من ضبطه بالموحدة وهو تصحيف، ووجه بأن المراد إكبار قبيح فعلهم (قالوا فما) مفعول ثان مقدم لقوله (تأمرنا) ويجوز إعراب ما مبتدأ ويقدر بعد الفعل مفعول، إما صريحاً: أي تأمرناه، أو مع حرف الجر: أي به والفاء فيه جواب شرط مقدر: أي إذا كثر بعدك الخلفاء أو تنازعوا فما تأمرنا نفعل؟ (قال: أوفوا ببيعة الأول) أي بقضيتها من طاعته والانقياد وقتال من بغى عليه وخرج عن طاعته وذلك لانعقاد إمامته لعدم اشتغال الأمر بأحد (ثم أعطوهم حقهم) أي أطيعوهم وعاشروهم بالسمع والطاعة وهو كالبدل من قوله «أوفوا بطاعة الأول» (واسألوا الله الذي لكم) أي عليهم من الرفق بكم والجهد في مصالحكم والنصيحة لكم إذا لم يقوموا به (فإن الله سائلهم عما استرعاهم) هو كحديث ابن عمر السابق في الباب «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» . وفي الحديث تقديم أمر الدين
على أمر الدنيا، لأنه أمر بتوفية حق السلطان لما فيه من إعلاء كلمة الدين وكفّ الفتنة والشرّ وتأخير المرء المطالبة بحقه لا يسقطه. وقد وعده الله أن يخلصه له ويوفيه إياه ولو في الدار الآخرة (متفق عليه) رواه البخاري في ذكر بني إسرائيل أواخر كتاب الأنبياء من «صحيحه» ومسلم في المغازي، ورواه ابن ماجه.
5657 - (وعن عائذ) بالعين المهملة وبعد الألف همزة فذال معجمة (ابن عمرو) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الأمر بالمعروف (أنه دخل على عبيد الله) بضم المهملة وفتح الموحدة مصغراً (ابن زياد) بكسر الزاي وبالتحتية وهو أمير العراقين بعد أبيه (فقال) : أي بفتح الهمزة وسكون التحتيّة حرف لنداء القريب، و (بنى) بصيغة التصغير للتحبب والتحنن يطرد في يائه الكسر دلالة على ياء المتكلم المحذوفة تخفيفاً والفتح والإسكان تخفيفاً، وقد قرىء بهذه اللغات في السبع (إني سمعت رسول الله يقول: إن شرّ الرعاء) بكسر الراء آخره ألف ممدودة جمع راع ويجمع على رعاة بضم أوله بزيادة هاء كقاض وقضاة (الحطمة) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية، قال في «النهاية» : هو العنيف برعاية الإبل في السوق والإيراد(5/119)
والإصدار ويلقى بعضها على بعض ويعسفها، ضربه مثلاً لوالي السوء، ويقال حطم بلا هاء اهـ. وهو مأخوذ من الحطم: وهو الكسر، والمراد منه لفظ القاسي الذي يظلمهم ولا يرق لهم ولا يرحمهم، وهذا آخر الخبر المرفوع، وقوله (فإياك أن تكون منهم) من كلام عائذ نصيحة لابن زياد وأدرجه في آخر الحديث (متفق عليه) فيه أن الحديث إنما أخرجه مسلم في آخر المغازي، وقد رمز له كذلك الحافظ المزي في «الأطراف» ولم يرمز للبخاري، وكذا اقتصر في «الجامع الصغير» على رمز مسلم وزاد: وأخرجه أحمد، وليس فيه رمز للبحاري. وفي التيسير مختصر جامع الأصول للديبع بعد ذكر حديث معقل المذكور آنفاً: أخرجه الشيخان، وفي أخرى لمسلم عن الحسن البصري: أن عائذ بن عبد
الله دخل علة ابن زياد فذكر الحديث، فبان أنه من أفراد مسلم لا من المتفق عليه، وهذا إن يكن من تحريف الكتاب سبق قلم من المصنف.
6658 - (وعن أبي مريم الأزدى) بفتح الهمزة وسكون الزاي، قال الحافظ في «تبصير المنتبه» : هذا هو الأكثر، ويقال في مثله بإبدال الزاي سينا مهملة نسبة إلى الأزد اهـ. وقال ابن الأثير: هو الكندي، ويقال الأزدي، يعد في الشاميين. قيل إنه غير أبي مريم الغساني، وقيل إنه هو، وقد ذكره ابن منده في ترجمة أبي مريم السلولي فقال: أراه الكندي ولا يبعد، فإن السلول قبيلة من كندة. قال الحافظ المزي في «الأطراف» : قيل إن أبا مريم هذا هو عمرو بن مرة الجهني، وقد روى عليّ بن الحكم النسائي عن أبي الحسن الجزري الشامي قال: قال عمرو ابن مرة لمعاوية فذكره قريباً منه اهـ. روى له عن رسول الله هذا الحديث (رضي الله عنه أنه قال لمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله يقول: من ولاه الله شيئاً) أيّ شيء كان كما يؤذن به عمومه بكونه نكرة في سياق النفي (من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم) بفتح المعجمة وتشديد اللام في النهاية: هي الحاجة والفقر فهو من عطف المرادف أو الخاص على العام، وكذا عطف قوله (وفقرهم) والجمع بين الثلاثة إطناب. وقال العاقولي بل بين الثلاثة فرق، فالحاجة ما يهتم به الإنسان وإن لم تبلغ(5/120)
حد الضرورة بحيث لو لم تحصل لاختل أمره، والخلة ما كان فوق ذلك مأخوذ من الخلل ولم يبلغ حد الاضطرار، والفقر هو الاضطرار التام مأخوذ من الفقار كأنه كسر فقاره اهـ. وكأنه باعتبار المراد في الحديث وما أشرنا إليه باعتبار موضوع اللفظ لغة، إذ الفقر مطلق الحاجة وكذا الخلة، والله أعلم. قال العاقولي: المراد باحتجاجه مع أرباب الحاجات من الوصول إليه فيعسر عليهم إنهاؤها (احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره) أي لم يجب له دعاء ولم يحقق له أملاً (يوم القيامة) ظرف لاحتجب الثاني (فجعل
معاوية) أي عقب سماع ذلك منه (رجلاً على حوائج الناس) أي لإيصالها إليه وإبلاغه إياها لتخفّ عنه المؤنة فلا يصعب عليه الأمر (رواه أبو داود) في الخراج من سننه (والترمذي) في الأحكام من «جامعه» .
79 - باب فضل الوالي العادل
عبر بالوالي ليشمل كل ذي ولاية.
(قال الله تعالى) : ( {إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية} ) بالنصب: أي أتم الآية، وبالرفع: أي الآية المعروفة، وبالجرّ على حذف الجار وإبقاء عمله وهذا شاذ (إلى آخرها) وقد سبق الكلام على معناها في الباب قبله.
(وقال تعالى) : ( {وأقسطوا} ) بفتح الهمزة أي اعدلوا من الإقساط: العدل ( {إن الله يحبّ} ) أي يثيب ويوفق ( {المقسطين} ) العادلين.(5/121)
1659 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: سبعة) أي من أصناف الناس فهو مبتدأ سوغ الابتداء به ما أشرنا إليه، وقوله (يظلهم الله في ظله) خبره وقوله (يوم لا ظلّ إلا ظله) ظرف له وهو القيامة (إمام عادل) بالرفع خبر مبتدإ محذوف: أي هم والعطف سابق على الربط، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لمن قال: من هم؟ وذكر الإمام لأنه الأشرف والأفضل العادل يشمله وغيره من الولاة كما تومىء إليه ترجمة المصنف (وشاب نشأ في عبادة الله تعالى) مخلصاً لله سبحانه (ورجل قلبه معلق بالمساجد) فهو من عمارها المشهود لهم بالاهتداء، وتعلق قلبه بها، ليعبد الله تعالى فيها بصلاة واعتكاف ونحو ذلك فلذا قرنة بما قبله (ورجلان تحابا في الله) في تعليلية أي لله لا لغرض ولا لعرض. وفي الحديث «أفضل الحبّ الحبّ في الله» (اجتمعا عليه وتفرقا عليه) جملة صفة بعد صفة للكرة قبلها أو حال منها لتخصيصها بالوصف (ورجل دعته امرأة ذات) صاحبة (منصب) إشارة لغناها (وجمال) إشارة لما يدعو لموافقتها، ومع ذلك كفّ نفسه عنها (فقال إني أخاف الله) أي وخوفه يمنع من المعصية التي منها الزنى فذكر السبب وأراد المسبب (ورجل تصدق بصدقة) هي ما يتبرع به لمحتاج تقرباً إلى الله سبحانه (فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) أي أنه من شدة الإخفاء لو كان بجانبه إنسان نبيه فطن لما فطن بصدقته إلى من عن يمينه (ورجل ذكر الله) أي جلاله وعظمته (خالياً) قيد به لأنه حينئذ أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص وإلا فالمراد البكاء خوفاً من الله مخلصاً له سواء كان في الخلا أو في الملا (ففاضت عيناه) من هيبته وجلاله، أو ذكر نعماء الله عليه وتقصيره في أداء شكرها ففاضت عيناه حياء من الله تعالى (متفق عليه) تقدم تخريجه مع بسط الكلام في شرحه في باب فضل(5/122)
الحبّ في الله تعالى.
2660 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بحذف الياء تخفيفاً وتقدم بيان وجهه مراراً (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: إن المقسطين) أو العادلين (عند الله) عندية شرف ومكانة وهو محتمل لكونه خبر إنّ، وقوله (على منابر من نور) في محل الحال من الضمير المستقر فيه أو خبر بعد خبر، أو هو خبر والظرف قبله حال من الضمير المستقر فيه، ومن نور صفة منابر مخصصة لبيان الحقيقة، ويجوز أن يكون حالاً بعد حال على التداخل. قال العاقولى: هذا يحتمل الحقيقة وهي جمع منبر سمى به لارتفاعه، ويحتمل أن يكون كناية عن المنازل الرفيعة والمراد بذلك كرامتهم ولذا قال عند الله فهو كناية عن ارتفاع شأنهم في معارج القدس (الذين يعدلون في حكمهم في أليهم وما ولوا) صفة المقسطين أو خبر محذوف: أي الممدوحون أو مفعول أمدح مقدراً وفي حكمهم صلة يعدلون وفي أهليهم صلة حكم، ويجوز كونه ظرفاً مستقراً: أي حال كون الحكم كائناً في أهلهم، قال العاقولي: أي إن هذا الفضل إنما هو لذي العدل فيما قلده من دنيوي أو أخروي كلي أو جزئي في أهله وغيره وهو ملخص من كلام المصنف في «شرح مسلم» (رواه مسلم) وأحمد والنسائي، وعندهم زيادة «عن يمين الرحمن» بعد قوله: «من نور» . 9
3661 - (وعن عوف بن مالك) هو الأشجعي كما في «أطراف» المزي (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: خيار) بكسر المعجمة فتحتية مخففة. قال في المصباح جمع خير: ضد الشرّ كسهم وسهام ومنه: خيار المال الكرائم (أتمتكم) بهمزتين وتخفف بقلب الثانية ياء جمع إمام وأصله أأممة علة وزن أفعلة فنقلت الكسرة إلى الساكن قبلها وأدغمت الميم الساكنة في المتحركة (الذين تحبونهم) لحسن سيرتهم فيكم ورفقهم بكم (ويحبونكم) وذلك لأن المحبة رابطة من الجانبين، ولذا عجب من حب زوج بريرة لها وبغضها إياه(5/123)
(وتصلون عليهم) أي تدعون لهم بخير وعدى بعلى لتضمنه معنى الحنو والعطف (ويصلون عليكم) أي يدعون لكم لامتثالكم ما أمر الله بامتثاله واجتنابكم ما نهى الله عنه ويصلون عليكم إذا متم وتصلون عليهم كذلك. قال العاقولي: وإن حمل على الدعاء فحسن. أي تدعون لهم ويدعون لكم وذلك إنما يكون عند التقارب والتآلف والتناصف وكلا المعنيين قريب وكل منهما يلزم الآخر اهـ. وكونه يلزم من كل منهما الآخر في محل المنع، والله أعلم (وشرار أئمتكم) بكسر المعجمة جمع شرّ ضد الخير كما تقدم (الذين تبغضونهم) لشقهم عليكم وعدم رفقهم بكم (ويبغضونكم) كما تقدم في نظيره (وتلعنونهم) أي تدعون عليهم بالبعد من الرحمة لسوء أعمالهم، ولا يلزم منه جواز الدعاء بلعن المعين لأن هذا بيان عادة الناس مع أمراء السوء لا أن ذلك مشروع (ويلعنونكم) مجازاة لما فعلتم معهم (قال قلنا يا رسول الله أفلا ننابدهم) أي أنطيعهم على سوء وصفهم المذكور فلا ننابذهم أي نخالفهم بترك الطاعة لهم (قال لا) أي لا تنابذوهم (ما) مصدرية ظرفية (أقاموا فيكم الصلاة) أي مدة إقامتهم لها فيكم، وفيه دليل تعظيم الصلاة. ويؤخذ منه أن ترك إقامة الصلاة كالكفر البواح لقوله في حديث عبادة «لا إلا أن تروا كفراً بواحاً» وقد تقدم في باب الأمر بالمعروف وكذا تقدم فيه من حديث أم سلمة «قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال
لا ما أقاموا فيكم الصلاة» رواه مسلم، وبه يتبين تفسير ننابذهم في حديث الباب لأن تفسير السنة بالسنة أولى، وفي «المصباح» نابذته الحرب كاشفته إياها وجاهرته بها (رواه مسلم) .
(تصلون عليهم: تدعون لهم) أي بخير كما يدل عليه تعدية دعا باللام وهذا أحد المحتملين في ذلك كما تقدم.
4662 - (وعن عياض بن حمار) بكسر أول كل منهما وهو مهمل وتجفيف التحتية والميم(5/124)
وآخر الأول ضاد معجمة والثاني راء، وقد تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب فضل الاختلاط بالناس (قال: سمعت رسول الله يقول: أهل الجنة ثلاثة) مفهوم العدد غير معتبر عند الأصوليين والاقتصار على ذلك لعله لدعاء المقام حين التكلم إليه، والتمييز محذوف أي ثلاثة أصناف (ذو) أي صاحب (سلطان) أي تسلطن بالولاية في شيء من أمور المسلمين (مقسط) بالرفع صفة ذو أي عادل (موفق) أي لمراضى الله سبحانه وتعالى من امتثال أوامره واجتناب مناهيه، وقد جاء في حديث عبادة «ساعة من الملك العادل تعدل عبادة سبعين سنة من غيره» والتوفيق لغة: جعل الأسباب موافقة للمسببات. وشرعاً خلق قدرة الطاعة في العبد، وقيل خلقها فيه بالفعل (ورجل رحيم) من الرحمة وهي ميل نفساني إلى جانب المرحوم (رقيق القلب) بقافين من الرقة خلاف الغلظ والعنف أي إنه لصفاء قلبه ورحمته اللتين قامتا به خال عن الغلظ والعنف على الخلائق بل يحنو عليهم ويشفق في أحوالهم، وقوله (لكل ذي قربى ومسلم) تنازعه الوصفان قبله، ففيه إيماء إلى صلته للرحم لأن الداعي لها موجود مع فقد المانع فكأنه قال الثاني واصل رحمه فذكر السبب مراداً به المسبب (وعفيف) بالطبع عن السؤال بحسب أصل طبعه (متعفف) مبالغ في ذلك بالاكتساب ففيه إيماء إلى أن الأخلاق غريزية باعتبار أصلها وإنما تزكو وتنمو بالمزاولة (ذو عيال) أي إنه لكمال يقينه ووثوقه بمولاه لتضمنه بأرزاق العباد فضلاً منه لا يسأل أحداً وإن كان قام بسبب السؤال من كثرة
العيال المؤذن بها الإتيان بذي التي هي أبلغ من صاحب وبصيغة جمع الكثرة (رواه مسلم) .
80 - باب وجوب طاعة ولاة الأمر
مفهوم الجمع غير قيد في وجوب الطاعة بل المراد ذي الولاية سواء كان إماماً أو سلطاناً أو ملكاً أو أميراً أو عاملاً (في غير معصية) متعلق بطاعة، والأمر فيما عدا المعصية(5/125)
لتجتمع كلمة المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أحوال الدين والدنيا قاله المصنف (وتحريم طاعاتهم) أي طاعة كل منهم (في المعصية) دخل في شق الوجوب الواجب والمندوب والمباح والمكروه فتجب طاعة أمر ولي الأمر به والثاني قاصر على المحرم صغيرة كانت أو كبيرة.
(قال الله تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} ) ذكر طاعته تعالى تشريفاً لرسوله وإيماء إلى طاعة الرسول طاعة له ( {وأولي الأمر منكم} ) ولعل حكمة إعادة العامل في المعطوف الأول دون الثاني الإيماء إلى مزيد الاهتمام بطاعته والانقياد لأمره لأن ذلك علامة الإيمان قال تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} () الآية. وطاعة ولاة الأمور وإن كانت واجبة أيضاً للآية ولغيرها إلا أنها ليس الإخلال بها مخلا بالإيمان، والله أعلم.
1663 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ قال: على المرء المسلم) أي يجب عليه (السمع والطاعة) أي القبول والانقياد لقول ولي الأمر (فيما أحب) المرء إن كان موافقاً لمراد المأمور أيضاً (وكره) بأن كان مخالفاً لمراده والعائد محذوف إن كانت ما موصولاً إسمياً، فإن أعربتها مصدرية فلا خلاف في حبه وكراهيته والمصدر بمعنى اسم المفعول (إلا أن يؤمر بمعصية) كقتل محترم (فإن أمر بمعصية) أتى به ظاهراً والمقام للضمير زيادة في الإيضاح ورفع الإلباس وبنى الفعل للمجهول ليعم كل آمر من ولي أمر أبوين وغيرهم (فلا سمع ولا طاعة) لبناء الاسمين اشتغراقاً لأفراد كل منهما أي فلا يطلب شيء من هذين حينئذ بوجه بل يحرم ذلك على من كان قادراً على الامتناع وهو نفي بمعنى الخبر أي فلا تسمعوا ولا تطيعوا وهو أبلغ كأنه امتثل وانتفى ما أمر بتركه فأخبر عنه بما يحبر به عن المنفي(5/126)
(متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الفتن، وأخرجه مسلم في كتاب المغازي.
2664 - (وعنه رضي الله عنه قال: كنا إذا بايعنا رسول الله) الإتيان بصيغة المفاعلة لأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم من الله تعالى على يده وباعهم ما أعده الله لهم من نعيم الآخرة (على السمع والطاعة) لولاة الأمر (يقول لنا) ملقنا (فيما استطعتم) أي خصصوا المبايعة بقولكم فيما استطعنا وذلك شفقة منه عليهم ورحمة لئلا يدخل في عموم بيعته ما لا يطيقون وهو نحو قوله «عليكم من الأعمال ما تطيقون» قال العاقولي وفيه إشكال على قولنا يجب إحضار الاستثناء على خاطر المستثنى قبل تمام المستثنى منه. قلت: ولا إشكال ولعلهم أعادوا المبايعة ليقيدوها بذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام ومسلم في آخر المغازي ومداره عندهما على عبد الله بن دينار عن ابن عمرو ورواه الترمذي في السير من «جامعه» وقال حسن صحيح والنسائي في السير وفي البيعة من «سننه» هذا ما ذكره المزي في «أطرافه» ثم الحديث في الصحيحين بضمير الواحد المخاطب وليس فيه ميم الجماعة فلعل ما في نسخ «الرياض» من زيادة الميم من تحريف الكتاب، وإلا فسبق قلم بلا ارتياب.
3665 - (وعنه قال: سمعت رسول الله يقول: من خلع يدا من طاعة) أي خرج عنها بالخروج على الإمام وعدم الانقياد له في غير معصية بأي وجه كان، أطلق خلع اليد وأراد به لازمه وهو إبطال المبايعة بالخروج عن الطاعة مجازاً مرسلاً، قال العاقولي: يكنى بخلع اليد عن نكث العهد لأن المعاهد يضع يده في يد من عاهد غالباً (لقي الله يوم القيامة ولا(5/127)
حجة له) أي لا حجة له يومئذ فيما فعله من نبذ الطاعة ولا عذر له فيه (ومن مات وليس في عنقه بيعة) أي للإمام بالسمع والدخول في طاعته والجملة في محل الحال من فاعل مات قيد له. (مات ميتة جاهلية) هي صفة ميتة أي مات على الضلالة كما يموت أهل الجاهلية عليها من جهة أنهم كانوا لا يدخلون تحت طاعة أمير ويرون ذلك عيباً بل كان ضعيفهم نهباً لقويهم (رواه مسلم) في المغازي من «صحيحه» منفرداً به عن باقي الستة.
(وفي رواية له) أي لمسلم عن ابن عمر مرفوعاً (ومن مات وهو مفارق للجماعة) وهو شامل لعدم المبايعة والدخول في الطاعة ابتداء وللخروج عنها بعد الدخول فيها، والمراد بالجماعة الإمام وجيش الإسلام، ويجوز أن يراد به مفارقة الجماعة في الصلوات كالروافض فإنه لبدعتهم لا يرون الدخول تحت طاعة أئمة الحق والانقياد لهم إلا اضطراراً وتقية (فإنه يموت ميتة جاهلية) أي مات على هيئة موت أهل الجاهلية فإنهم كانوا أفراداً لا إمام يردعهم ولا جماعة تجمعهم، قال المصنف (الميتة بكسر الميم) للنوع والحالة.
4666 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: اسمعوا) ما قال أمراؤكم (وأطيعوا) أي أطيعوهم في غير معصية (وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأنّ رأسه زبيبة) أي أمر عليكم في نحو سرية أو جيش أو كان عاملاً، لا الإمامة العظمى وإن أريد به الإمامة فيكون على ضرب المثل للمبالغة نحو «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت» على سبيل الفرض لا الوقوع قلت أو كان ذلك على سبيل التغلب عليها فإنها تنعقد حينئذ ولو لم يكن جامعاً لشروطها ثم الجملة وصلية قيل معطوفة على مقدر وقيل في محل الحال. وقوله كأن رأسه زبيبة جملة في محل الحال من عبد لتخصيصه بالوصف أو وصف بالجملة بعد الوصف بالمفرد، ومعنى كأنّ رأسه إلخ أي أسود صغير قطط فيكون أبلغ في حقارته (رواه البخاري) في كتاب لصلاة وكتاب «الأحكام» من «صحيحه» ورواه ابن ماجة في «الجهاد» من(5/128)
«سننه» .
5667 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: عليك) اسم فعل مبني الزم (السمع) أي لقول الأمير (والطاعة) له فيما لا معصية فيه لله تعالى (في عسرك ويسرك) بضم أولهما وسكون ثانيهما أي في فقرك وغناك (ومنشطك ومكرهك) بفتح أولهما وثالثهما وسكون ثانيهما. قال القرطبي في المفهم هما مصدران أي ما تحب وما تكره مما هو موافق لنشاطك وهواك أو مخالف له مما ليس معصية فإن كان معصية فلا سمع ولا طاعة للأحاديث المصرحة به المحمول المطلق عن التقييد بذلك على المقيد به (وأثرة عليك) بفتح الهمزة والمثلثة ويقال بضم وبكسر فسكون فيهما لغات ثلاث حكاهن في المشارق قال القرطبي: ورويناه بفتحهما وبضم الهمزة وكلاهما بمعنى وهو كما تقدم اللاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا: أي عليكم الطاعة وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم (رواه مسلم) ورواه أحمد والنسائي كذا في «الجامع الصغير» .
