1311- وعن أَبي قتادة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِيهِم فَذَكَرَ أنَّ الجِهَادَ في سَبيلِ اللهِ، وَالإيمَانَ بِاللهِ، أفْضَلُ الأعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، أرأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ، أتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ، إنْ قُتِلْتَ في سَبيلِ الله وَأنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ"، ثُمَّ قَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1311- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم) أي: في الصحابة (خطيباً فذكر أن الجهاد في سبيل الله) قدمه ذكراً على قرينه الأفضل منه، اهتماماً به؛ لقوة الداعية حينئذٍ إليه (والإِيمان بالله أفضل الأعمال) أي: مجموعها أفضل فالمخبر عنه بأفعل التفضيل واحد، ويجوز أن يكون المراد كل منهما أفضل الأعمال، ويكون ذلك بالنظر للجهاد ولدعاية الحاجة حينئذٍ إليه، على أن أفعل التفضيل المضاف لمعرفة تجوز مطابقته وتركها (فقام رجل) لم يسمه المصنف، ولا السيوطي (فقال: يا رسول الله أرأيت) بفتح التاء أي: أخبرني (إن قتلت في سبيل الله تكفر) بضم الفوقية وفتح الكاف والفاء المشددة أي تمحى (أعني خطاياي) وفي نسخة بزيادة همزة الاستفهام، أي: لفظاً وإلا فهي مرادة، والخطايا جمع خطيئة أصلها خطائي وزن فعائل، فأبدلت الياء بعد ألف الجمع همزة فصار خطائىء، بهمزتين ثم أبدلت الثانية ياء لتطرفها، ثم قلبت الكسرة قبلها فتحة على حد عذارى، ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها فصار خطآءاً بألفين بينهما همزة، فاجتمع شبه ثلاث ألفات، فابدلت الهمزة ياءً فصار خطاياً بعد خمسة أعمال، والخطية فعيلة من الخطي بكسر أوله، وهو الذنب. اهـ من شرح العمدة للقلقشندي (فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم) أي: تكفر (إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب) أي: طالب ثواب الله تعالى بالبناء للمجهول فهما شرِطان (مقبل غير مدبر) أي: على وجه الفرار ْالمحرم، أما إذا أدبر ليكر أو فر فراراً مباحاً بأن زاد الكفار على ضعف المسلمين، فالظاهر أنه لا يؤثر، ويحتمل أن ذلك مؤثر في عدم التكفير المذكور، وإن لم يأثم به فاعله ويؤيده ما يأتي عن المصنف، وجواب الشرط محذوف أي: تكفر عنك خطاياك لدلالة ما قبله عليه والجملة الاسمية حالية من رفوع قتلت، وقال الزملكاني: يحتمل أن يريد به مقبلاً غير مدبر، في وقت من الأوقات، فقد يقبل الشخص ثم يدبر، ويحتمل حمله على التأكيد، أو تمكين المعنى بالاحتراز عن إرادة التحيز كقوله تعالى: (أموات غير أحياء) (1) ويحتمل أن يكون أحدهما محمولاً على الجوارح، والآخر على القلوب، ويحتمل خلاف ذلك، كذا في قوت
__________
(1) سورة النحل، الآية: 21.(7/112)
الله عنه -: يَا رسولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّماوَاتُ وَالأرْضُ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: بَخٍ بَخٍ؟ فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَولِكَ بَخٍ بَخٍ؟ " قَالَ: لاَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلاَّ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أهْلِهَا، قَالَ: "فَإنَّكَ مِنْ أهْلِهَا" فَأخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَييتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هذِهِ إنّهَا لَحَياةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم.
"القَرَن" بفتح القاف والراء: هُوَ جُعْبَةُ النشَّابِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض) استفهام تثبت وتحقق للأمر (قال: نعم. قال: بخ بخ) قال المصنف: فيه لغتان سكون الخاء وكسرها منوناً، وهي كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير. اهـ وقد تقدم الكلام في معناها، وضبطها قبل وأفاد العاقولي أنها مبنية على السكون فإن وصلت حركت بالكسر، وتؤنث وربما شددت (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحملك على قولك بخ بخ) أي: أخوفاً قلته أم رجاءً لكونك من أهلها (قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها) المنفي بلا محذوف مقدر بأعم العلل، والاستثناء مفرغ أي: لا قلت ذلك لعلة من العلل، إلا لرجاء كوني من أهلها (قال: فإنك من أهلها) هو من جملة معجزاته - صلى الله عليه وسلم - إذ أخبر عن أمر مغيب قبل كونه بأنه يكون فكان كما أخبر (فأخرج تمرات من قرنه فجعل يكل منهن) إما لقوة الجوع عليه، أو استرواحاً للنفس لسماع ذلك الخبر السار، كما هو العادة من تناول الأطعمة واللذائذ عند سماع الخبر السار (ثم قال: لئن أنا حييت) اللام فيه موطئة للقسم، وإن شرطية، وأنا مؤكد لفاعل فعل مضمر، هو وفاعله ويفسره ما بعده والتقدير، لئن حييت أنا، وذلك المضمر فعل الشرط (حتى آكل تمراتي هذه) غاية للحياة (إنها لحياة طويلة) جملة جواب القسم، واكتفى بها عن جواب الشرط لتقدم القسم عليه. قال العاقولي: ويجوز أن يكون على مذهب أهل المعاني قد قدم الضمير المنفصل؛ للاختصاص على نحو: قل لو أنتم تملكون، فكأنه وجد نفسه مختارة للحياة على الشهادة، فأنكر عليها فقال ما قال استبطاء للانتداب؛ لما ندب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله قوموا إلى جنة الخ، فعد حياته قدر ما يأكل تلك الحبات التي هي دون العشرة، كما يؤذن به جمع القلة المنكر حياة طويلة مسارعة للبر (فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رواه مسلم) مطولاً في الجهاد، ورواه أبو داود مختصراً في سننه (القرن بفتح القاف) (الراء) وبالنون (هو جعبة) بفتح فسكون (النشاب) وجمعها جعاب، مثل كلبة وكلاب.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد، (الحديث 145) .(7/115)
وَلِلفُقَرَاءِ، فَبَعَثَهُمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَعَرَضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أنْ يَبْلغُوا المَكَانَ، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا، وَأتَى رَجُلٌ حَراماً خَالَ أنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أنْفَذَه، فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ إخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا وَإنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لهم في مؤخر مسجده، وتقدم بسط أحوالهم في باب فضل الزهد في الدنيا (وللفقراء) من عطف العام على الخاص؛ للتعميم (فبعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم) ليدعوهم إلى الإِيمان ويعلموهم القرآن (فعرضوا لهم) أي: فعرض لهم عدو الله عامر بن الطفيل، فقتل حامل الكتاب حرام بن ملحان طعن في رأسه ففاض الدم بكفه، ثم نضحه على وجهه وقال: فزت ورب الكعبة واستصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه وقالوا: لا نخفر أبا براء، وقد عقد لهم جواراً فاستصرخ عليهم قبائل من عصية وسليم ورعل فأجابوه، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم فقاتلوهم (فقتلوهم) في معرك الحرب (قبل أن يبلغوا المكان) الذي أرادوا الوصول إليه، وهو منزل أبي براء ابن ملاعب الأسنة (فقالوا) يحتمل أنه عند إحاطة عدوهم بهم، وقد جاء ما يدل لذلك في كتب السير، فعند ابن سعد قال: لما أحيط بهم قالوا: اللهم إنا لا نجد من يبلغ رسولك منا السلام غيرك، فاقرئه منا السلام، فأخبره جبريل بذلك فقال: وعليهم السلام (اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك) لعظيم فضلك (ورضيت عنا) بإثابتك، ويحتمل أنهم قالوا ذلك وهم في حضرة الله سبحانه وتعالى، بعد أن ماتوا وظاهر كلامهم يعطيه، وعلى الأول فمعنى رضينا عنك أي: رضينا بأقضيتك، ورضيت عنا بالتوفيق للصالحات التي من أسناها الرضا بالقضاء (وأتى رجل) لم أقف على اسمه (1) (حراماً خال أنس من خلفه) أي: من ورائه (فطعنه برمح) في رأسه (حتى أنفذه) أي: نفذ منه الرمح (فقال حرام) أي: بعد أن نضح الدم على رأسه ووجهه (فزت) أي: بالشهادة التي هي سبب السعادة (ورب الكعبة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن إخوانكم قد قتلوا) أي: قتلهم العدو (وإنهم قالوا: اللهم) أي: يا الله
__________
= وهي مكان منقطع عن المسجد مطل عليه يبيتون فيه ومنه يؤخذ جواز اتخاذ الصفة في المسجد وجواز المبيت فيه بلا كراهة وهو مذهب الشافعية والجمهور. ع.
(1) قوله: لم أقف على اسمه، انظر هذا مع قوله آنفاً: فعرض لهم عدو الله عامر ابن الطفيل فقتل حامل الكتاب حرام بن ملحان تأمل.(7/117)
المُسْلِمُونَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي اعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءُ - يعني: أصْحَابَهُ - وَأبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءِ - يَعنِي: المُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعَدَ بنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إنِّي أجِدُ ريحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ! فَقَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رسولَ اللهِ مَا صَنَعَ! قَالَ أنسٌ: فَوَجدْنَا بِهِ بِضعاً وَثَمَانِينَ ضَربَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً برُمح أَوْ رَمْيةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَمَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الموقف الذي عينه لهم - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم ألا يفارقوه، حتى يأتيهم الإِذن فخالفوا فوقع ما وقع (فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني) بالمشار إليهم (أصحابه) أي: المسلمين (وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين) وما صنع الأولون هو مفارقة ما أنزلوا فيه، وما صنعه الكفار هو مقاتلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والكفر بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - (ثم تقدم) أي: إلى العدو (فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد) بضم الدال ويجوز فتحها لكونه وصف بقوله (ابن معاذ) المنصوب لا غير (الجنة ورب النضر) الجملة القسمية معترضة بين المبتدأ وجملة الخبر التي هي (إني أجد ريحها من دون أحد) ولا مانع من إبقاء الكلام على حقيقته من إنشاقه عرفها؛ ليبعثه على الجهاد فيكتسب عرفها، ويحتمل أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد، تصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه، والمعنى إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فأنا مشتاق لها (قال سعد: فما استطعت يا رسول الله أن أصنع ما صنع) أي: ما قدرت أن فعل في الجهاد مثل فعله من الإقدام على العدو وطرح النفس في نحر الكفار والخروج عنها لله تعالى، وفيه الشهادة بحسن العمل عند الأكابر والأشراف (قال أنس) أي: ابن مالك (فوجدنا به بضعاً) بكسر الموحدة، وبعض العرب يفتحها وبسكون الضاد المعجمة وبالمهملة، تستعمل في الثلاثة والتسعة وما بينهما ويستوي فيه المذكر والمؤنث، وقال في المصباح: البضع أيضاً يستعمل من ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، لكن تثبت الهاء في بضع مع المذكر وتحذف مع المؤنث، ولا يستعمل فيما زاد على العشرين، وأجازه بعض المشايخ، فيقال بضعة وعشرون رجلاً وبضع وعشرون امرأة، وهكذا قاله أبو زيد، وقالوا على هذا معنى البضع، والبضعة في العدد قطعة مبهمة غير محدودة اهـ قلت: وحديث الباب شاهد لإِطلاقه على ما فوق العشرين والله أعلم (وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم) وتعريف السيف دون المذكورين معه، تفنن في التعبير وأو فيه للتقسيم (ووجدناه قد قتل) بالبناء للمجهول لعدم العلم بالفاعل (وقد مثل به المشركون) قال في المصباح: مثلت بالقتيل مثلاً من بابي قتل وضرب إذا جدعته (1) وظهر
__________
(1) جدعته بالدال المهملة قطعت أنفه أو أذنه أو يده أو شفته كما في الصحاح. ع.(7/119)
رَجُلَيْنِ أتيَانِي، فَصَعِدَا بِي الشَّجرةَ فَأدْخَلاَنِي دَاراً هِيَ أحْسَنُ وَأَفضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أحْسَنَ مِنْهَا، قالا: أمَّا هذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ". رواه البخاري، وَهُوَ بعض من حديث طويل فِيهِ أنواع من العلم سيأتي في باب تحريم الكذب إنْ شاء الله تَعَالَى (1) .
1317- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ أمَّ الرُّبيعِ بنتَ البَرَاءِ وهي أُمُّ حَارِثة بن سُرَاقَةَ، أتَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يَا رسولَ اللهِ، ألاَ تُحَدِّثُنِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأيت الليلة) في المنام بالنصب ظرف زمان (رجلين) أي: على صورتهما لما تبين بعد أنهما جبريل وميكائيل (أتياني فصعدا) من باب علم (بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل) حذف المفضل عليه إيماءً إلى تفخيم الدار وشرفها (لم أر) أي: أبصر (قط) بالبناء على الضم ظرف، لما مضى من الزمان (أحسن منها) وقوله: (قالا: أما هذه الدار فدار الشهداء) هو غير متصل بما معه في سياق الحديث، بل بينهما فواصل ستراها إن شاء الله تعالى، وهذا الذي صنعه المصنف، هو على رأي من يجوز تقطيع الحديث والاقتصار على بعضه، إذا لم يكن للمذكور بالمتروك ارتباط من نحو كونه مستثنى أو غاية (رواه البخاري) في أبواب الجنائز (وهو) أي: المذكور هنا (بعض) بالتنوين (من حديث طويل فيه أنواع من العلم سيأتي في باب تحريم الكذب إن شاء الله تعالى) .
1317- (وعن أنس رضي الله عنه أن أم الربيع) بصيغة التصغير مع تشديد الياء (بنت البراء) بفتح الموحدة وتخفيف الراء وبالمد (وهي أم حارثة) بالمهملة والمثلثة آخره (بن سراقة) بن الحارث بن عدي من بني عدي بن النجار، ذكره ابن إسحاق، وتكنية أم حارثة بأم الربيع وجعلها بنت البراء وهم من البخاري نبه عليه غير واحد آخرهم الدمياطي. فقال: إنما هي الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك بن النضر، وعمة أخيه البراء، قلت: وجاء كذلك في رواية الترمذي وابن خزيمة، فكأنه كان في الحديث عمة البراء فحرفه بعض الرواة وزاد لفظة أم (2) (أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ألا) بتخفيف اللام أداة عرض (تحدثني
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب. الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين (6/10) .
(2) مراده بقوله فكأنه كان الخ الدفاع عن الإِمام البخاري بأن التعبير المشار إليه ليس منه وإنما هو من بعض الرواة الناقلين عنه والكتبة الناسخين لصحيحه وأجاب الكرماني بأجوبة طويلة لا تخلو من تكلف.(7/121)
عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ - فَإنْ كَانَ في الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ في البُكَاءِ، فَقَالَ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ إنَّهَا جِنَانٌ في الجَنَّةِ، وَإنَّ ابْنَكِ أصابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى" رواه البخاري (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن حارثة وكان قتل يوم بدر) بسهم أصابه ولم يعرف راميه، ولذا قال في الحديث في البخاري: أصابه بسهم غرب بتنوين سهم وفتح الغين المعجمة وسكون الراء وبموحدة، كذا في الرواية أي: لا يعرف راميه، أو لا يعرف من أي جهة جاء، ومثله سهم عرض، فإن عرف راميه فليس بغرب ولا عرض، وقيل: قتله حبان بن عرقة، بفتح العين المهملة وكسر الراء وبالقاف، رماه بسهم فأصاب نحره فقتله، وعليه فلا يقال في السهم الذي أصابه غرب ولا عرض قاله العيني، وقال ابن قتيبة: العامة تقوله بالتنوين والإِسكان، والأجود بالإِضافة وفتح الراء، وقال أبو زيد: إن جاء من حيث لا يعرف راميه فهو بالتنوين والإِسكان، وإن عرف لكن أصاب من لم يقصده، فهو بالإِضافة والفتح، وقال الأزهري: هو بالفتح لا غير، وحكى جماعة من اللغويين الوجهين مطلقاً، وحذف المصنف هذه الجملة لعدم تعلق غرضه بها، وكان حارثة قد خرج نظاراً، كما رواه أحمد. زاد النسائي: ما خرج لقتال (فإن كان في الجنة صبرت) أي: يسليني عنه علمي بشرف مصيره (وإن كان غير ذلك) أي: وإن كان في النار إذ ليس ثمة سوى المنزلتين (اجتهدت عليه في البكاء) قال الخطابي: أقرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا، فيؤخذ منه الجواز، وأجيب بأنه كان قبل تحريم النوح فلا دلالة فيه، فإن تحريمه كان عقب غزوة أحد، وهذه عقب غزوة بدر، وفي رواية للبخاري في الرقاق: فإن كان في الجنة لم أبك عليه (فقال: يا أم حارثة إنها) الضمير للقصة (جنان) بكسر فنونين بينهما ألف، أي: جنات كثيرة، كما جاء كذلك في رواية البخاري المذكورة في الرقاق (في الجنة) صفة لما قبله (وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى) الفردوس البستان الذي يجمع كل شيء، وقيل: الذي فيه العنب، وقيل: هو بالرومية، وقيل: بالقبطية، وقيل: بالسريانية وبه جزم الزجاج، والمراد به أنه محل مخصوص من الجنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة، وأراه فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة" رواه البخاري ومعنى أوسط الجنة خيارها، وأفضلها وأوسعها فلا يشكل بكونها أعلاها (رواه البخاري) ورواه الترمذي وابن خزيمة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: من أتاه سهم غرب فقتله (6/20، 21) .(7/122)
1318- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قَالَ: جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَذَهَبْتُ أكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فَنَهَانِي قَوْمِي، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا زَالتِ المَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1319- وعن سهل بن حنيف - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ سَألَ اللهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ" رواه مسلم (2) .
1320- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقاً أُعْطِيَهَا ولو لَمْ تُصِبْهُ" رواه مسلم (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1318- (وعن جابر بن عبد الله) الأنصاري السلمي بفتحتين (رضي الله عنهما قال: جيء بأبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) وذلك يوم أحد (قد مثل به) بتشديد المثلثة مبني للمفعول جملة حالية من أبي (فوضع بين يديه) معطوف على جملة جيء بأبي (فذهبت أكشف عن وجهه) أي: متوجعاً له مما مثل به الكفار (فنهاني قوم) أي: عن ذلك (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها) تشريفاً له، وزاد البخاري في رواية له: "حتى رفعتموه" وفي رواية له حتى رفع (متفق عليه) .
1319- (وعن سهل بن حنيف) بضم ففتح فسكون (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من سأل الله تعالى الشهادة) أي: بذلها له وجعله شهيداً (بصدق) فيِ السؤال (بلغه الله منازل الشهداء) لصدقه (وإن مات على فراشه رواه مسلم) وتقدم مشروحاً في باب الصدق.
1320- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من طلب) أي: سأل (الشهادة صادقاً أعطيها) أي: أعطي ثوابها (ولو لم تصبه) بأن لم يمت شهيداً (رواه مسلم) ورواه أحمد.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: ظل الملائكة على الشهيد (6/24) .
وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، (الحديث: 157) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإِمارة، باب: استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، (الحديث: 156) .(7/123)
1321- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ القَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1322- وعن عبد الله بن أَبي أوْفَى رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ أيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ في النَّاسِ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُموهُمْ فَاصْبِروا؛ وَاعْلَمُوا أنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1321- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يجد الشهيد من مس) بفتح الميم وتشديد السين المهملة أي: نصب (القتل) وألمه (إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) أي: قرصة نحو النملة من كل مؤلم ألماً خفيفاً، سريع الانقضاء لا يعقب علة، ولا سقماً (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال العاقولي: القرص الأخذ بأطراف الأصابع، وأدخل عليها أداة الحصر؛ دفعاً لما يتوهم أن ألمه أعظم من ألمها.
1322- (وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو) أي: الكفار المقاتلين (انتظر حتى مالت الشمس) تفاؤلاً بانتقال الحال من الكرب إلى الفرج (ثم قام في الناس) خطيباً (فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو) (2) نهى عنه؛ لما فيه من الاعتماد على قوة النفس والركون، إليها وذلك سبب الفشل والكسر قال تعالى: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) (3) الآية (واسألوا الله العافية) أي: السلامة من جميع المؤلمات والمخالفات دنيا وأخرى، وذلك لأن في حصونها الراحة والسلامة من المحن والنجاة من الإِحن (فإذا لقيتموهم) أي: وقع لقاؤهم لكم من غير طلب منكم (فاصبروا) على قتالهم ولا تفروا منهم، وعلل الأمر بالصبر بقوله عطفاً عليه (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) بكسر الظاء المعجمة، جمع ظل وتقدم معناه عند شرح الحديث في باب الصبر مبسوطاً واضحاً في هذا الباب ملخصاً، ثم زاد في تشجيعهم بدعائه (وقال: اللهم منزل) اسم فاعل من الإِنزال (الكتاب) (أل) فيه للجنس فيعم الكتب
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل المرابط، (الحديث: 1668) .
(2) لا تتمنوا الخ إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه عن صورة الإعجاب أو الاتكال على النفس والوثوق بالقوة وهو نوع بغي وقد ضمن الله لمن بغي عليه لينصرنّه الله ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره وهذا مخالف للاحتياط والحزم.
(3) سورة التوبة، الآية: 25.(7/124)
الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ" ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأحْزَابِ، أهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1323- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثِنْتَانِ لاَ تُرَدَّانِ، أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ: الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ وَعِنْدَ البَأسِ حِيْنَ يُلْحِمُ بَعْضُهُم بَعضَاً"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المنزلة كلها وقد سبق بيانها في باب الصبر، أو للعهد أي القرآن (ومجري السحاب) من مكان من السماء إلى آخر، وهو بمعنى قوله تعالى: (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) (2) (وهازم الأحزاب) (أل) فيه للعهد إن أريد منهم الذين هزموا في غزوة الخندق، وكانت سنة خمس، وكانوا نحو عشرة آلاف نسمة، أو للجنس إن أريد بهم ما هو أعم من جيوش الكفر فإنهم مهزومون مخذولون، وجند الله المؤمنون هم المنصورون، والأول أظهر؛ لأنها كانت منّة إلهية امتن بها الله تعالى على نبيه في كتابه في سورة الأحزاب، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في تهليله "وهزم الأحزاب وحده" (اهزمهم) أي: العدو الملاقين لنا حالاً (وانصرنا عليهم متفق عليه) وسبق في باب الصبر.
1323- (وعن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوتان (3) بفتح الدال المهملة تثنية دعوة المرة من الدعاء (لا تردان أو) شك من الراوي (قلما) ما كافة للفعل فتكتب موصولة به (تردان) ثم يحتمل أنه كنى بالقلة عن العدم فتتفق الروايتان (4) ، ويحتمل أن تكون باقية على موضوعها، فيكون فيه أن الدعوة فيهما قد ترد، لكن نادراً (الدعاء عند النداء) أي: الأذان والإِقامة (وعند البأس) بالموحدة وبعدها همزة فسين أي: الحرب (حين يلحم بعضهم بعضاً) قال المصنف في الأذكار: في بعض النسخ المعتمدة يلحم بالحاء وفي بعضها بالجيم وكلاهما ظاهر. اهـ فمعناه على الحاء يتقاربون فيصيرون كالذين يلتصق لحم بعضهم ببعض، وعلى الجيم كان كلاً يلجم صاحبه بالسلاح (رواه أبو
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: لا تمنوا لقاء العدو (6/85) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، (الحديث: 20) .
(2) سورة البقرة، الآية: 164.
(3) قوله: دعوتان، هكذا في نسخ الشرح وفي كثير من نسخ المتن: ثنتان، والمراد دعوتان. ع.
(4) قوله: فتتفق الروايتان هذا مشكل فإن الرواية واحدة والراوي شك هل المقول الأول أو الثاني. ع.(7/125)
رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (1) .
1324- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غَزَا، قَالَ: "اللَّهُمَّ أنْتَ عَضْديِ وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
1325- وعن أَبي موسى - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَافَ قَوماً، قَالَ:
"اللَّهُمَّ إنَّا نَجْعَلُكَ في نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهمْ" رواه أَبُو داود بإسناد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
داود في الجهاد من سننه. (بإسناد صحيح) وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك من حديث سهل مرفوعاً بلفظ "ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء وقلما ترد على داع دعوته: عند النداء وعند الصف في سبيل الله" ذكره الحافظ في تخريج أحاديث الأذكار.
1324- (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا) أي: أراده أو شرع فيه (قال:) خروجاً من الحول ولرد الأمر لصاحبه (اللهم أنت عضدي) بفتح المهملة وضم الضاد أي: ناصري أتم نصر وأبلغه، كما يدل له عطف (ونصيري) عليه عطف تفسير (بك) أي: وحدك (أحول) أي: أنتقل من مكان أو شأن إلى غيره (وبك أصول) على أعداء الدين، يقال: صال القرن على قرنه يصول بلا همز إذا وثب عليه (وبك أقاتل) ففيه تعريض بطريق حصول النصر، وأنه الخروج عن النفس والاعتماد على الله سبحانه وتعالى (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) قال في الجامع الصغير: ورواه أحمد وابن ماجه وابن حبان صحيحه والضياء المقدسي.
1325- (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خاف قوماً قال: اللهم إنا نجعلك) أي: نجعل أمرك أو حكمك (في نحورهم) فيدفعهم ذلك عما يريدون (ونعوذ) أي: نعتصم (بك من شرورهم) فيه التحصن بأسماء الله تعالى واللوذ به واللجأ إليه تعالى فيما ينزل بالإِنسان مما يشفق منه، وأنه لا ينافي التوكل (رواه أبو داود
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: الدعاء عند اللقاء، (الحديث: 2540) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: ما يُدعى عند اللقاء، (الحديث: 2632) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: في الدعاء إذا غزا، (الحديث: 3584) .(7/126)
صحيح (1) .
1326- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الخَيْلُ مَعقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1327- وعن عروة البارِقِيِّ - رضي الله عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بإسناد صحيح) ورواه أحمد والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن كما في الجامع الصغير.
1326- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الخيل) قال في المصباح: معروفة وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والجمع خيول وسميت خيلاً لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مرحاً ومنه يقال: اختال الرجل وبه خيلاء، والخيل عام مخصوص بالغازية في سبيل الله والمرتبطة له بدليل الحديث السابق في الزكاة الخيل ثلاثة، وليس المراد هي على كل وجه ذكره ابن المنذر، وقال الحافظ: ويجوز أن يراد جنس الخيل أي: أنها بصدد أن يكون فيها الخير، فأما من ارتبطها لعمل غير صالح، فحصول الوزر لطريان ذلك الأمر العارض. اهـ (معقود في نواصيها) النواصي جمع ناصية وهي قصاص الشعر، وهو الشعر المسترسل على الجبهة، وخمست بالذكر لأن العرب تقول: فلان مبارك الناصية فتكنى بها عن الإِنسان قاله العيني، وفيه إيماء إلى أنه كني بها عن جميع ذات الفرس، واستبعده الحافظ ورأي بقاءها على ظاهرها قال: ويحتمل أنها خصّت بذلك لكونها المقدم منها، فيكون إشارة إلى أن الفضل في الإِقدام بها على العدو دون المؤخر لما فيه من الإِشارة إلى الإِدبار (الخير) العاجل والآجل (إلى يوم القيامة) أي إلى انقضاء بقاء الدين الحنيفي، وذلك إلى قبيل أواخر الدنيا وعند عموم الكفر جميع الأرض، ففي الحديث تجوز (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه، ورواه البخاري عن أنس، ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه أحمد عن أبي ذر وعن أبي سعيد، ورواه الطبراني عن سواد بن الربيع وعن النعمان بن بشير وعن أبي كبشة.
1327- (وعن عروة البارقي رضي الله عنه) هو الجعد، ويقال ابن أبي الجعد، وقيل:
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا خاف قوماً، (الحديث: 1537) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الخيل معقود.. الخ (6/40) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، (الحديث: 96) .(7/127)
أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الخَيْلُ مَعقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ: الأجْرُ، وَالمَغْنَمُ" متفقٌ عَلَيْهِ (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اسم أبيه عياض، والبارقي بالموحدة والواو والقاف، صحابي سكن الكوفة، وهو أول قاض بها خرج حديثه الجميع، كذا في التقريب، وفي التهذيب للمصنف: بارق بطن من الأزد، وهو بارق بن عدي بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن برسبان بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وإنما قيل له بارق؛ لأنه نزل عند جبل يقال له بارق فنسب إليه، وقيل: غير ذلك. قلت: منه ما ذكره الحافظ في الفتح قال: وقيل: ماء بالمدار (2) نزله بنو عدي بن حارثة بن عمرو قبيلة من الأزد ولقب به منهم سعد بن عدي فكان يقال له بارق، وزعم الدمياطي أنه منسوب إلى ذي بارق، قبيلة من ذي رعين. اهـ ما في الفتح روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر حديثاً اتفقا منها على حديث، وكان مرابطاً معه عدة أفراس مربوطة للجهاد في سبيل الله تعالى، منها فرس اشتراه بعشرة آلاف درهم، وقال شبيب بن غرقد: قد رأيت في دار عروة سبعين فرساً مربوطة للجهاد في سبيل الله تعالى. اهـ (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر) أي: الثواب المرتب على ربطها، وهو خير آجل (والمغنم) الذي يكتسبه من مال الكفرة، وهو خير عاجل، والأجر والمغنم بدل من الخير، أو عطف بيان له قال الطيبي: يحتمل أن يكون الخير المفسر بالأجر والغنيمة استعارة لظهوره وملازمته، وخصّ الناصية لرفعة قدرها، فكأنه شبهه لظهوره بشيء محسوس معقود على مكان مرتفع فنسب الخير إلى لازم المشبه به، وذكر الناصية تجريد للاستعارة نقله الحافظ في الفتح (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي، ورواه أحمد ومسلم والنسائي عن جرير، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر بلفظ "الخيل معقود في نواصيها الخير واليمن إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها قلدوها ولا تقلدوها الأوتار" ورواه أحمد أيضاً من حديث جابر "بلفظ الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، فامسحوا بنواصيها وادعوا لها بالبركة، وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار" ورواه الطبراني في الكبير من حديث غريب المكي بلفظ "الخيل معقود بنواصيها الخير والنيل إلى يوم القيامة وأهلها، معانون عليها والمنفق عليها كالباسط يده في الصدقة، وأبوالها وأرواثها لأهلها عند الله يوم القيامة من مسك الجنة"، كذا في الجامع الصغير.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد، باب: الجهاد ماض مع البر والفاجر (6/40) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة, (الحديث: 98) .
(2) المدار قرية باليمن.(7/128)
كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ" رواه مسلم (1) .
1330- وعن أَبي حمادٍ - ويقال: أَبُو سعاد، ويقال: أَبُو أسدٍ، ويقال: أَبُو عامِر، ويقال: أَبُو عمرو، ويقال: أَبُو الأسود، ويقال: أَبُو عبسٍ - عُقبة بن عامِر الجُهَنيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، يقول: " (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ، أَلاَ إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، ألاَ إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، ألاَ إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ" رواه مسلم (2) .
1331- وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "سَتُفْتَحُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(كلها مخطومة) وذلك لأن خطامها يمكن صاحبها من أن يعمل بها ما أراد (رواه مسلم) .
1330- (وعن أبي حماد) بفتح المهملة وتشديد الميم (ويقال: أبو سعاد، ويقال: أبو أسيد) قال في التهذيب: ويقال: أبو أسد أي: بلا يا (ويقال: أبو عامر، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو الأسود، ويقال: أبو عبس) وفي التهذيب ويقال: أبو لبيد، وفي التقريب للحافظ: اختلف في كنيته على أقوال، أشهرها أنه أبو حماد (عقبة بن عامر الجهني) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في أوائل كتاب الفضائل (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: واعدوا لهم) أي: الكفار (ما استطعتم) أي: الذي استطعتموه (من قوة) بيان لما والمحكي بالقول قوله (إلا) بتخفيف اللام (أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي) أي: أعظم أنواعها نكاية في العدو وأنفعها في الحرب، فالحصر كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة والبر حسن الخلق" قال ابن رسلان: ولما علم عقبة راوي الحديث فضل الرمي بالقوس وأنه أنفع آلات الجهاد، أعد للجهاد سبعين قوساً في سبيل الله. اهـ (رواه مسلم) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي.
1331- (وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ستفتح عليكم أرضون) بفتح الراء جمع تكسير لأرض، أعرب إعراب جمع المذكر السالم حملا عليه (ويكفيكم الله) أي: الحرب
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها، (الحديث: 132) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه، (الحديث: 167) .(7/130)
عَلَيْكُمْ أَرْضُونَ، وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلاَ يَعْجِز أَحَدُكُمْ أنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ" رواه مسلم (1) .
1332- وعنه: أنَّه قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عُلِّمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، أَوْ فَقَدْ عَصَى" رواه مسلم (2) .
1333- وعنه - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "إنَّ اللهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الوَاحِدِ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ الجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، وَالرَّامِي بِهِ، ومُنْبِلَهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والقتال (فلا يعجز) بكسر الجيم على الأفصح (أحدكم أن يلهو بأسهمه) جمع قلة لسهم، ويجمع على سهام في الكثرة. قال المصنف: معنى الحديث الندب إلى الرمي والتمرن عليه (رواه مسلم) .
1332- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من علم الرمي ثم تركه فليس منا) أي: من أهل هدينا (أو) شك من الراوي (فقد عصي) قال المصنف: هذا تشديد عظيم في نسيان الرمي بعد علمه، وهو مكروه كراهة شديدة لمن تركه بلا عذر (رواه مسلم) ذكره والذين قبله في الجهاد، ورواه الخطيب من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ "من علم الرمي ونسيه فهي نعمة جحدها".
1333- (وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة) الباء فيه للسببية، أي: جعل الله ذلك سبباً لدخولهم إياها (صانعه) بالنصب على الاتباع وبالرفع بالابتداء، أو النصب بتقدير أعني على القطع (يحتسب في صنعه الخير) أي: يقصد بعمله التقرب إلى الله به وإثابته (والرامي به ومنبله) بصيغة اسم الفاعل من التنبيل، قال في النهاية: يجوز أن يراد به الذي يرد النبل على الرامي من الهدف. اهـ، وقال ابن رسلان: فالضمير عائد إلى الرامي، يقال: نبلته إذا ناولته السهم ليرمي به العدو، وقال البغوي: هو الذي يناول الرامي النبل، وهو يكون على وجهين:
أحدهما: أن يقوم بجنب الرامي أو خلفه، فيناوله النبل واحداً بعد واحد.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه ... (الحديث: 168) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه ... (الحديث: 169) .(7/131)
1336- وعن أَبي يحيى خُرَيْم بن فاتِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"مَنْ أنْفَقَ نَفَقَةً في سَبيلِ اللهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِئَةِ ضِعْفٍ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عمرو الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من رمى بسهم في سبيل الله فقصر أو بلغ كان ذلك له نوراً يوم القيامة" وأخرج الحاكم في المستدرك من حديث أبي نجيح السلمي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من رمى بسهم في سبيل الله فله عدل محرر ومن بلغ بسهم في سبيل الله فله درجة في الجنة" وأخرج ابن حبان من حديث كعب بن مرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من رمى بسهم في سبيل الله كان كمن أعتق رقبة" أورد ذلك كله في الجامع الكبير.
1336- (وعن أبي يحيى خريم) قال في التقريب: بالتصغير (ابن فاتك) بالفاء وبعد الألف تاء مثناة من فوق، ثم كاف الأسدي (رضي الله عنه) وهو خريم بن الأخرم بن شداد بن عمرو بن فاتك فهو نسبة لجد جده صحابي شهد الحديبية، ولم يصح أنه شهد بدراً، مات بالرقة في خلافة معاوية، خرّج حديثه أصحاب السنن الأربع. اهـ، وخالفه المصنف في التهذيب، وحكى الخلاف في شهوده بدراً وصحّح شهوده إياها قال: وبه قال البخاري والأكثرون وهو معدود في الشاميين، وقيل: في الكوفيين. اهـ روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أحاديث كما في مختصر التلقيح وغيره (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أنفق نفقة في سبيل الله كتب) أي: أثبت المنفق (له) في صحف الأعمال أو في عالم الملكوت في علم الله (سبعمائة ضعف) وتقدم أن الآية تشهد لتضعيف كل ما أنفق في سبيل الله، إلى هذا العهد (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) قال في الجامع الكبير: وروى أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه والبغوي والماوردي، والحاكم في المستدرك عن خريم بن فاتكة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ضعف، ومن أنفق على نفسه أو على أهله، أو عاد مريضاً، أو أماط أذى عن الطريق، فهي حسنة بعشر أمثالها والصوم جنة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله في جسده فهو له حطة" (2) رواه الطبراني وأحمد
__________
= أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، (الحديث: 1638) .
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل النفقة في سبيل الله، (الحديث: 1625) .
(2) أي يحط به منه ذنوبه.(7/134)
1337- وعن أَبي سعيد - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً فِي سَبيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذلِكَ اليَوْمِ وَجهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرْيفاً" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1338- وعن أَبي أُمَامَة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ صَامَ يَوْماً في سَبيلِ اللهِ جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقاً كما بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وابن منيع والدارمي وأبو يعلى والشاشي وابن خزيمة، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب والدارقطني وأبو يعلى الموصلي عن أبي عبيدة بن الجراح، كذا في الجامع الكبير.
1337- (وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من عبد) أي: مكلف فيشمل الذكر والأنثى، أو يراد به الذكر، وخص بالذكر جرياً على الغالب من مثابرته على الطاعة دونها، فلا مفهوم له (يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم) أي: بسبب صومه (وجهه) أي: ذاته كما في قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) (2) وهو في الحديث مجاز مرسل، ويحتمل إجراء الحديث على ظاهره، ويلزم من صرف الوجه عنها قدر ما يأتي صرف جميع البدن (عن النار سبعين خريفاً متفق عليه) ورواه الطبراني وأحمد والترمذي والنسائي، وجاء من حديث أبي هريرة بنحوه، إلا أنه قال: بدل باعد زحزح. رواه أحمد والترمذي وقال: غريب، ورواه النسائي من حديث أبي سعيد، لكن أبدل لفظ "خريفاً" بقوله "عاماً" كذا في الجامع الكبير، وتقدم مشروحاً في باب فضل الصوم.
1338- (وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً) بفتح الخاء المعجمة والمهملة وسكون النون بينهما، وآخره قاف بوزن جعفر، حفير حول أسوار المدينة معرب كندة، كذا في القاموس، وهو هنا كناية أو مجاز مرسل عن البعد (كما بين السماء والأرض) قال السيوطي في كتابة للهيئة السنية: أخرج ابن راهويه في مسنده، والبزار بسند صحيح وأبو الشيخ عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام" وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي، وحسنه وابن ماجه وابن أبي عاصم في الستة وأبو يعلى وابن خزيمة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الصوم في سبيل الله (6/35) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه ... (الحديث: 167) .
(2) سورة القصص، الآية: 88.(7/135)
يَا رسولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ ليُرَى مَكَانُهُ؟
وفي رواية: يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً. وفي رواية: يُقَاتِلُ غَضَباً، فَمَنْ في
سبيل الله؟ فقالَ رسولُ اللهِ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ في سَبيلِ اللهِ" متفقٌ عَلَيْهِ. (1) .
1342- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيّةٍ تَغْزُو، فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ، إِلاَّ كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله الرجل) (ال) فيه للعهد الذهني نحوها في داخل السوق (يقاتل للمغنم) أي: لأجل الغنيمة (والرجل يقاتل ليذكر) أي: بين الناس ويشتهر (والرجل يقاتل ليرى) بصيغة المجهول (مكانه) نائب الفاعل، أي: مرتبته في الشجاعة (وفي رواية) أي: لهما وهي التي أوردها المصنف في باب الإِخلاص، وقال: متفق عليه (الرجل يقاتل شجاعة) أي: تحمله شجاعته على لقاء الأقران كما في رواية (ويقاتل حمية) بفتح المهملة وكسر الميم وتشديد التحتية، أي: أنفة وغيرة ومحاماة عن نحو العشيرة (ويقاتل غضباً) أي: للعقب القائم به (فمن) من هؤلاء الأنواع معدود (في سبيل الله) موعود بالثواب المرتب على المقاتلة فيه (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قاتل لتكون كلمة الله) أي: كلمة التوحيد، أي: لتكون الملة الحنيفية (هي) ضمير فصل أتى به؛ لإفادة الحصر (العليا فهو في سبيل الله) دون من قاتل لغرض دنيوي من طلب مغنم، أو حمية أو قاتل للرياء والسمعة (متفق عليه) والحاصل أن المثاب من قاتل الكفار إيماناً واحتساباً، لا المقاتل لغرض دنيوي أو عرض دني.
1342- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من غازية) أي: طائفة غازية (أو) يحتمل أن تكون للتنويع، وأن تكون للشك من الراوي (سرية) قطعة من الجيش، فعلية بمعنى فاعله؛ لأنها تسري ليلا في خفية، والجمع سرايا وسريات، مثل عطية وعطايا وعطيات، وتقدم فيها بسط وهي محتملة؛ لأن تكون من مصدر
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: من قاتل لتكون كلمة الله ... (6/21، 22) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، (الحديث: 149) .(7/138)
أُجُورِهْم، ومَا مِنْ غَازِيَةٍ أوْ سَرِيةٍ تُخْفِقُ وتُصابُ إِلّا تَمَّ لَهُمْ أُجُورُهُمْ " رَوَاهُ مُسلمٌ (1) .
1343- وعَنْ أَبي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَ رجُلًا قَالَ: يَا رسُولَ اللهِ ائْذَنْ لي في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سرى، أي: سار ليلا كما ذكر، ومن السري وهو الجبار (2) (تغزو فتغنم) بالنصب في جواب النفي (وتسلم) أي: من الموت، ويحتمل أن يراد وتسلم حتى من نحو الجرح (إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم) جاء في رواية زيادة: من الآخرة، ويبقى لهم الثلث كما في الجامع الكبير والصغير، وذكر مخرجيه الآتيين. قال المصنف: معناه يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم، وإن الغنيمة في مقابلة جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت لهم فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المرتب على الغزو وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر، ولا ينافي هذا الحديث السابق أن المجاهد رجع بما نال من أجر وغنيمة، أنه لا يتعرض في ذلك لنقص الأجر، ولا قال أجره كأجر من لم يغنم فهو مطلق وهذا مقيد فوجب حمل المطلق على المقيد. اهـ ملخصاً كا (وما من غازية أو سرية تخفق) بضم الفوقية وسكون المعجمة وكسر الفاء، قال أهل اللغة: الإخفاق أن يغزوا فلا يغنموا شيئاً وكذا كل طالب حاجة إذا لم تحصل فقد أخفق، ومنه أخفق الصائد إذا لم يقع له صيد (وتصاب) أي: بالموت أو بنحو الجرح (إلا تمّ لهم أجورهم) قال المصنف: وحاصل معنى الحديث وهو الصواب الذي لا يجوز غيره، أن الغزاة إذا سلموا وغنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة، كقولهم: فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئاً ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها، أي: يجتنيها. قال القرطبي بعد أن نقل ترجيح ذلك عن القاضي عياض: ويدل لصحة هذا التأويل قوله إلا تعجلوا ثلثي أجرهم. قال القرطبي: ويحتمل أن هذه التي أخفقت إنما يزاد في أجرها لشدة ابتلائها وأسفها على ما فاتها من الظفر والغنيمة، قلت فيه بعد: لأن الكامل من قاتل لإِعلاء كلمة الله فهو باذل نفسه لله غير ناظر لعرض ولا غرض (رواه مسلم) وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه كذا في الجامعين.
1343- (وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً) لم يسمه ابن رسلان في شرحه (قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة) بكسر المهملة وبالتحتية، أراد مفارقة الوطن، والذهاب في
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان قدر ثواب من غزا فغنم، ومن لم يغنم، (الحديث: 154) .
(2) كذا بالنسخ ولعله وهو الجدول كما في المصباح.(7/139)
الغَزْوِ بَعدَ فَرَاغِهِ؛ ومعناه: أنه يُثَابُ في رُجُوعِهِ بعد فَرَاغِهِ مِنَ الغَزْوِ (1) .
1345- وعن السائب بن يزيد - رضي الله عنه -، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوَةِ تَبُوك تَلَقَّاهُ النَّاسُ، فَتَلَقّيتُهُ مَعَ الصِّبْيَانِ عَلَى ثَنيَّةِ الوَدَاعِ. رواه أَبُو داود بإسنادٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثانيهما: أنهم إذا انصرفوا ظاهرين لم يأمنوا أن يقفو العدو أثرهم فيوقعوا بهم وهم غارون، فربما استظهر الجيش أو بعضهم بالرجوع على أدراجهم، فإن كان من العدو طلب كانوا مستعدين للقائهم، وإلا فقد سلموا وأحرزوا ما معهم من الغنيمة، وقيل: يحتمل أن يكون عن قوم قفلوا لخوفهم أن يدهمهم من عدوهم من هو أكبر منهم عدداً، وقفلوا يستضيفوا إليهم عددا آخر من أصحابهم، ثم يكروا على عدوهم. اهـ والمعنى الأول مذكور في الأصل (رواه أبو داود بإسناد جيد) ورواه أحمد والحاكم في المسند، كما في الجامع الصغير (القفلة: الرجوع) فيه تجوز والمراد أنها المرة منه وإلا فالرجوع هو المقفول. في المصباح: قفل من سفره قفولاً من باب رجع، والاسم القفل بفتحتين (والمراد الرجوع من الغزو بعد فراغه ومعناه) أي: ومعنى الحديث بجملته (أنه يثاب في رجوعه بعد فراغه من الغزو) كما يثاب في ذهابه إليه لما في القفول من المعاني السابقة الداعية للإِثابة.
1345- (وعن السائب بن يزيد) بفتح التحتية الأولى وسكون الثانية وكسر الزاي بينهما تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في كتاب الحج (قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك) بمنع الصرف على الأرجح للعلمية والتأنيث المعنوي (تلقاه الناس) أي: المتخلفون بالمدينة من المنذرين والمنافقين (فلقيته مع الصبيان) بكسر الصاد المهملة وضمها جمع صبي أي الغلمان قبل البلوغ (على ثنية الوداع) محل بقرب المدينة وهو بفتح الواو، وسميت بذلك لأن المسافر كان يودع عندها ويشيع إليها قاله في القاموس، والوداع بفتح الواو، اسم مصدر ودع، والظرف تنازعه كل من الفعلين قبله والأولى إعمال الثاني وإلا لأعيد الظرف، وقيل: عليها (رواه أبو داود) أواخر كتاب الجهاد من سننه (بهذا اللفظ ورواه البخاري) من حديث السائب (قال: ذهبنا نتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الصبيان إلى ثنية الوداع) قال العيني: هي هنا من جهة تبوك، وفي غيره يحتمل أن تكون الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون تسمى ثنية الوداع، والثنية طريق العقبة. وحكى صاحب المحكم في الثنية أقوالاً فقال: والثنية الطريق في الجبل كالنقب، وقيل: الطريق إلى الجبل، وقيل: هي العقبة، وقيل:
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجِهِاد، بابِ: في فِضل اِلقَفْل سبيل الله تعالى، (الحديِث: 2487) .(7/141)
صحيح بهذا اللفظ ورواه البخاري قَالَ: ذَهَبنا نَتَلَقَّى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ (1) .
1346- وعن أَبي أُمَامَة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ لَمْ يَغْزُ، أَوْ يُجَهِّزْ غَازِياً، أَوْ يَخْلُفْ غَازياً في أهْلِهِ بِخَيرٍ، أصَابَهُ اللهُ بِقَارعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ" رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيحٍ (2) .
1347- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَألْسِنَتِكُمْ" رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجبل نفسه، وقال الداودي: ثنية الوداع من جهة مكة وتبوك من الشام مقابلتها كالمشرق من المغرب، إلا أن تكون ثنية أخرى في تلك الجهة. قال: والثنية الطريق في الجبل، ورد عليه صاحب التوضيح بقوله وليس كذلك إنما الثنية. ما ارتفع من الأرض. قلت كأن هذا ما اطلع على ما قاله صاحب المحكم فلذا أسرع بالرد. اهـ.
1346- (وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يغز) أي: بالخروج له (أو يجهز غازياً) أي: يهيء له أسباب سفره (أو يخلف) بفتح التحتية وضم اللام (غازياً في أهله بخير) أي: يكون قائماً عنه بمصالحهم (أصابه الله بقارعة) أي: داهية تقرعه وتقلقه (قبل يوم القيامة) أشار إلى تعجيلها (رواه أبو داود) في الجهاد (بإسناد صحيح) ورواه الدارمي وابن ماجه والطبراني والدارقطني والموصلي، كذا في الجامع الكبير.
1347- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: جاهدوا المشركين بأموالكم) بأن تنفقوها في عدد الحرب وآلاته من خيل وكراع وسلاح (وأنفسكم) بأن تقاتلوهم (وألسنتكم) بأن تقرعوهم بكفرهم وتوبخوهم بشركهم، أو بإقامة الحجة على ضلالهم وبطلان أعمالهم (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك، كذا في الجامع الصغير.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في التلقي، (الحديث: 2779) .
وأخرجه البخاري في أول باب من كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر (6/133) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو، (الحديث: 2503) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو، (الحديث: 2504) .(7/142)
1348- وعن أَبي عمرو - ويقالُ: أَبُو حكيمٍ - النُّعْمَانِ بن مُقَرِّن - رضي الله عنه - قَالَ: شَهِدْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ من أوَّلِ النَّهَارِ أخَّرَ القِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ. رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1349- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1348- (وعن أبي عمرو) بفتح العين (ويقال أبو حكيم) بفتح المهملة وكسر الكاف (النعمان بن مقرن) بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء وبالنون، أخره ابن عائد المزني أحد الأخوة السبعة الذين هاجروا معاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنه) صحابي مشهور، استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين، ووهم من زعم أنه النعمان بن عمرو بن مقرن، فذاك آخر هو ابن أخي هذا، وهو تابعي، وهذا الصحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة، كذا في التقريب للحافظ، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة أحاديث، انفرد البخاري بحديث منها ومسلم بآخر (قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل من أول النهار) حال برد الصبح، وهبوب نسماته (آخر القتال حتى تزول الشمس) من كبد السماء إلى جرة المغرب (وتهب الرياح وينزل النصر) وذلك ليبرد الوقت، ويسهل لبس السلاح على المقاتلة، وعلى الخيل الكر والفر، ويكون مع ذلك النصر بالتأييد الإِلهي (وراه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال ابن رسلان: وحربه عند هبوب الرياح استبشار بما نصره الله من الرياح، وهذا مفهوم من قوله "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" ويرجو أن يهلك الله أعاديه بالدبور، كما أهلك عاداً بها، ونصر بالصبا. وعند البخاري: وتهب رياح النصر، وفي رواية: ويحضر الصلوات أوقاتها، فأوقاتها أفضل الأوقات ويستجاب فيها الدعاء.
1349- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تتمنوا لقاء العدو) لئلا تفتتنوا عند لقائهم (فإذا لقيتموهم) أي: إذا لقوكم لا عن طلب منكم، وتعرض له (فاصبروا) أي: فأنتم حينئذ معانون، لأنكم مبتلون، وقريب منه حديث "لا تطلب الإِمارة
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في أي وقت يستحب اللقاء، (الحديث: 2655) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: السير، باب: ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال، (الحديث: 1613) .(7/143)
خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ (1) , وَالمَبْطُونُ (2) ، وَالغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ (3) ، وَالشَّهِيدُ في سَبِيلِ اللهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (4) .
1352- وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَعُدُّونَ الشُّهَدَاءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
به ثم زيد في عددهم، فأخبر به ثانياً (المطعون) أي: الذي أصابه الطاعون، وهو وخز الجن ومحله ما لم يسمع به ببلد فيقدم عليه للنهي عن ذلك (والمبطون) من مات بمرض البطن، وقيل: بالإِسهال (والغريق) أي: منِ مات بالغرق (وصاحب الهدم) أي: من مات تحته (والشهيد في سبيل الله) المقاتل إيماناً واحتساباً (متفق عليه) ورواه مالك والترمذي.
1352- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تعدون الشهداء فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله) أي: في معركة الكفار إيماناً واحتساباً (فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل) قال البدر الزركشي الشافعي في كتاب البرهان في علوم القرآن: إذن نوعان:
الأول: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمقدم، أو منبهة على مسبب على سبب حصل في الحال وهي في الحال غير عاملة؛ لأن المؤكدات لا يعتمد عليها، والعامل يعتمد عليه، وتدخل هذه الاسمية. ويجوز توِسيطها وتأخيرها ومنه قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين) (5) فهي مؤكدة للجواب مرتبطة بما تقدم.
وذكر بعض المتأخرين لها معنى ثالثاً هو أن يكون من إذ التي ظرف زمان ماض، ومن جملة بعدها تحقيقاً أو تقديراً، لكن حذفت الجملة تخفيفاً، وأبدل التنوين منها كما في قولهم حينئذ، وليست هذه الناصبة لاختصاص الناصبة بالمضارع، وهذه تدخل على الماضي نحو (إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) (6) وعلى الاسم نحو إن كنت ظالماً إذا حكمك فيّ تافه. وقوله تعالى: (وإنكم إذاً لمن المقربين) (7) وأعلم أن هذا المعنى لم يذكره النحاة، لكن قياس قولهم: إنه يحذف المضاف إليها، إذ ويعوض عنها التنوين كيومئذ، وإن لم يذكروا حذف
__________
(1) الذي أصابه الطاعون.
(2) من مات بمرض البطن.
(3) أي من مات تحته.
(4) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الشهادة سبع سوى القتل (6/32 و33) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان الشهداء، (الحديث: 164) .
(5) سورة البقرة، الآية: 145.
(6) سورة الإِسراء، الآية: 100.
(7) سورة الشعراء, الآية: 42.(7/146)
فِيكُمْ؟ " قالوا: يَا رسولَ اللهِ، مَنْ قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. قَالَ: "إنَّ شهَدَاءَ أُمَّتِي إِذَاً لَقَليلٌ"! قالوا: فَمَنْ هُمْ يَا رسول الله؟ قَالَ: "مَنْ قُتِلَ في سَبيلِ الله فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ في سَبيلِ الله فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ في الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ في البَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالغَرِيقُ شَهِيدٌ" رواه مسلم (1) .
1353- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجملة من إذا وتعويض التنوين عنها. قال أبو حبان: وليس هذا بقول نحوي، ثم نقل الزركشي عن القاضي ابن الجويني نحو ما قاله ذلك البعض، وأنه لا ينافي جعل إذا من نواصب المضارع، لأنه محمول على إذن الأصلية لا على ما كانت إذن وأضيفت لجملة حذفت عوض عنها التنوين، فيرفع المضارع بعد تلك اهـ ملخصاً، وحاصله أنها فيما ذكر، إما للتنبيه على قلة الشهيد الحاصل من قصر الشهادة على ما ذكروه، أو أنها من تنوين إذ المضافة للجملة عوضاً عنها، والأصل إذا كان شهداء أمتي من ذكرتم فقط (قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله) أي: بسبب غير القتال كأن سقط عن فرسه أو مات حتف أنفه (فهو شهيد، ومن مات في الطاعون) أي: بسببه كما تقدم في الحديث قبله ففي سببية كهي في حديث "دخلت النار امرأة في هرة حبستها" الحديث (فهو شهيد، ومن مات من) وفي نسخة: في، وكلاهما للتعليل (البطن) شامل لسائر أدوائه (فهو شهيد، والغريق شهيد رواه مسلم) .
1353- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قتل دون ماله) قال القرطبي: دون في أصلها ظرف مكان بمعنى تحت، وتستعمل للتنبيه مجازاً، ووجهه أن الذي يقاتل عن ماله غالباً إنما يجعله خلفه، أو تحته ثم يقاتل عليه (فهو شهيد) قال ابن المنذر: الذي عليه أهلم العلم أن للرجل أن يدفع عن من أراد أن يأخذ ماله
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان الشهداء، (الحديث: 165) .
(2) قال ابن المنذر: الذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع من أراد أن يأخذ ماله أو شيئاً منه ظلماً من غير تفصيل ألا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره.(7/147)
فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، أرَأيتَ إنْ جَاءَ رجلٌ يُرِيدُ أخْذَ مَالِي؟ قَالَ: "فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ" قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: "قَاتِلْهُ" قَالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: "فَأنْتَ شَهِيدٌ" قَالَ: أَرَأيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: "هُوَ فِي النَّارِ" رواه مسلم (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله أرأيت) بفتح التاء، أي: أخبرني (إن جاء رجل يريد أخذ مالي) أي: بغير حق حذف جوابه لدلالة المقام عليه، أي: فما أفعل (قال: فلا تعطه مالك) جواب لشرط دل عليه وجوده في السؤال (قال: أرأيت إن قاتلني) أي: لأخذ مالي (قال: قاتله) الأمر للإِباحة (قال: أرأيت إن قتلني) أي: وقد قاتلته لذلك (قال: فأنت شهيد) أي: من شهداء الآخرة، فيغسل ويصلى عليه (قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: فهو في النار) أي: مخلد إن استحل ذلك، أو يدخلها إن أريد تعذيبه، ثم يخرج منها إن كان غير مستحل (رواه مسلم) وقد جمع بعض الأفاضل شهداء الآخرة ونظمهم في أبيات فقال:
من بعد حمد الله والصلاة ... على النبي وآله الهداة
خذ عدة الشهداء سرداً نظماً ... وأحفظ هديت للعلوم فهما
محب آل المصطفى ومن نطق ... عند إمام جائر بعين حق
وذوا اشتغال بالعلوم ثم من ... على وضوء نومه نال المنن
ومن يمت فجأة حريق ... ومائت بفتنة غريق
لديغ أو مسحور أو مسموم ... ذو عطش مجوعة مولوم
أكيل سبع عاشق مجنون ... والنفساء ذو الهرم والمبطون
ومن بذات الجنب أو ظلماً قتل ... أو دون مال أو دم أهل نقل
أو دين أو في الحرب أو مات به ... مؤذن محتسب لربه
وجالب مبيع سعر يومه ... أو مات في الطاعون بين قومه
كذا الغريب وبعين قد قرا ... أواخر الحشر بها نال الذرا
ومن يلازم وتره. وورده ... عند الضحا وصوم حتم سعده
ومن يصل ثالث الأسبوع ... عند الزوال عاشر الركوع
ويقرأ الكرسي بعد الفاتحة ... وسورة الإِخلاص حتماً صالحة
ومن يقل في الموت بارك ثم في ... ما بعده خمساً وعشرين اصطفى
ومن بصدق يسأل الشهادة ... نال بذاك غاية السعادة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره ... (الحديث: 225) .(7/150)
236- باب فضل العتق
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ) الآية.
1356- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ، عُضْواً مِنْهُ في النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو إزالة الرق عن الآدمي من عتق سبق أو استقل تقرباً إلى الله تعالى. فخرج بالآدمي الطير والبهائم، فلا يصح عتقها على الأصح قال ابن الصلاح: الخلاف فيما يملك بالاصطياد. أما البهائم، فإعتاقها من قبيل سوائب الجاهلية، وهو باطل قطعاً. اهـ. ورواية أبي نعيم أن أبا الدرداء رضي الله عنه "كان يشتري العصافير من الصبيان ويرسلها". يحمل إن صحت على أن ذلك رأي له (قال الله تعالى: فلا اقتحم العقبة) اقتحم: دخل وتجاوز بشدة، جعل الأعمال الصالحة عقبة وعملها اقتحاماً لها، فيه من مجاهدة النفس، أي: فلم يشكر ما أنعم الله به عليه من أعمال الحسنات (وما أدراك ما العقبة) أي: لم تدرك صعوبتها وثوابها (فك رقبة) تفسير للعقبة أي: تخليصها من الرق (الآية) بالنصب وبالرفع، كما تقدم توجيهها ومراده (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (2) ، فالعقبة عتق الرقبة، وإطعام من ذكر، والتواصي بالصبر والمرحمة، وقجل: إن المعطوف بثم عليه قوله: (فلا اقتحم العقبة) فالمعنى: لا اقتحم ولا كان من المؤمنين، وثم لتباعد رتبة الإِيمان عن العتق والإِطعام، فالعقبة مفسرة بالعتق والإِطعام، وخصا، لما فيه من النفع المتعدي.
1356- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من) أي: أي مسلم كما قيد به في الخبر الآتي (أعتق رقبة مسلمة) ذكراً كان المعتق أو أنثى نفيساً أو خسيساً، كما يومىء إليه النكرة في سياق الشرط (أعتق الله بكل عضو منه) أي: بدل كل عضو من المعتق، فالتذكير باعتبار ما ذكر (عضواً منه) أي: المعتق (من النار) صلة أعتق (حتى) عاطفة (فرجه) بالنصب عطفاً على المنصوب أي: حتى أعتق فرج المعتق (بفرجه) أي: بدل فرجه، أو
__________
(1) سورة البلد، الآيات: 11، 12، 13.
(2) سورة البلد، الآيات: 14، 15، 16، 17.(7/151)
1358- وعنِ المَعْرُورِ بن سُوَيْدٍ، قَالَ: رَأيْتُ أَبَا ذَرٍ - رضي الله عنه -، وَعَلَيهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهَا، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ أنَّهُ قَدْ سَابَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِليَّةٌ هُمْ إخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ الله تَحْتَ أيديكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1358- (وعن المعرور) بإهمال العين والراء بصيغة المفعول (بن سويد) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية بعدها مهملة الأسدي، أبو أمية الكوفي ثقة من كبار التابعين عاش مائة وعشرين سنة خرج حديثه الستة (قال: رأيت أبا ذر) الغفاري (رضي الله عنه وعليه حلة) بضم المهملة وتشديد اللام، ثوب مركب من ظهارة وبطانة من جنس واحد جمعها حلل كغرفة وغرف (وعلى غلامه مثلها) أي: حلة مثل حلتها (فسألته عن ذلك) أي: سبب مساواته ملبوس عبده لملبوسه، والعادة التفاوت بينهما، (فذكر أنه ساب) بتشديد الموحدة أصله سابب، فأدغمت إحداهما في الأخرى (رجلاً) هو بلال رضي الله عنه (على عهد) أي: زمن (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعيره بأمه) بقوله يا ابن السوداء (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك امرؤ فيك جاهلية) أتى بالمؤكد في الحكم الملقى لخالي الذهن تنزيلاً له منزلة المنكر، كقول الشاعر:
جاء فلان عارضاً رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح
فالمخاطب غير شاك في ذلك، لكن لما جاء عارضاً رمحه صار كالمنكر لذلك فعومل معاملته، أي: خلق من أخلاق الجاهلية، وهي ما قبل الإِسلام، سموا به لكثرة جهالاتهم وذلك الفخر بالأنساب (هم) أي: الأرقاء (إخوانكم) لأنهم من الأب الأول وهو آدم، ومن الأب الثاني وهو نوح عليهما الصلاة والسلام. ويحتمل أن يراد الأخوة في الإِسلام ويكون العبد الكافر بطريق التبع، أو يختص الحكم بالمؤمن (وخولكم) بفتح الخاء والواو. قال في المصباح: مثل الخدم والحشم وزناً ومعنى (جعلهم الله) أي: صيرهم، وقدم المفعول لكونه ضميراً متصلاً؛ ولأن المقام له، وقال الحافظ في الفتح: الخول والخدم سموا بذلك؛ لأنهم يتخولون الأمر أي: يصلحونه، ومنه الخولي لمن يقوم بإصلاح البستان. اهـ (تحت أيديكم) مجاز عن القدرة والملك ثم فرع على أصله مما ذكر قوله (فمن كان أخوه) عثر به حملاً على الشفقة وتحريضاً على الإِحسان كما هو شأن الإِخوان (تحت يده فليطعمه مما يأكل) أي: من جنس ما يأكل بدليل قوله في الحديث بعده: "فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة"، والمراد: المواساة من كل وجه، لكن أخذ بالأكمل أبو ذر فعل المواساة، وهو الأفضل فلا يستأثر عياله(7/154)
يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ" متفقٌ عَلَيْهِ. (1) .
1359- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أَتَى أحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ؛ فَإنَّهُ وَلِيَ عِلاَجَهُ" رواه البخاريُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بطعام وإن كان جائزاً (وليلبسه) بضم التحتية فيه وفي يطعمه (مما يلبس) بفتح التحتية والموحدة. والأمران محمولان عند الجمهور على الندب، والواجب ما يسد بهما حاجتهما، من الطعام واللباس المعتاد للحزم في ذلك البلد لا خصوص مطعوم وملبوس السيد، وفي الموطأ ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق"، وهو يقتضي رد ذلك إلى المعروف فمن زاد عليه كان متطوعاً (ولا تكلفوهم) تلزموهم كلفة (ما يغلبهم) بفتح أوله، أي: عمل ما يعجزون عنه أو تلحقه به مشقة لا تحتمل لعادة أمثاله (فإن كلفتموهم) أي: ما يغلبهم وحذف للعلم به (فأعينوهم) ليرتفع عنهم بعض التعب (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان، وفي العتق، وفي الأدب. ومسلم في النذور. ورواه أبو داود في الأدب من سننه، والترمذي في البر، والصلة من جامعه. وقال: حسن صحيح وابن ماجه في الأدب ببعضه "إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم" قال الحافظ في الفتح: ويلتحق بالرقيق من في معناه من أجير وغيره.
1359- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أتى أحدكم خادمه) قدم المفعول على الفاعل؛ لئلا يعود الضمير لو جاء على الأصل إلى متأخر لفظاً ورتبة من مواضعه، وهو يشمل الرقيق والأجير وغيرهما من الخادم بالنفقة من غير عقد إجارة أو على سبيل التبرع بها (بطعامه فإن لم يجلسه معه) كما هو الأفضل لما فيه من التواضع وعدم الترافع على المسلم (فليناوله) وفي نسخة فلينوله والأمر للندب (لقمة أو لقمتين) في المصباح: اللقمة من الخبز (أو) شك من الراوي (أكلة أو أكلتين) وعلل الأمر المندوب بقوله (فإنه ولي علاجه) قال في النهاية: أي: عمله، وقال غيره: أي: مزاولته من تحصيل آلاته ووضع القدر على النار وغير ذلك (رواه البخاري) في كتاب الأطعمة بلفظ "فقد كفاه دخانه وعلاجه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين" متفق عليه ورواه أبو داود
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - العبيد إخوانكم (1/80 و81) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل ... (الحديث: 38) .(7/155)
مُتَفَق عَلَيْهِ (1) .
1362- عن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المَمْلُوكُ الَّذِي يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ، وَالنَّصِيحَةِ، وَالطَّاعَةِ، لهُ أجْرَانِ" رواه البخاري (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه كان يرى للعبد التصرف في ماله بغير إذن سيده اهـ ملخصاً من الفتح (متفق عليه) .
1362- (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المملوك الذي يحسن عبادة ربه ويؤدي) أي: يعطي (إلى سيده الذي عليه) أي: واجب لسيده (من الحق والطاعة والنصيحة له أجران) بيان للإِبهام الذي في الموصول (رواه البخاري) في العتق.
1363- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثة لهم أجران) الاقتصار عليهم؛ لدعاية المقام إليه فلا ينافي أن الذي يعطى أجره مرتين عدد كثير، جمعهم السيوطي في الجزء المشار إليه ونظمهم في آخره فقال:
وجمع أتى فيما رويناه أنهم ... يثنى لهم أجرحروه محققا
فأزواج خير الخلق أولهم ومن ... على زوجها أو للقريب تصدقا
وفاز بجهد واجتهاد أصاب والـ ... ـوضوء اثنتين والكتابي صدقا
وعبد أتى حق الإله وسيد ... وغاز تسرى مع غنى له تقا
ومن أمة يشرِى فأدب محسناً ... وينكحها من بعده حين أعتقا
ومن سن خيراً أو أعاد صلاته ... كذاك جبان إذ يجاهد ذا شقا
فذاك شهيد في البحار ومن أتى ... له القتل من أهل الكتاب فألحقا
وطالب علم مدرك ثم مسبغ ... وضوء لدى البرد الشديد فحققا
ومستمع في خطبة قد دنا ومن ... بتأخير صف أول مسلماً وقا
وحافظ عصر مع إمام مؤذن ... ومن كان في وقت الفساد موفقا
وعامل خير مخفيا ثم إن بدا ... برى فرحاً مستبشراً بالذي ارتقى
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: العبد إذا أحسن ... (5/127) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: ثواب العبد وأجره ... (الحديث: 44) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: كراهية التطاول على الرقيق (5/128) .(7/158)
1363- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثَةٌ لَهُمْ أجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ، وَالعَبْدُ المَمْلُوكُ إِذَا أدَّى حَقَّ الله، وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَأدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا؛ فَلَهُ أَجْرَانِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومغتسل في جمعة عن جنابة ... ومن فيه حقاً قد غدا متصدقا
وماش يصلي جمعة ثم من أتى ... ندا اليوم خيراً ما فضعفه مطلقا
ومن حتفه قد جاء من سلاحه ... ونازع نعل إن لخير تسبقا
وماش لدى تشييع ميت وغاسل ... يده بعد أكل والمجاهد أخفقا
ومتبعاً ميتاً حياء من أهله ... ومستمع الآثار فيما روى التقى
ومن مصحف يقرا وقاريه معرباً ... بفهم لمعناه التسريف محققا
وقال المهلب: جاء النص على هؤلاء الثلاثة لينبه به على سائرِ من أحسن في معنيين في أي فعل كان من أفعال البر. اهـ (رجل من أهل الكتاب) يهودياً كان أو نصرانياً، كما استوجهه السيوطي تبعاً للطيبي، وذلك مستمر إلى يوم القيامة، كما رجّحه البلقيني، وأيده تلميذه الحافظ في الفتح، وزاد "والمرأة في ذلك كالرجل" (آمن بنبيه وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -) فأجر أجرين لإِيمانه بالنبيين، فلا يلحق به الكافر المشرك إذا أسلم خلافاً للداودي. وقال الحافظ: يحتمل أن يكون تعدد أجره؛ لكونه لم يعاند كما عاند غيره ممن أضله الله على علم فحصل له الأجر الثاني لمجاهدته نفسه على مخالفة أنظاره (والعبد المملوك إذ أدى) بتشديد الدال المهملة (حق الله) بالفعل لما طلب فعله إيجاباً أو ندباً، وترك ما نهي عن فعله تحريماً أو كراهة (وحق مواليه) فإن قيل: يلزم عليه أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات، أجاب الكرماني بأنه لا محذور في ذلك ويكون أجره مضاعفاً لما تقدم. وقد يكون للسيد جهات أخرى يستحق بها إضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على المؤدي لأحدهما. والمراد تضعيف أجره على عمل يتخذ طاعة لله وطاعة للسيد، فيعمل عملاً واحداً ويؤجر عليه أجرين بالاعتبارين (ورجل كانت له أمة فأدّبها) علمها الآداب الشرعية (فأحسن تأديبها وعلمها) ما تحتاج إليه معاشاً ومعاداً (فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها) أي: بمهر جديد سوى العتق، كما يؤخذ من رواية الترمذي "أعتقها ثم أصدقها" فأفادت هذه الرواية ثبوت الصداق (فله أجران) هو تكرير لطول الكلام؛ للاهتمام(7/159)
كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
1365- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَقَاضَاهُ فَأغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُهُ، فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوهُ، فَإنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالاً" ثُمَّ قَالَ: "أعْطُوهُ سِنّاً مِثْلَ سِنِّهِ" قالوا: يَا رسولَ اللهِ، لا نَجِدُ إِلاَّ أمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الموضع (وإذا كالوهم) أي: كالوا لهم (أو وزنوهم) أي: لهم فهو من باب حذف الجار وإيصال الفعل. وقيل: فيه حذف المضاف أي: كالوا مكيلهم، أو موزونهم (يخسرون) أي: ينقصون، وهؤلاء عادتهم في أخذ حقهم من الناس الكيل والوزن، لتمكنهم باكتيال من الاستيفاء والسرقة، بتحريك المكيال ونحوه ليسعه، وأما إذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من النوعين جميعاً، ولذا ما ذكر الوزن في الأول (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون) فإن ظن البعث راح عن مثل هذه القبائح (ليوم عظيم) لعظم ما فيه (يوم) منصوب بأعني أو مبعوثون أو بدل من الجار وفتح لإِضافته للجملة على مذهب من يرى جواز ذلك (يقوم الناس لرب العالمين) .
1365- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً) لعله زيد بن شعبة الكناني وأسلم بعد وحديثه مذكور في الشفاء إلا أن ذاك في حب (1) وفي رواية لأحمد "جاء أعرابي يتقاضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيراً له " (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه) أي: يطلب منه قضاء ماله عنده (فأغلظ) أي: الدائن كعادة الأعراب (له) اللام فيه للتبليغ والضمير للنبي - صلى الله عليه وسلم - (فهم به أصحابه) أي: أرادوا أن يفعلوا به جزاء إغلاظه (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوه) أي: اتركوه وعلل الأمر بقوله: (فإن لصاحب الحق مقالاً) أي: نوعاً خاصاً من المقال، وهو ما فيه علو على المدين (ثم قال: أعطوه سناً مثل سنه) طلباً للمماثلة في القضاء. قال الحافظ في الفتح: المخاطب بذلك أبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أخرجه مسلم (فقالوا: يا رسول الله لا نجد إلا أمثل) أي: إلا سناً أعلى (من سنه قال: أعطوه) أي: الأعلى (فإن خيركم أحسنكم قضاء) منصوب على التمييز، وفي رواية "فإن من خيركم أو خيركم" على الشك، والمراد خيركم في المعاملة أو يكون من مقدرة، ويدل عليه الرواية المذكورة. وفي رواية "فإن أفضلكم أحسنكم قضاء".
__________
(1) في حب أي تقاضاه في ثمن حب.(7/162)
1367- وعن أَبي قتادة - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يُنَجِّيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ" رواه مسلم (1) .
1368- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، وَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِراً فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَقِيَ اللهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1367- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سره) أي: أفرحه (أن ينجيه الله) أي: يجعله ذا نجاة (من كرب) بضم ففتح، جمع كربة، وهي غم يأخذ بالنفس لشدته وفي نسخة من كرب بفتح فسكون، وهو بمعنى الكربة قاله الجوهري (يوم القيامة فلينفس) بتشديد الفاء (عن معسر) أي: ليؤخر مطالبة الدين عن المدين المعسر. وقيل: معناه يفرج عنه (أو يضع عنه) أي: يحط عنه وهذا مقتبس من مشكاة قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) (3) (رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: ورواه الطبراني عن أنس، وعن أبي قتادة بلفظ "من سره أن يأمن من غم يوم القيمة فلينظر معسراً أو ليضع عنه ". وفي فتح الباري بعد ذكر حديث الباب، ولأحمد عن ابن عباس نحوه، وقال: وقاه الله من فيح جهنم.
1368- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان رجل) أي: ممن قبلكمِ (يداين الناس) صيغة المفاعلة؛ للمبالغة لا للمغالبة (وكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً) أي: لمطالبة ما عنده (فتجاوز عنه) يدخل في التجاوز الإنظار والوضيعة وحسن التقاضي (لعل الله أن يتجاوز عنا) فيكون الجزاء من جنس العمل (فلقي الله) كناية عن الموت أو لقيه بعده (فتجاوز) أي: عفا عنه. (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر، (الحديث: 32) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: من أنظر معسراً (4/262) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار العسر، (الحديث: 31) .
(3) سورة: البقرة الآية: 280.(7/164)
1369- وعن أَبي مسعود البدريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الخَيْرِ شَيْءٌ، إِلاَّ أنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِراً، وَكَانَ يَأمُرُ غِلْمَانَهُ أنْ يَتَجَاوَزُوا عَن المُعْسِر. قَالَ اللهُ - عز وجل -: نَحْنُ أَحَقُّ بذلِكَ مِنْهُ؛ تَجَاوَزُوا عَنْهُ" رواه مسلم (1) .
1370- وعن حذيفة - رضي الله عنه - قَالَ: أُتَي اللهُ تَعَالَى بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ في الدُّنْيَا؟ قَالَ: "وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً" قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1369- (وعن أبي مسعود البدري) واسمه عقبة بن عامر، ونسب لبدر؛ لكونه نزلها وإلا فلم يشهد وقعتها كما تقدم في ترجمته (رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حوسب رجل ممن كان قبلكم) أي: من الأمم الكائنة قبلكم (فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس) أي: يعاملهم بالبيوع والمداينة (وكان موسراً) جملة حالية من فاعل يخالط (وكان يأمر غلمانه) بكسر الغين المعجمة، وفي رواية لمسلم: فتيانه (أن يتجاوزوا عن المعسر) بالإنظار وبالوضع (قال الله عز وجل: نحن أحق) أي: أولى (بذلك) أي: بالتجاوز (منه) وهذا تقريب للأذهان، وإلا فلا مشاركة بين الخالق والمخلوق في وصف بالحقيقة، حتى يفاضل بينهما فيه (تجاوزوا عنه) سهل عليه في معاملته معه، كما سهل هو في معاملته مع الخلق (رواه مسلم) . ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
1370- (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أتى الله بعبد من عباده آتاه) بالمد أي: أعطاه (مالاً فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال:) أي: حذيفة (ولا يكتمون الله حديثاً) وجملة القول، والمحكى به معترضة بين السؤال والجواب؛ لكونها كالدليل على تحقق ما يجيب به وأن لا شبهة فيه؛ لأن ذلك الموقف الحق ليس فيه إلا الصدق (قال: يا رب آتيتني مالاً) أتى بهذه الجملة تلذذاً بالخطاب، وإلا فذكرها في السؤال مغن عن إعادتها (فكنت أبايع الناس وكان من خلقي) بضم الخاء المعجمة، وهو ملكة للنفس يصدر عنها الفعل بسهولة (الجواز) أي الصبر على المعسر وقبول ما جاء به الموسر، وإن كان فيه بعض النقص، وقد فسر ذلك
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار العسر، (الحديث: 30) .(7/165)
المُوسِرِ، وَأُنْظِرُ المُعْسِرَ. فَقَالَ الله تَعَالَى: "أنَا أَحَقُّ بِذا مِنْكَ تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي" فَقَالَ عُقْبَةُ بن عامِر، وأبو مسعودٍ الأنصاريُّ رضي الله عنهما: هكَذا سَمِعْنَاهُ مِنْ فيِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم (1) .
1371- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أظَلَّهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ" رواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإِبهام بقوله: (فكنت أتيسر على الموسر) بقبول ما قد يتوقف في قبوله من نقص يسير أو عيب في المأتي به (وأنظر) أي: أمهل (المعسر) إلى سعة (فقال الله تعالى: أنا أحق بذا) أي: التخفيف والتجاوز، وفي نسخة بذلك، وأشير إليه بما يشار به للبعيد؛ تفخيماً نحو قوله تعالى: (ذلك الكتاب) (2) (منك تجاوزوا عن عبدي) خطاب للآيتين به، وفي قوله عبدي غاية التشريف، وإيماء إلى حكمة التجاوز (فقال عقبة بن عامر) الجهني (وأبو مسعود الأنصاري رضي الله عنهما) وهو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، السابق حديثه بنحوه (هكذا سمعناه من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال المصنف: هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم فقال عقبة بن عامر وأبو مسعود، وقال الحفاظ: هذا الحديث إنما هو محفوظ لأبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري وحده، وليس لعقبة بن عامر فيه رواية، قال الدارقطني: والوهم في هذا الإسناد من أبي خالد الأحمر قال: وصوابه فقال عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصاري. كذا رواه أصحاب أبي مالك سعد بن طارق، وتابعهم نعيم بن أبي هند، وعبد الملك بن عمير ومنصور وغيرهم عن ربعي عن حذيفة فقالوا في آخر الحديث: فقال عقبة بن عمرو أبو مسعود. اهـ وفي الأطراف للمزي قال: خلف قوله عقبة بن عامر وهم لا أعلم أحداً قاله غيره يعني أبا سعيد الأشج، والحديث إنما يحفظ من حديث عقبة بن عمرو أبي مسعود اهـ (رواه مسلم) (3) فالحديث عن حذيفة موقوف عليه، وله حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال رأياً.
1371- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أنظر معسراً) أي: أخر مطالبته (أو وضع) أي: حط (له) أي لأجله أوعنه (أظله الله) من حر الشمس التي تدنو من العباد قدر ميل (يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) ففيه غاية التشريف، وقد
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر، (الحديث: 29) .
(2) سورة البقرة، الآية: 2.
(3) قال المنذر: رواه مسلم هكذا موقوفاً على حذيفة ومرفوعاً عن عقبة وأبي مسعود.(7/166)
الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1372- وعن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، اشْتَرَى مِنْهُ بَعِيراً، فَوَزَنَ لَهُ فَأرْجَحَ. متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1373- وعن أَبي صَفْوَان سُويْدِ بنِ قيسٍ - رضي الله عنه -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقدم عدة من يظلهم الله تحت ظله، وأنها تسعة وثمانون خصلة في باب فضل الحب في الله (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وفي الجامع أن الحديث باللفظ المذكور أخرجه أحمد، ومسلم من حديث أبي اليسر، فكان ذكر كونه في الصحيح أولى.
1372- (وعن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه بعيراً) وكان ذلك في رجوعه معه من غزوة. رجح الحافظ في الفتح في أبواب الشروط أنها غزوة ذات الرقاع. قال القاضي عياض: وجمع بين الروايات المختلفة في قدر ثمنه بأن سبب الاختلاف أنهما رووا بالمعنى، وهو جائز فالمراد أوقية من الذهب والأربع الأواق والخمس، أي: من الفضة وهي بقدر قيمة الأوقية من الذهب والأربعة دنانير مع العشرين ديناراً محمولة على اختلاف الوزن والعدد. وكذا رواية أربعين درهماً مع المائتين. قال: وكان الإِخبار بالفضة عما وقع عليه العقد، وبالذهب عما حصل به الوفاء، أو بالعكس. اهـ ملخصاً قال الحافظ بعد نقل نحوه عن أبي جعفر الداودي: ولا يخفى ما فيه من التعسف. قال القرطبي: اختلفوا في ثمنه اختلافاً لا يقبل التلفيق، وتكلف ذلك بعيد عن التحقيق والذي تحصل من مجموع الروايات أنه باعه الجمل بثمن معلوم عندهما، وزاده عند الوفاء زيادة معلومة، ولا يضر عدم العلم بحقيقة ذلك (فوزن له) أي الثمن: أي: أمر بذلك بلالاً وأن يرجح له (فأرجح) جاء أنه زاده قيراطاً قال جابر: فقلت: لا تفارقني زيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث، وفيه ذكر أخذ أهل الشام له يوم الحرة: رواه مسلم (متفق عليه) .
1373- (وعن أبي صفوان) بفتح المهملة وسكون الفاء (سويد) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية فدال مهملة (ابن قيس) قال ابن الأثير: ويكنى بأبي مرحب (رضي الله عنه) وقال الحافظ في التقريب: نزل الكوفة خرّج حديثه الأربعة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: ما جاء في إنظار المعسر والرفق به، (الحديث: 1306) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمير (4/269) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: بيع البعير واستثار ركوبه، (الحديث: 115) .(7/167)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً أوحى إليه أن وار عورتك عن أهل الأرض، فكان لا يتخذ من كل شيء إلا واحداً إلا السراويل، فإنه كان يتخذ سروالين، فإذا غسل أحدهما لبس الآخر لئلا يأتي عليه حال إلا وعورته مستورة. وروى أبو نعيم في تاريخ أصبهان من حديث مالك بن عتاهية مرفوعاً: أن الأرض لتستغفر للمصلي بالسراويل. وروى أحمد عن أبي أمامة قال: قلنا: يا رسول الله أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون؟ قال: تسرولوا واتزروا، وخالفوا أهل الكتاب. اهـ ملخصاً.(7/169)
11- كتَابُ العِلم
241- باب فضل العلم تعلماً وتعليماً لله
قَالَ اللهُ تَعَالَى (1) : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمَاً) ، وقال تَعَالَى (2) : (قُلْ هَلْ يَسْتَوي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) ، وقال تَعَالَى (3) : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ) ، وقال تَعَالَى (4) : (إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب العلم
أي: فضله، والمراد الشرعي، وهو الحديث والتفسير والفقه وآلاتها (قال الله تعالى: وقل رب زدني علماً) هذا من أعظم أدلة شرف العلم وعظمه، إذ لم يؤمر - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل ربه الزيادة إلا منه. أخرج ابن ماجه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً. والحمد لله على كل حال" وأخرجه الترمذي من غير طريق، وزاد في رواية له "وأعوذ بالله من حال أهل النار". (وقال تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) أي: لا استواء بينهم، فهو استفهام إنكاري في معنى النفي (وقال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم) بطاعتهم للرسول (والذين أوتوا العلم درجات) أي: ويرفع الله العلماء منهم خاصة درجات، بما جمعوا من العلم والعمل، ونصب درجات بالبدل من الذين آمنوا والذين أتوا العلم، أو بالتمييز قاله في جامع البيان.
__________
(1) سورة طه، الآية: 114.
(2) سورة الزمر، الآية: 9.
(3) سورة المجادلة، الآية: 11.
(4) سورة فاطر، الآية: 28.(7/170)
1374- وعن معاوية - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1375- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَسَدَ إِلاَّ في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1374- (وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يرد الله به خيراً) تنكيره للتفخيم (يفقهه في الدين) أي: يجعله عالماً بالأحكام الشرعية ذا بصيرة فيها بحيث يستخرج المعاني الكثيرة من الألفاظ القليلة (متفق عليه) ورواه أحمد من حديث معاوية، ورواه أحمد وللترمذي عن ابن عباس، ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة كذا في الجامع الصغير وزاد في الجامع الكبير: ورواه ابن حبان من حديث معاوية. ورواه الدارمي من حديث ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر. ورواه في الأوسط عن أبي هريرة، ورواه تمام، وابن عساكر عن عبد الملك بن مروان، عن أبي خالد عن أبيه، ورواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية كلاهما من حديث ابن مسعود وزاد في آخره "ويلهمه رشده"، ورواه أحمد من حديث أبي هريرة وزاد "وإنما أنا قاسم والله يعطي".
1375- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حسد) أي: لا غبطة محمودة كما سيأتي (إلا في اثنتين) من الخصال؛ لشرفها ففيها يتنافس المتنافسون (رجل) بالجر بدل على تقدير مضاف، أي: خصلة رجل، وبالنصب باضمار أعني، وبالرفع بإضمار مبتدأ، أي: أحدهما رجل (آتاه) بالمد أي: أعطاه (الله مالاً) التنوين فيه يحتمل أن يكون للتعظيم، وأن يكون لغيره (فسلطه على هلكته) بفتح أوليه، أي: إهلاكه ففيه مبالغتان: التعبير بالتسليط المقتضي لفعله، وبالهلكة المشعرة بفناء الكل، أي: إنفاقه (في الحق) أي: ما يحق فيه إنفاق المال من القرب (ورجل آتاه الله الحكمة) العلم النافع (فهو يقضي بها) أي: يفصل بين المترافعين إليه، إن كان قاضياً أو المستفتين إن كان مفتياً (ويعلمها)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: من يرد الله به خيراً، (1/150، 151) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: النهي عن المسألة، (الحديث: 98) .(7/171)
متفقٌ عَلَيْهِ. والمراد بالحسدِ: الغِبْطَةُ، وَهُوَ أنْ يَتَمَنَّى مِثله (1) .
1376- وعن أَبي موسى - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أصَابَ أرْضاً؛ فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبةٌ قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ، وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أجَادِبُ أمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: الناس، وحذفه ليعم كل متعلم والحديث سبق مشروحاً في باب الكرم والجود (متفق عليه والمراد بالحسد) المحرض عليه بالسياق (الغبطة وهو) بالتذكير نظراً لقوله (أن يتمنى مثله) أي: مثل حال المغبوط أي: لا يغبط أحوالاً على إحدى هاتين، كما تقدم عن المصنف. ويجوز التأنيث نظراً لمرجع الخبر، وما جرى عليه المصنف من اعتبار الخبر أولى؛ لأنه محط الفائدة، وليس المراد بالحسد معناه الحقيقي أي: تمني زوال نعمة المحسود، فذلك حرام من الكبائر.
1376- (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مثل) بفتح أوليه (ما بعثني الله به من الهدى) هو كالرشد والرشاد ضد الضلال (والعلم) هو صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، أي: صفة ذلك العجيبة التي لغرابتها صارت كالقصة (كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة) أنث العامل مع الفصل بينه وبين معموله، وفي مثله يجوز هو والتذكير، وجاء القرآن بكل، قال تعالى: (قد جاءتكم موعظة) (2) وقال تعالى: (من بعد ما جاءهم البينات) (3) (قبلت الماء) فشربته (فانبتت الكلأ) بفتح أوليه والهمز، أي: المرعى (والعشب) بضم المهملة وسكون المعجمة وبالموحدة، قال في المصباح: هو الكلأ الرطب في أول الربيع (الكثير) وصفه به لتأكيد ما دل عليه من العموم، أو هو اسم جنس محلى بأل، وما كان كذلك فمن ألفاظ العموم (وكان منها أجادب) بالجيم والدال المهملة، أي: أرض لا تنبت كلأ، وقيل: هي التي تمسك الماء فلا يسرع إليه النضوب (أمسكت الماء فنفع الله بها)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: الاغتباط في العلم والحكمة (1/152 و153) .
وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقمرها، باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه ... ، (الحديث: 268) .
(2) سورة يونس، الآية: 57.
(3) سورة آل عمران، الآية: 105.(7/172)
النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ؛ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كلأً، فَذلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأسَاً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ". متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: بسببها (الناس فشربوا منها وسقوا مواشيهم وزرعوا) كذا عند البخاري، والذي في جميع نسخ مسلم: ورعوا، بالراء من الرعي، قال المصنف: وكلاهما صحيح (وأصاب طائفة منها أخرى) وصفها بذلك دون ما قبلها كأنها لسلب الانتفاع منها رأساً جنس آخر (إنما هي قيعان) الأصل قوعان، فأبدلت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها (لا تمسك ماء) ؛ لكونها رملاً (ولا تنبت كلأ) لذلك (فذلك مثل من فقه) بضم القاف، على المشهور وقيل: بكسرها، وقد روي بالوجهين، والمشهور الضم قاله المصنف (في دين الله) أي: صار عالماً بالشرعيات (ونفعه ما بعثني الله به) أي: من الشريعة الغراء (فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) قال المصنف معنى الحديث أن الأرض ثلاثة أنواع وكذا الناس، فالأول من الأرض ينتفع بالمطر فيحيى بعد أن كان ميتاً وينبت الكلأ فينتفع به الناس والدواب بالشرب والرعي والزرع وغيرها وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيي به قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع.
والثاني من الأرض لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة وهي إمساك الماء لغيرها فينتفع به الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب واعية لكن ليست لهم أفهام ولا رسوخ لهم في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام، ولا اجتهاد عندهم في الطاعة فهم يحفظونه حتى يأتي طالب متعطش لما عندهم فينتفع به فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.
والثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت ونحوها فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع به غيرها، وكذا الثالث من الناس لا قلب له حافظ ولا فهم واعي فإذا سمع العلم لا ينتفع به ولا يحفظه لينفع غيره اهـ من شرح مسلم للمصنف ملخصاً (متفق عليه) وقد سبق مشروحاً في باب الأمر بالمحافظة على السنة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: أفضل من علم وعلَّم، (1/160، 161) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: بيان مثل ما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدى والعلم، (الحديث: 15)(7/173)
1377- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ لِعَلِيٍّ - رضي الله عنه -:
"فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ". متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1378- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1377- (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه) لما أعطاه الراية يوم خيبر وأرسله لقتالهم وأمره أن يدعوهم أولاً إلى الإِسلام (فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً) أتى به لدفع توهم أن المراد برجل الجنس كما في تمرة خير من جرادة (خير لك من حمر) بضم فسكون (النعم) بفتحتين من إضافة الصفة لموصوفها أي من الأبل الحمر وهي أشرف أموال العرب فلذا خصت بالذكر، والتفضيل بحسب ما عند أهل الدنيا من شرفها في الجملة وإلا فلا مناسبة بين العرض الفاني والشيء الباقي، والحديث سيق في خطبة الكتاب (متفق عليه) .
1378- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بلغوا) أمر على الوجوب الكفائي (عني ولو آية) قال البيضاوي: لم يقل ولو حديثاً لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم من هذا بطريق الأولى، فإن الآيات مع انتشارها وكثرة حملتها وتكفل الله سبحانه بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف إذا كانت واجبة التبليغ، فالأحاديث التي ليس فيها شيء مما ذكر أولى بذلك اهـ (وحدثوا عن بني إسرائيل) اسم سرياني ليعقوب معناه عبد الله (ولا حرج) قال العلماء معناه ولا ضيق عليكم في التحديث عنهم، لأنه كان تقدم منه - صلى الله عليه وسلم - الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم ثم حصلت التوسعة فيه، وقيل: معنى لا حرج لا تضيقوا صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب فإن ذلك قد وقع لهم كثيراً، وقيل: لا حرج في أن لا تحدثوا عنهم لأن قوله أولاً حدثوا صيغة أمر تقتضي الوجوب فأشار إلى عدم الوجوب، وأن الأمر فيه للإِباحة أي لا حرج في ترك التحديث عنهم وقيل لا حرج على حاكي ألفاظهم المستبشعة نحو قولهم (فاذهب أنت وربك فقاتلا) (2) وقولهم (اجعل لنا إلها) (3) وقيل: المعنى حدثوا عنهم بأي صورة اتصلت بها القصة عنهم من انقطاع أو
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، (7/58) .
وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، (الحديث: 34) .
(2) سورة المائدة، الآية: 24.
(3) سورة الأعراف، الآية: 138.(7/174)
عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". رواه البخاري (1) .
1379- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقاً إِلَى الجَنَّةِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بلاع لتعذر الاتصال في التحديث عنهم، بخلاف الأحكام الإِسلامية، فإن الأصل في التحديث فيها الاتصال ولا يتعذر ذلك لقرب العهد، وعلى كل حال فلا يجوز التحديث بالكذب عليهم. قال الشافعي: من المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجيز التحديث بالكذب فالمعنى حدثوا عنهم بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحديث به عنهم، وهو نظير حديث "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" (ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) فيه دليل على أن الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - من الكبائر، بل حكي عن والد إمام الحرمين: أن فاعل ذلك مخلد في النار البتة. وحمل على من استحل ذلك أو على أنه زلة قلم، والجملة الجوابية طلبية لفظاً خبرية معنى، أي: فقد هيأ مقعده من النار. (رواه البخاري) ورواه أحمد والترمذي.
1379- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ومن سلك طريقاً) أتى بالعاطف أوله؛ تنبيهاً على أنه بعض حديث، وتقدم بجملته في باب قضاء حوائج المسلمين، وسكت عما ترك؛ لعدم تعلقه بالترجمة (يلتمس) أي: يطلب فاستعير له اللمس كذا في النهاية (فيه علما) أي: مقرباً إلى الله تعالى ويدل على التقييد به قوله: (سهل الله له طريقاً إلى الجنة) لورود الوعيد لمن تعلم بعض العلوم المحرمة، والباقي منها كذلك بجامع التحريم. فشمل الحديث أنواع علوم الدين واندرج تحته قليلها وكثيرها. وفي رواية "سلك الله به" قال الطيبي: الضمير في به عائد إلى من والباء للتعدية، أي: يوفقه أن يسلك طريق الجنة، ويجوز أن يرجع الضمير إلى العلم، والباء سببية، ويكون سلك بمعنى سهل والعائد إلى من محذوف، والمعنى سهل الله له بسبب العلم طريقاً من طرق الجنة، فعلى الأول سلك من السلوك معدى بالباء، وعلى الثاني من السلك، والمفعول محذوف كقوله تعالى: (يسلكه عذاباً صعداً) (2) قيل: عذاباً مفعول ثان، وعلى التقديرين نسبة سلك
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (1/14، 141) و (2/275) و (3/181 و366، 4166) .
(2) سورة الجن، الآية: 17.(7/175)
رواه مسلم (1) .
1380- وعنه أَيضاً - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً". رواه مسلم (2) .
1381- وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى الله تعالى على طريق المشاكلة اهـ (رواه مسلم) .
1380- (وعنه أيضاً) كلمة تقال بين شيئين متفقين معنى ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر. وهي بالنصب حال أي: أخبر عنه راجعاً إلى الإِخبار عنه أو مفعول مطلق، وهي كلمة عربية كما أوضحت ذلك في شرح الأذكار (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من دعا إلى هدى) ولو بإبانته وإظهاره قليلاً كان أو كثيراً (كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) مثل بالرفع اسم كان، وخبرها أحد الظرفين المذكورين قبل، والآخر حال وقوله: (لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) جملة مستأنفة؛ لبيان عظم فضل الله وكمال كرمه، وإنما لم ينقص ذلك ثواب العامل؛ لاختلاف وجهتي الإِثابة فهي للداعي من حيث الدعوة، وللعامل من حيث العمل. كما تقدم بيانه في خطبة الكتاب عند ذكر المصنف الحديث. وفي باب الدلالة على خير (رواه مسلم) وتتمته "ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". وفي الجامع الكبير بعد ذكر الحديث بجملته، رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر اهـ ثم لا مخالفة بين الجملة الأخيرة التي هي في معنى قوله تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) (3) . وقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (4) ؛ لأن الدال على الضلالة إنما أثم بعمل العامل لها؛ لكونه الدال عليها. فإثمه لدلالته، وهي من عمله فما أخذ بعمل غيره ووزره، بل بعمله ووزره والله أعلم.
1381- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات ابن آدم انقطع عمله) أي: من إثابته على
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (الحديث: 38) ، مطولاً.
(2) أخرجه مسلم في كتاب: العلم، باب: من سنَّ سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، (الحديث: 16) .
(3) سورة النحل، الآية: 25.
(4) سورة الأنعام، الآية: 164.(7/176)
انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". رواه مسلم (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العمل المتجددة، بتجدد العمل المترتبة عليه، ترتب المسبب على السبب بالحكمة الإلهية وذلك؛ لأنه بالموت يقف العمل فيقف الثواب المرتب عليه (إلا من ثلاثة) فإن ثوابها يدوم للعامل بعد موته، وذلك لدوام أثره فدام ثوابه، وأثبت التاء إما لأن المعدود مذكر، أي: ثلاثة أعمال، أو لحذفه، أي: ثلاث خصال، والأول أقرب (صدقة جارية) هي الوقف (أو علم ينتفع به) هو التعليم والتصنيف، والثاني أقوى؛ لطول بقائه على ممر الزمان قاله القاضي تاج الدين السبكي (أو ولد صالح) أي: مسلم (يدعو له) أي: بالمغفرة كما يأتي في حديث أنس أو بأعم منها (رواه مسلم) ورواه البخاري في الأدب المفرد، والنسائي. قال العلقمي: قال شيخ الحديث: يعني شيخه السيوطي: روى الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً "أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: مرابط في سبيل الله، ومن علّم علماً، ورجل تصدق بصدقة فأجرها له ما جرت، ورجل ترك ولداً صالحاً يدعو له" وللبزار من حديث أنس مرفوعاً "سِبع يجري للعبد أجرها بعد موته وهو في قبره: من علّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته".
ولابن ماجه وابن خزيمة من حديث أبي هريرة. "أن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً نشره أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته ". ولابن عساكر في تاريخه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً "من علم آية من كتاب الله أو باباً من علم أنمى الله أجره إلى يوم القيامة"، ثم قال: وقد تحصل من ذلك أحد عشر أمراً وقد نظمتها في أبيات. اهـ وقد تقدم في باب الصدقة عن الميت ذكرها، ونظمتها أيضاً فقلت:
خصال عليها المرء من بعد موته ... يثاب فلازمها إذا كنت ذا ذكر
رباط بثغر ثم توريث مصحف ... ونشر لعلم غرس نخل بلا نكر
وحفر لبئر ثم إجراء نهر ... وبيت غريب في التصدق إذ يجري
وتعليم قرآن وتشييد منزل ... لذكر ونجل مسلم طيب الذكر
وفي خبر من ذا إذا حج فرضه ... أو الدين عنه قد قضى كامل الفخر
روى ابن عماد ذا بحسن ذريعة ... ولم يذكر الراوي لذلك ما يدري
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الوصية، باب: ما يلحق الإِنسان من الثواب بعد وفاته، (الحديث: 14) .(7/177)
1382- وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلاَّ ذِكْرَ الله تَعَالَى، وَمَا وَالاهُ، وَعَالِماً، أَوْ مُتَعَلِّماً". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" قَوْله: "وَمَا وَالاَهُ": أيْ طَاعة الله تعالى (1) .
1383- وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَرَجَ في طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ في سَبيلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
1384- وعن أَبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لَنْ يَشْبَعَ مُؤْمِنٌ مِنْ خَيْرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1382- (وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الدنيا) تقدم أن الصحيح أنها ما عدا الآخرة، من جميع الأعراض والجواهر العاجلة (ملعونة) أي بعيدة عن الله (ملعون) أي: بعيد (ما فيها) ؛ لأنها رأس كل خطيئة (إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً) وليس من الدنيا الطاعات، ولا الأصفياء من الأنبياء والأولياء. وتقدم الجمع بين الوارد في ذم الدنيا، والوارد في مدحها، بحمل الأول على ما يبعد عن الله تعالى، والثاني على ما يقرب إليه كما يومىء إليه الإِستثناء المذكور في الحديث، وهو متصل، نظراً لكون المستثنى منها باعتبار الظاهر، وإن كان في الحقيقة فيها لا منها. "تقدم الحديث مشروحاً في باب فضل الزهد في الدنيا (رواه الترمذي وقال: حديث حسن. قوله) - صلى الله عليه وسلم - (وما والاه أي طاعة الله) أي: فكأنه قال إلا ذكر الله وطاعته، والذكر حينئذ القول الذي يثنى به عليه سبحانه وتعالى وينزه به.
1383- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من خرج في طلب العلم) أي لطلب العلم الشرعي ومثله آلاته (فهو في سبيل الله) أي: طاعته (حتى يرجع) إلى منزله، قال المظهري: وجه مشابهة طلب العلم بالجهاد في سبيل الله أنه إحياء الدين، وإذلال الشيطان، وإتعاب النفس، وكسر الهوى واللذة (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه الضياء.
1384- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لن يشبع مؤمن من خير) أي: من كل مقرب إلى الله تعالى من سائر الطاعات وأشرفها، كما جاء في رواية
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد [باب: 14] ، (الحديث: 2322) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: فضل طلب العلم، (الحديث: 2647) .(7/178)
حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الجَنَّةَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". (1) .
1385- وعن أَبي أُمَامَة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أدْنَاكُمْ" ثُمَّ قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأهْلَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة: يسمعه (حتى يكون منتهاه الجنة) حتى فيه محتملة؛ لكونها غاية للشبع، أي: لا ينتهي عن الخير حتى يموت فيدخل الجنة بما اكتسب في حياته من العمل الصالح، ولكونها تعليلية، أي: عدم قناعته بيسير من الطاعة ليكون مآله الجنة، فإنها تتفاوت منازلها بتفاوته (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه ابن حبان في صحيحه.
1385- (وعن أبي إمامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فضل العالم) أي: المقتصر على فرائض العبادات، ويصرف باقي أوقاته في العلم (على العابد) أي: العارف بما يجب عليه تعلمه من الديانات فقط ويصرف ما زاد عليه في التعبد (كفضلي على أدناكم) فيه عظم شرف العلماء. قال: الزملكاني، في كتابه المسمى تحقيق الألى (2) من أهل الرفيق الأعلى بعد كلام طويل ساقه في وجوه التفضيل وأسبابه ما لفظه: والذي استقر من ذلك أن العالم المستحق للتفضيل بالعلم، هو الذي تعلم العلم النافع في الدنيا والآخرة، وقام بحق علمه من عمل أو نفع أو هداية أو غير ذلك، من حقوق العلم النافع فذلك هو العالم المفضل بعلمه اهـ (ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكته وأهل السموات) عطف عام على خاص، إن أريد بهم جميع الملائكة، وإن أريد بالملائكة المقربون كما يوميء إليه إضافتهم للاسم الكريم، وبأهل السموات باقي الملائكة كان من عطف المغاير (والأرض حتى النملة) بالنصب عطفاً على أهل، وهي غاية لما قبلها في القلة والصغر مستوعبة لثواب البر. وجوّز ابن حجر في فتح الإِله كونها جارة. (في جحرها) بضم الجيم (وحتى الحوت) أتى بالواو (3) كأنه والله أعلم لئلا يتوهم أن هذه بدل من تلك وهي غاية مستوعبة لدواب البحر (ليصلون) هو من استعمال اللفظ في معانيه دفعه واحدة، وهل هو مشترك بينهما أو حقيقة في أحدها مجاز في غيره؟ خلاف يأتي تحقيقه أول كتاب الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، (الحديث: 2686) .
(2) الألى من غير واو بمعنى الذين. ع
(3) لعل المراد أنه أتى بالواو مع حتى ولم يأت بأو بدلهما لئلا يتوهم أنها للشك فليتأمل. ع(7/179)
عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1386- وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَريقاً إِلَى الجَنَّةِ، وَإنَّ المَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضاً بِمَا يَصْنَعُ، وَإنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى، وهي من الله رحمة مقرونة بتعظيم، ومن الملائكة استغفار، ومن المؤمنين تضرع ودعاء. والظاهر أنها من الحيوانات تضرع ودعاء أيضاً (على معلمي الناس الخير) عدل إليه عن العالم الذي اقتضاه السياق؛ لبيان سبب شرف العالم وامتيازه على العابد، وهو عموم نفعه وتعديه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) قال في المشكاة: ورواه الدارمي عن مكحول مرسلاً.
1386- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سلك طريقاً يبتغي فيه) وفي رواية يطلب فيه (علماً) أي: شرعياً أو آلته، ولو وسيلة كما تقدم (سهل الله له طريقاً إلى الجنة) وذلك الأعمال الصالحة لتوصله بها إلى الجنة. ومنها أن يسهل عليه ما يزداد به علمه؛ لأنه من جملة الأسباب الموصلة إلى الجنة، بل إلى أعلاها لتوقف صحة الأعمال وقبولها عليه (وإن الملائكة) يحتمل أن يراد بهم ملائكة الرحمة ونحوهم من الساعين في مصالح بني آدم، ويحتمل أن يراد الكل، وهذا أنسب بالمعنى المجازي الآتي. والأول أنسب بالمعنى الحقيقي (لتضع أجنحتها) حقيقة وإن لم نشاهده للقاعدة: أن كل ما ورد وأمكن حمله على ظاهره حمل عليه ما لم يصرفه عنه صارف. وحينئذ فهي تكف أجنحتها عن الطيران وتنزل لسماع العلم، إذ هو أشرف الذكر. وقيل: هو مجاز إما عن التواضع نظير (واخفض جناحك) (2) أو عن المعونة وتيسير السعي في طلب العلم (لطالب العلم رضاً) مفعول له مستوفى للشروط أي: لأجل الرضا الحاصل منها، أو لأجل إرضائها (بما يصنع) من حيازة الوراثة العظمى، وسلوك السنن الأسمى (وإن العالم) ترق إلى ذكر ما هو أبلغ في فضله بإثبات وصف العلم له بعد إثبات فضل طلبه، فيما قبله. وبإثبات استغفار من يأتي إلا رفع من مجرد وضع الأجنحة، كذا قيل: واستوجه في فتح الإِله أن وضع الأجنحة للطالب قبل أن يسمى عالماً، والاستغفار للعالم فلا ترقى (ليستغفر له من في
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، (الحديث: 2685) .
(2) سورة الشعراء، الآية: 215.(7/180)
السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ حَتَّى الحيتَانُ في المَاءِ، وَفضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، وَإنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ، وَإنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يَوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً وَإنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وَافِرٍ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السموات ومن في الأرض حتى الحيتان) بالرفع والجر نظير ما مر. ويؤيد الأول أن في رواية: والحيتان بالواو العاطفة بدلها (في) جوف (الماء) وأتى بذلك؛ مبالغة في التعميم خصوصاً إن أريد بالحيتان الحيوان البحري فهو أكثر من البري، لما جاء أن عوالم البر أربعمائة عالم وعوالم البحر ستمائة عالم، وسبب عموم استغفار هذه الموجودات للعلماء؛ طالبين تخليهم عما لا يليق بمقامهم من الأدناس شمول بركة علمهم وعملهم لجميع أولئك.
إذ لا إله يقوم نظام العالم إلا بالعلم. ولا مانع من جعل الاستغفار من غير العقلاء من نحو الجماد على حقيقته؛ لأنه ممكن فهو من قبيل قوله تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (1) (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) هو بالنصب عطف على اسم أن السابق، ويؤيده أن في رواية المشكاة: وإن فضل الخ، وزاد في هذه الرواية بعد قوله "كفضل القمر" قوله "ليلة البدر" ووجه ذلك أن نور العبادة وكمالها ملازم لذات العابد لا يتخطاه، فهو كنور الكواكب ونور العلم وكماله، يتعدى إلى الغير فيستضيء به العالم، لكنه ليس من ذاته، وإنما استفاده من شمس الوجود الذي لا أكمل منه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كنور القمر المكتسب من نور الشمس التي لا أضوء منها، وبما ذكر علم أن الكلام في عالم غير مخل بشيء من الواجبات وإلا كان إثماً مذموماً (وأن العلماء ورثة الأنبياء) علماً وعملاً وكمالاً وتكميلاً، ولا يتم ذلك إلا لمن صفت مصادر علمه وعمله ومواردهما عن الهوى والحظوظ، حتى أمدته كلمات الله التي لا تفنى إلى أن صار من الراسخين في العلم، القائمين بصور الأعمال على ما ينبغي، فسلم من الإخلاد إلى أرض الشهوات الخافضة إلى أرذل الدركات (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً) أي: مالاً وخصا بالذكر؛ لأنهما أغلب أنواعه، وفي نفيهما عنهم إيماء إلى رذالة الدنيا فأعرضوا عنها ولم يأخذوا منها إلا قدر الضرورة، فلم يورثوا شيئاً منها، لئلا يتوهم أنهم كانوا يطلبون شيئاً منها يورث عنهم (إنما ورثوا العلم) بأحوال الظاهر والباطن، على تباين أجناسه واختلاف أنواعه بتعليمهم لأممهم (فمن أخذه) أي: فبسبب ما ذكر من تلك الفضائل العلية من ورث العلم (أخذ بحظ) أي: نصيب من الكمال (وافر) لا نهاية له، ومن ثم قال الثوري: لا أعلم
__________
(1) سورة الإِسراء، الآية: 44.(7/181)
رواه أَبُو داود والترمذيُّ (1) .
1387- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئاً، فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ". رواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اليوم شيئاً أفضل من طلب العلم، قيل له: ليس لهم نية؟ قال: طلبهم له نية، وقال الحسن: من طلب العلم يريد ما عند الله، كان خيراً له مما طلعت عليه الشمس، وقال مالك: لمن أراد المبادرة إلى الصلاة، وترك ما هو فيه من العلم ليس ما تذهب إليه فوق ما أنت فيه إذا صحت النية. وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة (رواه أحمد وأبو داود والترمذي) وقال: بعد أن أخرجه في العلم من جامعه، من طريق محمود بن حداس الطالقاني بإسناده بنحوه ما لفظه هكذا "حدثنا محمود" وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم عن الوليد بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء. وهذا أصح من حديث محمود، ولا نعرف هذا الحديث من حديث عاصم، وليس إسناده عندي بمتصل. اهـ ورواه ابن ماجه والدرامي كما في المشكاة، ورواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب كما في الجامع الكبير.
1387- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نضر الله امرأً) بالضاد المعجمة المشددة ويروى بالتخفيف. يقال: نضره وأنضره ونضره، أي: نعمه من النضارة، وهي في الأصل حسن الوجه والبريق. والمراد حسن خلقه وقدره. قاله في النهاية.
قال بعضهم: إني لأرى في وجوه أهل الحديث نضرة أشار به إلى إجابة الدعوة لهم (سمع منا) بغير توسطه، والضمير يحتمل أنه للجماعة فيشمل من روى عن الصحابة (2) شيئا فأداه كما سمعه (شيئاً) قليلاً كان أو كثيراً (فبلغه كما سمعه) أي: من حيث المعنى فلا يضر في ذلك الرواية بالمعنى بشرطه، ويحتمل أن تختص الدعوة بمن أدى باللفظ لما فيه من مزيد الاعتناء والتوجه، حتى حفظ لفظه واستحضره (فرب) هي للتكثير واستعمالها فيه حقيقة لا مجاز خلافاً لزاعمه (مبلغ) بصيغة المفعول، من التبليغ كذا في الأصول (أوعى) أكثر وعياً، أي: تنبهاً لخبايا عرائس المعاني ونفائس المقاصد (من سامع) فلذا دعا - صلى الله عليه وسلم - للضابط الحافظ
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: العلم باب: الحث على طلب العلم (الحديث: 3641 و3642) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (الحديث: 2682) .
(2) قوله: (الصحابة) أي أو غيرهم من العلماء. ع(7/182)
الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1388- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سُئِلَ عن عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ألفاظ السنة الراوي لها، كذلك بما ذكر، لأن حفظه للسنة مع أدائها كما سمع سعي في نضارتها، فكأنه جعل المعنى بذلك غضاً طرياً، بخلاف ما لو أبدلها ولو بمرادف فإنه جعله مبتذلاً، ألا ترى أنه لو أبدل نضر، بنحو حسن لفاتت الدقيقة المستفادة من نضر، وقس عليه الباقي. ثم قيل: التقدير من سامع له منه - صلى الله عليه وسلم - فيؤخذ منه أنه قد يكون في التابعين من يمتاز على بعض الصحابة، بكونه أفقه منه وأفهم منه فيما بلغه له عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولا بدع في ذلك فإنه قد يكون في المفضول مزايا لا تكون في الفاضل (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ورواه الدرامي من حديث أبي الدرداء، ورواه الشافعي والبيهقي في المدخل عن ابن مسعود أيضاً بلفظ "نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" الحديث ورواه أحمد والترمذي، وأبو داود وابن ماجه والدرامي والضياء عن زيد بن ثابت. قال في فتح الإِله: أعلم أن في تغيير ألفاظ هذين الحديثين مع اتحادهما في أن كلاً منهما مسوق للحث على تبليغ ما سمعه من غير تغيير شيء منه، تأييداً لجواز الرواية بالمعنى للعارف بمؤدى الألفاظ والمراد بها، ودلالة على أن القصد إنما هو أصل المعنى دون المحسنات التي ينتجها باهر بلاغته - صلى الله عليه وسلم -، التي لا يصل أحد إلى معشار عشرها؛ لأن رعاية ذلك متعذرة فيلزم عليها منع الرواية بالمعنى مطلقاً، وفي ذلك حرج وضياع لكثير من السنة، فاقتضت المصلحة العامة التوسيع للناس في طرق الرواية نظر إلى أن المقصود أصل المعنى لا غير اهـ.
1388- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سئل عن علم) أي: شرعي محتاج إليه حالاً (وكتمه) أي: لم يبينه للسائل (ألجم) بالبناء للمفعول (يوم القيامة بلجام من نار) فيه عظم وعيد كتم العلم الشرعي بشرطه (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم في المستدرك كما في الجامع
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في الحث على التبليغ السماع، (الحديث: 2658) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: كراهية منع العلم، (الحديث: 3658) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في كتمان العلم، (الحديث: 2649) .(7/183)
1389- وعنه، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ - عز وجل - لا يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" يَعْنِي: رِيحَهَا. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصغير.
1389- (وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من تعلم علماً مما يبتغى) بالبناء للمفعول أي: يطلب (به وجه الله عز وجل) يحتمل أن هذا صفة كاشفة؛ لأن الكلام في العلم المحمود، وذلك الابتغاء لازم له وأنه احتراز عن العلوم التي ليست كذلك؛ لعدم وجوبها كعلم العروض أو لتحريمها كعلم السحر (لا يتعلمه) جملة حالية من الفاعل أو المفعول (2) ؛ لتخصصه بالوصف (إلا) استثناء من أعم العلل، أي: لا يطلبه لغرض من الأغراض إلا (ليصيب به غرضاً) بالمعجمتين أي: شيئاً (من الدنيا) أي: من تمتعاتها وإن قل، ومعلوم أن قصد هذا ولو مع قصد الآخرة موجب للإِثم، فيحتمل أن التقييد به ليترتب العقاب الآتي عليه، أو لأن الغالب أن من قصد الدنيا لا يقصد معها الآخرة (لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: عرف الجنة، بفتح المهملة وسكون الراء وبالفاء (ريحها) وهذا كناية عن مباعدته عنها، فقد جاء عند الطبراني: "وإن عرفها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام" وعن عدم دخولها إما مطلقاً إن استحل ذلك، لأن حرمة طلب العلم لذلك مجمع عليها، معلومة من الدين بالضرورة، أو مقيداً بأنه لا يدخلها مع الناجين، أو لا يجد عرفها في الموقف الذي هو المراد بيوم القيامة حقيقة إن لم يستحل ذلك، وعلى الثالث فيكون في الحديث إيماء إلى أن من صح قصده في طلب العلم الشرعي يمده الله برائحة الجنة يوم القيامة، تقوية لقلبه، وإزالة لكربه، بخلاف من لم يكن كذلك، فإنه لمرض قلبه يصير يوم القيامة كذي مرض بدماغه يمنعه من إدراك الروائح. وفي الحديث إيماء إلى أن من أخلص في طلبه لله ثم جاءته الدنيا من غير قصدها به لا يضره ذلك (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، ورواه الترمذي من حديث ابن عمر بلفظ "من تعلم علماً لغير الله فليتبوأ مقعده من النار" وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة "من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: في طلب العلم لغير الله تعالى، (الحديث: 3664) .
(2) لو كانت حالاً من المفعول لكانت حالاً جارية على غير ما هي له. ع(7/184)
13- كتَاب حَمد الله تَعَالَى وَشكره
242- باب وجوب الشكر
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) .
وقال تَعَالَى (2) : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) .
وقال تَعَالَى (3) : (وَقُلِ الحَمْدُ للهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب حمد الله تعالى
أي: ما جاء في فضله والحض عليه. وتقدم صدر الكتاب أنه لغة: الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التعظيم، وعرفاً فعل ينبىء عن تعظيم المنعم، لكونه منعماً على الحامد أو غيره، وأن النسبة بينهما العموم والخصوص الوجهي (وشكره) عطفه على الحمد قرينة على أن المراد بالحمد الحمد اللغوي، وإلاّ فمعنى الحمد العرفي هو معنى الشكر لغة، أو أن المراد بالشكر معناه العرفي، أي: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خلق لأجله، كصرف السمع لسماع الآيات: والنظر للتفكر في المصنوعات، ويصح أن يراد من كل ما يعم المعنى اللغوي والعرفي وأتى بهما؛ لأن كلاً منهما مطلوب وإن تقاربا (قال الله تعالى: فاذكروني) أي: بالطاعة أو في الرخاء (أذكركم) بالمغفرة أو في الشدة. وفي الحديث "من أطاع الله فقد ذكره وإن لم يذكره بلسانه، ومن عصى الله فقد نسيه وإن ذكره بلسانه" أورده الواحدي في الوسيط (واشكرو لي) نعمتي (وقال تعالى لئن شكرتم) نعمتي وأطعتموني (لأزيدنكم) في النعمة. والخطاب وإن كان لبني إسرائيل فهذه الأمة أولى بالزيادة عند الشكر منهم؛ لفضلها عليهم (وقال تعالى) مخاطباً لنبيه (وقل الحمد لله) حذف
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 152.
(2) سورة إبراهيم، الآية: 7.
(3) سورة الإِسراء، الآية: 111.(7/186)
وقال تَعَالَى (1) : (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) .
1391- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ. فَقَالَ جِبريل: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلفِطْرَةِ لَوْ أخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ" رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باقي القول وهو (وسلام على عباده الذين اصطفى) (3) ؛ لعدم تعلقه بالترجمة. وأورد ما ذكر؛ لأن في الآية دلالة على شرف الحمد، إذ ورد الأمر له بأن يقوله: (وقال تعالى وآخر دعواهم) أي: في الجنة (أن) أي: أنه (الحمد لله رب العالمين) أي: مالك العالمين، عن كثير من السلف أن أهل الجنة كلما اشتهوا شيئاً قالوا: سبحانك اللهم، فيأتيهم الملك بما يشتهون ويسلم عليهم فيردون عليه، وذلك قوله تعالى: (تحيتهم فيها سلام) (4) فإذا أكلوا حمدوا الله، وذلك قوله تعالى: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) (5) .
1391- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى) أي: أتاه جبريل (ليلة أسري به) وهي ليلة المعراج، وكان قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً على أحد الأقوال، وسكت عن كونه. وقيل: المعراج ببيت المقدس أو بعده عند سدرة المنتهى، وقد جاء في كل رواية وجمع بتعدد ذلك لأنها كانت ليلة إكرامه - صلى الله عليه وسلم - (بقدحين) بفتح أوليه (من خمر ولبن) أي مملوئين أحدهما من خمر والآخر من لبن ولظهور المراد عبر بما ذكر (فنظر إليهما - صلى الله عليه وسلم -) أي وكان خير بينهما فألهم - صلى الله عليه وسلم - اختيار اللبن (فأخذ اللبن فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة) قال المصنف: فسروا الفطرة هنا بالإسلام والاستقامة ومعناه والله أعلم: اخترت علامة الإِسلام والاستقامة، وجعل اللبن علامة ذلك لكونه سهلاً طيباً طاهراً سائغا للشاربين سليم العاقبة، والخمر أم الخبائث جالبة لأنواع من الشر حالاً ومآلاً اهـ. (لو أخذت الخمر غوت أمتك رواه مسلم) ففيه إيماءً إلى التفاؤل بالفأل الحسن.
__________
(1) سورة يونس، الآية: 10.
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الإِسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات وفرض الصلوات، (الحديث: 272) .
(3) سورة النمل، الآية: 59.
(4) سورة إبراهيم، الآية: 23.
(5) سورة يونس، الآية: 10.(7/187)
1392- وعنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كُلُّ أمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدأُ فِيهِ بِالحَمْدُ للهِ فَهُوَ أقْطَعُ". حديث حسن، رواه أَبُو داود وغيره (1) .
1393- وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِمَلائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدي؟ فَيقولون: نَعَمْ، فيقول: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤادِهِ؟ فيقولون: نَعَمْ، فيقول: ماذا قَالَ عَبْدِي؟ فَيقولون: حَمدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فيقُولُ اللهُ تَعَالَى: ابْنُوا لِعَبْدي بَيتاً في الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ". رواه الترمذي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1392- (وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل أمر ذي بال) أي شأن يهتم به شرعاً (لا يبدأ فيه بالحمد لله) برفع الحمد على الحكاية فيكون المراد خصوص هذه الجملة أو بالجر فيكون المراد البدء بما فيه معنى الحمد بأي صيغة كانت (فهو أقطع) أي: ناقص البركة (حديث حسن) حسنه ابن الصلاح وغيره بل صححه الشرف الدمياطي (رواه أبو داود وغيره) كابن ماجه والبيهقي في السنن، وقد أطلت الكلام في مخرجي هذا الحديث واختلاف ألفاظ رواته في أول كتاب الحمد من شرح الأذكار.
1393- (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات ولد العبد) هو شامل للبالغ وغيره وللذكر وغيره (قال الله تعالى لملائكته: قبضتم) بفتح الموحدة والاستفهام مقدر فيه أي: أقبضتم وهو استفهام تقريري أو على ظاهره لينبههم على عظم فضل ثواب الصابر وإلا فهو غني عن الأسئلة لإِحاطة علمه بكل شيء (ولد عبدي فيقولون: نعم) هي حرف للإِعلام لكونها في جواب الاستفهام (فيقول: قبضتم ثمرة فؤاد) بفتح المثلثة والميم هو كناية عن الولد لكونه بمنزلة خلاصة الخلاصة إذ القلب خلاصة البدن، وخلاصته اللطيفة المودعة فيه من كمال الإِدراكات والعلوم التي خلق لها وشرف بشرفها، فلشدة شغف هذه اللطيفة بالولد صار كأنه ثمرتها المقصودة منها، وهو ترق بين به وجه عظم هذا المصاب وعظم الصبر عليه مع ذلك، بل ترقي عن مقام الصبر لمقام الحمد (فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع) أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون أي: فحقيق أن من فقد هذه الثمرة الخطيرة ومع ذلك لم يعدها مصيبة من كل وجه بل مصيبة من وجه فاسترجع، ونعمة من وجه فحمد، أن يقابل بالحمد في تسمية محله به (فيقول الله: ابنوا
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: الهدى في الكلام، (الحديث:4840) .(7/188)
وقال: "حديث حسن" (1)
1394- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله لَيرْضَى عَنِ العَبْدِ يَأكُلُ الأَكْلَةَ، فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَة، فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا" رواه مسلم (2) .
***
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد رواه) أحمد و (الترمذي وقال: حديث حسن) ففيه كمال فضل الصبر على فقد الصفي، وفي حديث "ما لعبدي المؤمن إذا قبضت صفيه من الدنيا فاحتسب إلا الجنة".
1394- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة) قال المصنف: كما تقدم في باب بيان طرق الخير بفتح الهمزة وهي الغدوة أو العشوة. اهـ قلت: وبضم الهمزة، معناها اللقمة كما في المصباح (فيحمده) بالرفع (عليها) أي: لأجلها فعلى هنا مثلها في قوله تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم) (3) في كونها للتعليل (ويشرب الشربة فيحمده عليه رواه مسلم) وتقدم الحديث مشروحاً في الباب المذكور.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الجنائز، باب: فضل المصيبة إذا احتسب، (الحديث: 1021) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة..، باب. استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب، (الحديث: 89) .
(3) سورة البقرة، الآية: 185.(7/189)
13- كتاب: الصَّلاة عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -
243- باب: في فضل الصلاة عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أي: ما جاء فيها. وتقدم المراد بالصلاة أول الكتاب وهي مخصوصة بالمعصوم من نبي وملك، وكذا الخضر وإلياس ولقمان ومريم وإن قلنا بعدم نبوتهم فيكره استعمالها في حق غيرهم إلا تبعاً له؛ لأنه في العرف صار شعاراً لذكر الرسل، ولذا كره أن يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزاً جليلاً. قال البيضاوي: وأما حديث "إن الله وملائكته يصلون على أصحاب العمائم البيض يوم الجمعة"، وحديث "كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي على آل أبي أوفى عند مجيئه بالزكاة"، فأجيب عنه بأن الكراهة بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - وإلى الملائكة فهي لهم، فلهم إطلاق ذلك على من شاءوا. وما ذكرنا من أن سائر الأنبياء يصلى عليهم كنبينا - صلى الله عليه وسلم - هو الصحيح، خلافاً لمن شذ فيه فقال: باختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بها. أخرج ابن أبي عمر والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة والخطيب عن أنس مرفوعاً "صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني " وأخرج الشاشي وابن عساكر عن وائل بن حجر مرفوعاً "صلوا على أنبياء الله إذا ذكرتموني فإنهم قد بعثوا كما بعثت" (قال الله تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي) أي: يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه. وأشار ابن هشام الأنصاري إلى أن الصواب كون الصلاة فيها بمعنى العطف، والعطف بالنسبة إلى الله تعالى الرحمة، وإلى الملائكة الاستغفار، والعباد دعاء بعضهم لبعض، وقرىء شاذاً وملائكته بالرفع، واستدل بها الكوفيون على جواز عطف المرفوع على اسم إن قبل استكمال خبرها. والبصريون المانعون
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 56.(7/190)
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .
1395- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما: أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منه قدروا لاسم إن وهو لفظ الجلالة خبراً أي: إن الله يصلي وملائكته يصلون فيكون كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
(يأيها الذين آمنوا صلوا عليه) اعتنوا أنتم أيضاً فإنكم أولى بذلك، وقولوا: اللهم صلِّ على محمد (وسلموا تسليماً) أي: قولوا الصلاة والسلام على سيدنا محمد أو انقادوا لأوامره. والآية قيل: نزلت في شهر شعبان ومن ثم سمي شهر الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -. قيل: في ثاني سني الهجرة. وقيل: ليلة الإِسراء ويؤيد الأول أن السورة مدنية أمر الله تعالى كل مؤمن بالصلاة والسلام عليه ووطأ قبله بالإِخبار عنه تعالى وعن ملائكته الكرام، بأنهم دائمون على ذلك وتجديده وقتاً فوقتاً كما اقتضته الجملة الاسمية، باعتبار صدرها المضارعية، باعتبار عجزها فهي ذات وجهين بعثاً للمؤمنين على الاعتناء وامتثال ذلك الأمر وحثاً لهم على الدوام والاستمرار عليه؛ ليفوزوا بقربه ويتحفوا بلحظه وإمداده. وأكد السلام بالمصدر؛ ليعادل الصلاة فإنها مؤكدة بالتصدير بأن وبإعلام الله تعالى أنه يصلي عليه وملائكته بالتقديم، وأضيف السلام لنا فقط؛ لأنه بمعنى التحية والانقياد وهو إنما يتأتى فينادون الله وملائكته، فلو استعمل فيه تعالى وفيهم لأوهم ذلك، وهو محذور بالنسبة إليه تعالى، وغير مقصود بالنسبة للملائكة في مثل هذا المحل فلا ينافيه قوله تعالى (سلام على إبراهيم) (1) ولا قوله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) (2) (3) ثم فائدة الصلاة تعود عليه - صلى الله عليه وسلم - بالزيادة على ما هو فيه، لأن الكامل يقبل الكمال وعلى المصلي بالثواب والإِمداد في الحال والمآب. انتهى ملخصاً من فتح الإِله.
