإنهم لا يفرقون بين أرض الحرب وغيرها، ويرون إقامة الحدود على من ارتكبها كما يرون وجوب الفرائض والعبادات عليهم في دار الإسلام والحرب سواء.
ومن باب الحجة في قطع النباش
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد، عَن أبي عمران عن المشعث بن طريف عن عبد الله بن الصامت، عَن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر قلت لبيك يا رسول الله وسعديك قال كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون فيه البيت بالوصيف، يَعني القبر، قلت الله ورسوله أعلم، قال أو ما خار الله لي ورسوله قال عليك بالصبر أو قال تصبر.(3/312)
قلت موضع استدلال أبي داود من الحديث أنه سمى القبر بيتاً والبيت حرز والسارق من الحرز مقطوع إذا بلغت سرقته مبلغ ما يقطع فيه اليد.
والوصيف العبد يريد أن الفضاء من الأرض يضيق عن القبور ويشتغل الناس بأنفسهم عن الحفر لموتاهم حتى تبلغ قيمة القبر قيمة العبد.
وقد اختلف الناس في قطع النباش فذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق إلى أنه يقطع إذا أخذ من القبر ما يكون فيه القطع؛ وبه قال أبو يوسف وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان.
وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري لا قطع عليه.
ومن باب إذا سرق أربع مرار
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي حدثنا جدي عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثانية، فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثالثة فقال اقتلوه قالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتي به الرابعة فقال اقتلوه قالوا يا رسول الله إنما سرق فقال اقطعوه فأتي به الخامسة فقال اقتلوه، قال جابر فانطلقنا به فقتلناه ثم ألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة.
قلت هذا في بعض إسناده مقال وقد عارض الحديث الصحيح الذي بإسناده(3/313)
وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس والسارق ليس بواحد من الثلاثة فالوقوف عن دمه واحب. ولا أعلم أحداً من الفقهاء يبيح دم السارق وإن تكررت منه السرقة مرة بعد أخرى إلاّ أنه قد يخرج على مذاهب بعض الفقهاء أن يبح دمه وهو أن يكون هذا من المفسدين في الأرض في أن للإمام أن يجتهد في تعزير المفسدين ويبلغ به ما رأى نن العقوبة وإن زاد على مقدار الحد وجاوزه وإن رأى القتل قتل.
ويعزى هذا الرأي إلى مالك بن أنس وهذا الحديث إن كان له أصل فهو يؤيد هذا الرأي؛ وقد يدل على ذلك من نفس الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتله لما جيء به أول مرة ثم كذا في الثانية والثالثة والرابعة إلى أن قتل في الخامسة فقد يحتمل أن يكون هذا رجلاً مشهوراً بالفساد مخبوراً بالشر معلوماً من أمره أنه سيعود إلى سوء فعله ولا ينتهي عنه حتى ينتهي خبره ويحتمل أن يكون ما فعله إن صح الحديث فإنما فعله بوحي من الله سبحانه واطلاع منه على ما سيكون منه فيكون معنى الحديث خاصا فيه والله أعلم.
وقد اختلف الناس في السارق إذا سرق مرة فقطعت يده اليمنى ثم سرق مرة فقطعت رجله اليسرى.
فقال مالك والشافعي وإسحاق بن راهويه إن سرق الثالثة قطعت يده اليسرى، وإن سرق الرابعة قطعت رجله اليمنى، وإن سرق بعد ذلك عزر وحبس وقد حكي مثال ذلك عن قتادة.
وقال الشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي وأحمد بن حنبل إذا(3/314)
سرق قطعت يده اليمنى فإن سرق الثانية قطعت رجله اليسرى فإن سرق الثالثة لم يقطع واستودع السجن.
وقد روي مثل ذلك عن علي كرم الله وجهه.
قال أبو داود: حدثنا موسى حدثنا أبو عَوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرق المملوك فبعه ولو بنش.
قلت النش وزن عشرين درهما هكذا يفسر.
وفيه دليل على أن السرقة عيب في المماليك يردون بها ولذلك وقع الحط من ثمنه والنقص من قيمته وليس في هذا الحديث دلالة على سقوط القطع عن المماليك إذا سرقوا من غير ساداتهم.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم.
وقال عامة الفقهاء يقطع العبد إذا سرق، وإنما قصد بالحديث إلى أن العبد السارق لا يمسك ولا يصحب ولكن يباع ويستبدل به من ليس بسارق.
وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه أن العبد لا يقطع إذا سرق وحكي مثل ذلك عن شريح وسائر الناس على خلافه.
ومن باب في الرجم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورمياً بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وسبي سنة.
قوله خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا إشارة إلى قوله سبحانه {أو يجعل الله(3/315)
لهن سبيلا} [النساء: 15] ثم فسر السبيل فقال الثيب بالثيب يريد إذا زنى الثيب بالثيب وكذلك قوله البكر بالبكر يريد إذا زنى البكر بالبكر.
واختلف العلماء في تنزيل هذا الكلام ووجه ترتيبه على الآية وهل هو ناسخ للآية أو مبين لها فذهب بعضهم إلى النسخ، وهذا على قول من يرى نسخ الكتاب بالسنة.
وقال آخرون بل هو مبين للحكم الموعود بيانه في الآية فكأنه قال عقوبتهن الحبس إلى أن يجعل الله لهن سبيلا فوقع الأمر بحبسهن إلى غاية فلما انتهت مدة الحبس وحان وقت مجيء السبيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا عني تفسير السبيل وبيانه ولم يكن ذلك ابتداء حكم منه، وإنما هو بيان أمر كان ذكر السبيل منطوياً عليه فأبان المبهم منه وفصل المجمل من لفظه فكان نسخ الكتاب بالكتاب لا بالسنة وهذا أصوب القولين والله أعلم.
وفي قوله جلد مائة ورمياً بالحجارة حجة لقول من رأى الجمع بين الحد والرجم على الثيب المحصن إذا زنى.
وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقد استعمل ذلك في بعض النزناة، وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإلى هذا ذهب الحسن البصري وبه قال إسحاق بن راهويه وهو قول داود وأهل الظاهر.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجم ولم يجلد، وإليه ذهب عامة الفقهاء ورأوا أن الجلد منسوخ بالرجم.
وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً ولم يجلده ورجم اليهوديين ولم يجلدهما،(3/316)
واحتج الشافعي في ذلك بحديث أبي هريرة في الرجل الذي استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابنه الذي زنى بامرأة الرجل، فقال له على ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى المرأة الرجم واغد يا أنيس على المرأة فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها.
قال فهذا الحديث آخر الأمرين لأن أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الإسلام ولم يعرض للجلد بذكر، وإنما هو الرجم فقط وكان فعله ناسخاً لقوله الأول.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن هشام بن سعد أخبرني يزيد بن نعيم بن هزال، قال كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي فأصاب جارية من الحي فقال له أبي ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج فأتاه فقال يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله فأعرض عنه، فعاد فقال يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله حتى قالها أربع مرات، قال صلى الله عليه وسلم إنك قد قلتها أربع مرات فبمن، قال بفلانة، قال هل ضاجعتها، قال نعم، قال هل جامعتها قال نعم، قال فأمر به فأخرج إلى الحرة، فلما رجم فوجد مس الحجارة فخرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرذلك له فقال هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه.
قلت اختلف أهل العلم في هذه الأقارير المكررة منه هل كانت شرطاً في صحة الأقارير بالزنى حتى لا يجب الحكم إلاّ بها، أم كانت زيادة في التبين والاستثبات لشبهة عرضت في أمره.(3/317)
فقال قوم هي شرط في صحة الإقرار لا يجب الحكم عليه بتكريره أربع مرات، وإليه ذهب الحكم بن عيينة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه واحتج من احتج منهم بقوله إنك قد قلتها أربع مرات، إلاّ أنهم اختلفوا فيه إذا كان كله في مجلس واحد.
فقال أبو حنيفة وأصحابه إقراره أربع مرات في مجلس واحد بمنزلة إقراره مرة وا حدة.
وقال ابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل إذا أقر أربع مرات في مجلس واحد رجم.
وقال مالك والشافعي وأبو ثور إذا أقر مرة واحدة رجم كما إذا أقر مرة واحدة بالقتل قتل وبالسرقة قطع.
وروي ذلك عن الحسن البصري وحماد بن أبي سليمان.
وذهب هؤلاء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رده مرة بعد أخرى للشبهة التي داخلته في أمره ولذلك سأل هل به جنة أوخبل وقال لهم استنكهوه أي لعله شرب ما أذهب عقله وجعل يستفسره الزنا فقال لعلك قبلت لعلك لمست إلى أن أقر بصريح الزنا فزالت عند ذلك الشبهة فأمر برجمه وإنما لزم الحكم عنده بإقراره في الرابعة لأن الكشف إنما وقع به ولم يتعلق بما قبله.
واستدلوا في ذلك بقول الجهينية لعلك تريد أن ترددني كما رددت ماعزاً فعلم أن الترديد لم يكن شرطاً في الحكم وإنما كان من أجل الشبهة.
قالوا وأما قوله قد قلتها أربع مرات فقد يحتمل أن يكون معناه أنك قلتها أربع مرات فتبينت عند إقرارك في الرابعة أنك صحيح العقل ليست بك آفة تمنع من قبول قولك فيكون معنى التكرار راجعاً إلى هذا.(3/318)
في قوله هلا تركتموه دليل على أن الرجل إذا أقر بالزنا رجع عنه دفع عنه الحد سواء وقع به الحد أو لم يقع. وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح والزهري وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأصحابه.
وكذلك قال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقال مالك بن أنس وابن أبي ليلى وأبو ثور لا يقبل رجوعه ولا يدفع عنه الحد وكذلك قال أهل الظاهر.
وروي ذلك عن الحسن البصري وسعيد بن جبير، وروي معنى ذلك عن جابر بن عبد الله.
وتأولوا قوله هلا تركتموه أي لينظر في أمره ويستثبت المعنى الذي هرب من أجله.
قالوا ولو كان القتل عنه ساقطاً لصار مقتولاً خطأ وكانت الدية على عواقلهم فلما لم تلزمهم ديته دل على أن قتله كان واجباً.
قلت وفي قوله هلا تركتموه على معنى المذهب الأول دليل على أنه لا شيء على من رمى كافراً فأسلم قبل أن يقع السهم، وكذلك المأذون له في قتل رجل قصاصاً فلما تنحى عنه عفا ولي الدم عنه.
وكذلك قال هؤلاء في شارب الخمر إذا قال كذبت فإنه يكف عنه.
وكذلك السارق إذا قال كذبت لم تقطع يده ولكن لا تسقط الغرامة عنه لأنها حق الآدمي.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن سماك عن جابر بن سمرة وذكر قصة ماعز ورجمه، قال ثم خطب النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ كلما سيرنا في سبيل الله(3/319)
خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة أما أن الله أن يمكني من أحدهم إلاّ نكلته.
معناه نكلته عليهن.
الكثبة القليل من اللبن، وقوله نكلته معناه ردعته بالعقوبة، منه والنكول في اليمين وهو أن يرتدع فلا يحلف يقال نكل يُنكل ونكل ينكَل لغتان.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة في قصة ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده أنه الآن لفي أنهار الجنة يتقمس فيها.
قوله يتقمس معناه ينغمس ويغوص فيها؛ والقاموس معظم الماء ومنه قاموس البحر.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ابك جنون قال لا قال أحصنت قال نعم فأمر به فرجم في المصلي فلما أذلقته الحجارة فر.
قوله أذلقته الحجارة معناه أصابته بحدها فعقرته وذلق كل شيء حده يقال أذلقت السنان إذا أرهفته، والذلاقة في اللسان خفته وسرعة مروره على الكلام، ويقال لسان ذلق طلق، والاذلاق أيضاً سرعة الرمي فيكون معناه على هذا أنه لما تتابع عليه وقع الحجارة وتناولته من كل وجه فر.
وفي قوله ابك جنون دليل على أنه قد ارتاب بأمره ولذلك كان ترديده إياه وترك الاقتصار به على إقراره الأول.(3/320)
وفيه دليل على أن المحصن يرجم ولا يجلد.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن يعلى بن الحارث حدثنا أبي عن غيلان عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استنكه ماعزاً.
قلت وفيه دلالة على أنه قد ارتاب بأمره وفيه حجة لمن لم ير طلاق السكران طلاقاً وهو قول مالك بن أنس والمزني.
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زريع عن داود، عَن أبي نضرة، عَن أبي سعيد وذكر القصة قال فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت.
قوله سكت يريد مات قال الشاعر عدي بن زيد:
ولقد شفى نفسي وأبرأ داءها …أخذ الرجال بحلقه حتى سكت
ومن باب رجم المرأة الجهنية
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم أن هشاماً الدستوائي حدثهم عن يحيى، عَن أبي قلابة، عَن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إنها زنت وهي حبلى فدعى النبي صلى الله عليه وسلم ولياً لها فقال له أحسن إليها فإذا وضعت فجىء بها فلما أن وضعت جاء بها فأمرالنبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت.
قوله شكت ثيابها أي شدت عليها لئلا تتجرد فتبدو عورتها.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى عن بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه أن امرأة، يَعني من غامد أتت النبي صلى الله عليه وسلم(3/321)
فقالت إني قد فجرت فقال ارجعي فرجعت، فلما كان الغد أتته فقالت لعلك إن ترددني كما رددت ماعز بن مالك فوالله أني لحبلى، فقال لها ارجعي فرجعت فلما كان الغد أتته فقال لها ارجعي حتى تلدي فرجعت فلما ولدت أتته بالصبي فقالت هذا قد ولدته قال ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين وأمر بها فحفر لها فرجمت.
قلت أما الحديث الأول الذي رواه عمران بن حصين ففيه أنه لم يستأن بها إلى أن ترضع ولدها ولكنه أمر برجمها حين وضعت.
وكذلك روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه فعل بشراحة رجمها لما وضعت حملها، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه تترك حتى تضع ما في بطنها ثم تترك حولين حتى تفطمه.
ويشبه أن يكون قد ذهبا إلى هذا الحديث، إلاّ أن إسناد الحديث الأول أجود وبشير بن المهاجر ليس بذاك.
وقال أحمد بن حنبل هو منكر الحديث وقال في أحاديث ماعز كلها إن ترديده إنما كان في مجلس واحد إلاّ ذلك الشيخ بشير بن مهاجر وذلك عندي منكر الحديث.
قلت قد ذكر في هذا الحديث أنه قد حفر لها وقد اختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا يحفر للرجل ويحفر للمرأة وهو قول أبي يوسف وأبي ثور.
وقال قتادة يحفر للرجل والمرأة جميعاً. وقال أحمد أكثر الأحاديث أن(3/322)
لا يحفر له وقد قيل يحفرله.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عَن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما أخبراه أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله اقضى بيننا بكتاب الله، وقال الآخر وكان أفقههما أجل يا رسول الله فاقضى بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم قال تكلم، قال إن ابني كان عسيفاً على هذا، والعسيف الأجير فزنا بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وجارية ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وإنما الرجم على امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل أما غنمك وجاريتك فرد عليك وجلد ابنه مائة وغربه عاماً وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي بامرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها.
قوله والله لأقضين بينكما بكتاب الله يتأول على وجوه أحدها أن يكون معنى الكتاب الفرض والايجاب يقول لأقضين بينكما بما فرضه الله وأوجبه إذ ليس في كتاب الله ذكر الرجم منصوصا متلوا كذكر الجلد والقطع والقتل في الحدود والقصاص.
وقد جاء في الكتاب بمعنى الفرض كقوله عز وجل {كتاب الله عليكم} النساء: 24] وكقوله {كتب عليكم القصاص} [البقرة: 178] أي فرض، وقال عز وجل {وكتبنا عليهم فيها} [المائدة: 45] أي فرضنا وأوجبنا.
ووجه آخر وهو أن ذكر الرجم وإن لم يكن منصوصاً عليه باسمه الخاص(3/323)
فانه مذكور في الكتاب على سبيل الإجمال والإبهام ولفظ التلاوة منطو عليه وهو قوله {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16] والأذى يتسع في معناه للرجم ولغيره من العقوبة.
وقد قيل إن هذه الآية لما نسخت سقط الاستدلال بها وبمعناها.
وفيه وجه آخر وهو أن الأصل في ذلك قوله {أو يجعل الله لهن سبيلا} النساء: 15] فضمن الكتاب أن يكون لهن سبيل فيما بعد ثم جاء بيانه في السنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
ووجه رابع وهو ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال قرأناها فيما أنزل الله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وهو ما رفعت تلاوته وبقي حكمه والله أعلم.
وفي الحديث من الفقه أن الرجم إنما يجب على المحصن دون من لم يحصن.
وفيه دليل على أن للحاكم أن يبدأ باستماع كلام أي الخصمين شاء.
وفيه أن البيع الفاسد والصلح الفاسد وما جرى مجراهما من العقود منتقض وأن ما أخذ عليها مردود إلى صاحبه.
وفيه أنه لم ينكر عليه قوله فسألت أهل العلم ولم يعب الفتوى عليهم في زمانه وهو مقيم بين ظهرانيهم.
وفيه إثبات النفي على الزاني والتغريب له سنة وهو قول عامة العلماء من السلف وأكثر الخلف وإنما لم ير التغريب منهم أبو حنيفة ومحمد بن الحسن.
وفيه أنه لم يجمع على المحصن الرجم والجلد.(3/324)
وفيه أنه لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مستفتياً عن ابنه مخبراً عنه إن زنا بامرأته لم يجعله قاذفاً لها.
وفيه أنه لم يوقع الفرقة بالزنا بينها وبين زوجها.
وفيه أنه لم يشترط عليها في الاعتراف بالزنا التكرار وإنما علق الحكم بوجود الاعتراف حسب.
وفيه دليل على جواز الوكالة في إقامة الحدود وقد اختلف العلماء فيها.
وفيه دليل على أنه لا يجب على الإمام حضور المرجوم بنفسه.
وفيه إثبات الإجارة والحديث فيها قليل وقد أبطلها قوم لأنها زعموا ليست بعين مرئية ولا صفة معلومة.
وفي الحديث دليل على قبول خبر الواحد.
ومن باب رجم اليهود
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال قرأت على مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الزناة فقالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فجعل أحدهم يده على آية الرجم ثم جعل يقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفعها فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله فرجما قال ابن عمر رضي الله عنه فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة.
قلت هكذا قال يجنأ والمحفوط يحنا أي يكب عليها، يقال حنا الرجل(3/325)
يحنا حنوا إذا أكب على الشيء قال كثير:
أعزة لو شهدت غداة بنتم ... حنوء العائدات على وسادي
فيه من الفقه ثبوت أنكحة أهل الكتاب وإذا ثبتت أنكحتهم ثبت طلاقهم وظهارهم وإيلاؤهم.
وفيه دليل على أن نكاح أهل الكتاب يوجب التحصين إذ لا رجم إلاّ على المحصن. ولو أن مسلماً تزوج يهودية أو نصرانية ودخل بها ثم زنا كان عليه الرجم وهو قول الزهري، وإليه ذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه الكتابية لا تحصن المسلم وتأول بعضهم معنى الحديث على أنه إنما رجمهما بحكم التوراة ولم يحملهما على أحكام الإسلام وشرائطه.
قلت وهذا تأويل غير صحيح لأن الله سبحانه يقول {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] وإنما جاءه القوم مستفتين طمعاً في أن يرخص لهم في ترك الرجم ليعطلوا به حكم التوراة فأشار عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كتموه من حكم التوراة ثم حكم عليهم بحكم الإسلام على شرائطه الواجبة فيه.
وليس يخلو الأمر فيما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك عن أن يكون موافقاً لحكم الإسلام أو مخالفا له فإن كان مخالفاً فلا يجوز أن يحكم بالمنسوخ ويترك الناسخ.
وإن كان موافقاً له فهو شريعته والحكم الموافق لشريعته لا يجوز أن يكون مضافاً إلى غيره ولا أن يكون فيه تابعاً لمن سواه.
وفيه دليل على أن المرجوم لا يشد ولا يربط ولو كان مربوطاً لم يمكنه أن يحنا عليها ويقيها الحجارة.(3/326)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثنا يونس قال: قال محمد بن مسلم سمعت رجل من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ونحن عند ابن المسيب، عَن أبي هريرة، قال زنا رجل من اليهود وامرأة فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله عز وجل قلنا فتيا نبي من أنبيائك قال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المجلس في أصحابه فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زني إذا أحصن قالوا يحمم ويُجبَّه ويجلد والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار فيقابل أقفيتهما ويطاف بهما قال وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت الظّ به النشدة فقال اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم قال النبي صلى الله عليه وسلم فما أول ما ارتخصتم في أمر الله قال زنا ذو قرابة من ملك ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنا رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه فقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم فإني أحكم بما في التوراة ثم أمر بهما فرجمهما.
التحميم تسويد الوجه بالحمم والتجبية مفسر في الحديث ويشبه أن يكون أصله الهمز وهو يجبأ من التجبئة وهو الردع والزجر، يقال جبأته فجبأ أي ارتدع فقلبت الهمزة هاء، والتجبية أيضاً أن تنكس رأسه فيحتمل أن يكون المحمول على الحمار إذا فعل ذلك به نكس رأسه فسمي ذلك الفعل تجبية.
وقد يحتمل أيضاً أن يكون ذلك من الجبه وهو الاستقبال بالمكروه،(3/327)
وأصل الجبه إصابة الجبهة يقال جبهت الرجل إذا أصبت جبهته كما تقول رأسته أصبت رأسه.
وقوله ألظّ به النشدة معناه القسم وألح عليه في ذلك ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ألظوا بيا ذا
الجلال والإكرام أي سلوا الله بهذه الكلمة وواظبوا على المسألة بها.
والأسرة عشيرة الرجل وأهل بيته.
وفي قوله فإني أحكم بما في التوراة حجة لمن قال يقول أبي حنيفة إلاّ أن الحديث عن رجل لا يعرف، وقد يحتمل أن يكون معناه أحكم بما في التوراة احتجاجاً به عليهم وإنما حكم بما كان في دينه وشريعته فذكره التوراة لا يكون علة للحكم.
ومن باب الرجل يزني بحريمه
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا خالد بن عبد الله حدثنا مطرف، عَن أبي الجهم عن البراء بن عازب قال بينما أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلاً فضربوا عنقه فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه.
قوله أعرس كناية عن النكاح والبناء على الأهل وحقيقته الإلمام بالعرس. وفيه بيان أن نكاح ذوات المحارم بمنزلة الزنى وأن اسم العقد فيه لا يسقط الحد.
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن قسيط الرقي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن أبيه قال لقيت عمي ومعه راية فقلت أين تريد قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.(3/328)
قلت وفي هذا التصريح بذكر النكاح وظاهره العقد وقد تأوله بعضهم على الوطء بلا عقد، وهذا تأويل فاسد ويدل على ذلك ما حدثنا أحمد بن هشام الحضرمي حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي حدثنا حفص بن غياث عن أشعث بن سواد عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال مر بي خالى ومعه لواء فقلت أين تذهب فقال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه.
قلت فهذا جاء بلفظ التزويج كما ترى. ومن ادعى أن هذا النكاح شبهة فسقط من أجلها الحد فقد أبعد لأن الشبهة إنما تكون في أمر يشبه الحلال من بعض الوجوه وذوات المحارم لا تحل بوجه من الوجوه ولا في حال من الأحوال، وإنما هو زنا محض وإن لقب بالنكاح كمن استأجر أمة فزنى بها فهو زنا وإن لقب باسم الاجارة ولم يكن ذلك مسقطاً عنه الحد وإن كانت المنافع قد تستباح بالإجارات.
وزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بقتله لاستحلال نكاح امرأة أبيه، وكان ذلك مذهب أهل الجاهلية كان الرجل منهم يرى أنه أولى بامرأة أبيه من الأجنبي فيرثها كما يرث ماله وفاعل هذا على الاستباحة له مرتد عن الدين فكان هذا جزاؤه القتل لردته.
قلت وهذا تأويل فاسد ولو جاز أن يتأول ذلك في قتله لجاز أن يتأول مثله في رجم من رجمه صلى الله عليه وسلم من الزناة فيقال إنما قتله بالرجم لاستحلال الزنا وقد كان أهل الجاهلية يستحلون الزنا فلا يجب على من زنى الرجم حتى يعتقد هذا الرأي وهذا ما لا خفاء بفساده وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لزناه ولتخطيه الحرمة في أمه.(3/329)
وقد أوجب بعض الأئمة تغليظ الدية على من قتل ذا محرم، وكذلك أوجبوا على من قتل في الحرم فألزموه دية وثلثاً وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه أتي بشارب في رمضان فضربه حد السكر وزاده عشرين لارتكابه ما حرم الله عليه في ذلك الشهر.
وقد اختلف العلماء فيمن نكح ذات محرم فقال الحسن البصري عليه الحد وهو قول مالك بن أنس والشافعي.
وقال أحمد بن حنبل يقتل ويؤخذ ماله، وكذلك قال إسحاق على ظاهر الحديث وقال سفيان يدرأ عنه الحد إذا كان التزويج بشهود.
وقال أبو حنيفة يعزر ولا يحد.
وقال صاحباه أما نحن فنرى عليه الحد إذا فعل ذلك متعمداً.
ومن باب الرجل يزني بجارية امرأته
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة عن خالد بن عرفطة عن حبيب بن سالم أن رجلاً يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت احلتها لك جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة فوجدوه أحلتها له فجلدوه مائة، قال قتادة كتبت إلى حبيب بن سالم فكتب إليَّ بهذا.
قلت هذا الحديث غير متصل وليس العمل عليه.
قال أبو عيسى سألت محمد بن إسماعيل عنه فقال أنا أنفي هذا الحديث.
وقد روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما إيجاب الرجم(3/330)
على من وطىء جارية امرأته، وبه قال عطاء بن أبي رباح وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال الزهري والأوزاعي يجلد ولا يرجم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه فيمن أقر أنه زني بجارية امرأته يحد وإن قال ظننت أنها تحل لي لم يحده.
وعن الثوري أنه قال إذا كان يعرف بالجهالة يعزر ولا يحد، وقال بعض أهل العلم في تخريج هذا الحديث أن المرأة إذا أحلتها له فقد أوقع ذلك شبهة في الوطء فدرىء عنه الرجم، وإذا درأنا عنه حد الرجم وجب عليه التعزير لما أتاه من المحظور الذي لا يكاد يعذر بجهله أحد نشأ في الإسلام أو عرف شيئا من أحكام الدين فزيد في عدد التعزير حتى بلغ به حد الزنا للبكر ردعاً له وتنكيلاً.
وكأنه نحا في هذا التأويل نحو مذاهب مالك فإنه يرى للإمام أن يبلغ بالتعزير مبلغ الحد وإن رأى أن يزيد عليه فعل.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها وإن طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها.
قلت هذا حديث منكر وقبيصة بن حريث غير معروف والحجة لا تقوم بمثله، وكان الحسن لا يبالي أن يروي الحديث ممن سمع.
وقد روي عن الأشعث صاحب الحسن أنه قال بلغني أن هذا كان قبل الحدود.
قلت لا أعلم أحداً من الفقهاء يقول به، وفيه أمور تخالف الأصول.(3/331)
منها إيجاب المثل في الحيوان ومنها استجلاب الملك بالزنا.
ومنها إسقاط الحد عن البدن وايجاب العقوبة في المال.
وهذه كلها أمور منكرة لا تخرج على مذهب أحد من الفقهاء وخليق أن يكون الحديث منسوخاً إن كان له أصل في الرواية والله أعلم.
ومن باب من عمل عمل قوم لوط
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به.
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن خثيم قال سمعت سعيد بن جبير ومجاهد يحدثان عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه في البكر يوجد على اللوطية قال يرجم.
قلت في هذا الصنع هذه العقوبة العظيمة وكأن معنى الفقهاء فيه أن الله سبحانه أمطر الحجارة على قوم لوط فقتلهم بها ورتبوا القتل المأمور به على معاني ما جاء فيه في أحكام الشريعة فقالوا يقتل بالحجارة رجماً إن كان محصناً ويجلد مائة إن كان بكراً ولا يقتل.
وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والنخعي والحسن وقتادة وهو أظهر قولي الشافعي.
وحكي ذلك أيضاً، عَن أبي يوسف ومحمد.
وقال الأوزاعي حكمه حكم الزاني، وقال مالك بن أنس وإسحاق بن راهويه يرجم إن أحصن أو لم يحصن وروى ذلك عن الشعبي.(3/332)
وقال أبو حنيفة يعزر ولا يحد وذلك أن هذا الفعل ليس عندهم زنا.
وقال بعض أهل الظاهر لا شيء على من فعل هذا الصنيع.
قلت وهذا أبعد الأقاويل من الصواب وأدعاها إلى إغراء الفجار به وتهوين ذلك بأعينهم وهو قول مرغوب عنه.
ومن باب فيمن أتى بهيمة
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثني عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتي بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه، قال قلت ما شأن البهيمة قال ما أراه قال ذلك إلاّ أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس أن شريكاً وأبا الأحوص وأبا بكر بن عياش حدثوهم عن عاصم عن ابن رزين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ليس على الذي يأتي بهيمة حد.
قال أبو داود وحديث عاصم يضعف حديث عمرو بن أبي عمرو.
قلت يريد أن ابن عباس لو كان عنده في هذا الباب حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالفه.
وقال يحيى بن معين عمرو بن أبي عمرو ليس به بأس وليس بالقوي.
وقال محمد بن إسماعيل عمرو صدوق ولكن روى عن عكرمة مناكير ولم يذكر في شيء عمن حديثه أنه سمع من عكرمة.
قلت وقد عارض هذا الحديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلاّ لمأكلة.
وقد اختلف العلماء فيمن أتي هذا الفعل فقال إسحاق بن راهويه يقتل إذا تعمد ذلك(3/333)
وهو يعلم ما جاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن درأ عنه إمام القتل فلا ينبغي أن يدرأ عنه جلد مائة تشبيهاً بالزنا.
وروي عن الحسن أنه قال يرجم إن كان محصناً ويجلد إن كان بكراً.
وقال الزهري يجلد مائة أحصن أو لم يحصن.
وقال أكثر الفقهاء يعزر وكذلك قال عطاء والنخعي وبه قال مالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي الشافعي وقوله الآخر إن حكمه حكم الزاني.
ومن باب الأمة تزني ولم تحصن
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عَن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير، قال ابن شهاب لا أدري في الثالثة أو الرابعة والضفير الحبل.
فيه من الفقه وجوب إقامة الحد على المماليك إلاّ أن حدودهم على النصف من حدود الأحرار اقوله تعالى {فلهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] .
ولا يرجم المماليك وإن كانوا ذوي أزواج لأن الرجم لا يتنصف فعلم أنهم لم بدخلوا في الخطاب ولم يعنوا بهذا الحكم.
وأما قوله إذا زنت ولم تحصن فقد اختلف الناس في هذه اللفظة فقال بعضهم إنها غير محفوظة.
وقد روي هذا الحديث من طريق غير هذا ليس فيه ذكر الإحصان.
وقال بعضهم إنما هو مسألة عن أمة زنت ولا زوج لها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تجلد أي(3/334)
كما تجلد ذوات الزوج وإنما هو اتفلق حال في المسؤول عنه وليس بشرط يتعلق به في الحكم فيختلف من أجل وجوده وعدمه.
وقد اختلف الناس في المملوكة إذا زنت ولا زوج لها، فروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لا حد عليها حتى تحصن وكذلك قال طاوس.
وقرأ ابن عباس {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] وقرأها أحصن بضم الألف.
وقال أكثر الفقهاء تجلد وإن لم تتزوج ومعنى الإحصان فيهن الإسلام.
وقرأها عاصم والأعمش وحمزة والكسائي أحصن مفتوحة الألف بمعنى أسلمن. والضفير الحبل المفتول.
وفيه دليل على أن الزنا عيب في الرقيق يرد به ولذلك حط من القيمة وهضم من الثمن.
وفيه دليل على جواز بيع غير المحجورعليه ماله بما لا يتغابن به الناس.
قال أبو داود: حدثنا ابن نفيل حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، وقال إن زنت فليضربها كتاب الله ولا يثرّب عليها.
معنى التثريب التعيير والتبكيت يقول لا يقتصر على أن يبكتها بفعلها أو يسبها ويعطل الحد الواجب عليها.
وفيه دليل على أن للسيد أن يقيم الحد على مملوكه دون السلطان.
وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما والحسن البصري والزهري، وبه قال سفيان الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي.(3/335)
وقال أبو حنيفة وأصحابه يرفعها إلى السلطان ولا يتولى إقامة الحد عليها.
في قوله فليضربها كتاب الله دليل على أن الضرب المأمور به هو تمام الحد المذكور في الكتاب الذي هو عقوبة الزاني دون ضرب التعزير والتأديب.
وقال أبو ثور في هذا الحديث إيجاب الحد وإيجاب للبيع أيضاً لا يمسكها إذا زنت أربعاً.
ومن باب إقامة الحد على المريض
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو أمامة عن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضني فعاد جلدة على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية دخلت علي فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلاّ جلد على عظم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة.
قوله أضني معناه أصابه الضنى وهو شدة المرض وسوء الحال حتى ينحل بدنه ويهزل، ويقال إن النضى انتكاس العلة.
وفيه من الفقه أن المريض إذا كان ميؤوساً منه ومن معاودة الصحة والقوة إياه وقد وجب عليه الحد فإنه يتناول بالضرب الخفيف الذي لا يهده.
وممن قال من العلماء بظاهر هذا الحديث الشافعي، وقال إذا ضربه ضربة واحدة بما يجمع له من الشماريخ فعلم أن قد وصلت كلها إليه ووقعت به أجزأه ذلك.(3/336)
وكان بعض أصحاب الشافعي يقول إذا كان السارق ضعيف البدن فخيف عليه من القطع التلف لم يقطع.
وقال بعضهم هذا الحديث أصل في وجوب القصاص على من قتل رجلاً مريضا بنوع من الضرب لو ضرب بمثله صحيحاً لم يهلك فإنه يعتبر خلقة المقتول في الضعف والقوة وبنيته في احتمال الألم فإن من الناس من لو ضرب الضرب المبرح الشديد لاحتمله بدنه وسلم عليه، ومنهم من لا يحتمله ويسرع إليه التلف بالضرب الذي ليس بالمبرح الشديد فإذا مات هذا الضعيف كان ضاربه قاتلاً له وكان حكم الآخر بخلافه لقوة هذا وضعف ذلك.
قلت وهذا قول فيه نظر وضبط ذلك غير ممكن واعتباره متعذر والله أعلم.
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه لا نعرف الحد إلاّ حداً واحداً الصحيح والزمن فيه سواء.
قالوا ولو جاز هذا لجاز مثله في الحامل أن تضرب بشماريخ النخل ونحوه، فلما أجمعوا أنه لا يجري ذلك في الحامل كان الزمن مثل ذلك.
ومن باب الحد في الخمر
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن على ومحمد بن المثنى وهذا حديثه قالا: حَدَّثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن محمد بن علي بن ركانة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَقِت في الخمر حداً.
وقال ابن عباس شرب رجل فسكر فلقي يميل في الفج فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى بدار العباس رضي الله عنه انفلت فدخل على العباس فالتزمه فذكر(3/337)
ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال أفعلها ولم يأمر فيه بشيء.
قلت في هذا دليل على أن حد الخمر أخف الحدود وإن كان الخطب فيه أيسر منه في سائر الفواحش.
وقد يحتمل أن يكون إنما لم يتعرض له بعد دخوله دار العباس رضي الله عنه من أجل أنه لم يكن ثبت عليه الحد بإقرار منه أو شهادة عدول، وإنما لقي في الفج يميل فظن به السكر فلم يكشف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه على ذلك والله أعلم.
والفج الطريق. وقوله لم يقت أي لم يوقت يقال وقت يقت ومنه قول الله تعالى {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا} [النساء: 103] .
قال أبو داود: حدثنا مسدد وموسى بن إسماعيل المعنى قالا: حَدَّثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج حدثني حضين بن المنذر الرقاشي هو أبو ساسان قال شهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأتي بالوليد بن عتبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أحدهما أنه رآه يشربها، يَعني الخمر، وشهد الآخر أن رآه يتقاياها، قال عثمان رضي الله عنه أنه لم يتقاياها حتى شربها وقال لعلي كرم الله وجهه أقم عليه الحد فقال علي للحسين رضي الله عنهما أقم عليه الحد فقال الحسن رضي الله عنه ولِّ حارَّها من تولى قارَّها، فقال علي كرم الله وجهه لعبد الله بن جعفر أقم عليه الحد فأخذ السوط فجلده وعليّ يعد فلما بلغ أربعين قال حسبك جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين وجلد عمر رضي الله عنه ثمانين وكلٌ سنة وهذا أحب إليَّ منه.
قوله ول حارها من تولى قارها مَثَل أي ول العقوبة والضرب من توليه العمل والنفع. والقار البارد.(3/338)
وقال الأصمعي معناه ولِّ شديدها من تولى هينها وكلاهما قريب.
وفي قول علي رضي الله عنه عند الأربعين حسبك دليل على أن أصل الحد في الخمر إنما هو أربعون وما وراءها تعزير. وللإمام أن يزيد في العقوية إذا أداه اجتهاده إلى ذلك، ولو كانت الثمانون حداً ما كان لأحد فيه الخيار، وإلى هذا ذهب الشافعي.
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه الحد في الخمر ثمانون ولا خيار للإمام فيه.
وقوله وكل سنة يريد أن الأربعين سنة قد عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه، والثمانون سنة رآها عمر رضي الله عنه ووافقه من الصحابة علي فصارت سنة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان عن عاصم، عَن أبي صالح عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إن شربوا فاجلدوهم ثم إن شربوا فاجلدوهم ثم إن شربوا فاقتلوهم.
قلت قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل فإنما يقصد به الردع والتحذير كقوله صلى الله عليه وسلم من قتل عبده قتلناه ومن جذع عبده جذعناه وهو لو قتل عبده لم يقتل به في قول عامة العلماء، وكذلك لو جذعه لم يجذع له بالاتفاق.
وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبا ثم نسخ لحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل. وقد روي عن قبيصة بن ذؤيب ما يدل على ذلك.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا سفيان حدثنا الزهري أخبرنا قبيصة بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه فأتي برجل قد شرب فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي فجلده ورفع القتل وكانت رخصة.(3/339)
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد أن ابن شهاب حدثه عن عبد الرحمن بن أزهر قال كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن وهو في الرحال يلتمس رحل خالد بن الوليد فبينما هو كذلك إذ أتي برجل قد شرب الخمر فقال للناس اضربوه فمنهم من ضربه بالنعال ومنهم من ضربه بالعصا ومنهم من ضربه بالميتخة. قال ابن وهب الجريدة الرطبة.
قلت هكذا قال الميتخة الياء قبل التاء وهي اسم للعصا الخفيفة وهي أيضاً المتيخة التاء المعجمة من فوق قبل الياء وسميت متيخة لأنها تتوخ أي تأخذ في المضروب من قولك تاخت أصبعي في الطين.
ومن باب في التعزير
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله الأشج عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عَن أبي بردة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يجلد فوق عشر جلدات إلاّ في حد من حدود الله.
قلت قد اختلفت أقاويل العلماء في مقدار التعزير ويشبه أن يكون السبب في اختلاف مقاديره عندهم ما رواه من اختلاف مقادير الجنايات والأجرام فزادوا في الأدب ونقصوا منه على حسب ذلك.
وكان أحمد بن حنبل يقول للرجل أن يضرب عبده على ترك الصلاة وعلى المعصية فلا يضرب فوق عشر جلدات، وكذلك قال إسحاق بن راهويه.
وكان الشعبي يقول التعزير ما بين سوط إلى ثلاثين.
وقال الشافعي لا يبلغ بعقوبته أربعين وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن.(3/340)
وقال أبو يوسف التعزير على قدر عظم الذنب وصغره على قدر ما يرى الحاكم من احتمال المضروب فيما بينه وبين أقل من ثمانين.
وعن ابن أبي ليلى إلى خمسة وسبعين سوطاً.
وقال مالك بن أنس التعزير على قدر الجرم فإن كان جرمه أعظم من القذف ضرب مائة أو أكثر.
وقال أبو ثور التعزير على قدر الجناية وتسرع الفاعل في الشر وعلى ما يكون أنكل وأبلغ في الأدب وإن جاوز التعزير الحد إذا كان الجرم عظيماً مثل أن يقتل الرجل عبده أو يقطع منه شيئا أو يعاقبه عقوبة يسرف فيها فيكون العقوبة فيه على قدر ذلك وما يراه الإمام إذا كان مأموناً عدلاً.
وقال بعضهم لا يبلغ بالأدب عشرين لأنها أقل الحدود وذلك أن العبد يضرب في شرب الخمر عشرون.
وقد تأول بعض أصحاب الشافعي قوله في جواز الزيادة على الجلدات العشر إلى ما دون الأربعين أنها لا تزداد بالأسواط ولكن بالأيدي والنعال والثياب ونحوها على ما يراه الإمام كما روي فيه حديث عبد الرحمن بن الأزهر.
قلت التعزير على مذاهب أكثر الفقهاء إنما هو أدب يقصر على مقدار أقل الحدود إذا كانت الجناية الموجبة للتعزير قاصرة عن مبلغ الجناية الموجبة للحد كما أن أرش الجناية الواقعة في العضو أبداً قاصر عن كمال ذلك العضو وذلك أن العضو إذا كان في كله شيء معلوم فوقعت الجناية على بعضه كان معقولاً أنه لا يستحق فيه كل ما في العضو.(3/341)
الجزء الرابع
****************
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الديات
ومن باب الإمام يأمر بالعفو في الدم
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي حدثنا يحيى بن سعيد عن عوف حدثنا حمزة أبو عمر العائذي حدثني علقمة بن وائل حدثني وائل بن حجر قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جيء برجل قاتل في عنقه النِّسعة قال فدعا ولي المقتول، فقال أتعفو، قال لا، فتأخذ الدية قال لا، قال افتقتل، قال نعم، قال اذهب به فلما كان في الرابعة قال أما إنك إن عفوت عنه يبوء بإثمه واثم صاحبه قال فعفا عنه قال وانا رأيته يجر النِّسعة.
قلت فيه من الفقه أن الولي مخير بين القصاص أو أخذ الدية.
وفيه دليل على أن دية العمد تجب حالة في مال الجاني.
وفيه دليل على أن للإمام أن يتشفع إلى ولي الدم في العفو بعد وجوب القصاص.
وفيه إباحة الاستيثاق بالشد والرباط ممن يجب عليه القصاص إذا خشي انفلاته وذهابه.
وفيه جواز قبول إقرار من جيء به في حبل أو رباط.
وفيه دليل على أن القاتل إذا عفا عنه لم يلزمه التعزير.(4/2)
وحكي عن مالك بن أنس أنه قال يضرب بعد العفو مائة ويحبس سنة.
وقوله فإنه يبوء باثمه واثم صاحبه، معناه أنه يتحمل إثمه في قتل صاحبه فأضاف الإثم إلى صاحبه إذ صار بكونه محلاً للقتل سبباً لإثمه، وهذا كقوله سبحانه {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27] فأضاف الرسول إليهم وإنما هو في الحقيقة رسول الله عز وجل أرسله إليهم.
وأما الإثم المذكور ثانيا فهو إثمه فيما قارفه من الذنوب التي بينه وبين الله عز وجل سوى الإثم الذي قارفه من القتل فهو يبوء به إذا أعفي عن القتل ولو قل لكان القتل كفارة والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف حدثنا عبد القدوس بن الحجاج حدثنا يزيد بن عطاء الواسطي عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحبشي فقال إن هذا قتل ابن أخي قال فكيف قتلته قال ضربت رأسه بالفأس ولم أرد قتله، قال هل لك مال تؤدي ديته قال لا، قال أفرأيت إن أرسلتك تسأل الناس تجمع ديته، قال لا، قال فمواليك يعطونك ديته، قال لا قال للرجل خذه فخرج به ليقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه إن قتله كان مثله فبلغ الرجل قوله فقال هو ذا فمر به ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله قال مرة دعه يبوء بإثم صاحبه وإثمه فيكون من أصحاب النار قال فأرسله.
قال الشيخ قول أما أنه إن قتله كان مثله يحتمل وجهين.
أحدهما أنه لم ير لصاحب الدم أن يقتله لأنه ادعى أن قتله كان خطأ أو كان شبه العمد فأورث ذلك شبهة في وجوب القتل.
والوجه الآخر أن يكون معناه أنه إذا قتله كان مثله في حكم البواء فصارا(4/3)
متساويين لا فضل للمقتص إذا استوفى حقه على المقتص منه.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بيان حدثني ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه سمع زياد بن سعد بن ضميرة السلمى يحدث عن عروة بن الزبير عن أبيه أن محلِّم بن جثامة الليثي قتل رجلاً من أشجع في الإسلام وذلك أول غِيَرٍ قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم عيينة في قتل الأشجعي لأنه من غطفان، وتكلم الأقرع بن حابس دون محلم لأنه من خندف، قال فارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عيينة ألا تقبل الغير، قال عيينة لا والله حتى أدخل على نسائه الحرب والحزن ما أدخل على نسائي ثم ارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عيينة ألا تقبل الغير فقال عيينة مثل ذلك أيضاً إلى أن قام رجل من بني ليث يقال له مُكيتل عليه شِكة وفي يده دَرِقة، فقال يا رسول الله إني لا أجد لما فعل هذا في غرة الإسلام مثلاً إلاّ غنماً وردت فرُمي أولها فنفر آخرها اسنن اليوم وغير غداً وذكر باقي الحديث.
الغير الدية والشكة السلاح وغرة الإسلام أوله.
وقوله اسنن اليوم وغير غداً مثل يقول إن لم تقتص منه اليوم لم تثبت سننك غداً ولم ينفذ حكمك بعدك وإن لم تفعل ذلك وجد القائل سبيلاً إلى أن يقول مثل هذا القول، أعني قوله اسنن اليوم وغير غداً فتتغير لذلك سنتك وتتبدل أحكامها.
وفيه دليل على أن ولي الدم مخير بين القصاص وأخذ الدية وأن للإمام أن يطلب إلى ولي الدم في العفوعن القود على أخذ الدية.(4/4)
ومن باب ولي العبد يرضى بالدية
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن أبي ذئب حدثني سعيد بن أبي سعيد قال سمعت أبا شريح الكعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أنكم معشر خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن يَقتلوا.
قلت وفيه بيان أن الخيار إلى ولي الدم في القصاص وأخذ الدية وأن القاتل إذا قال لا أعطيكم المال فاستقيدوا مني واختار أولياء الدم المال كان لهم مطالبته به.
ولو قتله جماعة كان لولي الدم أن يقتل منهم من شاء ويطالب بالدية من شاء وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنه وهو قول سعيد بن المسيب والشعبي وابن سيرين وعطاء وقتادة.
وقال الحسن والنخعي ليس لأولياء الدم إلاّ الدم إلاّ أن يشاء القاتل أن يعطي الدية.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ليس له إلاّ القود فإن عفا فلا يثبت له المال إلاّ برضا القاتل.
وكذلك قال مالك بن أنس. وفي قوله فأهله بين خيرتين دليل على أن الدية مستحقة لأهله كلهم ويدخل في ذلك الرجال والنساء والزوجات لأنهم جميعاً أهله.(4/5)
وفيه دليل على أن بعضهم إذا كان غائباً أو طفلاً لم يكن للباقين القصاص حتى يبلغ الطفل ويقدم الغائب لأن من كان له خيار في أمر لم يجز أن يفتات عليه قبل أن يختار لأن في ذلك إبطال خياره، وإلى هذا ذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال مالك وأبو حنيفة للكبار أن يستوفوا حقوقهم في القود ولا ينتظر بلوغ الصغار.
وفيه دليل على أن القاتل إذا مات فتعذر القود فإن للأولياء أن يأخذوا الدية من ورثته وذلك لأنهم خيروا بين أن يعلقوا حقوقهم في الرقبة أو الذمة فمهما فات أحد الأمرين كان لهم استيفاء الحق من الآخر.
وقال أبو حنيفة إذا مات فلا شيء لهم لأن حقهم إنما كان في الرقبة وقد فاتت فلا سبيل لهم على ورثته فيما صار من ملكه إليهم.
ومن باب فيمن سقى رجلاً سَمّاً
أو أطعمه شيئاً فمات
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال كان جابر بن عبد الله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعوا أيديكم وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فدعاها فقال لها سممت هذه الشاة، قالت اليهودية من أخبرك، قال أخبرتني هذه الذراع، قالت نعم، قال فما أردت إلى ذلك، قالت قلت إن كان نبياً فلن يضره، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فعفا عنها(4/6)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجله.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة وذكر نحو حديث جابر وقال فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت ولم يذكر أمرالحجامة.
قال الشيخ قوله مصلية هي المشوية بالصلأ.
وقد اختلف الناس فيما يجب على من جعل في طعام رجل سماً فأكله فمات فقال مالك بن أنس عليه القود وأوجب الشافعي في أحد قوليه إذ جعل في طعامه سماً وأطعمه إياه أو في شرابه فسقاه ولم يعلمه أن فيه سماً.
قال الشافعي وإن خلطه بطعام فوضعه ولم يقل له فأكله أو شربه فمات فلا قود عليه.
قلت والأصل أن المباشرة والسبب إذا اجتمعا كان حكم المباشرة مقدماً على السبب كحافر البئر والدافع فيها. فأما إذا استكرهه على شرب السم فعليه القود في مذهب الشافعي ومالك.
وعن أبي حنيفة إن سقاه السم فمات لم يقتل به وإن أوجره إيجاراً كان على عاقلته الدية.
قلت أما حديث اليهودية فقد اختلفت الرواية فيه وأما حديث أبي سلمة فليس بمتصل. وحديث جابر أيضاً ليس بذاك المتصل لأن الزهري لم يسمع من جابر شيئاً.
ثم أنه ليس في هذا الحديث أكثر من أن اليهودية أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم(4/7)
بأن بعثت بها إليه فصارت ملكاً له وصارت أصحابه أضيافاً له، ولم تكن هي التي قدمتها إليهم واليه وما هذا سبيله فالقود ساقط لما ذكرنا من علة المباشرة وتقديمها على السبب.
وفي الحديث دليل على إباحة أكل طعام أهل الكتاب وجواز مبايعتهم ومعاملتهم مع إمكان أن يكون في أموالهم الربا ونحوه من الشبهة.
وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الهدية توجب العوض وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لا يقبل الهدية من يهودية إلاّ من حيث يرى فيها التعويض فيكون ذلك عنده بمنزلة المعاوضة بعقد البيع والله أعلم.
ومن باب من قتل عبده أو مثل به أيقاد
قال أبو داود: حدثنا علي بن الجعد حدثنا شعبة قال وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قتل عبده قتلناه.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا سعيد بن عامر، عَن أبي عامر، عَن أبي عروبة عن قتادة بإسناد شعبة مثله. وزاد أن الحسن نسي هذا الحديث، فكان يقول لا يقتل حر بعبد.
قلت قد يحتمل أن يكون الحسن لم ينس الحديث ولكنه كان يتأوله على غير معنى الإيجاب ويراه نوعاً من الزجر ليرتدعوا فلا يقدموا على ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر إذا شرب فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه، ثم قال في الرابعة والخامسة فإن عاد فاقتلوه ثم لم يقتله حتى جيء به قد شرب رابعاً أو خامساً.(4/8)
وقد تأوله بعضهم على أنه إنما جاء في عبد كان يملكه مرة فزال عنه ملكه وصار كفأً له بالحرية فإذا قتله كان مقتولاً به.
وهذا كقوله {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} [البقرة: 234] أي من كن له أزواجاً قبل الموت.
وقد اختلف الناس فيما يجب على من قتل عبده أو قتل عبد غيره فروي، عَن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنه لا يقتص منه إذا فعل ذلك وكذلك روي عن ابن الزبير رضي الله عنه وهو قول الحسن وعطاء وعكرمة وعمر بن عبد العزيز وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال ابن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة القصاص بين الأحرار والعبيد ثابت في النفس. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
وهذا فيمن قتل عبداً لغيره عمداً وقال سفيان الثوري إذا قتل عبده أو عبد غيره عمداً قتل به، وقد اختلف عنه في ذلك.
وحكي أنه قال مثل قول أبي حنيفة وأصحابه وأجمعوا أن القصاص بين الأحرار وبين العبيد ساقط في الأطراف، وإذا منعوا منه في القليل كان منعه في الكبير أولى.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن حديث سمرة منسوخ وقال لما ثبتا ثبتا معاً فلما نسخا نسخا معاً يريد لما سقط الجدع بالإجماع سقط القصاص كذلك.
ومن باب القسامة
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ومحمد بن عبيد المعنى قالا: حَدَّثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ورافع(4/9)
بن خديج أن مُحيِّصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وابنا عمه حويصة ومحيصة فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكُبَر الكُبر وقال ليبدأ الأكبر فتكلما في أمر صاحبهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته قالوا أمر لم نشهده كيف نحلف قال فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا يا رسول الله قوم كفار فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله.
قال أبو داود: ورواه بشر بن المفضل ومالك عن يحيى قالا فيه يحلفون خمسين يميناً ويستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم، وقال عبدة عن يحيى كما قال حماد.
قال الشيخ قوله الكبر الكبر إرشاد إلى الأدب في تقديم ذوي السن والكبر.
وفيه من الفقه جواز الوكالة في المطالبة بالحدود.
وفيه جواز وكالة الحاضر وذلك أن ولي الدم إنما هو عبد الرحمن بن سهل أخو القتيل وحويصة ومحيصة أبناء عمه.
وفيه من الفقه أن الدعوى في القسامة مخالفة لساتر الدعاوى وأن اليمين يبدأ فيها المدعي قبل المدعى عليه.
وفيه دلالة على وجوب رد اليمين على المدعي عند نكول المدعى عليه.
وقد اختلف الناس فيمن يبدأ به في القسامة فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل يبدأ بالمدعي قولاً بظاهر الحديث.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يبدأ بالمدعى عليه على قضية سائر الدعاوى.
قلت وهذا حكم خاص جاءت به السنة لا يقاس على سائر الأحكام وللشريعة(4/10)
أن تخص كما لها أن تعم ولها أن تخالف بين سائر الأحكام المتشابهة في الصفة كما أن لها أن توفق بينها ولها نظائر كثيرة في الأصول.
وقال أبو حنيفة وأصحابه أن المدعى عليهم يحلفون ويغرمون الدية وليس في شيء من الأصول اليمين مع الغرامة، وإنما جاءت اليمين في البراءة أو الاستحقاق على مذهب من قال باليمين مع الشاهد وقد بدىء في اللعان بالمدعي وهو الزوج وأنما هو أيمان، ألا ترى أن المتلاعنين يقولان نشهد بالله فلو كان معنى اللعان معنى الشهادة لجاز فيه حذف الاسم واقتصر فيه على مجرد قولهما نشهد وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث الملاعنة لولا الايمان لكان لي ولها شأن فثبت أن اللعان ايمان ثم كان مبدوءاً فيه بالمدعي كما ترى.
قلت وفي إلزامه اليهود بقوله فيدفع برمته دليل على أن الدية تجب على سكان المحلة دون أرباب الخطة لأن خيبر كانت للمهاجرين والأنصار.
وفيه دليل على أن المدعى عليهم إذا حلفوا برئوا من الدم وهو قوله فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم.
وفيه أن الحكم بين المسلم والذمي كالحكم بين المسلمين في الاحتساب بيمينه وإبرائه بها عن الحق المدعى قبله.
وفيه أن يمين المشرك مسموعة على المسلم كيمين المسلم عليه، وقال مالك لا تسمع ايمانهم على المسلمين كشهاداتهم.
وظاهر لفظ هذا الحديث حجة لمن رأى وجوب القتل بالقسامة وهو قوله ويستحقون دم صاحبكم.
وقوله فيدفع برمته وإليه ذهب مالك وأحمد بن حنبل وأبو ثور، وروي(4/11)
ذلك عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي وإسحاق بن راهويه لا يقاد بالقسامة إنما تجب بها الدية.
وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه والحسن البصري وابراهيم النخعي.
وقد روي ذلك أيضاً عن النخعي أنه قال القسامة جور شاهدان يشهدان.
وكان الحكم لا يرى القسامة شيئاً.
قلت وتأويل هؤلاء قوله ويستحقون دم صاحبكم أي دية صاحبكم لأنهم يأخذونها بسبب الدم فصلح أن يسمى ذلك دماً.
وقد روى من غير هذا الطريق إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب فدل ذلك على صحة هذا التأويل.
قلت ويشبه أن يكون إنما وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله للعهد الذي كان جعله لليهود فلم يحب أن يبطله ولم يحب أن يهدر دم القتيل فوداها من قبله وتحملها للإصلاح بينهم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك، عَن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره هو ورجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتي محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في قفير أو عين وساق بعض الحديث إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تدوا صاحبكم واما أن تؤذنوا بحرب.
قال الشيخ: قوله إما أن تدوا، فيه دليل على أن الواجب بالقسامة الدية(4/12)
وقد كني بالدم عنها إذ كانا يتعاقبان في الحكم فجاز أن يعبر بأحدهما عن الآخر.
وقد أنكر بعض الناس قوله. وإما أن تؤذنوا بحرب، وقال إن الأمة على خلاف هذا القول فدل على أن خبر القسامة غير معمول به.
قلت ووجه الكلام بين وتأويله صحيح وذلك أنهم إذا امتنعوا من القسامة ولزمتهم الدية فأبوا أن يؤدوها إلى أولياء الدم أوذنوا بحرب كما يؤذنون بها إذا امتنعوا من اداء الجزية.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة عن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم يحلف منكم خمسون رجلاً فأبوا وذكر الحديث.
قال الشيخ في هذا حجة لمن رأى أن اليمين على المدعى عليهم، إلاّ أن أسانيد الأحاديث المتقدمة أحسن اتصالاً وأوضح متوناً. وقد روى ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بدأ في اليمين بالمدعين سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج وسويد بن النعمان.
وقال الشافعي لا يحلف في القسامة إلاّ وارث لأنه لا يملك بها إلاّ دية القتيل ولا يحلف الإنسان إلاّ على ما يستحقه الورثة يقسمون على قدر موارثيهم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان أنبأنا الوليد وحدثنا محمود بن خالد حدثنا الوليد، عَن أبي عمرو عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببَحْرة الرُّغاء على شط لية.
قال الشيخ البحرة البلدة تقول العرب هذه بحرتنا أي بلدتنا قال الشاعر:
كأن بقاياه ببحرة مالك ... بقية سحق من رداء محبّر(4/13)
ومن باب يقاد من القاتل بحجر مثل ما قتل
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام عن قتادة عن أنس أن جارية رض رأسها بين حجرين فقيل لها من فعل بك هذا أفلان أفلان حتى سُمي اليهودي فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن إدريس عن شعبة عن هشام ابن زيد عن جده أنس أن جارية كان عليها أوضاح لها وذكر الحديث.
قال الشيخ يريد بالأوضاح حلياً لها.
وفيه دليل على وجوب قتل الرجل بالمرأة وهو قول عامة أهل العلم إلاّ الحسن البصري وعطاء فإنهما زعما أن الرجل لا يقتل بالمرأة.
وفيه دليل على جواز اعتبار القتل فيقتص من القاتل بمثل ما فعله، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وروي ذلك عن الشعبي وعمر بن عبد العزيز.
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا يقتص منه إلاّ بالسيف وكذلك قال عطاء.
قال الشيخ: ما يوجد في هذا الحديث بهذه اللفظة، أعني قوله فاعترف فقتل وفيها الشفاء والبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي بإيماء المدعي أو بقوله.
وقد شغب بعض الناس في هذا حين وجد أكثر الروايات خالياً عن هذه اللفظة فقال كيف يجوز أن يقتل أحد بقول المدعي وبكلامه فضلاً عن إيمائه برأسه وأنكروا هذا الحديث وأبطلوا الحكم في اعتبار جهة المماثلة.
قال الشيخ وهذه اللفظة لو لم تكن مرورية في هذه القصة لم يكن ضائراً لأن من العلم الشائع المستفيض على لسان الأمة خاصهم وعامهم أنه لا يستحق(4/14)
مال ولا دم إلاّ ببينة، وقد يروى كثير من الأحاديث على الاختصار اعتماداً على إفهام السامعين والمخاطبين به.
وقد احتج بعض من لا يرى اعتبار جهة المماثلة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وهذا معارضة لا تصح لأن النهي عن المثلة إنما هو في ابتداء العقوبة بها فأما القصاص فلا يتعلق بالمثلة؛ ألا ترى أن من جدع أذناً أو فقأ عيناً من كفؤ له اقتص منه ولم يكن ذلك مثلة وعارضوا أيضاً بنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب أحد بعذاب الله، فقالوا إذا أحرق رجلاً بالنار فإنه لا يحرق بها قصاصاً ويقتل بالسيف.
وهذا مثل الأول وباب القصاص من هذا بمعزل، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة اغد على أُبْنى صباحاً وحرق. وأجاز عامة الفقهاء أن يرمى الكفار بالنيران إذا خافوهم ولم يطيقوا دفعهم عن أنفسهم إلاّ بها فعلم أن طريق النهي عن استعمال النار خارج عن باب القصاص المباح وعن باب الجهاد المأمور به وإن من قتل رجلاً بالإحراق بالنار فإن للولي أن يقتل القاتل بالنار كذلك.
وقد تمثلوا أيضاً في هذا بأمور كمن قتل رجلاً بالسحر وكمن سقى رجلاً خمراً أو والى عليه بهما حتى مات، وكمن ارتكب فاحشة من إنسان فكان فيها تلفه وليس يلزم شيء من هذا والأصل فيه الحديث.
ثم العقوبات على ضربين أحدهما مأذون فيه أن يستعمل فيمن استحقه على وجه من الوجوه، والآخر محظور من جميع الوجوه، وقد أمرنا بجهاد الكفار ومعاقبتهم على كفرهم ضرباً بالسلاح ورمياً بالحجارة وإضراماً عليهم بالنيران ولم يبح لنا أن نقتلهم بسقي الخمر وركوب الفاحشة منهم فأما السحر فهو أمر يلطف ويدق والتوصل إلى علمه يصعب ومباشرته محظورة على الوجوه كلها فإذا تعذرت(4/15)
علينا معرفة جهة الجناية وكيفيتها صرنا إلى استيفاء الحق منه بالسيف إذ هو دائرة القتل وكان سبيله سبيل من ثبت عند الحاكم أنه قتل فلاناً عمداً ولم يبين جهة القتل وكيفيته فإنه يقتل بالسيف، كذلك إذا تعذرت جهة المماثلة قتل بالسيف والله أعلم.
ومن باب إيقاد المسلم بالكافر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حَدَّثنا يحيى بن سعيد بن أبي عروبة حدثنا قتادة عن الحسن عن قيس بن عُبَاد قال انطلقت أنا والأشتر إلى علي كرم الله وجهه، فقلنا هل عهد إليك نبي الله شيئاً لم يعهده إلى الناس قال لا إلاّ ما في كتابي هذا، قال مسدد فأخرج كتاباً.
وقال أحمد كتاباً من قراب سيفه فإذا فيه: المؤمنون تكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم إلاّ لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده من أحدث حدثاً فعلى نفسه، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر نحو حديث علي زاد فيه ويجير عليهم اقصاهم ويرد مُشدهم على مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم.
قال الشيخ: قوله المؤمنون تكافأ دماؤهم، يريد أن دماء المسلمين متساوية في القصاص والقود، يقاد الشريف منهم بالوضيع، والكبير بالصغير، والعالم بالجاهل والرجل بالمرأة.
وفيه مستدل لمن رأى أن يقتل الحر بالعبد لأن قضية العموم تعطي ذلك.(4/16)
قوله وهم يد على من سواهم معناه النصرة والمعونة من بعضهم لبعض.
قوله يسعى بذمتهم أدناهم معناه أن الواحد منهم إذا أجار كافراً وآمنه على دمه حرم دمه على المسلمين كافة وإن كان المجير أدناهم مثل أن يكون عبداً أو امرأة أو عسيفاً تابعاً أو نحو ذلك ليس لهم أن يخفروا ذمته.
قوله لا يقتل مؤمن بكافر فيه البيان الواضح أن المسلم لا يقتل بأحد من الكفار كان المقتول منهم ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً أو ما كان.
وذلك أنه نفي في نكرة فاشتمل على جنس الكفار عموماً، وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم فكان الذمي والمستأمن في ذلك سواء.
وقد اختلف الناس في هذا فقال بظاهر الحديث جماعة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ثبت ذلك عن عمر وعثمان وزيد بن ثابت.
وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه ورضي عنهم أجمعين، وهو قول عطاء وعكرمة والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وبه قال سفيان الثوري وابن شبرمة وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق.
وقال الشعبي والنخعي يقتل المسلم بالذمي، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وتأولوا قوله لا يقتل مؤمن بكافر أي بكافر حربي دون من له عهد وذمة من الكفار وادعوا في نظم الكلام تقديماً وتأخيراً كأنه قال لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، وقالوا ولولا أن المراد به هذا لكان الكلام خالياً عن الفائدة لأن معلوماً بالإجماع أن المعاهد لا يقتل في عهده فلم يجز حمل الخبر الخاص على شيء قد استفيد معرفته من جهة العلم العام المستفيض.(4/17)
واحتجوا أيضاً بخبر منقطع عن ابن السلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلماً بكافر.
قلت لا يقتل مؤمن بكافر كلام تام مستقل بنفعه فلا وجه لتضمينه بما بعده وإبطال حكم ظاهره وحمله على التقديم والتأخير وإنما يفعل ذلك عند الحاجة والضرورة في تكميل ناقص وكشف عن مبهم ولا ضرورة بنا في هذا الموضع إلى شيء من ذلك.
فأما تحديده ذكر المعاهد وأنه لا يقتل ما دام مقيماً على عهده فإن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكرر البيان وأن يظاهر بذكر الشيء مرة بعد أخرى إشباعاً في البيان وإفهاما للمخاطبين بالكلام.
وقد يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما أسقط القصاص عن المسلم إذا قتل كافراً احتاج إلى أن يؤكد حق دم المعاهد فيجدد القول فيه لأن ظاهر ذلك يوجب توهين حرمة دم الكفار ولا يؤمن أن يكون في ذلك الإغراء بهم فخشي إقدام المتسرع من المسلمين إلى دمائهم إذا أمن القود فأعاد القول في حظر دمائهم رفعاً للشبهة وقطعاً لتأويل متأول والله أعلم.
وقد يحتمل ذلك وجهاً آخر وهو أن يكون معناه لا يقتل مؤمن بأحد من الكفار ولا يقتل معاهد ببعض الكفار وهو الحربي ولا ينكر أن لفظة واحد يعطف عليها شيئان فيكون أحدهما راجعاً على جميعها والاخر راجعاً إلى بعضها.
وقوله من أحدث حدثاً فعلى نفسه يريد أن من جنى جناية كان مأخوذاً بها لا يؤخذ بجرمه غيره، وهذا في العمد الذي يلزمه في ماله دون الخطأ الذي يلزم عاقلته.
وقوله من آوى محدثا فعليه لعنة الله يريد من آوى جانياً أو أجاره من خصمه(4/18)
وحال بينه وبين أن يقتص منه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وقوله يرد مشدهم على نعفهم ومتسريهم على قاعدهم مفسر في كتاب الجهاد من هذا الكتاب.
ومن باب فيمن وجد رجلاً مع أهله فقتله
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وعبد الوهاب بن نجدة الحوطي المعنى قالا: حَدَّثنا عبد العزيز بن محمد عن سهيل عن أبيه، عَن أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله الرجل يجد مع أهله رجلاً أيقتله، قال لا، قال سعد بلى والذي أكرمك بالحق ينتظر فيه إلى أن يأتي بأربعة شهداء، قال النبي صلى الله عليه وسلم اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، قال عبد الوهاب انظروا إلى ما يقول سعد.
قال الشيخ: يشبه أن يكون مراجعة سعد النبي صلى الله عليه وسلم طمعاً في الرخصة لا رداً لقوله صلى الله عليه وسلم، فلما أبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر عليه قوله سكت سعد وانقاد.
وقد اختلف الناس في هذه المسألة فكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول إن لم يأت بأربعة شهداء أعطى برمته أي أقيد به.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أهدر دمه ولم ير فيه قصاصاً.
قلت ويشبه أن يكون إنما رأى دمه مباحاً فيما بينه وبين الله عز وجل إذا تحقق الزنا منه فعلاً وكان الزاني محصناً.
وذكر الشافعي حديث علي رضي الله عنه ثم قال وبهذا نأخذ غير أنه قال: ويسعه فيما بينه وبين الله عز وجل قتل الرجل وامرأته إذا كانا ثيبين وعلم أنه قد نال منها ما يوجب الغسل ولا يسقط عنه القود في الحكم.(4/19)
وكذلك قال أبو ثور، وقال أحمد بن حنبل إن جاء ببينة أنه قد وجده مع امرأته في بيته فقتله يهدر دمه، وكذلك قال إسحاق.
ومن باب العامل يصاب على يديه خطأ
قال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقاً فلاجّه رجل أو لاحاه في صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا القود يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال لكم كذا وكذا فرضوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم، قالوا نعم فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا أرضيتم قالوا لا فهم المهاجرين بهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم فكفوا ثم دعاهم فزادهم قال أرضيتم قالوا نعم قال إني خاطب على الناس فمخبرهم برضاكم قالوا فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرضيتم قالوا نعم.
قال الشيخ: في هذا الحديث من الفقه وجوب الإقادة من الوالي والعامل إذا تناول دماً بغير حقه كوجوبها على من ليس بوال.
وفيه دليل على جواز إرضاء المشجوج بأكثر من دية الشجة إذا طلب المشجوج القصاص.
وفيه دليل على أن القول في الصدقة قول رب المال وأنه ليس للساعي ضربه وإكراهه على ما لم يظهر له من ماله.
وفيه حجة لمن رأى وقوف الحاكم عن الحكم بعلمه لأنهم لما رضوا بما أعطاهم(4/20)
النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا عنه فلم يلزمهم برضاهم الأول حتى كان ما رضوا به ظاهراً.
وقوله فلاحاه معناه نازعه وخاصمه، وفي بعض الأمثال عاداك من لاحاك.
وروي، عَن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما أقادا من العمال.
وممن رأى عليهم القود الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه.
ومن باب عفو النساء عن الدم
قال أبو داود: حدثنا داود بن رشيد حدثنا الوليد عن الأوزاعي سمع حصناً أنه سمع أبا سلمة يخبر عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة.
قال الشيخ: قوله ينحجزوا معناه يكفوا عن القتل وتفسيره أن يقتل رجل وله ورثة رجال ونساء فأيهم عفا وإن كانت امرأة سقط القود وصار دية.
وقوله الأول فالأول يريد الأقرب فالأقرب.
قلت يشبه أن يكون معنى المقتتلين ههنا أن يطلب أولياء القتيل القود فيمتنع القتلة فينشأ بينهم الحرب والقتال من أجل ذلك فجعلهم مقتتلين بنصب التاءين يقال اقتتل فهومقتتل، غير أن هذا إنما يستعمل أكثره فيمن قتله الحُب.
وقد اختلف الناس في عفو النساء فقال أكثر أهل العلم عفو النساء عن الدم جائز كعفو الرجال. وقال الأوزاعي وابن شبرمة ليس للنساء عفو، وعن الحسن وإبراهيم النخعي ليس للزوج ولا للمرأة عفو في الدم.
ومن باب من قتل في عِمِيّا بين قوم
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد قال وحدثنا ابن السرح حدثنا سفيان وهذا حديثه عن عمرو عن طاوس قال من قتل، وقال ابن عبيد قال: قال(4/21)
رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل في عِمِيّا في رمي يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصا فهو خطأ وعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمداً فهو قود، ومن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه صرف ولا عدل.
قال الشيخ: قوله عميا وزنه فعيلا من العمى كما يقال بينهم رميا أي رمى، ومعناه أن يترامى القوم يوجد بينهم قتيل لا يدرى من قاتله ويعمى أمره فلا يتبين ففيه الدية.
واختلف العلماء فيمن تلزمه دية هذا القتيل؛ فقال مالك بن أنس ديته على الذين نازعوهم.
وقال أحمد بن حنبل ديته على عواقل الآخرين إلاّ أن يدعوا على رجل بعينه فيكون قسامة، وكذلك قال إسحاق.
وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ديته على عاقلة الفريقين اللذين اقتتلوا معاً.
وقال الأوزاعي عقله على الفريقين جميعاً إلاّ أن تقوم بينة من غير الفريقين أن فلاناً قتله فعليه القود والقصاص.
وقال الشافعي هو قسامة إن ادعوه على رجل بعينه أو طائفة بعينها وإلا فلا عقل ولا قود.
وقال أبو حنيفة هو على عاقلة القبيلة التي وجد فيهم إذا لم يدع أولياء القتيل على غيرهم.
وقوله لا يقبل منه صرف ولا عدل فسروا العدل الفريضة، والصرف التطوع.