6668 - (وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله في سفر فنزلنا منزلاً) بفتح فسكون فكسر قال في «المصباح» : هو موضع النزول (فمنا من يصلح خباءه) بكسر المعجمة وتخفيف الموحدة بعدها ألف ممدودة: هو ما يعمل من وبر أو صوف، وقد يكون من شعر وجمعه أخبية بغير همز ككساء وأكسية ويكون على عمودين أو ثلاثة وما فوق ذلك فهو بيت، كذا في المصباح (ومنا من ينتضل) بفتح التحتية والفوقية وسكون النون بينهما ثم ضاد معجمة: أي يرمي بالسهام تدرّباً ومداومة (ومنا من هو في جشره إذ) ظرف لـ «كنا» بناء على دلالتها على الحدث كما هو الصحيح (نادى منادي رسول الله الصلاة جامعة) برفعهما مبتدأ وخبر ونصبهما الأول على الإغراء والثاني على الحالية، ورفع الأول(5/129)
مبتدأ محذوف الخبر: أي مدعوّ إليها ونصب الثاني حالاً وعكسه، ونصب الأول على الإغراء ورفع الثاني خبر محذوف: أي هي حاضرة. قال المصنف في «شرح مسلم» : هو بنصب الجزءين: أي من حيث الرواية وما ذكرناه هو من حيث الدراية إن لم تدفعه رواية وإلا فهي المقدمة، قال القرطبي: خبر بمعنى الأمر كأنه قال اجتمعوا للصلاة. قلت: هذا منه يقتضي أنهما مرفوعان، إذ لو نصبا لكان من الطلب لا من الخبر بمعنى الطلب. قال القرطبي: وكأن الوقت كان وقت صلاة، فلما جاءوا معه صلوا معه وسكت الراوي عن ذلك، وإلا فمن المحال أن ينادي منادي الصادق بالصلاة ولا صلاة (فاجتمعنا إلى رسول الله فقال: إنه لم يكن) أي يوجد (نبيّ قبلي) ويصح كونها ناقصة وقبلي صفة للإسم والخبر محذوف: أي متحلياً بشيء من الأحوال، أبدل منه قوله (إلا إن كان حقاً) أي واجباً (عليه) خبر مقدم والإسم (أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم) بضم التحتية من الإنذار (شرّ ما يعلمه لهم) لأن ذلك حكمة الإرسال والبعثة ليسوق العباد إلى نفعهم ويدفع عنهم ضررهم ولأنه من طريق النصيحة والاجتهاد في التبليغ والبيان، والاستثناء كما علم مما قررناه
مفرغ (وإن أمتكم هذه) يعني الأمة المحمدية (جعل عافيتها) أي سلامتها من فتن الدين (في أولها) قال القرطبي: المراد به زمان الخلفاء الثلاثة إلى قتل عثمان فهذه كانت أزمنة اتفاق هذه الأمة واستقامة أمرها وعافية دينها، فلما قتل عثمان هاجت الفتن ولم تزل ولا تزال إلى يوم القيامة، وعليه فأول الآخر ما بعد مقتل عثمان وهو آخر بالنسبة لما قبله من زمن العافية، ويدل له قوله «وأمور تنكرونها» والخطاب للصحابة فدل على أن منهم من يدرك أول ما سماه آخراً وكذلك كان اهـ. قلت: ويحتمل أن يراد بالأول زمن الصحابة والتابعين وبالآخر ما بعدهما وذلك بشهادة قوله «خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم» الحديث، ولحديث «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضواً عليها بالنواجذ» وذلك أن غلبة أشعة الأنوار المحمدية حينئذ مخمدة لسائر ظلمات البدع والشكوك والفتن الدينية (وسيصيب) بالسين لتأكيد تحقيق ما دخلت عليه (آخرها بلاء) بالمد اسم مصدر من الابتلاء ومثله البلية بمعنى المحنة، قاله في المصباح (وأمور تنكرونها) لمخالفتها للشرع، وجملة وسيجيء الخ معطوفة على خبر إن، وجملة (وتجيء فتن يرقق) فيه روايات(5/130)
يأتي بيانها (بعضها بعضاً) يجوز أن تكون مستأنفة لتأكيد ما قبلها من تتابع الفتن وأن تكون معطوفة كالتي قبلها فيقدر رابط: أي وتجيء فيها فتن (وتجيء الفتنة) أي العظيمة في الدين كما يومىء إليه قوله (فيقول المؤمن هذه مهلكتي) بضم الميم وكسر اللام بصيغة اسم الفاعل وإسناد الإهلاك إليها مجازى من الإسناد للسبب (ثم تنكشف) أي تذهب (وتجيء الفتنة) أي غير الأولى، ولا يخالف قاعدة أن المكررين إذا كانا معرفتين أو كان الثاني كذلك كان الثاني عين الأول لأن أل فيه جنسية والمحلى بها نكرة من حيث المعنى، فكأنّ المكررين نكرتان، وإذا تكررت النكرة كان الثاني غير الأول على أن القاعدة أغلبية وإلا فهي مشكلة (فيقول المؤمن هذه هذه) أي هذه الفتنة هي الفتنة
العظمى فهما وإن اتحدا لفظاً تغايرا اعتباراً، وذلك كاف في تغاير المسند والمسند إليه، فاسم الإشارة لتعظيم الأمر وفخامته، ثم فرّع على ذلك قوله (فمن أحبّ أن يخرج نفسه من النار ويدخل الجنة) أي يتسبب في عدم دخوله النار ابتداء مجاوزاً عنها إلى الجنة، فأطلق الخروج مراداً به المباعدة مجازاً مرسلاً: أي أحبّ الخروج منها وعدم التأبيد في العذاب بل الحلول في الجنة: أي أحبّ الموت على الإسلام (فلتأته منيته) بفتح الميم وكسر النون وتشديد التحتية أي الموت كما في «النهاية» (وهو يؤمن بالله واليوم الآخر) جملة حالية من فاعل مات، والمراد ليدم على الإيمان بذلك حتى يأتيه الموت وهو كذلك فهو في الحقيقة أمر بدوام الإيمان، ونظيره قوله تعالى:
{ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران: 102) (وليأت) اللام فيه للأمر وكسرها هو الأصل وتسكن بعد الواو والفاء وثم وهو مضارع أتى مقصوراً أي ليجيء (إلى الناس الذي يحب أن يؤتي) بالبناء للمفعول: أي يجاء (إليه) قال في المصباح: أتى الرجل يأتي أتيا جاء وأتيته، يستعمل لازماً ومتعدياً: أي ليجئهم في الأفعال بما يحبّ أن يأتوه بمثلها. قال المصنف: هذا من جوامع كلمه وبدائع حكمه، وهذه قاعدة ينبغي الاعتناء بها وهي أن الإنسان يلتزم ألا يفعل مع الناس إلا ما يحبّ أن يفعلوه معه. قال القرطبي: وهذا مثل قوله «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» والناس هنا الأئمة والأمراء، فيجب عليه لهم من السمع والطاعة والنصرة والنصيحة ما يجب له عليهم لو كان هو الأمير.(5/131)
قلت: وكأن هذا التخصيص باعتبار سابق الكلام ولو أبقى على العموم وشمل ما ذكره لما كان بعيداً وهو الذي مشى عليه المصنف كما نقلناه عنه (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده) هو كالبيان للبيعة فهو كقولهم توضأ فغسل وجهه الخ فالفاء فيه للترتيب الذكرى، والصفقة بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها قاف: ضرب اليد على اليد وكانت عادة العرب إذا أوجبت ضرب أحدهما على يد صاحبه، ثم استعملت الصفقة في العقد فقيل: بارك الله في صفقة يمينك، كذا في «المصباح» . وقال القرطبي: أصلها الضرب بالكف والكف أو بأصبعين على الكف (وثمرة) بفتح المثلثة (قلبه فليطعه) قال القرطبي: دل على أن البيعة لا يكتفي فيها بمجرّد عقد اللسان بل لا بد من الضرب باليد كما قال تعالى: في أية المبايعة {يد الله فوق أيديهم} (الفتح: 10) لكن ذلك في الرجال فقط وعقد القلب وإلزام البيعة به وترك الغش والخديعة فذلك من أعظم العبادات (إن استطاع) قيد في الأمور: أي يطيعه فيما يطيقه وهذا كما تقدم من تلقينه حال البيعة على السمع والطاعة بقوله «فيما استطعت» (فإن جاء آخر ينازعه) أي خرج عن طاعته ونازعه في الملك (فاضربوا عنق الآخر)
أي إن لم يندفع عن ذلك إلا بذلك فافعلوه ولو بأن تحاربوه وتقاتلوه، ولا ضمان على قاتله حينئذ لأنه ظالم متعدّ في قتاله (رواه مسلم) في المغازي من «صحيحه» وزاد فيه «فقال عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة: فدنوت منه فقلت: أنشدك الله، أأنت سمعت هذا من رسول الله: فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي» والحديث رواه أبو داود في الفتن والنسائي في البيعة وابن ماجه في الفتن، قاله المزي في «الأطراف» .
(وقوله ينتضل) مضارع يفتعل من النضل بالمعجمة (أي يسابق بالرمي بالنبل) بفتح النون وسكون الموحدة: السهام العربية لا واحد لها من لفظها بل الواحد سهم فهي مفردة اللفظ مجموعة المعنى (والنشاب) بضم النون وتشديد المعجمة. قال في «الصحاح» : السهام الواحدة نشابة اهـ، وعليه فهو من عطف العام على الخاص لأن النشابة تعم العربية وغيرها بخلاف النبل (والجشر بفتح الجيم والشين المعجمة وبالراء وهي الدوّاب التي ترعى وتبيت مكانها) وفي(5/132)
«المشارق» للقاضي عياض: الجشر المال يخرج به أربابه في مكانه يمسك فيه. قال الأصمعي: قال جشر إذا كان بمرعاه ولا يأوي أهله، قال غيره: وأصله أن الجشر نقل الربيع، وقال أبو عبيدة: الجشر الذين يثبتون مكانهم لا يرجعون إلى بيوتهم، وبه يعلم أن المصنف تبع قول الأصمعي كما أن قول «النهاية» : الجشر قوم يخرجون بدولبهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم ولا يأوون إلى البيوت اهـ تابع لأبي عبيدة (وقوله يرقق بعضها بعضاً) روى بوجوه أحدها ما اقتصر عليه المصنف هنا، وقال في «شرح مسلم» : إنه الذي نقله عن جمهور الرواة يرقق بضم التحتية وفتح الراء وبقافين (أي يصير بعضها بعضاً رقيقاً: أي خفيفاً لعظم ما بعده فالثاني يجعل الأول رقيقاً) الأنسب فالبعض يجعل البعض ليشمل ما إذا كان الثاني أشد وهو ما ذكره المصنف والعكس (وقيل يسوق بعضها بعضاً بتحسينها وتسويلها) هو ما اقتصر عليه القرطبي في المفهم فقال: ورواه أكثر الرواة بالراء المفتوحة والقاف الأولى مكسورة: أي يسبب بعضها بعضاً، ويشير إليه كما في المثل: عن صبوح ترقق، ويزحزح عن النار: أي ينحى عنها ويؤخر منها. قال المصنف في «شرح مسلم» : وقيل معناه يشبه بعضها بعضاً، وقيل يدور بعضها في بعض ويذهب ويجىء به، قال: والثاني من جوه رواياته بفتح التحتية وسكون الراء ضم الفاء بعدها قاف. والثالث يدقق بدال بدل الراء والفاء ومكسورة وبالقاف: أي يدفع ويصب. والدفق: الصب. قال القرطبي: وهذه
رواية الطبري عن الفارسي، قال: ومعناه يدفق: أي يدفع أي إن الفتن كموج البحر الذي يدفق بعضه بعضاً، قال: وشبه المؤمن فيها بالعائم الغريق بين الأمواج فإذا أقبلت عليه موجة قال هذه مهلكتي. ثم تروح عنه تلك فتأتيه أخرى فيقول هذه هذه: أي التي تغرق إلى أن يغرق بالكلية، وهذا تشبيه واقع اهـ.(5/133)
7669ـ (وعن أبي هنيدة) بضم الهاء وفتح النون وسكون التحتية بعدها دال مهملة ثم هاء ويقال بلا هاء (وائل) بالهمزة بعد الألف (ابن حجر) بضم المهملة وسكون الجيم آخره راء ابن ربيعة بن يعمر الحضرمي (رضي الله عنه) كذا قال ابن عبد البر، وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: وائل بن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل بن ضمعج بن وائل بن ربيعة بن وائل بن النعمان بن زيد. قال: وقيل غير ذلك، كان من ملوك حمير ويقال للملك منهم قيل بفتح القاف وسكون التحتية جمعه أقيال وكان أبوه من ملوكهم. وفد على رسول الله وكان بشر أصحابه قبل قدومه بأيام وقال «يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت طائعاً راغباً في الله وفي رسول الله وهو بقية الأقيال» فلما دخل عليه رحب به وأدناه من نفسه وبسط له رداءه وأجلسه إليه مع نفسه وقال اللهم بارك في وائل وولده، وأصعده معه على المنبر وأثنى عليه واستعمله على بلاده وأقطعه أرضاً وأسل معه معاوية بن أبي سفيان وقال أعطه إياها، روى له عن رسول الله أحد وسبعون حديثاً روى مسلم منها ستة ولم يرو البخاري له شيئاً، نزل الكوفة وعاش إلى أيام معاوية ووفد عليه فأجلسه معه على السرير وشهد مع علي صفين وكانت معه راية حضرموت اهـ. من «التهذيب» للمصنف (قال: سأل سلمة) بفتح أوليه (ابن يزيد) بفتح التحتية وكسر الزاي وسكون التحتية الثانية ابن مشجعة بن المجمع بن مالك بن كعب بن سعد بن عوف بن حريم بضم المهملة وفتح الراء ابن جعفي (الجعفي) بضم الجيم وسكون المهملة بعدها فاء نسبة لجده المذكور، وما ذكره المصنف
في اسمه أحد قولين فيهز قال ابن عبد البر: اختلف الشعبي وأصحاب سماك في اسمه، فقبل سلمة بن يزيد وقيل يزيد بن سلمة (رسول الله فقال: يا رسول الله أرأيت) بفتح الفوقية أي أخبرني (إن قامت علينا أمراء يسألونا) كذا في الأصول من «الرياض» و «صحيح مسلم» بنون واحدة هي نون الضمير وحذف نون الرفع من الأفعال الخمسة. قال المصنف في «شرح مسلم» لغة وهذا منها والجملة صفة: أي أمراء طالبون (حقهم) أي من السمع والطاعة (ويمنعونا حقنا) من العطاء والاهتمام بمصالحنا والنصيحة في أمرنا (فما تأمرنا) أي فأي شيء تأمرنا (فأعرض عنه) لما(5/134)
رأى من المصلحة في ذلك، أو لينتظر الوحي به (ثم سأله فقال رسول الله: اسمعوا وأطيعوا) أي أعطوهم ما لهم وإن لم يعطوكم ما لكم (فإنما عليهم ما حملوا) من المأثم وإثمهم لا يمنع من أدائهم معهم ما عليهم من الحق (وعليكم ما حملتم) أي فلا يمنعكم من أداء ما عليكم تفريطهم بعدم أداء ما لكم (رواه مسلم) في المغازي ورواه الترمذي في الفتن.
8670 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله إنها) ضمير القصة (ستكون بعدي أثرة) أي استئثار من ولاة الأمر بالأموال على المسلمين المستحقين فيها فيفضل غيركم عليكم في الفيء أو الغنيمة وغيرها وتقدم ضبطه أثرة قريباً (وأمور تنكرونها) أي لقبحها شرعاً، وقد ظهر ما أخبر عنه كما أخبر فهو من جملة معجزاته (قالوا: يا رسول الله: كيف تأمرنا) أي أيّ حال تأمرنا أن تكون عليها حينئذ؟ (قال تؤدون) بحذف المفعول الأول أي تعطونهم (الحق) أي الواجب (الذي عليكم) من السمع والطاعة (وتسألون الله لكم) أي تسألونه أن يوصل إليكم حقكم بأن يلهم الأئمة ذلك أو يوجد من يفعل ذلك لكم منهم ويولى من ينصفكم، وهو دليل على عدم التعرض للأئمة وإن جاروا والاعتماد على مكافأة الله تعالى (متفق عليه) أخرجه البخاري في علامات النبوة ومسلم في المغازي ورواه الترمذي في الفتن من جامعه وقال حسن صحيح.
9671 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من أطاعني فقد أطاع الله)(5/135)
قال الله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء: 80) (ومن عصاني) وأعرض عما أمرت به وخالف ما نهيت عنه (فقد عصى الله) قال الله تعالى: {ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} أي ومن تولى بالإعراض {فما أرسلناك عليهم حفيظاً إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} فالآية والحديث من واد واحد (ومن يطع الأمير) عند مسلم «أميري» (فقد أطاعني ومن يعص الأمير) فيما أمر مما ليس معصية لله (فقد عصاني) لأن رسول الله صلى بطاعته فيما ليس كذلك فطاعته طاعة للرسول ونهى عن معصيته كذلك فمعصيته معصية للرسول (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام ومسلم في المغازي، وعند البخاري في الجهاد من طريق لآخر من حديث أبي هريرة «من أطاعني فقد أطاع الله من أطاع الأمير فقد أطاعني وإنما الإمام جنة» .
10672 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول قال: من كره من أميره شيئاً) دنيوياً كان كاستئثار عليه وظلم له أو دينياً كأن فسق بعد عدالته فلا ينعزل الإمام الأعظم بفسقه، نعم إن كفر انعزل بكفره كما تقدم من حديث «إلا أن تروا كفراً بواحاً» فمن رأى ما لا ينعزل به الإمام مما يكرهه (فليصبر) أي بعدم الخروج على الأمير، أما الإنكار عليه بمراتبه إذا لم يؤد إلى شق العصا والخروج عليه، فمطلوب الحديث «أفضل الشهداء حمزة ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله» (فإنه) الضمير فيه للشأن والجملة بعد تفسير وذلك تعليل للأمر بالصبر على ما يكرهه (من خرج من السلطان) أي من طاعته (شبراً) كناية عن القلة أي وإن كان الخروج يسيراً كأن بعد عنها لو كانت محسوسة قدر شبر (مات ميتة) بكسر الميم (جاهلية) فإنهم كما تقدم شأنهم عدم الائتمار(5/136)
للأمير بل ضعيفهم نهب للكبير (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام ومسلم في المغازي.
11673 - (وعن أبي بكرة) نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: من أهان السلطان) مستخفاً بشأنه غير سامع ولا مطيع لأمره وأل فيه للاستغراق: أي كل ذي سلطنة وولاية لشيء من أمور المسلمين (أهانه الله) أي في الدنيا بالذل لسعيه في إذلال من أعزه الله وفي الآخرة لعصيانه مولاه سبحانه بالعذاب المهين إن لم يعف الله عنه (رواه الترمذي) وقال حديث حسن.
(وفي الباب) أي وجوب طاعة الإمام في غير معصية (أحاديث كثيرة في الصحيح) المراد منه ما يشمل الصحيحين وإن كان الغالب انصرافه لصحيح الحافظ البخاري لأن المحلي بأل عند الإطلاق ينصرف للفرد الكامل وهو أصح من مسلم كما تقدم أوّل الكتاب (وقد سبق بعضها في أبواب) فليتنبه مريد ذلك لها وليطلبها منه.
81 - باب النهي عن سؤال الإمارة
مصدر مضاف لمفعوله: أي طلبه من الإمام الإمارة (واختيار الولايات) عطف على سؤال (إذا لم يتعين عليه) بأن لم يكن ثم متأهل للإمارة سواه بشهادة العقلاء من أولى الحل والعقد وإلا فيجب عليه حينئذ سؤالها واختيارها (و) إذا (لم تدع حاجته إليها) أي عند عدم التعين: أي وما لم تدعه الحاجة للاسترزاق بالعمل، ولا كسب لائق في ذلك فله الطلب حينئذ، وإن لم يكن متعيناً دفعاً للحاجة.
(قال الله تعالى) ( {تلك} ) أتى باسم الإشارة(5/137)
الموضوع للبعد إيماء لفخامتها وعلوّ رتبتها ( {الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً} ) تكبراً واستكباراً ( {في الأرض ولا فساداً} ) عملاً بالمعاصي ( {والعاقبة} ) الحسنى ( {للمتقين} ) عن معاصيه، والآية تقدم الكلام في معناها في باب تحريم الكبر والإعحاب.
1674 - (وعن أبي سعيد عبد الرحمن بن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم ابن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف كذا نسبه ابن عبد البر والبخاري في آخرين، وزاد مصعب والزبير في نسبه ربيعة بعد حبيب، قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: الصحيح الأول وهو قرشى عبشمي المكي ثم البصري (رضي الله عنه) أسلم يوم الفتح وصحب النبي، كان اسمه عبد الكعبة وقيل عبد كلال فسماه رسول الله عبد الرحمن، سكن البصرة وغزا خراسان في زمن عثمان، وفتح سجستان سنة ثلاث وثلاثين، روى له عن رسول الله أربعة عشر حديثاً، اتفقا على حديث وانفرد مسلم بحديثين، توفي سنة خمسين وقيل سنة إحدى وخمسين بالبصرة، وقيل توفي بمرو، وإنه أوّل من دفن بها من الصحابة والصحيح الأوّل. كان متواضعاً، فإذا وقع المطر لبس البرنس وأخذ المسحاة وكنس الطريق (قال: قال لي رسول الله لا تسأل الإمارة) يحتمل صدوره منه بعد أن سأل منه أن يوليه عملاً فيكون كحديث أبي موسى الآتي، ويحتمل أن النبيّ منه أنه جاء لذلك باطلاع الله على ما في قلبه فقال ذلك، قال القرطبي: والنهي ظاهره التحريم ويدل عليه ظاهر قوله بعد: إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو حرص عليه لما سيأتي فيه، والكلام في السؤال الممنوع كما علم من الترجمة، والإمارة بكسر الهمزة ويقال الإمرة بالكسر أيضاً: هي الولاية، قاله في المصباح، وعلل النهي بقوله على سبيل اللاستئناف البياني (فإنك إن أعطيتها) بالبناء للمفعول وترك ذكر الفاعل للعلم به حقيقة أي أعطاكها الله ولعدم التعيين باعتبار الصورة: أي أعطاكها ذو الإمامة العظمى (من غير مسألة) منك لها (أعلنت عليها) بالبناء للمجهول: أي أعانك الله تعالى بالتسديد والتوفيق للصواب. قال المهلب: جاء تفسير(5/138)
الإعانة عليها في حديث أنس رفعه «من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله له ملكاً يسدده» أخرجه ابن المنذر، قال في «فتح الباري» : وأخرجه أبو
داود والترمذي وابن ماجه، وأخرجه الحاكم من الطريق التي اتفق عليها الثلاثة على إخراج الحديث منها وصححه. وتعقب بأن ابن معين لين خيثمة، وضعف عبد الأعلى وكذا قال الجمهور في عبد الأعلى وهو الثعلبي إنه ليس بقوي، قال المهلب: وفي معنى الإكراه أن يدعي إليه فلا يرى نفسه أهلاً لذلك هيبة له وخوفاً من الوقوع في المحذور فإنه يعان عليه إذا دخل فيه ويسدد، والأصل فيه أن من تواضع لله رفعه الله (وإن أعطيتها عن مسألة) أي سؤال (وكلت إليها) بضم الواو وكسر الكاف مخففاً ومشدداً وسكون اللام، ومعنى المخففة صرفت إليها ومن كل إلى نفسه هلك، ومعنى وكله بالتشديد استحفظه: أي من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته من أجل حرصه عليها. قال في «فتح الباري» : من المعلوم أن كل ولاية لا تخلو من المشقة، فمن لم يكن له من الله إعانة تورط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلاً، بل إذا كان كامناً وأعطيها من غير مسألة فقد وعده الصادق بالإعانة ولا يخفي ما جاء فيه من الفضل (وإذا حلفت على يمين) أي بها أو على محلوفها (فرأيت) أي علمت (غيرها خيراً منها) لحسن ثمرة ذلك الغير (فأت الذي هو خير) أي أفعله وإن حلفت على تركه (وكفر عن يمينك) فيه تأخير الكفارة عن الحنث وهو أفضل وهذه رواية مسلم. وعند البخاري في الأيمان والأحكام بلفظ «فكفر عن يمينك أئت الذي هو خير» قال الشرّاح: والعبارة للتحفة للشيخ زكريا، الواو لا تقتضي الترتيب فيجوز تقديم التكفير على إتيان المحلوف عليه وإن كان تأخيره أفضل، واستثنى الشافعي هذه الجملة لما قبلها أن الممتنع من الإمارة قد يؤدي به الحال إلى الحلف على عدم القبول مع كون المصلحة فيها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأيمان والأحكام، ومسلم في الأيمان والنذور، ورواه أبو داود في الخراج مقتصراً على قصة الإمارة فقط من(5/139)
«سننه» والترمذي في النذور والأيمان من «جامعه» وقال: حسن صحيح، والنسائي قصة
الإمارة فقط في القضاء والسير وقصة اليمين في الأيمان والنذور.
2675 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يأبا ذر إني أراك ضعيفاً) أي عن القيام بوظائف الولايات فتعجز عن تنفيذ أمورها ورعاية حقوقها (وإني أحبّ) أي أرضى (لك ما أحبّ) العائد محذوف أي ما أحبه (لنفسي) وهذا تلطف من النبيّ وتحريض على سماع قوله (ولا تأمرن) بفتح الهمزة والميم المشددة وإحدى التاءين محذوفة من أوله أي لا تتأمرن (على اثنين) أي لا تصيرن حاكماً بينهما وأميراً عليهما (ولا تولين) بفتح أوليه مع تشديد ثالثه: أي لا تتولين وهو بإثباتهما في نسخة من «المشارق» ، قال ابن مالك: هو من الولي: أي القرب أي لا تقربنّ (مال يتيم) أي سواء كان من أقربائك أو بعيداً منك وسواء كان ذكراً أو أنثى والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن الاستيلاء عليه (رواه مسلم) في المغازي وأبو داود والنسائي في الوصايا من «سننهما» .
3676 - (وعنه) أي أبي ذرّ (قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني) أي تصيرني عاملاً كاستحجر الطين إذا صار حجراً (فضرب بيده على منكبي) بوزن مسجد وهو مجتمع رأس العضد والكتف، سمى بذلك لأنه يعتمد عليه كذا في «المصباح» ، ثم هو بتخفيف الموحدة كأنه فعل ذلك به ليتنبه من سنة غمرة طلبه لذلك وتوهمه في نفسه الاستعداد له (ثم قال: يأبا ذرّ إنك ضعيف) أي عن القيام بالإمارة ووظائف العمل، قال القرطبي: ووجه ضعفه عنها أن الغالب عليه كان الزهادة واحتقار الدنيا والإعراض عنها، ومن كان كذلك لم يعتن بمصالح الدنيا ولا بأموالها، وبمراعاتها تنظم مصالح الدين ويتم أمره، وقد أفرط أبو ذرّ في الزهد حتى أفتى بتحريم جمع المال وإن أديت زكاته، فلما علم منه ذلك نصحه ونهاه عن الإمارة وولاية مال الأيتام (وإنها) أي الإمارة (أمانة) أي في الدنيا: أي ائتمان من(5/140)
المولى لذلك المولى على رعيته، فمن لم يفرط في حقها ولم يخن فيها برىء من عهدتها وضده بضده (وإنها يوم القيامة) ظرف (خزي) أي فضيحة قبيحة وذلك لمن لم يؤد في الأمانة حقها ولا قام للرعية بمستحقها (وندامة) على تقلده لذلك مع تفريطه فيها، فالذم محمول على الأهل للولاية إذ لم يعدل فيها، أو على غير الأهل، أما الأهل لها إذا وليها وعدل فيها فله فضل عظيم وأجر جسيم، وهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله. قال القرطبي: وهو مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وإلى الجانب الأخير أشار بقوله (إلا من أخذها) أي الإمارة (بحقها) أي بأن كان متأهلاً لها (وأدى الذي عليه فيها) من نشر ألوية العدل وبسط بساط الإنصاف والرفق وعدم الاعتساف، ثم قال العاقولي: الاستثناء منقطع: أي هي خزى وندامة لكن من أخذها بحقها لم تكن خزيا عليه. قلت: ولا يتعين انقطاعه فيجوز كونه متصلاً: أي أن الإمارة كذلك إلا إذا كانت مأخوذة بالحق مقاماً فيها بالعدل.
قال المصنف: ومع فضل العدل لكن خطر الولاية كثير فلذا حذره منها، وكذا حذر العلماء وامتنع منها خلائق من السلف وصبروا على الأذى حين امتنعوا. وقال العاقولي: الحديث أصل عظيم في اجتناب الولاية فإنه لا يفي الوصل بالصد (رواه مسلم) في المغازي.