1395- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من صلى عليّ) أي: بأي صيغة من صيغها (صلاة) أي: واحدة كما يومىء إليه إفرادها (صلى الله عليه بها) أي: بسببها (عشراً) وهذا زائد على ما أفاده قوله تعالى: (من جاء
__________
(1) سورة الصافات، الآية: 109.
(2) سورة الرعد، الآية: 23.
(3) أي لأن هاتين الآيتين فيهما قرينة على أن المراد بالسلام التحية فقط بخلاف الآية التي نحن بصددها إذ يجوز فيها إرادة التحية والانقياد معاً. ع.(7/191)
رواه مسلم (1) .
1396- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَوْلَى النَّاسِ بِي يَومَ القِيَامَةِ أكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
1397- وعن أوس بن أوس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالحسنة فله عشر أمثالها) (3) لأن فيه أن الله تعالى يصلي عليه أي: يذكره وذكر الله أكبر، وقد بسطت الكلام في هذا الحديث في باب إجابة المؤذن من شرح الأذكار (رواه مسلم) في الجامع الصغير بعد ذكر الحديث باللفظ المذكور ما لفظه رواه، أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة، وزاد في الجامع الكبير: ورواه الترمذي وابن حبان، ورواه بهذا اللفظ الطبراني عن أنس وعن أبي طلحة، ورواه الطبراني أيضاً عن ابن عمر، ورواه أيضاً عن أبي موسى بلفظ "صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات، ورفع له عشر درجات" وقال: رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والحاكم في المستدرك من حديث أنس، وزاد في الكبير فذكر فيمن خرجه بهذا الأخير أبو يعلى الموصلي وابن حبان والبيهقي في الشعب.
1396- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أولى الناس بي) أي: قرباً أو شفاعه أي: أخص أمتي بي وأقربهم مني وأحقهم بشفاعتي (يوم القيامة) فأولى من الولي أي: القرب ضمن معنى الاختصاص فعدي بالباء (أكثرهم عليّ صلاة. رواه الترمذي) ورواه البخاري في التاريخ وابن ماجه وابن حبان كما في الجامع الصغير (وقال) أي: الترمذي (حديث حسن) غريب، لأن في سنده موسى بن يعقوب الربيعي قال الدارقطني: إنه تفرد به، وقال النسائي: إنه ليس بالقوي، لكن وثقه يحيى بن معين وأبو داود وابن حبان وابن عدي وجماعة. وفي رواية عن أنس "إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن، أكثركم علي صلاة في الدنيا" الحديث رواة البيهقي بسند ضعيف وكذا رواه آخرون.
1397- (وعن أوس ابن أوس) بفتح الهمزة وسكون الواو وبالمهملة في كلها. وقد تقدمت
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: أستحجاب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ... ، (الحديث: 89) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة/ الوتر، باب: ما جاء في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، (الحديث: 484) .
(3) سورة الأنعام، الآية: 160.(7/192)
أفْضَلِ أيَّامِكُمْ يَومَ الجُمُعَةِ، فَأكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ فِيهِ، فَإنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ". قَالَ: قالوا: يَا رسول الله، وَكَيفَ تُعْرَضُ صَلاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟ (قَالَ: يقولُ بَلِيتَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمته (رضي الله عنه) في باب فضل الجمعة عند ذكر أول هذا الحديث إلى قوله عليّ (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة) أتى بمن تنبيهاً على أنه ليس أفضلها، بل أفضل أيام السنة من حيث الأيام يوم عرفة؛ لما جاء أنه سيد الأيام وأفضل الأسبوع يوم الجمعة، ومن حيث الشهر شهر رمضان، وفرع على فضل يوم الجمعة قوله: (فأكثروا علي من الصلاة فيه) وذلك لنمو ثواب العمل بشرف زمانه أو مكانه (فإن صلاتكم معروضة علي) يعرضها عليه ملائكة موكلون بذلك كما ورد في حديث ابن مسعود مرفوعاً "أن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام" رواه أحمد وأبو داود والبيهقي في الدعوات الكبير. وهذا فيمن صلى عليه من بعد. أما من صلى عليه عند قبره الشريف فيسمعه كما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً "من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائياً بلغته" رواه البيهقي في الشعب (قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت) بفتحتين فسكون ففتح أصله أرممت، أي: صرت رميماً حذفت إحدى ميميه، وهي لغة لبعض العرب كما يقال ظلت في ظللت، أو بضم الهمزة والراء مضمومة أو مكسورة، والميم مشددة وإسكان التاء أي: أرمت العظام (قال) أي: الراوي (يقول) كذا في نسخ الرياض بالإِفراد والذي في أبي داود يقولون بضمير الجمع، أي: يعنون بقولهم: أرمت (بليت) قال ابن رسلان: أصل هذه الكلمة من رم الميت إذا بلي، وقاعدة التصريف تقتضي في مثله أرممت بميمين ثانيتهما ساكنة، لملاقاتها ضمير الرفع المتحرك، لكن الذي جاء في الرواية ميم واحدة فإن صحت الرواية ولم تكن محرفة خرج على لغة بعض العرب كما تقدم، فإن الخليل زعم أن ناساً من بني وائل يقولون: ردت وردت يعني بتشديد الدال والتاء (1) للمتكلم والمخاطب كأنهم قدروا الإِدغام قبل دخول التاء، فيكون لفظ الحديث أرمت بتشديد الميم فتح التاء اهـ ملخصاً. وتحصل فيه ثلاثة أوجه (2) أشهرها أولها وهو أنه
__________
(1) قوله: والتاء أي المتحركة بلا تشديد. ع.
(2) بل أربعة ولعله اعتبر الثاني والثالث وجهاً واحداً وذكر ابن حجر في الدر المنضود ثلاثة أوجه الأول كالأول هنا والثاني بفتحتين فتشديد فسكون ولم يذكره الشارح والثالث كالثالث هنا.(7/193)
قَالَ: "إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ". رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح (1) .
1398- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَغِمَ أنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بوزن ضرب كما في النهاية وضبطه بذلك المنذري (3) (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الله حرم على الأرض) أن تأكل كما في رواية النسائي (أجساد الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام لأنهم أحياء في قبورهم؛ ولذا لا تكره الصلاة في مقابرهم؛ لانتفاء علة الكراهة وهي محاذاة النجاسة (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد وابن أبي عاصم والبيهقي في عدة من كتبه، والنسائي وابن ماجه في سننهما؛ والطبراني في معجمه، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في صحاحهم. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، وكذا صححه المصنف في الأذكار، وأشار إليه هنا، وقال الحافظ عبد الغني: هذا حديث صحيح، والمنذري أنه حسن، وقال ابن دحية: إنه صحيح محفوظ بنقل العدل عن العدل، والاعتراض عليهم بأن فيه علة خفية مردود بأنه سالم منها كما بينه الدارقطني، فقول أبي حاتم أنه منكر، وابن العربي أنه لم يثبت، وابن أبي الصيف اليمني أنه غريب، مردود بما ذكرت، كذا في فتح الإِله.
1398- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغم) بكسر الغين المعجمة، أي: لصق بالرغام أي: التراب، وهو كناية عن الذل والحقارة أي: ذل (أنف رجل) والمرأة كذلك (ذكرت عنده فلم يصل علي) أخذ منه بعض الحنفية، وابن عبد البر من المالكية، وابن بطة من الحنابلة. وجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكر (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وهو صدر حديث وتمامه "ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة". ورواه الحاكم في المستدرك، وسكت المصنف عن باقي الحديث لعدم تعلقه بغرض الترجمة كما تقدم نظيره.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: فضل الجمعة وليلة الجمعة، (الحديث: 1047) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رغم أنف رجل"، (الحديث: 3545) .
(3) قد ضبطه المنذري في الترغيب والترهيب بالوجه الأول فلعل ضبطه المذكور في شرحه لسنن أبي داود.(7/194)
1399- وعنه - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيداً، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ". رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح. (1) .
1400- وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلاَّ رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1399- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجعلوا قبري عيداً) قال التوربشتي: إذا فسرنا العيد بواحد الأعياد ففي الحديث مضاف، أي: لا تجعلوا زيارة قبري عيداً أو لا تجعلوا قبري مظهر عيدٍ، ومعناه: النهي عن الاجتماع لزيارته - صلى الله عليه وسلم - اجتماعهم للعيد، إذ هو يوم رخص لهم فيه اللهو واتخاذ الزينة ويبرزون فيه للنزهة وإظهار السرور، وكان أهل الكتاب يسلكون ذلك في زيارة قبور أنبيائهم حتى ضرب الله على قلوبهم حجاب الغفلة واتبعوا سنن أهل الأوثان في زيارة طواغيتهم، فاتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ويحتمل أنه اسم من الاعتياد، والعيد ما اعتادك من هم أو غيره. أي: لا تجعلوه محل اعتياد تعتادونه، أو إنما نهاهم لما ذكر في الوجه قبله، ولئلا يسلكوا مسلك العادة في العبادة، ولئلا يشتغلوا بذلك عما هو الأصلح لدينهم والأهم في وقتهم، ولأن اعتياده يفضي بالأكثرين إلى إضاعة الوقت وسوء الأدب والتعرض لما ينتهي بهم إلى حال يرتفع دونها حجاب الحشمة، ويؤيد هذين التأويلين تعقيبه لهما بقوله: (وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) أي: لا تتكلفوا المعاودة إليه فقد استغنيتم عنها بالصلاة علي اهـ ملخصاً.
وحاصله أن المنهي عنه على الأول: الاجتماع عند قبره للزينة والرقص واللهو والطرب وغيرها، من المحرمات التي تعمل في الأعياد. وعلى الثاني المنهي عنه معاودة تؤدي إلى الإِخلال لعظيم الحرمة، أو الملل أو سوء الأدب أو نحو ذلك. وذكر بعض العلماء للحديث معنى آخر فقال: أي لا تتخذوه كالعيد الذي لا يؤتى إليه إلا مرتين في العام، فيكون فيه حث على إكثار زيارته، والتملي بمحادثته ومخاطبته، أي على وجه لا يؤدي لما ذكر فيما قبله (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والنسائي، وصححه المصنف في الأذكار وأشار إليه هنا.
1400- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ما من أحد) أي: من مكلفي الإنس والجن ويحتمل قصره على الأول (يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي) أي: نطقي، للنصوص والإِجماع على
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك، باب: زيارة القبور، (الحديث: 2042) .(7/195)
حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ". رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح (1) .
1401- وعن عليّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "البَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ". رواه الترمذي، وقال: "حديث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنه - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره على الدوام (حتى أرد عليه السلام) وعلاقة التجوز بالروح عن النطق ما بينهما من التلازم، إذ يلزم من وجوده وجودها دائماً وبالعكس بالقوة دائماً وبالفعل غالباً، وفي الحديث أقوال كثيرة منها قول السبكي: يحتمل أنه رد معنوي لاشتغال روحه الشريفة بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلى عن هذا العالم، فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة إلى هذا العالم ليدرك سلام من يسلم عليه وليرد عليه " واعترض " بأنه يلزم استغراق روحه في الرد لعدم خلو الزمن عن مسلم عليه، فأي وقت للاشتغال بالحضرة وللعود إلى هذا العالم.
وأجيب بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل، وأحوال البرزخ بأحوال (2) الآخرة. والحاصل أن روحه المقدسة كانت مستغرقة في شهود الحضرة الإلهية، لكنها عند السلام عليه ترد من تلك الحال للرد على المسلم عليه من غير أن تشتغل عما كانت فيه، ولا بعد في ذلك فإنه شأنه وعادته في الدنيا مع ضيقها بالنسبة لأحوال البرزخ، وقد بسط الكلام في معنى الحديث الحافظ السيوطي في حاشيته على سنن أبي داود بل أفرد لذلك جزءاً (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والبيهقي في الدعوات الكبير والطبراني، وأبو اليمن ابن عساكر، وسنده حسن، بل صححه المصنف في الأذكار وهنا.
1401- (وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البخيل) أي: كامل البخل كما يدل عليه رواية: البخيل كل البخيل (من ذكرت عنده فلم يصل عليّ) لأنه بامتناعه من الصلاة عليه قد شح وامتنع من أداء حق يتعين عليه أداؤه امتثالاً للأمر، ولما فيه من مكافأة جزئية لمن كان سبباً في سعادته الأبدية، بل في الحقيقة إنما شح وبخل عن نفسه، ومنعها أن يصل إليها عطاء عظيم ممن يعطي بلا حساب ولا تنقص خزائنه بالعطاء، فبهذا الشح تفوته تلك الكنوز التي لولاه لكان يكتالها بالمكيال الأوفى من غير أدنى مشقة، فلا أبخل من هذا كما يومىء إليه حديث "ليس البخيل من يبخل بمال نفسه ولكن البخيل من يبخل بمال غيره" وأبلغ منه من أبغض الجود حتى يحب أن لا يجاد عليه (رواه الترمذي وقال: حديث
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك، باب: زيارة القبور، (الحديث: 2041) .
(2) لعله كأحوال أو من أحوال. ع(7/196)
حسن صحيح (1) .
1403- وعن أَبي محمدٍ كعبِ بن عُجْرَة - رضي الله عنه -، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تنزيهه عما لا يليق به (ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -) بالرفع خبر لمبتدأ محذوف والجملة معطوفة على ما قبلها، وخالف بين لفظي الجملتين لتفاوت رتبتي مضمونهما من الثناء على الخالق والدعاء لأفضل الخلق (ثم يدعو بعد) بالضم، أي: بعدما ذكر من الحمد والصلاة بأي صيغة كانا (بما شاء. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وكذا صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: هو على شرط مسلم: وفي موضع آخر هو على شرطهما أي: الشيخين، ولا أعرف له علة، ورواه النسائي بنحوه.
1403- (وعن أبي محمد) كنية (كعب بن عجرة) بضم المهملة وسكون الجيم وبالراء قاله المصنف في التهذيب (رضي الله عنه) في التهذيب أيضاً: عجرة بن أمية بن عدي بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن عوف بن غنم بن سواد بن مري بن أراشة بن عامر بن غيلة بن قسميل بن قراد بن علي (2) ، حليف الأنصار اختلف في كنيته فقيل ما تقدم، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو إسحاق تأخر إسلامه، وشهد بيعة الرضوان وغيرها، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وأربعون حديثاً اتفقا منها على حديثين وانفرد مسلم بآخر، سكن الكوفة، وتوفي بالمدنية سنة إحدى وقيل: اثنتين، وقيل: ثلاث وخمسين، وله سبع وسبعون، وقيل: خمس وسبعون سنة انتهى ملخصاً (قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله قد علمنا) أي: عرفنا (كيف نسلم عليك) أي: بما علمهم في التشهد من قولهم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته (فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد) أي: ارحمه رحمة مقرونة بتعظيم لائق بمقامه الذي لا يعلمه إلا أنت (وعلى آل محمد) يحتمل أن يراد بهم من تحرم عليهم الصدقة الواجبة من أقاربه المؤمنين
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، (الحديث: 1481) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 65] ، (الحديث: 3476) .
(2) وفي نسخة بلى.(7/198)
إنَّكَ حَمِيدٌ مَجيدٌ. اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجْيدٌ". متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1404- وعن أَبي مسعودٍ البدري - رضي الله عنه -، قَالَ: أتَانَا رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَنَحنُ في مَجْلِسِ سَعدِ بن عُبَادَةَ - رضي الله عنه -، فَقَالَ لَهُ بَشْيرُ بْنُ سَعدٍ: أمَرَنَا الله تَعَالَى أنْ نُصَلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من بني هاشم وبني المطلب، وأن يراد بهم أمة الإِجابة.
والأول: أقرب إلى السياق.
والثاني: أنسب بالعموم الأتم (كما صليت على إبراهيم) في هذا التشبيه وجوه كثيرة نحو العشرين أودعتها في شرح الأذكار أقربها أنه من باب التوسل إلى الفضل بالفضل، أي: تفضل على حبيبك وخليلك، كما تفضلت على خلليك. ولا شك أن تفضله على الخليل سابق في عالم الشهادة، على تفضله على الحبيب الخليل صلى الله وسلم عليهما (إنك حميد مجيد) بكسر الهمزة، على الاستئناف وبفتحها، بتقدير لام التعليل قبلها، أي: لأنك أهل الثناء والمجد أي: إن العظمة تستحقها بالذات (اللهم بارك) من البركة، وهي الزيادة والنماء وصيغة المفاعلة للمبالغة (على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم) وفي نسخة زيادة آل بين الجار والمجرور (أنك حميد مجيد) فصل هذه الجملة الدعائية عن الجملة قبلها إعلاماً بأن كلاً من المدعو به فيهما مقصود لذاته (متفق عليه) رواه البخاري في الصلاة وفي الدعوات وفي التفسير، ورواه مسلم في الصلاة، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم في الصلاة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
1404- (وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في مجلس سعد بن عبادة) جملة حالية من مفعول أتى (فقال له بشير) بفتح الموحدة وكسر المعجمة (ابن سعد) (2) الأنصاري الخزرجي (أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله) أي: بقوله (يا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء [باب: 10] ، (الحديث: 3370) بنحوه وفي التفسير، باب: إن الله وملائكته، (الحديث: 4797) . وفي الدعوات، باب: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، (الحديث: 6357) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، (الحديث: 66 و67 و68) .
(2) هو بشير بن سعد بن ثعلبة وليس هو ابن سعد بن عبادة.(7/199)
فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَسَكَتَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى تَمَنَّيْنَا أنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلاَمُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ". رواه مسلم (1) .
وعن أَبي حُمَيدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قالوا: يَا رسولَ الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) (2) (فكيف نصلي عليك) لنخرج من عهدة الواجب به (3) (فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى) غاية لمقدر أي: وأطال سكوته حتى تمنينا (أنه لم يسأله) شفقة لما رأوه منه حالتئذ، وسكوته يحتمل أن يكون لإِنتظار وحي وأن يكون أن يكون لاجتهاد (ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم) من جملة وجوه التشبيه السابق الإشارة إليها، وهو من أقربها أن التشبيه للصلاة على الآل بالصلاة على إبراهيم، فيكون على أصل كون المشبه به أعلى من المشبه في وجه التشبيه (وبارك على محمد وعلى آل محمد) أي: بركة مبالغاً فيها كما تومىء إليه الصيغة (كما باركت على إبراهيم) وفي نسخة بزيادة آل، وآله إسماعيل وإسحاق وأولادهما (إنك حميد) أي: محمود وعدل عنها إلى ذكره لما فيه من المبالغة إذ هو من صيغها (مجيد والسلام) أي: المأمور به بقوله تعالى: (وسلموا تسليماً) (2) (كما قد علمتم) بضم المهملة وتشديد اللام المكسورة، أي: علمكم الله بقوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) . وبفتح أوله وكسر ثانيه، وهو ما أشير إليه بقولهم في حديث كعب بن عجرة "قد علمنا كيف نسلم عليك" (رواه مسلم) في كتاب الصلاة من صحيحه. ورواه أبو داود فيها، والترمذي في التفسير من جامعه. وقال: حسن صحيح، والنسائي في الصلاة، وفي اليوم والليلة.
1405- (وعن أبي حميد) بضم المهملة وفتح الميم وسكون التحتية (الساعدي) نسبة لبني ساعدة بطن من الأنصار تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب تحريم الظلم (قال: قالوا:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، (الحديث: 65) .
(2) سورة الأحزاب، الآية: 56.
(3) أي بالأمير.(7/200)
14- كتاب الأذْكَار
244- باب فَضلِ الذِّكْرِ وَالحَثِّ عليه
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (وَلذِكْرُ الله أكْبَرُ) ، وقال تَعَالَى (2) : (فَاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ) ، وقال تَعَالَى (3) : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الأذكار
باب فضل الذكر والحث عليه
بفتح المهملة وتشديد المثلثة، أي: الحض (عليه) المراد بذكر الله هنا: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب فيها، وطلب الإِكثار منها. وقيل: الذكر شرعاً قول سيق لثناء أو دعاء، وقد يستعمل لكل قول يثاب قائله. قال الحافظ في الفتح: ويطلق ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه الله أو ندب إليه. وقال الرازي: المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد، والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله تعالى.
والذكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقة في الطاعات. (قال الله تعالى: ولذكر الله أكبر) أي: ذكر العبد ربه أفضل من كل شيء، والصلاة لما كانت مشتملة على ذكره كانت أكبر من غيرها من الطاعات. وقيل: المراد ذكر الله عبيده برحمته أكبر من ذكرهم إياه بطاعته، وهذا هو المنقول عن كثير من السلف. وقال التوربشتى: الذكر من الله هو حسن قبوله منه والمجازاة له بالحسنى اهـ (وقال تعالى: فاذكروني) أي: بالطاعات أو في الرخاء (أذكركم) بالمغفرة أو في الشدة. وقد تقدم ذكر هذا في أول باب الحمد (وقال تعالى: واذكر ربك في
__________
(1) سورة العنكبوت، الآية: 45.
(2) سورة البقرة، الآية: 152.
(3) سورة الأعراف، الآية: 205.(7/202)
بِالغُدُوِّ والآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ) ، وقال تَعَالَى (1) : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرَاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، وقال تَعَالَى (2) : (إنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ) … إِلَى قَوْله تَعَالَى: (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأجْرَاً عَظِيماً) ، وقال تَعَالَى (3) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نفسك) أي: سراً (تضرعاً) أي: تذللاً (وخيفة) أي: خوفاً منه، فالنصب على العلة، ويصح كونه على الحال، أي: متضرعاً وخائفاً (ودون الجهر من القول) أي: قصداً بينهما، وهو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: أن تسمع نفسك دون غيرك (بالغدو والآصال) أوائل النهار وأواخره، وخصا بطلب الذكر فيهما دون غيرهما؛ لفضلهما ولأن بدء اليوم وختمه بالبر والعمل الصالح مقتض لغفران ما يقع بينهما من المخالفات كما في حديث (ولا تكن من الغافلين) عن ذكر الله (وقال تعالى: واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) جملة الترجي في محل الحال من فاعل، اذكروا أي: ائتوا بعمل البر راجين الفلاح من الله تعالى، فإن الأعمال أمارات ظنية وليست بدلالات قطعية، ففيه إيماء إلى نهي العامل عن الركون إلى عمله دون الله تعالى، وتنبيه على أن المطلوب كون الظاهر مستعملاً في أعمال البر مع عدم النظر لذلك بالقلب (وقال تعالى إن المسلمين والمسلمات) أتى بذلك توطئة لقوله (إلى قوله تعالى والذاكرين الله كثيراً والذاكرات) المناسب للترجمة إذ لو بدأ به لتوهم أن الثواب المذكور بعده مرتب عليه بانفراده، وإنما هو جزء للمرتب عليه ذلك (أعد الله لهم) أي: هيأ لهم (مغفرة) لذنوبهم عظيمة كما يومىء إليه إسناد ذلك إليه سبحانه، مع ما في ذلك من الإيماء إلى مزيد العناية وكمال الرعاية (وأجراً عظيماً) على الطاعات (وقال تعالى يأيها الذين أمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً) في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات" هذا حديث مشهور رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهما. وفي الحديث "أكثروا ذكر الله حتى يقولوا (4) مجنون"، وفى الأذكار للمصنف: سئل ابن الصلاح عن القدر
__________
(1) سورة الجمعة، الآية: 10.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 35.
(3) سورة الأحزاب، الآيتان: 41، 42.
(4) أي المنافقون ومن ألحق بهم أهـ. مناوي ملخصا.(7/203)
خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان الى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" متفق عليه (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(خفيفتان على اللسان) قال الطيبي: الخفة مستعارة للسهولة شبه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بما يخف على الحامل من بعض المحمولات ولا يشق عليه، فذكر المشبه به وأراد المشبه (ثقيلتان في الميزان) الثقل فيه على حقيقته؛ لأن الأعمال تتجسم عند الميزان، والميزان هو ما يوزن به أعمال العباد يوم القيامة. وفي كيفيته أقوال الأصح أنه جسم محسوس ذو لسان وكفتين، والله تعالى يجعل الأعمال كالأعيان موزونة أو توزن صحف الأعمال. وسئل بعضهم عن سبب ثقل الحسنة على الإِنسان، وخفة السيئة عنه فقال: إن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فخفت فلا يحملنك خفتها على ارتكابها (حبيبتان إلى الرحمن) أي: محبوب قائلهما وخص الرحمن بالذكر؛ لأن القصد من الحديث بيان سعة رحمة الله بعباده، حيث يجزي على العمل القليل بالثواب الكثير الجزيل. قال العيني: ويجوز أن يكون لأجل السجع، وهو من محسنات الكلام، وإنما نهى عن سجع الكهانة لكونه متضمناً لباطل (سبحان الله وبحمده) الواو للحال، أي: أسبحه متلبساً بحمدي له من أجل توفيقه لي، وقيل: عاطفة أي: وأتلبس بحمده. وقدم التسبيح؛ لأنه من باب التخلية بالمعجمة، والحمد من باب التحلية بالمهملة. قال الكرماني: التسبيح إشارة للصفات السلبية، والحمد إشارة إلى الصفات الوجودية (سبحان الله العظيم) كرر التسبيح تأكيداً للاعتناء بشأن التنزيه من جهة كثرة المخالفين الواصفين له بما لا يليق به بخلاف صفة الكمال فلم ينازع في ثبوتها له أحد، ثم سبحان فيهما منصوب على المصدرية بإضمار فعل واجب الحذف على المرضي، أتى لقصد الدوام واللزوم بحذف ما هو موضوع للتجدد والحدوث، ثم صار علم جنس للتسبيح، وأضيف إلى الله في نحو سبحان الله أولاً وأريد بهما اللفظ، فلذا كان ابتدائين. قال الدماميني في المصابيح: إن قلت المبتدأ مرفوع وسبحان منصوب فكيف وقع مبتدأ مع ذلك؟ قلت: المراد لفظهما محكياً، فإن قلت الخبر مثنى والمخبر عنه غير متعدد ضرورة، أنه ليس ثم حرف عطف يجمعهما، ألا ترى أنه لا يصح زيد عمرو قائمان، قلت هو على حذف العاطف أي: سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم كلمتان الخ (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه وهو آخر حديث في صحيح البخاري.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: (إذا قال والله لا أتكلم اليوم) والدعوات باب فضل التسبيح =(7/205)
1407- وعنه - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالحَمْدُ للهِ؛ وَلاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أكْبَرُ، أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ". رواه مسلم (1) .
1408- وعنه: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ قَالَ لا إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، في يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1407- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأن أقول) اللام فيه مؤذنة بالقسم المقدر قبلها، لتأكيد ما بعدها عند السامع؛ لأن المقام يدعو للتأكيد لما ركز في الطباع من عظم الدنيا فيستبعد أن تفضلها هذه الكلمات (سبحان الله) أي: تنزيه الله عما لا يليق به (والحمد لله) أي: ثناءً عليه بنعوت الكمال (ولا إله) أي: لا إله مستغن عن كل ما سواه ومفتقر إليه كل ما عداه (إلا الله) بالرفع بدل من محل لا مع اسمها وهو الرفع بالابتداء عند سيبويه (والله أكبر) من أن يوصف بما لا يليق (احب إلي مما طلعت عليه الشمس) كناية عن الدنيا، وذلك لأن هذه الأعمال من أعمال الآخرة وهي الباقيات الصالحات، وثوابها لا يبيد وأجرها لا ينقطع، والدنيا بمعرض الفناء والزوال والتغير والانتقال، ومقتضى ما ذكرناه من التعليل أن كل واحدة منهن أحب إليه من الدنيا لدوامه وانقطاعها ولا يخالفه الحديث، لأن إثبات الأمر المتعدد لا ينافي ثبوته لكل من أفراده (رواه مسلم) ورواه النسائي.
1408- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قال لا إله إلا الله وحده) بالنصب على الحالية، وجازت مع تعريفه لفظاً لتأويله بمنفرد (لا شريك له) جملة حالية، حذف معمولها؛ ليعم أي: فلا شريك له في شيء من صفاته ولا في شيء من أفعاله ولا في شيء من ملكه (له الملك) بضم الميم، أي: السلطنة والقهر له دون غيره قال تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) (2) (وله الحمد) فالحمد حقيقة مختصة أفراده كلها به تعالى، فلا فرد منه لما عداه إلا باعتبار ظاهر الأمر، إذ الحمد تابع للمثنى عليه، وهو خلق الله تعالى (وهو على كل شيء قدير) قدم معمول الصفة المشبهة عليها، لكونه ظرفاً والممنوع تقديمه عليها في قولهم،
__________
= والتوحيد (11/175) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 31) .
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 32) .
(2) سورة الأنعام، الآية: 61.(7/206)
كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وكُتِبَتْ لَهُ مِئَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِئَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِي، وَلَمْ يَأتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْهُ".
وقال: "مَنْ قَالَ سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، في يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والعبارة للخلاصة، وسبق ما تعمل فيه مجتنب. هو إذا كان عملها من حيث كونها صفة مشبهة وعملها في الظرف ليس لذلك، بل لتضمن معنى الفعل، وبه يندفع اعتراض المحقق بدر الدين بن مالك على أبيه فيما ذكرناه بالآية السابقة (في يوم) هو شرعاً ما بين طلوع الفجر الصادق وغروب الشمس (مائة مرة) كتب الألف فيه، دفعاً لاشتباهه بمن الجارة لضمير الغائب، وظاهر إطلاقه أنه لا فرق في ترتب الثواب الآتي عليه بين ما إذا والاها أو أتى بها مفرقة (كانت له عدل عشر رقاب) أي: في ثواب عتقها. قال ابن التين: قرأناه بفتح العين، وقال في المصباح: عدل الشيء بالكسر مثله من جنسه أو مقداره. قال ابن فارس: والعدل بالكسر الذي يعادل في الوزن والقدر اهـ. وعدله بالفتح ما يقوم مقامه من غير جنسه ومنه قوله تعالى: (أو عدل ذلك صياماً) (1) وهو في الأصل مصدر يقال: عدلت هذا بهذا عدلاً، من باب ضرب إذا جعلته مثله قائماً مقامه اهـ (وكتبت له مائة حسنة) بالنصب ثاني مفعولي كتب المبني للمفعول؛ لتضمنه معنى جعل، والمفعول الأول نائب الفاعل المستكن في الفعل، وفي رواية الكشميهني: وكتب بالتذكير. قال العيني: أي: القول المذكور. قلت: ولو روي بالرفع لكان نائب فاعل الفعل فيناسب قوله: (ومحيت عنه مائة سيئة) أي: رفعت من ديوان الحفظة أو محي عنه المؤاخذة بها فلم يعذب بها (وكانت له حرزاً) بكسر المهملة وسكون الراء وبالزاي الموضع الحصين والعوذة (من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي) غاية للجملة الأخيرة أي: إنه يكون في عوذة من الشيطان مدة بقاء النهار (ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به) من الأذكار المأثورة (إلا رجل) بالرجع بدل من أحد (عمل أكثر منه) بأن زاد على المائة من التهليل فكلما زاد منه زاد الثواب. وسمي ذلك عملاً؛ لأنه عمل اللسان (ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة) مفعول مطلق نحو قوله تعالى: (فاجلدوهم ثمانين جلدة) (2) وفي المصباح فعلت الشيء مرة، أي: تارة اهـ. وفيه التارة المرة فإن ريد مرة من الزمان، كان النصب على الظرفية (حطت خطاياه) ببناء الفعل للمجهول؛ لأن من المعلوم أن هذا الفعل لا يقدر عليه غيره تعالى فهو نظير قوله تعالى: (وغيض الماء) (3) إذ لا يتصور
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 95.
(2) سورة النور، الآية: 4.
(3) سورة هود، الآية: 44.(7/207)
أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ". رواه مسلم (1) .
1412- وعن سعد بن أَبي وقاصٍ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ أعْرَابيٌّ إِلَى رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: عَلِّمْنِي كَلاَماً أقُولُهُ. قَالَ: "قُلْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، اللهُ أكْبَرُ كَبِيراً، وَالحَمْدُ للهِ كَثيراً، وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالِمينَ، وَلاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ" قَالَ: فهؤُلاءِ لِرَبِّي، فَمَا لِي؟ قَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كما قال: أو (تملأ) أي: كل واحدة بانفرادها (ما بين السموات والأرض) أي: أنهما لعظم مدلولهما لو كانا جسمين لملأ ما ذكر أو لملأه أحدهما، ففيه عظم فضلهما وعلو مقامهما (رواه مسلم) .
1412- (وعن سعد بن أبي وقاص) بفتح الواو والقاف المشددة آخره صاد مهملة هي كنية مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري (رضي الله عنه قال: جاء أعرابي) هو ساكن البادية عربياً كان أو لا (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: علمني كلاماً أقوله) بالرفع جملة في موضع الصفة لكلام لنكارته، ولم يقيد القول بحال ولا زمان إيماءً إلى أن المطلوب قول يكون شأنه العموم (قال: قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له) قدمها على ما بعدها لأنها أشرف قرائنها، ولذا جعلت كلمة الإِسلام ومفتاح الجنة خصوصاً، وقد ضم إليها ما يزيد في تأكيد مدلولها من التوحيد بالحال المفردة فالجملة (2) (الله أكبر كبيراً) فصل هذه الجملة عما قبلها إيماءً، إلى استقلال كل جملة فيما سأل، وكبيراً بالموحدة منصوب على أنه مفعول مطلق عامله الوصف (والحمد لله كثيراً) بالمثلثة إعرابه كإعراب كبيراً، ووصل هذه الجملة بما قبلها لمشاركتها لها في الدلالة على اتصاف الباري بأوصاف الكمال، ولما لم يشاركها فيه ما بعد فصلها كما يأتي، وبين كبيراً بالموحدة وكثيراً بالمثلثة جناس مصحف ومنه حديث "ارفع إزارك فإنه أنقى وأبقى وأتقى" (وسبحان الله رب) أي: مالك وخالق (العالمين) بفتح اللام اسم جمع لعالم لاختصاصه بالعقلاء من الجن والإِنس والملك، وعموم دلالة عالم على ما سوى الله تعالى من سائر الأجناس، والجمع لا يكون أخص من مفرده (ولا حول) بالفتح أو الرفع أي: عن المعصية (ولا قوة) بالفتح أو النصب أو الرفع عطفاً على حول على الوجه الأول وبما عدا النصب على الثاني، أي: على الإِتيان بالطاعة (إلا بالله العزيز) أي:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب. فضل الوضوء، (الحديث: 1) .
(2) المفردة هي وحده والجملة هي لا شريك له.(7/210)
وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي". رواه مسلم (1) .
1413- وعن ثَوبانَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاثَاً، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي لا يغالب في مراده (الحكيم) الموقع للأشياء مواقعها بحسب حكمته البالغة، وفي الختم بهذين الاسمين رد لما اشتهر من ختم الحوقلة بالعلي العظيم كما بيناه سابقاً (2) ، ومناسبة هذين للحوقلة أظهر؛ لأن شأن من كان عزيزاً حكيماً أن لا يصدر خير ولا يندفع شر إلاّ بقوته (قال) أي: الأعرابي (فهؤلاء) أي: الجمل (لربي) لما فيها الثناء عليه مع إثبات الوحدانية له دون غيره بالجملة الأولى، وتنزيهه عما لا يليق به بالجملتين الأخيرتين (فمالي) أي: فأي شيء أدعو به مما يعود لي بنفع ديني أو دنيوي؟ (قال: قل اللهم اغفر لي) بدأ به، لأنه من باب التخلية بالمعجمة، وما بعده من قبيل التحلية بالمهملة. والأول مقدم على الثاني كما تقدم نظيره في حكمة تقديم التسبيح على التحميد، وإنما قدمه في هذا الخبر على التسبيح لأنه لما شارك التكبير في إثبات الكمال، لذي الجلال ولذا عطفت جملته على جملة التكبير اقتضى قرنه به فتأخر عنه التسبيح (وارحمني واهدني وارزقني) من عطف بعض أفراد الخاص على العام، لأن المراد بالرحمة غايتها من إرادة التفضل أو نفسه على الخلاف السابق مراراً، وخصا بالذكر لاشتمالهما على مهم الدين وهو الهداية التي هي الإِيصال إلى مرضاة الله تعالى، ومهم الدنيا من الرزق الذي ينتفع به، وبه قوام البدن وفي حصوله ستر الوجه عن الابتذال للغير (رواه مسلم) قال الحافظ في تخريج أحاديث الأذكار بعد أن أخرجه وذكر أن مسلماً رواه قال: ورواه البزار، لكن وقع عنده العلي العظيم بدل العزيز الحكيم.
1413- (وعن ثوبان) بفتح المثلثة وسكون الواو، وبالموحدة هو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من الصلاة) انصرافاً معنوياً بالتحلل منها بالتسليم (استغفر) الله (ثلاثاً) إيماءً إلى أنه ينبغي عدم النظر لما يأتي به العبد من الطاعة، فذلك أقرب للقبول، والتكرار للمبالغة في رؤية النقص فيما جاء به، وأنه لشدته محتاج
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 33) .
(2) أي في خطبة الكتاب.(7/211)
لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ". متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1415- وعن عبدِ الله بن الزُّبَيْرِ رضي الله تَعَالَى عنهما أنَّه كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ، حِيْنَ يُسَلِّمُ: "لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في العدول عن تنوينه على قول البغداديين إرادة التنصيص على الاستغراق؛ لأنه مع التنوين يكون الاستغراق ظاهراً لا نصاً لقولهم أن لا العاملة عمل إن لنفي الجنس مطلقاً، فيحصل نفيه ظاهراً مع التنوين، ونصاً مع عدمه. وقيل: إنه مخصوص عند بعضهم بما إذا بني اسمها من جهة تضمن معنى من الاستغراقية. وبتسليم الإِطلاق فبني ليكون نصاً على الاستغراق إذ مع التنوين يحتمل كون النصب بفعل محذوف، أي: لا نجد أو لا نرى مانعاً ولا معطياً فعدل إلى البناء لسلامته من هذا الاحتمال. اهـ قلت: هو مع وجاهته يبعده ما يلزم عليه من حذف متعلق الظرِف مع وجود متعلقه، نعم. الثاني: أقرب من الأول: وأنه غير متعلق بالاسم فصار مفرداً. والله أعلم (ولا ينفع ذا الجد) بفتح الجيم الحظ والغنى (منك) أي: عندك (الجد) أي: غناه إنما ينفعه عنايتك وما قدمه من صالح العمل قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (2) وروي بكسر الجيم بمعنى الجد في الطاعة، أي: لا ينفع ذا الجد فيها جده إنما ينفعه رحمتك كما في الحديث الصحيح "لن ينجي أحداً عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته (متفق عليه) .
1415- (وعن عبد الله بن الزبير) بضم الزاي القرشي الأسدي (رضي الله عنهما أنه) بالفتح بدلاً مما قبله بدل اشتمال (كان يقول دبر) بالنصب على الظرفية المكانية، لكونه شبيهاً بالمكان أي خلف (كل صلاة حين يسلم) بدل من الظرف قبله، أي: عقب السلام (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله) فصل جملة الحوقلة عن الجملة قبلها، لأنها جنس آخر من الثناء وإن كان مدلولها ملزوماً لمدلول ما قبلها (لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه) جملة حالية من مقدر أي أقوالها حال كوننا غير عابدين غيره، وفصل الضمير الممكن اتصاله، للدلالة على الحصر الذي لا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة، (2/275) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 137) .
(2) سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89.(7/214)
الفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ" قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ. رواه مسلم (1) .
1416- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ فُقَراءَ المُهَاجِرِينَ أَتَوْا رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ذَهَبَ أهْلُ الدُّثورِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَى، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يحصل إلاّ به، لأن المتصل لا يقع بعد إلا (له النعمة) بكسر النون الخفض والدعة والمال وجمعها نعم وأنعم والتنعم الترفه. والاسم النعمة بالفتح قاله في القاموس وشرعاً الأمر المسلتذ المحمود العاقبة. مقتبس من قوله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) (2) (وله الفضل) ضد النقص أي: له دون غيره الكمال المطلق فلا يعتريه النقص بوجه (وله الثناء الحسن) بالمثلثة والنون والمد والتقييد بالحسن إطناب، فإن الثناء على الصحيح مختص بالجميل والذي في ضده نثاء بتقديم النون. وقيل: بل يستعمل فيهما، وعليه العز بن عبد السلام والحديث يشهد له (لا إله إلا الله مخلصين) تقدم نظيره آنفاً (له الدين) فلا نعبد معه غيره (ولو كره الكافرون) الواو الداخلة على لو، وإن الوصلية قيل: عاطفة على مقدر، وقيل: حالية، وصنيع السعد التفتازاني يدل على الثاني (قال ابن الزبير) هو موصول بسند الحديث الموقوف قبله (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلل بهن) فيه تغليب له على باقي ما ذكر معه، لشرفه عليه أو لما كان ما معه أحوال مما ذكر فيه صار هو المقصود الأصلي وغيره كالقيد له (دبر كلل صلاة) أي: مكتوبة كما في نسخة معتمدة من الرياض (رواه مسلم) .
1416- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين) من إضافة الصفة إلى الموصوف (أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدثور) بضمتين جمع دثر أي الأموال الكثيرة (بالدرجات العلا) بضم ففتح جمع عليا (والنعيم المقيم) أي: الذي لا ينقطع ولا ينقضي وبينوا وجه ذلك بقولهم على سبيل الاستئناف البياني (يصلون كما نصلي) ما يحتمل كونها مصدرية، وكونها موصولاً اسمياً، والعائد محذوف فالتشبيه على الأول في الفعل وعلى الثاني في المفعول (ويصومون كما نصوم) أي: فساوونا في الأجر المرتب عليهما (ولهم
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 139) .
(2) سورة النحل، الآية: 53.(7/215)
اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ واللهُ أكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنهُنَّ كُلُّهُنَّ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ. متفقٌ عَلَيْهِ.
وزاد مسلمٌ في روايته: فَرَجَعَ فُقَراءُ المُهَاجِرينَ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: سَمِعَ إخْوَانُنَا أهْلُ الأمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ؟ فَقَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ".
"الدُّثُورُ" جمع دَثْر - بفتح الدال وإسكان الثاء المثلثة - وَهُوَ: المال الكثير (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكوان بالمعجمة السمان الزيات الما سئل عن كيفية ذكرهن قال: يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر) قال: في فتح إلاله ما أفهمه. كلامه من أن الإتيان بها مختلطات لا بكل نوع على حدته غير معمول به بالنسبة للأكمل، إذ هو أن يأتي بكل عدد على حدته.
قال القاضي عياض: وهو أولى من تأويل أبي صالح (حتى يكون) اسمها مضمر يرجع لما دل عليه الكلام، أي: حتى يكون المأتي به (منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين) قال البرماوي: هو منصوب في أكثر الروايات، ويروى بالرفع على أنه اسم كان. والأول أظهر وأنه خبرها، وهو محتمل لما تقدم من أن المراد أن يكون من المجموع هذا العدد أو من كل من المركب من هذه الأنواع والثاني أقرب لكلامه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وكذا مسلم ورواه النسائي في اليوم والليلة، وللحديث طرق انفرد ببعضها مسلم عن البخاري في صحيحه، وذلك كرجاء بن حيوة عن أبي صالح، فقد أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة، والبخاري في الأدب المفرد (وزاد مسلم في روايته) للحديث من طريق رجاء بن حيوة عن أبي صالح (فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا) أي المؤمنون (أهل الأموال بما فعلنا) فيه إطلاق الفعل على القول؛ لأنه فعل اللسان (ففعلوا مثله) أي: فساوونا في العبادة التي فوقتنا عليهم لو أتينا بها دونهم وزادوا علينا بالعبادة المالية (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) المشار إليه إما الفضل الذي أرشدهم إليه - صلى الله عليه وسلم - وأن به يسبقون أي: ذلك الفضل بيده فله أن يخص به قائلاً دون قائل، فلا عليكم إن شركوكم في القول فإن الثواب المذكور مقصور على الفقراء، وأما تفضيل الجامعين بين عبادة البدن والمال. ويبتني عليه الخلاف هل الفقير الصابر أفضل أو الغني الشاكر؟
الجمهور على الثاني لتعدي نفعه وقصور نفع الأول (الدثور) بضمتين (جمع دثر بفتح الدال) المهملة (وإسكان الثاء المثلثة) وذلك كفلوس جمع فلس (وهو) أي الدثر (المال الكثير) تقدم بسط ذلك في حديث أبي ذر بقريب منه في شكوى فقراء المهاجرين من تقدم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة (2/270، 272) =(7/217)
1417- وعنه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ سَبَّحَ الله في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وحَمِدَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ الله ثَلاثاً وَثَلاَثِينَ، وقال تَمَامَ المِئَةِ: لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ". رواه مسلم (1) .
1418- وعن كعب بن عُجْرَةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ:
"مُعَقِّباتٌ لاَ يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ - أَوْ فَاعِلُهُنَّ - دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: ثَلاثٌ وَثَلاثونَ تَسْبِيحَةً. وَثَلاثٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأغنياء عليهم في ذلك في باب بيان كثرة طرق الخير.
1417- (وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من سبح الله في دبر) بضم الدال المهملة والموحدة أي عقب (كل صلاة) أي: مكتوبة ولا يضر الفصل بين المكتوبة والذكر عقبها بالراتبة (ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين) العدد منصوب على المفعولية المطلقة (وقال تمام المائة) منصوب على أنه مفعول له أي: لإتمامها (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه) تقدم أنه جمع خطيئة (وإن كانت) أي: الخطايا في الكثرة (مثل زبد البحر) وتقرر مراراً أن المكفر بالطاعات صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله سبحانه (رواه مسلم) وروى النسائي من حديث أبي هريرة "من سبح دبر صلاة الغداة مائة تسبيحة وهلل مائة تهليلة غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر".
1418- (وعن كعب بن عجرة) سبقت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: معقبات) قال المصنف: قال الهروي: قال شمر: معناه تسبيحات تفعل أعقاب الصلاة: وقال أبو الهيثم: سميت معقبات؛ لأنها تفعل مرة بعد أخرى. اهـ قال العاقولي: وهي صفة أقيمت مقام المبتدأ الموصوف المحذوف، وخبره (لا يخيب) من الخيبة، وهي الحرمان والخسران (قائلهن أو) للشك بينه وبين قوله (فاعلهن) والقول فعل اللسان، فيجوز إطلاق الفعل عليه، ولا يطلق عليه غالباً إلا إذا صار القول مستمراً ثابتاً، راسخاً رسوخ الفعل، ويحتمل أن تكون هذه الجملة صفة معقبات وقوله (ديز
__________
= وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 142) .
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 146) .(7/218)
وثَلاَثونَ تَحْمِيدَةً، وَأرْبَعٌ وَثَلاَثونَ تَكْبِيرَةً". رواه مسلم (1) .
1419- وعن سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ دُبُرَ الصَّلَواتِ بِهؤُلاءِ الكَلِمَاتِ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ وَالبُخْلِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ أنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ". رواه البخاري (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كل صلاة مكتوبة) صفة أخرى أو خبر آخر أو متعلق بقائلهن (ثلاثاً وثلاثين تسبيحة) مفعول مطلق للقائلين، نحو ضربته مائة ضربة. ووقع في المصابيح بالرفع فجوز العاقولي إعرابه خبراً آخر لمعقبات، أو لمبتدأ محذوف أي: هن ثلاث وثلاثون (وثلاثاً وثلاثين تحميدة وأربعاً وثلاثين تكبيرة رواه مسلم) وفي الجامع الصغير بعد أن أورده بلفظ "وثلاث وثلاثون تكبيرة" رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وفي الجامع الكبير بعد إيراده بلفظ "وأربع وثلاثون تكبيرة في دبر كل صلاة مكتوبة" ذكر مخرجيه المذكورين، وزادوا: ابن حبان في صحيحه.
1419- (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان) تعليماً وتشريعاً (يتعوذ دبر الصلوات) في نسخة كل صلاة (بهؤلاء الكلمات) وعطف عليها عطف بيان، بناء على مجيئه في الجمل، وهو الصحيح كما بينته في شرح نظم قواعد ابن هشام قوله (اللهم إني أعوذ) أي: أعتصم وألتجىء (بك من الجبن) بضم الجيم وسكون الموحدة، مصدر جبن بضم الموحدة، مثل قرب قرباً وهو ضد الشجاعة، قال في المصباح: هو ضعف القلب (والبخل) بضم فسكون وبفتحتين، جاء من بابي قرب وتعب، وهو شرعاً منع الواجب، وعند العرب منع السائل مما يفضل عنه اهـ (وأعوذ بك) أعاده لأن هذا نوع غير ما قبله (من أن أرد) بالبناء للمفعول (إلى أرذل العمر) أي: أخسه وهو الهرم، وعن علي رضي الله عنه أنه خمس وسبعون سنة، ففيه ضعف القوى، وسوء الحفظ، وقلة العلم (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) بأن أبتلى بالغنى أو الفقر المشغل عن الله تعالى المبعد عن ساحات فضله (وأعوذ بك من فتنة القبر) الناشىء عن سؤال الفتنين فيه فإن المؤمن يثبت والمنافق بضده (رواه البخاري) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 145) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: التعوذ من البخل وفي الجهاد، باب: ما يتعوذ به من =(7/219)
1421- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أرْبَعٍ، يقول: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالآخر، إشارة إلى أن الآخرة وشهودها، وما يؤدي إليها هو المقصود بداية ونهاية اهـ ملخصاً. وعطف وحسن عبادتك على الشكر عطف خاص على عام، إذ الشكر أداء العبودية لما تقدم من أنه شرعاً صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خلق لأجله، لكن منه ما هو حسن وهو ما صحب بالحضور والخضوع والخشوع، فيكون أقرب إلى القبول، ومنه ما ليس كذلك (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه النسائي أيضاً وسند أبي داود عبيد الله بن عمر القواريري عن أبي عبد الرحمن المقرىء عن حيوة بن شريح عن عقبة بن مسلم عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن الصنابحي عن معاذ، زاد أبو داود: وأوصى معاذ الصنابحي بذلك وأوصى بذلك الصنابحى الحبلي.
1421- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا تشهد أحدكم) أي: أتم للتشهد أي: التحيات الخ سمي تشهداً لاشتماله عليه (فليستعذ بالله) الأمر للندب عند الجمهور (من أربع) حذف التاء لحذف المعدود والأصل من أربعة أشياء وهي في الحقيقة خمسة، لكنه عد فتنة الحياة والموت واحدة، لتقابلهما ولذا لم يعد لفظ فتنة في الممات (يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) اسم أعجمي فمنع صرفه للعلمية والعجمة، ْأو عربي مشتق من قولهم بئر جهنام لبعيدة القعر، فمنع صرفه للعلمية والتأنيث المعنوي، وهي مشتركة بين طبقة من الطباق التي للنار، وبين ما يعم جميع طباقها والمراد الأخير (ومن عذاب القبر) أي: الكائن فيه لمن لم يثبت عند السؤال من الملكين له (ومن فتنة المحيا والممات) أي: من جميع البلايا والمحن الواقعة في الحياة، مما يضر ببدن أو دين أو دنيا للداعي، ولمن له به تعلق، لا سيما مع عدم الصبر. وفي الموت قبيله عند الاحتضار من تسويل الشيطان الكفر حينئذ بطرائق جاءت في الأخبار وبعده من سؤال الملكين له مع الخوف والانزعاج وأهوال القبر وشدائده (ومن شر فتنة المسيح) بالحاء المهملة على المعروف، بل الصواب أي: الممسوح إحدى عينيه أو الماسح للأرض فإنه يقطعها كلها إلا الحرمين في أقصر مدة، وحمى الله منه الحرمين لفضلهما (الدجال) أي: المبالغ في الكذب ْبإدعائه الإِحياء والإِماتة وغيرهما، مما يقطع كل عاقل فضلاً عن المؤمن بكذبه فيه، لكنه لما سخر له طاعة بعض الجوامد عظمت فتنته، واشتدت بليته، حتى أنذر منه كل نبي أمته، وحتى أمرنا - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة منها فإنه لا يسلم منها إلا الفذ النادر أعاذنا الله منها بمنه، وحكمة(7/221)
رواه مسلم (1) .
1422- وعن عليٍّ - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، وَمَا أسْرَفْتُ، وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ المُؤَخِّرُ، لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ" رواه مسلم (2) .
1423- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقديم عذاب القبر على هذه مع أنها أفظع وأخوف، لطول زمنه وأبلغية نكايته، وفظاعة موقعه، واستعاذته - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأربع للتشريع، وتحريض الأمة عليها وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - آمن من ذلك كله (رواه مسلم) .
1422- وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكون من) أي: بعض (آخر ما يقول فيها بين التشهد) أي: وما هو كالجزء منه، وهو الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت) أي: أخفيت (وما أعلنت) وعطف عليه عطف عام على خاص قوله: (وما أسرفت) وزاد في التعميم بقوله: (وما أنت أعلم به مني) وتقدم أن هذا خضوع منه - صلى الله عليه وسلم - لربه، وأداء لحق مقام العبودية، وحث للأمة على الاستغفار، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى بهذا الكلام وما فيه من الإطناب، مع استحالة صدور ذنب منه فمن هو محل صدور الآثام أجدر بالدوام عليه والدأب فيه والملازمة عليه (أنت المقدم وأنت المؤخر) قال البيهقي: قدم من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين، وأخر من شاء عن مراتبهم وثبطهم بمحنها، وأخر الشيء عن حين توقعه لعلمه بما في عواقبه من الحكمة. وقيل: قدم من أحب من أوليائه، وأخر من أبغض من أعدائه، فلا مقدم لما أخر ولا مؤخر لما قدم، ويكون المؤخر والمقدم بمعنى المضل والهادي، قدم من شاء لطاعته بفضله لسعادته، وأخر من شاء بقضائه لشقاوته اهـ (لا إله إلا أنت. رواه مسلم) .
1423- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول) على تقدير الجار
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، (الحديث: 130) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (الحديث: 201) .(7/222)
رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1424- وعنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: من قوله: (في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك) الصحيح أن رب منادى بحذف حرف النداء لا صفة لقوله اللهم عند سيبويه. قال مكي: لأنه قد تغير بما في آخره، وقال أبو البقاء: لأن الميم تمنع من ذلك. قال السفاقسي: يحتمل أن يريد لأنها فاصلة بين النعت والمنعوت، أو لأنها غيرته كما قال مكي، وقال بعضهم: لأنه لما اتصلت به الميم صار بمنزلة صوت نحو يا هناه، ويحتمل أن يكون هذا مراد مكي بقوله قد تغير بما في آخره، وأجاز المبرد والزجاج وصفه اهـ. فيحتمل أن يكون قوله ربنا صفة اللهم (اغفر لي) حذف المعمول طلباً للتعميم (متفق عليه) زاد مسلم قوله: "يتأول القرآن" أي: "يكثر" ذلك مبيناً ما هو المراد من قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره) (2) أي: أتى بمقتضاه وهو وإن لم يقيد بحال من الأحوال، لكنه - صلى الله عليه وسلم - جعله في أفضل الأحوال، وهو الصلاة ليكون أبلغ في الامتثال، وأظهر في التعظيم والإِجلال، قال المصنف: ومعنى وبحمدك أي: وبتوفيقك لي وهدايتك وفضلك على سبحتك، لا بحولي وقوتي ففيه شكر الله تعالى على هذه النعمة والاعتراف بها، والتفويض إليه تعالى وأن كل الإِفضال له. اهـ، وفي الحديث ندب هذا الذكر حال الركوع والسجود.
1424- (وعنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس) بضم أولهما، وهو الأكثر، وبفتحه وهو الأقيس، وهما اسمان وضعا للمبالغة في النزاهة، والطهارة عن كل ما لا يليق بجلاله تعالى وكبريائه وعظمته وإفضاله، أي: ركوعي وسجودي لمن هو البالغ في النزاهة والطهارة المبلغ الأعلى (رب الملائكة) الذين هم أعظم العوالم وأطوعهم لله تعالى وأدومهم على عبادته، ومن ثم أضيفت التربية إليهم بخصوصهم، ولا يستفاد منها فضل الملائكة على بني آدم لما تقرر، من أن سببها كونهم أعظم خلق الله فيما
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: صفة الصلاة، باب: التسبيح والدعاء في السجود وباب: الدعاء في الركوع (2/247) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 217) .
(2) سورة النصر، الآية: 3.(7/223)
وَالرُّوحِ". رواه مسلم (1)
1425- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ:
"فَأمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ - عز وجل -، وَأمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". رواه مسلم (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر. (والروح) جبريل لقوله تعالى: (نزل به الروح الأمين) (3) أو أعظم الملائكة خلقاً، أو حاجب لله تعالى يقوم بين يديه يوم القيامة، وهو أعظم الملائكة لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة، فالخلق ينظرون إليه فمن مخافته لا يرفعون طرفهم إلى من فوقه، أو ملك له عشرة آلاف جناح، جناحان منهما ما بين المشرق والمغرب، له ألف وجه في كل وجه ألف لسان وعينان وشفتان، يسبحان الله إلى يوم القيامة. أقوال هذه بعضها، وثمة أقوال أخر في تعيينه واتفقت على عظمه (رواه مسلم) .
1425- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فأما الركوع) بالرفع مبتدأ خبره (فعظموا فيه الرب) أي: بذكر الثناء عليه والمبالغة في التنزيه والتقديس وأفضله: سبحان ربي العظيم وبحمده، وأقل السنة مرة، وأقل الكمال ثلاث، والأكمل إحدى عشرة، ويسن أن يأتي معه بقوله: "اللهم لك ركعت " الخ ويقدم عليه التسبيح، فإن اقتصر على أحدهما اقتصر على التسبيح، وثلاث تسبيحات معه أفضل من الاقتصار على التسبيح (وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فيه فقمن) بفتح القاف والميم مصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وبكسر الميم وصف يثنى ويجمع ويؤنث. وكذا قمين أي: حقيق (أن يستجاب لكم فيه) لما فيه من القرب المعنوي، المشار إليه بحديث "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" الحديث الآتي عقبه، ومن ثم كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر فيه من الدعاء (رواه مسلم) وهو قطعة من حديث وأوله "إلاّ أني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً". فأما الركوع الخ، وقال المصنف في الأذكار وهذا الحديث هو مقصود الفصل (4) ، وهو تعظيم الرب سبحانه وتعالى
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 223 و 224) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، (الحديث: 207) .
(3) سورة الشعراء، الآية: 193.
(4) أي: الفصل الذي عقده النووي في أذكاره لبيان أذكار الركوع.(7/224)
1426- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ". رواه مسلم (1) .
1427- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ". رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الركوع يأتي لفظ كان، ولكن الأفضل أن يجمع بين الأذكار الواردة فيه إن تمكن من ذلك، بحيث لا يشق على غيره، فإن أراد الاقتصار فيستحب التسبيح ويستحب إذا اقتصر على البعض أن يفعل في بعض الأوقات بعضاً آخر، وهكذا حتى يكون فاعلاً لجميعها.
وكذا ينبغي في أذكار جميع الأبواب اهـ ملخصاً.
1426- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقرب ما يكون العبد من ربه) أقرب مبتدأ مضاف للمصدر المنسبك من ما وصلتها، والخبر محذوف وجوباً، أي: أقرب ما يكون العبد من ربه قرباً معنوياً حاصل إذا كان (وهو ساجد) الجملة الحالية سادة مسد الخبر المحذوف، فلذا وجب حذفه. والدليل على أنها ليست خبراً أن الجملة الواقعة خبراً لا يدخلها الواو، وأخذ منه رد القول بالجهة لله تعالى عن ذلك (فأكثروا الدعاء) أي: فيه لأنه من مواطن الإِجابة، وظاهر أنه أولاً يقدم الذكر الوارد فيه وأفضله سبحان ربي الأعلى وبحمده، وأقل السنة مرة والكمال ثلاث، وأكمل ما يكون إحدى عشرة، ويزيد عليه قوله: اللهم لك سجدت الخ (رواه مسلم) ورواه أبو داود والنسائي.
1427- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده) تشريعاً للأمة أو لغيره مما تقدم قريباً (اللهم اغفر لي ذنبي كله) توكيد للإِحاطة والشمول أتى به، لدفع توهم أن المراد به ذنب مخصوص، ولبيان أن العوم المفاد من إضافته مراد (دقه) بكسر الدال المهملة، أي: صغيره وقدم سلوكاً للترقي في السؤال الدال على التدريج في ترجي الإِجابة، أو إشارة إلى أن الكبائر إنما تنشأ غالباً عن الصغائر، أو الإِصرار عليها وعدم المبالاة بها فهي وسيلة، والوسيلة من حقها التقدم (وجله) بكسر الجيم أي: كبيره (وأوله) وفي نسخة بحذف الواو (وآخره وعلانيته) بتخفيف التحتية اسم مصدر علن (وسره. رواه مسلم) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 215) .
(2) أخرجه مسلم: في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 216) .(7/225)
1428- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: افْتَقَدْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَتَحَسَّسْتُ، فإذا هُوَ راكِعٌ - أَوْ سَاجِدٌ - يقولُ: "سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لاَ إلهَ إِلاَّ أنت" وفي روايةٍ: فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ في المَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وأعُوذُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1428- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: افتقدت) أي: فقدت كما في رواية فزيادة الألف والتاء. للمبالغة في المدلول (النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة) لعلها كانت ليلة النصف من شعبان، ففي جزء ابن الأخضر في فضائل شعبان "عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لها: أي ليلة هذه؟ قالت: الله ورسوله أعلم! قال: هي ليلة النصف من شعبان، قالت: فقام وصلى، فخفف القيام فقرأ الحمد لله وسورة خفيفة، وسجد إلى شطر الليل، وقام في الركعة الثانية فقرأ فيها نحو قراءته الأولى، وكان في سجوده إلى الفجر.
قالت عائشة: فكنت أنتظره قائمة أراوح بين قدمي (1) فلما طال علي ظننت أن الله عز وجل قد قبض رسوله فدنوت منه حتى مسست أخمص قدميه فتحرك فسمعته يقول في سجوده: أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك الخ، فقلت: يا رسول الله لقد سمعتك تقول في سجودك الليلة شيئاً ما سمعتك تذكره قط؟ قال: وعلمت ذلك؟ قلت: نعم. قال: تعلميهن وعلميهن، فإن جبريل أمرني أن أكررهن في السجود" وأخرجه محمد بن عيسى بن حبان من حديث أبي سعيد الخدري عن عائشة فذكره كذلك (فتحسست) بالمهملة أي: تطلبته (فإذا) فجائية (هو راكع أو) شك من الراوي (ساجد يقول) أي: في الركن الذي كان فيه منهما (سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت وفي رواية) أي: لمسلم أيضاً (فوقعت يدي على بطن قدميه) يحتمل أنه كان من وراء حائل فلا دليل فيه لعدم النقض بلمس الأجنبية؛ لأن وقائع الأحوال متى طرقها الاحتمال سقط بها الاستدلال (وهو في المسجد وهما منصوبتان) فيه سن نصب القدمين، ويجب أن يكون رءوس أصابعهما للقبلة (وهو يقول) أي: في سجوده (اللهم إني أعوذ) أي: أعتصم وأتحفظ (برضاك) عني ففيه تضمن لسؤال الرضا عنه (من) وقوع (سخطك) بفتحتين وبضم فسكون الانتقام (و) أعوذ (بمعافاتك) أي: بعفوك وأتى بالمفاعلة مبالغة، وصرحّ بهذا مع تضمن الأول له؛ لأن الإِطناب في مقام الدعاء محمود، ولأن المطابقة أقوى من التضمن، على أن الراضي قد يعاقب لمصلحة أو لحق الغير، فكان التصريح بذلك لا بد منه (من عقوبتك) لي وهذا باب التدلي من صفات الذات
__________
(1) أي: أقوم على إحداهما مرة وعلى الآخرى مرة.(7/226)
"أيعجزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكْسِبَ في كلِّ يومٍ ألْفَ حَسَنَةٍ! " فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ ألفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: "يُسَبِّحُ مِئَةَ تَسْبِيحَةٍ فَيُكْتَبُ لَهُ ألْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ ألفُ خَطِيئَةٍ". رواه مسلم.
قَالَ الحُمَيْدِيُّ: كذا هُوَ في كتاب مسلم: "أَوْ يُحَطُّ" قَالَ البَرْقاني: ورواه شُعْبَةُ وأبو عَوَانَة، وَيَحْيَى القَطَّانُ، عن موسى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أيعجز) بكسر الجيم على الأفصح (أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل) لم أقف على من سماه (من جلسائه كيف يكسب ألف حسنة قال: يسبح مائة تسبيحة) أي: كأن يقول سبحان الله مائة مرة (فيكتب) بالتحتية وفي أخرى بالفوقية وبكل منهما جاء القرآن ففي آية (من بعد ما جاءتهم البينات) (1) وفي أخرى: (وجاءهم البينات) (2) والفعل مبني للمفعول، وترك ذكر الفاعل للعلم به وهو الله تعالى واللام في (له) للنفع كهي في قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه) (3) والظرف في محل الحال قدم من تأخير ونائب الفاعل (ألف حسنة أو) يحتمل أن تكون بمعنى الواو كما في قول الشاعر:
جاء الخلافة أو كانت له قدراً
ويؤيده مجيئه بها في اللفظ الثاني ويحتمل أنها للتنويع فنوع يكتب له بالتسبيح مائة ألف حسنة، لأنه حسنة، وقد قال تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (4) وآخر يحط عنه بذلك ألف خطيئة من الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، ويحتمل أنها للشك من الراوي (يحط عنه ألف خطيئة رواه مسلم) في الدعوات وكذا رواه فيها الترمذي. وقال: حسن صحيح، والنسائي في اليوم والليلة (قال) الحافظ أبو عبد الله محمد بن نصر (الحميدي) بضم المهملة وفتح الميم وسكون التحتية، نسبة لجده الأعلى الأندلسي صاحب كتاب الجمع بين الصحيحين (كذا هو في كتاب مسلم) ثم بين المشار إليه بقوله: (أو يحط) أي: بالهمزة قبل الواو (قال) الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب المحدث الصالح (البرقاني) بفتح الموحدة وبكسرها، نسبة لقرية كانت بنواحي خوارزم خربت كذا في لب اللباب. قال الحافظ في فتاويه التي جمعها تلميذه السخاوي: كل ما ينقله البرقاني إنما هو من كتابه المستخرج على الصحيحين، فإنه جمع كتاباً جمع فيه بين الصحيحين، ورتبه على أسماء الصحابة، وعليه عول الحميدي في الجمع بين الصحيحين اهـ (ورواه شعبة) أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة، الآية: 213.
(2) سورة آل عمران، الآية: 86.
(3) سورة فصلت، الآية: 46.
(4) سورة الأنعام، الآية: 160.(7/228)
الَّذِي رواه مسلم من جهتِهِ فقالوا: "ويحط" بغير ألِفٍ (1) .
1430- وعن أَبي ذر - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "يُصْبحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقةٌ: فَكُلُّ تَسْبيحَةٍ صَدَقةٌ، وَكُلُّ تَحْميدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبيرَةٍ صَدَقَةٌ، وأمْرٌ بالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ؛ وَيجْزئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن الورد العتكي وهو أول من قيل له أمير المؤمنين في الحديث. قال الحافظ في فتاويه: وهو كما قال البرقاني والحميدي، لكن وجدته في مسند أحمد من طريق شعبة وغيره، بالواو تارة وبأو تارة، وكان الإِمام أحمد شديد الحرص على ألفاظ الرواية اهـ (أبو عوانة) بفتح المهملة وبالنون، الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة متقن (ويحيى) بن سعيد (القطان) البصري قال أحمد: ما رأيت مثله وقال بندار وهو إمام أهل زمانه واختلفت إليه عشرين سنة، فما أظن أنه عصى الله قط، وكان رأساً في العلم والعمل (عن موسى الذي رواه مسلم) في صحيحه (من جهته) أي: من طريقه، وهو موسى الجهني وعليه مدار الحديث، وهو يرويه عن مصعب بن سعد عن أبيه (فقالوا ويحط بغير ألف) وحديث يحيى بن سعيد رواه الترمذي في الدعوات من جامعه. وقال: هذا حديث حسن صحيح، أي: والروايات يفسر بعضها بعضاً وهذا من المصنف، للتنبيه على أن أو ليست للشك، وإن كان محتملاً، بل عاطفة وظاهر كلامه أنها بمعنى الواو. وتقدم أيضاً احتمال أنها على بابها للتنويع، وقد بسطت الكلام في ذلك في شرح الأذكار.
1430- (وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يصبح على كل سلامى) بضم المهملة وباللام والميم أي: عضو (من أحدكم صدقة) أي: عظيمة شكراً لله تعالى على عظيم منته بسلامة ذلك (فكل تسبيحة) أي: كقول سبحان الله (صدقة وكل تحميدة) أي: ثناء على الله بأوصافه العلية نحو الحمد لله (صدقة وكل تهليلة) أي: قول لا إله إلا الله (صدقة وكل تكبيرة) أي: قول الله أكبر (صدقة وأمر) بالرفع وغير النظم لاختلاف النوع (بالمعروف) أي: ما عرف شرعاً من واجب أو مندوب (صدقة ونهي عن المنكر) أي: من محرم أو مكروه (صدقة ويجزي) بفتح التحتية بلا همز وبالضم معه (من ذلك) أي: بدل المذكور من القول والعمل، في أداء شكر النعم التي على كل سلامى (ركعتان يركعهما)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 37) .(7/229)
روايةٍ لَهُ: "سُبْحانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ". وفي رواية الترمذي: "ألا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهَا؟ سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ؛ سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واقتصر عليه العاقولي أي: تسبيحاً عدد خلقه ويجري هذان في قوله: (ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، رواه مسلم، وفي رواية له، سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه) أي: ذاته العلية (سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته) بكسر الميم مصدر كالمد، بمعنى المدد، وهو ما كثرت به الشيء يقال مددت الشيء أمده، ويحتمل أنه جمع مد بالضم للمكيال المعروف فإنه يجمع كذلك، وكلمات الله قيل: كلامه القديم المنزه عن أوصاف الكلام الحادث، وقيل: علمه، وقيل: القرآن، ثم قيل: معناه مثلها في العدد أو في عدم التقدير، أو في الكثرة أي: كل من التسبيح وما معه بمقدار هذه أو عددها لو فرض حصره، فذكر القدر والعدد مجاز عن المبالغة في الكثرة، وإلا فكلماته لا تعد ولا تحصى، ولذا ختم بها إيماءً إلى أن تسبيحه وحمده لا يحدان بعد ولا مقدار، وقيل: فيه ترق، لكن لا يتم ذلك في الكل؛ لأن رضا النفس أبلغ من زنة العرش، ولعله مراد المصنف بقوله والمراد المبالغة في الكثرة؛ لأنه ذكر أولاً ما يحصره العدد الكثير من عدد الخلق، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك، وهو رضا النفس، ثم زنة العرش، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك، وعبر عنه بقوله ومداد كلماته، أي: لا يحصيه عدد، كما لا تحصي كلمات الله تعالى، وصرّح في الأولى بالعدد، وفي الثالثة بالزنة، ولم يصرح في الآخرين بشيء منهما إيذاناً بأنهما لا يدخلان في جنس المعدود والموزون، ولا يحصرهما المقدار لا حقيقة ولا مجازاً، فحصل الترقي من عدد الخلق إلى رضا النفس، ومن زنة العرش إلى مداد الكلمات (وفي رواية الترمذي: ألا أعلمك) بكسر الكاف (كلمات تقولينها: سبحان الله عدد خلقه سبحان الله عدد خلقه سبحان الله عدد خلقه) التكرير لزيادة التفخيم والتعظيم "وقد سأل" المحقق جلال الدين المحلي الحافظ ابن حجر عما ورد من نحو هذا الخبر فقال: ما المراد منه حتى ارتفع فضل التسبيح الأقل زمناً على الأكثر زمناً "فأجاب" قد قيل: في الجواب إن في ألفاظ الخبر سراً تفضل به على لفظ غيره، فمن ثم أطلق على اللفظ القليل أنه أفضل من اللفظ الكثير، ويحتمل أن يكون سببه أن اللفظ القليل مشتمل على عددٍ لا يمكن حصره، فما كان منها من الذكر بالنسبة إلى عدد ما ذكر في الخبر قليل جداً فكان أفضل من هذه الحيثية اهـ. وقد بسطت الكلام في هذا المقام في شرح الأذكار في باب فضل الذكر بنقل(7/231)
سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرشِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرشِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ" (1) .
1432- وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ". رواه البخاري.
ورواه مسلم فَقَالَ: "مَثَلُ البَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، وَالبَيْتِ الَّذِي لا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، مَثَلُ الحَيِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أجوبة الأئمة وكلامهم في ذلك بما تغني مراجعته (سبحان الله رضا نفسه) فيه إطلاق النفس على الله تعالى من غير مشاكلة، واختلف في ذلك فمن منع قال: لتوهم أنه مأخوذ من النفس المستحيل في حقه تعالى ومن أجاز ذلك، لما ورد كذلك قال: إنه مأخوذ من الشيء النفيس، ثم كرر لما تقدم فقال: (سبحان الله رضا نفسه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته سبحان الله مداد كلماته سبحان الله مداد كلماته) فيه شرف هذا الذكر بأي صيغة من صيغه المذكورة. في هذه الأحاديث، وكذا ما يؤدي مؤداها وأن الأجر ليس على قدر النصب، بل لله أن يأجر على العمل القليل بالأجر الجزيل.
1432- (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مثل) بفتحتين (الذي يذكر ربه والذي لا يذكر) أي: صفة من ذكر العجيبة الشأن التي لغرابتها كادت أن تكون في ذلك كالمثل، ولا يخفى ما في التعبير بربه هنا، من البعث على الذكر والرمز إلى الذم لمن تركه كما قال: (مثل الحي والميت) .
فالأول: ظاهره مزين بالحياة والعمل، وباطنه معمور بالسر فيه.
والثاني: ظاهره عاطل وباطنه باطل. وقال العيني: وجه الشبه بين الذكر والحي الاعتداد والنفع والنضرة ونحوها وبين تارك الذكر والميت التعطيل في الظاهر والبطلان في الباطن. (رواه البخاري) (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، (الحديث: 79) .
(2) في نسخ المتن هنا زيادة ورواه مسلم الخ.(7/232)
والمَيِّتِ" (1) .
1433- وعَنْ أبي هُرْيْرَةَ رَضِيَ الفَهُ عَنْة أَنً رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَقولُ اللهُ تعالَى: أَنَا عِنْدَ ظَن عَبْدي بي، وأَنَا مَعَه إِذَا ذَكَرني؛ فَإِنْ ذَكَرَني في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَمسي، وإنْ ذَكَرَني في مَلٍأ ذَكَرْتُهُ في مَلٍأ خَيْرٍ مِنْهُمْ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1433- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى) تقدم أن هذه إحدى الصيغ لرواية الحديث القدسي، والمشهور أن يقال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا عند ظن عبدي بي) قال التوربشتي: الظن فيه بمعنى اليقين أي أنا عند يقينه بي في الاعتماد على الاستيثاق بوعدي والرهبة من وعيدي والرغبة فيما عندي.
وقال ابن حجر في فتح الإِله: جاء في رواية: فلا يظن بي إلا خيراً فإني أحققه له، ولا يظن بي شراً فإني أحققه له لتقصيره بذلك، لأن رحمتي سبقت غضبي ومن ثم كان اليأس من رحمة الله كفراً كما أن أمن مكره كذلك (وأنا معه) أي: بالحفظ من الشيطان وجنده، أو بالتوفيق والإِعانة (إذا ذكرني) بلسانه أو قلبه، ثم فرع عليه ما يفيد أنه مع الذاكر سواء ذكره في نفسه أو مع غيره فقال: (فإن ذكرني في نفسه) أي: سراً وإخلاصاً وبعداً عن مظان الرياء (ذكرته في نفسي) ذكر هذا مع استحالة الظرفية، والنفس على الله للمشاكلة على حد (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) (2) قال التوربشتي: الذكر من الله حسن قبوله منه والمجازاة له بالحسنى. والمراد من هذا أن الله يؤتي المسر بذكره ثوابه سراً على منوال عمله، أي: فيخفي ذلك عن ملائكته، ويعطيه من غير أن يكل إثابته إلى مخلوق، وفائدة ذكر الله له في الغيب الاصطفاء والاستئثار، وأنه تعالى إنما يدع علم الشيء بمكان من الغيب استئثاراً به، واصطفاءً له، وفيه صيانة سر العبد من اطلاع الملأ الأعلى وتوقي عمله عن إحاطة الخلق بكنه ثوابه، ونظيره في هذا حديث "الصوم لي وأنا أجزي به" (وإن ذكرني في ملأ) من الذاكرين (ذكرته في ملأ خير منهم) أي: وهم الملائكة، ولا دليل فيه لتفضيل مطلق الملك على البشر، لإِمكان أن يحمل على أن المراد من الملائكة خواصهم، وهو الأفضل من عوام البشر، كما يعلم من تفصيل التفضيل، بين النوعين المقرر في كتب علم الكلام، أي: أن خواص البشر من الأنبياء والمرسلين أفضل من خواص الملك، وخواصهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: فضل ذكر الله عز وجل (11/175 و117) .
(2) سورة المائدة، الآية: 116.(7/233)
متفق عَلَيْهِ (1)
1434- وعنه قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبَقَ المُفَرِّدُونَ" قالوا: وَمَا المُفَرِّدُونَ؟ يَا رسولَ الله قَالَ: "الذَّاكِرُونََ اللهَ كثيراً والذَّاكِرَاتِ". رواه مسلم.
وَرُوي: "المُفَرِّدُونَ" بتشديد الراءِ وتخفيفها والمشهُورُ الَّذِي قَالَهُ الجمهُورُ: التَّشْديدُ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كجبريل وميكائيل والكروبيين أفضل من عوام البشر، وعوامهم وهم المطيعون أفضل من عوام الملك، وعوامهم أفضل من العصاة من البشر. قال التوربشتي: فإن ذكر العبد ربه في ملأ في غمارهم أحد المفضلين على الملائكة كالذكر بمسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المفضل على الكل قدر الأمر على أنه بمسمعه - صلى الله عليه وسلم - في أفاضل الملائكة فصار هو، أيضاً من جملة أولئك الملأ فبانضمامهم إليه صار ذلك الملأ خيراً من الملأ الأول، ثم الخيرية محتملة لأن تكون راجعة إلى ما يكون الذكر مصدره أي: ملأ خير من الملأ الذي ذكره فيهم؛ لمواظبة أولئك الملأ أبد الدهر في محال القرب، وأبدية القدس على الدعاء للمؤمنين كما يشهد به قوله تعالى عنهم: (ويستغفرون للذين آمنوا) (3) الآية (متفق عليه) .
1434- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبق المفردون) أي: إلى مرضات المولى، والدرجات العلا، والشهود الأكمل، والحال الأفضل (قالوا وما المفردون) أتى بما لان المسؤول عنه الوصف، فهو كقول (فرعون وما رب العالمين) (4) لأنه سؤال عن صفة الربوبية لا عن ذات الرب (5) وقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم) (6) (يا رسول اللهّ) أي: ما صفتهم حتى نتأسى بهم فنسبق إلى ما سبقوا إليه (قال) صفتهم أنهم (الذاكرون الله كثيراً) تقدم ما يندرج به العبد في الموصوفين بذلك (والذاكرات) أي: الله كثيراً، كما دل عليه السياق فلذا حذف (رواه مسلم، روى المفردون بتشديد الراء وتخفيفها، والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد) قال التوربشتي: روي المفردون بتشديد الراء وكسرها وبفتحها (7) والتخفيف، واللفظان وإن اختلفا في الصيغة، فإن كل واحد منهما في المعنى قريب من
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد، باب: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن ربه (3/125 و326) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى، (الحديث: 2) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى، (الحديث: 4) .
(3) سورة غافر، الآية: 7.
(4) سورة الشعراء، الآية: 23.
(5) الذي في البيضاوي وغيره أن فرعون إنما سأل عن الحقيقة فليتأمل.
(6) سورة النساء، الآية: 3.
(7) قوله وبفتحها لعل صوابه وبكسرها. ع.(7/234)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المائة، لكن تقدم في التهليل ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به. فيحتمل الجمع بكون التهليل أفضل، وأنه مما زيد فيه من رفع الدرجات، وكتب الحسنات، ثم ما جعل مع ذلك من عتق الرقاب قد يزيد على فضل التسبيح وتكفيره جميع الخطايا، لأنه جاء "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار" فيحصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عموماً بعدما عدد منها خصوصاً مع زيادة رفع الدرجات، ويؤيده حديث "أفضل الذكر لا إله إلا الله" وأنها أفضل ما قاله والنبيون من قبله، وأنها كلمة التوحيد والإِخلاص. وقيل: إنها اسم الله الأعظم. ولا يعارض حديث فضل التهليل حديث أبي ذر "قلت يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله؟ قال: إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده" أخرجه مسلم، وفي لفظ سئل "أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفاه الله لملائكته، سبحان الله وبحمده" قال الطيبي: ويمكن أن يكون قوله سبحان الله وبحمده مختصراً من الكلمات الأربع وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لأن سبحان الله تنزيه عما لا يليق بجلاله، وتقديس لصفاته عن النقائص فيندرج فيه معنى لا إله إلا الله، وقوله: وبحمده، صريح في معنى الحمد لله لأن الإِضافة في وبحمده بمعنى اللام ويستلزم ذلك معنى الله أكبر لأنه إذا كان كل الفضل والإِفضال له تعالى ومنه لا من شيء غيره فلا أكبر منه، ومع ذلك كله فلا يلزم فضل التسبيح على التهليل، لصراحة التهليل في التوحيد وتضمن التسبيح له، ولأن نفي الألوهية في قول لا إله نفي لما في ضمنها من الخلق والرزق والإِثابة والعقوبة، وقول إلا الله إثبات لذلك، ويلزم منه نفي ما يضاده ويخالفه من النقائض فمنطوق سبحان الله تنزيه ومفهومه توحيد، ومنطوق لا إله إلا الله توحيد ومفهومه تنزيه، يعني فيكون لا إله إلا الله أفضل، لأن التوحيد أفضل والتنزيه ينشأ عنه. وقد جمع القرطبي بأن هذه الأذكار إذا أطلق على بعضها أنه أفضل، أو أحب إلى الله تعالى فالمراد إذا انضمت إلى أخواتها بدليل حديث سمرة عند مسلم "أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا يضرك بأيهن بدأت" الحديث، ويحتمل أن يكتفي في ذلك بالمعنى فيكون من اقتصر على بعضها كفي، لأن حاصلها التعظيم والتنزيه، ومن عظمه فقد نزهه، وبالعكس. قال الحافظ في الفتح: ويمكن الجمع بأن من مضمرة في قوله "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وفي قوله: "إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله"، بناء على أن لفظ أفضل وأحب متساويان، لكن يظهر مع ذلك تفضيل لا إله إلا الله، لأنها ذكرت بالتنصيص عليها بالأفضلية الصريحة، وذكرت مع أخواتها بالأحبية فحصل لها الفضل تنصيصاً وانضماماً اهـ ملخصاً، وقال الطيبي: قال بعض المحققين: إنما جعل التهليل أفضل الذكر، لأن لها تأثيراً في تطهير الباطن عن الأوصاف الذميمة التي هي معبودة في(7/236)
رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1437- وعن عبد الله بن بسر - رضي الله عنه -: أنَّ رجلاً قَالَ: يَا رسولَ الله، إنَّ شَرَائِعَ الإسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَليَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيءٍ أَتَشَبثُ بِهِ قَالَ: "لا يَزالُ لِسَانُكَ رَطباً مِنْ ذِكْرِ الله". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الظاهر. قال تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) (3) فيفيد نفي عموم الإِلهية بقوله " لا إله وإثبات الوحدانية بقوله إلا الله، ويعود الذكر من ظاهر اللسان إلى باطن الجنان، فيتمكن فيه ويستولي على جوارحه، ويجد حلاوة هذا من ذاق. اهـ (رواه الترمذي) بزيادة: وأفضل الدعاء الحمد لله (وقال: حديث حسن) قال الحافظ في الفتح: ورواه النسائي، وصححه ابن حبان والحاكم.
1437- (وعن عبد الله بن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة المازني (رضي الله عنه) (4) نزل حمص (5) وروى عنه جرير بن عثمان، وحسان بن نوح، وعاش أربعاً وتسعين سنة، خرّج حديثه الستة (أن رجلاً) لم يتعرض السيوطي في قوت المغتذي لتسميته، وجاء في حديث آخر له: أن أعرابياً سأل أي الأعمال أفضل؟ فقال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله اهـ وبه يعلم أنه من البادية (قال: يا رسول الله إن شرائع الإِسلام) جمع شريعة بمعنى مشروعة أي: مشروعاته من واجب، أو مندوب التي شرعها الله لعباده من الأحكام (قد كثرت علي) أي غلبتني حتى عجزت عنها لضعفي وقلة جهدي (فأخبرني بشيء أتشبث) بفتح الفوقية والمعجمة والموحدة وبالثاء المثلثة، أي: أتعلق وأعتصم (به) ليكون مغنياً لي عن النوافل التي كثرت علي فعجزت عن استقصائها، ثم الفعل يجوز فيه الرفع على أن الجملة صفة شيء، والجزم على أنها جواب شرط مقدر؛ لكونها في جواب الطلب (قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) قال الطيبي: رطوبة اللسان عبارة عن سهولة جريانه، كما أن يبسه عبارة عن ضده، ثم إن جريان اللسان حينئذ عبارة عن مداومة الذكر فكأنه قال: دوام الذكر فهو من أسلوب قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (6) وقال العاقولي: بعد
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة (الحديث: 3383) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: في فضل الذكر (الحديث: 3375) .
(3) سورة الجاثية، الآية: 23.
(4) الأولى (عنهما) لأن أباه صحابي كما في الاستيعاب.
(5) أي ومات بها سنة ثمان وثمانين وهو آخر من مات بالشام اهـ استيعاب.
(6) سورة آل عمران، الآية: 102.(7/237)
إسناده صحيحٌ (1) .
1440- وعَنْ سَعْدِ بنِ أَبي وقاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلى امْرَأَةٍ وبَيْنَ يَديْها نَوى أوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ فَقالَ: "أُخْبِرُكَ بِما هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجهاد يخلص منه في زمان يسير، لأن الصبر على مضاضة القتل ساعة واحدة، والصبر على مداومة الحضور مع الذكر طويل، وفي فتح الباري: الجمع بحمل حديث الباب ونحوه مما يدل على أن الذكر أفضل من سائر الأعمال على الذكر الكامل، وهو ما اجتمع فيه ذكر اللسان والقلب والتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، فالذي يحصل له ذلك أفضل من المجاهد للكفار من غير استحضار لذلك، وإن أفضلية الجهاد بالنسبة لذكر اللسان المجرد فمن اجتمع له كل ذلك بأن ذكر الله بقلبه ولسانه واستحضر عظمته تعالى في كل حال، وقاتل الكفار مثلاً فهو الذي بلغ الغاية القصوى والعلم عند الله اهـ. وفي فتح الاله: يمكن الجمع بحمل الخيرية هنا على أنها من وجه، هو امتلاء القلب بالذكر المستلزم لدفع الشيطان، وطرده عن ساحة القلب الذي بطهارته وصلاحه يطهر ويصلح البدن كله، فالذكر لتأثيره فيه ما لا يؤثره الإِنفاق وبذل النفس يكون خيراً منهما من هذه الحيثية، وإن كانا أفضل منه من سائر الحيثيات غير ذلك، فاعتبار قيد الحيثية يدفع التنافي فتأمله. وقول ابن عبد السلام في قواعده يعني السابق عنه جارٍ على الأخذ بظاهر الحديث، مع قطع النظر عن مقتضى كلام أئمة المذهب اهـ. ملخصاً (رواه الترمذي) ومالك وأحمد وابن ماجه، إلا أن مالكاً وقفه على أبي الدرداء أي: وذلك غير ضار، لأن مثله لا يقال رأياً فهو مرفوع حكماً، ولأن الأصح تقديم الرفع على الوقف (قال الحاكم أبو عبد الله) صاحب المستدرك (إسناده صحيح) .
1440- (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة) يحتمل كونها صفية بنت حيي فقد جاء عنها عند الترمذي وغيره حديث فيه نحو ما في هذا الحديث، ويحتمل كونها جويرية السابق ذكر حديثها، وقد أثار الاحتمالين صاحب السلاح، ويحتمل أنها غيرهما ولعلها كانت من محارم سعد، أو كان ذلك قبل نزول الحجاب، إن نظر لوجهها، وإلا فلا إشكال وأما هو (2) - صلى الله عليه وسلم - فمن خصائصه أن الأجانب منهن بمنزلة المحارم منه
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، [باب: 6] ، (الحديث: 3377) .
(2) هذا إنما يأتي على الاحتمال الثالث.(7/240)
مِنْ هَذَا - أَوْ أفْضَلُ -" فَقَالَ: "سُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا خَلَقَ في السَّمَاءِ، وسُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا خَلَقَ في الأرْضِ، وسُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وسُبحَانَ الله عَدَدَ مَا هو خَالِقٌ، واللهُ أكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، والحَمْدُ للهِ مِثْلَ ذَلِكَ؛ وَلاَ إلَهَ إِلاَّ اللهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ مِثْلَ ذَلِكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". (1) .
1341- وعن أَبي موسى - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في جواز الخلوة بهن، والدخول عليهن للأمن من الفتنة لعصمته - صلى الله عليه وسلم - (وبين يديها نوى) بالقصر، وهو العجم (2) واحدة نواة، والجمع نوايات وأنواء كما في المصباح (أو حصى) بالقصر واحده حصاة (تسبح به فقال: ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا) أي: التسبيح بما عندها من النوى أو الحصى (أو أفضل) شك من سعد، ويحتمل أن أو بمعنى الواو، وإنما كان أفضل؛ لأن قوله عدد ما خلق وما ذكر بعده يكتب له به ثواب بعدد المذكورات كما علم مما تقدم في حديث جويرية. وما تعده بالنوى أو الحصى قليل تافه بالنسبة لذلك الكثير الذي لا يعلم كنهه إلا بارئه (فقال سبحان الله عدد ما خلق) ما عام في الأجناس كلها ما يعقل منها وما لا يعقل (في السماء وسبحان الله) أتى بالعاطف لاختلاف المقدر به (عدد ما خلق في الأرض وسبحان الله عدد ما) خلق (بين ذلك) أي: المذكور من السماء والأرض أو المذكور مما خلق فيهما (وسبحان الله عدد ما هو خالق) أي: خالقه من بدء الخلق إلى منتهاه. قال العاقولي: أجمل بعد التفصيل لأن اسم الفاعل إذا أسند إلى الله تعالى أفاد الاستمرار فلا يقصد منه زمان دون زمان بل استغراق سائر الأزمنة. قال في فتح الإِله: إلا أن يقال أن مقابلته بخلق يدل على أن المراد عدد ما خلق قبل تكلمي بهذا الذكر وعد ما هو خالق بعده إلى ما لا نهاية له وهذا أولى (والله أكبر مثل ذلك) بالنصب على المصدر كالنظاير قبله (والحمد لله مثل ذلك. ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك. رواه الترمذي وقال: حديث حسن) غريب. قال في السلاح: ورواه أبو داود، والنسائي، والحاكم في مستدركه، وابن حبان في صحيحه.
1441- (وعن أبي موسى) الأشعري (رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا) بفتح
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 114] ، (الحديث: 3568) .
(2) في الصحاح: العجم بالتحريك النوى وكل ما كان في جوف مأكول كالزبيب وما أشبهه اهـ.(7/241)
أدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ " فقلت: بلى يَا رسولَ الله قَالَ: "لا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ" متفق عَلَيْهِ (1) .
245- باب ذكر الله تَعَالَى قائماً أَوْ قاعداً ومضطجعاً ومحدثاً وجنباً وحائضاً إِلاَّ القرآن فَلاَ يحل لجنب وَلاَ حائض
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (إنَّ في خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالهمزة وتخفيف اللام للتنبيه (أدلك على كنز من كنوز الجنة) أي: ذخيرِة من ذخائرها أو من محصلات نفائسها. قال المصنف: المعنى أن قائلها يحصل ثواباً نفيساً يدخر له في الجنة (فقلت: بلى يا رسول الله قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) أي: لا تحويل للعبد عن معصية الله، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله. وقيل: معنى لا حول لا حيلة. وقال النووي: هي كلمة استسلام وتفويض، وأن العبد لا يملك من أمره شيئاً، ولا له حيلة في دفع شر، ولا في جلب خير إلا بإرادة الله تعالى (متفق عليه) ورواه ابن ماجه، والحاكم في مستدركه، من حديث أبي هريرة بلفظ "ألا أدلك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقول الله: أسلم عبدي واستسلم".
باب فضل ذكر الله تعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً
حال من فاعل المصدر المحذوف، أي: ذكر العبد الله حال قيامه الخ، والمراد من المضطجع ما يعم المستلقي ونحوه (ومحدثاً) حدثاً أصغر، من نحو نوم بدليل قوله (وجنباً وحائضاً) والنفساء إما داخلة في الحائض؛ لأن النفاس دم حيض مجتمع وإن لم يعط حكمه من كل وجه، أو مقايسة عليها (إلا القرآن) وبين وجه الاستثناء بقوله: (فلا يحل لجنب ولا حائض) شيء منه ولو حرفاً واحداً بقصد القرآن ولو مع غيره، أما عند قصد نحو الذكر أو الإِطلاق فلا يحرم، بل يستحب لهما التسمية عند نحو الأكل قاصدين التبرك، وكذا الأذكار المطلوبة في أماكنها من نحو إنا الله وإنا إليه راجعون عند المصيبة. (قال الله تعالى إن في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: قول لا حول ولا قوة إلا بالله وفي المغازي والقدر (11/159) ، وأخرجه مسلم في كتاب: الدعاء والذكر، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر (الحديث: 2704) .
(2) سورة آل عمران، الآيتان: 190، 191.(7/242)
لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) .
1442- وعَنْ عائِشَةَ رَضِيَ الفهُ عَنْهَا قَالَتْ: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ اللهَ عَلى كل أَحْيانِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) .
1443- وعَنِ ابنِ عَباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَوْ أَنَ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتى أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللهُمَّ جَنبْنا الشَّيْطانَ وجَنبِ الشَّيْطانَ مَا رَزَقْتَنا. فَقُضِيَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خلق السموات والأرض) إذ جعل. الأولى: مرفوعة لا على عمد. والثانية: مدحوة مسطحة على ماء جمد (واختلاف الليل والنهار) أي: وفي اختلافهما بالظلمة والإِضاءة، أو تعاقبهما أو تكوير أحدهما على الثاني وإيلاجه فيه، أو تعارضهما بالطول والقصر، فتارة يطول هذا أو يقصر ذاك ثم يعتدلان، ثم يقصر الذي كان طويلاً ويطول الذي كان قصيراً، كل ذلك بتقدير العزيز العليم، ويجوز عطف الاختلاف على مدخول الخلق، ويراد به التقدير (لآيات لأولي الألباب) دلالات على الوجود والوحدة، والعلم، والقدرة لذوي العقول الخالصة، وقد ورد ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (الذين يذكرون الله) وصف لأولي (قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) أي: يصلون قائمين، فإن لم يستطيعوا فقاعدين، فعلى (2) جنب، أو المراد مداومة الذكر، فإن الإِنسان قلما يخلو عن إحدى هذه الحالات.
والثاني: أنسب بالترجمة.
1442- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على) أي في (كل) أي: جميع (أحيانه) سواء كان متطهراً من الحدثين أو به أحدهما، وظاهر أنه ليس المراد حال الإِحداث، فقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله يمقت الكلام حينئذ، وجاء أن الكلام وقت الجماع منهي عنه (رواه مسلم) في الجامع الصغير، ورواه أحمد وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
1443- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أن) بفتح الهمزة بتقدير فعل عامل بعد لولا اختصاصها بالفعل أي: لو ثبت أن (أحدكم) أي: الواحد منكم (إذا أتى أهله) أي: عند الجماع أي: إرادته (قال باسم الله) أي: أتحصن ويكتب بالألف، كما قال
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الحيض، باب: ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها، (الحديث: 117) .
(2) لعله (فإن لم يستطيعوا فعلى الخ) . ع.(7/243)
بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ". متفق عَلَيْهِ (1) .
246- باب مَا يقوله عِنْدَ نومه واستيقاظه
1344- عن حُذَيفَةَ، وأبي ذرٍ رضي الله عنهما، قالا: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَحْيَا وَأموتُ" وَإذَا اسْتَيقَظَ قَالَ: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصنف: وحذفها تخفيفاً خاص بالبسملة (اللهم جنبنا الشيطان) أي: بعده عنا يتعدى للثاني مخففاً، ومثقلاً كما في المصباح. قال فيه: جنبت الرجل الشر جنوباً من باب قعد أبعدته عنه، وجنبته بالتثقيل مبالغة اهـ (وجنب الشيطان ما رزقتنا) دخل فيه الجماع، لأن الرزق ما ينتفع به البدن، والجماع منه لما فيه من إذهاب المواد المفسد بقاؤها للبدن (فقضي) عطف على قال (بينهما ولد لم يضره) أي: الشيطان وحذف المعمول ليعم كما جاء في لفظ: لم يضره الشيطان أبداً والمراد أن الضرر الناشيء من تسلط الشياطين كالصرع، وإلقاء الوسوسة في الصدر يندفع بقوله هذا عند إرادة الجماع (متفق عليه) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
باب ما يقوله عند نومه
أي: إرادته، وهو زوال الشعور بسبب انحلال أعصاب الدماغ بالرطوبات الصاعدة إليه من المعدة. والصحيح أنه غير السنة كما يدل عليه عطفه عليها في آية الكرسي، وغير النعاس، وعلامة النوم الرؤيا، وعلامة النعاس سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهمه (واستيقاظه) .
1444- (عن حذيفة وأبي ذر رضي الله عنهما قالا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى) بالقصر كما هو الأفصح (إلى فراشه) أي: دخل فيه أو انزوى إليه (قال: باسمك) أي: بذكر اسمك (اللهم أحيا) ما حييت (و) عليه (أموت) أي: الموت الحقيقي أو الموت المجازي، وهو النوم، فعليه في الحديث استعارة تبعية مصرحة، ووجه شبهه به زوال الشعور، والحركة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس والنكاح باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله، والدعوات، باب: ما يقول إذا أتى أهله، والتوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى (11/161) .
وأخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: ما يستحب أن يقوله عند الجماع، (الحديث: 1160) .(7/244)
أَحْيَانَا بعْدَ مَا أماتَنَا وإِلَيْهِ النُّشُورُ". رواه البخاري (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الاختيارية مع كل منهما، وفيه إيماء إلى أن مقصود الحياة، وهو التقرب إلى الله تعالى بأداء عبادته لما فات من النائم ألحق بالميت فأطلق عليه ذلك. وقال العيني: قيل: فيه دليل على أن الاسم غير المسمى، ومنع لا سيما أن لفظ الاسم يحتمل أن يكون مقحماً كهو في قوله ثم اسم السلام عليكما (وإذا استيقظ) أي: تيقظ (قال: الحمد لله الذي أحيانا) بالاستيقاظ المعد لتحصيل مراضي الله تعالى (بعدما أماتنا) أي: بالنوم الذي هو أخو الموت فيما تقدم.
فهو كما تقدم استعارة مصرحة تبعية. وقال الكرماني: الموت تعلق انقطاع الروح بالبدن، وذلك قد يكون ظاهراً فقط وهو النوم. ولذا يقال إنه أخو الموت وظاهراً وباطناً، وهو الموت المتعارف. اهـ. وظاهره أن الموت مشترك بينهما فيكون ما في الحديث إطلاق حقيقي، وقال أبو إسحاق الزجاج: النفس التي تفارق الإِنسان عند النوم هي التي للتمييز، والتي تفارقه عند الموت هي التي للحياة، وهي التي يزول بزوالها النفس (وإليه النشور) هو الحياة بعد الموت. يقال نشر الميت ينشر نشوراً، والمراد بالنشور إليه تعالى الذهاب إليه ليجازي العامل بمقتضى عمله خيراً أو شراً، وأتى بهذه ليحمل استحضارها المرء على التيقظ للإِقبال على مولاه يقظة ونوماً، فلا يقضي به نومه لتكاسل أو تباطؤ عما طلب منه، ولا تيقظه لغفلة عما طلب منه من دوام مراقبة وحضور (رواه البخاري) في الدعوات، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في الكبرى، وابن ماجه كلهم من حديث حذيفة. وقد رواه البخاري من حديث أبي ذر أيضاً، وكذا رواه النسائي في الكبرى أيضاً، ورواه مسلم والنسائي من حديث البراء، إلا أنه قال: إذا دخل مضجعه من الليل بدل قوله: إذا أوى إلى فراشه. قال الحافظ في أمالي الأذكار: بعد أن أخرجه من حديث حذيفة وأبي ذر والبراء، وذكر مخرج حديث كل من ذكرناه ما لفظه، وحاصل ما سقته أن المتن متفق عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه البخاري من حديث حذيفة وأبي ذر ولم يخرج حديث البراء إلاّ مسلم فقط، ففات الشيخ التنبيه على تخريج مسلم له. اهـ والحديث سبق مشروحاً في باب آداب النوم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا نام وفي التوحيد والسؤال بأسماء الله تعالى (11/96، 97، 111) .(7/245)
247- باب فضل حِلَقِ الذكر والندب إِلَى ملازمتها والنهي عن مفارقتها لغير عذر
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُريدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) .
1445- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ للهِ تَعَالَى مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وَجَدُوا قَوْمَاً يَذْكُرُونَ اللهَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب فضل حِلَقِ
بكسر المهملة وفتح اللام، جمع حلقة بفتح المهملة وسكون اللام، نحو قصعة وقصع، وبدرة وبدر قاله الأزهري: وقيل: حلق بفتحتين على غير قياس. وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أن حلقة بفتح الحاء واللام لغة في السكون، قال: وعليه فالجمع بفتح الحاء كقصبة وقصب، وجمع ابن السراج بينهما فقال: قالوا حلق بفتح الحاء ثم خففوا الواحد حين ألحقوه الزيادة اهـ من المصباح (الذكر) بكسر الذال تقدم معناه (والندب) أي الدعاء (إلى ملازمتها) بذكر فضلها (والنهي) تنزيهاً (عن مفارقتها لغير عذر، قال تعالى: واصبر نفسك) أي: احبسها (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) طرفي النهار (يريدون وجهه) أي: يريدون الله لا عرضاً من الدنيا (ولا تعد) تنصرف (عيناك) بصرك (عنهم) أي: إلى غيرهم بالنظر إلى ذوي الغنى، أو الرتب من كفار قريش الطالبين منه - صلى الله عليه وسلم - أن يفرد لهم مجلساً لا يكون فقراء الصحابة فيه، وهو سبب النزول وعدي تعد بعن، مع أنه متعد بنفسه لتضمنه معنى النبوة، يقال: ثبت عنه عينه إذا ازدرته فلم تعلق به.
1445- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق) بضمتين والجملة الفعلية في محل الصفة لاسم إن والطرق خبرها قدم للاختصاص (يلتمسون أهل الذكر) جملة حالية من ضمير يطوفون، أو صفة بعد صفة، والذكر يتناول الصلاة، وقراءة القرآن، والدعاء بخير الدارين، وتلاوة الحديث، ودراسة العلم، ومناظرة العلماء ونحوها. قال الحافظ في الفتح: الأشبه اختصاص ذلك بمجالس
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 28.(7/246)
عز وجل -، تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِم إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْألُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أعْلَم -: مَا يقولُ عِبَادي؟ قَالَ: يقولون: يُسَبِّحُونَكَ، ويُكبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، ويُمَجِّدُونَكَ، فيقول: هَلْ رَأَوْنِي؟ فيقولونَ: لا واللهِ مَا رَأَوْكَ. فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْني؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التسبيح والتكبير ونحوهما. والتلاوة فحسب، وإن كان قراءة الحديث، ودراسة العلم، والمناظرة فيه من جملة ما دخل تحت مسمى ذكر الله تعالى (فإذا وجدوا) من الوجدان مفعوله (قوماً يذكرون الله عز وجل) عند مسلم: فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر (تنادوا) وفي رواية الإِسماعيلي: يتنادون، أي: ينادي بعضهم بعضاً دلالة على المطلوب (هلموا) أي: تعالوا وهذا ورد على لغة تميم، وأهل نجد حيث يلحقون بهم ضمائر المخاطب، تأنيثاً وتثنية وجمعاً، ولغة أهل الحجاز استعمالها في الجميع بلفظ واحد، واختلف في أصل هذه الكلمة فقيل: أصلها هل لك في كذا أمه؟ أي: أقصده، فركبت الكلمتان فقيل: هلم أي: اقصد.
وقيل: أصلها هالم بضم اللام وتشديد الميم والهاء، للتنبيه حذفت ألفها تخفيفاً (إلى حاجتكم) وفي رواية إلى بغيتكم (فيحفونهم) بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي: يطوفون ويدورون حولهم (بأجنحتهم) وقيل: معناه يدفون أجنحتهم حول الذاكرين، فالباء للتعدية.
وقيل: للاستعانة. قاله الحافظ في الفتح (إلى السماء الدنيا قال: فيسألهم ربهم) أي سؤالاً صورياً. بدليل قوله لدفع توهم حمله على حقيقته من استكشاف ما يجهله السائل (وهو أعلم بهم) والجملة حالية أو معترضة، ومن حكم السؤال إقرار الملائكة أن في بني آدم المسبحين والمقدسين، فيكون كالاستدراك لما سبق من قولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها) (1) (ما يقول عبادي) الجملة بيان لقوله فيسألهم ربهم، أو مفعول لقول مقدّر أي: قائلاً أولاً تقدير، بل هو ناصب بنفسه؛ لأنه نوع من القول (قال يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك) وفي رواية الإِسماعيلي "مررنا بهم وهم يذكرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك " وفي حديث أنس عن البزار "يعظمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويصلون على نبيك، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم والمجد العز والشرف " (قال: فيقول: هل رأوني) أي: أبصروني (فيقولون: لا والله ما رأوك) قال الحافظ في الفتح: كذا ثبت بلفظ الجلالة في جميع نسخ البخاري، وكذا في بقية المواضع وسقط لغيره (قال: فيقول: كيف لو رأوني؟
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 30.(7/247)
قَالَ: يقُولُونَ: لَوْ رَأوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيداً، وأكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحاً. فَيقُولُ: فماذا يَسْألونَ؟ قَالَ: يقُولُونَ: يَسْألُونَكَ الجَنَّةَ. قَالَ: يقولُ: وَهل رَأَوْها؟ قَالَ: يقولون: لا واللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يقول: فَكيفَ لَوْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يقولون: لَوْ أنَّهُمْ رَأوْهَا كَانُوا أشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصاً، وأشدَّ لَهَا طَلَباً، وأعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يقولون: يَتَعَوَّذُونَ مِنَ النَّارِ؛ قَالَ: فيقولُ: وَهَلْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يقولون: لا واللهِ مَا رَأوْهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة) أتى به كذلك ليزدوج مع ما بعده الممتنع بناء صيغة التفضيل منه؛ لكونه ثلاثياً مزيداً فيه. وإلاّ فأفعل التفضيل يبنى من العبادة ويقال كانوا أعبد لك (وأشد تمجيداً) أعاد أفعل التفضيل ومتعلقه إطناباً (وأكثر لك تسبيحاً) عربه دون ما عربه في قرينه تفنناً (قال: فيقول) هكذا رواية أبي ذر أحد رواة البخاري بالفاء، وفي رواية غيره بحذفها (فما يسألون) وفي الرواية الآتية وماذا يسألوني؟ وعند أبي معاوية فأي شيء يطلبون؟ (قال: يقولون: يسألونك الجنة، وفي رواية جنتك) ثم علمهم بأنهم يسألونها يحتمل أن يكون لسماعهم له منهم، ويحتمل أن ذلك لظهوره وبدوه إذ المكلف يطلب من فضل ربه النعيم وكفاية الجحيم (قال: يقول: وهل رأوها) أي: أبصروها، وعند مسلم كما يأتي: فهل رأوا جنتي (قال: يقولون: لا والله يا رب) أتى به تلذذاً بالخطاب وطلباً لإِطالة الكلام مع الأحباب (ما رأوها قال: فيقول) أي: الله تعالى، ولأبي ذر فيقول (فكيف لو رأوها) الفاء عاطفة على مقدر أي: هذا طلبهم لها وما رأوها فكيف طلبهم لها لو رأوها؟ (قال: يقولون لو أنهم) أي: لو ثبت أنهم (رأوها كانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة) هو هكذا في صحيح البخاري، وفي الفتح للحافظ ما يوهم أنه ليس عنده عليها، وعبارته قوله: كانوا أشد حرصاً: زاد أبو معاوية في روايته عليها، وفي رواية ابن أبي الدنيا "كانوا أشد حرصاً، وأشد طلبة، وأعظم فيها رغبة" اهـ. والظرف في كل من القرائن متعلق بأفعل قبله لا بالمصدر بعده، لمنع تقديم معمول المصدر عليه، ولو ظرفاً على خلاف في الظرف (قال) أي: الله (فمم) بتشديد الميم الثانية وإدغام نون من الجارة في ميمها وأصلها ما استفهامية فحذفت ألفها تخفيفاً أي: فمن أي شيء (يتعوذون) أي: يلوذون بالذكر ويعتصمون منه (قال) كذا هو بالإِفراد، وفي الكلام حذف، وهو قال: يقولون يتعوذون من النار، فسقط من قلم الشيخ يقولون، ففاعل قال: هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفاعل يقولون الملائكة (يتعوذون من النار) أي: بك فحذف لدلالة المقام عليه (قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال:(7/248)
فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْهَا؟! قَالَ: يقولون: لَوْ رَأوْهَا كانوا أشَدَّ مِنْهَا فِرَاراً، وأشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. قَالَ: فيقولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم، قَالَ: يقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ: فِيهم فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ". متفق عَلَيْهِ. وفي رواية لمسلمٍ عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إن للهِ مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضُلاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقولون لا والله ما رأوها) صرحوا به مع دلالة عليها؛ إطناباً ولما تقدم (قال: فيقول فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فراراً) بكسر الفاء (وأشد لها مخافة) أي: خوفاً، وعدل عنه لما قاله تفخيماً لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى (قال: فيقول فأشهدكم) عطف على مقدّر أي: فأعذتهم فأشهدكم (أني قد غفرت لهم) حذف المفعول؛ للتعميم (قال: يقول ملك من الملائكة فيهم) أي: في جملتهم (فلان) تقدم أنه كناية عما يجهل من الإِعلام (ليس منهم) صفة أو حال مما قبله؛ لتخصيصه بتقديم الخبر (إنما جاء لحاجة) أي: غير ما ذكر من الذكر وما بعده (قال: هم الجلساء) أي: الكاملون المكملون (لا يشقى جليسهم) صفة أو حال أو خبر بعد خبر، أو مستأنفة لبيان المقتضى لكونهم أهل الكمال. قال الحافظ في الفتح: أخرج جعفر في الذكر عن الحسن البصري قال: "بينما قوم يذكرون الله إذ أتاهم رجل فقعد إليهم قال: فنزلت الرحمة ثم ارتفعت فقالوا: ربنا فيهم عبدك فلان! قال: غشوهم رحمتي، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين، فلو قال: يسعد بهم جليسهم لكان ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود (متفق عليه) فيه أن هذا اللفظ للبخاري فقط أخرجه في الدعوات، من طريق جرير، عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة انفرد به عن مسلم وقوله: (وفي رواية لمسلم) هي المتفق عليها فإنها عند مسلم في الدعوات من طريق وهيب بن خالد، عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري في الدعوات عقيب حديث جرير، إلا أنه لم يسق لفظه (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لله ملائكة سيارة) بفتح المهملة وتشديد التحتية أي: سياحين في الأرض (فضلاً) قال المصنف: أرجح وجوه ضبطه وأشهرها في بلادنا ضم أوليه. وضبط ْأيضاً بضم فسكون ورجحها بعضهم، وادعى أنها أكثر وأصوب، وضبط بفتح فسكون. قال القاضي: هي الرواية عند جمهور مشايخنا في الصحيحين، وبضم أوليه ورفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبضم ففتح آخره ألف ممدودة جمع فاضل، قال العلماء: معناه على(7/249)
يَتَتَبُّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإذَا وَجَدُوا مَجْلِساً فِيهِ ذِكْرٌ، قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِأجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَؤُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّماءِ الدُّنْيَا، فإذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعدُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْأَلُهُمْ اللهُ - عز وجل - وَهُوَ أعْلَمُ -: مِنْ أيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبادٍ لَكَ في الأرْضِ: يُسَبِّحُونَكَ، ويُكبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْألُونَكَ. قَالَ: وَمَاذا يَسْألُونِي؟ قالوا: يَسْألُونَكَ جَنَّتَكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قالوا: لا، أَيْ رَبِّ. قَالَ: فكيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتي؟! قالوا: ويستجيرونكَ. قَالَ: ومِمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جميع الروايات أنهم زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم إلا قصد حلق الذكر (يتتبعون) ضبط بالمهملة من التتبع، وهو البحث والتفتيش عن الشيء وبالغين المعجمة من الابتغاء والطلب. قال المصنف: وكلاهما صحيح (مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم) قال المصنف: كذا في كثير من نسخ بلادنا بالمهملة وبالفاء، وفي بعضها بالضاد المعجمة، أي: حث على الحضور والاستماع، وحكى القاضي عن بعض رواتهم، وحط بالمهملتين واختاره القاضي. قال: ومعناه أي: أشار بعضهم إلى بعض بالنزول، ويؤيدها قوله بعده في رواية البخاري "هلموا إلى حاجتكم" ويؤيد الرواية بالفاء قوله في البخاري "يحفونهم بأجنحتهم" أي: يحدقون ويستديرون حولهم، ويحف بعضهم بعضاً (حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا) أي: أنهم يكثرون في مجلسه حتى يعلو بعضهم على بعض، ويملأوا ما ذكر (فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا) بكسر المهملة الثانية من باب علم (إلى السماء قال فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم، من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد) التنوين فيه للتعظيم (لك) صفة (في الأرض) صفة بعد صفة لا حال؛ لأن شرط مجيء الحال من المضاف إليه مفقود، نعم يجوز جعل الظرف حالاً من المستقر في الظرف قبله وكذا قوله (يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك) فتكون أحوالاً مترادفة، ويجوز أن تكون أحوالاً من المستقر في الظرف قبلها، فتكون على إعراب الظرف، كذلك أحوالاً متداخلة وحذفوا المفعول، طلباً لحصول السؤال عنه فيطول الكلام المستعذب، فالحذف هنا نظير قول موسى (ولي فيها مآرب أخرى) (1) (قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب) بحذف ضمير المتكلم، ومعه غيره والأصل ربنا فيكون مفتوحاً، ويحتمل أن يكون الأصل أي: ربي بياء المتكلم، فحذفت
__________
(1) سورة طه، الآية: 18.(7/250)
يَسْتَجِيرُونِي؟ قالوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ. قَالَ: وَهَلْ رَأوْا نَاري؟ قالوا: لا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟! قالوا: وَيَسْتَغفِرُونكَ؟ فيقولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَألُوا، وَأجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا. قَالَ: فيقولون: ربِّ فيهمْ فُلانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إنَّمَا مَرَّ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ. فيقُولُ: ولهُ غَفَرْتُ، هُمُ القَومُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اجتزاءً بدلالة الكسرة عليها، وهو مضبوط في الأصول من مسلم، والرياض بكسر الباء (قال: فكيف لو رأوا جنتي) سكت الراوي عن جوابهم عن هذا نسياناً وقد بينه في الرواية السابقة عند البخاري (قالوا: ويستجيرونك) أي: يسألونك الجوار أي الأمان (قال: ومما) بإثبات الألف. هكذا في الأصول، وجاء على خلاف الغالب من حذف ألفها عند جرها تخفيفاً، أي: ومن أي شيء (يستجيروني) بنون مخففة، والأصل يستجيرونني بنونين نون الرفع ونون الوقاية، فحذفت أحداهما تخفيفاً وفي تعيينها خلاف، الأرجح أنها نون الوقاية كما قاله ابن هشام (قالوا: من نارك) حذف المتعلق لدلالة وجوده في السؤال عليه (يا رب) غاير بين حرفي النداء تفنناً في التعبير، وأتى بحرف النداء الموضوع للبعيد دون العكس تفخيماً، قاله الشيخ خالد في شرح التوضيح. (قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري) أظهر في محل الإِضمار في الجملتين؛ للتعظيم والتهويل (قالوا: يستغفرونك) كذا هو بحذف الواو في صحيح مسلم مصححاً عليه وهي مقدرة؛ لأنها معطوفة كالجمل قبلها، وليست جواب قوله: (فكيف لو رأوا ناري؟ فيقول: قد غفرت لهم) بدأ به في الجواب؛ لأنه أقرب مطلوب؛ وأسنى مرغوب؛ ولأن ما بعده مبني عليه فلذا فرع عليه قوله: (فأعطيتهم ما سألوا) يعني الجنة (وأجرتهم) بالقصر أي: آمنتهم (مما استجاروا) بحذف العائد المنصوب بما قبله محلاً والمجرور بمن أي: منه (قال: يقولون رب فيهم فلان عبد خطاء) بفتح المعجمة وتشديد المهملة وبالهمزة آخره، أي: كثير الخطايا (إنما مر) هو بمعنى قوله فيما قبله، إنما جاء لحاجة (فجلس معهم قال: فيقول: وله غفرت) بتقديم الظرف، للاهتمام (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) قال الحافظ في الفتح: في الحديث فضل الذكر والذاكرين، وفضل الاجتماع على ذلك، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل عليهم إكراماً لهم، وإن لم يشاركهم في أصل الذكر. وفيه محبة الملائكة لبني آدم واعتناؤهم بهم، وفيه أن السؤال قد يصدر ممن هو أعلم بالمسؤول عنه من
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: فضل ذكر الله عز وجل (11/177 و179) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل مجالس الذكر، (الحديث: 25) .(7/251)
1446- وعنه وعن أَبي سعيدٍ رضي الله عنهما، قالا: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقْعُدُ قَومٌ يَذكُرُونَ اللهَ - عز وجل - إِلاَّ حَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ؛ وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ". رواه مسلم (1) .
1447- وعن أَبي واقدٍ الحارث بن عوف - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسؤول؛ لإِظهار الغاية بالمسؤول عنه، والتنويه بقدره والإِعلان بشرف منزلته، وفيه بيان كذب من ادعى من الزنادقة أنه يرى الله تعالى جهراً في الدنيا، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رفعه "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" وغير ذلك.
1446- (وعنه) أي: أبي هريرة (وعن أبي سعيد) الخدري (رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقعد قوم) التقييد بالقعود وبالقوم جري على الغالب، فالاجتماع للذكر بأي ومن أي ترتب عليه ما يأتي، ويؤيده أنه تقدم من حديث أبي هريرة "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله " والحديث تقدم بجملته في باب قضاء حوائج المسلمين (يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة) أي: أحدقت بهم، وطافت بحفافيهم تشريفاً لهم وتنويهاً لما هم فيه من الذكر (وغشيتهم الرحمة) أي: آثارها من الفيض والفضل (ونزلت عليهم السكينة) بوزن فعيلة ما تسكن به نفسهم قال التوربشتي: هي الحالة التي يطمئن بها القلب فيسكن عن الميل إلى الشهوات، وعن الرعب والأصل فيها الوقار، وقيل: هي ملكة تسكن قلب المؤمن وتؤمن اهـ (وذكرهم الله فيمن عنده) عندية مكانة، لاستحالة المكان في حقه تعالى (رواه مسلم) .
1447- (وعن أبي واقد) بالقاف والمهملة (الحارث بن عوف) بالفاء هو الليثي من بني ليث بن بكر بن عبد مناة من كنانة بن خزيمة، مشهور بكنيته، وما ذكره المصنف في اسمه واسم أبيه، هو أحد الأقوال، وقيل: عوف بن الحارث، وقيل: الحارث بن مالك، قيل: إنه شهد بدراً، وقيل: لم يشهدها، وكان معه لواء بني ضمرة، وبني ليث، وبني سعد بكر بن عبد مناة، يوم الفتح، وقيل، أنه من مسلمة الفتح. قال ابن الأثير: والصحيح أنه شهد الفتح مسلماً، يعد في أهل المدينة، وشهد اليرموك بالشام، وجاور بمكة سنة، ومات بها، ودفن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، (الحديث: 39) .(7/252)
بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ في المَسْجِدِ، والنَّاسُ مَعَهُ، إذْ أقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فأقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَذَهَبَ واحِدٌ؛ فَوَقَفَا عَلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. فأمَّا أحَدُهُما فَرَأَى فُرْجةً في الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأمَّا الآخرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وأمَّا الثَّالثُ فأدْبَرَ ذاهِباً. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "ألاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ: أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأوَى إِلَى اللهِ فآوَاهُ اللهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في مقبرة المهاجرين بفخ سنة ثمان وستين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: خمس وثمانين (رضي الله عنه) روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة وعشرون حديثاً، وقال البرقي: جاء عنه سبعة أحاديث، وفي مختصر التلقيح له في الصحيحين أحد وعشرون حديثاً اتفقا على أحد عشر منها، وانفرد البخاري باثنتين، ومسلم بثمانية (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد والناس معه) جملة حالية (إذ أقبل ثلاثة نفر) بفتح أوله تمييز لما قبله أي: ثلاثة، هم نفر لا أنه نوع الثلاثة على عدد نفر فيكونون تسعة، وهذا كما يقال ثلاثة رجال ليس المراد ثلاثة جموع رجل، وهو يطلق على الثلاثة والتسعة وما بينهما كما تقدم، والجملة أضيف إليها الظرف (فأقبل اثنان) ذكره بعد فأقبل ثلاثة إما لأن التقدير فأقبل اثنان منهم وإما لأن إقبال الثلاثة، إقبال إلى المجلس أو إلى جهته، وإقبال الاثنين (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد فوقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما أحدهما فرأى) أي: أبصر (فرجة في الحلقة) بسكون اللام أي: المستديرين بين يديه - صلى الله عليه وسلم - (فجلس فيها وأما الآخر) بفتح الخاء (فجلس خلفهم) أي: خلف أهل الحلقة (وأما الثالث فأدبر ذاهباً) أي: لم يرجع، بل استمر في إدباره وإلا فأدبر مفرغر (1) ذاهباً، قلت أو يكون من قبيل (فتبسم ضاحكاً) (2) أي: حال مؤكدة (فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مما كان فيه من الخطبة أو تعليم العلم أو الذكر (قال: ألا) حرف تنبيه، ويحتمل أن تكون الهمزة للاستفهام ولا نفي، وفي الكلام طي فكأنهم قالوا: أخبرنا فقال: ألا (أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى) بالقصر أي: رجع (إلى الله فآواه الله) بالمد قال أئمة اللغة: في كل منهما القصر والمد ومصدر المقصور أويا على فعول ومصدر الممدود إيواء، ونسبة الإِيواء إلى الله تعالى، وكذا الاستحياء والإِعراض مجاز لاستحالتها في حقه تعالى، فالمراد بها لوازمها من إرادة إيصال الخير، وترك العقاب والإِذلال، أو نحو ذلك، وقرينة الصرف عن الحقيقة فيه وفي مثله مما يستحيل قيامه به تعالى
__________
(1) هكذا في النسخ. ع.
(2) سورة النمل، الآية: 19.(7/253)
وَأمَّا الآخَرُ فاسْتَحْيَى فَاسْتَحْيَى اللهُ مِنْهُ، وأمّا الآخَرُ، فَأعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ". متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1448- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: خرج معاوية - رضي الله عنه - عَلَى حَلْقَةٍ في المَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا أجْلَسَكُمْ؟ قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ. قَالَ: آللهِ مَا أجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذاك؟ قالوا: مَا أجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ، قَالَ: أما إنِّي لَمْ اسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العقل. وفائدته: بيان الشيء بطريق عقلي وزيادة توضيح وتحسين اللفظ، ويسمى مثل هذا المجاز مجاز المشاكلة والمقابلة. انتهى ملخصاً من اللامع الصبيح (وأما الآخر) بفتح الخاء وفيه لكونه استعمله في غير الأخير رد على من زعم أنه لا يستعمل إلا في الأخير (فاستحيا) من المزاحمة لما فيها من التضييق، والحياء كذلك محمود والمذموم فيه الحياء الباعث على ترك التعلم، ولما كان ما فعله من الحياء الممدوح غفر الله له كما قال (فاستحيا الله منه) كما تقدم (وأما الآخر) بفتح المعجمة (فأعرض) عن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي هو مجلس العلم (فأعرض الله عنه) فيه ذم الإعراض عن مجلس العلم بغير عذر، وأن من أعرض كذلك فقد تعرض لسخط الله، فإنه أخبر بأن الله أعرض عنه (متفق عليه) رواه البخاري في العلم، وليس لأبي واقد في صحيحه إلا هذا الحديث. وقد وهم صاحب الكمال فقال في ترجمة أبي واقد: خرج عن الخمسة إلا البخاري، ورواه مسلم في الاستئذان، ورواه أيضاً أبو داود في الاستئذان والنسائي في العلم.
1448- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية رضي الله عنه على حلقة) بإسكان اللام على المشهور، قال العسكري: هي كل مستدير خالي الوسط، وحكي فتح اللام، وهو قليل (في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا) أعادوه وزيادة في الإيضاح (نذكر الله قال: آلله) بمد الهمزة والأصل أألله بهمزتين أولاهما للاستفهام والأخرى همزة أل فأبدلت الثانية مدة، وجر الاسم الكريم. قيل: بالهمزة وهي من حروف القسم، وقيل: إن حرف القسم مقدر بعدها، وهو الذي صححه ابن هشام (ما أجلسكم إلا ذلك) أي: الذكر، وأتى فيه باسم الإِشارة الموضوع للبعيد مع قربه تشريفاً له كما في قوله تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: من قعد حيث ينتهي به المجلس (1/143 و144) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: من أتى مجلساً فوجد فرجة فجلس فيها وإلا وراءهم، (الحديث: 26) .(7/254)
لَكُمْ، وَمَا كَانَ أحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَقَلَّ عَنْهُ حَديثاً مِنِّي: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أصْحَابِهِ فَقَالَ: "مَا أجْلَسَكُمْ؟ " قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ الله وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا للإسْلاَمِ؛ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: "آللهِ مَا أجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَاكَ؟ " قالوا: واللهِ مَا أجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ. قَالَ: "أمَا إنِّي لَمْ أسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، ولكِنَّهُ أتَانِي جِبرِيلُ فَأخْبَرَنِي أنَّ الله يُبَاهِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) (1) والجملة جواب القسم (قالوا: ما أجلسنا إلا ذلك) الأقرب أن الجملة جواب قسم حذف المقسم به اكتفاء بدلالة وجوده في السؤال عليه، ويدل عليه قوله: (قال: أما) بتخفيف الميم، أداة استفتاح (إني لم أستحلفكم تهمة لكم) بضم الفوقية، وفتح الهاء وسكونها كما في المصباح هي الشك والريبة، والتاء بدل من الواو لأنها من الوهم (وما كان أحد بمنزلتي) أي: بمكانتي وقربي (من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وذلك، لكون أخته أم حبيبة أم المؤمنين، ولتآلف النبي - صلى الله عليه وسلم - له لما علم فيه من السر الإِلهي المصون والظرف. الأول: في محل الصفة. والثاني: لغو متعلق بمنزلة (أقل) بالنصب خبر كان (منه) أي: من ذلك الأحد (حديثاً) تمييز (مني) أي: لم يكن أحد مماثلاً لي في القرب، أقل مني حديثاً، وذلك احتياطاً وتحرزاً من أن يسهو بزيادة أو نقص، عند ذكر حديث، وهذه الجملة أتى بها إظهاراً لعنايته بالمخاطبين إذ حدثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع إقلاله منه فقال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم) لكونهم كانوا في زمن لا يؤلف منهم الجلوس فيه في المسجد (قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده) من عطف الخاص على العام، إن أريد بالذكر ما يعم أنواعه، وإن أريد به فرد خاص منه، وبالحمد الثناء عليه بالأوصاف الثبوتية كان من عطف المغاير (على ما هدانا للإِسلام) على فيه للتعليل، وما فيه مصدرية أي: نحمده لذلك، والحمد في مقابلة النعمة يثاب عليه ثواب الواجب الفائق ثواب المندوب بسبعين ضعفاً (ومن به علينا) حذف الممتن به إيماء؛ لكثرته وقصور العبارة عن الإِحاطة به قال سبحانه وتعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) (2) (قال: آلله) بالمد (ما أجلسكم إلا ذلك) أي: دون غيره من الأعراض والأغراض، وحذف المصنف جوابهم، وهو في مسلم ولفظه "قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذلك" وكذا وقع له في الأذكار، بأنه غير مذكور في صحيح مسلم، كما يأتي عنه مرات أخرج أصل الحديث، لا بخصوص هذه الزيادة، وهو من قلم الناسخ (أما أني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي)
__________
(1) سورة البقرة، الآيتان: 1، 2.
(2) سورة إبراهيم، الآية: 34.(7/255)
بِكُمُ المَلاَئِكَةَ". رواه مسلم (1) .
248- باب الذكر عِنْدَ الصباح والمساء
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعَاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ) .