ومن باب في الدية كم هي
قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله(4/22)
صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشر ابن لبون ذكر.
قال الشيخ: هذا الحديث لا أعرف أحداً قال به من الفقهاء، وإنما قال أكثر العلماء إن دية الخطأ أخماس، كذلك قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وكذلك قال مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل خمس بنو مخاض، وخمس بنات مخاض وخمس بنات لبون وخمس حقاق وخمس جذاع.
وروي هذا القول عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال مالك والشافعي خمس جذاع وخمس حقاق وخمس بنات لبون وخمس بنات مخاض وخمس بنو لبون.
وحكي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة بن عبد الرحمن والليث بن سعد ولأبي حنيفة وأصحابه فيه أثر، إلاّ أن راويه عن عبد الله عن خشف بن مالك وهو مجهول لا يعرف إلاّ بهذا الحديث.
وعدل الشافعي عن القول به لما ذكرنا من العلة في راويه ولأن فيه بني مخاض ولا مدخل لبني مخاض في شيء من أسنان الصدقات.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أنه ودى قتيل خيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في أسنان إبل الصدقة ابن مخاض.
وقد روي عن نفر من العلماء أنهم قالوا دية الخطأ أرباع وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري. وإليه ذهب إسحاق بن راهويه إلا أنهم قالوا خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض. وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.(4/23)
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن عثمان حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ على النصف من دية المسلم، قال فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رضي الله عنه فقام خطيباً فقال: إلاّ ان الإبل قد غلت. قال ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا؛ وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، قال وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية.
قال الشيخ: قوله كانت قيمة الدية، يريد قيمة الإبل التي هي الأصل في الدية وإنما قومها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القرى لعزة الإبل عندهم فبلغت القيمة فى زمانه من الذهب ثمانمائة دينار ومن الورق ثمانية آلاف درهم فجرى الأمر بذلك إلى أن كان عمر رضي الله عنه وعزت الإبل في زمانه فبلغ بقيمتها من الذهب ألف دينار ومن الورق اثني عشر ألفاً.
وعلى هذا بنى الشافعي أصل قوله في دية العمد فأوجب فيها الإبل وأن لا يصار إلى النقود إلاّ عند اعواز الإبل فإذا أعوزت كان فيها قيمتها بالغة ما بلغت، ولم يعتبر قيمة عمر رضي الله عنه التي قومها في زمانه لأنها كانت قيمة تعديل في ذلك الوقت والقيم تختلف فتزيد وتنقص باختلاف الأزمنة وهذا على قوله الجديد.
وقال في قوله القديم بقيمة عمر وهي اثنا عشر ألفاً أو ألف دينار.
وقد روي مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الورق.(4/24)
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا زيد بن الحباب عن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً من بني عدي قتل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً.
قال الشيخ: وقد اختلف الناس فيما يجب في دية العمد، فقال الشافعي يجب فيها مائة من الإبل، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها.
وروي ذلك عن زيد بن ثابت، وقال مالك وأحمد بن حنبل تجب الدية أرباعاً؛ خمس وعشرون ابنة مخاض، وخمس وعشرون ابنة لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وهو قول سليمان بن يسار والزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن.
وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جعل في شبه العمد مائة من الإبل أرباعاً وعدد هذه الأصناف.
قلت ودية شبه العمد مغلظة كدية العمد، فيشبه أن يكون أحمد إنما ذهب إليه لأنه لم يجد فيها سنة فصار إلى أثر في نظيرها وقاسها عليه.
وعند أبي حنيفة دية العمد من الذهب ألف دينار ومن الدراهم عشرة آلاف ولم يذكر فيها الإبل. وكذلك قال سفيان الثوري، وحكي ذلك عن ابن شبرمة.
وقال مالك وأحمد وإسحاق في الدية إذا كانت نقداً هي من الذهب ألف دينار ومن الورق اثنا عشر ألفاً، وروي ذلك عن الحسن البصري وعروة بن الزبير. وقال مالك لا أعرف البقر والغنم والحلل.(4/25)
وقال يعقوب ومحمد على أهل البقر مائتا بقرة وعلى أهل الغنم ألفا شاة وعلى أهل الحلل مائتا حلة. وكذلك قال أحمد وإسحاق في البقر والغنم.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومسدد المعنى قالا: حَدَّثنا حماد عن خالد عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم الفتح بمكة فكبر ثلاثاً وقال إلاّ أن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعي من دم أو مال تحت قدمي إلاّ ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت، ثم قال إلاّ ان دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها. وحديث مسدد أتم.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن علي بن زيد عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.
قال الشيخ: المأثرة كل ما يؤثر ويذكر من مكارم أهل الجاهلية ومفاخرهم وقوله تحت قدمي معناه إبطالها وإسقاطها.
وأما سدانة البيت فهي خدمته والقيام بأمره وكانت الحجابة في الجاهلية في بني عبد الدار والسقاية في بني هاشم فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار بنو شيبة يحجبون البيت وبنو العباس يسقون الحجيج.
وفي الحديث من الفقه إثبات قتل شبه العمد، وقد زعم بعض أهل العلم أن ليس القتل إلاّ العمد المحض أو الخطأ المحض.
وفيه بيان أن دية شبه العمد مغلظة على العاقلة.
وقد يستدل بهذا الحديث على جواز السلم في الحيوان إلى مدة معلومة وذلك لأن الإبل على العاقلة مضمونة في ثلاث سنين.(4/26)
وفيه دلالة على أن الحمل في الحيوان صفة تضبط وتحصر.
وقد اختلف الناس في دية شبه العمد فقال بظاهر الحديث عطاء والشافعي وإليه ذهب محمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه هي أرباع.
وقال أبو ثور دية شبه العمد أخماس.
وقال مالك بن أنس ليس في كتاب الله عز وجل إلاّ الخطأ المحض والعمد فأما شبه العمد فلا نعرفه.
قلت يشبه أن يكون الشافعي إنما جعل الدية في العمد أثلاثاً بهذا الحديث، وذلك أنه ليس في العمد حديث مفسر، والدية في العمد مغلظة وهي في شبه العمد كذلك فحمل إحداهما على الأخرى.
وهذه الدية تلزم العاقلة عند الشافعي لما فيه من شبه الخطأ كدية الجنين.
ومن باب الأعضاء
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا عبدة، يَعني ابن سليمان حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن غالب التمار عن حميد بن هلال عن مسروق بن أوس، عَن أبي موسى هو الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأصابع سواء عشر عشر من الإبل.
قال وحدثنا عباس العنبري حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء.
قال وحدثنا زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون قال أنبأنا حسين المعلم(4/27)
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأسنان خمس خمس.
قال الشيخ: سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأصابع في دياتها فجعل في كل اصبع عشراً من الإبل وسوى بين الأسنان وجعل في كل سن خمساً من الإبل وهي مختلفة الجمال والمنفعة ولولا أن السنة جاءت بالتسوية لكان القياس أن يفاوت بين دياتها كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يبلغه الحديث فإن سعيد بن المسيب رضي الله عنه روى عنه أنه كان يجعل في الإبهام خمس عشرة، وفي السبابة عشراً، وفي الوسطى عشراً، وفي البنصر تسعاً، وفي الخنصر ستاً حتى وجد كتاباً عند أبي عمرو بن حزم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأصابع كلها سواء فأخذ به، وكذلك الأمر في الأسنان كان يجعل فيما أقبل من الأسنان خمسة أبعرة، وفي الأضراس بعيراً بعيراً. قال ابن المسيب فلما كان معاوية وقعت أضراسه فقال أنا أعلم بالأضراس من عمر فجعلهن سواء، قال ابن المسيب فلو أصيبت الفم كلها في قضاء عمر رضي الله عنه لنقصت الدية ولو أصيبت في قضاء معاوية لزادت الدية، ولو كنت أنا لجعلتها في الأضراس بعيرين بعيرين.
واتفق عامة أهل العلم على ترك التفضيل وإن في كل سن خمسة أبعرة، وفي كل اصبع عشراً من الإبل خناصرها وأباهمها سواء، وأصابع اليد والرجل في ذلك سواء كما جعل في الجسد دية كاملة؛ الصغير الطفل، والكبير المسن، والقوي العَبَل، والضعيف النضو في ذلك سواء.
ولو أخذ على الناس أن يعتبروها بالجمال والمنفعة لاختلف الأمر في ذلك اختلافاً لا يضبط ولا يحصر فحمل على الأسامي وترك ما وراء ذلك من الزيادة والنقصان في المعاني.(4/28)
ولا أعلم خلافاً بين الفقهاء أن من قطع يد رجل من الكوع فإن عليه نصف الدية، إلاّ أن أبا عبيد بن حرب زعم أن نصف الدية إنما تستحق في قطعها من المنكب لأن اسم اليد على الشمول والاستيفاء إنما يقع على ما بين المناكب إلى أطراف الأنامل.
قال أبو داود: وجدت في كتابي عن شيبان ولم أسمعه منه فحدثناه أبو بكر صاحب لنا ثقة حدثنا شيبان حدثنا محمد بن راشد حدثنا سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنف إذا جدع الدية كاملة وإن جدعت ثُندوته فنصف العقل خمسون من الإبل أو عدلها من الذهب والورق أو مائة بقرة أو ألف شاة، وفي اليد إذا قطعت نصف العقل، وفي الرجل إذا قطعت نصف العقل، وفي المأمومة ثلث العقل ثلاث وثلاثون من الإبل أو قيمتها من الذهب أو الورق أو البقر أو الشاة والجائفة مثل ذلك.
وفي الأصابع في كل اصبع عشر من الإبل، وفي الأسنان خمس من الإبل في كل سن وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئاً إلاّ مما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس للقاتل شيء وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه ولا يرث القاتل شيئاً.
قال الشيخ لم يختلف العلماء في أن الأنف إذا استوعب جدعاً ففيه الدية كاملة، فأما الثندوة المذكورة في هذا الحديث فإن كان يراد بها روبة الأنف فقد قال أكثر الفقهاء أن فيها ثلث الدية، وروي ذلك عن زيد بن ثابت؛ وكذلك قال مجاهد ومكحول، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق.(4/29)
وقال بعضهم في الروبة النصف على ما جاء في الحديث، وحكاه ابن المنذر في الاختلاف ولم يسم قائله، ولم يختلفوا أن في اليدين الدية وإن في كل يد نصف الدية، وفي الرجل الواحدة كذلك.
واختلفوا في اليد الشلاء فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال فيها ثلث ديتها، وكذلك قال مجاهد وهو قول أحمد وإسحاق.
وقال الشافعي فيها حكومة، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه وأجمعوا أنه إذا ضرب يده الصحيحة فشلت إن فيها دية اليد كاملة ولم يختلفوا في أن في المأمومة ثلث الدية.
والمأمومة ما كان من الجراح في الرأس وهي ما بلغت أم الدماغ.
وكذلك الجائفة فيها ثلث الدية في قول عامة أهل العلم فإن نفذت الجائفة حتى خرجت من الجانب الآخر فإن فيها ثلثي الدية لأنهما حينئذ جائفتان.
وأما قوله إن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئاً إلاّ ما فضل عن ورثتها فإنه يريد العقل الذي يجب بسبب جنايتها على عاقلتها، يقول إن العصبة يتحملون عقلها كما يتحملونه عن الرجل وانها ليست كالعبد الذي لا تحتمل العاقلة جنايته وإنما هي في رقبته.
وفيه دليل على أن الأب والجد لا يدخلان في العاقلة لأنه قد يسهم لهما السدس وإنما العاقلة للأعمام وأبناء العمومة ومن كان في معناهم من العصبة.
وأما قوله فإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه فإنه يريد أن بعض الورثة إذا قتل الموروث حرم ميراثه وورثه من لم يقتل من سائر الورثة فإن لم يكن له وارث إلاّ القاتل حرم الميراث ويدفع تركته إلى أقرب الناس منه(4/30)
بعد القاتل، وهذا كالرجل يقتله ابنه وليس له وارث غير ابنه القاتل وللقاتل ابن فإن ميراث المقتول يدفع إلى ابن القاتل ويحرمه القاتل.
وقوله فإن قتلت فعقلها بين ورثتها، يريد أن الدية موروثة كسائر الأموال التي تملكها أيام حياتها يرثها زوجها، وقد ورث النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أشيم الصنابي من دية زوجها.
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين أن خالد بن الحارث حدثهم، قال: حَدَّثنا حسين، يَعني المعلم عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المواضح خمس.
قال الشيخ: الموضحة ما كان في الرأس والوجه وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم فيهل خمساً من الإبل وعلق الحكم بالاسم فإذا شجه موضحة صغرت أم كبرت ففيها خمس من الإبل، فإن شجه موضحتين ففيهما عشر من البل وعلى هذا القياس.
وأنكر مالك موضحة الأنف وأثبتها الشافعي وغيره، فأما الموضحة في غير الوجه والرأس ففيها حكومة.
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد السُلمي حدثنا مروان، يَعني ابن محمد حدثني الهيثم بن حميد حدثني العلاء بن الحارث حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العين القائمة السادَّة لمكانها بثلث الدية.
قال الشيخ: يشبه أن يكون والله أعلم إنما أوجب فيها الثلث على معنى الحكومة كما جعل في اليد الشلاء الحكومة.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العين القائمة واليد الشلاء ثلث الدية وذهب أكثر الفقهاء إلى أن ذلك على معنى الحكومة.(4/31)
وقد ذهب إسحاق بن راهويه إلى أن فيها ثلث الدية بمعنى العقل.
ومن باب دية الجنين
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وهارون بن عباد الأزدي المعنى قالا: حَدَّثنا وكيع عن هشام عن عروة عن المسور بن مخرمة أن عمر رضي الله عنه استشار الناس في املاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيها بغرة عبد أو أمة فقال ائتني بمن يشهد معك، قال فأتاه محمد بن مسلمة فشهد له.
قال الشيخ: إملاص المرأة إسقاطها الولد، وأصل الإملاص الازلاق وكل شيء يزلق من اليد ولا يثبت فيها فهو مَلَص. ومنه قول الشاعر:
فرَّ وأعطاني رشاً مِلَّصاً
والغرة النسمة من الرقيق ذكراً كان أو أنثى، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء، وإنما سمي غرة لبياضه لا يقبل في الدية عبد أسود أو جارية سوداء.
حدثني بذلك أبو محمد الكُرابي حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا زكريا بن يحيى المنقري عن الأصمعي، عَن أبي عمرو ويرى أن عمر إنما استشهد مع المغيرة بغيره استثباتاً في القضية واستبراء للشبهة، وذلك أن الديات إنما جاء فيها الإبل والذهب والورق.
وقد ذكر أيضاً في بعض الروايات البقر والغنم والحلل ولم يأت في شيء منها في الرقيق فاستنكر عمر رضي الله عنه ذلك في بدأة الرأي فاستزاده في البيان حتى جاء الثبت والله أعلم.(4/32)
قال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار سمع طاوساً عن ابن عباس عن عمر أنه سأل عن قضية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة وأن تقتل.
قال الشيخ: المسطح عود من عيدان الخباء، وفيه دليل على أن القتل إذا وقع بما يقتل مثله غالباً من خشب أو حجر أو نحوهما ففيه القصاص كالحديث إلاّ أن قوله وأن تقتل لم يذكر في غير هذه الرواية.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حَدَّثنا مجالد قال حدثنى الشعبي عن جابر بن عبد الله أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد قال فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها، قال فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ميراثها لزوجها وولدها.
قال الشيخ: دلالة هذا الحديث أن القتل كان يشبه الخطأ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديتها على عاقلة القاتلة.
وفيه بيان أن الولد ليس من العاقلة وأن العاقلة لا ترث إلاّ ما فضل عن أصحاب السهام.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بيان وابن السرح قالا: حَدَّثنا ابن وهب خبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عَن أبي هريرة قال:(4/33)
اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية جنينها غرة عبد أو أمة وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم، فقال حَمَل بن النابغة الهذلي كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع.
قال الشيخ: قوله وورثها ولدها ومن معهم يريد الدية.
وفيه بيان أن الدية موروثة كسائر مالها الذي كانت تملكه أيام حياتها.
وفيه دليل على أن الجنين يورث وتكون ديتها على سهام الميراث وذلك أن كل نفس تضمن بالدية فإنه يورث كما لو خرج حياً ثم مات.
وقوله ولا استهل، الاستهلال رفع الصوت، يريد أنه تعلم حياته بصوت نطقٍ أو بكاء أو نحو ذلك.
وقوله ذلك يطل، يروى هذا الحرف على وجهين: أحدهما بطل على معنى الفعل الماضي من البطلان والآخر يطل على مذهب الفعل الغائب من قولهم طُل دمه إذا اهدر يُطل.
وقوله صلى الله عليه وسلم هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع فإنه لم يعبه بمجرد السجع دون ما تضمنه سجعه من الباطل.
وانما ضرب المثل بالكهان لأنهم كانوا يروجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين فيستميلون القلوب ويستصغون الأسماع إليها. فأما إذا وضع السجع في موضع حق فإنه ليس بمكروه وقد تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسجع في مواضع من كلامه كقوله للأنصار، إما أنكم تقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع.(4/34)
وروي عنه أنه قال خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة.
وقال أبا عمير ما فعل النغير.
وقال في دعائه اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقوله لا يسمع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع. أعوذ بك من هؤلاء الأربع. ومثل ذلك في الكلام كثير.
وفي الخبر دليل على أن الدية في شبه الخطأ على العاقلة.
قلت والغرة إنما تجب في الجنين إذا سقط ميتاً فإن سقط حياً ثم مات ففيه الدية كاملة.
وفيه بيان أن الأجنة وإن كثرت ففي كل واحد منها غرة.
واختلفوا في سن الغرة التي يجب قبولها ومبلغ قيمتها، فقال أبو حنيفة وأصحابه عبد أو أمة تعدل خمسمائة درهم، وقال مالك ستمائة درهم، وقصد كل واحد من الفريقين نصف عشر الدية، لأن الدية عند العراقي عشرة آلاف درهم، وعند المدني اثنا عشر ألفاً.
وقيل خمسون ديناراً وهي أيضاً نصف العشر من دية الحر لأنهم لم يختلفوا أن الدية من الذهب ألف دينار.
وقد استدل بعض الفقهاء من قوله قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة على أن دية الأجنة سواء ذكراناً كانت أو اناثاً لأنه أرسل الكلام ولم يقيده بصفة.
قال ولو كان يختلف الأمر في ذلك بالأنوثة والذكورة لبينه كما بين الدية في الذكر والأنثى من الأحرار البالغين.
قلت وهذه القضية صادقة في الحكم، إلاّ أن الاستدلال فيه بهذا اللفظ من(4/35)
هذا الحديث لا يصح لأنه حكاية فعل ولا عموم لحكاية الفعل. وإنما يصح هذا الاستدلال من رواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة من غير تفصيل والله أعلم.
ومذهب الشافعي في دية الجنين قريب من مذاهب من تقدم ذكرهم، إلاّ أنه قومها من الإبل، فقال خمس من الإبل خمساها وهو بعيران قيمة خَلَفتين وثلاثة أخماسها قيمة ثلاث جذاع وحقاق، وذلك لأن دية شبه العمد عنده مغلظة منها أربعون خلفة وثلاثون حقة وثلاثون جذعة، فإن أعطى الغرة دون القيمة لم يقبل حتى يكون ابن سبع سنين أو ثمان.
ويقبل عند أبي حنيفة الطفل وما دون السبع كالرقبة المستحقة في الكفارات.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا عيسى عن محمد، يَعني ابن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل.
قال أبو داود روى هذا الحديث حماد وخالد الواسطي عن محمد، يَعني ابن عمرو ولم يذكرا فيه بفرس أو بغل.
قال الشيخ: يقال إن عيسى بن يونس قد وهم فيه وهو يغلط أحياناً فيما يرويه إلاّ أنه قد روى عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير أنهم قالوا الغرة عبد أو أمة أو فرس. ويشبه أن يكون الأصل عندهم فيما ذهبوا إليه حديث أبي هريرة هذا والله أعلم.
وأما البغل فأمره أعجب ويحتمل أن تكون هذه الزيادة إنما جاءت من قبل بعض الرواة على سبيل القيمة إذا عدمت الغرة من الرقاب والله أعلم.(4/36)
ومن باب دية المكاتب
قال أبو داود: حدثنا مسدد عن يحيى بن سعيد واسماعيل عن هشام قال وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا الحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية المكاتب يقتل يُوَدي ما أدَّى من مكاتبته دية الحر وما بقي ديه المملوك.
قال الشيخ: أجمع عامة الفقهاء على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم في جنايته والجناية عليه.
ولم يذهب إلى هذا الحديث من العلماء فيما بلغنا إلاّ إبراهيم النخعي.
وقد روي في ذلك أيضاً شيء عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وإذا صح الحديث وجب القول به إذا لم يكن منسوخاً أو معارضاً بما هو أولى منه والله أعلم.
ومن باب دية الذمي
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي حدثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دية المعاهد نصف دية الحر.
قال الشيخ: ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير، وهو قول مالك وابن شبرمة وأحمد بن حنبل غير أن أحمد قال إذا كان القتل خطأ. فإن كان عمداً لم يقد به ويضاعف عليه باثني عشر ألفاً.
وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري ديته دية المسلم؛ وهو قول الشعبي والنخعي ومجاهد، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما.(4/37)
وقال الشافعي وإسحاق بن راهويه ديته الثلث من دية المسلم وهو قول ابن المسيب والحسن وعكرمة.
وروي ذلك أيضاً عن عمر رضي الله عنه خلاف الرواية الأولى وكذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قلت وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى ولا بأس بإسناده، وقد قال به أحمد ويعضده حديث آخر وقد رويناه فيما تقدم من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف.
ومن باب الرجل يقاتل الرجل فيدفع عن نفسه
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه، قال قاتل أجير لي رجلاً فعض يده فانتزعها فندرت ثنيته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدرها وقال أتريد أن يضع يده في فيك تقضمها كالفحل.
قال الشيخ: فيه بيان أن دفع الرجل عن نفسه مباح وأن ذلك إذا أتى على نفس العادي عليه كان دمه هدراً إذا لم يكن له سبيل إلى الخلاص منه إلاّ بقتله.
واستدل به الشافعي في صول الفحل قال إذا دفعه فأتى عليه لم تلزمه قيمته.
ومن باب فيمن تطبب ولا يعلم منه طب
قال أبو داود: حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي أن الوليد أخبرهم حدثني ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من تطبب ولم يعلم منه طِب فهو ضامن.(4/38)
قال الشيخ: لا أعلم خلافاً في المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعدي، فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض، وجناية الطبيب في قول عامة الفقهاء على عاقلته.
ومن باب ما يكون جباراً لا يضمن صاحبه
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن يزيد حدثنا سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الرجْل جُبار.
قال الشيخ: معنى الجبار الهدر، وقد تكلم الناس في هذا الحديث وقيل إنه غير محفوظ وسفيان بن حسين معروف بسوء الحفظ. قالوا وإنما هوالعجماء جرحها جبار ولو صح الحديث لكان القول به واجباً. وقد قال به أبو حنيفة وأصحابه.
وذهبوا إلى أن الراكب إذا رمحت دابته إنساناً برجلها فهو هدر فإن نفحته بيدها فهو ضامن. قالوا وذلك أن الراكب يملك تصريفها من قدامها ولا يملك منها فيما وراءها.
وقال الشافعي اليد والرجل سواء لا فرق بينهما وهو ضامن والملكة منه قائمة في الوجهين إن كان فارساً.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة سمعا أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العجماء جرحها جُبار، والمعدِن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس.
قوله العجماء جرحها جبار، العجماء البهيمة وسميت عجماء لعجمتها وكل من لم(4/39)
يقدر على الكلام فهو أعجم.
ومعنى الجبار الهدر، وإنما يكون جرحها هدْر إذا كانت منفلتة غائرة على وجهها ليس لها قائد ولا سائق.
أما البئر فهو أن يحفر بئراً في ملك نفسه فيتردى فيها إنسان فإنه هدر لا ضمان عليه فيه.
وقد يتأول أيضاً على البئر أن تكون بالبوادي يحفرها الإنسان فيحييها بالحفر والإنباط فيتردى فيها إنسان فيكون هدراً.
والمعدن ما يستخرجه الإنسان من معادن الذهب والفضة ونحوها، فيستأجر قوماً يعملون فيها فربما انهارت على بعضهم يقول فدماؤهم هدر لأنهم أعانوا على أنفسهم فزال العتب عمن استأجرهم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل حدثنا عبد الرزاق قال وأنبأنا جعفر بن مسافر حدثنا يزيد بن المبارك حدثنا عبد الملك الصنعاني كلاهما عن معمر عن همام بن منبه، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النار جبار.
قال الشيخ: لم أزل أسمع أصحاب الحديث يقولون غلط فيه عبد الرزاق إنما هو البئر جبار حتى وجدته لأبي داود عن عبد الملك الصنعاني عن معمر، فدل أن الحديث لم ينفرد به عبد الرزاق، ومن قال هو تصحيف البئر احتج في ذلك بأن أهل اليمن يسمون النار يكسرون النون منها فسمع بعضهم على الإمالة فكتبه بالياء ثم نقله الرواة مصحفاً.
قلت إن صح الحديث على ما روي فإنه متأول على النار يوقدها الرجل في ملكه لأرب له فيها فتطير بها الريح فتشعلها في بناء أو متاع لغيره من حيث(4/40)
لا يملك ردها فيكون هدراً غير مضمون عليه والله أعلم.
ومن باب جناية العبد
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة، عَن أبي نضرة عن عمران بن حصين أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا أناس فقراء فلم يجعل عليه شيئاً.
قال الشيخ: معنى هذا أن الغلام الجاني كان حراً وكانت جنايته خطأ وكانت عاقلته فقراء وإنما تواسي العاقلة عن وُجْد وسعة ولا شيء على الفقير منهم.
ويشبه أن يكون الغلام المجني عليه أيضاً حراً لأنه لو كان عبداً لم يكن لاعتذار أهله بالفقر معنى لأن العاقلة لا تحمل عبداً كما لا تحمل عمداً ولا اعترافاً وذلك في قول أكثر أهل العلم.
فأما الغلام المملوك إذا جنى على عبد أو حرٍّ فجنايته في رقبته في قول عامة الفقهاء.
واختلفوا في كيفية أخذ أرش الجناية من رقبته فقال سفيان الثوري ومحمد بن الحسن إذا كانت الجناية خطأ فإن شاء مولاه فداه وإن شاء دفعه.
وكذلك قال أحمد بن حنبل وإسحاق، وقد روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وهو قول الشعبي وعطاء والحسن وعروة بن الزبير ومجاهد والزهري.
وإذا كان القتل عمداً فإن أبا حنيفة وسفيان الثوري يقولان إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عقلوا، فإن عفوا فلا سبيل عليه في شيء بعد العفو وليس لهم أن يسترقوه.(4/41)
وقال مالك إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا عفوا فلهم قيمة العبد ولسيد العبد إن شاء يعطي قيمته وإن شاء سلم العبد وليس عليه غير ذلك.
وقال الشافعي إذا قتل عبد عبد رجل فسيد العبد المقتول بالخيار بين أن يقتل أو يكون له قيمة العبد المقتول في رقبة العبد القاتل فإن أداها سيد العبد القاتل متطوعاً فليس لسيد العبد المقتول إلاّ ذلك إذا عفا عن القصاص. وإن رأى سيد العبد القاتل أن يؤديها لم يجبر عليه وبيع العبد القاتل، فإن وفى ثمنه بقيمة العبد المقتول فهو له وإن نقص فليس له غير ذلك وإن زاد كان الفضل لسيده.
ومن باب القصاص في السن
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا المعتمر عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال كسرت الرُّبَيّع أخت أنس بن النَّضر ثنية امرأة، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بكتاب الله عز وجل القصاص، فقال أنس بن النَّضر والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها اليوم، فقال يا أنس كتاب الله القصاص فرضوا بأرش أخذوه فعجب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن من عباد الله من لوأ قسم على الله لأبره.
قال الشيخ: قوله كتاب الله القصاص معناه فرض الله الذي فرضه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزله من وحيه.
وقال بعضهم أراد به قول الله عز وجل {وكتبنا عليهم} إلى قوله {والسن بالسن} [المائدة: 45] وهذا على قول من يقول إن شرائع الأنبياء لازمة لنا وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحكم بما في التوراة.
وقيل هذا إشارة إلى قوله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126] إلى قوله {والجروح قصاص} [المائدة: 45] والله أعلم.(4/42)
كتاب الأيمان والنذور
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي ألك بينة قال لا، قال فلك يمينه، فقال يا رسول الله إنه فاجر ليس يبالي ما حلف عليه ليس يتورع من شيء، فقال ليس لك منه إلاّ ذلك فانطلق ليحلف له فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما لئن حلف على مال ليأكله ظالماً ليلقين الله وهو عنه معرض.
قال الشيخ: في هذا الحديث دليل على أن ما يجري بين المتخاصمين من كلام تشاجر وتنازع وإن خرج بهما الأمر في ذلك إلى نسب كل واحد منهما صاحبه فيما يدعيه قبله إلى خيانة وفجور واستحلال في نحو ذلك من الأمور، فإنه لا حكومة بينهما في ذلك.
وفيه دليل على أن الصالح المظنون به الصدق والطالح الموهوم منه الكذب في الحكم سواء، وإنه لا يحكم لهما ولا عليهما إلاّ بالبينة العادلة.
وفي قوله فانطلق ليحلف له، وقوله فلما أدبر دليل على أن اليمين إنما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المنبر، ولولا ذلك لم يكن لانطلاقه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدباره عنه معنى ويشهد لذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف عند منبري ولو على سواك أخضر تبوأ مقعده من النار.(4/43)
وفي قول الكندي هي أرضي في يدي أزرعها، دليل على اليد تثبت على الأرض بالزراعة وعلى الدار بالسكنى وبعقد الإجارة عليهما وبما أشبههما من وجوه التصرف والتدبير.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ بوجهه مقعده من النار.
قال الشيخ: اليمين المصبورة هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم فيصبر من أجلها أي يحبس وهي يمين الصبر، وأصل الصبر الحبس، ومن هذا قولهم قتل فلان صبرا ً، أي حبساً على القتل وقهراً عليه.
وقال هدبة بن خشرم وكان قتل رجلاً فطلب أولياء القتيل القصاص وقدموه إلى معاوية رضي الله عنه فسأله عما ادعى عليه فأنشأ يقول:
رُمينا فرامينا فصادف رمينا ... منية نفس في كتاب وفي قدر
وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... وراءك من مفدى ولا عنك من قصر
فإن يك في أموالنا لم نضق بها……ذرعاً وإن صبراً فنصبر للدهر
يريد بالصبر القصاص، وقيل لليمين مصبورة وإن كان صاحبها في الحقيقة هو المصبور لأنه إنما صبر من أجلها فأضيف الصبر إلى اليمين مجازاً واتساعاً.
ومن باب الحلف بالأنداد
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف(4/44)
على يمين فقال في حلفه واللات فليقل لا إله إلاّ الله، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق، يَعني بشيء.
قال الشيخ: فيه دليل على أن الحلف باللات لا يلزمه كفارة اليمين وإنما يلزمه الإنابة والاستغفار، وفي معناها إذا قال أنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام إن فعلت كذا وكذا وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد.
وقال النخعي وأبو حنيفة وأصحابه إذا قال هو يهودي إن فعل كذا فحنث كان عليه الكفارة، وكذلك قال الأوزاعي وسفيان الثوري وقول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه نحو من ذلك.
وقوله من قال لصاحبه تعال أقامرك قليتصدق، معناه فليتصدق بقدر ما جعله خطراً في القمار.
ومن باب الحلف بالآباء
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه، قال سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول وأبي فقال إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ قال عمر فوالله ما حلفت بها ذاكراً ولا آثراً.
قال الشيخ: قوله آثراً يريد مخبرا به من قولك آثرت الحديث آثره إذا رويته يقول ما حلفت ذاكراً عن نفسي ولا مخبراً به عن غيري.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود العتكي حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني، عَن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله في حديث قصة الأعرابي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق.(4/45)
قال الشيخ: قد ذكرنا هذا الحديث في كتاب الصلاة وأشبعنا بيانه هناك وليس بين هذا وبين حديث عمر خلاف على الوجه الذى تأولناه عليه فأغنى ذلك عن إعادته ههنا والله أعلم.
ومن باب كراهية الحلف بالأمانة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف بالأمانة فليس منا.
قال الشيخ: هذا يشبه أن تكون الكراهة فيها من أجل أنه إنما أمر أن يحلف بالله وبصفاته وليست الأمانة من صفاته، وإنما هي أمر من أمره وفرض من فروضه فنهوا عنه لما في ذلك من التسوية بينها وبين أسماء الله عز وجل وصفاته.
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا قال وأمانة الله كان يميناً ولزمته الكفارة فيها، وقال الشافعي لا يكون ذلك يميناً ولا يكون فيها كفارة.
ومن باب يحلف بالبراءة أو بملة غير الإسلام
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا زيد بن الحباب حدثنا حسين بن واقد حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف فقال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً.
قال الشيخ فيه دليل على أن من حلف بالبراءة من الإسلام فإنه يأثم ولا يلزمه الكفارة وذلك لأنه إنما جعل عقوبتها في دينه ولم يجعل في ماله شيئاً.(4/46)
ومن باب الاستثناء في اليمين
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث.
قال الشيخ: معنى قوله فاستثنى هو أن يستثنى بلسانه نطقاً دون الاستثناء بقلبه لأن في هذا الحديث من غير رواية أبي داود من حلف فقال إن شاء الله معلقة بالقول. وقد دخل بهذا كل يمين كانت بطلاق أو عتاق أو غيرهما لأنه صلى الله عليه وسلم عم ولم يخص.
ولم يختلف الناس في أنه إذا حلف بالله ليفعلن كذا أو لا يفعل كذا، واستثنى ان الحنث عنه ساقط، فأما إذا حلف بطلاق أو عتاق واستثنى، فإن مالك بن أنس والأوزاعي ذهبا إلى أن الإستثناء لا يغني عنه شيئاً، والعتق والطلاق واقعان، وعلة أصحاب مالك في هذا أن كل يمين تدخلها الكفارة فإن الإستثناء يعمل فيها وما لا مدخل للكفارة فيه فالإستئناء فيه باطل.
وقال مالك إذا حلف بالمشي إلى بيت الله واستثنى فإن الاستثناء ساقط والحنث له لازم.
ومن باب بكون القسم يميناً
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهرى عن عبيد الله عن ابن عباس، قال كان أبو هريرة يحدث، أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني أرى الليلة فذكر رؤيا فعبرها أبو بكر فقال النبي وص أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فقال أقسمت عليك يا رسول الله(4/47)
لتحدثني ما الذي أخطأت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا تقسم.
قال الشيخ: فيه مستدل لمن ذهب إلى أن القسم لا يكون يميناً بمجرده حتى يقول أقسمت بالله، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإبرار القسم فلو كان قوله أقسمت يميناً لأشبه أن يبره، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي.
وقد استدل من يرى القسم يميناً على وجه آخر فيقول لولا أنه يمين ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تقسم، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
ومن باب اليمين في الغضب وقطيعة الرحم
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر رضي الله عنه إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا يملك.
قال الشيخ: قوله رتاج الكعبة، أصل الرتاج الباب وليس يراد به الباب نفسه، وإنما المعنى أن يكون ماله هدياً إلى الكعبة أو في كسوة الكعبة والنفقة عليها أو نحو ذلك من أمرها.
وفيه من الفقه أن النذر إذا خرج مخرج اليمين كان بمنزلة اليمين في أن الكفارة تجزي عنه وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق.
وعن عائشة رضي الله عنها والحسن وطاوس أنهم قالوا فيما هذا معناه كفارة يمين.
وقال الشعبي والحكم وحماد فيمن حلف بصدقة ماله لا شيء عليه.(4/48)
وقال مالك إذا حلف بصدقة ماله يخرج ثلث ماله.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ينصرف ذلك إلى ما فيه الزكاة من المال دون ما لا زكاة فيه من العقار والخرثى والدواب.
وفيه بيان أن النذر إذا كان في معصية لم يلزم.
قال أبو داود: حدثنا المنذر بن الوليد الجارودي حدثنا عبد الله بن بكر حدثنا عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في قطيعة رحم. ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها.
قال الشيخ قد نطقت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الكفارة لازمة لمن حنث في يمينه وهو حديث عبد الرحمن بن سمرة، وحديث أبي موسى الأشعري وحديث أبي هريرة، وقال أبو داود وكذلك جاءت الأحاديث بذكر الكفارة إلاّ ما لا يعبأ به.
وقد روي عن بعضهم أنه رأى هذا من لغو اليمين، وقال لا كفارة فيه إذا كان معصية.
وحكي معنى ذلك عن مسروق بن الأجدع وسعيد بن جبير.
ومن باب الكفارة قبل الحنث
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن خلف حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يا عبد الرحمن إذا حلفت(4/49)
على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير.
قال الشيخ: فيه دليل على جواز تقديم الكفارة على الحنث وهو قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم. وهو مذهب الحسن البصري وابن سيرين، وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق؛ إلاّ أن الشافعي قال وإن كفر بالصوم قبل الحنث لم يجزه وإن كفر بالطعام أجزأه.
واحتج أصحابه في ذلك بأن الصيام مرتب على الاطعام فلا يجوز إلاّ مع عدم الأصل كالتيمم لما كان مرتباً على الماء لم يجز إلاّ مع عدم الماء.
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تجزيه الكفارة قبل الحنث على وجه من الوجوه لأنها لا تجب عليه بنفس اليمين وإنما يكون وجوبها بالحنث وأجازوا تقديم الزكاة قبل الحول، ولم يجوز مالك تقديمها قبل الحول كما جوز تقديم الكفارة قبل الحنث وأجازهما الشافعي معاً على الوجه الذي ذكرته لك.
ومن باب الرقبة المؤمنة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الحجاج الصواف حدثنا يحيى بن أبي بكير عن هلال بن أبي ميمونه عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي قال قلت يا رسول الله جارية لي صككتها صكة فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت أفلا أعتقها؛ قال ائتني بها، قال فجئت بها، فقال أين الله، قالت في السماء، قال من أنا، قالت أنت رسول الله، قال أعتقها فإنها مؤمنة.
قال الشيخ: قوله أعتقها فإنها مؤمنة، خرج مخرج التعليل في كون الرقبة مجزية في الكفارات بشرط الإيمان لأن معقولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بعتقها(4/50)
على سبيل الكفارة عن ضربها، ثم اشترط أن تكون مؤمنة فكذلك في كل كفارة.
وقد اختلف الناس في هذا فقال مالك والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد لا يجزيه إلاّ رقبة مؤمنة في شيء من الكفارات.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يجزيه غير المؤمنة إلاّ في كفارة القتل، وحكي ذلك عن عطاء أيضاً.
ومن باب يستثني في اليمين من بعد ما سكت
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا شريك عن سماك عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله لأغزون قريشاً والله لأغزون قريشاً والله لأغزون قريشاً، ثم قال إن شاء الله.
قال أبو داود قد أسند هذا الحديث غير واحد عن شريك بإسناد أسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: في هذا دليل على أن الاستثناء المعقب به الفصول المتصلة من الكلام راجعة إلى جميع ما تقدم منها.
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا حلف بالله وبالحج والعمرة ثم استثنى كان الاستثناء عاماً فيها كلها، فأما إذا قال عبدي حر إن كلمت فلاناً عبدي الآخر حر ان كلمت فلاناً إن شاء الله ثم كلمه فإن عبده في اليمين الأولى حر في القضاء ولا يدين في ذلك إلاّ فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك لو قال لامرأته إن كلمت فلاناً فأنت طالق إن كلمت فلاناً فأنت طالق إن شاء الله، ثم كلمت فلاناً كانت التطليقة الأولى واقعة عليها في القضاء إذا كلمت فلان. فأما فيما بينه وبين الله فلا يقع عليها.(4/51)
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن بشر عن مسعر عن سماك عن عكرمة يرفعه قال والله لأغزون قريشاً ثم قال إن شاء الله، ثم قال والله لأغزون قريشاً إن شاء الله ثم قال والله لأغزون قريشاً ثم سكت ثم قال إن شاء الله.
قال الشيخ لم يختلف العلماء في أن استثناءه إذا كان متصلاً بيمينه فإنه لا يلزمه كفارة. وقال بعضهم له أن يستثني ما دام في مجلسه روي ذلك عن طاوس والحسن البصري.
وقال قتادة إذا استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه.
وقال أحمد بن حنبل يكون الاستثناء مادام في ذلك الأمر، وعن ابن عباس أنه قال. له استثناؤه بعد حين.
وعن مجاهد له أن يستثني بعد سنين وعن سعيد بن جبير بعد أربعة أشهر.
قلت وعامة أهل العلم على خلاف قول ابن عباس وأصحابه ولو كان الأمر على ما ذهبوا إليه لكان للحالف المخرج من يمينه حتى لا يلزمه كفارة بحال، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفرعن يمينه.
كتاب النذر
ومن باب النهي عن النذر
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد وحدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور بن المعتمر عن عبد الله بن مرة قال عثمان الهمداني عن عبد الله بن عمر قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النذر ثم اتفقا(4/52)
ويقول أنه لا يرد شيئاً وإنما يستخرج به من البخيل.
قال الشيخ: معنى نهيه عن النذر إنما هو تأكيد لأمره وتحذير التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه واسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي عنه قد صار معصية فلا يلزم الوفاء به، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجلب لهم في العاجل نفعاً، ولا يصرف عنهم ضراً، ولا يرد شيئاً قضاه الله. يقول فلا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئاً لم يقدره الله لكم أو تصرفون عن أنفسكم شيئاً جرى القضاء به عليكم، فإذا فعلتم فاخرجوا عنه بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم، هذا معنى الحديث ووجهه.
وقد أجمع المسلمون على وجوب النذر إذا لم يكن معصية ويؤكده قوله أنه يستخرج به من البخيل فيثبت بذلك وجوب استخراجه من ماله ولو كان غير لازم لم يجز أن يكره عليه والله أعلم.
وفي قوله إنه لا يرد شيئاً دليل على أن النذر إنما يصح إذا كان معلقاً بشيء كما تقول إن شفا الله مريضي فلله عليّ أن أتصدق بالف درهم أو أن يقدم غائبي أو يسلم مالي أو نحو ذلك من الأمور.
فأما إذا قال لله علي أن أتصدق بالف درهم فليس هذا بنذر، وإلى هذا ذهب الشافعي في أحد قوليه وهو غالب مذهبه.
وحكى أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى قال النذر وعد بشرط.
وقال أبو حنيفة النذر لازم وإن لم يعلق بشرط.(4/53)
ومن باب النذر في معصية
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن طلحة بن عبد الملك الايلي عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه.
قال الشيخ: في هذا بيان أن النذر في المعصية غير لازم وإن صاحبه منهي عن الوفاء به، وإذا كان كذلك لم تجب فيه كفارة ولو كان فيه كفارة لأشبه أن يجري ذكرها في الحديث وأن يوجد بيانها مقروناً به، وهذا على مذهب مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري إذا نذر في معصية فكفارته كفارة يمين، واحتجوا في ذلك بحديث الزهري وقد رواه أبو داود في هذا الباب.
قال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن المبارك عن يونس عن الزهري، عَن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين.
قال الشيخ: لو صح هذا الحديث لكان القول به واجباً والمصير إليه لازماً إلاّ أن أهل المعرفة بالحديث زعموا أنه حديث مقلوب وهم فيه سليمان بن أرقم فرواه عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة عن عائشة فحمله عن الزهري وأرسله، عَن أبي سلمة ولم يذكر فيه سليمان بن أرقم ولا يحيى بن أبي كثير.
وبيان ذلك ما رواه أبو داود حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا أيوب بن سليمان، عَن أبي بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال، عَن أبي عتيق وموسى بن عقبة عن ابن شهاب عن سليمان بن أرقم أن يحيى بن أبي كثير أخبره، عَن أبي سلمة(4/54)
عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
قال أبو داود: قال أحمد وإنما الحديث حديث ابن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير عن أبيه عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم فوهم فيه سليمان بن أرقم.
قلت وقالوا إن محمد بن الزبير هو الحنظلي وأبوه مجهول لا يعرف والحديث من طريق الزهري مقلوب، ومن هذا الطريق فيه رجل مجهول فالاحتجاج به ساقط والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري حدثني عبيد الله بن زحران أنبأنا سعيد وهو الرعيني أخبره أن عبد الله بن مالك أخبره أن عقبة بن عامر أخبره أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة فقال مروها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام.
قال الشيخ: أن أمره إياها بالاختمار فلأن النذر لم ينعقد فيه لأن ذلك معصية والنساء مأمورات بالاختمار والاستتار، وأما نذرها المشي حافية فالمشي قد يصح فيه النذر على صاحبه أن يمشي ما قدر عليه فإذا عجز ركب وأهدى هدياً.
وقد يحتمل أن تكون أخت عقبة كانت عاجزة عن المشي بل قد روي ذلك من رواية ابن عباس رضي الله عنه وقد ذكره أبو داود.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن مطر عن عكرمة عن ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية وأنها لا تطيق ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لغنى عن مشي(4/55)
أختك فلتركب ولتهد بدنة.
قال الشيخ: فأما قوله فلتصم ثلاثة أيام فإن الصيام بدل من الهدي خيرت فيه كما خير قاتل الصيد أن يفديه بمثله إذا كان له مثل وإن شاء قومه وأخرجه إلى المساكين وإن شاء صام بدل كل مد من الطعام يوماً وذلك قوله سبحانه وتعالى {أو عدل ذلك صياماً} [المائدة: 95] والله أعلم.
وقد اختلف الناس فيمن نذر المشي إلى بيت الله فقال الشافعي يمشي إن أطاق المشي فإن عجز أراق دماً وركب.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يركب ويريق دماً سواء أطاق أو لم يطق.
ومن باب النذر فيما لا يملك.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب، عَن أبي قلابة عن ابن المهلب عن عمران بن حصين قال كانت العضباء لرجل من عقيل وكانت من سوابق الحاج قال فأسر فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثق والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة فقال يا محمد علام تأخذني وتأخذ سابقة الحاج قال نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف وكان ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال وقد قال فيما قال وأنا مسلم أو قال قد أسلمت فلما مضى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عيسى ثم ناداه يا محمد يا محمد قال وكان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فرجع إليه فقال ما شأنك؟ قال إني مسلم قال لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، ثم رجعت إلى حديث سليمان فقال يا محمد إني جائع فأطعمني إني ظمآن فاسقني، قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه حاجتك أو قال هذه حاجته، قال فودي الرجل بعد بالرجلين قال وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء(4/56)
لرحله، قال فأغار المشركون على سرح المدينة فذهبوا به وذهبوا بالعضباء، قال فلما ذهبوا به وأسروا امرأة أبي ذر، قال وكانوا إذا كانوا من الليل يريحون إبلهم فبم في أفنيتهم، قال فنوموا ليلة فقامت المرأة فجعلت لا تضع يدها على بعير إلاّ رغا حتى أتت العضباء، قال فأتت على ناقة دلول مجرَّشة.
قال ابن عيسى فلم ترغ فركبتها ثم جعلت لله عليها إن نجاها لتنحرنها، قال فلما قدمت المدينة عرفت الناقة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأرسل إليها فجيء بها وأخبر بنذرها، فقال بئس ما جزرتها أو جزيتها إن الله أنجاها عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم.
قال الشيخ: قوله أخذت بجريرة حلفائك ثقيف اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم هذا يدل على أنهم كانوا عاقدوا بني عقيل أن لا يعرضوا للمسلمين ولا أحد من حلفائهم فنقض حلفاؤهم العهد ولم ينكره بنو عقيل فأخذوا بجريرتهم.
وقال آخرون هذا رجل كافر لا عهد له، وقد يجوز أخذه وأسره وقتله؛ فإذا جاز أن يؤخذ بجريحة نفسه وهي كافرة جاز أن يؤخذ بجريرة غيره ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره.
ويحكى معنى هذا عن الشافعي، وفيه وجه ثالث وهو أن يكون في الكلام إضمار يريد أنك إنما أخذت ليدفع بك جريرة حلفائك ثقيف فيفدى بك الأسراء الذين أسرهم ثقيف، ألا تراه يقول ففودي الرجل بعد بالرجلين.
وقوله إني مسلم ثم لم يخله النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك لكنه رده إلى دار الكفر فإنه يتأول على أنه قد كان أطلعه الله سبحانه على كذبه وأعلمه أنه تكلم به على التقية(4/57)
دون الإخلاص، ألا تراه يقول له هذه حاجتك حين قال إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني، وليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال الكافر إني مسلم قبل منه إسلامه ووكلت سريرته إلى ربه وقد انقطع الوحي وانسد علم باب الغيب.
وقوله لو كنت قلت ذلك وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح يريد أنك لو تكلمت بكلمة الإسلام طائعاً راغباً فيه قبل الأسار أفلحت في الدنيا بالخلاص من الرق وأفلحت في الآخرة بالنجاة من النار.
وفيه دليل على أن المسلم إذا حاز الكافر ماله ثم ظفر به المسلمون فإنه يرد إلى صاحبه المسلم ولا يغنمه آخذه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم.
قوله مجرَّشة معناها الوطية المذللة، يقال فلان جرشته الأمور أي راضته وذللته.
وفي الحديث دليل على أن النهي عن أن تسافر المرأة إلاّ مع ذي محرم إنما جاء في الأسفار المباحة دون السفر الواجب اللازم لها بحق الدين.
ومن باب النذر في معصية
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقال هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال مروه فليتكلم وليقعد وليستظل وليتم صومه.
قال الشيخ: قد تضمن نذره نوعين من طاعة ومعصية فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بما كان منهما طاعة وهو الصوم وأن يترك ما ليس بطاعة من القيام(4/58)
في الشمس وترك الكلام وترك الاستظلال بالظل وذلك لأن هذه الأمور مشاق تتعب البدن وتؤذيه وليس في شيء منها قربة إلى الله سبحانه، وقد وضعت عن هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم.
فأما المشي إلى بيت الله فالنذر فيه لازم لأن ذلك من المقدور عليه ولم يزل الناس يحجون مشاة كما يحجون ركباناً، وقال سبحانه {يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج: 27] .
فأما إذا تجاوز المشي والرحلة إلى أن يبلغ به الحفا والوجا وما أشبه ذلك فإنه خروج إلى المشقة التي تتعب الأبدان وربما أتلفتها فتخرج حينئذ عن أن تكون قربة وتنقلب النذور فيه معصية فلا يلزم الوفاء ولا يجب الكفارة فيه والله أعلم.
ومن باب ما يؤمر بوفائه من النذور
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي من أهل الطائف، قال حدثتني سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كرده، قالت خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت الناس يقولون رسول الله فجعلت أبده بصري فدنا إليه أبي وهو على ناقة له معه درة كدرة للكتاب فسمعت الأعراب والناس يقولون الطبطبية الطبطبية، فقال أبي يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل بها من هذه الأوثان، قال لا، قال فأوف بما نذرت به لله.
قال الشيخ: قولها ابده بصري معناه اتبعه بصري وألزمه إياه لا أقطعه عنه(4/59)
يقال ابد فلان فلاناً بصره وأباده بصره بمعنى واحد.
والطبطبية حكاية وقع الأقدام.
وفيه دليل على أن من نذر طعاماً أو ذبحاً بمكة أو في غيره من البلدان لم يجز أن يجعله لفقراء غير أهل هذا المكان وهذا على مذهب الشافعي وأجازه غيره لغير أهل ذلك المكان.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني قد نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال أوفي بنذرك.
قال الشيخ: ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور وأحسن حال أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة من بعض غزواته وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين صار فعله كبعض القرب التي هي من نوافل الطاعات ولهذا أبيح ضرب الدف واستحب في النكاح لما فيه من الإشاعة بذكره والخروج به عن معنى السفاح الذي هو استسرار به واستتار عن الناس فيه والله أعلم.
ومما يشبه هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحسان حين استنشده وقال له كأنما
ينضح به وجوه القوم النبل وكذلك استنشاده عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وغيرهما.
ومن باب النذر عن الميت
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن سعد بن عبادة(4/60)
استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه فقال اقض عنها.
قال الشيخ: في هذا بيان أن النذور التي نذرها الميت وكفارات الأيمان التي لزمته قبل الموت مقضية من ماله كالديون اللازمة له، وهذا على مذهب الشافعي وأصحابه؛ وعند أبي حنيفة لا تقضى إلاّ أن يوصي بها.
ومن باب من مات وعليه الصيام
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه.
قال الشيخ: قوله صام عنه وليه يحتمل وجهين أحدهما مباشرة فعل الصيام وقد ذهب إليه قوم من أصحاب الحديث.
والوجه الآخر أن يكون معناه الكفارة فعبر بالصوم عنها إذ كانت بدلاً عنه وعلى هذا قول أكثر الفقهاء.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام ليلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك.
قال الشيخ: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالوفاء فيما نذره في الجاهلية فقد دل على تعلق ذمته به.
وفيه دليل على أنه مؤاخذ بموانع الأحكام التي كانت مباديها في حال الكفر(4/61)
فلو حلف في الجاهلية وحنث في الإسلام لزمته الكفارة وهذا على أصل الشافعي ومذهبه، وعند أبي حنيفة لا تلزمه الكفارة بالحنث.
وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفرائض مأمورون بالطاعات.
وفيه دليل على أن الاعتكاف جائز بغير صوم لأنه إنما كان نذر اعتكاف ليلة والليل ليس بمحل للصوم.
كتاب العتق
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو بدر حدثني أبو عتبة حدثني سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم.
قال الشيخ: في هذا حجة لمن رأى بيع المكاتب جائزاً لأنه إذا كان عبداً فهو مملوك وإذا كان باقياً على أصل الملك لم يحدث لغيره فيه ملك كان غيرممنوع من بيعه، واحتج من أجاز بيعه بأنه لا خلاف أن أحكامه أحكام المماليك في شهاداته وجناياته والجناية عليه وفي ميراثه وحدوده وسهمه إن حضر القتال. وممن ذهب إلى إجازة بيعه إبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل وهو قول مالك بن أنس على نوع من الشرط فيه، وكان الشافعي يقول به في القديم ثم رجع أن بيعه غير جائز وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقال الأوزاعى يكره بيع المكاتب قبل عجزه للخدمة، وقال لا بأس أن يباع للعتق.
قلت كل ما أجاز بيعه فإنما أجازه على إثبات الكتابة له فيقوم المشتري مقام الذي كاتبه فيه أن يؤدي إليه عتق.(4/62)
فأما بيعه على أن يبطل كتابته وهو ماض فيها مؤد ما يجب عليه من نجومه فلا أعلم أحداً ذهب إليه إلاّ أن يعجز المكاتب عن اداء نجومه فيجوز عندئذ بيعه لأنه قد عاد رقيقاً كما كان قبل الكتابة.
وفي قوله المكاتب عبد ما بقي عليه درهم دليل على أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي نجومه بكمالها لم يكن محكوماً بعتقه وإن ترك وفاء لأنه إذا مات وهو عبد لم يصر حراً بعد الموت ويأخذ المال سيده ويكون أولاده رقيقا له.
وقد روي هذا القول عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل.
واستدل بعضهم في ذلك بأن تلف المبيع قبل القبض يبطل حكم العقد والمكاتب مبيع تلف قبل أن يقبض فيملك نفسه ونزول يد السيد عنه.
وروي عن علي وابن مسعود أنهما قالا إذا ترك المكاتب وفاء بما بقي عليه من الكتابة عتق، وإن ترك زيادة كانت لولده الأحرار، وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقال مالك نحواً من ذلك.
وفيه دليل على أن ليس للمكاتب أن يكاتب عبده لأنه عبد وأداء الكتابة توجب الحرية والحرية توجب الولاء، وليس المكاتب ممن يثبت له الولاء لأن الولاء بمنزلة النسب، وإلى هذا ذهب الشافعي في أحد قوليه، وفي قوله الآخر يجوز له أن يكاتبه لأنه من باب المكاسب وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن نبهان مكاتب لأم سلمة، قال سمعت أم سلمة تقول: قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه.(4/63)
قال الشيخ: وهذا كالدلالة على أنه إذا مات وترك الوفاء بكتابته كان حراً.
وقد يتأول أيضاً على أنه أراد به الاحتياط في أمره لأنه بعرض أن يعتق في كل ساعة بأن يعجل نجومه إذا كان واجداً لها والله أعلم.
ومن باب بيع المكاتب إذا فسخت المكاتبة
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وحدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قالا: حَدَّثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً، فقالت لها عائشة ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت، فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا وقالوا إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاعي فأعتقى فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما بال أناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة شرط شرط الله أحق وأوثق.
قال الشيخ: في خبر بريرة دليل على أن بيع المكاتب جائز وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لعائشة في ابتياعها وهي إنما جاءتها للأداء ولتستعين بها في ذلك، ولا دلالة في الحديث على أنها كانت قد عجزت عن أداء نجومها.
وتأول الخبر من منع من بيع المكاتب على أن بريرة قد رضيت أن تباع وأن بيعها للعتق كان فسخاً للكتابة ولم يكن بيعها بيع مكاتبة.
وزعم بعضهم أنهم إنما باعوا نجوم كتابتها واستدل على ذلك بقول عائشة(4/64)
رضي الله عنها فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك، وهذا لا يدل على جواز بيع نجوم الكتابة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن. ونجوم الكتابة غير مقبوضة وهي كالسلم لا يجوز بيعه، وإنما معنى قضاء الكتابة هو الثمن الذي يعطيهم على البيع عوضاً عن الرقبة.
والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم ابتاعي فأعتقي فدل أن الأمر قد استقر على البيع الذي هو العقد على الرقبة.
وقوله إنما الولاء لمن أعتق دليل على أنه لا ولاء لغير معتق وإن من أسلم على يدي رجل لم يكن له ولاؤه لأنه غير معتق. وكلمة إنما تعمل في الإيجاب والسلب جميعاً.
وقد توهم بعض الناس أن في قوله ابتاعي فأعتقي خلفاً لما اشترطوه على عائشة ورد الحديث من أجل ذلك، وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغرور الإنسان.
أخبرني أبو رجاء الغنوي حدثني أبي عن يحيى بن أكثم أنه كان يقول ذلك في هذا الحديث.
قلت وليس في الحديث شيء مما يشبه معنى الغرور والخلف وإنما فيه أن القوم كانوا قد رغبوا في بيعها فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن لعائشة في امضائه وكانوا جاهلين بحكم الدين في أن الولاء لا يكون إلاّ لمعتق وطمعوا أن يكون الولاء لهم بلا عتق، فلما عقدوا البيع وزال ملكهم عنها ثبت ملك رقبتها لعائشة فأعتقتها وصار الولاء لها لأن الولاء من حقوق العتق وتوابعه فلما تنازعوه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين أن الولاء في قضية الشريعة إنما هو لمن أعتق وأن من شرط(4/65)
شرطاً لا يوافق حكم كتاب الله عز وجل فهو باطل.
وقد روى من طريق عروة بن هشام في هذه القصة زيادة لم يتابع عليها ولم يذكرها أبو داود وهي أنه قال اشترطي لهم الولاء، وهذه اللفظة يقال إنها غير محفوظة ولو صحت تأولت على معنى أن لا تبالي بما يقولون ولا تعبئي بقولهم فإن الولاء لا يكون إلاّ لمعتق وليس ذلك على أن يشترطه لهم قولاً ويكون خلفاً لموعود شرط وإنما هو على المعنى الذي ذكرته من أنهم يحلّون، وقولهم ذلك لا يلتفت إليه إذا كان لغواً من الكلام خلفاً من القول.
وكان المزني يتأوله فيقول قوله اشترطي لهم الولاء معناه اشترطي عليهم الولاء كما قال سبحانه {أولئك لهم اللعنة} [الرعد: 25] بمعنى عليهم اللعنة.
وقوله ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله يريد أنها ليست من حكم كتاب الله تعالى وعلى موجب قضاياه ولم يرد أنها ليست في كتاب الله مذكوراً، ولكن الكتاب قد أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واعلم أن سنته بيان له، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق فكان ذلك منصرفاً إلى الكتاب ومضافاً إليه على هذا المعنى والله أعلم.
وقد استدل الشافعي من هذا الحديث على أن بيع الرقبة بشرط العتق جائز وموضع هذا الدليل ليس بالبين في صريح لفظ الحديث وإنما هو مستنبط من حكمه، وذلك أن القوم لا يشترطون الولاء إلا وقد تقدمه شرط العتق فثبت أن هذا الشرط على هذا المعنى في العقد والله أعلم.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم من رواية الليث عن ابن شهاب عن عروة ابتاعي وأعتقي بيان(4/66)
هذا المعنى، وقد روي أيضاً صريحاً من طريق الأسود.
حدثناه إبراهيم بن عبد الرحيم العنبري حدثنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الضبي حدثنا عفان حدثنا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن الأسود أن عائشة رضي الله عنها أرادت أن تشتري بريرة تعتقها فاشترطوا ولاءها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال اشتريها وأعتقيها فإن الولاء لمن أعطى الثمن.
قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ الحراني حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها، قالت وقعت جويرية بنت الحارث بن المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له فكاتبت على نفسها وكانت امرأة ملاَحة وذكرت القصة في تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها.
قال الشيخ: قوله ملاحة، يقال جارية مليحة وملاحة وفعالة يجيء في النعوت بمعنى التوكيد، فإذا شدد كان أبلغ في التوكيد كقوله سبحانه {ومكروا مكراً كباراً} [نوح: 22] . وقال الشماخ:
يا ظبية عطلاً حسانة الجيد
ومن باب العتق على شرط
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن سعيد بن جهمان عن سفينة قال كنت مملوكاً لأم سلمة فقالت اعتقك واشترط عليك أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت فقال إن لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت فأعتقتنى واشترطت عليَّ.
قال الشيخ: هذا وعد عبر عنه باسم الشرط، وأكثر الفقهاء لا يصححون إيقاع الشرط بعد العتق لأنه شرط لا يلاقي ملكاً ومنافع الحر لا يملكها غيره(4/67)
إلاّ بإجازة أو ما في معناها.
وقد اختلفوا في هذا فكان ابن سيرين يثبت الشرط في مثل هذا، وسئل أحمد بن حنبل عنه، فقال يشتري هذه الخدمة من صاحبه الذي اشترط له قيل له تشترى بالدراهم قال نعم.
ومن باب من أعتق نصيباً له من مملوك
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا همام قال وحدثنا محمد بن كثير المعنى أنبأنا همام عن قتادة، عَن أبي المليح، قال أبو الوليد عن أبيه أن رجلاً أعتق شقصاً من غلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ليس لله شريك، زاد ابن كثير في حديثه فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه.
قال الشيخ: فيه دليل على أن المملوك يعتق كله إذا أعتق الشقص منه ولا يتوقف على عتق الشريك الآخر وأداء القيمة ولا على الاستسعاء، ألا تراه يقول فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه وقال ليس لله شريك فنفى أن يقارّ الملك العتق وأن يجتمعا في شخص واحد، وهذا إذا كان المعتق موسراً فإذا كان معسراً فإن الحكم بخلاف ذلك على ما ورد بيانه في السنة وسيجيء ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب ابن أبي ليلى وابن شبرمة وسفيان الثوري والشافعي في أظهر قوليه إلى أن العتق إذا وقع من أحد الشريكين في شقصه وكان موسراً سرى في كله وعتق العبد ثم غرم المعتق لشريكه قيمة نصفه ويكون الولاء كله للمعتق.
وقال مالك بن أنس نصيب الشريك لا يعتق حتى يقوم العبد على المعتق(4/68)
ويؤمر بأداء حصته من القيمة إليه فإذا أداها عتق العبد كله، وهو أحد قولي الشافعي القديم وهذا القول مبني على النظر للشريك والقول الأول مبني على النظر للعبد.
ويحكى عن الشافعي فيه قول ثالث وهو أن يكون العتق موقوفاً على الأداء وهذا مبني على النظر للشريك والعبد معاً.
وقال أبو حنيفة إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه وهو موسر فشريكه الذي لم يعتق بالخيار إن شاء أعتق كما أعتق وكان الولاء بينهما نصفين، وإن شاء استسعى العبد في نصف قيمته ورجع شريكه بما ضمن على العبد فاستسعاه فيه فإذا أداه عتق وكان الولاء كله للمعتق. وخالفه أصحابه وقالوا بمثل قول الثوري وسائر أهل العلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك، عَن أبي هريرة أن رجلاً أعتق شقصاً من غلام فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه وغرمه بقية ثمنه.
قال الشيخ: وهذا يبين لك أن العتق قد كمل له بإعتاق الشريك الأول نصيبه منه فلولا أنه قد استهلكه لم يكن لقوله وغرمه بقية ثمنه معنى لأن الغرم إنما يقع في الشيء المستهلك.
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان حدثنا قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك، عَن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم من أعتق شقصاً في مملوك فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال وإلا استسعى العبد غير مشقوق عليه.
قال الشيخ: هذا الكلام لا يثبته أكثر أهل النقل مسنداً عن النبي صلى الله عليه وسلم ويزعمون أنه من كلام قتادة.(4/69)
وأخبرني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر فقال هذا الكلام من فتيا قتادة ليس من متن الحديث.
قال وحدثنا علي بن الحسين حدثنا المقري حدثنا همام عن عمارة عن النضر بن أنس عن رجل، عَن أبي هريرة أن رجلاً أعتق شريكاً له في مملوك فغرمه النبي صلى الله عليه وسلم بقية ثمنه.
وكان قتادة يقول إن لم يكن له مال استسعى قال ابن المنذر وقد أخبر همام ان ذكر السعاية من قول قتادة، قال وألحق سعيد بن أبي عروبة الذي ميزه همام من قول قتادة فجعله متصلاً بالحديث.
قلت وقد تأول بعض الناس فقال معنى السعاية أن يُستسعى العبد لسيده أي يستخدم ولذلك قال غير مشقوق عليه أي لا يحمل فوق ما يلزمه من الخدمة بقدر ما فيه من الرق لا يطالب باكثر منه.
قال أبو داود: حدثنا على بن عبد الله حدثنا محمد بن بشر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نَهيك، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شِقصاً أو شقيصاً له في مملوك فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال فإن لم يكن له مال قوم العبد قيمة عدل ثم استُسعي لصاحبه في قيمته غير مشقوق عليه.
قال أبو داود ورواه يحيى بن سعيد وابن أبي عدي عن سعيد بن أبي عروبة لم يذكرا فيه السعاية. ورواه يزيد بن زريع عن سعيد فذكر فيه السعاية. وقال محمد بن إسماعيل ورواه شعبة عن قتادة فلم يذكر السعاية.
قال الشيخ: اضطراب سعيد بن أبي عروبة في السعاية مرة يذكرها ومرة(4/70)
لا يذكرها فدل على أنها ليست من متن الحديث عنده وإنما هو من كلام قتادة وتفسيره على ما ذكره همام وبينه.
ويدل على صحة ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه وقد ذكره أبو داود في هذا الباب الذي يليه.
ومن باب من رأى من لم يكن له مال لم يستسع
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شقصاً له في مملوك أقيم عليه قيمة العدل فأعطى شركاؤه حصصهم وأعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق.
قال الشيخ: قوله وإلا فقد عتق عليه ما عتق يدل على أنه لا عاقبة وراء ذلك، وفيه سقوط السعاية وهو أثبت شيء روي من الحديث في هذا الباب.
قال أبو داود قال أيوب وروي هذا الحديث عن نافع فقال كان نافع ربما قال فقد عتق منه ما عتق وربما لم يقله.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن عمروعن سالم عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان العبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه فان كان موسراً يقوم عليه قيمة لا وَكس ولا شطط ثم يعتق.
قال الشيخ في قوله ثم يعتق حجة لمن ذهب إلى أن العتق لا يقع بنفس الكلام ولكنه بعد التقويم والأداء، وهو قول مالك بن أنس وربيعة بن عبد الرحمن.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن خالد، عَن أبي بشر العنبري، عَن أبي التَّلِب عن أبيه أن رجلاً أعتق نصيباً له في مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وسلم.(4/71)
قال الشيخ: هذا غير مخالف للأحاديث المتقدمة وذلك لأنه إذا كان معسراً لم يضمن وبقي الشقص مملوكاً كما كان.
ومن باب من ملك ذا رحم محرم
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل قالا: حَدَّثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة فيما يحسب حماد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم فهو حر.
قال أبو داود لم يحدث هذا الحديث إلاّ حماد بن سلمة وقد شك فيه.
قال أبو داود: قال وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن شعبة عن قتادة عن جابر بن زيد والحسن مثله. قال أبو داود وشعبة احفظ من حماد بن سلمة.
قال الشيخ: قلت الذي أراد أبو داود من هذا أن الحديث ليس بمرفوع أو ليس بمتصل إنما هو عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف الناس في هذا فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه، روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة وهو قول الحسن وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزبير والحكم وحماد وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وسفيان وأحمد وإسحاق.
وقال مالك بن أنس يعتق عليه الولد والوالد والإخوة ولا يعتق عليه غيرهم.
وقال الشافعي لا يعتق عليه إلاّ أولاده وآباؤه وأمهاته ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته.
وأما ذوو المحارم من الرضاعة فإنهم لا يعتقون في قول أكثر أهل العلم،(4/72)
وكان شريك بن عبد الله القاضي يعتقهم.
وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه واحتجوا بقوله لا يجزي ولد والده إلاّ أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه قالوا وإذا صح الشراء فقد ثبت الملك ولصاحب الملك التصرف، وحديث سمرة غير ثابت.
ومن باب في أمهات الأولاد
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قيس عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه فلما كان عمر رضي الله عنه نهانا فانتهينا.
قال الشيخ: ذكر أبو داود في صدر هذا الباب حديثاً ليس إسناده بذاك.
، قال: حَدَّثنا النفيلي عن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن خطاب بن صالح مولى الأنصار عن أمه عن سلامة بنت معقِل امرأة من قيس عيلان أن عمها قدم بها المدينة في الجاهلية فباعها من الحُبَاب بن عمرو فولدت له عبد الرحمن بن الحباب.
قال الشيخ:، يَعني ثم هلك فأرادوا بيعها فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعتاقها وعوضهم منها غلاماً.
وذهب عامة أهل العلم إلى أن بيع أم الولد فاسد وإنما روي الخلاف عن علي رضي الله عنه فقط.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنها تعتق في نصيب ولدها.
وقد روى حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين أنه قال لأبي معشر(4/73)
إني اتهمكم في كثير مما تروون عن علي رضي الله عنه لأني قال لي عبيدة بعث إليّ عليّ وإلى شريح يقول إني أبغض الاختلاف فاقضوا كما كنتم تقضون،، يَعني في أم الولد حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات صاحباي، قال فقتل علي رضي الله عنه قبل أن يكون للناس جماعة حدثونا بذلك عن علي بن عبد العزيز، عَن أبي النعمان عن حماد.
قلت واختلاف الصحابة إذا ختم بالاتفاق وانقرض العصر عليه صار إجماعاً وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال نحن لا نورث ما تركنا صدقة.
وقد خلف صلى الله عليه وسلم أم ولده مارية فلو كانت مالاً لبيعت وصار ثمنها صدقة.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين الأولاد والأمهات وفي بيعهن تفريق بينهن وبين أولادهن، ووحدنا حكم الأولاد وحكم أمهاتهم في الحرية والرق، وإذا كان ولدها من سيدها حراً دل على حرية الأم.
وقال بعض أهل العلم ويحتمل أن يكون هذا الفعل منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يشعر بذلك لأنه أمر يقع نادراً، وليست أمهات الأولاد كسائر الرقيق التي يتداولها الأملاك فيكثر بيعهن وشراؤهن فلا يخفى الأمر على العامة والخاصة في ذلك.
وقد يحتمل أن يكون ذلك مباحاً في العصر الأول ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قبل خروجه من الدنيا ولم يعلم به أبو بكر رضي الله عنه لأن ذلك لم يحدث في أيامه لقصر مدتها ولاشتغاله بأمور الدين ومحاربة أهل الردة واستصلاح أهل الدعوة ثم بقي الأمر على ذلك في عصر عمر رضي الله عنه مدة من الزمان، ثم نهى عنه عمر حين بلغه ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهوا عنه والله أعلم.(4/74)
ومن باب في بيع المدبر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء وإسماعيل بن أبي خالد عن سلمة بن كُهيل عن عطاء عن جابر بن عبد الله أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دُبُر منه لم يكن له غيره فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فبيع بسبعمائة أو تسعمائة.
قال الشيخ: قد اختلف مذاهب الناس في بيع المدبر واختلف أقاويلهم في تأويل هذا الحديث، فأجاز الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه بيع المدبر على الأحوال كلها، وروي ذلك عن مجاهد وطاوس.