4677 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال) من جملة معجزاته من الإخبار عن المغيب قبل وقوعه فوقع كما أخبر (إنكم ستحرصون) بكسر الراء ويجوز فتحها أكد باسمية الجملة وتصديرها بإن وتقدير القسم قبلها والإتيان بحرف الاستقبال، كأنه لما يومي إليه حال زهدهم حينئذ في الدنيا وإعراضهم عنها من استبعاد طلبهم لها فضلاً عن الحرص عليها فعوملوا معاملة المنكر (على الإمارة) بطلبها وهو شامل للإمارة الكبرى والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد (وستكون ندامة يوم القيامة) أي لمن لم يكن من أهلها ولم يقم بحقها، إذ المطلق محمول على المقيد وكونه حذف ذلك هنا تنفيراً عنها وتبعيداً منها لما تقدم فيما قبله (رواه البخاري) في الأحكام ورواه النسائي في القضاء وفي البيعة وفي(5/141)
التفسير.
82 - باب حث بفتح المهملة وتشديد المثلثة أي تحريض (السلطان) أي ذي السلطنة سواء فيه الإمام ومن دونه (والقاضي) أي من يقضي بين الناس بالأحكام الشرعية (وغيرهما من ولاة الأمور) من الشرطيين وولاة الأخبار وقوله (على اتخاذ وزير صالح) متعلق بحثّ والوزير مأخوذ من الوزر الثقل لأنه يحمل على الملك ثقل التدبير وجمعه وزراء، والمراد بصلاحه إقامة العدل وإعانته عليه (وتحذيرهم من قرناء السوء) وذلك لأن المرء على دين خليله كما جاء في الحديث (و) تحذيرهم من (القبول منهم) وذلك لأن قبول إشاراتهم تحرّضهم على السعي في الفساد.
(قال الله تعالى) : ( {الأخلاء} ) جمع خليل كنبيّ وأنبياء ( {يومئذ} ) أي يوم القيامة وهو ظرف لقوله ( {بعضهم لبعض عدوّ} ) أي معاد والفصل بالمبتدأ غير مانع والجملة خبر قوله الأخلاء (إلا المتقين) فإن محبتهم تبقى يومئذ ولا تزول.
1678 - (وعن أبي سعيد) الخدري (وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ما بعث الله من نبي) من مزيدة لتأكيد العموم المستفاد من النكرة في سياق النفي (ولا استخلف من خليفة إلا كانت) أي وجدت (له بطانتان) بكسر الوحدة خلاف الظهارة وبطانة الرجل صاحب سره والمراد بها هنا الداعي، قال المحب الطبري: البطانة الأولياء والأصفياء وهو مصدر وضع موضع الإسم يصدق على الواحد والمذكر وفروعهما (بطانة تأمره بالمعروف) أي ما عرف واستحسن شرعاً من نشر ألوية العدل وبسط الإنصاف وإقامة الشرائع في رعاياه (وتحضه) بفتح الفوقية وضم المهملة وتشديد الضاد المعجمة أي يحمله (عليه وبطانة(5/142)
تأمره بالشرّ) أي تدعوه إليه (وتحضه) أي تحرضه (عليه والمعصوم من عصم الله) قال الشيخ أكمل الدين: أراد به نفسه لأنه بين في حديث آخر أن كل واحد وكل به قرينه من الجنة وقرينه من الملائكة إلا أن الله تعالى أعان نبينا فأسلم قرينه من الجن ولم يبق له داع إلى الشرّ اهـ «أقول» إن أريد من العصمة منع الوقوع في الذنب مع استحالته فهو كما قال من قصر الأمر عليه إذ لا عصمة لأحد من الأمة، وإن أريد منها الحفظ من الذنب مع جواز الوقوع فيه فلا اختصاص به، والمراد من قوله والمعصوم من عصم الله، إما المنع من الوسواس ابتداء بمنع قرينه من ذلك وإن كان باقياً على كفره والله على كل شيء قدير، أو عدم قراره في نفسه، ومثله غير مؤاخذ بذلك لحديث «إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل» أو صرف نفسه عن العمل بقضية ذلك الوسواس والله أعلم، وقريب منه على الوجه الثاني حديث عائشة الآتي بعده وهذا بناء عى أن المراد بالبطانة القرين
والملك وقد بين. قال ابن التين: ويحتمل أن يكون المراد بهما ذلك. ويحتمل أن يكون الوزيرين، وقال الكرماني: يحتمل أن يراد بهما النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوّامة المحرّضة على الخير، إذ لكل منهما قوة ملكية وقوة حيوانية اهـ. قال في فتح الباري: والحمل على الجميع أولى إلا أنه جائز ألا يكون لبعضهم إلا البعض (رواه البخاري) في كتاب القدر والأحكام من «صحيحه» ، ورواه النسائي في البيعة وفي السير من «سننه» .
2679 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: إذا أراد الله بالأمير خيراً) أورده في فتح الباري بلفظ «من ولي منكم عملاً فأراد الله به خيراً» والباقي سواء وأورده في «الجامع الصغير» كما أورده المصنف، وتنكير خيراً للتعظيم فيشمل الخاص والعام، وذلك لأن من أعطى ذلك وفق لخيري الدارين، وفسر الخير بالجنة (جعل له وزير صدق) في القول والفعل والظاهر والباطن وأضافه إلى الصدق لأنه الأساس في الصحبة وغيرها، وقال الطيبي: أصله وزير صادق ثم وزير صدق على الوصف به ذهاباً إلى أنه نفس الصدق مخبراً(5/143)
عنه به، ثم أضيف لمزيد الاختصاص، والمراد من الوزير فيه الصاحب المؤازر (إن نسي) ما يحتاج إليه أو ضلّ عنه من حكم شرعي أو قضية مظلوم أو مصالح لرعية (ذكره) وهداه (وإن ذكر) ذلك (أعانه) عليه بالرأي والقول والفعل. وأدب الوزارة وما يتأكد عليه فعله مذكور في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وفي كتاب سراج الملوك للطرطوشي وغيرهما من كتب السياسة (وإذا أراد به غير ذلك) الخير بأن أراد به شرّاً. وعبر عنه بما ذكر إيماء إلى الترحيض على اجتناب الشرّ لأنه إذا اجتنب ذكر اسمه لبشاعته وشناعته فلان يجتنب المسمى به أولى، والإتبان فيه باسم الإشارة الموضوع للبعيد تعظيم للخير وإعلاء لرتبته تحضيضاً على طلبه والسعي في تحصيله (جعل له وزير سوء) بضم السين المهملة وفتحها، والمراد وزير سوء في القول والفعل نظير ما سبق في ضده (إن نسي) أي ترك مالاً بد منه (لم يذكره) به لأنه ليس عنده من النور القلبي ما يحمله على ذلك (وإن ذكر لم يعنه) بل يسعى في صرفه عنه لشرارة طبعه وسوء صنعه (رواه أبو داود بإسناد جيد) ورواه البيهقي أيضاً، قال السيوطي في «شرح التقريب» نقلا عن الحافظ بن حجر: في أثناء كلام وهذا يدل على أن ابن الصلاح يرى التسوية بين الجيد والصحيح، وكذا قال البلقيني بعد أن نقل ذلك، ومن ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها عن الصحة، وكذا قال
غيره: لا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم إلا أن الجهبذ منهم لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته، ويتردد في بلوغه الصحة، فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيح، قال وكذا القوى اهـ. فلذا قال المصنف في السند: إنه (على شرط مسلم) أي برجال روى عنهم مسلم في «صحيحه» ، وإلا فالصحيحان ليس لهما شرط ولا لأحدهما شرط مصرح به في شيء من كتابيهما.
83 - باب النهي عن تولية الإمارة
بكسر الهمزة: الولاية على العباد بإمارة (والقضاء وغيرهما من الولايات) كأن يكون(5/144)
شرطياً أو مقدم جيش أو عاملاً على عمل، وقوله (لمن سألها) أي التولية وإن لم يحرص عليها متعلق بتولية (أو حرص عليها) أي وإن لم يسألها: أي إذا علم الإمام ذلك من شأنه أو مقاله كما قال (فعرض) بالتشديد: أي حرص عليها بالتعريض (بها) وذلك كأن يمدح الولايات ويتمنى الأعمال.
1 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبيّ أنا ورجلان من بني عمي) أي من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن شمالي (فقال أحدهما يا رسول الله أمرنا) بتشديد الميم: أي صيرنا أمراء (على بعض ما ولاك الله عزّ وجل، وقال الآخر مثل ذلك) أي كلفظ صاحبه فكنى عنه بما ذكر اختصاراً (فقال) أي النبي مؤكداً لامتناعه لهما ولمثلهما (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص) من باب ضرب (عليه) وذلك لأن سؤاله لذلك وحرصه عليه يشعر أنه لم يسع في ذلك لنفع الإسلام والمسلمين وإنما سعى لنفع نفسه لجمع الدنيا وتكثيرها له، وفي ذلك إفساد لأمر الناس دنيا وأخرى وإهلاك له (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين وفي كتاب الأحكام من «صحيحه» ، ومسلم في المغازي.(5/145)
1 - كتاب الأدب
تقدم تعريفه أول الكتاب بأنه استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً. قال الحافظ: وعبر عنه بعضهم بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق وقيل: الوقوف مع المستحسنات. وقيل تعظيم من وفقك والرفق بمن دونك، ويقال إنه مأخوذ من المأدبة: وهي الدعوة إلى الطعام، سمى بذلك لأنه يدعي إليه، وقد أفرده بالتأليف الحافظ البخاري وهو كما قال الحافظ: كتاب كثير الفائدة.
84 - باب الحياء
بالمهملة والتحية وبالمد كما سيأتي تعريفه آخر الباب (وفضله والحث) أي التحريض (على التخلق به) أي وإن كان فيه كلفة ومشقة كما يدل عليه صيغة التفعل.
1681 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء) أي يذكر له ما يترتب على ملازمته من الفساد، وفي تعليلية. وقد جاء عند البخاري في أبواب الأدب يقول: إنك تستحي حتى كأنه يقول قد أضرّبك، قال الحافظ بن حجر: ولم أقف على اسم الرجل ولا اسم أخيه (فقال رسول الله دعه) أي على فعل الحياء وكف عن نهيه عنه، قال المصنف: ووقعت لفظة دعه عند البخاري ولم تقع في مسلم (فإن الحياء من الإيمان) أي من شعبه كما سيأتي في حديث أبي هريرة «والحياء شعبة(5/146)
من الإيمان» قال المصنف: وإنما جعل من الإيمان وإن كان غريزة لأنه قد يكون تخلقاً واكتساباً أعمال البر، وقد يكون غريزة ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية علم فهو من الإيمان لهذا ولكونه باعثاً على أفعال البر مانعاً من المعصية (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الإيمان والأدب من «صحيحه» ، ورواه مسلم في كتاب الإيمان.
2682 - (وعن عمران بن حصين) بضم المهملة الأولى مصغراً (ورضي الله عنهما قال: قال رسول الله: الحياء) بالمد: أي الاستحياء (لا يأتي إلا بخير) فإنه يمنع لكونه مؤدياً لحياة القلب بنور الإيمان عن مزاولة المخالفة ومحاولة العصيان. قال الواحدي: الاستحياء من الحياة واستحياء الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع العيب قال: والحياء من قوة الحسّ ولطفه وقوة الحياة (متفق عليه) رواه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، ومسلم في الإيمان.
(وفي رواية لمسلم) في كتاب الإيمان من حديث عمران المذكور (الحياء خير كله، أو) شك من الراوي (قال الحياء كله خير) والشك في تأخير خير قال: عن التأكيد لفظاً، وإلا فخير خبر الحياء في الروايتين، وكل تأكيد الحياء على المختار مع منع تأكيد النكرة كما قال البصريون، وعلى ما أجاز الكوفيون من تأكيدها فتكون الروايتان مختلفتين في ذلك فعلى الأول هو تأكيد الخير ويكون كقول الشاعر:
يا ليت عدة حول كله رجب
وعلى الثاني تأكيد الحياء. قال المصنف: كونه خيراً أو لا يأتي إلا بخير، يشكل على بعض الناس من حيث أن(5/147)
صاحب الحياء قد يمتنع عن أن يواجه بالحق من يستحي منه فيترك إنكار المنكر عليه وأمره بالمعروف، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة. والجوب ما أجاب به ابن الصلاح وغيره من أن ذلك المانع ليس حياء حقيقياً بل صورياً وإنما هو عجز وخور ومهانة، وتسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازاً لمشابهته الحياء الحقيقي، وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحو هذا، ويدل عليه ما ذكرنا عن الجنيد أي مما يأتي اهـ.
3683 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: الإيمان بضع وسبعون أو) شك من الراوي وهو سهل كذا قاله البيهقي نقله عنه المصنف (بضع وستون شعبة) أي جزءاً وخصلة وتقدم بيانها في باب الدلالة على كثرة طرق الخيرات حينما ذكر المصنف هذا الحديث (فأفضلها) الفاء فيه للتفصيل أو فصيحة: أي إذا عرفت ذلك وأردت معرفة تفاوت رتبها (فأفضلها) أي أكثرها ثواباً وأعلاها عند الله سبحانه مكانة (قول لا إله إلا الله) يحتمل أن يراد مع قرينتها وهي محمد رسول الله، فذلك كناية عن مجموع الشهادتين كما يدل عليه قول المصنف الآتي نقلاً عن عياض في توجيه أفضليتها بقوله الذي لا يصح شيء من الشعب إلا بعده، ويحتمل أن يراد هي فقط لشرفها وعظم مفادها من الدلالة على توحيد الباري الذي هو حكمة إرسال الرسل (وأدناها) أي أقلها ثواباً أو أنزلها مرتبة (إماطة) بكسر الهمزة وبالطاء المهملة أي إزالة (الأذى) ما يؤذي المارة من حجر أو شوك أو عظم أو نحو ذلك كما سيأتي في كلامه (عن الطريق) وذلك لما فيه من نفع المارة ودفع ضررهم ودفع ما يؤذيهم (والحياء شعبة) أي خصلة (من الإيمان) ثم الإيمان شرعاً هو التصديق القلبي بكل ما علم بالضرورة مجيء الرسول به مع النطق اللساني للقادر عليه وظواهر الشرع كهذا الحديث يطلقه على الأعمال، والمراد أنها من كمال الإيمان وتمامه فإنه بالطاعات يتم ويكمل التصديق فالتزام الطاعات وضم هذه الشعب من جملة التصديق ودلائل عليه وأنها خلق أهل التصديق فلست خارجة عن اسم الإيمان الشرعي ولا اللغوي. وقد نبه على أن أفضلها التوحيد المتعين على كل أحد الذي لا يصح شيء من الشعب إلا بعد صحته،(5/148)
وأدناها ما يتوقع ضرره بالمسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم، وبقي بين هذين الطرفين أعداد لو تكلف المجتهد في تحصيلها بغلبة الظن لأمكنه، وقد فعل ذلك من تقدم، وفي الحكم بأن مراد النبي صعوبة، ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها ولا يقدح جهل ذلك في
الإيمان، إذ أصول الإيمان معلومة محققة، والإيمان بأن هذا العدد واجب في الجملة هذا كلام القاضي ونقله عنه المصنف (متفق عليه. البضع بكسر الباء) الموحدة (ويجوز فتحها) وبسكون الضاد المعجمة وبالعين المهملة (وهو من الثلاثة إلى العشرة) وقيل ما بينهما وصدّر به في «شرح مسلم» ، وقال الخليل: البضع سبع، وقيل ما بين اثنين إلى عشرة، وقيل ما بين اثني عشر إلى عشرين ولا يقال في اثني عشر. قلت: وهذا هو القول الأشهر (والشعبة) بضم المعجمة وسكون المهملة بعدها موحدة (القطعة والخصلة) بفتح الخاء المعجمة من عطف الرديف (والإماطة) بكسر الهمزة وبالطاء (الإزالة) وهما مصدراً أماط وأزال (الأذى) بفتح أوليه وبالقصر (وما يؤذي كحجر) فإنه يدق قدم الماشي وقد يدميه (وشوك) اسم جنس واحده شوكة، والمراد ما قطع شجره عن طريق المارة أو إزالة ما يوجد من أعواده وأجزائه في الطريق، فإنه ربما مع قوة المشي ينغرز في الرجل إلى حيث يصعب إخراجه (وطين) لأنه يلوث الرجل. وقد جعل الفقهاء من أعذار صلاة الجماعة الوحل بالمهملة لذلك (ورماد) لأنه لنعومته تعمل فيه الريح فيدخل في الخياشيم ويحصل به التأذي (وقذر) بفتح أوليه: أي ما يستقذر طاهراً كان كالقمائم والأوساخ الطاهرة الملقاة بالطرق وضررها يضيق الطريق، أو النجسة كالعذرة وضررها ظاهر (ونحو ذلك) من سائر المؤذيات ولا حاجة إليه بعد تصدير المثل بالكاف المؤذنة بعدم الانحصار.
4684 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله أشدّ حياء) منصوب على التمييز (من العذراء) بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة وبالراء ثم ألف(5/149)
ممدودة: البكر سميت به لبقاء عذرتها: أي جلدة بكارتها (في خدرها) يكسر الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة: ستر تجعله البكر في جنب البيت: أي أشد حياء من البكر حال اختلائها بالزوج الذي لم تعرفه قبل واستحيائها منه، وليس المراد حال انفرادها في الخدر فإنها حينئذ لا حياء عندها ثمة إذ ليس ثمة من تستحي منه، وهذا آخر الحديث عند البخاري في الأدب من صحيحه، وزاد مسلم حيث أورده في باب فضائل النبيّ (فإذا رأى شيئاً) التنكير فيه للتعميم ليشمل القليل والكثير والجليل والحقير (يكرهه) أي طبعاً (عرفناه في وجهه) أي عرفنا الكراهية له في وجهه: أي أنه لا يتكلم لحيائه بل يتغير وجهه فنفهم نحن كراهته لذلك (متفق عليه) .
(قال العلماء حقيقة الحياء) أن تعريفه (خلق) بضمتين وتسكين ثانية تخفيفاً (يبعث) الإسناد مجازي من باب الإسناد للسبب: أي يبعث الله: أي يحمل به (على ترك القبيح) من الأقوال والأفعال والأخلاق وحذف المعمول إرادة للتعميم (ويمنع) صاحبه (من التقصير) أل فيه بدل من الضمير: أي من تقصيره (في حق ذي) أي صاحب (الحق) وذلك أنه ملكة راسخة للنفس توزعها على إيفاء الحقوق وترك القطيعة والعقوق.
(وروينا) بفتح مع تخفيف ثانية أشهر من ضم أوله وكسر ثانيه مشدداً ومخففاً، وإن اقتصر على الأخير الكازروني في شرح الأربعين وجعله من باب الحذف والإيصال قال: أي روى لنا سماعاً أو قراءة إلى آخر أنواع التحمل وعلى التشديد، فالمعنى: صيرونا أشياخاً بما رواه لنا (عن الإمام) هو في الأصل كل من يقتدي به ولو في الشرّ، ثم غلب على المقتدي به في الخير فقط (أبي القاسم الجنيد) بضم الجيم وفتح النون وسكون التحتية ابن محمد الزجاج كان أبوه يبيع الزجاج فلذا يقال له القواريري، أصله من نهاوند ومولده ومنشؤه بالعراق، وكان فقيهاً يفتى على مذهب أبي ثور صاحب الشافعي وراوي مذهبه القديم، وكان من كبار أئمة القوم وساداتهم وكلامه مقبول على جميع الألسنة، مات رحمه الله تعالى يوم السبت سنة سبع وتسعين ومائتين، وقبره ببغداد ظاهر يزوره الخاص والعام (قال: الحياء رؤية الآلاء) بالمد جمع إلا بكسر الهمزة والقصر، وقد فسر المصنف الآلاء بقوله (أي النعماء) أي رؤية العبد نعماء مولاه السابغة عليه بمحض فضله مع استغنائه عنه وعن سائر الخليقة (ورؤية التقصير) أي مع ما يراه من تقصيره في أداء خدمة مولاه وإعراضه عن حضرته مع كمال فاقته وفقره إليه (فيتولد) أي يتحصل (بينهما) أي النظرين المذكورين (حالة) الأولى(5/150)
حال لأن الأفصح تذكير لفظها وتأنيث معناها فحال حسنة أفصح من حال حسن وحالة حسنة (تسمى حباء) ما ذكر تفسيراً للحياء المذكور في الحديث أورده المصنف، وإلا فكتابه هذا مجرد لذكر الآيات والأحاديث ومنبع يسير من تفسير غريب الأحاديث (والله الموفق) .
85 - باب حفظ السر
بكسر السين المهملة: أي ما يسر ويخفي من الأمور (قال الله تعالى) : ( {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً} ) أي عنه فيكون من باب الحذف والإيصال أو من المجاز في الإسناد أو مسئولاً هو هل وفيّ به أم لا؟ فيكون كقوله تعالى: {وإذا المؤودة سئلت أي ذنب قتلت؟} (التكوير: 8، 9) تبكينا لصاحب الذنب وفاعله، وذكرت الآية في هذه الترجمة لأنه مما يعتاد التعاهد على كتمانه إما لفظاً أو بقرينة الحال.
1685 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من أشرّ الناس عند الله) حال من قوله (منزلة) وكان في الأصل صفة له فلما تقدم أعرب حالاً، وقوله (يوم القيامة) ظرف للأشرّية المدلول عليها (الرجل) أل فيه للجنس (يفضى) بضم التحتية من الإفضاء وهو مباشرة البشرة وهو هنا كناية عن الجماع (إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرّها) ويذكر تفاصيل ما يقع حال الجماع وقبله من مقدماته، والحديث يقتضي كون(5/151)
فعل ذلك كبيرة للوعيد المذكور فيه (رواه مسلم) في النكاح من صحيحه.
2686 - (وعن عبد الله بن عمر رضي اللَّه عنهما أنّ عمر رضي الله عنه حين) ظرف لقال الآتي بعد: أي قال وقت (تأيمت بنته حفصة) أي من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب النبي فتوفي بالمدينة، وهذا كله عند البخاري في حديث الباب حذفه المصنف لعدم تعلق غرض الترجمة به، فعلم أن تأيمها منه كان بموته وكان ذلك من جراحة أصابته بأحد. وذكر الدارقطني أنه كان طلقها، نقله عنه ابن النحوي ولكونه مات من جراحة أصابته بأحد يحمل قول من قال تزوج حفصة بعد ثلاثين شهراً من الهجرة، وعلى الأول يحمل رواية رواية من روي أنه تزوج بها بعد سنتين عقب بدر. % وخنيس بضم المعجمة وفتح النون وسكون التحتية آخره سين مهملة، وكان معمر بن راشد يصحفه فيقوله بالمهملة فالموحدة فالمعجمة آخره ابن حذافة بمهملة فمعجمة ابن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ القرشي السهمي وهو أخو عبد الله بن حذافة، كان من السابقين إلى الإسلام وهاجر إلى أرض الحبشة (قال: لقيت عثمان بن عفان) أي بعد موت زوجته رقية بنت سيدنا رسول الله (فعرضت عليه حفصة) ففيه عرض الإنسان بنته على أهل الخير كما ترجم به البخاري (فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر) ففيه التفات على رأي السكاكى وأتى به حضاً على القبول: أي بنت عمر وأنت تعلم شأنه وحسن خلطته (فقال: سأنظر في أمري) أي أفكر في شأني هل أتزوج الآن أو أؤخر ذلك (فلبثت) بكسر الموحدة أي أقمت منتظراً له (ليالي) بالنصب على الظرفية (ثم لقيني فقال: قد بدا) بالألف اللينة: أي ظهر (لي أن لا أتزوج يومي هذا) أراد به مطلق الزمن: أي في زمني هذا، وأتى به لدفع توهم إرادته التبتل والانقطاع عن التزوج المنهى عنه (فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر فصمت) هو لكونه ترك(5/152)
الكلام عن قصد ولداع له أخص من السكوت (أبو بكر فلم يرجع) بفتح التحتية مضارع رجع المتعدي ومنه قوله تعالى:
{فإن رجعك الله} أي لم يردد (إليّ شيئاً) من القبول والإعراض بالصريح أو التعريض أو غيرهما (فكنت أوجد) أي أشد موجدة: أي غضباً (عليه منى على عثمان) وذلك لأن عثمان حصل منه الجواب وأما الصديق فتركه أصلاً (فلبثت ليالي ثم خطبها النبي فأنكحتها إياه) هذه الجملة هي الباعثة لذكر خلف وابن عساكر الحديث في مسند عمر نبه عليه ابن النحوي في شرح البخاري (فلقيني أبو بكر) أي بعد تمام الترويج (فقال: لعلك) هي فيه للإشفاق وأتى به اعتماداً على حسن خلق عمر وأنه لا يغضب لذلك، ولكن جواز الغضب منه يحسب الطبع فقال له ذلك (وجدت) أي غضبت (على) بتشديد الياء (حين) بالفتح المحتمل لكونه حركة إعراب إذ هي منصوبة على الظرفية ولكونه حركة بناء لأنه ظرف مضاف لجملة صدرها مبني وهي (عرضت عليّ حفصة فلم أرجع) بفتح الهمزة (إليك شيئاً فقلت نعم) إخباراً بالوقوع وعملاً بالصدق وإعراضاً عن المواربة (قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أني كنت علمت أن النبيّ ذكرها) أي مريداً التزوج بها، ولعله كان بحضرة الصديق دون غيره فرأى أن ذلك من السرّ الذي لا يباح فلذا قال (فلم أكن لأفشي) بضم الهمزة: أي أظهر (سرّ رسول الله) أي ما أسره إليّ وذكره لي (ولو تركها النبيّ) بالإعراض عنها (لقبلتها) بكسر الموحدة. فيه أنه يحرم خطبة من ذكرها النبي على من علم به وكتم السر، والمبالغة في إخفائه وعدم التكلم فيما قد يخشى منه أن يجرّ إلى شيء منه، وأن من ذكرها ثم أعرض عنها لا يحرم التزوج بها إذ ليست من أزواجه، وهذه الجملة المذكورة عن الصديق عن النبي، ذكر الحميدي وأبو مسعود الحديث في «مسند أبي بكر» ، ولما أخرجه الطبراني في مسند أبي بكر قال: قد أخرجت الأئمة من عهد أحمد بن حنبل إلى زمننا هذا الحديث في مسند الصديق أنه ذكرها (رواه البخاري) في المغازي والنكاح من(5/153)
«صحيحه» .