قَالَ أهلُ اللُّغَةِ: "الآصَالُ": جَمْعُ أصِيلٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ العَصْرِ وَالمَغْرِبِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: يفاخر ويعاظم (بكم الملائكة) والاستدراك المفاد بلكن لمفهوم قوله لم أستحلفكم تهمة، الخ فإنه ربما يؤخذ منه انتفاء مقتضى الاستخلاف فاستدركه لذلك (رواه مسلم) قال الحافظ في تخريج أحاديث الأذكار: وأخرجه أبو عوانة والترمذي، وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. اهـ.
باب الذكر عند الصباح
هو لغة: كما قال ابن دريد في الجمهرة: من نصف الليل إلى الزوال (والمساء) بالمد، وهو: منه إلى نصف الليل، قال السيوطي: إنه لم يظفر بما ذكر فيهما إلا فيها، وأما الصباح شرعاً فمن طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، ثم الضحا، فالاستواء فالزوال ومنه المساء (قال الله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعاً) تذللاً وخضوعاً (وخيفة) أصلها خوفة فأبدلت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها (ودون الجهر من القول بالغدو والآصال) قال ابن عطية: معناه دأباً في كل وقت وفي أطراف النهار (ولا تكن من الغافلين) عن ذكر الله، وتقدم بعض فوائد الآية أول كتاب الأذكار (قال أهل اللغة) أي: علماء متن اللغة وحدها: أصوات وأعراض يعبّر بها كل قوم عن مرادهم (الآصال) بالمد (جمع أصيل) على وزن فعيل كأيمان جمع يمين، ويجمع على أصل بضمتين وأصلان، أي: بضم فسكون وأصائل كما في القاموس (وهو ما بين العصر والمغرب) ثم ما ذكره من كونه جمع أصيل بلا واسطة هو قول الجمهور، وحكى ابن عطية في التفسير قولاً: أنه جمع لأصل بضمتين وهو
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، (الحديث: 40) .
(2) سررة الأعراف، الآية: 205.(7/256)
1449- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ حِيْنَ يُصْبِحُ وَحينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، مِئَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأتِ أَحَدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ". رواه مسلم (1) .
1450- وعنه، قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رسولَ الله مَا لَقِيْتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي البَارِحَةَ! قَالَ: "أمَا لَوْ قُلْتَ حِيْنَ أمْسَيْتَ: أعُوذُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقت إشراق الشمس، وهو وقت الضحا. وحكمة تخصيص أول النهار وآخره بما ذكر؛ ليكون البدء والختم بعمل ديني وطاعة. فيكون كفارة لما يكون في باقي النهار.
1449- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عنه من قال حين يصبح) أي: يدخل في الصباح الشرعي؛ لأن الألفاظ الشرعية إنما تحمل على عرف الشرع ما لم يصرف عنه صارف (وحين يمسي) أي: يدخل في المساء فالفعلان تامان كما في قوله: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) (2) (سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت) أي: لم يجىء (أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به) أي: من ألفاظ الأذكار المأثورة (إلا واحد) بالرفع بدل من أحد على لغة تميم المجوزين الإِبدال في الاستثناء المنقطع (قال مثل ما قال) مثل قوله أو مثل ما قاله (أو زاد) أي:
فالأول: جاء بمثل ما جاء به.
والثاني: زاد عليه، هذا إن جعلنا أو ليست للشك من الراوي، بل للتنويع وإن جعلناها للشك فالاستثناء متصل على الوجه الثاني: منقطع على الأول: وعلى كل ففيه إيماء إلى أن الاستكثار من هذا محبوب إلى الله تعالى، وأنه ليس له حد لا يتجاوز عنه، كعدد المعقبات عقب المكتوبات (رواه مسلم) قال في السلاح: ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وعند أبي داود: سبحان الله العظيم وبحمده، ورواه الحاكم وابن حبان بنحوه وروي في الجامع الكبير من حديث ابن عمر مرفوعاً "من قال: سبحان الله وبحمده كتب له عشر حسنات، ومن قالها: عشراً كتب الله له مائة حسنة، ومن قالها: مائة مرة كتب الله له ألف حسنة، ومن زاد زاده الله" الحديث رواه ابن ماجه.
1450- (وعنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما لقيت) أي: شيء
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل التهليل وتسبيح والدعاء، (الحديث: 29) .
(2) سورة الروم، الآية: 17.(7/258)
بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ: لَمْ تَضُرَّك". رواه مسلم (1) .
1451- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه كَانَ يقولُ إِذَا أصْبَحَ: "اللَّهُمَّ بِكَ أصْبَحْنَا، وَبِكَ أمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإلَيْكَ النُّشُورُ". وإذا أمسَى قَالَ: "اللَّهُمَّ بِكَ أمْسَيْنَا، وبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ. وَإلْيَكَ النُّشُورُ". رواه أَبُو داود والترمذي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عظيم لقيته (من عقرب) ظرف لغو (لدغتني) بالمهملة فالمعجمة، قال في المصباح من باب نفع (البارحة) الليلة الماضية وفي كلامه الإِيماء إلى عظيم ما أصابه من الألم والوصب من ذلك (قال: أما) أداة إستقباح أنك (لو قلت حين أمسيت) أي: دخلت في المساء (أعوذ) أي: أعتصم وألتجىء (بكلمات الله) أي: بأقضيته وشؤونه (التامات) لتنزهها عن كل نقص (من شر ما خلق) متعلق بأعوذ وما عام يدخل فيه سائر المؤذيات من الخلق، ومنه الهوى والشهوات (لم يضرك) يجوز في مثله من المضاعف المضموم العين المجزوم أربع لغات: الإِدغام مع الحركات الثلاث، والضم اتباعاً، والفتح، لأنه أخف الحركات، والكسر تخلصاً من التقاء الساكنين، والرابعة فك الإِدغام والجزم بالسكون (رواه مسلم) قال في السلاح: ورواه ما عدا البخاري من أصحاب الكتب الستة.
1451- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) بدل اشتمال (أنه كان يقول: إذا أصبح اللهم بك) أي: بقدرتك الباهرة (أصبحنا) أي: دخلنا في الصباح (وبك أمسينا) ذكر لحضوره في الذهن عند ذكر ضده (وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور) بضمتين أي: الرجوع (وإذا أمسى قال) عبر بالماضي تفنناً في التعبير، والمراد منه المستقبل (اللهم بك أمسينا) أي: دخلنا في المساء، وجعلهما الطيبي ناقصين فقال: الباء متعلقة بمحذوف هو الخبر ولا بد من تقدير مضاف، أي: أصبحنا أو أمسينا متلبسين بنعمتك أي: بحياطتك وكلاءتك أو بذكر اسمك (وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير) قال في النهاية: أي إليك المرجع، يقال: صرت إلى فلان أصير مصيراً، وهو شاذ والقياس مصار مثل معاش اهـ. وتقدم الكلام على هذا الذكر في آداب النوم، لكن بلفظ: باسمك أموت وأحيا، وحينئذ فحديث الباب محتمل، لأن يكون على تقدير المضاف المصرح به في تلك أو على تقدير نحو قدرتك، أو إرادتك وعبّر بالمضارع حكاية عن الحال المستمر أي: مستمر حالنا على ذلك وعبر بالنون هنا،
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، (الحديث: 55) .(7/259)
فإنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبي، وَبِكَ أرْفَعُهُ، إنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإنْ أَرْسَلْتَهَا، فاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ" متفق عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي يلي الجسد. قال البيضاوي: إنما أمر بالنفض بالداخلة؛ لأن الذي يريد النوم يحل بيمينه خارج الإِزار وتبقى الداخلة معلقة فينفض بها، وقال في التوشيح: قيل: حكمته أنه يستر بالثياب فيتوارى ما يناله من الوسخ (فإنه لا يدري ما خلفه) بفتح الخاء المعجمة، واللام بصيغة الماضي (عليه) أي: أنه يستحب نفض الفراش قبل الدخول فيه، لئلا يكون قد دخل فيه حية أو عقرب أو غيرهما من المؤذيات وهو لا يشعر، ولينفض ويده مستورة بطرف إزاره لئلا يحصل في يده مكروه إن كان شيء هناك، وقال الطيبي: معنى لا يدري ما خلفه لا يدري ما وقع في فراشه بعدما خرج منه من تراب، أو قذاره أو هوام (ثم يقول: باسمك ربي) الظرف متعلق بقوله وضعت، وفي نسخة من البخاري رب بحذف الياء اجتزاء، بدلالة الكثرة عليها، وفي رواية القطان: اللهم باسمك، وفي رواية أبي حمزة: ثم يقول: سبحانك ربي بك (وضعت جنبي وبك أرفعه) حكمة ترك الإِتيان بالمشيئة في مثله مما قدم فيه الظرف على متعلقه، أن مقصود الكلام إنما هو الظرف لا متعلقه فعمدة الكلام هو الظرف، والمعنى أن الرفع كائن باسمك. قال الشيخ تقي الدين السبكي: فافهم هذا السر اللطيف ولا تنظر إلى قولهم الجار والمجرور فضلة في الكلام لا عمدة وتأخذه على إطلاقه بلا تأمل موارد تقدمه، وتأخره في الكتاب والسنة، وكلام الفصحاء، يتبين لك أنه إذا قدم المتعلق كان الظرف فضلة، وإذا قدم الظرف كان عمدة الكلام. قال: وقواعد العربية تقتضي أن الظرف فضلة في الكلام لا عمدة، وإن الفعل هو المخبر به والاسم هو المخبر عنه، هذا هو الأصل والوضع ثم قد يكون ذلك مقصود المتكلم، وقد لا يكون فإنه قد يكون جزءا الإِسناد معلومين، أو كالمعلومين، ويكون محط الفائدة في كونه على الصفة المستفادة من الظرف، كما فيما نحن فيه، فإن وضع المضطجع جنبه معلوم ورفعه كالمعلوم، ولم نقل معلوم لأنه قد يموت وإنما المراد الإِخبار بكونه باسم الله. اهـ ملخصاً، وقد سقته بلفظه في شرح الأذكار (إن أمسكت نفسي) إمساكها كناية عن الموت بدليل (فارحمها) لأن الرحمة تناسبه وفي رواية الترمذي فاغفر لها (وإن أرسلتها) من الإِرسال كناية عن الإِبقاء في الدنيا (فاحفظها) أي من سائر المكاره ديناً ودنيا (بما تحفظ به عبادك الصالحين) قال الطيبي: الباء فيه مثل الباء في قولك كتبت بالقلم، وكلمة ما مبهمة وبيانها ما دلت عليه صلتها (متفق عليه)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: التعوذ والقراءة عند المنام وفي التوحيد (11/107، =(7/266)
1462- وعن حذيفة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ، وَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ قِني عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". ورواه أَبُو داود من رواية حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وفيهِ أنه كَانَ يقوله ثلاث مراتٍ (1) .
***
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربع.
1462- (وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده) أي: الأيمن، ومن لازمه الاضطجاع على الجانب الأيمن (ثم يقول) أي: بعد الاضطجاع (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك) هذا منه - صلى الله عليه وسلم - خضوع كذلك لمولاه وأداء لحق مقام الربوبية المطلوب من العبد أداؤه، وتنبيه للأمة أن لا يأمنوا مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (رواه الترمذي) في كل من الجامع والشمائل (وقال) في الجامع (حديث حسن) زاد في السلاح: صحيح (ورواه أبو داود) في سننه (من رواية حفصة) أم المؤمنين (رضي الله عنها وفيه) أي: حديثها المروي من طريقها (أنه كان يقوله ثلاث مرات) قال في السلاح: ورواه الترمذي من حديث البراء بن عازب بمعناه وليس فيه ذكر التثليث، وقال: حديث حسن غريب. من هذا الوجه.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات [باب: 18] ، (الحديث: 3398) .
وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: ما يقول عند النوم، (الحديث: 5045) .(7/270)
15- كتَاب الدَعَوات
250- باب في فضل الدعوات
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (وقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الدعوات
بفتح المهملتين جمع دعوة، بفتح أوله، وهي المسألة الواحدة يقال: دعوت فلاناً فسألته، والدعاء إلى الشيء الحث على فعله، وفي شرح الأسماء الحسنى للقشيري ما ملخصه: الدعاء جاء في القرآن على وجوه منها العبادة نحو (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) (2) ومنها الإِستعانة نحو (وادعوا شهداءكم) (3) منها: السؤال نحو (ادعوني أستجب لكم) ومنها: القول نحو (ودعواهم فيها سبحانك اللهم) (4) ومنها النداء نحو (يوم يدعوكم) (5) ومنها الثناء نحو (قل ادعوا الله (6) أو ادعوا الرحمن) (7) اهـ قال الله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) قال في فتح الباري: هذه الآية ظاهر في ترجيح الدعاء على التفويض، وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء وأجابوا الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة، وفي حديث النعمان بن بشير الآتي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "الدعاء هو العبادة ثم قرأ (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي) (1) أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي والحاكم قال الحافظ: وعمدة من أول الدعاء في الآية بالعبادة أن كثيراً يدعو فلا يجاب فلو كانت على ظاهرها لم يتخلف،
__________
(1) سورة غافر، الآية: 60.
(2) سورة يونس، الآية: 106.
(3) سورة البقرة، الآية: 23.
(4) سورة يونس، الآية: 10.
(5) سورة الإسراء، الآية: 52.
(6) الذي في البيضاوي أن الدعاء هنا بمعنى التسمية.
(7) سورة الإسراء، الآية: 110.(7/271)
رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1464- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَحِبُّ الجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ. رواه أَبُو داود بإسناد جيدٍ (2) .
1465- وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ أكثرُ دعاءِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" متفقٌ عَلَيْهِ. زاد مسلم في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سواه. اهـ (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وتقدم أنه رواه أيضاً النسائي وابن ماجه، وأن الحاكم صححه أيضاً، وفي الحصن ورواه ابن أبي شيبة في المصنف وابن حبان والإمام أحمد في مسنده زاد شارحه وأخرجه البخاري في تاريخه، والطبراني في كتاب الدعاء له.
1464- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب) أي: يحب وصيغة الافتعال للمبالغة (الجوامع من الدعاء) أي: الدعاء الجامع للمهمات والمطالب، فيكون قليل المبنى جليل المعنى (ويدع) أي: يترك (ما سوى ذلك) وذلك لأن القوى البشرية تعجز عن الدوام على القيام بأداء الآداب المستحقة للربوبية المطلوبة من الداعي، فندب له الإتيان باللفظ اليسير لسهولة القيام بالآداب زمنه، وندب أن يكون جامعاً ليصل لمطلوبه بأسهل طريق (رواه أبو داود بإسناد جيد) ورواه الحاكم في مستدركه وصححه، وقال الحافظ السخاوي في تتمة تخريج أحاديث الأذكار: وقد أخرجه من طريق الطبراني ما لفظه: هذا حديث حسن أخرجه أحمد وغيره.
1465- (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: أكثر ما يداوم عليه من الدعاء (اللهم) أي: يا الله (آتنا) (3) أي: أعطنا (في الدنيا حسنة) يدخل فيها كل خير دنيوي وصرف كل شر (وفي الآخرة حسنة) مثل ذلك (وقنا عذاب النار) تخصيص بعد
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: ما جاء في فضل الدعاء، (الحديث: 3371) .
وهو عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدعاء مخ العبادة".
وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، (الحديث: 1479) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، (الحديث: 1482) .
(3) قوله (اللهم آتنا) للكشميهني اللهم ربنا آتنا اهـ قسطلاني.(7/274)
روايتهِ قَالَ: وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا أرادَ أنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، وَإِذَا أرادَ أنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ (1) .
1466- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ الهُدَى، والتُّقَى، والعَفَافَ، والغِنَى". رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعميم، لأنه هو الفوز، وبعض السلف خصص الحسنة في الموضعين بشيء خاص والتعميم أولى (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود (زاد مسلم في روايته) للحديث على البخاري (قال:) أي: الراوي (وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة) بفتح الدال مرة من الدعاء (دعا بها فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها) أي: بهذه الدعوة (فيه) أي: في جملته وذلك اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - لإِكثاره منها لقلة ألفاظها وإحاطتها بخير الدارين.
1466- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اللهم إني أسالك الهدى) بضم الهاء وفتح الدال، ضد الضلالة (والتقى) بضم الفوقية بمعنى التقوى (3) ، وهي اسم مصدر من قولهم اتقيت الله اتقاءً، وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي (والعفاف) بفتح المهملة وبالفاءين، مصدر عف من باب ضرب أي: الكف عن المعاصي والقبائح (والغنى) بكسر المعجمة والقصر، أي: الاستغناء عن الحاجة إلى الخلائق، وقدم الهدى لأنه الأصل، والتقى مبني عليه، وعطف عليه العفاف عطف خاص على عام اهتماماً به، لأن النفس تدعو إلى ضده فسأل من الله الإعانة على تركه، وبعد أن أتم مطالب الدين توجه لبعض مطالب الدنيا، وهو الغنى أي: عدم الحاجة إلى الناس (رواه مسلم) قال الحافظ السخاوي في تتمة تخريج أحاديث الأذكار: ورواه أبو داود والطيالسي، وأحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. اهـ.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ربنا آتنا في الدنيا حسنة (8/140) و (161/11) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة ... ، (الحديث: 26) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، (الحديث: 72) .
(3) في النسخة جمع التقوى والذي في الصحاح التقوى والتقى واحد والواو مبدلة من الياء اهـ.(7/275)
سفيان: أَشُكُّ أنِّي زِدْتُ واحدةً مِنْهَا (1) .
1470- وعنه، قَالَ: كَانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ أصْلِحْ لِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشقاء الحقيقي، أو من جهة المعاش وذلك أما من جهة غيره وهو شماتة الأعداء، أو من جهة نفسه وهو جهد البلاء، وإنما تعوذ - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمور تعليماً لأمته وإلا فإن الله تعالى أمنه من ذلك أجمع، أو أنه أتى به دفعاً لوقوع ذلك بأمته (متفق عليه) ورواه النسائي (وفي رواية) أي: للبخاري في الدعوات، وكذا هو عند مسلم باللفظ الذي ساقه المصنف (قال سفيان) هو ابن عيينة راوي الحديث المذكور (أشك أني زدت واحدة منها) أي: الأربع ولا أدري أيتهن المزيدة. قال الحافظ في فتح الباري: أخرجه ابن الجوزي من طريق علي بن عبد الله بن هاشم عن سفيان فاقتصر على ثلاثة، ثم قال: قال سفيان: وشماتة الأعداء.
وأخرجه الإِسماعيلي من طريق أبي عمير عن سفيان، وبين فيه أن المزيدة هي شماتة الأعداء، وعرف منه تعين الخصلة المزيدة، اهـ، قال الكرماني: كيف جاز له خلط كلامه بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا يفرق بينهما، ثم أجاب بأنه ما خلط، ولكن اشتبهت عليه تلك الثلاثة بعينها، وعرف أنها من هذه الأربعة فذكرها تحقيقاً لرواية الثلاثة قطعاً إذ لا مخرج عنها، ولفظ البخاري قال سفيان: الحديث ثلاث وزدت واحدة فصارت أربعاً، وقد أخرجه البخاري في القدر عن سفيان بالخصال الأربع بغير تمييز وأجاب الحافظ عما أورده الكرماني بأن سفيان كان إذا حدث عينها، ثم طال الأمر فطرقه السهو عن تعيينها فحفظ بعض من سمع تعيينها منه، قبل أن يطرقه السهو، ثم بعد أن طرقه السهو وخفي عليه تعيينها تذكر كونها مزيدة، مع إبهامها، ثم بعد ذلك إما أن يحمل الحال حيث لم يقع تمييزها لا تعييناً ولا إبهاماً على أن يكون ذهل عن ذلك، أو عين وميز فذهل بعض من سمع منه، ويترجح كون الخصلة المزيدة هي الشماتة بأنها تدخل في عموم كل واحدة من الثلاث اهـ. ومن الخبط العجيب قول القارىء في الحرز جلالة سفيان تمنعه أن يزيد من قبل نفسه ما يدرج في لفظ النبوة، بل إنما هي زيادة في روايته على سائر الروايات وزيادة الثقة مقبولة، وستاتي هذه الزيادة في حديث آخر. اهـ. وذلك لأنه قد ثبت عنه التصريح بأنه أدرج ذلك فما بقي لغيره مجال.
1470- (وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم أصلح لي ديني) بأن توفقني للقيام
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: القدر، باب: من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء، (11/449) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، (الحديث: 53) .(7/278)
دِيني الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أمْرِي، وأصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا مَعَاشِي، وأصْلِحْ لِي آخِرتِي الَّتي فِيهَا مَعَادي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ". رواه مسلم (1) .
1471- وعن علي - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْ: اللَّهُمَّ اهْدِني، وسَدِّدْنِي" وفي رواية: "اللَّهمَّ إنِّي أسْألُكَ الهُدَى والسَّدَادَ". رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بآدابه على الوجه الأكمل الأتم (الذي هو عصمة أمري) أي: ما أعتصم به في جميع أموري، وفي الصحاح: العصمة المنع والحفظ، وقيل: هو مصدر بمعنى الفاعل، وقد قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً) (3) (وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي) أي: مكان عيشي وزمان حياتي، أي: بإعطاء الكفاف فيما يحتاج إليه، وبأن يكون حلالاً ومعيناً على طاعة الله (وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي) أي: مكان عودي، أو زمان إعادتي باللطف والتوفيق، على العبادة والإخلاص في الطاعة وحسن الخاتمة (واجعل الحياة) أي: طول عمري (زيادة لي في كل خير) أي: من إيقان العلم، وإتقان العمل (واجعل الموت) أي: تعجيله (راحة لي من كل شر) أي: من الفتن والمحن والابتلاء بالمعصية والغفلة، ومحصل آخر هذا الدعاء: اجعل عمري مصروفاً فيما تحب، وجنبني ما تكره، وهو من الأدعية الجوامع (رواه مسلم) .
1471- (وعن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل: اللهم اهدني وسددني) من التسديد في الأمر الإتيان به سديداً (وفي رواية: اللهم إني أسالك الهدى والسداد رواه مسلم) وفي مسلم زيادة: واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد سداد السهم. قال المصنف: السداد بفتح السين وسداد السهم تقويمه، ومعنى سددني وفقني، واجعلني مصيباً في جميع أموري، وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمر، وأما الهدى هنا فهو الرشاد، يذكر ويؤنث، ومعنى اذكر بالهدى الخ أي: تذكر ذلك في حال دعائك
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، (الحديث: 71) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، (الحديث: 78) .
(3) سورة آل عمران، الآية: 103.(7/279)
وأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ". زَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: "وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ" متفق عَلَيْهِ (1) .
1479- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يدعو بِهؤُلاءِ الكَلِمَاتِ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ الغِنَى وَالفَقْرِ". رواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تغاير العطف بتغاير الصيغة (أنت المقدم وأنت المؤخر) فلا يذل من واليت ولا يعز من عاديت.
إذا لم يعنك الله فيما تريده ... فليس لمخلوق إليه سبيل
وإن هو لم يرشدك في كل مسلك ... ضللت ولو أن السماك دليل
(لا إله إلا أنت) وفي رواية للبخاري أو قال "لا إله غيرك". وفي رواية: لا إله غيرك بالجزم بها فقط، وهذه كالدليل لما أفاده الحصر في الجملتين قبله (زاد بعض الرواة) هو عبد الكريم أبو أمية ذكره البخاري في باب التهجد (ولا حول ولا قوة إلا بالله) هو في المعنى كالجملة قبله وأتى به زيادة في الدلالة لما تقدمه. وفيه كمال الرجوع إلى الله تعالى والركون إليه في الأحوال كلها، والاعتصام بحبله، والتوكل عليه، واللوذ به دون غيره (متفق عليه) رواه البخاري في التهجد والدعاء، والتوحيد، ومسلم في الصلاة وفي الدعاء، ورواه النسائي في القنوت، ورواه ابن ماجه في الصلاة.
1479- (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهؤلاء الكلمات) وبينتها بقولها (اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار) أي: الفتنة المسبب عنها النار أو الإِضافة بيانية أي: من ابتلاء هو النار ويكون عطف قوله (وعذاب النار) من عطف الرديف سوغه اختلاف لفظ المضاف، ويحتمل أن يراد بفتنة النار توبيخ خزنتها كما أشار إليه قوله تعالى: كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير) (2) (ومن شر الغنى والفقر) أي: أكثر المرتب عليهما كالكبر والعجب والشره والحرص، والجمع للمال من الحرام والبخل بأداء حق الله
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التهجد والدعاء، باب: الدعاء إذا انتبه من الليل، (الحديث: 3/2 و4) .
وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (الحديث: 199) .
(2) سورة الملك، الآية: 8.(7/287)
رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1481- وعن شَكَلِ بن حُمَيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قلتُ: يَا رسولَ الله، علِّمْنِي دعاءً، قَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي". رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المنكرة كالزنى، وشرب الخمر، وسائر المحرمات. والأهواء المنكرة كالاعتقادات الفاسدة، والمقاصد الباطلة (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والطبراني، وزاد الترمذي في رواية له: والأوداء جمع داء أي: وأعوذ بك من الأدواء المنكرة، كالبرص والجذام فيكون بمعنى ما جاء في حديث أنس: وأعوذ بك من سيىء الأسقام.
1481- (وعن شكل) بفتح المعجمة والكاف باللام (ابن حميد) بضم المهملة العبسي بالمهملتين بينهما موحدة الصحابي (رضي الله عنه) قال في التقريب: له حديث واحد، كما ذكره ابن الجوزي وغيره، وقال في السلاح وليس لشكل في الكتب الستة إلا في هذا الحديث (قال: قلت: يا رسول الله علمني دعاء) أي: ذا شأن كما يدل عليه طلبه لذلك من عين الرحمة من أوتي جوامع الكلم (قال: قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي) أي: بأن أسمع كلام الزور والبهتان، وغيره من العصيان، أو بأن لا أسمع به حقاً (ومن شر بصري) أعاد الجار والمجرور، مع أن العاطف يقوم مقامهما اهتماماً بالمعطوف، وإيماء إلى أنه جنس غير ما قبله، وذلك بأن أنظر إلى محرم، ومنه النظر على وجه الاحتقار لأحد من العباد، أو أهمل النظر والاعتبار في مصنوعات مولانا سبحانه (ومن شر لساني) بأن أتكلم فيما لا يعنيني، أو أسكت عما يعنيني (ومن شر قلبي) بأن أشغله بغير الله، وبغير أمره (ومن شر مني) بأن أوقعه في غير محله، أو يوقعني في مقدمات الزنى من النظر، واللمس، والمشي، والعزم، وأمثال ذلك، وقال في السلاح: أراد به فرجه، ووقع في رواية أبي: داود يعني فرجه، وقيل: هي جمع منية وهي طول الأمل (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) ورواه النسائي، والحاكم في المستدرك.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: دعاء أم سلمة، (الحديث: 3591) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، (الحديث: 1551) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 75] ، (الحديث: 3492) .(7/289)
1482- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ، والجُنُونِ، والجُذَامِ، وَسَيِّيءِ الأسْقَامِ". رواه أَبُو داود بإسناد صحيحٍ (1) .
1483- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الجُوعِ، فَإنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وأعوذُ بِكَ منَ الخِيَانَةِ، فَإنَّهَا بِئْسَتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1482- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من البرص) هو إنسداد المسام، وانحباس الدم فيتولد عنه ذلك (والجنون) أي: زوال العقل أي: التمييز به أو بغيره (والجذام) قال في القاموس: هو كغراب علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء، وهيئتها وربما انتهى إلى أكل الأعضاء، وسقوطها عن تقرح. اهـ واستعاذ - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمراض مع أن في الصبر عليها مزيد الأجر خشية من ضعف الطاقة عن الصبر، والوقوع في الضجر، فيفوت به الأجر، وعم بعد تخصيص المذكورات الاستعاذة فقال: (وسيىء الأسقام) أي: قبيحها كالفالج والعمى، وإنما قيد بسيئها لأن الأمراض مطهرة للآثام مرقاة للأنام مع الصبر، فأراد ألا يسد باب الأجر خصوصاً، وقد جاء: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء، فالنفوذ من جميع الأسقام، ليس من دأب الكرام، وقال ميرك: لأن منها ما إذا تحامل الإِنسان فيه على نفسه بالصبر خفت مؤنته، مع عدم إزمانه كالحمى والصداع والرمد ولا كذلك المرض المزمن، فإنه ينتهي بصاحبه إلى حالة يعرض عنه منها الحميم، ويقل دونها المداوي مع ما يورثه من الشين (رواه أبو داود بإسناد صحيح) وروي بزيادة عند ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الصغير.
1483- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الجوع) أي: المفرط المانع من الحضور (فإنه بئس الضجيع) أي: المضاجع وهو الذي ينام معك في فراش واحد، أي: بئس المصاحب لأنه يمنع استراحة النفس والقلب، فإن الجوع يضعف القوى ويثير أفكاراً رديئة، وخيالات فاسدة فيخل بوظائف العبادة، ومن ثم حرم الوصال (وأعوذ بك من الخيانة) أي: في أمانة الخلق، أو الخالق (فإنها بئست البطانة) بكسر الموحدة خاصة الرجل، أي: الخصلة الباطنة من خاصته، واستعاذته - صلى الله عليه وسلم - من هذه لتعليم الأمة وإرشادهم للاقتداء ليفوزوا بخير الدارين، أو المراد بالاستعاذة منها طلب
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، (الحديث: 1554) .(7/290)
حُصَيْناً كَلِمَتَيْنِ يَدْعُو بهما: "اللَّهُمَّ ألْهِمْني رُشْدِي، وأعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسي". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1486- وعن أَبي الفضل العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله عَلِّمْني شَيْئاً أسْألُهُ الله تَعَالَى، قَالَ: "سَلوا الله العَافِيَةَ" فَمَكَثْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حصيناً) عطف بيان أو بدل (كلمتين) بالمعنى اللغوي أي: جملتين (يدعو بهما: اللهم ألهمني رشدي) بضم فسكون، ويقال بفتحتين، وهو والرشاد ضد الضلال، أي: ألهمني الهدى بالتوفيق للأعمال المرضية لك والمقربة من فضلك (وأعذني) أي: اعصمني (من شر نفسي) فإنها الداعية لحتفي وطردي، إلا إن تداركتني بالإِحسان، قال تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء) (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) .
1486- (وعن أبي الفضل العباس) بفتح المهملة، وتشديد الموحدة، آخره سين مهملة، وكني بأكبر أولاده (ابن عبد المطلب) عم سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان (رضي الله عنه) أسن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بسنتين أو ثلاث، ولم يزل معظماً في الجاهلية والإِسلام، وكان إليه أمر السقاية في الجاهلية، وأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وحضر ليلة العقبة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكد له العقد مع الأنصار، وخرج إلى بدر مع المشركين مرائياً لهم، وأسر ففادى نفسه، وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وأسلم عقب ذلك، وعذره - صلى الله عليه وسلم - في الإِقامة بمكة من أجل سقايته، ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر الفتح مهاجراً ببنيه، فرجع معه وكان سبب تسكين الشر وحقن الدماء، ثم خرج إلى حنين وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين انهزم الناس، عنه، وكان يعظمه ويبجله، ومناقبة كثيرة أفردت بالتأليف، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وثلاثون حديثاً، اتفق الشيخان على واحد منها والبخاري انفرد بواحد، وانفرد مسلم بثلاثة، وخرج عنه الأربعة وغيرهم، وتوفي بالمدينة يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة اثنتين، أو أربع وثلاثين، وهو ثابت اللحم معتدل القامة، وقبره مشهور بالبقيع (قال: قلت يا رسول الله علمني شيئاً) أي: مما ينبغي طلبه (أسأله الله تعالى) لشرفه وعظم نتائجه (قال: سلوا الله العافية) كذا في الأصول بواو الجماعة وفيه إرشاد إلى أنها ينبغي لكل أحد سؤالها وطلبها ولا يختص بذلك العباس دون الناس، وهي اسم مصدر من عافاه الله محا عنه الذنوب والأسقام، وقال في المصباح: وهي مصدر جاءت على فاعله، ومثله
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 70] ، (الحديث: 3483) .(7/292)
دُعاءِ دَاوُدَ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أحَبَّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وأهْلِي، وَمِنَ الماءِ البارِدِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضعيف، وذكر الحديث الذي سبق عن الطبراني، وقال: ورويناه في فوائد النسوي، وسنده ضعيف أيضاً. وقد ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه ابن أبي شيبة عنه، قال: "ما أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -) وسنده صحيح. وحكي القول به عن مالك، وقال: ما تعبدنا به، وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره. وقال عياض: عامة أهل العلم على الجواز، وقال سفيان: يكره إلا أن يصلى على نبي (2) ، ووجدت بخط بعض الشيوخ، مذهب مالك لا يجوز أن يصلى إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك إنما قال: أكره الصلاة على غير الأنبياء فلا ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به. وقال يحيى بن يحيى: لا بأس بذلك اهـ (اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك) المصدر فيهما محتمل، لأن يكون مضافاً إلى الفاعل ولأن يكون مضافاً للمفعول، والثاني أبلغ وأنسب بما بعده. والمراد من محبة الله تعالى للعبد غايتها من التوفيق والإِثابة والثناء الحسن عليه. وتقدم حديث "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً" الحديث (والعمل الذي يبلغني حبك) أي: وحب العمل فالمضاف مقدر، وجاء مصرحاً به في حديث والمصدر المقدر مضاف لمفعوله البتة (اللهم اجعل حبك) أي: محبتي إياك أو محبوبيتي لك (أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد) أي: ارزقني من الأنوار ما يجلي عن عين بصيرتي الأقذاء والأقذار لأحبك حباً طبيعياً، فوق ما أحب ما ذكر. فالحب التكليفي فوق ما ذكر لمن ذكر ثبت به الحديث، وعلى كل عبد مجاهدة نفسه في تقديم طاعة الله وطاعة رسوله على نفسه وأهله، وخص الماء البارد بالذكر لشدة ميل النفس ونزعها إليه زمن الصيف، فهو أحب المستلذات إليها. قال بعضهم: أعاد الجار، ليدل على الاستقلال للماء البارد في كونه محبوباً، وذلك في بعض الأحيان فإنه يعدل بالروح للإِنسان، وعن بعض الفضلاء: الماء ليس له قيمة لأنه لا يشترى إذا وجد، ولا يباع إذا فقد، كذا في الحرز (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ولفظه بعده قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر داود عليه السلام يحدث عنه وقال: كان أعبد البشر. اهـ. وهو محتمل، لأن يراد به أعبد أهل زمانه، ولأن
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 73] ، (الحديث: 3490) .
(2) لعله على النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمل. ع.(7/295)
1489- وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألِظُّوا بـ (يَاذا الجَلاَلِ والإكْرامِ") . رواه الترمذي، ورواه النسائي من رواية ربيعة بن عامِرٍ الصحابي، قَالَ الحاكم: "حديث صحيح الإسناد".
"ألِظُّوا": بكسر اللام وتشديد الظاء المعجمة، معناه: الزَمُوا هذِهِ الدَّعْوَةَ وأكْثِرُوا مِنْهَا (1) .
1490- وعن أَبي أُمَامَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: دعا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، بدُعاءٍ كَثيرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يراد به أشكر الناس، قال تعالى: (اعملوا آل داود شكراً) (2) أي: بالغ فيه، وبذل وسعه في ذلك، وفي ذكره - صلى الله عليه وسلم - لهذا الذكر إيماء إلى التحريض عليه، والحث على الإتيان به.
1489- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألظوا بياذا الجلال) هي النعوت القهرية، كالانتقام والقهر والجبر، نحو المنتقم القهار الجبار العزيز (والإكرام) هو النعوت الجمالية كالكريم الستار الرؤوف الرحيم الغفار (الجلال والإكرام اسم الله الأعظم) وهو أحد ما قيل في تعيين الاسم الأعظم، ذكره الحافظ في الفتح وقال: أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال: "سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول يا ذا الجلال والإِكرام، فقال: قد استجيب لك فسل" واحتج له الفخر الرازي بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الألوهية، لأن في الجلال إشارة إلى جميع الصفات السلبية، وفي الإِكرام إشارة إلى جميع الصفات الثبوتية.
(رواه الترمذي ورواه النسائي) وكذا أحمد والحاكم في المستدرك (من رواية) أي: من حديث (ربيعة) بفتح الراء وكسر الموحدة، وبالعين المهملة (ابن عامر) بن بجاد بموحدة وجيم ودال مهملة، بينهما ألف، وقيل: ابن الهادي الأزدي أو الديلي (الصحابي) وسقط من النسخ ذكر الترضية، ولعله من النساخ. قال الحافظ في التقريب: له حديث واحد خرج عنه النسائي، وقال الزهري في الكاشف: روى عنه يحيى بن حبان (قال الحاكم) في المستدرك في حديث ربيعة (حديث صحيح الإِسناد: ألظوا) بفتح الهمزة و (بكسر اللام وتشديد الظاء المعجمة معناه: الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها) هو تقدير معنى، وأما تقدير الإعراب لازموا الدعاء، أو ابدءوه بياذا الجلال والإِكرام، وإطلاق الدعاء عليه على الوجه الأول، لأنه يفتتح به الدعاء كإطلاقه في حديث "أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله" الحديث.
1490- (وعن أبي إمامة رضي الله عنه قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعاء كثير) بالمثلثة (لم
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 92] ، (الحديث: 3524) .
(2) سورة سبأ، الآية: 13.(7/296)
لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئاً؛ قُلْنَا: يَا رسول الله، دَعَوْتَ بِدُعاءٍ كَثِيرٍ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئاً، فَقَالَ: "ألا أدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ؟ تقول: اللَّهُمَّ إنِّي أسَألُكَ مِنْ خَيْر مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -؛ وأعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا استَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وأنتَ المُسْتَعانُ، وَعَليْكَ البَلاَغُ، وَلاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1491- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ من دعاءِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نحفظ منه شيئاً قلنا: يا رسول الله دعوت بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئاً فقال: ألا) بتخفيف اللام (أدلكم على ما يجمع ذلك) أي: مقصوده ومطلوبه (كله) وسكت عن جوابهم أي: قالوا بلى إما نسياناً، أو لكونهم لم يأتوا به اكتفاء بظهور حاجتهم إليه عن بيانه (تقول: اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه نبيك) من للتبعيض فيهما وعطف على نبيك عطف بيان أو أبدل منه قول: (محمد - صلى الله عليه وسلم - وأعوذ) وفي نسخة "ونعوذ" بالنون (بك من شر ما استعاذ منه (2) نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -) أي: من الشرور الدنيوية بدناً أو أهلاً أو مالاً، والدينية حالاً أو مآلاً (وأنت المستعان) أي: المطلوب منه الإِعانة (وعليك البلاغ) أي: الكفاية أو ما يبلغ إلى المطلوب من خير الدارين (ولا حول ولا قوة إلا بالله رواه الترمذي وقال: حديث حسن) غريب.
1491- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان من) أي: بعض (دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: الجامع للخير كما جاء أنه كان يحب الجوامع من الأدعية (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك) أي: ما يوجبها مما رتبتها عليه من الأعمال بالوعد الصادق كقوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) (3) الآية (وعزائم مغفرتك) أي: موجبات غفرانك. قال المصنف: جمع عزيمة وهي ما عزم الله على العباد أن يعطوه، ليغفر لهم، قاله ابن الجزري. قيل: وصوابه أن يطيعوه. قلت، ويمكن رد الأول إليه أي: يعطوه من الطاعة (والسلامة من كل إثم) أي: معصية (والغنيمة) أي: الإِكثار (من كل بر) بكسر
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 89] ، (الحديث: 3521) .
(2) قوله (ما استعاذ منه) الذي في الأذكار (ما استعاذك منه) .
(3) سورة الأعراف، الآية: 156.(7/297)
والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ". رواه الحاكم أَبُو عبد الله، وقال: "حديث صحيح عَلَى شرط مسلمٍ" (1) .
251- باب فضل الدعاء بظهر الغيب
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (والَّذِينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ) .
وقال تَعَالَى (3) : (واسْتَغْفِرْ لِذنْبِكَ وَلِلْمُؤمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ) .
وقال تَعَالَى إخْبَاراً عَن إبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم -: (4) (رَبَّنا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤمِنِينَ يَومَ يَقُومُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الموحدة أي: طاعة (والفوز) أي: الظفر (بالجنة والنجاة) أي: الخلاص (من النار. رواه الحاكم أبو عبد الله) ابن البيع في المستدرك (وقال: حديث صحيح على شرط مسلم) وفي ختم المصنف الباب بهذا الدعاء، إيماء إلى أن المطلوب من الأدعية كغيرها من الأعمال، وهو بعد أداء العبودية لحق الربوبية، طلب النجاة من النار، ودخول الجنة. قال تعالى: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز (5) وقال الشاعر:
إن ختم الله برضوانه ... فكل ما لاقيته سهل
باب فضل الدعاء بظهر الغيب
أي: في غيبة المدعو له إذا لحق إخوته من حيث الإِيمان. (قال الله تعالى) في الثناء على ذلك (والذين جاءوا من بعدهم) أي: التابعين بإحسان (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) أثنى عليهم البارىء بدعائهم للمؤمنين السابقين الغائبين عنهم حال الدعاء لهم (وقال تعالى واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) أي: ادع لهم ولهن بغفر الخطايا أجمع، كما نوه به حذف المعمول أمره بالاستغفار للجميع، ومن المعلوم أنهم حينئذ غير حاضرين لأنهم يظهرون جيلاً فجيلاً (وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -) وقد قال
__________
(1) الحاكم: (1/525) .
(2) سورة الحشر، الآية: 10.
(3) سورة محمد، الآية: 19.
(4) سورة إبراهيم، الآية: 41.
(5) سورة آل عمران، الآية: 185.(7/298)
الحِسَابُ) .
1492- وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه -: أنَّه سَمِعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلمٍ يدعُو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ إِلاَّ قَالَ المَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ". رواه مسلم (1) .
1493- وعنه: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: "دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (2) وقال تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي) (3) الآية (ربنا اغفر لي ولوالدي) إن ثبت أن أباه آزر، وهو ما جرى عليه البيضاوي في آخرين يحمل على أن استغفاره له كان أولاً كما قال تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) (4) الآية وإن كان آزر عمه وسلسلة النسب كانوا مسلمين فالأمر ظاهر (وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) ظرف للغفران المسؤول. وفيه الدعاء للمؤمنين فهو كالذي قبله.
1492- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من عبد مسلم يدعو لأخيه) أي: في الإِسلام (بظهر الغيب إلا قال الملك) بفتح أوليه (ولك بمثل) قال المصنف: الباء مزيدة، ومثل بكسر الميم وسكون المثلثة هذه الرواية المشهورة. قال القاضي: ورويناه بفتحهما أيضاً يقال هو مثله ومثله بزيادة الباء، أي: عديله سواء. قال المصنف: فيه فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب، ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت له هذه الفضيلة، ولو دعا لجملة المسلمين، فالظاهر حصولها أيضاً (رواه مسلم) .
1493- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوة المرء) أي: الشخص (المسلم لأخيه بظهر الغيب) أي: في غيبة المدعو له وفي سر، والتقييد به لأنه أبلغ في الإِخلاص، ثم الظرف
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، (الحديث: 86) .
(2) سورة الممتحنة، الآية: 4.
(3) سورة آل عمران، الآية: 68.
(4) سورة التوبة، الآية: 114.(7/299)
مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ". رواه مسلم (1) .
252- باب: في مسائل من الدعاء
1494- وعن أسَامة بن زيد رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفاعِلهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيراً، فَقَدْ أبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حال من المضاف إليه، لأن الدعوة مصدر أضيف لفاعله، أو ظرف للمصدر، أي الدعوة الكائنة في غيبة المدعو له (مستجابة) أي: مجابة والسين والتاء، للمبالغة (عند رأسه ملك موكل) أي: بالإتيان بما يأتي عنه (كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين) بالمد وتخفيف الميم أي: استجب وهذا سؤال منه تعالى وخاطب الداعي فقال: (ولك بمثل) أي: مثل ما دعوت به له. قال المصنف: كان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه دعا لأخيه المسلم بتلك الدعوة، لأنها تستجاب، ويحصل له مثلها (رواه مسلم) ورواه أحمد والنسائي وأخرجه أبو بكر في الغيلانيات عن أم كرز، ورواه البزار عن عمران بن حصين مرفوعاً بلفظ "دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لا يرد".
باب في مسائل من الدعاء
أي: في ذكر أحاديث تتعلق بمسائل منه.
1494- (عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صنع) بالبناء للمجهول (إليه معروف) من نحو إطعام، أو كسوة أو جلب مصلحة، أو دفع مضرة، وكذا إذا كان المعروف معنوياً كإفادة علم أو إفاضة معرفة (فقال لفاعله) عبر به دون صانعه تفنناً في التعبير (جزاك الله خيراً) التنكير فيه للتعظيم كما يوميء إليه سؤاله من الله تعالى (فقد أبلغ في الثناء) أي: بالغ في ثنائه على فاعله وجازى المحسن إليه بأحسن مما أسداه إليه حيث أظهر عجزه، وأحاله على ربه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وفي الحرز، وقال
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، (الحديث: 88)
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في المتشبع بما لم يعطه، (الحديث: 2035) .(7/300)
1495- وعن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ وَلاَ تَدعُوا عَلَى أوْلادِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أموَالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسألُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ". رواه مسلم (1) .
1496- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أقْرَبُ مَا يكونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ" رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الترمذي: حسن غريب، وقال في السلاح: رواه الترمذي والنسائي، وابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ، وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه من حديث أسامة إلا من هذا الوجه.
1495- (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم) أعاد الفعل المنهي عنه في كلا الجملتين المعطوفتين، إيماءً إلى استقلال كل بالنهي عنه. وحذف المعمول يؤذن بالعموم أي: لا تدعوا على من ذكر، وما ذكر بشيء من الضرر (لا توافقوا) علة للنهي أي: لئلا توافقوا والفعل منصوب بأن المقدرة مع لام الجر، لدلالة المقام عليهما، ويجوز أن يقال إنه مجزوم وهو جواب شرط مقدر؛ لكونه في جواب النهي أي: إن لا تدعوا لا توافقوا الخ حال الدعاء بذلك (من الله ساعه يسأل) بصيغة المجهول ونائب فاعله يعود إلى الجلالة، وهو مفعوله الأول (فيها عطاء) أي: شيئاً معطى (فيستجيب) بالرفع عطف على المرفوع قبله، أو على إضمار هو وبالنصب جواب النهي، من قبيل لا تدن من الأسد فيأكلك على مذهب الكسائي (3) (لكم) لكون الوقت وقت إجابة (رواه مسلم) ورواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث أم سلمة بلفظ "لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون".
1496- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقرب ما يكون العبد من ربه) أي: قرباً معنوياً قرب مكانة لا قرب مكان (وهو ساجد) وقد تقدم الحديث مشروحاً في باب فضل الذكر والحث عليه وقوله: (فأكثروا الدعاء) أي فيه، الفاء فيه تفريعية أو فصيحة (رواه مسلم) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: حديث جابر الطويل وقصه أبي اليسر، (الحديث: 74) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 215) .
(3) هذا غير ظاهر إذ الخلاف في الجزم عند حذف الفاء أما النصب عند ذكرها فمتفق عليه.(7/301)
1497- وعنه: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ: يقُولُ: قَدْ دَعْوتُ رَبِّي، فَلَمْ يسْتَجب لِي" متفق عَلَيْهِ.
وفي روايةٍ لمسلمٍ: "لا يَزالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطيعَةِ رحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ" قيل: يَا رسولَ اللهِ مَا الاستعجال؟ قَالَ: "يقول: قَدْ دَعوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أرَ يسْتَجِبُ لي، فَيَسْتحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1497- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يستجاب لأحدكم ما) مصدرية ظرفية (لم يعجل) أي: مدة عدم عجلته (يقول (2)) استئناف لبيان العجلة المانعة من الإِجابة (قد) للتحقيق (دعوت ربي فلم يستجب لي) بالبناء للفاعل وذلك لأن الله تعالى (وقد جعل الله لكل شيء قدراً) (3) (وقد من بإجابة دعوة من دعاه، لكن في الوقت الذي قدره سبحانه وقضاه قد جعل الله لكل شيء قدراً) أفلا يتقدم شيء عن إبانه، ولا يتأخر عن أوانه (متفق عليه) قال في الجامع الكبير: رواه مالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه (وفي رواية لمسلم) والترمذي (لا يزال) اسمها ضمير الشأن والخبر (يستجاب للعبد) دعاؤه (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) هو داخل فيما قبله فعطفه عليه كعطف جبريل وميكال في قوله (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) (4) وذلك للاهتمام (ما لم يستعجل) بدل مما قبله بدل بداء، وقال العاقولي: كان حق الظاهر أن يؤتى بالعاطف هنا فترك على تقدير عامل آخر، إشارة إلى استقلال كل من القيدين، أي: يستجاب له ما لم يدع بإثم، وكأن سائلاً قال: هل الاستجابة مقصورة على ذلك؟ فقيل: لا بل يستجاب له ما لم يستعجل. اهـ وقال: ابن حجر في فتح الإله: ترك العاطف فيه استئنافاً تنبيهاً على أن كل واحد منهما مستقل بمنع الاستجابة، أي: يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم، يستجاب لأحدكم ما لم يستعجل أهـ. وما ذكرته وجه آخر قريب. والله أعلم (قيل: يا رسول الله ما الاستعجال) المرتب عليه المنع من الإجابة (قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت) أي: تكرر مني الدعاء، وذكر الاثنين المراد به الإِشارة إلى كثرة الدعاء وتكراره لا خصوص الاثنينية (فلم أر يستجب لي فيستحسر) بالرفع عطف على يقول أي: فيعيى (عند ذلك) الاستعجال (ويدع) بفتح الدال أي: يترك (الدعاء) والحاصل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: يستجاب للعبد ما لم يعجل، (11/119) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي، (الحديث: 90) .
(2) قوله: لأحدكم أي لكل واحد منكم، وقوله: يعجل بفتح المثناة والجيم وسكون العين، وقوله: يقول أي بلسانه أو في نفسه. ع.
(3) سورة الطلاق، الآية: 3.
(4) سورة البقرة، الآية: 98.(7/302)
1498- وعن أَبي أمامة - رضي الله عنه - قَالَ: قيل لِرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: "جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن الإجابة حاصلة؛ لكن تكون تارة معجلة، وتارة مؤخرة. ذكر مكي رحمه الله أن المدة بين دعاء زكريا - صلى الله عليه وسلم - بطلب الولد والبشارة أربعون سنة. وحكى ابن عطية عن ابن جريج ومحمد بن علي والضحاك أن دعوة موسى وهرون على فرعون لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة، وحكى الإمام أبو حامد الغزالي عن بعضهم أنه قال: إني أسال الله عز وجل منذ عشر سنين حاجة وما أجابني وأنا أرجو الإجابة، سألت الله أن يوفقني لترك ما لا يعنيني. انتهى منقولاً من السلاح.
1498- (وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع) أي: أقرب للإِجابة (قال: جوف الليل (2)) أي: وسطه. وتقدم في شرح حديث داود: أن أفضل القيام قيام الثلث بعد نوم النصف، وينام السدس الأخير وإنما كان ذلك حينئذٍ، لكمال التوجه وفقد العلائق والعوائق؛ لأنه وقت التجليات الإِلهية وتنزل الفيوض الربانية (ودبر) بضمتين أي: عقب (الصلوات المكتوبات) أي: الفرائض، وذلك لأن الصلاة مناجاة العبد لربه ومحل مسألته من فضله، وبعد تمام العمل يظهر الأمل (رواه الترمذي) ورواه النسائي (وقال: حديث حسن) قال الترمذي: وقد روي عن أبي ذر، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "جوف الليل الآخر الدعاء فيه أفضل وأرجى أو نحو هذا" وروى أبو داود، والترمذي والنسائي، والحاكم عن عمر بن عبسة رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" قال الترمذي: بعد أن أخرجه بهذا اللفظ هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 79] ، (الحديث: 3499) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 119] ، (الحديث: 3579) .
(2) قوله (جوف) هو بالرفع وفي الكلام مضاف محذوف أي دعاء جوف الليل.(7/303)
1499- وعن عُبَادَةَ بنِ الصامت - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا عَلَى الأرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو الله تَعَالَى بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللهُ إيَّاها، أَوْ صَرفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ: إِذاً نُكْثِرُ قَالَ: "اللهُ أكْثَرُ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح".
ورواه الحاكم من روايةِ أَبي سعيدٍ وزاد فِيهِ: "أَوْ يَدخِرَ لَهُ مِن الأَجْرِ مثْلَها" (1) .
1500- وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقولُ عِنْدَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1499- (وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة) بفتح الدال المرة من الدعاء، والتنوين فيه للشيوع يشمل الدعاء بالجليل والحقير، وبالقليل والكثير (إلا آتاه الله) أي: أعطاه (إياها) حالاً أو بعد (أو) للتنويع (صرف) بالبناء للفاعل (عنه من السوء مثلها) أي: الدعوة المسؤولة أي: ما يكون نفع دفعه كنفع حصولها (ما لم يدع) سكون الدال (بإثم أو قطيعة رحم) أي: فلا تجاب تلك الدعوة المقترنة بشيء من ذلك؛ لأن الإجابة تنتفي عن سائر الدعوات غيرها إذا دعا بهما كما قد يتوهم، ونظيره حديث: "الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر" أي: فإن الكبائر غير مكفرة لا أن الصغائر غير مكفرة حينئذٍ، والله أعلم (فقال رجل من القوم) لم أقف على من سماه (إذاً نكثر) بالنصب أي: إذا كانت الدعوة بما عدا ما ذكر مجابة نكثر من سؤال خيري الدارين لتحصيلهما بالوعد الذي لا يخلف (فقال: الله أكثر) بالمثلثة أي: أكثر إحساناً ونوالاً مما تطلبون وتسألون (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح ورواه الحاكم من رواية أبي سعيد) هو الخدري (وزاد فيه) قوله: (أو يدخر) أصله يذتخر بالمعجمة والفوقية، قلبت الفوقية دالاً مهملة دفعاً للثقل فأدغمت فيها الذال لتقارب مخرجها منها أي: يجعل (له) أي: الداعي (من الأجر مثلها) أي: من حيث النفع.
1500- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول (2) عند الكرب) بفتح
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: في انتظار الفرج وغير ذلك، (الحديث: 3573) .
وصححه الحاكم: (1/493) .
أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابه، (الحديث: 3381) .
"وهو من حديث جابر ... ".
(2) في الجامع الصغير "كان يدعو عند الكرب" الخ.(7/304)
الكَرْبِ: "لا إلهَ إِلاَّ اللهُ العَظِيمُ الحَليمُ، لا إلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظيمِ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَاواتِ، وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ" متفق عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فسكون وهو الأمر الذي يشق على الإِنسان ويملأ صدره غيظاً (لا إله إلا الله العظيم) قدراً (الحليم) فلا يعاجل بالعقوبة (لا إله إلا الله رب العرش العظيم) بالجر عند الجمهور وصف به العرش بعد أن وصف به الذات ليكون من باب الترقي، لأنه إذا اتصف بها بعض مكوناته فلأن يتصف بها هو بالأولى، وقال ابن التين عن الداودي: هو بالرفع صفة رب (لا إله إلا الله رب السموات) زاد في رواية السبع (ورب الأرض رب العرش) أي: مالك كل شيء وخالقه ومصلحه، وأعاد لفظ الرب مع كل القرائن إيماء إلى أن لكل بالاستقلال من غير نظر لتبعيته لغيره المتوهمة لولا ذلك، وروي ورب العرش بإثبات واو (الكريم) بالجر صفة العرش ووصف به لأن الرحمة تنزل منه أو لأنه منسوب إلى أكرم الأكرمين لا إله إلا هو. وفي الإتيان بهذه إيماء إلى أن الدواء من الكرب توحيد الله عز وجل، وعدم النظر إلى سواه أصلاً فمن صفا له هذا المشرب فرج عنه الكرب، ونال من الفضل الأسنى ما أحب، وفي شرح البخاري للعيني، قال ابن بطال: حدث أبو بكر الرازي قال: كنت بأصبهان عند أبي نعيم أكتب الحديث عنه، وهناك شيخ يقال له أبو بكر بن علي عليه مدار الفتيا، فسعى به عند السلطان فحبسه فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وجبريل عليه السلام عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - قل: لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه. قال: فأصبحت فأخبرته فدعا به فلم يكرر إلا قليلاً حتى أخرج من السجن، وقال الحسن البصري: أرسل إلي الحجاج فقلتهن فقال: والله ما أرسلت إليك إلا وأنا أريد قتلك، فلأنت اليوم أحب إليّ من كذا وكذا. وزاد في لفظ: فسل حاجتك اهـ (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه والطبراني في الكبير، وزاد: اصرف عني شر فلان، كما في الجامع الصغير. قال العيني: اشتملت الجملة الأولى: على التوحيد الذي هو أصل التنزيهات المسماة بالأوصاف الجلالية، وعلى العظمة التي تدل على القدرة العظيمة، إذ العاجز لا يكون عظيماً، وعلى الحلم الذي لا يتصور من الجاهل بالشيء إذ الجاهل بالشيء لا يتصور منه الحلم، وهما أصل الصفات الوجودية الحقيقة المسماة بالأوصاف الإِكرامية. وحكمة تخصيص الحليم بالذكر أن كرب المؤمن غالباً إنما هو من نوع
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب، (11/123) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: دعاء الكرب، (الحديث: 83) .(7/305)
253- باب: في كرامات الأولياء وفضلهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقصير في الطاعات، أو غفلة في الحالات، وهذا يشعر برجاء العفو المقلل للحزن، وكون الحلم حقيقة الطمأنينة عند الغضب؛ وذلك لا يطلق عليه تعالى يجاب عنه بأن المراد به لازمها، أي: تأخير العقوبة وإطلاق الدعاء على هذا؛ لأنه يفتتح به الدعاء لكشف الكرب كما تقدم نظيره، واشتملت الجملة الثانية على التوحيد والربوبية وعظم العرش، ووجه ذكر الرب من بين سائر الأسماء الحسنى، هو كونه مناسباً لكشف الكرب الذي هو مقتضى التربية، ووجه تخصيص العرش بالذكر كونه أعظم أجسام العالم فيدخل الجميع تحته دخول الأدنى تحت الأعلى، وخص السموات والأرض بالذكر لأنهما من أعظم المشاهدات انتهى ملخصاً.
باب كرامات الأولياء وفضلهم
الكرامات: جمع كرامة، وهي: إحدى الخوارق للعادات. وهي خمس: إرهاص، ومعجزة، وكرامة، ومعونة، ومهونة. فالإِرهاص الخارق للعادة المتقدم على تحدي النبي ودعواه النبوة كإظلال الغمام فإنه لم يقع له - صلى الله عليه وسلم - إلا قبل النبوة خلافاً لمن وهم فيه. وسمي إرهاصاً لما فيه من تأسيس النبوة، والمعجزة الخارق للعادة المقرون بالتحدي الواقع على طبق ما ادعاه مع الأمن من المعارضة فيه، والتحدي طلب المعارضة والمقابلة. وقال المحققون: دعوى الرسالة. وسميت معجزة لعجز البشر عن الإِتيان بمثله. أما ما لا يؤمن معارضته فيسمى سحراً. وجوز قوم قلب الأعيان وإحالة الطبائع كصيرورة الإِنسان حماراً، ومنعه آخرون قالوا: وإلاّ لم يكن فرق بين النبي والساحر. ويرد بوضوح الفرق بينهما فإن قالها عند التحدي لا يمكن معارضته لإِطراد العادة الإِلهية، إن المدعي النبوة كاذباً لا يظهر على يديه خارق كذلك مطلقاً، وعند عدمه يمكن المعارضة بتعلم ذلك السحر، فظهر أن قيد التحدي لا بد منه، لكنه لا يشترط عند كل معجزاته؛ لأن أكثر معجزاته - صلى الله عليه وسلم - صدر من غير تحد، بل قيل: لم يتحد بغير القرآن وتمني الموت وإنما الشرط وقوعها ممن تسبق منه دعوى التحدي، والكرامة الخارق للعادة لا على سبيل التحدي. ويدخل ما وجد من خوارق العادات بعد التحدي كما روي بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - من نطق بعض الموتى بالشهادتين وشبهه مما تواترت به الأخبار فيسمى كرامة. وجرى القاضي عياض في الشفاء على أن منها ما يبدو من الخوارق على يد النبي لا على سبيل التحدي. وتقدم آنفاً خلافه. والمعونة خارق للعادة يبدو على يد بعض المؤمنين كإنقاذ من مهلكة وتخليص من ورطة بوجه خارق للعادة.(7/306)
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
وقال تَعَالَى (2) : (وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فكُلِي وَاشْرَبِي) الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمهونة: خارق للعادة على خلاف دعوى المتحدي، كما وقع لمسيلمة أنه تفل في بئر ليكثر ماؤها فغار. والأولياء جمع ولي. وهو المؤمن المطيع لمولاه فعيل بمعنى فاعل لأنه والى الله باتباع مرضاته، أو بمعنى مفعول لأن الله تعالى والاه. وكرامات الأولياء متنوعة ذكر منها الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات نيفاً وعشرين نوعاً. ويجمع ذلك كل ما جاز وقوعه معجزة للنبي جاز كونه كرامة للولي. وهي على إطلاقها من غير استثناء خلافاً لبعضهم. (قال الله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم) حين يخاف الناس عقاب الله (ولا هم يحزنون) على فوات مأمول (الذين آمنوا وكانوا يتقون) بيان لأولياء الله (لهم البشرى في الحياة الدنيا) الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم أو ترى له، وقال بعضهم: بشرى الملائكة عند احتضاره بالجنة. وعن الحسن هي ما يبشر الله المؤمنين في كتابه من جنة ونعيمها (وفي الآخرة) الجنة ورضوان الله وقال بعضهم: المراد بتبشير الملائكة في القبر (لا تبديل لكلمات الله) لا خلاف لمواعيده (ذلك) أي: كونهم مبشرين في الدارين (هو الفوز العظيم. وقال تعالى) خطاباً لمريم (وهزي إليك بجذع النخلة) الباء مزيدة للتأكيد، أو بمعنى افعلي الهز (تساقط) أي: تساقط النخلة (عليك رطباً جنياً) تمييز إن كان التساقط من التفاعل، ومفعول إن كان من المفاعلة، أي: غضاً، وكانت تلك النخلة يابسة، فأورقت كرامة لمريم لتكون كرامة أخرى ليطمئن قلبها، أو مثمرة لكن لم يكن حين ثمرها (فكلي) من الرطب (واشربي) من النهر أو من عصير الرطب (وقري عيناً) وهو من القر أي: البرد فإن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، أو من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر سكنت إليه من النظر إلى غيره (الآية) وأشار بها إلى تكلم عيسى ومخاطبته لقومها ومحاورته عنها ومن
__________
(1) سورة يونس، الآيات: 62، 63، 64.
(2) سورة مريم، الآيتان: 25، 26.(7/307)
وقال تَعَالَى (1) : (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
وقال تَعَالَى (2) : (وَإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولادته إرهاصاً لنبوته وكرامة لها (وقال تعالى: كلما دخل عليها زكريا المحراب) أي: الغرفة التي بناها لها في المسجد (وجد) هو الناصب لكلما على الظرفية (عندها رزقاً) قيل: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس، وقيل: صحف فيها علم، والأول أصح (قال يا مريم أنى لك هذا) من أين لك في غير أوانه والأبواب مغلقة (قالت: هو من عند الله) فلا يستبعد. قيل: هي كعيسى تكلمت صغيرة ولم ترضع ثدياً، ويأتي رزقها من الجنة (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) لكرمه وسعته. قال الشيخ تاج الدين السبكي في إثبات الكرامة: ومنها قصة مريم من جهة حبلها من غير ذكر، وحصول الرطب الطري من الجذع اليابس، ودخول الرزق عندها في غير أوان حضور أسبابه، وهي لم تكن نبية لا عندنا لقوله ْتعالى: (وأمه صديقة) (3) ولا عند الخصم (4) لاشتراطه الذكورة في النبي وهو متفق عليه بيننا وبينه، ولا جائز أن يكون ذلك معجزة لزكريا لأن المعجزة يجب كونها بمشهد من الرسول والقوم حتى تقوم الدلالة عليهم وما حكيناه من كرامتها نحو قول جبريل لها (وهزي إليك بجذع النخلة) (5) الآية لم يكن بحضور أحد بدليل (فإما ترين من البشر أحداً) (6) وأيضاً فالمعجزة تكون بالتماس الرسول، وزكريا ما كان يعلم بحصولها بدليل قوله: (أنى لك هذا) وأيضاً فهذه الخوارق إنما ذكرت لتعظيم شأن مريم فيمتنع كونه كرامة لغيرها، ولا جائز أن يكون إرهاصاً لعيسى، لأن الإِرهاص أن يخص الرسول قبل رسالته بالكرامات، وأما ما يحصل به كرامة الغير لأجل أنه يستحيي بعد ذلك فذلك هو الكرامة التي يدعيها، ولأنه لو جاز ذلك لجاز في كل معجزة ظهرت على يد رسول أنها إرهاص لنبي آخر يجيء بعد وتجويز هذا يؤدي إلى سد الاستدلال بالمعجزة على النبوة. اهـ (وقال تعالى) حكاية عن تخاطب أهل الكهف فيما بينهم (وإذ اعتزلتموهم) أي: الكفرة الذين في البلد المرجفين بهم (وما يعبدون) أي: معبوداتهم أو الذين تعبدونهم (إلا الله) فإنهم كانوا يعبدونه صريحاً، أو في ضمن عبادتهم (فأووا) انضموا (إلى الكهف ينشر) يبسط (لكم ربكم من رحمته)
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 37.
(2) سورة الكهف، الآيتان: 16، 17.
(3) سورة المائدة، الآية: 75.
(4) قوله (الخصم) مراده من ينكر كرامة الأولياء.
(5) سورة مريم، الآية: 25.
(6) سورة مريم، الآية: 26.(7/308)
رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) الآية.
1501- وعن أَبي محمد عبد الرحمن بن أَبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يستركم بها من قومكم (ويهيىء) ييسر (لكم من أمركم) الذي أردتم (مرفقاً) بفتح أوله وكسر ثالثه وبالعكس ما ترتفقون وتنتفعون به (وترى الشمس) لو رأيتهم (إذا طلعت تزاور) أي تميل (عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم) أي: تقطعهم وتميل عنهم (ذات الشمال. الآية) أي: قوله (وهم في فجوة) (1) أي: متسع (منه) أي: من الكهف، فلا يؤذيهم حر الشمس، وينالهم روح الهواء. قال بعضهم: صرف الله عنهم الشمس بقدرته، وحال بينهم وبينها لأن باب الكهف على جانب لا تقع الشمس إلا على جبليه، فيكون كرامة لهم كما قال: (ذلك من آيات الله) (1) إذ أرشدهم إلى ذلك الغار، وصرف عنهم الأضرار.
1501- (وعن أبي محمد عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق) عبد الله، لقب به لمبادرته بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإِسراء (رضي الله عنهما) الأولى عنهم، لأن محمداً ولد عبد الرحمن كان صحابياً أيضاً كما صرح به المصنف نفسه في التهذيب، فقال: قال العلماء: لا يعرف أربعة ذكور مسلمين متوالدين بعضهم من بعض أدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبوه إلا أبو قحافة، وأبو بكر وابنه عبد الرحمن وابنه محمد بن عبد الرحمن أبو عتيق، وعبد الرحمن شقيق عائشة أمه أم رومان بضم الراء على المشهور. وحكى ابن عبد البر ضمها وفتحها، وشهد عبد الرحمن بدراً وأحداً مع الكفار وأسلم في هدنة الحديبية وحسن إسلامه وكان اسمه عبد الكعبة، وقيل: عبد العزى فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن، وكان شجاعاً حسن الرأي، وشهد اليمامة مع خالد فقتل سبعة من الكفار، وهو قاتل محكم اليمامة ابن طفيل رماه بسهم في نحره فقتله، وكان محكم في ثلمة الحصن، فلما قتله دخل المسلمون. قال الزبير بن بكار: كان عبد الرحمن أسن ولد أبي بكر. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث اتفقا على ثلاثة منها. توفي بالحشى جبل بينه وبين مكة ستة أميال، وقيل: عشرة أميال، ثم حمل على الرقاب إلى مكة سنة ثلاث، وقيل: خمس، وقيل: ست وخمسين. والصحيح الأول، وكانت وفاته فجأة، ولما أتي بالبيعة ليزيد بن معاوية بعثوا إليه بمائة ألف درهم ليستعطفوه
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 17.(7/309)
أنَّ أَصْحَابَ الصُّفّةِ كَانُوا أُنَاساً فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَرَّةً: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ، فَلْيَذْهَبْ بثَالِثٍ، وَمنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أرْبَعَةٍ، فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ" أَوْ كما قَالَ، وأنَّ أَبَا بكرٍ - رضي الله عنه -، جَاءَ بِثَلاَثَةٍ، وانْطَلَقَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعَشَرَةٍ، وأنَّ أَبَا بَكرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّى العِشَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ، فجاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ. قالت امْرَأتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أضْيَافِكَ؟ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فردها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي رضي الله عنه. اهـ ملخصاً من التهذيب (أن أصحاب الصفة) الظلة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مؤخر مسجده لما بناه يأوي إليها من لا أهل له، ولا صاحب من المحتاجين، إذا نزل المدينة، وتقدمت عدتهم في باب فضل الزهد في الدنيا (كانوا أناساً فقراء وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مرة) أي: فيها (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث) أي: فإن طعامه كافيهم وقع عند مسلم بثلاث. قال عياض: وهو غلط، والصواب ما عند البخاري، ووجه المصنف رواية مسلم بأنها على تقدير مضاف، أي: بتمام ثلاث، وهو الثالث فتتفق الروايتان (ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس) بحذف الواو أي: وبسادس أو بحذف أو التي للشك في أنه قال: فليذهب بخامس، أو قال: فليذهب بسادس، ويؤيد الثاني قوله: (أو كما قال) فإنه ظاهر في الشك وجاء كما تقدم في باب الإِيثار من حديث جابر مرفوعاً: وطعام الأربعة يكفي الثمانية. وقال الحافظ في الفتح أي: ليذهب بخامس إن لم يكن عنده ما يقتضي أكثر من ذلك، وإلا فيذهب مع الخامس بسادس إن كان عنده أكثر من ذلك، قال: والحكمة في كونه يزيد واحداً فقط أن عيشهم يومئذ لم يكن متسعاً فمن عنده مثلاً ثلاثة أنفس لا يضيق عليه أن يطعم الرابع من قوتهم، وكذا الأربعة وما فوقها بخلاف ما لو زيد بالإِضعاف بعدد العيال، فإن ذلك يحصل الاكتفاء به عند إتساع الحال (وإن أبا بكر) وفي نسخة: الصديق، وليست عند البخاري وكذا قوله (رضي الله عنه) وأتى به المصنف تنبيهاً على أن الإِتيان بمثله مطلوب لا يعد زيادة في المروي (جاء بثلاثة) أي: منهم (وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرة) منهم (وإن أبا بكر رضي الله عنه تعشى عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لبث) أي: قام عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده لأمر اقتضى المكث (حتى صلى العشاء) أي: معه - صلى الله عليه وسلم - (ثم رجع) إلى منزله بعد أن كان جاء أولاً إليه بالأضياف كما يدل عليه صريح قوله السابق، وإن أبا بكر جاء بثلاثة ثم عاد لمنزله - صلى الله عليه وسلم -، وتعشى عنده، وصلى معه، ويدل له الرواية الآتية بعد (فجاء بعد ما مضى من الليل) بيان لما في قوله (ما شاء الله) . وفيه إيماء إلى مزيد تأخره عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وإبطائه (قالت له امرأته ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أو ما عشيتهم) بكسر(7/310)
أوَما عَشَّيْتِهمْ؟ قالت: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَذَهَبتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ، فَقالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وقالَ: كُلُوا لاَ هَنِيئاً وَاللهِ لا أَطْعَمُهُ أَبَداً، قَالَ: وايْمُ اللهِ مَا كُنَّا نَأخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلا ربا من أسفلِها أكثرَ منها حتى شبعوا، وصارتْ أكثرَ مما كانتْ قبلَ ذلكَ، فنظرَ إليها أبو بكر فقالَ لامرأتِهِ: يا أختَ بني فراسٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفوقية، وفي بعض النسخ بزيادة تحتية بعدها لإشباع كسر الفوقية، قال: والواو عاطفة على مقدر بعد الهمزة (قالت: أبوا) أي: امتنعوا (حتى تجيء وقد عرضوا) بصيغة الفاعل، والضمير يرجع إلى الخدم أو الأهل، ووقع في رواية للبخاري قد عرضنا عليهم فامتنعوا (عليهم) أي: الأضياف (قال) أي: عبد الرحمن (فذهبت أنا فاختبأت) أي: خوفاً من خصام أبيه له، وتغيظه عليه (فقال: يا غنثر) سيؤتى ضبطه ومعناه (فجدع) بتشديد الدال المهملة أي: دعا بالجدع، وهو القطع من الأذن والأنف، أو الشفة، وقيل: المراد به السب والأول أصح (وسب) أي: شتم وحذف المعمول للعلم به، ظن أن عبد الرحمن قصر في حق الأضياف فلما علم الحال أدبهم بقوله: (وقال: كلوا لا هنيئاً) أي: لا أكلتم هنيئاً وهو دعاء عليهم. وقيل: أي: خير لم تهنئوا به أو لا بصحة. وقيل: إنما خاطب بهذا أهله لا الأضياف (والله لا أطعمه) بفتح العين أي: لا أذوقه (أبداً قال) أي: عبد الرحمن (وأيم الله) همزته همزة وصل عند الجمهور. وقيل: يجوز القطع وهو مبتدأ وخبره محذوف، أي: قسمي وأصله أيمن وأصل الهمزة فيه القطع، ولكنها لكثرة الاستعمال خففت فوصلت، وفيها لغات أيمن مثلث الميم، ومن مختصرة منه مثلثة الميم، وأيم كذلك ويم كذلك، قال ابن مالك: وليس الميم بدلاً من الواو ولا أصلها من خلافاً لمن زعمه ولا أيمن جمع يمين خلافاً للكوفيين (ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا) بالموحدة أي: زاد (من أسفلها) أي: الموضع الذي أخذت منه (أكثر منها) بالرفع فاعل ربا (حتى شبعوا وصارت أكثر) بالمثلثة (مما كانت قبل ذلك) أي: قبل أكلهم (فنظر إليها) أي: القصعة (أبو بكر فقال لامرأته) أم رومان (يا أخت بني فراس) بكسر الفاء وتخفيف الراء آخره مهملة من كنانة. قيل: التقدير يا من هي من بني فراس، والعرب تطلق على من كان متبعاً لقبيلة أنه أخوهم. وفيه نظر لأن أم رومان من ذرية الحارث بن غنم، وهو ابن مالك بن أوس بن غنم. قال في الفتح: فلعله نسبها إلى بني فراس بكونهم أشهر من بني الحارث ويقع في النسب كثيراً الانتساب إلى أخي جدهم.
والمعنى يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس، ولا شك أن الحارث أخو فراس، فأولاد كل منهما إخوة للآخرين بكونهم في درجتهم. وحكى عياض أنه قيل في أم رومان أنها من(7/311)
ما هذا؟ قالت: لا وقُرَّةِ عيني لهي الآنَ أكثرُ منها قبلَ ذلكَ بثلاثِ مراتٍ! فأكل منها أبو بكرٍ وقال: إنَّما كانَ ذلكَ من الشيطانِ، يعني: يمينَهُ. ثم أكلَ منها لقمةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ. وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَمَضَى الأجَلُ، فَتَفَرَّقْنَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللهُ أعْلَمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بني فراس بن غنم لا من بني الحارث، وعليه فلا حاجة إلى هذا التأويل، ولم أر في كتاب ابن سعد لها نسبا إلى بني حارث، ساق لها نسبين مختلفين (ما هذا) الاستفهام للتعجب (قالت لا) زائدة أو نافية على تقدير لا شيء غير ما أقول (وقرة) بجرها على القسم (عيني) يعبر بها على المسرة ورؤية ما يحبه الإِنسان ويوافقه، يقال ذلك لأن عينه قرت عن التلفت إلى الغير بحصول غرضها فلا تستبشر لشيء آخر، فكأنه مأخوذ من القرآن، وأقسمت بذلك لما وقع عندها من السرور وبالكرامة التي حصلت لهم ببركة الصديق رضي الله عنه. وزعم الداودي أنها أرادت بقرة عينها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقسمت به. قال الحافظ: وفيه بعد قال الشيخ زكريا: ولعله كان قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى (لهي) أي: القصعة أو البقية (الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات) أكثر بالمثلثة للأكثر ولبعضهم بالموحدة (فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني) بالمشار إليه بذلك (يمينه ثم أكل منها لقمة) لحديث الصحيح: "إني لا أحلف يميناً، فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني، وفعلت الذي هو خير" ولقصد إرغام الشيطان فيما زينه له من اليمين أن لا يأكل منه، وفائدة قوله: ثم أكل مع قوله فيما سبق فأكل، وليس إلا أكل واحد لدفع الإِيهام وأنه إنما أكل لقمة واحدة لما ذكر من تكفير يمينه، أو أن مراده لا أطعمه منكم، أو في هذه الساعة أو عند الغضب، ولكن هذه الثلاثة الأخيرة مبنية على جواز تخصيص العموم في اليمين، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الوارد عليه (ثم حملها) أي: الجفنة (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصبحت) أي: الجفنة على حالها (عنده) وإنما لم يأكلوا منها في الليل لكون ذلك وقع بعد مدة طويلة (وكان بيننا وبين قوم عهد فمضى الأجل) الذي هو عدواً إليه (فتفرقنا اثني عشر رجلاً) فيه الفاء فصيحة أي: جاءوا إلى المدينة ففرقنا من التفريق أي: ميزنا وجعل كل رجل من اثنتي عشر فرقة. وفي بعض الروايات: فعرفنا بالمهملة وشد الراء أي: جعلناهم عرفاء. قال الكرماني والبرماوي: وفي بعضها فقرينا من الفري وهي الضيافة قال الحافظ في الفتح: على ذلك، وأفاد أن روايات مسلم اختلفت فيه هل قال: فرقنا أو قال عرفنا؟ وأن رواية الإِسماعيلي وعرفنا بالعين وجهاً واحداً، وسمي المعرف عريفاً لأنه يعرف الإِمام أحوال العسكر. وبما ذكرت من اختلاف ألفاظ الروايات يعلم أن زيادة التاء في قوله فتعرفنا من قلم(7/312)
كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ.
وَفِي رِوَايةٍ: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ لا يَطْعَمُهُ، فَحَلَفَت المَرْأَةُ لا تَطْعَمُهُ، فَحَلَفَ الضَّيْفُ. - أَو الأَضْيَافُ - أنْ لاَ يَطْعَمُهُ أَوْ يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ! فَدَعَا بالطَّعَامِ فَأكَلَ وأكَلُوا، فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلاَّ رَبَتْ مِنْ أسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَني فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرْةِ عَيْنِي إنَّهَا الآنَ لأَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ أنْ نَأكُلَ، فَأكَلُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الناسخ خصوصاً. وهذا اللفظ كله لمسلم واثني عشر بالنصب عند مسلم حال، وعند البخاري بالألف. قال ابن مالك: هو على لغة من من يلزم المثنى الألف في الأحوال كلها، ومنه (إن هذان لساحران) (1) (رجلاًَ مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل) جملة معترضة أي: أناس الله يعلم عددهم ومميزكم محذوف أي: كم رجل (فأكلوا منها أجمعون) أي: كل ذلك الجيش من تلك الجفنة، والذي وقع فيها في بيت أبي بكر ظهور أول البركة فيها، وأما انتهاؤها إليه أن كفت الجيش، فما كان الأبعد أن صارت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظاهر الخبر (وفي رواية) هي للبخاري في باب الأدب في صحيحه (فخلف أبو بكر) لما أخبر بإباء أضيافه عن الأكل حتى يحضر وأكل معهم (لا يطعمه) بفتح المثناة التحتية والمهملة الثانية (فحلفت المرأة) أي: زوجته (لا تطعمه فحلف الضيف) المراد به الجيش لأنهم كانوا ثلاثة واسم الضيف يقع على الواحد وما فوقه، وقال الكرماني: أو هو مصدر يتناول المثنى والمجموع. قال في الفتح: وليس بواضح (أو) شك من الراوي (الضيفان ألا يطعمه) أفرد باعتبار لفظ الضيف (أو يطعموه) ظاهر السياق أنه مع الأضياف، ولو جاء مع لفظ الضيف، لكان مستقيماً ويكون الجمع بالنظر للمعنى (حتى يطعمه فقال أبو بكر: هذه) أي: اليمين أو الحالة من الغضب الناشىء عنها اليمين (من الشيطان) أي: من وسواسه (فدعا بالطعام فأكل وأكلوا) أتي بالواو إيماء إلى أنهم لم يؤخروا أكلهم عن أكله (فجعلوا لا يرفعون) أي: من القصة (لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر) بالمثلثة بالنصب مفعول ربا (منها فقال: يا أخت بني فراس ما هذا؟ فقالت: وقرة عيني إنها الآن) أي: بعد الأكل منها (أكثر منها قبل أن نأكل) يعني أهل هذا البيت والضيف (فأكلوا) . قال الحافظ في الفتح: الصواب ما في هذا الرواية وذلك لأن تلك تقتضي أن سبب أكل أبي بكر من الطعام ما رآه من البركة، وهذه تقتضي أن سببه لجاج الأضياف، وحلفهم أن لا يطعموا حتى يأكل، ويمكن رد تلك إلى هذه بأن يجعل قوله في الرواية السابقة "فأكل منها أبو بكر" معطوفاً على أطعمه لا على
__________
(1) سورة طه، الآية: 63.(7/313)
وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أنَّهُ أكَلَ مِنْهَا. وَفِي رِوايَةٍ: إنَّ أَبَا بكْرٍ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمانِ: دُونَكَ أضْيَافَكَ، فَإنِّي مُنْطلقٌ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَافْرُغْ مِنْ قِراهُم قَبْلَ أنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمانِ، فَأَتَاهُمْ بما عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا؛ فقالوا: أين رَبُّ مَنْزِلِنا؟ قَالَ: اطْعَمُوا، قالوا: مَا نحنُ بِاكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا، قَالَ: اقْبَلُوا عَنْا قِرَاكُمْ، فَإنَّهُ إنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا، لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ فأبَوْا، فَعَرَفْتُ أنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القصعة، التي دلت على بركة الطعام، وغايته أن حلف الأضياف أن لا يطعموه لم يذكر فيها. ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون أبو بكر أكل لأجل تحليل يمينهم، ثم لما رأى البركة الظاهرة عاد فأكل منها؛ لتحصل له. وقال كالمعتذر عن يمينة التي حلف: إنما ذلك من الشيطان. والحاصل أن الله أكرم أبا بكر فأزال ما حصل له من الحزن فأعاده سروراً وانقلب الشيطان مدحوراً، واستعمل الصديق مكارم الأخلاق فحنث نفسه زيادة في إكرام ضيفانه، ليحصل مقصوده من أكله ولكونه أكثر قدرة منهم على الكفارة. ووقع في رواية عند مسلم فقال: "أبو بكر: يا رسول الله بروا وحنثت فقال: بل أنت أبرهم وخيرهم" قال الحافظ: ولم يبلغني كفارته، ولعل سبب عدم تكفيره ما تقدم من احتمال أنه أضمر وقتاً معيناً، أو صفة مخصوصة أي: الآن أو معكم، أو عند الغضب، أو بناء على أن اليمين هل يقبل التقليد بما في النفس أولا؟ اهـ ملخصاً. (وبعث بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر) أي: عبد الرحمن (أنه) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (أكل منها وفي رواية) هي للبخاري في أبواب الأدب من صحيحه قبيل الباب المذكور فيه اللفظ قبله (أن أبا بكر قال لعبد الرحمن) أي: ابنه وقد جاء الصديق بضيفه (دونك) أي: خذ (أضيافك) وتوجه للقيام بهم (فإني منطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فافرغ من قراهم) أن ضيافتهم بالطعام والإِكرام (قبل أن أجيء) أي: أرجع من عنده - صلى الله عليه وسلم - (فانطلق عبد الرحمن فأتاهم) بالقصر أي جاءهم (بما عنده) من قراهم (فقال اطعموا) بوصل الهمزة وفتح العين (فقالوا: أين رب) أي: صاحب (منزلنا) أي: الذي أنزلنا ضيوفاً، سكت عن الجواب اختصاراً وكأنه، والله أعلم قال: إنه غائب فأبوا الأكل (قال: اطعموا) أعاده توكيداً في الطلب (قالوا: ما نحن بآكلين) أكدوا باسمية الجملة وزيادة الباء في الخبر (حتى يجيء رب منزلنا) (قال اقبلوا عنا) وفي نسخة عني (قرأكم) أي: ما هيىء لضيافتكم فتناولوه، وإنما كرر عبد الرحمن ذلك؛ خشية أن يجيء أبوه قبل قضائهم أمرهم فيوهم أنه من تقصيره فيغتاظ عليه كما قال. (فإنه) أي: أبا بكر والشأن (إن جاء ولم تطعموا لنلقين) أي شيئاً(7/314)
فَقَالَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ فَأخْبَرُوهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحمانِ، فَسَكَتُّ: ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمانِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ أقْسَمْتُ عَلَيْكَ إنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوتِي لَمَا جِئْتَ! فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: سَلْ أضْيَافَكَ، فقالُوا: صَدَقَ، أتَانَا بِهِ، فَقَالَ: إنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِي والله لا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ الآخَرُونَ: واللهِ لا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ مَا لَكُمْ لا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ؟ هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَ بِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، الأولَى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. متفق عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عظيماً وذلك لما جبل عليه من مكارم الأخلاق، ومنه إكرام الضيف، فيتوهم إذا لم يتم أمرهم أن ذلك من القصور في الإِكرام. وجملة لنلقين جواب للقسم المقدر واستغني بجوابه عن جواب الشرط بعده (فأبوا فعرفت أنه يجد) يأتي ضبطه ومعناه (على) لما ذكر (فلما جاء تنحيت عنه) هو بمعنى قوله في الرواية قبل: فاختبأت، وذلك خوف خصامه وتغيظه عليه (فقال) مخاطباً لزوجه وأهله (ما صنعتم) أي: بالضيف (فأخبروه) (فقال: يا عبد الرحمن فسكت) بضمير المتكلم خشية مما يقع في أول سورة الغضب وحدته (ثم قال: يا عبد الرحمن فسكت فقال: يا غنثر أقسمت عليك) أي: بالله تعالى الذي لا يقسم بغيره فاكتفى بدلالة عليك عن الذكر (إن كنت تسمع صوتي لما جئت) جواب قسم المكتفي لتقدمه عن جواب الشرط (فخرجت فقلت: سل أضيافك) أي: هل وقع مني تقصير فالأمر عليه أم هم أبوا فلا لوم علي وقوله (فقالوا صدق) أي: فيما أومأ إليه كلامه من إتيانه بالقري وإبائنا منه (أتانا به) جملة مفسرة للمصدق المقدر (فقال: إنما انتظرتموني والله لا أطعمه الليلة فقال الآخرون) بفتح الخاء أي: الأضياف (والله لا نطعمه حتى تطعمه) الأول بالنون والثاني ْبالفوقية المفتوحتين (فقال) لم أر في الشر كالليلة كذا في البخاري وسقط من الشيخ (ويلكم) كلمة تقال على سبيل الدعاء على المدعو عليه (ما لكم لا تقبلون عنا قراكم) وفي البخاري ما أنتم لا تقبلون بضمير جماعة الذكور بدل ضمير لجمع المجرور باللام، وزيادة همزة قبل لا خطاباً لولده أو غيره (هات طعامك) بفتح الكاف أي: قدم ضبط في نسخة البخاري بكسر الكاف ويدفعه أن الأنسب حينئذ هاتي بياء المخاطبة وقوله (فجاء به فوضع) أي أبو بكر (يده فقال بسم الله) أي: آكل (الأولى) أي: الحالة التي نشأ عنها اليمين من سورة الغضب (من الشيطان) عليه أي: وسواسه (فأكل وأكلوا. متفق عليه) أي: أصل القصة وإلا فقد علمت أن الروايتين الأخيرتين للبخاري. قال الحافظ: وفي الحديث ما يقع من لطف الله بأوليائه، وذلك أن خاطر أبي بكر تشوش، وكذا ولده وأهله وضيفه، بسبب(7/315)
قَوْله: "غُنْثَرُ" بغينٍ معجمةٍ مَضمُومَةٍ ثُمَّ نُونٍ ساكِنَةٍ ثُمَّ ثاءٍ مثلثةٍ وَهُوَ: الغَبِيُّ الجَاهِلُ. وقولُهُ: "فَجَدَّعَ" أَيْ شَتَمَهُ، والجَدْعُ القَطْعُ. قولُه "يَجِدُ عَليّ" هُوَ بكسرِ الجِيمِ: أيْ يَغْضَبُ (1) .
1502- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ كَانَ فيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإنْ يَكُ في أُمَّتِي أحدٌ فإنَّهُ عُمَرُ". رواه البخاريُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
امتناعهم من الأكل وتكدر خاطر أبي بكر من ذلك حتى احتاج إلى ما تقدم من الحرج، بالحلف والحنث ولغير ذلك، فتدارك الله ذلك ورفعه بالكرامة، التي أبداها فانقلب ذلك الكدر صفاء، والتكدر سروراً (قوله: غنثر بغين معجمة مضمومة ثم نون ساكنة ثم ثاء مثلثة) سكت عن ضبطها، والمشهور فيها الفتح، وحكي ضمها. وحكي القاضي عياض عن بعض شيوخه فتح أوله وثالثه. وحكى الخطابي مثل اسم الشاعر (2) بفتح العين المهملة والتاء الفوقية وسكون النون بينهما (وهو الغبي) بفتح العين المعجمة وكسر الموحدة (الجاهل) وقيل: السفيه، وقيل: اللئيم، وقيل: هي الذباب وسمي به لصوته فشبهه به تحقيراً وتصعيراً له، وقيل: مأخوذ من الغين (3) ، والنون زائدة أي: الذباب الأزرق وشبهه به لما ذكر (وقوله فجدع) تقدم ضبطه وأنه بالدال المهملة (أي شتمه) ودعا عليه بالجدع. قال الحافظ: وقيل: المراد السب، والأول أصح (والجدع القطع) أي: من الأذن أو الأنف أو الشفة (وقوله: يجد عليّ هو بكسر الجيم أي يغضب) ومصدره موجدة.
1502- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد كان فيما) أي: الخلق الذين (قبلكم من الأمم محدثون) صفة محذوف اسم كان، واحد الظرفين حال، والثاني خبر، ومحدثون بفتح الدال جمع محدث، واختلف في تأويله فقال الأكثرون: هو الملهم. وقالوا: المحدث الرجل الصادق الظن، وهو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره، وبهذا جزم أبو أحمد العسكري. وقيل: من يجري
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: السمر مع الأهل وفي المناقب (6/436 و 442) و (10/434) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: إكرام الضيف وفضل إيثاره، (الحديث: 177) .
(2) أي "عنتر" ولكن اسم الشاعر "عنترة" بهاء التأنيث. ع
(3) كذا والصواب (الغنثرة) كما في القاموس. ع.(7/316)
ورواه مسلم من رواية عائشة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصواب على لسانه من غير قصد. وقيل: مكلم بكلمة الملائكة بغير نبوة، وهذا ورد في حديث أبي سعيد مرفوعاً ولفظه "قيل: يا رسول الله كيف يحدث؟ قال: تتكلم الملائكة على لسانه". ورويناه في فوائد الجوهري وحكاه المقابسي وآخرون، ويمكن رده إلى المعنى الأول أي تكلمه في نفسه، وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام، وفسره ابن التين بالمتفرس، ووقع في مسند الحميدي عقب حديث عائشة: المحدث الملهم بالصواب الذي يقع على فيه. وعند مسلم من رواية ابن وهب: وهم ملهمون وهي الإِصابة بغير نبوة وفي رواية الترمذي عن بعض أصحاب ابن عيينة: محدثون يعني مفهمون. وفي رواية الإِسماعيلي قال إبراهيم يعني ابن سعد رواية قوله محدث أي: يلقى في روعه. اهـ ويؤيده حديث "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر. اهـ من فتح الباري ملخصاً (فان يك في أمتي أحد) وعند بعض رواة البخاري من أحد بزيادة من قبل لم يورد القول مورد التردد فإن أمته أفضل الأمم، وإذا ثبت أنه وجد في غيرهم، فإن وجوده فيهم أولى، وإنما أورده مورد التأكيد، كقول القائل: إن كان لي صديق ففلان يريد اختصاص كمال الصداقة لا نفيها عن غيره. وقيل: بل على الترديد، وذلك لثبوت هذا المعنى في بني إسرائيل، وسبب احتياجهم حيث لا يكون حينئذ منهم نبي، فاحتمل عنده - صلى الله عليه وسلم - ألا تحتاج هذه الأمة لذلك لاستغنائها بالقرآن عن حدوث نبي، وقد وقع الأمر كذلك حتى إن المحدث منهم إذا تحقق وجوده لا يحكم بما يقع له، بل لا بد من عرض ذلك على القرآن، فإن وافقه أو السنة عمل به وإلا فلا. واقتضت الحكمة وجودهم وكونهم بعد العصر الأول زيادة في شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيها، وقد تكون الحكمة في تكريمهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيهم، لكون نبيها خاتم الأنبياء، عوضوا بكثرة الملهمين (فإنه عمر) قال الطيبي: معنى الحديث لقد كان فيما قبلكم من الأمم أنبياء ملهمون، وإن يك في أمتي أحد شأنه أي الإِلهام فهو عمر، وكان جعله في انقطاع قرينه في ذلك هل نبىء أم لا؟ فلذلك أتى بلفظ إن، ويؤيده حديث "لو كان نبي بعدي لكان عمر" فلو فيه بمنزلة إن في الآخر على سبيل الفرض والتقدير. اهـ (رواه البخاري) أي: من حديث أبي هريرة (ورواه مسلم من رواية عائشة) قال الحافظ في الفتح نقلاً عن أبي مسعود صاحب الأطراف في الحديث: من طريق أبي سلمة فرواه أصحاب إبراهيم بن سعد عنه، عن أبيه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وخالفهم ابن وهب فرواه بهذا الإِسناد فقال: عن أبي سلمة عن أبي هريرة لا عن عائشة.(7/317)
وفي روايتهما قَالَ ابن وهب: "محَدَّثُونَ" أيْ مُلْهَمُونَ (1) .
1503- وعن جابر بنِ سُمْرَةَ رضي الله عنهما، قَالَ: شَكَا أهْلُ الكُوفَةِ سَعْداً يعني: ابنَ أَبي وقاص - رضي الله عنه -، إِلَى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال محمد بن عجلان: فكأن أبا سلمة سمعه من عائشة، ومن أبي هريرة جميعاً. قلت: وله أصل من حديث عائشة أخرجه ابن سعد من طريق ابن أبي عتيق عنها (وفي روايتهما) أي: البخاري ومسلم، يكن قضية كلام الحافظ السابق أنه عند مسلم فقط (قال ابن وهب: محدثون أي ملهمون) تقدم بسطه. قال المصنف في بستان العارفين، وفي رواية "قد كان فيمن قبلكم من بنى إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء" الحديث رواه البخاري، وكان على المصنف أن يذكر ما فيه للختنين، فمن كرامة عثمان رضي الله عنه ما ذكره الحافظ ابن سيد الناس في كتاب المقامات العلية في الكرامات الجلية، فأخرج من طريق ابن سعد عن ابن عمر قال: "بينا عثمان يخطب إذ قام إليه جهجاه الغفاري فأخذ العصا من يده فكسرها على ركبتيه، فدخلت منها شظية في ركبتيه فوقعت فيها الأكلة" قال ابن سعد: حديث عبد الله بن إدريس هذا لم أسمعه منه وهو عرض عليه. وأخرج أيضاً عن أنس بن مالك قال: " تناول النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأرض سبع حصيات فسبحن في يده، ثم ناولهن أبا بكر فسبحن في يده كما سبحن في يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ناولهن عمر فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر، ثم ناولهن عثمان فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر وعمر. ومن كرامات علي رضي الله عنه، أخرج الحافظ ابن سيد الناس في كتابه المذكور بسنده عن الحسن بن علي قال: قال لي علي: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح ظهري الليلة في منامي، فقلت: يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ قال: ادع عليهم، قلت: اللهم أبدلني بهم من هو خير لي منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني، فخرج فضربه الرجل ".
1503- (وعن جابر بن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم السوائي (رضي الله عنهما قال: شكا أهل الكوفة سعداً) وقوله: (يعني ابن أبي وقاص رضي الله عنه) من الراوي عنه تعيين له لتعدد المسمين بذلك (إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعزله) إجابة لما طلبوه بالإِيماء
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصحابة، باب مناقب عمر ومن كتاب الأنساء (7/40 و41) .
وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر رضي الله تعالى عليه (الحديث: 23) .(7/318)
واسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّاراً، فَشَكَوا حَتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إسْحَاقَ، إنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعَمُونَ أنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، فَقَالَ: أَمَّا أنا واللهِ فَإنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لا أُخْرِمُ عَنْها، أُصَلِّي صَلاَتَي العِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إسْحَاقَ، وأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً - أَوْ رِجَالاً - إِلَى الكُوفَةِ يَسْأَلُ عَنْهُ أهْلَ الكُوفَةِ، فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِداً إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفاً، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِداً لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكَنَّى أَبَا سَعْدَةَ، فَقَالَ: أمَا إذْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والإشارة (واستعمل) أي: ولى عاملاً (عليهم عماراً) هو ابن ياسر وقوله (فشكوا) عطف على شكا أهل الكوفة كرره للإِطناب وليعطف عليه قوله: (حتى ذكروا) في شكواهم منه (أنه لا يحسن يصلي فأرسل إليه) أي: أبلغه قولهم كما عطف عليه عطف تفسير قوله: (فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون) عبّر به إيماءً إلى تكذيبه لهم فيما قالوا فيه باطناً ففيه إيماء إلى أن عزله ليس لتصديق ما قالوه فيه، وإنما هو ليفهم إجابة مطلوبهم (أنك لا تحسن تصلي) على تقدير أن، كما يدل عليه ذكرها فيما قبل، أوعلى تنزيل الفعل منزلة المصدر أي: لا تحسن الصلاة (فقال أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم، حرف فيه معنى الشرط والتفصيل والتأكيد (أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مثلها (لا أخرم) بفتح الهمزة وبالخاء المعجمة وكسر الراء، أنقص (عنها) وحذف المفعول؛ للتعميم (أصلي صلاتي العشاء) هكذا للجرجاني من رواة البخاري، وعند غيرهم من العشاء (فأركد) أي: أقوم طويلاً (في الأوليين) بضم الهمزة، وفتح اللام والتحتية الأولى (وأخفف) وفي نسخة من البخاري: وأخف، بالإِدغام من باب أخف، وعلى كل فالهمزة مضمومة والخاء مفتوحة في رواية الأصل مكسورة في الأخرى (في الأخريين) بضم الهمزة وفتح الراء، والتحتية الأولى (قال) أي: عمر (ذلك الظن بك يا أبا إسحاق) وذلك لأنه من قدماء الصحابة وكبارهم، وأحد العشرة المبشرة بالجنة (وأرسل معه رجلاً) هو محمد بن مسلم (أو رجالاً) شك من الرواة في المرسل معه أو أحد أم فوقه (إلى الكوفة يسأل عنه أهل الكوفة) أتي بالظاهر والمقام للضمير زيادة في الإِيضاح (فلم يدع مسجداً إلا سأل عنه) أي: أهله (ويثنون معروفاً) أي: خيراً (حتى دخل مسجداً لنبي عبسى) بفتح المهملة، وسكون الموحدة، وبالسين المهملة (فقام رجل منهم يقال له أسامة) بضم الهمزة (ابن قتادة يكنى أبا سعدة) بفتح المهملة الأولى وسكون الثانية (فقال أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (إذ) ظرف لمقدر، أي: ما جوابنا وقت(7/319)
نَشَدْتَنَا فَإنَّ سَعْداً كَانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّةِ وَلاَ يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ. قَالَ سَعْدٌ: أمَا وَاللهِ لأَدْعُونَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِباً، قَامَ رِيَاءً، وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(نشدتنا) بفتح النون والشين المعجمة، أي: طلبت منا القول وجواب أما قوله (فإن سعداً كان لا يسير بالسرية) أي: معها وهو كناية عن وقت الحسن (1) ، أي: لا يخرج معها لذلك، وهي القطعة من الجيش (ولا يقسم بالسوية) أي: يؤثر بالعطاء من يشاء لغرض (ولا يعدل في القضية) أي: الحكومة (قال سعد أما) بتخفيف الميم (والله لأدعون بثلاث) أي: من الدعوات إنما دعا بها لأنه رماه بثلاث معايب فدعا عليه بعددها، وحذف المعدود لدلالة قوله أدعون عليه وبينها بقوله: (اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة) أي: ليراه الناس ويسمعوه فيشهروا ذلك عنه فيكون له بذلك ذكر (فأطل عمره) بضم أوليه، وتسكين الثاني تخفيفاً وذلك ليدوم تحسره وتعبه لقوله: (وأطلق فقره) فإن أصعب الفقر ما كان حال الكبر؟ لأنه وقت الضعف والعجز عن العمل فالفقر معه أشد، وجاء في رواية زيادة: وأكثر عياله (وعرضه) بتشديد الراء (للفتن) أي: اجعله عرضة لها أوأدخله في معرضها أي: أظهره بها. ففيه جواز الدعاء على الظالم بالفتنة في دينه. قال ابن المنير: وكان في النفس من ذلك شيء، وذلك أن الدعاء بمثله مستلزم وقوع المعاصي، حتى تأملت هذا الحديث فوجدته سائغاً. والسبب فيه أن وقوع المعاصي لم يطلب من حيث كونها معاصي، لكن من حيث ما فيها من نكاية الظالم وعقوبته، كما أبيح تمني الشهادة، وندب مع أن فيه تمني قتل الكافر المسلم وذلك معصية ووهن في الدين، وذلك لأن الغرض من تمني الشهادة؛ ثوابها لأنفسها ووجدت في دعوات الأنبياء كقول موسى (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) (2) . وقول نوح (ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً) (3) . قال ابن المنير في الدعوات الثلاث: مناسبة للحال، أما طول عمره فليراه من سمع بأمره، فيعلم كرامة سعد. وأما طول فقره فلنقيض مطلوبه، لأن حاله يشعر بأنه طلب أمراً دنيوياً. وأما تعرضه للفتن فلكونه قام فيها ورضيها دون أهل بلده. وقال غيره: لما نفى عن سعد الفضائل الثلاث الشجاعة التي هي كمال القوة العصبية حيث قال: لا يسير والعفة التي هي كمال القوة الشهوية، حيث قال: لا يقسم. والحكمة التي هي كمال القوة العقلية حيث قال: لا يعدل، وهذه الثلاثة متعلقة
__________
(1) كذا ولعله "شدة الجبن". ع.
(2) سورة يونس، الآية: 88.
(3) سورة نوح، الآية: 24.(7/320)
لا أسْألُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا، فَقَالَ سعيد: اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ كاذِبَةً، فَأعْمِ بَصَرَها، وَاقْتُلْهَا في أرْضِها، قَالَ: فَما ماتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَيْنَما هِيَ تَمْشِي في أرْضِهَا إذ وَقَعَتْ في حُفْرَةٍ فَماتَتْ. متفق عَلَيْهِ.
وفي روايةٍ لِمُسْلِمٍ عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عُمَرَ بِمَعْنَاهُ، وأنه رآها عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الجُدُرَ تقولُ: أصابَتْنِي دَعْوَةُ سَعيدٍ، وأنَّها مَرَّتْ عَلَى بِئرٍ في الدَّارِ الَّتي خَاصَمَتْهُ فِيهَا، فَوَقَعَتْ فِيهَا، وكانتْ قَبْرَها (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الظلم، وفي الحديث أقوال أخر ذكرها في الفتح وغيره (فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا) أي فعلمك بذلك مع خوفك من الله ومعرفتك بالله، ومعرفتك بعذابه أقوى مانع من أخذ شيء من ذلك (فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة) أتى بإن مع تحققه كذبها لاحتمال صدقها في نفس الأمر بأن دخل بعض أرضها في أرضه غفلة، أو فعله بعض الخدم من غير علم به (فأعم) بقطع الهمزة (بصرها واقتلها في أرضها) أي: اجعل موتها بسببها أو ناشئاً عنها (قال) أي عروة (فما ماتت حتى ذهب بصرها) أي: القوة المودعة في العينين. جاء في رواية ذكرها الحافظ في الفتح عند ابن حبان: أن سعيداً ترك لها ما ادعت فيه. وفي رواية لغيره فجاء سيل فأبدا عن حفيرتها فإذا حقها خارج عن حق سعيد، فجاء سعيد إلى مروان فركب معه والناس حتى نظروا إليها (وبينما هي تمشي في أرضها) لسقي النخل والقيام بأمره (إذ وقعت في حفرة فماتت) فحقق الله كذبها بوجود ما سئل معلقاً عليه (متفق عليه وفي رواية لمسلم) في الصحيح أيضاً (عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر) قال في التقريب: هو ثقة من الثالثة أي: أواسط التابعين الحديث (بمعناه) أي: وإن اختلف بعض مبناه (وأنه رآها عمياء تلتمس الجدر) لتهتدي بها إلى مقصدها (تقول) جملة حالية من مفعول رأى أو مستأنفة (أصابتني دعوة سعيد) ففيه إجابة دعاء سعيد (وأنها مرت على بئر في الدار التي خاصمته فيها فوقعت فيها) فماتت (فكانت) أي: صارت (قبرها) أي: محله بأن دفنت فيه، وكان غور الماء منها بسببها، أو صارت سبب ولوجها قبرها، وفي الفتح في المثل يقولون إذا دعوا "كعمى الأروي". قال ابن الزبير: في روايته "كان أهل المدينة يقولون عماه الله تعالى
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين وأخرجه في كتاب: المظالم (6/211) .
وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة باب: تحريم الظلم وغضب الأرض وغيرها (الحديث: 137) .(7/323)
عَيْناً، وأمَّرَ عَلَيْهَا عاصِمَ بنَ ثَابِتٍ الأنْصَارِيَّ - رضي الله عنه -، فانْطلقوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بالهَدْأةِ؛ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ؛ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْل يُقالُ لَهُمْ: بَنُو لحيانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَريبٍ مِنْ مِئَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا أحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وأصْحَابُهُ، لَجَأُوا إِلَى مَوْضِعٍ، فَأَحاطَ بِهِمُ القَوْمُ، فَقَالُوا: انْزِلُوا فَأَعْطُوا بِأيْدِيكُمْ وَلَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ أنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أحَداً. فَقَالَ عَاصِمُ بنُ ثَابِتٍ: أَيُّهَا القَوْمُ، أَمَّا أنا، فَلاَ أنْزِلُ عَلَى ذِمَّةِ كَافِرٍ: اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَمُوهُمْ بِالنّبْلِ فَقَتلُوا عَاصِماً، وَنَزَلَ إلَيْهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" الآخرين كانوا أتباعاً فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم. اهـ (وأمر) بتشديد الميم (عليهم عاصم بن ثابت) بمثلثة قبل الألف وموحدة ففوقية (الأنصاري رضي الله عنه) الأنسب عنهم (فانطلقوا حتى إذا كانوا) أي: صاروا (بالهداة) بوزن القضاة والدال مهملة، وقيل: إنه بسكون الدال وهمزة بعدها مفتوحة. وعند ابن إسحاق: الهدة بتشديد الدال بغير ألف محل (بين عسفان) بضم المهملة الأولى وسكون الثانية. سميت به لعسف السيول لها (ومكة) وهي على سبعة أميال من عسفان (وذكروا) بالبناء للمفعول (لحي) بفتح المهملة وتشديد الياء القبيلة من العرب وجمعه أحياء (من هذيل يقال لهم بنو لحيان) بكسر اللام. وقيل: بفتحها وسكون المهملة، هو ابن هذيل نفسه، وهذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وقيل: إن لحيان من بقايا جرهم، فدخلوا في هذيل فنسبوا إليهم (فنفروا) أي: اللحيانيون (لهم) أي: للرهط (بقريب من مائة رجل رام) بالنبل والأحجار وغيرهما مما يعتادون الرمي به في حروبهم (فاقتصوا) بتشديد الصاد المهملة أي: قصوا وتتبعوا (آثارهم) حتى وصلوا إليهم (فلما أحس) أي: شعر (بهم عاصم وأصحابه) باقي الرهط (لجئوا) قصدوا (إلى موضع) يكون ملجأ لهم من العدو لامتناعه (فأحاط بهم القوم) أي: من جميع جهات ذلك الموضع (فقالوا: انزلوا فأعطوا بأيديكم) الباء مزيدة؛ للتأكيد. وهو كناية عن الدخول في الطاعة (ولكم العهد والميثاق) عطف تفسير (ألا نقتل منكم أحداً) أي: على ترك قتل أحد منكم، والجملة حال من فاعل. أعطوا (فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم) بحذف حرف النداء، لأن المقام مقام الإيجاز والاقتصار (أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (أنا فلا أنزل على ذمة كافر) أي: مهما أكن عليه من الأحوال من السلامة، أو ضدها فلا أنزل على ذمة كافر أي: عقد كافر وعهده، وفي رواية عنه: لا أقبل اليوم عهداً من مشرك، لما فيه من تعظيم الكافر في الجملة والتذلل له (اللهم أخبر عنا نبيك محمداً - صلى الله عليه وسلم -) أي: بالوحي إليه وذلك ليدعوا لهم فتعلو رتبتهم عند الله على رتبة الشهادة الحاصلة إذا قتلوا حينئذٍ (فرموهم بالنبل) بفتح النون(7/326)
ثَلاَثَةُ نَفَرٍ عَلَى العَهْدِ والمِيثاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ، وَزَيدُ بنُ الدَّثِنَةِ وَرَجُلٌ آخَرُ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أطْلَقُوا أوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبطُوهُمْ بِهَا. قَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أوَّلُ الغَدْرِ واللهِ لا أصْحَبُكُمْ إنَّ لِي بِهؤُلاءِ أُسْوَةً، يُريدُ القَتْلَى، فَجَرُّوهُ وعَالَجُوهُ، فأبى أنْ يَصْحَبَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وانْطَلَقُوا بِخُبَيبٍ، وزَيْدِ بنِ الدَّثِنَةِ، حَتَّى بَاعُوهُما بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ؛ فابْتَاعَ بَنُو الحارِثِ بن عامِرِ بنِ نَوْفَلِ بنِ عبدِ مَنَافٍ خُبيباً، وكان خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَلِبثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أسيراً حَتَّى أجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، فاسْتَعَارَ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وسكون الموحدة، وهي السهام العربية اسم جمع لا واحد لها من لفظها، بل من معناها وهو سهم (فقتلوا عاصماً) حينئذٍ شهيداً (ونزل إليهم ثلاثة نفر) باقون من الرهط (على العهد والميثاق) الذي عاهدوهم عليه (منهم) خبر مقدم اهتماماً به (خبيب) بضم المعجمة، وفتح الموحدة الأولى وسكون التحتية، هو ابن عدي (وزيد بن الدثنة) تقدم ضبطه (ورجل آخر) بفتح الخاء. قال الحافظ في الفتح في رواية ابن إسحاق: فأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق فاستأسروا وعرف منه تسمية الرجل الثالث (فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار) جمع وتر بفتح الواو، والفوقية كسبب وأسباب (قسيّهم) بكسر القاف والسين المهملة وتشديد التحتية والأصل على فعول، ويجمع أيضاً على أقواس وقياس، وهو القياس ْكثوب وأثواب وثياب (فربطوهم فقال الرجل الثالث) أيهم في رواية الصحيح (هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة) بضم الهمزة وكسرها أي: قدوة (يريد) بالمشار إليهم بقوله هؤلاء (القتلى) بفتح فسكون جمع قتيل كجريح وجرحى (فجروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم) قال الحافظ: هذا يقتضي أن ذلك وقع منه أول ما أسروهم، لكن في رواية ابن إسحاق فخرجوا بالنفر الثلاثة حتى إذا كان بمر الظهران، وإلا فما في الصحيح أولى (فقتلوه وانطلق) بصيغة المجهول (بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة) جاء عند ابن إسحاق وابن سعد أن زيداً ابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه، وعند ابن سعد الذي تولى قتله بسطاس مولى صفوان (بعد وقعة بدر) لأن وقعتهم كانت أواخر سنة ثلاث، كما عند ابن إسحاق: وبدر في رمضان من السنة الثانية (فابتاع) أي: اشترى (بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف خبيباً) بين ابن إسحاق أن الذي تولى شراءه هو جحش بن أبي إهاب التميمي. حليف بني نوفل، وكان (1) الحارث بن عامر. وفي رواية: أنهم شروه بأمة
__________
(1) قوله (وكان الحارث) لعل بينهما سقطاً فليتأمل. ع.(7/327)
بَعْضِ بَنَاتِ الحَارثِ مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأعَارَتْهُ، فَدَرَجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَجَدتهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخْذِهِ وَالموسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعَتْ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ. فَقَالَ: أَتَخَشَيْنَ أن أقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ! قالت: واللهِ مَا رَأيْتُ أسيراً خَيراً مِنْ خُبَيْبٍ، فواللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوماً يَأكُلُ قِطْفاً مِنْ عِنَبٍ في يَدِهِ وإنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سوداء، وفي رواية: باعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة. قال الحافظ: ويمكن الجمع (وكان خبيب هو قتل الحارث) يعني ابن عامر المذكور (يوم بدر) قال في الفتح: كذا وقع في هذا الحديث، واعتمد البخاري فعد خبيب بن عدي فيمن شهد بدراً. وهو اعتماد متجه وتعقبه الدمياطي بعدم ذكر المغازي خبيب بن عدي فيمن شهد بدراً، وأنه قتل عامراً بأنهم ذكروا أن قاتله ببدر خبيب ابن أساف، وهو خزرجي وخبيب بن عدي أوسي. اهـ ونظر فيه الحافظ بأنه يلزم منه رد الحديث الصحيح، ولو لم يقتل خبيب بن عدي الحارث، ما كان لاعتنائه بنية شرائه معنى ولقتله المصرح به في الصحيح، لكن يحتمل أنهم قتلوه لكونه من الأنصار جرياً على عادة الجاهلية بقتل بعض القبيلة عن بعض. ويحتمل أن ابن عدي شارك ابن إساف في قتل الحارث (فلبث خبيب عندهم أسيراً) مدة الأشهر الحرم (حتى أجمعوا على قتله فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها) واسمها زينب بنت الحارث، وهي أخت عتبة بن الحارث، الذي قتل خبيباً وقتل امرأته كما في الأطراف بحلف، وهذه الجملة مندرجة في القصة من غير طريق الأولى، نبه عليه الحافظ قال: وموسى يجوز فيه الصرف وعدمه، ويستحد أي يحلق عانته (فأعارته) أي: الموسى، وحذف اكتفاء بدلالة ما قبله عليه (فدرج بني) بالتصغير (لها وهي غافلة) بالغين المعجمة والفاء. ذكر الزبير بن بكار أن هذا الصبي هو أبو حسين المكي المحدث، وهو من أقران الزهري (حتى أتاه فوجدته مجلسه) بصيغة الفاعل (على فخذه) بفتح فكسر، ويجوز كسرهما وكسر الثالث، وفتح الأول مع سكون الثاني (والموسى بيده) جملة حالية من مفعول وجدت (ففزعت فزعة عرفها خبيب) لظهور أثرها وبدوه (فقال: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك) بكسر الكاف ذلك من مكارم أخلاقه، ومقابلة السيئة بالحسنة. والصفح عن المذنب وعدم مجازاته، والاكتفاء بقصاص الله له (قالت: والله ما رأيت) أي: أبصرت (أسيراً خيراً من خبيب) وبينت وجه ذلك بقولها على سبيل الاستئناف (فوالله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً) بضم القاف وسكون الطاء المهملة وبالفاء أي عنقوداً (من عنب) جاء في رواية عن سارية مولاة جحش بن أبي إهاب "قالت: لقد اطلعت عليه يوماً وإن في يده لقطفاً من عنب مثل رأس الرجلين يأكل منها" (في يده وإنه لموثق بالحديد) أي: مشدود فيه (وما بمكة من ثمرة) بالمثلثة أتى بذلك(7/328)
مِنْ ثَمَرَةٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ خُبَيْباً. فَلَمَّا خَرَجُوا بِهِ مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ في الحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ: واللهِ لَوْلاَ أنْ تَحْسَبُوا أنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ: اللَّهُمَّ أحْصِهِمْ عَدَداً، وَاقْتُلهُمْ بِدَدَاً، وَلاَ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَداً. وقال:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِيْنَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ... عَلَى أيِّ جَنْبٍ كَانَ للهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ في ذَاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيداً لقوله عنها (وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيباً) فيه إثبات كرامة لخبيب وفي طي ذلك آية لإِثبات رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإقامة الحجة على الكفار، لأنه لم يصل لذلك إلا بالإيمان به - صلى الله عليه وسلم - واتباع هديه. والذي عليه الجمهور كما تقدم أول الباب أن كل ما جاز كونه معجزة لنبي جاز كونه كرامة لولي من غير استثناء، ومن يقع على يده الخوارق متمسكاً بالكتاب والسنة متنسكاً كان ذلك كرامة له. وإلا فتارة يكون معونة، وتارة يكون استدراجاً، وتارة يكون سحراً وكهانة (فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل) بين ابن إسحاق أنهم أخرجوه إلى التنعيم (قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين) هذه رواية جماهير البخاري بإثبات الياء، وللكشميهني بحذفها ووجهها ظاهر (فتركوه فركع ركعتين) عند موسى بن عقبة أنه صلاهما في موضع مسجد التنعيم (فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع) أي: من الموت كما في البخاري (لزدت) في رواية عنه: لزدت سجدتين أخريين (اللهم أحصهم) بقطع الهمزة (عدداً) تمييز محول عن المفعول به أي: احص عددهم (واقتلهم بدداً ولا تبق) بضم الفوقية (منهم أحداً) جاء في رواية فلم يحل الحول ومنهم أحد حي غير رجل كان استلبد بالأرض حال دعاء خبيب لئلا يصيبه معهم. وفي رواية أخرى فجاء يخبر عنه، فقال خبيب: "اللهم إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلغه". جاء في رواية أخرى: "فجاء جبريل فأخبره فأخبر أصحابه بذلك" وعند موسى بن عقبة فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك اليوم، وهو جالس: وعليك السلام، خبيب قتلته قريش (وقال: فلست أبالي) هذه رواية الكشميهني وللأكثر: ما إن أبالي. قال الحافظ: والأول أوزن، وهذا جائز، لكنه مخروم ويكمل بزيادة الفاء، وما نافية، وإن بكسر الهمزة وسكون النون نافية أيضاً للتوكيد (حين أقتل مسلماً، على أي جنب كان لله مصرعي) أي: موتي ومراده استواء كيفيات الموت عنده حال موته مسلماً شهيداً (وذلك في ذات الإِله) استدل به على جواز إطلاق الذات(7/329)
وكان خُبَيبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْراً الصَّلاَةَ. وأخْبَرَ (يعني: النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) أصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بنِ ثَابتٍ حِيْنَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ أن يُؤْتَوا بِشَيءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وكَانَ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمائِهِمْ، فَبَعَثَ الله لِعَاصِمٍ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِروا أنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على الله تعالى (وإن يشأ يبارك على أوصال) جمع وصل وهو العضو (شلو) بكسر المعجمة وسكون اللام الجسد وقد يطلق على العضو والمراد هنا الأول (ممزع) بالزاي ثم المهملة أي: مقطع والمعنى أعضاء جسد يقطع. وعند أبي الأسود عن عروة زيادة في هذا الشعر:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وفيه
إلى الله أشكو غربتي بعد قربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
وساقها ابن إسحاق ثلاثة عشر بيتاً. قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها لخبيب.
وفي البخاري: فقام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وحذفه المصنف لعدم تعلقه بغرض الترجمة (وكان خبيب هو سن) في البخاري في رواية أول من سن (لكل مسلم قتل صبراً) قال في الصحاح: كل ذي روح يوثق حتى يقتل فقد قتل صبراً (الصلاة) ويؤخذ استحباب ذلك من إقرار المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (وأخبر يعني - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم أصيبوا خبرهم) ففيه معجزة له بإطلاعه على ما هو مغيب عنه بعيد منه، بالوحي إليه وإعلامه به (وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا) بصيغة المجهول (أنه قتل) بفتح الهمزة وبناء الفعل للمجهول، وهو ساد مسد المفعولين الثاني والثالث (أن يؤتوا بشيء منه) على تقدير اللام أو مضاف مفعول له أي: ليؤتوا أو إرادة أن يؤتوا، وهو بصيغة المجهول وكذا قوله: (يعرف وكان عاصم قتل رجلاً من عظمائهم) قال الحافظ: لعله عقبة بن أبي معيط فإن عاصماً قتله صبراً بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن انصرفوا من بدر، ووقع عند ابن إسحاق: أن عاصماً لما قتل أرادت هذيل أخذ رأسه، ليبيعوه من سلاقة بنت سعيد بن نهشل، وهي أم شافع وجداس أبي طلحة العبدري، وكان عاصم قتلها يوم أحد، فمنعته الدبر فإنه كان محفوظاً، احتمل أن تكون قريش لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الدبر له فيتمكنون من أخذه (فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر) بضم المعجمة السحابة، والدبر بفتح الدال المهملة وسكون الموحدة الزنابير. وقيل: ذكور النحل لا واحد له من لفظه، وسيأتي اقتصار المصنف على هذا غير مقيد بالذكر (فحمته) بتخفيف الميم أي: منعته (من رسلهم) بضمتين ويسكن الثاني تخفيفاً(7/330)
شَيْئاً. رواه البخاري (1) .
قولُهُ: "الهَدْأَةُ": مَوْضِعٌ، "والظُّلَّةُ": السَّحَابُ. "والدَّبْرُ": النَّحْلُ. وَقَوْلُهُ: "اقْتُلْهُمْ بِدَداً" بِكَسْرِ الباءِ وفتحِهَا، فَمَنْ كَسَرَ قَالَ هُوَ جمع بِدَّةٍ بكسر الباء وهي النصيب ومعناه: اقْتُلْهُمْ حِصَصاً مُنْقَسِمَةً لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمْ نَصيبٌ، وَمَنْ فَتَحَ قَالَ معناهُ: مُتَفَرِّقِينَ في القَتْلِ واحداً بَعْدَ واحِدٍ مِنَ التَّبْدِيد.
وفي الباب أحاديث كثيرةٌ صَحيحةٌ سَبَقَتْ في مَوَاضِعِها مِنْ هَذَا الكِتَابِ، مِنْهَا حديثُ الغُلامِ الَّذِي كَانَ يأتِي الرَّاهِبَ والسَّاحِرَ، ومنْها حَدِيثُ جُرَيْج، وحديثُ أصْحابِ الغَارِ الذين أطْبِقَتْ عَلَيْهِم الصَّخْرَةُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فلم يقدروا) بكسر الدال (أن يقطعوا منه شيئاً) وفي رواية أبي الأسود "فبعث الله عليهم الدبر تطير في وجوههم وتلدغهم فحالت بينهم وبين أن يقطعوا". وفي رواية ابن إسحاق: وكان عاصم أعطى الله عهداً ألا يمس مشرك أبداً، ولا يمسه مشركاً، وكان عمر يقول لما بلغه خبره: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته. وإنما استجاب الله في حماية لحمه منهم دون منعهم من قتله، لما في القتل من الشهادة والكرامة، وفي قطع اللحم من هتك الحرمة والمثلة (رواه البخاري) في أماكن المغازي (قوله: الهداة) تقدم ضبطها (موضع) بين مكة وعسفان (والظلة السحاب والدبر النحل) تقدم (وقوله: اقتلهم بدداً بكسر الباء وفتحها) والدال مفتوحة فيها (فمن كسر قال: هو جمع بدة بكسر الباء) الموحدة وتشديد الدال (وهي النصيب) فيكون نظير قربة وقرب (ومعناه اقتلهم حصصاً منقسمة لكل منهم نصيب) منه (ومن فتح قال: معناه متفرقين في القتل واحداً بعد واحد) فيكون مصدر بددت الشيء أبده، من باب قتل إذا فرقه. قال في المصباح: والتثقيل مبالغة وتكثير. اهـ وعليه فيكون بدداً اسم مصدر (من التبديد. وفي الباب) أي: الكرامات (أحاديث كثيرة) تأكيد للكثرة المدلول عليها بصيغة جمع الكثرة، ودفعاً لتوهم أنه تجوز به عن جمع القلة، كما في قوله تعالى: (ثلاثة قروء) (2) (صحيحه سبقت في مواضعها من هذا الكتاب منها حديث الغلام الذي كان يأتي الراهب والساحر) تقدم في باب الصبر (ومنها حديث جريج) تقدم في باب الإِخلاص (ومنها حديث أصحاب الغار الذين أطبقت عليهم الصخرة) تقدم في باب
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع كتاب الجهاد، باب هل يستأثر الرجل (7/240، 291، 295)
(2) سورة البقرة، الآية: 228.(7/331)
دليل الفالحين
لطرق رياض الصالحين
تأليف العالم العلَّامة المفسِّر محمد بن علّان الصِدّيقي الشافعي
الاشعري المكي المتوفي سنة 1057 هـ
طبعة جديدة مصحّحة
مرقمة مخرّجة الآيات والأحاديث
اعتنى بها
الشيخ خليل مأمون شيحا
الجزء الثامن(7/337)
16- كتَاب الأمُور المَنهي عَنْهَا
254- باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (وَلاَ يَغْتَبْ بَعضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) .
وقال تَعَالَى (2) : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الأمور
بضم أوليه جمع أمر بمعنى الحال أما الأمر بمعنى الطلب فجمعه أوامر (المنهي عنها) تحريماً أو تنزيهاً بالمعنى الشامل لخلاف الأولى. (باب تحريم الغيبة) بكسر المعجمة وسكون التحتية (والأمر بحفظ اللسان) أي: عن كل منهي عنه من الكلام ومنه المباح الذي لا يعني. (قال الله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضاً) والغيبة ذكرك أخاك بما يكره، مع أنه فيه فإن لم يكن فيه فبهتان (أيحب أحدكم أن جمل لحم أخيه) تمثيل لما ينال من عرض أخيه على أفحش وجه (ميتاً) حال من اللحم والأخ (فكرهتموه) الفاء فصيحة أي إن عرض عليكم هذا فقد كرهتموه، فهو تقرير وتحقيق للأول (واتقوا الله إن الله تواب) بليغ في قبول التوبة (رحيم) بالغ الرحمة. وقال تعالى: (ولا تقف) أي: تتبع (ما ليس لك به علم) ما لم يتعلق به علمك من قول وفعل، فيدخل فيه شهادة الزور والكذب والبهتان (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك) أي: السمع والبصر والفؤاد، وأولئك تجيء لغير العقلاء (كان عنه مسؤولاً) من جوز تقديم مفعول ما لم يسم فاعله: لأنه في المعنى مفعول سيما
__________
(1) سورة الحجرات، الآية: 12.
(2) سورة الإسراء، الآية: 36.(8/339)
وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ" متفق عَلَيْهِ (1) .
1512- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا إِلَى النَّارِ أبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ" متفق عَلَيْهِ.
ومعنى: "يَتَبَيَّنُ" يُفَكِّرُ أنَّها خَيْرٌ أم لا (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأبرزه في سورة التمثيل: ليكون التأكيد فيه بليغاً. وما بين لحييه هو اللسان فلا يتكلم إلا فيما أمر به، ويسكت في غيره (وما بين رجليه) أي: فرجه فلا يأتي به حراماً (أضمن) بالرفع على الاستئناف، وبالجزم جواب الشرط المقدر: لكونه في جواب الطلب، وقصد به الجزاء (له الجنة متفق عليه) في الجامع الصغير رمز البخاري فقط، وكذا صنع في الجامع الكبير وزاد فيه رمزاً للبيهقي في الشعب، فلعل الحديث عند مسلم كما قاله المصنف لا من حديث سهل أو لا بخصوص هذا اللفظ.
ّ1512- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إن العبد) أي: الإِنسان المكلف حراً كان أو غيره (ليتكلم بالكلمة) ينبغي أن يراد بها كل من معنييها اللغويين أي: القول المفرد والجملة المفيدة، من استعمال المشترك في معنييه جملة، وهو جائز عند إمامنا الشافعي في آخرين، ثم رأيت العلقمي، أشار لذلك، بقوله أي: الكلام المشتمل على ما يفهم الخير والشر، سواء طال أو قصر، كما يقال كلمة الشهادة، ويقال للقصيدة كلمة (ما يتبين فيها) جملة مستأنفة أو حالية من ضمير يتكلم، وفي محل الصفة فالكلمة: لكون أل فيها جنسية (يزل) بكسر الزاي وتشديد اللام (بها) أي: بسببها (إلى النار) أي: إلى جهتها ويقرب منها (أبعد مما بين المشرق والمغرب) والجملة مضارعية مستأنفة، بيان لموجب تلك الكلمة، ومقتضاها كان قائلاً، قال ماذا يناله بها، فقيل يزل بها وأبعد، صفة مصدر محذوف أي: زللاً بعيد المبدأ أو المنتهى جزاء (متفق عليه) ورواه أحمد (ومعنى يتبين) مضارع من التبين (يفكر أنها) أي: الكلمة (خير أم لا) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان (1/264، 265) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان (11/265، 266) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: التكلم بالكلمة يهوى بها في النار (وفي نسخة، باب: حفظ اللسان، (الحديث: 49 و50) .(8/342)
1513- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ الله تَعَالَى مَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلَمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا في جَهَنَّمَ". رواه البخاري (1) .