وكان الحسن يرى بيعه إذا احتاج صاحبه إليه، وكان مالك يجيز بيع الورثة إذا كان على الميت دين يحيط برقبته ولا يكون للميت مال غيره.
وكان الليث بن سعد يكره بيع المدبر ويجيز بيعه إذا أعتقه الذي ابتاعه. وكان ابن سيرين يقول لا يباع إلاّ من نفسه.
ومنع من بيع المدبر سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والزهري وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وإليه ذهب سفيان والأوزاعي.
وتأول بعض أهل العلم الحديث في بيع المدبر على التدبير المعلق، قال وهو أن يقول لمملوكه إن مت من مرضي هذا فأنت حر، قال وإذا كان كذلك جاز بيعه، قال وأما إذا قال أنت حر بموتي أو بعد موتي فقد صار المملوك مدبراً على الإطلاق ولا يجوز بيعه.
قلت ليس في الحديث بيان ما ذكره من تعليق التدبير، وإنما جاء الحديث ببيع المدبر. واسم التدبير إذا أطلق كان على هذا المعنى لا على غيره.(4/75)
وقد باعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ظاهره جواز بيع المدبر؛ والمدبر هو من أعتق عن دبر.
ولم يختلفوا في أن عتق المدبر من الثلث فكان سبيله سبيل الوصايا وللموصي أن يعود فيما أوصى به وإن كان سبيله سبيل العتق بالصفة فهو أولى بالجواز ما لم يوجد الصفة المعلق بها العتق والله أعلم.
ومن باب فيمن أعتق عبيداً له لم يبلغوا الثلث
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب، عَن أبي قلابة، عَن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة أعبد عند موته لم يكن له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له قولاً شديداً ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأَرَقَّ أربعة.
قال الشيخ: في هذا بيان أن حكم عتق البتات في المرض الذي يموت به المعتق حكم الوصايا وإن ذلك من ثلث ماله.
وفيه إثبات القرعة في تمييز العتق الشائع في الأعيان وجمعه في بعض دون بعض.
وقوله فجزأهم ثلاثة أجزاء يريد أنه جزأهم على عبرة القيم دون عدد الرؤوس إلاّ أن القيم قد تساوت فيهم فخرج عدد الرؤوس على مساواة القيم وعبيد أهل الحجاز إنما هم الزنوج والحبش والقيم قد تتساوى فيها غالباً أو تتقارب.
وتفريق العتق في أجزاء العبيد يؤدي إلى الضرر في الملاك والمماليك معاً وجمع العتق يرفع الضرر وينفي سوء المشاركة. وأما الاستسعاء فقد ذكرنا فيما تقدم أن الحديث فيه غير صحيح فجمع الحرية به متعذر غير متيسر.(4/76)
وقد اعترض على هذا قوم فقالوا في هذا ظلم للعبيد لأن السيد إنما قصد إيقاع العتق عليهم جميعاً، فلما منع حق الورثة من استغراقهم وجب أن يقع الجائز منه شائعاً فيهم لينال كل واحد منهم حصته منه كما لو وهبهم ولا مال له غيرهم وكما لو كان أوصى بهم فإن الهبة والوصية قد تصح في الجزء في كل واحد منهم.
قلت هذا قياس ترده السنة، وإذا قال صاحب الشريعة قولاً وحكم بحكم لم يجز الاعتراض عليه برأي ولا مقابلة بأصل آخر ويجب تقريره على حاله واتخاذه أصلاً في بابه. والوصايا والهبات مخالفة للعتق لأن الورثة لا يتضررون بوقوع الهبة والوصية شائعين في العبد ويتضررون بوقوع العتق شائعاً، وأمرالعتق مبني على التغليب والتكميل إذا وجد إليه السبيل وحكم الدين قد منع من إكمال في جماعتهم فأكمل لمن خرجت له القرعة منهم.
قال الشافعي وهذا الحديث أصل في جواز الوصية في المرض بالثلث للأجانب لأن عتقه إياهم في معنى الوصية لهم وهم أجانب، قال وكانت العرب لا تستعبد من بينها وبينه نسب تريد بهذا أن الوصية للأقربين منسوخة بآية الميراث.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فقال بظاهر الحديث مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقد روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يعتق من كل واحد منهم الثلث ويستسعى في ثلثيه للورثة ويتق، ويروى ذلك عن الشعبي والنخعي، وعلى هذا القياس إذا اعتق في المرض الذي مات فيه عبداً لم يكن له مال غيره فإنه يعتق منه الثلث ويكون ثلثاه رقيقا للورثة في قول مالك والشافعي، وعند أبي حنيفة وأصحابه يعتق ثلثه ويستسعى في ثلثيه للورثة ويعتق.(4/77)
وتأول بعضهم الحديث على أنه إنما أراد بالتجزئة إفراز حصة الورثة من حصة العبيد دون تجزئة الأعيان وهذا تأويل فاسد.
وقد أخبر عمران بن حصين في هذا الحديث أنه أعتق اثنين منهم وأرق أربعة فصرح بوقوع القسمة في الأعيان دون الأجزاء ولو أراد الأجزاء لقال فأعتق الثلث وأرق الثلثين وما أشبه ذلك من الكلام والله أعلم.
وفي قوله فاعتق اثنين بيان صحة وقوع العتق لهما والرق لمن عداهما.
وفي قول من يرى استسعاء كل واحد منهما في ثلثي قيمته ترك للأمرين معاً لأنه لا يعتق أحداً منهم ولا يرقّه وفي ذلك مخالفة للحديث على وجهه، وقد جاء بيان ما قلناه صريحاً من رواية الحسن عن عمران بن حصين.
حدثناه إبراهيم بن فراس حدثنا أحمد بن علي بن سهل حدثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب، وأيوب عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين وقتادة وحميد وسماك بن حرب عن الحسن عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته وليس له مال غيرهم فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين ورد أربعة في الرق.
قوله ورد أربعة في الرق يبطل كل تأويل يتأول بخلاف ظاهر الحديث.
قال ابن فراس قوله عن سعيد بن المسيب هو مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أيوب عن ابن سيرين غريب والمشهور عن الحسن.
ومن باب من أعتق عبداً وله مال
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة والليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر عن بكير بن الأشجع عن نافع عن عبد الله(4/78)
بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعتق عبداً وله مال فمال العبد له إلاّ أن يشترط السيد.
قال الشيخ: الأصل أن مال العبد لسيده كما أن رقبته له وإنما أضيف إليه المال مجازاً على معنى أنه يتولى حفظه ويتصرف فيه بإذن سيده كما قيل غنم الراعي وصبيان المعلم، والعبد لا يملك في قول أكثر العلماء، وقد قال مالك إذا ملكه سيده ملك.
وحكي ذلك أيضاً عن الحسن البصري ولا أعلم خلافاً في أنه لا يرث، وإذا كان أصح وجوه الملك وأقواها الميراث وهو لا يملكه بلا خلاف فما عداه أولى بذلك.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من باع عبداً وله مال فمال للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع فجعل المال مردوداً على البائع إلاّ أن يبتاعه المشتري كما يبتاع رقبته فيكون عبداً ومالاً معلوماً بثمن معلوم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون ما قاله في مال العبد المعتق متأولاً على وجه الندب والاستحباب لأن يسمح به للعبد إذ كان العتق منه إنعاماً عليه ومعروفاً اصطنعه إليه فندب إلى مسامحته فيما في يده من المال ليكون إتماماً للصنيعة ورباً للنعمة التي أسداها إليه، وقد جرى من عادة السادة أن يحسنوا إلى مماليكهم إذا أرادوا إعتاقهم وأن يرضخوا لهم فكان أقرب ذلك أن يتجافى له عما في يده والله أعلم.
وحكى حمدان بن سهل عن إبراهيم النخعي أنه كان يرى المال للعبد إذا أعتقه السيد، وإليه كان يذهب حمدان قولاً بظاهر الحديث.
ومن باب عتق ولد الزنا
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا جرير عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولد الزنا شر الثلاثة.(4/79)
قال الشيخ: اختلف الناس في تأويل هذا الكلام فذهب بعضهم إلى أن ذلك إنما جاء في رجل بعينه كان موسوماً بالشر، وقال بعضهم إنما صار ولد الزنا شراً من والديه لأن الحد قد يقام عليهما فيكون العقوبة تمحيصاً لهما؛ وهذا في علم الله لا يدري ما يصنع به وما يفعل في ذنوبه.
وأنبأنا أبو هاشم حدثنا الدبري عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الكريم قال كان أبو ولد الزنا يكثر أن يمر بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقولون هو رجل سوء يا رسول الله فيقول صلى الله عليه وسلم: هو شر الثلاثة، يَعني الأب فحول الناس الولد شر الثلاثة، وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا قيل ولد الزنا شر الثلاثة قال بل هو خير الثلاث.
قلت هذا الذي تأوله عبد الكريم أمر مظنون لا يدرى صحته والذي جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة إنما هو ولد الزنا شر الثلاثة فهو على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال بعض أهل العلم أنه شر الثلاثة أصلاً وعنصراً ونسباً ومولوداً وذلك لأنه خلق من ماء الزاني والزانية وهو ماء خبيث.
وقد روي في بعض الحديث العرق دساس فلا يؤمن أن يؤثر ذلك الخبث فيه ويدب في عروقه فيحمله على الشر ويدعوه إلى الخبث، وقد قال سبحانه في قصة مريم {ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً} [مريم: 28] فقضوا بفساد الأصل على فساد الفرع.
وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في قوله تعالى {ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس} [الأعراف: 179] أنه قال ولد الزنا مما ذرىء لجهنم.
وعن سعيد بن جبير أنه قال ولد الزنا ذرىء لجهنم.
وكان مالك لا يجيز شهادة ولد الزنا على الزنا خاصة دون غيره من الشهادات للتهمة.(4/80)
وروى بعض من احتج له في ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه قال ودت الزانية أن النساء كلهن زنين.
وحكى ابن المنذر، عَن أبي حنيفة رصي الله عنه في كتاب الاختلاف أن من ابتاع غلاماً فوجده ابن زنا كان له أن يرده بالعيب.
فأما قول ابن عمر أنه خير الثلاثة فإنما وجهه أنه لا إثم له في الذنب الذي باشره والده فهو خير منهما لبراءته من ذنبهما والله أعلم.
ومن باب في ثواب العتق
قال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد الرملي حدثنا ضمرة عن ابن أبي عبلة عن العَريف بن الديلمي عن واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب، يَعني النار بالقتل، فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار.
قال الشيخ: كان بعض أهل العلم يستحب أن لا يكون العبد المعتق خصياً لئلا يكون ناقص العضو ليكون معتقه قد نال الموعود في عتق أعضائه كلها من النار بإعتاقه إياه من الرق في الدنيا.
كتاب الوصايا
ومن باب ما يؤمر به من الوصية
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرىء مسلم(4/81)
له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده.
قال الشيخ: قوله ما حق امرىء مسلم معناه ما حقه من جهة الحزم والاحتياط إلاّ أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه فإنه لا يدري متى توافيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك.
وفيه دليل على أن الوصية غير واجبة وهو قول عامة الفقهاء، وقد ذهب بعض التابعين إلى إيجابها وهو قول داود.
وفيه أن الوصية إنما تستحب لمن له مال يريد أن يوصي فيه دون من ليس له فضل مال، وهذا في الوصية التي هو متبرع بها من نحو صدقة وبر وصلة دون الديون والمظالم التي يلزمه الخروج عنها، فإن من عليه ديناً أو قبله تبعة لأحد من الناس فالواجب عليه أن يوصي فيه وأن يتقدم إلى أوليائه فيه، لأن أداء الأمانة فرض واجب عليه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد ومحمد بن العلاء قالا: حَدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي وائل عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها، قالت ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا بعيراً ولا شاة ولا أوصى بشيء.
قال الشيخ: قولها ولا أوصى بشيء تريد وصية المال خاصة لأن الإنسان إنما يوصي في مال سبيله أن يكون موروثا وهو صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً يورث فيوصي فيه، وقد أوصى بأمور منها ما روي أنه كان عامة وصيته عند الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته اخرجوا اليهود عن جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم.(4/82)
ومن باب ما يجوز للموصي في ماله
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف قالا: حَدَّثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال مرض سعد مرضاً اشفى منه، قال ابن أبي خلف بمكة فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلاّ ابنة لي أفأتصدق بالثلثين، قال لا، قال فبالشطر قال لا، قال فبالثلث، قال الثلث والثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة إلاّ أجرت فيها حتى اللقمة ترفعها إلي في امرأتك، قلت يا رسول الله أتخلّف عن هجرتي قال ان تُخلَّف بعدي فتعمل عملاً تريد به وجه الله تبارك وتعالى لا تزداد به إلاّ رفعة ودرجة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويُضر بك آخرون، ثم قال اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.
قال الشيخ: قوله وليس يرثني إلاّ ابنة لي يريد أنه ليس يرثني ذو سهم إلاّ ابنة دون من يرثه بالتعصيب لأن سعداً رجل من قريش من زهرة وفى عصبته كثرة.
وفي ذلك دليل على أن لمن مات وقد خلف من الورثة من يستوعب جميع ماله أن يوصي بالثلث منه.
وقد زعم بعض أهل العلم أن الثلث إنما هو لمن ليس له وارث يستوفي تركته.
وفي قوله الثلث كثير دليل على أنه لا يجوز مجاوزته ولا أن يوصي بأكثر من الثلث سواء كان له ورثة أو لم يكن.
وقد زعم قوم أنه إذا لم يكن له ورثة وضع جميع ماله حيث شاء، وإليه(4/83)
ذهب إسحاق بن راهويه، وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وقد اختلف أهل العلم في جواز الوصية بالثلث فذهب بعضهم إلى أن قوله والثلث كثير منعاً من الوصية به وأن الواجب أن يقصر عنه وأن لا يبلغ بوصيته تمام الثلث.
وروي عن ابن عباس أنه قال الثلث جنف والربع جنف.
وعن الحسن البصري أنه قال يوصي بالثلث أو الخمس أو الربع.
وقال إسحاق بن راهويه السنة في الربع لما قال النبي صلى الله عليه وسلم والثلث كثير إلاّ أن يكون رجلاً يعرف في ماله شبهات فعليه استغراق الثلث.
وقال الشافعي إذا ترك ورثته أغنياء لم يكره له أن يستوعب الثلث فإذا لم يدعهم أغنياء اخترت له أن لا يستوعبه.
وقوله عالة يتكففون الناس يريد فقراء يسألون الصدقة، يقال رجل عائل أي فقير وقوم عالة والفعل منه عال يعيل إذا افتقر.
ومعنى يتكففون يسألون الصدقة بأكفهم.
وقوله أتخلف عن هجرتي معناه خوف الموت بمكة وهي دار تركوها لله عز وجل وهاجروا إلى المدينة فلم يحبوا أن تكون مناياهم فيها.
ومن باب كراهية الإضرار في الوصية
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عمارة بن القعقاع، عَن أبي زرعة عمرو بن جرير، عَن أبي هريرة قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أى الصدقة أفضل؛ قال ان تصدق وأنت صحيح حريص تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا ولفلان(4/84)
كذا وقد كان لفلان.
قال الشيخ: فيه من الفقه أن للصحيح أن يضع ماله حيث شاء من المباح وله أن يشح به على من لا يلزمه فرضه.
وفيه المنع من الإضرار في الوصية عند الموت.
وفي قوله وقد كان لفلان دليل على أنه إذا أضر في الوصية كان للورثة أن يبطلوها لأنه حينئذ مالهم، ألا تراه يقول وقد كان لفلان يريد به الوارث والله أعلم.
ومن باب الوصية للوارث
قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث.
قال الشيخ: قوله أعطى كل ذي حق حقه إشارة إلى آية المواريث وكانت الوصية قبل نزول الآية واجبة للأقربين وهو قوله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين} [البقرة: 18] ثم نسخت بآية الميراث.
وإنما تبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر الورثة فإذا أجازوها جازت كما إذا أجازوا الزيادة على الثلث للأجنبي جاز.
وذهب بعضهم إلى أن الوصية للوارث لا تجوز بحال وإن أجازها سائر الورثة لأن المنع منها إنما لحق الشرع فلو جوزناها لكنا قد استعملنا الحكم المنسوخ وذلك غير جائز كما أن الوصية للقاتل غير جائزة وإن أجازها الورثة.(4/85)
ومن باب ما لولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم
قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة أن خالد بن الحارث حدثهم، قال: حَدَّثنا حسين، يَعني المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم قال فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل.
قال الشيخ: قوله غير متأثل أي غير متخذ منه أصل مال واثلة الشيء أصله.
ووجه إباحته الأكل من مال اليتيم أن يكون ذلك على معنى ما يستحقه من العمل فيه والاستصلاح له وأن يأخذ منه بالمعروف على قدر مثل عمله.
وقد اختلف الناس في الأكل من مال اليتيم فروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال يأكل منه الوصي إذا كان يقوم عليه، وإليه ذهب أحمد بن حنبل.
وقال الحسن والنخعي يأكل ولا يقضي، وقال عبيدة السلماني وسعيد بن جبير ومجاهد يأكل ويؤديه إليه إذا كبر وهو قول الأوزاعي.
ومن باب متى ينقطع اليتم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا يحيى بن محمد المديني حدثنا عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم عن أبيه عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش أنه سمع شيوخا من بني عمرو بن عوف ومن خاله عبد الله بن أبي أحمد قال: قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل.
قال الشيخ: ظاهر هذا القول يوجب انقطاع أحكام اليتم عنه بالاحتلام(4/86)
وحدوث أحكام البالغين له فيكون للمحتلم أن يبيع ويشتري ويتصرف في ماله ويعقد النكاح لنفسه وإن كانت امرأة فلا تزوج إلاّ بإذنها.
ولكن المحتلم إذا لم يكن رشيداً لم يفك الحجر عنه وقد يحظر الشيء بشيئين فلا يرتفع بارتفاع أحدهما مع بقاء السبب الآخر وقد أمر الله تعالى بالحجر على السفيه فقال {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء: 5] وقال {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً} [البقرة: 282] فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف، فكان معنى الضعيف راجعاً إلى الصغير، ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسب والقلم مرفوع عن غير البالغ فالجرح والذم مرفوعان عنه؛ وقال سبحانه {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] فشرط في دفع المال إليهم شيئين الاحتلام والرشد. والحكم إذا كان وجوبه معلقاً بشيئين لم يجب إلاّ بورودهما معاً.
وقوله لا صمات يوم إلى الليل وكان أهل الجاهلية من نسكهم الصمات، وكان الواحد منهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت ولا ينطق فنهوا عن ذلك وأمروا بالذكر والنطق بالخير.
ومن باب الدليل على أن الكفن من جميع المال
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش، عَن أبي وائل عن خباب، قال مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يكن له إلاّ نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجله خرج رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الاذخر.(4/87)
قال الشيخ: قلت فيه دلالة على أن الكفن من رأس المال وأنه إذا استغرق الكفن جميع المال كان الميت أولى به من الورثة.
ومن باب الرجل يهب الهبة ثم يوصى له بها أو يرثها
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت تصدقت على أمي بوليدة وأنها ماتت وتركت تلك الوليدة، قال قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث. قالت وأنها ماتت وعليها صوم شهر أفيجزي أو يقضي عنها أن أصوم عنها، قال: نعم.
قال الشيخ: الوليدة الجارية المملوكة ومعنى الصدقة ههنا العطية وإنما جرى عليها اسم الصدقة لأنها بر وصلة فيها أجر فحلت محل الصدقة.
وفيه دليل على أن من تصدق على فقير بشيء فاشتراه منه بعد أن قبضه إياه فإن البيع جائز وإن كان يستحب له أن لا يرجعه إلى ملكه بعد أن أخرجه بمعنى الصدقة.
وقولها أصوم عنها يحتمل أن يكون أرادت الكفارة عنها فيحل محل الصوم ويحتمل أن يكون أرادت الصيام المعروف.
وقد ذهب إلى جواز الصوم عن الميت بعض أهل العلم، وذهب أكثر العلماء إلى أن عمل البدن لا يقع فيه النيابة كما لا يقع فيه الصلوات.
ومن باب الصدقة عن الميت
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا ابن وهب عن سليمان، يَعني ابن بلال عن العلاء بن عبد الرحمن أراه عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(4/88)
إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاثة أشياء من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.
قال الشيخ: فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في معناهما من عمل الأبدان لا تجري فيها النيابة.
وقد يستدل به من يذهب إلى أن من حج عن ميت فإن الحج في الحقيقة يكون للحاج دون المحجوج عنه وإنما يلحقه الدعاء ويكون له الأجر في المال الذي أعطى ان كان حج عنه بمال.
كتاب الفرائض
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة ماضية أو فريضة عادلة.
قال الشيخ: في هذا حث على تعلم الفرائض وتحريض عليه وتقديم تعلمه.
والآية المحكمة هي كتاب الله واشترط فيها الاحكام لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به وإنما يعمل بناسخه.
والسنة القائمة هي الثابتة بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من السنن المروية، وأما قوله أو فريضة عادلة فإنه يحتمل وجهين من التأويل أحدهما أن يكون من العدل في القسمة فيكون معدله على السهام والأنصباء المذكورة في الكتاب والسنة.(4/89)
والوجه الآخر أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معانيهما فتكون هذه الفريضة تعدل بما أخذ عن الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصاً.
وقد اختلف الصحابة في مسائل من الفرائض وتناظروا فيها وتحروا تعديلها فاعتبروها بالنصوص كمسألة الزوج والأبوين.
حدثنا إبراهيم بن فراس حدثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ حدثنا موسى بن محمد بن حبان البصري حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن الأصفهاني عن عكرمة قال أرسل ابن عباس رضي الله عنهما إلى زيد بن ثابت فسأله عن امرأة تركت زوجها وأبويها، قال للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي، فقال تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك، قال أقوله برأيي لا أفضل أماً على أب.
قلت فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه وهو قوله تعالى {وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء: 11] فلما وجد نصيب الأم الثلث وكان باقي المال وهو الثلثان للأب قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذ لم يكن مع الوالدين ابن أو ذو سهم فقسمه بينهما على ثلاثة أسهم للأم سهم والباقي وهو سهمان للأب، وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الأم من النصف الباقي ثلث جميع المال وللأب ما بقي وهو السدس فيفضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل المورث أكثر مما للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل، وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الأم وبخس الأب حقه برده إلى السدس فترك قوله عليه وصار عامة الفقهاء إلى قول زيد.(4/90)
ومن باب من ليس له ولد وله أخوات
قال أبو داود: حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا أبو بكر، عَن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله يستفتونك في الكلالة ما الكلالة قال تجزيك آية الصيف، قلت لأبي إسحاق هو من مات ولم يدع ولداً ولا والداً قال كذلك ظنوا أنه كذلك.
قال الشيخ: وقد روي أن الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويشبه أن يكون والله أعلم إنما لم يفته عن مسألته ووكل الأمر في ذلك إلى بيان الآية اعتماداً على علمه وفقهه ليتوصل إلى معرفتها بالاجتهاد الذى هو طريق التبين ولو كان السائل غيره ممن ليس له مثل علمه وفهمه لأشبه أن لا يفتصر في مسألته على الإشارة إلى ما أجمل في الآ ية من الحكم دون البيان الشافي في التسمية له والنص عليه والله أعلم.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ هذه الآية فإذا صار إلى قوله {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176] قال اللهم من بينت له فإن عمر لم يتبين.
واختلفوا في الكلالة من هو فقال أكثر الصحابة من لا ولد له ولا والد. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه اختلاف فروي أنه قال الكلالة من لا ولد له ولا والد مثل قول سائر الصحابة.
وروي عنه أنه قال الكلالة من لا ولد له، ويقال إن هذا آخر قوليه.
حدثنا محمد بن هاشم حدثنا الدبري عن عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى عند موته فقال الكلالة كما قلت، قال ابن عباس وما قلت قال من لا ولد له.(4/91)
وأنبأنا بن الأعرابي حدثنا سعدان حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن الحسن قال سألت ابن عباس رضي الله عنه فقال هو ما عدا الوالد والولد، قال قلت فإن الله عز وجل يقول {إن امرؤ هلك ليس له ولد} [النساء: 176] قال فغضب وانتهرني.
قلت إنما أشكل هذا من قبل أن المسمى في الآية والمشروط فيها هو من لا ولد له وليس للوالد فيها ذكر. وقيل إن بيان الشرط الآخر الذي هو الوالد مأخوذ من حديث جابر بن عبد الله وفيه أنزلت الآية، وكان ذلك من باب زيادة السنة على الكتاب وكان جابر يوم نزول الآية لا ولد له ولا والد، وقد ذكر أبو داود قصة جابر في هذا الباب قال:
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا كثير بن هشام حدثنا هشام، يَعني الدستوائي، عَن أبي الزبير عن جابر، قال اشتكيت وعندي سبع أخوات فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين، قال أحسن قلت الشطر، قال أحسن، ثم خرج وتركني، فقال يا جابر ألا أراك ميتاً من وجعك هذا وإن الله قد أنزل فبين الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين، قال وكان جابر يقول أنزل في هذه الآية {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 176] .
قال الشيخ: روي أن عبد الله بن حرام أبا جابر قتل يوم أحد ونزلت آية الكلالة في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم ويقال أنه آخر ما نزل من القرآن فكان جابر يوم نزول الآية لا ولد له ولا والد فصار شأنه بيانا لمراد الآية فهذا قول بعض العلماء في بيان معنى الكلالة.
قلت وفيه وجه آخر وهو أشبه بمعنى الحديث وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال السائل(4/92)
عن الكلالة تجزيك آية الصيف فوقعت الإحالة منه على الآية في بيان معنى الكلالة فوجب أن يكون ذلك مستنبطاً من نفس الآية دون غيرها.
ووجه ذلك وتحريره أن الولد والوالد اسمان مشتقان من الولادة فكل واحد منهما يتعلق بالآخر ويتعدى إليه من طريق الدلالة فكل من انتظمه اسم الولادة من أعلى وأسفل فإنه قد يحتمل أن يدعى ولداً فالوالد يسمى ولداً لأنه قد وَلَد والمولود يسمى ولداً لأنه قد وُلِد.
وهذا كالذرية وهو اسم مشتق من ذرأ الله الخلق فالولد ذرية لأنهم ذرئوا أي خلقوا والأب ذرية لأن الولد ذرىء منه ويدل على صحة ذلك قوله سبحانه وتعالى {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} [يّس: 41] يريد والله أعلم نوحاً ومن معه فجعل الآباء ذرية كالأولاد لصدور الاسمين معاً عن الذرء، وفي لغة العرب توسع وانبساط ويقع ذلك فيها من وجوه منها الاشتقاق والتركيب ومنها المجاز والتشبيه ومنها الاستعارة والتقريب إلى وجوه غيرها وكل ذلك بيان وأدلتها مستعملة حيثما وجدت. فعلى هذا قد يصح أن يكون المراد بقوله {إن امرؤ هلك ليس لم ولد} [النساء: 176] أي ولادة في الطرفين من أعلى وأسفل، وهو معنى قول الصحابة وعامة الفقهاء أن الكلالة من ليس له ولد ولا والد.
واسم الكلالة في اللغة مشتقة من تكلل النسب وذلك أن الإخوة إنما يتكللون الميت من جوانبه ويلقونه من نواحيه والولد والوالد إنما يأتيانه من تلقاء النسب ويجتمعان معه في نصابه وعموده.
وأما قوله تجزيك آية الصيف فإن الله سبحانه أنزل في الكلالة آيتين احداهما في الشتاء وهي الآية التي نزلت في سورة النساء وفيها إجمال وإبهام لا يكاد(4/93)
يتبين هذا المعنى من ظاهرها ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف وهي في آخر سورة النساء وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء فأحال السائل عليها ليستبين المراد بالكلالة المذكورة فيها والله أعلم.
وقد أفردت مسألة في الكلالة وتفسيره وأودعتها من الشرح والبيان أكثر من هذا وهو من غريب العلم ونادره وفيما أوردناه ههنا كفاية إن شاء الله عز وجل.
ومن باب ما جاء في الصلب
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة حدثنا علي بن مُسهر عن الأعمش، عَن أبي قيس الأودي عن هزيل بن شُرَحبيل الأودي قال جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة فسألهما عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم فقالا لابنته النصف وللأخت من الأب والأم النصف ولم يورثا ابنة الابن شيئاً وأت ابن مسعود فإنه سيتابعنا فأتاه الرجل فسأله وأخبره بقولهما، فقال لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، ولكني أقضي فيها بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم لابنته النصف ولابنة الابن سهم تكملة الثلثين وما بقي فللأخت من الأب والأم.
قال الشيخ: في هذا بيان أن الأخوات مع البنات عصبة وهو قول جماعة الصحابة والتابعين وعامة فقهاء الأمصار إلاّ ابن عباس رضي الله عنه فإنه قد خالف عامة الصحابة في ذلك وكان يقول في رجل مات وترك ابنة وأختاً لأبيه وأمه إن النصف للابنة وليس للأخت شيء، وقيل له إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى بخلاف ذلك جعل للأخت النصف وللابنة النصف فقال أهم اعلم أم الله، يريد قوله سبحانه {إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} [النساء: 176] فإنما جعل للأخت الميراث بشرط عدم الولد.(4/94)
وروي عنه أنه كان يقول وددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.
قلت وجه ما ذهب إليه الصحابة من الكتاب مع بيان السنة التي رواها عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، أن الولد المذكور في الآية إنما هو الذكور من الأولاد دون الإناث وهو الذي يسبق إلى الأوهام ويقع في المعارف عندما يقرع السمع فقيل ولد فلان وإن كان الإناث أيضاً أولاداً في الحقيقة كالذكور.
ويدل على ذلك قول الله سبحانه حكاية عن بعض الكفار {لأوتين مالاً وولداً} [مريم: 77] وقوله تعالى {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم} [الممتحنة: 3] وقوله {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15] فكان معلوماً أن المراد بالولد في هذه الآي كلها الذكور دون الإناث إذ كان مشهوراً من مذاهب القوم أنهم لا يتكثرون بالبنات ولا يرون فيهن موضع نفع وعز، بل كان مذاهبهم وأدهن ودفنهن أحياء والتعفية لآثارهن.
وجرى التخصيص في هذا الاسم كما جرى ذلك في اسم المال إكا أطلق في الكلام فإنما يختص عرفاً بالإبل دون سائر أنواع المال ومشهور في كلامهم أن يقال غدا مال فلان وراح يريدون سارحة الإبل والمواشي دون ما سواها من أصناف المال.
وإذا ثبت أن المراد بالولد المذكور في قوله سبحانه {إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} [النساء: 176] الذكور من الأولاد دون الإناث لم يمنع الأخوات الميراث مع البنات.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن الفضل حدثنا عبد الله بن محمد بن(4/95)
عقيل عن جابر بن عبد الله قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواف فجاءت المرأة بابنتين لها فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله فلم يدع لهما مالاً إلاّ أخذه فما ترى يا رسول الله فوالله لا تنكحان أبداً إلاّ ولهما مال، قال فنزلت سورة النساء {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعوا لي المرأة وصاحبها، فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك.
قال الشيخ: قوله استفاء ما لهما معناه استرد واسترجع حقهما من الميراث فافتات به عليهما وأصله من الفيء وهو الرجوع، ومنه الفيء الذي يؤخذ من أموال الكفار إنما هو مال رده الله إلى المسلمين كان في أيدي الكفار.
وقولها وهاتان ابنتا ثابت بن قيس قد قتل معك يوم أحد غلط من بعض الرواة وإنما هي امرأة سعد بن الربيع وابنتاه قتل سعد بأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي ثابت بن قيس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شهد اليمامة في عهد أبي بكر الصديق.
وكذلك رواه عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن ابن عقيل عن جابر.
حدثناه أحمد بن سليمان البخاري حدثنا هلال بن العلاء بن هلال حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن ابن عقيل عن جابر، قال جاءت امرأة سعد بن الربيع مع ابنتي سعد فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قد قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً وقد أخذ عمهما كل شيء ترك أبوهما وذكر الحديث.(4/96)
ومن باب ميراث العصبة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح ومخلد بن خالد وهذا حديث مخلد وهو أشبع، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقسم المال بين أهل الفرائض على كتاب الله عز وجل فما تركت الفرائض فلأولى ذكر.
قلت معنى أولى ههنا أقرب والولي القرب يريد أقرب العصبة إلى الميت كالأخ والعم فإن الأخ أقرب من العم، وكالعم وابن العم فالعم أقرب من ابن العم، وعلى هذا المعنى ولو كان قوله أولى بمعنى أحق لبقي الكلام مبهماً لا يستفاد منه بيان الحكم إذ كان لا يدرى من الأحق ممن ليس بأحق فعلم أن معناه أقرب النسب على ما فسرناه والله أعلم.
ومن باب ميراث ذوي الأرحام
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب في آخرين قالوا حدثنا حماد عن بديل، يَعني ابن ميسرة عن علي بن أبي طلحة عن راشد بن سعد، عَن أبي عامر الهَوزني عن المقدام الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك ديناً أو ضيعة فإليَّ ومن ترك مالاً فلورثته وأنا مولى من لا مولى له ارث ماله وافك عانه، والخال مولى من لا مولى له يرث ماله ويفك عانه.
قال وحدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن بديل بإسناده نحوه، وقال والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه.
قال أبو داود: حدثنا عبد السلام بن عتيق الدمشقي حدثنا محمد بن المبارك(4/97)
حدثنا إسماعيل بن عياش عن يزيد بن حجر عن صالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخال وارث من لا وارث له يفك عُنِيَّه ويرث ماله.
قال الشيخ: قوله يفك عانه يريد عانيه فحذف الياء والعاني الأسير.
وكذلك قوله يفك عنيه إنما هو مصدر عنا الرجل يعنو عنواً وعنياً، وفيه لغة أخرى عنى، يَعني.
ومعنى الاسار ههنا هو ما تتعلق به ذمته ويلزمه بسبب الجنايات التي سبيلها أن تتحملها العاقلة.
وبيان ذلك قوله في الحديث من رواية شعبة عن بديل بن ميسرة يعقل عنه ويرث ماله.
والحديث حجة لمن ذهب إلى توريث ذوي الأرحام، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.
وكان مالك والأوزاعي والشافعي لا يورثون ذوي الأرحام وهو قول زيد بن ثابت وتأول هؤلاء حديث المقدام على أنه طعمة أطعمها الخال عند عمد الوارث لا على أن يكون للخال ميراث راتب، ولكنه لما جعله يخلف الميت فيما يصير إليه من المال سماه وارثاً على سبيل المجاز كما قيل الصبر حيلة من لا حيلة له والجوع طعام من لا طعام له وما أشبه ذلك من الكلام.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يدفع مال رجل لم يدع ولاء حميماً إلى رجل من أهل قريته.
وروي أن رجلاً جاءه فقال عندي ميراث رجل من الأزد(4/98)
ولست أجد أزدياً أدفعه إليه، فقال له انطلق فانظر أول خزاعي تلقاه فادفعه إليه أو قال ادفعه إلى كُبْر خزاعة.
وروي أن رجلاً جاءه وقال توفي ابن ابني قال لك السدس، فلما ولى دعاه وقال له خذ سدساً آخر وهو طعمة لك.
وروي أن رجلاً مات ولم يدع وارثاً إلاّ غلاماً له كان أعتقه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه له.
وقد روى أبو داود هذه الأخبار كلها على وجوهها في هذا الباب وقالوا ومعلوم أن الخال لا يعقل ابن اخته فكذلك لا يكون وارثاً له فلو صح أحدهما لصح الآخر، وقال بعضهم إنما جاء ذلك خاصاً في خال يكون عصبة فيكون عاقلة كما يكون وارثاً والله أعلم.
ومن باب ميراث ابن الملاعنة
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا محمد بن حرب عن عمرو بن رؤبة التغلبي عن عبد الواحد بن عبد الله النصري عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المرأة تحرز ثلث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عنه.
قال الشيخ: أما اللقيط فإنه في قول عامة الفقهاء حر وإذا كان حراً فلا ولاء عليه لأحد والميراث إنما يستحق بنسب أو ولاء وليس بين اللقيط وملتقطه واحد منهما، وكان إسحاق بن راهويه يقول ولا اللقيط لملتقطه ويحتج بحديث واثلة وهذا الحديث غير ثابت عند أهل النقل وإذا لم يثبت الحديث لم يلزم القول به وكان ما ذهب إليه عامة العلماء أولى.
وقال بعضهم لا يخلو اللقيط من أن يكون حراً فلا ولاء عليه أو يكون ابن(4/99)
أمة قوم فليس لملتقطه أن يسترقه.
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد وموسى بن عامر قالا: حَدَّثنا الوليد حدثنا ابن جابر حدثنا مكحول قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها.
قال الشيخ: جعل ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها ظاهره أن جميع ماله لأمه في حياتها ولورثتها إن كانت أمه قد ماتت، وإلى هذا ذهب مكحول والشعبي وهو قول سفيان الثوري.
وقال أحمد بن حنبل ترثه أمه وعصبة أمه، وقد روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما قالا الأم عصبة من لا عصبة له.
وقال مالك والشافعي إن كانت أمه مولاة كان ما فضل عن سهمها لمواليها وإن كانت عربية فإن ما بقي لبيت المال وهو قول الزهري.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ميراث ابن الملاعنة كميراث غيره فمن يموت ولا عصبة له فإن ترك أصحاب فرائض اعطوا فرضهم ويرد ما فضل عليهم على قدر سهامهم فإن يترك وارثاً ذا سهم وترك قرابات ليسوا بأصحاب فرائض فإنهم يرثون كما يرث ذوو الأرحام في غير باب ابن الملاعنة ولا يكون عصبة أمه عصبة له.
ومن باب هل يرث المسلم الكافر
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر.
قال الشيخ: عموم هذا الحديث يوجب منع التوارث بين كل مسلم وكافر سواء(4/100)
كان الكافر على دين يقر عليه أو كان مرتداً يجب قتله. ومن لم يورث كافراً من مسلم لزمه أن لا يورث مسلماً من كافر.
وقد اختلف الناس في هذا فقال إسحاق بن راهويه يرث المسلم الكافر ولا يرثه الكافر، وروي ذلك عن معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان.
وقد حكي ذلك أيضاً عن إبراهيم النخعي وقالوا نرثهم ولا يرثوننا كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا، وقال عامة أهل العلم بخلاف ذلك.
واختلفوا في ميراث المرتد فقال مالك بن أنس وابن أبى ليلى والشافعي ميراث المرتد فيء ولا يرثه أهله وكذلك قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
وقال سفيان الثوري ماله التليد لورثته المسلمين وما اكتسبه وأصابه في ردته فهو فيء للمسلمين وهو قول أبي حنيفة.
وقال الأوزاعي وإسحاق بن راهويه ماله كله لورثته المسلمين، وقد روي ذلك عن علي كرم الله وجهه وعبد الله وهو قول الحسن البصري والشعبي وعمر بن عبد العزيز.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوارث أهل ملتين شتى.
قال الشيخ: عموم هذا الكلام يوجب أن لا يرث اليهودي النصراني ولا المجوسي اليهودي، وكذلك قال الزهري وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل.
وقال أكثر أهل العلم الكفر كله ملة واحدة يرث بعضهم بعضاً، واحتجوا بقول الله سبحانه {الذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 73] وقد علق الشافعي القول(4/101)
في ذلك وغالب مذهبه أن ذلك كله سواء.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد، قال قلت يا رسول الله أين تنزل غداً في حجته قال وهل ترك لنا عقيل منزلاً.
قال الشيخ: موضع استدلال أبي داود من هذا الحديث في أن المسلم لا يرث من الكافر أن عقيلاً لم يكن أسلم يوم وفاة علي بن أبي طالب فورثه وكان علي وجعفر رضي الله عنهما مسلمين فلم يرثاه، ولما ملك عقيل رباع عبد المطلب باعها فذلك معنى قوله وهل ترك عقيل منزلاً.
ومن باب من أسلم على ميراث
قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا موسى بن داود حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار، عَن أبي الشعثاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وكل قسم أدركه الإسلام فإنه على قسم الإسلام.
قال الشيخ: فيه أن أحكام الأموال والأنساب والأنكحة التي كانت في الجاهلية ماضية على ما وقع الحكم منهم فيها أيام الجاهلية لا يرد منها شيء في الإسلام وإن ما حدث من هذه الأحكام في الإسلام فإنه يستأنف فيه حكم الإسلام.
ومن باب في الولاء
قال أبو داود: حدثنا قتيبة قال قرىء على مالك وأنا حاضر قال مالك عرض عن نافع عن ابن عمر أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أرادت أن تشتري جارية فتعتقها، فقال أهلها نبيعكها على أن ولاءها لنا فذكرت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم(4/102)
فقال لا يمنعك ذلك فإن الولاء لمن أعتق.
قال وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: قال رسول الله الولاء لمن أعطى الثمن ووَلِي النعمة.
قال الشيخ: في حديث ابن عمر دليل على أن بيع المملوك بشرط العتق جائز.
وقوله لا يمنعك ذلك معناه إبطال ما شرطوه من الولاء لغير المعتق.
وفي قوله الولاء لمن أعطى الثمن وولي النعمة دليل على أن لا ولاء إلا لمعتق وذلك أن دخول الألف واللام في الاسم مع الإضافة يعطي السلب والإيجاب كقولك الدار لزيد والمال للورثة فيه إيجاب ملك الدار وإيجاب المال للورثة وقطعهما عن غيرهما، وإذا كان كذلك ففيه دليل على أن من أسلم على يدي رجل فانه لا يرثه ولا يكون له ولاؤه لأنه لم يعتقه.
ومن باب الرجل يسلم على يدي الرجل
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قالا: حَدَّثنا يحيى وهو ابن حمزة عن عبد العزيز بن عمر قال سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري أنه قال يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين قال هو أولى الناس بمحياه ومماته.
قال الشيخ: قد احتج به من يرى توريث الرجل ممن يسلم على يده من الكفار وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، إلاّ أنهم قد زادوا في ذلك شرطاً وهو أن يعاقده ويواليه فإن أسلم على يده ولم يعاقده ولم يواله فلا شيء له.(4/103)
وقال إسحاق بن راهويه كقول أبي حنيفة وأصحابه إلاّ أنه لم يذكر الموالاة.
قلت ودلالة الحديث مبهمة وليس فيه أن يرثه إنما فيه أنه أولى الناس بمحياه ومماته، وقد يحتمل أن يكون ذلك في الميراث ويحتمل أنه يكون ذلك في رعي الذمام والايثار بالبر وما أشبههما من الأمور، وقد عارضه قوله صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق، وقال أكثر الفقهاء لا يرثه وضعف أحمد بن حنبل حديث تميم الداري هذا وقال: عبد العزيز راويه ليس من أهل الحفظ والاتقان.
ومن باب بيع الولاء
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته.
قال الشيخ: قال ابن الأعرابي محمد بن زياد كانت العرب تبيع ولاء مواليها وتأخذ عليه المال وأنشد في ذلك:
فباعوه مملوكاً وباعوه معتقاً ... فليس له حتى الممات خلاص
فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قلت وهذا كالإجماع من أهل العلم؛ إلاّ أنه قد روي عن ميمونه أنها كانت وهبت ولاء مواليها من العباس أو من ابن عباس رضي الله عنهما.
قال الشيخ: وسمعت أبا الوليد حسان بن محمد يذكر أن الذي وهبته ميمونه من الولاء كان ولاء سابية. وولاء السابية قد اختلف فيه أهل العلم.
ومن باب المولود يستهل ثم يموت
قال أبو داود: حدثنا حسين بن معاذ حدثنا عبد الأعلى حدثنا محمد، يَعني ابن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا استهل المولود وُرِّث.(4/104)
قال الشيخ: قوله استهل معناه رفع صوته بأن يصرخ أو يبكي وكل من رفع صوته بشيء فقد استهل به.
قلت ومعنى الاستهلال ههنا أن يوجد مع المولود أمارة الحياة فلو لم يتفق أن يكون منه الاستهلال وهو رفع الصوت وكان منه حركة أو عطاس أو تنفس أو بعض ما لا يكون ذلك إلاّ من حي فانه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. إلى هذا ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحسبه قول أبي حنيفة وأصحابه وقال مالك بن أنس لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. وروي عن محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة أنهم قالوا لا يورث المولود حتى يستهل.
ومن باب في الحِلْفِ
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عاصم الأحول قال سمعت أنس بن مالك يقول حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا مرتين أو ثلاثاً.
قال الشيخ: كان سفيان بن عيينة يقول معنى حالف آخى ولا حلف في الإسلام كما جاء في الحديث.
ومن باب المرأة ترث من دية زوجها
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد قال كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول الدية للعاقلة لا ترث المرأه من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن سفيان كتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشْيم(4/105)
الضبابي من دية زوجها فرجع عمر عنه.
قال الشيخ: فيه من الفقه أن دية القتيل كسائر ماله يرثها من يرث تركته وإذا كان كذلك ففيه دليل على أن القتيل إذا عفا عن الدية كان عفوه جائزاً في ثلث ماله لأنه قد ملكه، وهذا إنما يجور في قتل الخطأ لأن الوصية بالدية إنما تقع للعاقلة الذين يغرمون الدية دون قتل العمد لأن الوصية فيه إنما تقع للقاتل ولا وصية لقاتل كالميراث.
وإنما كان يذهب عمر رضي الله عنه في قوله الأول إلى ظاهر القياس وذلك أن المقتول لا تجب ديته إلاّ بعد موته وإذا مات فقد بطل ملكه، فلما بلغته السنة ترك الرأي وصار إلى السنة، وكان مذهب عمر رضي الله عنه أن الدية للعاقلة الذين يعقلون عنه إلى أن بلغه الخبر فانتهى إليه.
كتاب الأدب
ومن باب في الوقار
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه حدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال إن الهَدْي الصالح والسمْت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة.
قال الشيخ: هدي الرجل حاله ومذهبه وكذلك سمته. وأصل السمت الطريق المنقاد والاقتصاد سلوك القصد في الأمر والدخول فيه برفق وعلى سبيل يمكن الدوام عليه كما روي أنه قال خير الأعمال أدومها وإن قل.
يريد أن هذه الخلال من شمائل الأنبياء صلوات الله عليهم ومن الخصال(4/106)
المعدودة من خصالهم وأنها جزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا بهم فيها وتابعوهم عليها، وليس معنى الحديث أن النبوه تتجزأ ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة مكتسبة ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله سبحانه وخصوصية لمن أراد إكرامه بها من عباده والله يعلم حيث يجعل رسالاته وقد انقطعت النبوة بموت محمد صلى الله عليه وسلم.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون معنى النبوة ههنا ما جاءت به النبوة ودعت إليه الأنبياء صلوات الله عليهم. يريد أن هذه الخلال جزء من خمسة وعشرين جزءاً مما جاءت به النبوات ودعا إليه الأنبياء صلوات الله عليهم.
وقد أمرنا باتباعهم في قوله عز وجل {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 9] .
وقد يحتمل وجهاً آخر وهو أن من اجتمعت له هذه الخلال لقيه الناس بالتعظيم والتوقير وألبسه الله لباس التقوى الذي يلبسه أنبياؤه فكأنها جزء من النبوة والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعدون الصُّرَعَة فيكم قالوا الذي لا يصرعه الرجال، قال لا ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب.
قال الشيخ: الصرعة مفتوحة الراء هو الذي يصرع الرجال ويغلبهم في الصراع ومثله رجل خدعة إذا كان خداعاً للناس ولعبة إذا كان كثير اللعب، فأما اللعبة ساكنة العين فهو اسم الشيء الذي يلعب به، واللعبة مكسورة اللام الحال والهيئة في اللعب كالجلسة والقعدة والركبة ونحوها.(4/107)
قال أبو داود: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن عبد الحميد عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما غضباً شديداً حتى يخيل إلي أن أنفه يتمزع من شدة غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لوقالها لذهب عنه ما يجد من الغضب فقال ما هي يا رسول الله، قال يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال الشيخ: قوله يتمزع أي يتشقق ويتقطع والمزعة القطعة من الشيء.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند، عَن أبي حرب بن أبي الأسود، عَن أبي ذر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع.
قال الشيخ: القائم متهيىء للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا تبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد والله أعلم.
ومن باب حسن العشرة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عبد الرزاق حدثنا بشر بن أبي رافع عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن غِر كريم والفاجر خَب لئيم.
قال الشيخ: معنى هذا الكلام أن المؤمن المحمود هو من كان طبعه وشيمته الغرارة وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه وإن ذلك ليس منه جهلاً لكنه كرم وحسن خلق وإن الفاجر من كانت عادته الخب والدهاء والوغول في معرفة الشر وليس ذلك منه عقلاً لكنه خب ولؤم.(4/108)
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم بئس أخو العشيرة، فلما دخل انبسط إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه فلما خرج قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذن قلت بئس أخو العشيرة، فلما دخل انبسطت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الله عز وجل لا يحب الفاحش المتفحش.
قال الشيخ: أصل الفحش زيادة الشيء على مقداره ومن هذا قول الفقهاء يصلي في الثوب الذي أصابه الدم إذا لم يكن فاحشاً أي كثيراً مجاوزاً للقدر الذي يتعافاه الناس فيما بينهم.
يقول صلى الله عليه وسلم إن استقبال المرء صاحبه بعيوبه افحاش والله لا يحب الفحش، ولكن الواجب أن يتأنى له ويرفق به ويكني في القول ويوري ولا يصرح.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكره بالعيب الذي عرفه به قبل أن يدخل وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم لا يجري مجرى الغيبة، وإنما فيه تعريف الناس أمره وزجرهم عن مثل
مذهبه، ولعله قد تجاهر بسوء فعاله ومذهبه ولا غيبة لمجاهر والله أعلم.
ومن باب في الحياء
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن شعبة عن منصور عن رِبْعِيّ بنِ حِِرَاش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
قال الشيخ: معنى قوله النبوة الأولى أن الحياء لم يزل أمره ثابتاً واستعماله واجباً منذ زمان النبوة الأولى وأنه ما من نبي إلاّ وقد ندب إلى الحياء وبعث عليه وأنه لم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم ولم يبدل فيما بدل منها؛ وذلك أنه أمر(4/109)
قد علم صوابه وبان فضله واتفقت العقول على حسنه وما كان هذا صفته لم يجز عليه النسخ والتبديل. وقوله فافعل ما شئت فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن يكون معناه الخبر وإن كان لفظه لفظ الأمر كأنه يقول إذا لم يمنعك الحياء فعلت ما شئت أي ما تدعوك إليه نفسك من القبيح، وإلى نحو من هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام رحمة الله عليه.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى معناه الوعيد كقوله تعالى {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40] .
وقال أبو إسحاق المروزي فقيه الشافعية معناه أن ينظر فإذا كان الشيء الذي يريد أن يفعله مما لا يستحى منه فافعله، يريد أن ما يستحى منه فلا يفعله.
ومن باب حسن الخلق
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي حدثنا أبو كعب أيوب بن محمد السعدي حدثنا سليمان بن حبيب المحاربى، عَن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
قال الشيخ: الزعيم الضامن والكفيل والزعامة الكفالة ومنه قول الله سبحانه {وأنا به زعيم} [يوسف: 72] والبيت ههنا القصر أخبرني أبو عمر أخبرنا أبو العباس عن ابن الأعرابي، قال البيت القصر يقال هذا بيت فلان أي قصره.
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حَدَّثنا وكيع عن سفيان عن معبد بن خالد عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة الجَوَّاظ ولا الجَعْظَرِي. قال والجواظ الغليظ الفظ.
قال الشيخ: الجعظري فسره أبو زيد فقال هو الذي يتنفخ بما ليس عنده(4/110)
وهو إلى القصر ما هو، قال الأصمعي وهو الجمظار أيضاً، قال أبو زيد والجواظ الكثير اللحم المختال في مشيه.
قلت وهو معنى ما جاء من تفسيره في الحديث أو قريب منه.
ومن باب كراهية التمادح
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام قال جاء رجل فأثنى على عثمان رضي الله عنه في وجهه فأخذ المقداد بن الأسود تراباً فحثا في وجهه وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب.
قال الشيخ: المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه، فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن والأمر المحمود يكون منه ترغيباً له في أمثاله وتحريضاً للناس على الاقتداء به في اشباهه فليس بمداح وإن كان قد صار مادحاً بما تكلم به من جميل القول فيه.
وقد استعمل المقداد الحديث على ظاهره وحمله على وجهه في تناول عين التراب بيده وحثيه في وجه المادح.
وقد يتأول أيضاً على وجه آخر وهو أن يكون معناه الخيبة والحرمان أي من تعرض لكم بالثناء والمدح فلا تعطوه واحرموه. كني بالتراب عن الحرمان كقولهم ما له غير التراب وما في يده غير التَيْرب، وكقوله صلى الله عليه وسلم إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً، وكقوله وللعاهر الحجر ومثله كثير في الكلام.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر، يَعني ابن المفضل حدثنا أبو مسلمة سعيد(4/111)
بن يزيد، عَن أبي نضرة عن مطرف قال: قال أبي انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا، فقال السيد الله عز وجل قلنا وافضلنا فضلاً وأعظمنا طَولاً، قال فقولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان.
قال الشيخ: قوله السيد الله يريد أن السؤدد حقيقة لله عز وجل وأن الخلق كلهم عبيد له، وإنما منعهم فيما نرى أن يدعوه سيداً مع قوله أنا سيد ولد آدم وقوله لبني قريظة قوموا إلى سيدكم يريد سعد بن معاذ من أجل أنهم قوم حديث عهدهم بالإسلام وكانوا يحسبون أن السيادة بالنبوة كهي بأسباب الدنيا وكان لهم رؤساء يعظمونهم وينقادون لأمرهم ويسمونهم السادات فعلمهم الثناء عليه وأرشدهم إلى الأدب في ذلك. فقال قولوا بقولكم. يريد قولوا بقول أهل دينكم وملتكم وادعوني نبياً ورسولاً كما سماني الله عز وجل في كتابه فقال «يا أيها النبي، يا أيها الرسول» ولا تسموني سيداً كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم ولا تجعلوني مثلهم فإني لست كأحدهم إذ كانوا يَسُودونكم بأسباب الدنيا وأنا أسودكم بالنبوة والرسالة فسموني نبياً ورسولاً.
وقوله بعض قولكم فيه حذف واختصار ومعناه دعوا بعض قولكم واتركوه يريد بذلك الاقتصار في المقال. قال الشاعر:
فبعض القول عاذلتي فإني ... سيكفيني التجارب وانتسابي
وقوله لا يستجرينكم الشيطان، معناه لا يتخذنكم جَرِيّاً والجري الوكيل ويقال الأجير أيضاً.(4/112)
ومن باب في الرفق
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة ومحمد بن الصباح البزاز قالوا حدثنا شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن البداوة فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التِّلاع وأنه أراد البداوة مرة فأرسل إليَّ ناقة مُحرَّمة من إبل الصدقة فقال لي يا عائشة ارفقي فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلاّ زانه ولا نزع من شيء قط إلاّ شانه.
قال الشيخ: البداوة الخروج إلى البادية والمقام بها وفيها لغتان فتح الباء وكسرها والتلاع مجاري الماء من فوق إلى أسفل واحدتها تلعة.
والمحرمة هي التي قد اقتضبت ركوبها لم تذلل ولم ترض، ومن هذا قولهم أعرابي محرم إذا كان أول ما يدخل المصر لم يخالط الناس ولم يجالسهم.
ومن باب شكر المعروف
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يشكر الله من لا يشكر الناس.
قال الشيخ: هذا الكلام يتأول على وجهين أحدهما أن من كان طبعه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله وترك الشكر له سبحانه.
والوجه الاخر أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي(4/113)
سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أُبلي فذكره فقد شكره وإن كتمه فقد كفره.
الإبلاء الانعام ويقال أبليت الرجل وأبليت عنده بلاء حسناً قال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلوا
ومن باب في التحلق
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الأعمش حدثنا المسيب بن رافع عن تميم بن طَرفة عن جابر بن سمرة قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حِلَق فقال ما لي أراكم عِزينَ.
قال الشيخ: قوله عزين يريد فرقاً مختلفين لا يجمعكم مجلس واحد.
وواحد العزين عزة يقال عزة وعزون كما قالوا ثِبة وثبون، ويقال أيضاَ ثبات وهي الجماعات المتميزة بعضها عن بعض.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة حدثني أبو مجلز عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة.
قال الشيخ: هذا يتأول فيمن يأتي حلقة قوم فيتخطى رقابهم ويقعد وسطها ولا يقعد حيث ينتهي به المجلس فلعن للأذى، وقد يكون في ذلك أنه إذا قعد وسط الحلقة حال بين الوجوه وحجب بعضهم من بعض فيتضررون بمكانه وبمقعده هناك.
ومن باب من يؤمر أن يُجالس
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أنبأنا ابن المبارك عن حيْوة بن شُريح عن سالم بن غَيلان عن الوليد بن قيس عن أبى سعيد أو، عَن أبي الهيثم، عَن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصاحب إلاّ مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاّ تقي.(4/114)
قال الشيخ: هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاج وذلك أن الله سبحانه قال {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} [الإنسان: 8] ومعلوم أن أسراهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا أتقياء.
وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته فان المطاعمة توقع الالفة والمودة في القلوب يقول لا تؤالف من ليس من أهل التقوى والورع ولا تتخذه جليساً تطاعمه وتنادمه.
قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا جعفر، يَعني ابن برقان عن يزيد بن الأصم، عَن أبي هريرة يرفعه قال: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
قال الشيخ: معنى الحديث الاخبار عن مبدأ كون الأرواح وتقدمها الأجساد التي هي ملابستها على ما روي في الحديث ان الله خلق الأرواح قبل الأجساد بكذا كذا عاماً فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنها خلقت أول ما خلقت على قسمين من ائتلاف أو اختلاف كالجنود المجندة إذا تقابلت وتواجهت.
ومعنى تقابل الأرواح ما جعلها الله عليه من السعادة والشقاوة في مبدأ الكون والخلقة كما روي في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الملك إذا أراد أن ينفخ الروح في النسمة قال يا رب أسعيد أم شقي، أكافر أم مؤمن. يقول صلى الله عليه وسلم إن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما جعلت عليه من التشاكل أو التنافر في بدء الخلقة ولذلك ترى البَر الخير يحب شكله ويحن إلى قربه وينفر عن ضده، وكذلك الرَّهِق الفاجر يألف شِكله ويستحسن فعله وينحرف عن ضده.(4/115)
وفي هذا دليل على أن الأرواح ليست بأعراض وأنها كانت موجودة قبل الأجساد وأنها تبقى بعد فناء الأجساد ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم أرواح الشهداء في صور طير خضر تَعلق من ثمر الجنة.
ومن باب في كراهية المراء
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد عن قائد السائب قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يثنون عليّ ويذكرونني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أعلمكم، يَعني به فقلت صدقت بأبي وأمي كنت شريكي فنعم الشريك كنت لا تُداري ولا تُماري.
قال الشيخ: قوله لا تداري، يَعني لا تخالف ولا تمانع، وأصل الدرء الدفع يصفه صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق والسهولة في المعاملة.
وقوله لا تماري يريد المراء والخصومة.
ومن باب الهدي في الكلام
قال أبو داود: حدثنا أبو توبة قال زعم الوليد عن الأوزاعي عن قُرة عن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم.
قال الشيخ: قوله أجذم معناه المنقطع الأبتر الذي لا نظام له وفسره أبوعبيد فقال الأجذم المقطوع اليد.
وقال ابن قتيبة الأجذم بمعنى المجذوم في قوله صلى الله عليه وسلم من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم.(4/116)
ومن باب جلوس الرجل
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل قالا: حَدَّثنا عبد الله بن حسان العنبري حدثتني جدتاي صفية ودُحيبة ابنتا عليبة وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء وذكر الحديث.
القرفصاء جلسة المحتبي وليس هو الذي يحتبي بثوبه لكنه الذي يحتبي بيديه.
ومن باب التناجي
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن شقيق عن الأعمش عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه.
قال الشيخ: إنما يحزنه ذلك لأحد معنيين إحداهما أنه ربما يتوهم أن نجواهما إنما هو لتبييت رأي فيه أو دسيس غائلة له.
والمعنى الآخر أن ذلك من أجل الاختصاص بالكرامة وهو محزن صاحبه.
وسمعت ابن أبي هريرة يحكي، عَن أبي عبيد بن حرب أنه قال هذا في السفر وفي الموضع الذي لا يأمن الرجل فيه صاحبه على نفسه. فأما في الحضر وبين ظهراني العمارة فلا بأس به والله أعلم.
ومن باب إذا قام من مجلسه ثم رجع
قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرة.(4/117)
قال الشيخ: أصل الترة النقص ومعناها ههنا التبعة يقال وترت الرجل ترة على وزن وعدته عدة، ومنه قول الله سبحانه {ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] .
وقد روي في هذا الحديث من طريق آخر ما من قوم يقومون عن مجلس لا يذكرون الله إلاّ قاموا عن مثل جيفه وكان لهم حسرة.
ومن باب في الحذر
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا نوح بن يزيد بن سيار المؤدب حدثنا إبراهيم بن سعد قال حدثنيه ابن إسحاق عن عيسى بن معمر عن عبد الله بن عمر بن الفغواء الخزاعي عن أبيه قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح، فقال التمس صاحباً قال فجاءني عمرو بن أمية الضمري فقال بلغني أنك تريد الخروج وتلتمس صاحباً قلت أجل قال فأنا لك صاحب، قال فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال إذا هبطت بلاد قومه فاحذره فإنه قد قال القائل أخوك البكري فلا تأمنه وذكر القصة إلى أن قال فشددت على بعيري حتى خرجت أوضعه حتى إذا كنت بالأصافر إذا هو يعارضني في رهط قال وأوضعت فسبقته.
قال الشيخ: الإيضاع الاسراع في السير، وقوله أخوك البكري فلا تأمنه مثل مشهور للعرب.
وفيه إثبات الحذر واستعمال سوء الظن وأن ذلك إذا كان على وجه طلب السلامة من شر الناس لم يأثم به صاحبه ولم يحرج فيه.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يلدغ المؤمن(4/118)
من جحر واحد مرتين.
قال الشيخ: هذا يروى على وجهين من الإعراب أحدهما بضم الغين على مذهب الخبر ومعناه أن المؤمن الممدوح هو الكيس الحازم الذي لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى وهو لا يفطن بذلك ولا يشعر به.
وقيل أنه اراد به الخداع في أمر الاخرة دون أمر الدنيا.
والوجه الآخر أن يكون الرواية بكسر الغين على مذهب النهي يقول لا يخدعن المؤمن ولا يؤتين من ناحية الغفلة فيقع في مكروه أو شر وهو لا يشعر وليكن متيقظاً حذراً، وهذا قد يصلح أن يكون في أمر الدنيا والآخرة معاً والله أعلم.
ومن باب في هدي الرجل
قال أبو داود: حدثنا حسين بن معاذ حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد الجريري، عَن أبي الطفيل قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت كيف رأيته قال كان أبيض مليحاً إذا مشى كأنما يهوي في صَبُوب.
قال الشيخ: الصبوب إذا فتحت الصاد كان اسماً لما يصب على الإنسان من ماء ونحوه ومما جاء على وزسنه الطهور والغسول والفطور لما يفطر.
ومن رواه الصبوب بضم الصاد على أنه جمع الصبب وهو ما انحدر من الأرض فقد خالف القياس لأن باب فعل لا يجمع على فعول وإنما يجمع على أفعال كسبب وأسباب وقتب وأقتاب، وقد جاء في أكثر الروايات كأنه يمشي في صبب وهو المحفوط.
وقوله يهوي معناه ينزل ويتدلى وذلك مشية القوي من الرجال يقال هوى(4/119)
الشيء يهوي إذا نزل من فوق إلى أسفل وهوى يهوي بمعنى صعد، وإنما يختلفان في المصدر فيقال هَوى هوياً بفتح الهاء إذا نزل وهُوياً بضمها إذا صعد.
أنشدني أبو رجاء الغنوي قال أنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى.
والدلو في اصعادها عجل الهوي
ومن باب الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى
قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث، عَن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب أراه عن سعيد بن المسيب عن عبادة بن تميم عن عمه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى.
قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما نهى عن ذلك من أجل انكشاف العورة إذ كان لباسهم الازر دون السراويلات. والغالب أن ازرهم غير سابغة والمستلقي إذا رفع إحدى رجليه على الأخرى مع ضيق الإزار لم يسلم أن ينكشف شيء من فخذه والفخذ عورة، فأما إذا كان الإزار سابغاً أو كان لابسه عن التكشف متوقياً فلا بأس به وهو وجه الجمع بين الخبرين والله أعلم.
ومن باب في القتات
قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حَدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة قتات.
قال الشيخ: القتات النمام وهو للقساس أيضاً، والنميمة نقل الحديث على وجه(4/120)
التضرية بين المرء وصاحبه.
قلت وإذا كان الناقل لما يسمعه آثماً فالكاذب القائل ما لم يسمعه أشد إثماً وأسوأ حالاً.
ومن باب الانتصار
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا ابن عون حدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن زينب بنت جش أقبلت تقحم لعائشة رضي الله عنها فنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبت فقال لعائشة سبيها فسبتها فغلبتها.
قال الشيخ: قولها تقحم معناه تعرض لشتمها وتتدخل عليها، ومنه قولهم فلان يتقحم في الأمور إذا كان يقع فيها من غير تثبت ولا روية.
وفيه من العلم إباحة الانتصار بالقول ممن سبك من غير عدوان في الجواب.
ومن باب الحسد
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة ذفيفة وذكر الحديث.
قال الشيخ: والذفيفة الخفيفة يقال رجل خفيف ذفيف وخفاف ذفاف بمعنى واحد.
ومن باب الرجل يدعو على من ظلمه
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا سفيان عن حبيب(4/121)
عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها أنها سُرق لها شيء فجعلت تدعو عليه فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبخي عنه.
قال الشيخ: قوله لا تسبخي معناه لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه، ومن هذا سبائخ القطن وهي القطع المتطايرة عن الندف، وقال أعرابي في كلامه الحمد لله على تسبيخ العروق وإساغة الريق.
ومن باب النهي عن التهاجر
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال.
قال الشيخ: قوله لا تدابروا معناه التهاجر والتصارم مأخوذ من تولية الرجل دبره أخاه إذا رآه وإعراضه عنه.
وقال مؤرخ قوله ولا تدابروا معناه آسوا ولا تستأثروا واحتج بقول الأعشى:
ومستدبر بالذي عنده ... عن العاذلات وارشادها
وقال بعضهم إنما قيل للمستاثر مستدبر لأنه يولي أصحابه إذا استأثر بشيء دونهم.
وأما الهجران أكثر من ذلك فإنما جاء ذلك في هجران الرجل أخاه في عتب وموجدة أو لنبوة تكون منه فرخص له في مدة ثلاث لقلتها وجعل ما وراءها تحت الحظر.
فأما هجران الولد الوالد والزوج الزوجة ومن كان في معناهما فلا يضيق أكثر من ثلاث وقد هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا.(4/122)
ومن باب الظن
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولاتحسسوا.
قال الشيخ: قوله إياكم والظن يريد إياكم وسوء الظن وتحقيقه دون مبادىء الظنون التي لا تملك. وقوله لا تجسسوا معناه لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوا أخبارهم، والتحسس بالحاء طلب الخبر ومنه قوله سبحانه {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه} [يوسف: 87] ويقال تجسست الخبر وتحسست بمعنى واحد.
ومن باب اصلاح ذات البين
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي حدثنا أبو الأسود عن نافع يعنى ابن يزيد عن ابن الهاد أن عبد الوهاب بن أبي بكر حدثه عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلاّ في ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا أعده كذباً الرجل يصلح بين الناس ويقول القول لا يريد به إلاّ الإصلاح والرجل يقول في الحرب والرجل يحدث امرأنه والمرأة تحدث زوجها.
قال الشيخ: هذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إلى زيادة القول ومجاوزة الصدق طلباً للسلامة ودفعاً للضرر عن نفسه، وقد رخص في بعض الأحوال في اليسير من الفساد لما يؤمل فيه من الصلاح. والكذب في الإصلاح بين اثنين هو أن ينمي من أحدهما إلى صاحبه خيراً أو يبلغه جميلاً وإن لم يكن سمعه منه ولا كان إذناً له فيه يريد بذلك الإصلاح. والكذب في الحرب هو أن يظهر(4/123)
من نفسه قوة ويتحدث بما يشحذ به بصيرة أصحابه ويقوي منتهم ويكيد به عدوهم في نحو ذلك من الأمور.
وقد روي عن النبي وص أنه قال الحرب خدعة وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كثيرا ما يقول في حروبه صدق الله ورسوله فيتوهم أصحابه أنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول إنما أنا رجل محارب.
فأما كذب الرجل زوجته فهو أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه يستديم بذلك محبتها ويستصلح به خلقها.
ومن باب كراهية الغناء والزمر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله الغداني حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال سمع ابن عمر رضي الله عنه مزماراً فوضع اصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق، فقال يا نافع هل تسمع شيئاً قال فقلت لا، قال فرفع اصبعيه من أذنيه وقال إذ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا صنع مثل هذا.
قال الشيخ: المزمار الذي سمعه ابن عمر رضي الله عنه هو صفارة الرعاة، وقد جاء ذلك مذكوراً في هذا الحديث من غير هذه الرواية، وهذا وإن كان مكروهاً فقد دل هذا الصنع على أنه ليس في غلظ الحرمة كسائر الزمور والمزاهر والملاهي التي يستعملها أهل الخلاعة والمجون ولو كان كذلك لأشبه أن لا يقتصر في ذلك على سد المسامع فقط دون أن يبلغ فيه من النكير مبلغ الردع والتنكيل والله أعلم.(4/124)
ومن باب اللعب بالبنات
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا عمارة بن غزية أن محمد بن إبراهيم حدثه، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر. وذكر الحديث.
قال الشيخ: السهوة عن الأصمعي كالصفة تكون بين يدي البيت، وقال غيره السهوة شبيهة بالرف والطاق يوضع فيه الشيء.
ومن باب الأرجوحة
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا محمد، يَعني ابن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن قال قالت عائشة رضي الله عنها قدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج قالت فوالله إني لعلى أرجوحة بين عذقين فجاءتني أمي فأنزلتني ولي جميمة وذكر الحديث.
قال الشيخ: تريد بالعذقين نخلتين، والعذق بفتح العين النخلة؛ العذق بكسرها الكباسة والجميمة تصغير الجمة من الشعر.
ومن باب النصيحة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الدين النصيحة إن الدين النصيحنة، إن الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ورسوله وأئمة المؤمنين وعامتهم.
قال الشيخ: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له وليس(4/125)
يمكن أن يعبر هذا المعنى بكلمة واحدة تحصرها وتجمع معناها غيرها، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال نصحت العسل إذا خلصته من الشمع.
فمعنى نصيحة لله سبحانه صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته والنصيحة لكتاب الله الإيمان به والعمل بما فيه، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه والنصيحة لأئمة المؤمنين أن يطيعهم في الحق وأن لا يرى الخروج عليهم بالسيف إذا جاروا والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم.
ومن باب تغيير الأسماء
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني أنبأنا محمد بن المهاجر حدثني عقيل بن شبيب، عَن أبي وهب الجشمي وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة.
قال الشيخ: إنما صار الحارث من أصدق الأسماء من أجل مطابقة الاسم معناه الذي اشتق منه وذلك أن معنى الحارث الكاسب يقال حرث الرجل إذا كسب واحتراث المال كسبه ومنه قول امرىء القيس:
ومن يحترث حرثي وحرثك يُهزل
وقال سبحانه {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها} [الشورى: 20] .
وأما همام فهو من هممت بالشيء إذا أردته وليس من أحد إلاّ وهو يهتم بشيء وهو معنى الصدق الذي وصف به هذان الاسمان، وأقبحها حرب لما في الحرب(4/126)
من المكاره وفي مرة من البشاعة والمرارة، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين ولد والنبي صلى الله عليه وسلم في عباءة يهنأ بعيراً له وذكر الحديث.
قال الشيخ: قوله يهنأ معناه يطليه بالقطران ويعالجه به والهناء القطران.
ومن باب تغيير الاسم القبيح
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر حدثني بشير بن ميمون عن عمه أسامة بن اخدري أن رجلاً يقال له اصرم كان في النفر الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اسمك قال أنا أصرم قال بل أنت زرعة.
قال الشيخ: إنما غير اسم الأصرم لما فيه من معنى الصرم وهو القطيعة يقال صرمت الحبل إذا قطعته وصرمت النخلة إذا جذذت ثمرها.
قال أبو داود: وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحُباب وشهاب وارض تسمى عفرة فسماها خضرة.