(تأيمت) بفتح الفوقية والهمزة وتشديد التحتية والتفعل فيه للصيرورة كما أشار إليه المصنف بقوله (أي صارت بلا زوج) الأنسب لبيان الاشتقاق: أي صارت أيما: أي بلا زوج، وما أفهمه قوله صارت من أن الأيم خاص بمن فورقت عن الزوج غير مراد، ففي المصباح الأيم: العزب رجلاً كان أو امرأة، قال الصغاني: سواء تزوج من قبل أم لا (وكان زوجها) خنيس (توفي رضي الله عنه) في التاريخ السابق و (وجدت) بفتح أوليه معناه (غضبت) بفتح فكسر ومصدره موجدة، وهذا الفعل نختلف مصادره باختلاف المراد منه فيقال وجده وجداناً بالكسر ووجوداً، وفي لغة لبني عامر يجده بضم الجيم ولا نظير له في المثال والضمة عارضة فلذا لم تعد الواو المحذوفة لوقوعها بين حرف مضارعة مفتوح وحرف مكسور ووجدت الضالة أجدها وجداناً أيضاً ووجدت في المال وجدا بالضم والكسر لغة، وجدة أيضاً ووجدت به في الحزن وجداً بالفتح اهـ ملخصاً من «المصباح» .
3687 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت كنّ) بضم الكاف وتشديد النون حرف أتى به لجماعة النسوة والفاعل (أزواج النبيّ) فهو على لغة أكلوني البراغيث (عنده، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي) جملة حالية (ما تخطىء مشيتها من مشية رسول الله شيئاً) يجوز أن تعرب الجملة حالاً من ضمير تمشي فتكون متداخلة، أو من فاعل أقبلت فتكون مترادفة، ويجوز أن تكون جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً عن سؤال كيفية مشيها، والمشية بكسر الميم في الموضعين لبيان الهيئة، وشيئاً منصوب على المفعول المطلق: أي شيئاً من المشية أو المفعول به: أي من الأحوال (فلما رآها) أي أبصرها رحب بتشديد المهملة بها: أي بادرها بالترحيب وفسر ذلك بقوله (قال: مرحبا بابنتي) وعدى بالباء لأنه قدّر اشتقاقه من رحبت بك الدار بضم العين ومعنى مرحبا بك نزلت مكاناً رحباً واسعاً بها (ثم أجلسها عن يمينه أو) شك من الراوي (شماله) بكسر الشين وأتى بثم لتراخي الإجلاس(5/154)
عن ابتداء وقوع النظر عليها حال إقبالها أو أنه استعيرت ثم مكان الفاء (ثم سارّها) لعل ما أومت إليه «ثم» من التراخي نظراً إلى أنه قدم قبل ذلك مؤانستها بأنواع من الإكرام وشريف الكلام لئلا يتلقاها بذلك أول ما قدمت عليه وتشرفت بجلوسها بين يديه، والمفاعلة يحتمل أن تكون على بابها ويحتمل أن تكون للمبالغة: أي أخفى الأمر لها مبالغاً في إخفائه عن سواها، ويؤيده كتمها له عن عائشة لما استفسرتها عنه (فبكت بكاء شديداً) لما في ذلك من عظيم المصاب وشدة الهول. وفيه قالت آخراً:
صبت عليّ مصائب لو أنها
صبت على الأيام صرن ليالياً
رضي الله عنها وعنا بها (فلما رأى) أي أبصر (جزعها) بفتح أوليه مصدر جزع الرجل من باب تعب إذا ضعف متنه عن حمل ما نزل به ولم يجد صبراً كذا في المصباح (سارّها) المسارة (الثانية) فهو مفعول مطلق ويجوز إعرابه ظرفاً خبراً لما لحقها وجرياً على ما يبدو من ألطاف المولى سبحانه وتعالى من تعقيب الكسر بالجبر والحزن بالفرح والعسر باليسر (فضحكت فقلت لها) لنسألها عما رأته من آثار الجزع (خصك رسول الله من بين نسائه بالسرار) بكسر أوله مضارع فاعل أيضاً (ثم أنت تبكين) أي ما في ذلك من التكرير، والتخصيص يقتضي الشغل به عن سائر مقتضيات البكاء وهذا من السيدة عائشة رضي الله عنها لكونها لم تعلم ما أسرّ به إليها وإلا فلو علمت ذلك لأسعفتها بالبكاء كما أسعف الصاحبان أم أيمن لما زارراها فذكرتهما بأيام المصطفى (فلما قام رسول الله) أي من ذلك المجلس (سألتها ما قال لك رسول الله؟) يحتمل أن يكون المسئول عنه جميع ما سارها به أولاً وآخراً، ويحتمل أن يكون المسئول عنه الأول ويومىء إلى الأول عموم قول فاطمة رضي الله عنها (قالت ما كنت لأفشي) بكسر اللام وهي لام الجحود والإفشاء الإظهار (على رسول الله سرّه) فإن المفرد المضاف من صيغ العموم (فلما توفي رسول الله) وهو بعد ذلك بزمن (قلت: عزمت عليك بمالي) الباء للقسم الاستعطافي، ويحتمل كونها للسببية (عليك من الحق) إذ هي من أمهات المؤمنين وزوج المصطفى(5/155)
وحبه، ولأجل عين ألف عين تكرم، وقولها عزمت عليك استعارة للقسم: أي أقسمت عليك (لما حدثني بما قال لك رسول الله) اللام مؤذنة بالقسم وما مزيدة للتأكيد (فقالت أما الآن) منصوب محلاً بمحذوف: أي أما إذا سألتني الآن، وفتحة الآن فتحة بناء كما قرر في محله (فنعم، أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (حين سارّني في المرة الأولى فأخبرني) الظرف منصوب بمقدر: أي بكائي وقت مسارته لي أولاً وعمل مع حذفه لأنهم يتوسعون في الظرف مالا يتوسعون في غيره (أن
جبريل) اسم سرياني معناه عبد الله وقيل عبد الرحمن (كان يعارضه للقرآن في كل سنة مرة) قيل إنه كان يقرأ النبي من القرآن فيعيده بعينه جبريل، ولعل ذلك ليجمع بين مرتين العرض والأخذ من فم المبلغ، والمراد بالقرآن ما اجتمع منه إلى حين تدارسهما فإنه لم يكمل إلا قبيل وفاته بنحو عشرين يوماً (أو) شك من الراوي (مرتين) ومرة ومرتين مما ناب فيه المصدر عن اسم العدد نحو «فاجلدوهم ثمانين جلدة» فهو مفعول مطلق وقوله (وأنه) أي جبريل (عارضه) أي النبي (الآن مرتين) هذا يبين أن المعوّل عليه أن المعارضة في كل عام كانت مرة ولذا لما تكررت، أخذ منه قوله (وإني لا أرى) بضم الهمزة: أي أظن (الأجل) آخر مدة الحياة (إلا قد اقترب) أي قرب والتاء فيه للمبالغة (فاتقى الله) عند حلول ذلك بأن لا تفعلي محرّماً من نياحة وشق جيب أو غير ذلك مما يشعر بعدم الرضى والاعتراض على الأقدار (واصبري) أتى به مع تناول ما قبله له اهتماماً بشأنه، فإنه واسطة عقد المأمور به حينئذ وذلك لغلبة داعية الطبع إلى ما يترتب على الجزع غالباً من التبرم والتضجر وقوله (فإنه نعم السلف أنا لك) جملة مستأنفة كالتعليل لما قبلها: أي فإن ما يترتب على ذلك من شرف السلف لك يعدل ما قد يبدو من جزع الفراق (فبكيت بكائي الذي رأيت) أي بكاء سالماً من الإثم ومثله لا منع منه وإلا لنهاها عنه المصطفى لأنه لا يقر على محرم (فلما رأى) أي أبصر (جزعي) أي أثره من البكاء (سارّني الثانية فقال: يا فاطمة أما) أداة استفتاح أتى(5/156)
بها لتنبيه المخاطب على ما بعدها لعظم موقعه (ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة؟) وهذا مثل ثان لها عن عظيم ألم توقع فراقها لسيد الأحباب، فلما كان ذلك المصاب أعظم مصاب ناسب أن يجازي الصابرون عليه بأعظم الثواب من فضل الوهاب وهي أفضل الأمم فتكون أفضل نساء أهل الجنة كما جاء كذلك في رواية أخرى (فضحكت ضحكي الذي رأيت) أي الخالي عن الأشر والبطر وذلك أنه لكمال شرفها
وطيب أصلها لم يغير توقع فقدها لسيد الأحباب استسلاماً لربها، وإنما دمعت عيناها وجزع قلبها مع الصبر على مراد مولاها سبحانه فهو نظير ما ورد من قوله يوم مات إبراهيم «العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» ولا لحقها أشر ولا بطر، إذ بشرت بما بشرت به لكمال يقينها ومزيد تمكينها بل كان لسان حالها كلسان حاله «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر» الحديث (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب علامات النبوة (وهذا) أي اللفظ المسرود (لفظ مسلم) في أبواب الفضائل، ورواه النسائي في الوفاة وابن ماجه في الجنائز.
4688 - (وعن ثابت) بالمثلثة وبعد الألف موحدة فمثناة وهو البناني بضم الموحدة فنونين خفيفتين بينهما ألف تابعي مكثر للرواية عن أنس. وقد بسطت ترجمته في كتاب رجال الشمائل (عن أنس رضي الله عنه قال: أتى) أي جاء (عليّ رسول الله وأنا ألعب مع الغلمان) جملة حالية من مجرور على، والغلمان بكسر المعجمة وسكون اللام جمع غلام، ففيه جواز اللعب المباح للمراهق (فسلم علينا) من حسن خلقه ومزيد لطفه (فبعثني) أي أرسلني، قال في «المصباح» : كل شيء ينبعث بنفسه فالفعل يتعدى إليه بنفسه يقال بعثته وكل شيء لا ينبعث بنفسه كالكتاب والهدية فالفعل يتعدى إليه بالباء كبعثت به. وأوجز(5/157)
الفارابي فقال: بعثه: أي أهبه وبعث به وجهه (في حاجة) التنوين فيه يحتمل كونه للتعظيم أو للتحقير ففيه على الأول مزيد نباهة أنس إذ أهل للإرسال لذلك (فأبطأت) أي طالت مدة غيبتي (على أمي فلما جئت قالت: ما حبسك؟) من باب ضرب: أي منعك؟ (قلت: بعثني رسول الله لحاجة) أي لأجلها وتجمع على حوائج وهو جمع على غير القياس، وذكر الأصمعي أنه مولد، وحق جمعه حاجات وحاج وقال أبو عبيد الهروي: قيل أصل حاجة حائجة فيصح جمعه على حوائج كذا في الفتح (فقالت ما حاجته؟) سؤال عن تعينها (قلت إنها سرّ) في المصباح: السرّ هو ما يكتم، وهو خلاف الإعلان: أي فلا يظهر للغير (قالت لا تخبرنّ) بتشديد النون مبالغة في تأكيد النهي عن إفشائه فإن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى (بسرّ رسول الله أحداً) من ألفاظ العموم لكونه في سياق النفي (قال أنس) منبهاً لثابت على مكانته عنده ومحبته له (والله لو حدثت به أحداً) كائناً من كان كما يشعر به سوقه في حيز الشرط (لحدثتك به يا ثابت) ففيه عظيم لطف أنس وصدق أمانته ووفائه بالعهد (رواه مسلم) في الفضائل (وروى البخاري بعضه مختصراً) أي في باب الأدب من «صحيحه» من غير طريق ثابت بلفظ «أسرّ النبيّ سرّا فما أخبرت به أحداً بعده، ولقد سألتني أم سليم فما
أخبرتها به» .
86 - باب الوفاء بالعهد
أي إذا عاهد على أمر (وإنجاز الوعد) .
(قال الله تعالى) : ( {وأوفوا بالعهد} ) الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاطونهم أو بما عهد الله من تكاليفه ( {إن العهد كان مسئولاً} ) أي(5/158)
عنه أو مطلوباً يطلب من المعاهد ألاّ يضيعه.
(وقال تعالى) : ( {وأوفوا بعهد الله} ) أي بما عهد إليكم من التكاليف أو بما عاهدتموه به من التزام الإقرار بتوحيده والقيام بعبوديته (إذا عاهدتم) .
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} ) أي بالمعهود وهو ما عهد في القرآن كله وعمومه متناول لسائر العقود.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله} ) هو أشد البغض ونصبه على التمييز وفاعله ( {أن تقولوا مالا تفعلون} ) في هذا الأسلوب من الكلام من المبالغة ما لا يخفى، والآية نزلت في جماعة قالوا: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فتعمل به، فأخبر الله نبيه أنه الجهاد، فلما فرض نكل منه بعضهم وكرهوا فنزلت، أو نزلت لما التمسوا الجهاد وابتلوا به فولوا يوم أحد مدبرين، أو في المنافقين يعدون نصر المؤمنين ولا يفون، وعلى أيّ ففيه وعيد شديد لمخلف الوعد والعهد.
1689 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: آية) بالهمزة بعدها ألف لينة فتحتية خفيفة: أي علامة (المنافق) استشكل بأنها قد تكون في المؤمن وأجيب بأن المراد أن هذه خصال المنافق وصاحبها شبيه بالمنافق المطلق إلا أن هذا نفاقه خاص في حق من حدثه ووعده وائتمنه لا في الإسلام بإبطان الكفر. وقيل إن المراد به المنافقون الذين كانوا في زمنه فحدثوا بإيمانهم وكذبوا ووعدوا بنصر الدين فأخلفوا وأئتمنوا في دينهم فخانوا. وقال الخطابي: المراد نفاق العمل لا نفاق الإيمان. قال البرماوي في «اللامع الفصيح على الجامع الصحيح» وأحسن من هذا أن النفاق شرعي وهو إبطان الكفر وإظهار الإيمان، وعرفى وهو كون سرّه بخلاف علانيته وهو المراد هنا، وفي الحديث أجوبة أخرى (ثلاث) أخبر به آية باعتبار إرادة الجنس: أي كل واحد منها آية أو أن مجموع الثلاث هو الآية (إذا(5/159)
حدث كذب) أي أخبر بخلاف الواقع وجعل الجملة الشرطية خبراً بعد خبر أوبد لا مما قبله يقتضي أنه محمول عليه لكن على معنى عند تحديثه (وإذا وعد) أي أخبر بخبر من المستقبل وعطف على ما قبله مع أنه من أفراده قبل لأن الخلف قد يكون بالفعل وهو غير الكذب فتغاير أو جعل حقيقة أخرى خارجة عن التحديث ادعاء كما في عطف جبريل على الملائكة بادعاء أنه نوع آخر لزيادة قال الشاعر:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
وكذا كل خاص يعطف على عام قاله البرماوي (أخلف) أي جعل الوعد خلافاً وذلك بأن لا يفي به (وإذا اؤتمن) أي جعل أميناً وفي رواية اتَّمَن بتشديد التاء وذلك بقلب الهمزة الثانية منه واواً وإبدال الواو تاء وإدغام التاء في التاء (خان) أي تصرف على خلاف الشرع، وخص هذه الثلاثة بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي هي مبني النفاق من مخالفة السر العلن (متفق عليه) والحديث قد تقدم مع شرحه في باب الأمر بأداء الأمانة (زاد في رواية مسلم: وإن) هي وصلية (صام وصلى وزعم) أي قال محققاً بحسب ما عنده (أنه مسلم) أي فهذه خصال المنافق.
2690 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بحذف الياء اكتفاء بدلالة الكسر عليها أو أنه من العيص فيكون أجوف كما تقدم بسطه (رضي الله عنهما أن النبيّ قال: أربع) سوغ الابتداء به مع نكارته تقدير إضافته أي أربع خصال، وجملة (من كن فيه كان منافقاً خالصاً) قال ابن بطال: أي في الخصال المذكورة (ومن كانت فيه خصلة) أي خلة بفتح أولهما (منهن كانت فيه خصلة من النفاق حي يدعها) يحتمل أن يكون خبر المبتدأ وأن تكون صفة والخبر قوله (إذا اؤتمن خان) بتوجيهه السابق قاله البرماوي، والاحتمال الثاني فيه ركاكة (وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر) أي تواثق مع إنسان على أمر غدر به وفعل خلاف ما(5/160)
عهد إليه أن يفعله (وإذا خاصم فجر) أي مال عن الحق وقال الباطل أو شق سر الديانة، قال المصنف: ولا منافاة بين قوله هنا أربع وفيما قبله ثلاث، لأن الشيء الواحد قد تكون له علامات كل واحدة منها يحصل بها صفة، ثم قد تكون تلك العلامة شيئاً واحداً وقد تكون أشياء. وقال الطيبي: العلامات مرة يذكر بعضها ومرة جميعها أو أكثرها قال الزركشي: والأولى أن يقال: إن التخصيص بالعدد لا يدلّ على الزائد والناقص. قلت: وهذا مفرع على أن مفهوم العدد غير حجة ورجح بعضهم حجيته (متفق عليه) ورواه أيضاً أحمد والنسائي كلهم من حديث ابن عمر، وكذا في «الجامع الصغير» ، والحديث عند الشيخين في كتاب الإيمان.
3691 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله لو) يحتمل أن تكون للتمني فلا جواب لها ويحتمل كونها شرطية وفصل بقد بينها وبين شرطها في قوله (قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا) بتكرير كناية كيفية الأخذ ثلاثاً، وقد جاء في رواية للبخاري بزيادة «فبسط يديه ثلاث مرات» وجملة أعطيتك جواب الشرط بحذف اللام منه تخفيفاً، وهذا المتمني مجيئه مرة أخرى غير ما تقدم في باب فضل الزهد في الدنيا من حديث عوف، وقوله في الحديث فقدم: يعني أبا عبيدة بمال من البحرين والله أعلم أن ذلك هو الذي سأل العباس النبي أن يأذن له أن يأخذ منه لأنه فادى بنفسه وابنى أخويه فأذن له، ويحتمل أنه مال آخر من البحرين والبحرين من الأعلام المنقولة عن المثنى فيعرب إعراب أصله حملاً له عليه (فلم يجىء مال البحرين) هو مال الجزية وكان العلاء بن الحضرمي عامل النبي عليها (حي قبض النبي) هناك محذوف دل عليه الكلام: أي وولي الخلافة الصديق وعطف عليه بالفاء قوله (فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر رضي الله عنه) يحتمل أن يكون من إرادة أصل الفعل: وقع منه الأمر (فنادى) أي المأمور (من كان له عند رسول الله عدة) بكسر العين مصدر حذفت فاؤه وعوض منها(5/161)
الهاء في آخره: أي وعد (أو) للتنويع (دين فليأتنا) لاستيفاء ماله (فأتيته وقلت: إن رسول الله قال لي كذا وكذا) كنايتان عن قوله لو قد جاء مال البحرين إلخ (فحثى لي حثية) استعمله هنا من اليائي، وقد جاء من الواوي أيضاً حثوة ومبادرة الصديق بالإعطاء يحتمل أن يكون اعتماداً على قول جابر لصدّيقيَّته لما يعلمه من دينه وورعه المانع له عن الكذب في مثل ذلك، ويحتمل أنه بعد أن أقام عليه بينة لأن هذا المال الحق فيه لعموم المسلمين فلا يتصرف فيه الإمام بمجرد قول المدعي وإن كان معلوم الصلاح والصدق، ثم رأيت الحافظ قال في كتاب الحوالة من فتح الباري في أثناء كلام: لأن أبا بكر لم يلتمس من جابر شاهداً على صحة
دعواه، ويحتمل أن يكون علم بذلك فقضى له بعلمه فيستدل به على جواز مثل ذلك للحاكم. وفي كتاب «الشهادات» من الفتح: لما كان أولى الناس بمكارم الأخلاق أدى أبو بكر مواعيده عنه ولم يسأله البينة على ما ادعاه لأنه لم يدع شيئاً في ذمة النبيّ وإنما ادعى شيئاً في بيت المال وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام اهـ (فعددتها فإذا) فجائية (هي) مبتدأ (خمسمائة) خبره (فقال خذ مثلها) بالتثنية (متفق عليه) رواه البخاري في مواضع من «صحيحه» كالكفالة والشهادات والجزية، ورواه مسلم في باب فضائل النبيّ.
87 - باب الأمر بالمحافظة
أي شدة الحفظ (على ما اعتاده من الخير) فالمفاعلة للمبالغة لا للمغالبة.
(قال الله تعالى) : ( {إن الله لا يغير ما بقوم} ) أي من النعمة أو النقمة ( {حتى يغيروا ما بأنفسهم} ) من(5/162)
الأحوال الجملة أو القبيحة وقد ورد «قال الربّ: وعزتي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهته من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت لهم من طاعتي إلا حولت بهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي» وأيضاً: فإذا غير المتعبد ما اعتاده من الطاعة غير الله ما كان يسبغه عليه من الثواب، وفي الحديث «فإن الله لا يملّ حتى تملوا» .
(وقال تعالى) : ( {ولا تكونوا} ) في نقض الأيمان ولايخفي أنه يتناول نقض سائر العهود (كالتي نقضت) أي أفسدت ( {غزلها} ) مصدر بمعنى المفعول: أي ما غزلته ( {من بعد قوة} ) أي نقضته بعد إحكامه وفتله ( {أنكاثاً} ) الأنكاث جمع نكث بكسر النون كما في «المصباح» ، نظيره حمل وأحمال (وهو الغزل المنقوض) زاد في «المصباح» ليغزل ثانياً وأنكاثاً مفعول كان لنقضت بتضمينه معنى الجعل أو مفعول مطلق وهو مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، وقد نقل أنه في امرأة كانت تفعل ذلك.
(وقال تعالى) : ( {ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب} ) معطوف على أن تخشع وفيه على قراءة التاء الفوقية التفات ( {من قبل} ) كاليهود والنصارى ( {فطال عليهم الأمد} ) الزمان بينهم وبين أنبيائهم (فقست قلوبهم) مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله.
(وقال تعالى) : {فما رعوها حق رعايتها} أي بالقيام بما التزموا مما زعموا أنه قربة والآيتان تقدم الكلام عليهما في باب المحافظة على السنة وفيه أيضاً حديث ابن عمرو المذكور.
1692 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله: لا تكن مثل فلان) لم أقف على من سماه وقد قال بعض المحققين: لا ينبغي الفحص عمن(5/163)
أبهم في مثل هذا المقام، فالستر عن أولي التقصير من شأن الناقد البصير، ثم بين المثل المنهي عنه بقوله على سبيل التنفير (كان يقوم الليل) أي لصلاة التهجد (فترك قيام الليل) وإنما كره لما يؤذن به من قلة الاكتراث بأمر الطاعة والاحتفال إذ لو كان مكترثاً محتفلاً به لحياة قلبه لما وقع منه ذلك (متفق عليه) أخرجاه في كتاب الصلاة.
88 - باب استحباب طيب الكلام
أي لينه وترك خشونته (وطلاقة الوجه) هي تهلله بالانشراح والابتسام (عند اللقاء) قال الشاعر:
بشاشة وجه المرء خير من القرى
فكيف بمن يقرى القرى وهو يضحك
(قال الله تعالى) : ( {واخفض جناحك} ) لين جانبك وتواضع ( {للمؤمنين} ) أي دون الكفار. قال تعالى {واغلظ عليهم} .
(وقال تعالى) : ( {ولو كنت فظاً} ) سيء الخلق ( {غليظ القلب} ) قاسيه ( {لانفضوا} ) أي نفروا (من حولك) .
1693 - (وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه) تقدمت ترجمته (قال: قال رسول الله: اتقوا النار) أي اتخذوا ما يقيكم منها (ولو) كان الاتقاء (بشق) بكسر الشين: أي نصف (تمرة)(5/164)
فإن الله تعالى يقول: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} (النساء: 40) وقال {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره} (الزلزلة: 7) وجاء عن عائشة رضي الله عنها: أنها وقف عليها سائل فتصدقت عليه بعنبة فاحتقرها فقالت له: إنها تعدل مثاقيل من مثاقيل الذر (فمن لم يجد) أي ما يتقي به من الصدقة، وإن قلت (فـ) لميتقها (بكلمة طيبة) يكون طيبها للمخاطب قائماً مقام ما فاته من اللين (متفق عليه) .
2694 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: والكلمة الطيبة) كأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإلانة القول لمخاطب في غير مأثم (صدقة) فأفاد الخبر أن الصدقة وإن غلبت في المال لكنها تكون في غيره كلطيف المقال (متفق عليه وهو) أي ما ذكر من حديث أبي هريرة (بعض حديث) وذكره بالواو العاطفة فيه إيماء لذلك (تقدم بطوله) في باب بيان طرق الخير وكذا تقدم في حديث أبي ذر الذي يليه.
3695 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله: لا تحقرن) بتشديد النون (من المعروف) أي ما يستحسن شرعاً (شيئاً ولو) كان ذلك المعروف (أن تلقى أخاك بوجه طلق) أي متهلل بالبشر والابتسام لأن الظاهر عنوان الباطن فلقياه بذلك يشعر لمحبتك له وفرحك بلقياه والمطلوب من المؤمنني التوادّ والتحابّ (رواه مسلم) .(5/165)
89 - (باب استحباب بيان)
أي إظهار (الكلام) بأن لا يخفي شيء من حروفه فلا يسمعها المخاطب (وإيضاحه) باستعمال الألفاظ الظاهرة الدالة على المراد واجتناب الغريب للمخاطب وذلك ليسهل فهمه (تكريره) ظاهره ولو بإعادته مرة أخرى والخبر فيه فعل ذلك ثلاثاً فلعله أشار بهذا إلى أن التثليث هو الغاية، وأن أصل التكرار مطلوب إذا دعا إليه المقام ويحصل ولو بمرة أخرى (ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك) أي المذكور من جميع الثلاثة.
1696 - (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي كان إذا تكلم بكلمة) المراد بها المعنى اللغوي (أعادها) أي كررها (ثلاثاً) أي إذا كان المقام يقتضي الإعادة، والتكرار إما لمزيد الاعتناء بمدلول ذلك أو لكثرة المخاطبين أو لغير ذلك، وقوله (حتى تفهم) أي لتفهم (عنه) فحتى تعليلية، إذ لو كانت غائية لما قيدت بالثلاث (وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً) إما لكثرتهم بحيث أن سلامه على أولهم لا ينتهي إلى أواسطهم وأواخرهم وإما لغفلة بعضهم عن سلامه لكونه نائماً أو في شغل بال أو نحو ذلك كما بينته في «شرح الأذكار» أو أنه عند الاستئذان كما قال الخطابي، ففي الحديث «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع» ونظر فيه بأن الإذن إذا حصل بنحو التسليمة الأولى لا تسن الثانية. قال البرماوي: والأوجه أن معناه كان إذا أتى على قوم سلم تسليم الاستئذان، وإذا دخل سلم تسليم التحية، وإذا خرج سلم تسليم الوداع، والثالثة مسنونة. وقال ابن بطال: إنما كان تكرار الكلام والسلام إذا خشي أن لا يفهم عنه أولاً يسمع سلامه، وفيه أن الثلاثة غاية ما يقع فيه البيان (رواه البخاري) في كتاب العلم بهذا اللفظ ورواه في الأدب من «صحيحه» لكن بلفظ «كان إذا سلم سلم ثلاثاً وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً» ورواه الإمام أحمد والترمذي(5/166)
في جامعه كلهم من حديث أنس كما في الجامع الصغير.