1514- وعن أَبي عبد الرحمان بِلالِ بن الحارِثِ المُزَنِيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1513- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى) بكسر الراء وضمها، ومن فيه: بيانية حال من الكلمة، وكذا قوله (ما يلقي لها بالاً) بالموحدة أي: لا يسمع إليها ولا يجعل قلبه نحوها (يرفعه الله بها درجات) جملة مستأنفة، بيان للموجب، كما تقدم نظيره، وفي نصبه أوجه أحدها أنه منصوب على الظرف، ومفعول الفعل محذوف، أي: يرفعه الله فيها، والثاني أنها تمييز محول عن المفعول المحذوف، والأصل يرفع الله درجاته، فحذف المضاف، ووقع الفعل على المضاف إليه المدلول عليه بالسياق، فحصل إجمال في النسبة فرفع بالإتيان به تمييزاً. والثالث أنها على نزع الخافض، أي: إلى درجات. كذا لخص من شرح الشاطبية، للشهاب الحلبي المعروف الشهير، ومن خطه نقلت، وهو ذكر ذلك في قوله تعالى: (نرفع درجات من نشاء) (2) (وإن العبد لا يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بألا يهوي) بكسر الواو أي: ينزل (بها في) دركات (جهنم) وفي الجملة الأولى الوعد على التكلم بالخير، من أمر بمعروف أو نهي عن منكر وفي الثانية الوعيد على ضده (رواه البخاري) ورواه أحمد.
1514- (وعن أبي عبد الرحمن بلال) بكسر الموحدة (ابن الحارث) بن عاصم بن سعد بن قرة بن خلاوة، بفتح المعجمة ابن ثعلبة بن ثور بن هدية، بضم الهاء وإسكان الذال المعجمة ابن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار (المزني رضي الله عنه) قال المصنف: ووفد عثمان، قيل لهم مزنيون نسبوا إلى أمه وبلال مزني وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد مزينة سنة خمس من الهجرة، وأقطعه - صلى الله عليه وسلم - المعادن القبلية، بفتح القاف والموحدة، وكان يحمل لواء مزينة يوم فتح مكة، ثم سكن البصرة، وتوفي بها سنة ستين، وهو ابن ثمانين سنة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث اهـ. من التهذيب للمصنف
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان (11/266، 267) .
(2) سورة الأنعام، الآية: 83.(8/343)
وإنَّ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ القَلْبُ القَاسِي". رواه الترمذيُّ (1) .
1517- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وَقَاهُ اللهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الجَنَّةَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
1518- وعن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ اللهِ مَا النَّجَاةُ؟
قَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ". رواه الترمذيُّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي تنوين الخير إيماء إلى غلظها وعظمها (وإن أبعد الناس من الله تعالى) أي: من فيضه ورحمته (القلب القاسي) فإنه لقساوته لا يأتمر بخير ولا ينزجر عن شر، فيبعد عن وصف المفلحين، وينتظم في زمرة الأشقياء المبعدين (رواه الترمذي) قال في الجامع الكبير وقال الترمذي غريب. ورواه ابن شاهين في الترغيب في الذكر، ورواه البيهقي في الشعب من حديث ابن عامر.
1517- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من وقاه الله شر ما بين لحييه) أي: لسانه بأن حبسه عن الشر وأجراه في الخير (وشر ما بين رجليه) أي: فرجه حفظه عن الحرام (دخل الجنة) أي: مع الفائزين أي: إن لم يأت بكبائر ولم يتب عنها، وإلا فأمره إلى الله. وظاهر أن الكلام في المؤمنين، فالعام مراد به خاص، أو يقال هو على عمومه، ولا وقاية من شرهما لغيره (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح) قال في الجامع الصغير ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه.
1518- (وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما النجاة) أي: ما سببها المحصل لها (قال أمسك عليك لسانك) أي: لا تجره إلا بما يكون لك لا عليك، وكان الظاهر أن يقال حفظ اللسان، فأخرجه على سبيل الأمر المقتضي للتحقيق مزيداً للتقرير.
وقيل الحديث من أسلوب الحكيم، فإن السؤال عن حقيقة النجاة، والجواب بسببها: لأنه أهم (وليسعك بيتك) الأمر للبيت، وفي الحقيقة لصاحبه: أي اشتغل بما هو سبب لزومه، وهو طاعة الله تعالى والاعتزال عن الأغيار (وابك على خطيئتك) ضمن إبك معنى الندامة،
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، [باب: 61] ، (الحديث: 2411) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان، (الحديث: 2409) .(8/346)
وقال: "حديث حسن" (1) .
1519- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّهَا تَكْفُرُ اللِّسانَ، تَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإنَّما نَحنُ بِكَ؛ فَإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا". رواه الترمذي.
معنى: "تَكْفُرُ اللِّسَانَ": أيْ تَذِلُّ وَتَخْضَعُ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فعداه بعلى أي: اندم على خطيئتك باكياً (رواه الترمذي وقال حديث حسن) .
1519- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أصبح ابن آدم) أي: دخل في الصباح (فإن الأعضاء كلها) جمع عضو بضم أوله وكسره، كل لحم وافر بعظمه، قاله في القاموس. ويطلق على القطعة من الشيء والجزء منه أي: كما في المصباح، والظاهر أن هذا مراد هنا (تكفر اللسان) بينه بمَوله (تقول اتق الله فينا) فالجملة بدل مما قبلها أو بيان له (فإنما نحن بك) أي: مجازون بما يصدر عنك، والحصر إضافي.
(فإن استقمت استقمنا) القوام بالفتح العدل والاعتدال، أي: إن اعتدلت اعتدلنا (وإن اعوججت اعوججنا) العوج بفتحتين، في الأجساد، خلاف الاعتدال وهو مصدر من باب تعب يقال عوج العود فهو أعوج والعوج بكسر ففتح في المعاني، يقال في الدين عوج وفي الأمر عوج. قال أبو زيد في الفرق وكل ما رأيته بعينك فهو مفتوح، وما لم تره بعينك فمكسور اهـ. من المصباح واستشكل الطيبي الجمع بين هذا الحديث، وحديث: "إن في الجسد مضغة" ثم أجاب بما حاصله أن اللسان خليفة القلب وترجمانه، وأن الإِنسان عبارة عن القلب واللسان، والمرء بأصغريه. لسان الفتى نصف ونصف فؤاده. (رواه الترمذي) وابن خزيمة والبيهقي في الشعب (معنى تكفر) بضم الفوقية وتشديد الفاء (أي تذل وتخشع) والتكفير هو انحناء قريب من الركوع، كذا في النهاية، ونقله الطيبي وسكت عليه. قال بعض، شراح الجامع الصغير: ولا مانع أن يكون التكفير هنا، كناية عن تنزيل الأعضاء اللسان، إذا أخطأ منزلة الكافر النعم، أو الخارج من الإِسلام إلى الكفر مبالغة، فهي تكفره بهذا الاعتبار وبلسان الحال، ولا ينافي هذا قوله تقول الخ وكأنه الحامل لصاحب النهاية لما جنح له، فإنه لولا توهمه المنافاة، ما اقتصر على ما ذكره. وقد علم مما قررته (3) بل هو أبعد عن التأويل،
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان، (الحديث: 2406) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان، (الحديث: 2407، 2409) .
(3) كذا، ولعل الأصل "وقد علم صحة ما قررته". ع.(8/347)
1521- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ " قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: "ذِكْرُكَ أخَاكَ بِما يَكْرَهُ" قِيلَ: أفَرَأيْتَ إنْ كَانَ في أخِي مَا أقُولُ؟ قَالَ: "إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فقد اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ" رواه مسلم (1) .
1522- وعن أَبي بَكْرة - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى في حَجَّةِ الوَدَاعِ: "إنَّ دِماءكُمْ، وَأمْوَالَكُمْ، وأعْرَاضَكُمْ، حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كذا في نسخة، وفي أخرى بزيادة (قبل هذا) وهو باب (2) .
1521- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أتدرون ما الغيبة) أي: ما حقيقتها الشرعية (قالوا الله ورسوله أعلم) ردوا العلم إليهما، عملاً بالأدب، ووقوفاً عند حد العلم (قال ذكرك) خبر محذوف دل عليه ذكره في السؤال أي: هي ذكرك (أخاك بما يكره) أي: بمكروه، أو بالذي يكرهه، وبين المعنيين تفاوت لا يخفى (قيل أفرأيت) أي: أخبرني (إن كان في أخي ما أقول) حذف الجواب أي: فهو غيبة، كما يومىء إليه تعريفها السابق، فإنه يشمل ما كان فيه وما لا (قال إن كان فيه ما تقول) الظرف خبر مقدم لكان، وما اسمها، وعائدها محذوف إن قدرت موصولاً أو موصوفاً، فإن قدرت مصدرية فالاسم، المصدر المنسبك منها مع صلتها (فقد اغتبته) لصدق الحد السابق لها على ذلك (وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) بفتح أوليه أي: افتريت عليه الكذب. وأفادت هذه الجملة، اعتبار قيد، كون المكروه الذي ذكرته قائماً به (رواه مسلم) .
1522- (وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم النحر بمنى) هي من خطب الحج المسنونة عند إمامنا الشافعي وأصحابه، قال ابن حجر الهيتمي وقد تركت، من منذ ثلثمائة عام اهـ. قلت وقد يسر الله إحياءها، في هذه الأزمنة، يباشرها الفقراء احتساباً لله تعالى بفضل الله تعالى عليه والإِنابة (في حجة الوداع) بفتح الواو وكسرها، كما تقدم وجههما (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم) أي: يحرم التعرض لدم مسلم أو ماله أو عرضه، بما لم يأذن به الشارع، حرمة شديدة (كحرمة يومكم هذا) أي: يوم
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الغيبة، (الحديث: 70) .
(2) لم يذكر الباب الذي قدم فيه الشرح ولم نقف عليه. ع.(8/350)
وَقُبْحِهَا. وهذا الحَديثُ مِنْ أبلَغِ الزَّواجِرِ عَنِ الغِيبَةِ (1) قَالَ الله تَعَالَى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (2) .
1524- وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا عُرِجَ بي مَرَرْتُ بِقَومٍ لَهُمْ أظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ: مَنْ هؤُلاءِ يَا جِبرِيلُ؟ قَالَ: هؤُلاءِ الَّذِينَ يَأكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ في أعْرَاضِهِمْ! "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النون، والفوقية مصدر نتن من باب تعب (وقبحها) وهذا على الرواية المذكورة في الحديث. قال العاقولي: وفي المصابيح لو مزج بها البحر لمزجته. وكذا هو في نسخ أبي داود، وكان حق اللفظ لو مزجت بالبحر لكن المزج يستدعي الامتزاج، فكل من الممتزجين يمتزج بالآخر، ومثله فاختلط به نبات الأرض، كان من حق اللفظ فاختلط بنبات الأرض.
ووجه مجيئه فيما قال صاحب الكشاف: أن كل مختلطين موصوف كل واحد منهما، بصفة صاحبه على أن هذا التركيب، أبلغ: لأنه حينئذ من باب عرض الناقة على الحوض اهـ.
وفي كون القلب مطلقاً أبلغ نظر: الذي رجحه الخطيب، أنه إن تضمن سلاسة كان مقبولاً، وإلا فيرد فضلاً عن كونه أبلغ (وهذا الحديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة) والمنع منها لشدة قبحها، فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة، في مزج البحر، الذي هو من أعظم المخلوقات، فما بالك بغيبة أقوى منها. (قال الله تعالى) في حق نبيه - صلى الله عليه وسلم - (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (3) .
1524- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما عرج) بالبناء للمفعول، نائب فاعله قوله (بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس) بضم النون (يخمشون) بسكون المعجمة وكسر الميم (بها وجوههم وصدورهم) أي: يجرحونها، والجملة الفعلية محتملة للحالية، والوصفية، والاستناف. (فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الغيبة، (الحديث: 4875) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة، [باب: 51] ، (الحديث: 2502 و 2503) .
(2) سورة النجم، الآيتان: 3، 4.
(3) سورة النجم، الآيتان: 3، 4.(8/352)
رواه أَبُو داود (1) .
1525- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ" رواه مسلم (2) .
255- باب: في تحريم سماع الغيبة وأمر من سمع غيبةً محرمةً بردها والإِنكار علي قائلها، فإن عجز أو لم يقبل منه فارق ذلك المجلس إن أمكنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باغتيابهم فيه استعارة تصريحية تبعية، شبهت الغيبة بأكل اللحم بجامع التلذذ بكل، فاستعير أكل اللحم للغيبة، ثم سرت منه للفعل، وعطف عليه على وجه التفسير قوله: (ويقعون في أعراضهم) وفي هذه استعارة مكنية، شبهت أعراض الناس المعبر عنها، على وجه الاستعارة باللحوم بشفا جرف هار. فالتشبيه المضمر في النفس، استعارة مكنية، وإثبات الوقوع استعارة تحييلية "فائدة" روى الإمام أحمد أنه قيل يا رسول الله إن فلانة وفلانة صائمتان وقد بلغتا الجهد، فقال أدعهما فقال لإِحداهما قيئي، فقاءت لحماً ودماً غبيطاً وقيحاً، والأخرى مثل ذلك، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - صامتاً عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، أتت إحداهما الأخرى، فلم يزالا يأكلان لحوم الناس، حتى امتلأت أجوافهما قيحاً. وهذا الحديث شاهد لإجراء صدر الحديث على ظاهره وحقيقته (رواه أبو داود) .
1525- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل المسلم على المسلم حرام) أي: محرم (دمه وعرضه وماله) بالجر بدل من المسلم المضاف، بدل اشتمال. والعرض بالكسر قال في المصباح: النفس والحسب اهـ وظاهر، أن المراد هنا الثاني، فتقدم الأول في قوله دمه. (رواه مسلم) .
باب تحريم سماع الغيبة
ومثلها سائر المحرمات القولية، من نميمة وقذف وكلام كذب (وأمر من سمع غيبة محرمة بردها) أي: بالإِبطال (والإِنكار على قائلها) ليرتدع عنه، وهذا لمن قدر عليه (فإن عجز عنه) لضعف مثلاً (أو) أنكر ولكن (لم يقبل منه) لقوة العناد وداعية الفساد (فارق ذلك المجلس) أي: المشتمل على ما ذكر (إن أمكنه) بأن أمن نفساً ومالاً محترمين، وسائر ما
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الغيبة، (الحديث: 4878) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، (الحديث: 32) .(8/353)
قال الله تعالى (1) : (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (والَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) .
وَقَالَ تَعَالَى (3) : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) .
وَقَالَ تَعَالَى (4) : (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَومِ الظَّالِمِينَ) .
1526- وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أخيهِ، رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَومَ القيَامَةِ". رواه الترمذي، وقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعتبر الخوف عليه شرعاً. (قال الله تعالى: وإذا سمعوا اللغو) أي: القبيح من القول (أعرضوا عنه) تكرماً وتنزهاً. (وقال تعالى: والذين هم عن اللغو) أي: كل ما لا يعنيهم من قول وفعل (معرضون) . (وقال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) تقدم ما يتعلق بها في الباب قبله (وقال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) أي: بالطعن والاستهزاء (فأعرض عنهم) بترك مجالستهم (حتى يخوضوا في حديث غيره) الضمير للآيات باعتبار القرآن (وإما ينسينك الشيطان) النهي عن مجالستهم لوسواسه (فلا تقعد بعد الذكرى) أي: بعد أن تذكر (مع القوم الظالمين) أي: منهم فإنهم ظلمة، بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم.
1526- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من رد عن عرض أخيه) أي: في الإيمان وهو المسلم، أي: بأن يمنع من يريد اغتياب المؤمن عنها، إما قبل الوقوع بالزجر والردع عنها، وإما بعده لرد ما قاله عليه. وإن كان ذلك الإِنسان بخلافه كما يأتي فيما بعد (رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) وذلك: لأنه رد مريد الغيبة عن عذابها لو فعلها، فجوزي بردها عنه في الآخرة ورد عن المغتاب ما يلقاه مما رمى به ممن اغتابه، فردها الله
__________
(1) سورة القصص، الآية: 55.
(2) سورة المؤمنون، الآية: 3.
(3) سورة الإِسراء، الآية: 36.
(4) سورة الأنعام، الآية: 68.(8/354)
حَدِيث حَسَنٌ (1) .
1527- وعن عِتبَانَ بنِ مَالكٍ - رضي الله عنه -، في حديثه الطويل المشهور الَّذِي تقدَّمَ في بابِ الرَّجاء قَالَ: قام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَقَالَ: "أيْنَ مالِكُ بنُ الدُّخْشُمِ؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ اللهَ ولا رَسُولهُ، فَقَالَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَقُلْ ذَلِكَ ألاَ تَراهُ قَدْ قَالَ: لا إلهَ إِلاَّ اللهُ يُريدُ بِذَلكَ وَجْهَ اللهِ! وإنَّ الله قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنه (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه البيهقي في السنن من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أيضاً بلفظ من رد عن عرض أخيه، كان له حجاباً من النار. وفي الجامع الكبير للسيوطي بعد إيراده باللفظ الذي أورده المصنف رواه أحمد وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة.
وباللفظ الثاني رواه عبد بن حميد بن زنجويه والروياني والخرائطي في مكارم الأخلاق والطبراني وابن النجار في عمل يوم وليلة، ورواه الطبراني والخرائطي من حديث أبي الدرداء بلفظ: "من رد عن عرض أخيه كان له حجاباً من النار" وفي رواية: "كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة" ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة من حديث أم الدرداء بلفظ: "من رد عن عرض أخيه كان حقاً على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة". ورواه ابن أبي الدنيا، من حديث أسماء بنت يزيد بلفظ: "من رد عن عرض أخيه بالغيبة، كان حقاً على الله أن يعتقه من النار" اهـ.
1527- (وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل المشهور) أي: بين الناس، وليس مراده المشهور اصطلاحاً ثلاثة عن ثلاثة إلى منتهاه (الذي تقدم في باب الرجاء) بجملته (قال قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فقال) أي: للحاضرين حينئذ (أين مالك بن الدخشم فقال رجل ذلك) أتي به إيماء إلى تحقيره وإبعاده عن ذلك المجلس السامي، كما أخبر عنه بقوله (رجل) توطئة لقوله (منافق) وقوله: (لا يحب الله ولا رسوله) صفة بعد صفة، أو حال، أو استئناف (فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تقل ذلك) نهي تحريم. وجاء باسم الاشارة المذكور إيماء إلى فخامة ما أتي به وعظمه في الإِثم (ألا تراه) بفتح الفوقية أي: تبصره حال كونه (قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه) أي: ذات (الله) جملة حالية من فاعل، قال ولعل القائل ما تقدم في مالك المخاطب بذلك كان من أكمل الصحابة أرباب القلوب، وصدر منه ما صدر من فلتات اللسان، فإن إرادة وجه الله بالشهادة، لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله على بعض المغيبات، وكشف له عما في القلوب، (وإن الله) بكسر الهمزة والواو للاستئناف (قد حرم على النار)
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الذب عن عرض المسلم، (الحديث: 1931) .(8/355)
مَنْ قَالَ: لا إلهَ إِلاَّ اللهُ يَبْتَغي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ". متفق عَلَيْهِ.
"وَعِتْبان" بكسر العين عَلَى المشهور وحُكِيَ ضَمُّها وبعدها تاءٌ مثناة مِن فوق ثُمَّ باءٌ موحدة. و "الدُّخْشُم" بضم الدال وإسكان الخاء وضم الشين المعجمتين (1) .
1528- وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - في حديثه الطويل في قصةِ تَوْبَتِهِ وَقَدْ سبق في باب التَّوبةِ. قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جالِسٌ في القَومِ بِتَبُوكَ: "مَا فَعَلَ كَعبُ بن مالكٍ؟ " فَقَالَ رَجلٌ مِنْ بَنِي سَلمَةَ: يَا رسولَ الله، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ. فَقَالَ لَهُ مُعاذُ بنُ جبلٍ - رضي الله عنه -: بِئْسَ مَا قُلْتَ، والله يَا رسولَ الله مَا علمنا عَلَيْهِ إِلاَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: المعدة لعذاب الكفار أو على سبيل الخلود المؤبد، فلا ينافي ما ثبت من تعذيب بعض عصاة المؤمنين بها (من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) فيه تنبيه على أن العمل الصالح، لا ينفع منه إلا ما أريد به وجه الله تعالى، وأداء عبوديته، والتقرب به إليه (متفق عليه. وعتبان بكسر العين) أي: المهملة (على المشهور) ومقابله ما حكاه بقوله (وحكي ضمها وبعدها تاء مثناة من فوق) بالضم لقطعه عن الإِضافة لفظاً، والتاء ساكنة (ثم باء موحدة والدخشم بضم الدال) أي: المهملة واستغنى عنه المصنف، بوصف ما بعده بالإِعجام في قوله: (وإسكان الخاء وضم الشين المعجمتين) .
1528- (وعن كعب بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصة توبته) عن تخلفه في غزوة تبوك (وقد سبق) أي: بجملتّه (في باب التوبة قال) أي: كعب (قال - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في القوم بتبوك) يجوز صرفه ومنعه لما تقدم فيهما (ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة) بفتح فكسر (يا رسول الله حبسه برداه) بضم الموحدة (والنظر في عطفيه) بكسر المهملة الأولى (فقال له) أي: لذلك المغتاب (معاذ بن جبل) رداً عن كعب (بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً) جواب القسم، وجملة النداء، معترضة للاهتمام والاعتناء (فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مقراً لإِنكار معاذ على من فعل غيبة، أو تلبس بها،
__________
(1) انظر الحديث رقم (417) .
أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: المساجد في البيوت (3/49، 50) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، (الحديث: 263) .(8/356)
عَلَى تَغْيِيرِ المُنْكَرِ، وَرَدِّ العَاصِي إِلَى الصَّوابِ، فيقولُ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتهُ عَلَى إزالَةِ المُنْكَرِ: فُلانٌ يَعْمَلُ كَذا، فازْجُرْهُ عَنْهُ ونحو ذَلِكَ ويكونُ مَقْصُودُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى إزالَةِ المُنْكَرِ، فَإنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَانَ حَرَاماً.
الثَّالِثُ: الاسْتِفْتَاءُ، فيقُولُ لِلمُفْتِي: ظَلَمَنِي أَبي أَوْ أخي، أَوْ زوجي، أَوْ فُلانٌ بكَذَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَمَا طَريقي في الخلاصِ مِنْهُ، وتَحْصيلِ حَقِّي، وَدَفْعِ الظُّلْمِ؟ وَنَحْو ذَلِكَ، فهذا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ، ولكِنَّ الأحْوطَ والأفضَلَ أنْ يقول: مَا تقولُ في رَجُلٍ أَوْ شَخْصٍ، أَوْ زَوْجٍ، كَانَ مِنْ أمْرِهِ كذا؟ فَإنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الغَرَضُ مِنْ غَيرِ تَعْيينٍ، وَمَعَ ذَلِكَ، فالتَّعْيينُ جَائِزٌ كَمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالمهملة والنون (على تغيير المنكر ورد العاصي) بالمهملتين (إلى الصواب) شرعاً وهو إزالة المنكر في الأول، والطاعات في الثاني (فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر) من حاكم، أو قادر على ذلك الفاعل للمنكر، ومن نحو الأب، ولا يقول ذلك لمن لا يرجو قدرته على إزالتها، إذ لا فائدة فيه إلا إن كان متجاهراً، وقصد بإشاعة ذلك عنه زجره: ليرتدع وينزجر (فلان يعمل كذا) أي: المنكر الذي يراد إزالته (فازجره عنه ونحو ذلك) من العبارات المؤدية إلى زجره (ويكون مقصوده) أي: من ذلك الكلام الممنوع، لولا السبب المذكور (التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك) سواء قصد شفاء نفسه منه: لإِشاعة َقبيح فعله: لكونه عدوه، أو لم يقصد شيئا (كان حراماً) : لما تقدم من تقرير ما أبيح لحاجة يقدر بقدرها. (الثالث الاستفتاء) أي: طلب الفتيا، أي: ذكر حكم الحادثة التي يكره فاعلها ذكرها عنه (فيقول للمفتي ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا) فهذه غيبة جوزت للاستفتاء المذكور بقوله (فهل له ذلك وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي ودفع الظلم ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة) أي: إلى الاستفتاء (ولكن الأحوط) قال في المصباح: احتاط للشيء افتعال، وهو طلب الاحظ والأخذ بأوثق الوجوه. وبعضهم يجعل الاحتياط من الياء، وحاط الحمار عانته، والأمم الحيط حوطاً، في باب قال إذا ضمها وجمعها، ومنه قولهم إفعل الأحوط، والمعنى إفعل ما هو أجمع لأصول الأحكام، وأبعد عن شوائب التأويل، وليس مأخوذاً من الاحتياط: لأن أفعل التفضيل لا ينى من خماسي (والأفضل) أي: الأكثر ثواباً (أن يقول) أي: المستفتى (ما تقول) بالفوقية (في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا فإنه يحصل به الغرض) أي: بيان حكم الحادثة (من غير تعيين) : لأن الأحكام لا تتوقف عليه (ومع ذلك) أي: الحصول (فالتعيين جائز كما سنذكره في حديث(8/358)
سَنَذْكُرُهُ في حَدِيثِ هِنْدٍ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
الرَّابعُ: تَحْذِيرُ المُسْلِمينَ مِنَ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ، وذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
مِنْهَا جَرْحُ المَجْرُوحينَ مِنَ الرُّواةِ والشُّهُودِ وذلكَ جَائِزٌ بإجْمَاعِ المُسْلِمينَ، بَلْ وَاجِبٌ للْحَاجَةِ.
ومنها: المُشَاوَرَةُ في مُصاهَرَةِ إنْسانٍ أو مُشاركتِهِ، أَوْ إيداعِهِ، أَوْ مُعامَلَتِهِ، أَوْ غيرِ ذَلِكَ، أَوْ مُجَاوَرَتِهِ، ويجبُ عَلَى المُشَاوَرِ أنْ لا يُخْفِيَ حَالَهُ، بَلْ يَذْكُرُ المَسَاوِئَ الَّتي فِيهِ بِنِيَّةِ النَّصيحَةِ. ومنها: إِذَا رأى مُتَفَقِّهاً يَتَرَدَّدُ إِلَى مُبْتَدِعٍ، أَوْ فَاسِقٍ يَأَخُذُ عَنْهُ العِلْمَ، وخَافَ أنْ يَتَضَرَّرَ المُتَفَقِّهُ بِذَلِكَ، فَعَلَيْهِ نَصِيحَتُهُ بِبَيانِ حَالِهِ، بِشَرْطِ أنْ يَقْصِدَ النَّصِيحَةَ، وَهَذا مِمَّا يُغلَطُ فِيهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هند إن شاء الله تعالى) وتعييبها لأبي سفيان وإقراره - صلى الله عليه وسلم - لها وعدم إنكاره (الرابع تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك) أي: المذكور (من وجوه منها جرح المجروحين من الرواة) للحديث (والشهود) على القضايا (وذلك جائز بإجماع المسلمين) : لما فيه من المصلحة والمنفعة (بل واجب) : لما في الأول من صون الشريعة، والذب عنها، وفي الثاني من حفظ الحقوق، ولذا قال المصنف: (للحاجة ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان) أي: تزويجه موليته (أو مشاركته) في المعاملة (أو إيداعه أو معاملته) بمبايعة أو غيرها (أو غير ذلك) من أمور الأموال كالارتهان أو المساقاة (أو مجاورته) أي: السكنى بجواره (ويجب على المشاور) بصيغة المفعول (ألا يخفى حاله) أي: حال المسئول عنه، بل ذكر أصحابنا وجوب ذكر ذلك، لأحد هذه الأسباب، وإن لم يسأل عنه بذلاً للنصيحة (بل) إن لم يحصل المقصود، بنحو تركه أو لا يصلح لذلك (يذكر المساوي) التي يندفع بها، فإن لم يندفع إلا بالجميع ذكر المساوي (التي فيه بنية النصيحة) لا بقصد إيذائه وتنقيصه. قال في المصباح المساءة نقيض المسرة، وأصلها مسواة على مفعلة بفتح الميم والعين. لذا ترد الواو في الجمع فيقال المساوي، لكن استعمل الجمع مخففاً، وبدت مساويه، أي: نقائصه ومعايبه (ومنها إذا رأى متفقهاً) بتشديد القاف أي: أخذ الفقه بالتدريج (يتردد إلى مبتدع أو فاسق) يخفي ذلك (يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك) أي: بأن يزيغ عن اعتقاد الحق بتزيين الأول: أو يقع في الفسوق بتسويل الثاني، وكل قرين بالمقارن يقتدي (فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة) لإِشفاء نفسه من المقول فيه: لكونه عدواً مثلاً، كما قال المصنف (وهذا مما) أي: من الأمر الذي (يغلط) بالبناء للمفعول (فيه(8/359)
وَقَدْ يَحمِلُ المُتَكَلِّمَ بِذلِكَ الحَسَدُ، وَيُلَبِّسُ الشَّيطانُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ويُخَيْلُ إِلَيْهِ أنَّهُ نَصِيحَةٌ فَليُتَفَطَّنْ لِذلِكَ.
وَمِنها: أنْ يكونَ لَهُ وِلايَةٌ لا يقومُ بِهَا عَلَى وَجْهِها: إمَّا بِأنْ لا يكونَ صَالِحاً لَهَا، وإما بِأنْ يكونَ فَاسِقاً، أَوْ مُغَفَّلاً، وَنَحوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ ذِكْرُ ذَلِكَ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ ولايةٌ عامَّةٌ لِيُزيلَهُ، وَيُوَلِّيَ مَنْ يُصْلحُ، أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُ لِيُعَامِلَهُ بِمُقْتَضَى حالِهِ، وَلاَ يَغْتَرَّ بِهِ، وأنْ يَسْعَى في أنْ يَحُثَّهُ عَلَى الاسْتِقَامَةِ أَوْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ.
الخامِسُ: أنْ يَكُونَ مُجَاهِراً بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كالمُجَاهِرِ بِشُرْبِ الخَمْرِ، ومُصَادَرَةِ النَّاسِ، وأَخْذِ المَكْسِ، وجِبَايَةِ الأمْوَالِ ظُلْماً، وَتَوَلِّي الأمُورِ الباطِلَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويحمل) أي: يبعث المتكلم (بذلك) أي القدح فيه اعتقاداً أو عملاً (الحسد) أي: تمني زوال نعمة ذلك المتكلم فيه (يُلبس) بتشديد الموحدة أي: يخلط (الشيطان عليه ذلك) فيوهمه (ويخيل إليه أنه نصيحة) : ليتأتى بها وفي نفس الأمر، إنما الباعث الحسد، والداعي البغض (فليتفطن لذلك) : لئلا يقع في الغيبة المحرمة بإيهامه أنها من الجائزة، ومن حذر سلم، ومن اغتر ندم (ومنها أن يكون له ولاية) بكسر الواو (لا يقوم بها على وجهها) وفصل القيام المنفي بقوله (إما بأن لا يكون صالحاً لها) أي: غير متأهل لها، فتكون ولايته باطلة (وأما بأن) يكون صالحاً لها لكن (يكون فاسقاً) لا يقف عند حد ولايته، ويجاوز ذلك (أو مغفلاً) بتشديد الفاء بصيغة المفعول من الغفلة، أي: ليست له فطنة، فقد تفوته مقاصد تلك الولاية، التي لا يقوم بها على وجهها، ونفس المخلّ بالقيام بولايته (فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح) حال كونه غير صالح لها (أو) لا ليعزله في الثانية، ولكن (يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله) وينزله منزلته، فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بإنزال الناس منازلهم (ولا يغتر به) ولئلا يغتر المولى. له بظاهر حاله، فيظن صلاحه وفطنته لأعمال ولايته (وأن يسعى) أي: يجتهد وهو عطف على مدخول لام الجر في قوله ليزيله (في أن يحثه) بضم المهملة وتشديد المثلثة أي: يحرضه (على الاستقامة) المطلوبة في تلك الولاية (أو يستبدل به) من يصلح لها، وللقيام بها (الخامس أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته) أي: مظهراً لذلك (كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس) قال في القاموس صادره على كذا: أخذه به (وأخذ المكس) في القاموس مكس في البيع يمكس، إذا جبى مالاً والمكس النقص أو الظلم، ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، أو درهم(8/360)
وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ العُيُوبِ، إِلاَّ أنْ يكونَ لِجَوازِهِ سَبَبٌ آخَرُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. السَّادِسُ: التعرِيفُ، فإذا كَانَ الإنْسانُ مَعْرُوفاً بِلَقَبٍ، كالأعْمَشِ، والأعرَجِ، والأَصَمِّ، والأعْمى، والأحْوَلِ، وغَيْرِهِمْ جاز تَعْرِيفُهُمْ بذلِكَ، وَيَحْرُمُ إطْلاقُهُ عَلَى جِهَةِ التَّنْقِيصِ، ولو أمكَنَ تَعْريفُهُ بِغَيرِ ذَلِكَ كَانَ أوْلَى، فهذه ستَّةُ أسبابٍ ذَكَرَهَا العُلَمَاءُ وأكثَرُها مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَدَلائِلُهَا مِنَ الأحادِيثِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان يأخذه المصدق بعد فراغه من الصدقة. وفي المصباح مكس في البيع مكساً من باب ضرب، نقص الثمن والمكس الجباية، وهو مصدر من باب ضرب أيضاً، وفاعله مكاس ثم سمي المأخوذ مكساً، تسمية بالمصدر وقد غلب استعمال المكس، فيما يأخذه أعوان السلطان ظلماً، عند البيع والشراء قال الشاعر:
وفي كل أسواق العراق أتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
(وجباية) بكسر الجيم وبالموحدة والتحتية أي: جمع (الأموال ظلماً) هو كالتفسير للمكس، على أحد الأقوال فيه، أو عطف عام على خاص، وظلماً حال أو مفعول له، وتولي الأمور الباطلة من الوظائف المبتدعة الحادثة (فيجوز ذكره بما يجاهر به) ولا غيبة بذلك (ويحرم ذكره بغيره من العيوب) التي يجاهر بها: لأن ما جاز لسبب يقدر بقدره (إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه. السادس التعريف إذا كان الإِنسان معروفاً بسبب كالأعمش) وممن لقب به: سليمان بن مهران المحدث (والأعرج) بالمهملة وبالجيم قال الحافظ في الألقاب: لقب به جماعة أشهرهم: عبد الرحمن بن هرمز، وشيخ أبي الزناد تابعي (والأصم) قال الحافظ لقب به جماعة: منهم مالك بن حبان الكلبي، ومطرف صاحب مالك بن أنس الفقيه (والأعمى) لقب ولم يذكر الحافظ أحداً ممن لقب به (والأحول بالمهملة لقب به جماعة) عاصم بن سليمان التابعي (وغيرهم) من أولي الألقاب التي يكره ظاهرها (جاز تعريفهم بذلك) اللقب المعروفين به، وإن كانوا يكرهونه لحاجة التعريف (ويحرم إطلاقه على جهة التنقيص وإذا أمكن تعريفه) أي: صاحب اللقب (بغير ذلك) اللقب المكروه (كان أولى) : لحصول المقصود، مع السلامة من الغيبة، وإنما جاز مع ْحصوله بذلك: لأن داعيهَ التعريف في الجملة، مصلحة يفتقر لها بذلك، بشرط أن يقصده بإطلاقها (فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه) وقد جمعها الشيخ كمال(8/361)
الصَّحيحَةِ مشهورَةٌ. فمن ذَلِكَ:
1529- عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ رجلاً اسْتَأذَنَ عَلَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "ائْذَنُوا لَهُ، بِئسَ أخُو العَشِيرَةِ؟ ". متفق عَلَيْهِ.
احتَجَّ بِهِ البخاري في جوازِ غيبَة أهلِ الفسادِ وأهلِ الرِّيبِ (1) .
1530- وعنها، قالت: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أظُنُّ فُلاناً وفُلاناً يَعْرِفانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئاً". رواه البخاري. قَالَ: قَالَ اللَّيْثُ بن سعدٍ أحَدُ رُواة هَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدين بن أبي شرف في قوله:
القدح ليس بغيبة في ستة ... متظلم ومعرف ومحذر
ومجاهر بالفسق ثمت سائل ... ومن استعان على إزالة منكر
ونظمتها في قولي
يباح اغتياب للفتى إن تجاهرا ... بفسقٍ وللتعريف أو للتظلم
كذاك لتحذير ومن جاء سائلا ... كذا من أتى يبغي زوال المحرم
(ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة) عند الفقهاء (فمن ذلك) .
1529- (عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً) هو عيينة بن حصن وقيل مخرمة بن نوفل (استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إئذنوا له بئس أخو العشيرة) أي: القبيلة أي: بئس هو منهم (متفق عليه احتج به) الإِمام المجتهد (البخاري في) أي: على (جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب) تحذيراً منهم، ومن الاغترار بظواهرهم، والريب بكسر الراء وفتح التحتية ثم موحدة جمع ريبة.
1530- (وعنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً) نفي عنهم المعرفة اللازم نفيها، لنقي العمل فكأنه قال ليسوا على شيء من الإِسلام حقيقة (رواه البخاري قال) أي: البخاري (قال الليث بن سعد) عالم مصر عصري الإِمام مالك المجتهد
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يجوز من اغتياب أهل الفساد (10/393) .
وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: مداراة من يتقي فحشه، (الحديث: 73) .(8/362)
الحديثِ: هذانِ الرجلانِ كانا من المنافِقِينَ (1) .
1531- وعن فاطمة بنتِ قيسٍ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: أتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: إنَّ أَبَا الجَهْم وَمُعَاوِيَةَ خَطَبَانِي؟ فَقَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ، وأمَّا أَبُو الجَهْمِ، فَلاَ يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ" متفق عَلَيْهِ. وفي رواية لمسلم: "وَأمَّا أَبُو الجَهْمِ فَضَرَّابٌ لِلنِّساءِ" وَهُوَ تفسير لرواية: "لا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ" وقيل: معناه: كثيرُ الأسفارِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(أحد رواة هذا الحديث هذان الرجلان) المكنى عنهما بفلان وفلان (كانا من المنافقين) فقال - صلى الله عليه وسلم - مبيناً لما أخفياه من النفاق، حذر أن يلتبس ظاهر حالهما، على من يجهل أمرهما.
1531- (وعن فاطمة بنت قيس) بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة الفهرية القرشية، أخت الضحاك في تهذيب المصنف، قيل كانت أكبر من أخيها بعشر سنين، وكانت من المهاجرات الأول ذات عقل وافر وكمال، في بيتها اجتمع أصحاب الشورى، روى لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة وثلاثون حديثاً. روى عنها جماعة من كبار التابعين رضي الله عنها، وعنهم أجمعين، (قالت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت إن أبا الجهم) بفتح الجيم وسكون الهاء (ومعاوية خطباني) أي: فما ترى (فيهما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (معاوية فصعلوك) رأيت بخط الشيخ محمد الخطابي المالكي، في حاشية النهاية الصعلوك بضم الصاد: الفقير والجمع صعاليك اهـ. وهذه المادة لم أرها في القاموس (3) ، ولا في النهاية ولا في المصباح وقوله (لا مال له) في معنى الصفة مبين لما قبله (وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه متفق عليه وفي رواية لمسلم وأما أبو الجهم فضراب للنساء وهو: تفسير لرواية لا يضع العصا عن عاتقه) أي: بيان للمراد فيها بطريق الكناية (وقيل معناه) أي: المراد بهذا الكلام، كناية عنه (كثير الأسفار) والأول أولى: لأن الروايات يفسر بعضها ببعض، وإن كان لا مانع من الجمع.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يكون من الظن (10/405) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاث لا نفقة لها، (الحديث: 36) .
(3) فيه نظر إذ هي في القاموس في حرف اللام. ع.(8/363)
1532- وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قَالَ: خرجنا مَعَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ أصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقَالَ عبدُ اللهِ بن أُبَيّ: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَنْفَضُّوا، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَأَتَيْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبَرْتُهُ بذلِكَ، فَأرْسَلَ إِلَى عبدِ الله بن أُبَيِّ، فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ: مَا فَعلَ، فقالوا: كَذَبَ زيدٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَوَقَعَ في نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ حَتَّى أنْزلَ اللهُ تَعَالَى تَصْدِيقِي: (إِذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ) (1) ثُمَّ دعاهُمُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ. متفق عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1532- (وعن زيد بن أرقم) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب إكرام آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر) هي غزوة بني المصطلق (أصاب الناس) مفعول مقدم (فيه شدة) فاعل (فقال عبد الله بن أبيّ) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد الياء، المنافق (لا تنفقوا على من) أي: الذين (عند رسول الله) أي: من الصحابة (حتى) أي: كي (ينفضوا) أي: يتفرقوا عنه (وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فأراد من الأعز نفسه ومن الأذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك) أي: الذي صدر من ابن أبيّ (فأرسل إلى عبد الله بن أبي فاجتهد يمينه) أي: حلف وأكد الأيمان بتكراره، ويمينه منصوب بنزع الخافض (ما فعله فقالوا) أي: الصحابة (كذب) بتخفيف الذال المعجمة المفتوحة (زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: أخبره عن أمر بخلاف ما هو عليه (فوقع في نفسي مما قالوا شدة) أي: كرب شديد واستمر ذلك فيها (حتى أنزل الله تعالى على نبيه تصديقي) أي: إخباري المطابق للواقع، وبيّنه بقوله (إذا جاءك المنافقون) أي: سورة المنافقين (ثم دعاهم) أي: المنافقين الذين رأسهم ابن أبيّ (النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر لهم) مما قالوه (فلووا رءوسهم) أي: أمالوها إعراضاً ورغبة عن الاستغفار (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير، ومسلم في التوبة، ورواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي حسن صحيح.
__________
(1) سورة المنافقون، الآية: 1.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: سورة المنافقون (8/494، 495) .
وأخرجه مسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: ... (الحديث: 1) .(8/364)
1533- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قالت هِنْدُ امْرَأةُ أَبي سفْيَانَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفيني وولَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ، وَهُوَ لا يَعْلَمُ؟ قَالَ: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلدَكِ بِالمَعْرُوفِ". متفق عَلَيْهِ (1) .
257- باب في تحريم النميمة وهي نقل الكلام بَيْنَ الناس عَلَى جهة الإفساد
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (هَمَّازٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1533- (وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قالت هند) هي بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية (امرأة أبي سفيان) وهي أم معاوية، أسلمت عام الفتح بعد إسلام زوجها بليلة وبايعت (للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن أبا سفيان رجل شحيح) من الشح بتثليث أوله، وهو البخل والحرص، كما في القاموس (وليس) اسمها يعود إليه وجملة (يعطيني) في محل الخبر، وثاني مفعول يعطي. قوله (ما يكفيني) بفتح التحتية من الكفاية (وولدي) عطف على المفعول به الضمير (إلا ما أخذت منه) استثناء منقطع أي: لكن الذي أخذت منه (وهو لا يعلم) جملة حالية، وخبر ما محذوف أي: فهو يكفيني (فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي: من غير سرف ولا تقتير (متفق عليه) والقصد من الحديث الترجمة: للاستدلال بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في قولها إن أبا سفيان رجل شحيح: لما أنه على وجه الاستفتاء.
باب تحريم النميمة
(وهو نقل الكلام بين الناس على جهة الإِفساد)
في القاموس: النم التوريش والإِغراء، ورفع الحديث إشاعة له وإفساداً، وتزيين الكلام بالكذب اهـ. وبه يعلم، أن ما عرفه الصنف، به، هو أحد معانيه المراد بما عقد له الترجمة. (قال الله تعالى) في وصف المنهي عن إطاعته، قيل وهو الوليد بن المغيرة (هماز)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: النفقات، باب: نفقة المرأة إذا غاب زوجها والبيوع، باب: من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون وغيرهما (9/444 و445) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: قضية هند، (الحديث: 7) .
(2) سورة القلم، الآية: 11.(8/365)
مَشَّاءٍ بِنَميمٍ) .
وقال تَعَالَى (1) : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .
وعن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ". متفق عَلَيْهِ (2) .
1535- وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بِقَبْرَيْنِ
فَقَالَ: "إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبيرٍ! بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ: أمَّا أَحَدُهُمَا، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وأمَّا الآخَرُ فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ". متفق عَلَيْهِ. وهذا لفظ إحدى روايات البخاري،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مغتاب غياب (مشاء بنميم) نقال للكلام سعاية وإفساداً. وقال تعالى (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) تقدم ما يتعلق بها قريباً.
1534- (وعن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل الجنة) أي: مع الفائزين، أو مطلقاً، إن استحل ذلك، وعلم أنه مجمع على تحريمه معلوم من الدين بالضرورة، أو نزل منزلة العالم به: لكونه قديم الإِسلام بين أظهر العلماء (نمام) أتي فيه بصيغة المبالغة: لعظيم الوعيد، وإلا فأصل النمّ منهى عنه، من الكبائر، كما يدل عليه الحديث بعده (متفق عليه) أورده في الجامع الكبير بلفظ "قتات" بدل "نمام"، وقال في لفظ "نمام" ثم قال رواه الطيالسي وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني في الكبير.
1533- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين) جاء في رواية أنهما من المشركين (فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر) بفتح المعجمة (فكان لا يستبرىء من بوله) أي: لا يطلب البراءة منه، فأخذ بعضهم منه وجوب الاستبراء، وأن تركه من الكبائر، وهو قويّ من حيث الدليل، لكن الذي عليه أصحابنا ندبه، وحمل الحديث ونحوه على من تيقن عدم انقطاع البول إلا بالتنحنح فيجب، والاستحباب على من لم يكن كذلك (متفق عليه وهذا لفظ إحدى روايات
__________
(1) سورة ق، الآية: 18.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يكره من النميمة (10/394) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان غلظ تحريم النميمة، (الحديث: 168) .(8/366)
قَالَ العلماءُ معنى: "وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبيرٍ" أيْ: كَبيرٍ في زَعْمِهِمَا. وقِيلَ: كَبيرٌ تَرْكُهُ عَلَيْهِمَا (1) .
1536- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ مَا العَضْهُ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البخاري) رواه هكذا في أبواب الطهارة إلا أن في نسخة، يستتر من البول بتاءين من الاستتار. قال القلقشندي: وهو أكثر الروايات وفي رواية يستنزه، بنون ساكنة بعدها زاي من النزاهة. وهاتان في الصحيح، وفي رواية لا يستبرىء، بموحدة بعد الفوقية وهي عند البخاري، وقال الإِسماعيلي: إنه أشبه بالروايات. وقوله لا يستتر بالفوقيتين محتمل لا يستتر عن الأعين، فيكون العذاب على كشف العورة، أو لا يتنزه عن البول، فيكون في الكلام مجاز. والعلاقة أن التستر عن الشيء فيه، بعد عنه واحتجاب، وذلك شبيه بالبعد عن البول (قال العلماء وما يعذبان في كبير أي كبير في زعمهما) أي: أنهما لاستخفافهما بأمور الديانة، يريان ذلك غير كبير. (وقيل كبير تركه عليهما) وقد جاء أن المنافق يرى ذنبه كذباب، وقع على أنفه فدفع فاندفع، وأن المؤمن يراه كالجبل يخشى أن يقع عليه.
والحاصل أنهما لاستخفافهما يريان ذلك غير كبير، فلا يريان بتعاطيه حرجاً، أو لا يريان بتركه مشقةً: لخفة ذلك عندهما؛ وهو عند الله كبير، وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - بلى في كبير أي: باعتبار ما عند الله وباعتبار إثمه وتبعته. وقال القلقشندي في شرح العمدة، واختلفوا في معنى قوله "وإنه لكبير" فاستدرك، ويحتمل أن ضمير وأنه عائد إلى العذاب فقد ورد عند أبي حيان "عذاباً شديداً في ذنب هين ". وقيل الضمير عائد إلى أحد الذنبين. وهو النميمة، فإنها كبيرة، بخلاف ستر العورة وضعف، وقيل معنى كبير المنفي أكبر أي: ليس في أكبر الكبائر، ومعنى المثبت واحد الكبائر. فعليه يكون الحديث، بيان أن التعذيب لا يخص أكبر الكبائر بل يكون في الكبائر، وقيل معناه ليس كبيراً صورة، إذ تعاطيه يدل على الزبانة والحقارة، وهو كثير في الإثم وقيل غير ذلك.
1536- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ألا أنبئكم ما العضه) سكت عن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: الذي بعد باب ما جاء في غسل البول والجنائز باب: عذاب القبر من الغيبة والبول، وباب: الجريد على القبر وغيرهما (10/273) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، (الحديث: 111) .(8/367)
هي النَّمَيمَةُ: القَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ". رواه مسلم. "العَضْهُ": بفتح العين المهملة وإسكان الضاد المعجمة، وبالهاء عَلَى وزن الوجهِ، ورُوِي "العِضةُ" بكسر العين وفتح الضاد المعجمة عَلَى وزن العِدَة، وهي: الكذب والبُهتان، وعلى الرِّواية الأولى: العَضْهُ مصدرٌ يقال: عَضَهَهُ عَضهاً، أيْ: رماهُ بالعَضْهِ (1) .
258- باب في النهي عن نقل الحديث وكلام الناس إِلَى ولاة الأمور إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حاجة كخوف مفسدة ونحوها
قال الله تعالى (2) : (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالعُدْوانِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جوابهم لظهور استدعائهم أي قالوا بلى قال (هي النميمة) وأنث المبتدأ نظراً لتأنيث الخبر، وهو الأحسن في مثله، أي: مراعاة الخبر لأنه محط الفائدة؛ (القالة) بتخفيف اللام (بين الناس) أي: كثرة القول، وإيقاع الخصومة بين الناس، بما يحكى للبعض عن البعض، قاله في النهاية (رواه مسلم والعضه بفتح العين المهملة وإسكان الضاد المعجمة وبالهاء على وزن الوجه) قال في النهاية يروى هكذا في كتب الحديث (وروي العضة بكسر العين وفتح الضاد على وزن العدة) قال في النهاية هذا الذي جاء في كتب الغريب. قال الزمخشري أصلها العضهة، فعلة من العضه وهو البهت، فحذفت لامه كما حذفت من السنة والشفة، ويجمع على عضين (وهي) بالراويتن (الكذب والبهتان وهي الرواية الأولى العضه مصدر يقال عضهه) يعضهه من باب سأل يسأل (عضها رماه بالعضه) .
باب النهي عن نقل الحديث وكلام الناس إلى ولاة الأمور إذا لم تدع إليه الحاجة عبر بإذا إيماء إلى تركه عند الشك، في وجود الحاجة. وفسر بعض الحاجة بقوله (كخوف مفسدة ونحوها) من وقوع ضرر. (قال الله تعالى: ولا تعاونوا على الإِثم) أي: المعاصي (والعدوان) أي: الظلم (وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله) لأنه دفع الحديث الضار لقائله، أو لغيره إلى ولاة الأمور، من أفراد النميمة، لصدق تعريفها السابق عليه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم النميمة، (الحديث: 102) .
(2) سورة المائدة، الآية: 2.(8/368)
وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله.
1537- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئاً، فإنِّي أُحِبُّ أنْ أخْرُجَ إِلَيْكُمْ وأنَا سَليمُ الصَّدْرِ". رواه أَبُو داود والترمذي (1) .
259- باب في ذمِّ ذِي الوَجْهَيْن
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ القَولِ وكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحيطاً) الآيَتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1537- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغني) بسكون الغين (أحد من أصحابي عن أحد شيئاً) أي: مما أكرهه له أويعود إليه بضرر. ففيه الحث على الستر، وإقالة ذوي الهيئات عثراتهم (فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) أي: وذلك إنما يتحقق عند عدم سماع ما يؤثر في النفس، حرارة أو أثراً ما، بحسب الطبع البشري (رواه أبو داود والترمذي) وقال: غريب، ورواه أحمد والدارقطني كما في الجامع الكبير.
باب ذم ذي الوجهين
(قال الله تعالى: يستخفون من الناس) أي: يستترون منهم حال سرقتهم، ومثلها في ذم من يكون كذلك سائر المخالفات (ولا يستخفون من الله) وهو أحق أن يستحيا منه (وهو معهم) لا يخفي عليه شيء، وطريق إخفاء شيء عنه عدم فعله. كذا في جامع البيان (إذ يبيتون) يدبرون، وأصله أن يكون بالليل (ما لا يرضى) الله (من القول) كرمي البريء، وشهادة الزور، والقذف (وكان الله بما يعملون محيطاً) فيجازيهم عليه (الآيتين) يعني قوله (هأنتم هؤلاء) مبتدأ وخبر (جادلتم) خاصمتم (عنهم) وهي جملة مبينة لوقوع هؤلاء خبراً، وصلة عند من يقول أنه موصول (في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم) إذا
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: رفع الحديث [من المجلس] ، (الحديث: 4860) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، (الحديث: 3896 و3897) .
(2) سورة النساء، الآية: 108.(8/369)
1538- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَجِدُونَ النَّاسَ مَعادِنَ: خِيَارُهُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، وتَجِدُونَ خِيَارَ النَّاسِ في هَذَا الشَّأنِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لَهُ، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَينِ، الَّذِي يَأتِي هؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ". متفق عَلَيْهِ (1) .
1539- وعن محمد بن زيدٍ: أنَّ ناساً قالوا لِجَدِّهِ عبدِ اللهِ بن عمر رضي الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخذهم بعذابه (يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً) فيروج دعواهم (ومن يعمل سوءاً) يسوء به غيره أو صغيرة أو باعثاً دون الشرك (أو يظلم نفسه) مما لا يتعداه (ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) فيه فرض التوبة.
1538- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجدون الناس معادن) أي: ذوي أصول ينسبون إليها ويتفاخرون بها (خيارهم) أي: أشرفهم (في الجاهلية) ما قبل الإِسلام (خيارهم) أي: أشرفهم في (الإِسلام إذا فقهوا) قال المصنف كما تقدم في باب التقوى، بضم القاف على المشهور، وحكي كسرها أي: علموا الأحكام الشرعية.
(وتجدون خيار الناس في هذا الشأن) أي: الخلافة والإِمارة (أشدهم) متعلق بقوله كراهية (وقدم عليه مع أنه مصدر، ومعموله لا يكون إلا مؤخراً: لكونه ظرفاً، وهو يتوسع فيه ما يتوسع في غيره، وكراهية بتخفيف التحتية مصدر، أي: خير الناس في تعاطي الأحكام، من لم يكن حريصاً على الإِمارة، فإذا ولي شدد ووقف، بخلاف الحريص عليها، كما تقدم في باب كراهة الحرص على الإِمارة (وتجدون شر الناس) مفعول ثان، قدم اهتماماً به (ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء) أي: قوماً (بوجه) فيوهمهم أنه منهم لا من أضدادهم (و) يأتي (هؤلاء) أي: الأضداد (بوجه) أي: غير ما لقي به الأولين، كما يؤذن به التنكير. قال المصنف: المراد من يأتي كل طائفة ويظهر لهم أنه منهم، ومخالف للآخرين: متبغض، فإن أتى كل طائفة بالإِصلاح فمحمود (متفق عليه) .
1539- (وعن محمد بن زيد) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، المدني الحافظ ثقة من أوساط التابعين (أن ناساً قالوا لجده عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: خيار الناس، (الحديث: 199) .
وأخرجه البخاري في كتاب: أول باب المناقب (6/384، 385 و10/395) .(8/370)
عنهما: إنَّا نَدْخُلُ عَلَى سَلاَطِيننَا فَنَقُولُ لَهُمْ بِخِلاَفِ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ. قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ هَذَا نِفَاقاً عَلَى عَهْدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه البخاريُّ (1) .
260- باب: في تحريم الكذب
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) .
وقال تَعَالَى (3) : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَولٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنهما إنا ندخل على سلاطيننا) أي: ذوي السلطنة والولاية علينا، أعم من أن يكون خليفة ومن دونه، والمراد الجنس بدليل قوله (فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم) أي: بأن نثني عليهم بحضورهم، ونذمهم إذا خرجنا (قال كنا نعد هذا نفاقاً) أي: من نفاق العمل، أو من أعمال المنافقين، إذ الصدق في الحضرة والغيبة، شأن المؤمنين الصادقين (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: زمنه (رواه البخاري) "فائدة" ذكرها الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات الكبرى، قال: مصطلح الدول أن السلطان من ملك إقليمين فأكثر، فإن لم يملك إلا إقليماً واحداً سمي بالملك، وإذا اقتصر على مدينة واحدة لم يسم بالملك ولا بالسلطان. بل بأمير البلد، وصاحبها، ومن شرط السلطان، ألا يكون فوق يده يد، وكذا الملك اهـ. وهذا اصطلاح حادث فلا ينافي ما تقدم قبله.
باب تحريم الكذب
بفتح فكسر هو الإِخبار عن الشيء، بخلاف ما هو عليه، ويأثم المخبر إذا علم بذلك، ثم إن علم الضرر فيه، كأن من الكبائر، وإلا فمن الصغائر، وإن كانت فيه مصلحة تقاوم ذلك الضرر، صار مندوباً تارة، وواجباً أخرى. كما سيأتي في باب بيان ما يجوز منه قال الله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) . وقال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) تقدم ما يتعلق بهما قريباً.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الاحكام، باب: ما يكره من ثناء السلطان (13/149، 150) .
(2) سورة الإِسراء، الآية: 36.
(3) سورة ق، الآية: 18.(8/371)
1540- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً. وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّاباً" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1540- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الصدق) أي: تحري الصدق في القول (يهدي) بفتح التحتية من الهداية، قال الحافظ في الفتح: وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب اهـ. ولعله تفسير للمراد هنا (إلى البر) بكسر الموحدة وتشديد الراء أي: الطاعة قال الحافظ: أصله التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات كلها، ويطلق على العمل الخالص الدائم (وإن البر يهدي إلى الجنة) قال ابن بطال: مصداقه في كتاب الله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم) (2) (وإن الرجل ليصدق) أي: يتكرر منه الصدق، وعند مسلم "ليتحرى الصدق" وكذا قال في الكذب (حتى يكتب عند الله صديقاً) أي: يستحق اسم المبالغة في الصدق عنده سبحانه وتعالى، قال العاقولي: وصديق من أبنية المبالغة، من تكرر منه الصدق حتى يصير سجية له وخلقاً (وإن الكذب يهدي إلى الفجور) قال الراغب: أصل الفجر: الشق، والفجور: شق الديانة، ويطلق على الميل إلى الفساد، وعلى الانبعاث في معاصي، وهو اسم جامع للشر (وإن الفجور يهدي إلى النار) أي يوصل إليها، والإِسناد في الجمل الأربع، من الإِسناد إلى السبب (وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) والمراد بالكتابة: الحكم عليه بذلك، وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى، وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض. وقد ذكره مالك بلاغاً عن ابن مسعود، وأورد فيه زيادة مفيدة، ولفظه "لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسوَد قلبه فيكتب عند الله من الكذابين". قال المصنف: قال العلماء: في الحديث الحث على تحري الصدق، وهو قصده والاعتناء به. وعلى التحذير من الكذب، والتساهل فيه. فإنه إذا تساهل فيه أكثر منه فعرف به فكتب. (متفق عليه) وقد تقدم مشروحاً في باب الصدق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ... ) د 10 (423) .
وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: قبح الكذب، وحسن الصدق، وفضله، (الحديث: 103) .
(2) سورة المطففين، الآية: 22.(8/372)
1541- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ نِفاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا أؤْتُمِنَ خانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". متفق عَلَيْهِ. وَقَدْ سبق بيانه مَعَ حديث أَبي هريرة بنحوه في "باب الوفاءِ بالعهدِ" (1) (2) .
1542- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ، كُلِّفَ أنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْن وَلَنْ يَفْعَلَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1541- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أربع) أي: من الخصال (من كن فيه كان منافقاً خالصاً) في نفاق العمل (ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها) أي: يتركها (إذا أؤتمن) بالهمز (خان) جواب إذا، وهو العامل فيها، وهي والمعطوف عليها خبر لمحذوف أي: هي تعود للأربع (وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر) من الغدر ضد الوفاء (وإذا خاصم فجر) بالأيمان الكاذبة، والدعاوى الباطلة (متفق عليه وقد سبق بيانه) مع شرحه مبسوطاً (مع حديث أي هريرة بنحوه) في بعض خصال النفاق في باب الوفاء بالعهد.
1542- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من تحلم) بفتح التاء والمهملة وتشديد اللام أي: تكلف الحلم أي: كذب بما لم يره في منامه كما علق به قوله: (بحلم لم يره) والحلم بضم المهملة، والمراد به هنا مطلق ما يرى مناماً، خيراً كان أو شراً، وإن كان قد يخص الأخير، كما تقدم في حديث: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان" (كلّف) بصيغة المجهول (أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل) عند أحمد: "من تحلم كاذباً دفع إليه شعيرة حتى يعقد بين طرفيها وليس بعاقد وعنده عذب حتى يعقد بين شعيرتين وليس عاقداً". قال الحافظ: وذلك ليطول عذابه في النار؛ لأن عقده بين طرفي الشعيرة غير ممكن؛ قال الحافظ في الفتح: الحق أن التكليف ليس هو المصطلح عليه في الدنيا، وإنما
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامات المنافق (1/84) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، (الحديث: 106، 107) .
(2) انظر الحديث رقم (689) ورقم (690) .(8/373)
وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَديثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، صُبَّ في أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بنافِخٍ".
رواه البخاري. "تَحَلم": أيْ قَالَ إنَّه حلم في نومه ورأى كذا وكذا، وَهُوَ كاذب. و"الآنك" بالمدّ وضمِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هو كناية عن التعذيب اهـ. قال الطبري: إنما أسند الوعيد فيه، مع أن الكذب في اليقظة، قد يكون أشد مفسدة منه، كشهادة الزور في قتل مسلم، أو أخذ ماله: لأن الكذب في المنام كذب على الله؛ وذلك لحديث "الرؤيا جزء من النبوة" وما كان من أجزاء النبوة فمن الله (ومن استمع إلى حديث قوم وهم له) أي: لاستماعه المدلول عليه بالفعل؛ (كارهون) قال الشيخ أكمل الدين: جملة وهم له كارهون حالية، وذو الحال فاعل استمع، والذي سوغ ذلك تضمنها ضميره، ويجوز أن تكون صفة للقوم، والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، فإن الكراهة حاصلة لا محالة (صب) بالبناء للمجهول (في أذنيه الآنك) فيه وعيد شديد، والجزاء من جنس العمل (يوم القيامة ومن صور صورة) أي: من ذوات الأرواح (عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ) عبر به وعبر فيما تقدم بقوله وأن ينفخ تفنناً في التعبير. قال العارف بن أبي جمرة: مناسبة الوعيد للكاذب في منامه وللمصور: أن الرؤيا خلق من خلق الله تعالى، وهو صورة معنوية، فأدخل لكذبه صورة معنوية لم تقع، كما أدخل المصور في الوجود، صورة ليست بحقيقية، لأن الصورة الحقيقية هي التي فيها الروح؛ فكلف صاحب الصورة بتكليفه أمراً شديداً، وهو أن يتم ما خلقه بزعمه، فينفخ الروح فيه. ووقع عند كل منهما بأن يعذب حتى يفعل ما كلف، وليس بفاعل، وهو كناية عن دوام تعذيب كل منهما. قال: والحكمة في هذا الوعيد، أن الأول كذب على جنس النبوة، والثاني نازع الخالق في قدرته اهـ (رواه البخاري) وفي الجامع الكبير: "من تحلم كاذباً كلف يوم القيامة، أن يقعد بين شعيرتين، ولن يقعد بينهما". رواه الترمذي بعد إيراد الجمل الثلاث، لكن قدم التصوير، وقال عذبه الله يوم القيامة حتى ينفخ، ثم الحلم ثم الاستماع، وقال: رواه أحمد وأبو داود وهو حسن صحيح من حديث ابن عباس قال: ورواه أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، لكن قال: ودفع إليه شعيرة، وكلف أن يعقد بين طرفيها، وليس بعاقد. وصححه ابن ماجه وابن جرير من حديث ابن عباس، وحديث: "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك ومن أري عينيه في المنام ما لم ير كلف أن يعقد شعيرة". رواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس، ولم يذكره البخاري وهو عجيب (تحلم أي: قال إنه حلم في نومه ورأى كذا وكذا وهو كاذب والآنك بالمد وضم(8/374)
النون وتخفيف الكاف: وَهُوَ الرَّصَاصُ المذاب (1) .
1543- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْرَى الفِرَى أنْ يُرِيَ الرَّجُلُ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا". رواه البخاري.
ومعناه: يقول: رأيتُ، فيما لَمْ يَرَهُ. (2) .
1544- وعن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ لأَصْحَابِهِ: "هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النون وتخفيف الكاف وهو الرصاص المذاب) وقيل هو الرصاص الأبيض، وقيل هو الأسود، وقيل هو الخالص منه، ولم يجىء واحد على أفعل، غير هذا، وقيل يحتمل أنه فاعل لا أفعل، وهو شاذ أيضاً، وفي المصباح الآنك وزان أفلس، ومنهم من يقول الآنك فاعل، قال وليس في العربي فاعل بضم العين، وأما الآنك والأجر فيمن خفف وآمل وكابل فأعجميات اهـ.
1543- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرى الفري) بكسر الفاء وتخفيف الراء مقصوراً جمع فرية (أن يري الرجل عينيه ما لم تريا) أي: بأن يسند إليهما رؤيا ما لم ترياه. وتقدم شرح الحديث في باب الرؤيا في أثناء حديث واثلة (رواه البخاري) في التعبير (ومعناه يقول رأيت فيما لم يره) ظاهره شمول اليقظة والنوم، وظاهر لفظ أبي داود والبخاري في باب التعبير: اختصاصه بالأخير. ومقتضى إيراد المصنف، ثم تفسيره شموله لها.
1544- (وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر) خبر مقدم مبتدؤه (أن يقول) أي: قوله، والجملة خبر كان، والرابط محذوف أي: منه. وقال الطيبي: مما يكثر خبر كان، وما موصول: صلته يكثر، والعائد على ما: فاعل يقول، وأن يقول فاعل يكثر. وهل رأى أحد منكم الخ هو المقول أي: رسول الله من النفر الذين كثر منهم هذا القول، فوضع ما وضع من تفخيماً وتعظيماً لجانبه، هذا من جهة البيان، ومن حيث النحو يجوز أن تكون هل رأى أحد منكم الخ مبتدأ. والخبر مقدم عليه على تأويل هذا القول مما يكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول. ثم أشار إلى ترجيح الوجه السابق قال الحافظ في الفتح: فالمتبادر الثاني، وعليه أكثر الشارحين (لأصحابه هل رأى أحد منكم من رؤيا) من: مزيدة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: من كذب في حلمه (12/374، 375) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: من كذب في حلمه (12/376، 377) .(8/375)
فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللهُ أنْ يَقُصَّ، وإنَّهُ قَالَ لنا ذَات غَدَاةٍ: "إنَّهُ أَتَانِيَ اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وإنَّهُمَا قَالا لِي: انْطَلِقْ، وإنِّي انْطَلَقتُ مَعَهُمَا، وإنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الحَجَرَ فَيَأخُذُهُ فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأسُهُ كَما كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأوْلَى! " قَالَ: "قُلْتُ لهما: سُبْحانَ اللهِ! مَا هَذَان؟ قَالا لي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَديدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأتِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للاستغراق، وشمول كل منام بأيّ وصف وشأن (فيقص) بضم القاف وتشديد المهملة (من شاء الله أن يقص) أي: يعلمه برؤياه التي أراد الله أن يعلمه بها (وأنه قال لنا ذات غداة) أي: صبح يوم، وذات: زائدة وهو من إضافة الشيء إلى نفسه، قاله الحافظ (إنه) أي: الشأن (أتاني الليلة آتيان) بمد الهمزة وبعدها فوقية مكسورة فتحتية مخففة (وإنهما قالا لي انطلق) أي: معنا بدليل قوله (وإني انطلقت معهما) أي: ذهبت معهما (وإنا) عطف على إن ومعموليها (أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر) بفتح الخاء وبالرفع مبتدأ خبره (قائم عليه بصخرة وإذا هو) أي: الرجل، والضمير مبتدأ خبره (يهوي) بكسر الواو أي: يسقط (بالصخرة) الباء فيه للتعدية (لرأسه) متعلق بيهوى أيضاً (فيثلغ) بالرفع أي: يشدخ الحجر أو الرجل القائم بعذاب ذلك المضطجع (رأسه فيتدهده الحجر ها هنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع) أي: الحجر (إليه) أي: الرجل أولاً يرجع الرجل أي: يصل إلى الحجر (حتى يصح رأسه كما كان) أي: قبل شدخه. والكاف في محل المفعول المطلق، أي: صحة مثل ما كان، والتذكير باعتبار لفظها (ثم يعود) أي: القائم (عليه) أي: المضطجع (فيفعل به مثل ما فعل) أي: فعله، أو الذي فعله؟ وفي نسخة فعل به وهو يؤيد الثاني (من الأولى) كذا لأبي ذر والنسفي ولغيرهما. وفي نسخة "المرة الأولى" وهو كذلك عند أبي عوانة. قال ابن العربي: جعلت العقوبة في رأس هذا: لنومه عن الصلاة؛ والنوم موضع الرأس (قال قلت لهما سبحان الله) كلمة تنزيه، تستعمل حال التعجب من الشيء (ما هذا) أي: ما حاله (قالا: لي انطلق انطلق) أي: دع السؤال عن بيان حاله، وانطلق لرؤية التعجب (فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه) أي: عليها نحو قوله تعالى: (يخرُّون للأذقان) (1) (وإذا آخر) بفتح
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 107.(8/376)
أحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، ومِنْخَرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الجانبِ الآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بالجَانِبِ الأوَّلِ، فَمَا يَفْرَغُ مِنْ ذَلِكَ الجانبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الجانبُ كما كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي المرَّةِ الأُوْلَى " قَالَ: " قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! مَا هذانِ؟ قالا لي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ " فَأَحْسِبُ أنَّهُ قَالَ: " فإذا فِيهِ لَغَطٌ، وأصْواتٌ، فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فإذا فِيهِ رِجَالٌ وَنِساءٌ عُرَاةٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخاء، وآخر: غير مصروف مبتدأ خبره (قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو) أي: القائم (يأتي أحد شقي) بكسر المعجمة أي: جانبي (وجهه) أي: الملتقى (فيشرشر) بضم التحتية (شدقه) قال في المصباح: هو جانب الفم، يقال بالفتح والكسر. وجمع الأول شدوق، والثاني أشداق (إلى قفاه) القفا مقصوراً: مؤخر العنق (ومنخره) بالنصب عطفاً على شدقه، بفتح الميم وكسر المعجمة، ويقال بكسرهما باتباع حركة الميم بحركة المعجمة لسكون النون الحاجز بينهما؛ (إلى قفاه وعينيه إلى قفاه ثم يتحول) بتشديد الواو، والفاعل ضمير القائم، والمفعول محذوف لدلالة المقام؛ أي: نحو الكلوب. (إلى الجانب الآخر) أي: جانب الشق الآخر من الوجه (فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول) من الشق من الجانب الثاني، أي: من الشدق أو من العين، وشق المنخر في الأول، كاف عن شقه الثاني، أو من الشدق ومن العين ثانياً، ظاهر اللفظ يومىء للأول. (فما يفرغ من ذلك الجانب) عبر بذلك عن هذا: إيماء إلى طول فعل ذلك به، لعظم بدنه؛ فكأنه بعيد فلذا عبر فيه بما يشار به إليه (حتى يصبح ذلك الجانب) أي: المبدوء به أولاً (كما كان) قبل الشرشرة (ثم يعود) أي: القائم (عليه) أي: الجانب الذي صح (فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى) قال ابن العربي: شرشرة شدقي الكاذب: إنزال العقوبة بمحل المعصية، وعلى هذا تجري العقوبة في الآخرة، بخلاف الدنيا. (قال قلت سبحان الله ما هذان) أي: المضطجع والموكل بعذابه (قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور) تنور الخبز، قال الكواشي في تفسيره: هو في جميع اللغات مستعمل بهذا المعنى، قالوا: ولا لفظ له سواه. قال البرماوي: وهو من الغرائب. وقال السيوطي في التوشيح: قيل هو معرب. وقيل: عربي.
وهو في الأكثر يكون حفيرة في الأرض، وربما كان على وجه الأرض. ووهم من خصه بالأول اهـ. (فأحسب) أي: أظن بكسر المهملة (أنه قال فإذا فيه لغط) بفتح اللام والغين المعجمة وبالطاء المهملة قال في المصباح: هو كلام فيه جلبة واختلاط، ولا يتبين (وأصوات فاطلعنا فيه) بتشديدء الطاء المهملة (فإذا فيه رجال ونساء عراة) بضم المهملة(8/377)
وَإِذَا هُمْ يَأتِيِهمْ لَهَبٌ مِنْ أسْفَلَ مِنْهُمْ، فإذا أتاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا. قُلْتُ: مَا هَؤلاءِ؟ قَالا لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ " حَسِبْتُ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " أَحْمَرُ مِثْلُ الدَّمِ، وَإِذَا في النَّهْرِ رَجُلٌ سابحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كثيرةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابحُ يَسْبَحُ، مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فاهُ، فَيُلْقِمُهُ حَجَراً، فَينْطَلِقُ فَيَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ، فَغَرَ لَهُ فَاهُ، فَألْقَمَهُ حَجَراً، قُلْتُ لهُما: مَا هذانِ؟ قالاَ لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَريهِ المرْآةِ، أَوْ كَأكْرَهِ مَا أنتَ رَاءٍ رجُلاً مَرْأىً، فإذا هُوَ عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا. قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا؟ قالاَ لي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتخفيف الراء: جمع عار كغاز وغزاة (وإذا هم يأتيهم لهب) بفتح أوله (من أسفل منهم) جر بالفتحة نيابة عن الكسرة لمنع صرفه؛ ويتعلق به قوله (فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا) أي: رفعوا أصواتهم مختلفة (قلت ما هؤلاء قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على نهر) بإسكان الهاء، ويجوز فتحها (حسبت أنه كان يقول) إن كان هذا الكلام من الصحابي، شك في المأتي به بعدها. فالضمائر تعود للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان مما بعده فيرجع للراوي المحدث عنه (أحمر مثل الدم) وكل من أحمر ومثل: مجروران صفةً لنهر، وفي نسخة من الرياض: ضبطهما بالرفع، ولعله على قطعهما عن المنعوت وجعلهما مبتدأ (وإذا في النهر رجل سابح) بالموحدة (يسبح وإذا على شط) بفتح المعجمة وتشديد المهملة أي: جانب (النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة) أتي بالوصف لدفع توهم أن التنوين للتقليل؛ (وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح) قال الحافظ: بفتح أوليه والموحدة خفيفة، لكن رأيته في نسخ من الرياض بالمضارع (ثم يأتي ذلك) أي: إلى الجالس على الشط (الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه) بضم التحتية (حجراً فينطلق ليسبح ثم يرجع إليه كلما رجع ّإليه فغر له فاه فألقمه حجراً فقلت لهما ما هذان) أي: السابح والملقم له الحجر (قال لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة) كريه بالكاف والراء والتحتية، بوزن فعيل من الكراهية، والمرآة يأتي الكلام عليها (أو) شك من الراوي في أنه قال كريه المرآة، أو قال (كأكره ما أنت راء رجلاً مرأى) وفي نسخة "مرآة"، وراء اسم فاعل، من رأي البصرية.
ورجلا مفعوله، ومرأى تمييز (وإذا هو عند نار يحشها ويسعى حولها) بالنصب على الظرفية(8/378)
الرَّبيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَي الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَويلٌ لا أَكادُ أَرَى رَأسَهُ طُولاً في السَّماءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلدانٍ رَأيْتُهُمْ قَطُّ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ وَمَا هؤلاءِ؟ قالا لي: انْطَلقِ انْطَلقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا إِلَى دَوْحَةٍ عَظيمةٍ لَمْ أَرَ دَوْحَةً قَطُّ أعْظمَ مِنْهَا، وَلاَ أحْسَنَ! قالا لي: ارْقَ فِيهَا، فارْتَقَيْنَا فِيهَا إِلَى مَدينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبنٍ ذَهَبٍ وَلَبنٍ فِضَّةٍ، فَأَتَيْنَا بَابَ المَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا، فَفُتِحَ لَنَا فَدَخَلْنَاها، فَتَلَقَّانَا رِجالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كأَحْسَنِ مَا أنت راءٍ! وَشَطْرٌ مِنْهُمْ كأقْبَحِ مَا أنتَ راءٍ! قالا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(قلت لهما ما هذان قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة) أي: مخصبة (فيها من كل نور) كذا في الرياض، بفتح النون وآخره راء زهر وهي رواية الكشميهني، والأكثر وفي رواية للبخاري لون بلام أوله، ونون آخره أي: لون (الربيع وإذا بين ظهري) بفتح الراء وكسر التحتية لالتقاء الساكنين؛ تثنية ظهر أي: وسط (الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً) تمييز (في السماء) متعلق به (وإذا حول الرجل من أكثر ولدان) بكسر الواو (ما رأيتهم) أي: أبصرتهم (قط) قال الطيبي: أصل الكلام وإذا حول الرجل ولدان، ما رأيت ولدانا قط أكثر منهم، ونظيره قوله بعد ذلك، لم أر روضة قط أعظم منها، ولما أن كان هذا التركيب يتضمن معنى النفي، جازت زيادة من وقط، التي تختص بالماضي المنفي. وقال ابن مالك: جاز استعمال قط في المثبت في هذه الرواية وهو جائز، وغفل عنه أكثرهم، فخصوه بالمنفى، قال في الفتح: والذي وجه به الطيبي حسن جداً، ووجهه الكرماني: بأنه يجوز أن يكون المنفي، المعنى الذي يلزم من التركيب. إذ المعنى ما رأيتهم أكثر من ذلك، أو أداة النفي مقدرة (قلت ما هذا وما هؤلاء قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا إلى دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها ولا أحسن) قال الحافظ في الفتح: قوله يعني البخاري فأتينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قط، أعظم منها ولا أحسن، قال: قالا لي أرق، فإنه بعد أن ذكر المتن. كذلك في رواية أحمد والنسائي وأبي عوانة والإِسماعيلي. ودرجة بدل روضة اهـ. فهذا صريح في أن لفظ البخاري: روضته، وحينئذ فما في الرياض، لعله من قلم النساخ (قالا لي أرق فيها فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن) بفتح فكسر اسم جنس جمعي واحده لبنة (ذهب ولبن فضة) قال في الفتح: أصل اللبن ما يبنى به من طين (فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح) بصيغة المجهول نائب فاعله لنا فدخلناها فتلقانا رجال شطر من خلقهم) بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام، وبالقاف أي: هيئتهم المدركة بحاسة البصر. وفي نسخة "شطر منهم" (كأحسن ما) أي: الذي (أنت راء) أي: إليه (حسن) بفتح(8/379)
ذَلِكَ النَّهْرِ، وَإِذَا هُوَ نَهْرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كأنَّ ماءهُ المَحْضُ في البَيَاضِ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ. ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا في أحْسَنِ صُورَةٍ" قَالَ: "قالا لِي: هذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ، وهذاك مَنْزِلُكَ، فسَمَا بَصَري صُعُداً، فإذا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ البَيضاءِ، قالا لي: هذاكَ مَنْزلكَ؟ قلتُ لهما: باركَ اللهُ فيكُما، فذَراني فأدخُلَه. قالا لي: أمَّا الآنَ فَلاَ، وأنتَ دَاخِلُهُ، قُلْتُ لَهُمَا: فَإنِّي رَأيتُ مُنْذُ اللَّيْلَة عَجَباً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أوليه المهملين (وشطر) أي: نصف (منهم كأقبح ما أنت راء) شطر مبتدأ، وكأحسن خبر، والكاف زائدة، والجملة صفة رجال. قال الحافظ: وهذا الإِطلاق، يحتمل أن يكون المراد منه أن نصفهم حسن كلّه، ونصفهم قبيح كله. ويحتمل أن يكون المراد كله: واحد نصفه حسن، ونصفه قبيح، والثاني هو المراد. ويؤيده في قوله في صفتهم هؤلاء، قوم خلطوا عملاً صالحاً أي: عمل كل منهم عملاً صالحاً خلطه بسيء (قالا) أي: الملكان (لهم) للرجال المذكورين (اذهبوا فقعوا في ذلك النهر) أي: انغمسوا فيه لتغسل تلك الصفة القبيحة، بهذا الماء الصافي الخالص (وإذا هو) أي: النهر المشار إليه (نهر معترض) أي: يجري عرضاً (كان ماءه) المحض أي: اللبن الخالص عن الماء، حلواً كان أولاً، وبين جهة التشبيه بقوله (في البياض) قال الطيبي: ويحتمل أن يراد بالماء المذكور عفو الله تعالى عنهم، وتوبته عليهم، كما في الحديث: "اغتسل خطاياي بالماء والثلج والبرد" (فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم) أي: صار الشطر القبيح، كالشطر الحسن. ولذا قال: (فصاروا في أحسن صورة) والجملة مدخول قد حالية، ومدخول الفاء معطوفة على جملة رجعوا (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (فقالا لي هذه جنة عدن) يعني المدينة، وهي بفتح المهملة الأولى، وسكون الثانية، من عدن بالمكان إذا أقام به (وهذا منزلك) بالرفع، خبر لاسم الاشارة (فسما) بفتح المهملة، والميم الخفيفة، أي: نظر (بصري) إلى فوق (صعدا) قال الحافظ: ضبط بضم المهملتين، أي: ارتفع كثيراً، وضبطه ابن التين: بفتح العين واستبعد ضمها (فإذا قصر مثل الربابة) يأتي معناها، وفي رواية: "فرفعت رأسي فإذا هو في السحاب" وقصر مبتدأ، ومثل صفته، والخبر محذوف. وقيل: هو إذا الفجائية، ووصف الربابة زيادة في الإِظهار بقوله: (البيضاء قالا لي هذا منزلك قلت لهما بارك الله فيكما فذراني فأدخله قالا أما الآن فلا) ويأتي بيان ذلك في الرواية الثانية. وقولهما بقي لك عمر (وأنت داخله) دون غيرك، كما يؤذن به تعريف الجزأين (قلت لهما فإني رأيت منذ الليلة) أي: فيها (عجباً) بفتح أوله المهمل، فالجيم وبالموحدة، أي: أموراً يتعجب منها(8/380)
فما هَذَا الَّذِي رأيتُ؟ قالا لي: أمَا إنَّا سَنُخْبِرُكَ: أَمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأسُهُ بالحَجَرِ، فإنَّهُ الرَّجُلُ يَأخُذُ القُرآنَ فَيَرفُضُهُ، ويَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ المَكتُوبَةِ. وأمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، ومِنْخَرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فإنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الكِذْبَةَ تَبْلُغُ الآفاقَ. وأمَّا الرِّجَالُ والنِّسَاءُ العُراةُ الَّذِينَ هُمْ في مثْلِ بناءِ التَّنُّورِ، فَإنَّهُمُ الزُّنَاةُ والزَّواني، وأما الرجلُ الذي أتيتَ عَليهِ يَسْبَحُ في النهرِ، ويلقم الحجارةَ، فإنَّهُ آكلُ الربا، وأمَّا الرَّجُلُ الكَريهُ المرآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فما هذا الذي رأيت) يحتمل السؤال عن الحقيقة والوصف القائم بها، وكذا يحتملهما الجواب (قالا لي أما) بتخفيف الميم (إنا سنخبرك) السين فيه لتأكيد الوعد (أما الرجل الأول الذي أتيت) بقصر الهمزة أي: مررت (عليه) حال كونه (يثلغ رأسه) بضم التحتية، وبالمثلثة، وبالمعجمة (بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن) أي: يحفظه (فيرفضه) بكسر الفاء وبضمها (وينام عن الصلاة المكتوبة) قال ابن هبيرة: رفض القرآن بعد حفظه كبيرة عظيمة، لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه؛ فلما رفض أشرف الأشياء، وهو القرآن، عوقب في أشرف الأعضاء، وهو الرأس. (وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل) ذكره لكونه هو الغالب لا مفهوم له مخرجاً للمرأة؛ (يغدو) أي: يخرج (من بيته فيكذب الكذبة) بفتح فسكون المرة من الكذب (تبلغ الآفاق) بمد الهمزة، وبالفاء والقاف: جمع أفق بضم أوليه وبضم فسكون. قال في القاموس: هو الناحية، أو ما ظهر من نواحي الفلك، أو مهب الجنوب والشمال والدبور والصبا اهـ. (وأما الرجال والنساء العراة) بضم العين المهملة جمع عار، هو المجرد عن الثوب (الذين هم في مثل بناء التنور فهم الزناة) أي: من الرجال (والزواني) من النساء، مناسبة العرى لهم لاستحقاقهم. أن يفضحوا، لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة؛ فعوقبوا في الهتك.
والحكمة في كون العذاب لهم من تحتهم كون، جنايتهم من أعضائهم السفلى. (وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم) بالبناء للمفعول (الحجارة فإنه آكل الربا) قال ابن هبيرة: إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجر: لأن أصل الربا يجري في الذهب وهو أحمر؛ وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئاً؛ وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد، والله تعالى من ورائه يمحقه (وأما الرجِل الكريه المرآة) بفتح الميم والهمزة الممدودة أي: المنظر (الذي عنده النار يحشها(8/381)
وَيَسْعَى حَوْلَهَا، فإنَّهُ مالكٌ خازِنُ جَهَنَّمَ، وأمَّا الرَّجُلُ الطَّويلُ الَّذِي في الرَّوْضَةِ، فإنَّهُ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا الولدان الَّذِينَ حَوْلَهُ، فكلُّ مَوْلُودٍ ماتَ عَلَى الفِطْرَةِ" وفي رواية البَرْقانِيِّ: "وُلِدَ عَلَى الفِطْرَةِ" فَقَالَ بعض المُسلمينَ: يَا رسولَ الله، وأولادُ المُشركينَ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وأولادُ المشركينَ، وأما القومُ الذينَ كانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ، وشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبيحٌ، فإنَّهُمْ قَومٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً، تَجاوَزَ الله عنهم". رواه البخاري. وفي روايةٍ لَهُ: "رَأيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أتيَانِي فأخْرَجَانِي إِلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويسعى حولها فإنه مالك خازن النار) وإنما كان كريه الرؤية، زيادة في تعذيب أهل النار (وأما الرجل الطويل الذي في الروضة) قال في المصباح: هو الموضع المعجب بالزهور (فإنه إبراهيم) وإنما اختص إبراهيم بذلك: لأنه أبو المسلمين؛ قال تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم) (1) وقال تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) (2) الآية (وأما الوالدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة) أي: الإِسلام (وفي رواية) أخرى (للبرقاني ولد على الفطرة) قال الحافظ في الفتح: وهو أشبه بقوله (فقال بعض المسلمين يا رسول الله وأولاد المشركين) قال الحافظ: لم أقف على اسم القائل، وهذا يسمى بالعطف التلقيني، نظير الاستثناء التلقيني في قول العباس، إلا الأذخر (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأولاد المشركين) ظاهره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألحقهم بأولاد المسلمين في حكم الآخرة، ولا يعارض قوله في الحديث الآخر: "هم من آبائهم" لأن ذلك في حكم الدنيا؛ (وأما القوم الذين كانوا) وجملة (شطر) أي: نصف (منهم حسن) خبر، والرابط الضمير المجرور. وأعرب الحافظ كان: تامة، وجعل الجملة حالية (وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) قال السيد معين الدين الصفوي في جامع البيان: قيل الواو بمعنى الباء، كما في بعت الشاة شاة ودرهماً أي: بدرهم. والأولى: أن الواو على أصله، دال على أن كل واحد مخلوط بالآخر، كما تقول: خلطت الماء واللبن أي: خلطت كل واحد منهما بصاحبه، كما إذا قلت خلطت الماء باللبن واللبن بالماء (تجاوز الله عنهم) أي: غفر لهم (رواه البخاري) قال الحافظ المزي: حديث "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح أقبل علينا بوجهه" الحديث بطوله، رواه مقطعاً في الصلاة، وفي الجنائز، والبيوع، والجهاد وبدء الخلق وصلاة الليل، وأحاديث
__________
(1) سورة الحج، الآية: 78.
(2) سورة آل عمران، الآية: 68.(8/382)
أرْضٍ مُقَدَّسَةٍ" ثُمَّ ذَكَرَهُ وقال: " فَانْطَلَقْنَا إِلَى نَقْبٍ مثلِ التَّنُّورِ، أعْلاهُ ضَيِّقٌ وَأسْفَلُهُ واسِعٌ؛ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ ناراً، فإذا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادُوا أنْ يَخْرُجُوا، وَإِذَا خَمَدَتْ! رَجَعُوا فِيهَا، وفيها رِجالٌ ونِساءٌ عراةٌ ". وفيها: " حَتَّى أتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ " ولم يشكَّ " فِيهِ رَجُلٌ قائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهْرِ وعلى شطِّ النَّهرِ رجلٌ، وبينَ يديهِ حِجارةٌ، فأقبلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأنبياء والتفسير والتعبير. ورواه مسلم في الرؤيا، ورواه الترمذي مختصراً وقال: حسن صحيح. ورواه النسائي اهـ. وتعقب المزي، بأن البخاري، ساق الحديث بتمامه في كل من الجنائز والتعبير، وفيما عداه في كل موضع قطعة. ورواه في صلاة الليل بقصر مجحف للغاية، وكذا اختصره في التفسير، وهو في تفسير براءة (وفي رواية له) أي: للبخاري، أو ردها في الجنائز (رأيت الليلة رجلين) أي: على صورتهما (أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة) بصيغة المفعول من التقديس أي: التطهير (ثم ذكره) أي: الإِخراج إليها أي: من بيته (قال فانطلقنا إلى نقب) بفتح النون وسكون القاف أي: خرق. مصدر نقبت الحائط أنقبه من باب قتل (مثل التنور) وبين وجه شبهه بقوله: (أعلاه ضيق وأسفله) بالرفع (واسع يتوقد) بالتحتية (تحته) أي: النقب (ناراً) قال الدماميني في المصابيح: كلام ابن مالك صريح في أن تحته ظرف منصوب، لا مرفوع فإنه قال: نصب ناراً على التمييز، وفاعل يتوقد: ضمير يعود على النقب، والأصل يتوقد ناره تحته. قال: ويجوز أن يكون فاعل يتوقد موصولاً بتحته، فحذف. وبقيت صلته دالة عليه لوضوح المعنى؛ أي: يتوقد الذي، أو ما تحته ناراً، وهو مذهب الكوفيين والأخفش. واستصوبه ابن مالك، واستدل عليه بأمور قررها في توضيحه فلتراجع فيه اهـ. (فإذا ارتفعت ارتفعوا) بحمل لهيبها لهم (حتى كادوا) أي: قاربوا (أن يخرجوا) فيه إدخال أن في خبر كاد ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما كدت أن أصلي العصر، حتى كادت الشمس أن تغرب. والأكثر تجرده منها، قال تعالى: (وما كادوا يفعلون يكاد زيتها يضيء) (1) (وإذا خمدت) بالمعجمة أي: سكن لهبها مع بقاء حمرة الجمر بحالها (2) (رجعوا فيها) إلى الأسفل (وفيها رجال ونساء عراة وفيها) أي: هذه الرواية (حتى أتينا على نهر من دم) بالجزم (ولم يشك) الراوي، كما شك في الأولى، حيث قال: حسبت أنه قال أحمر مثل الدم (فيه) أي: النهر (رجل قائم على وسط النهر) بفتح السين المهملة على الأفصح، ويجوز إسكانها، وبإسكان الهاء، ويجوز فتحها (وعلى شطر النهر
__________
(1) سورة النور، الآية: 35.
(2) عبارة المصباح: خمدت النار خموداً من باب تعب ماتت فلم يبق منها شيء وقيل سكن لهبها وبقي جمرها اهـ. ع.(8/383)
الرجلُ الذي في النَّهرِ، فَإذَا أرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ في فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ جَعَلَ يَرْمِي في فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيْرَجِعْ كما كَانَ ". وفيها: " فَصَعِدَا بي الشَّجَرَةَ، فَأدْخَلاَنِي دَاراً لَمْ أرَ قَطُّ أحْسَنَ مِنْهَا، فيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ ". وفيها: " الَّذِي رَأيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ، يُحَدِّثُ بِالكِذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ "، وَفِيهَا: " الَّذِي رَأيْتَهُ يُشْدَخُ رَأسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بالنَّهارِ، فَيُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رجل وبين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج) أي: منه (رمى) الذي في الشط (حجراً في فيه) أي: الرجل المريد للخروج، إيماء إلى خيبته، كما في الحديث "وللعاهر الحجر" (فرده حيث كان فجعل) أي: الذي في الشط (كلما جاء ليخرج) أي: الذي في النهر (جعل يرمي) أي: الذي في الشط (في فيه) أي: الذي في النهر (بحجر فيرجع كما كان) أي: على كونه فيه. قال الدماميني في قوله رمى الخ: وقوع خبر جعل، التي هي من أفعال الشروع، جملة فعلية مصدرة بكلما، والأصل أن يكون مضارعاً. تقول جعلت أفعل كذا، وما جاء بخلافه: فمبني على أصلٍ متروك، وهو أن أفعال المقاربة مثل كان، في الدخول على مبتدأ وخبر، فالأصل كون خبرها كخبر كان في وقوعه مفرداً وجملة اسمية وفعلية وظرفية، فترك ذلك والتزم كون الخبر مضارعاً. وقد يجيء على الأصل المتروك شذوذاً (وفيها) أي: الرواية المذكورة (فصعدا) بكسر المهملة الثانية (بي الشجرة) قبله فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء، فيها شجرة عظيمة، إلى أن قال: فصعدا بي الشجرة (فأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها فيها رجال شيوخ) بضمتين، أو بكسر فضم: أحد جموع لفظ شيخ (وشباب) بمعجمة وموحدتين (وفيها) أي: الرواية المذكورة في قوله: (الذي رأيته يشق شدقه) بالبناء للمفعول (فكذاب) قال ابن مالك: أدخل الفاء لتضمن الموصول العموم؛ إذ ليس المراد به معيناً، بل هو وأمثاله. وكذا الباقي اهـ. وهذا أحسن مما يأتي عن الدماميني لما فيه من إجرائه، على العام الغالب، والمبالغة باعتبار الكيف كما قال (يحدث بالكذبة) بالكسر قال البرماوي أي: ينشئها كما تقدم في الرواية قبلها (فتحمل) بصيغة المجهول، فالميم مخففة. وقال الزركشي مشددة (عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع) بصيغة المجهول (به) ونائب الفاعل مستتر، يعود إلى ما ذكر من العذاب (إلى يوم القيامة وفيها) أي: الرواية المذكورة (الذي رأيته يشدخ في رأسه فرجل علمه الله القرآن) قال الدماميني في المصابيح: الأصل في الموصول، الذي تدخل الفاء في حيزه، أن يكون(8/384)
" ضَوْضَوا " وَهُوَ بضادين معجمتين: أيْ صاحوا. قَوْله: " فَيَفْغَرُ " هُوَ بالفاء والغين المعجمة، أيْ: يفتح. قَوْله " المَرآة " هُوَ بفتح الميم، أيْ: المنظر. قَوْله: " يَحُشُّها " هُوَ بفتح الياءِ وضم الحاء المهملة والشين المعجمة، أيْ: يوقِدُها. قَوْله: " رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ " هُوَ بضم الميم وإسكان العين وفتح التاء وتشديد الميم، أيْ: وافية النَّباتِ طَويلَته. قَولُهُ: " دَوْحَةٌ " وهي بفتحِ الدال وإسكان الواو وبالحاءِ المهملة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المشددة وهو معروف) قال الجوهري: هو المنشار، وكذا الكلاب، والجمع كلاكليب وقال ابن بطال: الكلوب: خشبة في رأسها غفافة. قال الدماميني: لا يتأتى تفسير الحديث بهذا لتصريحه بأنه من حديد؛ قلت: لعل مراد ابن بطال أنه من الحديد، بصورة الذي في الخشب، ثم رأيت البرماوي فسرها بذلك، فقال: حديدة لها شعب يعلق فيها اللحم (قوله فيشرشر أي: يقطع) بتشديد الطاء والتفعيل لتكرير الفعل؛ (ضوضوا هو بضادين معجمتين) مفتوحتين، قال في الفتح: بغير همز للأكثر، وحكي الهمز، ومنهم من يسهله (أي: صاحوا) بأصوات مختلفة وفي النهاية: الضوضأة أصوات الناس ولغطهم، وكذا الضوضي: بلا هاء مقصور قال الحميدي: المصدر بغير همز (قوله فيفغر هو بالفاء والغين المعجمة أي: يفتح) هو بمعناه وبوزنه (قوله المرآة هو بفتح الميم) وسكون الراء، وهمزة ممدودة بعدها هاء تأنيث (أي: المنظر) قال ابن التين: أصله المرأية، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً، ووزنها مفعلة (قوله يحشها هو بفتح الياء) التحتية (وضم الحاء المهملة وبالشين المعجمة) أي: المشددة من الثلاثي، وحكي في المطالع ضم أوله من الرباعي. وفي الرواية الثانية التي أشار إليها المصنف، يخشها بضم المعجمتين (أي: يوقدها وقوله روضة) وهي كما تقدم الموضع المعجب بالزهور (معتمة هو بضم الميم وإسكان العين) المهملة (وفتح التاء) الفوقية (وتشديد الميم) هذا الضبط، نسبه في الفتح لبعضهم، وبدأ قبله بأنه بكسر المثناة وتخفيف الميم (أي: وافية النبات طويلته) قال في الفتح يقال: اعتم النبت إذا اكتمل، ونخلة عتمة طويلة. وقال الداودي: اعتمت الروضة غطاها الخصب، هذا على روايته بتشديد الميم. قال ابن التين: ولا يظهر للتخفيف وجه. قلت الذي يظهر: أنه من العتمة، وهي شدة الظلام، فوصفها بشدة الخضرة كقوله تعالى: (مدهامتان) (1) وضبطه ابن بطال روضة مغنة، بكسر الغين وتشديد النون. ثم نقل عن أبي زيد، روض غن ومغن، إذا كثر
__________
(1) سورة الرحمن، الآية: 64.(8/386)
وهي الشَّجَرَةُ الكَبيرةُ. قَوْلهُ: " المَحْضُ " هُوَ بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة وبالضَّادِ المعجمة، وَهُوَ: اللَّبَنُ. قَوْلهُ " فَسَمَا بَصَري " أيْ: ارْتَفَعَ. و" صُعُداً " بضم الصاد والعين، أيْ: مُرْتَفعاً. وَ" الربَابَةُ " بفتح الراءِ وبالباء الموحدة مكررةً، وهي: السَّحابَة (1) (2) .
261- باب في بيان مَا يجوز من الكذب
اعلَمْ أنَّ الكَذِبَ، وإنْ كَانَ أصْلُهُ مُحَرَّماً، فَيَجُوزُ في بَعْضِ الأحْوَالِ بِشُروطٍ قَدْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شجره، وقال الخليل روضة غناء، كثيرة العشب (قوله دوحة هي بفتح الدال المهملة وإسكان الواو وبالحاء المهملة وهي الشجرة الكبيرة) أي: شجرة كانت قال في المصباح والجمع دوح و (قوله المحض هو بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة وبالضاد المعجمة وهو اللبن) يفيد أن لا يخالطه ماء، والمحض: الخالص الذي لم يخالطه غيره. وأنت الضمير أولاً باعتبار أنها كلمة، وذكره ثانياً نظراً لأنه لفظ، أو لأن الخبر مذكر؛ و (قوله فسما بصرى) بالفاء العاطفة، وسها فعل ماض (أي: ارتفع وصعداً بضم الصاد والعين) بمهملات (أي: مرتفعاً) أي: إن صعداً بمعنى صاعد، وهو بمعنى مرتفع، فهو منصوب على الحال (والربابة بفتح الراء وبالباء الموحدة مكررة وهي السحابة) البيضاء، ويقال لكل سحابة منفردة عن السحاب، ولو لم تكن بيضاء، وقال الخطابي: الربابة السحابة التي ركب بعضها على بعض.
باب بيان ما يجوز من الكذب
للمصلحة المترتبة عليه: (اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرماً) أي: إذا كان على وجه التعمد (فيجوز) أي: لا يمتنع (في بعض الأحوال) وتارة يكون واجباً، وتارة يكون مندوباً، وأخرى مباحاً، (بشروط) جمع شرط، وهو لغة العلامة. وشرعاً ما يلزم من عدمه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح (3/200، 201) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصلح، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس (5/220) .
وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب. باب: تحريم الكذب، وبيان المباح منه (الحديث: 101) .(8/387)
أوْضَحْتُهَا في كتاب: " الأَذْكَارِ "، ومُخْتَصَرُ ذَلِكَ: أنَّ الكلامَ وَسيلَةٌ إِلَى المَقَاصِدِ، فَكُلُّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِغَيْرِ الكَذِبِ يَحْرُمُ الكَذِبُ فِيهِ، وإنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ إِلاَّ بالكَذِبِ، جازَ الكَذِبُ. ثُمَّ إنْ كَانَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ المَقْصُودِ مُبَاحاً كَانَ الكَذِبُ مُبَاحاً، وإنْ كَانَ وَاجِباً، كَانَ الكَذِبُ وَاجِباً. فإذا اخْتَفَى مُسْلِمٌ مِنْ ظَالِمٍ يُريدُ قَتْلَهُ، أَوْ أَخذَ مَالِهِ وأخفى مالَه وَسُئِلَ إنْسَانٌ عَنْهُ، وَجَبَ الكَذِبُ بإخْفَائِه. وكذا لو كانَ عِندَهُ وديعَةٌ، وأراد ظالمٌ أخذها، وجبَ الكذبُ بإخفائها. وَالأحْوَطُ في هَذَا كُلِّهِ أن يُوَرِّيَ. ومعْنَى التَّوْرِيَةِ: أنْ يَقْصِدَ بِعِبَارَتِهِ مَقْصُوداً صَحيحاً لَيْسَ هُوَ كَاذِباً بالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وإنْ كَانَ كَاذِباً في ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وبالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَفْهَمُهُ المُخَاطَبُ، وَلَوْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ وَأطْلَقَ عِبَارَةَ الكَذِبِ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ في هَذَا الحَالِ.
وَاسْتَدَل العُلَمَاءُ بِجَوازِ الكَذِبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته (قد أوضحتها في كتاب الأذكار ومختصر ذلك) أي: ملخص ما فيه (إن الكلام وسيلة) أي: متوسلاً به (إلى المقاصد) فلذا كان من ألطاف وضع اللغة، ليعبر الإِنسان عن مقصوده؛ (فكل مقصود محمود) شرعاً (يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه) لأنه لا داعي إلى الإتيان والمقصود حاصل بدونه، فارتكابه حينئذ، ارتكاب محرم بلا داع (وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب) أي: لا يمتنع، وليس المراد به الجواز بمعنى الإباحة، حتى يشكل بأنه يكون حينئذ واجباً تارة، ومندوباً أخرى، كما قال (ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً كان الكذب مباحاً) لأنه وسيلة لمباح؛ وللوسائل حكم المقاصد (وإن كان واجباً كان الكذب واجباً فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله) أي: ظلماً، كما يومىء إليه لفظة ظالم (أو أخذ ماله) كذلك، (وسئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه) وأنه ما رآه (وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالم أخذها وجب الكذب باخفائها) ومحل وجوب الكذب فيهما، ما لم يخش التبين، ويعلم أنه يترتب عليه ضرر شديد، لا يحتمل (والأحوط في هذا كله أن يوري) من التورية، وهي إيراد لفظ له معنيان، قريب وبعيد، ويراد البعيد منهما كما قال (ومعنى التورية) المأخوذة من قوله يوري (أن يقصد بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً فيه بالنسبة إليه) أي: لذلك المقصود (وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ بالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب) لكونه المعنى القريب؛ كأن يريد بقوله: ما رأيته ما ضربت رئته، وبقوله ما له عندي مال دانقاً، أو نحوه بما ليس من جنس المسئول عنه (ولو ترك التورية وأطلق عبارة (الكذب) إضافة بيانية (فليس(8/388)
فهل عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِيني؟ فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "المُتَشَبِّعُ بِما لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ". متفق عَلَيْهِ. "وَالمُتَشَبِّعُ": هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الشَّبَعَ وَلَيْسَ بِشَبْعَان. ومعناهُ هُنَا: أنْ يُظْهِرَ أنَّهُ حَصَلَ لَهُ فَضيلَةٌ وَلَيْسَتْ حَاصِلَةً. "وَلابِسُ ثَوْبَي زُورٍ" أيْ: ذِي زُورٍ، وَهُوَ الَّذِي يُزَوِّرُ عَلَى النَّاسِ، بِأنْ يَتَزَيَّى بِزِيِّ أهْلِ الزُّهْدِ أَو العِلْمِ أَو الثَّرْوَةِ، لِيَغْتَرَّ بِهِ النَّاسُ وَلَيْسَ هُوَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَقَيلَ غَيرُ ذَلِكَ واللهُ أعْلَمُ. (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضرة) بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الراء. قال في المصباح: وهي امرأة الزوج، والجمع ضرات على القياس، وسمع ضرائر، كأنها جمع ضريرة مثل كريمة وكرائم. ولا يكاد يوجد لها نظير (فهل عليّ جناح) بضم الجيم أي: (أن) بفتح الهمزة أي: في أن (تشبعت) بتشديد الموحدة (من زوجي غير الذي يعطيني) وذلك تفعله المرأة إظهاراً لرفعتها على ضرتها عند الزوج: لتغيظها به؛ (فقال - صلى الله عليه وسلم - المتشبع بما لم يعط) بصيغة المجهول (كلابس ثوبي زور متفق عليه) . ورواه أحمد وأبو داود من حديثها. ورواه مسلم من حديث عائشة (المتشبع هو الذي يظهر الشبع وليس بشبعان) هذا معنى اللفظ لغة (ومعناه) أي: المراد منه (هنا أنه) أي: المتشبع (يظهر أنه يحصل له فضيلة) من علم، أو جاه، أو رفعة. (وليست حاصلة ولابس ثوبي زور) المشبه به، المتشبع، فيه مضاف مقدر (أي: ذي زور، وهو الذي يزور على الناس، بأن يتزيا بزي) بكسر الزاي، أي: الهيئة. وأصله زوي (أهل الزهد) من خشونة الملبوس، والترفع على أهل الدنيا (أو) أهل (العلم) بأن يلبس لباسهم المعروف بهم (أو) أهل (الثروة) بفتح المثلثة وسكون الراء كثرة المال (ليغتر به الناس) فيتبركوا به في الأول، ويعطوه وظائف أهل العلم في الثاني، ويأمنوه على أموالهم في الثالث. (وليس هو بتلك الصفة) جملة حالية من ضمير يتزيا (وقيل غير ذلك) وفي فتح الباري: وقيل المراد بالثوب النفس، لقولهم: فلان نقي الثوب، إذا كان بريئاً من الدنس، ودنس الثوب، إذا كان مغموصاً عليه في دينه. قال الخطابي: الثوب مثل، ومعناه أنه صاحب زور وكذب. كما يقال لمن يوصف بالبراءة من الأدناس، طاهر الثوب. والمراد به نفس الرجل. وقيل المراد أن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: التشبع بما لم ينل (9/278، 279) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يُعط، (الحديث: 127) .(8/391)
264- باب في تحريم لعن إنسان بعينه أَو دابة
1549- عن أَبي زيدٍ ثابت بن الضَّحَّاك الأنصاريِّ - رضي الله عنه -، وَهُوَ من أهلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلاَمِ كاذِباً مُتَعَمِّداً، فَهُوَ كَما قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ، عُذِّبَ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فيما لا يَمْلِكُهُ، وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ". متفق عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب تحريم لعن إنسان بعينه
أي: إن لم يتيقن موته على الكفر، أما من تيقن موته عليه فلا، سواء مات، كأبي جهل وأمثاله، أولا كإبليس وأجناده. وإنما حرمت اللعنة فيما عداه، لأنها طرد عن رحمة الله؛ ولا يعلم ذلك إلا بتوقيف. والحي الكافر إيمانه مرجو، فيدخل في أهلها (أو دابة) أي مثلاً وكذا كل مخلوق من النبات والجماد.
1549- (وعن أبي زيد ثابت) بالمثلثة وبعد الألف موحدة (ابن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه وهو من أهل بيعة الرضوان) أي: البيعة التي نزل فيها قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (2) وكانت بالحديبية، سنة ست من الهجرة، سببها، أنه أشيع، أن قريشاً قتلوا عثمان بن عفان، فبايع - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على قتالهم إن صح ذلك الخبر. (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين بملة غير الإِسلام كاذباً متعمداً) كأن قال والله إن فعلت كذا، فهو يهودي أو نصراني (فهو كما قال) أي: إذا أراد التدين بذلك، والعزم عليه إن فعل ذلك، فيصير كافراً حالاً، لأن العزم على الكفر كفر. أما إذا أراد المبالغة في منع نفسه من ذلك، وألا يفعله ألبتة من غير عزم على ذلك المحلوف به ألبتة، فمعصية يستغفر الله منها. وأتى بعلى التي للاستعلاء إيماء إلى عقد قلبه على تلك اليمين، وأنه لو جرى ذلك على لفظه، من غير قصدٍ لم يكن كما ذكر في الحديث (ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة) ليكون الجزاء من جنس العمل؛ (وليس على رجل نذر فيما
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز واللعن، والإِيمان باب: من حلف بملة سوى الإِسلام مع اختلاف في بعض الألفاظ، باب: ما جاء في قاتل النفس وفي الأدب، باب ما ينهى عنه من السباب، (الحديث: 10/389) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: غلظ تحريم قتل النفس ... (الحديث 176) .
(2) سورة الفتح، الآية: 18.(8/394)
وَلاَ بِغَضَبِهِ، وَلاَ بِالنَّارِ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1553- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الفَاحِشِ، وَلاَ البَذِيِّ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
1554- وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ العَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئاً، صَعدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّماءِ، فَتُغْلَقُ أبْوابُ السَّماءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا بغضبه ولا بالنار) يحتمل أن تكون المفاعلة على بابها، ويحتمل أنها للمبالغة، لا للمغالبة. وقوله ولا بغضبه ولا بالنار، أي: ولا يدعو أحدكم على أحد بكل منهما، وذلك لعظم شأنهما؛ (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح) ورواه الطيالسي والطبراني والحاكم في المستدرك، وأبو يعلى، وسعيد بن منصور، كما في الجامع الكبير.
1553- (وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس المؤمن) أي: الكامل الإِيمان (بالطعان) أي: الوقاع في أعراض الناس، بالذم والغيبة ونحوهما، وهو فعال من طعن فيه وعليه بالقول، يطعن بالفتح والضم إذا عابه: ومنه الطعن في النسب. قاله في النهاية (ولا اللعان) قال السيوطي في الدرر: اللعن من الله: الطرد والإِبعاد. ومن الخلق السب والدعاء (ولا الفحاش) هو: ذو الفحش في كلامه وفعاله (ولا البذاء) قال في النهاية: البذاء المباذاة، وهي المفاحشة، وقد بذأ يبذو بذاءة. وقال في المصباح: بذا على القوم يبذو بالفتح والمد سفه وأفحش في منطقه، وإن كان كلامه صدقاً فهو بذي على فعيل، وامرأة بذية كذلك، وأبذى بالألف وبذى وبذو، من بابي تعب وقرب، لغات فيه وبذأ يبذأ مهموز بفتحهما، بذاء وبذاءة بفتح الأول وبالمد (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد، والبخاري في الأدب، وابن حبان، والحاكم في المستدرك.
1554- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن العبد إذا لعن شيئاً) أدمياً كان، أو غيره، كما يؤذن به التعميم، المستفاد من ذكرها في سياق النكرة (صعدت) بكسر المهملة الثانية (اللعنة إلى السماء فتغلق) بالفوقية مبني للمجهول، للعلم بالفاعل ونائبه
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في اللعن، (الحديث: 4906) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، (الحديث: 1976) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، (الحديث: 1977) .(8/396)
1556- وعن أَبي بَرْزَةَ نَضْلَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الأَسْلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ القَوْمِ. إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَتَضَايَقَ بِهِمُ الجَبَلُ فَقَالَتْ: حَلْ، اللَّهُمَّ الْعَنْهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ". رواه مسلم.
قَوْله: "حَلْ" بفتح الحاء المهملة وَإسكانِ اللاَّم: وَهِيَ كَلِمَةٌ لِزَجْرِ الإبِلِ.
وَاعْلَمْ أنَّ هَذَا الحَدِيثَ قَدْ يُسْتَشكَلُ مَعْنَاهُ، وَلاَ إشْكَالَ فِيهِ، بَلِ المُرَادُ النَّهْيُ أنْ تُصَاحِبَهُمْ تِلْكَ النَّاقَةُ، وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ بَيْعِهَا وَذَبْحِهَا وَرُكُوبِهَا فِي غَيْرِ صُحْبَةِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ وَمَا سِوَاهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ جائِزٌ لا مَنْعَ مِنْهُ، إِلاَّ مِنْ مُصَاحَبَةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَا؛ لأنَّ هذِهِ التَّصَرُّفَاتِ كُلَّهَا كَانَتْ جَائِزَةً فَمُنِعَ بَعْض مِنْهَا، فَبَقِيَ البَاقِي عَلَى مَا كَانَ، واللهُ أَعلم (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1556- (وعن أبي برزة) بفتح الموحدة وسكون الراء والزاي (نضلة) بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة (ابن عبيد) بصيغة التصغير (الأسلمي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الخوف (قال بينما جارية) امرأة شابة (على ناقة عليها بعض متاع القوم إذ بصرت) بضم المهملة (بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتضايق بهم) أي: بالقوم الذين فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (الجبل فقالت حل) لتسرع في السير؛ (اللهم العنها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تصاحبنا) لم يضبطه المصنف، أهو بسكون الباء، أو بفتحها وتشديد النون للتوكيد. وحذفت نون الضمير، فيكون نهياً أو بالفعل المرفوع فيكون خبراً لفظا نهياً معنى (ناقة عليها لعنة، رواه مسلم قوله حل بفتح الحاء المهملة وإسكان اللام وهي كلمة لزجر الإِبل) كما أن عدس بالمهملتين المفتوحتين، فالساكنة لزجر البغل (واعلم أن هذا الحديث قد يستشكل) بالبناء للمجهول (معناه) وذلك لما فيه من تسيب تلك الناقة؛ ولا سائبة في الإِسلام (ولا إشكال فيه) أي: عند التأمل والإمعان، وذلك أنه لم يأمر بتسييبها، ومنع التصرف فيها رأساً (بل المراد النهي أن تصاحبهم تلك الناقة) في سفر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - (وليس فيه نهي عن بيعها وذبحها وركوبها، في غير صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -. بل كل ذلك وما سواه من التصرفات، جائز لا منع منه، إلا من مصاحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بها) أي: استثناء منقطع. (لأن هذه التصرفات كلها كانت جائزة فمنع بعضها) وهو صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بها (فبقي الباقي على ما كان) عليه وقوفاً مع الوارد (والله) تعالى (أعلم) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن لعب الدواب وغيرها (الحديث: 82) .(8/398)
265- باب في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (ألاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَعنَ اللهُ الوَاصِلَةَ وَالمُسْتَوْصِلَةَ" (3) وَأنَّهُ قَالَ: "لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا" (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب جواز
أي إباحة (لعن أصحاب المعاصي غير المعينين. قال الله تعالى: ألا لعنة الله على الظالمين وقال تعالى: فأذن مؤذن بينهم) أي نادى مناد (أن) مخففة من الثقيلة أي أن الشأن (لعنة الله على الظالمين وثبت في الصحيح) أي الحديث الصحيح (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعن الله الواصلة) وهي التي تصل شعرها بشعر آدمي، ولا فرق في حرمته، بين الزوجة غيرها، فإن وصلته بشعر غير آدمي، وهو نجس: حرم لأنه حمل نجاسة في صلاة وغيرها عمداً، أو وهو طاهر جاز إن كانت ذات حليل وأذن لها هذا تفصيل مذهبنا ومذهب مالك والطبري والأكثرون إلى تحريم الوصل مطلقاً سواء كان بشعر أو صوف أو خرق. وقال الليث بن سعد النهي عن الوصل بالشعر ولا بأس بوصله بغيره. والصحيح عن عائشة كقول الجمهور أما ربط خيوط الحرير الملونة مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه لأنه ليس بوصل ولا في معنى مقصود الوصل وإنما هو للتجمل والتزين قال المصنف وفي الحديث أن وصل الشعر من الكبائر للعن فاعلته (والمستوصلة) هي التي تطلب من يفعل بها ذلك ويقال لها موصولة. والحديث رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (لعن آكل الربا) هو شامل
__________
(1) سورة هود، الآية: 18.
(2) سورة الأعراف، الآية: 44.
(3) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة ... (الحديث: 115) و (الحديث: 119) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: لعن آكل الربا ومؤكله، (الحديث: 105) .(8/399)
مُحْدِثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَة والنَّاسِ أجْمَعينَ" (1) وأنَّه قَالَ: "اللَّهُمَّ الْعَنْ رِعْلاً، وَذَكْوَانَ، وعُصَيَّةَ: عَصَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ" (2) وهذِهِ ثَلاَثُ قَبَائِلَ مِنَ العَرَبِ. وأنَّه قَالَ: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" (3) وأنهُ "لَعَنَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بالنِّساءِ والمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجالِ" (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخان. قال المصنف قال القاضي: معناه من أتى فيها إثماً، أو آوى من أتاه وضمه إليه وحماه. ومحدثاً قال المازري: بفتح الدال، فيكون مصدراً ميمياً أي: الإِحداث نفسه. ومن كسر أراد فاعل الحدث، واستدلوا به على أن ذلك من الكبائر، لأن اللعن لا يكون إلا في كبيرة، ومعناه أن الله تعالى يلعنه، وكذا الملائكة والناس أجمعون، وهذا مبالغة في إبعاده عن رحمة الله تعالى، فإن اللعن لغة الطرد والإِبعاد. قالوا والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه، والطرد عن الجنة أول الأمر، وليست هي كلعنة الكفار المبعدين عن رحمة الله كل الإِبعاد (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (قال اللهم العن رعلاً) بكسر الراء وسكون العين المهملة (وذكوان) بفتح المعجمة وسكون الكاف (وعصية) بصيغة التصغير وأولاه مهملان (عصوا الله ورسوله) استئناف بياني لسبب لعنهم (وهذه) القبائل المذكورة (ثلاث قبائل من العرب) تقدم الفرق بين القبيلة والشعب والبطن والفخذ، في باب (1) والحديث رواه البخاري في صحيحه، لكن بلفظ "يدعو عليهم" (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (قال لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يتعبدون بعبادتها، رواه البخاري في الجنائز (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (لعن المتشبهين من الرجال) من بيانية (بالنساء) صلة متشبهين المحاكي منهم لهن في أفعالهن وأقوالهن وأحوالهن (والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه وابن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الحج باب: فضل المدينة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة ... (الحديث 463) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، (الحديث: 294) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور ... (الحديث: 19) .
(4) بياض بالأصل.(8/401)
وَجَميعُ هذِهِ الألفاظِ في الصحيح؛ بعضُها في صَحيحَيّ البُخاري ومسلمٍ، وبعضها في أحَدِهِمَا، وإنما قصدت الاختِصَارَ بالإشارةِ إِلَيهمَا، وسأذكر معظمها في أبوابها من هَذَا الكتاب، إن شاء الله تَعَالَى.
266- باب في تحريم سب المسلم بغير حق
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وإثْماً مُبِيناً) .
1557- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتالُهُ كُفْرٌ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ماجة من حديث ابن عباس (وجميع هذه الألفاظ المذكورة) عنه - صلى الله عليه وسلم - (في الصحيح) أي: في جملة الحديث الصحيح (وبعضها في صحيحي البخاري ومسلم) الأقصر في الصحيحين (وبعضها في أحدهما) وبعضها خارج عنهما كما علم مما ذكرنا (وإنما قصدت الاختصار بالإِشارة إليها) أي: الأحاديث المذكورة، الدالة لما عقد له الترجمة (وسأذكر معظمها في أبوابها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى) .
باب تحريم سب المؤمن بغير حق
أي: من اقتصاص منه بمثلها، قالوا مما لا يؤدي، لكذب أو سب أصلي الساب أو لا أو من تعزيز، أو تأديب. أما لذلك فلا يحرم، بل يجب تارة ويندب أخرى. قال الله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) من جناية أو استحقاق لأذى (فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) فذكر فيها سائر أنواع الأذى، القولية من غيبة ونميمة وسخرية به، والفعلية من ضرب وإهانة له، وغير ذلك. قيل: ونزلت في الذين يسبون علياً رضي الله عنه.
1557- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سباب) بكسر السين المهملة للمبالغة؛ أي: سب (المسلم كقتاله) أي: في الإِثم والتحريم. قال المصنف في شرح مسلم: السب في اللغة: الشتم والتكلم في عرض الإِنسان بما يعيبه، والظاهر أن المراد من قتاله المقاتلة المعروفة. قال القاضي: ويجوز أن يراد بها المشادة والمدافعة. قال
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 58.(8/402)
متفق عَلَيْهِ (1)
1558- وعن أَبي ذرٍ - رضي الله عنه -: أنهُ سَمِعَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفِسْقِ أَوِ الكُفْرِ، إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كذَلِكَ". رواه البخاري (2) .
1559- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "المُتَسَابَّانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الداودي يحتمل مساواة ذنب الساب للمقاتل. قال الطبري: وجه التشبيه بين اللعن والقتل: أن اللعن هو الإِبعاد من رحمة الله، والقتل إبعاد من الحياة (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، كلهم من حديث ابن مسعود. ورواه ابن ماجة أيضاً من حديث أبي هريرة وسعد. ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن مغفل، ومن حديث عمرو بن النعمان بن مقرن. ورواه الدارقطني في الإِفراد من حديث جابر. وفي نسخة بدل هذا الحديث "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" وهو للشيخين أيضاً. والفعال فيهما يحتمل أنه على بابه، ويحتمل أنه للمبالغة أي: سبه وقتله أي: كل منهما كفر، أي: إن استحله أو المراد به كفران النعمة، وعدم أداء حق أخوة الإِيمان.
1558- (وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لا يرمي رجل رجلاً بالفسق) كأن يقول فيه فاسق (أو الكفر) كأن قال فيه كافر مثلاً وأو للتنويع (إلا ارتدت) وفي نسخة إلا ردت، أي: رجعت المرمية (عليه) أي: القائل (إن لم يكن صاحبه) أي: المقول فيه (كذلك رواه البخاري) ففيه تفسيق من رمى غير الفاسق بالفسق، أي: خروجه عن الطاعة. ويحتمل صيرورته فاسقاً بذلك، إن أصر عليه. وفيه تكفير من رمى المؤمن بالكفر، أي: إن قصد به ظاهره واستحل ذلك.
1559- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال المتسابان) أي: اللذان
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما ينهى من السباب واللعن، وفي الإِيمان والفتن (10/387) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، (الحديث: 116، 117) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن (10/388) .(8/403)
مَا قَالاَ فَعَلَى البَادِي منهُما حَتَّى يَعْتَدِي المَظْلُومُ". رواه مسلم (1) .
1560- وعنه، قَالَ: أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بِرَجُلٍ قَدْ شرِبَ قَالَ: "اضربوهُ" قَالَ أَبُو هريرةَ: فَمِنَّا الضارِبُ بيَدِهِ، والضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، والضَّارِبُ بِثَوْبِهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أخْزَاكَ اللهُ! قَالَ: "لا تَقُولُوا هَذَا؛ لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَان"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يسبب كل منهما الآخر (ما قالا) أي: إثم ما قالا من السب، وهو مبتدأ خبره (فعلى البادي منهما حتى) أي: إلى أن (يعتدي) أي: يتجاوز (المظلوم) بأن يتجاوز حد الانتصار. قال المصنف معناه أن إثم السباب الواقع بينهما يختص بالبادي منهما كله، إلا أن يجاوز الثاني قدر الانتصار فيؤذي الظالم بأكثر مما قاله. وفيه جواز الانتصار ولا خلاف فيه، وتظاهر عليه الكتاب والسنة. ومع ذلك فالصبر وللعفو أفضل، كما قال تعالى (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) (2) وكحديث "وما ازداد عبد بعفو إلا عزا" "فإن قلت" إذا لم يكن المسبوب آثماً، وبرىء البارىء عن ظلمه بوقوع القصاص منهما، فكيف صح تقدير إثم ما قالا؟ "قلت": إضافته بمعنى في، يعني إثم كائن فيما قالا، وهو إثم الابتداء، فعلى البادىء (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي. ثم هو في نسخ مسلم "المتسابان" بصيغة الافتعال.
وكذا عزاه إليه صاحب المشارق وغيره. والذي رأيته في نسخ الرياض، ما ذكرنا من التفاعل.
1560- (وعنه قال أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب) أي: الخمر. قال الدماميني: يصح تفسير هذا الرجل بالنعيمان وبعبد الله الملقب بحمار (فقال اضربوه) أي: حدا (قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعله، والضارب بثوبه) فيه جواز إقامة حد الخمر بالضرب بغير السوط، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال، أصحها الجلد بالسوط، ويجوز الاقتصار على الضرب، بالأيدي والثياب (فلما انصرف قال بعض القوم) قال الحافظ: وفي الرواية التي بعده في البخاري، فقال رجل، وذلك الرجل هو عمر بن الخطاب، إن كانت القضية متحدة مع حديث عمر في قصة حمار (أخزاك الله فقال لا تقولوا هكذا) وفي نسخة "هذا" (لا تعينوا عليه الشيطان) لا الثانية: ناهية أيضاً، والجملة كالتعليل لما قبلها. ووجه عونهم الشيطان بذلك، أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية حصول الخزي
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن السباب، (الحديث: 68) .
(2) سورة الشورى، الآية: 43.(8/404)
رواه البخاري (1)
1561- وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَى يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ يَومَ القِيَامَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كما قَالَ". متفق عَلَيْهِ (2) .
267- باب في تحريم سب الأموات بغير حق ومصلحةٍ شرعية
وَهِيَ التَّحْذِيرُ مِنَ الاقْتِدَاء بِهِ في بِدْعَتِهِ، وَفِسْقِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِيهِ الآيةُ والأحاديثُ السَّابِقَةُ في البَابِ قَبْلَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا دعوا عليه به، فكأنهم قد حصلوا، مقصود الشيطان (رواه البخاري) وأشار في فتح الباري إلى أن أبا داود أيضاً رواه وزاد في آخره: "ولكن قولوا اللهم اغفر له اللهم ارحمه" فيستفاد منه منع الدعاء، بنحو ذلك على العاصي.
1561- (وعنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من قذف) أي: رمى (مملوكه) ذكراً كان أو أنثى (بالزنى يقام عليه الحد يوم القيامة) إظهاراً لكمال العدل؛ (إلا أن يكون) أي: المملوك (كما قال) بحذف العائد لما وصرح به في رواية أي: كما قاله السيد فيه من كونه زانياً، فلا حد عليه. وظاهر عموم الحديث انتفاء الحد، عند كون المملوك كذلك، وإن لم يعلم به السيد (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي. واللفظ الذي ساقه المصنف لمسلم، ولفظ الباقين "من قذف مملوكه وهو برىء مما قاله جلد يوم القيامة حداً إلا أن يكون كما قال" أشار إليه السيوطي في الجامع الكبير.
باب تحريم سب الأموات بغير حق ومصلحة شرعية
(وهي) أي: المصلحة الشرعية المرادة بالحق أيضاً، فعطفها عليه لتغاير الصفة (التحذير من الاقتداء به في بدعته وفسقه) متعلق بالاقتداء (ونحو ذلك) مما كان الميت متلبساً به، مما لا يحسن التلبس به، لإِخلاله بالمروءة؛ وكجرح رواة الحديث لأن أحكام الشرع مبنية عليه؛ (فيه الآية والأحاديث السابقة في الباب قبله) وكذا السابقة في باب حفظ اللسان.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر (12/57) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الحدود، باب: قذف العبيد (12/163، 164) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: التغليظ على من قذف مملوكه بالزنى، (الحديث: 37) .(8/405)
1562- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإنَّهُمْ قَدْ أفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا". رواه البخاري (1) .
268- باب في النهي عن الإيذاء
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإثْماً مُبِيناً) .