قال الشيخ: أما العاص فانما غيره كراهة لمعنى العصيان وإنما سمة المؤمن الطاعة والاستسلام، وعزيز إنما غيره لأن العزة لله سبحانه وشعار العبد الذلة والاستكانة وقد قال سبحانه عندما يقرع بعض أعدائه {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49] وعتلة معناها الشدة والغلظة، ومنه قولهم رجل عتل أي شديد غليظ ومن صفة المؤمن اللين والسهولة، وقال صلى الله عليه وسلم المؤمنون هينون، وشيطان اشتقاقه من الشطن وهو البعد من الخير، وهو اسم المارد الخبيث من الجن والانس،(4/127)
والحكم هو الحاكم الذي إذا حكم لم يرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير الله سبحانه ومن أسمائه الحكم.
وغراب مأخوذ من الغرب وهو البعد. ثم هوحيوان خبيث الفعل خبيث الطعم وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الحل والحرم.
وحباب نوع من الحيات وقد روي أن الحباب اسم الشيطان فقيل أنه أراد به المارد الخبيث من شياطين الجن، وقيل إن نوعاً من الحيات يقال لها الشياطين ومن ذلك قوله تبارك وتعالى {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} [الصافات: 65] والشهاب شعلة من النار والنار عقوبة الله سبحانه وهي محرقة مهلكة.
وأما عفرة فهي نعت للأرض التي لا تنبت شيئاً أخذت من العفرة وهي لون الأرض فسماها خضرة على معنى التفاؤل لتخضر وتمرع.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي أنبأنا زهير حدثنا منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن ربيع بن عميلة عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح فانك تقول اثم هو فيقول لا إنما هن أربع فلا تزيدن عليّ.
قال الشيخ: قد بين النبي صلى الله عليه وسلم المعنى في ذلك وذكر العلة التي من أجلها وقع النهي عن التسمية بها وذلك أنهم كانوا يقصدون بهذه الأسماء وبما في معانيها أما التبرك بها أو التفاؤل بحسن ألفاظها فحذرهم أن يفعلوه لئلا ينقلب عليهم ما قصدوه في هذه التسميات إلى الضد وذلك إذا سألوا، فقالوا اثم يسار اثم رباح فإذا قيل لا تطيروا بذلك وتشاءموا به واضمروا على الأياس من اليسر والرباح، فنهاهم عن السبب الذي يجلب لهم سوء الظن بالله سبحانه ويورثهم الأياس من خيره.(4/128)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان بن عيينة، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الأملاك.
قال الشيخ: قوله أخنع معناه أوضع وأذل والخنوع الذلة والاستكانة.
وأخبرني أبو محمد عبد الله بن شبيب حدثنا زكريا المنقري حدثنا الأصمعي قال سمعت أعرابياً يدعو فيقول: اللهم إني أعوذ بك من الخنوع والقنوع وما يغض طرف المرء ويغري به لئام الناس، فالخنوع الذل والقنوع المسألة.
ومنه قول الله تعالى {وأطعموا القانع والمعتر} [الحج: 36] .
ومن باب الرجل يتكنى وليس له ولد
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا ثابت عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير وكان له نُغر يلعب به فمات فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرآه حزيناً فقال ما شأنه قالوا مات نغره فقال يا أبا عمير ما فعل النغير.
قال الشيخ: النغر طائر صغير ويجمع على النغران وأنشدني أبو عمر:
يحملن أوعية السلاف كأنما ... يحملنه بأكارع النغران
وفيه من الفقه أن صيد المدينة مباح، وفيه إباحة السجع في الكلام.
وفيه جواز الدعابة ما لم يكن آثماً. وفيه إباحة تصغير الأسماء. وفيه أنه كناه ولم يكن له ولد فلم يدخل في باب الكذب.
وقوله يلعب به أي يتلهى بحبسه وإمساكه.(4/129)
ومن باب الرجل يقول زعموا
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأوزاعي عن يحيى، عَن أبي قلابة قال: قال أبو مسعود لأبي عبد الله أو قال أبو عبد الله لأبي مسعود ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بئس مطية الرجل زعموا.
قال الشيخ: أصل هذا أن الرجل إذا أراد الظعن في حاجة والمسير إلى بلد ركب مطيته وسار حتى يبلغ حاجته فشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما يقدمه الرجل أمام كلامه ويتوصل به إلى حاجته من قولهم زعموا بالمطية التي يتوصل بها إلى الموضع الذي يؤمه ويقصده، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه وإنما هو شيء يحكى عن الألسن على سبيل البلاغ فذم صلى الله عليه وسلم من الحديث ما كان هذا سبيله وأمر بالثبت فيه والتوثق لما يحكيه من ذلك فلا يرويه حتى يكون معزياً إلى ثبت ومروياً عن ثقة وقد قيل الراوية أحد الكاذبين.
ومن باب في حفظ المنطق
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود حدثنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج، عَن أبي هريرة عن رسول الله قال: لا يقولن أحدكم الكرم فإنما الكرم الرجل المسلم ولكن قولوا حدائق الأعناب.
قال الشيخ: إنما نهاهم عن تسمية هذه الشجرة كرماً لأن هذا الاسم عندهم مشتق من الكرم، والعرب يقول رجل كرم بمعنى كريم وقوم كرم أي كرام ومنه قول الشاعر:
فتنبو العين عن كرم عجاف
ثم تسكن الراء منه فيقال كرم فأشفق صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم حسن اسمها إلى شرب(4/130)
الخمر المتخذة من ثمرها فسلبها هذا الاسم وجعله صفة للمسلم الذي يتوقى شربها ويمنع نفسه الشهوة فيها عزة وتكرماً، وقد ذكرت هذا في كتاب غريب الحديث وأشبعت شرحه هناك.
ومن باب لا يقال خبثت نفسي
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب، عَن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي وليقل لقِست نفسي.
قال الشيخ: قوله لقست نفسي وخبثت معناهما واحد وإنما كره من ذلك لفظ الخبث وبشاعة الاسم منه وعلمهم الأدب في المنطق وأرشدهم إلى استعمال الحسن وهجران القبيح منه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان بن سعيد حدثني عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي بن حاتم أن خطيباً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يطع الله ورسوله ومن يعصهما فقال قم أو قال اذهب فبئس الخطيب أنت.
قال الشيخ: إنما كره من ذلك الجمع بين الاسمين تحت حرفي الكناية لما فيه من التسوية.
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن منصور عن عبد الله بن بشار عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان.
قال الشيخ: فهذا قريب المعنى من الأول وذلك أن الواو حرف الجمع والتشريك وثم حرف النسق بشرط التراخي فأرشدهم إلى الأدب في تقديم(4/131)
مشيئة الله سبحانه على مشيئة من سواه.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل بن صالح، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم.
قال الشيخ: معنى هذا الكلام أن لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول قد فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك من الكلام يقول صلى الله عليه وسلم إذا فعل الرجل ذلك فهو أهلكهم وأسوأهم حالاً مما يلحقه من الإثم في عيبهم والازراء بهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه فيرى أن له فضلاً عليهم وأنه خير منهم فيهلك.
ومن باب في صلاة العتمة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان عن ابن أبي لبيد، عَن أبي سلمة قال سمعت ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم الا وأنها العشاء ولكنهم يعتمون بالإبل.
قال الشيخ: قوله يعتمون معناه يؤخرون حلب الإبل ويسمون الصلاة باسم وقت الحلاب، ويقال فلان عاتم القرى إذا كان إذا نزل به الأضياف لم يعجل قراهم.
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس قال كان فزع بالمدينة فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة، فقال ما رأينا شيئاً أو ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحراً.
قال الشيخ: في هذا إباحة التوسع في الكلام وتشبيه الشيء بالشيء الذي له تعلق ببعض معانيه وإن لم يستوف أوصافه كلها.(4/132)
وقال إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي إنما شبه الفرس بالبحر لأنه أراد أن جريه كجري ماء البحر أو لأنه أراد أن جريه كجري ماء البحر أو لأنه يسبح في جريه كالبحر إذا ماج فعلا بعض مائه فوق بعض.
قلت: ويقال في نعوت الفرس بحر وحت وسكب إذا كان واسع الجري قاله الأصمعي.
ومن باب التشديد في الكذب
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود (ح) قال وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأعمش، عَن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وعليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة.
قال الشيخ: هذا تأويل قوله سبحانه {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} [الانفطار: 14] .
وأصل الفجور الميل عن الصدق والانحراف إلى الكذب، ومنه قول الاعرابي في عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما أن بها من نقَب ولا دبر
* اغفر له اللهم إن كان فجر *
يريد إن كان مال عن الصدق فيما قاله.
ومن باب في حسن الظن
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر(4/133)
عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته وقمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما انها صفية بنت حيي، فقالا سبحان الله برسول الله، قال الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال شراً.
قال الشيخ: فيه من العلم استحباب أن يتحرز الإنسان من كل أمر من المكروه مما تجري به الظنون ويخطر بالقلوب وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءة من الريب.
ويحكى عن الشافعي رحمه الله في هذا أنه قال خاف النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلوبهما شيء من أمره فيكفرا وإنما قال ذلك لهما شفقة عليهما لا على نفسه.
ومن باب من تشبع بما لم يُعط
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر أن امرأة قالت يا رسول الله إن لي جارة تعني ضرة فهل عليّ جناح إن تشبعت لها بما لم يعط زوحي قال المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
قال الشيخ: العرب تسمي امرأة الرجل جارته وتدعو الزوجتين الضرتين جارتين وذلك لقرب أشخاصهما كالجارتين المتصاقبتين في الدارين تسكنانهما، ومن هذا قول الأعشى لامرأته:
أجارتنا بيني فإنك طالقة
ومن هذا النحو قول امرىء القيس:(4/134)
أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب
وقوله كلابس ثوبي زور يتأول على وجهين أحدهما أن الثوبين ههنا كأنه كناية عن حاله ومذهبه، وقد تكني العرب بالثوب عن حال لابسه وعن طريقه ومذهبه كقول الشاعر:
وإني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من ريبة أتقنع
والمعنى أن المتشبع بما لم يعط بمنزلة الكاذب القائل ما لم يكن.
والوجه الآخر ما يروى عن فلان أنه كان يكون في الحي الرجل له هيئة ونبل فإذا احتيج إلى شهادة زور شهد بها فلا يرد من أجل نبله وحسن ثوبيه فأضيف الشهادة إلى ثوبيه إذ كانا سبب جوازها ورواجها.
ومن باب في المزاج
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا شريك عن عاصم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ذا الأذنين.
قال الشيخ: كان مزح النبي صلى الله عليه وسلم مزحاً لا يدخله الكذب والتزيد وكل إنسان له أذنان فهو صادق في وصفه إياه بذلك.
وقد يحتمل وجهاً آخر وهو أن لا يكون قصد بهذا القول المزاح وإنما معناه الحض والتنبيه على حسن الاستماع والتلقف لما يقوله ويعلمه إياه، وسماه ذا الأذنين إذ كان الاستماع إنما يكون بحاسة الأذن، وقد خلق الله تعالى له أذنين يسمع بكل واحدة منهما وجعلهما حجة عليه فلا يعذر معهما إن أغفل الاستماع له ولم يحسن الوعي له والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى عن ابن أبي ذئب عن عبد الله(4/135)
بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً جاداً.
قال الشيخ: معناه أن يأخذه على وجه الهزل وسبيل المزح ثم يحبسه عنه ولا يرده فيصير ذلك جداً.
ومن باب تعليم الخطب
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن عبد الله بن المسيب عن الضحاك بن شرحبيل، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال والناس لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.
قال الشيخ: صرف الكلام فضله وما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه من وراء الحاجة ومن هذا سمي الفضل بين النقدين صرفاً.
وإنما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لما يدخله من الرياء والتصنع ولما يخالطه من الكذب والتزيد وأمر صلى الله عليه وسلم أن يكون الكلام قصداً تلو الحاجة غير زائد عليها يوافق ظاهره باطنه وسره علنه.
ومن باب في الشعر
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحراً وإن من الشعر حُكْمًا.
قال الشيخ: اختلف الناس في هذا وفي تأويله فقال بعضهم وجهه أنه ذم التصنع في الكلام والتكلف لتحسينه وتزويقه ليروق السامعين قوله ويستميل به قلوبهم فيحيل الشيء عن ظاهره ويزيله عن موضوعه إرادة التلبيس عليهم(4/136)
فيصير ذلك بمنزلة السحر الذي هو أو نوع منه تخييل لما لا حقيقة له وتوهيم لما ليس له محصول والسحر منه مذموم وكذلك المشبه به.
وقال آخرون بل القصد به مدح البيان والحث على تخير الألفاظ والتأنق في الكلام. واحتج لذلك بقوله إن من الشعر لحكماً وذلك ما لا ريب فيه أنه على طريق المدح له وكذلك مصراعه الذي بإزائه لأن عادة البيان غالباً أن القرينين نظماً لا يفترقان حكماً.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أن رجلاً طلب إليه حاجة كان يتعذر عليه إسعافه بها فرقق له الكلام فيها حتى استمال به قلبه فأنجزها له ثم قال هذا هو السحر الحلال.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا سعيد بن محمد حدثنا أبو تميلة حدثنا أبو جعفر النحوي عبد الله بن ثابت حدثني صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من البيان سحراً وإن من العلم جهلاً، وإن من الشعر حُكْمًا، وإن من القول عيالاً.
فقال صعصعة بن صوحان صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: أما قوله إن من البيان سحراً فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بحجته من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق.
وأما قوله إن من العلم جهلاً فيتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهله ذلك.
وأما قوله إن من الشعر حُكْمًا فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس.
وأما قوله إن من القول عيالاً فعرض كلامك أوحديثك على من ليس(4/137)
من شأنه ولا يريده.
قلت هكذا رواه أبو داود من القول عيالاً ورواه غيره أن من القول عَيَلاً هكذا ذكره الأزهري عن المنذري.
قال حدثنا يعقوب بن إسحاق المخرمي حدثنا سعيد بن محمد الجرمي حدثنا أبو تميلة بإسناده، قال الأزهري قوله عيلاً من قولك علت الضالة أعيل عَيْلا وعَيَلا إذا لم تدر أي جهة تبغيها. قال أبوزيد كأنه لم يهتد لمن يطلب علمه فعرضه على من لا يريده.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان المصيصي لوين حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبراً في المسجد فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: قوله ما نافح معناه دافع، ومن هذا قولهم نفحت الرجل بالسيف إذا تناولته من بعد ونفحته الدابة إذا أصابته بحد حافرها.
ومن باب الرؤيا
قال أبو داود: حدثعا محمد بن كثير حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس عن عبد الله بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
قال الشيخ: معنى هذا الكلام تحقيق أمرالرؤيا وتأكيده وإنما كانت جزءاً من أجزاء النبوة في الأنبياء صلوات الله عليهم دون غيرهم وكان الأنبياء يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة.(4/138)
وأنبأنا ابن الأعرابي حدثنا ابن أبي ميسرة حدثنا الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير رؤيا الأنبياء وحي وقرأ قوله تعالى {إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر} [الصافات: 120] .
فأما تحديد أجزائها بالعدد المذكور فقد قال في ذلك بعض أهل العلم قولاً زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي منذ بدء الوحي إلى أن مات ثلاثاً وعشرين سنة أقام بمكة منها ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشر سنين وكان يوحى إليه في منامه في أول الأمر بمكة ستة أشهر وهي نصف سنة فصارت هذه المدة جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
وقال بعض العلماء معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لا أنها جزء باق من النبوة.
وقال آخر معناه أنها جزء من أجزاء علم النبوة باق والنبوة غير باقية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم ذهبت النبوة وبقيت المبشرات الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب عن أيوب عن محمد، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب فأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً.
قال الشيخ: في اقتراب الزمان قولان أحدهما أنه قرب زمان الساعة ودنو وقتها.
والقول الآخر أن معنى اقتراب الزمان اعتداله واستواء الليل والنهار والمعبرون يزعمون أن أصدق الرؤيا ما كان في أيام الربيع ووقت اعتدال الليل والنهلر.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يعلى بن عطاء عن وكيع(4/139)
بن عُدْس عن عمه أبي رزين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت قال وأحسبه قال ولا يقصها إلاّ على وادٍّ أو ذي رأي.
قال الشيخ: معنى هذا الكلام حسن الارتياد لموضع الرؤيا واستعبارها العالم بها الموثوق برأيه وأمانته.
وقوله على رجل طائر مثل ومعناه أنها لا تستقر قرارها ما لم تعبر.
وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله لا يقصها إلاّ على وادٍ أو ذي رأي الواد لا يحب أن يستقبلك في تفسيرها إلاّ بما تحب وإن لم يكن عالماً بالعبارة ولم يعجل لك بما يغمك لا أن تعبيره يزيلها عما جعله الله عليه.
وأما ذو الرأي فمعناه ذو العلم بعبارتها فهو يخبرك بحقيقة تفسيرها أو بأقرب ما يعلم منها ولعله أن يكون في تفسيره موعظة تردعك عن قبيح أنت عليه أو تكون فيها بشرى فتشكر الله على النعمة فيها.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صور صورة عذبه الله بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها وليس بنافخ، ومن تحلّم كلف أن يعقد شعيرة ومن استمع إلى حديث قوم يفرون به منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة.
قال الشيخ: قوله تحلم معناه تكذب بما لم يره في منامه يقال حلم الرجل يحملم إذا رأى حلماً. وحلم بالضم إذا صار حليماً وحلم الأديم بكسر اللام حلماً.
ومعنى عقد الشعيرة أنه يكلف ما لا يكون ليطول عذابه في النار. وذلك أن عقد ما بين طرفي الشعيرة غير ممكن.
والآنك الأسرب.(4/140)
ومن باب التثاؤب
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع ولا يقول هاه هاه فإنما ذلكم من الشيطان يضحك منه.
قال الشيخ: معنى حب العطاس وحمده وكراهة التثاؤب وذمه أن العطاس إنما يكون مع أنفتاح المسام وخفة البدن وتيسير الحركات. وسبب هذه الأمور تخفيف الغذاء والإقلال من المطعم والاجتزاء باليسير منه، والتثاؤب إنما يكون مع ثقل البدن وامتلائه وعند استرخائه للنوم وميله إلى الكسل فصار العطاس محموداً لأنه يعين على الطاعات والتثاؤب مذموماً لأنه يثبطه عن الخيرات وقضاء الواجبات.
ومن باب تشميت العاطس
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان حدثنا سليمان التيمي عن أنس قال: عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما وترك الاخر فقيل يا رسول الله رجلان عطسا فشمت أحدهما وتركت الاخر، فقال إن هذا حمد الله وإن هذا لم يحمد الله.
قال الشيخ: يقال شمت وسمت بمعنى واحد وهو أن يدعو للعاطس بالرحمة وفيه بيان أن تشميت من لم يحمد الله غير واجب.
وحكي عن الأوزاعي أنه عطس رجل بحضرته فلم يحمد الله، فقال له الأوزاعي كيف تقول إذا عطست، فقال أقول الحمد لله فقال له يرحمك الله وانما أراد(4/141)
بذلك أن يستخرج منه الحمد ليستحق التشميت.
ومن باب ينبطح على بطنه
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن يحيى ابن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن يعيش بن طخفة بن قيس الغفاري قال كان أبي من أصحاب الصفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقوا بنا إلى بيت عائشة فانطلقنا فقال يا عائشة أطعمينا فجاءت بجشيشة فأكلنا، ثم قال يا عائشة أطعمينا فجاءت بحيسة مثل القطا فأكلنا وذكر الحديث.
قال الشيخ: الحيس أخلاط من تمر وسمن وسويق وإقط يجمع فيؤكل والجشيشة ما يجش من الحب فيطبخ، والجش طحن خفيف وهو ما كان فوق الدقيق، وفيها لغة أخرى وهي الدشيشة، فأما الجذيذة فهي السويق.
ومن باب النوم على سطح ليس له ستر
قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا سالم بن نوح عن عمر بن جابر الحنفي عن وعلة بن عبد الرحمن بن وثاب عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بات على ظهر بيت ليس عليه حَجاً فقد برئت منه الذمة.
قال الشيخ: هذا الحرف يروى بفتح الحاء وكسرها، ومعناه معنى الستر والحجاب فمن قال الحجا بكسر الحاء شبهه بالحجا الذي هو بمعنى العقل وذلك أن العقل يمنع الإنسان من الردى والفساد ويحفظه من التعرض للهلاك فشبه الستر الذي يكون على السطح المانع للإنسان من التردي والسقوط بالعقل المانع له من أفعال السوء المؤدية له إلى الردى والهلاك.(4/142)
ومن رواه بفتح الحاء ذهب إلى الطرف والناحية، واحجاء الشيء نواحيه واحدها حجا مقصور.
ومن باب النوم على طهارة
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا عاصم بن بهدلة عن شهر بن حوشب، عَن أبي ظبية عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً فيتعارّ من الليل فيسأل الله خيراً من الدنيا والاخرة إلاّ أعطاه إياه.
قال الشيخ: قوله يتعار معناه يستيقظ من النوم، وأصل التعار السهر والتقلب على الفراش، يقال إن التعار لا يكون إلاّ مع كلام وصوت وهو مأخوذ من عِرار الظليم.
ومن باب ما يقول عند النوم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا المعتمر قال سمعت منصور بن الحارث عن سعد بن عبيدة قال حدثني البراء بن عازب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلاّ إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت فإن مُت مت على الفطرة.
قال الشيخ: الفطرة ههنا فطرة الدين والإسلام وقد تكون الفطرة أيضاً بمعنى السنة وهي ما جاء في الحديث أن عشراً من الفطرة فذكر منها المضمضة والاستنشاق مع سائر الخصال.(4/143)
قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا يحيى بن حمزة عن ثور عن خالد بن معدان، عَن أبي الأزهر الأنماري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال بسم الله وضعت جنبي اللهم اغفر لي ذنبي واخسأ شيطاني وفكَّ رهاني واجعلني في الندى الأعلى.
قال أبو داود: رواه أبو همام الأهوازي عن ثور فقال أبو زهير الأنماري.
قال الشيخ: الندى القوم المجتمعون في مجلس ومثله النادي ويجمع على الأندية.
قال الراجز:
إني إذا ما القوم كانوا أندية
يريد بالندى الأعلى الملأ الأعلى من الملائكة.
ومن باب في التسبيح عند النوم
قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن هشام حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن الجُريري، عَن أبي الورد بن ثمامة قال: قال علي كرم الله وجهه وذكر فاطمة عليها السلام أنها جرت بالرحى حتى أثرت بيدها واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها وقمَّت البيت حتى اغبرت ثيابها وأوقدت في القدر حتى دكنت ثيابها وأصابها من ذلك ضُر. وساق الحديث إلى أن قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في لِفاعنا وذكرت الحديث.
قال الشيخ: قوله قمت البيت معناه كنسته ومن ذلك سميت الكناسة قماماً واللفاع اللحطف وهو كل ما يتلفع به من كساء ونحو ذلك.
ومعنى التلفع الاشتمال بالثوب.
ومن باب ما يقول إذا أصبح
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي(4/144)
عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يصبح وحين يمسي اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك وأبوء بذنبي فاغفر لي أنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت. فمات من يومه أو من ليلته دخل الجنة.
قال الشيخ: قوله أبوء بنعمتك معناه الاعتراف بالنعمة والإقرار بها وأبوء بذنبي معناه الإقرار بها أيضاً كالأول، ولكن فيه معنى ليس في الأول تقول العرب باء فلان بذنبه إذا احتمله كرهاً لا يستطيع دفعه عن نفسه.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأسحر يقول سمع سامع بحمد الله ونعمته وحسن بلائه علينا اللهم صاحِبْنا فأفضل علينا عائذاً بالله من النار.
قال الشيخ: قوله سمع سامع معناه شهد شاهد وحقيقته ليسمع السامع وليشهد الشاهد على حمدنا لله سبحانه على نعمه وحسن بلائه.
وقوله عائذاً بالله يحتمل وجهين أحدهما أن يريد أنا عائذ بالله، والوجه الآخر أن يريد متعوذاً بالله كما يقال مستجار بالله بوضع الفاعل مكان المفعول كقولهم سر كاتم وماء دافق بمعنى مدفوق ومسكوب.
ومن باب ما يقول إذا هاجت الريح
قال أبو داود: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئاً(4/145)
في أفق السماء ترك العمل وإن كان في صلاة ثم يقول اللهم إني أعوذ بك من شرها، فإن مطرت قال اللهم صيباً هنيئاً.
قال الشيخ: الصيب ما سال من المطر وجرى، وأصله من صاب يصوب إذا نزل قال الله تعالى {أو كصيبٍ من السماء} [البقرة: 19] ووزنه فيعل من الصوب.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد بن زياد عن حابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقلوا الخروج بعد هدأة الرَّجل.
قال الشيخ: هدأة الرجل يريد به انقطاع الأرجل عن المشي في الطريق ليلاً وأصل الهدوء السكون.
ومن باب المولود
قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار عن ابن جريج عن أبيه عن أم حميد عن عائشة رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رئي أو كلمة غيرها فيكم المغّرَّبون، قلت وما المغربون قال: الذين يشترك فيهم الجن.
قال الشيخ: إنما سموا مغربين لانقطاعهم عن أصولهم وبعد مناسبتهم وأصل الغرب البعد، ومنه قيل عنقاء مغرب أي جائية من بعد، ومنه سمي الغريب غريباً وذلك لبعده عن أهله وانقطاعه عن وطنه فسمي هؤلاء الذين اشترك فيهم الجن مغربين لما وجد فيهم من شبه الغرباء بمداخلة من ليس من جنسهم ولا على طباعهم وشكلهم.(4/146)
ومن باب في رد الوسوسة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل عن أبيه، عَن أبي هريرة قال جاءه أناس من أصحابه قالوا يا رسول الله نجد في أنفسنا الشيء نعظم أن نتكلم به أو الكلام به قال أو قد وجدتموه قالوا نعم قال ذاك صريح الإيمان.
قال الشيخ: قوله ذاك صريح الإيمان، معناه أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم والتصديق به حتى يصير ذلك وسوسة لا يتمكن في قلوبكم ولا تطمئن إليه أنفسكم وليس معناه أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان وذلك أنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله فكيف يكون إيماناً صريحاً، وقد روي في حديث آخر أنهم لما شكوا إليه ذلك قال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة.
قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تولى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف.
قال الشيخ: قوله بغير إذن مواليه ليس بشرط في جواز أن يفعل ذلك أو يستبيحه إذا أذن مواليه في ذلك، وإنما معناه أنه ليس له أن يوالي غير مواليه بحال ولا يجوز له أن يخونهم في نفسه وأن يقطع حقوقهم من ولائه مستسراً له يقول فليستأذنهم إذا سولت له نفسه فعل هذا الصنيع فإنهم إذا علموا ذلك منعوه ولم يأذنوا له فيه فلا يمكنه حينئذ أن يوالي غيرهم وأن يحول ولاءه إلى قوم سواهم، وإنما لا يجوز ذلك لأن الولاء لحمة كلحمة النسب لا ينتقل بحال(4/147)
كما لا ينتقل النسب إلاّ ما جاء في أن الولاء للكبر وهذا ليس فيه نقل للولاء عن أصله إنما هو تنزيل وترتيب له فيما بين ورثة المعتق وتقديم الأقرب منه على الأبعد.
ومن باب التفاخر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمذاني أنبأنا ابن وهب عن هشام بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أذهب عنكم عُبِيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب.
قال الشيخ: العبية الكبر والنخوة وأصله من العب وهو الثقل يقال عُبِية وعِبية بضم العين وكسرها.
وقوله مؤمن تقي وفاجر شقي معناه أن الناس رجلان مؤمن تقي وهو الخير الفاضل وإن لم يكن حسيباً في قومه وفاجر شقي فهو الدني وإن كان في أهله شريفاً رفيعاً.
ومن باب في العصبية
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي رُدِّي فهو ينزع بذنبه ورفعه من رواية سفيان عن سماك.
قال الشيخ: معناه أنه قد وقع في الإثم وهلك كالبعير إذا تردى في بئر فصار ينزع بذنبه ولا يقدر على خلاصه.(4/148)
ومن باب الرجل يحب الرجل يخبره
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثور حدثني حبيب بن عبيد عن المقدام بن معديكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه.
قال الشيخ: معناه الحث على التودد والتألف وذلك أنه إذا أخبره بأنه يحبه استمال بذلك قلبه واجتلب به وده.
وفيه أنه إذا علم أنه محب له وواد قبل نصحه ولم يرد عليه قوله في عيب إن أخبره به عن نفسه أو سقطة إن كانت منه فإذا لم يعلم ذلك منه لم يؤمن أن يسوء ظنه فيه فلا يقبل قوله ويحمل ذلك منه على العداوة والشنآن والله أعلم.
ومن باب المشورة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا شيبان عن عبد الملك بن عمير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن.
قال الشيخ: فيه دليل على أن الإشارة غير واجبه على المستشار إذا استشير.
وفيه دليل على أن عليه الاجتهاد في الصلاح وأنه لا غرامة عليه إذا وقعت الإشارة خطأ.
ومن باب الدال على الخير
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن الأعمش، عَن أبي عمرو الشيباني، عَن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أبدع بي فأحملني قال لا أجد ما أحملك عليه ولكن ائت فلاناً لعله يحملك فأتاه فحمله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دل على خير فله(4/149)
مثل أجر فاعله.
قال الشيخ: قوله ابدع بي معناه إنقطع بي ويقال أبدعت الركاب إذا كلت وانقطعت.
ومن باب في بر الوالدين
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان حدثني سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجزي ولد والده إلاّ أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه.
قال الشيخ: قوله فيعتقه ليس معناه استئناف العتق فيه بعد الملك لأن العلماء قد أجمعوا على أن الأب يعتق على الابن إذا ملكه في الحال، وإنما وجهه أنه إذا اشتراه فدخل في ملكه عتق عليه فلما كان الشراء سبباً لعتقه أضيف العتق إلى عقد الشراء إذا كان تولد منه ووقوعه به، وإنما صار هذا جزاء له وأداء لحقه لأن العتق أفضل ما ينعم به أحد على أحد لأنه يخلصه بذلك من الرق ويجبر منه النقص الذي فيه ويكمل فيه أحكام الأحرار في الأملاك والأنكحة وجواز الشهاده ونحوها من الأمور.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسأل رجل مولاه من فضل هو عنده فيمنعه إياه إلاّ دعي له يوم القيامة فضله الذي منع شجاعاً أقرع.
قال الشيخ: الشجاع الحية والأقرع الذي انحسر الشعر عن رأسه من كثرة سمه.(4/150)
ومن باب فضل من عال يتامى
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية، عَن أبي مالك الأشجعي عن ابن حُدير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها، قال، يَعني الذكور ادخله الله الجنة.
قال الشيخ: قوله لم يئدها معناه لم يدفنها حية وكانوا يدفنون البنات أحياء يقال منه وأد يئد وأداً ومنه قول الله سبحانه {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} .
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا النهاس حدثني شداد أبو عمار عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة يريد السبابة والوسطى.
قال الشيخ: السفعاء هي التي تغير لونها إلى الكمودة والسواد من طول الإيمة وكأنه مأخوذ من سفع النار وهو أن يصيب لفحها شيئاً فيسود مكانه يريد بذلك أن هذه المرأة قد حبست نفسها على أولادها ولم تتزوج فتحتاج إلى أن تتزين وتصنع نفسها لزوجها.
ومن باب حق المملوك
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه، عَن أبي مسعود الأنصاري قال كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه فالتفت فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله، فقال أما لو لم تفعل للفعتك النار أو لمستك النار.(4/151)
قال الشيخ: قوله لفعتك معناه شملتك من نواحيك، ومنه قولهم تلفع الرجل بالثوب إذا اشتمل به.
ومن باب من خبب مملوكاً
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا زيد بن حباب عن عمار بن زريق عن عبد الله بن عيسى عن عكرمة عن يحيى بن يعمر، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من خبب زوجة امرىء أو مملوكه فليس منا.
قال الشيخ: قوله خبب يريد أفسد وخدع وأصله من الخب وهو الخداع ورجل خب ويقال فلان خب صب إذا كان فاسداً مفسداً.
ومن باب في الاستئذان
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً اطلع في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أو مشاقص قال فكأنى انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله ليطعنه.
قال الشيخ: المشقص نصل عريض، وقوله يختله معناه يراوده ويطلبه من حيث لا يشعر.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل عن أبيه حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فقد هدرت عينه.
قال الشيخ: في هذا بيان إبطال القود واسقاط الدية عنه، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أهدرها وعن أبي هريرة مثل ذلك وإليه ذهب الشافعي(4/152)
وقال أبو حنيفة إذا فعل ذلك ضمن الجناية وذلك لأنه قد يمكنه أن يدفعه عن النظر والاطلاع عليه بالاحتجاب عنه وسد الخصاص والتقدم إليه بالكلام ونحوه فإذا لم يفعل ذلك وعمد إلى فقء عينه كان ضامناً لها وليس النظر بأكثر من الدخول عليه بنفسه وتأول الحديث على معنى التغليظ والوعيد.
وقد قال بعض من ذهب إلى الحديث إنما يكون له فقء عينه إذا كان قد زجره وتقدم إليه فلم ينصرف عنه، كاللص إنما يباح له قتاله ودفعه عن نفسه وإن أبى ذلك عليه إذا لم ينصرف عنه بدون ذلك.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن عبيد الله بن صفوان أخبره عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس وذكر حديثاً.
قال الشيخ: الجداية الصغير من الظباء يقال الذكر والأنثى جداية أنشدني أبو عمرو قال أنشدنا أبو العباس:
يريح بعد النفس المحفوز ... إراحة الجداية النفوز
والضغابيس صغار القثاء واحدها ضغبوس، ومنه قيل للرجل الضعيف ضغبوس تبشبيهاً له به.
ومن باب الرجل يستأذن بالدق
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر أنه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في دين أبيه فدققت الباب فقال من هذا، قلت أنا قال أنا أنا كأنه كرهه.(4/153)
قال الشيخ: قوله أنا ليس بجواب لقوله من هذا لأن الجواب هو ما كان بياناً للمسألة.
وإنما تكون المكاني جواباً وبياناً عند المشاهدة لا مع المغايبة، وإنما كان قوله من هذا هو ما كان استكشافاً للابهام، فأجابه بقوله أنا فلم يزل الإبهام وكان وجه البيان أن يقول أنا جابر ليقع به التعريف ويزول معه الاشكال والابهام، وقد يكون ذلك من أجل تركه الاستئذان بالسلام والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عباس العنبري حدثنا أسود بن عامر حدثنا حسن بن صالح عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال السلام عليك يا رسول الله أيدخل عمر.
قال الشيخ: قد جمع الاستئذان بالسلام والإبانة عن الاسم والتعريف وهو كمال الاستئذان، والمشربة كالخزانة تكون للإنسان مرتفعة عن وجه الأرض.
ومن باب السلام على أهل الذمة
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز، يَعني ابن مسلم عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا وعليكم.
قال الشيخ: هكذا يرويه عامة المحدثين وعليكم بالواو، وكان سفيان بن عيينة يرويه عليكم بحذف الواو وهو الصواب، وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردوداً عليهم وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه لأن الواو حرف العطف والجمع بين الشيئين، والسام فسروه الموت.
ومن باب القيام
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم، عَن أبي(4/154)
أمامة بن سهل بن حنيف، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أهل قريظة لما نزلوا على حكم سعد أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء على حمار أقمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم أو إلى خيركم فجاء حتى قعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: فيه من العلم أن قول الرجل لصاحبه يا سيدي غير محظور إذا كان صاحبه خيراً فاضلاً وإنما جاءت الكراهة في تسويد الرجل الفاجر.
وفيه أن قيام المرؤوس للرئيس الفاضل وللولي العادل، وقيام المتعلم للعالم مستحب غير مكروه، وإنما جاءت الكراهة فيمن كان بخلاف أهل هذه الصفات.
ومعنى ما روي من قوله من أحب أن تستجم له الرجال صفوفاً هو أن يأمرهم بذلك ويلزمه إياهم على مذهب الكبر والنخوة.
وفيه دليل على أن من حكم رجلاً في حكومة بينه وبين غيره فرضيا بحكمه كان ما حكم به ماضياً عليهما إذا وافق الحق.
ومن باب في قبلة الجسد
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أنبأنا خالد عن حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيد بن حضير رجل من الأنصار قال بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح بيننا يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود فقال أصبرني فقال اصطبر، قال ان عليك قميصاً وليس عليّ قميص فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضه وجعل يقبل كشحه وقال إنما أردت هذا يا رسول الله.
قال الشيخ: قوله اصبرني يريد اقدني من نفسك، وقوله اصطبر معناه استقد قال هدبة بن خشرم:
فإن يك في أموالنا لم نضق بها …ذرعاً وإن صبراً فنصبر للدهر(4/155)
يريد بالصبر القود وفيه حجة لمن رأى القصاص في الضربة بالسوط واللطمة بالكف ونحو ذلك مما لا يوقف له على حد معلوم ينتهى إليه.
وقد روي ذلك، عَن أبي بكر وعمر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كرم الله وجوههم ورضي عنهم.
وممن ذهب إليه شريح والشعب وبه قال ابن شبرمة، وقال الحسن وقتادة لا قصاص في اللطمة ونحوها وإليه ذهب أصحاب الرأي وهو قول مالك والشافعي.
ومن باب الرجل يقوم للرجل يعظمه بذلك
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حبيب بن الشهيد، عَن أبي مجلز عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار.
قال الشيخ: قوله يمثل معناه يقوم وينتصب بين يديه وقد ذكرنا وجهه في الباب الذي قبله.
ومن باب إماطة الأذى عن الطريق
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد عن واصل عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر، عَن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة وذكر الحديث.
السلامي عظم فرس البعير ويجمع على السلاميات هذا أصله.
قال الشيخ: وليس المراد بهذا عظام الرجل خاصة ولكنه يراد به كل عظم ومفصل يعتمد في الحركة ويقع به القبض والبسط والله أعلم.(4/156)
ومن باب قتل الحيات
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر فإنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحَبَل.
قال الشيخ: فسره أبو عبيدة وحكي عن الأصمعي قال الطفية خوصة المقل وجمعها طفى، قال وأراه شبه الخطين اللذين على ظهره بخوصتين من خوص المقل قال، وقال غيره الأبتر القصير الذنب من الحيات.
ومعنى قوله يلتمسان البصر قيل فيه وجهان: أحدهما أنهما يخطفان البصر ويطمسانه وذلك لخاصية في طباعهما إذا وقع بصرهما على بصر الإنسان وقيل معناه أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش.
وقد روي في هذا الحديث من رواية أبي أمامة فإنهما يخطفان البصر ويطرحان ما في بطون النساء وهو يؤكد التفسير الأول.
ومن باب قتل الذر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد.
قال الشيخ: يقال إن النهي إنما جاء في قتل النمل في نوع منه خاص وهو الكبار منها ذوات الأرجل الطوال وذلك أنها قليلة الأذى والضرر ونهى عن قتل النحلة لما فيها من المنفعة، فأما الهدهد والصرد فنهيه في قتلهما يدل على تحريم لحومهما، وذلك أن الحيوان إذا نهي عن قتله ولم يكن ذلك لحرمته ولا لضرر(4/157)
فيه كان ذلك لتحريم لحمه، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذبح الحيوان إلاّ لمأكلة، ويقال إن الهدهد منتن اللحم فصار في معنى الجلالة المنهي عنها، وأما الصرد فإن العرب تتشاءم به وتتطير بصوته وشخصه، ويقال إنهم إنما كرهوا من اسمه معنى التصريد أنشدني بعض أصحابنا عن ابن الأنباري، عَن أبي العباس: غراب وظبي أعضب القرن باديا …بصرم وصِردان العشي تصيح
ومن باب الختان
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا مروان، قال: حَدَّثنا محمد بن حسان حدثنا عبد الوهاب الكوفي عن عبد الملك بن عمير عن أم عطية الأنصارية أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا تُنْهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل.
قال الشيخ: قوله لا تنهكي معناه لا تبالغي في الخفض والنهك المبالغة في الضرب والقطع والشتم وغير ذلك، وقد نهكته الحمى إذا بلغت منه وأضرت به.
ومن باب الرجل يسب الدهر
قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار.
قال الشيخ: تأويل هذا الكلام أن العرب إنما كانوا يسبون الدهر على أنه هو الملم بهم في المصائب والمكاره ويضيفون الفعل فيما ينالهم منها إليه ثم يسبون فاعلها فيكون مرجع السب في ذلك إلى الله سبحانه إذ هو الفاعل لها فقيل على ذلك لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر، أي إن الله هو الفاعل لهذه الأمور التي(4/158)
تضيفونها إلى الدهر.
وكان ابن داود ينكر رواية أصحاب الحديث هذا الحرف مضمومة ويقول لو كان كذلك لكان الدهر اسماً معدوداً من أسماء الله عز وجل، وكان يرويه وأنا الدهر أقلب الليل والنهار مفتوحة الراء على الظرف يقول أنا طول الدهر والزمان أقلب الليل والنهار. والمعنى الأول هو وجه الحديث.
كتاب القضاء
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرنا فضيل بن سليمان حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين.
قال الشيخ: معناه التحذير من طلب القضاء والحرص عليه يقول من تصدى للقضاء فقد تعرض للذبح فليحذره وليتوقه.
وقوله بغير سكين يحتمل وجهين: أحدهما أن الذبح إنما يكون في ظاهر العرف بالسكين فعدل به عليه السلام عن غير ظاهر العرف وصرفه عن سنن العادة إلى غيرها ليعلم أن الذي أراده بهذا القول إنما هو ما يخاف عليه من هلاك دينه دون هلاك بدنه.
والوجه الآخر أن الذبح الوجيء الذي يقع به إزهاق الروح واراحة الذبيحة وخلاصها من طول الألم وشدته إنما يكون بالسكين لأنه يجهز عليه، وإذا ذبح بغير السكين كان ذبحه خنقاً وتعذيباً فضرب المثل في ذلك ليكون أبلغ(4/159)
في الحذر والوقوع فيه.
ومن باب القاضي يخطىء
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد العزيز يعنى ابن محمد أخبرني يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بُسر بن سعيد، عَن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر فحدثت به أبا بكر بن حزم فقال هكذا حدثني أبوسلمة، عَن أبي هريرة.
قال الشيخ: قوله إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر إنما يؤجر المخطىء على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط. وهذا فيمن كان من المجتهدين جامعاً لآلة الاجتهاد عارفاً بالأصول وبوجوه القياس. فأما من لم يكن محلاً للاجتهاد فهومتكلف ولا يعذر بالخطأ في الحكم بل يخاف عليه أعظم الوزر بدليل حديث ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، أما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار.
وفيه من العلم ليس كل مجتهد مصيباً، ولو كان كل مجتهد مصيباً لم يكن لهذا التفسير معنى، وإنما يعطى هذا أن كل مجتهد معذور لا غير، وهذا إنما هو في الفروع المحتملة للوجوه المختلفة دون الأصول التي هي أركان الشريعة وأمهات الأحكام التي لا تحتمل الوجوه ولا مدخل فيها للتأويل. فإن من أخطأ فيها كان غير معذور في الخطأ وكان حكمه في ذلك مردوداً.(4/160)
ومن باب كراهية الرشوة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن، عَن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي.
قال الشيخ: الراشي المعطي، والمرتشي الآخذ، وإنما يلحقهما العقوبة معاً إذا استويا في القصد والإرادة فرشا المعطي لينال به باطلاً ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو يدفع عن نفسه ظلماً فإنه غير داخل في هذا الوعيد.
وروي أن ابن مسعود أخذ في شيء وهو بأرض الحبشة فأعطى دينارين حتى خُلي سبيله. وروي عن الحسن والشعبي وجابر بن زيد وعطاء أنهم قالوا لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم.
وكذلك الآخذ إنما يستحق الوعيد إذا كان ما يأخذه اما على حق يلزمه اداؤه فلا يفعل ذلك حتى يُرشا أو عمل باطل يجب عليه تركه فلا يتركه حتى يصانع ويرشا.
ومن باب كيف القضاء
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا شريك عن سماك عن حنش عن علي عليه السلام قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً فقلت يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء، فقال إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال فما زلت قاضياً أو ما(4/161)
أشككت في قضاء بعد.
قال الشيخ: فيه دليل على أن الحاكم لا يقضي على غائب وذلك لأنه إذا منعه أن يقضي لأحد الخصمين وهما حاضران حتى يسمع كلام الآخر فقد دل على أنه في الغائب الذي لم يحضره ولم يسمع قوله أولى بالمنع، وذلك لإمكان أن يكون معه حجة تبطل دعوى الحاضر.
وممن ذهب إلى أن الحاكم لا يقضي على غائب شريح وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة وابن أبي ليلى.
وقال مالك والشافعي يجوز القضاء على الغائب إذا تبين للحاكم أن فراره واستخفاءه إنما هو فرار من الحق ومعاندة للخصم.
واحتج لهذه الطائفة بعضهم بخبر هند، وقوله عليه السلام لها خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف؛ وقال إذا كان الخصم حاضر زمانه لا يحكم على أحدهما قبل أن يسمع من صاحبه لجواز أن يكون مع خصمه حجة يدفع بها بينته، فإذا كان الخصم غائباً لم يجز أن يترك استماع قول خصمه الحاضر إلاّ أنه يكتب في القضية أن الغائب على حقه إذا حضر وأقام بينته أو جاء بحجته وهو إذا فعل ذلك فقد استعمل معنى الخبر في استماع قول الخصم الآخر كاستماعه قول الأول. ولو ترك الحكم على الغائب لكان ذلك ذريعة إلى إبطال الحقوق.
وقد حكم أصحاب الرأي على الغائب في مواضع. منها الحكم على الميت وعلى الطفل وقال في الرجل يودع الرجل وديعة ثم يغيب فإذا ادعت امرأته النفقة وقدمت المودَع إلى الحاكم قضى لها عليه بها. وقالوا إذا ادعى للشفيع على الغائب أنه باع عقاره وسلم واستوفى الثمن فإنه يقضى له بالشفعة وكل هذا حكم على الغائب.(4/162)
ومن باب قضاء القاضي إذا أخطأ
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار.
قال الشيخ: قوله ألحن بحجته أي أفطن لها، واللحن مفتوحة الحاء الفطنة؛ يقال لحنت الشيء ألحن له لحَناً ولحن الرجل في كلامه لحناً بسكون الحاء.
وفيه من الفقه وجوب الحكم بالظاهر وأن حكم الحاكم لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً وأنه متى أخطأ في حكمه فمضى كان ذلك في الظاهر فأما في الباطن وفي حكم الآخرة فإنه غير ماض.
وفيه أنه لا يجوز للمقضي له بالشيء أخذه إذا علم أنه لا يحل له فيما بينه وبين الله، ألا تراه يقول فلا يأخذ منه شيئاً فإنما اقطع له قطعة من النار. وقد يدخل في هذا الأموال والدماء والفروج كان ذلك كله حق أخيه وقد حرم عليه أخذه.
وقد أجمع العلماء في هذا في الدماء والأموال وإنما الخلاف في أحكام الفروج فقال أبو حنيفة إذا ادعت المرأة على زوجها الطلاق وشهد لها شاهدان فقضى الحاكم بالتفرقة بينهما وقعت الفرقة فيما بينها وبين الله وإن كانا شاهدي زور، وجاز لكل واحد من الشاهدين أن ينكحها، وخالفه أصحابه في ذلك. قال وقد تعرض في هذا الباب أمور مما يختلف فيه اعتقاد القاضي وصاحب القضية المحكوم له بها كالرجل يذهب إلى أن الطلاق قبل النكاح لازم فيتزوج المرأة فيحكم له الحاكم بجواز النكاح فلا يسعه فيما بينه وبين الله المقام عليه ويلزمه نصف المهر بالعقد إذا(4/163)
حكم به الحاكم عليه. ولو أن رجلاً مات ابن أبيه وخلف أخاه لأبيه وأمه وخلف مالاً فقدم إلى قاض يقول بقول أبي بكر في توريث الجد والجد يرى رأي زيد لم يسعه أن يستبد بالمال دون الاخوة ولا يبيح له القاضي شيئاً هو في علمه أنه حرام عليه. وكذلك هذا فيمن لا يرى توريث ذوي الأرحام في نحو هذا من الأمور.
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا ابن المبارك عن أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قالت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلاّ دعواهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم استَهَما ثم تحالا.
قال الشيخ: قوله استهما معناه اقترعا والاستهام الاقتراع ومنه قوله تعالى {فساهم فكان من المدحضين} [الصافات: 411] وفيه دليل على أن الصلح لا يصح إلاّ في الشيء المعلوم ولذلك أمرهما بالتوخي في مقدار الحق ثم لم يقنع فيه بالتوخي حتى ضم إليه القرعة، وذلك أن التوخي إنما هو أكثر الرأي وغالب الظن والقرعة نوع من البينة فهي أقوى من التوخي ثم أمرهما بعد ذلك بالتحليل ليكون تصادرهما عن تعين براءة وافتراقهما عن طيب نفس ورضى.
وفيه دليل على أن التحليل إنما يصح فيما كان معلوم المقدار غير مجهول الكمية.
ومن باب القاضي يقضي وهو غضبان
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أنه كتب إلى ابنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(4/164)
لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان.
قال الشيخ: الغضب يغير العقل ويحيل الطباع عن الاعتدال فلذلك أمرالحاكم بالتوقف في الحكم ما دام به الغضب. فقياس ما كان في معناه من جوع مفرط وفزع مدهش ومرض موجع قياس الغضب في المنع من الحكم.
ومن باب اجتهاد الرأي في القضاء
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر عن شعبة، عَن أبي عون عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله، قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله، قال اجتهد برأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله.
قال الشيخ: قوله اجتهد برأيي يريد الاجتهاد في رد القضية من طريق القياس إلى معنى الكتاب والسنة ولم يرد الرأي الذي يسنح له من قبل نفسه أو يخطر بباله عن غير أصل من كتاب أو سنة. وفي هذا إثبات القياس وإيجاب الحكم به.
وفيه دليل على أنه ليس للحاكم أن يقلد غيره فيما يريد أن يحكم به وإن كان المقلد أعلم منه وافقه حتى يجتهد فيما يسمعه منه فإن وافق رأيه واجتهاده أمضاه وإلا توقف عنه لأن التقليد خارج من هذه الأقسام المذكورة في الحديث.
وقوله لا آلو معناه لا أقصر في الاجتهاد ولا أترك بلوغ الوسع فيه.(4/165)
ومن باب في الصلح
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال (ح) وحدثنا أحمد بن عبد الواحد الدمشقي حدثنا مروان، يَعني ابن محمد حدثنا سليمان بن بلال أو عبد العزيز بن محمد شك الشيخ عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلح جائز بين المسلمين زاد أحمد إلاّ صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، زاد سليمان بن داود وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلمون على شروطهم.
قال الشيخ: الصلح يجري مجرى المعاوضات ولذلك لا يجوز إلاّ فيما أوجب المال ولا يجوز في دعوى القذف ولا على دعوى الزوجية وعلى مجهل ولا أن يصالحه من دين له على مال نسيه لأنه من باب الكال بالكال ولا يجوز الصلح في قول مالك على الأقرار، ولا يجوز في قول الشافعي على الإنكار. وجوزه أصحاب الرأي على الأقرار والإنكار معاً. ونوع آخر من الصلح وهو أن يصالحه في مال على بعضه نقداً وهذا من باب الحظ والإبراء وإن كان يدعي صلحاً.
وقوله المسلمون على شروطهم فهذا في الشروط الجائزة في حق الدين دون الشروط الفاسدة وهذا من باب ما أمرالله تعالى من الوفاء بالعقود.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الله بن كعب أن كعب بن مالك أخبره أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته ونادى كعب بن مالك فقال يا كعب، فقال لبيك يا رسول الله(4/166)
فأشار له بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب قد فعلت يا رسول الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه.
قال الشيخ: فيه من الفقه أن للقاضي أن يصلح بين الخصمين وأن الصلح إذا كان على وجه الحط والوضع من الحق يجب نقداً. وفيه جواز ملازمة الغريم واقتضاء الحق منه في المسجد.
ومن باب في الشهادات
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني قالا أخبرنا ابن وهب قال أخبرني مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر أن أباه أخبره أن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان أخبره أن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري أخبره أن زيد بن خالد الجهني أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته أو يخبر بشهادته قبل أن يُسألها شك عبد الله بن أبي بكر ايتهما قال.
قال الشيخ: أما الشهادة في الحق يدعيه الرجل قبل صاحبه فيخبر بها الشاهد قبل أن يسألها فإنه لا قرار لها ولا يجب تنجيز الحكم بها حتى يستشهده صاحب الحق فيقيمها عند الحاكم، وإنما هذا في الشهادة تكون عند الرجل ولا يعلم بها صاحب الحق فيخبره بها ولا يكتمه إياها.
وقيل هذا في الأمانة والوديعة تكون لليتيم لا يعلم بمكانها غيره فيخبره بما يعلمه من ذلك، وقيل هذا مثل في سرعة إجابة الشاهد إذا استشهد لا يمنعها ولا يؤخرها.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: يأتي أقوام فيحلفون ولا يستحلفون ويشهدون ولا يستشهدون(4/167)
فإنما هو إذا كان على المعنى الأول. وقيل أراد بها الشهادات التي يقطع بها على المغيب فيقال فلان في الجنة وفلان في النار.
وفيه معنى التألي على الله تعالى ولذلك ذم وزجر عنه.
ومن باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد قال جلسنا لعبد الله بن عمر فخرج إلينا فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال.
قال الشيخ: الردغة الوحل الشديد، ويقال ارتدغ الرجل إذا ارتطم في الوحل. وجاء في تفسير ردغة الخبال أنها عصارة أهل النار.
ومن باب من ترد شهادته
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا محمد بن راشد حدثنا سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغِمر على أخيه ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم.
قال الشيخ: قال أبو عبيد لا نراه خص به الخيانة في أمانات الناس دون ما فرض الله على عباده وائتمنهم عليه فإنه قد سمى ذلك كله أمانة فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال: 27] فمن ضيع شيئاً مما أمر الله أو ركب شيئاً مما نهاه الله عنه فليس بعدل لأنه قد لزمه اسم الخيانة.(4/168)
وأما ذو الغمر فهو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة فرد شهادته للتهمة.
وقال أبو حنيفة شهادد على العدو مقبولة إذا كان عدلاً. والقانع السائل والمستطعم وأصل القنوع السؤال، ويقال إن القانع المنقطع إلى القوم لخدمتهم ويكون في حوائجهم كالأجير والوكيل ونحوه.
ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعاً فهي مردودة كمن شهد لرجل على شراء دار وهو شفيعها، وكمن حكم له على رجل بدين وهو مفلس فشهد للمفلس على رجل بدين ونحوه.
ومن رد شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يرد شهادة الزوج لزوجته لأن ما بينهما من التهمة في جر النفع أكثر، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
والحديث أيضاً حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه لأنه يجر به النفع لما جبل عليه من حبه الميل إليه ولأنه يملك عليه ماله، وقد قال عليه السلام لرجل أنت ومالك لأبيك، وذهب شريح إلى جواز شهادة الأب للابن وهو قول المزني وأبو ثور وأحسبه قول داود.
ومن باب شهادة البدوي على أهل الأمصار
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد عن ابن الهاد عن محمد بن عمرو عن عطاء بن يسار، عَن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية.(4/169)
قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصورعلمهم عما يحيلها ويغيرها على جهتها.
وقال مالك لا تجوز شهادة البدوي على القروي لأن في الحضارة من يغنيه عن البدوي إلاّ أن يكون في بادية أوقرية. والذي يشهد بدوياً ويدع جيرته من أهل الحضر عندي مريب.
وقال عامة العلماء شهادة البدوي إذا كان عدلاً يقيم الشهادة على وجهها جائزة.
ومن باب الشهادة في الرضاع
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال حدثني عقبة بن الحارث وحدثنيه صاحب لي عنه وأنا لحديث صاحبي احفظ، قال تزوجت أم يحيى بنت أبي أهاب فدخلت علينا امرأة سوداء فزعمت أنها ارضعتنا جميعاً فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأعرض عني فقلت يا رسول الله إنها لكاذبة، قال وما يدريك وقد قالت ما قالت دعها عنك.
قال الشيخ: قوله وما يدريك تعليق منه القول في أمرها، وقوله دعها عنك إشارة منه بالكف عنها من طريق الورع لا من طريق الحكم، وليس في هذا دلالة على وجوب قبول قول المرأة الواحدة في هذا وفيما لا يطلع عليه الرجال من أمر النساء لأن من شرط الشاهد من كان من رجل أو امرأة أن يكون عدلاً وسبل الشهادات أن تقام عند الأئمة والحكام وإنما هذه امرأة جاءته فأخبرته بأمر هو من فعلها وهو بين مكذب لها ولم يكن هذا القول منها(4/170)
شهادة عند النبي صلى الله عليه وسلم فتكون سبباً للحكم والاحتجاج به في إجازة شهادة المرأة الواحدة في هذه وفيما أشبهه من الباب ساقط.
واختلف في عدد من تقبل شهادته من النساء في الرضاع. فقال ابن عباس شهادة المرأة الواحدة تقبل فيما لا يطلع عليه الرجال. وأجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال، وقد روي عن الشعبي والنخعي.
وقال عطاء وقتادة لا تجوز في ذلك أقل من أربع نسوة وإليه ذهب الشافعي.
وقال مالك تجوز شهادة امرأتين وهو قول ابن أبي ليلى وابن شبرمة.
ومن باب شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر
قال أبو داود: حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدَقوقاء هذه ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحلَفَهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما.
قال الشيخ: فيه دليل على أن شهادة أهل الذمة مقبولة على وصية المسلم في السفر خاصة وممن روي عنه أنه قبلها في مثل هذه الحالة شريح وإبراهيم النخعي وهو قول الأوزاعي.
وقال أحمد لا تقبل شهادتهم إلاّ في مثل هذا الموضع للضرورة.
وقال الشافعي لا تقبل شهادة الذمي من جه لا على مسلم ولا على كافر وهو قول مالك.
وقال أحمد لا تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض.(4/171)
وقال أصحاب الرأي شهادة بعضهم على بعض جائزة والكفر كله ملة واحدة.
وقال آخرون شهادة اليهودي على اليهودي جائزة ولا تجوز على النصراني والمجوسي لأنها ملل مختلفة ولا تجوز شهادة أهل ملة على ملة أخرى. هذا قول الشعبي وابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه، وحكي ذلك عن الزهري قال وذلك للعداوة التي ذكرها الله بين هذه الفرق.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بَدَّاء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوَّصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبنا قال فنزلت فيهم {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية [المائدة: 106] .
قال الشيخ: فيه حجة لمن رأى رد اليمين على المدعي والآية محكمة لم تنسخ في قول عائشة والحسن البصري وعمرو بن شرحبيل، وقالوا المائدة آخر ما نزل من القرآن لم ينسخ منها شيء؛ وتأول من ذهب إلى خلاف هذا القول الآيه على الوصية دون الشهادة لأن نزول الآية إنما كان في الوصية، وتميم الدارى وصاحبه عدي بن بداء إنما كانا وصيين لا شاهدين والشهود لا يحلفون، وقد حلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عبر بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها وهو معنى قوله تعالى {ولا نكتم شهادة الله} [المائدة: 106] أي أمانة الله، وقالوا معنى قوله {أو آخران من غيركم} [المائدة: 06 1] أي من غير قبيلتكم وذلك أن الغالب في الوصية أن الموصي يشهد(4/172)
أقربائه وعشيرته دون الأجانب والأباعد، ومنهم من زعم أن الآية منسوخة والقول الأول أصح والله أعلم.
ومن باب إذا علم الحاكم صدق شهادة الواحد
يجوز له أن يقضي به
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم قال أخبرنا شعيب عن الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرساً من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشى وابطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه الفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن كنت مبتاعاً هذا الفرس وإلا بعته فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال أو ليس قد ابتعته منك، قال الأعرابي لا والله ما بعتكه فقال النبي صلى الله عليه وسلم بلى قد ابتعته منك فطفق الأعرابي يقول هلم شهيداً فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد أنك قد بايعته فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال بم تشهد فقال بتصديقك يا رسول الله فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
قال الشيخ: هذا حديث يضعه كثير من الناس غير موضعه وقد تذرع به قوم من أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عرف عنده بالصدق على كل شىء ادعاه، وإنما وجه الحديث ومعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم على الأعرابي بعلمه إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم صادقاً باراً في قوله وجرت شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد لقوله والاستظهار بها على خصمه فصارت في التقدير شهادته له وتصديقه إياه على قوله كشهادة رجلين في سائر القضايا.(4/173)
ومن باب القضاء باليمين والشاهد
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي أن زيد بن الحباب حدثهم، قال: حَدَّثنا سيف المكي قال عثمان عن سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.
قال الشيخ: يريد أنه قضى للمدعي بيمينه مع شاهد واحد كأنه أقام اليمين مقام شاهد آخر فصار كالشاهدين. وهذا خاص في الأموال دون غيرها لأن الراوي وقفه عليها، والخاص لا يتعدى به محله ولا يقاس عليه غيره واقتضاء العموم منه غير جائز لأنه حكاية فعل والفعل لا عموم له فوجب صرفه إلى أمر خاص فلما قال الراوي هو في الأموال كان مقصوراً عليه.
وقد رأى الحكم باليمين مع الشاهد الواحد أجلة الصحابة وأكثر التابعين. وفقهاء الأمصار، وأباه أصحاب الرأي وابن أبي ليلى، وقد حكي ذلك أيضاً عن النخعي والشعبي.
واحتج بعضهم في ذلك بقوله عليه السلام البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وهذا ليس بمخالف لحديث اليمين مع الشاهد، وإنما هو في اليمين إذا كان مجرداً وهذه يمين مقرونه ببينة فكل واحد منهما غير الأخرى فإذا تباين محلاهما جاز أن يختلف حكماهما.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا عمار بن شعيث بن عبد الله بن الزُّبَيب العنبري حدثني أبي قال سمعت جدي الزبيب يقول بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى بني العنبر فأخذوهم برُكْبة من ناحية الطائف فاستاقوهم إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فركبت فسبقتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله(4/174)
وبركاته أتانا جندك فأخذونا وقد كنا أسلمنا وخضرمنا آذان النعم فلما قدم بَلْعنبر قال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم هل لكم بينة على أنكم أسلمتم قبل ان تؤخذوا في هذه الأيام، قلت نعم قال من بينتك قلت سمره رجل من بني العنبر ورجل آخر سماه له فشهد الرجل وأبى سمرة أن يشهد، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أبى أن يشهد لك فتحلف مع شاهدك الآخر فقلت نعم فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا وخضرمنا آذان النعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اذهبوا فقاسموهم أنصاف الأموال ولا تمسوا ذراريهم لولا أن الله تعالى لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عِقالاً. قال الزبيب فدعتني أمي فقالت هذا الرجل أخذ زِربيتي فانصرفت إلى نبي الله، يَعني فأخبرته فقال لي احبسه فأخذت بتلبيبه وقمت معه مكاننا ثم نظر إلينا نبي الله صلى الله عليه وسلم قائمين، فقال ما تريد بأسيرك فأرسلته من يدي فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال للرجل رد على هذا زِربية أمه التي أخذت منها قال يا نبي الله إنها خرجت من يدي قال فاختلع نبي الله صلى الله عليه وسلم سيف الرجل فأعطانيه فقال للرجل اذهب فزده آصعا من طعام، قال فزادني آصعا من شعير.
قال الشيخ: قوله خضرمنا آذان النعم أي قطعنا أطراف آذانها وكان ذلك في الأموال علامة بين من أسلم وبين من لم يسلم. والمخضرمون قوم أدركوا الجاهلية وبقوا إلى أن أسلموا ويقال إن أصل الخضرمة خلط الشيء بالشيء.
وضلالة العمل بطلانه وذهاب نفعه ويقال ضل اللبن في الماء إذا بطل وتلف.
وقوله ما رزيناكم عقالاً اللغة الفصيحة ما رزأناكم بالهمز يريد ما أصبنا من أموالكم عقالاً، ويقال ما رزأته زبالاً أي ما أصبت منه ما تحمله نملة، والزربية الطنفسة.(4/175)
وفي الحديث استعمال اليمين مع الشاهد في غير الأموال إلاّ أن إسناده ليس بذاك.
وقد يحتمل أيضاً أن يكون اليمين قد قصد بها ههنا الأموال لأن الإسلام يعصم المال كما يحقن الدم.
وقد ذهب قوم من العلماء إلى إيجاب اليمين مع البينة العادلة. كان شريح والشعبي والنخعي يرون أن يستحلف الرجل مع بينته، واستحلف شريح رجلاً فكأنه تأبى لليمين فقال بئس ما تثني على شهودي وهو قول سوار بن عبد الله القاضي. وقال إسحاق إذا استراب الحاكم أوجب ذلك.
ومن باب الرجلين يدعيان شيئاً وليس بينهما بينة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده أبي موسى الأشعري أن رجلين ادعيا بعيراً أو دابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس لواحد منهما بينة فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما.
قال الشيخ: يشبه أن يكون هذا البعير أو الدابة كان في أيديهما معاً فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما لاستوائهما في الملك باليد ولولا ذلك لم يكونا بنفس الدعوى يستحقانه لو كان الشيء في يد غيره.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة بمعنى إسناده أن رجلين ادعيا بعيراً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبعث كل واحد منهما شاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين.
قال الشيخ: وهذا مروي بالإسناد الأول، إلاّ أن الحديث المتقدم أنه لم يكن لواحد منهما بينة وفي هذا إن كل واحد منهما قد جاء بشاهدين فاحتمل(4/176)
أن يكون القصة واحدة، إلاّ أن الشهادات لما تعارضت تساقطت فصارا كمن لا بينة له وحكم لهما بالشيء نصفين بينهما لاستوائهما في اليد. ويحتمل أن يكون البعير في يد غيرهما، فلما أقام كل واحد منهما شاهدين على دعواه نزع الشيء من يد المدعى عليه ودفع إليهما.
وقد اختلف العلماء في الشيء يكون في يدي الرجل فيتداعاه اثنان ويقيم كل واحد منهما بينة فقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة صار له. وكان الشافعي يقول به قديماً ثم قال في الجديد فيه قولان أحدهما يقضي به بينهما نصفين وبه قال أصحاب الرأي وسفيان الثوري.
والقول الآخر يقرع بينهما وأيهما خرج سهمه حلف لقد شهد شهوده بحق ثم يقضي له به.
وقال مالك لا أحكم به لواحد منهما إذا كان في يد غيرهما، وحكي عنه أنه قال هو لأعدلهما شهوداً وأشهرهما بالصلاح.
وقال الأوزاعي يؤخذ بأكثر البينتين عدداً، وحكي عن الشعبي أنه قال هو بينهما على حصص الشهود.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن منهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن خِلاس عن أبى رافع، عَن أبي هريرة أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس لواحد منهمإ بينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أو كرها.
قال الشيخ: معنى الاستهام هنا الاقتراع يريدا أنهما يقترعان فأيهما خرجت(4/177)
له القرعة حلف وأخذ ما ادعاه، وروي ما يشبه هذا عن علي رضي الله عنه قال حنش بن المعتمر أتي علي ببغل وجد في السوق يُباع، فقال رجل هذا بغلي لم ابع ولم أهب ونزع على قال بخمسة يشهدون، قال وجاء آخر يدعيه يزعم أنه بغله وجاء بشاهدين، فقال علي رضي الله عنه إن فيه قضاءً وصلحاً وسوف أبين لكم ذلك كله، أما صلحه أن يباع البغل فيقسم ثمنه على سبعة أسهم لهذا خمسة ولهذا اثنان، وإن لم يصطلحوا إلاّ القضاء فإنه يحلف أحد الخصمين أنه بغله ما باعه ولا وهبه فإن تشاححتما أيكم يحلف أقرعنا بينكما على الحلف فأيكما قرع حلف قال فقضى بهذا وأنا شاهد.
ومن باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي ألك بينة قال لا، قال فلك يمينه، قال يا رسول الله أنه فاجر ليس يبالي ما حلف ليس يتورع من شيء، فقال ليس لك منه إلاّ ذلك.
قال الشيخ: فيه من الفقه أن المدعى عليه يبرأ باليمين من دعوى صاحبه، وفيه أن يمين الفاجر كيمين البر في الحكم.
وفيه دليل على سقوط التباعة فيما يجري بين الخصمين من التشاجر والتنازع إذا ادعى على الآخر الظلم والاستحلال ما لم يعلم خلافه.(4/178)
ومن باب الحبس في الدين وغيره
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى حدثنا عبد الله بن المبارك عن وَبْر بن أبي دُليلة عن محمد بن ميمون عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليُّ الواجد يُحِل عرضه وعقوبته. قال ابن المبارك يحل عرضه أي يغلظ له، وعقوبته يحبس له.
قال الشيخ: في الحديث دليل على أن المعسر لا حبس عليه لأنه إنما أباح حبسه إذا كان واجداً والمعدم غير واجد فلا حبس عليه.
وقد اختلف الناس في هذا فكان شريح يرى حبس الملي والمعدم، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي.
وقال مالك لا حبس على معسر إنما حظه الإنظار. ومذهب الشافعي ان من كان ظاهر حاله العسر فلا يحبس، ومن كان ظاهر حاله اليسار حبس إذا امتنع من أداء الحق. ومن أصحابه من يدعي فيه زيادة شرط وقد بينه.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة.
قال الشيخ: فيه دليل على أن الحبس على ضربين حبس عقوبة وحبس استظهار. فالعقوبة لا تكون إلاّ في واجب. وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به عما وراءه. وقد روي أنه حبس رجلاً في تهمة ساعة من نهار ثم خلى سبيله.
ومن باب القضاء
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة عن بشير(4/179)
بن كعب العدوي، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا تدارأتم في طريق فاجعلوه سبعة أذرع.
قال الشيخ: هذا في الطرق الشارعة والسلُك النافذة التي كثر فيها المارة أمر بتوسعتها لئلا تضيق عن الحمولة دون الأزقة الروابع التي لا تنفذ ودون الطرق التي يدخل منها القوم إلى بيوتهم إذا اقتسم الشركاء بينهم ربعا وأحرزوا حصصهم وتركوا بينهم طريقاً يدخلون منه إليها.
ويشبه أن يكون هذا على معنى الارفاق والاستصلاح دون الحصر والتحديد.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وابن أبي خلف قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه. فنكَسوا فقال مالي أراكم قد أعرضتم لألقينها بين أكتافكم.
قال الشيخ: عامة العلماء يذهبون في تأويله إلى أنه ليس بإيجاب يحمل عليه الناس من جهة الحكم، وإنما هو من باب المعروف وحسن الجوار، إلاّ أحمد بن حنبل فإنه رآه على الوجوب وقال على الحكام أن يقضوا به على الجار ويمضوه عليه إن امتنع منه.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود العتَكي حدثنا حماد حدثنا واصل مولى أبي عيينة، قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي يحدث عن سمرة بن جندب أنه كانت له عَضدُ من نخل في حائط رجل من الأنصار قال ومع الرجل أهله قال فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه فطلب إليه يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال فهبه له ولك كذا وكذا أمراً رغبه فيه فأبى(4/180)
فقال أنت مُضار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري اذهب فاقلع نخله.
قال الشيخ: رواه أبو داود عُضداً وإنما هو عضيد من نخيل يريد نخلا لم تنسق ولم تطل، قال الأصمعي إذا صار للنخلة جذعة يتناول منه المتناول فتلك النخلة العضيد وجمعه عضيدات.
وفيه من العلم أنه أمر بإزالة الضرر عنه وليس في هذا الخبر أنه قلع نخله.
ويشبه أن يكون أنه إنما قال ذلك ليردعه به عن الأضرار.
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا الليث عن الزهري عن عروة أن عبد الله بن الزبير حدثه أن رجلاً خاصم الزبير في شِراج الحرة التي يسقون بها فقال الأنصاري سرح الماء فأبى عليه الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، قال فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله إن كان ابن عمتك. فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر، فقال الزبير فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65] .
قال الشيخ: شراج الحرة مجاري الماء الذي يسيل منها واحده شَرْج، ومنه قول الشاعر يصف دلواً:
قد سقطت في قصة من شرج ... ثم استقلت مثل شدق العلج
وفيه من الفقه أن أصل المياه الأودية والسيول التي لا تملك منابعها ولم تستنبط بحفر وعمل الإباحه وأن الناس شرع سواء في الارتفاق بها، وأن من سبق إلى شيء منها فأحرزه كان أحق به من غيره.(4/181)
وفيه دليل على أن أهل الشرب الأعلى مقدمون على من هو أسفل لسبقه إليه وأنه ليس للأعلى أن يحبسه عن الأسفل إذا أخذ حاجته منه. فأما إذا كان أصل منبع الماء ملك لقوم وهم فيه شركاء أو كانت أيديهم عليه معاً فإن الأعلى والأسفل فيه سواء، فإن اصطلحوا على أن يكون نوباً بينهم فهو على ما تراضوا به وإن تشاحوا اقترعوا فمن خرجت له القرعة كان مبدوءاً به.
وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهب بعضهم إلى أن القول الأول إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه المشورة للزبير وعلى سبيل المسألة في أن يطيب نفساً لجاره الأنصاري دون أن يكون ذلك منه حكماً عليه، فلما خالفه الأنصاري حكم عليه بالواجب من حكم الدين.
وذهب بعضهم إلى أنه قد كفر حين ظن برسول الله صلى الله عليه وسلم المحاباة للزبير إذ كان ابن عمته وإن ذلك القول منه كان ارتداداً عن الدين، وإذا ارتد عن الإسلام زال ملكه وكان فيئاً فصرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير إذ كان له أن يضع الفيء حيث أراه الله تعالى.
وفيه مسند لمن رأى جواز نسخ الشيء قبل العمل به.
كتاب العلم
ومن باب فضل العلم
قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الله بن داود قال سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة يحدث عن داود بن جميل عن كثير بن قيس قال كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاءه رجل فقال با أبا الدرداء إني(4/182)
جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئت لحاجة، قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وأن العلماء ورثة الأنبياء؛ وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
قال الشيخ: قوله إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم يتأول على وجوه أحدها أن يكون وضعها الأجنحة بمعنى التواضع والخشوع تعظيماً لحقه وتوقيراً لعلمه كقوله تعالى {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} [الإسراء: 24] وقيل وضع الجناح معناه الكف عن الطيران للنزول عنده كقوله ما من قوم يذكرون الله إلاّ حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة. وقيل معناه بسط الجناح وفرشها لطالب العلم لتحمله عليها فتبلغه حيث يؤمه ويقصده من البقاع في طلبه ومعناه المعونه وتيسير الننبعي له في طلب العلم والله أعلم.
وقيل في قوله وتستغفر له الحيتان في جوف الماء إن الله قد قيض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالعلم على ألسنة العلماء أنواعاً من المنافع والمصالح والارفاق فهم الذين بينوا الحكم فيها فيما يحل ويحرم منها وارشدوا إلى المصلحة في بابها وأوصوا بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها فألهمها الله الاستغفار للعلماء مجازاة على حسن صنيعهم بها وشفقتهم عليها.(4/183)
ومن باب كتابة العلم
قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حَدَّثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال كنت اكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حق.
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرنا أبو أحمد حدثنا كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث فأمر إنساناً فيكتبه، فقال له زيد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نكتب شيئاً من حديثه فمحاه.
قال الشيخ: يشبه أن يكون النهي متقدماً وآخر الأمرين الإباحة، وقد قيل أنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارىء فأما أن يكون نفس الكتاب محظوراً وتقييد العلم بالخط منهياً عنه فلا. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالتبليغ وقال ليبلغ الشاهد الغائب فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه تعذر التبليغ ولم يؤمن ذهاب العلم وأن يسقط أكثر الحديث فلا يبلغ آخر القرون من الأمة، وللنسبان من طبع أكثر البشر والحفظ غير مأمون عليه الغلط، وقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل شكى إليه سوء الحفظ استعن بيمينك، وقال اكتبوها لأبى شاه خطبة خطبها فاستكتبها وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتباً في الصدقات والمعاقل والديات أو كتبت عنه فعمل بها(4/184)
الأمة وتناقلتها الرواة ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف فدل ذلك على جواز كتابة الحديث والعلم والله أعلم.
ومن باب كراهية منع العلم
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا علي بن الحكم عن عطاء، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة.
قال الشيخ: الممسك عن الكلام مُمَثَّل بمن ألجم نفسه كما يقال التقى ملجم وكقول الناس كلم فلان فلاناً فاحتج عليه بحجة ألجمته أي أسكتته. والمعنى أن الملجم لسانه عن قول الحق والاخبار عن العلم والاظهار له يعاقب في الآخرة بلجام من نار.
وخرج هذا على معنى مشاكلة العقوبة الذنب كقوله تعالى {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة: 275] .
قال وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه ويتعين عليه فرضه كمن رأى كافراً يريد الإسلام يقول علموني ما الإسلام وما الدين. وكمن يرى رجلاً حديث العهد بالإسلام لا يحسن الصلاة وقد حضر وقتها يقول علموني كيف أصلي. وكمن جاء مستفتياً في حلال أو حرام يقول افتوني وارشدوني فإنه يلزم في مثل هذه الأمور أن لا يمنعوا الجواب عما سألوا عنه من العلم، فمن فعل ذلك آثماً مستحقاً للوعيد والعقوبة وليس كذلك الأمر في نوافل العلم التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها.(4/185)
وسئل الفضيل بن عياض عن قوله صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم، فقال كل عمل كان عليلت فرضاً فطلب علمه عليك فرض،، وما لم يكن العمل به عليك فرضاً فليس طلب علمه عليك بواجب.
ومن باب توقي الفتيا
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغَلوطات.
قال الشيخ: وقد روي أنه نهى عن الأغلوطات، قال الأوزاعي هي شرار المسائل.
والأغلوطات واحدها أغلوطة وزنها افعولة من الغلط كالأحموقة من الحُمق والأسطورة من السطر، فأما الغلوطات فواحدها غَلوطة اسم مبني من الغلط كالحلوبة والركوبة من الحلب والركوب. والمعنى أنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليُستزلوا بها ويستسقط رأيهم فيها.
وفيه كراهية التعمق والتكلف كما لا حاجه للإنسان إليه من المسألة ووجوب التوقف عما لا علم للمسؤول به. وقد روينا، عَن أبي بن كعب أن رجلاً سأله عن مسألة فيها غموض فقال هل كان هذا بعد قال لا فقال امهلني إلى أن يكون. وسأل رجل مالك بن أنس عن رجل شرب في الصلاة ناسياً فقال ولم لم يأكل ثم.، قال: حَدَّثنا الزهري عن علي بن حسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه.
ومن باب نشر العلم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني عمر بن سليمان من(4/186)
ولد عمر بن الخطاب عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نضر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه.
قال الشيخ: قوله نضر الله معناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة يقال بتخفيف الضاد وتثقيلها وأجودهما التخفيف.
وفي قوله رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه دليل على كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي في الفقه لأنه إذا فعل ذلك فقد قطع طريق الاستنباط والاستدلال لمعاني الكلام من طريق التفهم وفي ضمنه وجوب التفقه والحث على استنباط معاني الحديث واستخراج المكنون من سره.
ومن باب الحديث عن بني إسرائيل
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثني علي بن مُسهر عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.
قال الشيخ: ليس معناه إباحة الكذب في أخبار بني إسرائيل ورفع الحرج عمن نقل عنهم الكذب، ولكن معناه الرخصة في الحديث عنهم على معنى البلاغ وإن لم يتحقق صحة ذلك بنقل الإسناد، وذلك لأنه أمر قد تعذر في اخبارهم لبعد المسافة وطول المدة ووقوع الفترة بين زماني النبوة.
وفيه دليل على أن الحديث لا يجوز عن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ بنقل الإسناد والتثبت فيه.
وقد روى الدراوردي هذا الحديث عن محمد بن عمرو بزيادة لفظ دل بها على صحة هذا المعنى ليس في رواته علي بن مسهر الذي رواها أبو داود، عَن أبي هريرة(4/187)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج حدثوا عني ولا تكذبوا علي.
ومعلوم أن الكذب على بني إسر ائيل لا يجوز بحال فإنما أراد بقول وحدثوا عني ولا تكذبوا عليّ أي تحرزوا من الكذب عليّ بأن لا تحدثوا عني إلاّ بما يصح عندكم من جهة الإسناد الذي به يقع التحرز عن الكذب عليّ.
ومن باب في القصص
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد حدثنا أبو مسهر حدثنا عباد بن عباد الخواص عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عمرو بن عبد الله السيباني عن عوف بن مالك الأشجعي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقص إلاّ أمير أو مأمور أو مختال.
قال الشيخ: بلغني عن ابن سريج أنه كان يقول هذا في الخطبة وكان الأمراء يتلون الخطب فيعظون النلس ويذكرونهم فيها فأما المأمور فهو من يقيمه الإمام خطيباً فيعظ الناس ويقص عليهم.
فأما المختال فهو الذي نصب لذلك نفسه من غير أن يؤمر له ويقص على الناس طلباً للرياسة فهو يرائي بذلك ويختال.
وقد قيل إن المتكلمين على الناس ثلاثة أصناف مذكر، وواعظ، وقاص. فالمذكر الذي يذكر الناس آلاء الله ونعماءه ويبعثهم به على الشكر له. والواعظ يخوفهم بالله وينذرهم عقوبته فيردعهم به عن المعاصي. والقاص هو الذي يروي لهم أخبار الماضين ويسرد عليهم القصص فلا يأمن أن يزيد فيها أو ينقص. والمذكر والواعظ مأمون عليهما هذا المعنى.(4/188)
كتاب اللباس
ومن باب ما يدعى إذا لبس جديداً
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن الجراح الآذني حدثنا أبو النَّضر حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه عن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بكسوة فيها خميصة صغيرة فقال من ترون أحق بهذه فسكت القوم فقال ائتوني بأم خالد فأتي بها فألبسها ثم قال أبْلي وأخلقي.
قال الشيخ: الخميصة قال الأصمعي هي ثياب تكون من خز أو صوف معلمة.
ومن باب لبس الشعر والصوف
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد الرملي وحسين بن علي قالا: حَدَّثنا ابن أبي زائدة عن أبيه عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه مِرط مرحَّل من شعر أسود.
قال الشيخ: المرط كساء يؤتزر به، قال أبو عبيدة المرط قد يكون من صوف ومن خز، والمرحل هو الذي فيه خطوط، ويقال إنما سمي مرحلاً لأن عليه تصاوير رحل وما يشبهه.
ومن باب في الحرير
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن ابن عون قال سمعت أبا صالح يحدث عن علي رضي الله عنه قال أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سُيَراء فأرسل إلي بها فلبستها فأتيته فرأيت الغضب في وجهه وقال إني لم أرسل بها إليك لتلبسها وأمرني فاطرتها بين نسائي.(4/189)
قال الشيخ: قوله حلة سيراء هي المضلعة بالحرير، وقوله فاطرتها بين نسائي يريد قسمتها بينهن بأن شققتها وجعلت لكل واحدة منهن سقة، يقال طار لفلان في القسمة سهم كذا أي طار له ووقع في حصته قال الشاعر:
فما طار لي في القسم إلاّ ثمينها
ومن باب في الكراهة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القَسيِّ وعن لبس المعصفر وعن تختم الذهب وعن القراءة في الركوع.
قال الشيخ: القسي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حره، ويقال إنها منسوبة إلى بلاد يقال لها القسي مفتوحة القاف مشددة السين، ويقال إنها القزية أبدلوا الزاي سيناً وإنما حرمت هذه الأشياء على الرجال دون النساء.
وأما القراءة في الركوع فإنما نهي من أجل أن الركوع محل التسبيح والذكر بالتعظيم، وإنما محل القراءة القيام فكره أن يجمع بينهما في محل واحد ليكون كل واحد منهما في موضعه الخاص به والله أعلم.
وقد كره للنساء أن يتختمن بالفضة لأن ذلك من زي الرجال فإذا لم يجدن ذهباً فليصفرنه بزعفران ونحوه.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ملك الروم أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتقة من سندس فلبسها فكأني انظر إلى يديه تذبذبان ثم بعث بها إلى جعفر رضي الله عنه.
قال الشيخ: قال الأصمعي المساتق فراء طوال الأكمام واحدتها مستقة، قال وأصلها(4/190)
بالفارسية مشته فعربت.
قال الشيخ: ويشبه أن تكون هذه المستقة مكففة بالسندس لأن نفس الفروة لا تكون سندساً. وقوله تذبذبان معناه تحركان وتضطربان يريد الكمين.
قال أبو داود: حدثنا مخلد بن خالد حدثنا روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال لا اركب الأُرجُوان ولا ألبس المعصفر ولا ألبس القميص المكفف بالحرير.
قال الشيخ: الأرجوان الأحمر وأراه أراد به المياثر الححر وقد تتخذ من ديباج وحرير، وقد ورد فيه النهي لما في ذلك من السرف وليست من لباس الرجال.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم قالا: حَدَّثنا شعية، عَن أبي إسحاق عن هُبيرة عن علي كرم الله وجهه قال نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب وعن لبس القَسِّي والمبثرة.
قال الشيخ: إنما سميت هذه المراكب مياثر لوثارتها ولينها وكانت من مراكب العجم، والمكفف من الحرير ما اتخذ جيبه من حرير وكان لذيله وأكمامه كفاف منه.
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب أخبرنا المفضل بن فضالة عن عياش بن عباس، عَن أبي الحصين الهيثم بن شفي، عَن أبي ريحانة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشر عن الوشْر والوشم وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار وعن مكامعة المرأة المرأة وعن النهبى وركوب النمور ولبوس الخاتم إلاّ لذي سلطان.
قال الشيخ: الوشر معالجة الأسنان بما يحددها تفعله المرأة المسنة تشبه بالشواب(4/191)
الحديثات السن، والوشم أن تغرز اليد بالإبرة ثم يحشى كحلاً أو غيره من خضرة أو سواد.
وأما المكامعة فهي المضاجعة وروى أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال المكامعة مضاجعة العراة المجرمين، والمكاعمة تقبيل أفواه المحظورين، وأخذ الأول من الكميع، والكمع وهو الضجيج، والأخرى من الكعم وهو شد فم البعير لئلا يعض ولئلا ينبح وأنشدنا:
هجمنا عليه وهو يكعم كلبه ... دع الكلب ينبح إنما الكلب نابح
ونهيه عن ركوب النمور قد يكون لما فيه من الزينة والخيلاء ويكون لأنه غير مدبوغ لأنه إنما يراد لشعره والشعر لا يقبل الدباغ.
ويشبه أن يكون إنما كره الخاتم لغير ذي سلطان لأنه يكون حينئذ زينة محضة لا لحاجة ولا لأرب غير الزينة والله أعلم.
ومن باب الحرير للنساء
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي أفلح الهمداني، عَن أبي رزين أنه سمع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه وأخذ ذهباً فجعله في شماله ثم قال إن هذين حرام على ذكور أمتي.
قال الشيخ: قوله إن هذين إشارة إلى جنسهما لا إلى عينهما فقط.
ومن باب في الحمرة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن الغاز عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية(4/192)
فالتفت إليّ وعليَّ رَيطة مضرجة بالعصفر قال ما هذه الريطة فعرفت ما كره فأتيت أهلي وهم يسجرون تنوراً فقذفتها فيه ثم أتيت من الغد فقال يا عبد الله ما فعلت الريطة فأخبرته، قال أفلا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس بها للنساء.
قال الشيخ: المضرج الذي ليس صبغه بالمشبع العام وإنما هو لطخ علق به، ويقال تضرج الثوب إذا تلطخ بدم ونحوه، والريطة ملاءة ليست بلفقتين إنما هي نسج واحد.
ومن باب الرخصة في ذلك
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة، عَن أبي إسحاق عن البراء قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يبلغ شحمة أذنيه ورأيته في حلة حمراء لم أر شيئاً أحسن منه.
قال الشيخ: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال عن لبس المعصفر وكره لهم الحمرة في اللباس فكان ذلك منصرفاً إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صبغ غزله ثم نسج فغير داخل في النهي.
والحلل إنما هي برود اليمن حمر وصفر وخضر وما بين ذلك من الألوان وهي لا تصبغ بعد النسج ولكن يصبغ الغزل ثم يتخذ منه الحلل وهي العصب وسمي عصباً لأن غزله يعصب ثم يصبغ.
ومن باب لبسة الصماء
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد، عَن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصماء والاحتباء في ثوب واحد.(4/193)
قال الشيخ: قال الأصمعي اشتمال الصماء عند العرب أن يشتمل الرجل بثوبه فيجلل به جسده كله ولا يرفع منه جانباً فيخرج منه يده وربما اضطجع على هذه الحالة.
قال أبو عبيد كأنه يذهب إلى أنه لا يدري لعله يصيبه شيء يريد الاحتراس منه وأن يقيه بيديه ولا يقدر على ذلك بإدخاله إياهما في ثيابه فهذا كلام العرب.
وأما تفسير الفقهاء فإنهم يقولون هو أن يشتمل الرجل بثوب واحد ليس عليه غيره ويرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه فيبدو منه فرجه، قال والفقهاء اعلم بالتأويل في هذا وذلك أصح في الكلام والله أعلم.
وأما نهيه عن الاحتباء في ثوب واحد فإنه إنما يكره ذلك إذا لم يكن بين فرجه وبين السماء شيء يواريه، وقد روي هذا مفسراً في الحديث.
ومن باب إسبال الازار
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى، عَن أبي غفار، عَن أبي تميمة الهُجيمي، عَن أبي جُري جابر بن سُليم، قال رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئاً إلاّ صدروا عنه، قلت من هذا قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قتلت عليك السلام يا رسول الله مرتين، قال لا تقل عليك السلام، عليك السلام تحية الميت، قل السلام عليك، وذكر الحديث بطوله.
قال الشيخ: قوله عليك السلام تحية الميت يوهم أن السنة في تحية الميت أن يقال له عليك السلام كما يفعله كثير من العامة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل المقبرة، فقال السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، فقدم الدعاء على اسم المدعو له كهو في تحية الأحياء، وإنما قال ذلك القول منه إشارة إلى ما جرت به العادة(4/194)
منهم في تحية الأموات إذ كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء وهو مذكور في أشعارهم كقول الشاعر:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
وكقول الشماخ:
عليك سلام من أديم وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
فالسنة لا تختلف في تحية الأحياء والأموات بدليل حديث أبي هريرة الذي ذكرناه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن مدرك، عَن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن خَرَشة بن الحر، عَن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قلت من هم يا رسول الله قد خابوا وخسروا فأعادها ثلاثاً، قلت من هم خابوا وخسروا قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أو الفاجر.
ورواه أبو داود من طريق الأعمش عن سليمان بن مُسهر عن خرشة بن الحر، عَن أبي ذر قال المنان الذي لا يعطي شيئاً إلاّ منَّه.
قال الشيخ: إنما نهى عن الإسبال لما فيه من النخوة والكبر.
والمنان يتأول على وجهين: أحدهما من المنة وهي إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن كانت في المعروف كدرت الصنيعة وأفسدتها.
والوجه الآخر أن يراد بالمن النقص يريد بالنقص من الحق والخيانة في الوزن والكيل ونحوهما، ومن هذا قول الله سبحانه {وإن لك لأجراً غير ممنون} [القلم: 3] أي غير منقوص. قالوا ومن ذلك سمي الموت منوناً لأنه ينقص الأعداد ويقطع الأعمار.(4/195)
قلت وقد روينا أن أبا بكر رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يسقط من الازار فرخص له في ذلك وقال لست منهم، وكان السبب في ذلك ما علمه من نقاء سره وأنه لا يقصد به الخيلاء والكبر، وكان رجلاً نحيفا قليل اللحم وكان لا يستمسك إزاره إذا شده على حقوه فإذا سقط إزاره جره فرخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وعذره.
ومن باب في الكبر
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن سلمان الأغر، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله سبحانه الكبرياء ردائي والعظمة ازاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار.
قال الشيخ: معنى هذا الكلام أن الكبرياء والعظمة صفتان لله سبحانه اختص بهما لا يشركه أحد فيهما ولا ينبغي لمخلوق أن يتعاطاهما، لأن صفة المخلوق التواضع والتذلل، وضرب الرداء والإزار مثلاً في ذلك يقول والله أعلم كما لا يشرك الإنسان في ردائه وإزاره أحد، فكذلك لا يشركني في الكبرياء والعظمة مخلوق والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر، يَعني ابن عياش عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردلة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان.
قال الشيخ: هذا يتأول على وجهين أحدهما أن يكون أراد به كبر الكفر والشرك، ألا ترى أنه قد قابله في نقيضه بالإيمان، فقال لا يدخل النار من كان(4/196)
في قلبه مثقال خردلة من إيمان.
والوجه آخر أن الله تعالى إذا أراد أن يدخله الجنة نزع ما في قلبه من الكبر حتى يدخلها بلا كبر ولا غل في قلبه كقوله سبحانه {ونزعنا ما في صدورهم من غل} .
وقوله لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان، معناه أن لا يدخلها دخول تخليد وتأبيد والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا هشام حدثنا محمد، عَن أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً جميلاً فقال يا رسول الله إني رجل حبب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد. إما قال بشراك نعلي وإما قال بشسعي أفمن الكبر ذلك، قال لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس.
قال الشيخ: قوله ولكن الكبر من بطر الحق، معناه لكن الكبر كبر من بطر الحق فأضمر كقوله تعالى ولكن البر من آمن بالله أي لكن البّر بّر من آمن بالله.
وقوله غمط معناه ازرى بالناس واستخفهم، يقال غمط وغمص بمعنى واحد، وفيه لغة أخرى غَمَط وعَمَص مفتوحة الميم.
ومن باب قدر موضع الإزار
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج ولا جناح فيما بينه وبين الكعبين ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، من جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه.
قال الشيخ: قوله فهو في النار يتأول على وجهين أحدهما أن ما دون الكعبين(4/197)
من قدم صاحبه في النار عقوبة له على فعله.
والوجه الآخر أن يكون معناه أن صنيعه ذلك وفعله الذي فعله في النار على معنى أنه معدود ومحسوب من أفعال أهل النار والله أعلم.
ومن باب يدنين عليهن من جلابيبهن
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عَوانة عن إبراهيم بن مهاجر عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت نساء الأنصار فأثنت عليهن وقالت لهن معروفاً، وقالت لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجور أو حجوز شك أبو كامل فشققنهن فاتخذنه خُمُراً.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح أنبأنا ابن وهب أخبرني قرة بن عبد الرحمن المعافري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت يرحم الله نساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} [النور: 31] شققن أكنَف مروطهن فاختمرن بها.
قال الشيخ: الحجور لا معنى له ههنا وإنما هو بالزاي معجمة هكذا حدثني عبد الله بن أحمد المسكي،، قال: حَدَّثنا علي بن عبد العزيز، عَن أبي عبيد عن عبد الرحمن بن مهدي، عَن أبي عَوانة وذكر الحديث. فقال عمدن إلى حَجَز أو حجوز مناطقهن فشققنهن، والحجز جمع الحجزة وأصل الحجزة موضع ملاث الإزار ثم قيل للإزار الحجزة، وأما الحجوز فهو جمع الحجز يقال احتجز الرجل بالإزار إذا شده على وسطه.
وقولها الأكنف تريد الأستر والأصفق منها ومن هذا قيل للوعاء الذي يحرز فيه الشيء كِنْف والبناء الساتر لما وراءه كنيف، والمروط واحدها مرط(4/198)
وهو كساء يؤتزر به.
ومن باب في قوله تعالى
{غير أولي الإربة} [النور: 31]
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث وكانوا يعدونه من غير أولي الاربة فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أرى هذا يعلم ما ها هنا لا يدخلنَّ عليكن هذا فحجبوه.
قال الشيخ: قال أبو عبيده قوله تقبل بأربع، يَعني أربع عكن في بطنها فهي تقبل بهن، وقوله تدبر بثمان، يَعني أطراف هذه العكن الأربع وذلك أنها محيطة بالجنين حتى لحقت بالمتنين من مؤخرها من هذا الجانب أربعة أطراف، ومن الجانب الآخر مثلها فهذه ثمان.
ومن باب في الاختمار
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الرحمن قال وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن حبيب عن وهب مولى أبي أحمد عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تختمر فقال ليّة لا ليَّتين.
قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما كره لها أن تلوي الخمار على رأسها ليتين لئلا يكون إذا تعصبت بخمارها صارت كالمتعمم من الرجال يلوي أطراف العمامة على رأسه، وهذا على معنى نهيه النساء عن لباس الرجال والرجال عن لباس النساء وقال لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.(4/199)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني قالا أنبأنا ابن وهب أخبرنا ابن لهيعة عن موسى بن جبير أن عبيد الله بن عباس حدثه عن خالد بن يزيد بن معاوية عن دحية بن خليفة الكلبي أنه قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقَباطي فأعطاني قُبطية منها، فقال اصدعها صِدعين فاقطع أحدهما قميصاً وأعط الآخر امرأتك تختمر به.
قال الشيخ: القبطية مضمومة القاف الشقة أو الثوب من القباطي وهي ثياب تعمل بمصر؛ فأما القبطية بكسر القاف فهي منسوبة إلى قبط وهم جيل من الناس.
وقوله اصدعها يريد شقها نصفين فكل شق منها صدع بكسر الصاد، والصدع مفتوحة الصاد مصدر صدعت الشيء إذا شققته واصدعه صدعاً.
ومن باب إهاب الميتة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وَعْلة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا دبغ الاهاب فقد طهر.
قال الشيخ: الإهاب الجلد ويجمع على الاهب وزعم قوم أن جلد ما لا يؤكل لا يسمى إهاباً، وذهبوا إلى أن الدباغ لا يعمل من الميتة إلاّ في الجنس المأكول اللحم، وهو قول الأوزاعي وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأبي ثور.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي إلى أن جلد الميتة مما يؤكل لحمه ومما لا يؤكل يطهر بالدباغ، إلاّ أن أبا حنيفة وأصحابه استثنوا منها جلد الخنزير واستثنى الشافعي مع الخنزير جلد الكلب، وكان مالك يكره الصلاة في جلود السباع وإن دبغت ويرىالانتفاع بها ويمتنع من بيعها،
وعند الشافعي بيعها(4/200)
والانتفاع بها على جميع الوجوه جائز لأنها طاهرة، ومما يدل على أن اسم الاهاب يتناول جلد لا يؤكل لحمه كتناول جلد المأكول اللحم قول عائشة رضى الله عنها حين وصفت أباها رضي الله عنهما وحقن الدماء في أهبها تريد به الناس وقال ذو الرمة يصف كلبتين:
لا يذخران من الإيغال باقية ... حتى تكاد يفرّى عنهما الأهب
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل قالا: حَدَّثنا همام عن قتادة عن الحسن عن جَوْن بن قتادة عن سلمة بن المِّحبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في غزوة تبوك على بيت فإذا قربة معلقة فسأل الماء فقالوا يا رسول الله إنها ميتة قال دباغها طهورها.
قال الشيخ: وهذا يدل على بطلان قول من زعم أن إهاب الميتة إذا مسه الماء بعد الدباغ نجس وتبين له أنه طاهر كطهاره المذكى وأنه إذا بسط فصلى عليه أو خرز منه خف فصلى فيه جاز.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثني عمرو، يَعني ابن الحارث عن كثير بن فرقد عن عبد الله بن مالك بن حذافة عن أمه العالية بنت سبيع عن ميمونة قالت مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أخذتم إهابها قالوا إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطهرها الماء والقرظ.
قال الشيخ: القرظ شجر تدبغ به الأهب وهو لما فيه من القبض والعفوصة ينشف البلة ويذهب الرخاوة ويحصف الجلد ويصلحه ويطيبه فكل شيء عمل(4/201)
عمل القرظ كان حكمه في التطهير حكم القرظ.
وذكره الماء مع القرظ قد يحتمل أن يكون أراد بذلك أن القرظ يخلط به حتى يستعمل في الجلد، ويحتمل أن يكون إنما أراد أن الجلد إذا خرج من الدباغ غسل بالماء حتى يزول عنه ما خالطه من وضر الدبغ ودرنه.
وفيه حجة لمن ذهب إلى أن غير الماء لا يزيل النجاسة ولا يطهرها في حال من الأحوال.
قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد أن إسماعيل بن إبراهيم ويحيى بن سعيد حدثاهم المعنى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عَن أبي المليح بن أسامة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع.
قال الشيخ: قد يحتج بنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك من يرى أن الدباغ لا يعمل إلاّ في جلد ما يؤكل لحمه، وهو قول الأوزاعي وسائر من حكينا قولهم بَدِيا هكذا وتأويل الحديث عند غيرهم أن المنهي عنه أن يستعمل قبل الدباغ.
وتأوله أصحاب الشافعي ومن ذهب مذهبه في أن الدباغ يطهر جلود السباع ولا يطهر شعورها على أنه إنما نهى عن استعمالها من أجل شعرها لأن جلود النمور والحمر ونحوهما إنما تستعمل مع بقاء الشعر عليها، وشعر الميتة نجس عندهم، وقد يكون النهي عنها أيضاً من أجل أنها مراكب أهل الشرف والخيلاء. وقد جاء النهي عن ركوب جلود النمر نصاً، وقد ذكره أبو داود في هذا الباب فأما إذا دبغ الجلد ونتف شعره فإنه طاهر على مذهبه ولا ينكر تخصيص العموم بدليل يوجبه.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن(4/202)
بن أبي ليلى عن عبد الله بن عُكيم قال قدم علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جُهينة وأنا غلام شاب أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عَصب.
قال الشيخ: قد ذهب أحمد بن حنبل إلى ظاهر هذا الحديث وزعم أن الأخبار في الدباغ منسوخة به لأن في بعض الروايات أن عبد الله بن عكيم قال أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فكان التحريم آخر الأمرين.
قال الشيخ: ومذهب عامة العلماء على جواز الدباغ والحكم بطهارة الإهاب إذا دبغ ووهنوا هذا الحديث لأن عبد الله بن عكيم لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو حكاية عن كتاب أتاهم فقد يحتمل لو ثبت الحديث أن يكون النهي إنما جاء عن الانتفاع به قبل الدباغ ولا يجوز أن يترك به الأخبار الصحيحة التي قد جاءت في الدباغ وأن يحمل على النسخ والله أعلم.
ومن باب في النعال
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا إبراهيم بن طَهْمان، عَن أبي الزبير عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل قائماً.
قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما نهى عن لبس النعل قائماً لأن لبسها قاعداً أسهل عليه وأمكن له وربما كان ذلك سبباً لانقلابه إذا لبسها قائماً فأمر بالقعود له والاستعانة باليد ليأمن غائلته والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن الأعرج، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمشي أحدكم في النعل الواحدة(4/203)
لينتعلهما جميعاً أو ليحفهما جميعاً.
قال الشيخ: وهذا قد يجمع أموراً منها أنه قد يشق عليه المشي على هذه الحال لأن وضع أحد القدمين منه على الحفاء إنما يكون مع التوقي والتهيب لأذى يصيبه أو حجر يصدمه ويكون وضعه القدم على خلاف ذلك من الاعتماد به والوضع له من غير محاشاة أو تقية فيختلف من أجل ذلك مشيه ويحتاج معه إلى أن ينتقل عن سجية المشي وعادته المعتادة فيه فلا يأمن عند ذلك العثار والعنت وقد يتصور فاعله عند الناس بصورة من إحدى رجليه أقصر من الأخرى ولا خفاء بقبح منظر هذا الفعل. وكل أمر يشتهره الناس ويرفعون إليه أبصارهم فهو مكروه مرغوب عنه.
قلت: وقد يدخل في هذا المعتى كل لباس ينتفع به كالخفين وادخال اليد في الكمين والتردي بالرداء على المنكبين. فلو أرسله على إحدى المنكبين وعرَّى منه الجانب الآخر كان مكروهاَ على معنى الحديث ولو أخرج إحدى يديه من كمه وترك الأخرى داخل الكم الآخر كان كذلك في الكراهة والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى وإذا نزع فليبدأ بالشمال وليكن اليمنى أولهما تُنعل وآخرهما تُنزع.
قال الشيخ: إذا كان معلوماً إن لبس الحذاء صيانة للرجل ووقاية لها فقد أعلم أن التبدية به لليمنى زيادة في كرامتها، وكذلك التبقية لها بعد خلع اليسرى وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ في لبوسه وطهوره بميامنه ويقدمها على مياسره.(4/204)
ومن باب في الفُرُش
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد الهمداني حدثنا ابن وهب، عَن أبي هانىء، عَن أبي عبد الرحمن الحبلي عن جابر بن عبد الله قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرش فقال فراش للرجل وفراش للمرأة وفراش للضيف والرابع للشيطان.
قال الشيخ: فيه دليل على أن المستحب في أدب السنة أن يبيت الرجل وحده على فراش وزوجته على فراش آخر ولو كان المستحب لهما أن يبيتا معاً على فراش واحد لكان لا يرخص له في اتخاذه فراشين لنفسه ولزوجته وهو إنما يحسن له مذهب الاقتصاد والاقتصار على أقل ما تدعو إليه الحاجة والله أعلم.
ومن باب في اتخاذ الستور
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير حدثنا فضيل بن غزوان عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة عليها السلام فوجد على بابها سِتراً فلم يدخل. قال وقل ما كان يدخل إلاّ بدأ بها قال وجاء علي كرم الله وجهه فرآها مهتمة فقال مالك، قالت جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلي فلم يدخل فأتاه علي فقال يا رسول الله إن فاطمة عليها السلام اشتد عليها أنك جئتها فلم تدخل عليها، فقال وما أنا والدنيا والرقْم، فذهب إلى فاطمة فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما تأمرني به قال قل لها فلترسل به إلى بني فلان.
قال الشيخ: أصل الرقم الكتابة قال الشاعر:
سأرقم في الماء القَراح إليكم ... على بعد أن كان للماء راقم
وقال فضيل بن غزوان كان ستراً موشى.(4/205)
ومن باب التصليب في الثوب
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى حدثنا عمران بن حِطان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصليب إلاّ قضبه.
قال الشيخ: قوله قضبه معناه قطعه والقضب القطع، والتصليب ما كان على صورة الصليب.
ومن باب في الصورة
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن مدرك، عَن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن عبد الله بن نُجَي عن أبيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جُنُب.
قال الشيخ: قد فسرنا هذا فيما تقدم من الكتاب، وذكرنا عن بعض العلماء أنه قال إن الجنب في هذا الحديث هو الذي يترك الاغتسال من الجنابة ويتخذه عادة وأن الكلب إنما يكره إذا كان اتخذه صاحبه للهو ولعب لا لحاجة وضرورة كمن اتخذه لحراسة زرع أو غنم أو لقنيص وصيد. فأما الصورة فهو كل ما تصور من الحيوان سواء في ذلك الصورة المنصوبة القائمة التي لها أشخاص وما لا شخص له من المنقوشة في الجدر والمصورة فيها وفي الفرش والأنماط، وقد رخص بعض العلماء فيما كان منها في الأنماط التي توطأ وتداس بالأرجل.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن سهيل بن أبي صالح عن سعيد بن يسار الأنصاري عن زيد بن خالد الجهني قال: قالت عائشة رضي الله عنها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه وكنت أتحين قفوله فأخذت نمطاً(4/206)
كان لنا فسترته على العَرَض. فلما جاء استقبلته فقلت السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الحمد لله الذي أعزك وأكرمك. فنظر إلى البيت فرأى النمط فلم يرد عليّ شيئاً ورأيت الكراهية في وجهه فأتى النمط حتى هتكه ثم قال إن الله لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة واللبن. قالت فقطعته وسادتين وحشوتهما ليفاً فلم ينكر ذلك عليّ.
قال الشيخ: العرض هو الخشبة المعترضة يسقف بها البيت ثم يوضع عليها أطراف الخشب الصغار يقال عرضت البيت تعريضاً.
قال أبو داود: حدثنا أبو صالح أنبأنا أبو إسحاق عن يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل فقال لي أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلاّ أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت قِرام سِترٍ فيه تماثيل وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي على الباب أن يقطع فتصير كهيئة الشجرة ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن ومر بالكلبب فليخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا الكلب لحسن أو حسين عليهما السلام كانت تحت نَضَد لهم فأمر به فأخرج.
قال الشيخ: النضد متاع البيت ينضد بعضبه على بعض أي يرفع بعضه فوق الآخر ومنه قول النابغة:
فرفعته إلى السجفين فالنضد
والمنبوذتان وسادظن لطيفتان وسميتا منبوذتين لخفتهما ينبذان ويطرحان للقعود عليهما. وفيه دليل على أن الصورة إذا غيرت بأن يقطع رأسها أو تحل أوصالها حتى تغير هيئتها عما كانت لم يكن بها بعد ذلك بأس.(4/207)
كتاب الترجل
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد حدثنا الجُريري عن عبد الله بن بريدة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كثير من الارفاه.
قال الشيخ: معنى الارفاه الاستكثار من الزينة وأن لا يزال يهيء نفسه، وأصله من الرفه وهو أن ترد الإبل الماء كل يوم فإذا وردت يوماً ولم ترد يوماً فذلك الغب وقد أغبت فهي مغِبة فإذا جاوز ذلك صار ظمأ وأول الرِّبْع ولا يقال في الإظماء ثلث، ومنه أخذت الرفاهية وهي الخفض والدَّعة. كره رسول الله صلى الله عليه وسلم الإفراط في التنعم والتدلك والدهن والترجيل في نحو ذلك من أمرالناس فأمر بالقصد في ذلك، وليس معناه ترك الطهاره والتنظيف فإن الطهارة والنظافة من الدين والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبى أمامة عن عبد الله بن كعب بن مالك، عَن أبي أمامة قال: ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً عنده الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسمعون ألا تسمعون إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان.
قال أبو داود، يَعني التقحل.
قال الشيخ: البذاذة سوء الهيئة والتجوز في الثياب ونحوهما، يقال رجل باذ الهيئة إذا كان رث الهيئة واللباس.(4/208)
ومن باب صلة الشعر
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حَدَّثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، قال محمد والواصلات، وقال عثمان والمتنمصات ثم اتفقا والمتفلِّجات للحسن المغيِّرات خلق الله.
قال الشيخ: الواشمات من الوشم في اليد وكانت المرأة تغرز معصم يدها بإبرة أومسلة حتى تدميه ثم تحشوه بالكحل فيخضر يفعل ذلك بدارات ونقوش، يقال منه وشمت تشم فهي واشمة، والمستوشمة هي التي تسأل وتطلب أن يفعل ذلك بها، والواصلات هن اللواتي يصلن شعورهن بشعور غيرهن من النساء يردن بذلك طول الشعر يوهمن أن ذلك من أصل شعورهن فقد تكون المرأة زعراء قليلة الشعر أو يكون شعرها أصهب فتصل شعرها بشعر أسود فيكون ذلك زوراً وكذباً فنهى عنه، فأما القرامل فقد رخص فيها أهل العلم وذلك أن الغرور لا يقع بها لأن من نظر إليها لم يشك في أن ذلك مستعار، والمتنمصات من النمص وهو نتف الشعر من الوجه، ومنه قيل للمنقاش المنماص. والنامصة هي التي تنتف الشعر بالمنماص، والمتنمصة هي التي يفعل ذلك بها؛ والمتفلجات هن اللواتي يعالجن أسنانهن حتى يكون لها تحدد واشر يقال ثغر أفلج.
ومن باب المرأة تتطيب للخروج
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم، عَن أبي هريرة قال لقِيته امرأة وجد منها ريح الطيب ولذيلها إعصار(4/209)
فقال يا أمة الجبار جئت من المسجد، قالت نعم، قال وله تطيبت قالت نعم، قال إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقبل لامرأة صلاة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة.
قال الشيخ: الاعصار غبار ترفعه الريح.
ومن باب الخلوق الرجل
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا عطاء الخراساني عن يحيى بن يعمر عن عمار بن ياسر قال: قدمت على أهلي ليلاً وقد تشققت يداي فخلَّقوني بزعفران فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يرد عليَّ السلام ولم يرحب بي وقال اذهب فاغسل هذا عنك فذهبت فغسلته ثم جئت فسلمت عليه فرد عليَّ ورحب بي وقال إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير ولا المتضمخ بالزعفران ولا الجنب. قال ورخص للجنب إذا نام أو أكل أو شرب أن يتوضأ.
قال الشيخ: الردغ لطخ من بقية لون الزعفران والمتضمخ المتلطخ به.
وفيه دلالة على أن الجنب الذي لا تحضره الملائكة هو الذي لم يتوضأ بعد الجنابة، قيل هو الذي لا يغتسل من الجنابة ويتخذه عادة له فهو في أكثر أوقاته جنب.
ومن باب في تطويل الجمة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام وسفيان بن عقبة السُّوائي هو أخو قبيصة بن عقبة وحميد بن خوار عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب قلت أراه عن أبيه عن وائل بن حجر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ولي شعر(4/210)
طويل فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذُباب ذُباب، قال فرجعت فجززته ثم أتيته من الغد فقال إني لم أعنك وهذا أحسن.
قال الشيخ: أخبرني أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى قال الذباب الشؤم.
ومن باب في الذؤابة
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع وقال: وهو أن يحلق الصبي ويترك له ذؤابة.
قال الشيخ: هكذا جاء تفسيره في الحديث وأصل القزع قطع السحاب المتفرقة شبه تفاريق الشعر في رأسه إذا حلق بعضه وأبقى بعضه بطخارير السحاب.
ومن باب الأخذ من الشارب
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد، عَن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم الفطرة خمس أو خمس من الفطرة الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقص الشارب.
قال السيخ: معنى الفطرة ههنا السنة والاستحداد حلق العانة بالحديد.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمربإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى.
قال الشيخ: إحفاء الشارب أن يوخذ منه حتى يحفى ويرق، وقد يكون أيضاً معناه الاستقصاء في أخذه من قولك أحفيت في المسألة إذا استقصيت فيها واعفاء اللحية توفيرها من قولك عفا النبت إذا طال ويقال عفا الشيء بمعنى كثر قال الله تعالى {حتى عفوا} [الأعراف: 95] أي كثروا والله أعلم.(4/211)
ومن باب الخضاب
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني قالا: حَدَّثنا ابن وهب أخبرنى ابن جريج، عَن أبي الزبير عن جابر قال: أُتي بأبي قُحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد.
قال الشيخ: الثغامة نبات له ثمر أبيض.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن سعيد الجريري عن عبد الله بن بريدة، عَن أبي الأسود الدؤلى، عَن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحسن ما غير به هذا الشيب الحناء والكتم.
قال الشيخ: يقال إن الكتم الوسمة ويشبه أن يكون إنما أراد به استعمال كل واحد منهما منفرداً عن غيره فإن الحناء إذا غل بالكتم جاء أسود، ويقال إن الكتم نوع آخر غير الوسمة.
ومن باب الانتفاع بمداهن العاج
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جُحادة عن حميد الشامي عن سليمان المَنْبِهي عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: اشتر لفاطمة عليها السلام قلادة من عصْب وسوارين من عاج.
قال الشيخ: قال الأصمعي العاج الذبل وهو يقال عظم ظهر السلحفاة البحرية فأما العاج الذي تعرفه العامة فهو عظم أنياب الفيلة وهو ميتة لا يجوز استعماله والعصْب في هذا الحديث إن لم يكن هذه الثياب اليمانية فلست أدري ما هو وما أرى أن القلادة تكون منه.(4/212)
ومن باب خاتم الذهب
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا المعتمر قال: سمعت الركين بن الربيع يحدث عن القاسم بن حسان عن عبد الرحمن بن حرملة أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره عشرة خلال. الصفرة، يَعني الخلوق وتغيير الشيب وجر الإزار والتختم بالذهب والتبرج بالزينة لغير محلها والضرب بالكعاب والرُّقى إلاّ بالمعوذات وعقد التمائم وعزل الماء لغير محله أو غير محله وفساد الصبي غير محرِّمه.
قال الشيخ: أما كراهية الخلوق فإنما هي للرجال خاصة دون النساء وتغيير الشيب إنما يكره بالسواد دون الحمرة والصفرة، والتختم بالذهب محرم على الرجال والتبرج للزينة لغير محلها وهو أن تتزين المرأة لغير زوجها، وأصل التبرج أن تظهر المرأة محاسنها للرجال، يقال تبرجت المرأة، ومنه قوله تبارك وتعالى {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33] .
وأما عزل الماء لغير محله فقد سمعت في هذا الحديث عزل الماء عن محله وهو أن يعزل الرجل ماءه عن فرج المرأة وهو محل الماء، وإنما كره ذلك لأن فيه قطع النسل والمكروه منه ما كان من ذلك عن الحرائر بغير إذنهن، فأما المماليك فلا بأس بالعزل عنهن ولا إذن لهن مع أربابهن. وفساد الصبي هو أن يطأ المرأة المرضع فإذا حملت فسد لبنها وكان في ذلك فساد الصبي.
وقوله غير محرمه معناه أنه قد كره ذلك ولم يبلغ في الكراهة حد التحريم.
ومن باب خاتم الحديد
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رِزمة المعنى،(4/213)
أن زيد بن الحباب أخبرهم عن عبد الله بن مسلم أبي طيبة السَّلمي المروزي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شَبَه فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال ما لي أرى عليك حلية أهل النار فطرحه، فقال يا رسول الله من أي شيء اتخذه قال اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً.
قال الشيخ: إنما قال في خاتم الشبه أجد منك ريح الأصنام لأن الأصنام كانت تتخذ من الشبه، وأما الحديد فقد قيل إنما كره ذلك من سهوكته وريحه ويقال معنى حلية أهل النار أنه زي بعض الكفار وهم أهل النار والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عاصم بن كليب، عَن أبي بردة عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي قل اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدي هداية الطريق، واذكر بالسداد تسديدك السهم، قال ونهاني أن أضع الخاتم في هذه أو هذه السبابة والوسطى شك عاصم ونهاني عن القَسِية والمِيثرة.
قال الشيخ: قوله واذكر بالهدى هداية الطريق، معناه أن سالك الطريق والفلاة إنما يؤم سمت الطريق ولا يكاد يفارق الجادة ولا يعدل عنها يمنة ويسرة خوفاً من الضلال وبذلك يصيب الهداية وينال السلامة يقول إذا سألت الله الهدى فاخطر بقلبك هداية الطريق وسل الله الهدى والاستقامة كما تتحراه في هداية الطريق إذا سلكتها.
وقوله واذكر بالسداد تسديدك السهم معناه أن الرامي إذا رمى غرضاً سدد بالسهم نحو الغرض، ولم يعدل عنه يميناً ولا شمالاً ليصيب الرمية فلا يطيش(4/214)
سهمه ولا يخفق سعيه يقول فاخطر المعنى بقلبك حين تسأل الله السداد ليكون ما تنويه من ذلك على شاكلة ما تستعمله في الرمي، وقد فسرنا القسية والميثرة فيما مضى من الكتاب.
ومن باب ربط الأسنان بالذهب
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن عبد الله الخزاعي المعني قالا: حَدَّثنا أبو الأشهب عن عبد الرحمن بن طرَفة أن جده عَرْفجة بن أسعد قُطع أنفه يوم الكُلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفاً من ذهب.
قال الشيخ: يوم الكلاب يوم معروف من أيام الجاهلية ووقعة مذكورة من وقائعهم، والورق مكسورة الراء الفضة، والورق بفتح الراء المال من الإبل والغنم.
وفيه إباحة استعمال اليسير من الذهب للرجال عند الضرورة كربط الأسنان به وما جرى مجراه مما لا يجري غيره فيه مجراه.
ومن باب في الذهب للنساء
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان بن يزيد العطار حدثنا يحيى أن محمود بن عمرو الأنصاري حدثه أن أسماء بنت يزيد بن السكن حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها قلادة مثله من النار يوم القيامة، وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصاً من ذهب جعل الله في أذنها مثله من النار يوم القيامة.
قال الشيخ: الخرص الحلقة وهذا يتأول على وجهين: أحدهما أنه إنما قال ذلك(4/215)
في الزمان الأول، ثم نسخ وأبيح للنساء التحلي بالذهب، ققد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قام على المنبر وفي إحدى يديه ذهب وفي الأخرى حرير، فقال هذان حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها.
والوجه الآخر أن هذا الوعيد إنما جاء فيمن لا يؤدي زكاة الذهب دون من أداها والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا إسماعيل حدثنا خالد عن ميمون القنَّاد، عَن أبي قلابة عن معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب النِّمار وعن لُبس الذهب إلاّ مقطعاً.
قال الشيخ: أراد بالمقطع الشيء اليسير نحو الشنف والخاتم للنساء وكره من ذلك الكثير الذي هو عادة أهل السرف وزينة أهل الخيلاء والكبر. واليسير هو ما لا يجب فيه الزكاة، ويشبه أن يكون إنما كره استعمال الكثير منه لأن صاحبه ربما ضن بإخراج الزكاه منه فيأثم ويحرج وليس جنس الدهب بمحرم عليهن كما حرم على الرجال قليله وكثيره.
كتاب الطب
ومن باب الرجل يتداوى
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شَريك قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير فسلمت ثم قعدت فجاءت الأعراب من ههنا وههنا، فقالوا يا رسول الله نتداوى قال تداووا فإن الله لم يضع داء الا وضع له دواء غير داء واحد الهرم.(4/216)
قال الشيخ: في الحديث إثبات الطب والعلاج وأن التداوي مباح غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس.
وفيه أنه جعل الهرم داء وإنما هو ضعف الكبر وليس من الأدواء التي هي أسقام عارضة للأبدان من قبل اختلاف الطبائع وتغير الأمزجة، وإنما شبهه بالداء لأنه جالب للتلف كالأدواء التي قد يتعقبها الموت والهلاك وهذا كقول النمر بن تولب:
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً…… ليصحني فإذا السلامة داء
يريد أن العمر لما طال به أداه إلى الهرم فصار بمنزلة المريض الذي قد أدنفه الداء وأضعف قواه وكقول حميد بن ثور الهذلي:
أرى بصري قد رابني بعد صحة …وحسبك داء أن تصح وتسلما
وحدثنى إبراهيم بن عبد الرحمن العنبري حدثنا ابن أبي قماش حدثنا ابن عائشة عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لم يكن لابن آدم إلاّ السلامة والصحة لكان كفى بهما داء قاضياً.
ومن باب الكي
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت عن مطرف عن عمران بن حصين قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا.
قال أبو داود: حدثنا موسى حدثنا حماد، عَن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ من رميته.(4/217)
قال الشيخ: إنما كوى صلى الله عليه وسلم سعدا ليرقأ عن جرحه الدم وخاف عليه أن ينزف فيهلك والكي مستعمل في هذا الباب وهو من العلاج الذي تعرفه الخاصة وأكثر العامة والعرب تستعمل الكي كثيراً فيما يعرض لها من الأدواء وتقول في أمثالها آخر الدواء الكي، وقال شاعرهم في ذلك وهو مما يتمثل به
إذا كويت كية فأنضج ... تشف بها الداء ولا تُلهوج
فالكي داخل في جملة العلاج والتداوي المأذون فيه المذكور في حديث أسامة بن شريك الذي رويناه في الباب الأول.
وأما حديث عمران بن حصين في النهى عن الكي فقد يحتمل وجوهاً: أحدها أن يكون من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره ويقولون آخر الدواء الكي ويرون أنه يحسم الداء ويبرئه وإذا لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهلك فنهاهم عن ذلك إذا كان على هذا الوجه، وأباح لهم استعماله على معنى التوكل على الله سبحانه وطلب الشفاء والترجي للبرء بما يحدث الله عز وجل من صنعه فيه ويجلبه من الشفاء على أثره فيكون الكي والدواء سبباً لا علة، وهذا أمر قد تكثر فيه شكوك الناس وتخطىء فيه ظنونهم وأوهامهم فما أكثر ما تسمعهم يقولون لو أقام فلان بأرضه وبلده لم يهلك ولو شرب الدواء لم يسقم ونحو ذلك من تجريد إضافة الأمور إلى الأسباب وتعليق الحوادث بها دون تسليط القضاء عليها وتغليب المقادير فيها فتكون الأسباب أمارات لتلك الكوائن لا موجبات لها وقد بين الله جل جلاله ذلك في كتابه حيث قال {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء: 87] وقال تعالى حكاية عن الكفار {وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزَّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك(4/218)
حسرة في قلوبهم} [آل عمران: 156] الآية. وسلك الحكماء في هذا طريق الصواب وقيدوا كلامهم في مثله، قال أبو ذؤيب يذكر ابناً له هلك يدعى نبيشة:
يقولون لي لو كان بالرمل لم يمت ... نبيشة والكهان يكذب قيلها
ولوأنني استودعته الشمس لارتقت ... إليه المنايا عينها ورسولها
يريد بالكهان الأطباء، والعرب تدعو الأطباء كهاناً وكل من يتعاطى علماً مغيباً فهو عندهم كاهن، وقال رؤبة في كلمة له:
* ولو توقى لوقاه الواقي *
ثم خشي أن يكون قد فوض فتداركه فقال على أثره:
* وكيف يوقي ما الملاقى لاقى *
ومثل هذا في كلامهم كثير وفيه وجه آخر وهو أن يكون معنى نهيه عن الكي هو أن يفعله احترازاً عن الداء قبل وقوع الضرورة ونزول البلية وذلك مكروه وإنما أبيح العلاج والتداوي عند وقوع الحاجة ودعاء الضرورة إليه، ألا ترى أنه إنما كوى سعداً حين خاف عليه الهلاك من النزف.
وقد يحتمل أن يكون إنما نهى عمران خاصة عن الكي في علة بعينها لعلمه أنه لا ينجع، ألا تراه يقول فما أفلحنا ولا أنجحنا، وقد كان به الناصور فلعله إنما نهاه عن استعمال الكي في موضعه من البدن والعلاج إذا كان فيه الخطر العظيم كان محظوراً والكي في بعض الأعضاء يعظم خطره وليس كذلك في بعض الأعضاء فيشبه أن يكون النهي منصرفاً إلى النوع المخوف منه والله أعلم.
ومن باب النُّشْرة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا عَقيل بن مَعقل قال سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/219)
عن النشرة فقال: هو من عمل الشيطان.
قال الشيخ: النشرة ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن به مس الجن وقيل سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه أي يحل عنه ما خامره من الداء.
وحدثني أبو محمد الكُراني حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا زكريا بن يحيى المنقري حدثنا الأصمعي حدثنا الحكم بن عطية عن الحسن قال: النشرة من السحر، قال وأنشدنا الأصمعي من قول جرير:
أدعوك دعوة ملهوف كأن به …مساً من الجن أو ريحاً من النشر
ومن باب شرب الترياق
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثنا شرحبيل بن يزيد المعافري عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقاً أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي.
قال الشيخ: ليس شرب الترياق مكروهاً من أجل أن التداوي محظور، وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوى والعلاج في عدة أحاديث ولكن من أجل ما يقع فيه من لحوم الأفاعي وهي محرمة، والترياق أنواع فإذا لم يكن فيه لحوم الأفاعى فلا بأس بتناوله والله أعلم.
والتميمة يقال إنها خرزة كانوا يتعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات. واعتقاد هذا الرأي جهل وضلال إذ لا مانع ولا دافع غير الله سبحانه ولا يدخل في هذا التعوذ بالقرآن والتبرك والاستشفاء به لأنه كلام الله سبحانه والاستعاذة(4/220)
به ترجع إلى الاستعاذة بالله سبحانه، ويقال بل التميمة قلادة تعلق فيها العُود قال أبو ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وقال آخر:
بلاد بها عق الشباب تميمتي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وقد قيل إن المكروه من العوذ هو ما كان بغير لسان العرب فلا يفهم معناه ولعله قد يكون فيه سحر أو نحوه من المحظور والله أعلم.
ومن باب الأدوية المكروهة
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن بشر حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد، عَن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث.
قال الشيخ: الدواء الخبيث قد يكون خبثه من وجهين أحدهما خبث النجاسة وهو أن يدخله المحرم كالخمر ونحوها من لحوم الحيوان غير مأكولة اللحم، وقد يصف الأطباء بعض الأبوال وعذرة بعض الحيوان لبعض العلل وهي كلها خبيثة نجسة وتناولها محرم إلاّ ما خصته السنة من أبوال الإبل فقد رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من عرينة وعُكْل. وسبيل السنن أن يقر كل شيء منها في موضعه وأن لا يضرب بعضها ببعض؛ وقد يكون خبث الدواء أيضاً من جهة الطعم والمذاق ولا ينكر أن يكون كره ذلك لما فيه من المشقة على الطباع ولنكرة النفس إياه، والغالب أن طعوم الأدوية كريهة، ولكن بعضها أيسر احتمالاً وأقل كراهة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن ابن أبي ذئب عن سعيد(4/221)
بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن عثمان أن طبيباً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها.
قال الشيخ: في هذا دليل على أن الضفدع محرم الأكل وأنه غير داخل في ما أبيح من دواب الماء فكل منهي عن قتله من الحيوان فإنما هو لأحد أمرين اما لحرمته في نفسه كالآدمي وإما لتحريم لحمه كالصرد والهدهد ونحوهما وإذا كان الضفدع ليس بمحترم كالآدمى كان النهي فيه منصرفاً إلى الوجه الاخر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان إلاّ لمأكله.
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه وائل ذكرَ طارقَ بن سويد أو سويد بن طارق سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه، ثم سأله فنهاه فقال له يا نبي الله إنها دواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ولكنها داء.
قال الشيخ: قوله لا ولكنها داء إنما سماها داء لما في شربها من الإثم، وقد تستعمل لفظة الداء في الآفات والعيوب ومساوي الأخلاق، وإذا تبايعوا الحيوان قالوا برئت من كل داء يريدون العيب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني ساعدة: من سيدكم قالوا جد بن قيس وإنا لنُزِنُّه بشيء من البخل، فقال وأي داء أدوى من البخل والبخل إنما هو طبع أو خلق وقد سماه داء، وقال دب إليكم داء الأمم قبلكم البغي والحسد، فنرى أن قوله في الخمر أنها داء أي لما فيها من الإثم فنقلها صلى الله عليه وسلم عن أمر الدنيا إلى أمر الآخرة وحولها من طب الطبيعة إلى طب الشريعة ومعلوم أنها من جهة الطب دواء في بعض الأسقام، وفيها مصحة للبدن وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام حين سئل عن الرقوب، فقال هو الذي لم(4/222)
يمت له ولد، ومعلوم أن الرقوب في كلام العرب هو الذى لا يعيش له ولد، وكقوله ما تعدون الصُّرَعة فيكم، قال الذي يغلب الرجال، قال بل الذي يملك نفسه عند الغضب، وكقوله من تعدون المفلس فيكم، فقالوا الذي لا مال له، فقال بل المفلس الذي يأتي يوم القيامة وقد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا فيؤخذ من حسناته لهم ويؤخذ من سيئاتهم فيلقى عليه فيطرح في النار. فكل هذا انما هو على معنى ضرب المثل وتحويله عن أمر الدنيا إلى معنى الاخرة وكذلك تسمية الخمر داء إنما هو في حق الدين وحرمة الشريعة لما يلحق شاربها من الإثم وإن لم يكن داء في البدن ولا سقماً في الجسم.
وفي الحديث بيان أنه لا يجوز التداوي بالخمر وهو قول أكثر الفقهاء، وقد أباح التداوي بها عند الضرورة بعضهم، واحتج في ذلك بإباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرنيين التداوي بأبوال الإبل وهي محرمة إلاّ أنها لما كانت مما يستشفى بها في بعض العلل رخص لهم في تناولها.
قلت وقد فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأمرين اللذين جمعهما هذا القائل فنص على أحدهما بالحظر وهو الخمر، وعلى الآخر بالإباحة وهو بول الإبل. والجمع بين ما فرقه النص غير جائز. وأيضاً فإن الناس كانوا يشربون الخمر قبل تحريمها ويشغفون بها ويبتغون لذتها، فلما حرمت صعب عليهم تركها والنزوع عنها فغلظ الأمر فيها بإيجاب العقوبة على متناوليها ليرتدعوا عنها وليكفوا عن شربها وحسم الباب في تحريمها على الوجوه كلها شرباً وتداوياً لئلا يستبيحوها بعلة التساقم والتمارض، وهذا المعنى مأمون في أبوال الإبل لانحسام الدواعي ولما على الطباع من المؤنة في تناولها ولما في النفوس من استقذارها والنكرة لها(4/223)
فقياس أحدهما على الآخر لا يصح ولا يستقيم والله أعلم.
ومن باب العجوة
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا سفيان عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد عن سعد قال: مرضت مرضاً فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، وقال: إنك رجل مفؤود فائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليَلُدَّك بهن.
قال الشيخ: المفؤود هو الذي أصيبب فؤاده كما قالوا لمن أصيب رأسه مرؤوس ولمن أصيب بطنه مبطون، ويقال إن الفؤاد غشاء القلب والقلب حبته وسويداؤه. ويشبه أن يكون سعد في هذه العلة مصدوراً إلاّ أنه قد كنى بالفؤاد عن الصدر إذا كان الصدر محلاً للفؤاد ومركزاً له، وقد يوصف التمر لبعض علل الصدر. قوله فليجأهن بنواهن يريد ليرضهن والوجيئة حساء يتخذ من التمر والدقيق فيتحساه المريض.
وأما قوله فليلدك بهن فإنه من اللدود وهو ما يسقاه الإنسان في أحد جانبي الفم وأخذ من اللديدين وهما جانبا الوادي.
ومن باب العِلاق
قال أبو داود: حدثنا مسدد وحامد بن يحيى قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أم قيس بنت محصن قالت: دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لي قد أعلقتُ عليه من العُذْرة، فقال على ما تدغَرن أولادكن بهذا العلاق عليكن بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب يُسعط(4/224)
من العُذْرة ويلد من ذات الجنب.
قال الشيخ: هكذا يقول المحدثون أعلقت عليه وإنما هو أعلقت عنه، قال الأصمعي الاعلاق أن ترفع العذرة باليد والعذرة وجع يهيج في الحلق، وقد ذكره أبو عبيد في كتابه ولم يفسره ومعنى أعلقت عنه دفعت عنه العذرة بالأصبع. ونحوها قاله ابن الأعرابي.
ومن باب الغَيْل
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا محمد بن مهاجر عن أبيه عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقتلوا أولادكم سراً فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه.
قال الشيخ: أصل الغيل أن يجامع الرجل المرأة وهي مرضع، يقال منه أغال الرجل أغيل والولد مُغال ومغيل ومنه قول امرىء القيس:
فألهيتها عن ذي تمائم مُغَيل
وقوله يدعثره عن فرسه معناه يصرعه ويسقطه، وأصله في الكلام الهدم، يقال في البناء قد تدعثر إذا تهدم وسقط يقول صلى الله عليه وسلم: إن المرضع إذا جومعت فحملت فسد لبنها ونهك الولد إذا اغتذى بذلك اللبن فيبقى ضاوياً فإذا صار رجلاً فركب الخيل فركضها أدركه ضعف الغيل فزال وسقط عن متونها فكان ذلك كالقتل له إلاّ أنه سر لا يرى ولا يشعر به.
ومن باب تعليق التمائم
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن(4/225)
عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله عن زينب امرأة عبد الله عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك قالت، قلت لم تقول هذا والله لقد كانت عيني تقذف فكنت اختلف إلى فلان اليهودي يرقيني فإذا رقاني سكنت، قال عبد الله إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقاها كف عنها إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اذْهب الباس ربَّ الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلاّ شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً.
قال الشيخ: التولة يقال أنه ضرب من السحر؛ قال الأصمعي وهو الذي يحبب المرأة إلى زوجها، فأما الرقى فالمنهي عنه هو ما كان منها بغير لسان العرب فلا يدرى ما هو ولعله قد يدخله سحراً أوكفراً، فأما إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به والله أعلم.
ومن باب الرُّقى
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن مالك بن مِغْول عن حصين عن الشعبي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا رقية إلاّ من عين أو حُمة.
قال الشيخ: الحمة سم ذوات السموم وقد تسمى إبرة العقرب والزنبور حمة وذلك لأنها مجرى السم وليس في هذا نفي جواز الرقية في غيرهما من الأمراض والأوجاع لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رقى بعض أصحابه من وجع كان به وقال للشفاء علمي حفصة رقية النملة، وإنما معناه أنه لا رقية أولى وأنفع من رقية العين والسم وهذا كما قيل لا فتى إلاّ علي ولا سيف إلاّ ذو الفقار.(4/226)
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا علي بن مُسهر حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن صالح بن كيسان، عَن أبي بكر بن سليمان، عَن أبي حثمة عن الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة رضي الله عنها، فقال لي ألا تعلمين هذه رُقية النملة كما علمتيها الكتابة.
قال الشيخ: النملة قروح تخرج في الجنبين، ويقال إنها تخرج أيضاً في غير الجنب ترقى فتذهب بإذن الله عز وجل، وفي الحديث دليل على أن تعليم الكتابة للنساء غير مكروه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني عمر بن حكيم قال حدثتني الرَّباب قالت سمعت سهل بن حنيف يقول مررنا بسيل فدخلت فاغتسلت فيه فخرجت محموماً فنمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مروا أبا ثابت يتعوذ قالت فقلت يا سيدي والرقْية صالحة قال لا رقية إلاّ في نفس أو حمة أو لدغة.
قال الشيخ: النفس العين، وفيه بيان جواز أن يقول الرجل لرئيسه من الآدميين يا سيدي.
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي حدثنا الليث عن زياد بن محمد عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد، عَن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اشتكى منكم شيئاً فليقل ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حُوبَنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ.(4/227)
قال الشيخ: الحوب الإثم ومنه قول الله تعالى {إنه كان حوباً كبيراً} [النساء: 2] وهو الحوبة أيضاً مفتوحة الحاء مع إدخال الهاء.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة، عَن أبي بشر، عَن أبي المتوكل، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رهطاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها فنزلوا بحي من أحياء العرب، فقال بعضهم إن سيدنا لدغ فهل عند أحد منكم شيء ينفع صاحبنا، فقال رجل من القوم نعم والله إني لأرقي ولكن استضفناكم فأبيتم أن تضيفونا ما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلاً فجعلوا له قطيعاً من الشاه فأتاه فقرأ عليه أم الكتاب ويتفل حتى برأ كأنما أنشط من عقال قال فأوفاهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقالوا اقتسموا فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستأمره فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين علمتم أنها رقية أحسنتم اقتسموا واضربوا لي معكم بسهم.
قال الشيخ: قوله أنشط من عقال أي حل من عقال، يقال نشطت الشيء إذا شددته. وأنشطته بالألف إذا حللته.
وفيه دليل على أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن جائز.
ومن باب النهي عن إتيان الكاهن
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حكيم الأثرم، عَن أبي تميمة، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل الله على محمد.
قال الشيخ: الكاهن هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن، وكان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيراً من الأمور،(4/228)
فمنهم من كان يزعم أن له رؤيا من الجن وتابعة تلقي إليه الأخبار. ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه، وكان منهم من يسمى عرافاً وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها، كالشيء يسرق فيعرف المظنون به السرقة وتتهم المرأة بالزنية فيعرف من صاحبها ونحو ذلك من الأمور.
ومنهم من كان يسمي المنجم كاهناً فالحديث يشتمل على النهي عن إتيان هؤلاء كلهم والرجوع إلى قولهم وتصديقهم على ما يدعونه من هذه الأمور.
ومنهم من كان يدعو الطبيب كاهناً وربما دعوه أيضاً عرافاً وقال أبو ذؤيب:
يقولون لي لوكان بالرمل لم يمت ... نبيشة والكهان تكذب قيلها
وقال آخر:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني
فهذا غير داخل في النهي وإنما هو مغالطة في الأسماء وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم الّطب وأباح العلاج والتداوي. وقد تقدم ذكره فيما مضى من أبواب الكتاب.
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومسدد المعنى قالا: حَدَّثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر.
قال الشيخ: علم النجوم المنهى عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان كأخبارهم بأوقات هبوب(4/229)
الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد وتغير الأسعار وما كان في معانيها من الأمور، يزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكبواكب في مجاريها وباجتماعها واقترانها ويدعون لها تأثيراً في السفليات وأنها تتصرف على أحكامها وتجري على قضايا موجباتها، وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاط لعلم استأثر الله سبحانه به لا يعلم الغيب أحد سواه.
فأما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والحس الذي يعرف به الزوال ويعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهي عنه. وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئاً بأكثر من أن الظل ما دام متناقصاً فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصح دركه من جهة المشاهدة، إلاّ أن أهل هذه الصناعة قد دبروه بما اتخذوا له من الالة التي يستغنى الناظر فيها عن مراعاة مدته ومرا صدته.
وأما ما يستدل به من جهة النجوم على جهة القبلة فإنما هي كواكب أرصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها مثل أن يشاهدوها بحضرة الكعبة ويشاهدوها في حال الغيبة عنها فكان إدراكهم الدلالة عنها بالمعاينة وادراكنا لذلك بقبولنا لخبرهم إذ كانوا غير متهمين في دينهم ولا مقصرين في معرفتهم.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل(4/230)
تدرون ما قال ربكم، قالوا الله ورسول أعلم قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مُطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مُطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب.
قال الشيخ: قوله في أثر سماء أي في أثر مطر، والعرب تسمي المطر سماء لأنه نزل منها قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
والنوء واحد الأنواء وهي الكواكب الثمانية والعشرون التي هي منازل القمر كانوا يزعمون أن القمر إذا نزل بعض تلك الكواكب مطروا فأبطل صلى الله عليه وسلم قولهم وجعل سقوط المطر من فعل الله سبحانه دون فعل غيره.
ومن باب الخط وزجر الطير
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا عوف حدثنا حيان بن العلاء حدثنا قَطَن بن قَبيصة عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: العيافة والطَّيرَه والطرق من الجبت.
قال الشيخ: قد فسره أبو عبيد فقال العيافة زجر الطير يقال منه عفت الطير أعيفها عيافة، قال ويقال في غير هذا عافت الطير تعيف عيفاً إذا كانت تحوم على الماء وعاف الرجل الطعام يعافه عيافاً وذلك إذا كرهه.
قال وأما الطرق فإنه الضرب بالحصى ومنه قول لبيد:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع
قال واصل الطرق الضرب، ومنه سميت مطرقة الصائغ والحداد لأنه يطرق بها أي يضرب بها.(4/231)
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الحجاج الصواف حدثني يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونه عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت يا رسول الله ومنا رجال يخطون قال كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك.
قال الشيخ: صورة الخط ما قاله ابن الأعرابي ذكره أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى عنه، قال يقعد الحازي ويأمر غلاماً له بين يديه فيخط خطوطاً على رمل أو تراب ويكون ذلك منه في خفة وعجلة كي لا يدركها العدّ والإحصاء ثم يأمره فيمحها خطين خطين ابني عيان اسرعا البيان فإن كان آخر ما بقى منها خطين فهو آية النجاح وإن بقي خط واحد فهو الخيبة والحرمان.
وأما قوله فمن وافق خطه فذلك فقد يحتمل أن يكون معناه الزجر عنه إذا كان من بعده لا يوافق خطه ولا ينال حظه من الصواب لأن ذلك إنما كان آية لذلك النبي فليس لمن بعده أن يتعاطاه طمعاً في نيله والله أعلم.
وقد ذكرنا هذا المعنى أو نحوه فيما مضى من هذا الكتاب.
ومن باب الطيرة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن سلمة بن كُهيل عن عيسى بن عاصم عن زِر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الطيرة شرك وما منا إلاّ ولكن الله يذهبه بالتوكل.
قال الشيخ: قوله وما منا إلاّ معناه إلاّ من يعتريه التطير وسبق إلى قلبه الكراهة فيه فحذف اختصاراً للكلام واعتماداً على فهم السامع، وقال محمد بن إسماعيل كان سليمان بن حرب ينكر هذا ويقول هذا الحرف ليس من قول(4/232)
رسول الله وكأنه قول ابن مسعود رضي الله عنه.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني والحسن بن علي قالا: حَدَّثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيُجْربها، قال فمن أعدى الأول قال معمر، قال الزهري فحدثني رجل، عَن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يوردن مُمرض على مُصح، ققال فراجعه الرجل فقال أليس قد حدثتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى ولا صفر ولا هامة، قال لم أحدثكموه، قال الزهري قال أبو سلمة قد حدث به وما سمعت أبا هريرة نسي حديثاً قط غيره.
قال الشيخ: قوله لا عدوى يريد أن شيئاً لا يعدي شيئاً حتى يكون الضرر من قبله وإنما هو تقدير الله جل وعز وسابق قضائه فيه ولذلك قال فمن أعدى الأول. يقول إن أول بعير جرب من الإبل لم يكن قبله بعير أجرب فيعديه وإنما كان أول ما ظهر الجرب في أول بعير منها بقضاء الله وقدره فكذلك ما ظهر منه في سائر الإبل بعد. وأما الصفر فقد ذكره أبو عبيد في كتابه، وحكي عن رؤبة بن العجاج أنه سئل عن الصفر فقال هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس قال وهي أعدى من الجرب، قال أبو عبيد فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدي قال، وقال غيره في الصفر أنه تأخيرهم المحرم إلى صفر في تحريمه.
قال وأما الهامة فإن العرب كانت تقول إن عظام الموتى تصير هامة فتطير أبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من قولهم.(4/233)
قلت وتطير العامة اليوم من صوت الهامة ميراث ذلك الرأي وهو من باب الطيرة المنهي عنها.