2697 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلام) أي ما يتكلم به (رسول الله كلاماً فصلاً) أي بينا ظاهراً أو فاصلاً بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: {إنه لقول فصل} (الطارق: 2) أي فاصل قاطع، كذا في النهاية، ويقرب الأول قوله على سبيل الاستئناف (يفهمه كل من يسمعه) فإن في الظهور أقرب، ويجوز أن يكون في محل الصفة لكلام بعد وصفه بالمفرد أو في محل الحال منه لتخصيصه بالوصف (روه أبو داود) في «سننه» .
باب إصغاء
أي إمالة (الجليس) رأسه أو سمعه (لحديث جليسه الذي ليس بحرام) كأن يقول مطلوباً أو مباحاً (واستنصات العالم والواعظ حاضري مجلسه) بكسر الراء جمع مذكر مفعول المصدر أي طلبهما الحاضرين أن ينصتوا، والوعظ غلب في المخوف من عذاب الله المرغب في ثوابه بذكر ما جاء في ذلك.
1698 - (وعن جرير بن عبد الله) البجلي تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب من سن سنة حسنة وشرح حديثه هذا في باب تحريم الظلم في أثناء حديث ابن عمر وحديث أبي بكرة (قال: قال لي رسول الله في حجة الوداع) بفتح أوليهما على الأفصح والأشهر (استنصت الناس) أي مرهم بالإنصات فهو استفعال من أنصت الرباعي. قال لبرماوي: وهو قليل، وذلك لأنه سبب لتيسر وصول المسموع إليهم (ثم قال) أتى بثم كأنه لتراخي مدة المعطوف(5/167)
بها عن أمر جرير وذلك لكثرة الجمع فإنصاتهم يحتاج لمدة، ويحتمل أن تكون وضعت ثم موضع الفاء: أي (لا ترجعوا) أي تصيروا (بعدي كفاراً) أي كالكفار في الفعل الآتي أو كفاراً لنعمة الآخرة المقتضية لضد ذلك أو كفراً ضد الإيمان إن اعتقد حل ذلك (يضرب) بالرفع والجزم كما تقدما بتوجيههما (بعضكم رقاب بعض) والمراد النهي عن الأسباب المؤدية إلى التقاطع والتقاتل من التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر، وقد قدر الله وقوعهم فيما نهوا عنه ولا معقب لما أراده سبحانه (متفق عليه) .
91 - باب الوعظ
قال في «المصباح» : هو الأمر بالطاعة والوصية بها (والاقتصاد) أي التوسط (فيه) بين البسط المؤدي إلى الإملال والإيجاز المؤدي إلى عسر الفهم للمقال.
(قال الله تعالى) : ( {ادع إلى سبيل ربك} ) أي دينه وهو التوحيد وأعماله (بالحكمة) القرآن (والموعظة الحسنة) مواعظ القرآن، وقيل المراد القول اللين بلا تغليظ وتعنيف.
1699 - (وعن أبي وائل) بالهمزة بعد الألف كنية (شقيق) بفتح المعجمة بعدها قافان بينهما تحتية بوزن شريف (بن سلمة) الأسدي الكوفي يعد مخضرماً. قال الحافظ في «التقريب» : مات سنة أربع وستين (قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا) أي بالتكاليف الشرعية بذكر ثواب ما طلب منها فعلاً وعقاب فعل ما طلب منها تركاً (في كل خميس، فقال له رجل) لم أر من سماه (يا أبا عبد الرحمن) كنية ابن مسعود (لوددت) جواب قسم مقدّر: أي ولله(5/168)
لأحببت (أنك تذكرنا كل يوم) وذلك لعظم ثمرة التذكير بحلاوة نتائجه (فقال: أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح (إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم) أن ومعمولاها مؤولة بمصدر فاعل يمنع: أي يمنعني كراهة إملالكم، فإن النفوس من طبعها الملل مما يداوم عليه وإن كان محبوباً لها (وإني أتخوّلكم) أي أتعهدكم (بالموعظة) مصدر ميمي بمعنى الوعظ (كما كان رسول الله يتخولنا) سيأتي الخلاف في ضبطه أهو بالخاء المعجمة أو بالمهملة وباللام أو بالنون عند بيان المصنف لمعناه (بها مخافة) مفعول له: أي خوف (السآمة) كالملالة وزناً ومعنى، والمراد سآمتهم لا سآمته يدل عليه السياق (علينا) متعلق بالسآمة على تضمينه معنى المشقة أو بوصف أو حال محذوفة: أي الطارئة أو طارئة أو شفقة محذوفاً (متفق عليه) وقع عند البخاري في باب ما كان النبي يتخولهم بالموعظة والعلم بلفظ كراهة السآمة. قال السيوطي في «التوشيح» : وقد روى مخافة في الباب الآتي فالتعبير بكراهة من تصرف الراوي (يتخوّلنا: يتعهدنا) أي يراعي الأوقات في وعظنا ولا يفعله كل يوم.
وقال ابن السكيت: معناه يصلحنا ويقوم علينا، وهذا على أنه بالخاء المعجمة وتشديد الواو وباللام. قال الحافظ ابن حجر: وهو الصواب من حيث الرواية وصح بها المعنى. وقال البرماوي بعد ذكر الأقوال المذكورة في ضبطه: إنه بالمهملة رواية لكن الرواية الصحيحة بالإعجام. وقال أبو عمرو بن العلاء: وقد أطلقه البرماوي ولم ينسبه ونسبه كما قلنا السيوطي «يتخوّننا» بالنون، والتخوّن: التعهد، ويرد على الأعمش روايته باللام، وكان الأصمعي يقول ظلمه فإنه يروي باللام والنون، وقال التيمي: تخون فلاناً بعهده وحفظه كأنه اجتنب منه الخيانة المخلة بالحفظ، وقال أبو عمر الشيباني: الصواب بالحاء المهملة: أي يطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة والإتيان بالفعل مضارعاً بعد كان الماضي لقصد الاستمرار نحو كان حاتم يقرى الضيف.(5/169)
2700 - (وعن عمار) بفتح المهملة وتشديد الميم (بن ياسر) بالتحتية وبعد الألف سين مهملة بن عامر بن مالك العنسى بنون ساكنة بين مهملتين مفتوحة فمكسورة، أبو اليقظان مولى بني مخزوم صحابي جليل مشهور من السابقين الأولين بدري، وقتل مع عليّ بصفين سنة سبع وثلاثين كذا في التقريب، روى له عن رسول الله اثنان وستون حديثاً، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديثين. وقد ترجمه المصنف في «التهذيب» ، وفيه مسند الإمام أحمد وكتاب الترمذي وغيرهما عن عليّ بن أبي طالب قال «جاء عمار ليستأذن على النبي فقال: ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب» وقال الترمذي: حسن صحيح. وفي طريق عند الترمذي ويقال: حديث حسن عن حذيفة مرفوعاً (واهتدوا بهدى عمار) وفي «المسند» من حديث خالد بن الوليد مرفوعاً «من عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله» وفي سنده انقطاع، وهو والده صحابيان تقدمت ترجمته (رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: إن طول صلاة الرجل) أي بالنسبة للخطبة فلا يشكل بحديث «إذ صلى أحدكم بالناس فليخفف» الحديث (وقصر خطبته مئنة من فقهه) وإنما كان كذلك لأن الفقيه يعلم أن الصلاة مقصودة بالذات والخطبة توطئة لها، فيصرف العناية إلى ما هو الأهم، وأيضاً فإن الصلاة عبودية العبد والإطالة فيها مبالغة في العبودية، والخطبة المراد منها التذكير، وما قلّ وقرّ خير مما كثر وفرّ (فأطيلوا الصلاة) أي بالنسبة للخطبة، لا بحيث أنه يشق حتى يوقع في النهي (وأقصروا الخطبة رواه مسلم) وقال السيوطي في الجامع الصغير بعد أن ذكره كذلك وزاد في آخره «وإن من البيان لسحراً» رواه أحمد ومسلم عن عمار (مئنة بميم مفتوحة ثم همزة) الأولى فهمزة (مكسورة ثم نون مشددة: أي علامة دالة على فقهه) وتقدم وجهه.
3701 - (وعن معاوية بن الحكم) بفتح المهملة والكاف (السلمي) بضم المهملة وفتح(5/170)
اللام نسبة إلى بني سليم قبيلة من العرب. قال الحافظ في «التقريب» : صحابي نزل المدينة، وكذا قال المصنف في التهذيب وزاد فيه: وقد روى عن رسول الله ثلاثة عشر حديثاً انفرد به مسلم عن البخاري. وروى له حديث الباب قال المصنف في «التهذيب» : وخرج عنه أبو داود والنسائي (رضي الله عنه قال: بيننا) الألف لكفه عن الإضافة لما بعده فهو جملة مستأنفة (أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم) أي المصلين (فقلت) مشمتاً له أي بعد حمده إذ التشميت إنما يسن حينئذ، ويحتمل أنه بادره عند عطاسه لجهله بتوقف ذلك على الحمد، وهو المتبادر من سياق عبارته (يرحمك الله) خبر لفظاً إنشاء معنى (فرماني القوم بأبصارهم) شزراً إنكاراً لما فعلت لاشتماله على الخطاب لآدمي، وهو مبطل للصلاة وإن كان في ذكل وليس رميهم له بأبصارهم من الالتفات المنهي عنه لأنه يحتمل أن يكون بمجرد لمح أعينهم وبفرض كونه التفاتاً حقيقة فهو لحاجة لا يكره (فقلت واثكل) بضم المثلثة وسكون الكاف كما سيأتي وبفتْحِهما وهما لغتان حكاهما الجوهري كالبخل والبخل (أميَّاه) بكسر الميم، قال القرطبي: أمي مضاف إليه ثكل وكلاهما مندوب، كما قال: واأمير المؤمنيناه، وأصله أمي زيدت عليه الألف لنداء الصوت وأردفت بهاء السكت الثابتة في الوقف المحذوفة في الوصل نقله عنه السيوطي في زهر الربا: أي وافقدها لي فإني هلكت (ما شأنكم تنظرون إلى) جملة حالية من الضمير (فجعلوا يضربون بأيديهم) الباء زائدة (على أفخاذهم) زيادة في الإنكار على. والظاهر أنه لم يتكرر منهم ثلاثاً، فإن المتيقن منه واحدة، والزائد مشكوك فيه فلا تبطل الصلاة بقليل الفعل، وهو ما دون الثلاث من ذلك. أما الثلاث المتوالية عرفاً فتبطل (فلما رأيتهم يصمتونني) أي بالأمر بذلك بالإشارة، غضبت، لجهلي بقبح ما فعلت ومبالغتهم في التنكير على (لكني سكت)
امتثالاً لأنهم أعلم مني ولم أعلم بمقتضى ذلك (فلما صلى رسول الله) جوابه قال الآتي وما بينهما اعتراض لما فيه من المناسبة والالتئام (فبأبي هو) أي فرسول الله مفدى أو أفديه بأبي (وأمي) وقرنه بالفاء تزييناً أو تفريعاً على أحسنية تعليمه (ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه) فيه(5/171)
تعريض أنهم ألغوا في
الإنكار عليه في الكلام مع عذره بجهله بتحريم ذلك بقرب إسلامه، ثم بين الأحسنية بقوله (فوالله ما كهرني) قال المصنف: كما يأتي: أي نهرني هذا قول أبي عبيدة كما في زهر الربا. وقيل الكهر: العبوس في وجه من يلقاه (ولا ضربني ولا شتمني) صرح بهما مع العلم بانتفائهما من انتفاء الأول لأن مقام المدح مقام خطابة وإطناب (قال: إن هذه الصلاة) أي جنسها الشامل لفرضها ونفلها، بل ولما ألحق بها من سجدة تلاوة وشكر والمشار إليه ما في الذهن لا ما في الخارج، لإبهام اختصاص النهي به (لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) المراد بالكلام المعني اللغوي وهو: كل لفظ سواء كان مهملاً أو مستعملاً، فتبطل بالنطق بشرط أن يسمع نفسه إن اعتدل سمعه ولا عارض من لغط أو نحوه بالحرف المفهم كق أمر من الوقاية أو بالحرفين وإن لم يفهما من كلام الآدميين وإن لم يقصد خطابهم ولو بالعجمية وإن لم يفهما كأن مد فتولدت ألف أو واو أو ياء وإن تعلق ذلك بمصلحة الصلاة، والكلام لغة: يقع على المفهم وغيره مما هو حرفان فأكثر، وتخصيصه بالمفهم اصطلاح طارىء للنحاة، والحرف المفهم متضمن لمقصود الكلام وإن أخطأ بحذف هاء السكت بخلاف غير المفهم، فاعتبر فيه أقل ما يبني عليه الكلام وهو حرفان، ويستثنى من كلام الناس إجابة المصلي للنبي بقول أو فعل وإن كثر فإنها واجبة لا تبطل بها الصلاة لشرفه ولذا أمر المصلي أن يقول: السلام عليك أيها النبي، وزعم أن هذا الخطاب لغائب يرده أن الخطاب مبطل للصلاة ولو لغائب بأن خطر إنسان في باله فقال مخاطباً له
فيها يرحمك الله، بخلاف إجابة الأبوين فإنها تبطل وإن أوجبناها بأن تأذياً بعدمها تأذياً ليس بالهين سواء الفرض والنفل، ويستثنى أمور أخرى مذكورة في كتب الفقه. قال السيوطي: وحرمة الكلام في الصلاة من خصائص هذه الأمة، قال ابن العربي: كان شريعة بني إسرائيل يباح فيها الكلام في الصلاة دون الصوم فجاءت شريعتنا بعكس ذلك. وقال ابن بطال: إنما عيب على جريح عدم إجابته لوالدته في الصلاة لأن الكلام في الصلاة كان مباحاً في شرعهم (إنما هي) كذا فيما وقفت عليه من نسخ «الرياض» بضمير الواحدة المؤنثة والمرجع مدلول عليه بالسياق: أي إنما الكلمات الصالحة فيها، وروايته في المشكاة «هو» بضمير المذكر قال في «فتح الإله» : أي الذي يصلح فيها (التسبيح) أي التقديس لله وتنبيهه عما لا يليق به (والتكبير وقراءة القرآن) ومثلهما سائر الثناء عليه تعالى مما يدل على كماله. ويؤخذ من عدم أمره لمعاوية بإعادة الصلاة وإلا لنقل أن من تكلم فيها جاهلاً بتحريمه عذر بجهله لقرب(5/172)
عهده بالإسلام وإن خالط المسلمين أو لبعده عن العلماء لا تبطل صلاته لعذره، ومحل عدم البطلان في ذلك حيث قلّ الكلام، فإن الواقع من معاوية نحو خمس كلمات. أما ما كثر عرفاً فيبطل ولو معذوراً بذلك (أوشك كما قال رسول الله) أي مثل ما قال من التسبيح والتهليل والدعاء (قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية) هي ما قبل ورود الشرع. سميت به لكثرة جهالاتهم، وهذا عذر له في كلامه في الصلاة وعدم علمه بحرمته فيها (وقد جاء الله) في المشكاة جاءنا بزيادة ضمير المفعول للمتكلم ومعه غيره أي جاءنا معشر الأمة (بالإسلام) أي بدينه على يديك فلا تجد على في أسئلة أخرى يحتاج إلى معرفة حكم الله فيها (وإن منا رجالاً يأتون الكهان) جمع كاهن وهو من يدعي معرفة الضمائر ويخبر عن المستقبل، إما لجنى يخبره أو لزعمه أنه يدرك الغيب بفهم وأمارات، بخلاف العراف فإن نظره قاصر على معرفة الضالّ ومكان
المسروق ونحوهما (قال فلا تأتهم) قال المصنف: قال العلماء: إنما نهى عن إتيانهم لأنهم قد يتكلمون في مغيبات قد يصادف بعضها الإصابة فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك ولأنهم يلبسون على الناس كثيراً من الشرائع. قال الخطابي: والحديث يشمل النهي عن إتيان كل من الكهان والعراف (قلت: ومنا رجال يتطيرون) من الطيرة بكسر ففتح أو سكون وهو التشاؤم بالشيء، ولم يأت مصدر على فعلة غير هذا والخيرة، وذلك أنهم كانوا يتعرفون نحو الطير، فإن ذهب ذات اليمين مضوا وإلا رجعوا فنهوا عن ذلك بقوله (قال ذلك) أي التطير (شيء يجدونه في صدورهم) وفي المشكاة بلفظ في نفوسهم أي من التوهم والتشاؤم المقتضي بحسب توهمهم الفاسد رجوعهم عما يريدون فعله (فلا يصدهم) كذا في أصول «الرياض» بحذف نون التوكيد وهي ثابتة في «المشكاة» : فلا يمنعهم ذلك عن وجهتهم لأنه لا يؤثر نفعاً ولا ضرا، وإنما هو شيء يسوّله الشيطان في النفس ويزينه لها حتى تعمل بقضيته ليجرها بذلك إلى اعتقاد مؤثر غير الله تعالى، وهو كفر صراح بإجماع العلماء. قال المصنف: قال العلماء: نهاهم عن العمل بالطيرة كأن يمتنعوا من مرادهم بسببها لأن ذلك في قدرتهم وكسبهم دون التطير، لأن ذلك يجدونه في النفس ضرورة فلا عتب عليهم فيه. قال: وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في النهي عن التطير والطيرة، وهو محمول على العمل بها لا على ما يوجد في النفس من غير(5/173)
عمل على مقتضاه، ونفى في الحديث السؤال عن الخط وسكت عليه المصنف ولفظه «قلت: ومنا رجال يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك» (رواه مسلم) قال في «المشكاة» : قوله لكني سكت، هكذا وجدت في صحيح مسلم وكتاب الحميدي، وصحح في «جامع الأصول» بلفظة «كذا» فوق «لكني» قال شارحه: ومرّ شرحها كما ذكرناه وأنه لا إشكال فيه، والحديث رواه أبو داود والنسائي وله طرق بينها المزي في «أطرافه» .
(
الثكل بضم الثاء المثلثة) أي وسكون الكاف، وتقدم أن هذا إحدى لغتين ثانيتهما فتحهما معاً وقد حكاهما الجوهري وغيره كالبخل والبخل (المصيبة والفجيعة) أي بالولد بفقده (ماكهرنى) بفتح أولية (أي ما نهرني) .
4702 - (وعن العرباض بن سارية) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) مع شرح الحديث في الباب الذي ذكره المصنف (قال: وعظنا رسول الله موعظة) أي عظيمة كما قال (وجلت) أي خافت (منها القلوب) لأنها محل الدراية من الإنسان (وذرفت) أي سالت (منها العيون) أي دموعها (وذكر الحديث) والقصد أن أحسن المواعظ ما كان جزلاً جامعاً بليغاً نافعاً، فخير الكلام ما دل (وقد سبق بكماله) الباء بمعنى مع (في باب الأمر المحافظة على السنة، و) قد (ذكرنا أن الترمذي قال: إنه حديث حسن صحيح) أتى بذلك لينبه على أن المطلوب من جملة الأحكام التي لا تثبت إلا بالمقبول من الخبر فينبه بذلك على أنه منه. والله أعلم.(5/174)
92 - باب الوقار
بفتح الواو والقاف مصدر وقر بالضم مثل جمل جمالاً وهو الحلم والرزانة، ويقال وقر يقر من باب وعد فهو وقور كرسول. قال في المصباح: الوقار أيضاً العظمة ويقال وقر وقرا من باب وعد وعداً، يقال جلس بوقار اهـ. وما في الترجمة بالمعنى الأول بدليل عطف قوله (والسكينة) بتخفيف الكاف عليه فهي كما في «المصباح» : المهابة والرزانة والوقار. قال: وحكى في «النوادر» تشديد الكاف ولا يعرف في كلام العرب فعلية مثقلاً إلا هذا الحرف شاذاً اهـ. وبما ذكرنا علم أن عطفها على الوقار من عطف العام على الخاص، لأنه داخل في مفهومها أتى به اعتناء بذلك، وسيأتي فيه مزيد في الباب الذي يليه.
(قال الله تعالى) : ( {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} ) أي هينين أو مشياً هيناً بسكينة ووقار من غير جبرية واستكبار، لا مشى المرضي فإنه مكروه وهو مبتدأ خبره الذين يمشون أو الذين صفته والخبر - أولئك يجزون الغرفة - ( {وإذا خاطبهم الجاهلون} ) أي خاطبهم بما يكرهونه ( {قالوا سلاماً} ) سداداً من القول يسلمون فيه من الإثم أو تسليماً منكم لا خير بيننا ولا شر قال تعالى: {وإذاسمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص: 55) وعن الحسن البصري قالوا السلام، وفي الحديث ما يؤيده.
1703 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله مستجمعاً) أي مبالغاً في الضحك لم يترك منه شيئاً (ضاحكاً) قال الحافظ ابن حجر منصوب على التمييز وإن كان مشتقاً مثل: لله دره فارساً، أي ما رأيته مستجمعاً من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكاً تاماً مقبلاً بكليته على الضحك (حتى ترى) بالبناء للمجهول (منه لهواته إنما كان يتبسّم) .
قال(5/175)
أهل اللغة: التبسم مبادىء الضحك. والضحك: انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فالضحك. وإن كان بلا صوت فهو التبسم. وهذا باعتبار ما علمته من ضحكه، وإلا فقد جاء في أحاديث «ضحك حتى بدت نواجذه» (متفق عليه) رواه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، ورواه مسلم في الفضائل (اللهوات) بفتح أوليه (جمع لهاة) بفتحهما أيضاً (وهي اللحمة التي في أقصى الفم) زاد في «المصباح» قوله المشرفة على الحلق، وتجمع أيضاً على لها كحصاة وحصى.
باب الندب بفتح النون وسكون الدال المهملة فباء موحدة: أي الدعاء، يقال ندبه إلى الأمر ندباً من باب قتل دعاه (إلى إتيان) محل (الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار) وذلك لما في ذلك من سكون النفس فيدخل في العبادة بخشوع وخضوع بخلافه إذا عدا في الطريق بذلك فلا يأتي إلا وهو مضطرب من إسراع المشي فيصده ذلك عن كمال الخشوع أو أصله.
(قال الله تعالى) : ( {ومن يعظم شعائر الله فإنها} ) أي تعظيمها ( {من تقوى القلوب} ) أي ناشىء من تقوى قلوبهم أو أعمال ذوى تقوى القلوب، والآية قد تقدم الكلام فيها في باب تعظيم حرمات المسلمين.(5/176)
1704 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إذا أقيمت الصلاة) بذكر كلمات الإقامة ومثله بل أولى إذا لم تقم ولكن خشي قيامها، قيل والمراد هنا بالصلاة الجمعة بدليل تبويب البخاري للحديث بباب المشي إلى الجمعة لكن حملها على العموم أولى، إلا أن يقال يفهم غير الجمعة منها بقياس الأولى (فلا تأتوها) ندباً (وأنتم تسعون) ولا يخالفه قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} (الجمعة: 9) لأن المنهى عنه السعي بمعنى العدو والإسراع في المشي، والمأمور به المضي فيها، وقد قرىء «فامضوا إلى ذكر الله» وقد جاء في رواية في البخاري «فامشوا إلى الصلاة ولا تسرعوا» (وأتوها) ندباً (وأنتم تمشون) مشياً بلا إسراع ينافي الوقار كما يدل عليه تقييده بالجملة الحالية بقوله (وعليكم السكينة والوقار) بالرفع مبتدأ مؤخر كما ضبطه المصنف، واحتمال النصب الذي ضبطه به القرطبي على الإغراء فيه بعد عن السياق، لكن يؤيده أنه جاء في رواية بالسكينة بزيادة الياء تأكيداً، وإنما طلب لتكثير الخطأ المقصود لذاته، ثم محل ذلك ما لم يعدّ مقصراً بالتأخير في الجمعة بحيث ينسب إليه التفويت وإلا فيجب عليه الإسراع حينئذ، ثم عطف السكينة للتأكيد والبيان كما قال القرطبي بناء على ترادفهما، وقال المصنف بعد ذكر الجامع بينهما: الظاهر أن بينهما فرقاً، فالسكينة: التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة كغضّ البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات. ورجح بأن التأسيس خير من التوكيد وأن الأصل في العطف التغاير قال: قال بعض شراح الجامع الصغير: ويرجع الأول بالاكتفاء بالسكينة عنه هنا في رواية فذلك ظاهر في ترادفهما. إلا أن يقال إن الفرق بينهما على القول به عند اجتماعهما، أما عند افتراقهما فأحدهما يغني عن الآخر كالفقير والمسكين (فما أدركتم) أي من الصلاة مع الإمام (فصلوا) الفاء في «فما» فصيحة قدر الحافظ بقوله: إذا فعلتم ما
أمرتم به من السكينة وترك الإسراع، فما أدركتم فصلوا وهو أحسن من قول الكرماني: إذا بينت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا (وما فاتكم) معه (فأتموا) أي أكملوا وحدكم، وفي لفظ فاقضوا وهو بمعنى فإذا فلا(5/177)
ينافي رواية فأتموا، وقوله أتموا دليل للشافعية أن ما يفعله مع الإمام أول صلاته وما يأتي به بعده آخرها، لأن الإتمام لا يكون إلا للآخر لاستدعائه سبق الأول، قاله البرماوي (متفق عليه) لكن التصريح بالوقار من زيادة رواية البخاري كما قاله القرطبي، ورواه أحمد والأربعة كما في الجامع الصغير (زاد مسلم في رواية له: فإن أحدكم) أي الواحد منكم (إذا كان يعمد) بكسر الميم أي يقصد (إلى الصلاة فهو في صلاة) أي فيحصل له فضلها وإن لم يدركها معهم وقد جاء في ذلك حديث مرفوع، لكن محل ذلك كما في فتح الإله ما لم يعتد ذلك ويتساهل فيه.