1563- وعن عبدِ الله بن عمرو بن العاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1562- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسبوا الأموات) النهي فيه للتحريم، وأل لإبطال معنى الجمعية، أي: أيّ ميت. وعلل النهي بقوله (فإنهم قد أفضوا) أي: وصلوا (إلى ما قدموا) من عملهم خيراً كان أو شراً، إذ لا فائدة في سبهم. والحديث في سب أموات المسلمين. أما أموات الكفار فيجوز سبهم عموماً وأما المعين منهم، فلا يجوز سبه، لاحتمال أنه مات مسلماً، إلا أن يكون ممن نص الشارع على موته كافراً، كأبي لهب وأبي جهل (رواه البخاري) ورواه أحمد والنسائي من حديثها. ورواه أحمد والترمذي والطبراني من حديث المغيرة، بلفظ "لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء". ورواه الطبراني عن صخر الغامدي بلفظ: "ولا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما اكتسبوا" ورواه بهذا اللفظ أي: لفظ البخاري، عن عائشة، كذا في الجامع الكبير.
باب النهي عن الإِيذاء
(قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) فيه دليل تسمية فعل المكلف كسباً، وأتي به من صيغة الافتعال، إيماءً إلى المزاولة والإِقبال على المعصية، لكونها حظ النفس؛ (فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) .
1563- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلم) أي: الكامل (من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي: منه بالمرة. وذكراً لصدور
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى من سب الموتى وفي الرقاق، باب: سكرات الموت (3/206) .
(2) سورة الأحزاب، الآية: 58.(8/406)
مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ". متفق عَلَيْهِ (1) .
1564- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، ويُدْخَلَ الجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ". رواه مسلم. وَهُوَ بعض حديثٍ طويلٍ سبق في بابِ طاعَةِ وُلاَةِ الأمُورِ (2) (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأذى بهما في العادة الغالبة. (والمهاجر) أي: الكامل (من هجر) أي: ترك امتثالاً لأمر الله وإجلاله، وخوفاً منه (ما نهى الله عنه) شمل صغائر الذنوب وكبائرها. وكامل الهجرة من هجر المعاصي رأساً وتحلي بالطاعة (متفق عليه) لكن في الجامع الصغير: الاقتصار على عزوه للبخاري فقط، وأنه رواه أيضاً أبو داود والنسائي. وعند مسلم من حديث جابر "المسلم من سلم المسلمون من لسانه، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" اهـ. ولعل المصنف أراد اتفاقهما على أصل الحديث.
1564- (وعنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحب أن يزحزح) بصيغة المجهول، وبالزاي والحاء المهملة أي: يبعد (عن النار ويدخل الجنة) بصيغة المجهول أيضاً (فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر) جملة حالية من الضمير المفعول به، والمراد: ليدم على الإيمان، وما معه حتى يأتيه الموت، وهو على ذلك. وهذا كقوله تعالى (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (4) (وليأت) يجوز في مثله كسر لام الأمر، وهو الأصل، وإسكانها: لتقدم الواو العاطفة؛ وكذا يجوزان مع ثم والفاء العاطفتين (إلى الناس الذي يحب) أي: يود (أن يؤتى إليه) أي: منهم والمراد أن يحسن معاملتهم بالبشر وكف الأذى وبذل الندي كما يحب ذلك منهم له (رواه مسلم وهو بعض حديث طويل سبق) بطوله مشروحاً (في باب طاعة ولاة الأمور) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون (1/50، 51) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان تفاضل الإِسلام وأي الأمور أفضل، (الحديث: 64) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، (الحديث: 46) .
(3) انظر الحديث رقم (668) .
(4) سورة آل عمران، الآية: 102.(8/407)
269- باب في النهي عن التباغض والتقاطع والتدابر
قال الله تعالى (1) : (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (أذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنينَ أعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرينَ) .
وَقَالَ تَعَالَى (3) : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) .
1565- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب النهي عن التباغض
بالقلوب (والتقاطع) ترك التواصل، المؤدي إلى البغضاء والنفرة (والتدابر) بالأجساد، أي: يولي الرجل أخاه إذا لقيه ظهره إعراضاً عنه. (قال الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة) أي: وشأن الأخوة التواصل. قال تعالى في مدح المؤمنين (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) (4) . (وقال تعالى: أذلة على المؤمنين) أي: متذللين لهم، عاطفين عليهم، خافضين لهم أجنحتهم (أعزة على الكافرين) متغلبين عليهم (وقال تعالى: محمد رسول الله والذين معه) أي: من الصحابة (أشداء على الكفار) أي غلاظ عليهم قال تعالى مخاطباً لنبيه (واغلظ عليهم) (5) (رحماء بينهم) أي: يتراحمون ويتعاطفون لرحمة الإيمان وصلته بينهم.
1565- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تباغضوا) أي: لا تفعلوا ما يؤدي إلى التباغض، وحذفت إحدى تاءيه تخفيفاً، وكذا فيما بعده (ولا تحاسدوا) أي: لا يتمن بعضكم زوال نعمة أخيه، (ولا تدابروا ولا تقاطعوا) هي كالمتلازمة في الأداء إلى التقاطع والتهاجر (وكونوا عباد الله) منادى بحذف حرفه، أو منصوب على الاختصاص، بناء على وقوعه بعد ضمير المخاطب، وقد خرج عليه بعضهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سلام عليكم دار قوم مؤمنين" (إخواناً) خبر كان، أو عباد خبر كان وإخواناً: خبر بعد خبر، أي: خاضعين لأمره
__________
(1) سورة الحجرات، الآية: 10.
(2) سورة المائدة، الآية: 54.
(3) سورة الفتح، الآية: 29.
(4) سورة الرعد، الآية: 21.
(5) سورة التوبة، الآية: 73.(8/408)
وذَكَرَ نَحْوَهُ (1) .
270- باب في تحريم الحسد وَهُوَ تمني زوالُ النعمة عن صاحبها، سواءٌ كَانَتْ نعمة دينٍ أَوْ دنيا
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
وفِيهِ حديثُ أنسٍ السابق في الباب قبلَهُ.
1567- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إيَّاكُمْ وَالحَسَدَ؛ فَإنَّ الحَسَدَ يَأكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأكُلُ النَّارُ الحَطَبَ" أَوْ قَالَ: "العُشْبَ". رواه أَبُو داود (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: على رأسه وذلك لشرفه الصالح بالثناء عليه في الملكوت الأعلى وضده بضده (وذكر) أي: مسلم (نحوه) أي: نحو ما في الحديث قبله.
باب تحريم الحسد
وهو من الكبائر لما سيأتي فيه (وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها سواء كانت نعمة دين أو دنيا) أما تمني مثلها. فغبطة، فإن كان في الدين: فمحمود، وإلا فلا. (قال الله تعالى) في ذم اليهود (أم يحسدون الناس) أي: العرب أو محمداً - صلى الله عليه وسلم - (على ما آتاهم الله من فضله) باعتبار اللفظ. (وفيه حديث أنس السابق في الباب قبله) أي: قوله ولا تحاسدوا.
1567- (وعن أي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إياكم) منصوب على التحذير (والحسد) وعلل النهي بقوله (فإن الحسد يأكل الحسنات) أي: يذهبها، ففيه استعارة مكنية، تتبعها استعارة تخييلية (كلما تأكل النار الحطب أو) شك من الراوي (قال العشب) بضم المهملة وسكون المعجمة، والمراد هنا الكلأ أي: الحشيش، وهذا إيماء إلى سرعة إبطاله الحسنات كما في المشبه به (رواه أبو داود) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن الشحناء والتهاجر، (الحديث: 35) .
(2) سورة النساء، الآية: 54.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الحسد، (الحديث: 4903) .(8/410)
فَإنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، ولا تحسَّسوا وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَافَسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً كَمَا أَمَرَكُمْ. المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ: لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هاهُنَا التَّقْوَى هاهُنَا" وَيُشِيرُ إِلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مجرد عن الدليل، ليس مثبتاً ولا تحقيق نظر، كما قاله عياض. وكذا قال القرطبي الظن الشرعي: وهو تغليب أحد الجانبين، ليس مراداً من الآية ولا من الحديث، فلا يُنظر لمن استدل بهما على إنكار الظن (فإن الظن أكذب الحديث) قيل أريد من الكذب، عدم الطابقة للواقع، سواء كان قولاً أم لا، ويحتمل أن يراد بالظن، ما ينشأ من القول، فيوصف به الظن مجازاً؛ (ولا تحسسوا ولا تجسسوا) إحداهما بالجيم والأخرى بالحاء المهملة، وفي كل منهما وفي المنهيات بعدهما حذف إحدى التاءين تخفيفاً. قال الخطابي أي: لا تجسسوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها، وأصله بالمهملة من الحاسة إحدى الحواس الخمس، وبالجيم من الجس، بمعنى اختبار الشيء باليد، وهي إحدى الحواس الخمس، فتكون التي بالحاء أعم، وقيل هما بمعنى: وذكر الثاني تأكيداً كقولهم بعداً وسحقاً. وقيل بالجيم البحث عن العورات، وبالمهملة استماع حديث القوم. وقيل بالجيم: البحث عن بواطن الأمور، وأكثر ما يكون في الشر، وبالمهملة عما يدرك بحاسة العين أو الأذن، ورجحه القرطبي، وقيل بالجيم تتبعه لأجل غيره، وبالحاء تتبعه لأجل نفسه، ثم يستثنى من النهي عن التجسس، ما إذا تعين لإِنقاذ نفس من هلاك، كان يخبر باختلاء إنسان بآخر ليقتله ظلماً؛ أو بامرأة ليزني بها؛ فهذا التجسس مشروع حذراً عن فوات استدراكه. نقله المصنف عن الأحكام السلطانية للماوردي واستجاده (ولا تنافسوا) بالفاء والسين المهملة، من المنافسة، الرغبة في الشيء والإِنفراد به (ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا) والتدابر، قيل: المعاداة، وقيل: الإِعراض، وقيل: استئثار الإِنسان عن أخيه (وكونوا عباد الله إخواناً) أي: اكتسبوا ما تصيرون به إخوة، من التآلف والتحابب، وترك هذه المنهيات. قال الحافظ: الجملة كالتعليل لما قبلها، أي: إذا تركتم هذه صرتم كالإِخوان، ومفهومه إذا لم تتركوها تصيروا أعداء. وقيل معناه كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة. (كما أمركم) قال القرطبي: لعله أشار بذلك، إلى الأوامر المتقدم ذكرها، فإنها جامعة لمعاني الآخرة. والفاعل مضمر، يعود إلى "الله" وهو مصرح به في مسلم، وهذه الجملة عند البخاري في أبواب الأدب، إلا أنه ليس فيه "كما أمركم" وفي الجامع الصغير للسيوطي، رواه مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي (المسلم أخو المسلم) لاجتماعهما في الإِسلام (لا يظلمه) في نفسٍ ولا مالٍ ولا عرضٍ بوجه. والجملة(8/412)
وَفِي رواية: "لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً".
وفي رواية: "لاَ تَقَاطَعُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً" وَفِي رِواية: "وَلاَ تَهَاجَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ". رواه مسلم بكلّ هذِهِ الروايات، وروى البخاريُّ أكْثَرَهَا (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جوده على أصحابها، وإن كانت معرضة عنه مشغولة بما سواه، أعرض عن أصحابها. وهذا كما قال في الحديث الآخر "ألا وإن في الجسد مضغة إذا أصلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". والحديث عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". ورواه ابن ماجة أيضاً كما في الجامع الصغير (وفي رواية لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا) أي: من النجش، وهو الزيادة في السلعة لا لرغبة، بل ليغر غيره ويخدعه، وهو من أسباب البغضاء كما قيل، وقيل المراد به هنا ذم بعض بعضاً. قال المصنف: والصحيح الأول (وكونوا) أي: صيروا (عباد الله إخواناً) أي: متحابين يحب كل لصاحبه ما يحب لنفسه (وفي رواية لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً وفي رواية ولا تهاجروا) أي: يهجر الرجل أخاه فلا يبدؤه بالسلام، ولا يجيبه بالكلام (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) ومثله الشراء على شرائه، والسوم على سومه، بعد استقرار الثمن، والرضا به (رواه مسلم بكل هذه الروايات) أي: من حديث أبي هريرة كما يومىء إليه صنيعه (وروى البخاري أكثرها) فحديث "إياكم والظن" إلى قوله: "وكونوا عباد الله إخواناً" رواه البخاري أيضاً، وزاد فيه "ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" ورواه كذلك مالك وأحمد وأبو داود والترمذي، وعند البخاري، في باب ما ينهى عنه من التحاسد. من حديث أنس مرفوعاً "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث". وعنده في أبواب البيوع من حديث أبي هريرة مرفوعاً "لا يبع المرء على بيع أخيه، ولا تناجشوا ولا بيع حاضر لباد".
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، (الحديث: 28، 29، 30، 31) .
وأخرجه أيضاً في كتاب: البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم ... (الحديث: 32) .
وأخرجه البخاري في كتاب: أبواب متفرقة كالنكاح والوصايا والاكراه والمظالم (10/404) .(8/414)
1569- وعن معاوية - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّكَ إنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ المُسْلِمينَ أفْسَدْتَهُمْ، أَوْ كِدْتَ أنْ تُفْسِدَهُمْ". حديث صحيح، رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (1) .
1570- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا فُلاَنٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْراً، فَقَالَ: إنَّا قَدْ نُهِيْنَا عَنِ التَّجَسُّسِ، ولكِنْ إنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ، نَأخُذ بِهِ.
حديث حسن صحيح، رواه أَبُو داود بإسنادٍ عَلَى شَرْطِ البخاري ومسلم (2) .
272- باب في النهي عن سوء الظنّ بالمسلمين من غير ضرورة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1569- (وعن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إنك إن اتبعت عورات المسلمين) بالتجسس عنها واكتشاف ما يخفونه منها (أفسدتهم أو كدت) أي: قاربت (أن تفسدهم) بإدخال "أن" في خبر كاد، وهو قليل. وفيه إيماء إلى توكيد الأمر للمسلمين، ففيه إعجاز له - صلى الله عليه وسلم - بالإِخبار عن المغيب، في وقت إخباره (حديث صحيح رواه أبو داود) في الأدب من سننه (بإسناد صحيح) رواه عن عيسى بن محمد الرملي ومحمد بن عوف، كلاهما عن الفرياني عن ثور بن يزيد عن راشد بن سعد المقري الحمصي عن معاوية.
1570- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتي) بالبناء للمجهول (برجل فقيل له هذا فلان تقطر لحيته خمراً) تمييز محول عن الحال، وكونه خمر لحيته لملابسته لها (قال إنا قد نهينا عن التجسس) يحتمل أن يكون مراده النهي عن ذلك في القرآن، أو السنة أي: سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً (ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) ونعامله بمقتضاه من حد أو تعزير (حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم) موقوف لفظاً، مرفوع حكماً لقوله نهينا. ومن المعلوم أن ذلك، إنما يسند إليه - صلى الله عليه وسلم -: وقول الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، من الألفاظ المكنى بها عن الرفع عن المحدثين، كما تقرر في علم الأثر.
باب النهي عن ظن السوء بالمسلمين من غير ضرورة
كأن يظن بهم نقصاً في دين، أو مروءة من غير أن يدل لذلك دليل. وقوله من غير
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في النهي عن التجسس (الحديث: 4888) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في النهي عن التجسس (الحديث: 4890) .(8/415)
قَالَ الله تَعَالَى (1) (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ) .
1571- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ". متفق عَلَيْهِ (2) .
273- باب في تحريم احتقار المسلمين
قَالَ الله تَعَالَى (3) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَومٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضرورة، مخرج لما إن دعت إليه، كأن وقف مواقف التهم، أو بدا عليه علامة الريب.
قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن) هو ظن السوء بأخيك المسلم (إن بعض الظن إثم) فكونوا على حذر، حتى لا توقعوا فيه.
1571- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) محذراً من ظن السوء (إياكم والظن فإن الظن اكذب الحديث. متفق عليه) وهو طرف من حديث، تقدم مشروحاً بجملته في الباب قبله.
باب تحريم احتقار المسلم
أي: إهانته وإسقاطه من النظر والاعتبار (قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) السخرية: الازدراء والاحتقار. وقوم أي: رجال (عسى أن يكونوا) أي: المسخور بهم (خيراً منهم) أي: الساخرين. استئناف علة للنهي، واكتفى عسى "بأن" ومنصوبها عن الخبر. والذي اختاره ابن مالك، أنها حينئذ تامة (ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) أي: عند الله (ولا تلمزوا أنفسكم) أي: لا يعتب بعضكم بعضاً فإن عيب أخيه، عيب نفسه. أو لأن المؤمنين كنفس واحدة. واللمز: الطعن باللسان (ولا
__________
(1) سورة الحجرات، الآية: 12.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب متفرقة كالنكاح والوصايا والاكراه، والمظالم (10/404) .
وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظن والتجسس ... (الحديث: 28) .
(3) سورة الحجرات، الآية: 11.(8/416)
وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيْمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
وقال تَعَالَى (1) : (وَيلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لمزَةٍ) .
وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ". رواه مسلم، وَقَدْ سبق قريباً بطوله (2) (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تنابزِوا بالألقاب) أي: يدعو بعضكم بعضاً، باللقب السوء، والنبز مختص باللقب السوء عرفاً، ومنه يا فاسق يا كافر (بئس الاسم الفسوق) يعني السخرية واللمز والتنابز، وبئس الذكر، الذي هو الفسق (بعد الإِيمان) يعني لا ينبغي أن يجتمعا فإن الإِيمان يأبى الفسوق، أو كان في شتائمهم، يا يهودي يا فاسق، لمن أسلم فنهوا عنه (ومن لم يتب) من ذلك (فأولئك هم الظالمون) . (وقال تعالى: ويل) كلمة عذاب، أو واد في جهنم (لكل همزة لمزة) أي: كثير الهمز واللمز، أو الغيبة. وقيل الهمزة: من اعتاد كسر أعراض الناس، واللمزة من اعتاد الطعن فيهم، وعن بعض السلف الأول الطعن بالغيب، والثاني في الوجه. وقيل باللسان وبالحاجب. نزلت فيمن كان يغتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، كأمية بن خلف، والأخنس بن شريف. وعن مجاهد وهي عامة.
1572- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بحسب) أي: كافي (امرىء) أي: إنسان (من الشر أن يحقر أخاه المسلم) أي: وذلك لعظمه في الشر، كاف له عن اكتساب آخر، ولا يخفى ما فيه من فظاعة هذا الذنب، والنداء عليه بأنه غريق في الشر حتى إنه لشدته فيه، يكفي من تلبس به عن غيره (رواه مسلم) في أثناء حديث (وقد سبق قريباً) في باب النهي عن التجسس (بطوله) مشروحاً، وسبق معظمه في باب تعظيم حرمات المسلمين.
__________
(1) سورة الهمزة، الآية: 1.
(2) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم ... (الحديث: 32) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم ... (الحديث: 32) ، وقد سيق بطوله.(8/417)
رَجُلٌ: وَاللهِ لا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلانٍ، فَقَالَ اللهُ - عز وجل -: مَنْ ذا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ! فَإنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، وَاحْبَطْتُ عَمَلَكَ". رواه مسلم (1) .
274- باب في النهي عن إظهار الشماتة بِالمُسْلِم
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) .
قَالَ تَعَالَى (3) : (إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رجل والله لا يغفر الله لفلان) وذلك من القائل، احتقاراً للمقول عنه، وازدراء له أن تناله المغفرة لعظمها وجلالتها؛ (فقال الله عز وجل: من ذا الذي) قال السفاقسي في إعراب نظيره، من آية الكرسي: الأولى أن "من" ركبت مع ذا للاستفهام، والمجموع في موضع رفع بالابتدا والموصول بعد هو (يتألى) أي يحلف قال في المصباح: يقال آلى إيلاء، مثل آتى إيتاء إذا حلف، فهو مولٍ وتألي وائتلي كذلك (علي ألا أغفر لفلان) أي: بأن لا أغفر له (إني قد غفرت له) جملة مستأنفةً لبيان أن المحتقر عند ذلك القائل، هو عند الله بمكان، وأن القائل بضده كما قال (وأحبطت عملك) أي: أبطلت ثوابه.
وفي الحديث تحذير من احتقار أحد من المسلمين، وإن كان من الرعاع. فإن الله تعالى أخفى سره في عباده (رواه مسلم) .
باب النهي عن إظهار الشماتة بالمسلم
قال في المصباح: شمت به يشمت أي: من باب فرح، إذا فرح بمصيبة نزلت به، والاسم: الشماتة. واحترز بقوله "إظهار" عن الفرح الباطني، فإن طبع الإِنسان، الفرح بلحاق المصيبة لمن يعاديه وينافيه، إلا من طهره الله من ذلك. (قال الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة) أي: وشأن الأخوة، أن يتحرك الأخ لما يلحق أخاه من الضرر. (وقال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع) أي: تفشو (الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) وجه استشهاده بالآية أنه إذا توعد على محبة شيوع الأمر القبيح الذي
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن تقنيط الإِنسان من رحمه الله تعالى، (الحديث: 137) .
(2) الحجرات، الآية: 10.
(3) سورة النور، الآية: 19.(8/419)
275- باب في تحريم الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وإثْماً مُبِيناً) .
1576- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اثْنَتَان في النَّاسِ هُمَا بهم كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ". رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب تحريم الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع
ولا نظر لطعن طاعن، فيما كان كذلك. (قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) ولا شبهة في أن الطعن في النسب، من أعظم أنواع الأذى فالآية تشمله شمولاً بيناً.
1576- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتان) مبتدأ، وساغ الابتداء به لوصفه بقوله (في الناس هما) أي: الثنتان، وهو مبتدأ ثان (بهم) أي: فيهم (كفر) أي: إن استحلا مع العلم بالتحريم. والإِجماع عليه (الطعن في النسب والنياحة) بكسر النون وتخفيف التحتية، رفع الصوت بالبكاء (على الميت رواه مسلم) في كتاب الإِيمان. قال المصنف في شرحه، فيه أقوال أصحها: أن معناها أنهما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية، والثاني: أنه يؤدي إلى الكفر، والثالث: أنه كفر النعمة والإِحسان، والرابع: أنه في المستحل. وفي الحديث تغليظ تحريم النياحة والطعن في النسب، وقد جاء في كل واحد منهما نصوص معروفة.
باب النهي عن الغش
بكسر الغين أي: ترك النصيحة والتزيين لغير المصلحة (والخداع) بكسر الخاء
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 58.
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة (الحديث: 121) .(8/421)
276- باب في النهي عن الغش والخداع
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وإثْماً مُبِيناً) .
1577- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا". رواه مسلم. وفي رواية لَهُ: أنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعجمة مصدر خادعه. وفي القاموس: خدعه كمنعه خدعاً، ويكسر ختله، وأراد به المكروه، من حيث لا يعلم والاسم الخديعة. (قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين، والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) ومن أشد الإِيذاء الغش، لما فيه من تزيين غير المصلحة، والخديعة لما فيها من إيصال الشر إليه من غير علمه.
1577- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من حمل علينا السلاح) كناية عن البغي، الخروج عن جماعة المسلمين وبيعتهم (فليس منا) أي: على هدينا ومن أهل طريقتنا، وإلا فذلك لا يخرج عن الإسلام، عن أهل الحق (ومن غشنا فليس منا) ومن الغش خلط الجيد بالرديء، ومزج اللبن بالماء، وترويج النقد الزغل (رواه مسلم) وكذا رواه ابن ماجه بجملته، وروى الجملة الأولى من الحديث مالك والشيخان والنسائي والحاكم في المستدرك، من حديث ابن عمر، والأخيرة الترمذي من حديث أبي هريرة، ولكن قال: "غش" بلا ضمير. ورواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود بلفظ "غشنا" وزاد في آخره "والمكر والخداع في النار" كذا في الجامع الصغير. وفي الجامع الكبير روى البخاري من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "من حمل علينا السلاح فليس منا ولا راصد بطريق". وقال في حديث: "من حمل علينا السلاح فليس منا" زيادة في مخرجيه على من ذكر في الجامع الصغير. ورواه أبو داود والطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر رواه الشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي موسى، ورواه ابن نافع والطبراني عن سلمة بن الأكوع والطبراني عن ابن الزبير (وفي رواية له) أي: مسلم (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام) بضم الصاد المهملة وسكون الموحدة، جمع صبر، كغرفة وغرف. وعن أبي زيد اشتريت الشيء صبرة أي: بلا كيل ولا وزن. قال في المصباح نقلاً عن التهذيب للأزهري: إذا أطلق أهل الحجاز لفظ الطعام، عنوا به البر خاصة. وفي العرف اسم لما يؤكل،
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 58.(8/422)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أصابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: "مَا هذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ " قَالَ: أصَابَتهُ السَّمَاءُ يَا رسول الله. قَالَ: "أفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوقَ الطَّعَامِ حَتَّى يرَاهُ النَّاسُ! مَنْ غشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" (1) .
1578- وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَنَاجَشُوا" متفق عَلَيْهِ (2) .
1579- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، نَهى عن النَّجْشِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كالشراب لما يشرب (فأدخل يده فيها فنالت) أي: أصابت (أصابعه بللاً) مستوراً بالطعام اليابس (فقال ما هذا) أي: البلل المنبىء غالباً عن الغش. (يا صاحب الطعام) يحتمل أن ترك نداءه باسمه، لعدم العلم به؛ أو أنه للتسجيل عليه، بإضافته إلى ما غش به زيادة في زجره وتنكيله (قال أصابته السماء) أي: المطر لأنه ينزل منها، فهو من مجاز التعبير، بالمحل عن الحال فيه وقوله: (يا رسول الله) أتى به تيمناً وتلذذاً به (قال) أسترت ما ابتل غشاً (أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس) فتسلم من الغش الذي هو أقبح الأوصاف، القاطعة لرحم الإِسلام، الموجبة لكون المسلم للمسلم، كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ومن قطع رحم الإِسلام خشي عليه الخروج من عدادهم، كما ينشأ عن ذلك ما هو مقرر في شرعنا (من غشنا فليس منا) المراد بالغش هنا، كتم عيب المبيع أو الثمن، والمراد بعيبه هنا: كل وصف يعلم من حال آخذه، أنه لو اطلع عليه لم يأخذه بذلك الثمن، الذي يريد بدله فيه.
1578- (وعنه) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تناجشوا) الأولى ولا تناجشوا، ليعلم أنه بعض من حديث (متفق عليه) تقدم قريباً.
1579- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النجش) بفتح فسكون أو بفتحتين، في المصباح نجش الرجل نجشاً، من باب قتل، إذا زاد في سلعته أكثر من ثمنها، وليس قصده أن يشتريها، بل يغر غيره فيوقعه فيها، وكذا في النكاح. وغيره النجش
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من غشنا فليس منا"، (الحديث: 164) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب متفرقة كالنكاح والوصايا والإِكراه والمظالم (10/404) .
وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه ... (الحديث: 11) .(8/423)
متفق عَلَيْهِ (1) .
1580- وعنه، قَالَ: ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ يُخْدَعُ في البُيُوعِ؟ فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَايَعْتَ، فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ". متفق عَلَيْهِ.
"الخِلاَبَةُ" بخاءٍ معجمةٍ مكسورةٍ وباءٍ موحدة، وهي: الخديعة (2) .
1581- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ، أَوْ مَمْلُوكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا". رواهُ أَبُو داود.
"خَبب" بخاءٍ معجمة، ثُمَّ باءٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بفتحتين، وأصل النجش الاستتار، لأنه يستر قصده؛ (متفق عليه) ورواه النسائي وابن ماجه.
1580- (وعنه قال ذكر رجل) وهو حبان بفتح الحاء ابن منقذ (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع) بصيغة المجهول أي: يغبن (في البيوع) أي: يغلب فيها لعدم فطانته للدسائس فيها (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من بايعت فقل لا خلابة. متفق عليه) قال في الوشيح: زاد الدارقطني والبيهقي "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال فإن رضيتها فأمسك". فبقي حتى أدرك زمن عثمان، فكان إذا اشترى شيئاً فقيل له إنك غبنت فيه، رجع فيشهد له الرجل من الصحابة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعله بالخيار ثلاثاً، فيرد له دراهمه اهـ. (والخلابة بخاء وبالموحدة) حقيقة اسم مصدر، من خلب من باب قتل وضرب إذا خدعه، ولذا قال المصنف إنها (الخديعة) .
1581- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من خبب زوجة امرىء) أفسدها عليه، أو أوقع بينهما الشقاق والتنافر، فحملها على الخروج عن طاعته (أو مملوكه) ذكراً كان أو أنثى (فليس منا) أي: على هدينا، لأن شأن المؤمن التعاون والتناصر؛ وهذا بخلافه (رواه أبو داود) ورواه أحمد والدارقطني من حديث أبي هريرة "من خبب خادماً على أهلها فليس منا، ومن أقسر امرأة على زوجها فليس منا". ورواه الشيرازي في الألقاب من حديث ابن عمر بلفظ "من خبب عبداً على مولاه فليس منا". كذا في الجامع الكبير (خبب
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع باب النجش (4/298) .
وأخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه ... (الحديث: 13) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: ما يكره من الخداع (4/283) .
وأخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: من يخدع في البيع، (الحديث: 48) .(8/424)
وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". متفق عَلَيْهِ (1) .
1583- وعن ابن مسعودٍ، وابن عمر، وأنس - رضي الله عنهم - قالوا: قَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، يُقَالُ: هذِهِ غَدْرَةُ فلانٍ". متفق عَلَيْهِ (2) .
1584- وعن أَبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يومَ القِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدَرِ غَدْرِهِ، ألاَ وَلاَ غَادِرَ أعْظَمُ غَدْراً مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حقها أن تكون قائمة بالمنافق، كما هو شأنهم، فينبغي للمؤمن التباعد منها والتنزه عنها (إذا ائتمن) بصيغة المجهول (خان) أي: في الأمانة (وإذا حدث كذب) أي: أخبر بما لا يطابق الواقع (وإذا عاهد غدر) أي: نقض عهده (وإذا خاصم فجر) أي: دفع الحق ولم ينقد إليه، وخرج عنه بالإِيمان الكاذبة، والقول الباطل (متفق عليه) .
1583- (وعن ابن مسعود وابن عمر وأنس رضي الله عنهم قالوا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لكل غادر لواء يوم القيامة) ينشر زيادة في فضيحته، وشناعة أمره، وشهرته بذلك، في ذلك الملأ العام (يقال هذه غدرة) بفتح المعجمة، المرة من الغدر (فلان، متفق عليه) ظاهر كلام المصنف متفق عليه، عند كل من الثلاثة، لكن في الجامع الصغير أنه كذلك من حديث أنس، ولفظه رواه أحمد والشيخان عن أنس وأحمد، ومسلم عن ابن مسعود، ومسلم عن ابن عمر.
1584- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لكل غادر لواء عند استه) بوصل الهمزة وسكون المهملة بعدها فوقية أي: دبره (يوم القيامة يرفع له) في ذلك الموقف ْ (بقدر غدره) ليكون التشهير بقدر الجرم (ألا) بتخفيف اللام (ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة) قال المصنف، قال: أهل اللغة: اللواء الراية العظيمة، لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعاً له، قالوا فمعنى لكل غادر لواء أي: علامة يشهر بها في الناس، لأن موضع اللواء الشهرة، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق، الحفلة لغدر الغادر، ليشتهر بذلك. وأما الغادر فهو الذي يعاهد، ولا يفي. يقال غدر يغدر من باب ضرب. وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر، ولا سيما من
__________
(1) سبق تخريجه أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامات المنافق (1/84) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان خصال المنافق، (الحديث: 106) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: إثم الغادر (10/464) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، (الحديث: 9 و13، و14 و15) .(8/426)
أمِيرِ عَامَّةٍ". رواه مسلم (1) .
1585- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "قَالَ الله تَعَالَى: "ثَلاَثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرَّاً فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأجَرَ أجيراً، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أجْرَهُ". رواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صاحب الولاية العامة، لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير؛ وقيل لأنه غير مضطر إلى الغدر، لقدرته على الوفاء. والمشهور أن هذا وارد في ذم الإِمام الغادر. وذكر القاضي فيه احتمالين، وهذا أحدهما. والثاني: أن يكون لذم غدر الرعية بالإِمام، ولا يشقون عليه العصا، ولا يتعرضون لما يخاف حصول فتنه بسببه. والأول هو الصحيح اهـ. وفي حمله اللواء على الكناية عن الشهرة، صرف اللفظ عن ظاهره، بلا صارف والله أعلم (رواه مسلم) .
1585- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى ثلاثة) أي: من الأوصاف، أو أوصاف ثلاثة (أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه، ولم يعطه أجره) قال الشيخ تقي الدين السبكي: الحكمة في كون الله تعالى خصمهم، أنهم جنوا على حقه سبحانه وتعالى، فإن الذي أعطي به ثم غدر، جنى على عهد الله بالخيانة والنقض وعدم الوفاء، ومن حق الله أن يوفي بعهده. والذي باع حراً وأكل ثمنه جنى على حق الله، فإن حقه في الحر إقامته على عبادته، التي خلق الجن والإِنس لها. قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإِنس إلا ليعبدون) (2) فمن استرق حراً فقد عطل عليه العبادات المختصة بالأحرار، كالجمعة والحج والجهاد والصدقة وغيرها، وكثير من النوافل المعارضة لخدمة السيد، فقد ناقض حكم الله ْفي الوجود، ومقصوده عن عباده، فلذا عظمت الجريمة، والرجل الذي استأجر أجيراً، بمنزلة من استعبد الحر، وعطله عن كثير من نوافل العبادات، فشابه الذي باع حراً وأكل ثمنه، فلذا عظم ذنبه اهـ. ملخصاً. وقال ابن بطال قوله: "أعطى بي ثم غدر" يريد نقض العهد الذي عاهد الله عليه، وقوله: "وأكل ثمنه". انتفع به على أي وجه كان، وذكر الأكل لأنه أخص المنافع؛ كما في قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً) (3) (رواه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، (الحديث: 16)
(2) سورة الذاريات، الآية: 56.
(3) سورة النساء، الآية: 10.(8/427)
والمَنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكَاذِبِ". رواه مسلم.
وفي روايةٍ لَهُ: "المُسْبِلُ إزَارَهُ" يَعْنِي: المُسْبِلَ إزَارَهُ وَثَوْبَهُ أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ لِلخُيَلاَءِ (1) .
279- باب في النهي عن الافتخار والبغي
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (فَلاَ تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُوَ أعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)
وقال تَعَالَى (3) : (إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بتشديد النون الأولى والعدول إليه عن المانّ، إيماء إلى عدم دخول، من صدر منه المن مرة مثلاً في ذلك الوعيد، وإن كان مطلقه منهياً عنه محرماً. (والمنفق) بصيغة الفاعل من الإِنفاق (سلعته) بكسر المهملة الأولى أي: متاعه (بالحلف الكاذب) وجاء في الحديث عند البخاري الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة (رواه مسلم) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة (وفي رواية له المسبل إزاره) وذكر الإِزار لا للتخصيص به، بل لكون إسباله هو الغالب، فإسبال غيره مثله، كما قال المصنف (يعني المسبل إزاره وثوبه أسفل من الكعبين للخيلاء) أما إسبال ذلك، لا على وجه الخيلاء، فمكروه تنزيهاً.
باب النهي عن الافتخار والبغي
(قال الله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم) أي: لا تمدحوها، ولا تنسبوها إلى الطهارة (هو أعلم بمن اتقى) فربما تنسبون أحداً إلى التقوى، والله يعلم إنه ليس كذلك. ولذا ورد في الحديث الصحيح: "إن كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة، فليقل حسب فلاناً والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً أحسبه كذا وكذا" إن كان يعلم ذلك. (وقال تعالى: إنما السبيل) أي: بالمعاقبة (على الذين يظلمون الناس) لا على من انتصر بعد ظلامته (ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك) أي: الظالمون الباغون (لهم عذاب أليم) لظلمهم وبغيهم.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الأزار ... (الحديث: 171) .
(2) سورة النجم، الآية: 32.
(3) سورة الشورى، الآية: 42.(8/429)
1587- وعن عياضِ بن حمارٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ تَعَالَى أوْحَى إلَيَّ أنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أحَدٍ، وَلاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أحَدٍ". رواه مسلم. قَالَ أهلُ اللغةِ: البغيُ: التَّعَدِّي والاستطالَةُ (1) .
1588- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا قَالَ الرجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أهْلَكُهُمْ". رواه مسلم. والرواية المشهورة: "أهْلَكُهُمْ" بِرَفعِ الكاف وروي بنصبها.
وذلكَ النْهيُ لِمنْ قَالَ ذَلِكَ عُجْباً بِنَفْسِهِ، وتَصَاغُراً للنَّاسِ، وارْتِفاعاً عَلَيْهِمْ، فَهَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1587- (وعن عياض) بكسر العين المهملة وتخفيف التحتية آخره ضاد معجمة (ابن حمار) بكسر المهملة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب التواضع (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا) "أن" مفسرة أو مصدرية، بتقدير الجار، قبلها، أي: أمرني وإياكم بالتواضع، والمبالغة فيه (حتى) غائية أو تعليلية (لا يبغي) بالنصب أي يستطيل (أحد) لفضل فيه من علم أو جاه أو مال (على أحد) خلا عن ذلك (ولا يفخر) بضم الخاء المعجمة، وبالنصب على ما قبله (أحد على أحد رواه مسلم) وأبو داود وابن ماجه كلهم من حديث عياض (قال أهل اللغة البغي التعدي والاستطالة) قال في المصباح: بغى على الناس بغياً، ظلم واعتدى، فهو باغ اهـ. وفي القاموس: بغى عليه يبغي بغياً علا وظلم وعدل عن الحق، واستطال وكذب.
1588- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قال الرجل) أي: إعجاباً بنفسه، وازدراء بغيره (هلك الناس) وفي معناه فسدوا وفسقوا ونجو ذلك (فهو أهلكهم) أي: أشدهم هلاكاً، لرضاه عن نفسه وبغيه على سائر الناس، (رواه مسلم، والرواية المشهورة أهلكهم برفع الكاف) أفعل تفضيل كما شرحت عليه، ثم الأولى بضم الكاف أو برفع أهلك (وروي بنصبها) أي: بفتحها لأن هذه فتحة بناء لقب الرفع، والنصب من ألقاب الإِعراب (وهذا النهي) المتصيد عن الكلام المدلول عليه، بنسبة قائل ذلك إلى الهلاك (لمن قال ذلك عجباً) بفتحتين أو بضم فسكون (بنفسه وتصاغراً للناس) أي: ازدراء بهم، مصدران
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (الحديث: 64) .(8/430)
هُوَ الحَرامُ، وَأمَّا مَنْ قَالَهُ لِما يَرَى في النَّاسِ مِنْ نَقْصٍ في أمرِ دِينِهم، وقَالَهُ تَحَزُّناً عَلَيْهِمْ، وعَلَى الدِّينِ، فَلاَ بَأسَ بِهِ. هكَذَا فَسَّرَهُ العُلَماءُ وفَصَّلُوهُ، وَمِمَّنْ قَالَهُ مِنَ الأئِمَّةِ الأعْلامِ: مالِكُ بن أنس، وَالخَطَّابِيُّ، والحُميدِي وآخرونَ، وَقَدْ أوْضَحْتُهُ في كتاب الأذْكار (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منصوبان حالاً، وهما بمعنى الفاعل أو على بابهما، والنصب على أنه مفعول له (فهذا هو الحرام) أي: فالقول بما ذكر، الصادر على ذلك هو الحرام المنهي عنه، بالجملة الخبرية، لأنه أبلغ (وأما من قاله لما يرى في الناس من نقص في أمر دينهم، وقاله تحزناً عليهم وعلى الدين فلا بأس به) بل إذا رجى أنه يحصل بقوله ذلك، إقبال على أمر الدين، وإعراض عن الاخلال به (هكذا فسره العلماء وفصلوه وممن قاله من الأئمة الأعلام) جمع علم بفتحتين، وهو في الأصل الجبل، وأريد به من هو في غاية الظهور، ففيه استعارة تصريحية، وعطف على الأئمة عطف بيان. قوله بعد العطف (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة (والخطابي) واسمه حمد بصيغة المصدر نسبة إلى جده خطاب (والحميدي) بضم المهملة وفتح الميم وسكون التحتية ثم دال مهملة، وهو ابن عبد الله الحميدي الأندلسي (وآخرون وقد أوضحته في كتاب الأذكار) المسمى بحلية البررة. قال فيه: ويؤيد الرفع أنه جاء في رواية رويناها في حلية الأولياء، في ترجمة سفيان الثوري، هو من أهلكهم. قال الإِمام الحافظ أبو عبد الله الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الرواية الأولى: قال بعض رواته: لا أدري أهو بالرفع أم بالنصب؟ قال الحميدي: الأظهر الرفع أي: هو الأشد هلاكاً للازدراء عليهم والاحتقار لهم؛ وتفضيل نفسه عليهم، لأنه لا يدري سر الله تعالى في خلقه، هكذا كان بعض علمائنا يقول، هذا كلام الحميدي والخطابي، معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساويهم، ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا قاله كذلك، فهو أهلكهم أي: أسوأ حالاً، فيما يلحقه من الإِثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أن له فضلاً عليهم، وأنه خير منهم فيهلك. هذا كلام الخطابي، فيما روينا عنه في معالم السنن ورويناه في سنن أبي داود ومن طريق مالك، ثم قال: قال مالك إذا قال ذلك تحزناً عليهم، لما يرى في الناس، يعني في أمر دينهم، فلا أرى به بأساً. وإذا قال ذلك عجباً بنفسه، وتصاغراً للناس، فهو المكروه الذي نهي عنه. قلت فهذا تفسير بإسنادٍ، في
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب النهي عن قول: هلك الناس (الحديث: 139) .(8/431)
رواه مسلم. "التَّحْرِيشُ": الإفْسَادُ وتَغييرُ قُلُوبِهِمْ وتَقَاطُعُهُم (1) .
1593- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ، دَخَلَ النَّارَ". رواه أَبُو داود بإسناد عَلَى شرط البخاري ومسلم (2) .
1594- وعن أَبي خِراشٍ حَدْرَدِ بنِ أَبي حَدْرَدٍ الأسلميِّ. ويقالُ: السُّلمِيّ الصحابي - رضي الله عنه -: أنَّه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنْ هَجَرَ أخَاهُ سَنَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والترمذي (التحريش) بالحاء المهملة وبالشين المعجمة (الإِفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم) وذلك مما يوسوس به، مما يؤدي لذلك ويفضي إليه.
1593- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) بأن يتلاقيا يسلم أحدهما على صاحبه ولا يكلم، تقدم تفسيره بذلك في الحديث المتفق عليه (فمن هجر فوق ثلاث فمات) مصراً على الهجر والقطيعة (دخل النار) إن شاء الله تعذيبه مع عصاة الموحدين، أو دخل النار خالداً مؤبداً، إن استحل ذلك، مع علمه بحرمته والإِجماع عليها (رواه أبو داود بإسناد، على شرط البخاري ومسلم) فرواه عن رجال، رويا عنهم في الصحيح، على وجه مخصوص، أي: في الأوصول عن محمد بن الصباح البزار، عن يزيد بن هارون، عن سفيان عن منصور، عن أبي مزاحم.
1594- (وعن أبي خراش) بكسر الخاء المعجمة، بعدها راء وإعجام الشين (حدرد) بفتح المهملة الأولى وسكون الثانية وفتح الراء، آخره دال مهملة (ابن أبي حدرد) بالوزن المذكور، واسمه سلامة بن عمير بن أبي سلامة بن سعد بن سارب بن الحارث بن عيسى بن هوازن بن أسلم بن أقصى بن حارثة (الأسلمي ويقال السلميمي) منسوب إلى سليم، مصغر أسلم، تصغير ترخيم. وفي نسخة "السلمي" بضم ففتح نسبة إلى ما ذكر، بحذف الياء كالجهني نسبة إلى جهينة. وقال الحافظ في الإِصابة: كذا وقع في هذه الرواية السلمي وإنما هو الأسلمي (الصحابي رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من هجر أخاه سنة) بفتح
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس ... (الحديث: 65) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: فيمن يهجر أخاه المسلم، (الحديث: 4914) .(8/435)
قَالَ: لا يَضُرُّكَ. ورواه مالك في "الموطأ": عن عبد الله بن دينارٍ، قَالَ: كُنْتُ أنَا وابْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بنُ عُقْبَةَ الَّتي في السُّوقِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يُنَاجِيَهُ، وَلَيْسَ مَعَ ابْنِ عُمَرَ أَحَدٌ غَيْرِي، فَدَعَا ابْنُ عُمَرَ رَجُلاً آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً، فَقَالَ لِي وَللرَّجُلِ الثَّالِثِ الَّذِي دَعَا: اسْتَأْخِرَا شَيْئاً، فَإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "لا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ" (1) .
1597- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً، فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، مِنْ أجْلِ أنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالنصب أي: فإن كانوا أربعة ما حكم تناجي اثنين منهم (قال لا يضرك) أي: لا إثم فيه، ولا حرمة، ولا ضرر فيه (ورواه) الإِمام المجتهد (مالك في الموطأ) بصيغة المفعول، من التوطئة التمهيد والتدليل. (وعن عبد الله بن دينار) التابعي الجليل مولى ابن عمر، ثقة من طبقة تلي أوساط التابعين. مات سنة سبع وعشرين ومائة، قاله الحافظ في التقريب (قال كنت أنا وابن عمر عند دار خالد بن عقبة التي بالسوق فجاء رجل يريد أن يناجيه) أي: ْيساره (وليس مع ابن عمر أحد غيري) جملة حالية من مفعول يناجيه (فدعا ابن عمر رجلاً آخر حتى كنا) أي: صرنا (أربعة فقال لي وللرجل الثالث) أي: بالنسبة إليه وإلى ابن عمر (الذي دعا) بحدف العائد المنصوب (استأخرا شيئاً) أي: من التأخر، وذلك ليبلغ المناجي مراده، وعلل نداءه الآخر، ثم ناجاه بعد مجيئه بقوله: (فأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يتناجى اثنان دون واحد) فيه التناجي دون ما زاد على الواحد.
1597- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث حتى يختلطوا) أي: الثلاثة بالناس، والنهي على سبيل التحريم، بدليل تعليله بقوله (من أجل أن ذلك يحزنه) بفتح أوله وثالثه، وبضم أوله، وكسر ثالثه. ومن المعلوم أن ذلك إيذاء له، والله تعالى يقول: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: لا يتناجى اثنان دون الثالث (11/68، 69) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث، بغير رضاه (الحديث: 36) .
وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في التناجي، (الحديث: 4852) .(8/438)
1601- وعن أَبي عليٍّ سويدِ بن مُقَرِّنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مِنْ بَنِي مُقَرِّنٍ مَا لَنَا خَادِمٌ إِلاَّ وَاحِدَةٌ لَطَمَهَا أصْغَرُنَا فَأَمَرَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُعْتِقَهَا. رواه مسلم. وفي روايةٍ: "سَابعَ إخْوَةٍ لِي" (1) .
1602- وعن أَبي مسعودٍ البدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أضْرِبُ غُلامَاً لِي بالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتاً مِنْ خَلْفِي: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ" فَلَمْ أفْهَمِ الصَّوْتِ مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1601- (وعن أبي علي سويد) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية بعدها مهملة (ابن مقرن) بصيغة الفاعل من القرين بالقاف والراء والنون ابن عائذ بن منجا بن هجير بن نضر بن حشية بن كعب بن نور بن هدمة بن الأطم بن عثمان بن عمر بن اد المزني، يقال لولد عثمان بن عمرو وأخيه، أوس مزينة نسبوا إلى أمهم مزينة، بنت كلب بن وبرة يكنى أبا عدي، وقيل أبو عمرو سكن الكوفة. روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أحاديث، أخرج عنه مسلم حديثاً واحداً، ولم يذكر ابن الأثير عام وفاته ولا محلها (رضي الله عنه قال لقد رأيتني) ْبضم التاء، ومن خصائص أفعال القلوب، جواز اتحاد فاعلها ومفعولها، أي: علمتني (سابع سبعة) ويصح كون رأى: بصرية، وسابع منصوب على أنه حال (من بني مقرن) وهم سبع إخوة كلهم صحابة مهاجرون، لم يشاركهم أحد في مجموع ذلك، كما قاله ابن عبد البر، وغيره النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وعبد الرحمن. قال ابن الصلاح: وسابع لم يسم لنا، قال الحافظ زين الدين العراقي، في شرح ألفية الحديث: قد سماه ابن فتحون في ذيل الاستيعاب، عبد الله بن مقرن. وذكر أنه كان على سيرة أبي بكر، في قتال أهل الردة، وأن الطبري ذكر ذلك، وحكى ابن فتحون، أن بني مقرن عشرة فالله أعلم. وذكر الطبري في الصحابة أيضاً: ضرار بن مقرن، خلف أخاه لما قتل بنهاوند اهـ. (ما لنا خادم إلا واحدة) جملة في محل المفعول الثاني لرأى، إن كانت علمية. وسابع حال من المفعول الأول. وإن كانت بصرية فهي محل الحال من الياء، فتكون مع ما قبلها حالاً مترادفة. (لطمها أصغرنا) لم يعينه المحدثون فيما رأيته، أي: ضربها ببطن كفه (فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نعتقها) ليكون اعتاقها كفارة لضربها؛ ففيه غلظ تعذيب المملوك، والاعتداء عليه (رواه مسلم. وفي رواية) له (سابع إخوة لي) بدل قوله سابع: سبعة.
1602- (وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، (الحديث: 32) .(8/442)
الغَضَبِ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هُوَ يَقُولُ: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أنَّ اللهَ أقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الغُلامِ". فَقُلتُ: لا أضْرِبُ مَمْلُوكاً بَعْدَهُ أَبَداً. وَفِي روايةٍ: فَسَقَطَ السَّوْطُ مِنْ يَدِي مِنْ هَيْبَتِهِ. وفي روايةٍ: فَقُلتُ: يَا رسولَ الله، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ: "أمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ". رواه مسلم بهذه الروايات (1) .
1603- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ ضَرَبَ غُلاَمَاً لَهُ حَدّاً لَمْ يَأتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فإنَّ كَفَارَتَهُ أنْ يُعْتِقَهُ" رواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فسمعت صوتاً من خلفي اعلم أبا مسعود) أتى به للتنبيه على ما بعده (فلم أفهم الصوت) أي: ما اشتمل عليه من الكلام ومن في قوله (من الغضب) تعليلية، كهي في قوله تعالى (مما خطيئاتهم أغرقوا) (فلما دنا) أي: قرب (مني إذا) فجائية (هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يقول: إعلم) بصيغة الأمر (أبا مسعود) بحذف حرف النداء، اختصاراً (أن الله تعالى أقدر عليك منك على هذا الغلام) أي: فاحذر انتقامه، ولا يحملك قدرتك على ذلك المملوك، أن تتعدى فيما منع الله منه، من ضربه عدواناً. (فقلت لا أضرب مملوكاً بعده) أي: بعد هذا القول الذي سمعته (أبدأ وفي رواية) هي لمسلم كما ستأتي (فسقط السوط من يدي من هيبته) من تعليلية (وفي رواية فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى) أي: لذاته طلباً لمرضاته (فقال أما) بتخفيف الميم (إنه لو لم تفعل) فيه إطلاق الفعل على الفاعل (للفحتك النار) بتخفيف الفاء، وبالحاء المهملة، أي: أحرقتك (أو) شك من الراوي (لمستك النار) ويلزم من مسها الإِحراق (رواه مسلم بهذه الروايات) .
1603- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من ضرب غلاماً له حداً) مفعول له (لم يأته) أو لم يفعل ما يقتضي ذلك الحد الذي حد به (أو لطمه) أي: ضربه ببطن كفه، من غير سبب (فإن كفارته) أي: مكفر إثم ذلك عنه (أن يعتقه) أي: محو ذلك الإِثم عنه، بإعتاقه. قال القاضي عياض: أجمعوا على أن الإعتاق غير واجب، وإنما هو مندوب. لكن أجر هذا الإِعتاق، لا يبلغ أجر الإِعتاق شرعاً. وفي الحديث الرفق بالمماليك، إذا لم يذنبوا أما إذا أذنبوا فقد رخص - صلى الله عليه وسلم - بتأديبهم بقدر إثمهم، ومتى زادوا يأخذ بقدر الزيادة (رواه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، (الحديث: 35) .(8/443)
مسلم (1) .
1604- وعن هِشام بن حكيمِ بن حِزَامٍ رضي الله عنهما: أنَّه مَرَّ بالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الأَنْبَاطِ، وَقَدْ أُقيِمُوا في الشَّمْسِ، وَصُبَّ عَلَى رُؤُوسِهِمُ الزَّيْتُ! فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قيل: يُعَذَّبُونَ في الخَرَاجِ - وفي رواية: حُبِسُوا في الجِزْيَةِ - فَقَالَ هِشَامٌ: أشهدُ لَسَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "إنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاس في الدُّنْيَا"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مسلم)
1604- (وعن هشام بن حكيم بن حزام) بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي، صحابي ابن صحابي، فلذا قال المصنف (رضي الله عنهما) قال في التقريب: له ذكر في الصحيحين، في حديث عمر، حيث سمعه يقرأ سورة الفرقان. مات قبل أبيه، ووهم من زعم أنه استشهد بأجنادين، خرّج عنه مسلم وأبو داود والنسائي. وفي التهذيب أسلم يوم الفتح، توفي قبل حكيم أبيه، قاله ابن عبد البدر وغيره. وقيل: استشهد باجنادين، قاله إبراهيم الأصبهاني وغيره، وغلطهم فيه ابن الأثير وقال: إنه وهم. والذي قتل باجنادين، هو هشام بن العاص، سنة ثلاث عشر وقصة هشام بن حكيم، مع عياض بن غنم. وهو حديث الباب، يدل على أنه عاش بعد اجنادين، فإنه مر على عياض وهو وال على حمص وإنما فتحت بعد اجنادين بزمان طويل، روى عنه جماعة من التابعين. قال محمد بن سعد: وكان هشام بن حكيم رجلاً صليباً (2) مهيباً. وقال الزهري: كان يأمر بالمعروف في رجال معه، وكان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغه أنه ينكر أمراً ما، بقيت أنا وهشام فلا يكون هذا.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث شتى، روى مسلم واحداً منها (أنه مر بالشام على أناس من الأنباط) ويقال فيهم النبط بفتح أوليه، هم قوم من العرب، دخلوا في العجم والروم، واختلطت أنسابهم، وفسدت ألسنتهم، سموا بذلك لمعرفتهم بأنباط الماء واستخراجه، لكثرة معالجتهم الفلاحة. قاله في التوشيح. وقال قوم: هم فلاحو العجم وجملة (وقد أقيموا في الشمس) حالية، وعطف عليها قوله (وصب على رؤوسهم الزيت) والفعل فيهما مبني للمجهول (فقال ما هذا قيل يعذبون في الخراج) أي: من أجله وبسببه (وفي رواية حبسوا في الجزية فقال هشام أشهد لسمعت) جواب قسم مقدر، أو جواب أشهد، لتنزيله، لتحققه منزلة القسم؛ (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) أي: بغير
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، (الحديث:29) .
(2) الصليب الشديد وكذا الصلب بضم الصاد. ع.(8/444)
1606- وعنه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ في وَجْهِهِ، فَقَالَ: "لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ". رواه مسلم.
وفي رواية لمسلم أَيضاً: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الضَّرْبِ في الوَجْهِ، وَعَنِ الوَسْمِ في الوَجْهِ (1) .
283- باب تحريم التعذيب بالنار في كل حيوان حَتَّى النملة ونحوها
1607- عن أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بعثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَعْثٍ، فَقَالَ: "إنْ وَجَدْتُمْ فُلاَناً وَفُلاناً" لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا "فَأَحْرِقُوهُمَا بالنَّارِ" ثُمَّ قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِيْنَ أرَدْنَا الخرُوجَ: "إنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أنْ تُحْرِقُوا فُلاناً وفُلاناً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1606- (وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه حمار قد وسم) بصيغة المجهول (في وجهه فقال) محرماً لذلك، ومنبهاً أنه من الكبائر (لعن الله الذي وسمه. رواه مسلم وفي رواية لمسلم أيضاً نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه) قال العلماء: لأن الوجه لطيف، يجمع المحاسن، وأعضاؤه نفيسة لطيفة، وأكثر الإِدراك بها، فقد يبطلها ضرب الوجه، وقد ينقصها وقد يشوه الوجه، والشين فيه فاحش، لأنه بارز ظاهر، لا يمكن ستره، ومتى ضربه لا يسلم من الشين غالباً. وشمل النهي، ضرب الخادم والزوجة والولد للتأديب، فليجتنب الوجه وتأثير الوسم أشد.
باب تحريم التعذيب بالنار في كل حيوان حتى القملة ونحوها
بالجر عطفاً على المجرور قبله.
1657- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث) بفتح الموحدة وسكون المهملة، وبعدها مثلثة، أي: جيش مبعوث به (فقال إن وجدتم فلاناً وفلاناً لرجلين من قريش سماهما) أي: عينهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسيهما الراوي (فأحرقوهما بالنار ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج) إلى ذلك المحل المرسل إليه (إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً) أي: وقد رجعت عنه (وإن النار لا يعذب بها إلا الله) جملة مستأنفة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه (الحديث:107) وهو عن جابر ...(8/446)
وإنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ الله، فإنْ وَجَدْتُمُوهُما فاقْتُلُوهُما". رواه البخاري (1) .
1608- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كنَّا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فانْطَلَقَ لحَاجَتِهِ، فَرَأيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءتِ الحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَعْرِشُ فَجَاءَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَنْ فَجَعَ هذِهِ بِوَلَدِهَا؟ ، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْها". ورأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ: "مَنْ حَرَّقَ هذِهِ؟ " قُلْنَا: نَحْنُ قَالَ: "إنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُعَذِّبَ بالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ". رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
قَوْله: "قَرْيَةُ نَمْلٍ" مَعْنَاهُ: مَوضْعُ النَّمْلِ مَعَ النَّمْلِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو حالية (فإن وجدتموهما فاقتلوهما) في الحرب أو صبراً (رواه البخاري) .
1608- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فانطلق لحاجته) أي: حاجة الإِنسان (فرأينا حمّرة) بضم الحاء وتشديد الميم، أي: مع ضمها، وقد تخفف وتشدد الراء: طائر صغير كالعصفور (معها فرخان) بفتح الفاء وبالراء والخاء المعجمة، تثنية فرخ أي: ولدان. والجملة حالية، رابطها الضمير (فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرش) قال في النهاية: التعريش أن ترتفع وتظلل بجناحيها على من تحتها (فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال من فجع) من باب نفع أي: رزأ (هذه بولدها ردوا ولدها) المراد منه الجنس، فيشمل ما فوق الواحد (إليها) فردوه وسكت عنه، لظهور أنهم لا يتخلفون عن امتثال أمره - صلى الله عليه وسلم - (ورأى قرية نمل قد حرقناها) بالتضعيف اعتباراً بتعداد النمل (فقال من حرق هذه) أي: القرية (قلنا نحن قال إنه لا ينبغي) أي: لا يجوز ولا يحل (أن يعذب بالنار إلا رب النار) نعم من قتل بالنار، قتل بها قصاصاً، إن شاء الولي ذلك، وإن شاء اقتص بالسيف (رواه أبو داود بإسناد صحيح، قوله قرية نمل) بفتح القاف والتحتية (معناه موضع النمل مع النمل) قال في النهاية: قرية النمل: هي مسكنها وبيتها، والجمع قرى اهـ. وحينئذ فقول المصنف مع النمل ليس تفسيراً لقرية النمل لغة، إنما هو بيان للمراد في الحديث، وأن المنهى عنه إحراق النمل، لا بيته الخالي منه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: لا يعذب بعذاب الله (6/104، 105) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في كراهية حرق العدو بالنار، (الحديث: 2675) .(8/447)
284- باب في تحريم مطل الغني بحقٍّ طلبه صاحبه
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (إنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أهْلِهَا) .
وقال تَعَالَى (2) : (فَإن أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمَانَتَهُ) .
1609- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَع". متفق عَلَيْهِ.
معنى "أُتبع":
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب تحريم مطل الغني
أي: تأخيره (بحق طلبه صاحبه) أي: وكان له الطلب، أما لو كان الحق مؤجلاً، فطلبه قبل الأجل، فلا عبرة بطلبه، ولا تحريم في مطله. (قال الله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها) وإن أنزلت في خصوص رد المفتاح، لعثمان بن طلحة الحجبي، لكن الأمانات فيها عام. لذلك ولغيره. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (وقال تعالى: فإن أمن بعضكم بعضاً) من غير رهن ولا إشهاد (فليؤد الذي اؤتمن أمانته) وجوباً ومقابلة لائتمانه بأمانه.
1609- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مطل الغني) من إضافة المصدر للفاعل، والمطل المد (3) والمراد به هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر (ظلم) قال السبكي: تسمية المطل ظلماً، يشعر بكونه كبيرة كالغصب. وقال المصنف: هو صغيرة (وإذا أتبع) بسكون المثناة مبنياً للمفعول أي: أحيل (أحدكم علي مليء) بالهمز وقد يسهل الغني (فليتبع) بالتخفيف والتشديد: فليحتل، وهو أمر ندب، وقيل إباحة وإرشاد، وقيل وجوب. "تنبيه" قال الرافعي: الأشهر في الروايات "وإذا أتبع" وأنهما جملتان، لا تعلق لإِحداهما بالأخرى. ووجه الفاء: أن الجملة الأولى: كالتوطئة، والعلة لقبول الحوالة، أي: إذا كان مطل الغني ظلماً، فليقبل من يحال بدينه عليه، فإن المؤمن من شأنه، أن يحترز عن الظلم فلا يمطل (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربعة (معنى أتبع) بضم الهمزة وسكون
__________
(1) سورة النساء، الآية: 58.
(2) سورة البقرة، الآية: 283.
(3) في الأصل (والمدافعة) بدل (والمراد به) وهو تحريف. ع.(8/448)
يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ في قَيْئِهِ فَيَأكُلُهُ" وفي روايةٍ: "العائِدُ في هِبَتِهِ كالعائِدِ في قَيْئِهِ" (1) .
1611- وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ في سَبيلِ اللهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِندَهُ، فَأَرَدْتُ أن أشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "لاَ تَشْتَرِهِ وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وإنْ أعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ؛ فَإنَّ العَائِدَ في صَدَقَتِهِ كَالعَائِدِ في قَيْئِهِ". متفق عَلَيْهِ.
قَوْله: "حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبيلِ الله" مَعنَاهُ: تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَى بَعْضِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لها شأن في القبح يتحدث به، كصفة الكلب، حال كونه أو الذي (يقيء ثم يعود في قيئه) أي: ما تقايأه (2) من إطلاق المصدر على اسم المفعول (فيأكله وفي رواية) لهما، وهي عند أحمد وأبي داود والنسائي من حديثه أيضاً (العائد في هبته كالعائد في قيئه) قال المصنف: والحديث ظاهر في التحريم، وهو محمول على هبته لأجنبي. أما إذا وهب لولده وإن سفل، فله الرجوع أي بشرطه. قال ابن دقيق العيد: وقع التشديد في التشبيه من وجهين: أحدهما تشبيه الراجع بالكلب، والثاني تشبيه المرجوع فيه بالقيء.
1611- (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حملت على فرس) اسمه الورد، كان لتميم الداري فإهداه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه لعمر (في سبيل الله) أي أعطى رجلاً فرساً، ليجاهد الكفار عليه، وهو يطلق على المذكر والمؤنث، بلفظ واحد كما تقدم (فأضاعه الذي كان عنده) أي: لم يكرمه بالإِطعام والعناية به (فأردت أن أشتريه) وظن أن استعادته بالشراء، لا يكون رجوعاً في الهبة، فلا يتناول ما ورد فيه (وظننت أنه يبيعه برخص) أي: في السعر لضعفه وهزاله (فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: عن ذلك (فقال لا تشتره ولا تعد) أي: ترجع (في صدقتك وإن أعطاكه) أي: بالبيع منك (بدرهم فإن العائد في صدقته) أي: ولو بشرائها من المتصدق بها عليه (كالعائد في قيئه متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة وفي الهبة وفي الجهاد. ومسلم في الفرائض، ورواه أيضاً في صحيحه. قال المزي وتعقب بأنه رواه في الهبة، وهي بين الفرائض والوصايا، قال الحافظ: ورواه أيضاً النسائي في الأحكام ورواه ابن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الهبة في أبواب متعددة (5/160) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الهبات، باب: تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ... (الحديث: 5، 6، 7) .
(2) لعل الصواب (ما تقيأه) بتشديد الياء كما في القاموس وغيره. ع.(8/450)
قَالَ اللهُ تَعَالَى (1) : (الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بأنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأولئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) - إِلَى قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أفتى الشهاب الرملي بخلافه، وتحريمه تعبدي، وما أبدى له إنما يصح حكمة لا علة. (قال تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون) من قبورهم (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان) أي إلا قيام المصروع (من المس) أي الجنون وهو متعلق بيقوم. وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإِسراء، مر على قوم بطونهم كالبيوت، وأخبر أنهم أكلة الربا (ذلك) أي: العذاب (بأنهم) أي: بسبب أنهم (قالوا إنما البيع مثل الربا) اعترضوا على أحكام الله تعالى، وقالوا البيع مثل الربا، فإذا كان الربا حراماً، فلا بد أن يكون البيع كذلك (وأحل الله البيع وحرم الربا) يحتمل أن يكون تتمة المعترض (2) المشرك، ويحتمل أن يكون من كلام الله رداً عليهم، أي: اعترضوا، والحال أن الله فرق بين هذا وهذا، وهو الحكيم العليم (فمن جاءه موعظة من ربه) أي: بلغه وعظ من الله (فانتهى) أي: فاتعظ وامتثل، حال وصول الشرع إليه. (فله ما سلف) من المعاملة أي: له ما كان أكل من الربا زمن الجاهلية (وأمره إلى الله) يحكم بينهم يوم القيامة (ومن عاد) إلى تحليله وأكله (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لكفرهم (يمحق الله الربا) أي: يذهب بركته فلا ينتفع في الدنيا والآخرة به (ويربي الصدقات) أي: يكثرها وينميها، وقد ورد كما تقدم أن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يكون مثل أحد (والله لا يحب) أي: لا يرضى (كل كفار) أي: مصر على تحليل الحرام (أثيم) فاجر بارتكابه (إن الذين آمنوا) (3) بما جاء من الله (وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) ذكرهما بعد الأعم لشرفهما (لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم) من آت (ولا هم يحزنون) على فائت (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) اتركوا ما لكم
__________
(1) سورة البقرة، الآيات: 275-278.
(2) لعله (كلام المعترض) .
(3) هذه والأخيرة ليستا في نسخ المتن.(8/454)
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) الآيةَ.
وقال تعالى (2) : (لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) الآيةَ.
وقال تَعَالَى (3) : (يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً) .
1614- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قَالَ الله تَعَالَى: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) أي: فلا يشرك مع ربه في عبادته أحداً، شركاً خفياً، وهو الرياء (حنفاء) مائلين عن كل ما سوى الدين الحنيفي إليه (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيِّمة) تقدم ما يتعلق بها في باب وجوب الزكاة (وقال تعالى: لا تبطلوا صدقاتكم) أي: ثوابها (بالمن) تعداد النعمة على المحسن إليه (والأذى) إبطالاً (كـ) ابطال (الذي ينفق ماله رئاء الناس) الضعفين اجتمعا في إحباط الثواب، وجعل العمل معرى منه، سوى ما صحبه في كل منهما (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) وإحسان الكافر لا يكسبه ثواباً، وإنما يتوقع بها تخفيف العقاب (فمثله) أي: صفته العجيبة الشأن، (كمثل صفوان) حجر أملس (عليه تراب) جملة في محل الصفة (فأصابه وابل) مطر غزير (تركه صلداً) أملس نقياً من التراب، كذلك عمل المرائين، يضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال، فيما يرى الناس كالتراب (لا يقدرون) الضمير للذين ينفقون، باعتبار المعنى، فأنهم كثيرون (على شيء مما كسبوا) لا ينتفعون بما فعلوا (والله لا يهدي القوم الكافرين) إلى خير، وفيه إيماء إلى أن الرياء من صفة الكفار، فعلى المؤمن أن يحذر منها وقال تعالى: في وصف المنافقين (يراءون الناس) بأعمالهم وطاعاتهم (ولا يذكرون الله إلا قليلا) أي: في قليل من الزمان، وهو حال اجتماعهم على المسلمين، أو إلا ذكراً قليلاً.
1614- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري) بأن قصد مراءاته، أو
__________
(1) سورة البينة، الآية: 5.
(2) سورة البقرة، الآية: 264.
(3) سورة النساء، الآية: 142.(8/456)
1618- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ - عز وجل - لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" يَعْنِي: رِيحَهَا. رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيحٍ (1) . والأحاديث في الباب كثيرةٌ مشهورةٌ.
289- باب فيمَا يتوهم أنَّه رياء وليس هُوَ رياء
1619- وعن أَبي ذرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ لِرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أرَأيْتَ الرَّجُلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1618- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تعلم علماً مما) أي: من العلم الذي (يبتغي) أي يقصد (به وجه الله عز وجل) أي: التقرب إليه وذلك العلم الشرعي والآلة (لا يتعلمه) لفرض من الأغراض (إلا ليصيب به عرضاً) بفتح العين المهملة والراء وبالضاد المعجمة قال في النهاية العرض: هو متاع الدنيا وحطامها، ولذا قيده في الحديث بقوله: (من الدنيا لم يجد عرف الجنة) وأدرج في الحديث تفسير بعض الرواية بقوله (يعني) أي: بقوله عرف الجنة (ريحها) جاء عند الطبراني: "وإن عرفها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام". ولا يلزم من منعه، من وجد إن عرفها منعه من دخولها، إما بعد التعذيب أو قبله. بل يجوز ذلك معه كما تقدم في منع شارب الخمر، من شرب خمر الجنة، ولابس الحرير منه فيها والله أعلم (يوم القيامة) ظرف الفعل المذكور قبله، والحكمة في منع الطالب لما ذكر من عرف الجنة، أنه قصر طلبه على الحقير الفاني واستبدل الأدنى بالذي هو خير فناسب أن يمنع ما أعد لمن علت همته زيادة في تشريفه، وتعجيل المسرة لكون هذا على الضد من ذلك والله أعلم (رواه أبو داود بإسناد صحيح) قال في الجامع الكبير ورواه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب ثم الحديث مقصوداً في المعقود له الباب، بل هو من جملة الغرض المقصود له، فلذا أورده المصنف هنا (والأحاديث في الباب) أي: تحريم الرياء (كثيرة مشهورة) وفيما ذكر كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. (باب ما يتوهم) بالبناء للمجهول (أنه رياء وليس هو) مؤكد لضمير الفاعل المستتر (رياء) أي: لعدم صدق تعريفه عليه.
1619- (عن أبي ذر رضي الله عنه قال قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: في طلب العلم لغير الله تعالى، (الحديث 3664) .(8/461)
فَيَخُونُهُ فِيهِمْ إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شَاءَ حَتَّى يَرْضى" ثُمَّ التَفَتَ إلَيْنَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَا ظَنُّكُمْ؟ ". رواه مسلم (1) .
292- باب في تحريم تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال في لباس وحركة وغير ذَلِكَ
1629- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: لَعَنَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ.
وفي رواية: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُتَشَبِّهِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ًعنه بحوائجهم (فيخونه) بالنصب في جواب النفي (فيهم إلا وقف) بالبناء للمفعول (له يوم القيامة فيأخذ) بالرفع أي: المجاهد (من حسناته) أي: الخائن والظرف بيان لقوله (ما شاء) قدم عليه اهتماماً به وقوله (حتى يرضى) غاية الأخذ أي: لا يمنع منه ولا يوقف عند حد دون ما يرضيه (ثم التفت إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال) مخاطباً بقوله (ما ظنكم) أي: تظنون وقد أذن الله له في أخذ ما يرضيه منها، وطبع الإِنسان الحرص أن يترك منها شيئاً (رواه مسلم) فيه غلظ إثم الخالف للمجاهد في أهله بالخيانة تحذيراً عنها وتثبيطاً.
باب تحريم تشبه الرجال بالنساء
(وتشبه النساء بالرجال في لباس وحركة وغير ذلك) من جلوس أو نوم، الظرف الثاني في محل الحال، أو الصفة من المضاف إليه فيهما، أي: الكائنين، أو كائنين في ذلك، ولا حاجة إلى جعله من التنازع.
1629- (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخنثين) بالمعجمة والنون المشددة والثاء المثلثة، بصيغة اسم الفاعل وبصيغة اسم المفعول: من يشبه خلقه النساء في حركاته وكلماته، وإن كان ذلك خلقياً فلا لوم عليه، وعليه تكلف إزالته، فإن تمادى عليه ولم يتكلف إزالته: ذم، وإن كان بقصد منه وتكلف له فهو المذموم. قال ابن حبيب: المخنث هو المؤنث من الرجال وإن لم تعرض منه الفاحشة، مأخوذ من التكسر في المشي ونحوه، وبينه بقوله (من الرجال والمترجلات) أي: اللاتي كالرجال تشبيهاً (من
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: حرمة نساء المجاهدين، وإثم من خانهم فيهن (الحديث: 139) .(8/470)
لأَكْتَافِهِنَّ، وقيلَ: مائلاتٌ يَمْتَشطنَ المِشْطَةَ المَيلاءَ: وهي مِشطةُ البَغَايا، و "مُميلاتٌ" يُمَشِّطْنَ غَيْرَهُنَّ تِلْكَ المِشْطَةَ.
"رُؤوسُهُنَّ كَأسْنِمَةِ البُخْتِ" أيْ: يُكَبِّرْنَهَا وَيُعَظِّمْنَهَا بِلَفِّ عِمَامَةٍ أَوْ عِصَابَةٍ أَوْ نَحْوِهَا (1) .
293- باب في النهي عن التشبه بالشيطان والكفار
1632- عن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَأكُلُوا بِالشِّمَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زوجها، فتميل عن ذلك لضده، وقيل معناه كاسيات من الثبات، عاريات من فعل الخير والاعتناء بالطاعات، والاهتمام لآخرتهن (مميلات أي: يعلمن غيرهن فعلهن المذموم) من الميل عن طاعة الله تعالى وإهمال ما يلزم حفظه (وقيل مائلات يمشين متبخرات مميلات لأكتافهن) بالفوقية جمع كتف بفتح فكسر، أو فتح أو كسر فسكون فيهما (وقيل مائلات يمتشطن المشطة) بكسر الميم (الميلاء) بفتح الميم أي: المائلة (وهي مشيطة البغايا) جمع بغى أي: الزواني لتدل تلك المشطة منها، على ما هي بصدده من البغاء؛ (مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة) أي: يفعلن ذلك بأنفسهن ولغيرهن. وقيل مائلات إلى الرجال، مميلات بما يبدينه من زينتهن وغيرها، واختاره القاضي عياض ومعنى قوله (رءُوسهن كأسنمة البخت أي: يكبرنها) أي: الرءوس (ويعظمنها) فتصير كبيرة الجرم عظيمة (بلف عمامة أو عصابة أو نحوها) وفي ذلك تشبه بالرجال. قال السيوطي في الدر: وهو من شعار المغنيات، قال المصنف نقلاً عن المازري: ويجوز أن يكون معناه يطمحن إلى الرجال، ولا يغضضن عنهم، ولا ينكسن رءُوسهن. واختار القاضي عياض: أن المائلات يتمشطن المشطة الميلاء، وهي ضفر الغدائر وشدها إلى فوق، وجمعها وسط الرأس، فتصير كأسنمة البخت، إنما هو ارتفاع الغدائر فوق رؤوسهن، وجمع عقائصها هناك، وتكبيرها بما تضفر به، حتى تميل إلى ناحية من جوانب الرأس، كما يميل السنام، قال ابن دريد يقال ناقة ميلاء، إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها.
باب النهي عن التشبه بالشيطان والكفار
آل فيهما للجنس، فيصدق بكل فرد من ذلك.
1632- (عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تأكلوا بالشمال) النهي للتنزيه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، (الحديث: 125) .(8/473)
فَإنَّ الشَّيْطَانَ يَأكُلُ ويَشربُ بِالشِّمَالِ". رواه مسلم (1) .
1633- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لاَ يَأكُلَنَّ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ، وَلاَ يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا". رواه مسلم (2) .
1634- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارى لاَ يَصْبغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ". متفق عَلَيْهِ. المُرَادُ: خِضَابُ شَعْرِ اللَّحْيَةِ والرَّأسِ الأبْيَضِ بِصُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ؛ وأمَّا السَّوَادُ، فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ في البَابِ بَعْدَهُ، إنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ودعاؤه على من يأكل بها ليس لذلك، بل لكبره عن امتثال الأمر النبوي ونعلله بما لا أصل له (3) وعلل النهي بقوله (فإن الشيطان يأكل بالشمال) فيه تصريح بأن الشيطان يأكل، والأصل الحقيقة، ويؤيده ما جاء من أن له ضراط، فهذا يدل على أن له جوفاً يحيل الطعام والشراب. وتقدم حديث "ذاك رجل بال الشيطان في أذنه" (رواه مسلم) ورواه ابن ماجة، وعليه اقتصر السيوطي في جامعه الكبير والصغير.
1633- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها) أكد الفعل بالنون، مبالغة في النهي فهو بها مكروه كراهة شديدة (فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها) لأنه لاستقذاره وخساسته، يستعمل الخسيس في النفيس (رواه مسلم) ورواه الترمذي، ورواه الخليلي في مشيخته، وحديث ابن عمر باللفظ المذكور ولكن بغير نون تأكيد فيهما، ورواه أبو يعلى وابن جرير من حديث ابن عمر.
1634- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن اليهود والنصارى لا يصبغون) أي: لا يخضبون شعورهم أصلاً (فخالفوهم) وأخضبوا بما عدا السواد (متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة (المراد) من قوله (لا يصبغون خضاب شعر اللحية والرأس الأبيض) صفة الشعر (بصفرة أو حمرة) أي: مثلاً فيجوز بما عدا السواد كما قال (أما السواد) أي: الخضاب (فمنهي عنه) على سبيل التحريم، إلا في الجهاد لإرهاب العدو (كما سنذكره في الباب بعده، إن شاء الله تعالى) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهم، (الحديث: 104) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهم، (الحديث: 105) .
(3) أي اختلاقه علة هو كاذب فها. ع.(8/474)
شَاءَ اللهُ تَعَالَى (1) .
294- باب في نهي الرجل والمرأة عن خضاب شعرهما بسواد
1635- عن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ والِدِ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما، يَومَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضاً. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "غَيِّرُوا هَذَا وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ". رواه مسلم (2) .
295- باب في النهي عن القَزَع وَهُوَ حلق بعض الرأس دون بعض، وإباحة حَلْقِهِ كُلّهِ للرجل دون المرأة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب نهي الرجل والمرأة
ومثلها الخنثى وسكت عنه لندرته ولأنه في الحقيقة يرجع إلى أحدهما (عن خضاب شعرهما بسواد) والنهي للتحريم، ولا يباح كما سبق إلا للجهاد وإرهاب العدو.
1635- (عن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنهما قال: أتي) بالبناء للمجهول (بأي قحافة) عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة (والد أبي بكر الصديق) أسلم يوم الفتح، ومات في خلافة عمر، ولكونه صحابياً قال المصنف: (رضي الله عنهما) وقوله (يوم فتح مكة) ظرف لقوله أتي (ورأسه ولحيته) أي: شعرهما (كالثغامة) بفتح المثلثة وبالغين المعجمة والميم. قال في النهاية هو نبت أبيض الزهر والثمر، يشبه به الشيب، تبيض كأنها الثلج (بياضاً) تمييز لبيان وجه المشبه، والجملة في محل الحال من أبي قحافة (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واهذا) أي: الشيب بالخضاب (واجتنبوا السواد) وجوباً ولا تخضبوا به (رواه مسلم) .
باب النهي عن القزع
تنزيهاً (وهو) بفتح القاف والزاي وبالعين المهملة (حلق بعض الرأس دون بعض) قال
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: الخضاب (10/299) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: في مخالفة اليهود في الصبغ، (الحديث: 80) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة، وتحريمه بالسواد، (الحديث: 78 و79) .(8/475)
1638- وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، أمْهَلَ آلَ جَعْفَر ثَلاَثاً ثُمَّ أتَاهُمْ فَقَالَ: "لاَ تَبْكُوا عَلَى أخِي بَعْدَ اليَوْمِ" ثُمَّ قَالَ: "ادْعُوا لِي بَنِي أَخِي" فَجِيءَ بِنَا كَأنَّنَا أفْرُخٌ فَقَالَ: "ادْعُوا لِي الحَلاَّقَ" فَأمرَهُ، فَحَلَقَ رُؤُوسَنَا. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح عَلَى شرط البخاري ومسلم (1) .
1639- وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تَحْلِقَ المَرْأةُ رَأسَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1638- (وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهل آل جعفر) أي: أولاد جعفر بن أبي طالب وأهله (ثلاثاً) أي: من الليالي أو من الأيام، وحذف التاء لحذف المعدود، أو لتغليب الليالي عليها، لأن المراد أنه أمهلهم ثلاثة أيام وليالي؛ (ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم) النهي في للتنزيه، لإِباحة البكاء الخالي عن المحرم على الميت بعد الثلاث، وإن كان الأولى تركه ثم قال (ادعوا لي بني أخي) وهم محمد وعبد الله وعوف (فجيء بنا كأننا أفرخ) بضم الراء، جمع فرخ ولد الطائر، وذلك لما اعتراهم من الحزن على فقده؛ (فقال ادعوا لي الحلاق) الصفة فيه للنسبة كالتمار والبزاز (فأمره فحلق رءوسنا) ليكون كالتفاؤل بإزالة الحزن، وانجلاء الكرب. ومناسبة الحديث للترجمة بقوله رءوسنا، فإنه ظاهر في تعميم كل شعرها (رواه أبو داود (2) بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم) فرواه في الترجل من سننه، عن عقبة بن مكرم، هو العمي وابن المثنى، كلاهما عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه قال: سمعت محمد بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن عبد الله بن جعفر. ورواه النسائي في المناقب، ْعن محمد بن المثنى. وفي الزينة عن إسحاق بن منصور عن وهب بن جرير بنحوه، وأعاده في السيرة عن إسحاق بن منصور بتمامه وأوله عنده، بعث جيشاً واستعمل عليهم زيداً رضي الله عنه كذا في الأطراف للمزي.
1639- (وعن علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عن (أن تحلق المرأة رأسها) أي: شعره لما فيه من المثلة؛ والنهي للتنزيه. ومحله ما لم ينهها عنه. نحو حليل وإلا
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الترجل، باب: في حلق الرأس، (الحديث: 4192) .
(2) نسخة رواه أحمد وأبو داود الخ. ع.(8/477)
1640- وعن أسماءَ رضي الله عنها: أنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يا رسولَ اللهِ إنَّ ابْنَتِي أصَابَتْهَا الحَصْبَةُ، فَتَمَرَّقَ شَعْرُهَا، وإنّي زَوَّجْتُهَا، أفَأَصِلُ فِيهِ؟ فقالَ: "لَعَنَ اللهُ الوَاصِلَةَ وَالمَوْصُولَةَ". متفق عليه.
وفي روايةٍ: "الوَاصِلَةَ، والمُسْتوْصِلَةَ".
قَوْلُهَا: "فَتَمَرَّقَ" هو بالراءِ ومعناهُ: انْتَثَرَ وَسَقَطَ. "وَالوَاصِلَةُ": التي تَصِلُ شَعْرَهَا، أو شَعْرَ غَيْرِهَا بِشَعْرٍ آخَرَ. "وَالمَوْصُولَةُ": التي يُوصَلُ شَعْرُهَا.
"والمُسْتَوْصِلَةُ": التي تَسْألُ مَنْ يَفْعَلُ لها ذلك.
وعن عائشة رضي الله عنها نَحوهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخضاب والوشم أو دين الله (ومن يتخذ الشيطان ولياً) يطيعه ولا يطيع الله (من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً) أي: ضيع بالكلية رأس ماله، وباع الجنة بالدنيا (يعدهم) ولا ينجز (ويمنيهم) ما لا يدركون (وما يعدهم الشيطان إلا غروراً) هو إيهام النفع، فيما فيه الضر (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً) معدلاً ومهرباً.
1640- (وعن أسماء) هي بنت الصديق (رضي الله عنها) وعنه (ان امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت:) عطف تفسير على سألت (يا رسول الله إن ابنتي أصابتها الحصبة) بفتح المهملة الأولى، وسكون الثانية وفتحها وكسرها، كما في النهاية. قال: هي شيء يظهر في الجلد (فتمرق شعرها) أي: من الحصبة (وإني زوجتها) هو السبب الداعي إلى الوصل من تحسينها للزوج بالشعر، فلذا قالت: (أفأصل فيه) أي: تأذن لي في الوصل فأصل فيه، عوض ما سقط عنه بالحصبة (فقال: لعن الله الواصلة) أي: فاعلة ذلك (والموصولة) المفعول بها ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في اللباس، وابن ماجه ونسبه لمسلم، لأن عنده الرواية المشار إليها، بقوله (وفي رواية) هي لهما كما في الأطراف، فأخرجها البخاري في اللباس، وكذا مسلم فيه، ورواه النسائي وابن ماجة (الواصلة والمستوصلة) أي: طالبة وصل الشعر المحرم بها، أو بغيرها. وهذه أعم من تلك، باعتبار عمومها وغيرها، كما أن تلك أعم من أن يكون الموصول فيها، وصل عن طلب أو عن غيره، وتقدم في باب جواز اللعن على العموم، ما يحرم الوصل به وغيره (قولها فتمرق هو بالراء) وبالقاف (ومعناه انتثر) افتعال من النثر أي: سقط فعطف قوله (وسقط) من عطف التفسير (والواصلة هي التي تصل شعرها، أو شعر غيرها، بشعر آخر. والموصولة هي التي يوصل شعرها) بالفعل المبني للمجهول (والمستوصلة التي تطلب) وفي نسخة تسأل (من يفعل ذلك لها) الظاهر(8/479)
قالَ اللهُ تعالى (1) : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) متفق عليه.
"المُتَفَلِّجَةُ" هيَ: الَّتي تَبْرُدُ مِنْ أسْنَانِهَا لِيَتَبَاعَدَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ قَلِيلاً، وتُحَسِّنُهَا وَهُوَ الوَشْرُ. "وَالنَّامِصَةُ": الَّتي تَأخُذُ مِنْ شَعْرِ حَاجِبِ غَيْرِهَا، وتُرَقِّقُهُ لِيَصِيرَ حَسَناً. "وَالمُتَنَمِّصَةُ": الَّتي تَأمُرُ مَنْ يَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ (2) .
297- باب في النهي عن نتف الشيب من اللحية والرأس وغيرهما، وعن نتف الأمرد شعر لحيته عند أول طلوعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، متفق عليه المتفلجة) بصيغة الفاعل من التفلج (هي التي تبرد من أسنانها) أي بعضها، والمراد أن تبرد ما بين الثنايا والرباعيات. قال: وتفعل ذلك العجوز ومن قاربتها (ليتباعد بعضها عن بعض قليلاً وتحسنها) أي: لتصير لطيفة حسنة المنظر، وتوهم أنها صغيرة (وهو) أي البرد كما ذكر (الوشر) بفتح الواو وسكون المعجمة، قال المصنف: وهذا الفعل حرام على الفاعلة، وعلى المفعول بها، لهذه الأحاديث، ولأنه: تغيير لخلق الله؛ ومحله إن فعلته للحسن، أما لو احتاجت إليه لعلاج أو عيب فلا بأس (والنامصة) بالنون وآخره صاد مهملة (هي التي تأخذ من شعر حاجب غيرها وترققه ليصير حسناً) كذا قصره هنا على شعر الحاجب. وفي شرح مسلم هي التي تزيل الشعر من الوجه، وهذا الفعل حرام، إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب، فلا يحرم إزالتها بل يستحب عندنا. والنهي إنما هو في الحواجب، وما في أطراف الوجه (والمتنمصة) بتقديم النون على الميم، قال المصنف: رواه بعضهم بتقديم الميم، والمشهور تأخيرها (هي التي تأمر من يفعل بها) أو بغيرها (ذلك) .
باب النهي عن نتف الشيب من اللحية والرأس وغيرهما، وعن نتف الأمرد شعر لحيته عدوانا
وفي نسخة أول طلوعه إيثاراً للمرودة، كذا قال المصنف في شرح مسلم: ذكر العلماء
__________
(1) سورة الحشر، الآية: 7.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: المتفلجات للحسن (10/313، 314) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة ... (الحديث: 120) .(8/482)
وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة.
299- باب في كراهة المشي في نعل واحدة أو خف واحد لغير عذر وكراهة لبس النعل والخف قائماً لغير عذر
1647- عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَيَمشِ أحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، لِيَنْعَلْهُمَا جَمِيعاً، أو لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعاً".
وفي رواية:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: حال الشرب، لأنه يخرج مع النفس، نحو نخامة فيقذر الماء ولأنه يكسب الإِناء رائحة كريهة، بل يفصل الإناء عن فيه ويتنفس. (متفق عليه وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة) قال المصنف في الخلاصة: وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت يد النبي - صلى الله عليه وسلم -: اليمين لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى؛ حديث صحيح رواه أبو داود، ورواه من رواية حفصة قالت: كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، وفي النهي عن الاستنجاء باليمين، أحاديث.
باب كراهة المشي في نعل واحدة وخف واحد
على وجه التنزيه إذا كان أفراد ما ذكر (لغير عذر) أي بخلاف ما كان له، كأن كان بإحدى قدميه مانع من لبس النعل والخف، بلا كراهة حينئذ (وكراهة لبس النعل والخف قائماً لغير عذر) أعاد لفظ كراهة، وقوله لغير عذر؛ لاختلاف جنس المحكوم عليه؛ ومع ذلك فكان الأصوب حذف كراهة الثاني، والعاطف يقوم مقامه. وقوله لغير عذر الأول؛ اكتفاء بالثاني، لأنه قيد لما قبله.
1647- (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يمشي أحدكم) أي: الواحد منكم (في نعل واحدة) وذلك لما فيه من التشويه والمثلة ومخالفة الوقار، ولأن المنتعلة تصير أرفع من الأخرى فيعسر مشيه وربما كان سبباً لعثاره (لينعلهما جميعاً) حال أي: في آن واحد (أو ليخلعهما) أي: القدمين من النعلين (جميعاً) قال السيوطي في الجامع الكبير: رواه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة، كلهم من حديث أبي هريرة (وفي رواية) هي للبخاري (أو ليحفهما) بدل قوله أو ليخلعهما (جميعاً) قال المصنف في شرح مسلم:(8/485)
"أو لِيُحْفِهِمَا جَمِيعاً". متفق عليه (1) .
1648- وعنه، قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "إذا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكمْ، فَلاَ يَمْشِ في الأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا". رواهُ مسلم (2) .
1649- وعن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ قَائِماً. رواه أبو داود بإسناد حسن (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يخلعهما بالخاء المعجمة، واللام والعين المهملة. وفي صحيح البخاري ليحفهما، فالحاء المهملة والفاء، من الحفاء وكلاهما صحيح ورواية البخاري أحسن اهـ. (متفق عليه) أي: على أصل الحديث لما علمت من تخالفهما في اللفظ المذكور.
1648- (وعنه قال سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا انقطع شسع) بكسر الشين المعجمة وسكون السين المهملة ثم عين مهملة (نعل أحدكم) أي: أحد سيورها الذي في صدر النعل المشدود في الزمام. والزمام هو السير الذي يعقد فيه الشسع، جمعه شسوع (فلا يمشي في) النعل (الأخرى حتى يصلحها) أي: فينعل القدمين جميعاً. وقيل إصلاحها بنزع الصحيحة فيحفيها لئلا يمشي في نعل واحدة (رواه مسلم) .
1649- (وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن ينتعل الرجل قائماً) حمل على ما إذا احتاج في الانتعال إلى الاستعانة باليد، في إدخال سيورها في الرجل، لئلا يصير حينئذ على هيئة قبيحة؛ أما إذا لم يحتج فيه إلى الاستعانة بها فلا، (رواه أبو داود بإسناد حسن) رواه عن محمد بن عبد الرحيم وهو العدويّ المعروف، بصاعقة شيخ البخاري عن أبي أحمد الدينوري عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: لا يمشي في نعل واحد (10/261، 262) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: استحباب لبس النعل في اليمنى أولاً، والخلع ... (الحديث: 67) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: استحباب لبس النعل في اليمنى أولاً، والخلع ... (الحديث: 69) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب: اللباس، باب: في الانتعال، (الحديث: 4135) .(8/486)
300- باب في النهي عن ترك النار في البيت عند النوم ونحوه سواء كانت في سراج أو غيره
1650- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَتْرُكُوا
النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ". متفق عليه (1) .
1651- وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قال: احْتَرَقَ بَيْتٌ بالمَدِينَةِ عَلَى أهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَأنِهِم، قالَ: "إنَّ هذِهِ النَّارَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإذا نِمْتُمْ، فَأطْفِئُوهَا" متفق عليه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب النهي
على سبيل التنزيه (عن ترك النار في البيت عند النوم ونحوه) مما يخشى معه التهابها من غيبة عن المنزل والتهاء بأمر (سواء كانت) أي: النار (في سراج أو غيره) نعم لا كراهة فيما يؤمن معه ذلك، كالقنديل المعلق.
1650- (عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون) وذلك لئلا يشعل البيت على صاحبه؛ وصرف النهي عن التحريم عدم تحقق الضرر (متفق عليه) .
1651- (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: احترق بيت بالمدينة) النبوية (على أهله من الليل) أي: في بعضه (فلما حدث) بالفعل المبني للمجهول (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشأنهم) أي: بأمرهم (قال: إن هذه النار عدو لكم) قال ابن العربي: معنى كونها عدواً لنا، أنها تنافى أموالنا وأبداننا، منافاة العدو، وإن كانت لنا بها منفعة، لكن لا يحصل لنا منها إلا بواسطة، فاطلق أنها عدو لنا، لوجود معنى العداوة فيها (فإذا نمتم) أي: أردتم النوم (فأطفئوها) بقطع الهمزة قال القرطبي: هو أمر إرشاديّ. قال: وقد يكون للندب. وجزم المصنف بأنه للإرشاد، لكونه لمصلحة دنيوية؛ وتعقب بأنه قد يفضي إلى مصلحة دينية، وهي حفظ النفس المحرم قتلها، والمال المحرم تبذيره، (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: لا تترك النار في البيت عند النوم (11/71) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء ... (الحديث: 100) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: لا تترك النار في البيت عند النوم (11/71) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الاناء وإيكاء السقاء ... (الحديث: 101) .(8/487)
1652- وعن جابر - رضي الله عنه -، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "غَطُّوا الإنَاءَ، وَأَوْكِئُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ. وَأطْفِئُوا السِّرَاجَ، فإنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَحُلُّ سِقَاءً، وَلاَ يَفْتَحُ بَاباً، وَلاَ يَكْشِفُ إنَاءً. فإنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلاَّ أنْ يَعْرُضَ عَلَى إنَائِهِ عُوداً، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللهِ، فَلْيَفْعَل، فإنَّ الفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أهْلِ البَيْتِ بَيْتَهُمْ". رواه مسلم.
"الفُويْسِقَةُ": الفَأرَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1652- (وعن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال) على سبيل الإِرشاد، كما قال المصنف والقرطبي (غطوا الإِناء) وذلك صوناً له من الحشرات، وسائر المؤذيات (وأوكئوا) بكسر الكاف بعدها همز أي: اربطوا (السقاء) الوكاء ما يربط به من خيط أو نحوه، والسقاء بالمد ظرف من الجلد يكون للماء، والمعنى سدوا فم السقاء بخيط أو نحوه (أغلقوا الأبواب واطفئوا السراج) وعلل هذه الأوامر بقوله: (فإن الشيطان لا يحل سقاء) أي: وكاء (ولا يفتح باباً ولا يكشف إناء) أي: إذا ذكر اسم الله تعالى حال غلقه، وعند تغطية الإناء. قال ابن دقيق العيد: ويحتمل أنه لا يفتح باباً مغلقاً يسمي الله عليه حال غلقه أولا. ويحتمل أن يكون المانع من ذلك أمر خارج عن جسمه. قال: والحديث يدل على منع الشيطان الخارج من الدخول، أما الشيطان الذي كان داخلاً، فلا دلالة للخبر على خروجه. قال: فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا رفعها، ويحتمل أن تكون التسمية عند الإِغلاق، تقتضي طرد من في البيت من الشياطين، وعليه فينبغي التسمية من ابتداء الغلق إلى آخره اهـ. (فإن لم يجد أحدكم) ما يغطي به الإِناء (إلا أن يعرض) بضم الراء كما في الأصول المصححة، وهو قد جاء من باب قتل ومن باب ضرب (على إنائه عوداً) أي: يضعه عليه بالعرض (ويذكر اسم الله عليه) وفي نسخة أو بدل الواو، فإن تثبتت فهي بمعنى الواو كما في قوله تعالى (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) (1) ويحتمل كونها للتنويع (فليفعل) أي: بالمقدور عليه ندباً، وعلل الأمر باطفاء السراج بقوله (فإن الفويسقة تضرم) بضم الفوقية وبالضاد المعجمة أي: تشعل (على أهل البيت بيتهم) أي: تكون سبباً لذلك، بأن تجر الفثيلة إلى المتاع، فتضرمه ناراً (رواه مسلم) ورواه أحمد من حديث أبي أمامة بلفظ: "أجيفوا أبوابكم، وأكفئوا آنيتكم، وأوكئوا أسقيتكم، وأطفئوا سرجكم، فإنهم لم يؤذن لهم بالتسور عليكم" كذا في الجامع الصغير (الفويسقة) بالتصغير (الفأرة) بالهمز وتسهل، وأطلق عليها كالمؤذيات
__________
(1) سورة الصافات، الآية: 147.(8/488)
و"َتُضْرِمُ": تُحْرِقُ (1) .
301- باب في النهي عن التكلف وهو فعل وقول ما لا مصلحة فيه بمشقة
قال الله تعالى (2) : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) .
1653- وعن عمر - رضي الله عنه - قال: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ. رواه البخاري (3) .
1654- وعن مسروقٍ، قال: دَخَلْنَا على عبدِ اللهِ بْنِ مَسعُودٍ - رضي الله عنه - فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئاً فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلْيَقُلْ: اللهُ أعْلَمُ، فَإنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ: اللهُ أعْلَمُ. قالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) . رواه البخاري (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخمس، استعارة من الفسق وامتهاناً لهن، لكثرة خبثهن؛ حتى يقتلن في الحل والحرم وفي الصلاة، ولا تبطل بذلك (وتضرم تحرق) وإسناد الإِضرام إليها مجاز عقلي من الإِسناد للسبب كما علم مما تقدم.
باب النهي عن التكلف وهو فعل وقول
الواو فيه بمعنى أو (ما لا مصلحة فيه) أفرد الضمير نظراً للفظ ما (بمشقة) ظرف مستقر، حال أو صفة لفعل وما بعده أما فعل الأمر ذي المصلحة الشرعية بمشقة على النفس، لا ضرر لها في البدن أو العقل فمحمود (قال الله تعالى) لنبيه (قل ما أسالكم عليه) أي: التبليغ (من أجر) بل اسأل أجري عليه من الله تعالى (وما أنا من المتكلفين) نفى عن نفسه التكلف، إيماء إلى أن تركه محمود وفعله مذموم.
1653- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهينا عن التكلف رواه البخاري) وهو موقوف لفظاً مرفوع حكماً (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإِناء وإيكاء السقاء ... (الحديث: 96) .
(2) سورة ص، الآية: 86.
(3) أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه (13/229) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/ص باب: قوله تعالى (وما أنا من المتكلفين) (8/420) .
(5) هنا حديث في المتن سقط من نسخ الشرح.(8/489)
302- باب في تحريم النياحة على الميت ولطم الخد وشق الجيب ونتف الشعر وحلقه والدعاء بالويل والثبور
1655- عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ". وَفِي روايةٍ: "مَا نِيحَ عَلَيْهِ". متفق عليه (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب تحريم النياحة
بكسر النون وتخفيف التحتية وبالحاء المهملة، وقلبت الواو ياء فيها، وفي صيام وقيام لانكسار ما قبله (على الميت) ظرف لغو متعلق بالنياحة (ولطم الخد) قال في المصباح: هو ْمن اللحى إلى اللحى من الجانبين، وجمعه خدود. واللطم بفتح فسكون: الضرب ببطن الكف (وشق الجيب) بفتح الجيم وسكون التحتية والموحدة: مدخل الرأس من القميص (ونتف الشعر وحلقه) أو قصه أو حرقه (والدعاء بالويل والثبور) بالمثلثة والموحدة.
1655- (عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الميت) أل فيه للجنس (يعذب) بالبناء للمجهول وصلته قوله (في قبره بما نيح عليه) أي: بسبب النوح (وفي رواية ما نيح عليه) أي مدة النوح (متفق عليه) قال المصنف: رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في هذه الأحاديث، فتأولها الجمهور على من أوصى بأن يبكي عليه ويناح بعد موته، فنفذت وصيته فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم لأنه بسببه؛ ومنسوب إليه أما من بكى عليه أهله أو ناحوا بغير وصية منه، فلا يعذب. لقوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (2) وقال طائفة: محمول على من أوصي بالبكاء والنوح، أو لم يعرض بتركهما أو أهمل الوصية بتركهما، فيعذب لتفريطه بإهمال الوصية بتركهما، فأما من أوصى بتركهما فلا يعذب بهما، إذ لا صنع له فيهما ولا تفريط منه. وحاصل هذا القول: إيجاب الوصية بتركهما، ومن ْأهملها عذب بهما. وقيل إنهم كانوا ينوحون عليه بما هو محرم شرعاً، نحو يا ميتم الولدان، ومرمل النسوان، مما يرونه شجاعة وفخراً، وهو محرم شرعاً. وقيل: معناه إن الميت يعذب أو بسماعه بكاء أهله رقة عليهم وشفقة لهم، وإليه ذهب ابن جرير وغيره. وقال القاضي
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت (3/130) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، (الحديث: 17) .
(2) سورة الأنعام، الآية: 164.(8/490)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ". متفق عليه (1) .
1657- وَعَنْ أبي بُرْدَةَ، قال: وَجعَ أبو مُوسَى، فَغُشِيَ عَلَيْهِ، وَرَأسُهُ فِي حِجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أهْلِهِ، فَأَقْبَلَتْ تَصِيحُ بِرَنَّةٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئاً، فَلَمَّا أفَاقَ قَالَ: أنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِىءَ مِنْهُ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيءٌ مِنَ الصَّالِقَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عياض: هو أولى الأقوال. واحتج له بحديث فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر امرأة عن البكاء، وقال: إن أحدكم إذا بكى، استعبر له صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم". وقالت عائشة معناه: أن الكافر وغيره من أصحاب الذنوب، يعذب في حال بكاء أهله عليه بذنبه، لا ببكائهم. والصحيح من هذه الأقوال ما قدمناه عن الجمهور. وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم: أن المراد من البكاء فيه، البكاء بصوت ونياحة، لا مجرد دمع العين اهـ. ملخصاً.
1656- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا") أي: من أهل هدينا وطريقنا (من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) نحو واجملاه واكفهاه (متفق عليه) والحديث فيمن جمع الأمور الثلاثة، واجتماعها غير شرط فيما ذكر، بل أحدها مقتض للخروج عن الهدى والطريق، ويمكن جعل الواو فيه بمعنى أو.
1657- (وعن أبي بردة) بن أبي موسى الأشعري، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث. قال الحافظ في التقريب: ثقة من أوساط التابعين. مات سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك، جاوز الثمانين، خرّج عنه الجميع (قال وجع أبو موسى الأشعري) عبر به دون أبي لأنه أشهر (رضي الله عنه فغشي) بالبناء للمجهول نائب فاعله (عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله) جملة حالية من الضمير المجرور، والمرأة هي زوجته أم عبد الله صفية بنت أبي دوم، ذكره السيوطي في التوشيح (فأقبلت تصيح برنة) بفتح الراء وتشديد النون، أي: صيحة (فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً) لغلبة الإِغماء عليه (فلما أفاق) من إغمائه (قال أنا بريء) بالمد فعيل بمعنى فاعل أي: (ممن برىء) بصيغة الماضي المعلوم (منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ثم استأنف بيان من برىء منهم، استئنافاً بيانياً فقال (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريء من الصالقة)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ليس منا من شق الجيوب (3/133) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، (الحديث: 165) .(8/491)
والحَالِقَةِ، والشَّاقَّةِ. متفق عليه. "الصَّالِقَةُ": الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالنِّيَاحَةِ والنَّدْبِ. "وَالحَالِقَةُ": الَّتِي تَحْلِقُ رَأسَهَا عِنْدَ المُصِيبَةِ. "وَالشَّاقَّةُ": الَّتي تَشُقُّ ثَوْبَهَا (1)
1658- وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيهِ يَومَ القِيَامَةِ". متفق عليه (2) .
1659- وعن أُمِّ عَطِيَّةَ نُسَيْبَةَ - بِضَمِّ النون وفتحها - رضي الله عنها، قالت: أخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِندَ البَيْعَةِ أنْ لاَ نَنُوحَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالصاد ويقال بالسين المهملتين (والحالقة والشاقة، متفق عليه، الصالقة) بالصاد المهملة وبالقاف (التي ترفع صوتها بالنياحة والندب) أي: تعداد أوصاف الميت، من الصلق وهو الصوت الشديد. كما في المصباح (والحالقة التي تحلق رأسها) والمراد بالحلق الإِزالة بأي وجه كان (عند المصيبة والشاقة) بالمعجمة والقاف (التي تشق ثوبها) أي: عند المصيبة، وذلك لما في فعل هذه الأمور من التبرم من القضاء الإِلهي، والتضجر منه، وذلك سبب لاحباط الثواب وحلول العقاب.
1658- (وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من نيح) بكسر النون مبني للمجهول، نائب فاعله (عليه) ويجوز في مثله ضم النون، فتبقى الواو كما تبقى مع الاشمام أيضاً (فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة) لا يخالف الرواية السابقة فإنه يعذب بما نيح عليه، لأن السكوت عن الشيء لا ينفيه، فذكر في كل من الحديثين، عذاب أحد المنزلين. وتقدم المراد من الوعيد فيه (متفق عليه) .
1659- (وعن أم عطية) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية (نسيبة بضم النون) وفتح المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة فهاء (وفتحها) أي: النون أي: إنها تقال بالتصغير والتكبير (رضي الله عنها قالت: أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند البيعة) منه للنساء المؤمنات (أن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى من الحلق عند المصيبة (3/132) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، (الحديث: 167) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: يكره من النياحة (3/130) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، (الحديث: 38) .(8/492)
1666- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سأل رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَاسٌ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ: "لَيْسُوا بِشَيءٍ" فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أحْيَاناً بِشَيءٍ، فَيَكُونُ حَقّاً؟ فقالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مئَةَ كَذْبَةٍ". متفق عليه.
وفي رواية للبخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنَّها سمعتْ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ المَلائِكَةَ تَنْزِلُ فِي العَنَانِ (وَهُوَ السَّحَابُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والعين المهملة جعله القاضي عياض نوعاً من التنجيم، فإنه قال بعدما تقدم عنه في المنجم، ومنه العرافة، وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدّعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة اهـ. (وأصحاب الرمل) بفتح الراء وسكون الميم، وهي من طرق استكشاف المغيبات، وهو حرام كما في الروضة وغيرها (والطرق) بفتح الطاء المهملة وسكون الراء وبالقاف (بالحصى) بالمهملتين، وفي نسخة والطوارق بالحصى (وبالشعير ونحو ذلك) قال عياض: وقد كذبهم كلهم الشرع، ونهى عن تصديقهم وإتيانهم.
1666- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناس) فاعل سأل (عن الكهان فقال ليس) أي: عملهم المدلول عليه بالسياق (بشيء) أي: من الحق والصدق بدليل (قالوا يا رسول الله إنهم يحدثونا أحياناً بشيء فيكون حقاً) أي: يطابقه الواقع، ويكون على وفق أخبارهم، (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الكلمة) المشار إليه، هو ما يطابقه من الواقع حديثهم، والكلمة المراد بها هنا، المعنى اللغوي، أي: الجمل المفيدة لوصفها بقوله (من الحق) أي: الذي أوحى به الملك (يخطفها الجني) بفتح الطاء المهملة أي: يسلبها بسرعة. وقد جاء خطف، من باب ضرب، في لغة أشار إليها في المصباح (فيقرها) بفتح فضم، من قرير الدجاجة أي: فيصيرها (في أذن وليه) من الكهان (فيخلطون) بضم اللام (1) (معها مائة كذبة) بفتح الكاف وكسرها والذال ساكنة فيهما، كما تقدم في باب التوبة بما فيه (متفق عليه. وفي رواية للبخاري) أردها في باب الملائكة من صحيحه (عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب) هو تفسير
__________
(1) كذا ولعله بكسر اللام. ع.(8/497)
الخَطُّ. قالَ الجَوْهَريُّ في الصِّحَاحِ: الجِبْتُ كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الصَّنَمِ وَالكاهِنِ والسَّاحِرِ وَنَحْوِ ذلِكَ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمهملة المسددة، يأتي بيانه في حديث معاوية في الباب (قال) إسماعيل بن حماد أبو نصر (الجوهري) الإمام اللغوي المشهور في النحو واللغة والصرف. قال الفيروزأبادي: وبخطه يضرب المثل في الجودة، أصابه اختلاط ووسواس في آخر عمره، ومات بسبب غريب.
ذكرته في شرح الأندلسية في العروض. توفي سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، كما سبق مع بيان سببه في باب بيان كثرة طرق الخير (في الصحاح) قال البدر الدماميني في تحفة الغريب: وهو بفتح الصاد اسم مفرد بمعنى الصحيح والجاري على ألسنة كثير، كسرها على أنه جمع صحيح، وبعضهم ينكره بالنسبة لتسمية الكتاب، ولا أعرف له مستنداً. فالمعنيان مستقيمان فيه، إلا إن ثبتت رواية من مصنفه أنه بالفتح فيصار إليها البتة. ومما وقع لي قديماً، أني احتجت إلى استعارته من بعض الرؤساء فكتبت إليه:
مولاي إن وافيت بابك طالبا ... منك الصحاح فليس ذاك بمنكر
البحر أنت وهل يلام فتى أتى ... للبحر كي يلقى صحاح الجوهر
اهـ. ملخصاً. الفيروزأبادي: صنف الصحاح للأستاذ أبي منصور السبكي، ورسمه من أوله إلى باب الضاد المعجمة، ثم اعتراه اختلاط ووسوسة فمات، وبقي الصحاح غير منقح، فنقحه وبيضه أبو إسحاق صالح الوراق، وكان الغلط في النصف الأخير أكثر اهـ. وقد كمل عليه الصغاني في أربع مجلدات وقال فيه:
ما أهمل الجوهري من لغة ... إلا وفي ذيله وحاشيته
توجه الله يوم يبعثه ... بتاج رضوانه ومغفرته
(الجبت) بكسر الجيم وسكون الموحدة بعدها فوقية (كلمة تقع) أي: تطلق (على الصنم) ومنه قوله تعالى في حق أهل الكتاب (يؤمنون بالجبت والطاغوت) (2) (والكاهن والساحر ونحو ذلك) من العراف والمنجم، قال: وليس من محض العربية، لاجتماع الجيم والباء في كلمة واحدة من غير حرف ذلقي.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: في الخط وزجر الطير، (الحديث: 3907) .
(2) سورة النساء، الآية: 51.(8/500)
1669- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
"مَنِ اقْتَبَسَ عِلْماً مِنَ النُّجُوم، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ ما زَادَ". رواه أبو داود بإسناد صحيح (1) .
1670- وعن مُعاوِيَةَ بنِ الحَكَمِ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسُولَ اللهِ إنِّي حديثُ عَهْدٍ بالجاهِليَّةِ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ تَعَالَى بالإسْلاَمِ، وإنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأتُونَ الكُهَّانَ؟ قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1669- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اقتبس علماً) قال في القاموس أي: استفاده (من النجوم) أي: ما ينشأ من الحوادث عن مسيرها، أما علم الوقت والقبلة فليسا مرادين هنا البتة، لأنهما فرضا كفاية تارة وعين أخرى؛ (اقتبس شعبة) بضم المعجمة وسكون المهملة أي: قطعة (من السحر) أي: وهو من باب الكبائر، وقد يكون كفراً (زاد) أي: من السحر (ما زاد) أي: من علم النجوم. قال الخطابي علم النجوم المنهي عنه: هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث، التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وتغير السعر، وما في معناها، مما يزعمون إدراكه من الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، ويدعون أن لها تأثيراً في السفليات، وأنها تجري على ذلك وهذا منهم، تحكم على الغيب وتعاط لعلم، قد استأثر الله تعالى، به لا يعلم الغيب سواه. وأما علم النجوم الذي يدرك بالمشاهدة والخبر، كالذي يعرف به الزوال، ويعلم به جهة القبلة، فغير داخل فيما نهى عنه، لأن مدار ذلك على ما يشاهد من الظل في الأول، والكواكب في الثاني اهـ. ملخصاً. (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه. وقال الذهبي في مختصر سنن البيهقي: إنه حديث صحيح.
1670- (وعن معاوية بن الحكم) بفتح المهملة والكاف، السلمي: بضم المهملة وفتح اللام، الصحابي: تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الوعظ (قال قلت يا رسول الله إني حديث عهد) من إضافة الصفة لموصوفها، أي: ذو عهد قريب (بجاهلية) هي ما قبل الإِسلام، سميت بذلك لكثرة ما فيها من الجهالات (وقد جاء الله تعالى بالإِسلام) معطوفة على ما قبلها، أو حالية (وإن منا رجالاً يأتون الكهان) أي: يعرفون منهم أموراً مغيبات (قال
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: في النجوم، (الحديث: 3905) .(8/501)
وَيُعْجِبُني الفَألُ" قالُوا: وَمَا الفَألُ؟ قَالَ: "كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ". متفق عَلَيْهِ (1) .
1673- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ. وإنْ كَانَ الشُّؤمُ في شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ، وَالمَرْأَةِ، والفَرَسِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفتح التحتية: اسم من التطير، وهي: بمعنى النهي أي: يتطيروا من شيء من السوانح والبوارح وغيرهما، مما يعتاد التطير منه (ويعجبني الفأل) قال في المصباح: بهمزة ساكنة ويجوز التخفيف (قالوا وما الفأل) أي: الذي يعجبك لنفرح به اتباعاً (قال كلمة طيبة) وفي رواية لمسلم وأحمد من حديث أبي هريرة "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" قال في المصباح: هو أن تسمع كلاماً حسناً، فتتيمن به. وإن كان قبيحاً فهو الطيرة. وجعل أبو زيد الفأل: في سماع الكلامين اهـ. قلت ويشهد له قوله في رواية "الفأل الحسن". (متفق عليه) وفي الجامع الكبير: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الحسن". والفأل الصالح: الكلمة الطيبة. رواه الطيالسي وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة: عن أنس. وفيه حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر". الحديث. رواه أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة. وفيه حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، قيل يا رسول الله البعير يكون به الجرب". الحديث. ورواه أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر وفيه حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ألم ترو إلى الإِبل، تكون في الصحراء" الحديث.
ورواه الشيرازي في الألقاب والطبراني وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر من حديث عمير بن سعد الأنصاري وماله غيره، ونفي العدوى والطيرة أورده في الجامع الكبير في عدة أحاديث، وفي استيعابها طول.
1673- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا عدوى ولا طيرة) يجوز في مجموعها الوجوه الخمسة المعروفة في نحو لا حول ولا قوة إلا بالله (وإن كان الشؤم) بضم المعجمة وسكون الهمزة وقد تسهل ضد اليمن (في شيء ففي الدار والمرأة والفرس) خصها بالذكر لطول ملازمتها، ولأنها أكثر ما يستطير به الناس، فمن وقع في نفسه منها شيء، تركه واستبدل به غيره. وقال بعضهم شؤم المرأة إذا كانت غير ولود، وشؤم الفرس إذا لم يغز عليها، وشؤم الدار جار السوء. ويؤيده حديث الطبراني: "شؤم الدار ضيق
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: الفأل (10/181) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: الطيرة والفأل، وما يكون فيه من الشؤم، (الحديث: 111) .(8/504)
متفق عَلَيْهِ (1) .
1674- وعن بُريْدَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَتَطَيَّرُ. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (2) .
1675- وعن عُروة بن عامر - رضي الله عنه -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ساحتها، وخبث جيرانها، وشؤم الدابة منعها ظهرها، وشؤم المرأة عقر رحمها وسوء خلقها". وللحاكم "ثلاث من الشقاء: المرأة تراها تسوءك أو تحمل لسانها عليك، والدابة تكون قطوفاً فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحق أصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق" وقال ابن العربي: لم يرد إضافة الشؤم إليها فعلاً، وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها، فأشار إلى أثر ينبغي للمرء المفارقة لها صيانة، لاعتقاده عن التعليق بالباطل، زاد غيره وإراحة للقلب من تعذيبه لها. "فائدة" قال السيوطي في التوشيح: زاد ابن ماجه والدارقطني في الغريب من حديث أم سلمة والسيف (متفق عليه) .
1674- (وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطير) أي: من شيء، كما يؤذن به حذف المعمول (رواه أبو داود) في التطير من سننه (بإسناد صحيح) رواه عن مسلم بن إبراهيم عن هشام عن كهمس بن الحسن القيسي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه. ورواه النسائي أيضاً في السير من سننه، عن أبي مثنى عن معاذ بن هشام عن أبيه بسنده المذكور.
1675- (وعن عروة) بن عامر المكي قال الحافظ في التقريب: اختلف في صحبته، له أحاديث في الطيرة. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. خرّج حديثه أصحاب السنن وكتب بهامش نسخته من الغابة أنه تابعي. وفي أسد الغابة بعد ذكره في الصحابة، قال أبو أحمد العسكري: عروة بن عامر الجهني، روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ذكرناه بعروة اهـ. وفي مختصر كتابي المراسل، لابن أبي حاتم الرازي، وجامع التحصيل، في أحكام المراسيل للحافظ العلائي، الذي اختصره المرشدي، عروة بن عامر، عن ابن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول روى الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن عامر قال: سئل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: الطيرة (10/180، 181) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، (الحديث: 115 و116 و118) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: في الطيرة، (الحديث: 3920) .(8/505)
قال: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "أحْسَنُهَا الفَألُ. وَلاَ تَرُدُّ مُسْلِماً فإذا رَأى أحَدُكُمْ ما يَكْرَهُ، فَليْقلْ: اللَّهُمَّ لاَ يَأتِي بِالحَسَناتِ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ" حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح (1) .
305- باب في تحريم تصوير الحيوان في بساط أو حجر أو ثوب أو درهم أو مخدة أو دينار أو وسادة وغير ذلك وتحريم اتخاذ الصور في حائط وسقف وستر وعمامة وثوب ونحوها والأمر بإتلاف الصورة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطيرة فقال: "اصدقها الفأل". قال البغوي: لا أدري أله صحبة أم لا.
وقال أبي هو: تابعي، روى عن ابن عباس وعبيد بن رفاعة. قلت ذكره غير واحد في الصحابة اهـ. قلت وكان مستند المصنف إذا قال رضي الله عنه الظاهر في أنه صحابي (قال ذكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحسنها الفأل) لما فيه من حسن الظن بالله عز وجل، عن الأصمعي قال: سألت ابن عوف عن الفأل قال: هو أن يكون مريضاً، فيسمع يا سالم، أو يكون طالباً فيسمع يا واجد، قال في النهاية: فيقع في ظنه أنه يبرأ من علته ويجد ضالته.
وإنما أحب - صلى الله عليه وسلم - الفأل الحسن، لأن الناس إذا أملوا فائدة الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي، فهم على خير، ولو غلطوا في جهة الرجاء، فإن الرجاء لهم خير، وإذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر. وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله، وتوقع البلاء. والطيرة في هذا الخبر بمعنى الجنس، والفأل بمعنى النوع اهـ. ملخصاً (ولا ترد مسلماً) نفي بمعنى النهي، أي: شأن المسلم ألا يرجع عما عزم عليه من أجلها، لعلمه أن لا أثر لغير الله تعالى أصلاً (فإذا رأى) أي: علم (أحدكم ما يكره) مما يتطير به (فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات) المكروهات للأنفس (إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك حديث حسن صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح) رواه في الطب عن أحمد بن حنبل، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة.
باب تحريم تصوير الحيوان
أل فيه للجنس (في بساط أو حجر أو ثوب أو درهم أو دينار أو مخدة) بكسر الميم
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: الطيرة (الحديث: 3919) .(8/506)
1676- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الَّذينَ يَصْنَعُونَ هذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ". متفق عليه (1) .
1677- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قَدِمَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ سَفَرٍ، وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرامٍ فِيهِ تَمَاثيلُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلَوَّنَ وَجْهُهُ، وقالَ: "يَا عائِشَةُ، أشَدُّ النَّاسِ عَذَاباً عِندَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللهِ! " قَالَتْ: فَقَطَعْنَاهُ فَجَعَلْنَا مِنهُ وِسَادَةً أوْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفتح المعجمة: ما توضع تحت الخد (أو وسادة) بكسر الواو قال في المصباح: هي المخدة. والجمع جمع وسادات ووسائد، فعطفها على ما قبلها من عطف الرديف (وغير ذلك وتحريم اتخاذ الصورة في حائط) بالمهملة بناء (وسقف) معروف، وجمعه سقوف، كفلس وفلوس، وسقف بضمتين أيضاً. وهذا فعل جمع على فعل بضمتين، وهو نادر وقال الفراء: إنه جمع سقيف مثل بريد وبرد (وستر وعمامة) بكسر المهملة جمعها عمائم (وثوب ونحوها) من كان ما فيه تعظيم للمرفوع (والأمر بإتلاف الصورة) مطلقاً، بكسرها إن كانت من نحو حجر أو خشب، وشقها إن كانت بنحو ثوب.
1676- (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الذين يصنعون هذه الصور) أي: صور ذات الروح، كما يدل عليه قوله (يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم) والجملة الثاني يحتمل كونها تفسيراً للتعذيب، أي: يبكتون ويلزمون بإحياء ما صوروه، ولا قدرة لهم على ذلك البتة، ويحتمل أن يكون خبراً بعد خبر، أو حالاً من مرفوع الفعل قبله (متفق عليه) .
1677- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت سهوة لي) جملة حالية (بقرام فيه تماثيل) أي: أمثال ذي روح (فلما رآه) أي: أبصره (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلون وجهه وقال: يا عائشة أشد الناس) أي: من أشد الموحدين عذاباً، أو أشد الكفار، لجمعه بين الكفر والتصوير، (عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله) أي: بما يكون بتصويرهم خلق الله (قالت: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: عذاب المصورين (10/323) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 97) .(8/507)
وِسَادَتَيْنِ. متفق عليه.
"القِرامُ" بكسرِ القاف هو: السِّتْرُ. "وَالسَّهْوَةُ" بفتح السينِ المهملة
وهي: الصُّفَّةُ تَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ البَيْتِ، وقيلَ: هِيَ الطَّاقُ النَّافِذُ في الحائِطِ (1) .
1678- وعن ابن عباس رضي اللهُ عنهما، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "كُلُّ مُصَوِّرٍ في النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ فَيُعَذِّبُهُ في جَهَنَّمَ". قال ابن عبَّاسٍ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وسادتين) أي: وزال به الصورة المحرمة، إن كان بقاؤها مطلقاً، يمنع من دخول ملائكة الرحمة، لأن ذلك لا يرضى به - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان لا تحريم باستعمال الصورة في ممتهن، وإن كان المانع من دخولهم، اتخاذ الصورة على الوجه المحرم، بأن ترفع ما هي فيه على جدار.
أو سقف، فلا يحتاج إلى أن يقيد حديثها بإزالة الصورة المحرمة، لأنها حينئذ اتخذت للامتهان. واتخاذ الصور كذلك جائز. والحديث سبق بطوله في باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع (متفق عليه. القرام بكسر القاف) وتخفيف الراء (وهو الستر والسهوة بفتح السين المهملة) وسكون الهاء (وهي الصفة) بضم المهملة وتشديد الفاء: البيت أمام البيت.
كما قال المصنف (تكون بين يدي البيت وقيل: هي الطاق النافذ في الحائط) فإن لم يكن نافذاً فهي المشكاة.
1678- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل مصور في النار) أي: إن استحل ذلك، مع علمه بتحريمه والإجماع عليه، وإنه من المعلوم من الدين بالضرورة. أو هذا جزاؤه إن لم يكن كذلك، وهو كغيره من سائر الكبائر، تحت خطر المشيئة (يجعل له بكل صورة) أي: بسببها أو بدلها (صورها نفس فيعذبه) أي: الله (في جهنم) الظاهر أن المراد بإيراد النار، الشامل لسائر طباقها، لا خصوص الطبقة الأخرى (2) المعدة للمنافقين، هذا على أن يعذب بالتحتية، ويحتمل أن يكون بالفوقية، وإسناد التعذيب إلى النفس مجاز عقلي (قال ابن عباس) لمن قال له إنه لا يعرف من الحرف غير التصوير
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب ما وطىء من التصاوير (10/325) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 92) مطولاً.
(2) قوله (بإيراد) لعله (التعذيب بإيراد) ، وقوله (الأخرى) لعله (الأخيرة) . ع.(8/508)
فإنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً، فَاصْنعِ الشَّجَرَ وَمَا لاَ رُوحَ فِيهِ. متفق عليه (1) .
1679- وعنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا، كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَومَ القِيَامَةِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ". متفق عليه (2) .
1680- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَومَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ". متفق عليه (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فإن كنت لا بد) أي: لا محالة (فاعلاً) أي: التصوير (فاصنع الشجر وما لا روح فيه) كالجبال والأرض والأمكنة (متفق عليه) .
1679- (وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من صور صورة في الدنيا) أي: من ذوات الروح (كلف) تعجيزاً له (أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة) ولما كان تكليفه بذلك، ربما يوهم إمكان ذلك منه، نفاه مؤكداً للنفي بالباء المزيدة، فقال: (وليس بنافخ متفق عليه) .
1680- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أشد الناس عذاباً) أتى بالمؤكد هنا تأكيداً لمضمونه عند السامع، وتركه من حديث عائشة، كأنه كان ذلك أول ما أعلمهم به، فكان ابتداء، ولما اقتضى المقام التأكيد، لوجود من وقع منه سبب الوعيد السابق، وكان حاله كالمنكر، أتى به والله أعلم. (يوم القيامة) ظرف لعذابا (عند الله) كذلك، والعندية للمكانة لا للمكان، ففيه إيماء إلى عظم ذلك العذاب (المصورون) أي: لذي روح (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: بيع التصاوير وكذلك أخرجه في باب: التصاوير من كتاب اللباس (4/345) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صور الحيوان ... (الحديث: 99) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: من صور صورة كلف ... الخ (10/330) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 100) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: عذاب المصورين يوم القيامة (10/321، 322) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم ... (الحديث: 98) .(8/509)
1681- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قال اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي! فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً". متفق عليه (1) .
1682- وعن أبي طلحة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَدْخُلُ المَلاَئِكَةُ بَيْتاً فيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ". متفق عليه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1681- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى ومن أظلم) أي: لا أظلم (ممن ذهب يخلق كخلقي) أي: باعتبار التصوير والتقدير وإلا فالخلق الذي هو الإِيجاد، لا يكون من غيره تعالى أصلاً (فليخلقوا ذرة) بفتح المعجمة وتشديد الراء: أي نملة، وصحفه بعض الرواة فضم المعجمة وخف الراء وغير قوله بعد (أو ليخلقوا حبة) أي: من القمح (أو ليخلقوا شعيرة) لأنها من أنواع الحبوب وأو: فيه للتنويع واللام بعد الفاء يجوز إسكانها تخفيفاً، وكسرها وهو الأصل، وفي هذه المواضع، اللام على سبيل التعجيز والتبكيت، تارة بتكليفهم خلق حيوان وهذا أشد، وأخرى في تكليفهم بخلق جماد، وهو أهون ومع ذلك لا قدرة لهم على ذلك (متفق عليه) ورواه أحمد.
1682- (وعن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تدخل الملائكة) أي: ملائكة الرحمة، إذ الحفظة لا يفارقون بسبب ذلك (بيتاً) ومثله باقي الأمكنة غير البيت (فيه كلب) قال الشيخ ولي الدين العراقي، قيل: حكمته أنه لما نهى عن اتخاذها ثم اتخذها، عوقب بتجنب الملائكة صحبته، غضباً عليه لمخالفة الشرع، فحرم بركتها واستغفارها وإعانتها له على طاعة الله تعالى، وعلى هذا فلا تمتنع الملائكة من دخول بيت فيه كلب، أذن في اتخاذه بناء على أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه. وقيل: ذلك لنجاستها، وهم المطهرون المقدسون على مقاربتها. وقيل: لأنها من الشياطين على ما ورد، والملائكة أعداؤهم في كل حال. وقيل: لقبح رائحتها وهم يكرهون الرائحة الخبيثة، ويحبون الرائحة الطيبة (ولا صورة) ظاهر عمومه متناول للصورة المحرمة وغيرها، ولاتخاذ المحرم وغيره، ويحتمل التخصيص بالمحرم منها، على أن العلة في عدم دخولها عصيان المخالف بالاتخاذ لها بعد النهي عنه (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: نقض الصور (10/324) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 101) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: التصاوير (10/328) . =(8/510)
1683- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: وَعَدَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جِبْرِيلُ أنْ يَأتِيَهُ، فَرَاثَ عَلَيْهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ فَلَقِيَهُ جِبريلُ فَشَكَا إلَيهِ، فَقَالَ: إنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. رواهُ البُخاري.