وأما قوله لا يوردن مُمرض على مُصح قال الممرض الذي مرضت ماشيته والمصح هو صاحب الصحاح منها، كما قيل رجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافاً، ومقوٍ إذا كانت أقوياء، وليس المعنى في النهي عن هذا الصنيع من أن المرضى تعدي الصحاح، ولكن الصحاح إذا مرضت بإذن الله وتقديره وقع في نفس صاحبه أن ذلك إنما كان من قبل العدوى فيفتنه ذلك ويشككه في أمره فأمر باجتنابه والمباعدة عنه لهذا المعنى.
وقد يحتمل أن يكون ذلك من قبل الماء والمرعى فتستوبله الماشية فإذا شاركها في ذلك الماء الوارد عليها أصابه مثل ذلك الداء والقوم بجهلهم يسمونه عدوى وإنما هو فعل الله تبارك وتعالى بتأثير الطبيعة على سبيل التوسط في ذلك والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرْقي أن سعيد بن الحكم حدثهم أنبأنا يحيى بن أيوب حدثني ابن عجلان حدثني القعقاع بن حكيم وعبيد الله بن مقسم وزيد بن أسلم، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا غُولَ.
قال الشيخ: قوله لا غول ليس معناه نفي الغول عيناً وإبطالها كوناً، وإنما فيه إبطال ما يتحدثون عنها من تغولها واختلاف تلونها في الصور المختلفة واضلالها الناس عن الطريق وساسر ما يحكون عنها مما لا يعلم له حقيقة. يقول لا تصدقوا بذلك ولا تخافوها فإنها لا تقدر عل شيء من ذلك إلاّ بإذن الله عز وجل، ويقال إن الغيلان سحرة الجن تسحر الناس وتفتنهم بالإضلال(4/234)
عن الطريق والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى ولا طِيَرة ويعجبني الفأل الصالح. والفأل الصالح الكلمة الحسنة.
قال الشيخ: قد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الفأل إنما هو أن يسمع الإنسان الكلمة الحسنة فيفأل بها أي يتبرك بها ويتأولها على المعنى الذي يطابق اسمها وأن الطيرة بخلافها وإنما أخذت من اسم الطير، وذلك أن العرب كانت تتشاءم ببروح الطير إذا كانوا في سفر أو مسير، ومنهم من كان يتطير بسنوحها فيصدهم ذلك عن المسير ويردهم عن بلوغ ما يمموه من مقاصدهم فأبطل صلى الله عليه وسلم أن يكون لشيء منها تأثير في اجتلاب ضرر أو نفع، واستحب الفأل بالكلمة الحسنة يسمعها من ناحية حسن الظن بالله.
وأخبرني الكراني حدثنا عبد الله بن شبيب حدثني المنقري حدثنا الأصمعي قال سألت ابن عون عن الفأل، قال هو أن تكون مريضاً فتسمع يا سالم أو تكون طالباً فتسمع يا واجد.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى أن الحضرمي بن لاحق حدثه عن سعيد بن المسيب عن سعد بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا هامة ولا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيء ففي المرأة والفرس والدار.
قال الشيخ: معنى الطيرة التشاؤم وهو مصدر التطير، يقال تطير الرجنل طيرة كما قالوا تخيرت الشيء خيرة ولم يجىء من المصادر على هذا القياس غيرهما(4/235)
وجاء من الأسماء على هذا المثال حرفان التوَلة في نوع من السحر وسبي طيبة يقال هذا سبي طيبة أي طيب.
وأما قوله إن تكن الطيرة في شيء ففي المرأة والفرس والدار فإن معناه إبطال مذهبهم في الطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء ونحوها، إلاّ أنه يقول إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس لا يعجبه ارتباطه فليفارقها بأن يتنقل عن الدار ويبيع الفرس، وكان محل هذا الكلام محل استثناء الشيء من غير جنسه. وسبيله سبيل الخروج من كلام إلى غيره، وقد قيل إن شؤم الدار ضيقها وسوء جوارها وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها وشؤم المرأة أن لا تلد.
قال أبو داود: حدثنا مخلَّد بن خالد وعباس العنبري المعنى قالا: حَدَّثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن يحيى بن عبد الله عن بحير أخبرني من سمع فروة بن مُسيك قال قلت يا رسول الله أرض عندنا يقال لها أرض أبين هي أرض ميرتنا وريفنا وإنها وبيئة أو قال وباؤها شديد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعها عنك فإن من القرف التلف.
قال الشيخ: ذكر القتبي هذا الحديث في كتابه وفسره قال: القرف مداناة الوباء ومداناة المرض، ويقال أرض قرف أي محمة، قال وكل شيء قاربته فقد قارفته.
قلت وليس هذا من باب العدوى وإنما هو من باب الطب فإن استصلاح الأهوية من أعون الأشياء على صحة الأبدان وفساد الهواء من أضرها وأسرعها إلى اسقام البدن عند الأطباء وكل ذلك بإذن الله ومشيئته لا شريك له فلا حول ولا قوة إلاّ به.(4/236)
قال أبو داود: حدثنا الحسين بن يحيى حدثنا بشر بن عمر عن عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا كثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا وقلت فيها أموالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذروها ذميمة.
قال الشيخ: قد يحتمل أن يكون إنما أمرهم بتركها والتحول عنها إبطالاً لما وقع في نفوسهم من أن المكروه إنما أصابهم بسبب الدار وسكناها فإذا تحولوا عنها انقطعت مادة ذلك الوهم وزال ما كان خامرهم من الشبهة فيها والله أعلم.
كتاب الأطعمة
باب ما جاء في إجابة الدعوة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها.
قال الشيخ: إجابة الدعوة في الوليمة خصوصاً واجبة لأمرالنبي صلى الله عليه وسلم بها ولما في إتيان الوليمة من إعلان النكاح والإشادة به وعلى هذا يتأول قول أبي هريرة من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله، فأما سائر الدعوات فليست كذلك ولا يحرج المرء بالتخلف عنها وقد دعي بعض العلماء فلم يجب فقيل له إن السلف كانوا يدعون فيجيبون، فقال كانوا يدعون للمؤاخاة والمؤاساة وأنتم اليوم تدعون للمباهاة والمكافأة.
ومن باب الضيافة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن سعيد المقبري، عَن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليكرم ضيفه(4/237)
جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام وما بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه.
قال الشيخ: قوله جائزته يوم وليلة سئل مالك بن أنس عنه فقال يكرمه ويتحفه ويخصه ويحفظه يوماً وليلة وثلاثة أيام ضيافة.
قلت يريد أنه يتكلف له في اليوم الأول بما اتسع له من بر وألطاف ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته وما كان بعد الثلاث فهو صدقة ومعروف إن شاء فعل وإن شاء ترك.
وقوله لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه، يريد أنه لا يحل للضيف أن يقيم عنده بعد الثلاث من غير استدعاء منه حتى يضيق صدره فيبطل أجره. وأصل الحرج الضيق.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وخلف بن هشام المنقري قالا: حَدَّثنا أبو عَوانة عن منصور عن عامر، عَن أبي كريمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليلة الضيف حق على كل مسلم فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين إن شاء اقتضى وإن شاء ترك.
قال الشيخ: وجه ذلك أنه رآها حقاً من طريق المعروف والعادة المحمودة ولم يزل قرى الضيف وحسن القيام عليه من شيم الكرام وعادات الصالحين، ومنع القرى مذموم على الألسن وصاحبه ملوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني أبو الجودي عن سعيد بن أبي المهاجر عن المقدام أبي كريمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما رجل ضاف قوماً فاصبح الضيف محروماً فإن نصره حق على كل مسلم حتى يأخذ بقرى(4/238)
ليلة من زرعه وماله.
قال الشيخ: يشبه أن يكون هذا في المضطر الذي لا يجد ما يطعمه ويخاف التلف على نفسه من الجوع فإذا كان بهذه الصفة كان له أن يتناول من مال أخيه ما يقيم به نفسه، وإذا فعل ذلك فقد اختلف الناس فيما يلزمه له، فذهب بعضهم إلى أنه يؤدي إليه قيمته وهذا يشبه مذاهب الشافعي. وقال آخرون لا يلزمه له قيمة، وذهب إلى هذا القول نفر من أصحاب الحديث واحتجوا بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبناً من غنم لرجل من قريش له فيها عبد يرعاها وصاحبها غائب وشربه صلى الله عليه وسلم وذلك في مخرجه من مكة إلى المدينة.
واحتجوا أيضاً بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دخل حائطاً فليأكل منه ولا يتخذ خُبنة.
وعن الحسن أنه قال إذا مر الرجل بالإبل وهو عطشان صاح برب الإبل ثلاثاً فإن أجابه وإلا حلب وشرب.
وقال زيد بن أسلم ذكروا الرجل يضطر إلى الميتة وإلى مال المسلم، فقال يأكل الميتة، قال عبد الله بن دينار يأكل من مال الرجل المسلم، فقال سعيد أصبت إن الميتة تحل له إذا اضطر إليه ولا يحل له مال المسلم.
ومن باب نسخ الضيف في الأكل
من مال غيره إلاّ بتجارة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عياس رضي الله عنهما قال: كان(4/239)
الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى الطعام فقال إني لأجَنَّحُ أن آكل منه ويقول المسكين أحق به مني لقوله تعالى {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29] فنسخ ذلك بقول {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} إلى قول {أشتاتاً} [النور: 6] .
قال الشيخ: قوله أجنح أي أرى جناحاً وإثماً أن آكله.
ومن باب طعام المتباريين
قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي، قال: حَدَّثنا جرير بن حازم عن الزبير بن خُرّيت قال سمعت عكرمة يقول كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل.
قال أبو داود أكثر من رواه عن جرير لم يذكر فيه ابن عباس.
قال الشيخ: المتباريان المتعارضان بفعلهما، يقال تبارى الرجلان إذا فعل كل واحد منهما مثل فعل صاحبه ليرى أيهما يغلب صاحبه، وإنما كره ذلك لما فيه من الرياء والمباهاة ولأنه داخل في جملة ما نهي عنه من أكل المال بالباطل.
ومن باب إجابة الدعوة إذا حضرها مكروه
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد بن جُهمان عن سفينة أبي عبد الرحمن أن رجلاً ضاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه فصنع له طعاماً، فقالت فاطمة عليها السلام لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل معنا فدعوه فجاء ووضع يده على عضادتي الباب فرأى القِرام قد ضرب به في ناحية البيت فرجع فقالت فاطمة لعلي عليه السلام الحقه فانظر ما رجَعَه فتبعته؛ فقلت يا رسول الله ما ردك، قال إنه ليس لي أو لنبي أن يدخل بيتاً مزوَّقاً.(4/240)
قال الشيخ: وفيه دليل على أن من دعى إلى مدعاة يحضرها الملاهي والمنكر فإن الواجب عليه أن لا يجيب.
القرام الستر وفي رواية أخرى أنه كان ستراً موشى كره الزينة والتصنع.
ومن باب إذا حضرت الصلاة والعشاء
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى القطان عن عبيد الله حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فلا يقم حتى يفرُغ.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم بن زريع حدثنا معلى بن منصور عن محمد بن ميمون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤخر الصلاة لطعام ولا لغيره.
قال الشيخ: وجه الجمع بين الحديثين أن الأول إنما جاء فيمن كانت نفسه تنازعه شهوة الطعام وكان شديد التوقان إليه، فإذا كان كذلك وحضر الطعام وكان في الوقت فضل بدأ بالطعام لتسكن شهوة نفسه فلا يمنعه عن توفية الصلاة حقها وكان الأمر يخف عندهم في الطعام وتقرب مدة الفراغ منه إذ كانوا لا يستكثرون منه ولا ينصبون الموائد ويتناولون الأولوان وإنما هو مذقة من لبن وشربة من سويق أو كف من تمر أو نحو ذلك، ومثل هذا لا يؤخر الصلاة عن زمانها ولا يخرجها عن وقتها.
وأما حديث جابر فإنه كان لا يؤخر الصلاة لطعام ولا لغيره فهو مما كان بخلاف ذلك من حال المصلي وصفة الطعام ووقت الصلاة، وإذا كان الطعام(4/241)
لم يوضع وكان الإنسان متماسكاً في نفسه وحضرت الصلاة وجب أن يبدأ بها ويؤخر الطعام. وهذا وجه بناء أحد الحديثين على الاخر والله أعلم.
ومن باب طعام الفجاءة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن أبي مريم حدثنا عمي سعيد بن الحكم أنبأنا الليث أخبرني خالد بن يزيد، عَن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من شعب من الجبل وقد قضى حاجته وبين أيدينا تمر على ترس أو حَجَفة فدعوناه فأكل معنا وما مس ماء.
قال الشيخ: دلالة هذا أن طعام الفجأة غير مكروه إذا كان الآكل يعلم أن صاحب الطعام قد تسره مساعدته إياه على أكله ومعلوم أن القوم كانوا يفرحون بمساعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم ويتبركون بمؤاكلته، وإنما جاءت الكراهة في طعام الفجأة إذا كان لا يؤمن أن يشق ذلك صاحب الطعام ويشق عليه ولعله إنما يعرض طعامه إذا فجأه الداخل عليه استحياء منه لا إيجاباً له والله أعلم.
ومن باب الأكل متكئاً
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن علي بن الأقمر قال سمعت أبا جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا آكل متكئاً.
قال الشيخ: يحسب أكثر العامة أن المتكئ هو المائل المعتمد على أحد شقيه لا يعرفون غيره، وكان بعضهم يتأول هذا الكلام على مذهب الطب ودفع الضرر عن البدن إذ كان معلوماً أن الآكل مائلاً على أحد شقيه لا يكاد يسلم من ضغط يناله في مجاري طعامه فلا يسيغه ولا يسهل نزوله إلى معدته.(4/242)
قال الشيخ: وليس معنى الحديث ما ذهبوا إليه وإنما المتكئ ههنا هو المعتمد على الوطاء الذي تحته وكل من استوى قاعداً على وطاء فهو متكئ. والاتكاء مأخوذ من الوكاء ووزنه الافتعال منه فالمتكئ هو الذي أوكى مقعدته وشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته والمعنى أني إذا أكلت لم أقعد متمكناً على الأوطية والوسائد فعل من يريد أن يستكثر من الأطعمة ويتوسع في الألوان ولكني آكل علقة وآخذ من الطعام بلغة فيكون قعودي مستوفزاً له، وروي أنه كان صلى الله عليه وسلم يأكل مقعياً ويقول أنا عبد آكل كما يأكل العبد.
ومن باب الأكل من أعلى الصحيفة
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يأكل من أعلى الصحيفة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها.
قال الشيخ: قد ذكر في هذا الحديث أن النهى إنما كان عن ذلك من أجل أن البركة إنما تنزل من أعلاها، وقد يحتمل أيضاً وجها آخر وهو أن يكون النهي إنما وقع عنه إذا أكل مع غيره، وذلك أن وجه الطعام هو أطيبه وأفضله فإذا قصده بالأكل كان مستأثراً به على أصحابه.
وفيه من ترك الأدب وسوء العشرة ما لا خفاء به فأما إذا أكل وحده فلا بأس به والله أعلم.
ومن باب كراهية تقذر الطعام
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا سماك بن حرب حدثني قَبِيصة بن هُلْب عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل رجل(4/243)
فقال إن من الطعام طعاماً أتحرج منه، فقال لا يتحلجن في نفسك شيء ضارعت فيه النصرانية.
قال الشيخ: قوله لا يتحلجن معناه لا يقعن في نفسك ريبة منه وأصله من الحلج وهو الحركة والاضطراب، ومنه حلج القطن، ومعنى المضارعة المقاربة في الشبه ويقال للشيئين بينهما مقاربة هذا ضرع هذا أي مثله.
ومن باب في أكل الجلالة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها.
قال الشيخ: الجلالة هي الإبل التي تأكل الجلة وهي العذرة كره أكل لحومها وألبانها تنزهاً وتنظفاً. وذلك أنها إذا اغتذت بها وجد نتن رائحتها في لحومها، وهذا إذا كان غالب علفها منها. فأما إذا رعت الكلأ واعتلفت الحب وكانت تنال مع ذلك شيئاً من الجلة فليست بجلالة وإنما هي كالدجاج ونحوها من الحيوان الذي ربما نال الشيء منها وغالب غذائه وعلفه من غيرها فلا يكره أكله.
واختلف الناس في أكل لحوم الجلالة وألبانها فكره ذلك أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد بن حنبل وقالوا لا تؤكل حتى تحبس أياماً وتعلف علفاً غيرها فإذا طاب لحمها فلا بأس بأكله.
وقد روي في حديت أن البقر تعلف أربعين يوماً ثم يؤكل لحمها، وكان ابن عمر رضي الله عنه يحبس الدجاجة ثلاثاً ثم يذبح.
وقال إسحاق بن راهويه لا بأس أن يؤكل لحمها بعد أن يغسل غسلاً جيداً.(4/244)
وكان الحسن البصري لا يرى بأساً بأكل لحوم الجلالة، وكذلك قال مالك بن أنس.
ومن باب في أكل لحوم الخيل
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر وأذن في لحوم الخيل.
قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بقية عن ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير.
قال الشيخ: في حديث جابر بيان إباحة لحوم الخيل واسناده جيد.
وأما حديث خالد بن الوليد ففي إسناده نظر وصالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده لا يعرف سماع بعضهم من بعض.
وقد اختلف الناس في لحوم الخيل فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يكره لحوم الخيل، وكرهها أبو حنيفة وأصحابه ومالك.
وقال الحكم لحوم الخيل في القرآن حرام ثم تلا {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8] ورخصت طائفة فيها روي ذلك عن شريح والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير، وهو قول حماد بن أبي سليمان، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق.
فأما احتجاج من احتج بقوله عز وجل {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} في تحريم لحوم الخيل فإن الآية لا تدل على أن منفعة الخيل مقصورة(4/245)
على الركوب دون الأكل، وإنما ذكر الركوب والزينة لأنهما معظم ما يبتغى من الخيل كقوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة: 3] فنص على اللحم لأنه معظم ما يؤكل منه، وقد دخل في معناه دمه وسائر أجزائه وقد سكت عن حمل الأثقال على الخيل، وقيل في الأنعام {لكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون} [المؤمنون: 21-22] وقال تعالى {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق الأنفس} [النحل: 7] ثم لم يدل ذلك على أن حمل الأثقال على الخيل غير مباح كذلك الأكل والله أعلم.
ومن باب في أكل الضب
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونه فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونه أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه فقال هو ضب فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: فقلت أحرام هو، قال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد فاجتررته فأكلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.
قال الشيخ: المحنوذ المشوي ويقال هو ما شوي بالرضف وهي الحجارة المحماة ومن هذا قوله سبحانه {فجاء بعجل حنيذ} [هود: 69] .
وقوله أعافه معناه أقذره وأتكرهه، يقال عفت الشيء أعافه عيفاً ومن زجر الطير عفته، أعيفه، عيافة.
وقد اختلف الناس في أكل الضب فرخص فيه جماعة من أهل العلم، روي(4/246)
ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإليه ذهب مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي، وكرهه قوم. روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقد روي في النهى عن لحم الضب حديث ليس إسناده بذلك، ذكره أبو داود في هذا الباب.
ومن باب في أكل حشرات الأرض
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا غالب بن حجرة حدثني مِلقام بن تَلِّب عن أبيه قال صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريماً.
قال الشيخ: الحشرة صغار دواب الأرض كاليرابيع والضباب والقنافذ ونحوها، وليس في قوله لم أسمع لها تحريماً دليل على أنها مباحة لجواز أن يكون غيره قد سمعه.
وقد حضرنا فيه معنى آخر وهو أنه إنما عنى بهذا القول عادة القوم في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في استباحة الحشرة وكان يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عاداتهم فلم ينه عن أكلها.
وقد اختلف الناس في أن الأشياء أصلها على الإباحة أو على الحظر وهي مسألة كبيرة من مسائل أصول الفقه. فذهب بعضهم إلى أنها على الإباحة، وذهب آخرون إلى أنها على الحظر، وذهبت طائفة إلى أن إطلاق القول بواحد منهما فاسد ولا بد من أن يكون بعضها محظوراً وبعضها مباحاً، والدليل ينبئ عن حكمه في مواضعه.
وقد اختلف الناس في اليربوع والوبر ونحوهما من الحشرات فرخص في اليربوع عروة وعطاء والشافعي وأبو ثور. وقال مالك لا بأس بأكل الوبر(4/247)
وكذلك قفال الشافعي، وقد روي عن عطاء ومجاهد وطاوس وكرهها ابن سيرين والحكم وحماد وأبو حنيفة وأصحابه.
وكره أبو حنيفة وأصحابه القنفذ وسئل عنه مالك بن أنس فقال لا أدري، وكان أبو ثور لا يرى به بأساً، وحكاه عن الشافعي.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رخص فيه، وقد روى أبو داود في تحريمه حديثاً ليس إسناده بذلك. فإن ثبت الحديث فهو محرم.
ومن باب في أكل الضبع
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد عن عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال هو صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم.
قال الشيخ: إذا كان قد جعله صيداً أو رأى فيه الفداء فقد أباح أكله كالظباء والحمر الوحشية وغيرها من أنواع صيد البر، وإنما أسقط الفداء في قتل ما لا يؤكل، فقال خمس لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم. الحديث.
وفي قوله هو صيد دليل على أن من السباع والوحش ما ليس بصيد فلم يدخل تحت قوله تعالى {وحرم عليكم صيد البر} [المائدة: 96] .
وفيه دليل على أن لا شيء على من قتل سبعاً لأنه ليس بصيد.
وفيه دليل على المثل المجعول في الصيد إنما هو من طريق الخلقة دون القيمة ولو كان الأمر في ذلك موكولاً إلى الاجتهاد لأشبه أن لا يكون بدله مقدراً، وفي ذلك ما دل على أن في الكبش وفاء لجزائه كانت قيمته مثل قيمة المجزي أو لم يكن.(4/248)
وقد اختلف الناس في أكل الضبع فروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان يأكل الضبع، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما إباحة لحم الضبع، وأباح أكلها عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وأبو ثور، وكرهه الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب واحتجوا بأنها سبع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع.
قلت وقد يقوم دليل الخصوص فينزع الشيء من الجملة وخبر جابر خاص وخبر تحريم السباع عام.
ومن باب في الحمر الأهلية
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن المصيصي حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أخبرني رجل عن جابر قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأكل لحوم الحمير وأمرنا بأكل لحوم الخيل، قال عمرو فأخبرت هذا الخبر أبا الشعثاء فقال قد كان الحكم الغفاري فينا يقول هذا وأبى ذلك البحر، يَعني ابن عباس رضى الله عنهما.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن منصور عن عبيد أبي الحسن عن عبد الرحمن عن غالب بن أبجر قال: أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أُطعم أهلي إلاّ شيء من حمر وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وأنك حرمت لحوم الحمر الأهلية، فقال اطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جَوال القرية.(4/249)
قال أبو داود عبد الرحمن هذا هو ابن معقل.
قال الشيخ: لحوم الحمر الأهلية محرمة في قول عامة العلماء، وإنما رويت الرخصة فيها عن ابن عباس رضي الله عنهما ولعل الحديث في تحريمها لم يبلغه، فأما حديث ابن أبجر فقد اختلف في إسناده.
قال أبو داود: رواه شعبة عن عبيد أبي الحسن عن عبد الرحمن بن معقل عن عبد الرحمن بن بشر عن ناس من مزينة أن سيد مزينة أبجر أو ابن أبجر سأل النبي صلى الله عليه وسلم ورواه مسعر فقال عن ابن عبيد عن ابن معقل عن رجلين من مزينة أحدهما عن الآخر، وقد ثبت التحريم من طريق جابر متصلاً. والرجل الذي رواه عنه عمرو بن دينار ولم يسمه في رواية أبى داود وهو محمد بن علي حدثونا به عن يحيى بن محمد بن يحيى.
حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر قال نهان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل.
وأما قوله إنما حرمتها من أجل جوال القرية فإن الجوال هي الني تأكل العذره وهي الجله، إلا أن هذا لا يثبت وقد ثبت أنه إنما نهى عن لحموما لأنها رجس.
حدثناه ابن مالك حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أصبنا حمراً خارجاً من القرية فنحرنا فطبخنا فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ ان الله ورسوله ينهيانكم عنها وأنها رجس من عمل الشيطان فأكفئت القدور بما فيها وإنها لتفور.(4/250)
ومن باب الطافي من السمك
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة أنبأنا يحيى بن سُليم الطائفي حدثنا إسماعيل بن أمية، عَن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألقاه البحر أو جَزَر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفاه فلا تأكلوه.
قال أبو داود: روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد، عَن أبي الزبير أوقفوه على جابر، وقد أسند هذا الحديث أيضاً من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب، عَن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه أباح الطافي من السمك ثبت ذلك، عَن أبي بكر الصديق وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما، وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح ومكحول وإبراهيم النخعي، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور، وروي عن جابر وابن عباس رضي الله عنهما كرها الطافي من السمك وإليه ذهب جابر بن زيد وطاوس وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
ومن باب أكل دواب البحر
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه نتلقى عيراً لقريش وزودنا جراباً من تمر لم نجد غيره وكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة كنا نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فيكفينا يوماً إلى الليل وكنا نضرب بعصينا الخبَط ثم نبله بالماء فنأكله، قال وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة رضي الله عنه ميتة ولا تحل لنا، ثم قال لا بل نحن رسل رسول(4/251)
الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، فلما قدمنا على رسول الله ذكرنا ذلك له فقال هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل.
قال الشيخ: الخبط ورق الشجر يضرب بالعصا فيسقط.
وفيه دليل على أن دواب البحر كلها مباحة إلاّ الضفدع لما جاء من النهي وإن ميتتها حلال، ألا تراه يقول هل معكم من لحمه شيء فأرسلنا إليه فأكل وهذا حال رفاهية لا حال ضرورة.
وقد روي، عَن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن كل دابة في البحر فقد ذبحها الله لكم أو ذكاها لكم.
وعن محمد بن علي أنه قال كل ما في البحر ذكي، وكان الأوزاعي يقول كل شيء كان عيشه في الماء فهو حلال قيل فالتمساح قال نعم، وغالب مذهب الشافعي إباحة دواب البحر كلها إلاّ الضفدع لما جاء من النهي عن قتلها.
وكان أبو ثور يقول جميع ما يأوي إلى الماء فهو حلال فما كان منه يذكى لم يحل إلاّ بذكاة وما كان منه لا يذكى مثل السمك أخذه حياً وميتاً.
وكره أبو حنيفة دواب البحر كلها إلاّ السمك.
وقال سفيان الثوري أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس.
وقال ابن وهب سألت الليث بن سعد عن أكل خنزير الماء وكلب الماء وإنسان الماء ودواب الماء كلها، فقال أما إنسان الماء فلا يؤكل على شيء من الحالات، والخنزير إذا سماه الناس خنزيراً فلا يؤكل، وقد حرم الله الخنزير وأما الكلاب فليس بها بأس في البر والبحر.(4/252)
قلت: لم يختلفوا أن المارماهي مباح أكله وهو شبيه بالحيات ويسمى أيضاً حية، فدل ذلك على بطلان اعتبار معنى الأسماء والأشباه في حيوان البحر، وإنما هي كلها سموك وإن اختلفت أشكالها وصورها وقد قال سبحانه {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم} [المائدة: 96] فدخل كل ما يصاد من البحر من حيوانه لا يخص شيء منه إلاّ بدليل، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال طهور ماؤه حلال ميتته فلم يستثن شيئاً منها دون شيء، فقضية العموم توجب فيها الإباحة إلاّ ما استثناه الدليل والله أعلم.
ومن باب المضطر إلى الميتة
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا الفضل بن دكين حدثنا عقبة بن وهب عن عقبة العامري، قال سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما يحل لنا من الميتة، قال ما طعامكم، قلنا نغتبق ونصطبح، قال أبو نعيم فسره لي عقبة قدح غُدْوة وقدح عَشِية، قال ذاك وأبى الجوع فأحل لهم الميتة على هذه الحال.
قال الشيخ: الغبوق العشاء، والصبوح الغداء، والقدح من اللبن بالغداة، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس وإن كان لا يغذو البدن ولا يشبع الشبع التام، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت، وإلى هذا ذهب مالك بن أنس وهو أحد قولي الشافعي، وذلك أن الحاجه منه قائمة إلى الطعام في تلك الحال كهي في الحال المتقدمة فمنعه بعد إباحته له غير جائز قبل أن يأخذ منه حاجته وهذا كالرجل يخاف العنت ولا يحد طولاً لحرة فإذا أبيح له نكاح الأمة وصار(4/253)
إلى أدنى حال التعفف لم يبطل النكاح.
وقال أبو حنيفة لايجوز له أن بيتناول منه إلاّ قدر ما يمسك رمقه.
وإليه ذهب المزني قالوا وذلك لأنه لو كان في الابتداء بهذا الحال لم يجز له أن يأكل شيئاً منها فكذلك إذا بلغها بعد تناولها.
وقد روي نحو من هذا عن الحسن البصري، وقال قتادة لا يتضلع منها.
ومن باب في أكل الجبن
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن موسى البلخي حدثنا إبراهيم بن عيينة عن عمرو بن منصور عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجبنة في تبوك فدعا بسكين فسمى وقطع.
قال الشيخ: إنما جاء به أبو داود من أجل أن الجبن كان يعمله قوم الكفار لا تحل ذكاتهم وكانوا يعقدونها بالأنافج وكان من المسلمين من يشاركهم في صنعة الجبن فأباحه النبي صلى الله عليه وسلم على ظاهر الحال ولم يمتنع من أكله من أجل مشاركة الكفار المسلمين فيه.
ومن باب في الخل
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا معاوية بن هشام حدثنا سفيان عن محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم الإدام الخل.
قال الشيخ: معنى هذا الكلام الاقتصاد في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة كأنه يقول ائتدموا بالخل وما كان في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في المطعم فإن تناول الشهوات مفسدة للدين مسقمة للبدن.
وفيه من الفقه أن من حلف لا يأتدم فأكل خبزة بخل حنث.(4/254)
ومن باب في الثوم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثني عطاء بن أبي رباح أن جابر بن عبد الله قال، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته وأنه أُتني ببَدْر فيه خضرات من البقول وذكر الحديث.
قال الشيخ: قوله أتي ببدر يريد بطبق وسمي الطبق بدراً لاستدارته، ومنه سمي القمر قبل كماله بدراً وذلك لاستدارته وحسن اتساقه.
وقوله فليعتزل مسجدنا إنما أمره باعتزال المسجد عقوبة له وليس هذا من باب الأعذار التي تبيح للمرء التخلف عن الجماعة كالمطر والريح العاصف ونحوهما من الأمور، وقد رأيت بعض الناس صنف في الأعذار المانعة عن حضور الجماعة باباً ووضع فيها أكل الثوم والبصل وليس هذا من ذلك في شيء والله أعلم.
ومن باب القران بالتمر عند الأكل
قال أبو داود: حدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا ابن فضيل عن ابن إسحاق عن جبَلة بن سُحيم عن ابن عمر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القران إلاّ أن تستأذ أصحابك.
قال الشيخ: إنما جاء النهي عن القران لمعنى مفهوم وعلة معلومة وهي ما كان القوم من شدة العيش وضيق الطعام واعوازه، وكانوا يتجوزون في المأكل ويواسون من القليل فإذا اجتمعوا على الأكل تجافى بعضهم عن الطعام لبعض وآثر صاحبه على نفسه، غير أن الطعام ربما يكون مشفوهاً. وفي القوم من بلغ به الجوع الشدة فهو يشفق من فنائه قبل أن يأخذ حاجته منه فربما قرن بين التمرتين وأعظم اللقمة ليسد به الجوع وتشفى به القَرَمَ فأرشد(4/255)
النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيه وأمر بالاستئذان ليستطيب به نفس أصحابه فلا يجدوا في أنفسهم من ذلك إذا رأوه قد استأثر به عليهم، أما اليوم فقد كثر الخير واتسعت الرحال وصار الناس إذا اجتمعوا تلاطفوا على الأكل وتحاضوا على الطعام فهم لا يحتاجون إلى الاستئذان في مثل ذلك إلاّ أن يحدث حال من الضيق والاعواز تدعو الضرورة فيها إلى مثل ذلك فيعود الأمر إليه إذا عادت العلة والله أعلم.
ومن باب الجمع بين الشيئين في الأكل
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن نصير حدثنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الطبيخ بالرطب ويقول يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا.
قال الشيخ: فيه إثبات الطب والعلاج ومقابلة الشيء الضار بالشيء المضاد له في طبعه على مذهب الطب والعلاج؛ ومنه إباحة التوسع من الأطعمة والنيل من الملاذ المباحة، والطبيخ لغة في البطيخ.
ومن باب الأكل في آنية
أهل الكتاب والمجوس والطبخ فيها
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى واسماعيل عن برد بن سنان عن عطاء عن جابر قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها فلا يعيب ذلك عليهم.
قال الشيخ: ظاهر هذا يبيح استعمال آنية المشركين على الاطلاق من غير غسل لها وتنظيف، وهذه الإباحة مقيدة بالشرط الذي هو مذكور في الحديث الذي يليه في هذا الباب.(4/256)
قال أبو داود: حدثنا نصر بن عاصم حدثنا محمد بن شعيب أنبأنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر، عَن أبي عبيد الله مسلم بن مِشْكم، عَن أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا.
قال الشيخ: والأصل في هذا أنه إذا كان معلوماً من حال المشركين أنهم يطبخون في قدورهم لحم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمور فإنه لا يجوز استعمالها إلاّ بعد الغسل والتنظيف، فأما مياههم وثيابهم فإنها على الطهارة كمياه المسلمين وثبابهم إلاّ أن يكونوا من قوم لا يتحاشون النجاسات أو كان من عادتهم استعمال الأبوال في طهورهم فإن استعمال ثيابهم غير جائز إلاّ أن لا يعلم أنه لم يصبها شيء من النجاسات والله أعلم.
والرحض الغسل.
ومن باب الفأرة تقع في السمن
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه.
قال الشيخ: فيه دليل على أن المائعات لا تزال بها النجاسات وذلك انها إذا لم تدفع عن نفسها النجاسة فلأن لا تدفع عن غيرها أولى.
وقوله لا تقربوه يحتمل وجهين أحدهما لا تقربوه أكلاً وطعماً ولا يحرم(4/257)
الانتفاع به من غير الوجه استصباحاً وبيعاً ممن يستصبح به ويدهن به السفن ونحوها، ويحتمل أن يكون النهي في ذلك عاماً على الوجوه كلها.
وقد اختلف الناس في الزيت إذا وقعت فيه نجاسة فذهب نفر من أصحاب الحديث إلى أنه لا ينتفع به على وجه من الوجوه لقوله لا تقربوه. واستدلوا فيه أيضاً بما روي في بعض الأخبار أنه قال أريقوه.
وقال أبو حنيفة هو نجس لا يجوز أكله وشربه ويجوز بيعه والاستصباح به.
وقال الشافعي لا يجوز أكله ولا بيعه ويجوز الاستصباح به.
وقال داود إن كان هذا سمناً فلا يجوز تناوله ولا بيعه وإن كان زيتاً لم يحرم تناوله وبيعه وذلك أنه زعم أن الحديث إنما جاء في السمن وهو لا يعدو لفظه ولا يقبس عليه من طريق المعنى غيره.
ومن باب الذباب يقع في الطعام
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا بشر يعنى ابن المفضل عن ابن عجلان، عَن أبي سعيد المقبري، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقُلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله.
قال الشيخ: فيه من الفقه ان أجسام الحيوان طاهرة إلاّ ما دلت عليه السنة من الكلب وما ألحق به في معناه.
وفيه دليل على أن ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء القليل لم ينجسه، وذلك إن غمس الذباب في الإناء قد يأتي عليه فلو كان نجسه إذا مات فيه لم يأمره بذلك لما فيه من تنجيس الطعام وتضييع المال وهذا قول عامة العلماء،(4/258)
إلاّ أن الشافعي قد علق القول فيه فقال في أحد قوليه إن ذلك ينجسه.
وقد روي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال في العقرب يموت في الماء أنها تنجسه وعامة أهل العلم على خلافه.
وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له وقال كيف يكون هذا وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء وما أربها إلى ذلك.
قلت: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل وإن الذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أن الله سبحانه قد ألف بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها قوى الحيوان التي بها بقاؤها وصلاحها لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والشفاء في خزأين من حيوان واحد، وأن الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وأن تعسل فيه، وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحاً وتؤخر جناحاً لما أراد من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد والامتحان الذي هو مضمار التكليف وفي كل شيء عبرة وحكمة وما يذكر إلاّ أولو الألباب.
ومن باب اللقمة تسقط
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل لعق أصابعه الثلاث، وقال إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان. وأمرنا أن نسلت الصحيفة وقال إن أحدكم لا يدري في أي طعامه يبارك له.(4/259)
قال الشيخ: سلت الصحيفة تتبع ما يبقى فيها من الطعام ومسحها بالإصبع ونحوه، ويقال سلت الرجل الدم عن وجهه إذا مسحه بأصبعه وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في لعق الأصابع وسلت الصحيفة، وهو قوله فإنه لا يدري في أي طعامه يبارك له. يقول لعل البركة فيما لعق بالأصابع والصحفة من لطخ ذلك الطعام. وقد عابه قوم أفسدت عقولهم الترفه وغير طباعهم الشبع والتخمة وزعموا أن لعق الأصابع مستقبح أو مستقذر كأنهم لم يعلموا أن الذي علق بالإصبع أو الصحفة جزء من أجزاء الطعام الذي أكلوه وازدردوه فإذا لم يكن سائر أجزائه المأكولة مستقذرة لم يكن هذا الجزء اليسير منه الباقي في الصحفة واللاصق بالأصابع مستقذراً كذلك. وإذا ثبت هذا فليس بعده شيء أكثر من مسه أصابعه بباطن شفتيه وهو ما لا يعلم عاقل به بأساً إذا كان المساس والممسوس جميعاً طاهرين نظيفين. وقد يتمضمض الإنسان فيدخل اصبعه في فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه فلم ير أحد ممن يعقل أنه قذارة أو سوء أدب فكذلك هذا لا فرق بينهما في منظر حسٍّ ولا مخبر عقل.
ومن باب اقعاد الخادم على الطعام
قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا داود بن قيس عن موسى بن يسار، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صنع لأحدكم خادمُه طعاماً ثم جاءه به فليقعده معه فليأكل فإن كان الطعام مشفوهاً فليضع في يده منه أُكلة أو أكلتين.
قال الشيخ: المشفوه القليل وقيل له مشفوه لكثرة الشفاه التي تجتمع على أكله والأكلة مضمومة الألف اللقمة والأكلة بفتحها المرة الواحدة من الأكل.(4/260)
وفيه دليل على أنه ليس بالواجب على السيد أن يسوي بينه وبين مملوكه وبين نفسه في المأكل إذا كان ممن يعتاد رقيق الطعام ولذيذه وإن كان مستحباً له أن يواسيه منه وإنما عليه أن يشبعه من طعام يقيمه كما ليس عليه أن يكسيه من خير الثياب وثمينه الذي يلبسه وإنما عليه أن يستره بما يقيه الحر في الصيف والبرد في الشتاء وعلى كل حال فإنه لا يخليه من مواساة واتحاف من خاص طعامه إن لم يكن مواساة ومفاوضة والله أعلم.
ومن باب ما يقول الرجل إذا طعم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثور عن خالد بن معدان، عَن أبي امامة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفعت المائدة قال الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا.
قال الشيخ: قوله غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا، معناه أن الله سبحانه هو المطعم والكافي وهو غير مطعَم ولا مكفي كما قال سبحانه: {وهو يطعم ولا يطعم} الأنعام: 14] وقوله ولا مودع أي غير متروك الطلب إليه والرغبة فيما عنده، ومنه قوله سبحانه {ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى: 3] أي ما تركك ولا أهانك ومعنى المتروك المستغنى عنه.
كتاب الأشربة
ومن باب تحريم الخمر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان حدثني الشعبي عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قال نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل.(4/261)
قال الشيخ: فيه البيان الواضح أن قول من زعم من أهل الكلام أن الخمر إنما هو عصير العنب النيء الشديد منه وإن ما عدا ذلك فليس بخمر باطل.
وفيه دليل على فساد قول من زعم أن لا خمر إلاّ من العنب والزبيب والتمر ألا ترى أن عمر ضي الله عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت وهي تتخذ من الحنطة والشعير والعسل كما أخبر أنها كانت تتخذ من العنب والتمر وكانوا يسمونها كلها خمراً، ثم ألحق عمر رضي الله عنه بها كل ما خامر العقل من شراب وجعله خمراً إذ كان في معناها لملابسته العقل ومخامرته إياه، وفيه إثبات القياس والحاق حكم الشيء بنظيره.
وفيه دليل على جواز إحداث الاسم للشيء من طريق الاشتقاق بعد أن لم يكن.
ومن باب الخمر مما هي
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من العنب خمراً وإن من التمر خمراً وإن من العسل خمراً وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً.
قال الشيخ: فيه تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بما قال عمر رضي الله عنه وأخبر عنه في الحديث الأول من كون الخمر عن هذه الأشياء، وليس معناه أن الخمر لا يكون إلاّ من هذه الخمسة بأعيانها وإنما جرى ذكرها خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان فكل ما كان في معناها من ذرة وسلت ولب ثمرة وعصارة شجرة فحكمه حكمها كما قلناه في الربا ورددنا إلى الأشياء الأربعة المذكورة في الخبر كل ما كان في معناها من غير المذكور فيه.(4/262)
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى، عَن أبي كثير وهو يزيد بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة.
قال الشيخ: هذا غير مخالف لما تقدم ذكره من حديث النعمان بن بشير وإنما وجهه ومعناه أن معظم ما يتخذ من الخمر إنما هو من النخلة والعنبة وإن كانت الخمر قتد تتخذ أيضاً من غيرهما وإنما هو من باب التأكيد لتحريم ما يتخذ من هاتين الشجرتين لضراوته وشدة سورته وهذا كما يقال الشبع في اللحم والدفء في الوبر ونحو ذلك من الكلام. وليس فيه نفي الشبع عن غير اللحم ولا نفي الدفء عن غير الوبر ولكن فيه التوكيد لأمرهما والتقديم لهما على غيرهما في نفس ذلك المعنى والله أعلم.
ومن باب في الخمر تتخذ خلاً
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي، عَن أبي هبيرة عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً قال أهرقها قال أفلا أجعلها خلاً قال لا.
قال الشيخ: في هذا بيان واضح أن معالجة الخمر حتى تصير خلاً غير جائز ولو كان إلى ذلك سبيل لكان مال اليتيم أولى الأموال به لما يجب من حفظه وتثميره والحيطة عليه، وقد كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وفي إراقته إضاعته فعلم بذلك أن معالجته لا تطهره ولا ترده إلى المالية بحال، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وكره ذلك سفيان وابن المبارك.(4/263)
وقال مالك لا أحب لمسلم ورث خمراً أن يحبسها يخللها ولكن إن فسدت خمر حتى تصير خلاً لم أر بأكله بأساً؛ وقيل لابن المبارك كيف يتخذ الخل بأن لا يأثم الرجل، قال انظر خلاً نقيفاً فصب عليه قدر ما لا يغلبه العصير، فإن غلبه العصير لم يغل. وقال أحمد نحواً من ذلك، وقال ما يعجبني أن يكون في بيت الرجل المسلم خمر ولكن يصب على العصير من الخل حتى يتغير، ورخص في تخليل الخمر ومعالجتها عطاء بن أبي رباح وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب أبو حنيفة وشبهه بعضهم بدباغ جلد الميتة، وقال هو محرم يستباح بالعلاج ويستصلح له فكذلك الخمر، وهذا غير مشبه لذلك وإنما يجوز القياس مع عدم النص وههنا نص من السنة وقد منع منه وفي الدباغ نص سنة رخص فيه ودعا إليه فالواجب علينا متابعة كل منهما وترك قياس أحدهما على الآخر.
وقد فرق العلماء في الحكم بين أشياء تتغير بذاتها وبين ما يصير منها إلى التغير بفعل فاعل كالرجل يموت حتف أنفه فيرثه ابنه ولو قتله الابن لم يرثه.
وقد حرم الله صيد الحرم في الحرم، فلو خرج الصيد فأخذ في الحل جاز أكله ولو أخرجه مخرج فذبحه خارج الحرم لم يحل.
ومن باب النهي عن المسكر
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود ومحمد بن عيسى في آخرين قالوا حدثنا حماد، يَعني ابن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل مسكر حرام، ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها لم يشربها في الآخرة.
قال الشيخ: قوله كل مسكر خمر يتأول على وجهين أحدهما أن الخمر اسم(4/264)
لكل ما وجد فيه السكر من الأشربة كلها؛ ومن ذهب إلى هذا زعم أن للشريعة أن تحدث الأسماء بعد أن لم تكن. كما لها أن تضع الأحكام بعد أن لم تكن.
والوجه الآخر أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة ووجوب الحد على شاربه وإن لم يكن عين الخمر، وإنما ألحق بالخمر حكماً إذ كان في معناها. وهذا كما جعل النباش في حكم السارق والمتلوط في حكم الزاني وإن كان كل واحد منهما يختص في اللغة باسم غير الزنى وغير السرقة.
وقوله من مات وهو يشرب الخمر يدمنها فإن مدمن الخمر هو الذي يتخذها ويعاقرها، وقال النضر بن شميل من شرب الخمر إذا وجدها فهو مدمن للخمر وإن لم يتخذها.
وقوله لم يشربها في الآخرة معناه لم يدخل الجنة لأن شراب أهل الجنة خمر إلاّ أنه لا غول فيها ولا نزف.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِتْع فقال كل شراب أسكر فهو حرام.
قال الشيخ: البتع شراب يتخذ من العسل وفي هذا إبطال كل تأول يتأوله أصحاب تحليل الأنبذة في أنواعها كلها وافساد قول من زعم أن القليل من المسكر مباح، وذلك أنه سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس فدخل فيه القليل والكثير منها. ولو كان هناك تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يبهمه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل، يَعني ابن جعفر عن داود(4/265)
بن بكر بن الفُرات عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام.
قال الشيخ: هذا أوضح البيان أن الحرمة شاملة لأجزاء المسكر وأن قليله ككثيره في الحرمة، والاسكار في هذا الحديث وإن كان مضافاً إلى كثيره فان قليله مسكر على سبيل التعاون كالزعفران يطرح اليسير منه في الماء فلا يصبغه حتى إذا أمدَّ بجزء بعد جزء منه فإذا كثر ظهر لونه وكان الصبغ والتلوين مضافاً إلى جميع أجزائه على سبيل التعاون.
وتأوله بعضهم تأولاً فاسداً فقال إنما وقعت الإشارة بقول فقليله حرام إلى الشربة الآخرة أو إلى الجرعة التي يحدث السكر عقيب شربها لأن الفعل إنما يضاف إلى سببه وسبب السكر هو الشربة الآخرة التي حدث السكر على أثرها لا ما تقدمها منه حين السكر معدوم.
قلت وهذا تأويل فاسد إذ كان مستحيلاً في العقول وشهادات المعارف أن يعجز كثير الشيء عما يقدر عليه قليله. ولو كان الأمر على ما زعموه لكان لقائل أن يقول إن الله حرم علينا شيئاً لم يجعل لنا طريقاً إلى معرفة عينه لأن الشارب لا يعلم متى يقع السكر به ومن أي أجزاء الشراب يحدث فيه وهذا فاسد لا وجه له، ولو توهمنا الجزء الآخر مشروباً مفرداً عن غيره غير مضاف ولا مجموع إلى ما تقدمها لم يتوهم وجود السكر فيه حين انضم إلى سائر الأجزاء توهمنا وجوده فعلمنا أن السكر إنما حصل بمجموع أجزائه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي بن ميمون حدثنا عثمان الأنصاري عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/266)
يقول كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرَق فملء الكف منه حرام.
قال الشيخ: الفرق مكيلة تسع ستة عشر رطلاً وفي هذا أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب المسكر.
وفيه حجة على من زعم أن الإسكار لا يضاف إلى الشراب لأن ذلك من فعل الله سبحانه.
قلت والأمر وإن كان صحيحاً في إضافة الفعل إلى الله عز وجل فإنه قد يصح أن يضاف إلى الشراب على معنى أن الله تعالى قد أجرى العادة بذلك كما أن إضافة الاشباع إلى الطعام والارواء إلى الشراب صحيح إذ كان قد أجرى الله العادة به.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد عن عبيدة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وقال كل مسكر حرام.
قال الشيخ: الميسر القمار، والكوبة يفسر بالطبل ويقال هو النرد ويدخل في معناه كل وتر ومزهر في نحو ذلك من الملاهي والغناء.
قال أبو عبيد الغبيراء هو السُّكُرْكة يعمل من الذرة شراب يصنعه الحبشة.
وفي قوله كل مسكر حرام دليل على تحريم الوضوء بالنبيذ المسكر.
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو شهاب عبد ربه بن نافع عن الحسن بن عمرو الفُقيمي عن الحكم بن عتيبة عن شهر بن حوشب عن أم سلمة قالت نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر.
قال الشيخ: المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأطراف وهو(4/267)
مقدمة السكر نهى عن شربه لئلا يكون ذريعة إلى السكر والله أعلم.
ومن باب في الأوعية
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا منصور بن حبان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما قالا نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفَّت والحنتم والنَّقير.
قال الشيخ: الدباء القرع قال أبو عبيد قد جاء تفسيرها في الحديث، عَن أبي بكرة أنه قال اما الدباء فإنا معاشر ثقيف كنا بالطائف نأخذ الدباء فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها حتى تهدر ثم تموت.
وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ويدعونه حتى يهدر ثم يموت، وأما الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر وأما المزفت فهذه الأوعية التي فيها الزفت.
قلت وإنما نهى عن هذه الأوعية لأن لها ضراوة يشتد فيها النبيذ ولا يشعر بذلك صاحبها فتكون على غرر من شربها.
وقد اختلف الناس في هذا فقال قائلون كان هذا في صلب الإسلام ثم نسخ بحديث بريدة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كنت نهيتكم عن الأوعية فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً، وهذا أصح الأقاويل.
وقال بعضهم الخطر باق وكرهوا أن ينتبذوا في هذه الأوعية وإليه ذهب مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق، وقد روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن نوح بن قيس حدثنا عبد الله بن عون(4/268)
عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس أنهاكم عن النقير والمقيَّر والحنْتم والدُّباء والمزادة المحبوبة ولكن اشرب في سقائك وأوكه.
قال الشيخ: قوله اشرب في سقائك وأوكه إنما قال ذلك من أجل أن السقاء الذي يشد ويوكي جلد رقيق فإذا حدثت فيه الشدة تقطع وانشق فلم يخف على صاحبه أمره، وهذه الأوعية صلبة متينة يتغير فيها الشراب وتشتد فلا يشعر صاحبها بذلك. وأما المزادة المحبوبة فهي التي ليست لها عزلاء من أسفلها تتنفس منها فالشراب قد يتغير فيها ولا يشعر به صاحبها.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا إسماعيل بن سُميع حدثنا مالك بن عمير عن علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجِعة.
قال الشيخ: قال أبو عبيد الجعة نبيذ الشعير.
ومن باب في الخليطين
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن شريك عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعاً، ونهى أن ينتبذ البسْر والرطب جميعاً.
قال الشيخ: قد ذهب غير واحد من أهل العلم إلى تحريم الخليطين وإن لم يكن الشراب المتخذ منهما مسكراً قولا بظاهر الحديث ولم يجعلوه معلولاً بالإسكار، وإليه ذهب عطاء وطاوس. وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق وعامة أهل الحديث وهو غالب مذهب الشافعي. وقالوا من شرب الخليطين قبل حدوث الشدة فهو آثم من جهة واحدة، وإذا شرب بعد حدوث الشدة كان(4/269)
آثماً من جهتين أحدهما شرب الخليطين والآخر شرب المسكر، ورخص فيه سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وقال الليث بن سعد إنما جاءت الكراهة أن ينبذا جميعاً لأن أحدهما يشد صاحبه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثابت بن عُمارة حدثتني رَبطة عن كبشة بنت أبي مريم قالت، سألت أم سلمة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه قالت كان ينهانا أن نعجم النوى طبخاً أو نخلط الزبيب والتمر.
قال الشيخ: قوله أن نعجُم النوى نريد أن نبلغ به النضيج إذا طبخنا التمر فعصدناه يقال عجمت النوى أعجمه عجماً إذا لكته في فيك، وكذلك إذا أنت طبخته أو أنضجته، ويشبه أن يكون إنما كره ذلك من أجل أنه يفسد طعم التمر أو لأنه علف الدواجن فتذهب قوته إذا هو نضج.
قال أبو داود: حدثنا زياد بن يحيى الحساني حدثنا أبو بحر حدثنا عتاب بن عبد العزيز الجِماني قال، حدثتني صفية بنت عطية قالت، دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة رضي الله عنها فسألناها عن التمر والزبيب فقالت كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فألقيه في إناء فأمرسه ثم اسقيه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: قولها امرسه تريد أنها تدلكه بأصابعها في الماء، والمرس والمرث بمعنى واحد. وفيه حجة لمن رأى الانتباذ بالخليطين.
ومن باب في نبيذ البسر
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن جابر بن زيد وعكرمة أنهما كانا يكرهان البسر وحده ويأخذان ذلك عن ابن عباس، وقال ابن عباس رضي الله عنه أخشى أن يكون المُزَّاء التي نهيت(4/270)
عنه عبد القيس، فقلت لقتادة ما المزاء فقال النبيذ في الحنتم والمزفت.
قال الشيخ: قد فسر قتادة المزاء وأخبر أنه النبيذ في الحنتم والمزفت، وذكره أبو عبيد فقال: ومن الأشربة المسكرة شراب يقال له المزاء ولم يفسره بأكثر من هذا وأنشد فيه الأخطل:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى فيهم المزاء والسكر
ومن باب صفة النبيذ
قال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد حدثنا ضمرة عن السيباني عن عبد الله بن الديلمي عن أبيه قال: قلت يا رسول الله إن لنا أعناباً ما نصنع بها قال زببوها قال ما نصنع بالزبيب، قال انبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم وانبذوه على عشائكم واشربوه على غدائكم وانبذوه في الشِّنان ولا تنبذوه في القُلل فإنه إذا تأخر عن عصره صار خلاً.
قال الشيخ: الشنان الأسقية من الأدم وغيرها واحدها شن، وأكثر ما يقال ذلك في الجلد الرقيق أو البالي من الجلود، والقلل الجرار الكبار واحدتها قلة، ومنه الحديث إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يُوكأ أعلاه وله عَزلاء ينبذه غُدوة ويشربه عِشاء، وينبذه عشاء فيشربه غدوة.
قال الشيخ: العزلاء فم المزادة وقد يكون ذلك للسقاء من أسفله ويجمع على العزالي.(4/271)
ومن باب شرب العسل
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج عن عطاء أنه سمع عبيد بن عمير قال: عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تخبر ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً فتواصيت أنا وحفصة ايتُّنا ما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزلت {لِمَ ترحم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك - إلى - أن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 1] لعائشة وحفصة رضي الله عنهما {وإذ أسرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً} [التحريم: 3] لقوله بل شربت عسلاً.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل فذكر هذا الخبر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح.
قال الشيخ: وفي الحديث قالت سودة بل أكلت مغافير، قال بل شربت عسلاً سقتني حفصة فقالت جرستْ نحله العُرْفُطَ.
والمغافير واحدها مغفور، ويقال له أيضاً مغثور، والفاء والثاء يتعاقبان كما قالوا فوم وثوم وجدث وجدف وهو شيء يتولد من العرفط حلو كالناطف وريحه منكر، والعرفط شجر له شوك، وقوله جرست نحلحه العرفط أى أكلت، ويقال للنحل جوارس.
وفي هذا الحديث دليل على أن يمين النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقعت في تحريم العسل لا في تحريم أم ولده مارية القبطية كما زعمه بعض الناس.(4/272)
ومن باب الشرب من في السقاء
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء وعن ركوب الجلاَّلة والمُجثَمَّة.
قال الشيخ: المجثمة هي المصبورة وذلك أنها قد جثمت على الموت أي حبست عليه بأن توثق وترمى حتى تموت، وأصل الجثوم في الطير، يقال جثم الطائر وبرك البعير، وربضت الشاة، وبين الجاثم والمجثم فرق. وذلك أن الجاثم من الصيد يجوز لك أن ترميه حتى تصطاده والمجثم هو ما ملكته فجثمته وجعلته غرضاً ترميه حتى تقتله وذلك محرم.
وأما الشرب من في السقاء فأما يكره ذلك من أجل ما يخاف من أذى عساه يكون فيه لا يراه الشارب حتى يدخل جوفه فاستحب أن يشربه في إناء طاهر يبصره.
وروي أن رجلاً شرب من في سقاء فانساب جان فدخل جوفه.
ومن باب اختناث الأسقية
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري سمع عبيد الله بن عبد الله، عَن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اختناث الأسقية.
قال الشيخ: معنى الاختناث فيها أن يثني رؤوسها ويعطفها ثم يشرب منها ومن هذا سمي المخنث وذلك لتكسره وتثنيه.
وقد قيل إن المعنى في النهي عن ذلك أن الشرب إذا دام فيها خنثت وتغيرت رائحتها.(4/273)
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اختنث فم الإداوة ثم اشرب من فيها.
وقد ذكره أبو داود في هذا الباب فيحتمل أن يكون النهي إنما جاء عن ذلك إذا شرب من السقاء الكبير دون الأداوي ونحوها، ويحتمل أن يكون إنما أباحه للضرورة والحاجة إليه في الوقت، وإنما المنهي عنه أن يتخذه الإنسان دربة وعادة. وقد قيل إنما أمره بذلك لسعة فم السقاء لئلا ينصب عليه الماء والله أعلم.
ومن باب الشرب من ثُلمة القدح والنفخ في الشراب
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني قرة بن عبد الرحمن عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح وأن ينفخ في الشراب.
قال الشيخ: إنما نهى عن الشراب من ثلمة القدح لأنه إذا شرب منها تصبب الماء وسال قطره على وجهه وثوبه لأن الثلمة لا تتماسك عليها شفة الشارب كما تتماسك على الموضع الصحيح من الكوز والقدح. وقد قيل إنه مقعد الشيطان فيحتمل أن يكون المعنى في ذلك أن موضع الثلمة لا ينال التنظيف التام إذا غسل الإناء فيكون شربه على غير نظافة وذلك من فعل الشيطان وتسويله، وكذلك إذا خرج الماء فسال من الثلمة فأصاب وجهه وثوبه فإنما هو من اعنات الشيطان وايذائه إياه والله أعلم.
ومن باب الشرب قائماً
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائماً.(4/274)
قال الشيخ: هذا نهي تأديب وتنزيه لأنه أحسن وأرفق بالشارب وذلك لأن الطعام والشراب إذا تناولهما الإنسان على حال سكون وطمأنينة كانا أنجع في البدن وأمرأ في العروق، وإذا تناولهما على حال وفاز وحركة اضطربا في المعدة وتخضخضا فكان منه الفساد وسوء الهضم.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً.
وقد رواه أبو داود في هذا الباب فكان ذلك متأولاً على الضرورة الداعية إليه وإنما فعله صلى الله عليه وسلم بمكة شرب من زمزم قائماً، ومعلوم أن القعود والطمأنينة كالمتعذر في ذلك المكان مع ازدحام الناس عليه وتكابسهم في ذلك المقام ينظرون إليه ويقتدون به في نسكهم وأعمال حجهم؛ فترخص فيه لهذا ولما أشبه ذلك من الأعذار والله أعلم.
ومن باب النفخ في الشراب والتنفس فيه
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا ابن عيينة عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتنفس في الإناء أو ينفخ فيه.
قال الشيخ: قد يحتمل أن يكون النهي عن ذلك من أجل ما يخاف أن يبدر من ريقه ورطوبة فيه فيقع في الماء وقد تكون النكهة عن بعض من يشرب متغيرة فتعلق الرائحة بالماء لرقته ولطافته فيكون الأحسن في الأدب أن يتنفس بعد إبانة الإناء عن فمه وأن لا يتنفس فيه لأن النفخ إنما يكون لأحد معنيين فإن كان من حرارة الشراب فليصبر حتى يبرد، وإن كان من أجل قذى يبصره فيه فليمطه بإصبع أو بخلال أو نحوه ولا حاجة به إلى النفخ فيه بحال.(4/275)
ومن باب ما يقول إذا شرب اللبن (1)
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد عن عمرو بن حرملة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت في بيت ميمونه فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خالد بن الوليد فجاؤوا بضبين مثسويين على ثُمامتين فتبزَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد أخالك تقذره يا رسول الله فقال أجل، وذكر الحديث.
قال الشيخ: الثمامتان عودان واحدتهما ثمامة، والثمام شجر دقيق العود ضعيفه قال الشاعر:
ولو أن ما أبقيت مني معلق ... بعود ثمام ما تأود عودها
(1) كذا في الأصل، والحديث المذكور في الباب يتعلق بأكل الضب وليس بشرب اللبن.
ومن باب إيكاء الآنية
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أغلق بابك واذكر اسم الله فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً واطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه.
قال الشيخ: قوله خمر إناءك يريد غطه، ومنه سمي الخمار الذي يقنع به الرأس وسميت الخمر لمخامرتها العقل، والخمر ما واراك من الشجر والأشب.
وقوله تعرضه كان الأصمعي يرويه تعرضه بضم الراء. وقال غيره بكسرها.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وفضيل بن عبد الوهاب السُّكري قالا: حَدَّثنا حماد عن كثير بن شِنظير عن عطاء عن جابر رفعه قال: اكفتوا صبيانكم عند العشاء فإن للجبن انتشاراً أو خطْفة.
قال الشيخ: قوله اكفتوا صبيانكم معناه ضموهم إليكم وادخلوهم البيوت(4/276)
وكل شيء ضممته إليك فقد كفته، ومن هذا قول الله سبحانه {ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً} [المرسلات: 25] أي انها تضمهم إليها ما داموا أحياء على ظهرها فإذا ماتوا ضمتهم إليها في بطنها.
كتاب الذبائح
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن هشام بن زيد قال دخلت مع أنس على الحكم بن أيوب فرأى فتياناً أو غلماناً قد نصبوا دجاجة يرمونها فقال أنس نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُصْبر البهائم.
قال الشيخ: أصل الصبر الحبس ومنه قيل قتل فلان صبراً أي قهراً أو حبساً على الموت. وإنما نهي عن ذلك لما فيه من تعذيب البهيمة وأمر بإزهاق نفسها بأوجأ الذكاة واخفها.
ومن باب أكل ذبائح أهل الكتاب
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله، فأنزل الله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] الآية.
قال الشيخ: في هذا دلالة على أن معنى ذكر اسم الله على الذبيحة في هذه الآية ليس باللسان، وإنما معناه تحريم ما ليس بالمذكى من الحيوان، فإذا كان الذابح ممن يعتقد الاسم وإن لم يذكره بلسانه فقد سمى، وإلى هذا ذهب ابن عباس في تأويل الاية.(4/277)
ومن باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، قال: حَدَّثنا حماد بن مسعدة عن عوف، عَن أبي ريحانة عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب.
قال الشيخ: هو أن يتبارى الرجلان كل واحد منهما يجاود صاحبه فيعقر هذا عدداً من إبله ويعقر صاحبه فأيهما كان أكثر عقراً غلب صاحبه ونفره. كره أكل لحومها لئلا تكون مما أهل به لغير الله، وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان، وأوان حدوث نعمة تتجدد لهم في نحو ذلك من الأمور.
ومن باب الذبيحة في المروة
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو الأحوص، قال: حَدَّثنا سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إنا نلقى العدو غداً وليس معنا مُدَىَّ أفنذبح بالمَرْوة وشقة العصا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرِنْ أو أعجل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سن أو ظُفر وسأحدثكم عن ذلك. أما السن فعظم وأما الظفر فمُدَى الحبشة وتقدم به سرعان من الناس فتعجلوا فأصابوا من الغنائم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الناس فنصبوا قدوراً فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدور فأمر بها فأكفئت وقسم بينهم فعدل بعير بعشر شياه وند بعير من إبل القوم لم يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه الله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما فعل منها هذا فافعلوا به مثل هذا.
قال الشيخ: قوله أرن صوابه ائرن بهمزة، ومعناه خف واعجل لئلا تخنقها(4/278)
فإن الذبح إذا كان بغير الحديد احتاج صاحبه إلى خفة يده وسرعته في إمرار الآلة على المري والحلقوم والأوداج كلها والإتيان عليها قطعاً قبل هلاك الدبيحة بما ينالها من ألم الضغط قبل قطع مذابحها وفسر به في غريب الحديث.
وفيه دلالة على أن العظم كذلك لأنه لما علل بالسن قال لأنه عظم فكل عظم من العظام يجب أن يكون الذكاة به محرمة غير جائزة.
وقال أصحاب الرأي إذا كان العظم والسن بائنين من الأسنان فوقع بها الذكاة حل. وإن ذبحها بسنه أو ظفره وهما غير منزوعين من مكانهما من بدنه فهو محرم.
وقال مالك إن ذكى بالعظم فمر مراً أجزأه. وقال بعض أصحاب الشافعي إن العظم إذا كان من مأكول اللحم وقعت الذكاة، وكافة أصحابه على خلاف ذلك، وسواء عندهم كان الظفر والسن منفصلين من الإنسان أو لا.
قلت، وهذا خاص في المقدور على ذكاته فإن الذكاة في المقدور عليه ربما وقعت بألسن الكلب المعلم وبأسنان سائر الجوارح المعلمة وبأظفارها ومخالبها. وسرعان الناس هم الذين تقدموا في السير بين أيدي الأصحاب.
ويشبه أن يكون إكفاء القدور لأن الذي فيها لم يكن دارت عليه سهام القسمة بعد.
وقوله أوابد كأوابد الوحش فالأوابد هي التي قد توحشت ونفرت، يقال أبد الرجل وبوداً إذا توحش وتخلى، ويقال هذه أبدة من الأوابد إذا كانت نادرة في بابها لا نظير لها في حسنها.
وفيه بيان أن المقدور عليه من الدواب الانسية إذا توحش فامتنع صار حكمه(4/279)
في الذكاة حكم الوحشي غير المقدور عليه.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن سماك بن حرب عن مُرِّي بن قَطَري عن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله أرأيت ان أحدُنا أصاب صيداً وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشِقة العصا، قال أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله.
قال الشيخ: المروة حجارة بيض، قال الأصمعي وهي التي يقدح منها النار. وإنما تجزي الذكاة من الحجر بما كان له حد يقطع.
وقوله أمرر الدم أي أسِله وأجره، يقال مريت الدم من عيني أمريه مرياً ومريت الناقة إذا حلبتها وهي مرية، والمري الناقة ذات الدر وهي إذا وضعت أخذوا حُوارها فأكلوه ثم راموها على جلده بعد أن يحشوه بتبن أو مشاقة ونحوها فيبقى لبنها وتدر عليه زماناً طويلاً.
وأصحاب الحديث يروونه أمر الدم مشددة الراء وهو خطأ والصواب ساكنة الميم خفيفة الراء.
ومن باب ذبيحة المتردية
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حَدَّثنا حماد بن سلمة، عَن أبي العشراء عن أبيه أنه قال يا رسول الله أما تكون الذكاة إلاّ من اللَّبَة أو الحلق قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك.
قال الشيخ: هذا في ذكاة غير المقدور عليه فأما المقدور عليه فلا يذكيه إلاّ قطع المذابح لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم وضعفوا هذا الحديث لأن راويه مجهول وأبو العشراء الدارمي لا يدرى من أبوه ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة.(4/280)
واختلفوا فيما توحش من الأوانس فقال أكثر العلماء إذا جرحته الرمية فسال الدم فهو ذكي وإن لم يصب مذابحه.
وقال مالك لا يكون هذا ذكاة حتى تقطع المذابح، قال وحكم الأنعام لا يتحول بالتوحش.
ومن باب المبالغة في الذبح
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري والحسن بن عيسى مولى ابن المبارك عن ابن المبارك عن معمر عن عمرو بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس زاد ابن عيسى وأبي هريرة قالا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان زاد ابن عيسى في حديثه وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تُفْرى الأوداج ثم تترك حتى تموت.
قال الشيخ: إنما سمى هذا شريطة الشيطان من أجل أن الشيطان هو الذي يحملهم على ذلك ويحسن هذا الفعل عندهم. وأخذت الشريطة من الشرط وهو شق الجلد بالمبضع ونحوه كأنه قد اقتصر على شرطه بالحديد دون ذبحه والإتيان بالقطع على حلقه.
ومن باب ذكاة الجنين
قال أبو داود: حدثنا القعنبي قال أخبرنا ابن المبارك (ح) وحدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا هشيم عن مجالد، عَن أبي الودّاك، عَن أبي سعيد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنين، فقال كلوه إن شئتم، وقال مسدد قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله، قال كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه.(4/281)
قال الشيخ: فيه بيان جواز أكل الجنين إذا ذكيت أمه وإن لم يحدث للجنين ذكاة. وتأوله بعض من لا يرى أكل الجنين على معنى أن الجنين تذكى كما تذكى أمه فكأنه قال ذكاة الجنين كذكاة أمه أي فذكوه على معنى قول الشاعر:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها
أي كأن عينيك عيناها في الشبه وجيدك جيدها. وهذه القصة تبطل هذا التأويل وتدحضه لأن قوله فإن ذكاته ذكاة أمه تعليل لإباحته من غير إحداث ذكاة ثانية فثبت أنه على معنى النيابة عنها.
وذهب أكثر العلماء إلى أن ذكاة الشاة ذكاة لجنينها، إلاّ أن بعضهم اشترط فيها الاشعار.
وقال أبو حنيفة لا يحل أكل الأجنة إلاّ ما خرج من بطون الأمهات حية فذبحت. قال ابن المنذر لم يرو عن أحد من الصحابة والتابعين وسائر علماء الأمصار أن الجنين لا يؤكل إلاّ باستئناف الذكاة فيه غير ما روي، عَن أبي حنيفة. قال ولا أحسب أصحابه وافقوه عليه.
ومن باب أكل اللحم لا يدرى أذكر اسم الله عليه أم لا
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد (ح) وحدثنا القعنبي عن مالك (ح) وحدثنا يوسف بن موسى، قال: حَدَّثنا سليمان بن حبان ومحاضر المعنى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ولم يذكرا عن حماد ومالك عن عائشة أنهم قالوا يا رسول الله إن قوماً حديثو عهد بجاهلية يأتون بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا أنأكل منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سموا الله وكلوا.(4/282)
قال الشيخ: فيه دليل على أن التسمية غير واجبة عند الذبح لأن البهيمة أصلها على التحريم حتى يتيقن وقوع الذكاة فهي لا تستباح بالأمر المشكوك فيه فلو كانت التسمية من شرط الذكاة لم يجز أن يحمل الأمر فيها على حسن الظن بهم فيستباح أكلها كما لو عرض الشك في نفس الذبح فلم يعلم هل وقعت الذكاة أم لا لم يجز أن تؤكل.
واختلفوا فيمن ترك التسمية على الذبح عامداً أو ساهياً، فقال الشافعي التسمية استحباب وليس بواجب وسواء تركها عامداً أو ساهياً، وهو قول مالك وأحمد.
وقال الثوري وأهل الرأي وإسحاق إن تركها ساهياً حلت وإن تركها عامداً لم تحل.
وقال أبو ثور وداود كل من ترك التسمية عامداً كان أو ساهياً فذبيحته لا تحل ومثله عن ابن سيرين والشعبي.
ومن باب في العتيرة
قال أبو داود: حدثنا مسدد (ح) وحدثنا نصر بن علي عن بشر بن المفضل المعنى، قال: حَدَّثنا خالد الحذاء، عَن أبي قلابة، عَن أبي المليح قال: قال بيشة نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا قال: اذبحوا لله في أي شهر كان وبَّروا الله وأطعموا قال إنا كنا نُفرع فَزَعاً في الجاهلية فما تأمرنا، قال في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل قال نصر استحمل للحجيج ذبحته فتصدقت بلحمه، قال خالد احسبه قال على ابن السبيل فإن ذلك خير، قال خالد قلت لأبي قلابة كم السائمة قال مائة.(4/283)
قال الشيخ: العتيرة النسيكة التي تعتر أي تذبح وكانوا يذبحونها في شهر رجب ويسمونها الرجبية، والفرَع أول ما تلده الناقة وكانوا يذبحون ذلك لآلهتهم في الجاهلية وهو الفرع مفتوحة الراء ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة قال أخبرنا سفيان عن الزهري عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا فرع ولا عتيرة.
قال الشيخ: وقال ابن سيرين من بين أهل العلم تذبح العتيرة في شهر رجب وكان روى فيها شيئاً. وقوله استحمل معناه قوي على الحمل.
ومن باب العقيقة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن حبيبة بنت ميسرة عن أم كرز الكعبية قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة.