2705 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دفع مع النبي) أي قريباً منه بحيث يعدّ عرفا أنه مصاحب له ومنسوب إليه (يوم عرفة) أي عقبه بعد مغيب شمسه كما جاء التصريح بذلك في حديث جابر (فسمع النبيّ وراءه زجراً شديداً وضرباً) أي صوت ذلك (وصوتاً للإبل) أي من الرغو، قال في «المصباح» : رغت الناقة ترغو: أي صوّتت (فأشار بصوته إليهم) أي تأنوا ودعوا العجلة (وقال) زيادة في البيان (عليكم) أي الزموا (بالسكينة) الباء فيه مزيدة للتأكيد. وقيل عليكم اسم بمعنى خذوا فالباء معدية (فإن البر ليس بالإيضاع) أي إنما هو بالخضوع والخشوع والاستكانة لمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (رواه البخاري) في كتاب الحج (وروى مسلم بعضه) وهو قوله في حديث جابر «ويقول بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة» اهـ، وبه يتبين أن قوله في رواية البخاري المذكورة وقال «عليكم السكينة» أي بالإشارة إليها، ويحتمل أنه جمع بينها وبين اللفظ بذلك (البر الطاعة) كذا قاله المصنف، وفسر أيضاً بالخير والفضل فجعل الإيضاع(5/178)
ليس من البرّ بمعانيه المذكورة مقيدة بما إذا أدى إلى محظور كالتزاحم أو إيذاء الدواب حتى صوتت فإنها لا يكون منها عادة إلا عند ما يشق عليها وإلا فيطلب والله أعلم (والإيضاع) بسكون التحتية المنقلبة عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها (بضاد معجمة قبلها همزة) أي وبينهما ياء ساكنة (وهو الإسراع) ومنه قوله تعالى: {ولأوضعوا خلالكم} (التوبة: 47) أي لأسرعوا ركائبهم في وسطكم بإيقاع العداوة بينكم.
94 - باب إكرام الضيف
قال في المصباح: الضيف معروف، ويطلق بلفظ واحد على الواحد وعلى غيره لأنه مصدر في الأصل من ضافه ضيفاً من باب باع إذا نزل عنده، وتجوز المطابقة فيقال ضيف وضيفة وأضياف وضيفان، وأضفته: وضيفته إذا أنزلته وقريته، والاسم الضيافة. قال ثعلب: ضفته إذا نزلت به، وأنت ضيف عنده وأضفته إذا أنزلته عندك ضيفاً، تضيفني فضيفته: أي طلب مني القرى فقريته اهـ ملخصاً (قال الله تعالى) : ( {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} ) كذا هو بالواو في بعض النسخ وبحذفها من أخرى والتلاوة كذلك، وهذه الجملة لتعظيم شأن الحديث وتنبيه على أن المصطفى إنما عرف ذلك بالوحي له، وإفراد الضيف جاء في اللغة الأولى بدليل وصفه بالمكرمين عند الله أو عند إبراهيم ( {إذ دخلوا عليه} ) ظرف للحديث أو بتقدير اذكر لا للفعل الماضي لاختلاف زمني إتيان الخبر ودخولهم ( {فقالوا سلاماً} ) أي نسلم عليك سلاماً ( {قال سلام} ) أي عليكم سلام وعدل إلى الرفع ليدل على الثبات فعمل بقوله تعالى: {فحيوا بأحسن منها} (النساء: 86) وقد بسطت هذا(5/179)
المعنى في كتاب أحكام السلام من «شرح الأذكار» ( {قوم منكرون} ) أي أنتم قوم لا نعرفكم ( {فراغ} ) ذهب ( {إلى أهله} ) بخفية، فمن آداب المضيف أن يخفي إتيانه بالضيافة عن الضيف ( {فجاء بعجل} ) مشوي كما في الآية الأخرى {فجاء بعجل حنيذ} (هود: 69) (سمين {فقرّبه إليهم قال ألا تأكلون} ) ذكره بصيغة العرض تلطفاً في العبارة
(وقال تعالى) : ( {وجاءه} ) أي لوطا ( {قومه يهرعون} ) يسرعون ( {إليه} ) عجلة لنيل مطلوبهم من أضيافه ( {ومن قبل} ) أي من قبل ذلك الوقت ( {كانوا يعملون السيئات} ) أي يأتون الرجال يعني هذه عادتهم من قديم الأيام ( {قال يا قوم هؤلاء بناتي} ) أي فتزوجوهن واتركوا أضيافي، كانوا يطلبونهن من قبل ذلك ولا يجيبهم وكان تزويج المسلمة من الكافر جائزاً، أو المراد من البنات نساؤهم وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبيّ أبو أمته ( {هن أطهر لكم} ) من نكاح الرجال ( {فاتقوا الله ولا تخزون} ) تفضحوني ( {في} ) شأن ( {ضيفي} ) فإخزاء ضيف الشخص إخزاؤه فدل على الاهتمام بالضيف ودفع المؤذيات عنه ولو بما يتأذى به من المضيف فذلك من الإكرام المأمور به له ( {أليس منكم رجل رشيد} ) يعرف حقيقة ما أقول.
1706 - (وعن أبي هريرة) تقدم حديثه (رضي الله عنه) هذا وشرحه في باب صلة الأرحام، وبنحوه من حديث أبي شريح الخزاعي في حديث الباب الذي قبل ذلك (عن النبي قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) أي إيماناً كاملاً (فليكرم ضيفه) قيل إكرامه تلقيه بطلاقة الوجه وتعجيل قراه والقيام بخدمته بنفسه، وقد جاء في الرواية «إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم أكرم أضيافك فأعد لكل شاة مشوية، فأوحى إليه أكرم فجعله ثوراً، فأوحى إليه أكرم فجعله جملاً، فأوحى إليه أكرم فتحير وعلم أن إكرامهم ليس في كثرة الطعام فخدمهم بنفسه،(5/180)
فأوحى إليه الآن أكرمتهم» كذا في شرح ابن مالك على المشارق (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر) أعدّ ذلك إيذاناً باستقلال جوابه في ترتبه على الشرط ترتب المسبب على السبب ولو لم يعدل احتمل ذلك واحتمل أن المرتب عليه مجموع الأمور الثلاثة فدفع ذلك كذلك (فليصل رحمه) وتقدم في باب صلة الأرحام أن صلة الرحم مطلوبة وبعض خصالها واجب وبعضها مندوب، فالأمر في ذلك كله إما من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يرى جوازه أو من باب عموم المجاز بأن يراد به مطلق الطلب الشامل للنوعين (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر) كذلك اليوم الآخر هو يوم القيامة، وقيل له ذلك لأنه لا يوم بعده، وذكر في الجمل الثلاث لأنه حين المجازاة فذكره باعث على الإكثار من عمل البر زاجر عن الكف عن ذلك وكأن التارك لشيء من هذه الخصال غير مؤمن بما ذكر فيه (فليقل خيراً) من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو كلمة طيبة (أو ليصمت متفق عليه) .
2707 - (وعن أبي شريح) بضم المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية بعدها مهملة (خويلد) بضم المعجمة وسكون التحتية مصغر خالد (ابن عمرو رضي الله عنه) الخزاعي الكعبي العدوى حلفاً، وقيل اسمه عبد الرحمن بن عمرو، وقيل هانىء، وقيل كعب. شهد رضي الله عنه فتح مكة مسلماً وكان يومئذ حاملاً أحد ألوية بني كعب، خرّج له الجماعة، روى له عن رسول الله عشرون حديثاً، أخرج منها الشيخان ثلاثة، اتَّفقا على حديثين وانفرد البخاري بالثالث. روى عنه نافع بن جبير والمقبري مات بالمدينة سنة ثمان وستين (قال: سمعت رسول الله يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته) بالنصب بدل اشتمال: أي فليكرم جائزة ضيفه (قالوا: يا رسول الله وما جائزته؟ قال: يومه وليلته:) لفظ رواية البخاري في «الأدب» من «صحيحه» «فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة» وقد روى ذلك فيه مرفوعاً ومنصوباً. وعنده في الرقاق «قيل وما جائزته» الحديث لكن ليس فيه ذكر الجار، أما هنا فمرفوع خبر لمحذوف دل عليه ذكره في السؤال: أي جائزته إكرام يومه(5/181)
وليلته (والضيافة ثلاثة أيام) واختلف هل الجائزة منها أو زائدة عليها، فإن كان منها قدر كما ذكر وإلا قدر جائزته زيادة يومه وليلته على أيام الضيافة الثلاثة أشار إليها البدر الدماميني في مصابيحه، لكن قوله (وما كان وراء ذلك) أي زيادة عليه (فهو صدقة) يؤيد أنها منها، وقد قال العلماء: المطلوب من المضيف أن يبالغ في إكرام الضيف اليوم الأول وليلته، وفي باقي اليومين يأتي له بما يتيسر من الإكرام غير مبالغ فيهما كاليوم الأول، والله أعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، وأخرجه مسلم في الأحكام، ورواه أبو داود في الأطعمة والترمذي في البرّ وقال: حسن صحيح، والنسائي فيه وفي الرقاق وابن ماجه في الأدب اهـ ملخصاً من «الأطراف» للمزي (وفي رواية لمسلم: ولا يحل) أي يجوز (لمسلم) التنكير فيه للتعميم (أن يقيم عند أخيه) لا
يخفي ما في التعبير بأخيه من الحث على النظر إلى حاله والتخفيف عنه فإن ذلك شأن الأخوّة (حتى يؤثمه) أي إلى أن يوقعه في الإثم (قالوا: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟) أي يوقعه فيه (قال: يقيم عنده ولا شيء له يقريه به) فيؤدي ذلك إلى الوقيعة فيه واغتيابه وإلى الاستدانة المفضية إلى الكذب وخلف الوعد كما في حديث «يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ به من المغرم، فقال: إن الرجل إذا غرم وعد فأخلف وحدث فكذب» .
95 - باب استحباب التبشير
أي الإخبار بما يسرّ المخبر، سمى بذلك لما يبدو على بَشرة المخبر من الحبور والسرور (والتهنئة بالخير) وذلك لما فيه من التوادّ والتحاب.
(قال الله تعالى) : ( {فبشر} ) يا محمد(5/182)
( {عباد} ) المشرّفون بشرف نسبة العبودية إليّ، وقوله ( {الذين يستمعون القول} ) أي القرآن ( {فيتبعون أحسنه} ) كالعفو عن نصف الصداق المخير الزوج بينه وبين أخذه. وكالعفو عن المعسر المخير الدائن بينه وبين إنظار المدين، وحذف المبشر به ليعم ويذهب الوهم كل مذهب، وفضل الله أعلى وأوعب.
(وقال تعالى) : ( {يبشرهم ربهم} ) لا يخفي لطافة التعبير به: أي الذين رباهم بسابق عنايته بهم حتى أوصلهم لما سبق لهم في علمه ( {برحمة} ) عظيمة جليلة كما يؤذن به قوله ( {منه} ) فإن الذي من العظيم عظيم ( {ورضوان} ) وهو كواسطة العقد، قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} (التوبة: 72) فناسب توسيطه بين قلائد الصلاة ( {وجنات} ) والتنوين فيه كهو في رحمة، وقوله ( {لهم فيها نعيم مقيم} ) جملة اسمية في محل الصفة لها وأحد الظرفين خبر مقدم للاهتمام والثاني في محل الحال.
(وقال تعالى) حكاية عن تبشير الملائكة لخواص المؤمنين يوم القيامة ( {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} ) أي على لسان أنبيائكم.
(وقال تعالى) : ( {فبشرناه بغلام حليم} ) الأكثر أنه إسماعيل، وقيل إسحاق.
(وقال تعالى) : ( {ولقد جاءت رسلنا} ) الملائكة ( {إبراهيم بالبشرى} ) ببشارة الولد وبه يظهر حكمة قران الكلمة لها بما قبلها أو بشارة بهلاك قوم لوط.
وقال تعالى) : {وامرأته} أي سارة امرأة إبراهيم ( {قائمة} ) وراء الستر أو قائمة بخدمة الضيف ( {فضحكت} ) سروراً بالأمن أو(5/183)
تعجباً وقالت لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة وهم لا يأكلون طعاماً، أو تعجباً من خوف إبراهيم من رجال قلائل وهو بين خدمه وحشمه، أو ضحكت بمعنى حاضت، فإن الضحك من أسماء الحيض العشرة التي نظمتها في قولي:
للحيض عشرة أسماء لنا وردت
طمس وطمث وإعصار وإكبار
ضحك دراس عراك بعد ذاك أتى
حيض نفاس فراك هم يا جار
( {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} ) .
(وقال تعالى) : ( {فنادته} ) أي زكريا ( {الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} ) الجملة حال من مفعول نادى والظرف حال من فاعل يصلي، وسمى محل الصلاة محراباً لأن المصلي يحارب فيه الشيطان ( {إن الله} ) بكسر الهمزة بإضمار قائلين وبفتحها من غير إضمار وقرىء بهما ( {يبشرك بيحيى} ) اسم أعجمي على صورة المنقول من مضارع حيى.
(وقال تعالى) : ( {إذا قالت الملائكة} ) أي اذكر وقت قولها ( {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة} ) سمى كلمة لأنه صدر عن كلمة «كن» من غير ذكر، وقوله ( {منه} ) إيماء إلى تعظيم عيسى وتفخيم شأنه كما ذكرناه قريباً.
(الآية، والآيات في الباب كثيرة معلومة) وكل ما أورده منها شاهد في شطر الترجمة الأولى (وأما الأحاديث فكثيرة جداً) بكسر الجيم: أي نهاية في الكثرة (وهي مشهورة في) كتب (الصحيح) التي أصحها الصحيحان منها.(5/184)
1708ـ (عن أبي إبراهيم) وعليه اقتصر المصنف في باب الصبر (ويقال) فيه (أبو محمد) ويقال أبو معاوية عبد الله بن أبي أوفي تقدمت ترجمته في الباب المذكور وهو ووالده صحابيان (رضي الله عنهما أن رسول الله بشر خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ببيت) أي عظيم، وقد جاء في مسلم بقصر (في الجنة من قصب) الظرف الأخير محتمل للحالية لتخصيص النكرة بالظرف قبله وللوصفية لنكارته (لا صخب) بفتح الصاد المهملة والخاء المعجمة وبالباء الموحدة (فيه) خبر لا (ولا نصب) وهو بالفتح فيهما، وكأن الرواية فيه كذلك وإلا فيجوز فيه من الأوجه الخمسة ما يجوز في «لا حول ولا قوة إلا بالله» (متفق عليه) رواه البخاري في فضل خديجة، ومسلم في الفضائل، ورواه النسائي في المناقب.
(القصب) بفتح القاف والصاد المهملة بعدها موحدة (هنا) أي في هذا الحديث وما شابهه (اللؤلؤ المجوف) زاد في النهاية الواسع كالقصر المنيف، والقصب من الجوهر ما استطال منه في تجويف، وفي التوشيح للسيوطي في الطيراني عن فاطمة «قلت: يا رسول الله أين أمي؟ قال: في بيت من قصب، قلت: أمن هذا القصب؟ قال: لا، من القصب المنظوم بالدرّ واللؤلؤ والياقوت» (الصخب) بالصاد المهملة وإبدالها سينا لغة وبالخاء المعجمة المفتوحتين (الصياح واللغط) وهو مصدر صخب من باب تعب قاله في المصباح (والنصب) مصدر نصب بفتح النون وكسر المهملة (التعب) ونفي التعب عن الجنة لأنها ليست دار تكليف وأعمال وإنما هي منزل تشريف وإجلال.
2709 - (وعن أبي موسى الأشعري) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الإخلاص (أنه توضأ في بيته) يحتمل أن يكون لإرادة الصلاة أو ليكون على طهارة (ثم خرج فقال:(5/185)
لألزمنّ رسول الله ولأكوننّ معه يومي هذا) الإشارة إليه للتعميم: أي لا أكتفي ببعضه عن باقيه (فجاء المسجد فسأل عن رسول الله فقالوا: وجه) (بفتح الواو وتشديد الجيم: أي توجه كما سيأتي في الأصل، أو وجه نفسه (ها هنا، قال: فخرجت على أثره) بفتح الهمزة المثلثة وبكسر فسكون أي تبعته عن قرب، وجملة (أسأل عنه) حال إما من فاعل فخرج فتكون مترادفة، أو من الظرف فتكون متداخلة (حتى دخل بئر أريس) أي الحائط الذي هي فيه وسيأتي ضبطه في الأصل (فجلست عند الباب حتى) أي إلى أن (قضي رسول الله حاجته) أي حاجة الإنسان من البول أو الغائط (وتوضأ فقمت إليه) أي متوجهاً إليه (فإذا) فجائية (هو) مبتدأ خبره (قد جلس على بئر أريس) وأظهر لزيادة البيان (وتوسط قفها) سيأتي ضبطه، ومعناه: أي الركية التي تجعل حول البئر (وكشف عن ساقيه) تثنية ساق، وهي ما بين الركبة والقدم وهي مؤنثة تصغيرها سويقة، قاله في المصباح (ودلاهما) أي الساقين (في البئر فسلمت عليه ثم انصرفت) المعطوف عليه محذوف: أي فسلم علىّ ثم انصرفت (فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بوّاباً للنبي اليوم) قال في «فتح الباري» : ظاهره أنه اختار ذلك وفعله من نفسه، وقد صرح به في رواية للبخاري في الأدب فزاد قوله «ولم يأمرني بذلك» قال ابن التين: فيه أن المرء يكون بوّاباً للإمام وإن لم يأمره كذا قال. ووقع في رواية للبخاري في مناقب عثمان من طريق آخر «فقال: يا أبا موسى أملك عليّ الباب» أخرجه أبو عوانة في «صحيحه» والرواياني في مسنده. وفي رواية الترمذي «فقال لي: يا أبا موسى أملك عليّ الباب فلا يدخلن عليّ أحد» فيجمع بينهما بأنه لما حدّث نفسه بذلك صادف أمر النبي له بحفظ الباب عليه، وأما قوله «ولم يأمرني» يريد أنه لم يستمر بوّاباً،
وإنما أمره بذلك قدر ما قضى حاجته وتوضأ، ثم استمر هو من قبل نفسه، فبطل استدلال ابن التين به. وجاء عند أبي داود عن نافع بن عبد الخزاعي قال «دخل النبي حائطاً من حوائط المدينة فقال لبلال: أمسك عليّ الباب، فجاء أبو بكر يستأذن» فذكر نحو حديث(5/186)
الباب وأخرجه الطبراني في «الأوسط» من حديث أبي سعيد. قال الحافظ: فإن صحح
حمل على التعدد. قال: ثم ظهر لي وهم من بعض رواته، وأن النسائي أخرج الحديث عن نافع عن أبي موسى وهو الصواب، فرجع الحديث إلى أبي موسى واتحدت القصة اهـ. ولا ينافي هذا قول أنس: لم يكن له بواب، لأن مراده لم يكن بواب مرتب لذلك على الدوام (فجاء أبو بكر رضي الله عنه) يحتمل أنه علم كون النبي ثمة باستخبار كأبي موسى أو بإخبار سابق منه أو كان ذلك أمراً اتفاقياً (فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر) أي أنا أبو بكر، ففيه استحباب تصريح المستأذن باسمه إذا سئل منه تعيين نفسه (فقلت: على رسلك) بكسر الراء وسكون السين المهملة أي هينتك (ثم ذهبت) أي فوقفت ثم ذهبت (إلى رسول الله فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن) جملة مستأنفة أو حالية أو خبر بعد خبر (فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله يبشرك بالجنة) فيه حسن ثمرة لزوم الأدب، زاد البخاري في رواية «فحمد الله» وكذا قال في حق عمر (فدخل أبو بكر) وسار (حتى جلس عن يمين النبي) لأنها أشرف الجهات (معه) في محل الحال من ضمير جلس وكذا (في القف) ويحتمل أن أحدهما ظرف لغو في القف (ودلى) أي أرخى (رجليه في البئر كما صنع النبيّ وكشف عن ساقيه) كأنه فعل ذلك ليبقى النبي على ما هو عليه من تلك الجلسة المرتاح هو بها، إذ لو لم يفعل ذلك لربما ترك النبي ما كان عليه منها، فأثر بفعله ذلك ما هو من إسقاط الكلفة ما فيه راحة المصطفى (ثم) لعل الإتيان بها لطول مقام أبي موسى ناظراً في فعل الصدّيق وما يقول وما
يقال، ويحتمل أنها مستعارة للفاء: أي (فرجعت فجلست وقد تركت أخي) كان أبورهم وأبو بردة، قبل وآخر اسمه محمد وأشهرهم أبو بردة واسمه عامر (يتوضأ ويلحقني،(5/187)
فقلت: إن يرد الله بفلان) كناية عن المبهم من أعلام العقلاء وقد تستعمل في غيرهم مجازاً ولذا قال (يعني أخاه خيراً يأت به) ليغنم التمتع بالحضور بين يدي المصطفى في الخلوة، ولعله أن يبشر بالجنة كما بشر من قبله (فإذا إنسان يحرّك الباب) على سبيل الاستئذان، وفيه حسن الأدب في الاستئذان. وأما قول ابن التين لعله كان قبل الاستئذان، فقال الحافظ في «الفتح» : إنه بعيد، لأنه جاء في رواية البخاري عن أبي موسى بلفظ «فجاء رجل فاستأذن» فعرف أنه حركة مستأذن، لا دافعاً ليدخل بغير إذن (فقلت: من هذا؟ فقال عمر بن
الخطاب) فيه أنه إذا كان لا يحصل بيان المستأذن إلا بالزيادة على اسمه ذكر ما يحصل به رفع الإبهام (فقلت: على رسلك) متعلق بمحذوف دل عليه الحال: أي وقف حال كونك على هينتك (ثم جئت) عبر به بدل قوله أوّلاً ذهبت تفنناً في التعبير (إلى رسول الله وقلت: هذا عمر) استغنى عن نسبته لعلمه بما يدل على تعيينه عند المصطفى بمجرد ذكر اسمه من قرائن الأحوال التي منها وجود قرينه وهو الصديق (يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة) مبادرة لإدخال السرور عليه، وإلا فذلك حاصل من تأخيره وتبشيره، وفيه قبول خبر الواحد، وفيه جواز العمل بالظن مع القدرة على اليقين (فجئت عمر) أظهر والمقام للضمير ولعله استلذاذاً بذكره لمحبته له (فقلت: أذن) بالبناء للفاعل (ويبشرك رسول الله بالجنة) لعل حكمة العدول مع ما فيه من التفنن في التعبير الإشارة إلى علوّ مقام الأول، لأن الجملة الإسمية المخبر عنها بالفعلية تدل على الدوام والاستمرار نظراً لصدرها وعلى التجدد والحدوث نظراً لعحزها، والجملة الفعلية المحضة لا دلالة فيها على الدوام والاستمرار، فناسب علوّ مقام الصديق على مقام عمر رضي الله عنهما أن تكون البشارة للصديق بجملة أبلغ من البشارة لعمر، والله أعلم (فدخل فجلس مع رسول الله في القفّ عن يساره) بفتح التحتية وتخفيف السين أي شماله (ودلى رجليه) عبر بهما بدل ساقيه تفنناً في التعبير، لأنّ تدلية كل من الأمرين مستلزم لتدلية الآخر (في البئر) ، ثم رجعت(5/188)
فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً، يعني أخاه يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب مستأذناً (فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، وجئت النبي وأخبرته) أبدل العاطف، ففي الأولين ثم وهنا الواو وعمل الفعل، ففي الأولين جاء به قاصراً بمعنى حضرت، وفي الأخير متعدياً بمعنى أتيت، وحكاية إخباره، ففي الأولين بيَّن تفصيل ما وقع، وفي الثالث أجمل، وكل ذلك من بلاغته وتفننه في التعبير (فقال: ائذن له)
جاء في رواية البخاري «فسكت هنيئة ثم قال: ائذن له» (وبشره بالجنة مع بلوى) هي اسم مصدر كالبلية والبلاء، قاله في المصباح (تصيبه فجئت فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله بالجنة مع بلوى تصيبك) زاد في رواية للبخاري «فحمد الله ثم قال: الله المستعان» وفي رواية عند أحمد «فجعل يقول: اللهم صبراً حتى جلس» ووقع في رواية «فدخل وهو يحمد الله ويقول: اللهم صبراً» (فدخل فوجد القف قد ملىء فجلس وجاههم) بضم الواو وكسرها وتبدل تاء جوازاً فيقال تجاه: أي في محل مواجهتهم. وعند البخاري في باب مناقب عثمان «وأمرني رسول الله يحفظ الباب» (من الشق الآخر) من البئر المقابل لقفها، زاد في البخاري «وقال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم» قال الحافظ: نية وقوع التأويل في اليقظة وهو الذي يسمى الفراسة والمراد اجتماع الصاحبين مع النبي في الدفن وانفراد عثمان عنهم في البقيع. وجاء في رواية أخرى وقال «فأوّلت ذلك انتباذ قبره من قبورهم» (متفق عليه) أخرجه البخاري في الفضائل وفي الفتن، ومسلم في الفضائل، وأخرجه النسائي في المناقب وقال: حسن صحيح، وأخرجه النسائي (وزاد) أبو موسى (في رواية) عند البخاري في باب مناقب عثمان (وأمرني رسول الله بحفظ الباب) وتقدم أن عنده أيضاً «فقال: يا(5/189)
أبا موسى لعلك على الباب» وتقدم الجمع بين ما ورد في ذلك من الروايات وأنه ليس من مختلف الحديث كما توهمه الداودي فيما نقله عنه ابن التين، قال الحافظ: وكأنه خفى عليه وجه الجمع الذي قررته (وفيها) أي تلك الرواية، وظاهر أن ذلك في المذكورة في باب فضل عثمان، والذي رأيته أنها في رواية أخرى مذكورة في باب مناقب عمر وليس فيها أنه أمر بحفظ الباب (أن عثمان حين بشره حمد الله ثم قال: الله المستعان، قوله: وجه بفتح الواو وتشديد الجيم: أي توجه) مثل قدم بمعنى تقدم في قوله تعالى:
{لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} (الحجرات: 1) وهذا أحد وجهين فيكون الفعل قاصراً وتقدم وجه آخر (وقوله بئر) بالهمز ويجوز تخفيفها (أريس هو بفتح الهمزة وكسر الراء بعدها مثناة تحت ساكنة ثم سين مهملة) قال في فتح الباري: هو بستان معروف بالقرب من قباء، وفي بئرها سقط خاتم النبيّ من أصبع عثمان (وهو مصروف) بإرادة المكان (ومنهم) أي النحاة (من منع صرفه) على إرادة البقعة. وظاهر كلامه أن الصرف كالمتفق عليه وأن المنع منه للبعض، لكن عبارة الحافظ في الفتح وهي يجوز فيهما الصرف وعدمه تقتضي تساوي الوجهين (والقف بضم القاف وتشديد الفاء هو المبني حول البئر) قال في «الفتح» : هو الركية التي حول البئر، وأصله ما غلظ من الأرض وارتفع والجمع قفاف.