"راث": أبْطَأَ، وهو بالثاء المثلثة (1) .
1684- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: واعدَ رسولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم -، جبريلُ عليهِ السَّلامُ، في سَاعَةٍ أنْ يَأتِيَهُ، فَجَاءتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأتِهِ! قَالَتْ: وَكَانَ بِيَدِهِ عَصاً، فَطَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: "ما يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلاَ رُسُلُهُ" ثُمَّ التَفَتَ، فإذَا جَرْوُ كَلْبٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1683- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قدم المفعول به على فاعله، اهتماماً (جبريل عليه السلام أن يأتيه) أي: في وقت معين (فراث عليه) وأطال التأخر (حتى اشتد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: نفس تأخره أو ما لحقه لذلك من الهم (فخرج فلقيه جبريل) أي: عقب خروجه كما يومىء إليه (فشكا) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لقي من تأخره، عن الوقت الذي وعد المجيء فيه (إليه فقال إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة) يؤخذ من، حديث القرام السابق، ما يزيد تخصيص امتناعها بالاتخاذ المحرم للصورة المحرمة عقوبة له، إذا فعل ذلك، بمنعهم من بركتهم (رواه البخاري) في أبواب الملائكة (راث أبطأ) وألفه منقلبة عن ياء وهو من باب باع (وهو بالمثلثة) أي: ومصدره: ريث بفتح فسكون للتحتية.
1684- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: واعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام) فاعل، مؤخر عن المفعول المقدم للاهتمام (أن يأتيه في ساعة فجاءت تلك الساعة ولم يأته قالت: وكان بيده عصا) جملة معطوفة على واعد أو حال من فاعله (فطرحها) أي: ألقاها (من يده وهو يقول) جملة حالية من الضمير المضاف إليه بعضه (ما يخلف الله وعده) أي: لأحد من خلقه. ثم هو مخصوص بالخير، ويقال في الشر وعيد (ولا رسله) ويسكن الثاني تخفيفاً، جمع رسول ودخل فيهم الملائكة. قال تعالى: (جاعل الملائكة رسلاً) (2) (ثم التفت فإذا جرو) بالجيم والراء بوزن قنو (كلب) قال في المصباح: الجرو بالكسر ولد الكلب والسباع.
__________
= وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه ... (الحديث: 83 و84) .
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة (10/329) .
(2) سورة فاطر، الآية: 1.(8/511)
تَحْتَ سَرِيرِهِ. فقالَ: "مَتَى دَخَلَ هَذَا الكَلْبُ هَهُنا؟ " فَقُلْتُ: واللهِ مَا دَرَيْتُ بِهِ، فَأمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءهُ جِبْرِيلُ - عليه السلام -، فقال رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وَعَدْتَنِي، فَجَلَسْتُ لَكَ وَلَمْ تَأتِني" فقالَ: مَنَعَنِي الكَلْبُ الَّذِي
كانَ في بَيْتِكَ، إنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. رواه مسلم (1) .
1685- وعن أبي الهَيَّاجِ حَيَّانَ بِن حُصَيْنٍ، قال: قال لي عَليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ألاَ أبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والفتح والضم لغة فيه. قال ابن السكيت: والفتح أفصح. قال في البارع: الجرو الصغير من كل شيء (تحت سريره فقال متى دخل هذا الكلب فقلت والله ما دريت به) هو ظاهر في أن ذلك كان في بيتها (فأمر به) بالبناء للفاعل (فأخرج) بالبناء للمفعول وحذف المفعول به في الأولى، والفاعل في الثانية، لعدم تعلق العناية بقصته؛ (فجاءه جبريل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدتني) أي: الساعة المعينة (فجلست لك) أي: منتظراً لك أو لأجلك؛ فالظرف على الأول مستقر حال، وعلى الثاني صلة جلس (ولم تأتني فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك) هذا يؤيد الاحتمال الثاني السابق، في كلام الولي العراقي" من أنهم لا يدخلون البيت الذي فيه كلب، وإن لم يعص أهله باتخاذه، لأنه إذا منع وجوده من دخولهم البيت، مع ولوجه عن غير علم، فلأن يمنع منه مع العلم بالأولى. وإن كان نقص الثواب الآتي في حديث الباب بعده مقيداً باتخاذه، في غير ما أذن فيه، لأن ذلك أقوى من هذا؛ فاعتبر فيه قوة المخالفة عن قصد. والله أعلم (إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة) أي يحرم تصويرها، أو اتخذت على وجه يحرم اتخاذها لما تقدم (رواه مسلم) .
1685- (وعن أبي التياح) بفتح الفوقية وتشديد التحتية آخره مهملة (حيان) بفتح المهملة وتشديد التحتية (ابن حصين) بضم المهملة الأولى، وفتح الثانية، وسكون التحتية، آخره نون. أبو الهياج بالتحتية والجيم: الأسدي الكوفي. قال الحافظ: ثقة من أوساط التابعين (قال قال لي علي) بن أبي طالب (رضي الله عنه ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح (أبعثك على ما) أي: الذي (بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ثم أبدل من الموصول قوله
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر، (الحديث: 93) .(8/512)
أن لاَ تَدَعَ صُورَةً إلاَّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْراً مُشْرفاً إلاَّ سَوَّيْتَهُ. رواه مسلم (1) .
306- باب في تحريم اتخاذ الكلب إلا لصيد أو ماشية أو زرع
1686- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْباً إلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أوْ مَاشِيَةٍ فَإنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أجْرِهِ كُلَّ يَومٍ قِيرَاطَانِ". متفق عليه.
وفي رواية: "قِيرَاطٌ" (2) .
1687- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أمْسَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ألا تدع صورة) أي: على عدم ترك صوره محرمة (إلا طمستها) أي: أزلتها إزالة للنكر باليد (ولا قبراً مشرفاً) بصيغة المفعول (إلا سويته) أي: بالأرض (رواه مسلم) ففيه أن التصوير للصورة المحرمة من المنكرات، الذي على ولاة الأمور إزالتها. والله أعلم.
باب تحريم اتخاذ الكلب إلا لصيد أو ماشية أو زرع
أي: لحراسة، ومثله حراسة الدار لمن احتاج إليه لها، ويشملها قوله في رواية مسلم الآتية ولا أرض.
1686- (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من اقتنى) افتعال من القنية، وهي اتخاذ الشيء لا للتجارة فيه (كلباً إلا كلب صيد أو ماشية) أي: يحرم اقتناؤه إلا لصيد الخ. بدليل رواية مسلم الآتية، عن أبي هريرة وفيها "ليس بكلب صيد" الخ قال في المصباح، قال ابن السكيت جماعة: الماشية المال من الإبل والغنم. وبعضهم يجعل البقر من الماشية (فإنه ينقص من أجره) أي: أجر عمله (كل يوم قيراطان متفق عليه) ورواه بنحوه مالك وأحمد والترمذي وصححه النسائي (وفي رواية) لمسلم (قيراط) .
1687- (وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أمسك) أي: على
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر، (الحديث: 93) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الذبائح، باب: من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد (9/525) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه وبيان تحريم ... (الحديث: 50) .(8/513)
307- باب في كراهية تعليق الجرس في البعير وغيره من الدواب وكراهية استصحاب الكلب والجرس في السفر
1688- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَصْحَبُ المَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ أوْ جَرَسٌ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القيراط باعتبار قلتها، وقيل القيراطان لمن اتخذها بالمدينة النبوية خاصة، والقيراط بما عداها. وقيل: القيراطان للمدن، والقيراط للبوادي، وهو ملتفت لمعنى كثرة البادي وقلته. واختلف في القيراطين المذكورين في صلاة الجنازة واتباعها. فقيل: نعم، وقيل: ما: في الجنازة من باب الفضل. وما: هنا من باب العقوبة، وباب الفضل أوسع من غيره اهـ. ملخصاً.
باب كراهية تعليق الجرس
بفتح الجيم والراء والسين المهملة: جلاجل معروفة. هذا المشهور في ضبطه. وقاله الجوهري: وقيل: إنها كذلك رواية الأكثرين. قال وضبطناه عن أبي بحر بسكون الراء وهو اسم للصوت، وأصل الجرس الصوت الخفي، جمعه أجراس كسبب وأسباب (في البعير) هو كالإِنسان في وقوعه على الذكر منه والأنثى (وغيره من الدواب) جمع دابة والمراد منها هنا ذات الحافر. قال السيوطي: قيل إنما كره لأنه يدل على أصحابه بصوته، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب أن لا يعلم العدو به، حتى يأتيهم فجأة. ذكره في النهاية اهـ. (وكراهة استصحاب الكلب والجرس في السفر) الظرف في محل الحال من كراهة المعطوف والمعطوف عليه، أي: كائنين فيه، والكراهة تنزيهية. كما يدل عليه إطلاقها عن التقييد بالتحريم والسفر معروف، سمي به لأنه يسفر عن أخلاق الرجال كما تقدم.
1688- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصخب الملائكة) أي: ملائكة الرحمة، قال الولي العراقي: يحتمل لا تصحبهم مطلقاً، ويحتمل لا تصحبهم بالكلاءة، أي: والحفظ والاستغفار من قولهم اللهم أنت الصاحب في السفر (رفقة) بتثليث الراء، وفي المصباح الرفقة: الجماعة ترافقهم في سفرك، فإذا تفرقتم زال اسم الرفقة، وهي بضم الراء في لغة تميم. والجمع رفاقة كبرمة وبرامة وكسرها في لغة قيس وجمعها رفق كسدرة وسدر (فيها كلب) أي: ليس مأذوناً في اتخاذه (ولا جرس) قال المصنف في المناسك: وينبغي لمن رأى ذلك وعجز عنه، أن يقول اللهم إني أبرأ إليك مما فعله هؤلاء،(8/515)
رواه مسلم (1) .
1689- وعنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الجَرَسُ مِنْ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ". رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم (2) .
308- باب في كراهة ركوب الجَلاَّلة وهي البعير أو الناقة التي تأكل العَذِرَة فإنْ أكلت علفاً طاهراً فطاب لَحمُهَا، زالت الكراهة
1690- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: نهَى رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الجَلاَّلَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فلا تحرمني ثمرة صحبة ملائكتك وبركتهم (رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: رواه أحمد وابن أبي شيبة أبو داود الترمذي وابن حبان.
1689- (وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الجرس من مزامير الشيطان رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم) قال السيوطي: الجرس الجلجل الذي يعلق على الدواب. قال ابن رسلان: هذا الحديث يدل على أن سبب الكراهة، كونه مزمار الشيطان. وعلى هذا فمن سمعه عليه وضع أصبعيه في أذنيه، لئلا يسمعه؛ وقد صرح أصحابنا بأن من كان بجواره آلات محرمة، عجم عن إزالتها، إنما يحرم عليه استماعها لإسماعها من غير قصد فكذا هنا.
باب كراهة ركوب الجلالة
بفتح الجيم وتشديد اللام الأولى وتخفيف الثانية (وهي البعير) الاسم العام كما تقدم، ويحتمل أن يراد به الجمل لمقابلته بقوله (أو الناقة) وهي الأنثى من الإِبل (التي تأكل العذرة) بفتح المهملة وكسر المعجمة. قال في المصباح: ولا يعرف تخفيفها وهي الخرء وهي مثال، فأكل غيرها من النجاسات كذلك؛ ومحل الكراهة إن اعتادت ذلك وظهر عليها ريحه، (فإن أكلت) بعد النجاسة (علفاً) بفتح المهملة واللام (طاهراً فطاب لحمها) وزال ريح النجاسة (زالت الكراهة) لزوال سببها.
1690- (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة في الإِبل)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: كراهة الكلب والجرس في السفر، (الحديث: 103) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: كراهة الكلب والجرس في السفر، (الحديث: 104) .(8/516)
في الإبِلِ أنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا. رواه أبو داود بإسناد صحيح (1) .
309- باب في النهي عن البصاق في المسجد والأمر بإزالته منه إذا وجد فيه والأمر بتنزيه المسجد عن الأقذار
1691- عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البُصاقُ في المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا". متفق عليه. والمرادُ بِدَفْنِهَا إذَا كَانَ المَسْجِدُ تُرَاباً أوْ رَمْلاً ونَحْوَهُ، فَيُوَارِيهَا تَحْتَ تُرَابِهِ. قالَ أبُو المحاسِنِ الرُّويَانِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بكسر أوليه وتسكين ثانيهما تخفيفاً (أن يركب عليها) بدل اشتمال من الجلالة (رواه أبو داود بإسناد صحيح) وكذا رواه الحاكم في المستدرك، وآخر الحديث: "وإنه شرب من ألبانها". والحديث صححه المصنف في المناسك، وقال فيه للحديث الصحيح فذكره.
باب النهي عن البصاق
بضم الموحدة وبالصاد المهملة وبالزاي. قال ابن النحوي في لغات المنهاج ثلاث لغات بمعنى واحد، والسين غريبة. قال المصنف في شرح المهذب: وقد أنكرها بعض أهل اللغة، وإنكاره باطل، فقد نقلها الثقات، وثبتت في الحديث الصحيح (في المسجد والأمر) معطوف على النهي، والأمر للندب (بإزالته منه إذا وجد فيه) أى: منه أو من غيره. (والأمر بتنزيه المسجد عن الأقذار) وجوباً عن القذر النجس أو المقذر للمكان كنحو ماء غسل، وأكل طعام يتلوث منه المكان، وندبا فيما ليس كذلك.
1691- (عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: البصاق في المسجد خطيئة) أي: معصية (وكفارتها) أي: تكفير دوام إثمها (دفنها) أما أصل الفعل فلا يكفره إلا التوبة، أو فضل الله سبحانه، أو عمل صالح. إذ هو من الصغائر (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (والمراد بدفنها) أي: المكفر لما ذكر (إذا كان المسجد تراباً أو رملاً أو نحوه) أفرد الضمير لكون مرجعه معطوفاً بأو، التي هي لأحد الشيئين (فيواريها) من المواراة وهي التغيب (تحت ترابه قال أبو المحاسن الروياني) بضم الراء وسكون الواو بلا همزة قال في
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في ركوب الجلَّالة، (الحديث: 2558) .(8/517)
310- باب في كراهة الخصومة في المسجد ورفع الصوت فيه ونشد الضالة والبيع والشراء والإجارة ونحوها من المعاملات
1694- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّه سمعَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً في المَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لاَ رَدَّها اللهُ عَلَيْكَ، فإنَّ المَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهذَا". رواه مسلم (1) .
1695- وعنه: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا رَأيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب كراهة الخصومة
بضم المعجمة والمهملة (في المسجد ورفع الصوت فيه) أي: ولو بالذكر. ومحله إن حصل منه تشويش على نائم أو مصل أو نحوه ولم يشتد به ضرره، وإلا فيحرم (ونشد الضالة) أي: السؤال عنها، والنشد مصدر نشد من باب قتل والاسم منه النشدة والنشدان بكسر نونيهما (والبيع والشراء والإِجارة ونحوها من المعاملات) لأن هذه أمور دنيوية، والمساجد إنما هي للدينيات والتعبدات، وليست منها، وخرج بالمعاملات، النكاح، فيستحب جعله في المسجد، لحديث الترمذي: "اعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد".
1694- (عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سمع رجلاً ينشد) بضم المعجمة أي: يطلب (ضالة) في المصباح: الضالة بالهاء تقال للحيوان الضائع، ذكراً كان أو أنثى، والجمع الضوال كدابة ودواب. ويقال لغير الحيوان ضائع اهـ. وظاهر أن المراد بها في الحديث: ما يعم الحيوان وغيره (في المسجد) صلة ينشد (فليقل) ندباً (لا ردها الله عليك) وقوله (فإن المساجد لم تبن) بصيغة المجهول (لهذا) أي: النشد جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً محتملة، لكونها علة الأمر بالقول المذكور، فيقتصر منه على قوله عليك. ويحتمل أنه مما يقال للناشد كالبيان لسبب الدعاء عليه، إذ أوقع الشيء في غير محله. وحديث الترمذي بعده مؤيد للاحتمال الأول (رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
1695- (وعنه رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا رأيتم) أي: أبصرتم، ويلحق به
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد، (الحديث: 79) .(8/520)
أَوْ يَبْتَاعُ في المَسْجِدِ، فَقُولُوا: لا أرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فَقُولُوا: لا رَدَّهَا الله عَلَيْكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1696- وعن بُريَدَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً نَشَدَ في المَسْجِدِ فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الجَمَلِ الأَحْمَرِ؟ فَقَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا وَجَدْتَ؛ إنَّمَا بُنِيَتِ المََسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ". رواه مسلم (2) .
1697- وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّهِ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَن الشِّراءِ والبَيْعِ في المَسْجِدِ، وَأنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
علم الأعمى ومن في ظلمة بذلك. (من يبيع أو) للتنويع (يبتاع) أي: يشتري (في المسجد) تنازعه ما قبله فيعمل فيه الثاني، وحذف معمول الأول لدلالة هذا عليه فأل في المسجد للجنس (فقولوا) ندباً (لا أربح الله تجارتك) أي: لا أوقع الله فيها الربح لكونك أتيت بها في محل المتاجر الأخروية، دون محلها من الأسواق وخارج المساجد (وإذا رأيتم من ينشد ضالة) أي: في المسجد. وفي الجامع بلفظ "وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة" لدلالة السياق والسباق عليه (فقولوا) ندباً (لا ردها الله عليك رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال السيوطي: ورواه الحاكم في المستدرك.
1696- (وعن بريدة رضي الله عنه أن رجلاً) لم أقف على من سماه (نشد في المسجد) بفتح النون المعجمة أي: طلب (ضالة فقال: من دعا إليّ) بتشديد الياء، قال الحافظ معناه من تعرف إلى (الجمل الأحمر) مفعول دعا (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا وجدت) دل مع حديث أبي هريرة قبله، أن المطلوب لمن سمع الناشد عن الضالة في المسجد أن يدعو عليه بأن لا يلقاها. ويحتمل الاقتصار على أحد اللفظين الواردين (إنما بنيت المساجد لما) أي: الذي (بنيت له) أي: من الصلاة والذكر ونشر العلم (رواه مسلم) .
1697- (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه) شعيب (عن جده) أبي شعيب وهو عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشراء و) عن (البيع) الكائنين (في المسجد) لأنها لم تبن لذلك (و) نهى (أن تنشد فيه ضالة) أي: عنها وأمر أن يقال
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: النهي عن البيع في المسجد، (الحديث: 1321) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد (الحديث: 80) .(8/521)
1700- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّا، وَلاَ يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا". متفق عَلَيْهِ (1) .
1701- وعن جابر - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أكَلَ ثُوماً أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزلنا، أو فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا". متفق عَلَيْهِ. وفي روايةٍ لمسلم: "مَنْ أكَلَ البَصَلَ، والثُّومَ، والكُرَّاثَ، فَلاَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
افترقا في أن أفراد الأول مفردات، والثاني جموع. وقيل أفراد وفي أن في رواية مسجدنا، إيهام الاختصاص بالمسجد النبوي ورواية مسلم المذكورة سالمة منه.
1700- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل من هذه الشجرة) سكت عن تعيين المشار إليه، لوجود ما يعينه من قرينة حالية أو مقالية؛ والمراد الثوم (فلا يقربنا) أي: في المساجد وغيرها، وذلك لئلا يؤذي الغير بالرائحة الكريهة الخبيثة، وقد صرح أصحابنا بأن على الإِمام أن يمنع الأبخر ونحوه، من مخالطة الناس دفعا لأذى ريحه عنهم، والفعل مؤكد بالنون الخفيفة، والثانية نون ضمير المتكلم ومعه غيره (ولا يصلين معنا) خص بالذكر مع تناول ما قبله له اهتماماً بأمر بالصلاة، ودفعا لسلب الخشوع عن المصلى، ليأتي بها على الكمال المطلوب منا، ومع بفتح العين ظرف مكان (متفق عليه) .
1701- (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أكل ثوماً أو بصلاً) أو فيه للتنويع ومثله كل ذي ريح كريه من الكراث وكذا الفجل باعتبار ما يتولد عنه من الجشاء القبيح (فليعتزلنا أو) شك من الراوي (فليعتزل مسجدنا) أي: ولو في غير أوقات الصلاة، لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. وهو في الجامع الصغير بلفظ "فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته" بالواو في الجميع فأفاد الأمر باعتزاله الناس مطلقاً والمساجد بالتخصيص وأكد مفهوم الجملة الأولى بقوله وليقعد الخ (متفق عليه، وفي رواية لمسلم من أكل البصل والثوم والكراث) الجمع بينها ليس قيداً في النهي عنه للاكتفاء فيه بأحدها في الرواية قبله، في المصباح: الكراث بقلة معروفة والكراثة أخص منه، وهي خبيثة الريح (فلا
__________
= وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها، (الحديث: 68) .
(1) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء (9/489) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً (الحديث: 70) .(8/524)
يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإنَّ المَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ" (1) .
1702- وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنَّه خَطَبَ يومَ الجمْعَةِ فَقَالَ في
خطبته: ثُمَّ إنَّكُمْ أيُّهَا النَّاسُ تَأكُلُونَ شَجَرتَيْنِ مَا أرَاهُمَا إِلاَّ خَبِيثَتَيْن: البَصَلَ، وَالثُّومَ. لَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا وَجدَ ريحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ في المَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ إِلَى البَقِيعِ، فَمَنْ أكَلَهُمَا، فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخاً. رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقربن مسجدنا) نهى عن القرب، مبالغة في الإِبعاد لمن كان كذلك، عن المسجد وعلل ذلك بقوله: (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) أي: غالباً فلا ينافي استطابتها، للخلوف الناشىء عن الصيام، مع تأذي الناس منه. أو ذلك لأن الله تعالى يجعلهم يجدونه ذا عرف أطيب من المسك، لا كما يجده النوع الإِنساني والله على كل شيء قدير.
1702- (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب يوم جمعة فقال في خطبته ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين) بفتح المعجمة والجيم والشجرة ما له ساق صلب يقوم عليه (لا أراهما) بفتح الهمزة أي أعلمهما، وبضمها أي: أظنهما (إلا خبيثتين) في المصباح. يطلق الخبيث على الحرام كالزنى، وعلى الرديء المستكره طعمه أو ريحه كالثوم والبصل. ومنه الخبائث التي كانت العرب تستخبثها كالحية والعقرب (البصل والثوم) بالنصب بدل من شجرتين، وبالرفع على القطع خبر محذوف (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: أبصرته (إذا وجد ريحهما في الرجل في المسجد أمر) بالبناء للفاعل أي: أوقع أمره (به) أي: بإخراجه من المسجد دفعاً لضرر الناس به؛ (فأخرج إلى البقيع) مدفن موتى أهل المدينة، مبالغة في الإِبعاد عن المسجد وتنظيفه وتنزيهه عن الروائح الرديئة (فمن أكلهما) أي: أراد أكلهما (فليمتهما) باذهاب ريحهما (طبخاً) تمييز عن نسبة الأمانة إليهما (رواه مسلم) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: ما جاء في الثوم النيء، (9/498) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها، (الحديث: 74) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها، (الحديث: 78) مطولاً.(8/525)
313- باب في نهي من دخل عَلَيْهِ عشر ذي الحجة وأراد أنْ يضحي عن أخذ شيء من شعره أَوْ أظفاره حَتَّى يضحّي
1704- عن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ، فَإذَا أَهَلَّ هِلاَلُ ذِي الحِجَّةِ، فَلاَ يَأخُذَنَّ من شَعْرِهِ وَلاَ مِنْ أظْفَارِهِ شَيْئاً حَتَّى يُضَحِّيَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة
هي الأيام المعلومات (وأراد أن يضحي) أو يذبح هدياً تطوعاً، أو لنحو تمتع أو لغير جناية وصرح بالهدي ابن سراقة وقال: إنه أولى بذلك من الأضحية (عن أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحى) ليكون ذلك مبعداً عن النار، بما يذبحه تقرباً إلى الله تعالى.
1704- (عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان له ذبح) بكسر الذال المعجمة، وسكون الموحدة: أي مذبوح. والإِطلاق من مجاز الأول (يذبحه) أي: يريد ذبحه (فإذا أهل) بصيغة المجهول كما بيناه في مؤلفات (1) اتحاف الفاضل بمعرفة الفعل المبني لغير الفاعل (هلال) وحذف الفاعل للعلم بأنه الله تعالى، والهلال اسم للقمر، ثلاثة أيام في أول الشهر، ثم هو بعهد قمر. وسمي بذلك لما يعتاد من الإِهلال أي: رفع الصوت عند رؤياه (ذي الحجة) بكسر الحاء المهملة على الأفصح (فلا يأخذن) ندباً (من شعره ولا من أظفاره شيئاً) قل أو كثر كما يومىء إليه عموم النكرة المذكورة في سياق النهي (حتى يضحى) قال ابن حجر في شرح العباب: وصرفه عن الوجوب قول عائشة: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يقلدها هو بيده ثم يبعث بها فلا يحرم عليه شيئاً أحله الله تعالى له ْحتى ينحر الهدي والمعنى في النهي، شمول المغفرة لجميع أجزائه، ومقتضى قوله "حتى يضحي" أنه لو أخرها إلى آخر أيام التشريف امتدت الكراهة، وهو كذلك. وأنه لو أراد التضحية بأعداد زالت الكراهة بذبح الأول لحصول المقصود من شمول المغفرة لجميع أجزائه. ويحتمل بقاء النهي إلى آخرها. وخرج الأسنوي في التمهيد هذا على قاعدة أصولية: هي أن الحكم المعلق على معنى كلي، هل يكتفي فيه بأدنى المراتب، لتحقق المسمى، أم يجب الأعلى احتياطاً؟ قال: والصحيح القول الأول اهـ. ومحل الكراهة عند عدم الحاجة، أما معها كقلع سن أوجعه فلا كراهة، بل قد يسن كختان الصغير وقد يجب كختان البالغ وقطع يد الجاني أو السارق، وظاهر كلامهم أن حضور الجمعة ليس من(8/527)
رواه مسلم (1) .
314- باب في النهي عن الحلف بمخلوق كالنبي والكعبة والملائكة والسماء والآباء والحياة والروح والرأس وحياة السلطان ونعمة السلطان وتربة فلان والأمانة، وهي من أشدها نهياً
1705- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ الله تَعَالَى يَنْهَاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ". متفق عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحاجة، فيزيل الشعر له في الأيام المذكورة. نعم إذا توقف إزالة الأوساخ على ذلك فهو حاجة فلا يكره (رواه مسلم) .
باب النهي عن الحلف بمخلوق
(كالنبي والكعبة والملائكة والسماء والآباء والحياة والروح والرأس) أي: السلطان (2) أو غيره (وحياة السلطان ونعمة السلطان وتربة فلان والأمانة وهي من أشدها نهياً) النهي على سبيل التحريم، إن قصد الحالف بها تعظيماً لها في الجملة. فإن قصد تعظيمها كتعظيم الله تعالى كفر. وإن جرى على لسانه القسم بها بقصد ادغام الكلام كره، وإن جرى عليه من غير قصد فلا كراهة بل هو من لغو اليمين وسيأتي زيادة في الأحاديث.
1705- (عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا) أي: عن أن تحلفوا (بآبائكم) اختلف في النهي، هل هو للتحريم أو للكرهة قولان: المشهور عند المالكية والراجح عند الشافعية الكراهة، ما لم يعتقد في المحلوف به من التعظيم، ما يعتقده في الله تعالى، وإلا فيكفر. والمشهور عند الحنابلة وبه جزم الظاهرية: التحريم (فمن كان حالفاً) أي: مريد الحلف (فليحلف بالله) قال الفقهاء ومثل لفظ الجلالة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الأضاحي، باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية ... ، (الحديث:42) .
(2) كذا، ولعله (مؤلفنا) . ع.(8/528)
وفي رواية في الصحيح: "فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللهِ، أَوْ لِيَسْكُتْ" (1) .
1706- وعن عبد الرحمان بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي، وَلاَ بِآبَائِكُمْ". رواه مسلم. "الطَّواغِي": جَمْعُ طَاغِيَةٍ، وهِيَ الأصنَامُ. وَمِنْهُ الحَدِيثُ: "هذِهِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ" أيْ: صَنَمُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذات الله وصفاته العلية. قال الحافظ ويمكن أن يراد منه الذات لا خصوص لفظ الجلالة فيتناول ما ذكر (أو ليصمت) بضم الميم أي: يسكت بالقصد عن الحلف بغير الله تعالى، أي: مريد اليمين مخير بين الحلف بالله تعالى وترك الحلف بغيره والام فيهما للأمر ويجوز كسرها على الأصل وإسكانها تخفيفاً (متفق عليه) ورواه الترمذي والنسائي (وفي رواية في الصحيح) هي عند مسلم في الإِيمان والنذر، لكن ليس فيه قوله أو ليسكت (فمن كان حالفاً فلا يحلف) بالجزم على النهي وبالرفع خبر يعني النهي (إلا بالله أو ليسكت) الروايتان متلازمتان لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وكذا عكسه أي: يستلزم كل الآخر.
1706- (وعن عبد الرحمن بن سمرة) بضم الميم تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب النهي عن سؤال الإِمارة (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم) النهي عن الحلف بالأول على سبيل التحريم، وعن الثاني على سبيل التنزيل. ففيه استعمال اللفظ الموضوع للنهي في حقيقته ومجازه، ومن منع إطلاقه عليهما يقول: إنه مستعمل في معنى مجازي عام لهما هو طلب الترك لذينك (رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: بعد أن أورده بلفظ "لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت" رواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن سمرة وفيه حديث "لا تحلفوا بالطواغيت ولا تحلفوا بآبائكم واحلفوا بالله وإنه أحب إليه أن تحلفوا به ولا تحلفوا بشيء من دونه" رواه الطبراني عن حبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه عن جده، سكت فيه عن عز وحديث مسلم إليه في شرح مسلم للمصنف. قال أهل اللغة والغريب (الطواغي) بالطاء المهملة والغين المعجمة (جمع طاغية وهي الأصنام ومنه الحديث هذه طاغية دوس أي: صنمهم ومعبودهم) هذا لفظ النهاية بعينه ودوس بالدال والسين المهملتين بوزن قوس قبيلة معروفة، منها أبو هريرة قال في النهاية ويجوز أن يكون المراد بالطواغي من طغى في الكفر وجاوز القدر في الشر، وهم عظماؤهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأيمان، باب: لا تحلفوا بآبائكم وفي الشهادات وغيرها (11/461، 462) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى، (الحديث: 4) .(8/529)
وَرُوِيَ في غير مسلم: "بِالطَّوَاغِيتِ" جَمعُ طَاغُوت، وَهُوَ الشَّيْطَانُ وَالصَّنَمُ (1) .
1707- وعن بُريدَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِالأمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا" حديث صحيح، رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (2) .
1708- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنِّي بَرِيءٌ مِنَ الإسْلاَمِ، فَإنْ كَانَ كَاذِباً، فَهُوَ كمَا قَالَ، وإنْ كَانَ صَادِقاً، فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الإسْلاَمِ سَالِماً"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورؤساؤهم (وروى في غير مسلم بالطواغيت) كما تقدم عن الجامع الكبير والطواغيت (جمع طاغوت وهو الشيطان) أو ما يزين لهم أن يعبدوه من دون الله (والصنم) قال في النهاية الطاغوت يكون واحداً وجمعاً.
1707- (وعن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لمن حلف بالأمانة) بفتح الهمزة وتخفيف الميم (فليس منا) أي: من ذوي طريقتنا. قال السيوطي نقلاً عن الخطابي: سببه أن اليمين لا تنعقد إلا بالله تعالى أو بصفاته، وليست منها الأمانة وإنما هي أمر من أمره وفرض من فروضه، فنهوا عنه لما يوهمه الحلف بها من مساواتها لأسماء الله وصفاته. وقال ابن رسلان أراد بالأمانة الفرائض أي: لا تحلفوا بالحج والصوم ونحوهما (حديث صحيح رواه أبو داود) في الإِيمان والنذور (بإسناد صحيح) رواه عن أحمد بن يونس عن زهير عن الوليد بن ثعلبة الطائي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وهو عند أحمد بلفظ "ليس منا من حلف بالأمانة" الحديث - قال السيوطي في الجامع الكبير: ورواه ابن حبان والحاكم في المستدرك.
1708- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلف فقال إني بريء من الإِسلام، فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلي الإِسلام سالماً) المراد به التهديد والتشديد، وهذا يمين عند بعض الأئمة، فيه الكفارة. وعند الشافعي ومالك ليس بيمين، فلا تجب به كفارة. لكن قائله آثم. قال أصحابنا: إن قصد العزم على الكفر فهو كافر في
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله (الحديث: 6) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالأمانة، (الحديث: 3253) . وأحمد (5/352) .(8/530)
رواه أَبُو داود (1) .
1709- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يقُولُ: لاَ وَالكَعْبَةِ، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: لاَ تَحْلِفْ بَغَيْرِ اللهِ، فَإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ، فقد كَفَرَ أَوْ أشْرَكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن".
وفَسَّرَ بَعْضُ العُلَمَاءِ قولَهُ: "كفَرَ أَوْ أشْرَكَ" عَلَى التَّغْلِيظِ، كما روي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الرِّياءُ شِرْكٌ" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحال، وإن قصد الامتناع من ذلك المحلوف عليه أبداً ولم يقصد شيئاً فلا كفر، لكنه لفظ شنيع قبيح يستغفر الله تعالى من إثمه ويأتي بالشهادتين ندباً (رواه أبو داود) قال في الجامع الكبير رواه أحمد وأبو يعلى الموصلي والحاكم في المستدرك والدارقطني وسعيد بن منصور من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه.
1709- (عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يقول لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حلف بغير الله فقد كفر أو) شك من الراوي (أشرك. رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال في الجامع الكبير بعد إيراده بلفظ: "فقد أشرك من غير شك" رواه أبو داود الطيالسي وأحمد والشاشي أبو يعلى والطبراني والحاكم في المستدرك والدارقطني وابن منصور عن ابن عمر (قال) أي: الترمذي (وفسر بعض العلماء قوله كفر أو أشرك) أي: ليس المراد منه في الحديث ظاهره، وأنه ليس على حقيقته، لأن المعصية ولو كبيرة غير الكفر لا تخرج عن الإِيمان بل هو محمول (على التغليظ) من ترك ذلك والتنفير عنه (كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الرياء) بالتحتية (شرك) فإنه معصية لا تخرج عن الإِيمان، بل هو محمول على التنفير عنه وتقدم أول الباب حمل آخر لهذا الحديث أي: من اعتقد في المحلوف به من العظمة مثل العظمة التي لله عز وجل ذكره الحافظ في فتح الباري.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: ما جاء في الحلف بالبراءة وبمله غير الإسلام، (الحديث: 3258) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، (الحديث: 1535) .(8/531)
وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ" فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رسولَ اللهِ؟ قَالَ: "وإنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أرَاكٍ" رواه مسلم (1) .
1712- وعن عبد اللهِ بن عمرو بن العاصِ رضي الله عنهما، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "الكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، واليَمِينُ الغَمُوسُ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بحق ليعم المال والاختصاص؛ ومثل المسلم فيما ذكر الذمي. (بيمينه) أي: من أخذ حق من ذكر، بيمين هو فيه "فاجر مستحلاً لذلك. وقد علم الحرمة والإِجماع عليها (فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال له: رجل وإن كان) أي: المقتطع باليمين (شيئاً يسيراً) أي: يشمله هذا الوعيد الشديد (يا رسول الله قال وإن) بكسر الهمزة وسكون النون شرطية وصلية، والواو الداخلة عليها حالية. وقيل عاطفة، وجوابها محذوف لدلالة ما تقدم عليه؛ (قضيباً) فاعل فعل الشرط المقدر (2) أي: وإن اقتطع قضيباً (من أراك) والقضيب بالضاد المعجمة والتحتية والموحدة: الغصن المقطوع، فعيل بمعنى مفعول، جمعه قضبان: والأراك بفتح الهمزة وبالراء: شجر من الحمض يستاك بقضبانه، الواحدة أراكة.
ويقال: هي شجرة طويلة ناعمة كثيرة الورق والأغصان، خوارة العود، ولها ثمر في عناقيد يسمى البرير، يملأ العنقود الكف. كذا في المصباح (رواه مسلم) في الإِيمان. ورواه النسائي في القضاء، وابن ماجة فيه أيضاً قاله المزي في الأطراف.
1712- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الكبائر) الحصر إضافي، والسكوت على ما ذكره لدعاء الحال إليها وشدة أمرها وغلظه، وهي على الصحيح ما توعد عليه بالعذاب أو الغضب في الكتاب أو السنة (الإِشراك بالله) أي: الكفر بإشراك أو بغيره، وذكر الإشراك لأنه كان الغالب في عصره - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ كانوا يعبدون الأصنام، ويشركونها مع الله في الألوهية. (وعقوق الوالدين) أي: أن يفعل معهما أو مع أحدهما، ما يتأذى به عرفاً، تأذياً ليس بالهين (وقتل النفس) (3) أي: عدواناً (واليمين الغموس) بفتح الغين المعجمة: اسم فاعل لأنها تغمس صاحبها في الإِثم؛ لأنه حلف كاذباً على علم منه؛
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فأجره بالنار (الحديث: 218 و219) .
(2) في نسخ المتن (كان قضيباً) وعليه لا حذف. ع.
(3) في بعض نسخ المتن (وقتل النفس التي حرم الله) . ع.(8/533)
وَلاَ يُكَفِّرُ، وَقَولُهُ: "آثَمُ" هُوَ بالثاء المثلثة، أيْ: أَكْثَرُ إثْماً (1) .
317- باب في العفو عن لغو اليمين وأنَّه لا كفارة فِيهِ، وَهُوَ مَا يجري عَلَى اللسان بغير قصد اليمين كقوله عَلَى العادة: لا والله، وبلى والله، ونحو ذَلِكَ
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يتمادى فيها ولا يكفر) بتركه الخير المحلوف على تركه (وقوله آثم) بالمد و (بالثاء المثلثة) أفعل تفضيل (أي: أكثر إثماً) قال العاقولي: أصله أن يطلق للأج الإِثم، فأطلقه للجاج الموجب للإثم على سبيل الاتساع.
باب العفوعن لغو اليمين وأنه لا كفارة فيه وهو
أي: لغو اليمين عند إمامنا الشافعي وأصحابه: (ما يجري على اللسان بغير قصد اليمين) وكذا ما تكلم به جاهلاً لمعناه، كما قال البيضاوي، وذهبت الحنفية إلى أنه الحلف على ما يظن أنه كذلك، ولم يكن (كقوله على العادة لا والله وبلى والله ونحو ذلك) من الألفاظ التي يعتاد الحلف بها، إذا صدرت من غير قصد اليمين. (قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) أي: إذا حنثتم أو بنكث اللغو (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما قدمتم، إذا حنثتم، أو ينكت ما عقد (فكفارته) أي: كفارة نكثه أي: الفعلة التي تذهب إثمه وتستره (إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم) من اقصده في النوع والقدر، وهو مد لكل مسكين عندنا. ومحله النصب صفة لمفعول محذوف، تقديره أن تطعموا عشرة مساكين، طعاماً من أوسط ما تطعمون، أو الرفع على البدل من إطعام. وقرىء "أهاليكم" بسكون الياء، على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث، كالألف. وهو جمع أهل، كالليالي في جمع ليل. (أو كسوتهم) عطف على إطعام، أو من أوسط أن جعل بدلاً وقرىء بضم
__________
(1) أخرجه البخاري في فاتحة كتاب الأيمان (11/452، 453) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الإصرار على اليمين فيما يتأذى به أهل الحالف مماليس بحرام، (الحديث: 26) .
(2) سورة المائدة، الآية: 89.(8/537)
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ) .
1717- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: أُنْزِلَتْ هذِهِ الآية: (لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ) في قَوْلِ الرَّجُلِ: لا واللهِ، وَبَلَى واللهِ. رواه البخاري (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكاف وهو كعروة. وقرىء كأسوتهم، بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً أو تقتيراً تساوون بينهم وبينكم، إن لم تطعموهم الأوسط. والكاف في محل الرفع، وتقديره أو إطعامهم كأسوتهم (أو تحرير رقبة) أي: إعتاق إنسان، ومعنى "أو" إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقاً، وتخيير المكلف في التعيين (فمن لم يجد) أي: واحداً منها (فصيام ثلاثة أيام) أي: فكفارته صيامها (ذلك) أي: المذكور (كفارة أيمانكم إذا حلفتم) أي: وحنثم (واحفظوا أيمانكم) بأن تصونوها ولا تبذلوها لكل امر، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير، وبأن تكفروها إذا حنثتم.
1717- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزلت هذه الآية) وعطفت عليها عطف بيان قولها (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) (في قول الرجل) أي: الإِنسان، وخص لأنه الأشرف؛ (لا والله وبلى والله) مما جرت عادة الإِنسان بالإِتيان به في كلامه، من غير قصد لتحقق اليمين (أخرجه البخاري) (2) قال السيوطي في الدر المنثور: أخرجه مالك في الموطأ ووكيع والشافعي في الأم وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق، وفي الدر أخرج أبو داود وابن جرير وابن حبان وابن مردويه والبيهقي، من طريق عطاء بن أبي رباح: أنه سئل عن اللغو في اليمين فقال: قالت عائشة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هو كلام الرجل في يمينه كلا والله وبلى والله" ثم أخرج في الدر آثاراً أخر عن عائشة كذلك، موقوفة عليها. قال: وأخرج أبو الشيخ من طريق عطاء عن عائشة وابن عباس وابن عمرو، أنهم كانوا يقولون: اللغو لا والله وبلى والله.
وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) (3) وتقول: هذا الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/المائدة، باب: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك، (11/476) .
(2) كذا في نسخ الشرح، وفي نسخ المتن (رواه) . ع.
(3) سورة البقرة، الآية: 225.(8/538)
319- باب في كراهة أن يسأل الإنسان بوجه الله - عز وجل - غير الجنة، وكراهة منع من سأل بالله تعالى وتشفع به
1720- عن جابر - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهِ الا الجَنَّةُ". رواه أبو داود (1) .
1721- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ، فَأعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللهِ، فأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ، فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب كراهة أن يسأل الإِنسان بوجه الله غير الجنة
أي: فإنه عظيم فلا ينبغي أن يسأل إلا ما كان كذلك من الجنة، التي هي دار الأحباب، والنظر إلى وجه الله الكريم ورضوانه، والرضوان الذي هو أشرف ما أعطوه (وكراهة منع من سأل بالله تعالى شيئاً) من الأمور الدنيوية، وإن ارتكب مكروهاً بسؤاله ذلك بوجه الله تعالى (و) من (تشفع به) أي: بالله تعالى وجعله وسيلة إلى المسئول منه متشفعاً به إليه.
1720- (عن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسأل) بالجزم على النهي التنزيهي. وبالرفع خبر بمعنى النهي (بوجه الله إلا الجنة) قال ابن رسلان قال الحليمي: هذا يدل على أن السؤال بالله يختلف، فإن كان السائل يعلم (2) أن المسئول إذا سأله بالله تعالى، اهتز لإِعطائه واغتنمه، جاز له سؤاله بالله تعالى. "قلت" وإن كان الأولى له تركه، لما فيه من استعمال اسم الله في غرض دنيوي، قال: وإن كان ممن يتلوى ويتضجر، ولا يأمن أن يرد، فحرام عليه أن يسأله. وقرر ذلك ثم قال: وأما المسئول فينبغي إذا سئل بوجه الله أن لا يمنع، ولا يرد السائل، وأن يعطيه بطيب نفس وانشراح صدر، لوجه الله تعالى (رواه أبو داود) والضياء من حديث جابر ورواه الطبراني من حديث بريدة.
1721- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من استعاذ بالله) أي: سأل العوذ والعصمة من شيء متوسلاً إليكم بالله مقسماً به عليكم قسماً استعطافياً، أي: من سألكم بالله أن تجيروه من شيء (فأعيذوه) أي: أجروه منه إجلالاً لمن استعاذ به (ومن سأل
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة، باب: كراهية المسألة بوجه الله تعالى، (الحديث: 1671) .
(2) في نسخة (ظن) بدل (يعلم) . ع.(8/540)
مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا ما تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَد كَافَأْتُمُوهُ". حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي بأسانيد الصحيحين (1) .
320- باب في تحريم قوله: شاهنشاه للسلطان وغيره لأن معناه ملك الملوك، ولا يوصف بذلك غير الله سبحانه وتعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالله) أي: شيء من جليل أو حقير ديني أو دنيوى أو علمي، كما يومىء إليه عموم حذف المعمول (فاعطوه) ي: إذا قدرتم عليه (ومن دعاكم فأجيبوه) أي: وجوباً إن كانت وليمة نكاح ولم يوجد شيء من الأمور المسقطة للوجوب، وإلا فسنة. وأوجب الظاهرية إجابة كل دعوى، وبه قال بعض السلف (ومن صنع إليكم معروفاً) هو اسم جامع لكل إحسان (فكافئوه) على إحسانه بمثله أو أحسن منه، قال الله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) (2) حمله بعض المفسرين على المكافأة (فإن لم تجدوا ما تكافئونه) وفي نسخة بحذف النون، وهي لغة حكاها ابن مالك في التسهيل أي: حذفها لغير ناصب ولا جازم، والعائد محذوف أي: به. أو ما موصول حرفي أي: فإن لم تجدوا مكافأته.
والمصدر بمعنى المفعول (فادعوا له) وأكثروا (حتى تروا أنكم قد كافأتموه) في المصباح كل شيء ساوى شيئاً حتى صار مثله فهو مكافىء له (حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي بأسانيد الصحيحين) قال في الجامع الكبير: رواه الطيالسي وأحمد وأبو داود والنسائي والحكيم الترمذي والطبراني وابن حبان وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في المستدرك، والدارقطني، كلهم من حديث ابن عمر، وإسنادهما الذي أشار إليه المصنف. فقد رواه أبو داود في أواخر الزكاة، عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر. ورواه في الأدب عن مسدد وسهل بن بكار، كلاهما عن أبي عوانة وقتيبة. ورواه النسائي في الزكاة عن قتيبة عن أبي عوانة كلاهما عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر.
باب تحريم قول شاهانشاه (3)
بالشين المعجمة فيهما (للسلطان وغيره) من الملوك والأمراء (لأن معناه) أي: اللفظ المركب المذكور (ملك الملوك ولا يوصف بذلك غير الله سبحانه وتعالى) فإطلاقه على
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة، باب: عطيه من سأل بالله، (الحديث: 1672) .
وأخرجه النسائي في كتاب: الزكاة، باب: من سأل بالله عز وجل، (الحديث: 2566) .
(2) سورة النساء، الآية: 86.
(3) في نسخة من المتن (شاهنشاه) في الموضعين بحذف الألف قبل النون فلعلها حذفت لحذفها لفظاً لالتقاء الساكنين. ع.(8/541)
1722- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللهِ - عز وجل - رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ". متفق عليه.
قال سُفيانُ بن عُيَيْنَةَ: "مَلِكُ الأَمْلاَكِ" مِثْلُ: شَاهِنْشَاهِ (1) .
321- باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بِسَيِّد ونحوه
1723- عن بُريَدَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غير الله تعالى: وصف لذلك الغير، بوصف الخالق الذي لا يصح قيامه بغيره سبحانه، إنما وصف العبد الذلة والخضوع في العبودية.
1722- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أخنع) بالمعجمة والنون والمهملة: من الخنوع وهو الذل أي: أدل (اسم عند الله عز وجل رجل) أي: اسم رجل (تسمى) بالفوقية (ملك الأملاك) أي: سمى نفسه ملك الأملاك (متفق عليه، قال سفيان بن عيينة) تقدم أن الأشهر، ضم كل من السين والعين المهملتين (ملك الأملاك) في التحريم المدلول عليه بالحديث (مثل شاهان شاه) من عكس التشبيه وذلك لأن ملك الأملاك هو المنصوص عليه، وشاهانشاه؛ هو المشبه والمقيس. قال السيوطي وشاه: هو الملك، وشاهان جمعه. وقدم على قاعدة العجم من تقديم المضاف إليه على المضاف.
باب النهي عن مخاطبة الفاسق
من أصر على معصية صغيرة أو أتى كبيرة (والمبتاع) أي: ذي البدعة، بالخروج عن اعتقاد الحق، الذي جاء به الكتاب والسنة إلى ما يزينه الشيطان (ونحوهما) من الظلمة وأعوانهم (بسيد ونحوه) مما يدل على تعظيمه، وذلك قياساً على ما في الحديث الآتي، لأن المعنى فيه تعظيم من أهانه الله، وذلك قدر مشترك بين المذكور فيه والمقيس عليه.
1723- (عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقولوا للمنافق سيد) ومثله سائر ألفاظ التعظيم، ومحل النهي ما لم يحس من تركه، ضرراً، على نفسه أو أهله أو ماله،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: أبغض الأسماء إلى الله، (10/486) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الآداب، باب: تحريم التسمي بملك الأملاك، وبملك الملوك (الحديث: 30) .(8/542)
"لاَ تَسُبِّي الحُمَّى فَإنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الكِيْرُ خَبَثَ الحَدِيدِ". رواه مسلم.
"تُزَفْزِفِينَ" أيْ تَتَحَرَّكِينَ حَرَكَةً سَريعَةً، وَمَعْنَاهُ: تَرْتَعِدُ. وَهُوَ بِضَمِّ التاء وبالزاي المكررة والفاء المكررة، وَرُوِيَ أيضاً بالراء المكررة والقافينِ (1) .
323- باب في النهي عن سب الريح، وبيان ما يقال عند هبوبها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا تسبي الحمى) أي: فإن الدعاء عليها ملازم لتنقيصها وتحقيرها، الذي به يكون السب، ففي الحديث استعارة مصرحة تبعية، وعلل النهي بقوله (فإنها تذهب خطايا بني آدم) أي: الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، فالخطايا في الحديث عام مخصوص (كما يذهب الكير) بكسر الكاف وسكون التحتية وبالراء: زق الحداد الذي ينفخ به. قال أبو عبيدة: الكور المبني من الطين، والكير بالياء الزق (خبث الحديد) بفتح المعجمة والموحدة وبالمثلثة.
أي: وسخه الذي في ضمنه (رواه مسلم) وابن سعد وأحمد والبخاري في الأدب المفرد، وأبو يعلى وابن أبي الدنيا، في الكفارات، والبيهقي في الشعب (تزفزفين أي: تتحركين حركة سريعة ومعناه) أي: هذا اللفظ (ترتعد وهو) أي: تزفزفين (بضم التاء) الفوقية قال في شرح مسلم: وتفتح (وبالزاي المكررة والفاء المكررة) الأخصر وبالزاي والفاء المكررتين، ْفي قال في شرح مسلم: وهذا هو الصحيح المشهور في ضبط هذه اللفظة. وادعى عياض أنها رواية جمع رواة مسلم (وروي أيضاً بالراء المكررة) أي: مع الفاء حكاها المصنف عن بعض نسخ بلاده في شرح مسلم (وروي بالراء المكررة والقافين) قال المصنف: هي رواية في غير مسلم وحينئذ فكان على المصنف بيان ذلك هنا، لأنه إنما ذكر من المخرجين مسلماً، فيوهم أن هذه الثلاثة من جملة رواياته، وقد نبه على ذلك في شرح مسلم، ومعناه على الجميع تتحركين حركة شديدة، أي: ترعدين قاله المصنف. وقد فات المنذري في ترغيبه، حكاية لغة القاف، وقال: إن رواية الراء والفاء مقاربة لرواية الزاي والفاء، أي: ترعدين وحكاه كذلك عن النهاية أي: ترتعد من البرد.
باب النهي عن سب الريح وبيان ما يقال عند هبوبها
بيان معطوف على النهي وهو نهي تنزيه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ... ، (الحديث: 53) .(8/544)
1725- عن أبي المنذِرِ أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا وخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ. وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1726- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "الرِّيحُ مِنْ رَوحِ اللهِ، تَأتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأتِي بِالعَذَابِ، فَإذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلاَ تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ شَرِّهَا". رواه أبو داود بإسناد حسن.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ رَوْحِ اللهِ" هو بفتح الراء:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1725- (عن أبي المنذر) بصيغة الفاعل من الإنذار، كنية (أبي) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية (ابن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسبوا الريح) لأنها مسخرة مذللة فيما خلقت له (فإذا رأيتم ما تكرهون) أي: من عصفها وشدتها (فقولوا اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها) أي: المرتب عليها من جمع السحاب الناشىء عنه الغيث وحسن الكلأ، أو الخير الذي فيها من تسيير، نحو السفن بها (وخير ما أمرت) بصيغة المجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل مستتر وقوله (به) متعلق به (ونعوذ بك من شر هذه الريح) لكونها عاصفة أو ريحاً مهلكة؛ (وشر ما فيها وشر ما أمرت به) أي: من إهلاك ما مرت عليه، كريح عاد التي لم تمر على شيء، إلا جعلته كالرميم (رواه الترمذي) في الفتن من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) رواه النسائي في عمل اليوم والليلة، وأشار إلى الاختلاف على أبي: في رفعه ووقفه.
1726- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الريح من روح الله) أي: يرسلها من رحمته لعباده ولطفه بهم (تأتي بالرحمة) أي: لمن أراد الله رحمته (وتأتي بالعذاب) أي: لمن أراد الله عذابه (فإذا رأيتموها فلا تسبوها) أي: لأنها مأمورة بما تجيء به من رحمة وعذاب (وسلوا الله خيرها) أي: من خير ما أرسلت به (واستعيذوا بالله من شرها) أي: من شر ما أرسلت به (فإنها مأمورة رواه أبو داود بإسناد حسن) ورواه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك (قوله - صلى الله عليه وسلم - من روح الله هو بفتح الراء)
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء في النهي عن سب الرياح (الحديث 2252) .(8/545)
الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَّةِ في إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فقالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ " قالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قال: "قالَ: أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وأَما مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا، فَذلكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصبح) فيه مشروعية الجماعة في السفر في المكتوبات، وإن كان طلبها فيه دونه في الحضر للمشقة فيه (بالحديبية) بضم المهملة الأولى، وفتح الثانية وسكون التحتية وكسر الموحدة.
قال في المصباح: أهل الحجاز يخففون التحتية أي: التي بعد الباء. قال الطرطوشي بالتخفيف. وقال أحمد بن يحيى: لا يجوز فيها غيره. وهذا هو المنقول عن الشافعي. وقال السهيلي: التخفيف أعرف عند أهل العربية. قال: وقال أبو جعفر النحاس: سألت كل من لقينا ممن أثق بعلمه، من أهل العربية، عن الحديبية فلم يختلفوا على أنها مخففة. ونقل البكري التخفيف عن الأصمعي أيضاً. وأشار بعضهم إلى أن التثقيل، سمع من فصيح، ووجه في المصباح بما يؤول لضعفه، وهي بين مغرب مكة على عريق جدة دون مرحلة من مكة بينها، وبين مكة عشرة أميال (على إثر) بكسر فسكون للمثلثة وبفتحتين (سماء) أي: مطر كانت من الليل، والتأنيث باعتبار لفظ سماء المؤنثة تأنيثاً لفظياً. قال في المصباح: السماء المطر مؤنثة لأنها بمعنى السحاب (فلما انصرف) أي: من الصلاة بإتمامها (أقبل على الناس فقال: هل تدرون) أي تعلمون (ماذا قال ربكم) أي: قولاً نفسياً فاعله بذاته (قالوا الله ورسوله أعلم) ردوا ذلك لهما لزوماً للأدب، ووقوفاً عند حد العلم، وخروجاً عن مجاوزته (قال) أي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال) أي: الله تعالى (أصبح من عبادي) الإضافة للاستغراق (مؤمن بي وكافر) أي: بي وحذف اكتفاء بدلالة ما قبله عليه، وإيماء إلى أن القبيح لا ينبغي أن يؤتى معه بنسبته إليه، مبالغة في أدب الخطاب معه، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته إن كان المراد منها الفضيلة فالعطف تفسيري وإن أريد بها إرادته فعطف مغايرة (فذلك مؤمن بي) إذا أضاف الأمور إلى خالقها الموجد لها (كافر بالكوكب) أي: بنسبة إحداثها لشيء فإنه لا أثر لغير الله في شيء أصلاً، وأفرد الكوكب مراداً به الجنس، المدلول عليها بأل الداخلة عليه (وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا) كناية عما يضاف إليه النوء من النجوم غالباً (فذلك كافر بي) كفراً حقيقياً إن اعتقد أن النوء موجد للمطر حقيقة، وإلا فكافر للنعمة إن لم يعتقد ذلك، وأسند ما لله لغيره (مؤمن بالكوكب) قال ابن النحوي في لغات ابن المنهاج في النوء: كلام طويل لخصه ابن الصلاح، حيث قال: النوء في أصله ليس هو نفس الكوكب فإنه مصدر ناء النجم ينوء أي: سقط وغاب وقيل أتي: طلع ونهض، بيان ذلك: أنها أربعة(8/548)
بِالكَوْكَبِ". متفق عليه. وَالسَّماءُ هُنَا: المَطَرُ (1) .
326- باب في تحريم قوله لمسلم: يا كافر
1730- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، فَإنْ كانَ كَمَا قَالَ وَإلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ" متفق عليه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعشرون نجماً معروفة الطالع في السنة كلها، وهي معروفة بمنازل القمر الثماني والعشرين، يسقط في ثلاث عشرة ليلة منها نجم في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخر مقابله من المشرق من ساعته، فكان أهل الجاهلية إذا كان عند ذلك مطر، ينسبونه إلى الساقط الغارب منها. وقال الأصمعي: إلى الطالع منها قال أبو عبيدة: لم يسمع أن النوء السقوط، إلا في هذا الموضع. ثم إن النجم نفسه قد يسمى نوءاً، تسمية للفاعل بالمصدر. وقال أبو إسحاق الزجاج في بعض أماليه الساقطة في المغرب: هي الأنوار الطالعة، هي البواح في المحكم، بعضهم يجعل النوء السقوط، كأنه من الأضداد اهـ. (متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي (والسماء هنا المطر) ظاهر كلام المصباح أنه إطلاق حقيقي.
باب تحريم قوله
أي: المكلف (لمسلم يا كافر) .
1730- (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قال الرجل) أي: المكلف كما تقدم مراراً، والمراد المسلم الأخيه) أي: في الإِسلام (يا كافر) بالبناء على الضم (فقد باء) بالمد وبعد الألف همزة أي: رجع (بها) أي: الكلمة المذكورة، أي: بمعناها (أحدهما) وفصله بقوله (فإن كان) أي: المقول له (كما قال) أي: كافراً بأن ارتكب مكفراً وجواب الشرط محذوف أي: فهو من أهلها (وإلا) أي: وإن لم يكن المقول له كذلك بأن كان على الإِسلام ولم يأت بمضاده (رجعت عليه) أي: القائل، أي: إن كان أطلق على الإِيمان أنه كفر، وأراد أن ذلك لاتصافه به، كافر (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الآذان، باب: يستقبل الإِمام الناس إذا سلَّم وأخرجه في الاستسقاء والمغازي، (2/433، 434) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، (الحديث: 125) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من كفر اخاه من غير تأويل، (10/428) .(8/549)
بالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الفَاحِشِ، وَلاَ البَذِيِّ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1733- وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إلاَّ شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إلاَّ زَانَهُ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
328- باب في كراهة التقعير في الكلام والتشدُّق فيه وتكلف الفصاحة واستعمال وحشي اللُّغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا بالتوقيف (ولا الفاحش ولا البذيء) بفتح أوله وكسر المعجمة والياء ساكنة بعدها همزة من عطف العام على الخاص (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن حبان، والحاكم في المستدرك. كذا في الجامع الصغير.
1733- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما كان) أي: وجد لفحش بضم الفاء والشين المعجمة، أي مجاوزة الحد المعروف شرعاً وعرفاً في شيء متعلق بكان (إلا شأنه وما كان الحياء) بالمهملة المفتوحة والتحتية بعدها مد (في شيء إلا زانه) وذلك لأن ذا الحياء يدع ما يلام على فعله، فلا يلابس المعايب، وذا الفحش لا ينظر لذلك، فلا يزال ملابساً لها واقعاً فيها (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد والبخاري في الأدب، وابن ماجه.
باب كراهة التقعير
بالفوقية والقاف والعين المهملة (في الكلام) قال في القاموس: قعر في كلامه تقعر وتعرق، تشدق وتكلم بأقصى فمه، وهو نحو قول المصنف (والتشدق) في القاموس، تشدق لوى شدقه للتفصح، وتكلف الفصاحة أي: محاولتها من غير ملكة فيه لها (واستعمال
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، (الحديث: 1977) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الفحش والتفحش، (الحديث: 1974) .(8/551)
1734- عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ" قَالَهَا ثَلاَثاً. رواه مسلم.
"المُتَنَطِّعُونَ": المُبَالِغُونَ فِي الأمُورِ (1) .
1735- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ يُبْغِضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ". رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وحشي اللغة) أي: اللفظ الذي لا يعرف معناه الموضوع له لغة، إلا علماؤها ونخفي ذلك على العامة) ، (دقائق الأعراب) أي يأتي بتركيب يتوقف تخريجه على دقائق العربية، واستعمال الفكر فيها (في مخاطبة العوام ونحوهم) ظرف لغو متعلق باستعمال أي: إن استعمال وحشي اللغة ودقائق العربية، إنما يكره إذا صدر مع العوام. أما مع غيرهم فلا كما فعل صاحب المشارق في خطبة كتابه، وصاحب القاموس في خطبته، والعيني في خطبة شرح شواهده، ونحو العوام من لم يشتغل باللغة والإعراب من أهل بعض العلوم، التي اشتغلوا بها فخرجوا بذلك عن جملة العوام.
1734- (عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هلك المتنطعون قالها) أي: هذه الجملة (ثلاثاً) للتأكيد في التنفير منه (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود (المتنطعون) بصيغة الفاعل من التنطع بالفوقية فالنون فالطاء فالعين المهملتين (المبالغون في الأمور) وقال الخطابي: هم المتعمقون في الشيء المتكلف البحث عنه، على مذاهب أهل الكلام، الداخلون فيما لا يعنيهم، الخائضون فيما لا تبلغه عقولهم. وقال في النهاية: المتعمقون هم المتغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولاً أو فعلاً.
1735- (وعن عبد الله بن عمرو العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يبغض) بالتحتية: البغض مراد به هنا، غايته من الخذلان أو ذكره بأرذل الأوصاف في عالم الملكوت، أو إرادة ذلك مجازاً مرسلاً (البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة) الموصول صفة مقيدة لما قبله. قال في النهاية أي: الذي يتشدق بلسانه في الكلام، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن) ورواه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: العلم، باب: هلك المتنطعون، (الحديث: 7) .
(2) أخرجه أبو داود وكتاب: الأدب، باب: ما جاء في المتشدق في الكلام، (الحديث 5005) . =(8/552)
1736- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ مِنْ أحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وأقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَومَ القِيَامَةِ، أحَاسِنكُمْ أَخْلاَقَاً، وإنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ، وأبْعَدَكُمْ مِنِّي يَومَ القِيَامَةِ، الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". وقد سبق شرحه في بَابِ حُسْنِ الخُلُقِ (1) .
329- باب في كراهة قوله: خَبُثَتْ نَفْسي
1737- عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد.
1736- (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من) للتبعيض (أحبكم) أي: أكثركم محبوبية (إلي واقربكم مني مجلساً يوم القيامة) ظرف لا قرب، ويحتمل أن يكون لما قبله أيضاً، وتعلم أحبيتهم له في الدنيا من غير هذا، إذ السكوت على الشيء لا ينفيه (أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم) أي: أكثركم بغضاً (إلي) ولعل الخطاب للمؤمنين الحاضرين، فلا ينافي أن الكافرين أبغض إليه مطلقاً (وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون) بالمثلثتين المفتوحتين بينهما راء ساكنة وبعد الألف راء أخرى (والمتشدقون) بضم الميم وفتح الفوقية والشين المعجمة والدال المهملة وبالقاف (والمتفيهقون) لصيغة الفاعل مصغر من التفهق (رواه الترمذي وقال: حديث حسن وقد سبق شرحه في باب حسن الخلق) فقال: ثمة الثرثار كثير الكلام تكلفاً، والمتشدق المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، والمتفيهق أصله من الفهق، وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه ويعرب به تكبراً وارتفاعاً وإظهاراً للفضيلة على غيره.
باب كراهة قوله
أي: القائل المكلف (خبثت) بفتح المعجمة وضم الموحدة وبالمثلثة (نفسي) الكراهة تنزيهية.
1737- (عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي)
__________
= وأخرجه الترمذي في كتاب: الأدب، باب: ما جاء في الفصاحة والبيان، (الحديث: 2853) .
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في معالى الأخلاق، (الحديث: 2081) .(8/553)
خَبُثَتْ نَفْسي، وَلكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسي" متفق عليه.
قالَ العُلَمَاءُ: مَعْنَى "خَبُثَتْ": غَثَتْ، وَهُوَ مَعْنَى: "لَقِسَتْ" وَلَكِنْ كَرِهَ لَفْظَ الخُبْثِ (1) .
330- باب في كراهة تسمية العنب كرماً
1738- عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ، فَإنَّ الكَرْمَ المُسْلِمُ" متفق عليه، وهذا لفظ مسلم. وفي رواية:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صرف النهي المؤكذ بالنون عن التحريم قوله (ولكن ليقل لقست نفسي) فإن اللفظين بمعنى، كما يأتي في النهي عن المنهي عنه للتنزيه لقبح اللفظ (متفق عليه) والحديث رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديثها، ورواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن السني، في عمل اليوم والليلة: من طرق من حديث سهل بن حنيف، واقتصر النسائي على قوله: عن أبي أسامة بن سهل بن حنيف ولم يقل عن أبيه. ورواه الطبراني من حديث جبير بن مطعم، ورواه الدارقطني في الأفراد من حديث أبي هريرة اهـ. ملخصاً من الجامع الكبير (قال العلماء) نقله السيوطي عن الخطابي (معنى خبثت غثيت) بالمعجمة والمثلثة (وهو بمعنى لقست ولكن كره) بالبناء للفاعل أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالبناء للمفعول (لفظ الخبث) لبشاعته قال الخطابي: فعلمهم الأدب في النطق، وأرشدهم إلى استعمال اللفظ الحسن وهجران القبيح منه.
باب كراهة تسمية العنب كرما
بفتح الكاف وسكون الراء.
1738- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسموا العنب الكرم) أي: لا تطلقوا عليه هذا اللفظ (فإن الكرم المسلم متفق عليه) ورواه أبو داود بلفظ: "لا يقولن أحدكم الكرم فإن الكرم الرجل المسلم" (وهذا لفظ مسلم) في رواية له وبمعناها لفظ البخاري (وفي رواية) أخرى لمسلم (فإنما الكرم قلب المؤمن وفي رواية للبخاري
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب. لا يقل، خبث نفسي، (10/465) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: كراهة قول الإِنسان: خبثت نفسي، (الحديث: 16) .(8/554)
"فَإنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤمِنِ". وفي رواية للبخاري ومسلم:
"يَقُولُونَ الكَرْمُ، إنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ" (1) .
1739- وعن وائلِ بنِ حُجرٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَقُولُوا: الكَرْمُ، وَلكِنْ قُولُوا: العِنَبُ، والحَبَلَةُ". رواه مسلم.
"الحَبَلَةُ" بفتح الحاء والباء، ويقال أيضاً بإسكان الباء (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومسلم: "يقولون الكرم وإنما الكرم قلب المؤمن" قال ابن الجوزي في جامع المسانيد: إنما نهى عن هذا، لأن العرب كانوا يسمونها كرماً لما يدعون من إحداثها في قلوب شاربيها من الكرم، فنهى عن تسميتها بما تمدح به لتأكيد ذمها وتحريمها، وعلم أن قلب المؤمن لما من نور الإيمان أولى بذلك الاسم.
1739- (وعن وائل) بكسر الهمزة (بن حجر) بضم المهملة وسكون الجيم (رضي الله عنه) كان من ملوك حمير، ويقال للملك منهم قيل وكان أبوه من ملوكهم وفد وائل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقدومه قبل وصوله بأيام. وقال يأتيكم وائل بن حجر، من أرض بعيدة من حضرموت طائعاً راغباً في الله عز وجل وفي رسوله، وهو بقية الأقيال، فلما دخل عليه رحب به، وأدناه من نفسه، وبسط له رداءه، وأجلسه إليه مع نفسه، وقال: اللهم بارك في وائل وولده، وأصعده معه على المنبر وأثنى عليه واستعمله على بلاده وأقطعه أرضاً، وأرسل معه معاوية بن أبي سفيان، وقال: أعطه إياها. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى وسبعون حديثاً، روي مسلم منها ستة، ولم يرو البخاري له شيئاً. نزل الكوفة وعاش إلى أيام معاوية، ووفد عليه فأجلسه معه على السرير، وشهد مع على صفين، وكانت معه راية حضرموت اهـ. ملخصاً من التهذيب للمصنف (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقولوا الكرم) واستدرك مما يوهمه النهي عن إطلاق الكرم عليها من نفي تسميتها باسم قوله (ولكن قولوا العنب والحبلة) مما لا مدح فيها ولا زائد على تعين المسمى (رواه مسلم الحبلة بفتح الحاء) المهملة (والباء) الموحدة (ويقال أيضاً بإسكان الباء الموحدة) في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما الكرم قلب المؤمن (10/465، 467) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: كراهة تسمية العنب كرماً، (الحديث: 8) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: كراهة تسمية العنب كرماً، (الحديث: 11 و12) .(8/555)
331- باب في النهي عن وصف محاسن المرأة لرجل إلاَّ أن يحتاج إلى ذلك لغرض شرعي كنكاحها ونحوه
1740- عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُبَاشِرِ المَرْأَةُ المَرْأَةَ، فَتَصِفَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا". متفق عليه [لَا بَلْ فِي الْبُخَارِيِّ] (1) .
332- باب في كراهة قول الإنسان: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ بل يجزم بالطلب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القاموس الحبلة محركة شجر العنب وربما سكن، فأفاد أن الإِسكان قليل، وأومأ إلى أن الحبلة واحد، والحبل بحذف الهاء اسم جنس جمعي فهو كلبن ولبنة.
باب النهي عن وصف محاسن المرأة لرجل، إلا أن يحتاج إلى ذلك، لغرض شرعي
فقوله لغرض شرعي متعلق بالاحتياج المنفي ومثله بقوله (كنكاحها) فلا بأس بوصفها لمن يريد التزوج بها خصوصاً عند عدم تمكنه من رؤيتها (ونحو ذلك كالشراء) .
1740- (عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تباشر المرأة المرأة) أي: تمس بشرتها ببشرتها، فتعرف خصوبة بدنها ونعومته وما فيه من المحاسن الخفية (فتصفها) بالنصب في جواب النهي أو النفي (لزوجها كأنه ينظر إليها) جملة حالية من المجرور، وقال القاضي عياض: هو دليل لمالك في سد الذرائع فإن الحكمة في النهي خشية أن يعجب الزوج بالوصف المذكور، فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة أو إلى الافتتان بالموصوفة (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي.
باب كراهة قول الإِنسان
في الدعاء (اللهم اغفر لي إن شئت) بكسر الهمزة وتخفيف النون شرطية جوابها محذوف اكتفاء بدلالة سابقة عليه (بل يجزم بالطلب) وذلك لما في الإِتيان بذلك، من إيهام الاغتناء عن حصول المطلوب، وأنه يستوي عنده حصوله وعدمه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: لا تباشر المرأة المرأة، (9/296) .(8/556)
1741- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ، لِيَعْزِم المَسْأَلَةَ، فَإنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ". متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: "وَلكِنْ لِيَعْزِمْ وَلْيُعَظمِ الرَّغْبَةَ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ" (1) .
1742- وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دَعَا أحَدُكُمْ فَلْيَعْزِم المَسْأَلَةَ، وَلاَ يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ، فَأَعْطِنِي، فَإنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1741- (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) أشار الداودي إلى حمل الكراهة على ما إذا أتى بذلك على سبيل الاستثناء، أما إذا أتى به على سبيل التبرك فلا كراهة. قال الحافظ: وهو جيد (بل ليعزم المسألة) قال العلماء: عزم المسألة الشدة في طلبها، والجزم به من غير ضعف في الطلب، ولا تعليق على مشيئه ونحوها. وقيل: هو حسن الظن بالله في الإجابة ومعنى الحديث استحباب الجزم في الطلب، وكراهة التعليق على المشيئة. قال العلماء: سبب كراهته أنه لا يتحقق استعمال المشيئة، إلا في حق من يتوجه عليه الإِكراه فيخفف عنه، ويعلم أنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، والله منزه عن ذلك، وهو معنى قوله (فإنه لا مكره له) فليس للتعليق فائدة. وقيل: سبب الكراهة أن في هذا اللفظ سورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه. قال الحافظ: والأول أولى (متفق عليه) وعند مسلم "فإن الله صانع ما شاء لا مكره له". ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه (وفي رواية لمسلم ولكن ليعزم وليعظم الرغبة) شدة الطلب (فإن الله لا يتعاظمه) أي: لا يتعاظم عليه والصيغة للمبالغة (شيء أعطاه) أي: مطلوب كان من دنيوي وأخروي.
1742- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة) ويثبت الدعاء (ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني) أي: لا يأتي بأداة التعليق في دعائه، وعلل ذلك بقوله (فإنه لا مستكره له) أي: لا مكره، والاستفعال يحتمل بقاؤه على بابه وأنه بمعنى الإفعال. قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: ليعزم المسألة، (11/118) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء..، باب: العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت، (الحديث: 8 و9) .(8/557)
متفق عليه (1) .
333- باب في كراهة قول: ما شاء اللهُ وشاء فلان
1743- عن حُذَيْفَةَ بنِ اليمانِ - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلاَنٌ؛ وَلكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ شَاءَ فُلاَنٌ". رواه أبو داود بإسناد صحيح (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من أمور الدين والدنيا، ولأنه كلام مستحيل لا وجه له، لأنه لا يفعل إلا ما يشاء، وظاهره حمل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحمل المصنف النهي على الكراهة، كما تقدم في الترجمة، قال الحافظ: وهو أولى (متفق عليه) قال ابن بطال: في الحديث: أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة، فإنه يدعو كريماً، وقال ابن عيينة لا يمنع أحداً الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير، فإن الله تعالى قد أجاب شر خلقه إبليس، إذ قال (انظرني إلى يوم يبعثون) (3) .
باب كراهة قول ما شاء الله وشاء فلان
أي: لما توهمه الواو من المشاركة في المشيئة وقتاً. ومشيئة الله تعالى قديمة أزلية، ومشيئة العبد حادثة ممكنة. 1743- (عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان) دفعاً للوهم المذكور. وحمل على الكراهة لأن الإِيهام المذكور مدفوع بالاعتقاد الراسخ من حدوث العبد وجميع شؤونه، وما كان كذلك لا يقارن القديم (ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان) لأن ثم: موضوعة للترتيب أي إن معطوفها بعد المعطوف عليه.
والتراخي أي: بعده بمهلة (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه الطيالسي عن شعبة عن منصور عن عبد الله بن بشار الجهني الكوفي عن حذيفة. ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: ليعزم المسألة (11/118) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت، (الحديث: 7) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: لا يقال خبثت نفسي، (الحديث: 4980) .
(3) سورة الأعراف، الآية: 14.(8/558)
334- باب في كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة
والمُرادُ بِهِ الحَديثُ الذي يَكُونُ مُبَاحاً في غَيرِ هذا الوَقْتِ، وَفِعْلُهُ وَتَرْكُهُ سواءٌ. فَأَمَّا الحَديثُ المُحَرَّمُ أو المَكرُوهُ في غير هذا الوقتِ، فَهُوَ في هذا الوقت أشَدُّ تَحريماً وَكَرَاهَةً. وأَمَّا الحَديثُ في الخَيرِ كَمُذَاكَرَةِ العِلْمِ وَحِكايَاتِ الصَّالِحِينَ، وَمَكَارِمِ الأخْلاَقِ، والحَديث مع الضَّيفِ، ومع طالبِ حَاجَةٍ، ونحو ذلك، فلا كَرَاهَة فيه، بل هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وكَذَا الحَديثُ لِعُذْرٍ وعَارِضٍ لا كَراهَةَ فِيه. وقد تظاهَرَتِ الأحَاديثُ الصَّحيحةُ على كُلِّ ما ذَكَرْتُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة
قيد به، دفعاً لتوهم أن المراد منها المغرب، فإنها تسمى بذلك لغة، وجاء النهي شرعاً (والمراد هنا الحديث الذي يكون مباحاً في غير هذا الوقت وفعله) من حد ذاته (وتركه سواء) والكراهة للوقت لما سيأتي (فأما الحديث المحرم أو المكر وه في غير هذا الوقت فهو في هذا أشد تحريماً وكراهة) لما انضم لوصفه الأصلي من كراهة الوقت لكن في كونه أشد حرمة في الأول، ما لا يخفى. لأنه فيه ليس بحرام حتى يقال انضمام الحرمة لمثلها أو رثت شدتها، أما شدة الكراهة فظاهرة (وأما الحديث في الخير كمذاكرة العلم وحكايات الصالحين ومكارم الأخلاق) عطف على الصالحين وحكاياتها، لما في الأول من إحياء العلم ومثله، بل أولى تدريسه حينئذ، وأما حكايات الصالحين فإنها من جنود الله لتقوية قلوب العباد، قال تعالى: (وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) (1) وأما حكايات مكارم الأخلاق، فإنها تبعثه على التحلي بذلك الخلق والتخلي عن ضده (والحديث مع الضيف) أو الزوجة إيناساً لهما وإكراماً (ومع طالب حاجة) إعانة له على قضائها (ونحو ذلك) مما اشتمل على خير ناجز، ولو بعد الاختياري كالمنتظر جماعة ليعيد معهم العشاء، فلا يترك لدفع مفسدة متوهمة. وإلا المسافر (فلا كراهة فيه) لخبر أحمد: "لا سمر بعد العشاء إلا لمصلّ أو مسافر" (بل هو مستحب) لما فيه من المصلحة الناجزة (وكذا الحديث لعارض وعذر فلا كراهة فيه) ثم تارة يكون واجباً كإنذار غافل من مهلك، وتارة مندوباً بحسب ثمرته ونتيجته (وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على ما ذكرنا) من التفصيل المذكور.
__________
(1) سورة هود، الآية: 120.(8/559)
1744- عن أبي بَرْزَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكرهُ النَّومَ قَبْلَ العِشَاءِ والحَديثَ بَعْدَهَا. متفقٌ عليه (1) .
1745- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى العِشَاء في آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قال: "أرأيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هذِه؟ فَإنَّ عَلَى رَأسِ مِئَةِ سَنَةٍ لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ علَى ظَهْرِ الأرْضِ اليَومَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1744- (وعن أبي برزة) بفتح الموحدة وسكون الراء وبالزاي فالهاء نضلة بنون ثم ضاد معجمة بوزن ضربة ابن عبد الله، وقيل ابن نيار، وقيل: كان اسمه نضلة بن نيار، فسماه رسول الله وبرزة (رضي الله عنه) أسلم قديماً، وقد شهد فتح مكة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون حديثاً اتفقا على اثنين منها، وانفرد البخاري باثنين ومسلم بأربعة، نزل البصرة وتوفي بها، وقيل: بل بخراسان في خلافة معاوية أو يزيد سنة ستين، وقيل: أربع وستين، ولا يكنى بأبي برزة من الصحابة غيره (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النوم قبل العشاء) لئلا يعرضها للفوات (والحديث بعدها) أي: بعد دخول وقتها وفعلها فيه، ومثله قدر ذلك إن جمع تقديماً لا قبل ذلك، لأنه ربما فوتته صلاة الليل وأول وقت الصبح أو جميعه، وليختم عمله بأفضل الأعمال. وقضية الأول. في كراهيته قبلها أيضاً، لكن فرق الأسنوي بأن إباحة الكلام قبلها، ينتهي بالأمر بإيقاعها في وقت الاختيار، وأما بعدها فلا ضابط له، فكان خوف الفوات فيه أكثر (متفق عليه) .
1745- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء في آخر حياته) أي: في أواخرها، فقد جاء أنه كان قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بشهر (فلما سلم قال: أرأيتكم) بفتح التاء أي: أخبروني استفهام وتعجب، والكاف لتأكيد الفاعل، لا محل له من الإعراب، وهو من وضع، السبب موضع المسبب، فإنه وضع الاستفهام عن العلم، موضع الاستخبار، ولا يخبر عن الشيء إلا العالم به (ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة) أي: منها (لا يبقي ممن هو على ظهر الأرض اليوم) أي: في زمن التكلم بذلك، وفي رواية (أحد) أي من الموجودين من الإِنس حينئذ. وأخذ بعضهم منه موت الخضر وإلياس. وأجاب من قال بتعميرهما، أنهما لم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما يكره من النوم قبل العشاء (2/41) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها ... ، (الحديث:237) .(8/560)
أحَدٌ". متفق عليه (1) .
1746- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّهم انتظروا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءهُمْ قَريباً مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ فَصَلَّى بِهِمْ - يَعْنِي: العِشَاءَ - ثمَّ خَطَبنا فقالَ: "ألاَ إنَّ النَّاسَ قَدْ صَلُّوا، ثُمَّ رَقَدُوا، وَإنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاَةَ". رواه البخاري (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يكونا حينئذ على وجهها ولعلهما في البحر. وقال: المراد لا يبقى ممن يرونه أو يعرفونه، فهو عام أريد به الخصوص، قيل احترز بالأرض عن الملائكة، وقالوا خرج عيسى من ذلك، وهو حي لأنه في السماء، وإبليس لأنه في الهواء والماء. قال الحافظ: والحق أن أل في الأرض للعموم وأنها تتناول جميع بني آدم، وكان كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - فإن آخر من ضبط ممن كان موجوداً أبو الطفيل عامر بن وائلة، وقد أجمع العلماء على أنه آخر الصحابة موتاً. وغاية ما قيل فيه: أنه مات سنة مائة وعشرة. وذلك رأس مائة سنة من مقالته - صلى الله عليه وسلم - اهـ. (متفق عليه) فيه دليل على جواز الحديث بعدها إذا كان في الخير كتعلم العلم. وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحدثهم عامة ليلهم عن بني اسرائيل.
1746- (وعن أنس رضي الله عنه أنهم) أي: الصحابة (انتظروا النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءهم قريباً من شطر الليل) أي: نصفه (فصلى بهم يعنى العشاء) جملة مستأنفة لبيان تلك الصلاة المنتظرة (قال: ثم خطبنا) هو موضع الترجمة، لأنه خطبهم. بعد أن صلى بهم العشاء؛ ففيه جواز التكلم، بل ندبه، بالخير بعد صلاة العشاء (فقال ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح (إن الناس قد صلوا ثم رقدوا وإنكم لن تزالوا في صلاة ما) مصدرية ظرفية (انتظرتم الصلاة) أي: مدة انتظاركم إياها، وجملة وإنكم معطوفة على جملة إن الناس، أي إنهم يحصل لهم الأجر في الجملة إذ منتظرها يأكل ويشرب ويتكلم، ومن في الصلاة يمتنع عليه كل من ذلك، أشار إليه الحافظ في الفتح (رواه البخاري) قبل باب الأذان.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: السمر في العلم (2/39) وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس ... (2537) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة وفضلها، باب: السمر في الفقه والخير بعد العشاء، (2/60) .(8/561)
رَفَعَ رَأسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أنْ يَجْعَلَ اللهُ رَأسَهُ رَأسَ حِمَارٍ! أَوْ يَجْعَلَ اللهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ" متفق عَلَيْهِ (1) .
338- باب في كراهة وضع اليد على الخاصرة في الصلاة
1750- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الخَصْرِ في الصَّلاَةِ. متفق عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(يخشى أحدكم) أي يخاف خوفاً مقترناً بتعظيم الله تعالى (إذا رفع رأسه قبل الإمام) مع العلم والتعمد (أن يجعل الله) أي: يصير (رأسه رأس حمار) قيل هو كناية عن تصييره بليداً لا يفهم كالحمار والأولى اجراؤه على ظاهره لأنه ممكن لا يخالفه عقل ولا يرده نقل وقد نقل الشيخ ابن حجر الهيتمي في معجمه وقوع ذلك لبعضهم والعياذ بالله تعالى (أو يجعل الله صورته صورة حمار) حقيقة بناء على الحقيقة وهو الأرجح أو المراد يجعل صفته صفة الحمار في البلادة وفيه على الوجهين شؤم أثر المعصية (متفق عليه) رواه الأربعة قال الحافظ ظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإِمام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات وبه جزم المصنف في مجموعه وهنا ومع الإِثم فالصحيح صحة الصلاة واجزاؤها. وعن ابن عمر أنها تبطل وبه قال أحمد في رواية وأهل الظاهر على أن النهي يقتضي الفساد.
باب كراهة وضع اليد على الخاصرة في الصلاة
قيل حكمة الكراهة أن ذلك فعل اليهود وقيل راحة الكفار في النار وقيل فعل الشيطان.
وقيل لأن إبليس أهبط من الجنة كذلك وقيل لأنه فعل المتكبرين.
1750- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخصر) بفتح المعجمة وسكون المهملة (في الصلاة) وظاهر أن محل النهي ما لم يكن لضرورة وإلا كما لو وجعه جنبه فوضع يده عليه لذلك فلا يتناوله النهي (متفق عليه) أي في أصل المعنى وإلا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب صلاة الجماعة، باب: إثم من رفع رأسه قبل الإِمام، (2/153) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: تحريم سبق الإِمام بركوع أو سجود ونحوها، (الحديث: 114) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب العمل في الصلاة، باب: الحضر في الصلاة (3/70) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهية الاختصار في الصلاة، (الحديث: 46) .(8/564)
339- باب في كراهة الصلاة بحضرة الطعام ونفسه تتوق إِلَيْهِ أَوْ مَعَ مدافعة الأخبثين: وهما البول والغائط
1751- عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ". رواه مسلم (1) .
340- باب في النهي عن رفع البصر إِلَى السماء في الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فعبارته في شرح مسلم قوله نهى أن يصلي الرجل مختصراً. وفي رواية البخاري نهى عن الخصر في الصلاة اهـ. وهي صريحة في أنه انفرد به البخاري عن مسلم.
باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام
أي ما يطعم من مأكل ومشرب (ونفسه تتوق إليه) بتاءين فوقيتين أي: تشتاق وتنازع ْإليه، ومثل الحضور قربه، فتكره الصلاة معه أيضاً (أو مع مدافعة الاخبثين) بالمعجمة والموحدة والمثلثة وفسرهما بقوله (وهما البول والغائط) وهو في الأصل اسم المكان المطمئن من الأرض، تقضى فيه الحاجة، سمي باسمه الخارج من تسمية الحال باسم المحل، والعلاقة المجاورة.
1751- (عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة) أي: فاضلة كاملة، ونفى أهل الظاهر صحتها (بحضرة طعام) أي: (تتوق نفسه إليه) وذلك لما فيها من اشتغال قلبه المانع من خشوعه (وهو يدافعه الاخبثان) الجملة حالية والواو فيها للحال، والكراهة لما في ذلك من التشويش المانع مما تقدم. ومحل الكراهة إذا كان في الوقت سعة لأكل الطعام وتفريغ النفس، فإن ضاق بحيث لو أكل وتفرغ خرج الوقت صلى على حاله (رواه مسلم) ورواه أبو داود.
باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة
نقل المصنف: الإِجماع على كراهته فيها، أما خارجها فمندوب حالة الدعاء، لأنها قبلته، وكذا التفكر والاعتبار بها.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد ... ، (الحديث:67) .(8/565)
1754- وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إيَّاكَ والالتِفَاتَ فِي الصَّلاَةِ، فَإنَّ الالتفَاتَ في الصَّلاَةِ هَلَكَةٌ، فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ، فَفِي التَّطَوُّعِ لاَ في الفَريضَةِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
342- باب في النهي عن الصلاة إِلَى القبور
1755- عن أَبي مَرْثَدٍ كَنَّازِ بْنِ الحُصَيْنِ - رضي الله عنه -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1754- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة مهلكة) أتى بالظاهر فيها موضع الضمير، تعظيماً وتفخيماً للأمر.
ومهلكة بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه، أي: سبب الهلاك وذلك لأن من استخف بالمكروهات وواقعها في المحرمات، فأهلك نفسه بتعريضها للعقاب (فإن كان) أي: المصلي (لا بد) أي: لا غنى له منه (ففي التطوع لا في الفريضة) لأن الاهتمام بالفرض والاعتناء به، فوق الاعتناء بالنفل، (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
باب النهي عن الصلاة إلى القبور
تحريماً في الصلاة مستقبلاً لقبر، قاصداً استقباله بصلاته، وتنزيهاً في استقباله بها من غير قصد ذلك. 1755- (عن أبي مرثد) بفتح الميم وسكون رائه وبمثلثة قاله العيني في مغنيه (كناز) بفتح الكاف وتشديد النون وبالزاي، وقال ابن الجوزي في التلقيح: اسمه أيمن والأول أصح (بن الحصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية بعدها نون ابن يربوع الغنوي بالمعجمة والنون المفتوحتين، حليف بني عبد المطلب. وقال الذهبي في تجريد الصحابة: حليف حمزة أبو مرثد بالضبط السابق في نظيره (رضي الله عنه) قال الحافظ في التقريب: صحابي بدر في مشهور بكنيته، مات سنة اثنتي عشرة من الهجرة. خرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي اهـ. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثان، وأخرج منهما مسلم حديثاً
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة/الجمعة/، باب: ما ذكر في الالتفات في الصلاة، (الحديث: 589) .(8/567)
قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تُصَلُّوا إِلَى القُبُورِ، وَلاَ تَجْلِسُوا عَلَيْهَا". رواه مسلم (1) .
343- باب في تحريم المرور بَيْنَ يدي المصلِّي
عن أَبي الجُهَيْمِ عبد اللهِ بن الحارِثِ بن الصِّمَّةِ الأنْصَارِيِّ - رضي الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واحداً وهو حديث الباب (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تصلوا إلى القبور) قال الشافعي: وأكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجداً، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس اهـ. (ولا تجلسوا عليها) فيه النهي عن القعود عليها، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك في الموطأ: المراد القعود للحديث. قال المصنف: وهذا تأويل ضعيف وباطل، والصحيح أن المراد القعود للحديث. قال المصنف: وهذا تأويل ضعيف وباطل، والصحيح أن المراد بالقعود الجلوس، ومما يوضحه رواية مسلم "لا تجلسوا على القبور" وفي رواية له: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر". وسيأتي قريباً ما فيه. قال المصنف: قال أصحابنا يحرم الجلوس على القبر والاستناد إليه والاتكاء عليه (رواه مسلم) في الجنائز من صحيحه، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي.
باب تحريم المرور بين يدي المصلى
أي: إذا صلى إلى شاخص فإن لم يجده، فإلى مصل وإلا فإلى خط يخطه، وبينه وبينه ثلاثة أذرع، كما هو السنة، فإن لم يستقبل شيئاً من ذلك، كذلك لم يحرم المرور بين يديه. ومحل الحرمة في الأول ما لم يكن المصلي مستحقاً لغيرها، وإلا فالمصلي في الطواف لا يحرم المرور بين يديه. لأنه للطواف لا للصلاة.
1756- (عن أبي الجهيم) بضم الجيم وفتح الهاء وسكون التحتية (عبد الله بن الحارث بن الصمة) بكسر المهملة المشددة وتشديد الميم، ويجر بالكسرة لدخول أل عليه، خلافاً لبعضهم. وقد نبه عليه الحافظ السيوطي في آخر كتابه الأشباه والنظائر، وقال إنه ألف فيه مؤلفاً وأورده ثمة. واسمه بذل المهمة (رضي الله عنه) قال في أسد الغابة: اسمه عبد الله وهو
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، (الحديث: 97، 98) . الأم: (1/278) .(8/568)
عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيْراً لَهُ مِنْ أنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ" قَالَ الراوي: لا أدْرِي قَالَ: أرْبَعينَ يَوماً، أَوْ أرْبَعِينَ شَهْراً، أَوْ أرْبَعِينَ سَنَةً. متفق عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن أخت أبي بن كعب الأنصاري. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان، كلاهما في الصحيحين (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو يعلم المار بين يدي المصلي) فرضاً كانت صلاته أو نفلاً، وقد استقبل ما تقدم (ماذا) أي: ما الذي عليه جملة في محل النصب ليعلم لتعلقه عنها بالاستفهام (عليه) صلة ذا، ويحتمل أن "ما" ملغاة، وأن المعنى أي شيء، فيكون في محل رفع مبتدأ. خبره الظرف. وحذف مبين ما أو ما "ماذا" زيادة في التنفير عن ذلك، لتذهب النفس في تقدير كل صنف من المكروهات المحذر منها كل مذهب. قال الحافظ في الفتح: وزاد الكشميهني "ماذا عليه من الإِثم" وليست هذه اللفظة في سائر روايات الصحيح، ولا في الموطأ، ولا في شيء من الكتب الستة، والمسانيد والمستخرجات، لكنها في مصنف ابن أبي شيبة، فيحتمل أنها ذكرت في حاشية البخاري فتوهمها الكشميهني أصلاً لأنه لم يكن من أهل الحلم ولا من الحفاظ، وقد أنكر ابن الصلاح على من أثبتها في الخبر، لكن في تخريج أحاديث الشرح الكبير للحافظ لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم أن يقف أربعين خيراً له من أن "يمر بين يديه" متفق عليه من حديث الجهيمي دون قوله "من الاثم" فإنها من رواية أبي ذر عن أبي الهيثم خاصة. وقول ابن الصلاح أن العجلى وهم في قوله من الإِثم في صحيح البخاري متعقب لرواية أبي ذر عن أبي الهيثم.
وتبع بن الصلاح الشيخ النووي في مجموعه، ثم اضطر إلى أن عزاها لعبد القاهر الرهاوي في الأربعين له وفوق لك ذي علم عليم. وفي شرح المنهج لشيخ الإِسلام زكريا بعد ذكر الحديث كما ذكروا، وزاد "أربعين خريفاً" قوله متفق عليه إلا من الإِثم فللبخاري أي: في رواية. وإلا خريفاً فالبزار اهـ. (لكان أن يقف) أي: وقوفه اسم كان أو بدل من اسمها المضمر بدل اشتمال (أربعين خيراً له) أي: مدة الأربعين، وأقيم مقامها في النصب على الظرفية. خيراً خبر كان، أن نصب وبالرفع اسمها (من أن يمر بين يديه) والخيرية في المرور المنهي عنه المدلول عليها بقوله خيراً، باعتبار ظاهر ما عند المار من إتيانه به، إذ شأن العاقل أن لا يأتي إلا ما هو خير له (قال الراوي) واسمه أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله (لا أدري قال أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين سنة متفق عليه) أخرجاه في الصلاة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: إثم المار بين يدي المصلي، (11/483، 484) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي، (الحديث: 261) .(8/569)
345- باب في كراهة تخصيص يوم الجمعة بصيام أَوْ ليلته بصلاة من بين الليالي
1758- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلاَ تَخُصُّوا يَومَ الجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي صَومٍ يَصُومُهُ أحَدُكُمْ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب كراهة تخصيص يوم الجمعة بصيام
أي: ما لم يضم إليه يوماً قبله أو بعده، فتنتفى بثواب ما ضمه كراهة صوم يومها (أو ليلتها بصلاة) أما تخصيصها بالقيام بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبقراءة نحو البقرة وآل عمران والكهف والدخان وغير ذلك، مما جاء طلبه في ليلتها وفي يومها، فلا كراهة فيه.
1758- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام) هو في عرف الشرع القيام للصلاة (من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة) أظهره مع أن المقام للإِضمار زيادة في الإِيضاح (بصيام من بين الأيام) الظرفان متعلقان بتخصوا، وقدم صيام هنا على الظرف الزماني وعكس في الجملة تفنناً في التعبير (إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) نقل ابن مالك عن شرح المشكاة: أن تقديره إلا أن يكون يوم الجمعة واقعاً في صوم يوم يصومه أحدكم، وذلك بأن نذر صوم يوم لقي حبيبه فوافق يوم الجمعة. ثم اعترض بأنه يلزم عليه أن يكون يوم الجمعة. مظروفاً ليوم الصوم، وهو غير مستقيم. والوجه أن يقال: الضمير في يكون، عائد إلى مصدر تخصوا. قال الطيبي: سبب النهي أن الله استأثر يوم الجمعة بعبادة، فلم ير أن يخصه العبد بسوى ما يخصه الله به. وقال المصنف: سببه أن يوم الجمعة يوم عبادة وتكبير إلى الصلاة وإكثار ذكر ويوم غسل، فاستحب الفطر فيه، ليكون أهون على هذه الوظائف وأدائها بلا سآمة، كما يستحب الفطر للحاج يوم عرفة، فإن قلت: لو كان كذلك لما زالت الكراهة بصوم يوم قبله أو بعده، أجيب عنه بأن الجمعة وإن حصل فتور في وظائفه بسبب صوم، لكن يمكن أن يحصل له بفضيلة صوم ما قبله أو ما بعده، ما ينجبر ذلك به قال المظهري ونهي عن تخصيصها تحذيراً عن موافقة اليهود والنصارى لأنهم يخصون السبت والأحد بالصيام، وليلتيهما بالقيام، زاعمين أنهما أعز أيام الأسبوع، فاستحب أن نخالفهم في طريق تعظيم ما هو أعز الأيام وهو يوم الجمعة: قال المصنف: في الحديث نهي صريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة، واحتج به العلماء على كراهة الصلاة المسماة بالرغائب، قاتل الله واضعها. وقد صنفت الأئمة في تقبيحها وتضليل(8/571)
رواه مسلم (1) .
1759- وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "لاَ يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلاَّ يَوماً قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ". متفق عَلَيْهِ (2) .
1760- وعن محمد بن عَبَّادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِراً - رضي الله عنه -: أنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَومِ الجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. متفق عَلَيْهِ (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مبتدعها أكثر من أن تحصى. (رواه مسلم) ورواه في أصل النهي عن القيام والصيام من غير استثناء، والطبراني عن سلمان وابن النجار عن ابن عباس أورده في الجامع الكبير.
1759- (وعنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو يوماً بعده) أي: إلا أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، وقد جاء كذلك في رواية للشيخين (متفق عليه) فيه التصريح بالنهي عن إفراده بالصوم وأن لا نهي عند ضم صوم يوم قبله أو بعده إليه، وذلك لما سبق في كلام المصنف. وقيل لأن بالصوم قبله، يعتاد الصوم في الجملة، فلا يحصل له بذلك سآمة عند أداء الأعمال يوم الجمعة.
1760- (وعن محمد بن عباد) بفتح المهملة وتشديد الموحدة ابن جعفر بن رفاعة بن أمية بن عامر بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي المكي: ثقة من أوساط التابعين. خرج عنه الستة، كذا في التقريب للحافظ. (قال: سألت جابراً رضي الله عنه أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الجمعة قال: نعم) وحمل النهي على التنزيه، لعدم وجود سبب الحرمة فيه، كإعراض عن ضيافة الله عز وجل في صوم الفطر والأضحى والتشريق، والضعف عن صوم الفرض بصوم النصف الأخير من شعبان عند عدم وصله بما قبله أو موافقته له عادة في الصوم (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً، (الحديث: 148) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، (4/203) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً، (الحديث: 147) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم باب صوم يوم الجمعة، (4/202، 203) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفردا، (الحديث 146) .(8/572)
1761- وعن أُمِّ المُؤمِنِينَ جويرية بنت الحارث رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: "أصُمْتِ أمْسِ؟ " قالت: لا، قَال: "تُرِيدِينَ أنْ تَصُومِي غَداً؟ " قالتْ: لاَ. قَالَ: "فَأَفْطِرِي". رواه البخاري (1) .
346- باب في تحريم الوصال في الصوم وَهُوَ أنْ يصوم يَومَينِ أَوْ أكثر وَلاَ يأكل وَلاَ يشرب بينهما
1762- عن أَبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوِصَالِ. متفق عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1761- (وعن أم المؤمنين جويرية) بضم الجيم وفتح الواو وتخفيف التحتية وكسر الراء ثم تحتية بعدها هاء (بنت الحارث رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة) والظاهر أنها استأذنته فأذن من غيير استفصال (فقال: أصمت أمس؟ قالت لا قال: تريدين أن تصومي غدا) أي: يوم السبت، ظاهره انتفاء الكراهة إذا كان لما نوي صوم يوم الجمعة مريداً صوم يوم السبت، وإن لم يفعله بعد ذلك لعذر أو غيره (قالت: لا قال: فأفطري) فيه دليل لجواز قطع النفل. وقد ورد: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر" ويؤخذ من أمره به ندبه إذا كان الصوم مكروهاً وإن كان ينعقد لو بقي عليه (رواه البخاري) .
باب تحريم الوصال في الصوم وهو أن يصوم يومين أو أكثر ولا يأكل ولا يشرب بينهما.
قصداً على وجه التعبد بذلك، أما لو تركه سهواً أو لعدم طلب نفسه له، أو لفقده فلا.
وقيل: الوصال المحرم استدامة أوصاف الصائم، فعلى الأول الذي ذكره المصنف، لا يخرج منه بجماع أو تقايؤ، ويخرج به على الثاني. والمختار الأول.
1762- (عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى نهياً جازماً (عن الوصال) وهو حرام على الأمة، جائز له - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي في الحديث بعده (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، (4/203، 204) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: الوصال، وباب: التنكيل لمن أكثر من الوصال، (4/177 و179) . أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، (الحديث: 57 و61) .(8/573)
1766- عن جرير - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ". رواه مسلم (1) (2) .
1767- وعنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَبَقَ العَبْدُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ". رواه مسلم (3) .
350- باب في تحريم الشفاعة في الحدود
قَالَ الله تَعَالَى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1766- (عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيما عبد أبق) بفتح الموحدة من باب ضرب، وجاء من باب تعب وقتل في لغة كذا في المصباح (فقد برئت منه الذمة) بكسر المعجمة وتشديد الميم. قال المصنف في التهذيب: الذمة تكون في اللغة: العهد، وتكون الأمانة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يسعى بذمتهم أدناهم"، "ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله عز وجل" "ولهم ذمة الله ورسوله" اهـ. (رواه مسلم) في الإِيمان ورواه أبو داود في الحدود النسائي في المحاربة، وفي ألفاظه اختلاف منها ما في قول المصنف.
1767- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة) ولا يلزم من عدم قبولها عدم صحتها، بل هي كالصلاة في المغصوب، على ما اختاره الجماهير من صحتها فيه ولا ثواب، وعلى هذا فلا حاجة لتقييد المأزري وعياض ذلك بمن استحل الإِباق، فقد تعقبهما فيه ابن الصلاح واستظهره المصنف (وفي رواية) لمسلم (فقد كفر) أي: إن استحله أو من كُفَرَان نعمة السيد وعدم أداء حقه، فإن عمله من عمل الكفرة والجاهلية. وفي رواية "فقد حل دمه" وفي رواية "فقد أخل بنفسه".
باب تحريم الشفاعة في الحدود
بعد ثبوت سببها، قال الله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) الرفع على الابتداء، والتقدير مما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فارتفع ارتفاعه، وقدم المؤنث هنا على المذكر، عكس
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: تسمية العبد الآبق كافراً، (الحديث: 123) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: تسمية العبد الآبق كافراً، (الحديث: 124) .
(3) سورة النور، الآية: 2.(8/576)
"فَتَلوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -" فَقَالَ: "أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟! " فَقَالَ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ المَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا (1) .
351- باب في النهي عن التغوط في طريق الناس وظلِّهم وموارد الماء ونحوها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحلف من غير استحلاف، وهو مستحب. وإذا كان فيه تعظيم أمر المطلوب، كما في الحديث. وفيه المنع من الشفاعة في الحدود، وهو مجمع عليه بعد بلوغه للإِمام، أما قبله فجائز عند أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه ذا شر وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه. أما المعاصي التي لا حد فيها، فتجوز الشفاعة فيها شرطه السابق، وإن بلغت الإِمام لأنها أهون. وفيه مساواة الشريف وغيره في أحكام الله تعالى وحدوده، وعدم مراعاة الأهل والأقارب في مخالفة الدين (وفي رواية) للبخاري (فتلون) أي: تغير غيظاً (وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له أتشفع في حد من حدود الله فقال أسامة) لما رأى إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - وغضبه مما أتاه (استغفر لي يا رسول الله) أي: لتمحي تلك الخطيئة. (قال: ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها) زاد البخاري عن عائشة "ثم تابت بعد وتزوجت" فكانت تأتي لعائشة فترفع حاجتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
باب النهي عن التغوط في طريق الناس وظلهم وموارد الماء ونحوها حمل الجمهور النهي على التنزيه. قال الشيخ زكريا وينبغي تحريمه، لما فيه من إيذاء المسلمين؛ ونقل في الروضة عن أصلها عن صاحب العدة: على التحريم. والحديث ظاهر فيه، بل نقل في أنه من الكبائر للعن فاعله، وخص المصنف التغوط بالذكر: لعظم الضرر به بالنسبة للبول لسرعة جفافه؛ فيقل الأذى. ومحل النهي عنه في الظل إذا كان معداً لاجتماع مباح، أما لو كان معداً لاجتماع محرم كمكس أو غيبة، وقصد به تفريقهم، فلا كراهة. ومثل الظل في الصيف محل الشمس في الشتاء، فلو عبر المصنف بمتحدث لشملهما، وكأنه أراد
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: آواخر كتاب الأنبياء وأخرجه أيضاً في الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحد، (12/77، 85) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (الحديث: 8) .(8/578)
فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ " فقال: لا، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فَأرْجِعهُ".
وفي روايةٍ: فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفَعَلْتَ هذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ " قال: لا، قال: "اتَّقُوا الله واعْدِلُوا فِي أوْلادِكُمْ" فَرَجَعَ أبي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ.
وفي روايةٍ: فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا بَشيرُ ألَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ " فقالَ: نَعَمْ، قال: "أكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هذَا؟ " قال: لا، قال: "فَلاَ تُشْهِدْنِي إذاً فَإنِّي لاَ أشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ" وفي روايةٍ: "لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ" وفي رواية: "أشْهِدْ عَلَى هذَا غَيْرِي! " ثُمَّ قال: "أيَسُرُّكَ أنْ يَكُونُوا إلَيْكَ في البِرِّ سَواءً؟ " قال: بَلَى، قال: "فَلا إذاً". متفق عليه (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
توهم بشير نسخ ذلك، أو حمل الأولى على كراهة التنزيه. وجمع الحافظ في الفتح بأنه وهبه حديقة، فلما بدا له ارتجعها لأنها لم يقبضها منه أحداً غيره، ثم عاودته فمطلها، ثم اقبضها ثم رضيت عمرة أن يهب له بدل الحديقة غلاماً، فرضيت عمرة لكنها خشيت الارتجاع، فطلبت إشهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - اهـ. (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أكلّ ولدك) بالنصب بنحلت مقدراً فسره قوله (نحلت مثل هذا) أي: أعطيت سائر ولدك كما أعطيت هذا (فقال: لا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرجعه) أي: ارتجعه هو كالعبد، لكراهة الرجوع في الهبة الموهوبة، وإن محلها ما لم توقع في كراهة، وإلا فيرتجع لأن درء المفاسد مقدم على جلب، المصالح أورده الشيخان بهذا اللفظ (وفي رواية) لمسلم (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفعلت هذا) أي: الاعطاء (بولدك كلهم) بأن أعطيت كلا كأخيه (قال: لا قال: اتقوا واعدلوا في أولادكم) بالتسوية بينهم في العطاء والبر والإِحسان (فرجع أبي فرد تلك الصدقة) أي: إلى ملكه بعد أن قبلها لولده، وتقدم في الرواية قبله أن الارتجاع بالأمر النبويّ (وفي رواية) هي أيضاً لمسلم: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا بشير ألك ولد سوى هذا؟ قال: نعم) بفتح أوليه حرف جواب (قال: أكلهم) بالنصب لمحذوف يفسره قوله (وهبت له مثل هذا) أي: أعطيت كلاً منهم (قال: لا قال: فلا تشهدني إذاً) أي: حينئذ (فإني لا أشهد على جور) أي: جيف وظلم، وأصله الميل عن الاعتدال، حراماً كان أو مكروهاً وهو بنحوه (وفي رواية) هي لمسلم أيضاً (لا تشهدني على جور. وفي رواية) لمسلم أيضاً (أشهد على هذا غيري ثم قال: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء قال: بلى قال: فلا) أي: لا تفاضل بينهم في العطاء (إذاً. متفق عليه) باعتبار أصل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الهبة، باب: الهبة للولد، وباب: الإِشهاد في الهبة (5/155 و157) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، (الحديث: 9) .(8/581)
354- باب في تحريم إحداد المرأة على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام
1772- عن زينب بنتِ أبي سلمة رضي الله عنهما، قالت: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ رضيَ اللهُ عنها، زَوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حِينَ تُوُفِّيَ أبُوهَا أبُو سُفْيَانَ بن حرب - رضي الله عنه -، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةُ خَلُوقٍ أوْ غَيرِهِ، فَدَهَنَتْ مِنهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: واللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث، لما علمت من أن سياق الأحاديث المذكورة لمسلم ونحوها عند البخاري في أبواب الهبة. والحديث خرجه مالك والشافعي وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان والطبراني والطحاوي والإِسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي والبغوي وغيرهم، ذكره القلقشندي في شرح عمدة الأحكام.
باب تحريم إحداد المرأة
قال في المصباح: حدت المرأة على زوجها تحد حداداً فهي حاد بغير هاء، وأحدت إحداداً فهي محد ومحدة إذا تركت الزينة لموته. وأنكر الأصمعي الثلاثي، واقتصر على الرباعي (على ميت فوق ثلاثة أيام) الظرف الأول لغو والثاني في محل الحال (إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام) النصب على الظرفية.
1772- (عن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها) كذا في نسخة مصححه بضمير الواحدة والأولى عنهما (قالت دخلت على أم حبيبة) هي بنت أبي سفيان بن حرب أمية أخت معاوية (زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبو سفيان بن حرب) وكان موته سنة اثنين وثلاثين، وقيل بعدها (فدعت بطيب فيه صفرة خلوق) بفتح الخاء المعجمة وضم اللام المخففة في المصباح الخلوق ما يتخلق به في الطيب. وقال بعض الفقهاء: هو مائع فيه صفرة (أو) صفرة (غيره) وهذا شك منها في سبب الصفرة (فدهنت منه جارية) أي: ليدل ذلك على رضاها بفعل ربها وتسليمها الأمر له؛ (ثم مست بعارضيها) أي: أصابت منه فيهما. (ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة) أي نفسانية من التذاذ وغيره، (غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) الوصف بالجملة الفعلية ليس لإِخراج من لم يكن كذلك عن هذا(8/582)
أنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إلاَّ علَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً". قالَتْ زَيْنَبُ: ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ رضي اللهُ عنها حينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ: أمَا وَاللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيرَ أنِّي سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوقَ ثَلاَثٍ، إلاَّ علَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحكم، بل لكون المؤمنة تنقاد للأحكام الشرعية وإلا فالكفار مخاطبون بفروع الشريعة على الصحيح. والنفي بمعنى النهي على سبيل التأكيد (أن تحد) من أحد أو من حدّ أي: تترك زينتها التي تعتادها (على ميت) أي: لأجله (فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) التقييد بهذه المدة خرج مخرج الغالب، أما إذا كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل.
والاستثناء متصل إذا جعل قوله أربعة أشهر منصوباً بمقدر بياناً لقوله فوق ثلاث أي أعني أو أذكر، فهو من باب قولك ما اخترت إلا منكم رفيقاً يكون ما بعد إلا تبيين فيقدر المفسر أي: أعني أربعة أشهر على الاستثناء، تقديره لا تحد المرأة على ميت فوق ثلاث أعني أربعة أشهر وعشراً إلا على زوج. أو من قولك ما ضرب أحد أحداً إلا زيد عمراً. وإذا جعل معمولاً لتحد مضمراً كان منقطعاً، والتقدير: لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث، لكن تحد على زوج أربعة أشهر وعشراً قاله العاقولي (قالت زينب ثم دخلت على زينب بنت جحش رضي الله عنها حين توفي أخوها) هو عبد الله بن جحش كما في تحفة القاري لشيخ الإِسلام. وفي فتح الباري: أنه كذلك في صحيح ابن حبان. وفي بعض طرق الموطأ أن ْالمعروف عبد الله بن جحش قتل بأحد شهيداً، وزينب بنت أبي سلمة، كانت يومئذ طفلة فيستحيل أن تكون دخلت على زينب بنت جحش تلك الحالة. وأنه يجوز أن يكون عبيد الله المصغر، فإن دخول زينب بنت أبي سلمة عند بلوغ الخبر إلى المدينة بوفاته وهي مميزة، وأن يكون أبا أحمد بن جحش واسمه عبد بلا إضافة لأنه مات في خلافة عمر، فيجوز أن يكون مات قبل زينب لكن ما ورد ما يدل أنه حضر دفنها، ويلزم على الأمرين أن يكون وقع في الاسم تغييراً، والميت كان أخاً لزينب من الرضاعة. أو لأمها اهـ. (فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: أما والله ما لي بالطيب من حاجة غير) بالنصب على الاستثناء، والفتحة فتحة إعراب. ويحتمل أنها فتحة بناء لإِضافته إلى مبني هو جملة (أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) ويحتمل أن يكون وقت سماعها لذلك منه - صلى الله عليه وسلم -(8/583)
1777- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ إلاَّ أنْ يَأذَنَ لَهُ". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم (1) .
1778- وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُؤْمِنُ أَخُو المُؤْمِنِ، فَلاَ يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أخِيهِ وَلاَ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ حَتَّى يذَرَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1777- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبع بعضكم على بيع بعض) النهي للتحريم، كما تقدم. إلا إن كان لزم العقد ولا خيار فيكون غير محرم لانتفاء الإِضرار المرتب على الأول (ولا يخطب على خطبة أخيه) أي: إذا أجيب لذلك بالصريح، وكانت الخطبة جائزة لا خطبة الرجعية في عدتها، وقيد النهي في كل منهما بقوله (إلا أن يأذن له) أي: البعض المباع على بيعه في الأول، والمخطوب على خطبته في الثاني. ومثل إذنه في ذلك إعراضه عن المخطوبة (متفق عليه وهذا لفظ مسلم) ولفظ البخاري "لا يبع بعضكم على بيع بعض" وعند البخاري من حديث أبي هريرة أنه مرفوع، من جملة حديث آخره "ولا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها".
1778- (وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المؤمن أخو المؤمن) لاجتماعهما في الإيمان الذي هو أعظم مجتمع فيه (فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب) بالنصب عطفاً على يبتاع، وبالرفع على الاستئناف. والأول أقرب وأنسب (على خطبة أخيه حتى يذر) أي: يترك أو يأذن كما تقدم في الحديث قبل ذكر المؤمن، وهو لا مفهوم، له فيحرم على الكافر البيع على بيع المسلم. أو الذمي. والخطبة على خطبته.
__________
= وأخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه وتحريم..، (الحديث: 11 و12) .
(1) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: لا يبيع حاضر لباد بالسمسرة ... ، وفي أبواب متفرقة غيره وفي النكاح، باب: لا يخطب على خطبه أخيه (4/313) .
وأخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك، (الحديث: 50)(8/587)
بِحَرَامٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ، وإنْ خِيفَ عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ هذِهِ الأمورِ، كُرِهَ مَدْحُهُ في وَجْهِهِ كَرَاهَةً شَديدَةً، وَعَلَى هَذا التَفصِيلِ تُنَزَّلُ الأحاديثُ المُخْتَلِفَةُ فِي ذَلكَ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي الإبَاحَةِ قَولُهُ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكْرٍ - رضي الله عنه -: "أرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ" (1) : أيْ مِنَ الَّذِينَ يُدْعَونَ مِنْ جَمِيعِ أبْوابِ الجَنَّةِ لِدُخُولِهَا.
وَفِي الحَدِيثِ الآخر: "لَسْتَ مِنْهُمْ" (2) : أيْ لَسْتَ مِنَ الَّذِينَ يُسْبِلُونَ أُزُرَهُمْ خُيَلاَءَ.
وَقالَ - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ - رضي الله عنه -: "مَا رَآكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تارة، مباح أخرى على ما تقدم (وإن خيف عليه) أي: الممدوح (شيء من هذه الأمور) الفتنة والاغترار وتلعب النفس به وتحديثها له، أنه من الكمل المثنى عليهم، فيحمله على البطالات، وترك معالي الأعمال الصالحات (كره مدحه في وجهه) وكذا في غيبته إن علم وصول ذلك له، بأن كان ثمة من يبلغه (كراهة شديدة) وقد يحرم أن تحقق ذلك فيه، بأن علم من عادته وتحقق حصول ذلك له عند الممدوح (وعلى هذا التفصيل تنزل الأحاديث) بصيغة المجهول وبالبناء للفاعل بحذف إحدى التاءين تخفيفاً، أو أنه ماض وحذفت تاء التأنيث من آخره، لأن تأنيث الجمع مجازي باعتبار معنى الجماعة، فجاز تذكيره وتأنيثه، وإن كان الثاني أرجح (المختلفة في ذلك) فيكون من باب المختلف ظاهراً المؤتلف معنى (ومما جاء في الإِباحة قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرجو أن تكون منهم) قال العلماء: كل ما ورد في الكتاب والسنة من ألفاظ الرجاء فهو مقطوع بحصوله. وبيّن المصنف مرجع الضمير بقوله: (أي: من الذين يدعون من جميع أبواب الجنة) الثمانية بأن كان عاملاً بعمل أهل كل باب منها (لدخولها) متعلق بيدعون (وفي الحديث الآخر) قوله للصديق أيضاً وكان على المصنف أن يقول له وإن كان أسعد بانسجام ما قبله عليه الظاهر في الظاهر من ذلك (لست منهم أي: من الذين يسبلون إزارهم خيلاء) أي: فالوعيد الوارد في مسبل الإِزار لا يتناولك، وإن كنت تسبله لأنه خاص بمن يسبله خيلاء، وأنت لست كذلك وقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه "ما رآك الشيطان سالكاً فجا") أي: طريقاً واسعاً واضحاً، هذا معنى الفج لغة، والظاهر أن المراد هنا ما يعم الواسع الواضح وغيره (إلا سلك فجاً، غير فجك) فيه الثناء عليه بالحفظ من وسوسة الشيطان، لأنه إذا باعد فجه فبالأولى أن يبعد منه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصحابة في أبواب فضائل أبي بكر، (7/21، 22) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: من جمع الصدقة وأعمال البر، (الحديث: 86) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب أبي بكر، (7/21) .(8/597)
وقال تعالى (1) : (وَلاَ تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ) .
1789- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج إلى الشَّامِ حَتَّى إذا كَانَ بسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ - أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ وأصْحَابُهُ - فَأخْبَرُوهُ أنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ. قَال ابن عباس: فقال لي عمر: ادْعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأخْبَرَهُمْ أنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعضهم: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وأصْحَابُ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلاَ نَرَى أنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاء. فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجملة، وهو النهي عن الفرار وقال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) مصدر بمعنى الهلاك. 1789- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ) بفتح المهملة وسكون الراء، ووهم من فتحها، بعدها معجمة: منزل من منازل حاج الشام على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة. قال السيوطي في التوشيح: والذي حكى الفتح: القاضي عياض، وجعله المصنف في شرح مسلم: خلاف المشهور لا وهماً، ويجوز صرف سرغ ومنعه قال الدماميني في المصابيح: وسرغ قرية بتبوك قريب من الشام (لقيه أمراء الأجناد) قال المصنف: المراد بالأجناد مدن أهل الشام الخمس، وهي فلسطين والأردن ودمشق وحمص ونسرين. هكذا فسروه واتفقوا عليه (أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء) يعني الطاعون (قد وقع بالشام قال ابن عباس فقال لي عمر ادع لي المهاجرين الأولين) قال القاضي عياض: المراد بهم: من صلى إلى القبلتين، فأما من أسلم بعد تحويل القبلة فلا يعد فيهم (فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم خرجت لأمر) هو قتال العدو (ولا نرى أن نرجع عنه) معطوف على الجملة الأولى. قال المصنف: وهؤلاء بنوا كلامهم على أصل من أصول الشرع، هو التوكل والتسليم للقضاء (وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بالجر عطفاً على الناس، وبالرفع عطفاً على بقية عطف خاص على عام (ولا نرى أن تقدمهم) بضم الفوقية وكسر الدال المهملة وبفتحها: على تقدير الجار أي: تقدم بهم (على هذا الوباء) قال المصنف وهذا مبني على أصل آخر من أصول الشريعة، هو الاحتياط والحذر،
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 195.(8/599)
ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبيلَ المُهَاجِرينَ، وَاخْتَلَفُوا كاخْتِلاَفِهِمْ، فقال: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُريشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلاَنِ، فَقَالُوا: نَرَى أنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ - رضي الله عنه - في النَّاسِ: إنِّي مُصَبحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عليْهِ، فقال أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -: أفِراراً مِنْ قَدَرِ الله؟ فقالَ عُمرُ - رضي الله عنه -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومجانبة أسباب الإِلقاء باليد إلى التهلكة (فقال) لهم (ارتفعوا عني ثم قال) أي: لابن عباس (ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين) أي: طريقهم في اختلاف الرأي في ذلك (واختلفوا) كاختلافهم (فمن قائل بالتقدم ومن قائل بالرجوع، فقال ارتفعوا عني ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش) بفتح الميم وكسر المعجمة الأولى وسكون التحتية أو بفتح الميم والتحتية وسكون المعجمة الأولى بينهما وكلاهما جمع شيخ.
كما تقدم أول الكتاب (من مهاجرة الفتح) قيل: هم الذين أسلموا قبل الفتح فحصل لهم فضل بالهجرة قبله، إذ لا هجرة بعد الفتح. وقيل: هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده، فحصل لهم اسم الهجرة دون الفضيلة. قال القاضي عياض: وهذا أظهر لأنهم الذين ينطلق عليهم اسم مشيخة قريش، ولذا اقتصر عليه الشيخ زكريا في تحفة القاري (فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان) معطوف على مقدر دل عليه ما قبله، أي: فاستشارهم فلم يختلفوا في أمر بالعود، فلذلك قال: (فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء) فاجتهد عمر فرأى الرجوع، لكثرة القائلين به، ولأنه أحوط ولم يفعله تقليداً. وقيل إشارة لحديث عبد الرحمن، كما في رواية لمسلم. قال ابن عمر: إنما انصرف بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف قال: هولاً، ولم يكن ليرجع لرأي دون آخر حتى يجد علماً. ويوافق الأول قوله (فنادى عمر في الناس فقال إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه) وتأوله الآخرون بأن المراد أنه مسافر للجهة التي خرج إليها لا للرجوع إلى المدينة، قال المصنف: وهو تأويل فاسد، والصحيح الذي دل عليه الحديث، أنه إنما قصد الرجوع للمدينة بالاجتهاد حين رأى رأي الأكثرين عليه مع فضيلة المشيرين به، وما فيه من الاحتياط. ثم بلغه الحديث فحمد الله وشكره على موافقة رأيه واجتهاده واجتهاد معظم الصحابة نص النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومصبح بصيغة الفاعل من الاصباح (فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه أفراراً من قدر الله) ؟ أي: أنفر فراراً أو ترجع فراراً (فقال عمر رضي الله(8/600)
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) الآية.
1791- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ". قالوا: يَا رسولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ باللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وأكْلُ الرِّبَا، وأكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) إشارة إلى ما كتبوه من السحر ودفنوه تحت كرسي سليمان، فلما مات انتزعوه وقالوا لأوليائهم من الإنس: إن كان تسلط سليمان بهذا فتعلموه، فأبطله الله بذلك (وما أنزل على الملكين) عطف على السحر ما يتلى. أي: ويعلمونهم كما أنهما (ببابل) ظرف أو حال اسم موضع من الكوفة. وعطف على الملكين عطف بيان قوله ْ (هاروت وماروت) وعند بعض السلف أن ما نافية، فيكون عطفاً على "ما كفر سليمان" أي: ولا أنزل على ملكين أي: جبريل وميكائيل فإن سحرة اليهود زعموا أن السحر أنزل على لسانهما إلى داود، فردهم الله. ويسأل: متعلق بيعلمون. وهاروت وماروت اسمان لرجلين صالحين ابتلاهما الله بالسحر وقعا بدلا من الشياطين (وما يعلمان) أي: الملكان أو الرجلان (من أحد) أي أحداً (حتى يقولا إنما نحن فتنة) ابتلاء واختبار (فلا تكفر) بتعلمه وذلك لأن تعلمه للعمل كفر، وتعلم هذا النوع كفر لما فيه من الكفر فهذه نصيحة منهما.
1791- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اجتنبوا السبع الموبقات) من باب قولك لبس الناس ثوبهم أي: لبس كل إنسان ثوبه، وليس من باب ترتيب المجموع على المجموع، إذ كل من السبع بانفراده موبق في الدين (قالوا يا رسول الله وما هن) سألوا عن حقائق ما كنى عنه بالعدد (قال الشرك بالله) أي: الكفر به، وخص الشرك لكونه كفراً للخاطئين (والسحر) في قرنه بالشرك إيماء إلى غلظه وفظاعة، شأنه، لا سيما وقد كنى عنه ْبالكفر في الآية، وبعض أفراده كذلك، ولذا قدم على القتل المحرم. إذ لا يكون من حيث ذاته كفراً، ففي تقديمه على القتل ذكراً إيماء إلى ذلك، وإن كانت الواو لا ترتيب (وقتل ْالنفس التي حرم الله) وهي النفس المعصومة بإسلام أو ذمة أو عهد أو أمان (إلا بالحق) كالقتل قصاصاً أو حداً أو زدة (وأكل الربا وأكل مال اليتيم) هو صغير لا أب له أي: إتلاف ماله والتصرف فيه أو غيره: وخص الأكل بالذكر لأنه المقصود الغالب من المال (والتولي) أي: الفرار من الصف (يوم الزحف) أي: ولم يزد العدد على الضعف، وخرج بالتولي(8/603)
وَالدِّيبَاجِ، وَالشُّرْبِ في آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وقالَ: "هُنَّ لَهُمْ في الدُّنْيَا، وَهِيَ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ". متفق عَلَيْهِ.
وفي رواية في الصحيحين عن حُذيْفَةَ - رضي الله عنه -: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لاَ تَلْبسُوا الحَرِيرَ وَلاَ الدِّيبَاجَ، وَلاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَلاَ تَأكُلُوا في صِحَافِهَا" (1) .
1795- وعن أنس بن سِيِرين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة تقدم الكلام عليه في اللباس، وأنه ثوب سداه ولحمته إبريسم، ويقال هو معرب. والخلاف في أن ياءه زائدة، وأنه بوزن فيعال أو أصل بدل من الموحدة وأصله دباج بالتضعيف (والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: هن) أي: أولى النقدين (لهم) أي: الكفار (في الدنيا) بمعنى حالها لهم ديمان الصحيح أنهم مخاطبون بفروع الشريعة، بل معنى أنهم المستعملون لها في الدنيا عادة، وهو نعيمهم الذي قدره الله لهم فيها، وما لهم في الآخرة من نصيب (وهي) عبر به بعد أن عبر بضمير جمع النسوة، قيل تفنناً في التعبير (لكم) أيها المؤمنون (في الآخرة) يعني في الجنة (متفق عليه) وفيه تحريم استعمال آنية النقدين على الرجال وغيرهم، بإدراج النساء في ضمن الذكور تغليباً على قول المحققين، وحقيقة على قول غيرهم، إذ علة الحرمة عين النقدين مع الخيلاء، وهي مشتركة بين الصنفين، ويحرم اتخاذهما أيضاً لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه عندنا، كالطنبور، ْوفيه المجازاة على الصبر على الزائل الفاني بالدائم الباقي (وفي رواية في الصحيحين عن ْحذيفة رضي الله عنه) الأخصر والأولى عنه قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لا تلبسوا الحرير ولا الديباج) هو مقصور على الذكور لأن علة تحريمه من أن فيه خنوثة تنافي شهامتهم مقصورة عليهم (ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها) أي: صحاف آنية الذهب والفضة وهي بكسر الصاد المهملة جمع صحفة وهي دون القصعة، وخص فيه الشرب والأكل بالذكر لغلبتهما في الاستعمال لا للتقييد. وخص الإِناء بالشرب، والصحاف بالأكل، لأنهما معدان لهما غالباً.
1795- (وعن أنس ابن سيرين) الأنصاري أبو موسى، وقيل أبو ضمرة. وقيل أبو عبد الله
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأشربة، باب: الشرب في آنية الذهب والشرب في آنية الفضة، (10/83) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة ... ، (الحديث: 4) .(8/606)
1796- عن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَتَزَعْفَرَ الرجُل. متفق عَلَيْهِ (1) .
1797- وعن عبد اللهِ بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: رأى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: "أُمُّكَ أمَرَتْكَ بِهَذا؟! " قلتُ: أَغْسِلُهُمَا! قَالَ: "بَلْ أَحْرِقْهُمَا".