قال الشيخ: وفسره أبو عبيد قريبا من هذا لأن حقيقة ذلك التكافؤ في السن يريد شاتين مسنتين تجوزان في الضحايا بأن لا تكون إحداهما مسنة والأخرى غير مسنة.
والعقيقة سنة في المولود لا يجوز تركها وهوقول أكثرهم، إلاّ أنهم اختلفوا في التسوية بين الغلام والجارية فيها، فقال أحمد بن حنبل والشافعي واسحاق بظاهر ماجاء في الحديث من أن في الغلام شاتين وفي الجارية شاة.
وكان الحسن وقتادة لايريان عن الجارية عقيقة.
وقال مالك الغلام والجارية شاة واحدة سواء، وقال أصحاب الرأي إن شاء عتق وإن شاء لم يعتق.(4/284)
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كُرْز قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أقروا الطير على مَكِناتها، قالت وسمعته يقول عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة لا يضركم ذكراناً كن أم إناثاً.
قال الشيخ: قوله مكناتها قال أبو الزناد الكلابي لا نعرف للطير مكنات وإنما هي وُكُنات وهي موضع عش الطائر.
وقال أبو عبيد وتفسير المكنات على غير هذا التفسير يقول لا تزجروا الطير ولا تلتفتوا إليها أقروها على مواضعها التي جعلها الله لها من أنها لا تضر ولا تنفع وكلاهما له وجه.
وقال الشافعي كانت العرب تولع بالعيافة وزجر الطير فكان العربي إذا خرج من بيته غادياً في بعض حاجته نظر هل يرى طيراً يطير فيزجر سنوحه أو يردعه فإذا لم ير ذلك عمد إلى الطير الواقع على الشجر فحركه ليطير ثم ينظر أي جهة يأخذ فيزجره، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: اقروا الطير على أمكنتها لا تطيروها ولا تزجروها.
وقيل قوله أقروا الطير على مكناتها فيه كالدلالة على كراهة صيد الطير بالليل.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري، قال: حَدَّثنا همام، قال: حَدَّثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويُدَمَّى.
قال الشيخ: قال أحمد هذا في الشفاعة يريد أنه ان لم يعق عنه فمات طفلاً لم يشفع في والديه.(4/285)
وقوله رهينة بإثبات الهاء معناه مرهون فعيلبمعنى مفعول والهاء تقع في هذا للمبالغة يقال فلان كريمة قومه أي محل العقدة الكريمة عندهم وهذا عقيلة المتاع أي ثمرته.
وقيل قوله الغلام مرهون بعقيقته أي بأذى شعره واستدل بقوله فأميطوا عنه الأذى والأذى إنما هو مما علق به من دم الرحم.
وفيه من السنة حلق رأس المولود في اليوم السابع، وقوله يدمى اختلف في تدميته بدم العقيقة، فكان قتادة يقول به ويفسره فيقول إذا ذبحت العقيقة يؤخذ منها صوفة واستقبلت بها أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل رأسه بعد ويحلق.
وقال الحسن يطلى بدم العقيقة رأسه وكره أكثر أهل العلم لطخ رأسه بدم العقيقة وقالوا أنه من كان من عمل الجاهلية كرهه الزهري ومالك وأحمد وإسحاق، وتكلموا في رواية هذا الحديث من طريق همام عن قتادة، فقالوا قوله يدمى غلط وإنما هو يسمى هكذا رواه شعبة عن قتادة وكذلك رواية سلام بن أبي مطيع عن قتادة، وكذلك رواه أشعث عن الحسن عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى. واستحب غير واحد من العلماء أن لا يسمى الصبي قبل سابعه. وكان الحسن ومالك يستحبان ذلك.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر الضبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى.(4/286)
قال الشيخ: معنى إماطة الأذى حلق الرأس وإزالة ما عليه من الشعر وإذا أمر بإماطة ما خف من الأذى وهو الشعر الذي على رأسه فكيف يجوز أن يأمرهم بلطخه وتدميته مع غلظ الأذى في الدم وتنجيس الرأس به. وهذا يدلك على أن من رواه ويسمى أصح وأولى.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي، قال: حَدَّثنا داود بن قيس عن عمرو بن شعيب عن أبيه أراه عن جده قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال لا يحب الله العقوق كأنه كره الاسم وقال من ولد له فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة، وسئل عن الفَرع قال: والفرع حق وإن تتركوه حتى يكون بكراً شُغْزُباً ابن مخاض او ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبَره وتَكفأ إناءك وتُولِّه ناقتك.
قال الشيخ: قوله لا يحب الله العقوق ليس فيه توهين لأمرالعقيقة ولا إسقاط لوجوبها وإنما استبشع الاسم وأحب أن يسميه بأحسن منه فليسمها النسيكة أو الذبيحة.
واختلف أهل اللغة في اشتقاق اسم العقيقة، فقال بعضهم العقيقة اسم الشعر يحلق فسميت الشاة عقيقة على المجاز إذ كانت إنما تذبح بسبب حلاق الشعر. وقال بعضهم بل العقيقة هي الشاة نفسها، وسميت عقيقة لأنها تعق مذابحها أي تشق وتقطع، يقال عق البرق في السحاب والعق إذا تشقق فتشظى له شظايا في وجه السحاب، قالوا ومن هذا عقوق الولد أباه وهو قطيعته وجفوته.
وقوله حتى يكون بكراً شغزباً هكذا رواه أبو داود وهو غلط والصواب(4/287)
حتى يكون بكراً زُخْرُبّاً وهو الغليظ، كذا رواه أبو عبيد وغيره.
ويشبه أن يكون حرف الزاي قد أبدل بالسين لقرب مخارجهما وأبدل الخاء غينا لقرب مخرجهما فصار سغرباً فصحفه بعض الرواة فقال شغزباً.
وقوله وتكفأ إناءك يريد بالإناء المحلب الذي تحلب فيه الناقة، يقول إذا ذبحت حُوارها انقطع مادة اللبن فتترك الإناء مكفأ ولا يحلب فيه.
وقوله توله ناقتك أي تفجعها بولدها وأصله من الوله وهو ذهاب العقل من فقدان إلف؛ وأنشد ابن الأعرابي:
وكنا خليطي في الجمال فأصبحت ... جمالي تُوالي وُلهاً من جِمالك
كتاب الصيد
ومن باب اتخاذ الكلب الصيد
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ كلباً إلاّ كلبَ ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط.
قال الشيخ: كان ابن عمر لا يذكر في هذا الحديث كلب الزرع وقيل له إن أبا هريرة ذكر كلب الزرع فقال إن لأبي هريرة زرعاً فتأوله بعض من لم يوفق للصواب على غير وجهه، وذهب إلى أنه قصد بهذا القول إنكاره والتهمة له من أجل حاجته إلى الكلب لحراسة زرعه وليس الأمر كما قال، وإنما أراد ابن عمر تصديق أبي هريرة وتوكيد قوله وجعل حاجته إلى ذلك شاهداً له على علمه ومعرفته به لأن من صدقت حاجته إلى شيء كثرت مسألته عنه ودام(4/288)
طلبه له حتى يدركه ويحكمه، وقد رواه عبد الله بن مغفل المزنى وسفيان بن أبي وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا فيه الزرع كما ذكره أبو هريرة.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يزيد، قال: حَدَّثنا يونس عن الحسن عن عبد الله بن مغفَّل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم.
قال الشيخ: معناه أنه كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق حتى يأتي عليه كله فلا يبقي منه باقية لأنه ما من خلق لله تعالى إلاّ وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة. يقول إذا كان الأمر على هذا ولا سبيل إلى قتلهن كلهن فاقتلوا شرارهن وهي السود البهم وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهن في الحراسة. ويقال إن السود منها شرارها وعُقُرها.
وقال أحمد وإسحاق لا يحل صيد الكلب الأسود.
ومن باب في الصيد
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، قال: حَدَّثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم قلت إني أرسل الكلاب المعلمة فتمسك عليَّ أفآكل، قال إذا أرسلت الكلاب المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك، قلت وإن قتلن، قال: وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها قلت ارمي بالمعراض فأصيب أفآكل، قال: إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب فخزَق فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل.
قال الشيخ: ظاهره يدل على أنه إذا أرسل الكلب ولم يسم لم يؤكل، وهو(4/289)
قول أهل الرأي؛ إلاّ أنهم قالوا إن ترك التسمية ناسياً حل. وذهب من لا يرى التسمية شرطاً في الذكاة إلى أن المراد بقوله وذكرت اسم الله ذكر القلب، وهو أن يكون إرساله الكلب قصد الاصطياد به لا يكون في ذلك لاهياً أو لاعباً لا قصد له في ذلك.
وقوله ارمي بالمعراض فإن المعراض نصل عريض وفيه إزانة ولعله يقول إن أصابه بحده حتى نفذ في الصيد وقطع سائر جلده فكله، وهو معنى قوله فخزق. وإن كان إنما وقذه بثقله ولم يخزق فهو ميتة.
وقوله ما لم يشركها كلب ليس منها أي لعل إتلاف الروح لم يكن من قبل كلبك المعلم إنما كان من قبل الكلب غير المعلم.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبى شيبة، قال: حَدَّثنا معبد الله بن نمير، قال: حَدَّثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما علمت من كلب أوباز ثم أرسلته وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك، قلت وإن قتل، قال إذا قتله ولم يأكل منه شيئاً فإنما أمسكه عليك.
قال الشيخ: فيه بيان أن البازي والكلب سواء حكمهما في تحريم اللحم إذا أكلا من الصيد، وإلى هذا ذهب الشافعي. وفرق أصحاب الرأي بين الكلب والبازي، فقالوا يحرم في الكلب دون البازي. وإليه ذهب المزني قال وذلك لأن البازي يعلم بالطُّعم والكلب يعلم بترك الطُّعم.
وقد علق الشافعي أيضاً قوله في تحريم الصيد الذي قد أكل منه الكلب، فقال مرة أنه لا يحرم وهو قول مالك وأحسبه ذهب إلى حديث أبي ثعلبة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا هشيم أخبرث داود بن عمرو عن بسر(4/290)
بن عبيد الله، عَن أبي إدريس الخَولاني، عَن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب: إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله تعالى فكل وإن أكل منه وكل ما ردّت عليك يدك.
قال الشيخ: ويمكن أن يوفق بين الحديثين من الروايتين بأن يجعل حديث أبي ثعلبة أصلاً في الإباحة وأن يكون النهي في حديث عدي على معنى التنزيه دون التحريم.
ويحتمل أن يكون الأصل في ذلك حديث عدي بن حاتم ويكون النهي على التحريم البات، ويكون المراد بقوله وإن أكل فيما مضى من الزمان وتقدم منه لا في هذه الحال. وذلك لأن من الفقهاء من ذهب إلى أنه إذا أكل الكلب المعلم من الصيد مدة بعد أن كان لا يأكل فإنه يحرم كل صيد كان اصطاده قبل فكأنه قال كل منه وإن كان قد أكل فيما تقدم إذا لم يكن قد أكل في هذه الحالة.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رميت سهمك وذكرت اسم الله فوجدته من الغد ولم تجده في ماء ولا فيه أثر غير سهمك فكل، وإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها فلا تأكل لا تدري لعله قتله الذي ليس منها.
قال الشيخ: إنما نهاه عن أكله إذا وجده في الماء لإمكان أن يكون الماء غرقه فهلك من الماء لا من قتل الكلب. وكذلك إذا وجد فيه أثر لغير سهمه. والأصل أن الرخص تراعى فيها شرائطها التي لها وقعت الإباحة فمهما أخل بشيء منها عاد الأمر إلى التحريم الأصلي وهذا باب كبير من العلم.(4/291)
قال أبو داود: حدثنا الحسين بن معاذ بن خليف حدثنا عبد الأعلى حدثنا داود عن عامر عن عدي بن حاتم أنه قال يا رسول الله أحدنا يرمي فنقتفر أثره اليومين والثلاثة ثم يجده ميتاً وفيه سهمه أيأكل قال نعم إن شاء أو قال يأكل إن شاء.
قال الشيخ: قوله نقتفر معناه نتبع يقال اقتفرت أثر الرجل إذا تتبعته وقفرته وفيه دليل على أنه إذا علق به سهمه فقد ملكه وصار سهمه كيده فلو أنه رمى صيداً حتى أنشب سهمه فيه ثم غاب عنه فوجده رجل كان سبيله سبيل اللقطة وعليه تعريفه ورد قيمته إن كانت عينه باقية.
وفيه أنه قد شرط عليه أن يرمي فيه سهمه وهو أن يثبته بعينه، وقد علم أنه كان قد أصابه قبل أن يغيب عنه فإدا كان كذلك فقد علم أن ذكاته إنما وقعت برميته، فأما إذا رماه فلم يعلم أنه أصابه أم لا فتتبع أثره فوجده ميتاً وفيه سهمه فلا يأكل لأنه يمكن أن يكون غيره قد رماه بسهم فأثبته.
وقد يجوز أن يكون ذلك الرامي مجوسياً لا تحل ذكاته أو محرماً أو بعض من لا يستباح الصيد بذكاته.
وفي قوله فنقتفر أثره دليل على أنه ان أغفل تتبعه وأتى عليه شيء من الوقت ثم وجده ميتاً فإنه لا يأكله لأنه إذا تتبعه فلم يلحقه إلاّ بعد اليوم واليومين فهو مقدور وكانت الذكاة واقعة بإصابة السهم في وقت كونه ممتنعاً غير مقدور عليه. فأما إذا لم يتبعه وتركه يتحامل بالجراحة حتى هلك، فهذا غير مذكى لأنه لو اتبعه لأدركه قبل الموت فذكاه ذكاة المقدور عليه في الحلق واللبة، فإذا لم يفعل ذلك مع القدرة عليه صار كالبهيمة المقدور على ذكاتها بجرح في بعض(4/292)
أعضائها وتترك حتى تهلك بألم الجراحة.
وقال مالك بن أنس إن أدركه من يومه أكله وإلا فلا.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال الضرير قال: حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابياً يقال له أبو ثعلبة قال يا رسول الله إن لي كلياً مكلَّبة فأفتني في صيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكن عليك، قال ذكي وغير ذكي قال نعم قال وإن أكل منه قال وإن أكل منه، قال يا رسول الله أفتني في قوسي، قال كل ما ردت عليك قوسك، قال ذكي وغير ذكي، قال وإن تغيب عني، قال وإن تغيب عنك ما لم يُصَّلَّ أو تجد فيه أثراً غير سهمك. قال افتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها قال اغسلها وكل فيها.
قال الشيخ: المكلبة المسلطة على الصيد المضراة بالاصطياد وقوله ذكي وغير ذكي يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون أراد بالذكي ما أمسك عليه فأدركه قبل زهوق نفسه فذكاه في الحلق واللبة، وغير الذكي ما زهقت نفسه قبل أن يدركه.
والآخر أن يكون أراد بالذكي ما جرحه الكلب بسنه أو مخالبه فسال دمه وغير الذكي ما لم يجرحه.
وقد اختلف العلماء فيما قتله الكلب ولم يدمه فذهب بعضهم إلى تحريمه وذلك أنه قد يمكن أن يكون إنما قتله الكلب بالضغط والاعتماد فيكون في معنى الموقذة، وإلى هذا ذهب الشافعي في أحد قوليه.
وقوله ما لم يصل أي ما لم ينتن ويتغير ريحه يقال صلَّ اللحم وأصل لغتان.
قلت وهذا على معنى الاستحباب دون التحريم لأن تغيير ريحه لا يحرم أكله(4/293)
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل اهالة سنخة وهي المتغيرة الريح، وقد يحتمل أن يكون معنى قوله صل بأن يكون قد نهشه هامة فصل اللحم أي تغير لما سرى فيه من سمها فأسرع إليه الفساد.
وفيه النهي من طريق الأدب عن أكل ما تغير من اللحم بمرور المدة الطويلة عليه.
ومن باب الصيد يقطع منه قطعة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عَن أبي واقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة.
قال الشيخ: هذا في لحم البهيمة وأعضاءها المتصلة ببدنه دون الصوف المستخلف والشعر ونحوه. وكذلك هذا في الكلب يرسله فينتف من الصيد نتفة قبل أن يزهق نفسه، أو تصيبه الرمية فيكسر عنه عضواً وهو حي فإن ذلك كله محرم لأنه بان من البهيمة وهي حية فصار ميتة، فأما إذا فصده نصفين فإنه بمنزلة الذكاة له ويؤكلان جميعاً.
وقال أبو حنيفة إن كان النصف الذي فيه الرأس أصغر كان ميتة، وإن كان الذي يلي الرأس حلت القطعتان.
وعند الشافعي لا فرق وكلتاهما حلال لأنه إذا خرج الروح من القطعتين معاً في حالة واحدة فليس هناك إبانة ميتة عن حي بل هو ذكاة الكل لأن الكل صار ميتاً بهذا العقر فليس شيئاً منه تابعاً لشيء بل كله سواء في ذلك.(4/294)
كتاب شرح السنة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى بن فارس قالا: حَدَّثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان (ح) قال وحدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية حدثني صفوان حدثنا أزهر بن عبد الله الحرازي، قال أحمد، عَن أبي عامر الهوزي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فقال إلاّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال الا ان من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة، وزاد ابن يحيى وعمرو في حديثهما وأنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، قال عمر والكَلَب بصاحبه لا يبقي منه عرق ولا مفصل إلاّ دخله.
قال الشيخ: قوله ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة فيه دلالة على أن هذه الفرق كلها خارجة من الدين إذ قد جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم كلهم من أمته.
وفيه أن المتأول لا يخرج من المله وإن أخطأ في تأوله. وقوله كما يتجارى الكلب لصاحبه فإن الكلب داء يعرض للإنسان من عضة الكلب الكلِب وهو داء يصيب الكلب كالجنون. وعلامة ذلك فيه أن تحمر عيناه وأن لا يزال يدخل ذنبه بين رجليه وإذا رأى إنساناً ساوره فإذا عقر هذا الكلب إنساناً عرض له من ذلك أعراض رديئه، منها أن يمتنع من شرب الماء حتى يهلك عطشاً ولا يزال يستسقي حتى إذا سقي الماء لم يشربه، ويقال إن هذه العلة إذا استحكمت بصاحبها فقعد للبول خرج منه هنات مثل صورة الكلاب فالكلب(4/295)
داء عظيم إذا تجارى بالإنسان تمادى وهلك.
ومن باب مجانية أهل الأهواء وبغضهم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أنبأنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال سمعت كعب بن مالك وذكر ابن السرح قصة تخلفه عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة حتى إذا طال عليَّ تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي فسلمت عليه فو الله ما رد علي السلام ثم ساق الخبر في نزول توبته.
قال الشيخ: فيه من العلم أن تحريم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث إنما هو فيما يكون بينهما من قبل عتب وموجدة أو لتقصير يقع في حقوق العشرة ونحوها دون ما كان من ذلك في حق الدين فإن هجرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على مر الأوقات والأزمان ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه في غزوة تبوك فأمر بهجرانهم وأمرهم بالقعود في بيوتهم نحو خمسين يوماً على ما جاء في الحديث إلى أن أنزل الله سبحانه توبته وتوبة أصحابه فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم براءتهم من النفاق.
وفيه دلالة على أنه لا يحرج المرء بترك رد سلام أهل الأهواء والبدع.
وفيه دليل على أن من حلف أن لا يكلم رجلاً فسلم عليه أو رد عليه السلام كان حانثاً.(4/296)
ومن باب النهي عن الجدال في القرآن
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المراء في القرآن كفر.
قال الشيخ: اختلف الناس في تأويله فقال بعضهم معنى المراء هنا الشك فيه كقوله {فلا تك في مرية منه} [هود: 17] أي في شك، ويقال بل المراء هو الجدال المشكك فيه.
وتأوله بعضهم على المراء في قرآنه دون تأويله ومعانيه مثل أن يقول قائل هذا قرآن قد أنزله الله تبارك وتعالى، ويقول الآخر لم ينزل الله هكذا فيكفر به من أنكره، وقد أنزل سبحانه كتابه على سبعة أحرف كلها شاف كاف فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن إنكار القراءة التي يسمع بعضهم بعضاً يقرؤها وتوعدهم بالكفر عليها لينتهوا عن المراء فيه والتكذيب به إذ كان القرآن منزلاً على سبعة أحرف وكلها قرآن منزل يجوز قراءته ويجب علينا الإيمان به.
وقال بعضهم إنما جاء هذا في الجدال بالقرآن في الآي التي فيها ذكر القدر والوعيد وما كان في معناهما على مذهب أهل الكلام والجدل وعلى معنى ما يجري من الخوض بينهم فيها دون ما كان منها في الأحكام وأبواب التحليل والتحريم والحظر والإباحة فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنازعوها فيما بينهم وتحاجوا بها عند اختلافهم في الأحكام ولم يتحرجوا عن التناظر بها وفيها. وقد قال سبحانه {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59] فعلم أن النهي منصرف إلى غير هذا الوجه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا أبو عمرو بن كثير بن دينار(4/297)
عن حَريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن المقدام بن معديكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إلاّ أني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه الا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلاّ أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قِراه.
قال الشيخ: قوله أوتيت الكتاب ومثله معه يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما أن يكون معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أعطي من الظاهر المتلو، ويحتمل أن يكون معناه أنه أوتي الكتاب وحياً يتلى، وأوتي من البيان أي أذن له أن يبين ما في الكتاب ويعم ويخص وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس له في الكتاب ذكر فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن.
وقوله يوشك شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فإنه يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس له في القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد ضُمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا، والأريكة السرير، ويقال أنه لا يسمى أريكة حتى يكون في حجلة وإنما أراد بهذه الصفة أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم ولم يغدوا ولم يروحوا في طلبه في مظانه واقتباسه من أهله.
وأما قوله لا تحل لقطة معاهد إلاّ أن يستغني عنها صاحبها فمعناه إلاّ أن يتركها صاحبها لمن أخذها استغناء عنها وهذا كقوله سبحانه {فكفروا وتولوا واستغنى(4/298)
الله} [التغابن: 6] معناه والله أعلم تركهم الله استغناء عنهم وهو الغني الحميد.
وقوله فله أن يعقبهم بمثل قراه معناه له أن يأخذ من مالهم قدر قراه عوضاً وعقبى مما حرموه من القرى. وهذا في المضطر الذي لا يجد طعاماً ويخاف على نفسه التلف، وقد ثبت ذلك في كتاب الزكاة أو في غيره من هذا الكتاب.
وفى الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجه بنفسه، وأما ما رواه بعضهم أنه قال إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإن خالفه فدعوه فإنه حديث باطل لا أصل له. وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي عن يحيى بن معين أنه قال هذا حديث وضعته الزنادقة.
قلت وقد روى هذا من حديث الشاميين عن يزيد بن ربيعة، عَن أبي الأشعث عن ثوبان ويزيد بن ربيعة هذا مجهول ولا يعرف له سماع من أبي الأشعث، وأبو الأشعث لا يروي عن ثوبان وإنما يروي، عَن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصبَّاح البزاز حدثنا إبراهيم بن سعد عن سعد بن إبراهيم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد.
قال الشيخ: في هذا بيان أن كل شيء نهى عنه صلى الله عليه وسلم من عقد نكاح وبيع وغيرهما من العقود فإنه منقوض مردود لأن قوله فهو رد يوجب ظاهره إفساده وإبطاله إلاّ أن يقوم الدليل على أن المراد به غير الظاهر فيترك الكلام عليه لقيام الدليل فيه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن جريج حدثنا سليمان، يَعني ابن(4/299)
عتيق عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا هلك المتنطعون ثلاث مرات.
قال الشيخ: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
وفيه دليل على أن الحكم بظاهر الكلام وأنه لا يترك الظاهر إلى غيره ما كان له مساغ وأمكن فيه استعمال.
ومن باب لزوم السنة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ثور بن يزيد حدثني خالد بن معدان حدثني عبد الرحمن بن عمرو السُّلمي وحُجْر بن حُجْر قالا: أتينا العرباض بن سارية فسلمنا فقلنا أتينا زائرين وعائدين ومقتبسين فقال العرباض صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرَفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل يا رسول الله كأن هذا موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال أوصيكم بالسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعَضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
قال الشيخ: قوله وإن عبداً حبشياً يريد به طاعة من ولاه الإمام عليكم وإن كان عبداً حبشياً، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأئمة من قريش، وقد يضرب المثل في الشيء بما لا يكاد يصح منه الوجود كقوله صلى الله عليه وسلم: من بنى لله مسجداً ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة، وقدر مفحص قطاة(4/300)
لا يكون مسجدا لشخص آدمي وكقوله لو سرقت فاطمة لقطعتها وهي رضوان الله عليها وسلامه لا يتوهم عليها السرقة، وقال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ونظائر هذا في الكلام كثير، والنواجذ آخر الأضراس واحدها ناجذ، وإنما أراد بذلك الجد في لزوم السنة فعل من أمسك الشيء بين أضراسه وعض عليه منعاً له أن ينتزع وذلك أشد ما يكون من التمسك بالشيء إذ كان ما يمسكه بمقاديم فمه أقرب تناولاً وأسهل انتزاعاً، وقد يكون معناه أيضاً الأمر بالصبر على ما يصيبه من المضض في ذات الله كما يفعله المتألم بالوجع يصيبه.
وقوله كل محدثة بدعة فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض وكل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه. وأما ما كان منها مبنياً على قواعد الأصول ومردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة والله أعلم.
وفي قوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولاً، وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شييه حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أيبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن أمر لم يحرَّم فحُرِّم على الناس من أجل مسألته.
قال الشيخ: هذا في مسألة من يسأل عبثاً وتكلفاً فيما لا حاجة به إليه دون من سأل سؤال حاجة وضرورة كمسألة بني إسرائيل في شأن البقرة وذلك أن الله سبحانه أمرهم أن يذبحوا بقرة فلو استعرضوا البقر فذبحوا منها بقرة لأجزأتهم. كذلك قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الآية فما زالوا يسألون ويتعنتون(4/301)
حتى غلظت عليهم وأمروا بذبح البقرة على النعت الذي ذكره الله في كتابه فعظمت عليهم المؤنة ولحقتهم المشقة في طلبها حتى وجدوها فاشتروها بالمال الفادح فذبحوها وما كادوا يفعلون.
وأما من كان سؤاله استبانة لحكم واجب واستفادة لعلم قد خفي عليه فإنه لا يدخل في هذا الوعيد وقد قال سبحانه {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7] .
وقد يحتج بهذا الحديث من يذهب من أهل الظاهر إلى أن أصل الأشياء قبل ورود الشرع بها على الإباحة حتى يقوم دليل على الحظر وإنما وجه الحديث وتأويله ما ذكرناه والله أعلم.
ومن باب التفضيل
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم.
قال الشيخ: وجه ذلك والله أعلم أنه أراد به الشيوخ وذوي الأسنان منهم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر شاورهم فيه، وكان علي رضوان الله عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث السن ولم يرد ابن عمر الازراء بعلي كرم الله وجهه ولا تأخيره ودفعه على الفضيلة بعد عثمان وفضله مشهور لا ينكره ابن عمر ولا غيره من الصحابة، وإنما اختلفوا في تقديم عثمان عليه فذهب الجمهور من السلف إلى تقديم عثمان عليه وذهب أكثر أهل الكوفة إلى تقديمه على عثمان رضي الله عنهما.(4/302)
وحدثني محمد بن هاشم حدثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة عن عبد الصمد قال: قلت لسفيان الثوري ما قولك في التفضيل، فقال أهل السنة من أهل الكوفة يقولون أبو بكر وعمر وعلي وعثمان، وأهل السنة من أهل البصرة يقولون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. قلت فما تقول أنت قال أنا رجل كوفي. قلت وقد ثبت عن سفيان أنه قال آخر قوليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
قلت وللمتأخرين في هذا مذاهب، منهم من قال بتقديم أبي بكر من جهة الصحابة وبتقديم علي من جهة القرابة، وقال قوم لا يقدم بعضهم على بعض، وكان بعض مشايخنا يقول أبو بكر خير وعلي أفضل، وقال وباب الخيرية غير باب الفضيلة، قال وهذا كما تقول إن الحر الهاشمي أفضل من العبد الرومي والحبشي وقد يكون العبد الحبشي خيراً من هاشمي في معنى الطاعه لله والمنفعة للناس، فباب الخيرية متعد وباب الفضيلة لازم.
وقد ثبت عن علي كرم الله وجهه أنه قال خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم رجل آخر، فقال له ابنه محمد بن الحنفية، ثم أنت يا أبه فكان يقول ما أبوك إلاّ رجل من المسلمين رضوان الله عليهم.
ومن باب ما قيل في الخلفاء
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن عبيد الله هو ابن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان أبو هريرة رضي الله عنه يحدث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرى الليلة ظلة ينطِف منها السمن والعسل فأرى الناس يتكففون بأيديهم فالمستكثر والمستقل. وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض فأراك يا رسول الله فأخذته،(4/303)
يَعني فعلوت به، ثم أخذ به رجل فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل فعلا به، فقال أبو بكر رضي الله عنه بأبي وأمي لتدعني فلأعبرنها، قال فقال اعبرها؛ فقال أما الظلة فظلة الإسلام؛ وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته، وأما المستكثر والمستقل فهو المستكثر من القرآن والمستقل منه؛ وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله ثم يأخذ به بعدك رجل فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فيعلو، ثم يأخذ به رجل فينقطع ثم يوصل به فيعلو أي رسول الله لتحدثني أصبت أم أخطأت؛ فقال أصبت بعضاً وأخطأت بعضا فقال أقسمت يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم.
قال الشيخ: قوله إني أرى الليلة أخبرني أبو عمر، عَن أبي العباس قال: يقول ما بينك من لدن الصباح وبين الظهر رأيت الليلة وبعد الظهر إلى الليل رأيت البارحة، والظلة كل ما أظلك من فوقك وعلاك، وأراد بالظلة ههنا والله أعلم سحابة ينطف منها السمن والعسل أي يقطر والنطف القطر، وقوله يتكففون بأيديهم يريد أنهم يتلقونه بأكفهم، يقال تكفف الرجل الشيء واستكفه إذا مد كفه وتناوله بها، والسبب الحبل والواصل معناه الموصول فاعل بمعنى مفعول وفي قوله لأبي بكر رضي الله عنه لا تقسم ولم يخبره عن مسألته دليل على أن قول القائل أقسمت ليس بيمين حتى يقول أقسمت بالله أو أقسم بالله فيصل القسم باسم الله ولو كان ذلك بمجرده يميناً لكان يبره فيها لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بإبرار المقسم فدل ذلك على أنه مع التجريد ليس بيمين.
وقد اختلف الناس في معنى قوله أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فقال بعضهم(4/304)
أراد به الإصابة في عبارة بعض الرؤيا والخطأ في بعضها. وقال آخرون بل أراد بالخطأ ههنا تقديمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسألته للإذن له في تعبير الرؤيا ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون هو الذي يعبرها فهذا موضع الخطأ، وأما الإصابة فهي ما تأوله في عبارة الرؤيا وخروج الأمرفي ذلك على وفاق ما قاله وعبره.
وقد بلغني، عَن أبي جعفر الطحاوي رواية عن بعض السلف أنه قال موضع الخطأ في عبارة أبي بكر رضي الله عنه أنه مخطىء أحد المذكورين من السمن والعسل فقال، وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته، وإنما أحدهما القرآن والآخر السنة والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله 0ص قص عليه رؤيا فاستاء لها.
قال الشيخ: قوله استاء لها أي كرهها حتى تبينت المساءة في وجهه ووزنه افتعل من السوء.
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون حدثنا محمد بن جرير عن الزبيدي عن ابن شهاب عن عمرو بن أبان بن عثمان عن جابر بن عبد الله أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمرالذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: قوله نيط معناه علق، والنوط التعليق، والتنوط التعلق، ومنه(4/305)
المثل عاط لغير أنواط.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عفان بن مسلم حدثنا حماد بن سلمة عن أشعث بن عبد الرحمن عن أبيه عن سمرة بن جندب أن رجلاً قال: يا رسول الله إني رأيت كأن دلواً دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعَرَاقيها فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منه شيء.
قال الشيخ: قوله دلي من السماء يريد أرسل، يقال أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ودلوتها إذا نزعتها والعراقي أعواد يخالف بينها ثم تشد في عرى الدلو ويعلق بها الحبل واحدتها عرقوة.
وقوله تضلع يريد الاستيفاء في الشرب حتى روي فتمدد جنبه وضلوعه، وانتشاط الدلو اضطرابها حتى ينتضح ماؤها.
وأما قوله في أبي بكر شرب شرباً ضعيفا فإنما هو إشارة إلى قصر مدة أيام ولايته وذلك لأنه لم يعش بعد أيام الخلافة أكثر من سنتين وشيء وبقي عمر عشر سنين وشيئاً فذلك معنى تضلعه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء عن ابن إدريس حدثنا حصين عن هلال بن يساف عن عبد الله بن ظالم المازني قال سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال لما قدم فلان الكوفة أقام خطيباً فأخذ بيدي سعيد بن زيد فقال: ألا ترى إلى هذا الظالم فأشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم أيثم. قال ابن إدريس والعرب تقول آثم، قلت ومن التسعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حراء اثبت حراء أنه ليس عليك إلاّ نبي أو صديق أو شهيد، قلت(4/306)
ومن التسعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، قلت من العاشر، قال فلتكأ هنية ثم قال أنا.
قال الشيخ: قوله لم أيثم هو لغة لبعض العرب يقولون أيثم مكان أثم، وله نظائر في كلامهم قالوا تيجع وتيجل مكان يوجع ويوجل، وحراء جبل بمكة وأصحاب الحديث يقصرونه وأكثرهم يفتحون الحاء ويكسرون الراء سمعت أبا عمر يقول حراء اسم على ثلاثة أحرف، وأصحاب الحديث يغلطون منه في ثلاثة مواضع يفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرون الألف وهي ممدودة وأنشد:
وراقٍ في حراء ونازل
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم عن عبد الله بن شقيق العُقيلي عن الأقرع مؤذن عمر رضي الله عنه قال بعثني عمر إلى الأسقُف فدعوته، فقال له عمر هل تجدني في الكتاب قال نعم، قال كيف تجدني، قال أجدك قَرْناً فرفع الدرة فقال قرن قال مه، قال قرن حديد أمين شديد، قال كيف تجد الذي يجيء بعدي قال أجده خليفة صالحاً غير أنه يؤثر قرابته، فقال عمر رضي الله عنه يرحم الله عثمان ثلاثاً، قال كيف تجد الذي بعده، قال أجده صداء حديد، قال فوضع عمر يده على رأسه، فقال يا دفراه يا دفراه، فقال يا أمير المؤمنين أنه قال خليفة صالح ولكنه يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول والدم مُهراق.
قال الشيخ: الصدأ ما يعلو الحديد من الدرن ويركبه من الوسخ، وقوله يا دفراه يا دفراه، فإن الدفر بفتح الدال غير المعجمة وسكون الفاء النتن، ومنه قيل للدنيا أم دفر، فأما الذفر بالذال المعجمة وفتح الفاء فإنه يقال لكل(4/307)
ريح ذكية شديدة من طيب أو نتن.
ومن باب النهي عن سب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة أو أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
قال الشيخ: النصيف بمعنى النصف كما قالوا الثمين بمعنى الثمن قال الشاعر:
فما طار لي في القسم الا ثمينها
وقال آخر:
لم يعدها مد ولا نصيف
والمعغى أن جهد المقل منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم.
ومن باب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني الزهري حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال: لما استُعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة فقال مروا من يصلي بالناس فخرج عبد الله بن زمعة فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائباً، فقلت يا عمر قم فصل بالناس فتقدم فكبر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، قال وكان عمر رجلاً مجهراً، قال فأين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون، فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس.(4/308)
قال الشيخ: يقال استعز بالمريض إذا غلب على نفسه من شدة المرض. وأصله من العز وهو الغلبة والاستيلاء على الشيء، ومن هذا قولهم من عزُ بزّ، أي من غلب سلب.
وقوله وكان رجلاً مجهراً أي صاحب جهر ورفع لصوته يقال جهر الرجل صوته، ورجل جهير الصوت وجهير المنظر، وأجهر إذا عرف بشدة جهر الصوت فهو مجهر.
وفي الخبر دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم يأبى الله ذلك والمسلمون، معقول منه أنه لم يرد به نفي جواز الصلاة خلف عمر فإن الصلاة خلف عمر رضي الله عنه ومن دونه من المسلمين جائزة، وإنما أراد به الإمامة التي هي دليل الخلافة والنيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام بأمر الأمة بعده.
ومن باب التخيير بين الأنبياء صلوات الله عليهم
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا عمرو، يَعني ابن يحيى عن أبيه، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُخيِّروا بين الأنبياء.
قال الشيخ: معنى هذا ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم والإخلال بالواجب من حقوقهم وبفرض الإيمان بهم، وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه قد أخبرأنه قد فاضل بينهم فقال عز وجل {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} [البقرة: 253] .
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا الوليد عن الأوزاعي، عَن أبي(4/309)
عمار عن عبد الله بن فرَّوخ، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مشفع.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن قتادة، عَن أبي العالية عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى.
قال الشيخ: قد يتوهم كثير من الناس أن بين الحديثين خلافاً وذلك أنه قد أخبر في حديث أبي هريرة أنه سيد ولد آدم والسيد أفضل من المسود.
وقال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى، والأمر في ذلك بين ووجه التوفيق بين الحديثين واضح؛ وذلك أن قوله أنا سيد ولد آدم، إنما هو إخبار عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد وتحدث بنعمة الله عليه واعلام لأمته وأهل دعوته مكانه عند ربه ومحله من خصوصيته ليكون إيمانهم بنبوته واعتقادهم لطاعته على حسب ذلك، وكان بيان هذا لأمته وإظهاره لهم من اللازم له والمفروض عليه.
فأما قوله في يونس صلوات الله عليه وسلامه فقد يتأول على وجهين: أحدهما أن يكون قوله ما ينبغي لعبد إنما أراد به من سواه من الناس دون نفسه.
والوجه الآخر أن يكون ذلك عاماً مطلقاً فيه وفي غيره من الناس ويكون هذا القول منه على الهضم من نفسه وإظهار التواضع لربه يقول لا ينبغي لي أن أقول أنا خير منه لأن الفضيلة التي نلتها كرامة من الله سبحانه وخصوصية منه لم أنلها من قبل نفسي ولا بلغتها بحولي وقوتي فليس لي أن أفتخر بها وإنما يجب علي أن أشكر عليها ربي، وإنما خص يونس بالذكر فيما نرى والله أعلم لما قصه(4/310)
الله تعالى علينا من شأنه وما كان من قلة صبره على أذى قومه فخرج مغاضباً ولم يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
قلت وهذا أولى الوجهين وأشبههما بمعنى الحديث فقد جاء من غير هذا الطريق أنه قال صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي أن يقول إني خير من يونس بن متى فعم به الأنبياء كلهم فدخل هو في جملتهم، وقد ذكره أبو داود في هذا الباب.
، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن يحيى حدثني محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن حكيم عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل إن قوله أنا سيد ولد آدم إنما أراد به يوم القيامة حين قُدم بالشفاعة وسادهم بها.
ومن باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة الأولى
قال أبو داود: حدثنا مسدد ومسلم بن إبراهيم قالا: حَدَّثنا حماد عن علي بن زيد عن الحسن، عَن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي إن ابني هذا سيد واني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين من المسلمين عظيمتين.
قال الشيخ: السيد يقال اشتقاقه من السواد أي هو يلي الذي يلي السواد العظيم ويقوم بشأنهم، وقد خرج مصداق هذا القول فيه بما كان من إصلاحه بين أهل العراق وأهل الشام وتخليه عن الأمر خوفاً من الفتنة وكراهية لإراقة الدم ويسمى ذلك العام سنة الجماعة.
وفي الخبر دليل على أن واحداً من الفريقين لم يخرج بما كان منه في تلك الفتنة من قول أو فعل عن ملة الإسلام إذ قد جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين، وهكذا
سبيل كل متأول فيما تعاطاه من رأي ومذهب دعا إليه إذا كان فيما تناوله بشبهة(4/311)
وإن كان مخطئاً في ذلك، ومعلوم أن احدى الفئتين كانت مصيبة والأخرى مخطئة.
ومن باب الرد على المرجئة
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وسبعون، يَعني شعبة أفضلها قول لا إله إلاّ الله وأدناها إماطة العظم عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان.
قال الشيخ: قوله بضع ذكر أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى أحسبه عن ابن الأعرابي قال: يقال بضع فيما بين الثلاثة إلى تمام العشرة ونيف لما زاد على العقد من الواحد إلى الثلاثة.
قلت وفي هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أعلى وأدنى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جملة أجزائها كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها ويدل على ذلك قوله الحياء شعبة من الإيمان فأخبر أن الحياء إحدى تلك الشعب.
وفي هذا الباب إثبات التفاضل في الإيمان وتباين المؤمنين في درجاته.
ومعنى قوله الحياء شعبة من الإيمان أن الحياء يقطع صاحبه عن المعاصي ويحجزه عنها فصار بذلك من الإيمان إذ الإيمان بمجموعه ينقسم إلى ائتمار لما أمر الله به وانتهاء عما نهى عنه.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثني يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني أبو جمرة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قال إن وفد عبد القيس لما قدموا(4/312)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله، قال أتدرون ما الإيمان بالله قالوا الله ورسوله أعلم، قال شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، واقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان؛ وأن تعطوا الخمس عن المغنم.
قال الشيخ: قد أعلم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الصلاة والزكاة من الإيمان وكذلك صوم رمضان واعطاء خمس الغنيمة، وكان هذا جواباً عن مسألة صدرت عن جهالة بالإيمان وشرائطه فأخبرهم عما سألوه وعلمهم ما جهلوه وجعل هذه الأمور من الإيمان كما جعل الكلمة منه وليس بين هذا وبين قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله خلاف لأنه كلمة شعار وقعت الدعوة بها إلى الإيمان لتكون إمارة للداخلين في الإيمان والقابلين لأحكامه؛ وهذا كلام قصد فيه البيان والتفصيل له، والتفصيل لا يناقض الجملة لكن يلائمها ويطابقها.
وقوله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها يتضمن جملة ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ويأيي على جميع ما ذكر فيه من الخلال المعدودة إلى سائر ما جاء منها في سائر الأحاديث المروية في هذا الباب وكلها تجري على الوفاق ليس في شيء منها اختلاف، وإنما هو حمله على الوجه الذي ذكرته لك وتفصيل لها على المعنى الذي يقتضيه حكمها والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا سفيان، عَن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة.
قال الشيخ: التروك على ضروب منها ترك جحد للصلاة وهو كفر بإجماع الأمة. ومنها ترك نسيان وصاحبه لا يكفر بإجماع الأمة، ومنها ترك عمد من غير(4/313)
جحد، فهذا قد اختلف الناس فيه فذهب إبراهيم النخعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر. وقال أحمد لا نكفر أحداً من المسلمين بذنب إلاّ تارك الصلاة. وقال مكحول والشافعي تارك الصلاة مقتول كما يقتل الكافر ولا يخرح بذلك من الملة ويدفن في مقابر المسلمين ويرثه أهله، إلاّ أن بعض أصحاب الشافعي قال: لا يصلي عليه إذا مات.
واختلف أصحاب الشافعي في كيفية قتله فذهب أكثرهم إلى أنه يقتل صبراً بالسيف. وقال ابن شريح لا يقتل صبراً بالسيف لكن لا يزال يضرب حتى يصلي أو يأتي الضرب عليه فيموت، وقالوا إذا ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها قتل، غير أبي سعيد الاصطخري فإنه قال: لا يقتل حتى يترك ثلاث صلوات، واحسبه ذهب في هذا إلى أنه ربما يكون له عذر في تأخير الصلاة إلى وقت الأخرى للجمع بينهما.
وقال أبو حنيفة وأصحابه تارك الصلاة لا يكفر ولا يقتل ولكن يحبس ويضرب حتى يصلي، وتأولوا الخبر على معنى الأغلاظ له والتوعد عليه.
قال أبو داود: حدثنا مححد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال: وأخبرني الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقال سعد رضي الله عنه يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلم حتى أعادها سعد ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول أو مسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئاً مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر قال: قال الزهري(4/314)
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، قال نرى الإسلام الكلمة والإيمان العمل.
قال الشيخ: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري فقد ذهب إلى ما حكاه معمر عنه واحتج بالآية، وذهب غيره إلى أن الإيمان والإسلام شيء واحد، واحتج بالآية الأخرى وهي قوله {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} [الذاريات: 35] قال فدل ذلك على أن المسلمين هم المؤمنون إذ كان الله سبحانه قد وعد أن يخلص المؤمنين من قوم لوط وأن يخرجهم من بين ظهراني من وجب عليه العذاب منهم، ثم أخبر أنه قد فعل ذلك بمن وجده فيهم من المسلمين إنجازاً للموعد، فدل الإسلام على الإيمان
فثبت أن معناهما واحد وأن المسلمين هم المؤمنون. وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم وصار كل واحد منهما إلى مقالة من هاتين المقالتين ورد الآخر منهما على المتقدم وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المائتين.
قلت والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق على أحد الوجهين. وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال ولا يكون مؤمناً في بعضها والمؤمن مسلم في جميع الأحوال فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف عليك شيء منها، وأصل الإيمان التصديق وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر.
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة حدثنا واقد بن عبد الله أخبرني عن أبيه أنه سمع ابن عمر رضى الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا ترجعوا(4/315)
بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
قال الشيخ: هذا يتأول على وجهين: أحدهما أن يكون معنى الكفار المتكفرين بالسلاح يقال تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه فكفر به نفسه أي سترها، وأصل الكفر الستر، ويقال سمي الكافر كافراً لستره نعمة الله عليه أو لستره على نفسه شواهد ربوبية الله ودلائل توحيده.
وقال بعضهم معناه لا ترجعوا بعدى فرقاً مختلفين يضرب بعضكم رقاب بعض فتكونوا بذلك مضاهين للكفار فإن الكفار متعادون يضرب بعضهم رقاب بعض والمسلمون متآخون يحقن بعضهم دماء بعض.
وأخبرني إبراهيم بن فراس قال: سألت موسى بن هارون عن هذا فقال هؤلاء أهل الردة قتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال أبو داود: حدثنا أبو صالح الأنطاكي حدثنا أبو إسحاق، يَعني الفزاري عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد.
قال الشيخ: الخوارج ومن يذهب مذهبهم ممن يكفر المسلمين بالذنوب يحتجون به ويتألونه على غير وجهه، وتأويله عند العلماء على وجهين: أحدهما أن معناه النهي وإن كانت صورته صورة الخبر يريد لا يزن الزاني بحذف الياء ولا يسرق السارق بكسر القاف على معنى النهي يقول إذ هو مؤمن لا يزني ولا يسرق ولا يشرب الخمر فإن هذه الأفعال لا تليق بالمؤمنين ولا تشبه أوصافهم.
والوجه الاخر أن هذا كلام وعيد لا يراد به الإيقاع وإنما يقصد به الردع(4/316)
والزجر كقوله: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وقوله لا إيمان لمن لا أمانة له، وقوله ليس بالمسلم من لم يأمن جاره بوائقه، هذا كله على معنى الزجر والوعيد أو نفي الفضيلة وسلب الكمال دون الحقيقة في رفع الإيمان وابطاله والله أعلم.
وقد روي في تأويل هذا الحديث معنى آخر وهو مذكور في حديث رواه أبو داود في هذا الباب قال:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سويد الرملي حدثنا ابن أبي مريم أنبأنا نافع، يَعني ابن يزيد أخبرني ابن الهاد أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة فإذا انقلع رجع إليه الإيمان.
ومن باب القدر
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القدَرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم.
قال الشيخ: إنما جعلهم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين وهما النور والظلمة يزعمون إن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة فصاروا ثانوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله عز وجل والشر إلى غيره والله سبحانه خالق الخير والشرلا يكون شيء منهما إلاّ بمشيئته. وخلقه الشر شراً في الحكمة كخلقه الخير خيراً، فالأمران معاً مضافان إليه خلقاً وايجاداً وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً.
قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا المعتمر قال سمعت منصور بن المعتمر يحدث عن سعد بن عبيدة عن عبد الله بن حبيب أبي عبد الرحمن عن علي(4/317)
كرم الله وجهه قال: كنا في جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغَرْقد فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكث بالمخصرة في الأرض ثم رفع رأسه فقال ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلاّ وقد كتب مكانها من النار أو الجنة إلاّ قد كتبت شقية أو سعيدة، قال فقال رجل من القوم يا نبي الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان منا من أهل الشقوة ليكونن إلى الشقوة، قال اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقوة فييسرون للشقوة ثم قرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم {أما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأن من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} [الليل: 5-6-7-8-9-10] .
قال الشيخ: المخصرة عصا خفيفة يختصر بها الإنسان يمسكها بيدها والنفس المنفوسة هي المولودة، والمنفوس الطفل الحديث الولادة، يقال نُفست المرأة إذا ولدت، ونفست إذا حاضت، ويقال إنما سميت المرأة نفساً لسيلان الدم، والنفس الدم.
قلت فهذا الحديث إذا تأملته أصبت منه الشفاء فيما يتخالجك من أمر القدر وذلك أن السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم والقائل له أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل لم يترك شيئاً مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في باب النجويز والتعديل إلاّ وقد طالب به وسأل عنه فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك والمطالبة عليه ساقطة وأنه أمر لا يشبه الأمور المعلومة التي قد عقلت معانيها وجرت معاملات البشر فيما بينهم عليها وأخبر أنه إنما أمرهم بالعمل ليكون أمارة في الحال العاجلة لما يصيرون إليه في الحال الآجلة فمن تيسر له العمل الصالح(4/318)
كان مأمولاً له الفوز، ومن تيسر له العمل الخبيث كان مخوفاً عليه الهلاك، وهذه أمارات من جهة العلم الظاهر وليست بموجبات فإن الله سبحانه طوى علم الغيب عن خلقه وحجبهم عن دركه كما أخفى أمر الساعة فلا يعلم أحد متى أبان قيامها؛ ثم أخبر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أماراتها وأشراطها فقال من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان ومنها كيت وكيت.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس، عَن أبي بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال بالقدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه فقلت أبا عبد الرحمن أنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر والأمر أُنُف فقال إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم براء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا نعرفه حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال صدقت، قال فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال فأخبرني عن الإيمان قال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر(4/319)
خيره وشره، قال صدقت، قال فأخبرني عن الإحسان قال ان تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة، قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال فأخبرني عن أماراتها، قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال ثم انطلق فلبثت ثلاثاً ثم قال يا عمر تدري من السائل، قلت الله ورسوله أعلم، قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
قال الشيخ: قوله يتقفرون العلم معناه يطلبون ويتبعون أثره، والتقفر تتبع أثر الشيء. وقوله والأمر أنف يريد مستأنف لم يتقدم فيه شيء من قدر أو مشيئة، يقال كلأ أنف إذا كان وافياً لم يرع منه شيء. وروضة أنف بمعناه، قال عمر بن أبي ربيعة:
في روضة أنف تيممنا بها ... ميثاء رائقة بُعيد سماء
وفي قول ابن عمر رضي الله عنهما إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم براء مني دلالة على أن الخلاف إذا وقع في أصول الدين وكان مما يتعلق بمعتقدات الإيمان أوجب البراءة وليس كسائر ما يقع فيه الخلاف من أصول الأحكام وفروعها التي موجباتها العمل في أن شيئاً منها لا يوجب البراءة ولا يوقع الوحشة بين المختلفين فقد جاء في هذا الحديث التفريق بين الإسلام والإيمان فجعل الإسلام في العمل والإيمان في الكلمة على ضد ما قاله الزهري في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي ذكرناه في الباب، فقال يرى الإسلام الكلمة والإيمان العمل.
قلت وهذا عندي تفصيل لجملة كلها شيء واحد وليس بتفريق بين شيئين(4/320)
مختلفين، وقد روينا في باب قبل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن وفد عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالايمان ثم قال أتدرون ما الإيمان قالوا الله ورسوله أعلم، فقال شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم. فضم هذه الأعمال إلى كلمة الشهادة وجعلها كلها إيماناً، وهذا يبين لك أن اسم الإيمان قد يدخل على الإسلام واسم الإسلام يدخل على الإيمان، وذلك لأن معنى الإيمان التصديق ومعنى الإسلام الاستسلام، وقد يتحقق معنى القول بفعل الجوارح ثم يتحقق الفعل ويصح بتصديق القلب نية وعزيمة، وجماع ذلك كله الدين، وهو معنى قوله جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
وأما قوله ما الإحسان فإن معنى الإحسان ههنا الإخلاص وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام معاً، وذلك أن من وصف الكلمة وجاء بالعمل من غير نية وإخلاص لم يكن محسناً ولا كان إيمانه في الحقيقة صحيحاً كاملاً وإن كان دمه في الحكم محقوناً وكان بذلك في جملة المسلمين معدوداً.
ويحكى عن سفيان بن سعيد الثوري أنه كان يقول في الإيمان قول ومعرفة وعمل ونية، وأحسبه تأول هذا المعنى واعتبره بالحديث.
وكان أحمد بن حنبل يزيد فيها شرطاً خامساً وهو السنة فيقول: في الإيمان قول ومعرفة وعمل ونية وسنة.
قلت: واسم الإسلام يشتمل على هذه الخصال كلها، ألا تراه يقول هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، وقد قال سبحانه {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] .(4/321)
وقوله وأن تلد الأمة ربتها معناه أن يتسع الإسلام ويكثر السبي ويستولد الناس أمهات الأولاد فتكون ابنة الرجل من أمته في معنى السيدة لأمها إذ كانت مملوكة لأبيها، وملك الأب راجع في التقدير إلى الولد.
وقد يحتج بهذا من يرى بيع أمهات الأولاد ويعتل في أنهن إنما لا يبعن إذا مات السادة لأنهن قد يصرن في التقدير ملكاً لأولادهن فيعتقن عليهم لأن الولد لا يملك والدته وهذا على تخريج قول وأن تلد الأمة ربتها وفيه نظر.
والعالة الفقراء واحدهم عائل يقال عال الرجل يعيل إذا افتقر. وعال أهله يعولهم إذا مار أهله، وأعال الرجل يعيل إذا كثر عياله.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع طاوساً يقول سمعت أبا هريرة يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال احتج آدم وموسى، فقال موسى يا آدم إنك أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك، يَعني التوراة بيده تلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى.
قال الشيخ: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله والقضاء منه معنى الاجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره ويتوهم أن فلج آدم في الحجة على موسى إنما كان من هذا الوجه، وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه، وإنما معناه الاخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما يكون من أفعال العباد واكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها، والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر كما الهدم والقبض والنشر أسماء لما صدر عن فعل الهادم والقابض والناشر، يقال قدرت الشيء وقدرت خفيفة وثقيلة بمعنى واحد، والقضاء في(4/322)
هذا معناه الخلق كقوله عز وجل {فقضاهن سبع سموات في يومين} [فصلت: 12] أي خلقهن وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم واكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم ارادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها.
وجماع القول في هذا الباب أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه، وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى صلوات الله عليهما أن الله سبحانه إذ كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك. وبيان هذا في قول الله سبحانه {واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خلقه للأرض وأنه لا يتركه في الجنة حتى ينقله عنها اليها وإنما كان تناول الشجرة سبباً لوقوعه إلى الأرض التي خلق لها وللكون فيها خليفة ووالياً على من فيها فإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه على هذا الوجه ولذلك قال: اتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني.
فإن قيل فعلى هذا يجب أن يسقط عنه اللوم أصلاً، قيل اللوم ساقط من قبل موسى إذ ليس لأحد أن يعير أحداً بذنب كان منه لأن الخلق كلهم تحت العبودية أكفاء سواء. وقد روي لا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا إليها كأنكم عبيد، ولكن اللوم لازم لآدم من قبل الله سبحانه إذ كان قد أمره ونهاه فخرج إلى معصيته وباشر المنهي عنه، ولله الحجة البالغة سبحانه لا شريك له.(4/323)
وقول موسى صلى الله عليه وسلم وإن كان منه في النفوس شبهة وفي ظاهره متعلق لاحتجاجه بالسبب الذي قد جعل أمارة لخروجه من الجنة فقول آدم في تعلقه بالسبب الذي هو بمنزلة الأصل أرجح وأقوى، والفلج قد يقع مع المعارضة بالترجيح كما يقع بالبرهان الذي لا معارض له والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة (ح) قال وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش حدثنا زيد بن وهب حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم مضغة وذكر الحديث.
قال الشيخ: قوله يجمع في بطن أمه قد روى في تفسيره عن ابن مسعود حدثناه الأصم حدثنا السري بن يحيى أبو عبيدة حدثنا عمار بن زريق قال: قلت للأعمش ما يجمع في بطن أمه قال حدثني خيثمة قال: قال عبد الله، إن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم يمكث أربعين ليلة ثم ينزل دماً في الرحم فذلك جمعها.
ومن باب في ذراري المشركين
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة، عَن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن أولاد المشركين قال الله أعلم بما كانوا عاملين.
قال الشيخ: ظاهر هذا الكلام يوهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يفت السائل عنهم ولأنه رد الأمرفي ذلك إلى علم الله جل وعز ومن غير أن يكون قد جعلهم من المسلمين(4/324)
أو ألحقهم بالكافرين وليس هذا وجه الحديث، وإنما معناه أنهم كفار ملحقون في الكفر بآبائهم لأن الله سبحانه قد علم أنهم لو بقوا أحياء حتى يكبروا لكانوا يعملون عمل الكفار. يدل على صحة التأويل قوله في حديث عائشة قالت قلت يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من آبائهم فقلت يا رسول الله بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين، قلت يا رسول الله فذراري المشركين قال من آبائهم، قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين.
وقد ذكره أبو داود في هذا الباب فقال:
حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية حدثنا محمد بن حرب عن محمد بن زياد عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة رضي الله عنها.
فهذا يدل على أنه قد أفتى عن المسألة ولم يعقل الجواب عنها على حسب ما توهمه من ذهب إلى الوجه الأول في تأويل الحديث.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه ويُنَصرانه كما تناتج الابل من بهيمة جمعاء هل تُحس من جدعاء. قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير قال الله أعلم ما كانوا عاملين.
ذكر أبو داود في تفسيره عن حماد بن سلمة أنه كان يقول هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم فقال {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 712] .
قلت معنى قول حماد في هذا حسَن وكأنه ذهب إلى أنه لاعبرة للإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المكتسب بالإرادة والفعل ألا ترى أنه يقول فأبواه يهودانه وينصرانه فهو من وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم الأبوين الكافرين.(4/325)
وفيه وجه ذهب إليه عبد الله بن المبارك حين سأل عنه، فقال تفسير قوله حين سأل عن الأطفال فقال الله أعلم بما كان عاملين، يريد والله أعلم أن كل مولود من البشر إنما يولد على فطرته التي جبل عليها من السعادة والشقاوة وعلى ما سيق له من قدر الله وتقدم من مشيئته فيه من كفر أوإيمان فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وخلق له وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لفطرته في الشقاوة والسعادة، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاد دين اليهود أو النصارى أو يعلمانه اليهودية أو النصرانية أو يموت قبل أن يعقل فيصف الدين فهو محكوم له بحكم والديه إذ هو في حكم الشريعة تبع لوالديه، وذلك معنى قوله فأبواه يهودانه وينصرانه.
ويشهد لهذا المذهب حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي من الأنصار يصلي عليه، فقلت يا رسول الله طوبى لهذا لم يعمل شيئاً ولم يُدر به قال أو غير ذلك ذلك يا عائشة ان الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وقد ذكره أبو داود في هذا الباب.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن طلحة بن يحيى عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
ويشهد له أيضاً حديث أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين} [الكهف: 80] وكان طبع يوم طبع كافراً.
قلت: وفيه وجه ثالت وهو أن يكون معناه أن كل مولود من البشر إنما يولد في مبدأ الخلقة وأصل الجبلة على الفطرة السليمة والطبع المتهيىء لقبول(4/326)
الدين فلو ترك عليها وخلى وسومها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقل يسره في النفوس وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره ويؤثر عليه لآفة من آفات النشوء والتقليد، فلو سلم المولود من تلك الآفات لم يعتقد غيره ولم يختر عليه ما سواه، ثم يمثل بأولاد اليهود والنصارى في اتباعهم لابائهم والميل إلى أديانهم فيزولون بذلك عن الفطرة السليمة وعن المحجة المستقيمة.
وفيه أقاويل أخر قد ذكرتها في مسألة أفردتها في تفسير الفطرة وفيما أوردته ههنا كفاية على ما شرطناه من الاختصار في هذا الكتاب.
وأصل الفطرة في اللغة ابتداء الخلق، ومنه قول الله سبحانه {الحمد لله فاطر السموات والأرض} [فاطر: 1] أي مبتديها، ومن هذا قولهم فطر ناب البعير إذا طلع.
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لم أعلم ما فاطر السموات حتى اختصم إليَّ اعرابيان في بئر، فقال أحدهما أنا فاطرها أي حافرها ومقترحها.
وقوله من بهيمة جمعاء فإن الجمعاء هي السليمة سميت بذلك لاجتماع السلامة لها في أعضائها يقول إن البهيمة أول ما تولد تكون سليمة من الجدع والخرم ونحو ذلك من العيوب حتى يحدث فيها أربابها هذه النقائص كذلك الطفل يولد مفطوراً على خلقه ولو ترك عليها لسلم من الآفات، إلاّ أن والديه يزينان له الكفر ويحملانه عليه.
قلت وليس في هذا ما يوجب حكم الإيمان له إنما هو ثناء على هذا الدين واخبار عن محله من العقول وحسن موقعه من النفوس والله أعلم.(4/327)
ومن باب الرد على الجهمية والمعتزلة
قال أبو داود: حدثنا عبد الأعلى بن حماد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وأحمد بن سعيد الرباطي قالوا حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال يا رسول الله جُهدت الأنفس وضاع العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه؛ ثم قال ويحك انه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك؛ ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب.
قال الشيخ: هذا الكلام إذا جرى على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية والكيفية عن الله وصفاته منفية فعقل أن ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله وجلاله سبحانه، وإنما قصد به إفهام السائل من حيث يدركه فهمه إذ كان اعرابياً جلفاً لا علم له بمعاني ما دق من الكلام وبما لطف منه عن درك الافهام. وفي الكلام حذف واضمار فمعنى قوله أتدري ما الله معناه أتدري ما عظمة الله وجلاله. وقوله أنه ليئط به معناه أنه ليعجز عن جلاله وعظمته حتى يئط به إذ كان معلوماً أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ولعجزه عن احتماله فقرر بهذا النوع من التمثيل عنده معنى عظمة الله وجلال وارتفاع عرشه ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن وجلالة القدر وفخامة الذكر لا يجعل شفيعاً إلى من هو دونه في القدر(4/328)
وأسفل منه في الدرجة وتعالى الله أن يكون مشبهاً بشيء أو مكيفاً بصورة خلق أو مدركاً بحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وذكر البخاري هذا الحديث في التاريخ من رواية جبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده ولم يدخله في الجامع الصحيح.
ومن باب في الرؤية
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير ووكيع وأبو أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً فنظر إلى القمر ليلة البدر ليلة أربع عشرة فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تُضامُّون في رؤيته.
قال الشيخ: قوله تضامون هو من الانضمام يريد أنكم لا تجتمعوا للنظر وينضم بعضكم إلى بعض فيقول واحد هو ذاك ويقول الاخر ليس بذاك على ما جرت به عادة الناس عند النظر إلى الهلال أول ليلة من الشهر، ووزنه تفاعلون وأصله تتضامون حذفت منه إحدى التاءين. وقد رواه بعضهم تضامون بضم التاء وتخفيف الميم فيكون معناه على هذه الرواية أنه لا يلحقكم ضيم ولا مشقة في رؤيته.
وقد تخيل إلى بعض السامعين أن الكاف في قوله كما ترون كاف التشبيه للمرئي وإنما هو كاف التشبيه للرؤية وهو فعل الرائي، ومعناه ترون ربكم رؤية ينزاح معها وتنتفي معها المرية كرؤيتكم القمر ليلة البدر لا ترتابون به ولا تمترون فيه.(4/329)
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنه سمعه يحدث، عَن أبي هريرة قال: قال ناس يا رسول الله أنرى ربنا يوم القيامة، قال هل تُضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة قالوا لا، قال هل تُضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة قالوا لا، قال والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤيته إلاّ كما تضارون في رؤية أحدهما.
قال الشيخ: وهذا والأول سواء في ادغام أحد الحرفين في الآخر وفتح التاء من أوله ووزنه تفاعلون من الضرار، والضرار أن يتضار الرجلان عند الاختلاف في الشيء فيضار هذا ذلك وذلك هذا، فيقال قد وقع الضرار بينهما أي الاختلاف.
قال أبو داود: حدثنا علي بن نصر ومحمد بن يونس النسائي، والمعنى قالا: حَدَّثنا عبد الله بن يزيد حدثنا حرملة، يَعني ابن عمران حدثني أبو يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة قال سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58] إلى قوله سميعاً بصيراً. قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه.
قال الشيخ: وضعه اصبعه على أذنه وعينه عند قراءته سميعاً بصيراً، معناه اثبات صفة السمع والبصر لله سبحانه لا إثبات الأذن والعين لأنهما جارحتان والله سبحانه موصوف بصفاته منفي عنه ما لا يليق به من صفات الآدميين ونعوتهم ليس بذي جوارح ولا بذي أجزاء وأبعاض ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعن أبي عبد الله الأغر، عَن أبي هريرة رضي الله عنه أن(4/330)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له.
قال الشيخ: وقد رواه الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حدثناه إسماعيل الصفار حدثنا محمد بن جعفر الوراق حدثنا محاضر عن الأعمش قال وأرى أبا سفيان ذكره عن جابر قال وذلك في كل ليلة.
قلت مذهب علماء السلف وأئمة الفقهاء أن يجروا مثل هذه الأحاديث على ظاهرها وأن لا يريغوا لها المعاني ولا يتأولوها لعلمهم بقصور علمهم عن دركها.
حدثنا الزعفراني حدثنا ابن أبي خيثمة حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا بقية عن الأوزاعي، قال كان مكحول والزهري يقولان أمروا الأحاديث كما جاءت.
قلت وهذا من العلم الذي أمرنا أن نؤمن بظاهره وأن لا نكشف عن باطنه وهو من جملة المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في كتابه فقال {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} [آل عمران: 7] الآية؛ فالمحكم منه يقع به العلم الحقيقي والعمل، والمتشابه يقع به الإيمان والعلم بالظاهر ونوكل باطنه إلى الله سبحانه؛ وهو معنى قوله {وما يعلم تأويله إلاّ الله} [آل عمران: 7] وإنما حظ الراسخين في العلم أن يقولوا {آمنا به كل من عند ربنا} [آل عمران: 7] وكذلك كل ما جاء من هذا الباب في القرآن كقوله {هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر} [البقرة: 210] وقوله {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر: 22] والقول في جميع ذلك عند علماء السلف هو ما قلنا، وقد روي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة.(4/331)
وقد زل بعض شيوخ أهل الحديث ممن يرجع إلى معرفته بالحديث والرجال فحاد عن هذه الطريقة حين روى حديث النزول ثم أقبل يسأل نفسه عليه فقال إن قال قائل كيف ينزل ربنا إلى السماء قيل له ينزل كيف شاء فإن قال هل يتحرك إذا نزل أم لا، فقال إن شاء تحرك وإن شاء لم يتحرك.
قلت وهذا خطأ فاحش والله سبحانه لا يوصف بالحركة لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد، وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين والله جل وعز متعال عنهما ليس كمثله شيء، فلو جرى هذا الشيخ عفا الله عنا وعنه على طريقة السلف الصالح ولم يدخل نفسه فيما لا يعنيه لم يكن يخرج به القول إلى مثل هذا الخطأ الفاحش، وإنما ذكرت هذا لكي يتوقى الكلام فيما كان من هذا النوع فإنه لا يثمر خيراً ولا يفيد رشداً ونسأل الله العصمة من الضلال والقول بما لا يجوز من الفاسد المحال.
ومن باب في القرآن
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبه حدثنا جرير عن منصور عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين عليهما السلام أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة، ثم يقول كان أبوكم يعوذ بها إسماعيل وإسحاق.
قال الشيخ: الهامة إحدى الهوام وذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما وقوله من كل عين لامة معناه ذات لمم كقول النابغة:
(كليني لهمٍّ يا اميمة ناصب)
أي ذونصب.
وكان أحمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة، على أن القرآن غير(4/332)
مخلوق وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق وما من كلام مخلوق إلاّ وفيه نقص والموصوف منه بالتمام هو غير المخلوق وهو كلام الله سبحانه.
ومن باب في الحوض
قال أبو داود: حدثنا عاصم بن النَّضر حدثنا المعتمر قال سمعت أبي حدثنا قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما عرج نبي الله صلى الله عليه وسلم في الجنة أو كما قال عرض له نهر حافتاه الياقوت المجيب أو قال المجوف وذكر الحديث.
قال الشيخ: المجيب هو الأجوف وأصله من جبيت الشيء إذا قطعته والشيء مجيب ومجبوب كما قالوا مشيب ومشبوب وانقلاب الياء عن الواو كثير في كلامهم.
ومن باب المسألة في القبر
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك بمنهرة فيقول له ما كنت تعبد فيقول لا أدري فيقال له لا دريت ولا تليت.
قال الشيخ: هكذا يقول المحدثون وهو غلط، وقد ذكره القتيبي في كتاب غريب الحديث، وقال فيه قولان بلغني عن يونس البصري أنه قال هو لا دريت ولا اتليت ساكنة التاء يدعو عليه بأن لا تتلى إبله أي يكون لها أولاد تتلوها أي تتبعها، يقال للناقة قد اتليت فهي متلية وتلاها ولدها إذا تبعها، قال وقال غيره هو لا دريت ولا ايتليت، تقدير افتعلت من قولك ما الوت هذا ولا(4/333)
استطيعه كأنه يقول لا دريت ولا استطعت.
ومن باب في الخوارج
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير وأبو بكر بن عياش ومندل عن مطرف، عَن أبي جهم عن خالد بن وهبان، عَن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
قال الشيخ: الربقة ما يجعل في عنق الدابة كالطوق يمسكها لئلا تشرد، يقول من خرج عن طاعة الجماعة وفارقهم في الأمر المجمع عليه فقد ضل وهلك وكان كالدابة إذا خلعت الربقة التي هي محفوظة بها فإنها لا يؤمن عليها عند ذلك الهلاك والضياع.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد ومحمد بن عيسى المعنى قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن محمد عن عبيدة أن علياً عليه السلام ذكر أهل النهروان فقال فيهم رجل مُوذَن اليد أو مُخدج اليد أو مثدَّن اليد.
قال الشيخ: قال أبو عبيد عن الكسائي المؤذن اليد القصير اليد، قال وفيه لغة أخرى وهو المودون، والمخدج القصير أيضاً أخذ من اخداج الناقة ولدها، وهو أن تلده وهو لغير تمام في خلقه، والمثدن يقال أنه شبه يده في قصرها بثندوة الثدي وهي أصله، وكان القياس أن يقال مثند لأن النون قبل الدال في الثندوة إلاّ أنه قلب والمقلوب كثير في الكلام.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثيرأخبرنا سفيان عن أبيه عن ابن أبي نعم، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً قال فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية محلوق فقال اتق(4/334)
الله يا محمد، قال فلما ولى عنه، قال إن من ضئضئ هذا وفي عقب هذا قوم يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية.
قال الشيخ: الضئضئ الأصل يريد أنه يخرج من نسله الذي هو أصلهم أو يخرج من أصحابه وأتباعه الذين يقتدون به ويبنون رأيهم ومذهبهم على أصل قوله.
والمروق الخروج من الشيء والنفوذ إلى الطرف الأقصى منه؛ والرمية هي الطريدة التي يرميها الرامي.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل أخبرني زيد بن وهب الجهني قال، كنت مع علي كرم الله وجهه حين سار إلى الخوارج فلما التقينا وعلى الخوارج عبد الله بن وهب الراسبي، فقال لهم القوا الرماح وسلوا السيوف من جفونها فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، قال فوحَّشوا برماحهم واستلوا السيوف وشجرهم الناس برماحهم فقتلوا بعضهم على بعض.
قال الشيخ: فوحشوا برماحهم معناه رموا بها على بعد، يقال للإنسان إذا كان في يد شيء فرمى به على بعد قد وحش به ومنه قول الشاعر:
إن أنتم لم تطلبوا بأخيكم ... فضعوا السلاح ووحشوا بالأبرق
وقوله شجرهم الناس برماحهم يريد أنهم دافعوهم بالرماح وكفوهم عن أنفسهم بها، يقال شجرت الدابة بلجامها إذا كففتها به، وقد يكون أيضاً معناه أنهم شبكوهم بالرماح فقتلوهم من الاشتجار وهو الاختلاط والاشتباك.