(قوله) أي أبي موسى لكل من المستأذنين (على رسلك بكسر الراء على المشهور) وعليه اقتصر في «النهاية» ونقله عن الجوهري (وقيل بالفتح أي أرفق) أي إن أريد به أرفق بنفسك فيكون بفتح الراء، أما بمعنى التؤدة والهيئة فهو بالكسر وهو المشهور وقد ذكر كذلك في «المطالع» ، والله أعلم.(5/190)
3710 - (وعن أبي هريرة) تقدم حديثه هذا (رضي الله عنه) في باب الرجاء (قال: كنا قعوداً) جمع قاعد (حول رسول الله) قال المصنف: قال أهل اللغة: يقال قعدنا حوله وحواليه وحواله بفتح اللام في جميعها: أي على جانبه ولا يقال حواليه بكسر اللام (معنا) بفتح العين على اللغة المشهورة، ويجوز تسكينها في لغة حكاها صاحب «المحكم» والجوهري وغيرهما، وهي للمصاحبة: أي في جملتنا أيها القاعدون (أبو بكر وعمر) وخصا (رضي الله عنهما) لفضلهما على باقي الصحابة (في نفر) الظرفان يحتمل أن يكونا لغويين متعلقين بكان بناء على الصحيح من أن للأفعال الناقصة مصادر، وأن يكونا في محل الحال إما متداخلين أو مترادفين، والنفر بفتح النون والفاء جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة، ولا يقال فيما زاد على العشرة (فقام رسول الله من بين أظهرنا) قال المصنف: هكذا هو هنا، وفي الموضع الآتي، وأظهرنا بالجمع قال: ووقع الثاني في بعض الأصول ظهرينا وكلاهما صحيح، قلت: وهو الذي أورده المصنف فيما يأتي قال أهل اللغة: يقال بين أظهركم وظهريكم وظهرانيكم بفتح النون: أي بينكم (فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع) بالبناء للمفعول (دوننا) أي يصاب بمكروه
من عدو إما بأسر أو غيره (وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع) قال القاضي عياض: الفزع يكون بمعنى الروع، وبمعنى الهيوب للشيء والاهتمام به وبمعنى العناية، قال: فيصح هنا هذه المعاني الثلاثة: أي ذعرنا لاحتباسه عنا، ألا تراه كيف قال: وخشينا أن يقتطع دوننا، ويدل على الوجهين الآخرين قوله فكنت أول من فزع (فخرجت أبتغي) أي أطلب (رسول الله) أي فسرت (حتى أتيت حائطاً) أي بستاناً، وسمى بذلك لأنه حائط لا سقف له (للأنصار) تقدم أنه علم بالغلبة على أولاد الأوس والخزرج، وقوله (لبني النجار) بدل منه بإعادة الجار (فدرت به هل أجد له بابا) أي متطلباً للوقوف على بابه (فلم أجد) أي بابا وحذف لدلالة ما قبله عليه (فإذا ربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة، قال المصنف: على لفظ الربيع الفصل المعروف وجمعه أربعاء كنبى وأنبياء، ويأتي أنه النهر الصغير (يدخل في جوف حائط) أي(5/191)
(بستان وإسناد الدخول إلى الربيع مجازي فالداخل ماؤه مثل قولهم نهر جار (من بئر خارجة) قال المصنف: هكذا ضبطناه بتنوين بئر وخارجة على أن خارجة صفة بئر، وكذا نقله ابن الصلاح عن أصل الحافظ أبي عامر العبدرى، والأصل مأخوذ عن الجارودي. وذكر الحافظ أبو موسى الأصبهاني أنه روى على ثلاثة أوجه: أحدها هذا، والثاني بتنوين بئر وإضافة خارجة إلى ضمير الحائط، والثالث إضافة بئر إلى خارجة بالهاء في آخره اسم رجل، قال المصنف: والوجه الأول هو المشهور خلافاً لصاحب التحرير في قوله إن الصحيح الوجه الثالث، قال: والأول تصحيف، قال: والبئر يعنون بها البستان، قال: وكثيراً ما يفعلون هذا يسمون البستان بالآبار التي فيها فيقولون بئر أريس وبئر حاء وبئر بضاعة وكلها بساتين اهـ.Y قال المصنف: وأكثره أوكله لا نوافق عليه (والربيع الجدول) جملة معترضة مفسرة يحتمل أن تكون من كلام أبي هريرة من جملة الحديث وهو ظاهر كلام المصنف الآتي، ويحتمل أن تكون مدرجة فيه، والجدول فعول: هو النهر الصغير قاله في
المصباح (فاحتفزت) روى بالزاي وبالراء، قال القاضي عياض: رواه عامة شيوخنا بالراء، قال: وسمعناه بالزاي من طريق أخرى وهو الصواب، ومعناه: تضاممت ليسعني المدخل، وكذا قال ابن الصلاح، وإنه بالراء في الأصل الذي بخط أبي عامر العبدري، وفي الأصل المأخوذ عن الجارودي وأنها رواية الأكثر، وأن رواية الزاي أقرب من حيث المعنى، ويدل عليه تشبيهه بفعل الثعلب وهو تضامُّه في المضايق، وأنكر صاحب التحرير الزاي وخطأ رواتها واختار الراء وليس اختياره بمختار (فدخلت على رسول الله، فقال أبو هريرة) أي أنت أبو هريرة؟ (قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما شأنك) قال الراغب في مفرداته هو الحال والأمر الذي يتفق ويصلح ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور (قال: كنت بين ظهرانينا) بصيغة المثنى وتقدم مأخذه (فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب) بفتح المثلثة وسكون المهملة آخره، وله كنى كثيرة أشهرها أبو الحصين. قال ابن النحوي في لغات «المنهاج» : ويقال فيه أيضاً أبو البحيص وأبو الحبيص وأبو حفص وأبو عومل وأبو النجم وأبو نومل وأبو الرباب اهـ (وهؤلاء الناس) الذين كنت بين أظهرهم أو هم(5/192)
وغيرهم ممن اطلع على القصة، فأل للعهد أو للجنس (ورائي، فقال: يا أبا هريرة) وجملة (وأعطاني نعليه) جملة حالية من فاعل قال وقوله (فقال) تكرير للأول. قال المصنف وأتى بها لطول الفصل بين القول ومقوله بالنداء وبالجملة الحالية وهذا حسن وموجود في كلام العرب بل في القرآن، قال تعالى:
{فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} (البقرة: 89) قال محمد بن يزيد: فلما تكرير للأولى لطول الكلام وكذا قوله تعالى: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} (المؤمنون: 35) فإنكم الثانية معادة لطول الكلام (اذهب بنعليّ) بفتح اللام وتشديد التحتية بدليل قوله قبله وأعطاني نعليه وقوله (هاتين فمن لقيت) أي من عربي وغيره من ذكر أو أنثى (من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله) أي مع قرينتها وهي محمد رسول الله فإن ذلك صار في عرف الشرع كناية عن مجموعهما، وقوله (مستيقناً بها قلبه) حال من فاعل يشهد أتى به لإخراج المنافق من هذه البشرى (فبشره بالجنة وذكر الحديث بطوله) وحاصله أن عمر أشار على النبي بترك التبشير بذلك لئلا يتكل الناس على ذلك فيتركوا العمل فوافق عليه، ولا يضرّ ذلك في مقصود الباب لأن الشاهد في أمره بذلك فدل على طلبه، وكونه ترك خصوص ذلك المبشر به لأمر يقتضيه لا يتعدى إلى غيره، والله أعلم (رواه مسلم) في كتاب الإيمان.
(الربيع النهر) بفتح النون والهاء ويجوز إسكانها (الصغير وهو الجدول) أي إن الربيع والجدول مترادفان وإنهما اسمان للنهر الصغير (كما فسره في الحديث) الضمير البارز يرجع للربيع، وتقدم مرجع المستكن وما فيه من الاحتمال (وقوله احتفزت) وكذا قوله كما يحتفز الثعلب وكأنه سكت عنه اختصاراً لأن المادة واحدة (روى بالراء وبالزاي، ومعناه بالزاي تضاممت وتصاغرت حتى أمكنني الدخول) ومعناه بالراء حفر الأرض حتى اتسع فدخل من ذلك.
4711 - (وعن أبي شماسة) بفتح الشين المعجمة وضمها ذكرهما صاحب المطالع والميم(5/193)
مخففة وآخره سين مهملة ثم هاء واسمه عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب أبو عمرو، وقيل أبو عبد الله المهبري بفتح الميم وإسكان الهاء قاله المصنف (قال: حضرنا عمرو بن العاص) بحذف الياء كما تقدم توجيهه (رضي الله عنه وهو في سياق الموت) بكسر المهملة وتخفيف التحتية: أي حال حضور الموت (يبكي طويلاً) أي بكاء طويلاً، والجملة إما خبر بعد خبر أو حال من الضمير المستقرّ قبله (وحوّل وجهه إلى الجدار) معطوف على قوله أول القصة حضرنا (فجعل ابنه يقول: يا أبتاه) تكتب الهاء لأنها ينطق بها ساكنة عند الوقف (أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح (بشرك رسول الله بكذا) كناية عن المبشر هو به (فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد) بضم النون من الإعداد: أي نتخذه ذخراً أو عدة للمعاد (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وقوله (إني كنت على ثلاثة أطباق) تفصيل لتعاقب أحواله وما عنده في كل حال. والأطباق بمعنى الأحوال، وذكَّر ثلاثة نظراً لتذكير طبق، وإلا فلو نظر لكونه بمعنى حال الأفصح تأنيث معناها بأن يقال حال حسنة لحذف التاء أشار إليه المصنف (لقد رأيتني) بضم التاء، من خصائص أفعال القلوب جواز كون فاعلها ومفعولها متحدين والمفعول الثاني محذوفاً لدلالة المقام عليه، وجملة (وما أحد أشدّ) خبر ما، وقوله (بغضا) منصوب على التمييز من نسبته إلى المخبر به عند (لرسول الله منى ولا أحبّ إليّ أن يكون قد استمكنت) أي تمكنت وصيغة الاستفعال للمبالغة (منه فقتلته) والجملة المنفية معطوفة على خبر ما، وأعاد النافي إيماء إلى أن النفي متوجه إلى كل منهما لا إلى مجموعهما (فلومت) بضم الميم على الأفصح وبه قرأ الجمهور قوله تعالى: {ولئن متم} قال أبو البقاء: ضم الميم هو الأصل لأن الفعل منه يموت ويقرأ بالكسر وهي لغة، يقال مات يمات كخاف يخاف، فكما تقول خفت تقول مت اهـ (على
تلك الحال لكنت من أهل النار) أي من أصحابها المخلدين فيها أبداً وأتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد في القريب إيماء لكمال قبحه، وذك ليعظم شكره لمولاه إذ أنقذه من أشد المتاعب وأشرّ المعايب، وعطف على تلك الحالة الثانية(5/194)
قوله (فلما جعل الله الإسلام) أي حبه (في قلبي أتيت النبي) وذلك بعد الحديبية (فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك) بكسر اللام على أنها لام التعليل والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة، ويجوز أن يكون بكسرها أو بإسكانها لام أمر كقوله «قوموا فلأصل لكم» على إحدى الروايات فيه، والمراد أن يبايعه على دخوله في اتباعه ونصرة الإسلام (فبسط يمينه فقبضت يدي) بفتح المثناة التحتية وكسر الدال المهملة: أي يميني لأنها التي يبايع بها، وإنما عبر بها دفعاً للتكرار المستعذب تركه في الأسماع (فقال: مالك) مبتدأ وخبر (يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟) قال المصنف: هكذا ضبطناه بإثبات الباء، فيجوز أن تكون زائدة للتأكيد ويجوز أن يكون ضمن معنى يشترط معنى يحتاط (قلت: أن يغفر لي) بالبناء للمفعول وترك ذكر الفاعل لتعينه والعلم به وحذف المطلوب غفره للتعميم (قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله) من سائر الذنوب التي أعظمها الكفر، قال تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف: (وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها) أي مما يحدث بين الإسلام وبينها (وأن الحج يهدم ما كان قبله) هذا محمول عند المحققين على صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله تعالى، أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة، والتبعات لا تكفر إلا برضى أهلها أو بفضل الله تعالى فيها، ولهذه الجمل المبشرات بهدم كل من الأعمال الثلاث لما قبله من الذنوب، أورده المصنف شاهداً لشطر الترجمة، وهنا كلام محذوف دل عليه المقام: أي فأسلمت وبايعت (وما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله) لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك، قال رسول الله «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من أهله
ونفسه والناس أجمعين» (ولا أجل في عيني منه) من الجلال: أي العظمة والمهابة (وما كنت أطيق أن أملأ عينيّ) بتشديد التحتية مثنى (منه) متعلق بأملأ، وقوله (إجلالاً له) علة لما قبله: أي(5/195)
إن عدم الإضافة ناشىء عن الجلال الذي عليه صلوات الله وسلامه عليه (ولو سئلت أن أصفه) أي أذكر صفة خلقه بفتح الحاء المعجمة (ما أطقت) ذلك لأنه لا يكون إلا عن إمعان نظر من الواصف للذي يريد وصفه، ويمنع منه بالنسبة إليه ما أسبغ عليه من المهابة والجلال المانعين من تحديق البصر فيه كما قال (لأني لم أكن أملأ عيني) بصيغة المثنى أيضاً (منه ولو متّ على تلك الحالة) العظيمة الشأن الدال على ذلك فيها الإشارة إليها بما يشار به للبعيد تعظيماً وتفخيماً (لرجوت أن أكون من أهل الجنة) فيه أن العارف وإن عمل الصالحات ما عمل لا تفارقه خشيته لمولاه قال تعالى:
{والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} (المؤمنون: 60) وذلك لأنه لم يركن إلى هذه الأعمال الصالحة ويقطع بكونه من أهل الجنة لكونها من أعماله، بل اعتمد على قلبه وأقبل بشراشره ولبه على مولاه راجياً أن ينظمه في سلك من والاه (ثم ولينا أشياء ما أدرى ما حالي فيها) وهذا منه مزيد تواضع لمولاه وإلا فهو من علماء الصحابة، والصحابة كلهم عدول (فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة) وهي الرافعة للصوت بالبكاء مع تعداد الأوصاف كيا جبلاه لأنها ملعونة في السنة ولا ينبغي صحبتها والنياحة حرام (ولانار) وذلك للتفاؤل بالنجاة منها وكراهة لصحبتها للميت كما جاء في الحديث، ثم قيل سبب الكراهة لكونها شعار الجاهلية وقال ابن حبيب المالكي: كره تفاؤلاً بالنار، نعم إن دعا لها داع من تغير الميت ومزيد نتنه ولا تنكسر سورة ذلك عن حامليه إلا بما يبخر به فلا كراهية (فإذا دفنتموني فسنوا على التراب سناً) فيه استحباب صب التراب في القبر فإنه لا يقعد عليه بخلاف ما يعمل في بعض البلاد (ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور) ما مصدرية والجزور بفتح الجيم وضم الزاي: المذبوح من الإبل خاصة وسواء كان ذكراً أم أنثى وجمعه جزر كرسول ورسل وجزران أيضاً ثم يجمع على جزائر (ويقسم لحمها حتى استأنس بكم) أي كي أستأنس بكم (وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) أي من فتاني القبر. وإنما أطلق عليهما صيغة الجمع مجازاً من إطلاقه على ما فوق الواحد. قال المصنف: وفي هذه الجملة من الفوائد: إثبات فتنة القبر وسؤال الملكين وهو(5/196)
مذهب أهل الحق، واستحباب المكث عند القبر بعد الدفن لحظة نحو ما ذكر لما ذكر. وفيه أن الميت يسمع حينئذ من حول القبر (رواه مسلم. قوله «سنوا» روى بالشين المعجمة وبالمهملة) قال المصنف في شرح مسلم ضبطناه بهما، قال: وكذا قال القاضي عياض إنه بهما (أي صبوه قليلاً قليلاً) وقيل بالمهملة الصب في سهوته وبالمعجمة التفريق.
تنبيه: الترجمة معقودة للتبشير والتهنئة بالخير، والذي أورده المصنف إنما هو في الشطر الأول لا في الثاني، ويمكن أن يدعي في ضمن ذلك تهنئة بما بشر به المبشر، والله أعلم.
96 - باب وداع
بكسر الواو: أي موادعة (الصاحب) يحتمل كون المصدر مضافاً لفاعله، فالمفعول محذوف ويحتمل العكس: أي موادعة الشخص الصاحب (ووصيته عند فراقه) أي بما يتواصى به من البرّ والتقوى (لسفر وغيره) متعلق بفراقه وغيره كعدم التلاقي في البلاد أو الموت (والدعاء له وطلب الدعاء منه) أي حينئذ لأن القيد بحرف على جميع المتعاطفات.
(قال الله تعالى) : ( {ووصى بها} ) أي بالملة وكلمة الإخلاص ( {إبراهيم بنيه ويعقوب} ) أي وصى هو أيضاً بنيه، ويجوز أن يكون معطوفاً على إبراهيم والمفعول محذوف: أي وصى يعقوب بنيه، قال السفاقسي: وهذا أظهر مما قبله ( {يا بنيّ} ) على إضمار القول أو معمول وصى لأنه نوع من القول مذهبان: الأول بصري، والثاني كوفي، وذلك مقول كل منهما على القراءة السبعية برفع يعقوب وأنه عطف على إبراهيم، أما على إعراب يعقوب(5/197)
مبتدأ محذوف الخبر كما بدأنا به فيكون قوله يا بنيّ من كلامه، وقرىء شاذاً بنصبه عطفاً على مفعول وصي فيكون يا بنيّ من قول إبراهيم وحده (إن الله اصطفى لكم الدين) أي دين الإسلام ( {فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} ) أي دوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا عليه ( {أم كنتم شهداء} ) أم منقطعة: أي بل كنتم والهمزة للإنكار: أي ما كنتم حاضرين وهذا رد لليهود حيث قالوا للنبي: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية ( {إذ حضر بعقوب الموت} ) الظرف متعلق بشهداء، وهنا تم الكلام ثم ابتدأ بقوله ( {إذ قال لبنيه} ) كأنه قال: اذكر إذ قال ذلك الوقت حتى لا تدّعي عليه اليهود، أو متعلق بقالوا نعبد. قلت: أو بدل من إذ الأولى أشار إليه السفاقسي ( {ما تعبدون من بعدي} ) سؤال عن صفات المعبود ( {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحداً} ) نصب على البدل من إلهك قال السفاقسي أو حال موطئة: أي القصد الوصف، وجىء باسم الذات توطئة، وإجازة الزمخشري نصبه على الاختصاص مردودة بأن المنصوبات كذلك لا تكون إلا نكرة، وتمحل له السفاقسي بأنه لم يرد الاختصاص الصناعي بل المعنوي وإسماعيل عمه فهو من التغليب. قلت: أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه لأن العم يسمى أبا مجازاً ( {ونحن له مسلمون} ) حال من مفعول نعبد أو معطوفة على جملة نعبد، وإجازة الزمخشري إعرابها معترضة رده السفاقسي بأنها التي تفيد تقوية بين متلازمين، وليست هذه كذلك
لأن ما قبلها وما بعدها كلامان مستقلان. وأيضاً ما قبلها من كلام بني يعقوب وما بعدها من كلام الله، وشرط الاعتراضية أن تكون بين متلازمين من متكلم واحد ليؤكد بها كلامه اهـ ملخصاً. وقد بينت في شرح نظم القواعد في الجمل التي لا محل لها أن مراد الزمخشري الاعتراض البياني لا النحوي، أشار إليه ابن هشام في المغنى وقال: إنه قد يردّ عليه من لا يعرف ذلك العلم كأبي حيان توهماً منه أن لا اعتراض إلا ما يقوله النحاة من الاعتراض بين شيئين متطالبين اهـ.
(وأما الأحاديث) النبوية (فمنها) :
1712 - (حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الذي سبق) مع شرحه (في باب إكرام أهل بيت رسول الله) وقوله(5/198)
(قال) إلى آخر الحديث بدل من حديث في محل رفع (قام) أي انتصب (فينا رسول الله خطيباً) قال: وفيه طلب القيام حال الخطبة (فحمد الله) بأوصافه الثبوتية (وأثنى عليه) بتنزيهه عما لا يليق به الأوصاف (ووعظ وذكر) يحتمل أن يكون من عطف العام على الخاص وأن يكون من عطف الرديف (ثم قال: أما بعد، ألا) أداة استفتاح أتى بها مع ما قبلها مبالغة في إنباه المخاطبين وكذا قوله (أيها الناس) أي انتبهوا لسماع ما أقوله لفخامة شأنه، والفاء في قوله (فإنما أنا بشر) عاطفة على ذلك، وقوله (يوشك) بضم أوله وكسر ثالثه: أي يقرب (أن يأتي رسول ربي) أي بالانتقال إليه وإن كان يخير بين ذلك وبين البقاء في الدنيا كما جاء ذلك في حديث عائشة، لكن من المعلوم أنه لا يؤثر على النقلة إليه البقاء في الدنيا، فلذا قال (فأجيب) بالنصب عطفاً على ما قبله، ويحتمل الرفع على إضمار مبتدأ، وابتداء الوصية التي هي محل شاهد الترجمة من الحديث قوله (وأنا تارك فيكم ثقلين) سميا به لعظمهما، قال تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} (الأحزاب: 21) (أولهما كتاب الله) أي القرآن (فيه الهدى) لا منافاة بينه وبين قوله {هدى للمتقين} (البقرة: 2) لأنه إما أن يكون ما في الحديث من باب التجريد كقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (المزمل: 5) وهو في نفسه أسوة لكن أتى بذلك للمبالغة، أو يكون قوله {هدى للمتقين} بتأويل الوصف، أو على تقدير المضاف، أو حمل المصدر عليه مبالغة لاشتماله عليه حتى كأنه عينه فلا ينافي كونه فيه (والنور) أي من ظلمات الجهالة والضلالة (فخذوا بكتاب الله) أظهر والمقام للإضمار تحريضاً على الأخذ به لشرفه بشرف المضاف إليه (واستمسكوا به) يحتمل أن يكون بمعنى ما قبله فيكون إطناباً، وأن يكون المراد من الجملة الأولى التناول، ومن الثانية الدوام
على ذلك وعدم الانفكاك عنه (فحث) أي حرض (على كتاب الله) أي على التمسك به والاعتصام بحبله (ورغب فيه) بذكر ما فيه من الثواب والدرجات في المآب (ثم قال: وأهل(5/199)
بيتي) أي والثاني من الثقلين أهل بيتي (أذكركم الله في أهل بيتي) بالوداد لهم ومناصرتهم والتمسك بمحبتهم والتنسك بمودتهم، قال الصديق رضي الله عنه «ارقبوا محمداً في أهل بيته» كما تقدم في باب فضل الآل المذكور (رواه مسلم) وقد سبق بطوله في الباب المذكور.
2713 - (وعن أبي سليمان مالك بن الحويرث) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية آخره مثلثة، ويقال ابن الحارث، وقال شعبة: ابن حويرثة بن أشيم بالمعجمة والتحتية وزن أحمد الليثي. قال ابن الأثير: يختلفون في نسبه إلى ليث ثم حكاه وقال: ولم يختلفوا في أنه من ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة وهو من أهل البصرة، قدم على النبي في شببة من قومه فعلمهم الصلاة، روى له عن رسول الله خمسة عشر حديثاً، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديث، توفي (رضي الله عنه) بالبصرة سنة أربع وتسعين (قال: أتينا النبيّ) أي في وفد لنتعلم أحكام الدين (ونحن شببة) بفتح المعجمة والموحدتين جمع شاب ككاتب وكتبة (متقاربون) صفة لما قبله أو خبر بعد خبر (فأقمنا عنده عشرين ليلة) نتعلم (وكان رسول الله رحيماً رقيقاً) جملة في محل الحال من فاعل أقمنا، ويمنع كونها من الضمير المضاف إليه أن شرط مجىء الحال من المضاف إليه كونه بعضاً للمضاف أو في منزلته أو معمولاً له قبل الإضافة، وكان في الحديث مثلها في قوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} (النساء: 96) للاستمرار (فظنّ أنا قد اشتقنا) قال في «المصباح» : الشوق إلى الشيء نزاع النفس إليه فهو مصدر شاقني الشيء شوقاً من باب قال، ويتعدى بالتضعيف فيقال شوقته واشتقت إليه، ومنه يعلم أن نصب (أهلنا) على تزع الخافض (فسألنا عمن تركنا) العائد ضمير منصوب محذوف، وقوله (من أهلنا) في محل الحال بيان الموصول(5/200)
(فأخبرناه فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم) عطف على ارجعوا وعطفه بالواو إيماء إلى حصول امتثال الأمر به عقب العود أو بعده (ومرورهم) استئناف كأنه قيل ماذا نعلمهم فقال مروهم بالطاعات كذا وكذا والأمر بها مستلزم للتعليم (وصلو صلاة كذا) كناية عن مبهم من الصلوات الخمس (في حين كذا) كناية عن وقت تلك الصلاة المكنى عنها (وصلاة كذا في حين كذا) بالنصب على الظرف وكأن التخالف بينهما للتفنن في التعبير
(فإذا حضرت الصلاة فليؤذن) يجوز تسكين لام الأمر بعد الفاء وكسرها هو الأصل (لكم أحدكم) أي الواحد منكم لأن القصد منه الإعلام بدخول الوقت فاستوى حصول ذلك من الكامل وغيره (وليؤمكم) قال البرماوي: يجوز فتح ميم يؤمكم للخفة وضمها للإتباع والمناسبة. قلت: وكسرها على أصل التخلص من التقاء الساكنين (أكبركم) أي أسنكم وفي الحديث ما يدل على تساويهم في الأخذ عنه ومدة الإقامة عنده فلم يبق إلا السن (متفق عليه) روياه في كتاب الصلاة (زاد البخاري في رواية له) انفرد بها عن مسلم (وصلوا كما رأيتموني أصلي) عطف على قوله ارجعوا إلى أهليكم أو على قوله وصلوا (قوله رحيماً رقيقاً روى بفاء وقاف) من الرفق لرفقه بأمته وشفقته عليهم كما قال تعالى: {رؤوف رجيم} (التوبة: 128) قال في «المطالع» : هي رواية القابسي (وروى بقافين) قال في «المطالع» هي للأصيلي وأبي الهيثم.