وفي رواية، فَقَالَ: "إنَّ هَذَا مِنْ ثِيَابِ الكُفَّارِ فَلاَ تَلْبَسْهَا". رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عمر، وفيه قال البيهقي بعد أن نقل عن الشافعي تحريم المزعفر: على الرجل دون المعصفر، والصواب، تحريم المعصفر عليه أيضاً للأحاديث الصحيحة، التي لو بلغت الشافعي لقال بها، وقد أوصانا بالعمل بالحديث الصحيح. ذكر ذلك في الروضة، والخنثى في ذلك كالرجل احتياطاً.
1796- (عن أنس رضي الله عنه قال نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزعفر الرجل) شامل لبعض الثوب وللاطلاء بالزعفران (متفق عليه) .
1797- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: أبصر (على ثوبين معصفرين) أي: مصبوغين بالعصفر (فقال أمك) بالرفع مبتدأ (أمرتك بهذا) أي: بلبسه، قال المصنف بمعناه أن هذا من لباس النساء وزينتهن وأخلاقهن (قلت اغسلهما) أي: منه (قال: بل احرقهما) قيل هو عقوبة وتغليظ لزجره وزجر غيره عن مثل هذا الفعل ونظيره، أمرتك: المرأة التي لعبت الناقة بإرسالها (وفي رواية) هي لمسلم أيضاً من حديث ابن عمرو أيضاً ورواها كذلك النسائي (فقال إن هذه) أي: الثياب المعصفرة (من ثياب أهل النار) أي: وهم غير متعبدين بأحكام الشرع في الدنيا لعدم إيمانهم وإن كانوا مخاطبين بها (فلا تلبسها رواه مسلم) باللفظين المذكورين في الباب.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: التزعفر للرجال (10/256، 257) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: نهى الرجل عن التزعفر، (الحديث: 77) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، (الحديث: 27 و28) .(8/608)
366- باب في النهي عن صمت يوم إلَى الليل
1798- عن عليٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلاَمٍ، وَلاَ صُمَاتَ يَومٍ إِلَى اللَّيْلِ". رواه أَبُو داود بإسناد حسن. قَالَ الخَطَّابِيُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب النهي
تنزيهاً (عن صمت يوم إلى الليل) .
1798- (عن علي) بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووالد السبطين (رضي الله عنه) قال السيوطي في التوشيح: قال أحمد والنسائي وغيرهما: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد، أكثر مما جاء في علي، وكأن السبب في ذلك أنه تأخر ووقع الاختلاف في زمانه، وكثر المحاربون والخارجون عليه، فكان ذلك سبباً لانتشار مناقبه، لكثرة من كان يرويها من الصحابة رداً على من خالفه. وإلا فالثلاثة قبله لهم في المناقب ما توازيه وتزيد عليه اهـ وكان علي أصغر من جعفر بعشر سنين، وقيل: إن علياً أول من آمن به - صلى الله عليه وسلم -، روي ذلك عن جماعة من الصحابة حتى قال بعضهم: أليس أول من صلى لقبلتهم وأعلم الناس بالفرقان، والسنن والصحيح عند الجمهور أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال البالغين، بويع علي بالخلافة بعد قتل عثمان وتخلف عن بيعته معاوية وأهل الشام، وكان بينهم ما كان من القتال بصفين وغيرها، ثم قام الخوارج فقاتلهم فقتلهم وبقي من بقاياهم نذر يسير، فانتدب لهم منهم أشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي وكان فاتكاً ملعوناً فطعنه في رمضان سنة أربعين وقبض أول ليلة من العشر الأخير. واختلف في موضع دفنه وفي مبلغ سنه، فقيل: ثلاث وستون، قاله أبو نعيم وهو قول عبد الله بن عمر، وصححه ابن عبد البر. وقيل: سبعة وخمسون، وقيل: ثمانية وخمسون وهو قول البخاري، وقيل: أربعة وستون وهو قول ابن حبان. وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثاً. وقال: وقال أبو نعيم الأصبهاني: اسند أربعمائة حديث ونيفاً من المتون سوى الطرق، وقال البرقي: الذي حفظ لنا عنه نحو مائتي حديث روي منها في الصحيحين أربعة وأربعون حديثاً اتفقا على عشرين منها وانفرد البخاري بتسعة ومسلم بخمسة عشر (قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل بالسماع من لفظه وهو الأقرب، ويحتمل بواسطة فيكون مرسل صحابي (لا يتم بعد احتلام) وسواء فيه الرجل والمرأة، ومثله البلوغ بالسن فيرتفع اليتم بالبلوغ ويرتفع أحكامه (ولا صمات) بضم المهملة مصدر صمت من باب قتل صمتاً وصموتاً إذا سكت، ومنه الحديث: "وإذنها(8/609)
لاَ يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الجَاهِليَّةِ، فَتَكَلَّمَتْ. رواه البخاري (1)
367- باب في تحريم انتساب الإنسان إِلَى غير أَبيه وَتَولِّيه إِلَى غير مَواليه
1800- عن سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنِ ادَّعَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه شرعاً المحتاج إليه (لا يحل) حلاً مستوى الظرفين وعلل ذلك بقوله (هذا من عمل الجاهلية) وجاء الأمر بمخالفتهم لعدم ابتناء عملهم على أصل شرعي، إلا ما جاء الأمر ببقائه (فتكلمت) فيه الإِيماء إلى مبادرتها إلى الامتثال وعدم توانيها فيه عند تدبر الأمر لها. وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني ليس من شريعة الإِسلام الصمت عن الكلام وظاهر الأخبار تحريمه، واحتج بحديث أبي بكر وحديث علي المذكور قال: وإن نذر ذلك لم يلزمه الوفاء به، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفاً اهـ. قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه: ويكره صمت يوم إلى الليل، قال ابن الرفعة في شرحه إذ لم يؤثر ذلك بل جاء في حديث ابن عباس النهي عنه، ثم قال: نعم ورد في شرع من قبلنا فإن قلنا إنه شرع لنا لم يكره بل يستحب، قاله ابن يونس قال: وفيه نظر لأن الماوردي قد روى عن ابن عمر موفوعاً "صمت الصائم تسبيح" قال: فإن صح دل على مشروعية الصمت، وإلا فحديث ابن عباس أقل درجاته الكراهة، قال: وحيث قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا فذاك إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه اهـ. وهو كما قال وقد ورد النهي، والحديث المذكور لا يثبت، وقد أورده صاحب ْمسند الفردوس من حديث ابن عمر بسند فيه راو ساقط ولو ثبت لما أفاد المقصود لأن لفظه "صمت الصائم تسبيح ونومه عبادة ودعاؤه مستجاب". فالحديث مساق في أن أفعال الصائم كلها محبوبة لا أن الصمت بخصوصه مطلوب، قال في الفتح: والأحاديث الواردة في فضل الصمت، لا تعارض ما جزم به في التنبيه من الكراهة لاختلاف المقاصد في ذلك.
والصمت المرغب فيه ترك الكلام في الباطل، وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك، والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه وكذا المباح المستوى الطرفين اهـ. ملخصاً (رواه البخاري في باب أيام الجاهلية) .
باب تحريم انتساب الإِنسان إلى غير أبيه
حراً كان أو رقيقاً (وتوليته غير مواليه) أي: معتقيه.
1800- (عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ادعى) بتشديد الدال
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: مناقب الأنصار، باب: أيام الجاهلية، (7/112، 113) .(8/611)
الإبِلِ، وَأشْيَاءُ مِنَ الجَرَاحَاتِ، وَفِيهَا: قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "المَدينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً، أَوْ آوَى مُحْدِثاً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً. ذِمَّةُ المُسْلِمينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِماً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإِبل وأشياء من) مسائل (الجراحات) وأحكامها (وفيها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة حرام) كمكة لكن لا ضمان في المتلف من صيدها، بخلاف صيد الحرم المكي (ما بين عير) بفتح المهملة وسكون التحتية (إلى ثور) بفتح المثلثة وسكون الواو وآخره راء. قال المصنف جبل صغير وراء جبل أحد، يعرفه أهل المدينة (فمن أحدث فيها حدثاً) كائن ابتدع فيها بدعة في الدين أو تسبب لإِحداث أذى المسلمين من مكس أو ظلامة (أو آوى) بالمد (محدثاً) بصيغة الفاعل أي: فاعل الحدث المذكور وبفتح الدال مصدر ميمي فيكون في الحديث مضاف مقدر أي: إذا أحدث (فعليه لعنة الله) بمنعه له من الرحمة (والملائكة والناس أجمعين) سؤالهم ذلك من الله تعالى، وفيه عظم المعصية بالمدينة. قال السيد السمهودي: الصغيرة من الذنب إذا فعلت بالمدينة صارت كبيرة للوعيد المذكور (لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) قيل الصرف الفريضة، والعدل النافلة قاله الجمهور، وعكسه الحسن. وقال الأصمعي: الصرف التوبة والعدل الفدية. وقال يونس: الصرف الاكتساب، والعدل الفدية. وقال أبو عبيد: العدل الحيلة وقيل العدل المثل. وقيل: الصرف الدية والعدل الزيادة. قال القاضي وقيل: معناه لا تقبل فريضته ولا نافلته قبول رضاً، وإن قبلت قبولاً آخر. وقيل: يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب منهما، قال: وقد يكون معنى الفدية هنا أنه لا يجد في يوم القيامة فداء يفتدي به، بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله عز وجل على من يشاء منهم، بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني، كما ثبت في الصحيح اهـ. ملخصاً من شرح المصنف على مسلم (وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) ولو عبداً أو امرأة فإيمانهما صحيح قاله إمامنا الشافعي، والحديث شاهد له (فمن أخفر) بالخاء المعجمة والفاء (مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) قال المصنف: معناه من نقض أمان مسلم، فتعرض لكافر أمنه مسلم، فعليه ذلك (ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) قال المصنف: هذا تصريح في تغليظ تحريم الانتساب إلى غير أبيه، وانتماء(8/613)
وَلاَ عَدْلاً. وَمَن ادَّعَى إِلَى غَيرِ أَبيهِ، أَوْ انْتَمَى إِلَى غَيرِ مَوَاليهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ؛ لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً" متفق عَلَيْهِ. "ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ" أيْ: عَهْدُهُمْ وأمَانَتُهُمْ. "وأخْفَرَهُ": نَقَضَ عَهْدَهُ. "وَالصَّرْفُ": التَّوْبَةُ، وَقِيلَ الحِيلَةُ. "وَالعَدْلُ": الفِدَاءُ (1) .
1803- وعن أَبي ذَرٍّ - رضي الله عنه -: أنَّه سَمِعَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، وَلَيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعتق إلى غير مواليه، لما فيه من كفر النعمة، وتضييع حقوق الإِرث والولاء والعقل وغير ذلك، مع ما فيه من القطيعة والعقوق (لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) زيادة في إذلاله وإبعاده عن الرحمة (متفق عليه ذمة) بكسر المعجمة وتشديد الميم (المسلمين أي: عهدهم وأمانتهم) بيان لها بالمراد بها في الحديث أي: أن أمان المسلمين للكافر صحيح بشروطه المعروفة، فإذا وجدت حرم التعرض له كما قاله فمن أخفره إلخ. (وأخفره) بالضبط السابق (نقض عهده) أي: نقض أمانه وتعرض للكافر الذي أمنه. قال أهل اللغة: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده، وخفرته إذا أمنته (والصرف التوبة) تقدم أنه قول الأصمعي وأنه جاء مرفوعاً (وقيل: الحيلة) هو قول أبي عبيد (والعدل الفدية) هو قول يونس.
1803- (وعن أبي ذر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس من) زائدة للتأكيد (رجل ادعى) بتشديد الدال أي انتسب (لغير أبيه وهو يعلمه) أي: وقصده نفي نسب أبيه عنه، وإلا فلو اشتهر بالنسب إلى جده أو من تبناه مثلاً، فانتسب لذلك لشهرته غير قاصد انتفاءه من نسبه، فلا يشمله الوعيد الآتي (إلا كفر) أي: إن استحله، وقد علم بالتحريم المعلوم من الدين بالضرورة والإِجماع. هذا إن حمل على الكفر المضاد للإِيمان، وإن أريد منه الكفران المقابل للشكر، فالأمر ظاهر (ومن ادعى ما ليس له) عامداً عالماً (فليس منا) أي: على هدينا وطريقنا (وليتبوأ مقعده من النار) أي: فلينزل أو فليتخذ منزله منها. قال الخطابي:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: إثم من تبرأ من مواليه وفي الجزية والاعتصام (4/73، 74) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة ... ، (الحديث: 467، 468) .(8/614)
وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بالكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُو اللهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ". متفق عَلَيْهِ، وهذا لفظ رواية مسلم (1) .
368- باب في التحذير من ارتكاب ما نهى الله - عز وجل - أَو رسوله - صلى الله عليه وسلم - عنه قال الله تعالى (2) : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
وقال تعالى (3) : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأصله من تباة الإِبل. وهي أعطانها. ثم إنه دعي بلفظ الأمر أي بوأه الله ذلك، وقيل: خبر بلفظ الأمر أي: فقد استوجبها. ثم معناه هذا جزاؤه وقد يجازى به وقد يعفو الله الكريم عنه، ولا يقطع عليه بدخول النار، قال المصنف (ومن دعا رجلاً بالكفر) كائن قال له يا كافر (أو قال عدو الله) بالنصب على تقدير حرف النداء وبالرفع: خبر مبتدأ، أي: هو عدو الله، وليس المدعو أي: المقول له (كذلك) أي: متلبساً بما رماه به القائل (إلا حار) المهملة والراء أي: رجع (عليه) قوله وصار القائل كما قال في أخيه أي: إن اعتقد أن الإِيمان القائم بذلك المقول له كفر، وأن المؤمن القائم به ذلك كافر، وإلا فهو محمول على الزجر والتنفير (متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم) .
باب التحذير من ارتكاب ما نهى الله عز وجل أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - عنه
سواء كان النهي على وجه الجزم والاقتضاء، فيكون للتحريم. أولاً، وسواء كان الثاني بنهي مقصود، وهو المكروه أو غير مقصود. وهو خلاف الأولى، وذلك لشمول النيه لكلٍ وإن كان الأول أغلظ لحصول الإِثم بفعل المنهى عنه فيه لا في الثاني (قال الله تعالى: فليحذر الذين يخالفون) معرضين (عن أمره أن تصيبهم فتنة) في الدنيا (أو يصيبهم عذاب أليم) في الآخرة وإذا ورد هذا الوعيد في مخالفة أمر الرسول والإعراض عنه، فعن أمر الحق أحق (وقال تعالى: ويحذركم الله نفسه) أي: عن عقاب يصدر عن نفسه، وهذا غاية
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: حدثنا أبو معمر عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع ... ، (الحديث: 6/393) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، (الحديث: 112) .
(2) سورة النور، الآية: 63.
(3) سورة آل عمران، الآية: 30.(8/615)
وَقَالَ تَعَالَى (1) : (إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (وَكَذِلكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) .
1804- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ اللهَ تَعَالَى يَغَارُ، وَغَيْرَة اللهِ، أنْ يَأْتِيَ المَرْءُ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ". متفق عليه (3) .
369- باب فيما يقوله ويفعله من ارتكب منهياً عنه
قال الله تعالى (4) : (وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) .
وقال تعالى (5) : (إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التحذير. كما يقال: احذر غضب السلطان نفسه (وقال تعالى: إن بطش ربك) أي: أخذه بالعنف لأعدائه (لشديد) مضاعف (وقال تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى) أي: أهلها (وهي ظالمة) أسند إليها ما هو لأهلها مجازاً عقلياً من الإِسناد للمكان نحو نهر جار (إن أخذه أليم شديد) وجيع صعب.
1804- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تعالى يغار) المراد من الغيرة بالنسبة إليه تعالى غايتها من المنع كما قال (وغيرة الله) بفتح المعجمة وسكون التحتية (أن يأتي العبد ما حرم الله) أي: منع إتيان العبد ما حرمه (متفق عليه) .
باب ما يقوله ويفعله من ارتكب منهياً عنه
محرماً كان أو مكروهاً (قال الله تعالى: وإما) مركب من أن الشرطية، وأما المزيدة للتأكيد (ينزغنك من الشيطان نزغ) أي: أفسدك من الشيطان فساد (فاستعذ) أي تحصن من شره (بالله وقال تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف) لمة ووسوسة، من طاف به الخيال
__________
(1) سورة البروج، الآية: 12.
(2) سورة هود، الآية: 102.
(3) أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: الغيرة، (9/281) .
وأخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش، (الحديث: 36) .
(4) سورة الأعراف، الآية: 200.
(5) سورة الأعراف، الآية: 201.(8/616)
1805- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ في حَلفِهِ: بِاللاَّتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ أُقَامِركَ فَلْيَتَصَدَّقْ". متفق عليه (1) .
***
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1805- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل) كفارة لذكرها في معرض التعظيم الموهم له (لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك) في القاموس قامره مقامرة وقماراً فقمره كنصره وتقمر راهنه فغلبه (فليتصدق) ليكون ثوابها كفارة لسيئته القولية (متفق عليه) قال في الجامع الكبير: ورواه الشافعي وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/النجم وأخرجه في كتاب الأدب والاستئذان والإِيمان، (11/467) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله (الحديث: 5) .(8/618)
فَمَنْ أدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقْرَأ عَلَيْهِ فَواتِحَ سُورَةِ الكَهْفِ؛ إنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِيناً وَعَاثَ شِمالاً، يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا" قُلْنَا: يَا رسُولَ اللهِ، وَمَا لُبْثُهُ في الأرْضِ؟ قال: "أرْبَعُونَ يَوماً: يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمْعَةٍ، وَسَائِرُ أيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَذلكَ اليَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ؟ قَال: "لا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ".
قُلْنَا: يا رسولَ اللهِ، وَمَا إسْراعُهُ في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنت مؤمن وهو كافر، فقال الحافظ في الفتح: إنها ضعيفة فإن في سندها المسعودي وقد اختلط، والمحفوظ أنه عبد العزى بن قطن وأنه هلك في الجاهلية (فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) أي: فإنها تدفع فتنته عن قارئها، كما ورد كذلك وقيل عشر آيات من آخر سورة الكهف. جاء ذلك في رواية أخرى قال القرطبي: والحزم والاحتياط أن يقرأ عشراً من أولها وعشراً من آخرها. وعند أبي داود من حديث النواس "فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جوار لكم من فتنته" اهـ. (أنه خارج خله بين الشام والعراق) قال المصنف: هو في نسخ بلادنا بفتح المعجمة واللام وتنوين الهاء. وقال القاضي عياض: المشهور فيه فتح المعجمة وتشديد اللام ونصب الهاء غير منونة. قيل معناه سميت ذلك وتأمله ورواه بعضهم محله بضم اللام وبهاء الضمير أي: نزوله وحلوله. قال وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين ببلادنا. وهو الذي رجحه صاحب نهاية الغريب وفسره بالطريق بينهما، وكان على المصنف حيث اقتصر على هذا المعنى فيما يأتي أن يضبطه (فعاث يميناً وعاث شمالاً) قال المصنف: روي بفتح المثلثة فيهما فعل ماض، وحكى القاضي أنه روى عاث: بصيغة اسم الفاعل قال التوربشتي: إنما قال يميناً وشمالاً إشارة إلى أنه لا يكتفي بإفساد ما يطؤه من البلاد، بل يبعث سراياه يميناً وشمالاً فلا يأمن من شره مؤمن، ولا يخلو من فتنته موطن (يا عباد الله فاثبتوا) أي: على الإِيمان ولا تزيغوا عنه (قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض) استئناف للسؤال عن قدر لبثه في الدنيا (قال أربعون يوماً) هو ما بين طلوع الشمس وغروبها (يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة) قال العلماء: هذا الحديث على ظاهره، وهذه الأيام الثلاث طويلة على هذا القدر المذكور في الحديث، يدل عليه قوله (وسائر) أي: باقي (أيامه كأيامكم) المعتادة في القدر (قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم) سألوا عن الذي هو كسنة، وظاهر جريان ذلك فيما هو كشهر وما هو كجمعة، وسكتوا عن ذلك لظهور أن لا فرق بينهما في ذلك (قال لا) أي: لا يكفيكم ذلك (أقدروا له) بضم الهمزة (قدره) أي: إنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه(8/621)
الأرْضِ؟ قال: "كَالغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأتِي عَلَى القَوْمِ، فَيدْعُوهُم فَيُؤمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالأرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرىً وَأسْبَغَهُ ضُرُوعاً، وأمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأتِي القَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَولَهُ، فَيَنْصَرفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبين الظهر كل يوم، فصلوا الظهر، ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر، فصلوا العصر. وهكذا ما بينها وبين المغرب وما بين المغرب والعشاء وما بينهما وبين الصبح والظهر والعصر، حتى ينقضي ذلك اليوم وقد وقع فيه صلوات سنة، كلها فرض مؤداة في وقتها.
واليومان الذي كشهر وكجمعه على قياس هذا. قال القاضي عياض: هذا حكم مخصوص، شرعه لنا صاحب الشرع، ولولا هذا الحديث ووكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. قال العاقولي: أقول هذا مما جره التعمق في السؤال، إذ لو لم يسألوا وسكتوا، لكان حكمه حكم سائر الأيام ولكن سألوا، فجرى مثل ما جرى لبني إسرائيل وسؤالهم عن البقرة حتى بلغ بهم الحرج ما علمت، وما نقلناه من إجراء الحديث على ظاهره أولى مما مشى عليه التوربشتي من تأويله، وأن اليوم لا يزاد فيه أصلاً وأنه كنى يكون يوم كسنة الخ عن شدة أهواله وفتنه، وبتقدير الصلوات عن الاجتهاد عند مصادفة تلك الأهوال إلى كشفها. وقد ردّ ابن الجوزي ذلك التأويل، وكذا القرطبي في المفهم بما فيه طول (قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض. قال: كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم) أي: إلى أنه ربهم وإلى الإِيمان بذلك (فيؤمنون به ويستجيبون له) أي: ويجيبونه (فيأمر السماء) أي: بالمطر (فتمطر) أي: حالاً (والأرض) بالنصب أي: يأمرها بالنبات (فتنبت فتروح) أي: ترجع (عليهم سارحتهم) بالسين والراء والحاء المهملات: هي المال السائم (أطول) بالنصب حال (ما) مصدرية (كانت ذري) بضم الذال المعجمة جمع ذروة بضم وكسر أي: ترجع إليهم من المرعى أطول، ألوانها عظيمة السنام، مرتفعة من السمن والشبع، (وأشبعه ضروعاً) بالشين المعجمة والموحدة والمهملة أي: إملاءه وإسناد الشبع إليها من الإِسناد إلى السبب. وضبطه العاقولي بالمهملة والموحدة والغين المعجمة قال: أي: أطوله لكثرة اللبن (وأمده خواصر) أي: لكثرة امتلائها من الشبع (ثم يأتي القوم) أي: غير أولئك كما يدل عليه السياق وكون اللفظ الثاني إذا أعيد معرفة، غير الأول أغلبي لا كلي (فيدعوهم فيردون عليه قوله) ويثبتون على التوحد (فينصرف عنهم) أي: راجعاً (فيصبحون) أي: يصيرون (ممحلين) بالمهملة. قال التوربشتي: يقال أمحل(8/622)
وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أوائِلُهُمْ عَلَى بُحيرَةِ طَبَريَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بهذِهِ مَرَّةً ماءٌ، وَيُحْصَرُ نَبيُّ اللهِ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْراً مِنْ مِئَةِ دينَارٍ لأَحَدِكُمُ اليَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابُهُ - رضي الله عنهم - إلى اللهِ تَعَالَى، فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النَّغَفَ في رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أعجميان ألفهما كألف هاروت وما أشبهه، وعليه فالهمز قياس إنما هو على لغة من همز الألف، كقائم ووزنها فاعول اهـ. وقاق الحافظ في الفتح هما اسمان أعجميان عند الأكثرين. وقيل عربيان. واختلف في اشتقاقهما. فقيل من أجيج النار أي: التهابها. وقيل من الإِياجة أي الاختلاط وشدة الحر. وقيل من الأج أي: سرعة العدو. وقيل: من الأجاج أي: الماء الشديد الملوحة وجميع ما ذكر من الاشتقاق مناسب لحالهم (من كل حدب) بفتح أوليه المهملتين وبالموحدة النشر (ينسلون) أي: مسرعين (فيمر أولهم على بحيرة طبرية) بضم الموحدة وفتح المهملة وسكون التحتية مصغر بحرة وطبرية بفتح المهملة والموحدة اسم مكان بفارس (فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة) أي: في وقت (ماء) واسم كان أخر لنكارته وقدم عليه خبره الظرفي المسوغ للابتداء به (ويحصر) بضم التحتية وفتح المهملة الثانية من المحاصرة (نبي الله عيسى وأصحابه) أي: يمنعون من يأجوج ومأجوج من النزول إلى الأرض حتى (يكون رأس الثور لأحدهم) أي: عنده، وإنما ذكر رأس الثور ليقاس به البقية في ارتفاع القيمة وذهب بعضهم إلى أنه أراد برأس الثور نفسه أي: تبلغ قيمة الثور إلى ما فوق المائة لاحتياجهم إليه في الزراعة. قال التوربشتي ولم يصب لأن رأس الثور قل ما يراد به عند الإِطلاق نفسه، بل يقال: رأس ثور أو رأس من الثور، ثم إن في الحديث أنهم محصورون، وما للمحصور والزراعة لا سيما على الطور اهـ. (خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم) وذلك لقوة حاجتهم للطعام واضطرارهم إليه (فيرغب نبي الله عيسى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى الله تعالى) أي: ابتهلوا وتضرعوا إليه وسألوه دفع أذى يأجوج ومأجوج وفي إهلاكهم (فيرسل الله تعالى عليهم) أي: على يأجوح ومأجوج (النغف) بضم النون وفتح الغين المعجمة وبالفاء دود يكون في أنوف الإِبل والغنم الواحدة نغفة (في رقابهم فيصبحون فرسى) بفتح الفاء وسكون الراء وبالسين المهملة (كموت نفس واحدة) أي: يموتون دفعة واحدة، قال التوربشتي: نبه بالكلمتين النغف وفرسى، على أنه تعالى يهلكهم في أدنى ساعة بأهون شيء وهو النغف. فيفرسهم فرس السبع فريسته، بعد(8/625)
عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابُهُ - رضي الله عنهم - إلى اللهِ تَعَالَى، فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النَّغَفَ في رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم -، وأصْحَابُهُ - رضي الله عنهم - إلى الأرْضِ، فَلاَ يَجِدُونَ في الأرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إلاَّ مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتَنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - وَأصْحَابُهُ - رضي الله عنهم - إلى اللهِ تَعَالَى، فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى طَيْراً كَأَعْنَاقِ البُخْتِ، فَتَحْمِلُهُمْ، فَتَطْرَحُهُمْ حَيثُ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ - عز وجل - مَطَراً لاَ يُكِنُّ مِنهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الأرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَقَةِ، ثُمَّ يُقَالُ للأرْضِ: أنْبِتي ثَمَرتكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأكُلُ العِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ حَتَّى أنَّ اللّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِي الفِئَامَ مِنَ النَّاسِ؛ وَاللِّقْحَةَ مِنَ البَقَرِ لَتَكْفِي القَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الغَنَمِ لَتَكْفِي الفَخِذَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن طارت نفرة البغي في رءُوسهم، فزعموا أنهم قاتلوا من في السماء (ثم يهبط نبي الله عيسى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى الأرض) لذهاب المانع من النزول إليها قبل (فلا يجدون في الأرض موضع شبر) مفعول به ليجد (إلا ملأه زهمهم) بفتح الزاي والهاء (ونتنهم) بالنون والفوقية أي: سهم رائحتهم الكريهة (فيرغب نبي الله عيسى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى الله تعالى) أي: في دفع ذلك (فيرسل الله طيراً كأعناق البخت) بضم الموحدة وسكون المعجمة وبالفوقية (فتحملهم فتطرحهم حيث يشاء الله تعالى) من بر أو بحر (ثم يرسل الله عز وجل مطراً) أي: عظيماً كما يدل عليه وصفه بقوله (لا يكن) بكسر الكاف وتشديد النون (منه بيت مدر) بفتح الميم والدال وهو الطين الصلب (ولا وبر) بفتح الواو الموحدة أي: الخبأ (فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة) من النقاء واللين (ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك ودري بركتك) أي: البركة التي كانت فيك أولاً (فيومئذ تأكل العصابة) بكسر المهملة الأولى (من الرمانة) لكمال كبرها (ويستظلون بقحفها) بكسر القاف وهو مقعر قشرها، شبهها بقحف الرأس وهو الذي فوق الدماغ، وقيل ما انفلق من جمجمته وانفصل قال السخاوي: في ختم سنن أبي داود (ويبارك في الرسل) بكسر فسكون (حتى أن اللقحة) بكسر اللام على الاسم وفتحها القريبة العهد بالولادة وجمعها لقح كبركة وبرك. واللقوح ذات اللبن وجمعها لقاح (من الابن) بكسر الألف والموحدة وبسكونها (لتكفي الفئام من الناس واللقحة) الكائنة أو كائنة (من البقر لتكفي القبيلة من الناس) هو فوق الفخذ عند علماء النسب (واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ) قال ابن فارس: هي بإسكان الخاء لا غير أما التي بمعنى العضو، فبفتح فكسر أو سكون أو بكسر فسكون أو فكسر اتباعاً، وهي لغات أربع جارية فيما كان على وزن علم، وعينه حرف(8/626)
مِنَ النَّاسِ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى ريحاً طَيِّبَةً فَتَأخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ؛ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيها تَهَارُجَ الحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ ". رواه مسلم. قولهُ: " خَلَّةً بَينَ الشَّامِ والعِراَقِ ": أي طَرِيقاً بَيْنَهُمَا. وقولُهُ: " عَاثَ " بالعين المهملة والثاء المثلثة، وَالعَيْثُ: أَشَدُّ الفَسَاد. " وَالذُّرَى ": بضم الذال المعجمة وهو أعالي الأسْنِمَةِ وهوَ جَمعُ ذِروةٍ بضمِ الذالِ وكَسْرها " وَاليَعَاسِيبُ ": ذُكُورُ النَّحْلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حلق. والفخذ تقدم أنهم الجماعة من الأقارب. وهم دون البطن، والبطن دون القبيلة كما يأتي في كلامه (من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض) بكسر الموحدة (روح كل مؤمن وكل مسلم) قال المصنف: كذا في جميع نسخ مسلم، وكل بالواو وإسناد القبض إلى الريح مجاز من الإِسناد إلى السبب (ويبقى شرار الناس يتهارجون) بالراء والجيم فيها (تهارج الحمر) بضمتين أي: تجامع الرجال النساء علانية بحضرة الناس، كما تفعل الحمير، ولا يكترثون لذلك. والهرج الجماع بكسر الراء يقال: هرج زوجته إذا جامعها، تهرجاً بتثليث حركة الراء ذكره المصنف (فعليهم) وحدهم دون المؤمنين (تقوم الساعة) أي: القيامة (رواه مسلم) ورواه الأربعة قال التوربشتي: فإن قيل: أوليس في هذه الأشياء الخارقة للعادة التي وردت في هذا الحديث وغيره من أحاديث َالدجال وظهورها على يديه مضلة للعقول، ومدعاة إلى اتباع الباطل وإخلال بما أعطى الله أنبياءه من المعجزات؟ فالجواب: أن الملعون إنما ترك ذلك لأن في نفس القصة ما يدع المتصبر عن الالتفات إليها فضلاً عن قبولها، ثم أنه لا يدعي النبوة بل يدعي الربوبية وهذا مما لا مساغ له في العقول ولا موقع له في القلوب لقيام دلائل الحدوث في نفس المدعي، مع أنه لم يترك دعواه حتى ألزم النقص الذي لا ينفك، ولا يخفى على ناظر مكانه، وهو العور الذي به. وإلى هذا المعنى أشار بقوله: ولكن أقولكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه أنه أعور الحديث. وقال أيضاً فإن قيل: أوليس قد ثبت في أحاديث الدجال أنه يخرج بعد خروج المهدي وأن عيسى يقتله كما في آخر الحديث، وذلك دليل أنه لا يخرج وهو - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم، بل ولا تراه القرون الأولى من هذه الأمة، فما الحكم في قوله إن يخرج وأنا فيكم؟ فالجواب: إنما سلك هذه المسالك من التورية لإِبقاء الخوف على المكلفين من فتنته، واللجأ إلى الله تعالى من شره، لينالوا الفضل من الله ويتحققوا بالشح على دينهم؟ اهـ.
(وقوله خلة بين الشام والعراق أي: طريقاً بينهما) تقدم ضبط خلة، والخلاف فيه وما ذكره المصنف (وقوله عاث بالمهملة والمثلثة) تقدم أنه بصيغة الماضي، وحكي بصيغة اسم(8/627)
1807- وعن رِبعِيِّ بنِ حِرَاشٍ، قال: انطلقت مع أبي مسعود الأنصاري إلى حُذَيفَةَ بن اليمان - رضي الله عنهم -، فقال له أبو مسعود: حَدِّثْنِي ما سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، في الدَّجَّالِ، قال: "إنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ، وإنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَاراً، فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءً فَنَارٌ تُحْرِقُ، وأمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَاراً، فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ. فَمَنْ أدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقَعْ فِي الَّذي يَراهُ نَاراً، فَإنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ" فقال أبو مسعود: وَأنَا قَدْ سَمِعْتُهُ. متفق عليه (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1807- (وعن ربعيّ) بكسر الراء وسكون الموحدة وبالمهملة (بن حراش) بكسر المهملة وتخفيف الراء آخره شين معجمة، وتقدم أنه تابعي (قال: انطلقت مع أبي مسعود الأنصاري) هو البدري لشهوده وقعتها أو سكناه بها، على الخلاف المتقدم فيه، (إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم فقال له أبو مسعود حدثني بما) أي: الذي (سمعت) بحذف العائد، ويحتمل كون ما مصدرية والمصدر المنسبك بمعنى المفعول، ولا يخفى ما فيه من البعد (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدجال قال:) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدل له قول أبي مسعود آخراً وأنا قد سمعته، وحذف العائد على حذيفة فلم يكتبه اكتفاء بدلالة المقام عليه (أن الدجال يخرج) أي: في أواخر الدنيا (وأن معه ماء وناراً) جملة معطوفة على الجملة المحكية قبلها أو حال من فاعل يخرج (فأما الذي يراه الناس) أي يبصرونه حال كونه (ماء فنار تحرق) بضم التحتية من الاحراق (وأما الذي يراه الناس ناراً فماء عذب) أي: حلو (طيب) ضد الكدر.
قال المصنف: قال العلماء: من جملة فتنه التي امتحن الله بها عباده ليحق الحق ويبطل الباطل، ثم يفضحه بعد، ويظهر عجزه وقال الحافظ: هذا كله يرجع إلى اختلاف المرء بالنسبة إلى الراءي، فإما أن يكون الدجال ساحراً فيخيل الشيء بصورة عكسه، وإما أن يجعل الله بأرض الجنة التي يسخرها للدجال ناراً وباطن النار جنة، وهذا هو الراجح وإما أن يكون ذلك كناية عن الرحمة والنعمة بالجنة، وعن المحنة والنقمة بالنار، فمن أطاعه فأنعم عليه بجنته يؤول أمره إلى دخول نار الآخرة وبالعكس، ويحتمل أن يكون ذلك من جملة المحنة والفتنة فيرى الناظر ذلك من دهشته فيظنها جنة وبالعكس اهـ. (فقال أبو مسعود وأنا قد سمعته متفق عليه) رواه البخاري في ذكر بني إسرائيل وفي الفتن. ورواه مسلم في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل وفي الفتن، باب: ذكر الدجال، (13/87 و88) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال، وصفته وما معه، (الحديث: 107 و108)(8/630)
1808- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ في أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أرْبَعِينَ، لاَ أدْرِي أرْبَعِينَ يَوماً أو أرْبَعِينَ شَهْراً، أو أرْبَعِينَ عَاماً، فَيَبْعَثُ اللهُ تَعالَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيسَ بَينَ اثْنَينِ عَدَاوةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ - عز وجل -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفتن. ورواه أيضاً أبو داود في الملاحم من سننه عن حذيفة موقوفاً. وعن أبي مسعود الأنصاري مرفوعاً.
1808- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين. لا أدري أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً. قال في فتح الباري: والجزم بأنها أربعون يوماً مقدم على هذا الترديد (فيبعث الله عيسى ابن مريم) أي: من السماء إلى الأرض (- صلى الله عليه وسلم - فيطلبه) أي: فيدركه بالشام (فيهلكه) أي: بأن يقتله ولا ينافيه من أنه يذوب حينئذ كذوبان الملح، لأن ذلك لعله يكون ابتداء اللقي، ثم يسارعه عيسى بالقتل زيادة في الإِهانة (ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة) يحتمل أنها المدة الخالصة من الأكدار البتة في زمن عيسى عليه السلام، وإلا فذكر الشيخ جلال الدين السيوطي أنه يمكث بعد نزوله أربعين سنة ولفظه في حاشية تفسير البيضاوي قوله في هذا الحديث: ويمكث في الأرض أربعين سنة. قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: يشكل عليه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمرو: أنه يمكث في الأرض سبع سنين، قال: اللهم إلا أن يحمل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله. وتلك مضافاً إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين على المشهور. والله أعلم. أقول وقد أقمت سنين أجمع بذلك ثم رأيت البيهقي قال في كتاب البعث والنشور هكذا في الحديث: إن عيسى يمكث في الأرض أربعين سنة. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمرو فيبعث الله عيسى ابن مريم، فيطلبه فيهلكه ثم تلبث الناس بعده سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة. قال البيهقي: يحتمل أن يكون قوله: ثم يلبث الناس أي: بعد موته فلا يكون مخالفاً للأول، فترجح عندي هذا التأويل، لأن الحديث ليس نصاً في الإِخبار عن مدة لبث عيسى، وذاك نص فيها لأن ثم يؤيد هذا التأويل. وكذا قوله يلبث الناس بعده فيتجه أن الضمير فيه لعيسى، لأنه أقرب مذكور؛ ولأنه لم يرد في ذلك سوى الحديث المحتمل ولا ثاني له. وورد مكث عيسى أربعين سنة في عدة أحاديث، من طرق مختلفة: منها الحديث المذكور. وهو صحيح. ومنها ما أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ينزل عيسى(8/631)
ريحاً بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلاَ يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيرٍ أو إيمَانٍ إلاَّ قَبَضَتْهُ، حَتَّى لو أنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ، لَدَخَلَتْهُ عَلَيهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ، فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ في خِفَّةِ الطَّيْرِ، وأحْلامِ السِّبَاعِ، لاَ يَعْرِفُونَ مَعْرُوفاً، ولا يُنْكِرُونَ مُنْكَراً، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، فيَقُولُ: ألاَ تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تأمُرُنَا! فَيَأمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَهُمْ في ذلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ في الصُّورِ، فَلاَ يَسْمَعُهُ أحَدٌ إلاَّ أصْغَى لِيتاً وَرَفَعَ لِيتاً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن مريم، فيمكث في الأرض أربعين سنة، لو يقول للبطحاء سيلي عسلاً لسألت". ومنها ما أخرجه أحمد في مسنده عن عائشة مرفوعاً في حديث الدجال: "فينزل عيسى ابن مريم فيقتله، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة، إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً" وورد أيضاً من حديث ابن مسعود عند الطبراني فهذه الأحاديث المتعددة أولى من ذلك الحديث الواحد المحتمل اهـ. (ثم يرسل الله عز وجل ريحاً باردة) تقدم في حديث النواس بدل باردة قوله طيبة فلعل طيبها بردها وبين جهة مهبها بقوله: (من قبل الشام فلا يبقى) بالتحتية (على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضت) من الإِسناد إلى السبب كما تقدم (حتى لو أن أحدكم) الخطاب للمؤمنين الموجود بعضهم حاله (دخل في كبد) بفتح فكسر على الأفصح أي: وسط وداخل (جبل لدخلته عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس) بكسر المعجمة (في خفة الطير) بكسر المعجمة وتشديد الفاء، والطير يجوز أن يكون اسم جمع طائر، وأن يكون واحد الطيور (وأحلام) بالمهملة (السباع) بكسر المهملة وبالموحدة وبعد الألف مهملة أيضاً. قال المصنف: قال العلماء: معناه يكونون في سرعتهم إلى الشر وقضاء الشهوة والفساد: كطيران الطير، وفي العدو خلف بعضهم بعضاً أحلام السباع العادية (لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً) لشدة الجهل (فيتمثل لهم الشيطان) أي: يتصور لهم على مثال شخص فيخاطبهم (فيقول ألا تستجيبون فيقولون. فما تأمرنا فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار) بتشديد الراء (رزقهم) أي: ما ينتفعون به (حسن عيشهم) أي: ما يعيشون به من الطعام والشراب والملبس: والجملة خبر بعد خبر وجملة وهم الخ حال، أتى بها لبيان ما ترتب على ضلالهم من رفاهية العيش وخصوبته. وفي الكلام حذف، أي: فيجيبونه لذلك كما جاء ما يدل لذلك. (ثم ينفخ في الصور) نفخة الصعق (فلا يسمعه) أي: النفخ المدلول عليه بالفعل. (أحد إلا أصغى ليتاً) بالصاد المهملة وبالغين المعجمة أي: مال (ورفع ليتاً(8/632)
وَأوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إبِلِهِ فَيُصْعَقُ ويُصْعَقُ النَّاسُ حولهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ -أو قالَ: يُنْزِلُ اللهُ - مَطَراً كَأَنَّهُ الطَّلُّ أو الظِّلُّ، فَتَنْبُتُ مِنهُ أجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقالُ: يا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إلَى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: أخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعَمِئَةٍ وَتِسْعَةً وتِسْعِينَ؛ فَذَلِكَ يَومٌ يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيباً، وَذَلِكَ يَومَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ". رواه مسلم. "اللِّيتُ": صَفْحَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله) أي: يطينه ويصلحه (فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل الله أو قال: ينزل الله مطراً كأنه الطل) بالمهملة (أو) شك من الراوي (الظل) بالمعجمة قال المصنف: والأصح بالمهملة، وهو الموافق للرواية الأخرى كمني الرجال (فتنبت منه) أي: بسببه أو من معدية للفعل (أجساد الناس من عجب الذنب) الباقي من جسد الإِنسان في القبر وهي عظم في أصل العصعص قدر الخردل (ثم ينفخ فيه) أي: الصور (أخرى) للبعث (فإذا هم قيام) من قبورهم (ينظرون) أو ينظر بعضهم بعضاً أو ينتظرون أمر الله فيهم (ثم يقال يا أيها الناس هلموا) كذا في نسخة بضمير الجماعة، وهي لغة تميم. وفي أخرى صحيحة بحذفها وهي لغة الحجاز، وبها جاء التنزيل قال الله تعالى: (قل هلم شهداءكم) (1) (إلى ربكم وقفوهم) أي: في عرصات القيامة (إنهم مسئولون) عن ما عملوه في الدنيا وتلبسوا به (ثم يقال) أي: للملائكة الموكلين بالناس يومئذ كما يدل عليه قوله (أخرجوا بعث النار) بضمير الجماعة وهو لا ينافي الحديث الصحيح عند البخاري، يقال لآدم اخرج بعث النار من ذريتك (الحديث) لجواز أمر كل منه ومنهم بذلك زيادة في التهويل والتفظيع، وبعث مصدر بمعنى المفعول، أي: المبعوث إليها (فيقال من كم فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) فالباقي من الألف للجنة واحد (فذاك يوم) بالرفع خبر اسم الإِشارة، ويجوز نصبه على الظرفية. والخبر محذوف وهو بالتنوين موصوف بقوله: (يجعل الولدان شيبا) الإِسناد إلى اليوم من الإِسناد إلى السبب (وذاك يوم يكشف عن ساق) أي: يكشف عن حقائق الأمور وشدائد الأهوال وكشف الساق، مثل في ذلك. وقيل يكشف عن ساق: أي: نور عظيم يخرون له سجداً. جاء هذا التفسير مرفوعاً (رواه مسلم
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 150.(8/633)
العُنُقِ. وَمَعْنَاهُ يَضَعُ صَفْحَةَ عُنُقِهِ وَيَرْفَعُ صَفْحَتَهُ الأُخْرَى (1) .
1809- وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيسَ مِنْ بَلَدٍ إلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إلاَّ مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ؛ وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أنْقَابِهِمَا إلاَّ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ صَافِّينَ تَحْرُسُهُمَا، فَيَنْزِلُ بالسَّبَخَةِ، فَتَرْجُفُ المَدِينَةُ ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ، يُخْرِجُ اللهُ مِنْهَا كُلَّ كافِرٍ وَمُنَافِقٍ". رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الليت) بكسر اللام وسكون التحتية وبالمثناة الفوقية (صفحة العنق) بضمتين وبسكون الثاني تخفيفاً. (ومعناه يضع صفحة عنقه ويرفع صفحة الأخرى) أي: من عظم الهول وشدة الأمر.
1809- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال) الاستثناء مرفوع، واسم ليس مجرور بمن: للتأكيد؛ وخبرها محذوف. أي: ليس بلد موجودة إلا سيطأه الدجال ابتلاء لأهله؛ وزيادة في ثواب التائبين. (إلا مكة والمدينة) والمسجد الأقصى ومسجد الطور، كما جاء ذلك في حديث رواه أحمد بسندٍ، رجاله ثقات أشار إليه الحافظ في الفتح (وليس نقب) بفتح النون وسكون القاف آخره موحدة أي: خرق قال في المصباح وهو في الأصل مصدر سمي به (من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين) حال مقدرة من الظرف المستقر (تحرسهما) استئناف بياني، أو حال بعد أخرى متداخلة أو مترادفة والمراد تحرسهما من الدجال (فينزل بالسبخة) بفتح المهملة والموحدة وبالخاء المعجمة، وهي الأرض الرملة التي لا تنبت لملوحتها، وهذه الصفة خارج المدينة من غير جهة الحرة.
وجاء في رواية أنه "ينزل بسبخة الجرف" (فترجف المدينة ثلاث رجفات) قال الحافظ: يجمع بينه وبين حديث لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال بأن الرعب المنفي الخوف والفزع، حتى لا يحصل لأحد فيها بسبب نزوله بها شيء منه، أو هو عبارة عن غايته وهو غلبته عليها والمراد بالرجفة الإِرفاق. وهو إشاعة مجيئه وأنه لا طاقة لأحد به، فيسارع حينئذ إليه من يتصف بالنفاق أو الفسق، فظهر حينئذ تمام أنها تنفي خبثها اهـ. (يخرج الله منها كل كافر ومنافق رواه مسلم) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في خروج الدجال ومكثه في الأرض ... ، (الحديث: 116) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قصة الجساسة، (الحديث: 123) .(8/634)
1810- وعنه - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ ألْفاً عَلَيْهِم الطَّيَالِسَةُ". رواه مسلم (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1810- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتبع) بسكون الفوقية (الدجال من يهود أصبهان) بكسر الهمزة والموحدة وفتحها وتبدل فاء (سبعون ألفاً عليهم الطيالسة) جملة في محل الحال المقدرة (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو عوانة وابن حبان قال الحافظ في الفتح: ولا يلزم من هذا كراهة لبس الطيلسان. قال الحافظ السيوطي في كتاب "الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان": وهو واضح لأن الكراهة تحتاج إلى نهي خاص به، ولا وجود له، وإذا لبس الكفار ملبوس المسلمين: لا يكره للمسلمين لبسه. قال الحافظ ابن حجر: وقيل المراد بالطيالس الأكسية اهـ. وزاد غيره أن المراد الطيلسان المقور. قال السيوطي: وهذا أصح الأقوال فيه، ويؤيده ما أخرجه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال فقال: "يكون معه سبعون ألفاً من اليهود على رجل منهم ساج وسيف". قال ابن الأثير في النهاية: الساج: الطيلسان الأخضر، وقيل: هو الطيلسان المقور، ينسج كذلك.
قال الزركشي في الخادم: والمراد بالمقور المدور كما قاله الأزهري أنه ينسج مدوراً يعني كهيأة السفرة ولهذا شبه بتقوير البطيح والجيب اهـ. وقال القاضي أبو يعلى بن الفراء من الحنابلة: لا يمنع أهل الذمة من الطيلسان المقور الطرفين المكفوف الجانبين الملفف بعضها إلى بعض ما كانت العرب تعرفه وهو لباس اليهود قديماً والعجم أيضاً والعرب تسميه ساجاً، ويقال: إن أول من لبسه من العرب جبير بن مطعم. وكان ابن سيرين يكرهه اهـ.
وفي الأوائل للعسكري: أول من لبسه من العرب في الإِسلام عبد الله بن عامر بن كريز. وقيل جبير بن مطعم. وكذا قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: إن الطيلسان المقور لا أصل له في السنة، ولم يكن من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، بل هو من شعار اليهود. وفي الصحيح "أن الدجال يخرج معه سبعون ألفاً من اليهود عليهم الطيالسة" وقال بعد كلام طويل ما لفظه: فتبين بهذه النقول أن كل من وقع في كلامه من العلماء: كراهة الطيلسان وكونه شعار اليهود، إنما أراد المنور، والذي على شكل الطرحة، يرسل من وراء الظهر والجانبين، من غير إدارة تحت الحنك، ولا إلقاء لطرفيه تحت الكتفين، وأما المربع الذي يدار من تحت الحنك ويغطى الرأس وأكثر الوجه ويجعل طرفاه على الكتفين، فلا خلاف في أنه سنة اهـ. كلام السيوطي ملخصاً.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في بقية من أحاديث الدجال، (الحديث: 124) .(8/635)
1813- وعن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَتَوجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُؤمِنِينَ فَيَتَلَقَّاهُ المَسَالِحُ: مَسَالِحُ الدَّجَّال. فَيقُولُونَ لَهُ: إلى أيْنَ تَعْمِدُ فَيَقُولُ: أعْمِدُ إلى هذَا الَّذِي خَرَجَ. فَيَقُولُونَ لَهُ: أوَمَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا؟ فَيقُولُ: مَا بِرَبِّنَا خَفَاءٌ! فَيَقُولُونَ: اقْتُلُوهُ. فَيقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ألَيْسَ قَدْ نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ أنْ تَقْتُلُوا أحَداً دُونَهُ، فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إلى الدَّجَّالِ، فَإذَا رَآهُ المُؤْمِنُ قالَ: يا أيُّهَا النَّاسُ، إنَّ هذَا الدَّجَّال الَّذي ذَكَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فَيَأمُرُ الدَّجَّالُ بِهِ فَيُشَبَّحُ؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1813- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يخرج الدجال) قال في فتح الباري: الذي يدعيه أنه يخرج أولاً فيدعي الإِيمان والصلاح، ثم يدعي النبوة ثم يدعي الألوهية. كما أخرجه الطبراني من طريق سليمان بن شهاب قال: نزل على عبد الله بن المغنم وكان صحابياً، فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الدجال ليس به خفاء يجيء من قبل المشرق فيدعو إلى الدين فيتبع ويظهر، ولا يزال حتى يقدم الكوفة ويظهر الدين، ويعمل به ْثم يتبع ويحث على ذلك ثم يدعي أنه نبي فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه فيمكث بعد ذلك ثم يقول أنا إله فتغشى عينه وتقطع أذنه ويكتب بين عينيه كافر فلا يخفى ذلك على مسلم فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" وسنده ضعيف. (فيتوجه قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة أي: جهته (رجل من المؤمنين) قال المصنف: قال أبو ْإسحاق. يقال إن هذا هو الخضر. وأبو إسحاق هذا هو راوي صحيح مسلم عن مسلم وكذا قال معمر في جامعه في أثر هذا الحديث، كما ذكره أبو سفيان وهذا منهم تصريح بحياة الخضر وهو الصحيح اهـ. (فتتلقاه المسالح) بالمهملتين (مسالح الدجال) بدل كل مما قبله (فيقولون له إلى أين تعمد) بكسر الميم أي: تقصد (فيقول أعمد إلى هذا الذي خرج) ضمن أعمد معنى: اذهب والإِتيان بالمجرور اسم إشارة للتحقير والإِهانة، كالتعبير بقوله وخرج (فيقولون له أو ما تؤمن بربنا فيقول) رداً لقولهم ربنا، الظاهر في عموم المتكلم وغيره (ما بربنا خفاء) أي: أن أوصافه العلية ظاهرة لا خفاء فيها، والدجال منظره يدل على كذبه (فيقولون) أي: لقول بعضهم لبعض (اقتلوه فيقول بعضهم لبعض) عبر عنهم أولاً بيقولون، وثانياً بما ذكرنا، تفنناً في التعبير ودفعاً لثقل التكرير، وإيماء إلى أن ما وقع من بعض القوم ورضي به الباقون جازت نسبته للجميع (أليس قد نهاكم ربكم) يعنون الدجال (أن تقتلوا أحداً دونه فينطلقون به إلى الدجال) فيأتون إليه (فإذا رآه المؤمن) أي: وقع بصره عليه ونظر ما بعينيه من العور وما بوجهه من كتابة كافر (قال) عند رؤيته له (يا أيها الناس هذا الدجال(8/637)
فَيَقُولُ: خُذُوهُ وَشُجُّوهُ. فَيُوسَعُ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْباً، فَيقُولُ: أَوَمَا تُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ المَسِيحُ الكَذَّابُ! فَيُؤْمَرُ بِهِ، فَيُؤْشَرُ بِالمنْشَارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ. ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ القِطْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِماً. ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: ما ازْدَدْتُ فِيكَ إلاَّ بَصِيرَةً. ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لاَ يَفْعَلُ بَعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ؛ فَيَأخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فَيَجْعَلُ اللهُ مِا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إلَى تَرْقُوَتِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بحذف العائد اختصاراً لأن المقام له (فيأمر الدجال به فيشبح) بضم التحتية وفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة أي: يمد على بطنه (فيقول خذوه وشجوه) بالمعجمة والجيم من الشج قال المصنف: وهو الجرح في الرأس والوجه. يقال شجه إذا شق جلده. ويقال هو مأخوذ من شجت السفينة البحر إذا شقته جارية فيه كذا في المصباح. وهذا أحد وجوه ثلاث في روايات ذكرها المصنف. ثانيها أنها من التشبيح والشق معاً. وثالثها أنها من الشبح كذا قال المصنف. وصحح القاضي الوجه الثاني وهو الذي ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين، والأصح عندنا الأول (فيوسع) بالبناء للمفعول وهو بالتحتية والمهملة (ظهره وبطنه ضرباً) بالنصب على التمييز (فيقول أو ما تؤمن بي فيقول) صبراً على التعذيب في الله (أنت المسيح الكذاب) هو بمعنى الدجال على أحد الأقوال (فيؤمر به فيؤشر بالمئشار) قال المصنف: هكذا الرواية بالهمز فيهما وهو الأفصح ويجوز تخفيفاً إبدالها واوا في الفعل وياء في الثاني، ويجوز المنشار بالنون كما تقدم ذلك مراراً (من مفرقه) بفتح الميم وكسر الراء أي: وسطه (حتى يفرق بين رجليه) غاية للفعل (ثم يمشي الدجال بين القطعتين) زيادة في الفتنة (ثم يقول له قم فيستوي قائماً) أي: فيحيى فيستوي قائماً (ثم يقول له أتؤمن بي فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة) أي: استبصاراً أو تعرفاً أنك الدجال (ثم يقول) أي: المؤمن (يا أيها الناس إنه لا يفعل) أي: الفعل المدلول عليه بالمقام (بعدى بأحد من الناس فيأخذه الدجال ليذبحه) إذ لم يؤمن به (فيجعل الله ما بين رقبته إلى ترقوته) بفتح الفوقية وضم القاف وسكون الراء: وهي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق من الجانبين. قال بعضهم: ولا تكون الترقوة لشيء من الحيوان غير الإِنسان. ثم إن "إلى" يحتمل أنها بمعنى الواو، لأن "بين" لا تضاف إلا إلى متعدد، ويحتمل أن يقال في الكلام مضاف مقدر أي أخر رقبته، ولعل هذا أقرب (نحاساً) بضم النون على الأفصح وبالمهملتين يحتمل إجرائه على ظاهره وحقيقته وأن الله يجعل الجلدة أو عليها النحاس ويحتمل أنه مجاز(8/638)
نُحَاساً، فَلاَ يَسْتَطِيعُ إلَيهِ سَبيلاً، فَيَأخُذُهُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ، فَيَحْسَبُ النَّاسُ أَنَّهُ قَذَفَهُ إلَى النَّارِ، وَإنَّمَا أُلْقِيَ فِي الجَنَّةِ". فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أعْظَمُ النَّاس شَهَادَةً عِندَ رَبِّ العَالَمِينَ". رواه مسلم. وروى البخاري بعضه بمعناه.
"المسالِح": هُمُ الخُفَرَاءُ والطَّلائِعُ (1) .
1814- وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: ما سألَ أَحَدٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو كناية عن الحيلولة عنه وعدم التمكن منه كما قال (فلا يستطيع الوصول إليه) أي: بالقتل وفي نسخة فلا يستطيع إليه سبيلاً أي بالقتل (فيأخذ بيديه ورجليه) الباء مزيدة في المفعول للتأكيد كقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (2) (فيقذف) بكسر الذال المعجمة أي: يرمى (به فيحسب الناس) أي: يظنون (أنه قذف في النار) لكونها بصورتها (وإنما ألقي) بالبناء للمجهول (في الجنة) حقيقة لأن ناره جنة، وبالعكس كما تقدم (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين) لأنه قال: الحق عند الظالم الكاذب الجائر، وإن ثبت ما تقدم من أنه الخضر فيكون فيه بيان وقت وفاته، وأنه لا يبقى إلى انقراض الدنيا، بل لا يلقى عيسى عليه السلام (رواه مسلم وروى البخاري) في كتاب الفتن (بعضه بمعناه) من حديث أبي سعيد ولفظه "يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فيدخل بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل وهو خير الناس أو من خير الناس، فيقول أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه، فيقول: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته. هل تشكون في الأمر؟ فيقولون لا فيقتله ثم يحييه فيقول والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه". (المسالح) بالمهملتين (هم الخفراء) بضم المعجمة وبالفاء (والطلايع جمع) طليعة وهو من يتقدم القوم ويتطلع لهم الأخبار. وقال بعضهم، المسالح: الرجل المسلم جمع مسلحة. وهم قوم ذو سلاح. ولعل المراد به هنا: مقدمة الجيش. أصله موضع السلاح ثم استعمل للثغر فإنه تعد فيه الأسلحة، ثم للجند المترصدين ثم لمقدم الجيش، فإنهم كأصحاب الثغور لمن وراءهم من المسلمين.
1814- (وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال ما سأل أحد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الفن وأشراط الساعة، باب: في صفة الدجال وتحريم المدينة عليه وقتله المؤمن وإحيائه، (الحديث: 113) .
(2) سورة البقرة، الآية: 195.(8/639)
عَن الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مِمَّا سَألْتُهُ؛ وإنَّهُ قَالَ لِي: "مَا يَضُرُّكَ" قُلْتُ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهَرَ مَاءٍ. قالَ: "هُوَ أهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذَلكَ". متفق عليه (1) .
1815- وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ وَقَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، ألاَ إنَّهُ أعْوَرُ، وإنَّ رَبَّكُمْ - عز وجل - لَيْسَ بِأَعْوَرَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مما سألته) أي: عنه أو من سؤالي وهذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم أكثر ما سألته بحذف من (وأنه قال لي ما يضرك) وفي رواية مسلم وما ينصبك منه بنون وصاد مهملة ثم موحدة من النصب يعني التعب (قلت أنهم) بفتح الهمزة وبتقدير اللام المصرح بها في رواية البخاري قال الحافظ والظرف متعلق بمحذوف أي: الخشية أو نحوها لأنهم (يقولون أن معه جبل خبز) بضم المعجمة ولسكون الموحدة بعدها زاي أي: معه من الخبز قدر الجبل. أو أطلق الخبز وأريد به أصله: وهو القمح مثلاً. وفي رواية لمسلم معه جبال من خبز، ولحم ونهر من ماء وفي رواية "أن معه الطعام والأنهار" وفي رواية "أن معه الطعام والشراب" (ونهر ماء) بإسكان الهاء وبفتحها (قال: هو أهون على الله من ذلك) زاد مسلم. بل فقال هو أهون إلخ قال عياض: معناه هو أهون من أن يجعل ما يخلقه على يديه مضلاً للمؤمنين، ومشككاً لقلوب الموقنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيماناً ويرتاب الذين في قلوبهم مرض. لا أن المراد بذلك: أنه ليس شيء من ذلك معه، بل المراد: أهون من أن يجعل شيئاً من ذلك آية على صدقه، سيما وقد جعل فيه آية ظاهرة في كذبه وكفره، يقرؤها من يقرأ ومن لا يقرأ، زائدة على شواهد كذبه من حديثه ونقصه. قال الحافظ في الفتح: وإنما أوله بذلك لصحة الأحاديث، بأن معه ما ذكر من الطعام والشراب. وقال ابن العربي: ويحتمل أن يكون المراد: هو أهون من أن يجعل ذلك له حقيقة، إنما هو تخييل وشبه على الأبصار، فيثبت المؤمن ويزل الكافر. ومال ابن حبان في صحيحه إلى ذلك (متفق عليه) .
1815- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من نبي إلا وقد أنذر قومه) وفي نسخة أمته (الأعور الكذاب) وذلك لأنهم علموا بخروجه وشدة فتنته، وتوهم كل نبي إدراك أمته فأنذرهم منه (إلا) بتخفيف اللام: أداة استفتاح وحرف تنبيه (أنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس بأعور) جملة معطوفة على مدخول أن قبلها، وإنما اقتصر على ذلك مع أن أدلة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الفتن، باب: ذكر الدجال، (13/80، 81) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في الدجال وهو أهون على الله عز وجل، (الحديث: 114) .(8/640)
"ألا أُحدِّثُكمْ حديثاً عن الدجالِ ما حدَّثَ بهِ نبيٌّ قَومَهُ! إنَّهُ أعورُ، وَإنَّهُ يجيءُ مَعَهُ بِمِثالِ الجنَّةِ والنَّارِ، فالتي يقولُ إنَّها الجَنَّةُ هي النَّار". متفقٌ عليهِ (1) .
1817- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ الدَّجَّالَ بَيْنَ ظَهْرَانَي النَّاسِ، فَقَالَ: "إنَّ اللهَ لَيْسَ بِأعْوَرَ، ألاَ إنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنَى، كَأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ". متفق عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدجال) أي: عن آيات كذبه (ما حدث به نبي قومه) أي: إن إنذاره لقومه كان بغيره (أنه أعور وأنه يجيء معه بمثال) بكسر الميم وتخفيف المثلثة (الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار) أي: وبالعكس واكتفي بما ذكره لدلالته عليه (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأشار إليه البخاري بقوله في آخر باب ذكر الدجال فيه أبو هريرة وابن عباس، وذكر الحافظ في الفتح: يحتمل أنه أشار لهذا الحديث وهو أقرب اهـ. ملخصاً.
1817- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال بين ظهراني الناس) الظرف لغو متعلق "بذكر" وبين ظهراني: بفتح النون وكسر الياء لالتقاء الساكنين، بصيغة المثنى، أتى به للدلالة على زيادة الظهور وعدم الاختفاء؛ قال في فتح الباري: وزيدت الألف والنون فيه للنداء، ومعناه أن ظهرا منهم قدامه وظهرا خلفه، فكأنهم خفراء من جانبيه هذا أصله. ثم كثر حتى استعمل في الإِقامة بين القوم مطلقاً. ولذا زعم بعضهم أن لفظ "ظهراني" هنا زائدة (فقال إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة) فيه من المحسنات، الجناس المصحف. ومنه حديث: "ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى" (طافية) بياء غير مهموزة أي: بارزة ولبعضهم بالهمز وهي التي ذهب ضوءها.
قال عياض: روينا عن الأكثر بغير همز، وهو الذي صححه الجمهور وجزم به الأخفش، ومعناه أنها ناتئة نتوء حبة العنب من بين أخواتها. وضبطه بعضهم بالهمز، وأنكره بعض.
والأوجه: الإِنكار. فقد جاء في حديث آخر "أنه ممسوح العين مطموسة وليست حجراً ولا يابسة". وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها. وهذا يصحح رواية الهمز. قال الحافظ في الفتح: والحديث المشار إليه عند أبي داود. وجمع القاضي عياض بين الروايتين فقال:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: قوله تعالى (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) ، (6/264) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، (الحديث: 109) .(8/642)
1818- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ المُسْلِمُونَ اليَهُودَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ اليَهُودِيُّ مِنْ وَرَاء الحَجَرِ وَالشَّجَرِ. فَيَقُولُ الحَجَرُ وَالشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ هذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي تَعَالَ فَاقْتُلْهُ؛ إلاَّ الغَرْقَدَ فإنَّهُ مِنْ شَجَرِ اليَهُودِ" متفق عليه (1) .
1819- وعنه - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرجُلُ على القَبْرِ، فَيَتَمَرَّغَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هذَا القَبْرِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مذكور في القرآن في قوله تعالى (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) (2) وأن المراد بالناس هنا الدجال من إطلاق اسم الكل على البعض. وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة، فيكون من جملة ما تكفل - صلى الله عليه وسلم - ببيانه والعلم عند الله اهـ.
1818- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود وحتى يختبىء) أي: يختفي (اليهودي) من المسلم (من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر) أي: بلسان قاله بأن يقدره الله على النطق (يا مسلم هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد) بالمعجمة والقاف المفتوحتين والراء بينهما ساكنة آخره دال مهملة: شجر أضيف إليه البقيع مدفن المدينة (فإنه من شجر اليهود) قال الممينف: الغرقد نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس، وهناك يكون قتل الدجال واليهود. وقال: أبو حنيفة الدينوري: إذا عظمت العوسجة صارت غرقداً اهـ. فأومأ إلى أن الإضافة إليهم لأدنى ملابسة (متفق عليه) .
1819- (وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده) أي: بقدرته (لا تمر) أي: تذهب (الدنيا حتى يمر الرجل بالقبر فيتمرغ) بالغين المعجمة أي: يتقلب (عليه فيقول) مما أصابه من الأنكاد الدنيوية (يا ليتني مكان صاحب هذا القبر) . "يا" فيه:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: قتال اليهود، (6/75) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل ... ، (الحديث: 82) .
(2) سورة غافر، الآية: 57.(8/644)
وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ، ما بِهِ إلاَّ البَلاَءُ". متفق عليه (1) .
1820- وعنهُ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ يُقْتَتَلُ عَلَيْهِ، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِئَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، فَيَقُولُ كُلُّ رجُلٍ مِنْهُمْ: لَعَلِّي أنْ أكُونَ أنَا أنْجُو" وَفي رواية: "يُوشِكُ أنْ يَحْسِرَ الفُرَاتُ عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَهُ فَلاَ يَأخُذْ مِنْهُ شَيْئاً" متفق عليه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للتنبيه. وقيل: للنداء، والمنادى محذوف أي: يا قوم ليتني، وذلك لاستراحة الميت من نصب الدنيا وعنائها (وليس به الدين) أي: ليس سبب تمنيه الموت لأمر ديني عليه أو اختلال (ما به إلا البلاء) أي: ما سببه إلا تتابع المحن والأوصاب الدنيوية (متفق عليه) واللفظ لمسلم. ولفظ رواية البخاري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول ليتني مكانه".
1820- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تقوم الساعة حتى يحسر) بفتح التحتية وكسر المهملة الثانية أي: ينكشف (الفرات) بضم الفاء آخره مثناة، وذلك لذهاب مائه (عن جبل من ذهب يقتتل) بصيغة المجهول من الاقتتال (عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون فيقول كل رجل منهم) أي: من المائة المتقاتلة وقد علموا أنه لا يبقى منها إلا واحد (لعلي أن أكون أنا أنجو) فيه حمل لعل على عسى أختها في معنى التوقع والإِشفاق. وفي الكلام مضاف مقدر: إما في المحكوم عليه أي: لعل شأني كوني أنجو، أو في المحكوم أي: لعلى ذا كون نجاة، ويصح ألا يقدر شيء، ويكون من حمل المصدر على اسم العين نحو زيد عدل مبالغة (وفي رواية يوشك) بضم التحتية وكسر المعجمة أي: يقرب (أن يحسر الفرات عن كنز من ذهب) فيه الاكتفاء بأن ومنصوبها عن جزئي الفعل (فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً) وذلك لأنه لا يصل إليه أحد إلا بعد التقاتل المذكور في الحديث قبله، فلا يصل إليه حتى يقتل عدداً. وقد يقتل هو، وإذا لم يتوجه إليه وامتثل النهي، سلم في نفسه وسلم منه غيره (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور، (13/65) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشرط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل ... ، (الحديث: 54) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الفتن، باب: خروج النار، (13/70) . =(8/645)
1821- وعنهُ، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "يَتْرُكُونَ المَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لاَ يَغْشَاهَا إلاَّ العَوَافِي يُريد - عَوَافِي السِّبَاعِ والطَّيرِ - وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ المَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وُحُوشاً، حَتَّى إذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الودَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهمَا". متفق عليه (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1821- (وعنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يتركون) أي: الناس (المدينة على خير ما كانت) أي: خير أكوانها أو خير ما كانت عليه (لا يغشاها إلا العوافي) وأدرج تفسيرها في الحديث بقوله (يريد عوافي السباع والطير) قال المصنف: هو صحيح في اللغة مأخوذ من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه، والظاهر أن الترك للمدينة سيكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قوله (وآخر من يحشر) بصيغة المجهور (راعيان من مزينة) بضم الميم وفتح الزاي وسكون التحتية وبعدها نون. قال المصنف: وهما آخر من يحشر، كما ثبت في صحيح البخاري (يريدان) أي: يقصدان (المدينة) النبوية (ينعقان) بكسر المهملة أي: يصيحان (بغنمهما فيجدانها) أي: المدينة (وحوشاً) أي: ذات وحوش، لذهاب أهلها عنها.
وعند مسلم وحشاً بالإِفراد. وحكى القاضي عن بعضهم. أن ضمير يجدانها عائد للغنم، وأن معناه إن غنمها تصير وحوشاً: إما بأن تنقلب ذاتها فتصير كذلك، أو تتوحش أو تنفر من أصواتهما. وأنكره واختار ما تقدم من عود الضمير على المدينة لا إلى الغنم. قال المصنف: وهو الصواب ومقابله غلط (حتى إذا بلغا ثنية) بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتية هي الطريق في الجبل (الوداع) الذي يخرج إليه المشيعون للمسافر ويودعونه عنده (خرا على وجوههما) وما ذكرنا من أن ذلك سيقع هو المختار في معنى الحديث. وقال القاضي: إنه جرى في العصر الأول وانقضى. قال: وهذا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين نقلت الخلافة إلى الشام والعراق، وذلك الوقت أحسن ما كانت المدينة للدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء بها، وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها.
قال: وذكر الإِخباريون في بعض الفتن التي جرت في المدينه وخاف أهلها، أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها. أو أكثرها للعوافي، وخلت مدة، ثم تراجع الناس إليها. قال: وحالها اليوم قريب من هذا وخربت أطرافها اهـ. (متفق عليه) .
__________
= وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، (الحديث: 31) .
(1) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل المدينة، باب: من رغب عن المدينة، (4/77 و78) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: في المدينة حين يتركها أهلها، (الحديث: 499) .(8/646)
1822- وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكُونُ خَلِيفَةٌ مِنْ خُلَفَائِكُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَحْثُو المَالَ وَلاَ يَعُدُّهُ". رواه مسلم (1) .
1823- وعن أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ فَلاَ يَجِدُ أَحَداً يَأخُذُهَا مِنهُ، وَيُرَى الرَّجُلُ الوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ". رواه مسلم (2) .
1824- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1822- (وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يكون خليفة من خلفائكم في آخر الزمان يحثو المال) قال المصنف: يقال: حثيت أحثي حثياً، وحثوت أحثو حثواً لغتان (ولا يعده) رأيت بخط ابن الخياط محدث اليمن: الظاهر والله أعلم أنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد كثر المال في زمنه إلى الغاية حتى بلغ بهم النظر إلى استحلال ذمته وهو في آخر زمان الخلفاء. قال: كذا أظن والله أعلم بمراد نبيه - صلى الله عليه وسلم - (رواه مسلم) .
1823- (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب فلا يجد أحداً يأخذها منه) وذلك لإِخراج الأرض كنوزها وفيضان المال (وترى) أيها الصالح للخطاب (الرجل الواحد) الوصف به لدفع توهم أن المراد جنسه الصادق بالواحد فما فوقه (يتبعه) بسكون الفوقية (أربعون امرأة) وذلك إما لقلة الرجال في الحروب، أو لكثرة الإِناث دون الذكور من الأولاد (يلذن) بضم اللام وسكون الذال المعجمة أي: يعتصمن (به من قلة الرجال وكثرة النساء) بفتح الكاف والكسر رديء، ويقال هو خطأ. ومن: تعليلية نحو (مما خطيئاتهم أغرقوا) (3) (رواه مسلم) .
1824- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اشترى رجل من رجل) وذلك
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل ... ، (الحديث: 69) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: الترغيب في الصدقة قبل أن لا توجد من يقبلها، (الحديث: 59) .
(3) سورة نوح، الآية: 25.(8/647)
عَقَاراً، فَوَجَدَ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ، إنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ وَلَمْ أشْتَرِ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قالَ أحَدُهُما: لِي غُلاَمٌ، وقالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ قال: أنْكِحَا الغُلاَمَ الجَارِيَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في زمن بني إسرائيل كما يومىء إليه إخراج البخاري له فيه (عقاراً) بفتح المهملة وبالقاف والراء، وهو في اللغة كل ملك ثابت له أصل كالدار والنخل قال بعضهم: وربما أطلق على المتاع كذا في المصباح (فوجد الذي اشترى العقار في عقاره) أظهر في محل الإِضمار زيادة في الإِيضاح (جرة) بفتح الجيم وتشديد الراء وبالهاء قال في المصباح: هي إناء معروف جمعها جرار ككلبة وكلاب، وجرات وجر كتمرة وتمر. وبعضهم يجعل الجر لغة في الجرة (فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك) وعلل الأمر على طريق الاستئناف البياني بقوله (إنما اشتريت منك الأرض ولم أشتر الذهب) أي: وليس هو من أجزائها حتى يتناوله الشراء الوارد عليها (فقال الذي له الأرض) أي: باعتبار ما مضى قبل عقد البيع. ووقع لأحمد، المراد من ذلك ولفظه: فقال الذي باع الأرض: إنما بعتك الأرض. ووقع في نسخ مسلم اختلاف، كالأكثر رووه بلفظ فقال الذي شرى الأرض. والمراد باعها كما قال أحمد.
ولبعضهم الذي اشترى الأرض ووهم فلا وهم (إنما بعتك الأرض وما فيها) لعله أخبر عن مراده لا عن اللفظ الواقع بينهما حال العقد، ويحتمل أنه أخبر عنه وأنه قال: وأنكر المشتري التعرض له أو لم يره المشتري شاملاً لما وجده فيها، ورآه قاصراً عليها بل على ما يعتاد دخوله في بيع الأرض من المدر والأحجار المبنية فيها. ثم رأيت الحافظ في الفتح: أشار إلى الاحتمالات المذكورة قال: وحكم اختلافهما فيما ورد عليه العقد التحالف، ويرد المبيع هذا، باعتبار ظاهر اللفظ أنه وجد فيها جرة لكن في أخرى أنه اشترى داراً فعمرها فوجد فيها كنزاً، وأن البائع قال له لما دعاه إلى أخذه: ما دفنت ولا علمت. وأنهما قالا للقاضي ابعث من يقبضه وتضعه حيث رأيت فامتنع. وعليه فحكمه حكم الركاز في هذه الشريعة إن عرف أنه من دفين الجاهلية. وإلا فإن عرف أنه من دفين المسلمين فهو لقطة وإن جهل فحكمه حكم المال الضائع يوضع في بيت المال. ولعله لم يكن في شرعهم هذا التفصيل اهـ. (فتحا كما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد؟ قال أحدهما لي غلام) اسم للولد حال الصغر والشباب واجتماع القوة (وقال الآخر) بفتح الخاء المعجمة (لي جارية) أي بنت(8/648)
قال: أنْكِحَا الغُلاَمَ الجَارِيَةَ، وأنْفِقَا عَلَى أنْفُسِهمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا" متفق عليه (1) .
1825- وعنهُ - رضي الله عنه -: أنَّه سمعَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "كانت امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بابْنِ إحْدَاهُمَا. فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا: إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وقالتِ الأخرَى: إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَا إلى دَاوُدَ - صلى الله عليه وسلم - فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فقال أنكحا) بكسر الكاف (الغلام الجارية وأنفقا على أنفسهما منه فتصرفا) وفي نسخة وتصرفا كذا في الرياض بالراء من التصرف. ولفظ البخاري "بالدال" من الصدقة ولفظ البخاري "فقال أنكحوا الغلام الجارية وانفقوا على أنفسهما منه وتصدقا". والحكمة في جمع الأولين وتثنية الثالث والرابع كما قال الحافظ: أن الزوجين كانا محجورين وإنكاحهما لا بد فيه مع ولييهما من غيرهما كالشاهدين، وكذا الإِنفاق، قد يحتاج فيه إلى المعين كالوكيل، وأما تثنية النفسين فللإِشارة إلى اختصاص الزوجين بذلك، وأما تثنية التصدق فللإِشارة إلى أن يباشرا الصدقة بأنفسهما بغير واسطة، لما في ذلك من الفضل؛ وأيضاً فهي تبرع لا يصدر من غير الرشيد ولا سيما ممن ليس له فيها ملك ووقع في رواية لمسلم وأنفقا على أنفسكما والأول أوجه اهـ. كلام الفتح (متفق عليه) أخرجه البخاري في بني إسرائيل. وأخرجه مسلم في البيوع.
1825- (وعنه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كانت امرأتان) أي: في زمن بني إسرائيل (معهما ابناهما) جملة في موضع الخبر، أو الخبر الظرف. والمثني فاعله لاعتماده على المخبر عنه؛ قال في الفتح: لم أقف على اسم واحدة من هاتين المرأتين ولا على اسم واحدة من ابنيهما في شيء من الطرق (جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت) المذهوب بابنها (إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكما) وفي رواية الكشميهني: "فتحاكمتا" وعند البخاري في رواية "فاختصما" (إلى داود - صلى الله عليه وسلم - فقضى به للكبرى) قال القرطبي: الذي ينبغي أن يقال إن قضاء داود به لها لسبب اقتضى ترجيح قولها عنده، إذ لا بينة لإِحداهما، وكونه لم يعين في الحديث اختصاراً، لا يلزم منه عدم وقوعه، فيحتمل أن يقال: إنه كان بيد الكبرى وعجزت الأخرى عن إقامة البينة، قال: وهذا تأويل حسن جار على القواعد الشرعية، وليس في السياق ما يأباه ولا يمنعه، وسليمان لم ينقضه،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء قبيل باب المناقب، (6/375، 376) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: استحباب إصلاح الحاكم بين الخصمين، (الحديث: 21) .(8/649)
عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَتَاهُ. فَقالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لاَ تَفْعَلْ! رَحِمَكَ اللهُ، هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ للصُّغْرَى". متفق عليه (1) .
1826- وعن مِرداس الأسلمي - رضي الله عنه -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنما احتال للوقوف على حقيقة الأمر فوقف عليه. ولعل الكبرى لما رأت الجد من سليمان اعترفت بالحق وأقرت به، فحكم به. ونظير ذلك ما لو حلف منكر على نفي ما ادعى عليه به فحكم ببراءته منه ثم احتيل عليه حتى أقر بأن المحلوف عليه عنده، فإنه يؤاخذ بإقراره ولا يقال فيه: إنه نقض للحكم السابق (فخرجتا على سليمان بن داود - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتاه فقال) توصلاً للوقوف على حقيقة الأمر (ائتوني بالسكين) بكسر المهملة والكاف، سميت به لأنها تسكن حركة المذبوح (أشقه بينهما فقالت الصغرى: لا تفعل رحمك الله هو ابنها) أخد من جزعها الدال على عظيم شفقتها، وعدم ذلك في الكبرى مع ما انضاف إليه من القرائن الدالة على صدقها، ما هجم به على الحكم بأنه للصغرى كما قال (فقضى به للصغرى) ويحتمل كما تقدم إقرار الكبرى حينئذ به، ويحتمل أن يكون سليمان ممن سوغ له أن يحكم بعلمه قال ابن الجوزي: استنبط سليمان لما رأى الأمر محتملاً فأجاد، وكلاهما حكم بالاجتهاد إذ لو حكم داود بالنص لما ساغ لسليمان الحكم بخلافه. ودلت هذه القصة أن الفطنة والفهم موهبة من الله تعالى لا تتعلق بكبر سن ولا صغره، وفيه جواز حكم الأنبياء بالاجتهاد وإن كان وجود النص ممكناً لديهم بالوحي، ليكون في ذلك زيادة أجورهم ولعصمتهم من الخطأ إذ لا يقرون على الباطل لعصمتهم (متفق عليه) .
1826- (وعن مرداس) بكسر الميم وسكون الراء وبالدال والسين المهملتين: ابن مالك (الأسلمي رضي الله عنه) قال في التقريب: صحابي بايع تحت الشجرة وهو قليل الحديث.
قال في فتح الباري في غزوة الحديبية: وليس لمرداس في البخاري سوى هذا الحديث، ولا يعرف أحد روي عنه إلا قيس بن حازم، وجزم بذلك البخاري وأبو حاتم ومسلم وآخرون.
وقال ابن السكن: زعم بعض أهل الحديث: أن مرداس بن عروة الذي روى عنه زياد بن علاقة هو الأسلمي. قال: والصحيح أنهما اثنان. قال الحافظ في الفتح ففيه تعقب على المزي في قوله في ترجمة مرداس الأسلمي روى عنه قيس بن أبي حازم وزياد بن علاقة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: إذا ادعت المرأة ابناً، (6/333، 335) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدي، (الحديث: 20) .(8/650)
قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ الشَّعِيرِ أوِ التَّمْرِ لاَ يُبَالِيهُمُ اللهُ بَالَةً". رواه البخاري (1) .
1827- وعن رفاعة بن رافع الزُّرَقِيِّ - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ووضح أن شيخ زياد بن علاقة غير مرداس الأسلمي (2) (قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يذهب الصالحون) أي: تقبض أرواحهم (الأول فالأول) بالنصب على تأويل مترتبين في محل الحال وبالرفع بدل مفصل من مجمل والظاهر منعه وأنه لا يعطف في هذا البدل إلا بالواو ونظير عطف الصفات المعرفة مع اجتماع منعوتها من خصائص الواو والعاطف هنا الفاء. ثم قال الزركشي: ويجوز النصب على الحال، أي: مترتبين. قال: وجاز وإن كان فيه أل لأن الحال ما يستخلص من التكرار أي: مترتبين قاله أبو البقاء وهل الحال الأول أو الثاني أو المجموع منهما فيه الخلاف في الخبر في هذا حلو حامض. لأن الحال أصلها الخبر. قال الدماميني: قيل قوله بأن الخبر في هذا حلو حامض هو الثاني لا الأول. غريب لم أقف عليه فحرر اهـ. (وتبقى حثالة كحثالة العشير أو التمر) كذا في نسخ الرياض بالمهملة والمثلثة وفي رواية بالفاء بدل المثلثة قال الخطابي: الحفالة بالفاء وبالمثلثة: الرديء من كل شيء.
وقيل آخر ما يبقى من الشعير عند الغربلة ويبقى من التمر بعد الأكل (لا يباليهم الله بالة) بالموحدة فيهما قال الخطابي أي: لا يرفع لهم قدراً ولا يقيم لهم وزناً وقال ابن بطال: وفي الحديث: "أن موت الصالحين من أشراط الساعة". وفيه الندب إلى الاقتداء بأهل الخير، والتحذير من مخالفتهم، خشية أن يصير من خالفهم ممن لا يعبأ الله به، وفيه انقراض أهل الخير آخر الزمان حتى لا يبقى إلا أهل الجهل صرفاً، ويؤيده حديث: "إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً اهـ. ملخصاً من الفتح (رواه البخاري) في المغازي في غزوة الحديبية موقوفاً عليه. وفي الرقاق مرفوعاً. وأحمد.
1827- (وعن رفاعة) بكسر الراء وتخفيف الفاء وبالعين المهملة (بن رافع) بالحروف المذكورة ابن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق بتقديم الزاي (الزرقي) بضم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: في غزوة الحديبية، (الحديث: 11/214 و215) .
(2) في الأصل تحريف، صحح من الفتح، وتقديم وتأخير، وبعد وضع الجمل في مواضعها ظهر بها شيء من الخلل وضعنا عليه رقم 7 ع.(8/651)
1829- وعن جابر - رضي الله عنه - قال: كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إلَيْهِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي فِي الخُطْبَةِ - فَلَمَّا وُضِعَ المِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلجِذْعِ مِثْلَ صَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَوضَعَ يَدَهُ عَلَيهِ فَسَكَنَ.
وَفِي روايةٍ: فَلَمَّا كَانَ يَومُ الجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى المِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أنْ تَنْشَقَّ.
وفي رواية: فصَاحَتْ صِيَاحَ الصَّبيِّ، فَنَزَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى أَخَذَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم".
1829- (وعن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنه قال: كان جذع) بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة وبالعين المهملة، هو ساق النخلة (يقوم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: مائلاً إليه (يعني في الخطبة) تفسير لوقت قيامه إليه مدرج في الحديث (فلما وضع المنبر) قيل: وذلك في عام سبع، وبه جزم ابن سعد. وقيل: سنة ثمان. وجزم به ابن النجار، ونظر في كل منهما الحافظ في باب الجمعة من الفتح، وفي الكلام حذف، أي: وصعد عليه - صلى الله عليه وسلم - كما صرح به في الرواية بعده (سمعنا للجذع) صوتاً (مثل صوت العشار) بكسر المهملة وتخفيف المعجمة: جمع عشراء بضم ففتح الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر ووقع في رواية للنسائي في الكبرى من حديث جابر اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج وهي بفتح المعجمة وضم اللام الخفيفة آخره جيم الناقة التي انتزع ولدها، وفي حديث أنس عند ابن خزيمة "فحنت الخشبة حنين الوالد". وعند الدارمي وابن ماجه: "فلما جاوزه خار ذلك الجذع كخوار الثور". وفي حديث أبي بن كعب عند أحمد والدارمي وابن ماجه: "فلما جاوزه خار الجذع حتى انصدع وانشق" (حتى نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه فسكن) وفي حديث بريدة عند الدارمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت يعني قبل أن تصير جذعاً وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها فيحسن نبتك وتثمر، فيأكل منك أولياء الله تعالى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار أن اغرسه في الجنة". وهذا اللفظ عند البخاري في أبواب الجمعة وهو عنده من حديث ابن عمر أخرجه في باب علامات النبوة بنحوه (وفي رواية فلما كان يوم الجمعة) بالرفع فاعل كان، وبالنصب خبرها. واسمها عائد إليه - صلى الله عليه وسلم - (قعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فصاحت النخلة) أي: جذعها، مجاز مرسل من إطلاق اسم الكل على الجزء أو من مجاز الحذف مثل واسأل القرية (التي كان يخطب عندها حتى كادت) أي: قاربت (أن تنشق) انفعال من الشق، وفيه إدخال أن في خبر كاد وهو قليل جداً (وفي رواية) هي للبخاري (فصاحت) أي: النخلة كما صرح بها في الرواية وحذفها المصنف اكتفاء لذكرها في الحديث قبل، والضمير المؤنث يدل عليها(8/653)
فَضَمَّهَا إلَيهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبي الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قال: "بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذَّكْرِ". رواه البخاري (1) .
1830- وعن أبي ثعلبة الخُشَنِيِّ جُرثومِ بنِ ناشر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(صياح الصبي) أي: في غاية الشدة (فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: من على المنبر وسارّ لها (حتى أخذها فضمها إليه) تسكيناً لما قام بها من الشوق لحضرته وسماع خطبته (فجعلت تئن أنين الصبي) قال في المصباح: أن الرجل يئن أنيناً وأناناً بالضم: صوت (الذي يسكت حتى استقرت) أي: سكنت. زاد الإِسماعيلي فقال: "لو لم أفعل لما سكن". وفي رواية للإِسماعيلي أيضاً بلفظ: "لو لم احتضنه لحن إلى يوم القيامة". ولأبي عوانة وابن خزيمة وأبي نعيم من حديث أنس: "والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة" حزناً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم أمر به فدفن وأصله في الترمذي بدون الزيادة. قال الحافظ: ووقع في حديث الحسن عن أنس قال: كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحنّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شوقاً إلى لقائه فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه (قال) النبي - صلى الله عليه وسلم - (بكت على ما كانت تسمع من الذكر) قال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي نقلها الخلف عن السلف، ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكليف، قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكاً كالحيوان بل كأشرف الحيوان. وفيه تأكيد لقول من يحمل (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) (2) على ظاهره. وقد نقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال: ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فقد أعطي عيسى إحياء الموتى وأعطي محمداً حنين الجذع، حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك اهـ. (رواه البخاري) في أماكن من صحيحه، وأورده بهذا اللفظ الأخير بنحوه في علامات النبوة من حديث جابر وأخرجه في أبواب أخر كما تقدمت الإِشارة إليه.
1830- (وعن أبي ثعلبة) بفتح المثلثة واللام والموحدة وسكون العين المهملة (الخشني) بضم المعجمة الأولى وفتح الثانية بعدها نون قال في لب اللباب: منسوب إلى الخشين بن النمر بن وبرة (جرثوم) بضم الجيم والمثلثة وسكون الراء (بن ناشر) بالنون والشين المعجمة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة وفي غيره، (2/332) و (6/443، 444) .
(2) سورة الإسراء، الآية: 44.(8/654)
- رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا" حديث حسن. رواه الدارقطني وغيره (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والراء وقيل: اسمه جرثومة بزيادة هاء، وقيل: جرثم بحذف الواو، وقيل: جرهم بإبدال المثلثة هاء وبحذف الواو، وقيل: لاشق، وقيل: لاشوية، وقيل: ياسب، وقيل: ياسر، وقيل: عروف، وقيل: سق، وقيل: زيد، وقيل: الأسود. واختلف في اسم أبيه أيضاً. مات سنة خمس وسبعين. وقيل: بل قبل ذلك بكثير في أول خلافة معاوية بعد الأربعين خرج حديثه الجميع كذا في التقريب للحافظ روي له (رضي الله عنه) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثاً اتفق الشيخان على ثلاثة أحاديث منها وانفرد مسلم بالرابع (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها) بالإِخلال بها إما بتركها أو بترك ركن من أركانها أو شرط من الشروط المتوقف صحتها عليه (وحد حدوداً) وذلك ككون الصبح مثلاً ركعتين وكل من الظهرين والعشاء أربعاً وككون الصوم فيما بين طلوع الشمس وغروبها (فلا تعتدوها) بالزيادة في ذلك ومن ثم حرم الوصال لدخوله في المنهي عنه؛ وفي الكشاف حدود الله أحكامه وأوامره ونواهيه، وعليه فمعنى لا تعتدوها أي: لا تتجاوز عنها وتتركها (وحرم أشياء) التنكير للتكثير (فلا تنتهكوها) بالوقوع وكان التحريم كالحجاب الحائل بين المكلف وبينها فلا يصل إليها إلا بانتهاكه وخرقه (وسكت عن أشياء) أي: لم يحكم فيها بوجوب أو حل أو حرمة (رحمة لكم) مفعول له (غير نسيان) هو ترك الفعل بلا قصد وبعد حصول العلم، بخلاف السهو. وكل منهما محال في حقه تعالى، لأن عمله بالذات؛ وما كان بالذات لا يتغير البتة (فلا تبحثوا عنها) أي: لا تسألوا عن حالها لأن السؤال عما سكت الله عنه يفضي إلى التكاليف الشاقة، بل نحكم بالبراءة الأصلية والحل في المنافع، والحرمة في المضار، والبحث بعد التفتيش (حديث حسن رواه الدارقطني وغيره) قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأربعين حديثاً: جمع المصنف بعد تخريج الحديث هذا حديث حسن وقد أخرج مسلم لرواته عن آخرهم لكن مكحولاً كثير الإِرسال، فلا يحتج بعنعنته إلا إذا صرح بالتحديث. وقد قيل: إنه لم يسمع من أبي ثعلبة ففيه انقطاع والله أعلم. قال أبو حاتم: سألت أبا مسهر هل سمع مكحول من أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما صح عندنا إلا أنس بن
__________
(1) سنن الدارقطني ص 502.(8/655)
1831- وعن عبد الله بن أبي أَوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنهما، قالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأكُلُ الجَرَادَ.
وَفِي رِوَايةٍ: نَأكُلُ مَعَهُ الجَرَادَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مالك. قلت: فواثلة بن الأسقع فأنكره. وقال أبو زرعة: مكحول عن ابن عمر مرسل ولم يسمع من واثلة. وقال الدارقطني: لم يلق إلا أبا هريرة وإلا شداد بن أوس. وقال أبو حاتم: لم يسمع من معاوية ولا من واثلة ولم ير أبا أمامة وقال البخاري: لم يسمع من عبسة بن أبي سفيان إذا قلت لم يصح سماعه من أبي أمامة وواثلة وهما ممن تأخرت وفاتهما وكان معاصراً لهما فيبعد صحة سماعه من أبي ثعلبة أيضاً، وإن كان بحضرته والله أعلم اهـ. ومن خطه نقلت وقال السخاوي في تخريج الأربعين المذكورة هذا حديث حسن، أخرجه ابن أبي شيبة ومن طريقه الطبراني في معجمه الكبير ورواه الدارقطني في سننه وأبو نعيم في الحلية والحاكم في المستدرك ثم ذكر كلام شيخه أن مكحولاً كثير الإِرسال أرسل عن جماعة من الصحابة. قال: وقال الحافظ أبو سعيد العلائي في المراسيل له إنه معاصر لأبي ثعلبة في السن والبلد، فيحتمل أن يكون لقيه وأن يكون أرسل عنه قلت: وبالثاني جزم أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم وجماعة وحكاه المزي ممرضاً، وأيده شيخنا بقول أبي حاتم إنه لم يسمع من واثلة ولم ير أبا أمامة وقال: إنه إذا لم يصح سماعه عن أبي أمامة إلى آخر كلامه السابق، ولكن قد جزم غير واحد بسماعه من واثلة خلافاً لأبي حاتم منهم البخاري والترمذي وابن يونس، وليس ذلك بلازم، وعلى كل حال فمن يكون كثير الإِرسال لا يحتج من حديثه إلا بما يصرح فيه، على أنه قد اختلف في رفعه ووقفه. بل رواه بعضهم عن مكحول من قوله إلا أن الدارقطني قال: الأشبه بالصواب المرفوع وهو أشهر اهـ. وقد حسنه أبو بكر بن السمعاني في أماليه ثم المصنف والعراقي وشيخنا في أماليه وله شواهد ثم بينها وأطال فيه.
1831- (وعن عبد الله بن أبي أوفى) بالفاء وهو كنية علقمة بن خالد بن الحارث (رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد) بفتح الجيم اسم جنس جمعي واحدته جرادة يطلق على الذكر والأنثى قاله الجوهري. وقال ابن النحوي في شرح البخاري: قال ابن دريد، سمي جراداً لأنه يجرد الأرض فيأكل ما عليها. وأطال الحافظ في تعريفه. ونقل الأصمعي أنه إذا خرج من بيضه فهو يرباه ثم قال: ولعابه سم على الأشجار لا يقع على شيء إلا أحرقه. وفي الغريب المصنف للأصمعي: الذكر من الجراد وهو الحنطب والعنطا زاد الكسائي: والعنطوب وقال أبو حاتم في كتاب الطير: "قالت العرب للذكر الجراد وللأنثى كذلك، وهي نثرة حوت يؤكل ولا يذبح. وقال أبو يعلى: والجندب(8/656)
متفق عليه (1) .
1832- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ". متفق عليه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضرب منه" وقال أبو حاتم، وأبو حجارب: شيخ الجنادب وسيدهم قال ابن خالويه: وليس في كلام العرب للجراد اسم أقرب من العصفور، وللجراد نيف وستون اسماً فذكرها، والجراد حلال بالإِجماع ويؤكل عند الكوفيين وإمامنا الشافعي، كيف كان ولو صاده المجوسي. وعند المالكي فيه تفصيل وأقوال، أطال ابن النحوي في بيانها وذكر أحاديث وآثاراً كثيرة في حل أكله، وأجاب عما توهم من الأحاديث من عدم حله وأورد فيه عن جابر قال: قال عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله خلق ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمة الجراد فإذا هلك الجراد تتابعت الأمم مثل سلك النظام" (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (وفي رواية نأكل معه والجراد) بزيادة الظرف.
1832- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) بالدال المهملة وبالغين المعجمة، وهو بالرفع خبر بمعنى الأمر أي: لكون المؤمن حازماً حذراً لا يؤتى من جهة الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدنيا وهو أولاهما بالحذر. وقال أبو عبيد: معناه لا ينبغي للمؤمن إذا نُكب من وجه أن يعود إليه. هذا ما فهم الأكثر، ومنهم الزهري راوي الحديث. وحمل أبو داود على أن معنى أنه من عوقب في الدنيا بذنب لا يعاقب عليه في الآخرة. فإن أراد أنه معناه المراد فيأتي أنه له سبباً يعني حمله على الأول قيل: المراد بالمؤمن الكامل أي: الذي وقفته معرفته على غوامص الأمور حتى صار يحذرها. وأما المؤمن المغفل فقد يلدغ مراراً وقوله: "من جحر" زاد بعض رواة البخاري "واحد" ووقع في بعض النسخ من "حجر حية" وهي رواية شاذة قال ابن بطال: وفيه أدب شريف أدب به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته ونبههم كيف يحذرون مما يخافون من سوء عاقبته (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الذبائح، باب: أكل الجراد، (9/535) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الجراد، (الحديث: 52) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين، (10/439، 440) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين، (الحديث: 63) .(8/657)
1833- وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالفَلاَةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً سِلْعَةً بَعْدَ العَصْرِ فَحَلَفَ بِاللهِ لأَخَذَهَا بِكذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَاماً لاَ يُبَايِعُهُ إلاَّ لِدُنْيَا فَإنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى وَإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1833- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة) أي: من الأصناف أي: أصناف ثلاثة (لا يكلمهم الله يوم القيامة) كلام بروإلطاف وقيل: المراد لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية (ولا ينظر إليهم) نظر رحمة وإسعاف، وإلا فعلمه لا يغيب عنه شيء (ولا يزكيهم) أي: لا يطهرهم من الذنوب ولا يثني عليهم (ولهم عذاب أليم) أي: مؤلم (رجل على فضل ماء) أي: ماء فضل عن حاجته (بالفلا) بالفاء واللام والألف المقصورة جمع فلاة: وهي الأرض لا ماء فيها، ونظيرها في الجمع المذكور حصاة وحصى وجمع الجمع أفلاء كسبب وأسباب (يمنعه من ابن السبيل) أي: المسافر وسمي بذلك ترفقاً به قاله البيضاوي أي: من المسافر المحتاج له ويستثنى من الوعيد، ما لو كان المسافر المحتاج للماء حربياً أو مرتداً، وأصراً على الكفر، فلا يجب بذل الماء له (ورجل بايع رجلاً بسلعة) بالباء مزيدة في المفعول للتأكيد أو ضمن بايع معنى قابل أو عوض وهي بكسر المهملة الأولى وسكون اللام: البضاعة وجمعه سلع نحو سدرة وسدر (بعد العصر) خص بالذكر لشرفه باجتماع ملائكة الليل والنهار فيه (فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا) كناية عن ثمن (فصدقه) أي: المشتري (وهو) أي: الحالف (على غير ذلك) الذي حلف عليه بأن أخذها بأقل أو وهو أي: الثمن، المكنى عنه على غير ذلك أي: أقل وتحريم الحلف المذكور والوعيد الشديد غير مقصور على العصر بل عام لكل من أتى بذلك أي: زمن كان، وتخصيص العصر بالذكر لما ذكر. وقيل خص لعظيم الإِثم فيه وإن حرمت اليمين الفاجرة كل وقت إلا أن الله سبحانه عظم شأن هذا الوقت لاجتماع الملائكة، ووقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت فيه العقوبة لئلا يقدم عليها فيه تجرؤاً، فإن من تجرأ عليها فيه أعادها في غيره وكان السلف يحلفون بعد العصر تغليظاً لليمين (ورجل بايع) أي: عاهد (إماماً) على النصرة له والدخول في طاعته (لا يبايعه إلا لدنيا) أي: فإن أعطي منها دام على الطاعة وإلا نكث وأفسد كما قال: (فإن أعطاه منها وفى) بتخفيف الفاء أي: بما التزمه (وإن لم يعطه منها لم يف) هو تصريح بما يفهم مما قبله زيادة في تقبيح كل من فعليه والسعي بذلك عليه قال في الفتح:(8/658)
متفق عليه (1) .
1834- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ" قالوا: يَا أبَا هُرَيْرَةَ أرْبَعُونَ يَوْماً؟ قالَ: أبَيْتُ، قَالُوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قال: أبَيْتُ. قالُوا: أرْبَعُونَ شَهْراً؟ قالَ: أبَيْتُ. "وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الإنْسَانٍ إلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ، فِيهِ يُرَكَّبُ الخَلْقُ، ثُمَّ يُنَزِّلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ البَقْلُ". متفق عليه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واستحقاقه هذا الوعيد لكونه غش إمام المسلمين، ومن لازم غشه غشهم لما ليه من التسبب إلى إثارة الفتنة ولا سيما إن كان ممن يتبع على ذلك اهـ. (متفق عليه) ورواه أحمد.
1834- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بين النفختين) أي: نفخة الصعق ونفخة البعث (أربعون قالوا) لم يعين المصنف أسماء القائلين ولا أحداً منهم (يا أبا هريرة أربعون يوماً) بتقدير همزة قبله (قال أبيت) بالموحدة فالتحتية فالفوقية أي: امتنعت أن أجزم بتعيينها كذلك. وكذا في قول (قالوا أربعون عاماً قال أبيت قالوا أربعون شهراً قال أبيت) والحاصل كما قاله المصنف: أن مراده الامتناع من الجزم بأن المراد يوماً أو شهراً أو عاماً بل الذي يجزم به أنها أربعون مجملة وقد جاءت مفسرة من رواية غيره في غير مسلم أربعون سنة (ويبلى كل شيء من الإِنسان) من لحم وعصب وعروق وعظم وظفر وشعر (إلا عجب الذنب) هو بفتح العين المهملة وسكون الجيم أي: العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب، وهو رأس العصعص.
ويقال له عجم بالميم وهو أول ما يخلق من الآدمي، وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه، ثم هذا عام مخصوص بغير الأنبياء فلا يبلون وكذا الشهداء (فيه يركب الخلق) بصيغة المجهول ونائب الفاعل المرفوع بعده (ثم) للتركيب في الذكر وإلا فمدخولها سابق على تركيبه (ينزل الله من السماء ماء) على صورة المني (فينبتون) بضمِ الموِحدة أي: من عجب الذنب بأن تجمع إليه أجزاؤه شيئاً فشيئاً (كما ينبت البقل) شيئاً فشيئاً وهو بفتح الموحدة وسكون القاف قال ابن فارس: هو كل نبات اخضرت به الأرض (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات والمساقاة والأحكام، باب: من بايع رجلاً لا يبايعه إلا للدنيا (5/25) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإِزار ... ، (الحديث: 173) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/في تفسير سورة الزمر، (8/424) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين، (الحديث: 141) .(8/659)
1835- وعنه، قال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَومَ، جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ، فَقالَ بَعْضُ القَومِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إذَا قَضَى حَدِيثَهُ قالَ: أيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ " قال: هَا أنا يَا رسُولَ اللهِ. قال: "إذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ" قال: كَيفَ إضَاعَتُهَا؟ قال: "إذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إلى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ". رواه البخاري (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1835- (وعنه قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم) جملة في محل الحال من ضميرها، ويحتمل العكس (جاءه أعرابي) قال الحافظ: لم أقف على اسمه (فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث) أي: استمر فيما كان فيه ولم يقطعه لجواب السائل (فقال بعض القوم) أي: حاضري المجلس (سمع ما قال) أي: قوله (فكره ما قال) أظهر، والمقام للإِضمار دفعا لتوهم كراهة القائل لو جيء بالضمير (وقال بعضهم بل) إضراب عن ْقول الأولين من غير إبطال (لم يسمع) وإنما حصل لهم التردد لما ظهر لهم من عدم التفات في النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سؤاله وإصغائه نحوه، ولكونه كان يكره السؤال عن هذه المسألة بخصوصها؛ وقد تبين عدم انحصار تركه الجواب فيما ذكروه منها بل احتمل أنه ليكمل حديثه الذي كان فيه أو ليوحي إليه به، ويؤيده الأول من هذين وقوله (حتى إذا قضى حديثه) حتى: غاية لقوله مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث أي: استمر فيه إلى إتمامه. وإذا شرط جوابه: (قال أين السائل عن الساعة) في كتاب العلم أين أراه السائل بزيادة أراه بضم الهمزة أي: أطنه ورفع السائل والشك عن محمد بن فليح قال في الفتح ورواه ابن فليح بلفظ أين السائل من غير شك (قال: هأنا) أي: حاضر (يا رسول الله قال: إذا ضيعت الأمانة) بالبناء للمجهول. وعند البخاري فإذا ضيعت والفاء فصيحة أي: إن شئت معرفة وقتها (فانتظر الساعة) فالشوط الثاني: وجوابه جواب الشرط المقدر (قال: كيف إضاعتها، قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله) أي: جعل لهم فإلى بمعنى اللام (فانتظر الساعة) قال ابن المنير: ينبغي أن يجعل هذا الحديث أصلاً في أخذ الدروس والقراءة والحكومات والفتاوى عند الازدحام على السبق وفي الحديث "من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر" (رواه البخاري) في كتاب العلم وفي كتاب الرقاق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: من سُئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل، (1/132 و11/285) .(8/660)
1836- وعنه: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإنْ أصَابُوا فَلَكُمْ، وإنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ". رواه البخاري (1) .
1837- وعنه - رضي الله عنه - (2) (كُنْتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، قالَ: خَيْرُ النَّاسِ للنَّاسِ يَأتُونَ بِهِمْ في السَّلاسِلِ فِي أعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الإسْلاَمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1836- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يصلون) أي: الأئمة (لكم) أيها المسلمون (فإن أصابوا) أي: وافقوا والصواب فيها وهم عارفون به، لأنه لا يجوز مباشرة أمر لمن لا يعلم حكم الله فيه (فلكم) الأجر أي: ولهم أيضاً لذلك، وسكت عنه لوضوحه وظهوره، لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً عليه ولدلالة قوله (وإن أخطئوا فلكم وعليهم) هذا يحمل على ما إذا كان ما أتى به من الخطأ غير موجب للإِعادة كالحدث مثلاً والإِخلال بما يحرم الإِخلال به إلا أنه غير مبطل كتأخير الصلاة وإخراجها عن وقت أدائها بغير عذر، فهو حرام. وإذا ْفعلت خارجة فهي صحيحة (رواه البخاري) .
1837- (وعنه) أي: أبي هريرة (رضي الله عنه) موقوفاً عليه في تفسير قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت) أي: أظهرت (للناس قال:) أي: أبو هريرة (خير الناس للناس) قال الحافظ ابن كثير في التفسير: المعنى خير الأمم وأنفع الناس للناس، ولذا قال تعالى: (تأمرون بالمعروف) (2) الآية (يأتون) أي: الناس (بهم في السلاسل في أعناقهم) في محل الصفة أو الحال من السلاسل (حتى يدخلوا في الإِسلام) قال الحافظ ابن كثير: وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والربيع عن أنس وعطية العوفي يعني خير الناس للناس أي: هذا المتفق عليه. وفيه تفسير الآية. وقوله يأتون بهم الخ بيان لكمال لطف الله بهم، وأنهم يؤسرون على ما يحوزون به الشرف في الدارين، وهو بمعنى الحديث المرفوع بعده ولعله أخذه منه. وفي حديث درة بنت أبي لهب مرفوعاً: "خير الناس أقرؤهم وأفقههم في ْدين الله وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم". وعن ابن عباس موقوفاً عليه في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (3) قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة. قاله ابن كثير. والصحيح أن هذه الآية عامة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه، (2/157) .
(2) سورة آل عمران، الآية: 110.
(3) سورة آل عمران، الآية: 110.(8/661)
1838- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَجِبَ اللهُ - عز وجل - مِنْ قَومٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ فِي السَّلاسِلِ" رواهما البخاري. معناه: يُؤْسَرُونَ وَيُقَيَّدُونَ ثُمَّ يُسْلِمُونَ فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ (1) .
1839- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَحَبُّ البِلادِ إلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذين يلونهم. وفي مسند الإِمام أحمد من حديث معاوية بن حيدة مرفوعاً "أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل". حديث مشهور حسنه الترمذي، وصححه الحاكم في المستدرك. وإنما فضلت هذه الأمة من تقدمها بنبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه أشرف خلق الله وأكرمهم عليه، وبعثه الله بشرع عظيم كامل لم يعطه نبياً قبله ولا رسولاً من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه اهـ.
1838- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عجب ربك) وفي نسخة عجب الله. المراد منه لاستحالة قيام حقيقة العجب بالله تعالى غايته من الرضا والإِكرام (من قوم يدخلون الجنة) بصيغة المجهول أي: يفعلون المقتضى لدخولها بالوعد الصادق وهو الإِيمان، ففيه مجاز مرسل من إطلاق اسم المسبب على السبب، (في السلاسل) في تعليلية أي: لوضعها في أعناقهم حال الأسر ثم يسلمون، أو ظرفية أي: إنهم يسلمون وهم فيها أسرى (رواهما البخاري) أي: الحديث الموقوف على أبي هريرة والمرفوع (معناه) أي: المذكور فيهما (يؤسرون ويقيدون ثم يسلمون فيدخلون الجنة) فالأسر باعتبار ما كانوا يرونه نقمة وباعتبار ما تجلى عنه نعمة.
1839- (وعنه) رضي الله عنه (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أحب البلاد) أل فيه للجنس (إلى الله مساجدها) لأنها البيوت التي أذن الله فيها أن ترفع ويذكر فيها اسمه بالتسبيح والتقديس والثناء عليه جل وعلا، ويقام فيها الصلاة، ويقرأ فيها القرآن، وينشر فيها العلوم، ويعرض فيها لنفحات الحي القيوم. والبلاد جمع بلد في القاموس البلد والبلدة كل قطعة من الأرض.
مستحيزة عامرة أو غامرة. وفي الصحاح البلد الأرض. وفي النهاية البلد من الأرض ما كان مأوى للحيوان وإن لم يكن فيه بناء، وفي المصباح يطلق البلد والبلدة على كل موضع من
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الأسارى في السلاسل (6/101 و8/169) .(8/662)
وَأبْغَضُ البِلاَدِ إلَى اللهِ أسْوَاقُهَا". رواه مسلم (1) .
1840- وعن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - من قولهِ قال: لاَ تَكُونَنَّ إن اسْتَطَعْتَ أوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ، وَلاَ آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأرض عامراً كان أو خلاء. وفي التنزيل إلى بلد ميت أي: إلى أرض ليس بها نبات ولا مرعى، فيخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم فأطلق الموت، على عدم النبات والمرعى، وأطلق الحياة على وجودهما اهـ (2) . (وأبغض البلاد إلى الله) تعالى (أسواقها) جمع سوق وهو اسم لكل مكان وقع فيه التبايع ممن يتعاطى البيع. وفي المصباح: السوق يذكر ويؤنث. وقال أبو إسحاق التأنيث أفصح وأصح والتذكير خطأ، لأنه يقال سوق نافقة ولم يسمع نافق. والنسبة إليها سوقي وسبب البغض أنها محل للفحش والخداع والربا والأيمان الكاذبة واختلاف الوعد والإِعراض عن ذكر الله تعالى، وغير ذلك مما في معناه، والحب والبغض من الله تعالى إرادته الخير والشر، وفعل ذلك لمن أسعده وأشقاه والمساجد محل نزول الرحمة والأسواق ضدها. وقال السيوطي: هذا مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه ولا يقوم به قيام العرض بالجوهر أراد بمحبة المساجد حب ما يقع فيها من ذكر، وتلاوة كتابه، والاعتكاف، ونشر العلم والصلوات. ويبغض الأسواق بغض ما فيها من غش وخديعة وخيانة وسوء معاملة مع كون أهلها لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، ولا يغضون أبصارهم عن المحارم (رواه مسلم) .
1845- (وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في باب أدب المجلس والجليس (من قوله) أي: موقوفاً عليه وهو في محل الحال (قال: لا تكونن إن استطعت) جملة شرطية محذوفة الجواب، لدلالة المقام عليه أي: فلا تكونن من أول داخل فيها ولا خارع منها وهي معترضة بين اسم يكون وهو المستكن في الفعل وخبرها وقوله (أول من يدخل السوق ولا آخر) معطوف عليه (من يخرج منها) وأتى بالجملة تنبيهاً على أن التكاليف على هذه الأمة، حسب طاقتها وقدر استطاعتها. وعلل ما ينهى عنه بقبوله (فإنها) أي: السوق (معركة الشيطان) أي: يريد فيها القبائح من الغش والخداع والأيمان الكاذبة، والأفعال المنكرة، ويريد ذلك لأوليائه من الإِنس (وبها ينصب رايته) والمبادرة إليها دخولاً،
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد، (الحديث: 288) .
(2) صححت العبارات السابقة بمراجعة القاموس والنهاية والمصباح. ع.(8/663)
رواه البخاري (1) .
1843- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي الدِّمَاء". متفق عليه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والناس مفعوله لكن الرواية على الأول (من كلام النبوة الأولى) أي: ذوي النبوة المتقدمة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) أي: إذا أردت فعل شيء فإن كان مما لا يستحى فيه من الله ولا من الناس لإِباحته فافعل وإلا فلا، وعليه فالأمر للإِباحة. ويجوز أن يكون الأمر للتهديد أي: إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت فإنك مجازى عليه، أو أن الأمر بمعنى الخبر أي: إذا نزع منك الحياء فعلت ما شئت من حرام وحلال، إذ لا رادع يردعك، وتقدم في بيان كثرة طرق الخير تعريف الحياء (رواه البخاري) وقال السخاوي في تخريج الأربعين حديثاً التي جمعها المصنف: هذا حديث صحيح كوفي المخرج رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والطبراني والقطيعي. في زوائد المسند وجمع آخرون يطول الكلام بذكرهم.
1843- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) أي: التي وقعت بين الناس في الدنيا، والمعنى أول القضايا القضاء في الدماء ويحتمل أن يكون التقدير أول ما يقضى فيه الأمر الكائن في الدماء ولا يعارضه حديث: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته" لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق، والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق. وما في الحديث موصول حرفي ومتعلق الجار محذوف أي أول القضاء يوم القيامة في الدماء، أي: في الأمر المتعلق بالدماء. وفي الحديث عظيم أمر الدماء، فإن البداءة تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة، وتفويت المصلحة وإعدام البنية الإِنسانية غاية في الذم، وقد ورد في التغليظ في أمر القتل آيات كثيرة، وأحاديث صحيحة، ولا يخالف حديث الباب حديث: "أنا أول من يحشر للخصومة" يعني هو ورفيقاه حمزة وعبيدة وخصومهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة لأن حديث الباب محمول على الجماعة؛ وذاك على الآحاد (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء والأدب، باب: إذا ما لم تستح فاصنع ما شئت، (10/434) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: اول الديات والرقاق، باب: القصاص يوم القيامة (12/166) .
وأخرجه مسلم في كتاب: القسامة، باب: المجازاة بالدماء في الآخرة، وأنها ... ، (الحديث: 28) .(8/666)
1844- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِقَتِ المَلاَئِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مَارِجٍ من نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ". رواه مسلم (1) .
1845- وعنها رضي الله عنها، قالت: كان خُلُقُ نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - القُرْآن. رواهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1844- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلقت الملائكة من نور) فلذا كانت أجساماً لطيفة نورانية لها قدرة على التشكل بأيّ صورة كانت (وخلق الجان) هو إبليس وهو أبو الشياطين، وقيل المراد به أبو الجن وهل هو إبليس أو غيره قولان (من مارج) بالراء فيه (من نار) بيان لمارج فإنه في الأصل للمضطرب، من مرج إذا اضطرب قال ابن عادل: من الأولى لابتداء الغاية، وفي الثانية وجهان: البيان والتبعيض، والمارج ما اختلط من أحمر وأصفر وأخضر، وهذا مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلط بعضها ببعض، وقيل: الخالص. وقيل: الأحمر، وقيل: الحمرة في طرق النار، وقيل: المختلط بالسواد وقيل: اللهب المضطرب. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر ونحوه عن مجاهد. وقيل: المارج المرسل غير ممنوع. قال المبرد: والمارج النار المرسلة التي لا تمنع وقال أبو عبيدة والحسن: المارج المختلط من النار، وأصله مرج إذا اضطرب واختلط قال الفرضي قوله من نار: نعت لمارج (وخلق آدم مما وصف لكم) ببناء الفعل للمجهول أي: مما ذكر لكم في التنزيل من أنه من التراب قال تعالى: (منها خلقناكم) (2) ثم عجن فصار طيناً قال تعالى حكاية عن إبليس (خلقتني من نار وخلقته من طين) (3) ثم ترك حتى تجمد وتغير وصار حمأ مسنوناً، ثم يبس حتى صار يصلصل أي: يصوت إذا نقر قال تعالى (ولقد خلقنا الإِنسان من صلصال من حمأ مسنون) (4) وقال تعالى: (خلق الإِنسان من صلصال كالفخار) (5) (رواه مسلم) ورواه أحمد.
1845- (وعنها قالت كان خلق) بضم المعجمة واللام أي: سجية (نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن) قال العارف بالله تعالى السهروردي صاحب عوارف المعارف: لا يبعد أن قول عائشة: فيه رمز
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: في أحاديث متفرقة، (الحديث: 60) .
(2) سورة طه، الآية: 55.
(3) سورة الأعراف، الآية: 12.
(4) سورة الحجر، الآية: 26.
(5) سورة الرحمن، الآية: 14.(8/667)
مسلم في جملة حديث طويل (1) .
1846- وعنها، قالت: قال رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أحَبَّ اللهُ لِقَاءهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءهُ" فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أكَراهِيَةُ المَوتِ، فَكُلُّنَا نَكْرَهُ المَوتَ؟ قال: "لَيْسَ كَذَلِكَ، ولكِنَّ المُؤْمِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غامض وإيماء خفي إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الالهية أن تقول كان متخلقاً بإخلاق الله تعالى، فعبرت عن ذلك المعنى بقولها. كان خلقه القرآن استحياء من سبحات الجلال وستر الحال بلطف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها فكما أن معاني القرآن لا تتناهى، فكذلك أوصافه الجميلة الدالة على عظم أخلاقه لا تتناهى، وفي كل حالة من أحواله يتجدد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وما يفيضه الله عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله، فإذاً التعرض لحضرة جزئيات أخلاقه الحميدة تعرض لما ليس من مقدور الإِنسان ولا من ممكنات عاداته. قال الحراني: بفتح المهملة وتشديد الراء: ولما كان عرفان قلبه - صلى الله عليه وسلم - بربه عز وجل كما قال عليه الصلاة والسلام: "بربي عرفت كل شيء" كانت أخلاقه أعظم خلق، فلذا بعثه إلى الناس كلهم ولم يقصر رسالته على الإِنس حتى عمت الجن ولم يقصرها على الثقلين حتى عمت جميع العالمين (رواه مسلم في جملة حديث طويل) .
1846- (وعنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) فيه حث على القيام بالطاعات والدأب فيها والإِخلاص المرتب عليه من فيوض الله ما لا يحصى ومن تشريفات العامل. لذلك ما لا يستقصى، فيحب العامل لذلك لقاء الله لما أعد له ويحب الله لقاءه (ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت يا رسول الله أكراهية الموت) الهمزة للاستفهام أي: أيراد بكراهية لقاء الله تعالى كراهية الموت فهذا مشكل؟ (فكلنا نكره الموت) بحسب الطبع وإن كان محبوباً بالنظر لما وراءه مما أعد لصالح المؤمنين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (قال: ليس كذلك) أي: ليس الأمر كذا الذي توهمته (ولكن) استدراك بإثبات ما يوهم شمول النفي له والنون مشددة (المؤمن) وفي نسخة إن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، (الحديث: 139) . مطولاً.(8/668)
إذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أحَبَّ لِقَاءَ اللهِ فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءهُ، وإنَّ الكَافِرَ إذَا بُشِّرَ بِعَذابِ اللهِ وَسَخَطهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ وكَرِهَ اللهُ لِقَاءهُ" رواه مسلم (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المؤمن بزيادة إن (إذا بشر برحمة الله) من النعيم والإِحسان المعدين له (ورضوانه وجنته) وذلك التبشير عند الاحتضار (أحب لقاء الله) لما يعلم من عظيم ما ينتقل إليه ويحل به من وفضل ربه (فأحب الله لقاءه) أي: رضيه وأثنى عليه (وأن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه) فيه تهكم واستهزاء، إذا استعملت البشارة الموضوعة في الأمر السار للمبشر في ضده ومنه قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) (2) (كره لقاء الله) لما يعلم من سوء منقلبه فإنه في الدنيا خال من العذاب، وفي الآخرة مؤبد فيه مخلد (فكره الله لقاءه) أي: أبعده من رحمته وكرهه وذمه في عالم الملكوت - (رواه مسلم) وفي الجامع الصغير حديث "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي من حديث عائشة وعبادة. وفي الجامع الكبير بعد ذكر المتن كما في الجامع الصغير رواه الطيالسي وأحمد والدارمي والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس عن عبادة بن الصامت ورواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة. ورواه الطبراني عن معاوية وذكر الحديث كما ذكره المصنف لكن قال: قالوا يا رسول الله لكنا نكره الموت "قال ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا احتضر جاء البشير من الله بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إلى الله (3) من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه، وإن الفاجر إذا احتضر جاءه ما هو صائر إليه من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه" وقال: رواه أحمد والنسائي من حديث ابن حبان اهـ. قال المصنف هذا الحديث يفسر آخره أوله، ويبين المراد بباقي الأحاديث المطلقة: "من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله". ومعنى الحديث إن الكراهة المعتبرة ما يكون عند النزع حالة عدم قبول توبة، ولا غيرها فحينئذ يبشر كل بما يصير إليه ويكشف له عنه، فأهل السعادة يحبون لقاء الله، لينتقلوا إلى ما أعد الله لهم، ويحب الله لقاءهم، أي: ثم فيجزل لهم العطاء والكرامة، وأهل الشقاوة يكرهون لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه ويكره الله لقاءهم أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهيته سبحانه لقاءهم. وليس معنى الحديث أن سبب كراهة الله لقاءهم كراهيتهم ذلك، ولا أن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء، (الحديث: 15) .
(2) سورة آل عمران، الآية: 21.
(3) كذا في الأصل ولعلم إليه.(8/669)
1847- وَعَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ صَفِيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ رَضيَ اللهُ عَنها، قالتْ: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَكِفاً، فَأَتَيْتُهُ أزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأنْصَارِ رضيَ اللهُ عَنهُما، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أسْرَعَا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَى رِسْلِكُمَا، إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ" فَقَالاَ: سُبْحانَ اللهِ يَا رسولَ اللهِ، فقالَ: "إنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سبب حبه لقاء الآخرين حبهم ذلك بل هو صفة لهم اهـ. وفي النهاية من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه والموت دون لقاء الله. قال في الفتح: كذا أخرجه النسائي بهذه الزيادة وهي من كلام عائشة مما يظهر، وذكرتها استنباطاً مما تقدم. قال في النهاية: المراد بلقاء الله المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله، وليس الغرض به الموت لأن كلاً يكرهه، فمن ترك الدنيا وأحب الآخرة أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله، لأنه إنما يصل إليه بالموت. وقوله والموت دون لقاء الله، يبين أن الموت خير اللقاء، لكنه معترض دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه - ويحتمل مشاقه على الاستسلام لما كتب الله له وقضى، حتى يصل إلى الفوز بالثواب العظيم اهـ. وكذا قال كل من أبي عبيد القاسم بن سلام والخطابي: أن معنى محبة لقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا، وعدم محبة استمراره فيها لاستعداده للارتحال عنها، والكراهة عند حكمه. قال أبي عبيد: ومما بينه أن الله سبحانه وتعالى عاتب قوماً بحب الحياة بقوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) (1) .
1847- (وعن أم المؤمنين صفية) بفتح المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتية (بنت حيي) بضم المهملة وفتح التحتية الأولى وتشديد الثانية تقدمت ترجمتها (رضي الله عنها قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً) أي: في جزء منه كما يومىء إليه تنكيره (فحدثته ثم قمت لأنقلب) أي: أرجع إلى منزلي (فقام معي ليقلبني) أي: ليرجعني (فمر رجلان من الأنصار) قال الحافظ في الفتح: لم أقف في شيء من كتب الحديث على تسميتهما إلا أن ابن العطار في شرح العمدة زعم أنهما أسيد بن حضير وعباد بن بشر ولم يذكر لذلك مستنداً (رضي الله عنهما فلما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرعا) أي: في المشي (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - على رسلكما) بكسر الراء ويجوز فتحها أي: على هينتكما في المشي، فليس هنا ما تكرهانه. وفيه شيء محذوف.
أي: إمشيا على هينتكما (إنها صفية بنت حيي فقالا: سبحان الله يا رسول الله) زاد البخاري في رواية "وكبر عليهما ذلك" وفي رواية "فقال يا رسول الله وهل يظن بك إلا خيراً" (فقال إن
__________
(1) سورة يونس، الآية: 7.(8/670)
الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإنِّي خَشِيْتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرّاً - أَوْ قَالَ: شَيْئاً -". متفق عليه (1) .
1848- وعن أبي الفضل العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) قيل هو على الحقيقة وإن الله تعالى أقدر من ذلك. وقيل: هو على سبيل الاستعارة من كثرة إغرائه، فكأنه لا يفارق كالدم فاشتركا في شدة الاتصال وعدم المفارقة (وإني خشيت) أي: خفت (أن يقذف) بكسر الذال المعجمة أي: يلقي (في قلوبكما شراً أو قال شيئاً) قال الحافظ: المحصل من الروايات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينسبهما إلى أنهما يظنان به سوءاً لما تقرر عنده من قوة إيمانهما ولكن خشي عليهما أن يوسوس لهما الشيطان ذلك، لأنهما غير معصومين، فقد يمضى بهما ذلك إلى الهلاك فبادر إلى إعلامها حسماً للمادة وتعليماً لما بعده إذا وقع له مثل ذلك، كما قال، الشافعي: فقد روى ابن عساكر في تاريخه أن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة فسأله عن فقه هذا الحديث فقال: إن كان القوم اتهموا النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا بتهمتهم إياه كفاراً لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدب من بعده فقال: "إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا حتى لا يظن بكم الظن السوء" لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتهم وهو أمين الله في أرضه، فقال ابن عيينة: جزاك الله خيراً يا عبد الله ما يجيئنا منك إلا كل ما نحبه، نقله السيوطي عنه في زهر الربى على المجتبى، لكن نقله الحافظ في الفتح عن الحاكم بلفظ إن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة فسأله عن الحديث فقال إنما قال لهما ذلك، لأنه خاف عليهما الكفر إن ظنا به التهمة فبادر إلى إعلامها نصيحة لهما قبل أن يهلكا بقذف الشيطان في نفوسهما ما يهلكان به (متفق عليه) قال الحافظ في الفتح: في الحديث فوائد: منها التحرز عن التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار.
قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حقوق العلماء ومن يقتدى بهم فلا يجوز لهم أن يفعلوا ما يوجب ظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص، لأن فعل ذلك يكون سبباً لسوء الظن بهم ولإِبطال الانتفاع بعلمهم.
1848- (وعن أبي الفضل) كنية (العباس بن عبد المطلب) بن هاشم عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الاعتكاف، باب: هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، (4/243) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: بيان أنه يستحب عن رؤي خالياً بامرأة وكانت زوجه ... ، (الحديث: 24) .(8/671)
وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ: " هَذَا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ "، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: " انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ "، فَذَهَبْتُ أنْظُرُ فَإذَا القِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيما أرَى، فَواللهِ مَا هُوَ إلاَّ أنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أرَى حَدَّهُمْ كَلِيلاً وَأَمْرَهُمْ مُدْبِراً. رواه مسلم.