ومن باب قتال اللصوص
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا(4/335)
إبراهيم بن سعد عن أبيه، عَن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن طلحة بن عبد الله بن عوف عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد.
قال الشيخ: قد طب الله سبحانه في غير آية من كتابه إلى التعرض للشهادة وإذا سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا شهيداً، فقد دل ذلك على أن من دافع عن ماله أو عن أهله أو دينه إذا أربد على شيء منها فأتي القتل عليه كان مأجوراً فيه نائلاً به منازل الشهداء.
وقد كره ذلك قوم زعموا أن الواجب عليه أن يستسلم ولا يقاتل عن نفسه وذهبوا في ذلك إلى أحاديث رويت في ترك القتال في الفتن وفي الخروج على الأئمة، وليس هذا من ذلك في شيء، إنما جاء هذا في قتال اللصوص وقطاع الطريق، وأهل البغي والساعين في الأرض بالفساد ومن دخل في معناهم من أهل العيث والافساد.
كتاب الفتن
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن عثمان بن سعيد الحمصي حدثنا أبو المغيرة حدثني عبد الله بن سالم حدثني العلاء بن عتبة عن عمير بن هانىء العنسي قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول كنا قعوداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل يا رسول الله وما فتنة الأحلاس، قال هي هرَب وحرَب، ثم فتنة السراء دخنُها من تحت قدمَي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني إنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس(4/336)
على رجل كَوَرِك على ضِلع ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحداً من هذه الأمة إلاّ لطمته لطمة وذكر الحديث.
قال الشيخ: قوله فتنة الاحلاس إنما أضيفت الفتنة إلى الاحلاس لدوامها وطول لبثها يقال للرجل إذا كان يلزم بيته لا يبرح منه هو حلس بيته، لأن الحلس يفترش فيبقى على المكان ما دام لا يرفع.
وقد يحتمل أن تكون هذه الفتنة إنما شبهت بالاحلاس لسواد لونها وظلمتها، والحرب ذهاب المال والأهل، يقال حرب الرجل فهو حريب إذا سلب أهله وماله. والدخن الدخان يريد أنها تثور كالدخان من تحت قدميه.
وقوله كورك على ضلع مثل، ومعناه الأمرالذي لا يثبت ولا يستقيم، وذلك أن الضلع لا يقوم بالورك ولا يحمله، وإنما يقال في باب الملامة والموافقة إذا وصفوا هو ككف في ساعد وكساعد في ذراع أو نحو ذلك يريد أن هذا الرجل غير خليق للملك ولا مستقل به والدهيماء تصغير الدهماء وصغرها على مذهب المذمة لها والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وحدثنا قتيبة بن سعيد دخل حديث أحدهما في الآخر قالا: حَدَّثنا أبو عوانة عن قتادة عن نصر بن عاصم عن سُبيع بن خالد قال أتيت الكوفة فدخلت مسجداً فإذا صدْع من الرجال إذا رأيته كأنه من رجال(4/337)
أهل الحجاز، قال قلت من هذا قال فتجهمني القوم، وقالوا ما تعرف هذا، هذا حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حذيفة إن الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر، فقلت يا رسول الله أرأيت هذا الخير الذي أعطانا الله أيكون بعده شر كما كان قبله، قال نعم قلت، ثم ماذا قال هدنة على دخن، قال قلت يا رسول الله ثم ماذا قال إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا فمت وأنت عاض بجذل شجرة.
قال الشيخ: وروى أبو داود في غير هذه الرواية أنه قال هدنة على دخن وجماعة على اقذاء، الصدع من الرجال مفتوحة الدال هو الشاب المعتدل القناة ومن الوعول الفتي. وقوله هدنة على دخن معناه صلح على بقايا من الضغن، وذلك أن الدخان أثر من النار دال على بقية منها.
وقوله جماعة على اقذاء يؤكد ذلك وقد جاء تفسيره في الحديث قال: قلت يا رسول الله الهدنة على الدخن ما هي، قال لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه.
وأخبرني إسماعيل بن راشد عن إسحاق بن إبراهيم عن بعض رجاله أو عن نفسه قال قلت لأعرابي كيف بينك وبين قومك فأنشدني:
وبين قومي ورجالها أحن ... إذا التقوا تحاملوا على ضغن
* تحامل النبت علي وعس الدمن *
والجذل أصل الشجرة إذا قطع أغصانها، ومنه قول القائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك.
وكان قتادة يتأول هذا الحديث فيجعله على الردة في زمن أبي بكر رضي الله عنه.(4/338)
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب، عَن أبي قلابة، عَن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوى لي الأرض أو قال إن ربي زوى لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض واني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامَّة ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وذكر حديثاً فيه طول.
قوله زوى لي الأرض معناه قبضها وجمعها، ويقال انزوى الشيء إذا انقبض وتجمع وقوله ما زوي لي منها يتوهم بعض الناس أن حرف من ههنا معناه التبعيض فيقول كيف اشترط في أول الكلام الاستيعاب ورد آخره إلى التبعيض، وليس ذلك على ما يقدرونه؛ وإنما معناه التفصيل للجملة المتقدمة والتفصيل لا يناقض الجملة ولا يبطل شيئاً منها لكنه يأتي عليها شيئاً شيئاً ويستوفيها جزءاً حزءاً، والمعنى أن الأرض زويت جملتها له مرة واحدة فرآها ثم يفتح له جزء جزء منها حتى يأتي عليها كلها فيكون هذا معنى التبعيض فيها، والكنزان هما الذهب والفضة.(4/339)
وقوله لا يهلكها بسنة عامة فإن السنة القحط والجدب، وإنما جرت الدعوة بأن لا تعمهم السنة كافة فيهلكوا عن آخرهم، فأما أن يجدب قوم ويخصب آخرون فإنه خارج عما جرت به الدعوة، وقد رأينا الجدب في كثير من البلدان وكان عام الرمادة في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقع الغلاء بالبصرة أيام زياد ووقع ببغداد في عصرنا الغلاء فهلك خلق كثير من الجوع، إلاّ أن ذلك لم يكن على سبيل العموم والاستيعاب لكافة الأمة فلم يكن في شيء منها خلف الخبر.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن البراء بن ناجية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تدور رحى الإسلام بخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يُقم لهم سبعين عاماً، قال قلت مما بقي أومما مضى قال مما مضى.
قال الشيخ: قوله تدور رحى الإسلام دوران الرحى كناية عن الحرب والقتال شبهها بالرحى الدوارة التي تطحن الحب لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس قال الشاعر يصف حرباً:
فدارت رحانا واستدارت رحاهم …سراة النهار ما تولى المناكب
وقال زهير:
فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كشافاً ثم تنتج فتيتم
وقال صعصعة جد الفرزدق أتيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه حين رفع يده عن مرحى الجمل يريد حرب الجمل.(4/340)
وقوله وإن يقم لهم دينهم يريد بالدين ههنا الملك، قال زهير:
لئن حللت بجوٍ في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
يريد ملك عمرو. ولايته.
قلت ويشبه أن يكون أريد بهذا ملك بني أمية وانتقاله عنهم إلى بني العباس رضي الله عنه وكان ما بين أن استقر الأمر لبني أمية إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان وضعف أمر بني أمية ودخل الوهن فيهم نحواً من سبعين سنة.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثني يونس عن ابن شهاب حدثني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قيل يا رسول الله أيُّمَ هو قال القتل.
قال الشيخ: قوله يتقارب الزمان معناه قصر زمان الأعمار وقلة البركة فيها. وقيل هو دنو زمان الساعة، وقيل هو قصر مدة الأيام والليالي على ما روي أن الزمان يتقارب حتى تكون السنة كالشهر؛ والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السعفة، والهرج أصله القتال، يقال رأيتهم يتهارجون أي يتقاتلون، وقوله أيم هو يريد ما هو، وأصله أيما هو فخفف الياء وحذف الألف كما قيل أيش ترى في أي شيء ترى.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد، عَن أبي عمران الجوني عن المشعَّث بن طريف عن عبد الله بن الصامت، عَن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك، وذكر الحديث قال فيه كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف، قلت الله ورسوله أعلم أو قال(4/341)
ماخار الله لي ورسوله قال عليك بالصبر أو قال تصبر، ثم قال لي يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك، قال كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم قلت ما خار الله لي ورسوله، قال عليك بمن أنت منه قال قلت يا رسول الله أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي، قال شاركت القوم إذن، قلت فما تأمرني قال تلزم بيتك، قلت فإن دخل على بيتي، قال فإن خشيت أن يبهَرَك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه.
قال أبو داود لم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد.
قال الشيخ: البيت ههنا القبر والوصيف الخادم يريد أن الناس يشغلون عن دفن موتاهم حتى لا يوجد فيهم من يحفر قبراً لميت ويدفنه إلاّ أن يعطي وصيفاً أو قيمته والله أعلم.
وقد يكون معناه أن مواضع القبور تضيق عنهم فيبتاعون لموتاهم القبور كل قبر بوصيف، وقوله يبهرك شعاع السيف معناه يغلبك ضوءه وبريقه والباهر المضيء الشديد الاضاءة قال الشاعر:
بيضاء مثل القمر الباهر
وقد يحتج بهذا الحديث من يذهب إلى وجوب قطع النباش وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى القبر بيتاً فدل على أنه حرز كالبيوت.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن حدثنا حجاج بن محمد حدثنا الليث بن سعد حدثني معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير حدثه عن أبيه عن المقداد بن الأسود قال ايْمُ الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلي فصبر فواهاً.
قال الشيخ: واهاً كلمة معناها التلهف وقد يوضع أيضاً موضع الإعجاب(4/342)
بالشيء فإذا قلت ويهاً كان معناها الإغراء.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسلمة عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن.
قال الشيخ: شعف الجبال أعاليها، وفيه الحث على العزلة أيام الفتن.
ومن باب تعظيم دم المؤمن
قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا محمد بن شعيب عن خالد بن دهقان عن هانىء بن كلثوم، قال سمعت محمود بن الربيع يحدث عن عبادة بن الصامت أنه سمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قتل مؤمناً فاعتبط قتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.
قال خالد وحدثنا عبد الله بن أبي زكريا عن أم الدرداء، عَن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزال المؤمن مُعنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً فإذا أصاب دماً حراماً بلَّح.
قال الشيخ: قوله فاعتبط قتله يريد أنه قتله ظلماً لا عن قصاص، يقال عبطت الناقة واعتبطتها إذا نحرتها من غير داء أو آفة تكون بها ومات فلان عبطة إذا مات شاباً واحتضر قبل أوان الشيب والهرم قال أمية بن أبي الصلت:
من لم يمت عبطة يمت هرما
وقوله معنقاً يريد خفيف الظهر يعنق في مشيه سير المخف؛ والعنق ضرب من السير وسيع يقال أعنق الرجل في سيره فهو معنق، ورجل معنق وهو من(4/343)
نعوت المبالغة، وبلح معناه أعيا وانقطع، ويقال بلح عليَّ الغريم إذا قام عليك فلم يعطك حقك وبلحت الركية إذا انقطع ماؤها.
كتاب المهدي
ومن باب في المهدي
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي حدثنا أبو المليح الحسن بن عمر عن زياد بن بيان عن علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المهدي من عترتي من ولد فاطمة.
قال الشيخ: العترة ولد الرجل لصلبه، وقد يكون العترة الأقرباء وبني العمومة، ومنه قول أبي بكر رضي الله عنه يوم السقيفة نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود: حدثنا سهل بن تمام بن بزيع حدثنا عمران القطان عن قتادة، عَن أبي نضرة، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف.
قال الشيخ: الجلاء هو انحسار الشعر عن مقدم الرأس، ويقال رجل أجلن وهوأبلغ في النعت من الأملح قال العجاج:
مع الجلا ولائح القتير
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن صاحب له عن أم سلمة في قصة المهدي قال ويعمل في الناس بسنة نبيهم ويُلقي الإسلام بجِرانه إلى الأرض فيلبث سبع سنين ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون.
قال الشيخ: الجران مقدم العنق وأصلمفي البعير إذا مد عنقه على وجه الأرض فيقال القى البعير جرانه، وإنما يفعل ذلك إذا طال مقامه في مناخه فضرب الجران مثلاً للإسلام إذا استقر قراره فلم يكن فتنة ولا هيج وجرت أحكامه على العدل والاستقامة.(4/344)
كتاب الملاحم
ومن باب في قتال الترك
قال أبو داود: حدثنا قتيبة وابن السرح وغيرهما قالوا حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة رواية، وقال ابن السرح عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً صغار العيون ذُلْف الأنُف كأن وجوههم المَجَان المطرَّقة.
قال الشيخ: قوله ذلف يقال أنف أذلف إذا كان فيه غلظ وانبطاح وأنوف ذلف.
والمجان جمع المجن وهو الترس، والمطرقة التي قد عوليت بطراق وهو الجلد الذي يغشاه. وشبه وجوههم في عرضها ونتو وجناتها بالترسة قد البست الأطرقة.
قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث قتال الترك قال تسوقونهم ثلاث مرات ويُصطلمون في الثالثة.
قال الشيخ: الاصطلام الاستئصال وأصله من الصلم وهو القطع.
ومن باب في ذكر البصرة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي حدثنا سعيد بن جُمهان حدثنا مسلم بن أبي بكرة قال: سمعت أبي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل أناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها ويكون من أمصار المهاجرين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء حتى ينزلوا على شط النهر، وذكر الحديث.(4/345)
قال الشيخ: الغائط البطن المطمئن من الأرض، والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة وبنو قنطوراء هم الترك، يقال إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم صلوات الله عليه ولدت له أولاداً جاء من نسلهم الترك.
ومن باب ذكر الحبشة
قال أبو داود: حدثنا القاسم بن أحمد حدثنا أبو عامر عن زهير بن محمد عن موسى بن جبير، عَن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اتركوا الحبشة ما تركوكم فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلاّ ذو السويقتين من الحبشة.
قال الشيخ: ذو السويقتين هما تصغير الساق والساق مؤنث فلذلك ادخل في تصغيرها التاء وعامة الحبشة في سوقهم دقة وحموشة.
ومن باب ذكر الدجال
قال أبو داود: حدثنا حيْوة بن شريح حدثنا بقية حدثني بَحير هو بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عمرو بن الأسود عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا. إن المسيح الدجال قصير افحج جعد أعور مطموس العين ليست بناتئة ولا جحراء.
قال الشيخ: الأفحج الذي إذا مشى باعد بين رجليه. والجحراء الذي قد انخسفت فبقى مكانها غائراً كالجحر. يقول إن عينه سادة لمكانها مطموسة أي ممسوحة ليست بناتئة ولا منخسفة.
قال أبو داود: حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام بن يحيى أظنه عن قتادة عن(4/346)
عبد الرحمن بن آدم، عَن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عيسى صلوات الله عليه ونزوله وقال إذا رأيتموه فاعرفوه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصَّرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتهلك في زمانه الملل كلها إلاّ الإسلام.
قال الشيخ: الممصر من الثياب الملون بالصفرة وليست صفرته بالمشبعة. وقوله ويقتل الخنزير فيه دليل على وجوب قتل الخنازير وبيان أن أعيانها نجسة وذلك أن عيسى صلوات الله عليه إنما يقتل الخنزير في حكم شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن نزوله إنما يكون في آخر الزمان وشريعة الإسلام باقية.
وقوله ويضع الجزية معناه أنه يضعها عن النصارى وأهل الكتاب ويحملهم على الإسلام ولا يقبل منهم غير دين الحق فذلك معنى وضعها والله أعلم.
ومن باب في خبر الجساسة
قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا عبد الصمد حدثني أبي قال سمعت حسين المعلم حدثنا عبد الله بن بريدة حدثنا عامر بن شراحيل الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر إن تميماً الداري حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجُذام قلعت بهم الموج شهراً في البحر فأرفؤوا إلى جزيرة حين تغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلَب كثيرة الشعر قالوا ويلكِ ما أنت قالت أنا الجساسة انطلقوا إلى هذا الرجل في هذا الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق وساق الحديث.
قال الشيخ: قوله أرفؤوا إلى جزيرة معناه أنهم قربوا السفينة إليها يقال ارفأت السفينة إذا قربتها من الساحل وهذا مرفأ السفن، وأقرب السفينة يريد بها(4/347)
القوارب وهن سفن صغار تكون مع السفن البحرية كالجنائب لها تتخذ لحوائجهم واحدها قارب، وأما الأقرب فإنه جمع على غير قياس، والجساسة يقال إنها تجسس الأخبار للدجال وبه سميت جساسة، والأهلب الكثير الهلب والشعر.
باب خبر ابن الصائد
قال أبو داود: حدثنا أبو عاصم خُشيش بن أصرم حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بابن صياد في نفر من أصحابه فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يلعب مع الغلمان عند أُطُم بني مَغالة وهو غلام فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال أتشهد أني رسول الله فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين، ثم قال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم أتشهد أني رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت بالله ورسله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتيك قال يأتيني صادق وكاذب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم خُلط عليك الأمر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد خبأت لك خبيئةً وخبأ له {يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان: 10] قال ابن صياد هو الدُّخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخس فلن تعدو قدرك، فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فقال صلى الله عليه وسلم إن يكن فلن تسلط عليه، يَعني الدجال وإن لا يكن هو فلا خير في قتله.
قال الشيخ: الأُطم بناء من الحجارة مرفوع كالقصر وآطام المدينة حصونها والدخ الدخان، وقال الشاعر:
عند رواق البيت يغشى الدخا
وقد اختلف الناس في ابن صياد اختلافاً شديداً وأشكل أمره حتى قيل فيه كل قول، وقد يسأل عن هذا فيقال كيف يقار رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعي(4/348)
النبوة كاذباً ويتركه بالمدينة يساكنه في داره ويجاوره فيها وما معنى ذلك وما وجه امتحانه إياه بما خبأه له من أنه الدخان. وقوله بعد ذلك اخس فلن تعدو قدرك.
والذي عندي أن هذه القصة إنما جرت معه أيام مهادنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود وحلفائهم وذلك أنه بعد مقدمه المدينة كتب بينه وبين اليهود كتاباً صالحهم فيه على أن لا يهاجوا وأن يتركوا على أمرهم، وكان ابن صياد منهم أو دخيلاً في جملتهم وكان يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وما يدعيه من الكهانة ويتعاطاه من الغيب فامتحنه بذلك ليزور به أمره ويخبر شأنه فلما كلمه علم أنه مبطل وأنه من جملة السحرة أو الكهنة أو ممن يأتيه رؤى من الجن أو يتعاهده شيطان فيلقي على لسانه بعض ما يتكلم به فلما سمع منه قول الدخ زبره فقال اخس فلن تعدو قدرك. يريد أن ذلك شيء اطلع عليه الشيطان فألقاه إليه وأجراه على لسانه وليس ذلك من قبل الوحي السماوي إذا لم يكن له قدر الأنبياء الذين علم الغيب ولا درجة الأولياء الذين يلهمون العلم فيصيبون بنور قلوبهم، وإنما كانت له تارات يصيب في بعضها ويخطىء في بعض، وذلك معنى قوله يأتيني صادق وكاذب فقال له عند ذلك قد خلط عليك، والجملة أنه كان فتنة قد امتحن الله به عباده المؤمنين ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيى على بينة، وقد امتحن قوم موسى عليه السلام في زمانه بالعجل فافتتن به قوم وهلكوا ونجا من هداه الله وعصمه منهم.
وقد اختلفت الروايات في أمره وما كان من شأنه بعد كبره فروي أنه قد تاب عن ذلك القول ثم أنه مات بالمدينة وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس وقيل لهم اشهدوا.(4/349)
وروي، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال شتمت ابن صياد فقال ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الدجال مكة وقد حججت معك وقال لا يولد له وقد ولد لي؛ وكان ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيما روي عنهما يحلفان أن ابن صياد هو الدجال لا يشكان فيه، فقيل لجابر إنه اسلم فقال وإن أسلم، فقيل أنه دخل مكة وكان بالمدينة قال وإن دخل.
وقد روي عن جابر أنه قال فقدنا ابن صياد يوم الحرة.
قلت وهذا خلاف رواية من روى أنه مات بالمدينة والله أعلم.
ومن باب الأمر والنهي
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبادة الواسطي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إسرائيل حدثنا محمد بن جحادة عن عطية العوفي، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر.
قال الشيخ: إنما صار ذلك أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو وكان متردداً بين رجاء وخوف لا يدري هل يغلب أو يغلب وصاحب السلطان مقهور في يده فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف فقد تعرض للتلف وأهدف نفسه للهلاك فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة، عَن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر بني إسرائيل وتلا قوله {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} [المائدة: 78] إلى قوله فاسقون، ثم قال {كلا والله لتأمرن(4/350)
بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنهه على الحق أطراً} .
قال الشيخ: قوله لتأطرنه معناه لتردنه عن الجور، وأصل الأطر العطف أو الثني ومنه تأطر العصي وهو تثنيه، قال عمر بن أبي ربيعة:
خرجت تأطر في الثياب كأنها ... أيم تسيب علا كثيباً أهيلا
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر قالا: حَدَّثنا شعبة عن عمرو بن مرة، عَن أبي البختري أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقال سليمان أخبرني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لن يهلك الناس حتى يَعذِروا أو يعذروا من أنفسهم.
قال الشيخ: فسره أبو عبيد في كتابه، وحكي، عَن أبي عبيدة أنه قال معنى يعذروا أي تكثر ذنوبهم وعيوبهم، قال وفيه لغتان، يقال أعذر الرجل إعذاراً إذا صار ذا عيب وفساد، قال وكان بعضهم يقول عذر يعذر بمعناه ولم يعرفه الأصمعي، قال أبو عبيد وقد يكون يعذروا بفتح الياء بمعنى يكون لمن بعدهم العذر في ذلك، والله أعلم.
هنا في نسخة الأحمدية:
آخر الكتاب والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله وأصحابه،
وسلام على عباد الله الصالحين ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم
كتبه عفيف بن المبارك بن الحسين بن محمود الوراق رحمهم الله
وهنا في النسخة الطرطوشية:
كتبه جميعه أبو بكر محمد بن الوليد ببغداد في المدرسية النظامية في شهر رمضان من سنة ثمان وسبعين وأربعمائة والله وليه وحافظه. اهـ.(4/351)
خطأ عثرت عليه في هذا الجزء:
صحيفة سطر الخطأ الصواب
الكتاب المكاتب
سطع سطح
وكذلك عثرت على خطأ في الجزء الأول:
صحيفة سطر الخطأ الصواب
ابروا ابردوا
هذه القسم هذه القسمة
رسول الله رسول رسول الله
في الجزء الثالث:
في صحيفة 99 آخر سطر , كلمة عرف , صوابها غرق , والبياض التي تركته هو في بحر كما وجدته في عون المعبود شرح سنن ابي داود للعلامة الشيخ محمد شمس حق العظيم أبادي الهندي المطبوع في الهند ولم يكن وقتئذ عندي , وقد تفضل بإرساله الينا اعارة من دمشق الأستاذ الفاضل الشيخ بهجة البيطار حفيد العلامة الشيخ عبد الرزاق البيطار رحمه الله تعالى , فله مني عظيم الشكر ومن الله تعالى جزيل الأجر.(4/352)
كلمه للناشر أيضا
قلت في ذيل الصحيفة الثامنة من الجزء الأول , كتب لي شيخنا بالإجازة حافظ المغرب الشيخ محمد عبد الحي الكتاني الفاسي ان لهذه المقدمة النفيسة شرحا للإمام الحافظ أبي طاهر السلفي لكني لم أطلع عليه ولا أعلم منه نسخة في مكتبة من المكاتب.
فاطلع على ذلك الشيخ سليمان بن عبد الرحمان الصنيع وهو من أهل العلم بمكة المشرفة فكتب لي كتابا مؤرخا في 3 ذي الحجة 1351 جاء فيه أن شرح هذه المقدمة يوجد في مدرسة ديوبند (السند) وقد كتبت بواسطة شيخي عالم ديوبند ومحدثها ونزيل مكة الآن اطلب هذا الشرح وسأرسله لكم إذا وصلني وفقكم الله لنشر كتب السنة.
وفي غرة ربيع الأول من سنة 1353 وصلتني هذه الرسالة بوسطة الوجيه المفاضل الشيخ محمد أفندي نصيف عين أعيان جدة وأماثلها , وأني شاكر لهما ولمن توسط بأرسالها من بلاد السند هذا العمل المبرور جزى الله الجميع خير الجزاء.
وبعد تلاوتها لم أجدها شرحا للمقدمة بل هي مقدمه حافلة للحافظ الموما اليه نوه بها بجلالة الامام ابي داود وما صنفه وفضل الشارح الإمام الخطابي املاها قبل املائه معالم السنن , وقد جاء فيها من الفوائد والأخبار ما لا ذكر له في مقدمتي فألحقتها بآخر الكتاب تتميما للفائدة وحرصا على احيائها.
وقد علق عليها هذان الفاضلان بعض تعليقات واقتفيت انا اثرهما ونسجت(4/353)
على منوالهما ايضا وعزوت كل تعليقة لصاحبها.
وقد ذيل المقدمة الشيخ سليمان الموما اليه بقوله فرغ بحمد الله واعانته وحوله وقوله الفقير الى الله تعالى سليمان بن عبد الرحمان بن محمد بن علي بن عبد الله بن حمد الصنيع من رقم هذه المقدمة يوم الأربعاء التاسع من شهر صفر الخير سنة ثلاث وخمسين وثلاثماية والف بمكة المكرمة , ونقلت هذه المقدمة عن نسخة نسخت لي في السند في العم الماضي من نسخة مخطوطة مع معالم السنن للخطابي وكلاهما بخط واحد من اولها الى آخرها , الا أن معالم السنن مخرومة من آخرها بقدر الكراس او الكراسين , ولهذا جهل تاريخ النسخة وهي من مخطوطات القرن التاسع أو العاشر , واصل النسخة هذه من الحجاز وهي في مكتبة الشيخ صبغة الله بن محمد بن راشد الحسيني السندي وبيتهم بيت علم وصلاح وامر بالمعروف ونهي عن المنكر. وكان هذا الشيخ ممن صحب السيد احمد الدهلوي الشهيد هكذا افادني شيخنا العلامة الكبير المحدث الفقيه الشيخ عبيد الله بن الاسلام السندي ثم الدهلوي الديوبندي جزاه الله خيرا ونفعنا بعلومه آمين.
هذا وأني قد صححت الأصل بقدر الإمكان وعلقت على بعض المواضع بقدر الحاجة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم اهـ.(4/354)
مقدمة الحافظ الكبير أبي طاهر السلفي
المتوفى سنة 576 رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام شيخ الإسلام الحافظ الصدر بقية السلف أبو طاهر أحمد بن محمد بن إبراهيم السِّلفي الأصبهاني رضي الله عنه قراءة عليه في منزله وأنا أسمع فأقرَّ به رضي الله عنه قال: أما بعد حمد الله تعالى على كل حال، والصلاة على المصطفى محمد وآله خير آل والمرتضين أصحابه في مقال وفعال، فقد اقترح عليَّ في ذي قعدة سنة ست وأربعين وخمسمائة جماعة من أعيان فقهاء الثغر المحروس أن أملي عليهم شيئاً من الحديث في خلال الدروس من غير اخلال بها وتقصير يلحقها ومداومة يذهب بها بهاؤها ورونقها، فاستجدت مقالهم وأجبت سؤالهم، وعينت عليّ يومين الخميس والاثنين، وأمليت من رواياتي عن مشايخي مجالس تحتوي على الصحيح من الحديث والغريب وبعيد الإسناد والقريب؛ وحكايات في أواخرها ومن الأشعار فاخرها كما جرت به العادة وسنة قبلنا الحفاط القادة في أماليهن ورواية عواليهم،
ثم قطعتها(4/355)
معولاً على إملاء كتاب جامع يتضمن أحاديث الأحكام على أقصى غاية من الأحكام، يصلح الأئمة الكبار؛ وفحول الفقهاء النظار، عرى عن المعهود في الأمالي، ويكون ذلك من رواياتي العوالي، فلم أتمكن مما عولت عليه وقصدته لبعد مسموعي عني الذي في حضري وسفري حصلته فدعتني الضرورة حينئذ إلى العدول عن ذلك إلى إملاء كتاب مصنفه مشهور، وبالحفظ والثقة مذكور ويستغني بشهرته عن مدح مادح، ولا يتطرق إليه قدح قادح، وينتفع بما فيه اعلام العلماء، وكافة الفقهاء، ولا يخلو عن الحديث المعنعن كما يحتوي على الفقه المستنبط من نصوص الكتاب والسنن، فلولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، ولم يبال أحسن أم أساء، فلم أر ما هو باملاء أولى، وعند الانتقاء أعلى وأجلى من موطأ الإمام مالك بن أنس الأصبحي الألمعي الثقة المتفق شرقاً وغرباً على تقدمه وإمامته وديانته فيما يرويه وأمانته وعلى ما رزق من الاتقان والضبط والبعد من التخليط والخبط، فعند استقراره والثبوت على استمراره، سئلت في إبانة ما عسى يتبين في لفظه أو معناه إشكال ويتعين عنه سؤال، فتأبيت هنالك عجزاً عن ذلك على ما بينته مبسوطاً، وما يكون به منوطاً في مقدمة كتاب الاستذكار لابن عبد البر في شرحه المستحق للمبالغة في تقريظه ومدحه وملت إلى املائه في أبرك الأوقات بعون الله تعالى والقائه إذ ليس في الشروحات على كثرتها مثله، وقد بان من تأليفه البديع علمه وفضله فتصديت له وشرعت فيه شروعاً ارتضيه، وهو كتاب كبير في إحدى النسخ ثلاثون مجلداً لكن بخط واضح أنيق، وفي أخرى أحد عشر بخط دقيق، وقد كتب به إلىَّ أبو عمران موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد الشاطبي رواية، عَن أبي عمر مؤلفه(4/356)
في الأندلس سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.
وكان ابتداء الشروع في الالقاء على الأصحاب الفقهاء وفقهم الله وأعانهم على تحصيل العلم الذي زانهم في المدرستين إما العادلية أو الصالحية نفع الله منشيهما بالإنشاء واثابنا نحن بالإملاء على ما كان يتفق ويتسهل في كل أسبوع يومين الخميس على ما ذكرته آنفاً والاثنين في شهور سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ووقع الفراغ منه في أواخر ذي القعدة سنة إحدى وستين فحمدت الله تعالى على إفضاله وإنعامه وإكمال الكتاب واتمامه وهو تعالى المسؤول في نفعنا بالعلم وحمله وضبطه ونقله وجعلنا من بررة أهله بسعة فضله وطوله.
واخترت بعد استخارة الله سبحانه في هذا الأوان الشروع في إملاء ديوان آخر شرعي يصلح للفقهاء الأعيان وينتفع به كذلك المتفقه فيما يكون بصدده ويعده من أوفى عدده ولا يخلو من الإسناد الذي عليه جل الاعتماد بل يكون به منوطاً ووجوداً مشروطاً، فلم أر أحسن من شرح أبى سليمان الخطابي البستي لكتاب أبي داود السجزي فهو كتاب جليل، وفي إلقائه عاجلاً ذكر جميل، وآجلاً إن شاء الله تعالى ثواب جزيل. وقد أردت أن أقدم ههنا أيضاً فصلاً في التنبيه على جلالة أبي داود وما صنفه، وفضل أبي سليمان وشرحه الذي ألفه كما فعلت في مقدمة الاستذكار الكبير المقدار، وإن كان أبو سليمان قد كفانا ذلك بما ذكره في خطبة كتابه بحسن خطابته وخطابه.
أما كتاب أبي داود فهو أحد الكتب الخمسة التي اتفق أهل الحل والعقد من الفقهاء وحفاط الحديث النبهاء على قبولها والحكم بصحة أصولها وما ذكره في أبوابها وفصولها بعد الموطأ المتفق على الصحة وعلو درجة مصنفه ورتبته،(4/357)
وحين عرض كتاب أبي داود على أحمد بن حنبل ورآه استحسنه وارتضاه، وحسبه ذلك فخراً.
قال إبراهيم بن إسحاق الحربي وأحْرِ به حراً حين وقف عليه وصح ما فيه لديه، ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد.
وروي مثل هذا القول عن محمد بن إسحاق الصغاني فيه وقد يقع الحافر على الحافر، ويوافق قول الأول قول الآخر، وقد قرأت أنا هذه الحكاية وفوائد أُخر من الكتاب على الإمام أبي المحاسن الطبري قاضي قضاة طبرستان بالري سنة إحدى وخمسمائة، وناولني الكتاب جميعه من يده إلى يدي وأذن لي في روايته عنه على جري العادة ومذهب الفقهاء السادة وحفاط الحديث في القديم والحديث.
وكان من غرضي كتابته ومن بعد الكتابة قراءته فمنعني عن بلوغ الغرض عارض من المرض، والله أحمد على ما سرّ وساء وأشكره على قضاء قد قدر وشاء.
وكان ينفرد به وإليه يرحل من كل قطر بسببه. وشيخُه فيه أبو نصر البلخي الذي بغزنة رواه عنه عن المؤلف عالياً رواه سوى أبواب يسيرة سقطت على أبي نصر فأخذها، عَن أبي الحسن اللبان الدينوري نازلاً بغزنة أيضاً، عَن أبي مسعود الكرابيسي، عَن أبي سليمان.
وقد كتبه الفقيه أبو بكر الطرطوشي ببغداد بخطه في المدرسة النظامية سنة ثمان وسبعين وأربعمائة صحيفة من غير سماع إذ لم يجد من يرويه له بالعراق(4/358)
وإنما كان ينفرد به أبو المحاسن كما ذكرته ولم يتيسر إلاّ عنه ولا أخذ رواية إلاّ منه. وأصل كتاب الطرطوشي هو الآن في ملكي.
واستيفاء ذكر أبي داود وفضله وتقدمه في علم الحديث عند أهله ومعرفته بكل نقلته ورواته وجل حملته ووعاته يتعذر في هذه المقدمة فيقتصر على القليل منه الذي لا يستغنى عنه.
فأما نسبه فقد قال ابن أبي حاتم الرازي في كتاب الجرح والتعديل سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر. وقال محمد بن عبد العزيز الهاشمي فيما روى عنه ابن جميع الصيداوي سليمان بن الأشعث بن بشير بن شداد، وروى أبو بكر بن داسة وأبو عبيد الآجري البصريان فقالا سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد، وكذلك نسبه أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد. وقال ابن شداد بن عمرو بن عمران أبو داود الأزدي السجستاني زاد بعد شداد عمر أو عمران، وهذا القول في نسبه أمثل والقلب إليه أميل ثم الله تعالى أعلم.
وشيوخه كثيرون ومنهم عبد الله بن مسلمة القعنبي وأبو الوليد الطيالسي وأبو عمر الحوضي وسليمان بن حرب الواشحي وأبو سلمة التبوذكي وأحمد بن يونس اليربوعي وهشام بن عمار الظفري وأبو الجماهر التنوخي وأبو طاهر بن السرح وقتيبة بن سعيد وآخرون من أهل العراق والشام ومصر وخراسان وقد تلمذ على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعنهما أخذ علم الحديث وعلق عنه أحمد حديثا واحداً وأثبته بخطه في دفتر وأفاده لابن أبي سمينة أبي جعفر(4/359)
وحدث عنه من أقرانه الحافظ أبو عبد الرحمن النسوي وأبو عيسى الترمذي وأبو محمد الجواليقي قاضي الأهواز وأبو بشر الدولابي الرازي وآخرون من المتأخرين قد ذكرناهم في غير هذا الموضع، فأذكر الآن ههنا مما قرأت على أبي المحاسن من الكتاب؛ ويعد من لباب اللباب أعني كتاب الخطابي فوائد لتقع من طلاب الحديث العارفين بقوانين التحديث في كل موضع أحسن موقع ولأميزها كذلك عن المناولة من الكتاب إذ ذلك عين الصواب فالمناولة بالإجماع لا تبلغ درجة السماع، ولهذا يجب تعيين المسموع من المجاز وتبيين الحقيقة من المجاز عند من له بالمجازات إيمان وإيقان، ولديه فيما يعانيه خوفاً من الله ضبط واتقان.
والموعود بإيراده معنعناً بأسناده وإن ليس من إعادته بد في أثناء خطبة الكتاب على نص ما ذكره مؤلفه للطلاب ما أخبرني القاضي أبو المحاسن الروياني بقراءتي عليه بالري نا أبو نصر البلخي بغزنة أنا أبو سليمان الخطابي أخبرني أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد صاحب أبي العباس أحمد بن يحيى قال: قال إبراهيم الحربي لما صنف أبو داود هذا الكتاب، يَعني كتاب السنن ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود النبي صلى الله عليه وسلم الحديد، فنظمت أنا هذا الكلام المنقول عن الحربى بثغر سَلَماس بعد سماعي من أبي المحاسن بالري لاستحساني ما ماس وقلت:(4/360)
لان الحديث وعلمه بكماله ... لإمام أهله أبي داودا
مثل الذي لان الحديد وسبكه ... لنبي أهل زمانه داودا
هكذا كتبناه، عَن أبي المحاسن في صدر معالم السنن للخطابي من قول إبراهيم بن إسحاق الحربي. وقد أخبرنا محمد بن طاهر بن علي المقدسي بهمذان أنا أبو القاسم علي بن عبد العزيز الخشاب بنيسابور أنا محمد بن عبد الله بن البيع فيما أذن لنا قال سمعت أبا سليمان الخطابي يقول سمعت إسماعيل بن محمد الصفار يقول سمعت محمد بن إسحاق الصغانى يقول الين لأبي داود السجستاني الحديث كما الين لداود النبي الحديد. وسمعت القاضي أبا المحاسن الروياني يقول سمعت أبا نصر البلخي بغزنة يقول سمعت أبا سليمان الخطابي يقول سمعت أبا سعيد بن الأعرابي ونحن نسمع منه هذا الكتاب، يَعني كتاب السنن لأبي داود وأشار إلى النسخة وهي بين يديه ولو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلاّ المصحف الذي فيه كتاب الله تعالى ثم هذا الكتاب لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة.
أخبرني القاضي أبو المحاسن بالري، حَدَّثنا أبو نصر البلخي بغزنة أنا أبو سليمان الخطابي حدثني عبد الله بن محمد المسكي حدثني أبو بكر بن جابر خادم أبي داود قال: كنت معه ببغداد فصلينا المغرب إذ قرع الباب ففتحته فإذا خادم يقول هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن؛ فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه فأذن له فدخل وقعد ثم أقبل عليه أبو داود وقال ماجاء بالأمير في مثل هذا الوقت فقال: خلال ثلاث، قال: وما هي؟ قال: تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطناً فترحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك، فإنها قد خربت وانقطع عنها(4/361)
الناس لما جرى عليها من محن الزنج، فقال هذه واحدة فهات الثانية، قال وتروي لأولادي السنن، فقال نعم هات الثالثة، قال وتفرد لهم مجلساً للرواية فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة، فقال أما هذه فلا سبيل إليها لأن النلس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.
قال ابن جابر فكانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون في كمحيرى ويضرب بينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة.
وهذه جملة ما قرأته على أبي المحاسن من صدر الكتاب سوى ما لعله من أثنائه أودعه تخريجاً له وسمعته عليه وسأعيدها عند املاء الكتاب إن شاء الله تعالى أعني كتاب معالم السنن.
وأما السنن فكتاب له صيت في الآفاق، ولا يرى مثله على الإطلاق، وهو كما ذكرت فيما تقدم أحد الكتب الخمسة التي اتفق على صحتها علماء الشرق والغرب والمخالفون لهم كالمتخلفين عنهم بدار الحرب وكل من رد ما صح من قول الرسول ولم يتلقه بالقبول ضل وغوى، إذ كان عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى ومشاققته الرسول الأمين واتباعه غير سبيل المؤمنين قد رفض الدين وأسخط الله وأرضى إبليس اللعين، وفي الكتاب العزيز الذي عجز الفصحاء عن الإتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نواه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} [النساء: 155] .
وحيث فرغنا من هذا الباب نذكر إسنادنا في الكتاب وقد رواه عنه أبو علي اللؤلؤي وأبو بكر بن داسة البصريان وغيرهما من الرواة الأعيان. ومنهم وراقه(4/362)
أبو عيسى إسحاق بن موسى بن سعيد الرملي.
فأما رواية اللؤلؤي فقد كتب إليَّ أبو طاهر جعفر بن محمد بن الفضل العباداني من البصرة على يدي صاحبنا أبي نصر اليونارتي رحمه الله، قال أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي، حَدَّثنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو وأحمد بن محمد بشرويه وآخرون بأصبهان، قالوا أنبأنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الحافظ قال: كتب إلي أبو بكر محمد بن بكر بن داسة البصري، حَدَّثنا أبو داود.
وقد سمعت الإمام أبا الطيب حبيب بن أبي مسلم الطهراني بأصبهان سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة يقول سمعت أبا بكر بن علي المديني يقول سمعت المحسن بن محمد بن إبراهيم الواذري يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: من أراد أن يستمسك بالسنن فليقرأ سنن أبي داود. هذا المنام كما ترى ورؤيا المؤمن عند من قرأ العلم ودرى هي في الصحة والقوة كجزء من النبوة.
وطهران والمدينة وواذار ثلاثتها من قطر أصبهان، والمدينة هي المعروفة بشهرستان بلدة كبيرة عامرة بالخلق وطهران وواذار ضيعتان من ضياعها كبيرتان والمحسن يكنى أبا العلاء ولأبي سعيد الرستمي وكان من مجيدي شعراء أصبهان (*)(4/363)
ابن قحطان قصيدة طويلة (*) أبيات يذكر فيها (*) الدنيا (*) القاضي أبو طاهر أحمد الجربدقاني أنبأنا أبو الفضل إسماعيل الجربادقاني الكاتب أنبأنا (*) المظفر ابن شهدان الأصبهاني أنشدنا الرستمي لنفسه:
حجي إلى الباب الجديد وكعبتي ... الباب العتيق وبالمصلى الموقف
والله لو عرف الحجيج مكاننا ... من زندروز وجسره ما عرفوا
أو شاهدوا زمن الربيع طوافنا ... بالخندقين عشية ما طوفوا
زار الحجبج مني وزار ذوو الهوى ... جسر الحسين وشعبه واستشرفوا
ورأوا ظباء الخيف في جنباته ... فرموا هنالك بالجمار وخيفوا
أرض حصاها جوهر وترابها ... مسك وماء المد فيها قرقف
هذا قد مضى، وفرغ وانقضى، ونرجع إلى السنن فكتاب السنن أخبرنا أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي بهمذان أنا أبو القاسم عبد الله بن طاهر التميمي الفقيه قدم علينا الري حاجاً أنا علي بن محمد بن نضرة الدينوري، حَدَّثنا القاضى أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد المالكي، حَدَّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن أحمد حدثني أبو بكر محمد بن إسحاق، حَدَّثنا الصولي قال: سمعت أبا يحيى زكريا بن يحيى الساجي يقول كتاب الله عز وجل الإسلام، وكتاب السنن لأبي داود عهد الإسلام.
وسمعت أبا الحسن علي بن مسلم بن الفتح السلمي الفقيه بدمشق يقول سمعت أبا نصر الحسين بن محمد بن طلاب القرشي يقول سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد بن جميع الغساني بصيدا يقول سمعت أبا بكر محمد بن عبد العزيز بن محمد بن الفضل بن يحيى بن القاسم بن عون بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث(4/364)
بن عبد المطلب بمكة يقول سمعت أبا داود سليمان بن الأشعث بن بشير بن شداد السجستاني بالبصرة وسئل عن رسالته التي كتبها إلى أهل مكة وغيرها جواباً لهم فأملى عليهم: سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد؛ عافانا الله وإياكم فهذه الأربعة الآلاف والثمانمائة الحديث كلها في الأحكام، فأما أحاديث كثيرة من الزهد والفضائل وغيرها من غير هذا فلم أخرجها والسلام عليكم ورحمة الله، وصلى الله على محمد النبي وآله هذا آخر ما أخبرنا به الفقيه أبو الحسن بدمشق.
وقد سمعت أبا الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي الحافظ بهمذان في كتاب اليواقيت من تأليفه يقول: قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة، وربما اختصرت الحديث الطويل لأني لوكتبته بطوله لم يعلم بعض من يسمعه ولا يعلم موضع الفقه منه فاختصرته لذلك. وسمعت أبا الفضل المقدسي بهمذان يقول: حكى أبو عبد الله بن منده الحافظ الأصبهاني أن شرط أبي داود والنسائي إخراج أحاديث أقوام لم يجمع على تركهم إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطع ولا إرسال.
وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن الأبنوسي ببغداد أنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ حدثني أبو بكر محمد بن علي بن إبراهيم القاري الدينوري بلفظه قال سمعت أبا بكر بن داسة يقول سمعت أبا داود يقول كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، يَعني كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ويكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث أحدها قوله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات، والثاني قوله من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، والثالث قوله لا يكون المؤمن مؤمنا(4/365)
حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه، والرابع قوله الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات الحديث. . أبو داود سليمان بن الأشعث قال أقمت بطرسوس عشرين سنة كتبت المسند وكتبت أربعة آلاف حديث لمن وفقه الله فأولها ما رواه الشعبي عن النعمان عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين، لم يذكر أبو نعيم في روايته هذه عن العثماني غير هذا القدر لا أزيد. وقد رواه عنه ابن فارس اللغوي مؤلف مجمل اللغة فذكر الأحاديث الثلاثة الباقية وبينها وعين عليها وأثبتها، وابن فارس وأبو نعيم في درجة واحدة في رواية هذا الكلام وإن كان ابن فارس أقدم وفاة وأعلى إسناداً، وقد وقعت الحكاية لنا عالية من رواية أبي نعيم ورواية ابن فارس النازلة فأنبأنا ابن السراج البغدادي ببغداد وابن بعلان الكبير الحنوي بحاني قالا كتب إلينا أبو الفتح سليم بن أيوب بن سليم الرازي من ثغر صور أبا أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني حدثني أبو عمرو عثمان بن محمد العثماني، حَدَّثنا أبو القاسم يعقوب بن محمد بن صالح القرشي، حَدَّثنا محمد بن صالح الهاشمي، حَدَّثنا ابن الأشعث قال أقمت بطرسوس عشرين سنة كتبت المسند فكتبت أربعة آلاف حديث ثم نظرت فإذا مدار أربعة آلاف على أربعة أحاديث لمن وفقه الله جل ثناءه فأولها حديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بين، وثانيها حديث عمر الأعمال بالنيات، وثالثها حديث أبي هريرة إن الله طيب لا يقبل إلاّ الطيب، ورابعها حديث أبي هريرة أيضاً من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
أخبرنا محمد بن طاهر المقدسي بهمذان أنا أبو بكر أحمد بن علي الشيرازي(4/366)
بنيسابور أنا الحاكم أبو عبد الله في كتابه، قال سمعت الزبيري عبد الله بن موسى الثوري يقول سمعت أبا عبد الله بن مخلد يقول كان أبو داود سليمان بن الأشعث يفي بمذاكرة مائة ألف حديث ولما صنف كتاب السنن وقرأه على الناس صار كتابه لأصحاب الحديث كالمصحف يتبعونه ولا يخالفونه وأقر له أهل زمانه بالحفظ والتقدم فيه.
كتب إليَّ أبو مكتوم عسيى بن أبي ذر الهروي من مكه قال أنبأنا أبو ذر قال أجاز لي أبو علي أحمد بن عبد الله بن محمد الأصبهاني بالري، قال أجاز لي أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حائم!!! ، قال سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر الأزدي أبو داود السجستاني روى عن عبد الله بن مسلمة القعنبي وموسى بن إسماعيل التبوذكي ومحمد بن كثير العبدي وأحمد بن حنبل ومسدد بن مسرهد رأيته ببغداد وجاء إلى أبي مسلماً وهو ثقة.
وأنبأنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ببغداد وآخرون قالوا أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي أنبأنا أبو الحسين محمد بن العباس بن الفرات الحافظ أنا محمد بن العباس بن أحمد بن محمد بن عُصم الضبي، حَدَّثنا أحمد بن محمد بن ياسين الهروي، قال سليمان بن الأشعث أبو داود السجزي كان أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه وعلله وسنده في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع من فرسان الحديث.
أخبرنا أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي بهمذان أنا أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن منده العبدي بأصبهان قال: قال أبي أبو عبد الله بن منده الحفاظ الذين أخرجوا الصحيح وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب(4/367)
أربعة أبو عبد الله البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري وبعدهما أبو داود السجستاني وأبو عبد الرحمن النسائي سمعت القاضي أبا الفتح إسماعيل بن عبد الجبار بن محمد المالكي بقزوبن، قال سمعت أبا يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي الحافظ املاءً في كتاب الإرشاد في معرفة علماء الحديث من تأليفه قال أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني الحافظ الإمام ببغداد في وقته عالم متفق عليه إمام ابن امام له كتاب المصابيح شارك أباه بمصر والشام في شيوخه سمع عيسى بن حماد وأحمد بن صالح المصري الحافظ وأيوب العسقلاني والأئمة بمصر وجميع الشام وبغداد وأصبهان وسجستان وشيراز وخراسان مات سنة ست عشرة وثلاثمائة أدركت من أصحابه جماعة.
واحتج به من صنف الصحيح أبو علي الحافظ النيسابوري وابن حمزة الأصبهاني وكان يقال أئمة ثلاثة في زمان واحد ابن أبي داود ببغداد وابن خزيمة بنيسابور وابن أبي حاتم بالري، قال الخليلي ورابعهم ببغداد أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد مولى ابن هاشم ثقة إمام يفوق في الحفظ أهل زمانه ارتحل إلى مصر والشام والحجاز والعراق منهم من تقدمه في الحفظ على أقرانه منهم أبو الحسن الدارقطني الحافظ ومات ابن صاعد سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، هذا ما ذكره الخليلي في كتابه وكان من حفاط زمانه متفقاً عليه في حفظه وإتقانه.
وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري الحافظ في كتاب معرفة علوم الحديث من تأليفه الذي قرأته على أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، عَن أبي بكر أحمد بن علي بن خلف الشيرازي عنه، وذكر في باب منه نفراً من الحفاظ، ثم قال قد اختصرت هذا الباب(4/368)
وتركت أسامي جماعة من أئمتنا كان من حقهم أن أذكرهم في هذا الموضع فمنهم أبو داود السجستاني، وقرأت على أبي الحسين علي بن الحسن بن الحسين الطائي بدمشق، عَن أبي علي الحسن بن علي بن إبراهيم المقري الأهوازي، قال سمعت أبي يقول سمعت أبا بكر محمد بن بكر بن عبد الرزاق المعروف بابن داسة يقول كنت يوماً سائراً إلى الأُبُلَّة لالقى أبا داود السجستاني فجعلت طريقي على سهل بن عبد الله فلما دخلت إليه رأى معي المحبرة، فقال لي تكتب الحديث فقلت نعم وتمضي إلى أبي داود وتسمع منه، قلت نعم، قال هب أنك أبو داود السجستاني وكتبت ما كتب وجمعت ما جمع وعشت ما عاش وصارت الرحلة إليك كما الرحلة إلى أبي داود لا ينفعك شيء من ذلك أو تعمل به، قال أبو بكر بن داسة فجرح قلبي كلام الشيخ وتألم سري فجئت أبا داود وأنا منكسر فقال لي مالك، فقلت له آذى بشري هذا العجمي أعني سهلاً وذكرت ما جرى لي معه، فقال لي أبو داود قم بنا إليه فجاء معي إليه، فلما رآه سهل قام له قائماً وكان سهل لا يقوم لأحد وقبله وأجلسه إلى جنبه وتنحى له من بعض مقعده وتذاكرا، فقال له أبو داود فيما جرى بينهما حديث كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعياني فقال له سهل ما هو فقال له أبو داود قول النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، فقال له سهل: نعم، معنى قوله: كل مولود يولد على فطرة الإسلام، يَعني عل خلقة الإسلام، ومعنى قوله فأبواه يهودانه، يَعني يحسنان له اليهودية والنصرانية والمجوسية ويحملانه إلى بيوت عبادتهم، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: بعثت داعياً وليس إليَّ من الهداية شيء وخلق(4/369)
إبليس مذنباً وليس إليه من الضلالة شيء، قال: فانكب أبو داود فباس رجل سهل؛ قال أبو علي قال لي أبي قلت لابن داسة كنت تخرج إلى أبي داود إلى الأبلة فقال لي أقمت أربع سنين أخرج إليه في كل يوم أمر وأجيء، قال لي أبي وكان ابن داسة له بستان حسن فكان ربما يقعد في البستان عمداً لأصحاب الحديث حتى إذا جئنا إليه إلى البستان أطعمنا شيئاً وقدم لنا من الثمر الذي في البستان في كل حين ما حضر.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن زنجويه المفتي بزنجان أنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن شبيب الشيرازي بنيسابور حدثني إسحلق بن إبراهيم الحافظ، قال سمعت الخليل بن أحمد القاضي يقول سمعت أبا محمد أحمد بن محمد بن الليث قاضي بلدنا يقول جاء سهل بن عبد الله التستري إلى أبي داود السجستاني؛ فقال يا أبا داود لي إليك حاجة قال وما هي قال حتى تقول قد قضيتها مع الإمكان، قال قد قضيتها مع الإمكان، قال اخرج إلي لسانك الذي حدثت به أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله فأخرج إليه لسانه فقبله.
لم يسهل على سهل هذا الفعل مع انقباضه عن الناس وانزوائه عنهم ميلاً منه إلى اليأس وايثاره الخمول وتركه الفضول إلاّ لاحياء أبي داود الحديث والشرع الشريف بالبصرة عقيب ما جرى عليها من الزنوج القائمين مع القرمطي وخرابها وقتل علماءها وأعيانها ما جرى واشتهر عند الخاص والعام من الورى واتيان الموفق إليه وسؤاله إياه على التوجه في الانتقال إليها ليرحل إليه ويؤخذ عنه كتابه في السنن وغير ذلك من علومه وتتعمر به كما تقدم فيما أمليناه إذ تحقق أن مقامه بها وكونه بين أهليها يقوم مقام كماة انجاد وحماة أمجاد وقليل ما فعله(4/370)
سهل في حقه حين رأى الحق المستحق والله تعالى يثيب الجميع بنياتهم الجميلة وما قد حازوه من الفضيلة وينفعنا باتباعهم ومحبتهم ويحشرنا بمنه وكرمه في زمرتهم.
وفضائل أبي داود كثيرة ورتبته بين أهل الرتب كبيرة وما أوردته ههنا من فضله، وقول كبير بعد كيير فقليل من كثير، وغرضا التقليل والاختصار لا التطويل وا لاكثار.
وقد ذكرت الطرق العالية التي وقعت لي إليه في بعض تخريجاتي على وجه يعول عليه ومن أعزها وجوداً وأحسنها وروداً رواية أبي بكر الصولي فهو قديم الوفاة يذكر مع الأنباري وابن دريد ونفطويه وأقرانهم لكونه في زمانهم توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وقيل سنة ست بالبصرة لإضاقة لحقته ببغداد فانحدر إليها على ما الخطيب في تاريخه رواها:
ومن قضيت منيته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها
أخبرنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل بن محمود الثقفي رئيس أصبهان سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، أنبأنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد الغضائري ببغداد سنة ثلاث عشرة وأربعمائة،، حَدَّثنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، أنا أبو داود سليمان بن الأشعث، حَدَّثنا أحمد بن محمد بن حنبل، حَدَّثنا يحيى عن عبد الملك عن عطاء عن جابر قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في اليوم الذي مات فيه إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ست ركعات في أربع سجدات كبر، ثم قرأ فأطال القراءة ثم ركع نحواً مما قام ثم رفع رأسه فقرأ دون القراءة الأولى ثم ركع نحواً مما قام ثم رفع رأسه فقرأ(4/371)
القراءة الثالثة دون القراءه الثانية، ثم ركع نحواً مما كان ثم رفع رأسه وانحدر للسجود فسجد سجدتين ثم قام فركع ثلاث ركعات قبل أن يسجد ليس فيها ركعة إلاّ والتي قبلها أطول منها إلاّ أن يكون ركوعه نحواً من قيامه ثم تأخر في صلاته فتأخرت الصفوف معه ثم تقدم فقام في مقامه وتقدمت الصفوف معه فقضى بعض الصلاة وقد طلعت الشمس، فقال يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت بشر فإذا رأيتم من ذلك شيئاً فصلوا حتى تنجلى.
هذا الحديث في علوه كما رواه يفتخر به من سمعه ممن بهذا السند في هذا الأوان رواه وتقنع من إيراد طرق حديثه العوالي بهذا الطريق والله تعالى ولي التوفيق.
وقد كان رحمه الله في زمانه يراجع في الجرح والتعديل ويدون كلامه ويعول عليه غاية التعويل وعندي من ذلك سؤالات في غاية الجودة مفيدة ممتعة وفي الاعلام لعلة الجسم مقنعة، ومن جملتها ما رواه عند أبو عبيد الآجري في خمسة أجزاء ضخام بخطي في كل جزء ثلاثون ورقة سوى الرابع والخامس فهما انقص من ذلك واذكر ههنا يسيراً منها واجعلها أنموذجاً عنها.
أخبرنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ببغداد أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن منصور العتيقي قال كتب إلينا محمد بن عدي بن زحر المنقري من البصرة، حَدَّثنا أبو عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري البصري، قال سأنت أبا داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو السجستاني عن عروة بن أذينة قال مديني شاعر حدث عنه يحيى بن سعيد وعبيد الله(4/372)
بن عمر ومالك لا أعلم له إلاّ حديثاً واحداً،
وقال سمعت أبا داود يقول: صالح مولى التوأمة هو ابن نبهان والتوأمة امرأة، وقال سألت أبا داود عن المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي فقال ضعيف، فقلت إن عباساً حكى عن يحيى أنه يضعف الخزامي ووثق المخزومي فقال غلط عباس، وقال سألت أبا داود عن عبد الله بن سمعان فقال عبد الله بن سمعان كان من الكذابين ولي قضاء المدينة وقال سألت أبا داود عن عبد العزيز الماجشون فقال ثقة قال أبو الوليد كان يصلح للوزارة، وقال قلت لأبي داود أين مات حمزة الزيات قال مات بحلوان قال وسألت أبا داود عن وهب بن كيسان فقال ثقة حدث عنه مالك يكنى أبا نعيم، وقال سئل أبو داود عن نسب مالك فقال سمعت أحمد بن صالح يقول مالك صحيح النسب من ذي أصبح، قال الزهري حدثني أنس بن أبي أنس عديد بني تميم، قال وسمعت أبا داود يقول ولد مالك سنة اثنين وتسعين ومات سنة تسع وسبعين ومائة، وقال سمعت أبا داود يقول ما رأيت أحمد بن حنبل يميل إلى أحد ميله إلى الشافعي.
هذا القدر يغني عما هو أكثر ويقتنع به عن الذي منه أوفر ويستدل به على علم أبي داود بالرجال وأنه كان في معرفة الحديث وروايته جبلاً من الجبال.
ومما يدل على أنه لم يكن يداهن في دينه عند السؤال بل يصرح بالحق من المقال ما أخبرنا محمد بن أبي العباس الرازي أنا محمد بن الحسين بن محمد النيسابوري(4/373)
أنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد بن نصر الذهلي حدثني أبو العباس محمد بن رجاء البصري، قال قلت لأبي داود السجستاني لم أرك حدثت عن الرمادي فقال رأيته يصحب الواقفة فلم أحدث عنه. الرمادي هذا هو أبو بكر أحمد بن منصور من حفاظ الحديث الاعلام وثقات علماء الإسلام وقد توقف أبو داود عن الرواية عنه لصحبته (1) وما ذكره ومن أمره أنكروا.
وأما مولده ووفاته فقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ببغداد أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي أنا أبو الحسين محمد بن العباس بن الفرات في كتابه قال قرىء على أبي عبد الله محمد بن مخلد العطار وأنا أسمع مات أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني في شوال سنة خمس وسبعين ومائتين.
أخبرني أبو بكر بن مختار أنه جاءه كتاب من البصرة بذلك وأخبرنا أبو الحسين بن الطيوري بمدينة السلام أنا أبو محمد الجوهري، عَن أبي عمر بن جبويه الخزاز، قال قرىء على أبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي وأنا أسمع سنة إحدى وثلاثين وثلاثماية، قال جاءنا نعي أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني من البصرة أنه مات سنة خمس وسبعين ومائتين بالبصرة، وقد بلغ سنه ثلاثاً وسبعين سنة وكان ميلاده سنة اثنتين ومائتين فيما أخبرنا بذلك عنه.
أخبرنا أبو الحسين القطيعي بقطيعة الربيع أنا أبو الحسن العتيقي قال كتب إلينا
_________
(1) بياض في الأصل.(4/374)
محمد بن عدي بن زحر المنقري من البصرة قال، حَدَّثنا أبو عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري قال سمعت أبا داود السجستاني يقول ولدت سنة اثنتين ومائتين قال أبو عبيد ومات لأربع عشرة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين وصلى عليه عباس بن الواحد الهاشمي.
وقد نظمت فيه وفي كتابه العظيم الذكر مقطعات من الشعر فمن جملتها
أولى كتاب لذي فقه وذي نظر …ومن يكون من الأوزار في وزر
ما قد تولى أبو داود محتسباً……تأليفه فأتى كالضوء في القمر
لا يستطيع عليه الطعن مبتدع……ولو تقطع من ضغن ومو ضجر
فليس يوجد في الدنيا أصح ولا ... أقوى من السنة الغراء والأثر
وكل ما فيه من قول النبي ومن ... قول الصحابة أهل العلم والبصر
يرويه عن ثقة عن مثله ثقة… …عن مثله ثقة كالأنجم التزهر
وكان في نفسه فيما أحق ولا……أشك فيه إماماً عالي الخطر
يدري الصحيح من الآثار يحفظه ... ومن روى ذلك من أنثى ومن ذكر
محققاً صادقاً فيما يجيء به……قد شاع في البدو عنه ذا وفي الحضر
والصدق للمرء في الدارين منقبة ... ما فوقها أبداً فخر لمفتخر
هذا ما يتعلق بأبي داود لا اخلاه الله من ثوابه. وأما أبو سليمان الشارح لكتابه إذا وقف مصنف على مصنفاته، واطلع على بديع تصرفاته في مؤلفاته(4/375)
تحقق إمامته وديانته فيما يورده وأمانته، وكان قد رحل في (طلب) الحديث وقرأ العلوم وطوف،
ثم ألف في فنون العلم وصنف، وكان رحمه الله قد أخذ الفقه، عَن أبي بكر القفال الشاشي وأبي علي بن أبي هريرة ونظرائهما من فقهاء أصحاب الشافعي وفي شيوخه كثير وكذلك في تصانيفه، ومنها شرح السنن الذي عولنا على الشروع في إملائه بعون الله تعالى وإلقائه، وهو المسؤل في إتمامه وإكماله بفضله وإفضاله، وإسنادنا فيه كما قدمناه عال، وكتابه في غريب الحديث له ظل، ذكر فيه ما لم يذكره أبو عبيد ولا ابن قتيبة في كتابيهما وهو كتاب ممتع مفيد، ومحصله نبيه جميله موفق سعيد، ناولنيه أيضاً القاضي أبو المحاسن بالري في التاريخ المقدم ذكره وهو سنة إحدى وخمسمائة وأذن لي في روايته عنه وشيخه فيه أبو الحسين عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي ثم النيسابوري رواية، عَن أبي سليمان ولم يقع لي من تواليفه بعلوّ سوى هذين الكتابين مناولة لا سماعاً عند اجتماعي بأبي المحاسن لعارضة قد برحت بي وبلغت مني ولولاها لما توانيت بعون الله في سماعهما ولم تفتني لكن من بلغ المنى حتى أبلغها أنا.
وقد روى لنا أبو عبد الله الثقفي رئيس أصبهان وابن رئيسها سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وتوفي سنة تسع، وكان مولده في أول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وابتداء سماعه على ابن جوله الأبهري أبهر أصبهان سنة ثلاث وأربعمائة في آخرها وهو ابن ست سنين كتابَ العزلة له، عَن أبي عمرو الرزجاهي ثم البسطامي(4/376)
رواه بنيسابور عنه وأنا أشك هل سمعته كاملاً كما سمعه هو أو بعضه بأصبهان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة.
أنبأنا أبو عمرو محمد بن عبد الله بن أحمد البسطامي (1) إلى تحت يدي خالي عبيد الله في ذي القعدة سنة أربع وعشرين وأربعمائة أن الإمام أبا بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الجرجاني حدثهم املاء حدثنا محمد بن هارون بن نجدة بن داهر البصري بالأنبار حدثني هدبة بن خالد ما لا أحصي حدثنا حزم بن أبي حزم عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من وعده الله عز وجل على عمل ثواباً فهو منجز له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار، هذا رواه لنا الزكي أبو الفتح عن كتاب أبي عمرو.
ولم يرو لنا عنه ممن رآه سوى الرئيس أبي عبد الله رحمه الله.
ومن جملة ذلك حديث واحد في الأول من فوائد انتقاء غانم بن محمد بن عبد الواحد، عَن أبي سهل الصعلوكي وحديثان آخران في كتاب الأربعين الذي خرجه لنا صاحبنا أبو نعيم الحداد أحدهما، عَن أبي أحمد بن عدي الجرجاني، والآخر عن الحاكم أبي أحمد النيسابوري.
فأما حديث أبي سهل فقال حدثنا الأستاذ أبو سهل محمد بن سليمان العجلي الصعلوكي، حَدَّثنا أبو بكر محمد بن إسحاق هو ابن خزيمة السلمي، حَدَّثنا علي بن حجر،
_________
(1) بياض في الأصل.(4/377)
حَدَّثنا هشيم، عَن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة ثيب إلاّ أن يكون ناكحاً أو ذا محرم.
وأما حديث ابن عدي فقال، حَدَّثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ أبا القاسم هو ابن زكريا المطرز، حَدَّثنا أبو مصعب حدثني علي بن أبي علي الهبي عن محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم في المضمار وغداً السباق فالسبق الجنة والفائت النار بالعفو تنجون وبالرحمة تديخلون وبأعمالكم تقتسمون.
وحديث الحاكم فقال حدثنا أبو أحمد محمد بن محمد الكرابيسي الحافظ بنيسابور سنة ست وستين وثلاثمائة أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبيد الطوايبقي حدثنا الحسن بن عرفة العبدي، حَدَّثنا ابن عياش، يَعني إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد الافريقي عن عبد الله بن يزيد يدعى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مد البصر، فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة ويخرج له قرطاس مثل هذا وقال بيده فوق الأنملة فيها شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله فيوضع في الكفة الأخرى فيرجح بخطاياه وذنوبه.
هذه الأحاديث الثلاثة جميع ما وجدته عندي عن الرئيس أبي عمرو فذكرتها لقلتها وأتيت على جملتها ولم يكن من شيوخه العوالي حتى أجعله من بالي لكن وشحت هذه المقدمة بما رواه من حديث الرسول تبركاً به عليه السلام بقوله المقبول، واتخذته رحمه الله طريقاً لتكثير ما يتعلق بالخطابي إذ لم أظفر الآن في كتبي بما في أثنائه ثناءه، ونستوفي بإيراده أنباءه، وفي شيوخه رضي الله عنهم سفراً وحضراً كثرة كما في تصانيفه؛ وكثير منهم قد وقع لي حديثهم(4/378)
بعلو كأني أرويه عن الراوية «لعله الرواة» عنه كأبي العباس الأصم واسماعيل الصفار وأبي عمرو بن السماك وأحمد بن سلمان النجاد ومكرم القاضي وجعفر الخلدي وأبي عمر غلام ثعلب وحمزة العقبي وآخرين من نظرائهم.
وهؤلاء كلهم من شيوخ بغداد وبها كتب عنهم سوى الأصم فإنه نيسابوري عالي الإسناد جداً يروي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وحسن بن نصر الخولاني وغيره من أصحاب ابن وهب وعن نظرائهم بخراسان والعراق والشام، وكذلك في الرواة عنه كثرة كما في شيوخه ومنهم أبو ذر عبد بن أحمد بن الهروي وأبو محمد جعفر بن علي المروزي بالحجاز وأبو مسعود بن محمد الكرابيسي البستي ببست وأبو بكر محمد بن الحسين المقري بغزنة وأبو الحسين علي بن الحسن الفقيه السجزي بسجستان وأبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الملك الفسوي بفارس وآخرون.
وقد روى عنه الإمام أبو حامد الاسفراييني الفقيه بالعراق والحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري بخراسان، وحدث عنه أبو عبيد الهروي في كتاب الغريبين وقال أحمد بن محمد الخطابي ولم يكنه ووافقه على ذلك أبو منصور الثعالبي النيسابوري في كتاب اليتيمة لكنه كناه، وقال أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم البستي صاحب كتاب غريب الحديث، والصواب في اسمه حمد كما قاله الجم الغفير والعدد الكثير لا كما قالاه.
وقال أحد الأدباء ممن أخذ عن ابن خرزاد النجيرمي هو أبو سليمان حمد(4/379)
بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي من ولد زيد بن الخطاب والذي ذكره فهو صحيح وفي اسمه ونسبه تصريح.
وله رحمه الله شعر هو سحر لكنه حلال يثبت له به جمال وجلال وينظم بنظمه ذلك إلى قصد خصال محمودة وخلال، وقد ذكر الثعالبي في كتاب اليتيمة من تأليفه مقطعات منه لم أر لاثباتها كلها ههنا وجهاً ومن جملتها:
وما غربة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وذكر أبو بكر محمد بن علي بن الحسن بن البسر الغوثي اللغوي بالمغرب أن القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي البغدادي أنشده بمصر لأبي منصور الثعالبي في أبي سليمان الخطابي:
أبا سليمان سر في الأرض أو فأقم ... فأنت جاري دنا مثواك أو شطنا
ما أنت غيري فأخشى أن تفارقني ... فديت روحك بل روحي فأنت أنا
قال ابن البسر وأنشدني إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري بمصر قال أنشدني أبو منصور الثعالبي بنيسابور لأبي سليمان الخطابي يقول فيه:
قلبي رهين بنيسابور عند أخ ... ما مثله حين تستقري البلاد أخ(4/380)
له صحائف أخلاق مهذبة ... منها التقى والنهى والحلم تنتسخ
وقد قلت أنا فيه بثغر خيرة لشغفي بتواليفه ورغبتي في تحصيل تصانيفه سنة خمس وخمسمائة:
ظن هذا الخطّاء في الخطابي ... شيخ أهل العلم والآداب
من على كتبه اعتماد ذوي الفضل ... ومن قوله كفصل الخطاب
أن يحوز الفردوس إذ أتعب النفس ... لها العرش غاية الاتعاب
وتعنى في الأخذ جداً وفي ... التتصنيف من بعد رغبة في الثواب
نضر الله وجهه من إمام ... ألمعيّ أتى بكل صواب
ولعمري قد فاز بالروح والريحان ... من غير شبهة وارتياب
فلقد كان شُمس متبعي الشر ... ع على الزائغين سوط عذاب
وقلت فيه أيضاً بديار مصر بعد سنين عند إملاء هذه المقدمة سنة اثنتين وستين:
لم أطلع فيما اطلعت عليه ... من كلام على حديث النبي
كالذي، عَن أبي سليمان قد با……ن الإمام العلامة الألمعي
في كتابتيه حين أملاهما ... الأعلام في شرح كل معنى خفي
في الصحيح الذي البخاري قد ... صنف قدامنا على أتم روي
عدة الموقوف بين يدي خا……لقه الباري العليم العلي
وكتاب المعالم المرتضى إذ ... هو يرضاه كل ندب رضي(4/381)
فاق في شرحه كتاب أبي دا ... ود أصحابه صدور الندي
وهما وإن طبق الأرض أعظم ... بهما والمصنف المرضي
رضي الله جل عنه وجازا ... هـ عن الدين والمقال التقي
الذي ينفع الفقيه مدى الدهر ... وكل امرئ زكي تقي
وهذا القدر الذي ذكرناه في حق أبي سليمان أيضاً على اختصاره مقنع، وفي حق المستفيد كذلك ممتع إن شاء الله تعالى وعليه الثقة وهو المسؤول في أن يوفقنا لما يوافق رضاه؛ ويرضينا بما قدره في الأزل وأمضاه، والمقدمة قد نجزت ولم يبق سوى الشروع وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
انتهى الجزء الرابع
في يوم مولد خير البشر صلى الله عليه وسلم من سنة 1353 كان تمام طبع الجزء الرابع وهو الجزء الأخير من معالم السنن للإمام الخطابي وهو على ما أعلم اقدم شرح ظهر لعالم المطبوعات من شروح كتب الحديث فله الحمد والمنة على ذلك التوفيق , وأسأله تعالى حسن الختام والهداية لأقوم طريق.
خادم السنة النبوية بمدينة حلب
محمد راغب الطباخ(4/382)