" الوَطِيسُ " التَّنُّورُ، ومعناهُ: اشْتَدَّتِ الحَرْبُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليها إلى قتالهم) متعلق بنظر (فقال هذا حين حمى الوطيس) حين خبر المبتدأ وبنى لإِضافته للجملة التي صدرها مبني والبناء فيه هو الراجح ويجوز إعرابه فيكون مرفوعاً وقد روي بالإِعراب. والبناء قول الشاعر. على حين عاتبت المشيب على الصبا. (ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصيات) أي: صغاراً وهي التي يقال لها الحصباء (فرمى بهن) ويحتمل أن يكون أخذ قبضة من تراب أيضاً فرمى بها لما جاء من قوله "فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينه تراباً من تلك القبضة". ويحتمل أن يكون اشتملت القبضة على الحصى والتراب فرمى بهن (وجوه الكفار) فوصل التراب كل كافر وفي ذلك معجزة له إذ ليس في القوة البشرية إيصال ذلك إلى أعينهم، ولا يسع كفه ما يعمهم وإنما كان من صنع الله تعالى لنبيه ولذا قال (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (1) وكذا قوله (ثم قال) أي: وقت التهاب الحرب وشدته (انهزموا ورب الكعبة) فهذه معجزة فعلية (فذهبت أنظر) أي: قبل الرمي والقول المذكور، والفاء للترتيب الذكرى (فإذا القتال على هيئته) أي: في الالتهاب والتكافؤ من الجانبين (فيما أرى فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته) أي: وأخبرهم بانهزامهم (فما زلت أرى حدهم) قوتهم (كليلاً) أي: ضعيفة (وأمرهم مدبراً) فغلبوا وانقلبوا صاغرين (رواه مسلم) في المغازي من صحيحه (الوطيس) بفتح الواو وكسر الطاء وبالسين المهملتين هو (التنور) تقدم أنه بالفوقية المفتوحة وتشديد النون وبالراء، وهذا قول مقابل قول الجمهور ونقله القرطبي عن المطرز. وفال المنصف في شرح مسلم قال الأكثر هو شبه التنور يخبز فيه ويضرب مثلاً لشدة الحر التي يشبه حرها حره. وقال الأصمعي: هو حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد أن يطأ عليها، فيقال: الآن حمي الوطيس. وقيل بل هو الضراب في الحرب.
وقيل الوطيس الذي يطيس الناس أي: يدفعهم قالوا: وهذه اللفظة من فصيح الكلام وبديعه، الذي لم يسمح من واحد قبله - صلى الله عليه وسلم - (ومعناه اشتدت الحرب) هو على الأقوال الأربعة
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 17.(8/674)
يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، ومَلبسُهُ حرامٌ، وَغُذِّيَ بالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ رواه مسلم (1) .
1850- وعنه - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقبل دعاء آكل الحرام فقال (ثم ذكر الرجل) ولفظ ثم للترتيب في الوجود لا في الرتبة (يطيل السفر) في العبارة من نحو حج أو جهاد، والجملة صفة أو حال من رجل لأن أل فيه جنسية (أشعث) أي: متفرق شعر الرأس (أغبر) مغبر الوجه هما حالان مترادفان من فاعل بطيل أو متداخلان (يمد يديه إلى السماء) حال من ضمير أشعث أو مما قبله قائلاً (يا رب يا رب) أي: أن هذه الحالات دالة على أن الداعي حقيق بالإِجابة ومع ذلك فلا يستجاب دعاؤه للحرام فما بال من لم يكن كذلك وتلبس بالحرام (ومطعمه حرام) حال من فاعل قائلاً وهو مصدر بمعنى المطعوم (ومشربه حرام وغذي بالحرام) بضم الغين المعجمة وكسر الذال أيضاً أي: عني به، ففيه الإِشارة إلى مأكله حال صغره. وفي قوله ومطعمه: الإشارة إلى مآكله حال كبره أي: أنه استوى حالتاه في أكل الحرام (فأنى) أي: كيف أو من أين والاستفهام للاستعباد (يستجاب) أي: الدعاء (لذلك) الرجل أو اللام للتعليل أي: لكون ما ذكر حراماً. ففيه إيماء إلى أن حل المطعم والمشرب مما يتوقف عليه إجابة الدعاء، ولذا قيل إن للدعاء جناحين أكل الحلال وصدق المقال (رواه مسلم) والترمذي وقال: حسن غريب. ورواه ابن المبارك في الزهد. قال السخاوي: وأخرجه الإِمام أحمد في المسند والدارمي في مسنده وأبو عوانة في صحيحه.
1850- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة) أي: ثلاثة من الأصناف (لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم) وذلك لسوء عملهم من غير ضرورة بهم إليه (شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر) قال الواحدي: هو العذاب الذي يخلص وصفه إلى القلب. والعذاب كل ما يعي الإِنسان ويشق عليه. قال: وأصل العذاب في كلام العرب المنع، يقال عذبته عذاباً إذا منعته وعذب عذوباً، أي: امتنع وسمي الماء عذباً لأنه يمنع
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، (الحديث: 65) .(8/676)
التُّرْبَةَ يَومَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فيها الجِبَالَ يَومَ الأحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَومَ الإثْنَينِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَومَ الثُّلاَثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأربِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوابَّ يَومَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ - صلى الله عليه وسلم -، بَعْدَ العَصْرِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ في آخِرِ الخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ". رواه مسلم (1) .
1853- وعن أَبي سليمان خالد بن الوليد - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدِ انْقَطَعتْ في يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خلق الله التربة) بضم الفوقية من أسماء التراب (يوم السب وخلق فيها) أي: التربة مادة الأرض (الجبال يوم الأحد) أوتاداً لها ورواسي (وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء) قال المصنف: كذا في مسلم وروي في غيره "وخلق الفتن يوم الثلاثاء" كذا رواه ثابت بن واسم قال: وهو ما يقوم المعاش ويصح به التدبير كالحديد وغيره من جواهر الأرض، وكل شيء يقوم به صلاح كل شيء فهو نفسه، ومنه إتقان الشيء (وخلق النور) كذا في مسلم بالراء ورواه غيره بنون في آخره قال القاضي: وكذا رواه بعض رواة مسلم وهو الحوت ولا منافاة (يوم الأربعاء) بفتح الهمزة وكسر الباء وفتحها وضمها ثلاث لغات حكاهن صاحب المحكم، وجمعها أربعاوات وحكي أيضاً أرابيع (وبث فيها) أي: الأرض (الدواب) المراد المعنى العام أي: كل ما دب عليها (يوم الخميس وخلق آدم - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر من يوم الجمعة) من للتبعيض، أو للابتداء. وقوله (في آخر الخلق) متعلق بخلق وقوله (في آخر ساعة من النهار) يدل على ما قبلها بإعادة العامل ثم أبدل منه أيضاً قوله (فيما بين العصر إلى الليل رواه مسلماً ورواه أحمد في مسنده.
1853- (وعن أبي سليمان) كنية (خالد بن الوليد) بفتح الواو وكسر اللام وسكون التحتية بعدها دال مهملة من المعتبرين عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي (رضي الله عنه) أسلم بين الحديبية والفتح وقيل: كان إسلامه قبل غزوة موتة بشهرين، وكان أميراً على قتال أهل الردة وغيرها والفتوح، إلى أن مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين (قال: لقد انقطعت في يدي يوم موتة) بضم الميم وسكون الواو وبالفوقية موضع بقرب الشام وكانت في جمادى سنة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام، (الحديث: 27) .(8/678)
تِسْعَةُ أسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلاَّ صَفِيحَةٌ يَمَانِيَّةٌ. رواه البخاري (1) .
1854- وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أصَابَ، فَلَهُ أجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ وَاجْتَهَدَ، فَأَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ" متفق عَلَيْهِ (2) .
1855- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثمان وقيل كانت في صفر، وكان الفتح بعدها في رمضان (تسعة أسياف) بتقديم الفوقية وذلك من قوة الضرب والقتال (فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية) أي: سيف على تلك الصفة. (رواه البخاري) فيه كمال ثباته في لجة الحرب وقوة بأسه وقد قال الشاعر في ممدوحه:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
فالمدح بكسر السيوف في الحرب أحرى وأولى.
1854- (وعن عمرو بن العاص) بن وائل السهمي الصحابي المشهور (رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في باب فضل السحور، (أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا حكم الحاكم فاجتهد) أي: وهو من أهل الاجتهاد فيما يسوغ الاجتهاد فيه (ثم أصاب فله أجران) أجر لاجتهاده وأجر لإِصابته (وإن حكم واجتهد) أي: وهو أهله (فأخطأ فله أجر) لاجتهاده الذي هو من أهله وإن لم يصب فيه، أما من ليس أهلاً له فيأثم به أصاب أو أخطأ (متفق عليه) .
1855- (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الحمى من فيح) بفتح الفاء وسكون التحتية وبالمهملة أي: انتشار (جهنم) وقوة لهبها (فأبردوها) بوصل الهمزة وضم الراء لأنه ثلاثي من برد الماء حرارة جوفي أي: اسكن حرارتها. وحكي كسر الراء، وحكى عياض قطع الهمزة وكسر الراء من أبرد الشيء إذا عالجه فصيره بارداً. وقال الجوهري: إنها لغة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤته، (7/397) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (13/268) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (الحديث: 15) .(8/679)
بِالمَاءِ" متفق عَلَيْهِ (1) .
1856- وعنها رَضِيَ اللهُ عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَومٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" متفق عَلَيْهِ. وَالمُخْتَارُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رديئة (بالماء. متفق عليه) وهذا محمول على ما كانت تصفه أسماء بنت أبي بكر من رش الماء على بدن المحموم من بدنه وثوبه، وليس المراد اغتسال المحموم بالماء أو انغماسه فيه، لأن ذلك مضر. والصحابي لا سيما مثل أسماء التي كانت تلازم بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالمراد من غيرها أو الخطاب خاص بأهل الحجاز وما والاهم، إذ كانت أكثر الحميات التي تعرض لهم من العرضية الحادثة عن شدة الحرارة، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر. قال ابن القيم: فالخطاب وإن كان لفظاً عاماً إلا أن المراد به خاص أي كما ذكرنا. وقال القاضي: غير بعيد أن المراد بالحمى: الحمى الصفراوية، فإن الأطباء يسلمون أن صاحبها يبرد بسقي الماء البارد الشديد البرد نعم ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، وأن المراد بالغسل مثل ما قالوه أو قريب منه. وقد كانت أسماء تصب الماء في جيب الموعوك. قال عيسى بن دينار أي: بين طوقها وجسدها. فهذه أسماء شاهدت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي في القرب منه على ما علم، فتأولت الحديث على نحو ما قلناه. والحاصل: أن الحميات مختلفات، منها ما يناسبه الإِبراد ومنها ما لا يناسبه، والحديث محمول على الأول فيعمل ما يناسبه على ما لا يليق به. وقيل يحتمل أن الحمى المأمور بالانغماس لها ما يكون سببها العين أو السم أو السحر فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، أخرج ابن أبي شيبة عن الأسود قال: سألت عائشة عن النشرة فقالت: ما تصنعون بهذا فهذا الفرات إلى جانبكم من أصابه نفس أو سم أو سحر فليأت الفرات فليستقبل، فينغمس فيه سبع مرات.
1856- (وعنها رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من مات وعليه صوم) أي: وتمكن من قضائه أو كان أفطر عدواناً (صام عنه وليه) أي: إن أراد ذلك، وإن شاء أخرج من تركته عن كل يوم مداً من طعام (متفق عليه) وبه أخذ الشافعي في القديم، وهو المعتمد فجوز للولي الصوم عن الميت الذي عليه الصوم كما ذكر أن يصوم أو يطعم (والمختار) تبعاً للقول القديم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة النار (10/150) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: لكل داء دواء واستحباب التداوي، (الحديث: 81) .(8/680)
وقَالَ لَهُمَا: أنْشُدُكُمَا اللهَ لَمَا أدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، فَإنَّهَا لاَ يَحِلُّ لَهَا أنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي، فَأقْبَلَ بِهِ المِسْوَرُ، وَعَبدُ الرحْمَانِ حَتَّى اسْتَأذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالاَ: السَّلاَمُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، أنَدْخُلُ؟ قالت عَائِشَةُ: ادْخُلُوا. قالوا: كُلُّنَا؟ قالتْ: نَعَمْ ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَلاَ تَعْلَمُ أَنَّ معَهُمَا ابْنَ الزُّبَيرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيرِ الحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ المِسْوَرُ، وَعَبدُ الرَّحْمَانِ يُنَاشِدَانِهَا إِلاَّ كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولانِ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الهِجْرَةِ؛ وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المذكور من هجرها والشفع وعدم القبول (على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة) بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري أبو عبد الرحمن صحابي ابن صحابي (وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث) بفتح التحتية وضم المعجمة وبالمثلثة ابن وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهري (وقال لهما أنشدكما الله) أي: أسألكما مقسماً عليكما به (لما) بفتح اللام وتشديد الميم أي: إلا (أدخلتماني على عائشة فإنها) أَي: عائشة أو الضمير للقصة (لا يحل) أي: يجوز (لها أن تنذر قطيعتي) وهي أداها اجتهادها إلى جوازه لأنه طاعة فالتزمته بصفة النذر وإلا فلو رأته محرماً، فالظن لها أن لا تفعله فضلاً عن كونها تلتزمه فضلاً عن كونها تنذره (فأقبل به المسور) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو وبالراء (وعبد الرحمن) وسارا (حتى) وصلا الدار (استأذنا على عائشة فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته أندخل) هذه صيغة الاستئذان المحبوب كما تقدم في بابه (قالت عائشة أدخلوا قال: كلنا؟ قالت نعم أدخلوا كلكم) بالرفع تأكيد لضمير الجماعة المرفوع وقوله (ولا تعلم أن معهما ابن الزبير) جملة حالية من فاعل قالت (فلما دخلوا) المنزل (دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة رضي الله عنه وطفق يناشدها) أي: يسألها الرضا عنه وأن تكلمه (ويبكي) لما أصابه من ذلك (وطفق) أخذ (المسور وعبد الرحمن يناشدانها) يسألانها (إلا كلمته وقبلت منه) بتشديد اللام أي: لا يسألانها إلا تكليمه وقبولها منه عذره ورضاها عنه (ويقولان إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عما قد علمت من الهجرة) أي: الهجر للأخ المسلم فوق ثلاث، فكيف بالرحم المحرم (ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه) أي: المسلم لغرض نفسه (فوق ثلاث ليال) أما الهجر لله فيجوز ما دام باقياً على تلك المعصية التي هجر لأجلها كما تقدم من هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة كعب وصاحبيه، لما تخلفوا عن غزوة تبوك حتى تاب الله(8/682)
رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الفَجْرَ، وَصَعِدَ المِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ العَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا. رواه مسلم (1) .
1860- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلاَ يَعْصِهِ". رواه البخاري (2) .
1861- وعن أمِّ شَرِيكٍ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أمرها بِقَتْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثلاث وتسعين سنة وما في رأسه ولحيته شعرة بيضاء. ويقال إنه بلغ مائة ونيفاً وما في رأسه ولحيته إلا نبذ من شعر أبيض، وعدة ما روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أحاديث وسكت من ترجمه عن بيان محل وفاته (قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر وصعد) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية (المنبر فخطبنا) واستمر يخطب (حتى حضرت الظهر) بزوال الشمس (فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطب حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرنا ما كان وما هو كائن) إن كان المراد جميع ذلك كما يومىء إليه لفظ الموصول، فيكون فيه معجزة بخرق الأوقات والمباركة فيها، حتى اتسعت لنشر ذلك كله وذكره، وإن كان المراد بعضاً منهم فيحتمل ذلك ويحتمل أن لا (فأعلمنا) أي: بالآيات (أحفظنا) أي: أكثرنا حفظاً لها (رواه مسلم) في الفتن من صحيحه.
1860- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من نذر أن يطيع الله) بأن نذر صوماً أو صلاة أو غيرهما من أعمال البر تقرباً إلى الله تعالى (فليطعه) حتماً لالتزامه بالنذر، فهو كالواجب بأصل الشرع في تحتم الإِتيان به، وإن اختلف الفقهاء في أنه يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ولا ينعقد الندر لأنه التزام قربة تقرباً إلى الله تعالى (رواه البخاري) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
1861- (وعن أم شريك) بفتح الشين المعجمة وكسر الراء وسكون التحتية: هي العامرية.
ويقال: الغامدية، تقدمت ترجمتها (رضي الله عنها) قريباً (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها بقتل
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يكون إلى قيام الساعة، (الحديث: 25) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: النذر في الطاعة، (11/504) .(8/686)
تَدْرُونَ مِمَّ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُبْصِرُهُمُ النَّاظِرُ، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاس مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ، فَيقُولُ النَّاسُ: أَلاَّ تَرَوْنَ مَا أنْتُمْ فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن جعفر المذكور عقبه صريح في أن أطيب اللحم لحم الظهر اهـ. (فنهس منها نهسة) هو بالسين المهملة كما قال المصنف. قال القاضي عياض: رواه أكثر الرواة بالسين المهملة.
ووقع لابن ماهان بالمعجمة وكلاهما صحيح بمعنى أخذ بأطراف أسنانه. قال الهروي قال أبو العباس: النهس بالمهملة بأطراف الأسنان وبالمعجمة بالأضراس. وقال القاضي مجد الدين الفيروزأبادي في كتابه تخيير الموشين في التعبير بالسين والشين: النهس والنهش قصم الشيء بمقدم الأسنان، والفعل منه على مثال منع يمنع (وقال: أنا سيد الناس) شمل آدم وغيره من بنيه فلو أعم منطوقاً من قوله أنا سيد ولد آدم، ونهيه عن تفضيله عن الأنبياء محمول على تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه فهو كفر. وقوله لمن قال له يا سيد البرية: ذاك إبراهيم محمول على أنه قال: قبل أن يعلم فضله عليه (يوم القيامة) التقييد للإطباق عليه حينئذ والظهور لكل كما بينه ما بعده بخلاف الدنيا إذ ينكر ذلك الكافريه الجاحد فضله وإلا فهو سيد الناس حقيقة في الدارين ومثله قوله تعالى: (مالك يوم الدين) (1) وهو مالك لما فيه وفي غيره من أيام الدنيا (هل تدرون مم) أي: لأي سبب (ذاك) أشير إليه مع قربه بما يشار به للبعيد تفخيماً نحو قوله تعالى: (ذلك الكتاب) (2) . وسكت عن جوابهم من نحو الله أعلم ورسوله إما لظهوره أو أنه بادرهم بالبيان قبل الإِتيان به (فقال يجمع الله الأولين والآخرين) أي: من سائر المكلفين ولا ينافيه قوله فيما يأتي أبوكم آدم لإِمكان كون الساعي من ذلك النوع الإِنساني لشرفه أو من الإِنس وسكت عن الجن والسكوت عن الشيء لا ينفيه (في صعيد واحد) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية أي: أرض وذكر باعتبار لفظ الصعيد (فينظرهم الناظر ويسمعهم الداعي) بضم التحتية في الفعلين (وتدنو) أي: تقرب (منهم الشمس) قدر ميل وهل المراد به ما يكتحل به أو المسافة المعلومة؛ قولان تقدما في باب الخوف (فيبلغ الناس) مفعول مقدم (من الغم) بالمعجمة في المصباح قيل للحزن غم لأنه يغطي السرور والحلم اهـ. (والكرب) بفتح فسكون مصدر كربه الأمر إذا همه ومن بيان لما في قوله (ما لا يطيقون ولا يحتملون) وهي فاعل مبلغ (فيقول الناس ألا) بتخفيف اللام (ترون) تنظرون (إلى ما أنتم فيه) أتى بـ "ما" تفخيماً للأمر
__________
(1) سورة الفاتحة، الآية: 4.
(2) سورة البقرة، الآية: 2.(8/690)
إِلَى مَا بَلَغَكُمْ، ألاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أبُوكُمْ آدَمُ، فَيَأتُونَهُ فَيقُولُونَ: يَا آدَمُ أنْتَ أَبُو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وأمَرَ المَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، وأسْكَنَكَ الجَنَّةَ، ألاَ تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ؟ ألاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغْنَا؟ فَقَالَ: إنَّ رَبِّي غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نحو قوله تعالى: (فغشيهم من اليم ما غشيهم) (1) . وأبدل منه بإعادة الجار (إلى ما بلغكم) وعطف على ترون قوله (وتنظرون) وفي نسخة ألا تنظرون من نظر الأمر تفكر فيه أي: تفكرون (من يشفع لكم إلى ربكم) أي: في الخلاص مما أنتم فيه (فيقول بعض الناس) أتى ببعض هنا وحذفه فيما قبل تفنناً في التعبير (لبعض) اللام للتبليغ (أبوكم آدم) أي: سلوه ذلك أو المنظور إليه لذلك أبوكم تعبيرهم بدعاء كل رسول باسمه حتى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن حرمة ندائه - صلى الله عليه وسلم - باسمه مقيدة بهذه الدار، ومثله كل نبي (فيأتونه فيقولون يا آدم أنت أبو البشر) أتوا بذلك تهييجاً له على المطلوب منه لأن الطبع يدعو الأصل لفعل ما ينفع الفرع. والبشر بفتحتين الإِنسان يطلق على المفرد الجمع قال في المصباح: العرب ثنوه ولم يجمعوه. قال البيضاوي في قوله تعالى عن قوم فرعون: (أنؤمن لبشرين مثلنا) (2) ثنى البشر لأنه يطلق للواحد كقوله تعالى: (بشراً سوياً) (3) وللجمع كقوله (فأما ترين من البشر أحداً) (4) أي: وليس المراد أحدهما فلو لم يثن لربما توهم إرادة غير المراد (خلقك الله بيده) أي: بقدرته (ونفخ فيك من روحه) أي: من روح مشرف بإضافته إليه تعالى (وأمر الملائكة) أي: أن يسجدوا حذف اكتفاء بدلالة (فسجدوا لك) أي: إليك وإلا فالسجود لله تعالى، وهو لهم حينئذ قبلة بمنزلة الكعبة لنا (وأسكنك الجنة) أي: التي يدخلها المؤمنون في الدار الآخرة على الصحيح. وفيه دليل أهل الحق على وجودها الآن (ألا تشفع لنا إلى ربك) عرض وطلب برفق وذكروا ما يهيجه عليه بقولهم (ألا ترى ما نجن فيه وما بلغنا) بفتح المعجمة على أن الفاعل مضمر يعود لما دل عليه ما نحن فيه، أو بالسكون على أن الضمير فاعل، وحذف ما بلغوه من الأتعاب، إيماء إلى شدته وأنه تقصر العبارة عن بيانه (فقال: إن ربي غضب اليوم غضباً) المراد به لاستحالة قيام حقيقته بالله سبحانه وتعالى، غايته مجازاً مرسلاً: إما إرادة الانتقام أو نفسه (لم) وفي نسخة لن (يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنه)
__________
(1) سورة طه، الآية: 78.
(2) سورة المؤمنون، الآية: 47.
(3) سورة مريم، الآية: 17.
(4) سورة مريم، الآية: 26.(8/691)
ألاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيقُولُ لَهُمْ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإنَّي كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاثَ كَذبَاتٍ؛ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأتُونَ مُوسَى فَيقُولُونَ: يَا مُوسَى أنَتَ رَسُولُ اللهِ، فَضَّلَكَ اللهُ بِرسَالاَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بخليله (اشفع لنا إلى ربك) لعل سر الإِضافة لضمير المخاطب فيه وفي قرائنه أن تربيته لهم أكمل منها لغيرهم من الخلق إذ أوصلهم غاية الشرف ولم يصل إلى أدنى مراتبهم أحد من البشر، وفيه إيماء إلى التوسل بهم لأن للمضاف كمال الانتساب للمضاف إليه، وذلك يقتضي الإِدلال والسؤال (أما) وفي نسخة ألا (ترى إلى ما نحن فيه) يحتمل أنهم قالوا وما بلغنا، كما فيما قبله فيهما وتركه الراوي اكتفاء بدلالة ما قبله وإنهم تركوا ذلك لكونه من باب الإِطناب واشتد بهم الكرب آخراً فامتنعوا منه (فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني كنت كذبت ثلاث كذبات) قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله في سارة أختي. والحق أنها ليست معاصي أي: سأسقم وفعله كبيرهم إن كانت الأصنام تنطق وأختي أي: في الإِسلام لكنها لما كانت بصورة الكذب، سماها كذباً وعدها ذنباً اشفق منه على نفسه، وذلك لأن من كان أعرف بالله تعالى وأقرب منه منزلة كان أعظم خطراً وأشد خشية، وعلى هذا سائر ما أضيف إلى الأنبياء من الخطأ (نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس) أي: من عدا نبينا - صلى الله عليه وسلم - حتى إبراهيم بسماعه كلامه القديم النفسي بغير واسطة. ومثل موسى في ذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - فكلمه الله تعالى ليلة المعراج. ولا يلزم من اختصاص موسى عن إبراهيم بما ذكر فضله عليه لأنه قد يكون للمفضول خصيصية بل خصائص لا تكون لأفضل منه. وقد ثبت النص بالحديث المرفوع في إبراهيم أنه سيد البرية، خرج من عمومه نبينا - صلى الله عليه وسلم - وبقي عليه فيما عداه فتناول موسى وغيره، والناس عام مخصوص (اشفع لنا إلى ربك) يحتمل أن إلى فيه وفي قرائنه: بمعنى عند. كقول أبي كثير الهذلي:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره ... أشهى إلي من الرحيق السلسل
وعلى قول البصريين الذين لا يثبتون لها معنى سوى انتهاء الغاية مطلقاً، فيكون في(8/694)
ألاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فيقُولُ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإنَّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْساً لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي؛ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى. فَيَأتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أنْتَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ في المَهْدِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، ألاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فيَقُولُ عِيسَى: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْباً، نَفْسِي نَفْسِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث تضمين أي: اشفع لنا متوسلاً إلى ربك (ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها) هو القبطي خباز فرعون قال بعض المفسرين في قوله تعالى: (أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا) (1) الآية فيه إشارة لمنع قتال الكافرين بغير إذن الله. ولهذا لما قتل موسى ذلك القبطي الكافر قال: هذا من عمل الشيطان الآية اهـ. ثم إن هذا من موسى من كمال معرفته بعظمة ربه عز جلاله، فإنه أشفق من قتله ذلك مع أن الله أخبر بنص القرآن أنه غفر له (نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته) أطلقت عليه مجازاً مرسلاً لكونه صدر عن كلمة كن من غير أب (ألقاها إلى مريم وروح منه) أي: من أمره (وكلمت الناس في المهد) حال من فاعل كلم (اشفع لنا إلى ربك) قال الأبي: لم يأت أن الخلق تلجأ إلى غير هذه الأربع وخص الأربع. لأنهم أفضل الرسل بعده - صلى الله عليه وسلم -، وأولوا العزم من الرسل الذين أمر أن يصبر كما صبروا. قال المصنف: الحكمة في أن الله تعالى ألهمهم سؤال آدم ومن بعده في الابتداء ولم يلهموا سؤال نبينا - صلى الله عليه وسلم - إظهار فضيلته فإنهم لو سألوه ابتداء لكان يحتمل أن غيره يقدر على ذلك ويحصله، وأما إذا سألوا غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه فامتنعوا ثم سألوه فأجاب وحصل غرضهم فهو النهاية في ارتفاع المنزلة وكمال القرب وعظيم الإِدلال والأنس. وفيه تفضيله - صلى الله عليه وسلم - على جميع المخلوقين من الرسل الآدميين والملائكة، فإن هذا الأمر العظيم، وهو الشفاعة لا يقدر على الإِقدام عليه غيره - صلى الله عليه وسلم - (ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) علل امتناعه عن الشفاعة بظهور الجلال، فخاف منه (ولم يذكر ذنباً) كذا في هذه الرواية قال السيوطي في
__________
(1) سورة الحج، الآية: 39.(8/695)
ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأسَكَ، سَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأرْفَعُ رَأْسِي، فَأقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأبْوَابِ". ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى". متفق عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قبله - صلى الله عليه وسلم - وبعده (ثم يقال) أي: على لسان جبريل كما في حديث أحمد (يا محمد ارفع رأسك) أي: من السجود (سل تعطه) كذا بحذف الواو عند مسلم وهي ثابتة عند البخاري نبه عليه في الفتح، وزاد البخاري "وقل تسمع واشفع تشفع" وزاد في رواية "وادع تجب".
ثم الهاء في لفظه بالسكت. فهي ساكنة ينطق بها وقفاً لا وصلاً، ويجوز أنها ضمير المفعول الثاني عائد على المسؤول المدلول عليه بقوله (فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب) أي: سؤالي خلاص أمتي أي: خلص أمتي من موبقات القيامة فهو مرفوع أو منصوب (فيقال يا محمد أدخل (الجنة) من أمتك) بيان لمن في قوله: (من لا حساب عليهم) وذلك كل السبعين ألفاً الذين سأل عكاشة أن يكون منهم وقد سبق ذلك في حديث طويل لابن عباس في باب التوكل (من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم) أي: باقي أمتك (شركاء الناس فيما سوى ذلك) الباب الأيمن (من) بقية (الأبواب) الثمانية (ثم قال) - صلى الله عليه وسلم - (والذي نفسي بيده) عند مسلم والذي نفس محمد بيده (إن ما بين المصراعين) بكسر الميم وبالمهملتين جانبا الباب (من مصاريع الجنة) جمع المصراع باعتبار تعدد الأبواب (كما) وعند مسلم لكما بزيادة لام (بين مكة وهجر) بفتح الهاء والجيم مدينة عظيمة قال المصنف: هي قاعدة البحرين. قال: الجوهري في صحاحه هجر اسم بلد مذكر مصروف قال: والنسبة إليه هاجري. وقال: أبو القاسم الزجاج في الجمل هجر يذكر ويؤنث قال المصنف: وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث القلتين تلك قرية من قرى المدينة كان يصنع بها القلال (أو) للشك من الراوي في أنه قال: بين مكة وهجر أو قال: (كما بين مكة وبصرى) بضم الموحدة وسكون المهملة مدينة معروفة، بينها وبين دمشق ثلاث مراحل وهي مدينة حوران وبينها وبين مكة شهر (متفق عليه) رواه البخاري في التفسير وفي أحاديث الأنبياء. ورواه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير سورة الإِسراء وفي كتاب الأنبياء باب قوله تعالى (إنا أرسلنا =(8/697)
1865- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: جَاءَ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بِأُمِّ إسْماعِيلَ وَبِابْنِهَا إسْمَاعِيل وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعهَا عِنْدَ البَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوقَ زَمْزَمَ في أعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَاكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَاباً فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقاً، فَتَبِعَتْهُ أمُّ إسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أنِيسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، قَالَتْ لَهُ: آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إذاً لاَ يُضَيِّعُنَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مسلم في الأنبياء، وكذا أخرجه الترمذي في الأيمان وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي في الوليمة، وأخرجه ابن ماجه في الأطعمة كما قاله المزي في الأطراف.
1865- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بأم إسماعيل) واسمها هاجر وقيل آجر بفتح الجيم فيهما قبطية وهبها لسارة ملك مصر الذي أراد سارة فمنعه الله منها وحديثه في البخاري (وبابنها إسماعيل وهي ترضعه) جملة حالية من أم إسماعيل (حتى وضعها) أي: هاجر وسكت عن إسماعيل لاستلزام وضعها ثمة وضعه معها إذ كان رضيعاً لا مرضع له غيرها (عند البيت) أي: الكعبة (عند دوحة) بفتح المهملتين وسكون الواو بينهما (فوق زمزم) صفة للدوحة أي: كائنة وثابتة فوقها (في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد) أي: من الإِنس (وليس بها ماء فوضعهما) بضمير التثنية وأفرد أولاً تفنناً في التعبير وإلا فالمراد في الموضعين منه واحد (هناك) أي: عند الدوحة (ووضع عندهما جراباً) بكسر الجيم (فيه تمر وسقاء) بكسر المهملة وتخفيف القاف وبالمد إناء يكون للماء واللبن (فيه ماء ثم قفى) بتشديد الفاء (إبراهيم) أي: جعل قفاه لجهة هاجر (منطلقاً) إلى الشام (فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أي تذهب وتتركنا) بالنصب بأن بعد الواو في جواب الاستفهام وبالرفع عطفاً على الفعل قبله (بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء) أي: مما يؤكل ويشرب (فقالت له ذلك) أي: يا إبراهيم أين تذهب إلخ (مراراً) أخرج عمرو بن شيبة من طريق أنها نادته بذلك ثلاثاً (وجعل لا يلتفت إليها) وانصرف إلى طريقه (فقالت له آلله) بمد الهمزة وهي للاستفهام (أمرك بهذا قال: نعم قالت إذاً) حرف جواب وجزاء (لا يضيعنا) بالنصب ولا يضر الفصل بلا، وبالرفع على إهمالها فإن أعمالها عند اجتماع شروطه جائز
__________
= نوحاً ... ) ، (6/264، 265، 8/300) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، (الحديث: 327) .(8/698)
ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرُونَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ (1) : (رَبِّ إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) حَتَّى بَلَغَ (يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37] . وَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ، وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى - أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ - فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ في الأرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِي تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أحَداً؟ فَلَمْ تَرَ أحَداً. فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِي، رَفَعَت طَرفَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا واجب (ثم رجعت) إلى ابنها (فانطلق إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان عند الثنية) بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتية وذلك عند الحجون بفتح المهملة (حيث لا يرونه) بدل من التثنية (استقبل) جواب ذا الوقتية المضمنة معنى الشرط (بوجهه البيت) فيه استحباب استقبال القبلة حال الدعاء (ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه فقال:) عطف على دعا كالعطف في قوله توضأ زيد فغسل وجهه ويديه، (رب إني أسكنت من ذريتي) أي: بعضهم (بواد غير ذي زرع) هو مكة وكونها كذلك ليتم التفرغ فيها للعبادة فإن الزرع والأكساب الدنيوية مانعة منه (عند بيتك) إضافة تشريف ووصفه بقوله (المحرم) لذلك أي: المحرم الصيد عنده وقطع الشجر والمقاتلة وغير ذلك (ربنا ليقيموا الصلاة) بمكة لإِسكانه لهم ثمة ففيه تحريض للمقيم بمكة على عبادة المولى والإِعراض عن أعراض الدنيا فإنها حينئذ تنقاد له (فاجعل أفئدة من الناس) أي: من افئدتهم (تهوي) أي: تسرع (إليهم) شوقاً. عن بعض السلف لو قال: الناس لازدحمت عليه الروم وفارس والناس كلهم، ولكن قال: من الناس فاختص به المسلمون (وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) نعمتك وقد استجاب الله دعاءه (وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء) أي: وتأكل من ذلك الثمر (حتى إذا نفد) بكسر الفاء وبالدال المهملة (ما في السقاء) أي: من الماء (عطشت وعطش ابنها) بكسر الطاء (وجعلت تنظر إليه) أي: تبصره (يتلوى أو قال) أي: ابن عباس (يتلبط) بموحدة بعدها مهملة أي يتمرغ ويضرب بنفسه الأرض (فانطلقت كراهية) بتخفيف التحتية مفعول له (أن تنظر إليه) أي: وهو كذلك (فوجدت الصفا) بالقصر طرف جبل أبي قبيس (أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي) أي مكة (تنظر هل ترى) أي: تبصر (أحداً
__________
(1) سورة إبراهيم، الآية: 37.(8/699)
مَكَّةَ؛ فَرَأَوْا طَائِراً عائِفاً، فَقَالُوا: إنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بهذا الوَادِي وَمَا فِيهِ مَاء. فَأَرْسَلُوا جَرِيّاً أَوْ جَرِيَّيْنِ، فَإذَا هُمْ بِالمَاءِ. فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ؛ فَأَقْبَلُوا وَأُمُّ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فقالوا: أتَأذَنِينَ لَنَا أنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ في المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ابن عباس: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " فَألْفَى ذَلِكَ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، وهي تُحِبُّ الأنْسَ " فَنَزَلُوا، فَأرْسَلُوا إِلَى أهْلِهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِهَا أهْلَ أبْيَاتٍ وَشَبَّ الغُلاَمُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِيْنَ شَبَّ، فَلَمَّا أدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأةً مِنْهُمْ: وَمَاتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إبْرَاهِيمُ بَعْدَما تَزَوَّجَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالمهملة والفاء، الذي يحوم على الماء ويرود ولا يمضي عنه (فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جرياً) بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد التحتية أي: رسولاً سمي بذلك لأنه يجرى مجرى مرسله أو لأنه يجري مسرعاً في حوائجه (أو جريين) شك من الراوي (فإذا هم بالماء فرجعوا) فيه إطلاق ضمير الجمع على ما فوق الواحد. وهذا يؤيد الرواية الثانية (فأخبروهم فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت نعم ولكن لاحق لكم في الماء) أي: بل الحق فيه مختص بي فإن شئت منحت وإن شئت منعت (قالوا نعم قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فألفى) بالفاء أي: وجد (ذلك أم إسماعيل) بالنصب مفعول ألفى (وهي تحب الأنس) بضم الهمزة ضد الوحشة (فنزلوا فأرسلوا إلى أهليهم) فجاءوا (فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات) حتى غاية لمقدر أي: وكثروا وكان بمعنى صار (وشب الغلام) أي: إسماعيل (وتعلم العربية منهم) قال السيوطي: فيه تضعيف لقول من روى أنه أول من تكلم بالعربية كما أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس. لكن أخرج الزبير بن بكار في النسب بسند حسن من حديث على أول من فتق الله لسانه بالعربية البينة إسماعيل. قال الحافظ ابن حجر: وبهذا القيد يجمع بين الخبرين فيكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان لا الأولية المطلقة فيكون بعد تعلمه من جرهم، ألهمه الله العربية الفصيحة البينة فنطق بها، ويؤيده ما حكى ابن هاشم عن الشرقي بن قطامي أن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم. قال: ويحتمل أن تكون الأولية مقيدة بإسماعيل بالنسبة إلى بقية إخوته من ولد إبراهيم. وفي الوشاح لابن دريد أول من نطق بالعربية يعرب بن قحطان بن إسماعيل (وأنفسهم) بفتح الفاء من النفاسة أي: كثرت رغبتهم فيه وللإِسماعيلي وآنسهم من الإِنس (وأعجبهم حتى شب) أي كبر ونشأ (فلما أدرك) أي: بلغ (زوجوه امرأة منهم) قال:(8/702)
إسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إسْمَاعِيلَ؛ فَسَأَلَ امْرَأتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خرَجَ يَبْتَغِي لَنَا - وفي روايةٍ: يَصِيدُ لَنَا - ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ؛ وَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإذَا جَاءَ زَوْجُكِ اقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئاً، فَقَالَ: هَلْ جَاءكُمْ مِنْ أحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءنا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي: كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا في جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أنْ أقْرَأَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن إسحاق اسمها عمارة بنت سعد. وقال السهيلي حدا بنت سعد وقال: عمر بن شعبة حيي بنت أسعد (وماتت أم إسماعيل) ظاهر السياق أن موتها بعد تزوج ابنها (فجاء إبراهيم بعد ما) مصدرية (تزوج إسماعيل) أي: بعد تزوجه (يطالع تركته) أي: يتفقد حال ما تركه هذا وقد ورد أنه كان يزور هاجر وإسماعيل كل شهر على البراق يغدو غدوة ثم يأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله في الشام، أخرجه الفاكهي من حديث علي بسند حسن (فلم يجد إسماعيل) عطف على جاء (فسأل امرأته عنه) أي: أين هو (فقالت خرج يبتغي) أي: يطلب (لنا) رزقاً أي: بالصيد كما قال المصنف (وفي رواية) أي: للبخاري كما صرح به آخر (يصيد لنا) أي: بدل قولها يبتغي لنا رزقاً يعني والروايات يفسر بعضها بعضاً (ثم سألها عن عيشهم) ما يعيشهم من الطعام والشراب (وهيئتهم) أي: حالتهم (فقالت نحن بشر) أي: متلبسين به وفسرت الشر بقولها (نحن في ضيق وشدة) أي: في ضيق من المعاش وشدة من أمره (وشكت إليه) أي: من ذلك. ولما رأى مزيد التبرم وشدة الضجر مما ابتلاها الله تعالى به زيادة في الدرجات خشي أن يسري حالها إلى ولده فيقع في مثل حالها فأمره بفراقها كما قال (قال) أي: إبراهيم (فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام) أي: أبلغيه سلامي، وجملة الأمر جواب الشرط غير الجازم وليس في أولها رابط من الفاء، ولا بدلها من إذا الفجائية (وقولي له يغير عتبة بابه) كناية عن طلاق امرأته. واستنبط منه البلقيني عند ذلك من كنايات الطلاق وكنى عن المرأة بعتبة الباب لما فيها من الصفات الموافقة لها وهي حفظ الباب وصون ما في داخله وكونها محل الوطء (فلما جاء إسماعيل) من صيده (كأنه آنس) بالمد أي: أحس (شيئاً فقال هل جاءكم من أحد) مزيدة لتقدم الاستفهام (قالت نعم جاءنا شيخ) بالتنوين وقوله (كذا وكذا) كناية عن صفته (فسألنا عنك فأخبرته فسألني) عبرت عن نفسها أولاً بضمير الجمع تأكيداً ثم بضمير الواحد تفنناً في التعبير ودفعاً لاستكراره ثقل تكرير اللفظ بعينه (كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد) بفتح الجيم أي مشقة (وشدة) أي: قوة فهو كعطف(8/703)
عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أنْ أُفَارِقَكِ! الْحَقِي بِأَهْلِكِ. فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأتِهِ فَسَألَ عَنْهُ. قَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا قَالَ: كَيفَ أنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللهِ. فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ، قَالَ: فمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَت: الماءُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للرديف (قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول) لك عطف على أمرني (غير عتبة بابك قال: ذاك) بكسر الكاف خطاب المؤنثة (أبي وقد أمرني) بتغيير عتبة الباب (أن أفارقك) يحتمل أن يكون على تقدير الباء أي: بمفارقتك وألا يقدر لأن أمر يصل إلى المفعول الثاني تارة بالجار، وأخرى بنفسه (الحقي بأهلك) بفتح المهملة وهو من كنايات الطلاق، والسياق يقضي بأنه نوى الطلاق الذي أمر به وصرح به بقوله (فطلقها) وفيه استحباب مفارقة من لا صبر لها عنده عند تعاور الشدائد، وبر الوالد وتنفيذ أمره والمسارعة إليه (وتزوج منهم امرأة أخرى) قال الواقدي وغيره: اسمها سامة بنت مهلهل. وقيل: اسمها عاتكة. وقيل رغلة بنت نصاص. وقيل جرة. وقيل هالة بنت الحارث. وقيل سلمى وقيل الحنفاء وقيل السند بنت مضاض وقيل رغلة بنت يسحب بن يعرب بن لود بن جرهم (فلبث عندهم إبراهيم ما شاء الله) أي: قدر مشيئته أو قدر الذي شاءه الله (ثم أتاهم بعد) بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه. وفي نسخة بعد ذلك بنصب بعد لإِضافته لفظاً (فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه قالت) أتى بالفاء فيما تقدم لبيان أن إجابتها عقب سؤاله فوراً وحذفت هنا لعدم تعلق القصد بفورية جوابها. أو ترتبه أو استئناف بياني أشار إليه البيضاوي في سورة المؤمنين حيث قال: تعالي في آية (فقال الملأ) (1) وفي أخرى (وقال الملأ) (2) بالفاء في الأولى وبحذفها في الثانية (خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بحير) أي: في خير إلهي وفيض رباني. ويحتمل أن الباء للملابسة (وسعة) بفتح المهملة الأولى (وأثنت على الله تعالى) أي: حمدته (فقال: ما طعامكم قالت اللحم قال: فما شرابكم قالت الماء) أي: ماء زمزم ويحتمل وهو وغيره من
__________
(1) سورة هود، الآية: 27.
(2) سورة الأعراف، الآية: 60.(8/704)
قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالمَاءِ. قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فَهُمَا لاَ يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلاَّ لَمْ يُوَافِقَاهُ. وَفِي رواية: فجاء فَقَالَ: أيْنَ إسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتْ امْرأتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ؛ فَقَالَتْ امْرَأتُهُ: ألاَ تَنْزِلُ، فَتَطْعَمَ وَتَشْرَبَ؟ قَالَ: وَمَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: طَعَامُنَا اللَّحْمُ وَشَرَابُنَا المَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرابِهِمْ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: بَرَكَةُ دَعوَةِ إبْرَاهِيمَ. قَالَ: فإذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ وَمُرِيِهِ يُثَبِّتُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أتاكُمْ مِنْ أحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أتانَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وَأثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَألَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرتُهُ، فَسَألَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأخْبَرْتُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باقي المياه كماء مطر ومحمول من خارجها (قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لهم يومئذ حب) أي: شيء من أي نوع منه (ولو كان لهم دعا لهم فيه) أي: لتعمه البركة بدعائه (قال) ابن عباس: (فهما لا يخلو) بالمعجمة يقال خلوت بالشيء إذا لم أخلط به غيره (عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه) في رواية أخرى إلا اشتكي بطنه (وفي رواية) هي للبخاري، وهي في سياق مجيئه المرأة الثانية السابقة فيما قبله (فجاء) أي: إبراهيم (فقال أين إسماعيل فقالت امرأته ذهب يصيد فقالت امرأته) كرره للتأكيد ولزيادة الإِيضاح (ألا) بتخفيف اللام أداة عرض (تنزل فتطعم وتشرب) بفتح الفوقية فيهما وبالنصب بأن في جواب العرض (قال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء) أعادت ذكر الطعام والشراب المستغني كنهما بذكرهما في السؤال تلذذاً بطول الخطاب واستعذاباً بالإِطناب، ودفعاً لإِيهام أن الماء قد يكون لهم طعاماً وشراباً، وإن كان ذلك في زمزم (قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم قال) أي: ابن عباس (فقال أبو القاسم) كنية النبي (- صلى الله عليه وسلم -) كني بولده القاسم ولا يجوز تكنية غيره بها مطلقاً كما تقدم (بركة دعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -) أي: الاحتزاء بهما بمكة فهو مبتدأ أو خبر وثاني الخبرين محذوف لدلالة المقام عليه (قال) أي: إبراهيم (فإذا جاء زوجك) أي: من الصيد (فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت) بتشديد الموحدة (عتبة بابه فلما جاء إسماعيل) من الصيد كأنه آنس شيئاً كما جاء في رواية وجد ريح أبيه (فقال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم) أي أتانا (شيخ حسن الهيئة) وفي نسخة بإثباته (وأثنت عليه) أي: ذكرت بعض أوصاف كمال إبراهيم (فسألني(8/705)
قَالَ: يَا إسْمَاعِيلُ، إنَّ اللهَ أمَرَنِي بِأمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أمَرَكَ رَبُّكَ؟ قالَ: وَتُعِينُنِي، قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإنَّ اللهَ أمَرَنِي أَنْ أَبْنِي بَيْتاً هاهُنَا، وأشَارَ إِلَى أكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأتِي بِالحِجَارَةِ وَإبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحجارة وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سمعت رجلاً يقول بكيا حتى أجابهما الطير أي: لتباعد لقائهما. زاد الفاكهي وكان عمر إيراهيم يومئذ مائة سنة، وعمر إسماعيل ثلاثين سنة (قال يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر قال: فامنع ما أمرك ربك قال وتعينني) ، هو داخل في حيز الأمر كما في رواية أخرى إنه أمرني أن تعينني عليه (قال وأعينك) وللكشميهني بالفاء بدل الواو (قال فإن الله تعالى أمرني أن أبني بيتاً ها هنا وأشار) بقوله ها هنا (إلى أكمة) بفتحتين تل. وقيل شرفة كالرابية وهو: ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد، وربما غلظ وربما لم يغلظ، والجمع أكم كقصب وأكمات كقصبات، وجمع الأكم إكام مثل جبل وجبال وجمع الأكام أكم بضمتين ككتاب وكتب، وجمع الأكم آكام مثل عنق وأعناق كذا في المصباح (مرتفعة على ما حولها) من الأرض وتقدم أن السيول كانت لا تعلوها (فعند ذلك رفع) إبراهيم (القواعد) أي: الأساس (من البيت) ورفعها البناء عليها وقال السيوطي: القواعد أي التي كانت قواعد البيت قبل ذلك كما أخرجه أحمد عن ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أن القواعد كانت في الأرض السابعة (فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة) وإبراهيم على المقام ينزل به لأخذ الحجر من إسماعيل، ثم يعلو به فيضعه محله من البناء كما قال (وإبراهيم يبني) عطف معمولين على معمولي عامل واحد (حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر) يعني المقام زاد في حديث عثمان أنه نزل عليه الركن والمقام من الجنة فكان يقوم على المقام ويبني عليه، فلما بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه وأخذ المقام فجعله لاصقاً بالبيت، فلما فرغ من بناء الكعبة جاء جبريل فأراه المناسك كلها، ثم قام إبراهيم وإسماعيل تلك المواقف، وحجه وإسحاق وسارة من بيت المقدس، ثم رجع إبراهيم إلى الشام فمات بالشام كذا بالتوشيح (فوضعه له فقام عليه) أي: على المقام (وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ربنا تقبل منا) بناء البيت (إنك أنت السميع) لدعائنا (العليم) ببناء بيتنا (وفي رواية أن(8/707)
وفي روايةٍ: إنَّ إبْرَاهِيمَ خَرَجَ بِإسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إسْمَاعِيلَ، مَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إبْرَاهِيمُ إِلَى أهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إسْماعيلَ حَتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءَ نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ: يَا إبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللهِ، قَالَتْ: رَضِيْتُ باللهِ، فَرَجَعَتْ وَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الشِّنَّةِ وَيَدُرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، حَتَّى لَمَّا فَنِيَ المَاءُ قَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَداً. قَالَ: فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا، فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ هَلْ تُحِسُّ أحداً، فَلَمْ تُحِسَّ أَحَداً، فَلَمَّا بَلَغَتِ الوَادِي سَعَتْ، وأتَتِ المَرْوَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إبراهيم خرج بإسماعيل وأم إسماعيل) بالجر عطف على إسماعيل وقوله (معهم شنة) بالمعجمة والنون المشددة، هي الجلدة البالية، والمراد: هنا السقاء الذي عبر به عنها في الرواية السابقة حال من فاعل خرج، وجملة (فيها ماء) في محل الصفة (فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة) أي: من مائها (فيدر لبنها) بفتح التحتية وكسر الدال المهملة وضمها. في المصباح: در اللبن دراً من بابي ضرب وقتل (على صبيها) أي: إسماعيل (حتى قدم) أي: إبراهيم (مكة) وهي بولدها معه (فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله) سارة بالشام (فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا نادته من ورائه يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله قالت رضيت بالله) كذا في جميع نسخ الرياض التي وقفت عليها بحذف مفعول بلغوا (1) وهو مصرح به في البخاري ففيه حتى لما بلغوا كداء نادته، غايته أن نسخ البخاري مختلفة الضبط أهو بضم فقصر أم بفتح فمد (فرجعت) عنه إلى محلها (وجعلت تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها) يجوز في جملة تدر أن تعطف على خبر جعل، وأن تعطف على جملة جعلت (حتى لما فني الماء قالت لو ذهبت) حرف تمن فلا جواب لها أو شرط حذف جوابها أي: لكان أولى اكتفاء بدلالة الحال عليه (فنظرت لعلي أحس) أي: أجد (أحداً قال: فذهبت فصعدت) بكسر المهملة الثانية (الصفا فنظرت) أي: تأملت (ونظرت) أي: كررت النظر وفي نسخة الاقتصار على نظرت الأول (هل تحس أحداً فلم تحس) أي: لم تر (أحداً) ولم تشعر به (فلما بلغت الوادي) المسيل، وفيه انخفاض امتنع به رؤيتها لولدها فخافت عليه فأسرعت كما قال (وسعت) أي: أسرعت كما قال: في الرواية السابقة فسعت سعي المجهود (وأتت المروة) أي: بعد تركها السعي وعودها لعادتها قبل وصولها الوادي، كما
__________
(1) دكن في نسختين إحداهما مخطوطة لفظ (كداء) . ع.(8/708)
الرَّسُولُ. "وَألْفَى": معناه وَجَدَ. قَولُهُ: "يَنْشَغُ": أيْ: يَشْهَقُ (1) .
1866- وعن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "الكَمْأَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولي) وعبر عنه به لأنه تولى قفاه حال انصرافه (والجري) بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد التحتية (الرسول) تقدم، وأنه سمي بذلك لجرأته على مرسله أو لجريه إسراعاً في حاجته (وألفي) بالفاء (معناه وجد) فهو من أفعال القلوب (وقوله ينشغ) بضبطه السابق قريباً (أي: يشهق) ويعلو صوته وينخفض كالذي ينازع. وقال بعضهم: النشغ الشهق من الصدر، حتى يكاد يبلغ به الغشي.
1866- (وعن سعيد بن زيد) بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي، نسبة إلى عدي بن كعب بن لؤي، وهو ابن عم عمر يجتمعان في نفيل، وكان أبوه اعتزل الجاهلية وجهالاتهم ووحد الله تعالى بغير واسطة. وقيل نزل فيه وفي سلمان وأبي قوله تعالى (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) (2) الآية. أمه فاطمة بنت ربعي الخزاعية، أسلم هو وزوجته أم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر أول الإِسلام وبسببها كان إسلامه، أحد العشرة المبشرة بالجنة (رضي الله عنه) بعثه - صلى الله عليه وسلم - مع طلحة يتجسسان الأخبار في طريق الشام، فقدما المدينة يوم وقعة بدر فأثبت - صلى الله عليه وسلم - سهمهما وأجرهما، فلذا عدا في البدريين، وكان مجاب الدعوة، وقصته مشهورة مع أروى بنت قيس، لما شكته إلى مروان بن الحكم وادعت عليه أنه غصبها شيئاً من أرضها فعميت، ثم تردت في مرقا دارها فكانت فيها (3) . روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وأربعون حديثاً، منها في الصحيحين ثلاثة، اتفقا على اثنين منها، والثالث للبخاري وحده. وكان سعيد موصوفاً بالزهد محترماً عند الولاة. روى عنه قيس بن أبي حازم وأبو عثمان النهدي. توفي رضي الله عنه بمنزله بالعقيق وحمل على أعناق الرجال فدفن بالبقيع سنة إحدى وخمسين أو خمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة وصلى عليه ابن عمر وكان له من الولد ثلاثة عشر ذكراً وثماني عشرة أنثى (قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الكمأة) بفتح
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: يزفون النسلان في المشي (6/283) .
(2) سورة الزمر، الآية: 17.
(3) لعله (في بئر دارها فكانت قبرها) . ع.(8/710)
ِمِنَ المَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ" متفق عَلَيْهِ (1) .
***
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكاف والهمزة وسكون الميم آخره هاء واحده كمء بحذف الهاء ولا نظير له في ذلك إلا خبأة وخبء قاله ابن الأعرابي (من المن) الذي أنزله الله على بني إسرائيل كما جاء كذلك في رواية وامتن به عليهم (وماؤها شفاء للعين) أي: من دائها. واختلف هل يستعمل صوفاً أو تربي به الأكحال. وهل المراد بمائها ما يعتصر بها، أو الماء الذي تنبت به (متفق عليه) قال في الجامع الصغير: ورواه أحمد والترمذي من حديث سعيد. ورواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عائشة. ورواه أبو نعيم أيضاً من حديث أبي سعيد بلفظ "الكمأة من المن والمن من الجنة وماؤها شفاء العين".
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: المنَّ شفاء للعين، (10/137، 138) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة ... ، (الحديث: 158) .(8/711)
18- كتَاب الاستغفار
371- باب في فضل الاستغفار
قال الله تعالى (1) : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) .
وقال تعالى (2) : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) .
وقال تعالى (3) : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الاستغفار
أي: سؤال غفر الذنب، أي: بعض ما ورد في طلبه من الكتاب والسنة. وشرط قبول الاستغفار الاقلاع عن الذنب المستغفر منه وإلا فالاستغفار منه مع التلبس به كالتلاعب، كما يشير إليه قوله تعالى (ولم يصروا على ما فعلوا) (4) . وسيأتي الكلام على الآية منقولاً من الفتح ويأتي في حديث ابن مسعود مزيد في ذلك (قال الله تعالى واستغفر لذنبك) قال الا يجيء: ذكره للتوطئة والتمهيد، لقوله: (للمؤمنين والمؤمنات) (5) فالمقصود الاستغفار لهم أو أمره به أمته اهـ. (قال تعالى واستغفر الله) أي: سله غفر ذنوب المذنبين، كما يومىء إليه تعميم حذف المعمول، والدعاء كلما كان أعم كان أتم (إن الله كان غفوراً رحيماً) لمن استغفر وأناب فيغفر له ويفيض عليه منته (وقال تعالى فسبح بحمد ربك) أي: متلبساً بحمده، فلذا كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قوله سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي في صلاته، كما تقدم في باب الحث على الازدياد من الخير أواخر العمر (واستغفره) أي: عما فرط منك من التقصير أو عن أمتك (إنه كان تواباً) استئناف بياني عن حكمة الأمر بالاستغفار، والمبالغة
__________
(1) سورة محمد، الآية: 19.
(2) سورة النساء، الآية: 106.
(3) سورة النصر، الآية: 3.
(4) سورة آل عمران، الآية: 135.
(5) سورة نوح، الآية 28.(8/712)
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) . والآيات في الباب كثيرة معلومة.
1867- وعن الأَغَرِّ المزني - رضي الله عنه -: أنَّ رسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في القبح. وقيل الفاحشة الزنى أو الكبائر (أو ظلموا أنفسهم) بالصغائر أو ما دون الزنى (ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) قال في فتح الباري: قيل هو تفسير لقوله (اذكروا الله) (1) وقيل: على حذف مضاف أي: ذكروا عقابه أي: تفكروا في أنفسهم أن الله يسألهم فاستغفروه لذنوبهم وقد ورد في حديث حسن صفة الاستغفار المشار إليه في الآية أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان من حديث علي بن أبي طالب قال: حدثني أبو بكر الصديق رضي الله عنهما وصدق أبو بكر، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر فيحسن الطهور ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له ثم تلا والذين إذا فعلوا فاحشة" الآية (ومن يغفر الذنوب إلا الله) استفهام بمعنى النفي، معترض بين المعطوف والمعطوف عليه دال على سعة رحمته (ولم يصروا على ما فعلوا) أي: لم يقيموا على ذنوبهم بل أقروا واستغفروا به. وفي الحديث ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة. قال الحافظ في فتح الباري: وفي إشارة إلى أن شرط قبول الاستغفار الإِقلاع عن الذنب، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب. قال الحافظ في أثناء كتاب التوحيد من الفتح: ويشهد لهذا أي: اعتبار التوبة في نفع الاستغفار، وما أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس مرفوعاً للتائب من الذنب كما لا ذنب له والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزىء بربه". والراجح أن قوله والمستغفر إلخ موقوف وأوله عند ابن ماجة والطبراني من حديث ابن مسعود وسنده حسن قال في الفتح المبين: هو حجة، وإن فرض أنه موقوف لأن مثله لا يقال من قبل الرأي وكل موقوف كذلك له حكم المرفوع (وهم يعلمون) أنها معصية أو أن الإِصرار ضار أو أن الله يملك مغفرة الذنوب أو أنهم إن استغفروا واغفر لهم (والآيات في الباب) . أي باب الاستغفار (كثيرة معلومة) وفيما ذكر كفاية.
1867- (وعن الأغر) بفتح الهمزة والمعجمة وتشديد الراء (المزني) بضم الميم وفتح الزاي بعدها نون تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) أوائل باب التوبة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إنه)
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 41.(8/714)
لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وإنِّي لأَسْتَغفِرُ اللهَ في اليَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ" رواه مسلم (1) .
1868- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: سَمعتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "وَاللهِ إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأتُوبُ إلَيْهِ فِي اليَومِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً" رواه البخاري (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: الشأن (ليغان) بضم التحتية وبالمعجمة آخره نون (على قلبي) هي غيون أنوار لا غيون أغيار، وتجليات ربانية وترقيات أحمدية، فإذا ارتقى للمقام الأعلى رأى ما كان فيه قبل من المقام العالي أيضاً كالنقص فاستغفر منه كما قال: مشرعاً للأمة (وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) قال في فتح الباري قال عياض: المراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه فإذا فتر عنه لأمر ما، عد ذلك ذنباً فاستغفر منه. وقيل هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس، وقيل هو السكينة التي تغشى عليه والاستغفار لإِظهار العبودية لله تعالى والشكر لما أولاه. وقيل هي حالة خشية وإعظام، والاستغفار شكرها ومن ثم قال المحاسبي: خوف المقربين خوف إجلال وإعظام. وقال السهروردي: لا يعتقد أن الغين حالة نقص، بل هو كمال أو تتمة كمال ثم مثل ذلك بجفن العين يسيل ليدفع القذى عن العين، فإنه يمنع العين من الرؤية فهو من هذه الحيثية نقص وفي الحقيقة كمال. هذا محصل كلامه بعبارة طويلة قال: فهكذا بصيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - متعرضة للأعين السائرة. من أنفس الأغيار فدعت الحالة إلى الستر على حدقة بصيرته صيانة لها ووقاية عن ذلك اهـ.
(رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي.
1868- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) تحريضاً على التوبة والاستغفار (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه) فيه إيماء إلى ما تقدم أن الآية تشير إليه من اعتبار التوبة والاستغفار، وأنه مع التمادي في الذنب كالتلاعب (في اليوم أكثر من سبعين مرة) كناية عن الكثرة، وتقدم في الحديث قبله مائة مرة (رواه البخاري) وتقدم في باب التوبة أنه ذكره صاحب الأطراف بلفظ: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة". وقال: أخرجه البخاري والنسائي والترمذي، ولعل اللفظ الذي ذكره لأحد الروايتين الأخيرتين. وإلا فاللفظ الذي ذكره المصنف هنا وفي باب التوبة وعزاه للبخاري هو الموجود في باب استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تقدم في كتاب بيان حكمة استغفاره مع عصمته - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة ... ، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه، (الحديث: 41) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة، (11/85) .(8/715)
وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، وَرَزَقهُ مِنْ حَيثُ لاَ يَحْتَسِبُ". رواه أبو داود (1) .
1872- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ: أسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُومُ وَأتُوبُ إلَيهِ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ، وإنْ كانَ قَدْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
به فينجو من ذلك الكرب (ومن كل هم) أي: حزن (فرجاً) أي: يفرج له ما يهتم به بأن يزيل عنه سببه وينجيه من تعبه (ورزقه من حيث لا يحتسب) ففيه أن نفع الاستغفار يعود بحوز مطلوب الدارين (رواه أبو داود) .
1872- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قال) أي: بلسانه مع الإِذعان لمضمون ذلك، والتوبة من الذنب المستغفر منه (استغفر الله الذي لا إله) أي: مستغن عن كل ما سواه مفتقر إليه ما عداه (إلا هو) بدل من محل اسم لا قبل دخولها عليه (الحي القيوم) وفي كتاب الأجوبة المرضية عن الأسئلة النحوية للراعي أنه نفسه سئل عن إعراب الموصول والوصفين بعد أهو النصب أم الرفع، فأجاب بأنها نعوت مدح للجلالة ْمنصوبة على التعظيم، ويجوز في الموصول البدل. قلت: وعليه فلا يعرب شيء من الاثنين بعده نعتاً، لأن البدل لا يتقدم عليه والله أعلم. فإن اتبعت الموصول جاز في الاسمين بعده الرفع والنصب، فالنصب على الاتباع أو على القطع بنحو أخص أو أعني أو أمدح مما يليق بالمقام، وإن قطعت الموصول امتنع اتباع ما بعده وتعين القطع، إما بالرفع بإضمار مبتدأ، أو بالنصب بإضمار فعل وكل هذه الوجوه صحيحة فصيحة، غير أن في قطع النعت الواحد والأول من النعوت المتعددة خلافاً، الصحيح الجواز، لأن قطعه لا يخرج به عن كونه مبيناً له من جهة المعنى مع أن القطع في الجميع أبلغ من المعنى المراد بإضمار فعل لأن الجملة الإِسمية أثبت من الفعلية وأقعد وأصل منها. وإنما امتنع اتباع الحي مع قطع ما بعده، لئلا يلزم عليه الاتباع بعد القطع وهو ممتنع عند النحاة. ونقل عن بعض المتأخرين الجواز وهو خلاف لا يعتد به إن صح النقل، وإنما امتنع الاتباع بعد القطع وجاز عكسه لأن في الأول رجوعاً للشيء بعد تركه، ومن طباع العرب وعلو همتها، أنها إذا انصرفت عن الشيء لم تعد إليه، فجعلوا كذلك ألفاظهم جارية على حد معانيهم. وقال بعض نحاة قرطبة: المانع منه ما يلزم عليه من تسفل بعد تصعد، وقصور بعد كمال. بيانه أن القطع أبلغ في المعنى المراد من الاتباع كما تقدم، ولولا ذلك ما ذهب به ذلك المذهب البعيد، يعني الخروج من الرفع
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الاستغفار، (الحديث: 1518) .(8/717)
فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ". رواه أبو داود والترمذي والحاكم، وقال: "حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى النصب ونحوه اهـ. ملخصاً. والحي، صفة مشبهة من الحياة وهي صفة أزلية ذاتية، تقتضي صحة اتصاف موصوفها بالصفات. والقيوم: ويقال القيام والقيم بتشديد التحتية فيهن وبهما قرىء شاذاً: الدائم القائم بتدبير خلقه وحفظه (وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف) أي: من موطن الحرب أي: غفرت صغائر ذنوبه المتعلقة بحق ربه، وإن كان قد اقترف ما هو من الكبائر فلا يمنع ذلك من غفر الصغائر بالذكر المذكور أو غفرت الذنوب حتى الكبائر عنده لا به، فلا يخالف ما عليه المحققون من أن أعمال البر لا تكفر إلا الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى (رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم) عدل إليه المصنف عن قول الحاكم على شرطهما الأخصر مع نقله عنه، دفعاً لتوهم أن المراد على شرط أبي داود والترمذي المذكورين. وأخذ المصنف من هذا الحديث رد قول الربيع بن خيثم: لا تقل استغفر الله وأتوب إليه، فيكون كذباً، إن لم تفعل. بل قل: اللهم اغفر لي وتب علي. قال المصنف: وهذا أحسن. وأما كراهته استغفر الله وتسميته كذباً فلا يوافق عليه، لأن معنى استغفر الله أطلب مغفرته وليس هذا كذباً. ويكفي في رده حديث ابن مسعود بلفظ "من قال أستغفر الله" الحديث قال الحافظ في الفتح: هو في لفظ أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، أما أتوب إليه فهو الذي عنى الربيع أنه كذب وهو كذلك إذا قاله ولم يفعل التوبة كما قال. وفي الاستدلال للرد عليه بحديث ابن مسعود نظر، لجواز أن يكون المراد منه ما إذا قالها وفعل شروط التوبة. ويحتمل أن يكون الربيع قصد مجموع اللفظين لا خصوص "أستغفر" فيصح كلامه والله أعلم. ورأيت في الحلبيات للسبكي الكبير: الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب، أو بهما.
فالأول فيه نفع لأنه خير من السكوت أو لأنه يعتاد قول الخير، والثاني نافع جداً والثالث أبلغ منه لكنهما لا يمحصان الذنوب حتى توجد التوبة. قال القاضي: فإن المصر يطلب المغفرة، ولا يستلزم ذلك وجود التوبة منه إلى أن قال: والذي ذكرته من أن معنى الاستغفار غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ لكنه غلب عند كثير من الناس أن لفظ أستغفر الله معناه التوبة
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب في الاستغفار، (الحديث: 1517) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: في دعاء الضيف، (الحديث: 3577) .
وأخرجه الحاكم: (1/511) .(8/718)
1873- وعن شَدَّادِ بْنِ أَوسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة لا محالة، ثم قال: وحكى بعض العلماء أن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لقوله تعالى: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) (1) والمشهور أنه لا يشترط اهـ. كلام الفتح في أثناء كتاب التوحيد.
1873- (وعن شداد) بفتح المعجمة وتشديد أولى الدالين المهملتين (ابن أوس) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المراقبة قال في الفتح: وليس لشداد في البخاري إلا هذا الحديث (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سيد الاستغفار) قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعاً لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج ويرجع إليه في الأمور (أن يقول العبد) أي: المكلف (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني) كذا في نسخ الرياض أنت واحدة، ووقع في البخاري بتكرارها. قال في فتح الباري: كذا بتكرارها في نسخة معتمدة وسقطت الثانية من معظم الروايات، قال الطيبي: يجوز أن تكون مؤكدة وأن تكون مقدرة ويؤيده عطف قوله (وأنا عبدك) أي: أنا عابد لك (2) (وأنا على عهدك ووعدك) سقطت الواو في رواية النسائي قال: الخطابي يريد أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإِيمان وإخلاص الطاعة لك (ما استطعت) أي: ومنجز وعدك في التوبة والأجر. واشتراط الاستطاعة في ذلك، معناه الاعتراف والعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى. وقال ابن بطال: قوله "وأنا على عهدك ووعدك" يريد العهد الذي أخذه على عباده في عالم (ألست بربكم قالوا بلى) (3) وبالوعد ما قال على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - "إن من مات لا يشرك بالله شيئاً وأدى ما افترض عليه أدخله الجنة". قال في الفتح قوله: وأدى ما افترض عليه" زيادة ليست بشرط في هذا المقام، لأنه جعل العهد الميثاق المأخوذ في عالم الذر وهو التوحيد خاصة، فالوعد هو إدخال من مات على ذلك الجنة قال أيضاً: وفي قوله "ما استطعت" إعلام لأمته أن أحداً لا يقدر على الإِتيان بجميع ما يجب عليه لله ولا الوفاء بكمال طاعة الله والشكر على النعم فرفق الله بعباده ولم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم
__________
(1) سورة هود، الآية: 3.
(2) كان بالأصل تقديم وتأخير مخل فليتنبه. ع.
(3) سورة الأعراف، الآية: 172.(8/719)
عَلَيَّ، وأبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ. مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِي، فَهُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ". رواه البخاري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ْقال الطيبي: يحتمل أن يراد بالعهد والوعد ما في الآية المذكورة كذا. قال: والتفريق بين العهد والوعد واضح (أعوذ بك من شر ما صنعت) أي: صنعاً أو ما صنعته أي: من الإِثم والعذاب والبلاء المرتب على ذلك (أبوء لك) سقط لك عند النسائي (بنعمتك علي) المفرد المضاف من صيغ العموم أي: بنعمتك التي لا تحصر ولا تحصى (وأبوء بذنبي) حذف لك في نسخ الرياض وكذا هو في البخاري في الدعوات، ولعل حكمة تركها: التأدب وترك ِالخطاب في جانب الاعتراف بالذنب. قال الطيبي: اعترف أولاً بأنه أنعم عليه ولم يقيده، ليشمل جميع أنواع الإِنعام، ثم اعترف بالتقصير وهضم النفس. قال في الفتح: ويحتمل أن يكون قوله أبوء بذنبي اعترافاً بوقوع الذنب مطلقاً، ليصح الاستغفار منه لا أنه عد ما قصر فيه من أداء النعم ذنباً (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يؤخذ منه أن من اعترف لذنبه غفر له وقد وقع ذلك صريحاً في حديث الإِفك الطويل، ففيه أن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه (من قالها في النهار موقناً) بضم الميم وسكون الواو وكسر القاف أي: مخلصاً من قلبه مصدقاً (بها) أي: بثوابها (فمات من يومه) أي: فيه (قبل أن يمسي) أي: يدخل في المساء (فهو من أهل الجنة) وفي رواية النسائي دخل الجنة. قال الداودي: يحتمل أن يكون هذا من قوله (إن الحسنات يذهبن السيئات) (1) ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء وغيره بشر بالثواب، ثم بشر بأفضل منه مع ارتفاع الأول. ويحتمل أن يكون ذلك ناسخاً وأن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يغفر له ذنوبه، أو يكون ما فعله من الوضوء وغيره لم يتقبل منه بوجه ما والله سبحانه وتعالى أعلم ويفعل الله ما يشاء. كذا حكاه ابن التين عنه قال الحافظ في الفتح: وبعضه يحتاج إلى تأمل (ومن قالها من الليل وهو موقن بها) خالف بين الحال فجاء بها مفردة أولاً وجملة ثانياً، تفنناً في التعبير (فمات قبل أن يصبح) أي: يدخل في الصباح (فهو من أهل الجنة، رواه البخاري) قال ابن أبي جمرة: جمع - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى به سيد الاستغفار. ففيه الإِقرار لله وحده بالألوهية، والاعتراف بأنه الخالق، والإِقرار بالعهد الذي أخذه عليه والرجاء بما وعد به والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه وإضافة النعماء إلى موجدها وإضافة
__________
(1) سورة هود، الآية: 114.(8/720)
"أبوءُ" بباءٍ مَضمومةٍ ثم واوٍ وهمزة ممدودة ومعناه: أقِرُّ وَأعْتَرِفُ (1) .
1874- وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: كانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ، اسْتَغْفَرَ اللهَ ثَلاَثاً وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ يَاذَا الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ" قيلَ لِلأوْزَاعِيِّ - وَهُوَ أَحَدُ رُوَاتِهِ -: كَيفَ الاسْتِغْفَارُ؟ قال: يقُولُ: أسْتَغْفِرُ اللهَ، أسْتَغْفِرُ اللهَ. رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذنب إلى نفسه ورغبته في المغفرة واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو. وفي كل ذلك إشارة إلى الجمع بين الحقيقة والشريعة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى، وهذا القدر الذي يكنى عنه بالحقيقة، فلو اتفق أن العبد خالف حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة ببيان المخالفة، لم يبق إلا أحد أمرين: إما العقوبة بمقتضى العدل وإما العفو بمقتضى الفضل اهـ. ملخصاً. وقال المصنف: من شرط الاستغفار صحة النية والتوجه والأدب، فلو أن أحداً حصل الشروط هل يتساويان؟ فالجواب: أن الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة والله أعلم (أبوء بباء) موحدة (مضمومة ثم واو) ساكنة (وهمزة ممدودة) لسكون الواو قبلها (ومعناه أقر) بضم الهمزة وكسر القاف (وأعترف) ولذا وقع في رواية بدله واعترف بذنوبي، وأصل البوء: معناه اللزوم، ومنه بوأه الله منزلاً أي: أسكنه فكأنه ألزمه به.
1874- (وعن ثوبان) بالمثلثة والموحدة المفتوحتين بينهما واو ساكنة خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته) بالتسليم منها (استغفر الله ثلاثاً) خضوعاً لجلال ربه وتشريعاً لأمته (وقال: اللهم أنت السلام) أي: السالم من سائر النقائص والمنزه عنها، أو المسلم لمن شئت من الآفات والمضار (ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال) أي: العظمة ومنها التنزه عن النقائص (والإِكرام) أي: أوصاف الجمال من الكرم والغفر والعفو (قيل للأوزاعي وهو أحد رواته) أي: الحديث (كيف الاستغفار؟ قال: تقول أستغفر الله أستغفر الله رواه مسلم) وتقدم في كتاب الذكر.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: أفضل الاستغفار، (11/83 و84) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، الحديث: 135) .(8/721)
1875- وعن عائشة رضي اللهُ عنها، قالت: كان رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ مَوْتِهِ: "سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، أسْتَغفِرُ اللهَ، وأتوبُ إلَيْهِ" متفق عليه (1) .
1876- وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1875- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول قبل موته) أي: في ركوعه وسجوده من صلاته كما تقدم في باب الازدياد من الخير أواخر العمر، وذلك امتثالاً لقوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره) (2) (سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه) أتى به تأكيداً لمضمون أستغفره وإيماء إلى اعتبارها في حصول أثره (متفق عليه) .
1876- (وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى) فهو من الأحاديث القدسية (يابن آدم إنك ما دعوتني) أي: بمغفرة ذنوبك كما يدل عليه السياق أي: مدة دعائك، فهي مصدرية ظرفية، لا شرطية (و) الحال أنك قد (رجوتني) بأن ظننت تفضلي عليك بإجابة دعائك وقبوله، إذ الرجاء تأميل الخير وقرب وقوعه (غفرت لك) ذنوبك أي: سترتها عليك بعدم العقاب عليها في الآخرة لأن الدعاء مخ العبادة، كما ورد وروى أصحاب السنن الأربعة "الدعاء هو العبادة" ثم تلا (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) (3) والرجاء يتضمن حسن الظن بالله وهو يقول: "أنا عند ظن عبدي بي" وعند ذلك تتوجه رحمة الله للعبد، وإذا توجهت لا يتعاظمها شيء لأنها وسعت كل شيء (على ما كان منك) من المعاصي وإن تكررت (ولا أبالي) أي: لا أكثرت بذنوبك، ولا أستكثرها وإن كثرت إذ لا يتعاظمني شيء كما تقدم في الحديث الصحيح إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء، وإنه لا معقب لحكمه ولا مانع لفضله وعطائه سبحانه، ومعنى قوله "لا أبالي بكذا" أي لا يشتغل بالي به. وزاد سبحانه وتعالى هذا المقام تأكيداً مبالغة في سعة رجاء خلقه فيما عنده من مزيد التفضل والإنعام فقال: (يابن آدم لو بلغت ذنوبك) أي: عند
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: تفسير (إذا جاء ... ) وفي أبواب أخرى (2/233، 247) و (8/564) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقول في الركوع والسجود، (الحديث: 218) .
(2) سورة النصر، الآية: 3.
(3) سورة غافر، الآية: 60.(8/722)
وَلاَ أُبَالِي، يا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً، لأَتَيْتُكَ بِقُرابِهَا مَغْفِرَةً". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". "عَنَانَ السَّمَاءِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فرضها أجراماً (عنان السماء) بأن ملأت ما بينها وبين الأرض كما في الرواية الأخرى لو أخطأتم حتى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم (ثم استغفرتني) أي: تبت توبة صحيحة (غفرت لك ولا أبالي) وإن تكرر الذنب والتوبة في اليوم الواحد والذنوب، وإن تكاثرت وبلغت ما عسى تبلغ، فتلاشت عند حلمه وعفوه، فإذا استقال منها العبد بالاستغفار غفرت لأنه طلب الإِقالة من كريم والكريم محل إقالة العثرات وغفر الزلات. قال صاحب الفتح المبين: وما ذكرناه من أن المراد بالاستغفار التوبة لا مجرد لفظه هو ما ذكره بعضهم وهو الموافق للقواعد بالنسبة للكبائر إذ لا يكفرها إلا التوبة بخلاف الصغائر فإن لها مكفرات أخر كاجتناب الكبائر والوضوء والصلاة وغيرها، فلا يبعد أن يكون الاستغفار مكفراً لها أيضاً، وينبغي أن يحمل على هذا أيضاً تقييد بعضهم جميع ما جاء في نصوص الاستغفار المطلقة بما في آية آل عمران من عدم الإِصرار، فإنه تعالى وعد فيها بالمغفرة من استغفره من ذنوبه ولم يصر على ما فعله، قال: فيحمل نصوص الاستغفار المطلقة كلها على هذا القيد اهـ. نعم ضم نحو أستغفر الله اللهم اغفر لي من غير توبة دعاء فله حكمة، من أنه يجاب تارة وقد لا يجاب أخرى، لأن الإِصرار قد يمنع الإِجابة كما أفاده مفهوم آية آل عمران السابقة. فالاستغفار الكامل المسبب عنه المغفرة هو ما قارن عدم الإِصرار لأنه حينئذ توبة نصوح أما مع الإِصرار فمجرد دعاء ومن قال إنه توبة الكذابين مراده أنه ليس بتوبة حقيقية، خلافاً لما تعتقده العامة لاستحالة التوبة مع الإِصرار، على أن من قال أستغفر الله وأتوب إليه وهو مصر بقلبه على المعصية كاذب آثم لأنه أخبر أنه تائب وليس حاله كذلك، فإن قال ذلك وهو غير مصر، بأن أقلع بقلبه عن المعصية. فقالت طائفة من السلف، يكره له ذلك لأنه قد يعود إلى الذنب فيكون كاذباً في قوله وأتوب إليه. والجمهور على أن لا كراهة، وذلك لأن العزم على ألا يعود إلى المعصية واجب عليه، فهو إخبار عما عزم عليه في الحال فلا ينافي وقوعه منه في المستقبل، فلا كذب بتقدير الوقوع اهـ. ملخصاً. وفي كلامه آخراً ما سبق عن المصنف في حديث ابن مسعود من اعتراض كلام الربيع بن خيثم، وأن لا كذب أصلاً، وإن أيد الحافظ كلام الربيع، بل صرح به صاحب الفتح المبين. فقال: بعد ذكر حديث ابن مسعود وهذا أبلغ ردٍ على من كره وأتوب إليه (يابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض) سيأتي أنه أبلغ مما قبله (خطايا ثم لقيتني) في حال كونك (لا تشرك بي شيئاً) لاعتقادك توحيدي والتصديق برسلي وبما جاءوا به (لأتيتك بقرابها) عبر بها للمشاكلة، وإلا(8/723)
قال الله تعالى (1) : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(قال الله تعالى: إن المتقين في جنات) أي: بساتين (وعيون) أي: أنهار (أدخلوها) أي: يقال لهم أدخلوها (بسلام) أي: من الآفات وقيل: مسلماً عليكم (آمنين) من المكاره (ونزعنا ما في صدورهم من غل) حسد وحقد (إخواناً) في المودة وهو حال (على سرر متقابلين) أي: متواجهين وهما صفتان أو حالان (لا يمسهم فيها نصب) أي: تعب (وما هم منها بمخرجين) الباء مزيدة لتأكيد نفي إخراجهم منها المدلول عليه بالجملة.
(وقال تعالى يا عباد) حكاية لما ينادي به الصتحابون المتقون (لا خوف عليكم اليوم) أي: مما تقدمون عليه من أمر الآخرة (ولا أنتم تحزنون) على ما خلفتموه من أمر الدنيا (الذين) منصوب على المدح (آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم) أي: المؤمنات (تحبرون) أي: تسرون (يطاف عليهم بصحاف) جمع صحفة (من ذهب وأكواب) جمع كوب وهو كوز لا عروة له (وفيها) أي: الجنة (ما تشتهيه الأنفس) قال البيضاوي في تفسير سورة الفرقان: لعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبته، إذ الظاهر أن الناقص لا يدرك شأو الكامل بالتشهي (وتلذ الأعين) بمشاهدته وكأنه لم يعتد بمستلذات السمع والشم والذوق في جنب مستلذات العين فلم يذكرها (وأنتم فيها خالدون) فهو من أتم النعيم (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) الجنة إما خبر، والتي أورثتموها صفة لها أو صفة والتي خبرها أو هما صفتان والظرف خبر ولا تنافي كما سبق بين هذه الآية وما سبق من حديث "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" الحديث لما تقدم من أن دخولها بمجرد الرحمة وتفاوت المنازل بتفاوت الأعمال، أو أن التوفيق للعمل المسبب عنه دخولها من رحمة الله ومنته (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) يبقى بعضها أبداً لا يجد شجرة عريانة من الثمر
__________
(1) سورة الحجر، الآيات: 45-48.
(2) سورة الزخرف، الآيات: 68-73.(8/726)
وَقَال تَعَالَى (1) : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وقال تعالى: إن المتقين في مقام) موضع إقامة (أمين) يأمن صاحبه فيه عن كل مكروه وبين مآكلهم ومشاربهم بقوله (في جنات وعيون) ولباسهم بقوله (يلبسون) خبر ثان أو حال أو استئناف (من سندس) مارق من الحرير (وإستبرق) ما غلظ منه (متقابلين) لا يجلس بعض منهم وظهره إلى غيره لأنس بينهم (كذلك) أي: الأمر كذلك أو إتيانهم مثل ذلك (وزوجناهم) قرناهم (بحور عين) الحور النساء النقيات والعين عظيمة العين (يدعون فيها بكل فاكهة) يأمرون بإحضار أنواع الفواكه (آمنين) من كل مكروه (لا يذوقون فيها الموت) بل حياتهم أبدية (إلا الموتة الأولى) أي: لكن ذاقوها في الدنيا. قيل: الاستثناء للمبالغة فإن الغرض الإِعلام بأنهم لا يذوقون الموت كأنه قال: ولو فرضنا ذوق الموت في الجنة لما ذاق إلا الموتة الأولى، وذوق تلك الموتة محال لأنها ماضية فالذوق محال (ووقاهم عذاب الجحيم فضلاً) أي: إعطاء كل ذلك (من ربك ذلك هو الفوز) الظفر (العظيم -وقال تعالى- فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وقال تعالى: إن الأبرار) جمع بر بفتح الموحدة (لفي نعيم على الأرائك) على السرر في الحجاب (ينظرون) إلى ملكهم ونعيمهم أو إلى الله وإلى عدوهم كيف يعذبون (تعرف في وجوههم نضرة) أي: بهجة (النعيم) ورونقه (يسقون من رحيق) خمر خالص (مختوم) بختم أوانيه إكراماً لهم كعادة الملوك (ختامه مسك) أي: تختم الأواني مكان المسك مكان الطين أو مقطعة عن الفم وآخره مسك (وفي ذلك فليتنافس) فليرتقب (المتنافسون) المرتقبون، وفي الحديث المرفوع "أيما مؤمن سقى مؤمناً شربة على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم (ومزاجه) أي: ما تمزج
__________
(1) سورة الدخان، الآيات: 51-57.
(2) سورة المطففين، الآيات: 22-28.(8/727)
1879- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: أعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: (1) (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ". متفق عَلَيْهِ (2) .
1880- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بكر بن أبي شيبة وأبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش. وأخرجه أبو داود في السنن عن عثمان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قاله في الأطراف.
1879- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: أعددت) أي: هيأت (لعبادي) المخصوصين بشرف الإِضافة إليه ولذا وصفهم بقوله (الصالحين) أي: القائمين بحقوق الله تعالى وحقوق العباد (ما لا عين رأت ولا أذرْ سمعت) الصلة لا النافية للجنس، وفي مثله الأوجه الخمسة السابقة في لا حول ولا قوة إلا بالله لتكرر لا غير أن الرواية برفعهما (ولا خطر) أي: مر (على قلب بشر واقرءوا) مصداق ذلك (إن شئتم فلا تعلم نفس) نكرة في سياق النفي فتعم كل مسمى بها (ما) أي الذي (أخفي) بصيغة المجهول كما تقدم آنفا وقرىء بسكون الياء مضارع أو ماض مبني للمجهول سكن تخفيفاً كما خفف مسكن بعض المنقوص المنصوب وقدر فيه الفتحة (لهم من قرة أعين أحد) الظرفين نائب الفاعل (3) على كون الفعل مبنياً للمجهول، والثاني حال من قرينه المجهول وكلاهما حالان على كون الفعل مضارعاً. وصاحب الحال عليه الموصول. (متفق عليه) .
1880- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول زمرة) بضم الزاي أي جماعة (يدخلون الجنة على سورة القمر ليلة البدر) أي: ليلة الرابع عشر وسمي بذلك لأنه يبدر طلوعه غروب الشمس وطلوعها غروبه، والمراد تشبيههم في الإِضاءة والإِشراق (ثم الذين يلونهم على)
__________
(1) سورة السجدة، الآية: 17.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وفي كتاب التفسير، تفسير السجدة، (6/230) .
أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: باب ... ، (الحديث: 2) .
(3) الظاهر أن نائب الفاعل ضمير الموصول. ع.(8/729)
فِي السَّمَاءِ إضَاءةً، لاَ يَبُولُونَ، وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ، وَلاَ يَتْفُلُونَ، وَلاَ يَمْتَخِطُونَ. أمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأُلُوَّةُ - عُودُ الطِّيبِ - أزْوَاجُهُمُ الحُورُ العيْنُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صورة (أشد كوكب دري) في صحيح البخاري الدري، هو النجم الشديد الإِضاءة وقال الفراء: هو النجم العظيم المقدار. قال في الفتح بضم الدال وكسر الراء المشددة بعدها تحتية ثقيلة وقد تسكن وتعقبها همزة ومد، وقد تكسر الدال على الحالين. فتلك أربع لغات ثم قيل المعنى مختلف فبالتشديد كأنه منسوب إلى الدر لبياضه وضيائه وبالهمز كأنه مأخوذ من درأ أي: دفع لاندفاعه عند طلوعه. ونقل ابن الجوزي: عن الكسائي تثليث الدال فبالضم نسبة إلى الدر وبالكسر الجاري وبالفتح اللامع (في السماء) صفة كوكب (إضاءة) تمييز لأشد (لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون) جاء في رواية عند البخاري ولا يسقمون قال في الفتح: قد اشتمل ذلك على نفي جميع صفات النقص عنهم (أمشاطهم الذهب) جمع مشط مثلث الميم والأفصح ضمها. وجاء في رواية أخرى أمشاطهم الفضة وكأنه اكتفى بذكر إحداهما عن الأخرى. ويؤيده حديث أبي موسى مرفوعاً جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما الحديث متفق عليه (ورشحهم المسك ومجامر هم الالوة) الجود الذي يتبخر به كما قال (عود الطيب) قيل جعلت مجامرهم نفس العود لكن في رواية البخاري وقود مجامرهم الألوة ففي هذه الرواية تجوز. والمجامر جمع مجمرة وهي المبخرة سميت مجمرة لوضع الجمر فيها، ليفوح به ما يوضع فيها من البخور والألوة بفتح الهمزة، ويجوز ضمها وبضم اللام وتشديد الواو وحكى ابن التين كسر الهمزة وتخفيف الواو والهمزة أصلية. وقيل زائدة. قال الأصمعي: أراها فارسية معربة. وقد يقال إن رائحة العود إنما تفوح بوضعه في النار ولا نار في الجنة. ويجاب باحتمال أن يشعل بغير نار بقول كن. وإنما سميت مجمرة باعتبار ما كان في الأصل. ويحتمل أن يشعل بنار لا ضرر فيها ولا إحراق، أو يفوح بغير إشعال. قال القرطبي وقد يقال أي: حاجة لهم إلى المشط وهم مرد وشعورهم لا تتسخ وأي حاجة لهم إلى البخور وريحهم أطيب من المسك. قال: ويجاب بأن نعيم أهل الجنة من أكل وشرب وكسوة وطيب ليس عن ألم من جوع أو ظمأ أو عرى أو نتن، وإنما هي لذات متتالية ونعم متوالية. والحكمة في ذلك أنهم ينعمون بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا وقال النووي: مذهب أهل السنة أن تنعم أهل الجنة على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة. ودل الكتاب والسنة على أنه نعيم لا انقطاع له اهـ. ملخصاً من الفتح (أزواجهم الحور العين) أي: زيادة على زوجتين من(8/730)
عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعاً فِي السَّمَاءِ" متفق عَلَيْهِ.
وفي رواية البخاري ومسلم: "آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يُرَى مُخُّ سَاقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بنات آدم كما يأتي في الرواية بعده (على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم) أي: هيئته إن كان بفتح المعجمة وإن كان بضمها فالمعنى على صفته وطريقته (ستون ذراعاً عافي السماء) هذا يؤيد فتح الخاء المعجمة أي: ذلك طول آدم وطولهم كذلك فيها (متفق عليه وفي رواية للبخاري ومسلم) الأخصر لهما (آنيتهم فيها الذهب) أي: والفضة كما تقدم لحديث أبي موسى السابق فيه، ولحديث الطبراني بإسناد قوي عن أنس مرفوعاً "إن أدنى أهل الجنة درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صحيفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة" الحديث (ورشحهم) أي: عرف ما يرشح من أبدانهم (المسك ولكل واحد منهم زوجتان) قال في الفتح أي: من نساء الدنيا فقد روى أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعاً في صفة أدنى أهل الجنة منزلة، وإن له من الحور العين اثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه في الدنيا، وفي سنده شهر بن حوشب وفيه مقال، ثم أورد أحاديث مختلفة في قدر عدد الزوجات اللاتي يمنحهن المؤمن في الجنة. ثم قال، قال ابن القيم: ليس في الأحاديث الصحيحة زيادة على زوجتين سوى ما في حديث أبي موسى "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤله فيها أهلون يطوف عليهم. ثم اعترضه بأن في صحيح الضياء عن ابن عباس "إن الرجل من أهل الجنة ليفضي إلى مائة عذراء" رواه الطبراني. وبأن في حديث أبي سعيد عند مسلم في صفة أدنى أهل الجنة ثم تدخل عليه زوجتاه. والذي يظهر أن المراد أن أقل ما لكل واحد منهم زوجتان. وقد أجاب بعضهم باحتمال كونه التثنية للتكثير والتعظيم، نحو: لبيك وسعديك ولا يخفى ما فيه اهـ. كلام الفتح ملخصاً. قال المصنف: كذا وقع زوجتان بتاء التأنيث وهي لغة تكررت في الأحاديث. والأشهر خلافها وبه جاء القرآن. وذكر أبو حاتم السجستاني أن الأصمعي كان ينكر زوجة ويقول إنما هي زوج فأنشدناه قول الفرزدق.
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستتلها
قال فسكت ثم ذكر له شواهد أخرى (يرى مخ سوقهما من وراء اللحم) جاء في رواية في البخاري زيادة والعظم والمخ بضم الميم وتشديد المعجمة: ما في داخل العظم.(8/731)
ما أدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قال: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الجَنَّةَ. فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وأخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيقُولُ: رَضِيْتُ رَبِّ، فَيقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَيقُولُ في الخامِسَةِ. رَضِيْتُ رَبِّ، فَيقُولُ: هذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. قَالَ: رَبِّ فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً؟ قالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ؛ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما أدنى) أي: أنزل (أهل الجنة منزلة) تمييز (قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة) الفعل في الأصول المصححة مضبوط بالماضي المبني للمجهول وأهل الجنة نائب فاعله ولو روي بالمضارع للمتكلم ونصب المفعولين لكان مستقيماً (فيقال له أدخل الجنة) يمكن المخاطب له الله تعالى كما يومىء إليه قوله (فيقول أي رب) لا أدري لهذا القرب (1) (كيف) أي: دخولي فيها المدلول عليه بالسياق (وقد نزل الناس منازلهم) أي: فيها وما أبقوا لغيرهم منزلاً (وأخذوا أخذاتهم) بفتح أوليه (فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك) بضم فسكون (ملك) بفتح فكسر وبيه وبين ما قبله الجناس المحرف (من ملوك الدنيا) صفة الملك والتقييد به لكونه معروفاً للمخاطب (فيقول رضيت رب) حذف حرف النداء إيجازاً مسارعة لذكر الرب (فيقول لك ذلك) أشير إليه مع قربه بما يشار به للبعيد تفخيماً وتعظيماً وعطف على المبتدأ قوله (ومثله ومثله ومثله ومثله) أي: منضماً لما رضيت به زيادة عليه مبالغة في التفضيل (فيقول في الخامسة رضيت رب) الرضا مقول بالتشكيك فحصل بالأولى أدناه كما حصل بالخامسة أعلاه (فيقول هذا) أي: المذكور من مثل ملك الملك والمتعاطفات بعده (لك وعشرة أمثاله ولك) زيادة على ذلك (ما اشتهت نفسك ولذت عينك) وهذا شامل لكل أحد من أهل الجنة، قال تعالى (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) (2) (فيقول رضيت رب) أي: زيادة في الرضا (قال) أي: موسى (رب فأعلاهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كذا ولعله (نادى بأي لاجل القرب) . ع.
(2) سورة الزخرف، الآية: 71.(8/733)
يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". رواه مسلم (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منزلة قال) أي: الله تعالى (فأولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي) أي: بمحض القدرة من غير توسط ملك ولا غيره زيادة في كرامتهم (وختمت عليها) لئلا يراها غيرهم بمالغة فيما ذكر (فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) أي ما أعددت لهم من الكرامة لعدم وجود شيء مما ذكر لأحد منهم (رواه مسلم. وعن أبي هريرة (2) رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لقاب قوس أحدكم) في المصباح القاب ما بين مقبض القوس والسية، ولكل قوس قابان. والسية بكسر المهملة وتخفيف التحتية طرفها المنحني، وكان رؤبة يهمزه، والعرب لا تهمزه اهـ. أي: هذا القدر (من الجنة) لنفاسته ولدوامه وبقائه (خير مما تطلع) بضم اللام (عليه الشمس وتغرب) أي: مما في الدنيا أجمع لأن ذلك وصفها (متفق عليه) رواه البخاري في أبواب الجنة. (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة سوقاً) أتى بالمؤكد لتردد المخاطبين في ثبوت ذلك بما سمعه بعضهم من أهل الكتاب، فالتردد ناسب التوكيد والسوق مؤنث معنوي سمي به لسوق الناس بضائعهم إليها أو لقيامهم فيها على ساق، أو لتزاحم الساقات فيها (يأتونها كل جمعة) أي: في قدرها (فتهب) بضم الهاء وتشديد الموحدة (ريح الشمال) بفتح المعجمة وتخفيف الميم (فتحثو في وجوههم وثيابهم) حذف المحثو إيماء إلى تعميم جميع أنواع الكمال التي يجول في الخاطر وجودها ثمة، فلذا قال: عقبه (فيزدادون حسناً وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم) بالياء جمع سلامة مع فقده بعض شروط الجمع الحق به في إعرابه (وقد ازدادوا حسناً وجمالاً) جملة حالية من فاعل يرجعون (فيقول لهم أهلوهم) أي: عند وقوع نظرهم عليه كما يدل عليه الفاء الدالة على التعقيب (والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً) كان التأكيد لإنكار المخاطبين، ذلك لعدم رؤياه له في أنفسهم، فيذعنون عند ذلك وينظرون إلى أهليهم فيرونهم زيدوا كذلك (فيقولون) عطف على قول أزواجهم (وأنتم) قدمه على القسم اهتماماً به (والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً) أتوا بالقسم لتردد المخاطبين به في ثبوته، وفيه إيماء إلى أن الجمال متزايد في الجنة شيئاً بعد شيء بعضه عن شبه صوري وبعضه هكذا (رواه مسلم) في أبواب الجنة من صحيحه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: أدق أهل الجنة منزلة فيها، (الحديث: 312) .
(2) هذا الحديث والذي يعده مكرران مع ما يأتي في نسخ الشرح وأما في نسخ المتن فلم يذكرا إلا فيما يأتي. ع.(8/734)
1882- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّةَ. رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْواً، فَيقُولُ اللهُ - عز وجل - له: اذْهَبْ فادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ، فَيقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى ! فَيَقُولُ اللهُ - عز وجل - له: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فيأتِيهَا، فَيُخيَّلُ إليهِ أنَّها مَلأى، فيَرْجِعُ. فَيَقولُ: يا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأى، فيقُولُ اللهُ - عز وجل - لَهُ: اذهبْ فَادخُلِ الجنَّةَ. فَإنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشرَةَ أَمْثَالِهَا؛ أوْ إنَّ لَكَ مِثْلَ عَشرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا، فَيقُولُ: أتَسْخَرُ بِي، أَوْ تَضْحَكُ بِي وَأنْتَ المَلِكُ"
قال: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَكَانَ يقولُ: "ذلِكَ أَدْنَى أهْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1882- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجلاً) قيل هو جهينة كما ذكره الشيخ زكريا في تحفة القاري (يخرج من النار حبواً) بفتح المهملة وسكون الموحدة. ولمسلم "زحفاً" وهو بوزنه ومعناه (فيقول الله عز وجل له) بعد إخراجه من النار (اذهب فادخل الجنة) أمر إباحة (فيأتيها فيخيل إليه) بضم التحتية وتأنيث فاعله (أنها ملأى) بفتح همزة أن، وملأى بوزن فعلي من الملء، وألف التأنيث فيها مقصودة (فيرجع) أي منها لمحل مناجاته لله تعالى (فيقول يا رب وجدتها ملأى) من لازم فائدة الخبر، لأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء (فيقول الله عز وجل له اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أي مضموماً إلى مثلها (أو) للشك من الراوي في أنه قال ما ذكر أو قال: (إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا) فالمشكوك فيه زيادة المثل الحادي عشر. وهذا أعلى مما ذكر في الحديث قبله، فلعل من في ذلك مع كونه أدنى يدخلها قبل من في هذا الحديث وإن أعطي أعلى (فيقول أتسخر بي أو) شك من الراوي (تضحك بي) ضمنه معنى تسخر فعداه بالباء. قال القاضي عياض: وقع منه هذا القول وهو غير ضابط لما قال: إذا وله عقله من السرور بما لم يخطر بباله. وقال القرطبي: استخفه الفرح وأدهشه فقال ذلك (وأنت الملك) جملة حالية والملك بفتح فكسر وهو أبلغ من المالك إذ كل ملك مالك ولا عكس (قال) أي: ابن مسعود (فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك) جملة حالية بتقدير قد قبلها وقوله (حتى بدت نواجذه) غاية لضحك فإن غالب ضحكه التبسم، بحيث لا يبدو منه إلا المتبسم، وإذا اقتضى المقام ضحك حتى تبدو النواجذ. وتقدم في باب الأمر بالمحافظة على السنة: أنها الأنياب. وقيل: آخر(8/735)
الجَنَّةِ مَنْزِلَةً" متفق عليه (1) .
1883- وعن أبي موسى - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ لِلمُؤْمِنِ فِي الجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُها في السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلاً. لِلمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضاً" متفق عليه.
"المِيلُ": سِتة آلافِ ذِراعٍ (2) .
1884- وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ في الجَنَّةِ شَجَرَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأضراس وهو ضرس الحلم. وقيل الأضراس كلها وقيل ما بين الضرس والناب، وقيل غير ذلك مما تقدم بعضه (فكان يقول ذلك أدنى أهل الجنة منزلة) أي: من أدنى ولا ينافيه قوله "أدنى" لأن الأدنى متفاوت في الرتبة، أو أن هذا مقول على وجه التضعيف، وذاك مجزوم به فذاك مقدم عليه (متفق عليه) .
1883- (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن للمؤمن في الجنة لخيمة) بفتح المعجمة وسكون التحتية. قال المصنف: بيت مربع من بيوت الأعراب (من لؤلؤة) بهمزتين واللام مضمومة فيهما (واحدة) تأكيد لمدلول التاء من الوحدة (مجوفة) هكذا في عامة نسخ مسلم بالفاء. قال القاضي عياض: ورواه السمرقندي بالموحدة وهي المثقوبة وهى بمعنى المجوفة (طولها في السماء ستون ميلاً) وفي أخرى لمسلم عرضها ستون ميلاً.
قال: المصنف: ولا معارضة بينهما فعرضها في مساحة أرضها وطولها في السماء أي: في العلو متساويان (للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم) أي بعض لأهلين (بعضاً) إما لمزيد سعتها وكمال تباعد ما بينهم، وإما بستر ذلك عن الآخرين لحكمة تقتضيه (متفق عليه) رواه مسلم بهذا اللفظ (الميل ستة آلاف ذراع) هو ما جرى عليه بعضهم، والذي عليه الفقهاء في باب صلاة المسافر أنه ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة.
1884- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة شجرة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار وفي التوحيد، (11/386) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: آخر أهل النار خروجاً، (الحديث: 308) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق باب صفة الجنة وفي تفسير الرحمن وفي التوحيد (9/479) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في صفة قيام الجنة وما للمؤمنين ... ، (الحديث 23) .(8/736)
يَسِيرُ الرَّاكبُ الجَوَادَ المُضَمَّرَ السَّريعَ مِئَةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُها" متفق عليه (1) .
وروياه في الصحيحين أيضاً من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مئةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُها" (2) .
1885- وعنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَرَاءوْنَ أَهْلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يسير الراكب الجواد) مفعول به للراكب وهو بفتح الجيم وتخفيف الواو الفرس يقال: جاد الفرس إذا صار فائقاً والجمع جياد وأجواد (المضمر) بضم الميم الأولى وتشديد الثانية وهو: أن يعلق الفرس حتى يسمن ويقوى، ثم يقلل العلف بقدر القوت، ويدخل بيتاً ويغشى بالجلال حتى يحمى فيعرق، فإذا جف عرقها خف لحمها، قويت على الجري قال المصنف: قال القاضي عياض: ورواه بعضهم المضمر بكسر الميم الثانية صفة للراكب المضمر لفرسه والمعروف (هو الأول السريع) وصف آخر للجواد أي: السريع المشي (مائة سنة) منصوب على الظرفية ليسير (ما يقطعها) من كمال كبرها وشدة اتساعها (متفق عليه) ورواه من حديثه أحمد والترمذي (وروياه في الصحيحين أيضاً) وكذا رواه الترمذي وابن ماجه (من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها) ورواه أحمد والبخاري والترمذي من حديث أنس، باللفظ المذكور، لكن أبدل السنة بالعام ولا النافية بما. ثم المراد بالظل النعيم والراحة والجنة كما يقال عز ظليل وأنا في ظلك أي: كنفك أي: فقوله في ظلها أن نعيمها وراحتها. وقيل: معناه ناحيتها فأشار به إلى امتدادها ومنه قولهم أنا في ظلك أي: ناحيتك. قال: القرطبي والمحوج إلى هذا التأويل أن الظل في عرف أهل الدنيا ما يقي من حر الشمس وأذاها، وليس في الجنة شمس ولا أذى. وقيل: ظلها أي: ما يستر أغصانها. وقال الراغب: الظل أعم من الفيء فإنه يقال لظل الليل وظل الجنة وكل موضع لا تصل إليه الشمس ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس قال: ويعبر بالظل عن العز والنعمة والرفاهية والحراسة. ويقال عن نضارة العيش ظل ظليل.
1885- (وعنه) أي: أبي سعيد وكذا رواه عنه أحمد ورواه الترمذى من حديث أبي هريرة
(عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أهل الجنة ليتراءون) بالهمزة قبلها ألف لينة ولمسلم يرون (أهل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، (11/366 و6/233) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب "الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ... ، (الحديث: 6 و8) .(8/737)
الغُرَفِ مِن فَوْقِهِمْ كَمَا تَرَاءوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُق مِنَ المَشْرِقِ أو المَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ" قالُوا: يا رسول الله؛ تِلْكَ مَنَازِلُ الأنبياء لاَ يَبْلُغُها غَيْرُهُمْ قال: "بَلَى والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الغرف من فوقهم) في محل الحال أو الصفة من أهل لأن أل في المضاف إليه المعرف بإضافته إلى ما دخلت عليه صاحب الحال جنسية (كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب) أي: أهل الجنة متفاوتو المنازل بحسب درجاتهم في الفضل، حتى إن أهل الدرجات العلى ليراهم من هو أسفل منهم كالنجوم كما قال: التفاضل ما بينهم) وتقدم ضبط الدري وما فيه من اللغات في الباب والغابر بالمعجمة والموحدة كذا للأكثر، ورواه في الموطأ بالتحتية بدل الموحدة كأنه الداخل في الغروب. وفي رواية الأصيلي العابز بالمهملة والزاي قال عياض: معناه الذي يبعد الغروب، وقيل: معناه الغائب، ولكن لا يحسن هنا لأن المراد بعده عن الأرض كبعد غرف أهل الجنة عن بعضها في رأي العين. والرواية الأولى هي المشهورة. ومعنى الغابر الذاهب وقد فسره بقوله في الحديث: "من المشرق إلى المغرب". قال القرطبي: شبه رؤية الرائي في الجنة صاحب الغرفة برؤية الرائي الكوكب المضيء الباقي في جانب الشرق والغرب في الاستضاءة مع البعد وفائدة ذكر المشرق والمغرب بيان الرفعة وشدة البعد، والمراد بالأفق السماء. وفي رواية لمسلم من الأفق من المشرق والمغرب، قال القرطبي: الأولى لابتداء الغاية وهي الظرفية والثانية مبينة لها (قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم) يحتمل الإِخبار بحسب ما عندهم ويحتمل الاستفهام بتقدير همزته (قال: بلى والذي نفسي بيده رجال) بالرفع أي: أهلها رجال فحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه ثم الخبر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقدره بعضهم، هم الرجال أي: تلك المنازل منازل رجال اهـ. ولا يخفى ما بين كلامه أولاً وآخراً (آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) ثم قوله بلى قال القرطبي: هي جواب وتصديق ومقتضى المقام أن يكون الجواب بالإضراب عن الأول وإيجاب الثاني، فلعلها كانت بلى فغيرت بل. وحكى ابن التين إن في رواية أبي ذر بل ويمكن توجيه بل بان التقدير نعم هي منازل الأنبياء بإيجاب الله تعالى لهم ذلك ولكن قد يتفضل على غيرهم بالوصول لتلك المنازل. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون بلى جواب النفي في قوله "لا يبلغها غيرهم" فكأنه قال: بلى يبلغها رجال غيرهم. وقوله صدقوا المرسلين أي: حق تصديقهم وإلا لكان كل من آمن بالله وصدق رسوله وصل إلى تلك الدرجة وليس كذلك ويحتمل أن يكون تنكير رجال للإِشارة إلى ناس مخصوصين موصوفين بالصيغة المذكورة،(8/738)
متفق عليه (1) .
1886- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَقَابُ قَوْسٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أو تَغْرُبُ" متفق عليه (2) .
1887- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ في الجَنَّةِ سُوقاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يلزم أن يكون كل من اتصف بها كذلك، لاحتمال أن يكون لمن بلغ تلك المنازل صفة أخرى، وكأنه سكت عن الصفة التي اقتضت لهم ذلك، والسرّ فيه أنه قد يبلغها من له عمل مخصوص ومن لا عمل له كان بلوغه إنما هو برحمة الله تعالى. قال الدراوردي: يعني أنهم يبلغون هذه المنازل التي وصفت، وأما منازل الأنبياء فإنها فوق ذلك واعترض بأنه جاء في رواية عند أحمد والترمذي قال: بلى والذي نفسي بيده أقوام آمنوا بالله ورسوله بالواو فدل على أن المعنى كما حكاه ابن التين أنهم يبلغون درجات الأنبياء. ويحتمل أن يقال إن الغرف المذكورة لهذه الأمة وأما من دونهم فهم الموحدون من غيرهم أو أصحاب الغرف دخلوا الجنة من أول وهلة ومن دونهم دخل الجنة بالشفاعة ويؤيد الذي قبله قوله في صفتهم هم الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وتصديق جميعهم إنما يتحقق لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف من قبلهم من الأمم وإن كان فيهم من صدق لمن سيجيء بعده فهو بطريق التوقع لا بطريق الواقع اهـ. ملخصاً من الفتح (متفق عليه) .
1886- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقاب قوس) بالقاف والموحدة أي: قدر ما بين المقبض والسية من القوس ولكل قوس قابان. (في الجنة) في محل الصفة أو الحال من قاب لتخصيصه بالإِضافة (خير مما تطلع عليه الشمس أو) شك من الراوي (تغرب) ويحتمل أن كون أو فيه بمعنى الواو فيكون الجمع بينهما إطناباً تأكيداً لبيان فضل الجنة (متفق عليه) .
1887- (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة سوقا) قال
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة الجنة (6/233، 234) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة ... ، باب: ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يرى الكوكب في السماء، (الحديث: 11) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وفي تفسير سورة الواقعة (6/11) .
وهذا الحديث مما انفرد به البخاري.(8/739)
يَأتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ. فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو في وُجُوهِهِم وَثِيَابِهِمْ، فَيَزدَادُونَ حُسناً وَجَمَالاً فَيَرْجِعُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ، وَقَد ازْدَادُوا حُسْناً وَجَمَالاً، فَيقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللهِ لقدِ ازْدَدْتُمْ حُسْناً وَجَمَالاً! فَيقُولُونَ: وَأنْتُمْ وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمالاً". رواه مسلم (1) .
1888- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَراءونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصنف: المراد بالسوق هنا مجتمع لهم يجتمعون كما يجتمع الناس في الدنيا في أسواقها أي: يعرض فيه الأشياء على أهلها فيأخذ كل منهم ما أراد (يأتونها كل جمعة) أي: في قدر ذلك: وهل المراد قدر جمعة من جمع الدنيا أو من جمع الآخرة، الأول أبلغ في الإِكرام، ثم رأيت المصنف قال أي: في مقدار كل جمعة أي: أسبوع لفقد الشمس والليل والنهار اهـ. وهو موافق لما ذكرته (فنهب) بضم الهاء أي فتهيج (ريح الشمال) بفتح الشين والميم بغير همز هكذا الرواية قال صاحب العين: الشمال والشمأل باسكان الميم مهموز أو الشأمل بهمزة قبل الميم والشمل بغير ألف والشمول بفتح الشين وضم الميم وهي التي من دبر القبلة قال القاضي: وخص ريح الجنة بالشمال لأن ريح المطر عند العرب كانت تهب من جهة الشام، وبها يأتي سحاب المطر وكانوا يرجون السحابة الشامية. وجاء في الحديث تسمية هذه الريح المثيرة أي: المحركة لأنها تثير في وجوههم ما تثيره من مسك الجنة وغيره من نعيمها اهـ. (فتحثو في وجوههم وثيابهم) أي: حذف المفعول للتعميم ولتذهب النفس في تعين ما يحثي به كل مذهب (فيزدادون حسناً وجمالاً) أي: بذلك (فيرجعون إلى أهليهم) جمع تصحيح لأهل على خلاف القياس فيه إذ مفرده ليس علماً ولا صفة ولا يجعله قياساً إلا أحدهما (وقد ازدادوا حسناً وجمالاً) مطاوع زاد المتعدي لاثنين وعطف الجمال على الحسن من عطف الخاص على العام. قال في المصباح: قال سيبويه: الجمال رقة الحسن، والأصل جماله بالهاء مثل صجح صباحة، لكنهم حذفوا الهاء تخفيفاً لكثرة الاستعمال (فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً رواه مسلم) .
1888- (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أهل الجنة ليتراءون
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة ... ، باب: في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال، (الحديث: 13) .(8/740)
الغُرَفَ فِي الجَنَّةِ كَمَا تَتَرَاءونَ الكَوكَبَ فِي السَّمَاءِ" متفق عليه (1) .
1889- وعنه - رضي الله عنه -، قال: شَهِدْتُ مِنَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مَجْلِساً وَصَفَ فِيهِ الجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ في آخِرِ حَدِيثِهِ: "فيهَا مَا لاَ عَينٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ" ثُمَّ قَرَأَ: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ) إلى قوله تعالى: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (2) رواه البخاريُّ (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الغرف) بضم ففتح جمع غرفة بضم فسكون (في الجنة كما تراءون) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً (الكوكب في السماء) هو بمعنى حديث أبي هريرة (4) السابق إلا أن في ذلك أن الترائي لأهل الغرف وفي هذا نفس الغرف وهما متلازمان (متفق عليه) ورواه أحمد.
1889- (وعنه رضي الله عنه قال: شهدت) أي: حضرت (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ظرف للفعل قبله ويصح كونه مستقراً حالاً من قوله (مجلساً) وهو مفعول به للفعل قبله لأنه المشهود لا ما فيه (وصف فيه الجنة حتى انتهى) أي: فرغ من وصفها وهو غاية لمقدر أي واستمر يصفها إلى انتهائه (ثم) هي للترتيب في الإِخبار (قال في آخر حديثه فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت) تقدم أن لا فيهما نافية للجنس نصاً، فهي لاستغراق كل فرد من أفراد المنفي والرفع كما هو الرواية لإِهمالها لتكرارها وإلا فيجوز فيه من حيث صناعة العربية الأوجه في نحو لا حول ولا قوة إلا بالله (ولا خطر على قلب بشر ثم قرأ) شاهداً لما ذكره بقوله فيها الخ ْ (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) لصلاة التهجد (يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) يحتمل الحالية والنصب على العلة والمصدر (ومما رزقناهم ينفقون) فيه إيماء للاقتصاد وترك الإِسراف (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) أي: مما تقربه أعينهم من النعيم الأبدي والفيض السرمدي، الذي يضيق عن بيانه البيان (رواه البخاري) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، (11/366) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة ... ، باب: ترأئي أهل الجنة، أهل الغرف، كما يرى الكوكب فى السماء، (الحديث: 10) .
(2) سورة السجدة، الآيتان: 16، 17.
(3) أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: ... ، (الحديث: 5) .
"لم نجده في البخاري من حديث سهل بن سعد وذكره الشيخ عبد الغني النابلسي في ذخائر المواريث ونسبة لمسلم فقط وهو عند مسلم في أول كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها".
وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: ... ، (الحديث: 2 و3) .
وهذا عن أبو هريرة بنحوه ...
(4) لعله "أبي سعيد" - كتبه علي البلاقي المرموز إليه بحرف. ع.(8/741)
1890- وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
قال: "إذَا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يُنَادِي مُنَادٍ: إنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا، فَلاَ تَمُوتُوا أَبَداً، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا، فلا تَسْقَمُوا أبداً، وإنَّ لَكمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبداً، وإنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا، فَلاَ تَبْأسُوا أَبَداً". رواه مسلم (1) .
1891- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1890- (وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة) أي: تكاملوا فيها ويحتمل أن ذلك مع بقاء العصاة في النار زيادة في تشريف المتقين وكرامتهم (ينادي مناد إن لكم) بكسر الهمزة بإضمار قول وبفتحها مفعول ينادي بإضمار الجار أي: بأن وحذف الجار مع أن وأن وكي المصدريات قياس مطرد (أن تحيوا ولا تموتوا) معطوف على ما قبله مصرح به زيادة مع أن ما قبله يستلزمه تأكيداً ودفعاً له مع توهم أن الموت أصل الحياة لا مع انتفاء ضدها، ولذا قيد نفي الموت بالتأبيد بقوله (أبداً) ثم العدول عن المصدر إلى أن والفعل لعله للدلالة على إمكان الفعل دون وجوبه واستحالته أو للدلالة على تحقق وقوعه. نقله بعض المتأخرين عن صاحب البسيط من النحاة. واعترضه الزركشي في البحر بأن صاحب البسيط إنما فرق بذلك بين المصدر وأن المشددة ومعمولها أورده على كلام البسيط مخالفة لفرع ذكره أصحابنا في الظهار، يدل على أن المصدر كأن ومعمولها في الوقوع. وذكر الزركشي في البحر وجوهاً يفترق فيها المصدر وما بمعناه من أن والفعل (وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تشبوا) بكسر المعجمة (فلا تهرموا أبدا) الهرم هو الحالة الحاصلة عند الكبر، وهو كالموت داء طبعي لا دواء له (وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً) وتبأسوا بفتح الهمزة من البؤس، وهو بضم الموحدة وسكون الهمزة الضر ويجوز التخفيف ويقال بئس كعلم إذا نزل به الضر كذا في المصباح ثم لعل الحكمة في عطف الأخيرات بالفاء دون الأولى بتسبب ما بعد العاطف عما قبله في الجمل الثلاث الأخيرة لا في الأولى (رواه مسلم) .
1891- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أدنى مقعد أحدكم من
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في دوام نعيم أهل الجنة ... ، (الحديث: 22) .(8/742)
الجَنَّةِ أنْ يَقُولَ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى وَيَتَمَنَّى فَيقُولُ لَهُ: هَلْ تَمَنَّيتَ؟ فيقولُ: نَعَمْ، فيقُولُ لَهُ: فَإنَّ لَكَ ما تَمَنَّيتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ". رواه مسلم (1) .
1892- وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله - عز وجل - يَقُولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيقولُونَ: لَبَّيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ في يَديْكَ، فَيقُولُ: هَلْ رَضِيتُم؟ فَيقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبَّنَا وَقَدْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجنة أن يقول) أي: الله أو ملك يأمره (له) أي: للأحد (تمن) من التمني قال في المصباح: تمنيت كذا قيل مأخوذ من المني وهو القدر لأن صاحبه يقدر حصوله والاسم منه المنية والأمنية، وجمع الأولى: مني كغرفة وغرف، وجمع الثانية أماني اهـ. (فيتمنى ويتمنى) الإِتيان بالثاني لبيان تعدد تمنيه وكثرة متمناه فليس القصد منه الثانية فقط بل التكرار والتكثير (فيقول له) أي: الآمر بالتمني أولاً (هل تمنيت) أي: استوفيت ما تتمناه أو الاستفهام تقريري (فيقول نعم فيقول له فإن لك ما تمنيت ومثله معه) يجوز نصب مثله عطف على ما ومعه حال منه وكذا هو مضبوط في أصل مصحح، ويجوز رفعه عطفاً على موضع اسم إن أو مبتدأ والظرف بعده خبر فيكون من عطف الجملة على الخبر. ثم لا مخالفة بين ما في هذا الحديث وما تقدم من حديث المغيرة أن له مثل ملك من ملوك الدنيا وعشرة أمثاله، وما تقدم من حديث ابن مسعود أن له مثل الدنيا وعشرة أمثالها لجواز أن يلهم تمني عشرة أمثال ملك ملك من ملوكها أو لأن ما في هذا الحديث، اطلع عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً، فأخبر به ثم أخبره الله تعالى بزيادة ذلك، مما سكت عنه في هذا الحديث، وهو ما في حديثي المغيرة وابن مسعود فأخبر به والله أعلم (رواه مسلم) .
1892- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز) أي غلب على مراده فلا معقب له فيه (وجل) أي: تنزه عما لا يصح قيامه به (يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك) أي: إجابة بعد ومساعدة بعد مساعدة وهما مثنيان للتكثير والتعدد لا أن المراد بهما معنى المثنى فقط فهما كقوله تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين) (2) ولعل التعبير بالرب في هذا المقام دون لفظ الجلالة، لما تضمنه معناه من التربية والإيصال إلى أوج الكمال، وذلك مدلوله فأوثر لمناسبته لكمالهم الذي وصلوا إليه (والخير
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: معرفة طريق الرؤية، (الحديث: 301) .
(2) سورة الملك، الآية: 4.(8/743)
أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحداً مِنْ خَلْقِكَ، فَيقُولُ: ألاَ أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ فَيقُولُونَ: وَأيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِنْ ذلِكَ؟ فَيقُولُ: أُحِلُّ عَلَيكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَداً". متفق عليه (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في يديك) سكت عن الشر مع أن الكل بيده تنبيهاً على الأدب في خطابه تعالى، إذ لا يضاف إليه إلا الجميل كما أرشد إليه بقوله تعليماً للعباد (أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم) (2) (فيقول هل رضيتم) أي: بما أعطيتم من الكمال في الجنة، الذي لا يعبر عنه لعظمه كما تقدم "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (فيقولون وما لنا) مبتدأ وخبر ظرفي، وجملة (لا نرضى) في محل الحال من الضمير في الظرف قبله (يا ربنا) أعادوه ثانياً تلذذاً بالخطاب، ولعل الإِتيان بحرف النداء هنا وحذفه أولاً للتفنن في التعبير المؤذن بكمال الراحة التي تنشأ عنها عادة التوجه لمثل ذلك بضد حال أهل النار. فلذا أنكر ابن عباس قراءة يا مال بحذف الكاف ترخيماً وقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم. أي: أنه إنما يكون لتحسين اللفظ وتزيينه وذلك إنما ينشأ عن الفراغ والسرور، وهم بخلافه، لكن هذا لكونه بناه على ذلك. وقال غيره: إنه ترخيم من شدة العذاب وإنها منعتهم من إتمام حروف الكلمة (وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك) جملة حالية يحتمل أن تكون مما منه الجملة قبلها فيكونا مترادفين وأن تكون من ضمير ترضى فيكونا متداخلين، والمراد من الضمير المفعول: جميع أهل الجنة من نبي مرسل، وأتباعهم من سائر الموحدين، ولا شبهة في أنهم أعطوا ما لم يعط غيرهم من الخلق. (فيقول ألا) بتخفيف اللام أداة عرض. وفي الإِتيان بها كمال الإِكرام لهم وإنهم وصلوا لرتبة حتى صار يعرض عليهم درج الكمال (أعطيكم أفضل من ذلك) أي: أنفس وأشرف وأعلى مما أعطيتموه (فيقولون) لما استبعدوا وجود ذلك، كما يومىء إليه قولهم ما لم تعط أحداً من خلقك (وأي شيء أفضل من ذلك) أتوا بالظاهر موضع المضمر تأكيداً للتصريح بأفضليته (فيقول أحل) بضم الهمزة وكسر المهملة وتشديد اللام أي: أنزل (عليكم رضواني) بكسر الراء (فلا أسخط عليكم بعده أبداً) الفاء فيه للسببية
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار وفي كتاب التوحيد، باب: كلام الرب مع أهل الجنة، (11/363 و364) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إحلال الرضوان على أهل الجنة ... ، (الحديث:9) .
(2) سورة الفاتحة، الآية: 7.(8/744)
دَعْوَاهُمْ فيها سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) .
الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ النَّبيِّ الأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأزوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كما صَلَّيْتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بتجري أي يهدي (دعواهم) أي دعاءهم حال كونهم (فيها) ودعواهم مبتدأ خبره (سبحانك اللهم) أي: إنا نسبحك تسبيحاً وإنما لم يؤت بالرابط لأن الخبر عين المبتدأ في المعنى أو لأن سبحان علم جنس للتسبيح وإن كان أصل نصبه بتقدير الفعل (وتحيتهم) أي ما يحيي به بعضهم بعضاً أو تحية الملائكة إياهم (فيها سلام) من الله تعالى أو منهم قال الله تعالى سلام قولاً من رب رحيم. وقال تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) (1) (وآخر دعواهم) أي: آخر دعائهم (أن الحمد لله رب العالمين) أي أن يقولوا ذلك ولعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجمال ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله فمجدوه وأثنوا عليه بصفات الاكرام وأن هي المخففة من الثقيلة وقد قرىء بهما وقرىء بنصب الحمد أي على إعلامه فيه مع تحقيقه ثم ختم المصنف رحمه الله تعالى كتابه بما بدأ به من حمد الله سبحانه وتعالى والصلاة والسلام على نبيه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال معقباً للأول لما فيه من الحمد على نعمه وتقدم أنه يثاب عليها ثواب الفرض (الحمد لله الذي هدانا) أي: أرشدنا وأوصلنا (لهذا) المشار إليه ما هم فيه من النعيم المقيم هذا بالنسبة للآية القرآنية وبالنسبة لما نحن فيه المشار إليه تأليف رياض الصالحين (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) حذف خبر لولا اكتفاء بدلالة ما قبله عليه وفيه نص على أن لا مهتدي إلا من هداه مولاه (اللهم (أي يا الله) صل) أي: ارحم الرحمة المقرونة بالتعظيم واجعلها متراسلة (على محمد عبدك) بدأ به لأنه أشرف أوصافه وأسنى نعوته - صلى الله عليه وسلم - (ورسولك) إلى الخلق كافة كما يؤذن به حذف المعمول (النبي) أتى به توطئة إلى الوصف بقوله (الأمي) هو الذي لا يقرأ الكتاب ولا يكتب (وعلى آل محمد) فصل بينه وبين آله بعلي رداً على الشيعة فإنهم يمنعون ذلك وينقلون فيه حديثاً موضوعاً لفظه من فرق بيني وبين آله بعلي لم تنله شفاعتي. وأظهر المضاف إليه اتياناً بالأفصح المتفق
__________
(1) سورة الرعد، الآيتان: 23، 24.(8/747)
عَلَى إبْرَاهِيمَ وعلى آلِ إبْراهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كما بَاركْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إبراهيم في العالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليه وإلا فالصحيح جواز إضافته للضمير كما تقدم وهم بنو هاشم والمطلب أو كل مؤمن تقي والخلاف المتقدم فيه (وأزواجه) جمع زوجة والأفصح حذف التاء في الزوجة وإثباتها لغة ضعيفة كما تقدم التنبيه عليه مراراً وآخره في الباب الأخير وعدة أزواجه المدخول بهن إحدى عشرة توفي منهم اثنتان في حياته والتسع الباقيات توفي عنهن. وقد أفرد لهن المحب الطبري مؤلفاً سماه السمط الثمين في فضائل أمهات المؤمنين (وذريته) تخصيص بعد تعميم فإنهم أولاده ذكوراً وإناثاً وأولاد فاطمة والكل داخلون في الأول دخولاً أولياً فذكرهم كذكر جبريل وميكائيل في قوله تعالى وملائكته ورسله وجبريل وميكال (كما صليت) أي: تجل لنبيك المصطفى المختار بالجمال كما تجليت لإِبراهيم بذلك لأن التجلي بالخلة والمحبة من آثار التجلي بالجمال. فلذا أمرهم - صلى الله عليه وسلم - أن يصلوا عليه كما صلى على إبراهيم ليسألوا له التجلي بالجمال، وهذا لا يقتضي التسوية فيما بينه وبين الخليل عليه الصلاة والسلام لأنه إنما أمرهم أن يسألوا له التجلي بالوصف الذي تجلى به للخليل فالذي يقتضيه الحديث المشاركة في الوصف الذي هو التجلي بالجمال ولا يقتضي التسوية في المقامين ولا في الرتبتين فإن الحق سبحانه يتجلى بالجمال لشخصين بحسب مقامهما وإن اشتركا في وصف التجلي فيتجلى لكل واحد منهما بحسب مقامه عنده وأقربيته منه ومكانته فيتجلى للخليل بالجمال بحسب مقامه ويتجلى لسيدنا محمد بالجمال بحسب مقامه نقله القسطلاني في المواهب عن العارف الرباني أبي محمد المرجاني قال: وهذا هو السر في قوله كما صليت على إبراهيم دون كما صليت على موسى لأن التجلي لموسى كان بالجلال فخرَّ صعقاً بخلافه لإِبراهيم فكان بالجمال (على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) أولاد إسماعيل وإسحاق (وبارك) من البركة وصيغة المبالغة للمبالغة (على محمد النبي الأمي) حذف قوله عبدك ورسولك اكتفاء بذكره في قرينه ايجازاً (وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) ما الأقرب أنها مصدرية فيهما ويجوز كونها موصولاً اسمياً والعائد فيهما محذوف (في العالمين إنك) بكسر الهمزة على الاستئناف ويجوز فتحها بتقدير اللام قبلها (حميد) أي: حامد لأفعال خلقه بإثابتهم عليها جميعاً أو محمود بأقوالهم وأفعالهم (مجيد) أي ماجد وهو الكامل شرفاً وكرماً وهما واجبان لك ولا يسأل هذا المطلب السامي إلا من العظيم(8/748)