3714 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: استأذنت النبي في العمرة) أي(5/201)
سألته الإذن فيها، ففيه مزيد الأدب والوقوف عند أمره حتى في أفعال البرّ (فأذن لي وقال: لا تنسنا) يحتمل أن يكون الضمير له ولأتباعه ويحتمل كونه أراد نفسه التي هي أعظم ذوات المكونات وأشرفها (يا أخي) تقدم ضبطه في باب زيارة أهل الخير (من دعائك) وقوله (فقال كلمة) بالنصب مراد بها المعنى اللغوي: أي قوله لا تنسنا يا أخي من دعائك (ما يسرّني أن لي بها) أي بدلها (الدنيا) لحقارتها وخستها بالنظر إلى ما أذن به هذا القول من رفعة عمر من الإعلام بعلو رتبته عند مولاه وأنه مما يجاب دعاؤه، وقوله يا أخي (وفي رواية قال أشركنا) أي اجعلنا شركاء لك (يا أخيّ في دعائك. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) . وفي الحديث غير ما تقدم من القوائد مزيد تواضعه والحث على سؤال الدعاء من سائر المسلمين وإن كان الطالب أشرف من المطلوب منه.
4715 - (وعن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر) بن الخطاب تابعي جليل، قال في التقريب: يكنى أبا عمر، وقيل أبا عبد الله أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتا عابداً ثقة من كبار التابعين خرّج عن الجميع (رضي الله عنهما كان يقول لرجل إذا أراد سفراً) أي وتلبس به وبمقدماته (ادن) أي اقرب (مبنى حتى أودعك كما كان رسول الله يودعنا) وفيه كما فضله وتوديعه مع علو مقامه لأصحابه (فيقول: أستودع الله دينك) أي أودعه إياه. والسين لتأكيد ذلك وتحقيقه، وذكر الدين لأن السفر مظنة التساهل في أمره لمشقته، ولذا رخص للمسافر في أمور من العبادات (وأمانتك) أي وما ائتمنت عليه من التكاليف الشرعية، أو الحقوق الإنسانية (وخواتيم عملك) ذكره اهتماماً بشأنه لأن المدار عليه(5/202)
وهذا الحديث شاهد لطلب وداع المسافر (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
5716 - (وعن عبد الله بن يزيد الخطمي الصحابي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: كان النبي إذا أراد أن يودع الجيش) الجماعة الخارجين للقتال (قال: أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم عملكم) لعل إفراد الأولين لأنهما مصدران يقال أمن بكسر الميم أمانة، والأصل فيه الإفراد والتذكير، بخلاف خاتمة فإنه على صيغة الوصف الذي شأنه خلاف ذلك، ولعل في جمعه إيماء إلى إكثار الأعمال الصالحة عند الوفاة ليكون الختم بالكثير الطيب فأوصى بجمع ذلك لذلك، والله أعلم، (حديث صحيح) هذا على مذهبه الذي اختاره من جواز التصحيح ومقابله في هذه الأزمنة الأخيرة لمن تأهل له خلافاً لابن الصلاح المانع لذلك، وقد رده المصنف في «الإرشاد والتقريب» (رواه أبو داود وغيره) وهو الحاكم في «المستدرك» (بإسناد صحيح) والأصل في صحته صحة المتن ما لم يعرض للمتن شذوذ أو علة.
6717 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله إني أريد سفراً فزودني يحتمل أن تكون عاطفة على مقدر: أي فائذن لي وزودني كما تقدم من فعل عمر في استئذان النبي، ويحتمل تقدم الاذن له في ذلك وإنما جاء لطلب الدعاء، ففيه استحباب مجيء المسافر لأصحابه وسؤاله دعاءهم، وعلم) بقرينه حال السائل أن مراده الإعداد بالدعاء فلذا قال (فقال: زوّدك الله التقوى) قال تعالى: {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى} (البقرة: 197) وإنما كانت كذلك لأنها الزاد الذي يقطع به العقبة الكئود وينجي بها(5/203)
برحمة الله تعالى المرء في اليوم المشهود (قال زدني) لا يخفي ما بين زودني وزدني من الجناس: أي من هذا الزاد (فقال: وغفر ذنبك) أي ما أسلفته من المخالفة (قال: زدني، قال: ويسر لك الخير) الديني والدنيوي (حيثما كنت) ما صلة أي في أيّ مكان كنت (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) .
97 - (باب الاستخارة)
أي سؤال خير الأمرين والتوفيق له (والمشاورة) أي للغير عند إرادة شيء ما. وذكر دليل الثاني في الترجمة قبل الأول منها لكونه من الكتاب. واختصر فقال (قال الله تعالى: {وشاورهم في الأمر} ) أي الذي تصح فيه المشاورة وذلك لتطبيب قلوبهم.
(وقال الله تعالى) : ( {وأمرهم شورى بينهم} ) شورى اسم مصدر اشتور: أي ذو اشتوار كما قال المصنف مبيناً لحاصل المعنى (أي يتشاورون فيه) فدل الثناء بذلك في معرض المدحة أنه ممدوح محبوب.
1718 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة) أي طلب الخيرة: أي يعلمهم كيفيته من صلاة ودعاء (في الأمور) التي يريد الإقدام عليها مباحة كانت أو عبادة، لكن بالنسبة لإيقاع العبادة في ذلك الزمان الذي عزم عليه فيه لا لأصلها(5/204)
فإنه خير لا استخارة فيه (كلها) في محل الحال أو الصفة من مفعول يعلمنا (كالسورة من القرآن) أي تعليمها كتعليم السورة وهذا فيه بيان إتقانه للذكر وعدم اشتباهه. عليه كالمشبه به (يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر) الجائز فعلاً أو تركاً (فليركع) ندباً (ركعتين) بيان لأقل ما تحصل به (من غير الفريضة) بيان للأكمل وإلا فيحصل فضلها بما إذا صلى فريضة أو راتبة ونوى بها الاستخارة، فإن لم ينوها سقط عنه الطلب وهل يحصل ثواب أولاً؟ فيه الخلاف في ذلك في «التحفة» (ثم ليقل) أي عقب فراغه من الصلاة مستقبل القبلة رافعاً يديه بعد الحمد والصلاة على النبي إذ هما سنتان في كل دعاء. (اللهم إني أستخيرك بعلمك) أي أسألك أن تشرح صدري لخير الأمرين بسبب علمك بكيفيات الأمور وجزئياتها، إذ لا يحيط بخير الأمرين إلا العالم بذلك وليس كذلك إلا أنت. فالباء سببية، ويحتمل أن تكون للقسم الاستعطافي وهما في الباء في قوله (وأستقدرك بقدرتك) . أي أسأل منك أن تقدرني على خير الأمرين، قال في فتح الإله: وجعل الشارح الباء فيهما للاستعانة كهي في بسم الله مجراها فيه تكلف، والفرق بين ما هنا وما في الآية واضح للمتأمل (وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر) على كل ممكن تعلقت به إرادتك، والجملة تعليل لما قبله (ولا أقدر وتعلم) كل شيء كل وجزئي وممكن وغيره (ولا أعلم) أي شيئاً من ذلك إلا ما علمَّتني (وأنت علام الغيوب) لا يشذّ عن علمك منها شيء ولا يحيط أحد من خلقك منها بشيء إلا ما علمته باطلاع على جزئياتها، وكأن حكمة تشويش النشر الإشارة بتقديم العلم أولاً إلى عمومه، وبتقديم القدرة ثانياً إلى أنها الأليق والأنسب
بالمطلوب الذي هو الإقدار على فعل خير الأمرين على حد تأخيره ولجملة وأنت علام الغيوب، وترك وأنت القادر على كل شيء، ومن ثم جعل سؤال الإقدار مرتباً عليه في قوله (اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر) أي الذي عزمت عليه (خير لي في ديني ومعاشي) بأن لا يترتب عليه نقص ديني ولا دنيوي (وعاقبة أمري، أو) شك من الراوي (قال: عاجل أمري وآجله) هذا إطناب(5/205)
لشمول ديني ومعاشي لذلك، ومقتضى قول المصنف يندب الجمع في الدعاء بين كثيراً بالمثلثة وكبيراً لشك الراوي في الذكر الوارد في ذلك يوم عرفة وعقب الصلاة استحباب جميع المشكوك في أحدهما حتى يتحقق إتيانه بالوارد والزيادة عليه لأجل تحقق الإتيان به فغير منافية للاتباع والأمر بتكريره مرتين لذلك لا حاجة إليه (فاقدره) قال القاضي عياض بالكسر والضم في الدال، واقتصر الأصيلي على الكسر: أي أفض به وهيئه (لي ويسره لي) عطف تفسير أو أخص، إذ الإقدار قد يكون نوع مشقة (ثم) إذا حصل لي وحكمة ثم هنا أن في حصول المسؤول نوع تراخ غالباً (بارك لي فيه) بنموه ونمو آثاره وسلامتها من جميع القواطع (وإن) أتى بها هنا وفي عديله السابق مع أن المقام لإ إذا تحقق إحاطة علمه تعالى بذلك نظراً إلى حال المتكلم وشكه في الخير منهما (كنت تعلم أن هذا امر شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه) صرح به للمبالغة والتأكيد لأنه يلزم من صرفه عنك صرفك عنه وعكسه، ويصح كونه تأسيساً بأن يراد باصرفه عني: لا تقدرني عليه، وباصرفني عنه: لا تبق في باطني اشتغالاً به. قال ابن حجر الهيثمي في «حاشية الإيضاح» : وينبغي التفطن لدقيقة قد يغفل عنها ولم أر من نبه عليها، وهي أن الواو في المتعاطفات التي بعد خير على بابها وفي التي بعد شرّ بمعنى أو، لأن المطلوب تيسيره لا بد وأن يكون كل أحواله المذكورة ديناً ودنيا خبراً، والمطلوب صرفه يكفي كون بعض أحواله شرّاً، وفي إبقاء الواو على حالها
إبهام لأنه لا يطلب صرفه إلا إن كانت جميع أحواله لا بعضها شرّاً وليس مراداً كما هو ظاهر اهـ. وفيه نظر ذكرته في شرح الأذكار (واقدر لي الخير) أي ما فيه ثواب ورضا منك على فاعله (حيث كان) أي أقدرني على فعله في أيّ مكان وأي زمان حصل، وكأن حكمه تركه هنا «ويسره لي» أن الخير العام لا بد في حصوله من مشقة وتعب غالباً أو دائماً، بخلاف ما سبق فإنه خاص وانتفاء المشقة عليه كثير (ثم رضني به) حتى لا أزدري شيئاً من نعمك ولا أحسد أحداً من خلقك، وحتى أندرج في سلك الراضين الممدوحين بقولك
{رضي الله عنهم ورضوا عنه} وجاء في رواية النسائي (ثم أرضني بقضائك) (ويسمى) عطف على فليقل لأنه في معنى الأمر حال من فاعله: أي فليقل ذلك مسمياً (حاجته) فيقول: اللهم إن كنت تعلم أن حجي في(5/206)
هذا العام مثلاً (رواه البخاري) في أبواب صلاة الليل وفي الدعوات من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الصلاة، وكذا الترمذي وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي وهو مدني ثقة، وأخرجه النسائي في النكاح وفي النقوء وفي اليوم والليلة، وكذا لخص من «الأطراف» .
98 - باب استحباب الذهاب إلى العيد وعيادة المريض والحج
فقد ذهب في صعوده إلى عرفة من طريق ضب وفي رجوعه منها من طريق المأزمين (والغزو والجنازة ونحوها) كالسعي إلى الجمعة والجماعة (من طريق والرجوع من طريق آخر) تأكيد وإلا فتنكير موصوف يدل على مغايرته لما قبله، وقوله (لتكثير مواضع العبادة) علة للتخالف فيما ذكر. وهو أحد الأقوال في مخالفته بين الطريقين في الذهاب إلى العيد.
1719 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي إذا كان يوم العيد خالف الطريق) أي في خروجه إلى الصلاة ورجوعه منها (رواه البخاري) وعند الترمذي والحاكم في «مستدركه» من حديث أبي هريرة «كان إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره» وبمعناه قول المصنف.
(قوله خالف الطريق: يعني ذهب في طريق ورجع في طريق آخر) قال في «فتح(5/207)
الإله» : ويسن أن يجعل الطويل للذهاب حيث لم يخش فوت نحو جماعة، والقصير للرجوع لأنه ليس قاصداً قربة وإن قلنا يثاب على الرجوع أيضاً على خلاف فيه. واختلفوا في سبب مخالفته بين الطريقين، فقيل جعل الطويل للذهاب ليكثر الثواب، والقصير للرجوع لأنه لا ثواب فيه عن جمع، أو ثوابه أقل، أو لشهادة الطريقين له: أي لفظاً يوم القيامة أو ليتبرّك أهلهما به، أو ليعمهما بركته وخيره، أو لإشاعة ذكر الله فيهما، أو لتصدّقه على فقرائهما، أو لنفاد ما يصدّق به عند الذهاب، أو لزيارة قبور أقاربه فيهما، أو غيظ المنافقين أو الحذر منهم، أو التفاؤل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا أو لخسية الرحمة، ورجحه بعض أئمتنا لحديث فيه، وإنما ندب ذلك حتى لمن لم يشاركه في شيء مما ذكر كما تقرر تأسياً به كالرمل والاضطباع اهـ.
2720 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله كان يخرج) أي من المدينة (من طريق الشجرة) قال السمهودي في «الخلاصة» : يضاف إليها مسجد ذي الحليفة (ويدخل من طريق المعرس) بضم الميم وفتح المهملة والراء المشددة آخره مهملة. قال السمهودي: في مسجد المعرس (وإذا دخل مكة) أيّ دخول (كان يدخل من الثنية العليا) أي من الحجون الثاني (ويخرج من الثنية) بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتية الطريق الضيقة بين الجبلين (السفلي) هي المسماة بالشبيكة، وحكمة ذلك الذهاب من طريق والعود من أخرى لما ذكر من الحكم، وخصت العليا بالدخول لقصد الدخل موضعاً عالي المقدار والخارج عكسه، ولأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان حين قال {فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم} (إبراهيم: 37) على العليا كما روي عن ابن عباس، قاله السهيلي (متفق عليه) .(5/208)
tit/2>99 - باب التسمية في أوله والحمد في آخره
لكرامتها (كالوضوء) فيقدم السليم اليمني من يديه ورجليه وغيره من نحو أقطع الأيمن مطلقاً من جبينه وخديه وطرفي رأسه وأذنيه ويديه ورجليه (والغسل) فيقدم الجانب الأيمن المقبل منه والمدبر على الجانب الأيسر كذلك، بخلاف غسل الميت فيغسل منه الجانب المقبل ثم الأيسر كذلك، ثم يحرفه على جنبه الأيسر ويغسل الجانب المدبر، ثم يحرفه على جنبه الأيمن فيغسل الجانب الأيسر منه. وفارق الحيّ الميت فيما ذكر بعسر غسل جانبي اليمين معاً بالنسبة للميت وسهولته في الحي (والتيمم) وهو كالوضوء فيما سبق من التفصيل (ولبس الثوب) فيدخل كمه الأيمن قبل الأيسر (والنعل والخف والسراويل) فيدخل الرجل اليمنى قبل اليسرى، والسراويل قبل لفظ جمع لا واحد له، وقيل إنه جمع سراولة (ودخول المسجد) فينزع الرجل اليسرى من النعل أوّلاً ويجعلها على ظهرها ثم اليمنى فيقدمها إلى المسجد ثم اليسرى (والسواك) فيبدأ بجانب الفم الأيمن ويكون إمساك السواك باليد اليمنى (والاكتحال) فيبدأ باليمنى ثلاثاً ثم باليسرى كذلك كما نص عليه ابن حجر الهيثمي في «الإمداد» (وتقليم الأظفار وقص الشارب) الشعر النابت على الشفة العليا، سمى بذلك لأنه يلقي الماء حين الشرب (وحلق الرأس) ظاهر عمومه ولو في غير نسك كما اعتاده الناس من حلقه مطلقاً فيسن البدء باليمين (والسلام من الصلاة والأكل) فيأكل باليمين، وقيل إنه بها واجب لحديث راعي البرّ (والشرب) وهو إدخال المائع إلى الجوف فيأخذ بيده اليمنى إن كان الشرب بها، أو يأخذ نحو الشربة بها (ولمصافحة واستلام الحجر الأسود) افتعال، قيل من السلام بمعنى التحتية، وقيل من السلام بالكسر بمعنى الحجارة لما فيه من لمسها (والخروج من الخلاء) أي المحل الذي أراد لقضاء الحاجة من خلاء أو قضاء (والأخذ والعطاء) أي الإعطاء فيستحب كون كل من المناولة إعطاء وأخذاً باليمنى وظاهر عمومه ولو كان لاكراهة فيه ولا إهانة (وغير ذلك)(5/209)
أي ما ذكر (مما هو في معناه)
من باب التكريم (ويستحب تقديم اليسرى في ضد ذلك) أي المذكور مما هو من باب الإهانة لاستقذارها (كالامتخاط والبصاق) بضم الباء وهو البزاق مصدر بزق من باب قعد والصاد إبدال منه كما في «المصباح» (على اليسار) متعلق بمحذوف حال منها: أي كائنين من جهته، نعم إن كان بالروضة الشريفة النبوية، أو كان على يساره أحد فليفعل ذلك بين يديه (ودخول الخلاء) أي المحل المراد لقضاء الحاجة (والخروج من المسجد) فيخرج اليسرى منه ويضعها على ظهر النعل ثم اليمنى ويلبسها أولاً ثم يلبس اليسرى (وخلع الخفّ والنعل والسراويل والثوب) وذلك لأن بقاء العضو في الثوب كرامة واليمنى أحق بها، وضده إهانة واليسرى أليق بها (والاستنجاء) بالحجر أو الماء (وفعل المستقذرات) كإزالة الأوساخ من نحو بدنه فلين باليسرى (وأشباه ذلك) المذكور وسكت عما لا تكرمة فيه ولا إهانة كدخول المنزل. وقد اختلف فيه فقيل إنه باليمنى نظراً لعدم وجود الإهانة المقتضية اليسرى. وقيل باليسرى لفقدان التكريم المقتضي بها والراجح الأول.
(قال تعالى) : ( {فأما من أوتى كتابه بيمينه} ) وهم جمع المؤمنين ولو عاصياً كما ذكره جمع، وألف فيه السيد السمهودي مؤلفاً أودعه فتاويه، ولكن قال الحافظ ابن عطية في «تفسيره» : الظاهر أن ذلك يكون للعاصي بعد خروجه من النار، وفيه ندب تناول الكتاب لغيره من سائر المكرمات باليمين ( {فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه} ) قال أبو حيان في «تفسيره النهر» : قال الكسائي: مكسور يقال هاء للرجل، والاثنين رجلين أو امرأتين هاؤما وللرجال هاؤم، وللمرأة هاء بهمزة بغير ياء، وللنساء هاؤن، ومعنى هاؤم خذوا، وهاؤم وإن كان مدلولها تعالوا فهي متعدية إليه بواسطة إلى وكتابيه يطلبه هاؤم واقرءوا، والبصريون يعملون اقرءوا والكوفيون يعملون هاؤم. وفي الآية دليل على جواز التنازع بين الفعل والإسم اهـ. وقوله (الآيات)(5/210)
يجوز قراءته بالرفع والنصب وبالخفض كما تقدم توجيهه، وباقي الآيات لا تعلق لها بموضوع الباب وإنما فيها ثناء على الآخذين الكتب باليمين.
(وقال تعالى) : ( {فأصحاب الميمنة} ) هم الذين عن يمين العرش أو كانوا عن يمين آدم عند إخراج ذريته من ظهوره أو الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم أو أصحاب المنزلة السنية أو أصحاب اليمين ( {ما أصحاب الميمنة} ) أي ما أسعدهم وأعظم ما يجازون به (وأصحاب المشأمة) يقابل الميمنة بالمعاني (ما أصحاب المشأمة) أي ما أشقاهم وأشد عذابهم.
1721 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يعجبه التيمن) أي استعمال اليمين (في شأنه) أي في حاله المهتم به شرعاً (كله) وأبدل من شأنه يإعادة العامل قوله (في طهوره) بدل بعض من كل، وهو بضم الطاء المهملة: استعمال الماء للتطهر وبفتحها الماء المتطهر به فيكون على تقدير مضاف وتقدم بيان التيمن المطلوب فيه (وترجله) بتشديد الجيم: أي تسريحه شعر رأسه (وتنعله) أي إدخاله رجليه في النعل، وقيس بما في الخبر كل ما كان من باب التكريم فاستحبّ كونه باليمين، وأخذ من مفهومه ومن منطوق حديثها استحباب كون اليسرى لما كان من باب الإهانة (متفق عليه) .
2722 - (وعنها قالت: كان يد رسول الله) كذا في الأصول بحدف تاء التأنيث لأن تأنيث اليد مجازى (اليمنى لطهوره) بالضم، ويجوز الفتح على تقدير مضاف (وطعامه) أي تناوله(5/211)
(وكانت) أثبتت التاء تفنناً في التعبير لفصاحتها (يده اليسرى لخلائه) أي لما فيه من استنجاء وتناول أحجار وإزالة أقذار (وما كان من أذى) بالتنوين كتنحية نحو بصاق ومخاط ومنه تنحية نحو قمل (حديث صحيح رواه أبو داود) في «سننه» (بإسناد صحيح) .
3723 - (وعن أم عطية) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية اسمها نسيبة بالتصغير، ويقال بالتكبير بنت كعب، وقيل بنت الحارث مدنية ثم سكنت البصرة، وكانت تغسل الميتات في عهد رسول الله ويشاركها في النسب أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية، وليس لأم عمارة حديث في الصحيحن. وروي لأم عطية عن النبيّ أربعون حديثاً أخرج منها في الصحيحين تسعة أحاديث، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر، وخرّج عنها الأربعة، وروى عنها محمد وحفصة ابنا سيرين وعبد الملك بن عمير. ووقع في صحيح البخاري ما يوهم أن نسيبة غير أم عطية، وقد بين البخاري عقب ذلك الحديث أنها هي (رضي الله عنها أن النبيّ قال لهن في غسل ابنته زينب) وقيل أم كلثوم (رضي الله عنها ابدأن) بصيغة أمر خطاب جماعة النسوة والخطاب لأم عطية ومن معها من الغاسلات والمعينات عليه بنحو الصبّ والأمر للندب (بميامنها) جمع ميمنة، ففيه استحباب التيامن في غسل الميت كاستحبابه في غسل الحيّ وسبق كيفية ذلك فيهما (ومواضع الوضوء منها) لشرف أعضاء الوضوء على باقي البدن (متفق عليه) وهو قطعة من حديث طويل.
4724 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا انتعل أحدكم) أي أراد أحدكم يا معشر الأمة الانتعال ومثله إرادة لبس الخف كما تقدم (فليبدأ باليمين) في إدخال النعل لأنه كرامة وهي أحق بها (وإذا نزع) أي أراد النزع لها (فليبدأ بالشمال) لأن بقاء(5/212)
الرجل في النعل كرامة وتقدم أنها أحق بها (لتكن) الرجل (اليمنى أولهما) بالنصب ظرف لقوله (تنعل) بالفوقية خبر تكون (وآخرهما) بالنصب ظرف لقوله (تنزع) ففيه عطف على معمولي عاملين مختلفين وهو جائز اتفاقاً فالخبر على الخبر والظرف على الظرف، وجملة لتكن الخ كالتأكيد لما قبلها أو إجمال له (متفق عليه) كذا في النسخ من الرياض، والذي في «الجامع الصغير» الاقتصار على رمز مسلم دون البخاري وزاد فيه أنه أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه اهـ. ثم رأيت البخاري أورده كما قال المصنف في كتاب اللباس من «صحيحه» ، ولعل سقوط رمز البخاري من «الجامع الصغير» إن لم يكن من الكتبة غفل حال الكتابة عن كونه فيه، ولا عيب على الإنسان في النسيان.
5725 - (وعن حفصة) أم المؤمنين واستغنى عن ذلك بقوله (رضي الله عنها) فليس في الصحابيات من يسمى بذلك غيرها وهي بنت عمر بن الخطاب العدوية، أمها وأم أخيها عبد الله زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، وكانت حفصة من المهاجرات وكانت كما تقدم قبل النبي عند خنيس بن حذافة السهمي، وكان حفصة من المهاجرات وكانت كما تقدم قبل النبي عند خنيس بن حذافة السهمي، وكان ممن شهد بدراً وتوفي بالمدينة، وتزوّجها النبيّ عند أكثر العلماء سنة اثنتين من الهجرة بعد عائشة وطلقها ثم راجعها بأمر جبريل له بذلك وقال له إنها صوّامة قوّامة وإنها زوجك في الجنة توفيت حين بايع الحسن معاوية سنة إحدى وأربعين، وقيل خمس وأربعين، وقيل غير ذلك اهـ ملخصاً من «أسد الغابة» . (أن رسول الله كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه) فيوصل بها الطعام والشراب إلى فيه (وثيابه) فيدخل اليد اليمنى في القميص والرجل اليمنى في السروال قبل اليسرى (ويجعل اليسرى لما سوى ذلك) أي سوى ما ذكر وما في معناه من كل ما هو من باب التكريم فيقتضي التياسر فيما لا كرامة له ولا إهانة، أو ما في معناه مما لا إهانة فيه فيخص التياسر بما فيه الإهانة، ويقرب هذا حديث عائشة السابق «وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى» (رواه أبو داود وغيره) والترمذي بإسناد صحيح رواه في «الجامع الصغير»(5/213)
عنها بلفظ «كان يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه وثيابه وأخذه وعطائه وشماله لما سوى ذلك» وقال رواه أحمد.
6726 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا لبستم) أي أردتم اللبس (وإذا توضأتم) أي أردتم أعماله (فابدءوا بأيامنكم) جمع أيمن وهو خلاف الأيسر فيدخل الجانب الأيمن في نحو القميص قبل الأيسر ويقدم اليمنى من يديه ورجليه في الوضوء وغير السليم يتيامن في جميع أعمال الوضوء كما تقدم (حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح) ورواه ابن حبان كما في «الجامع الصغير» .
7727 - (وعن أنس أن رسول الله أتى منى) بالصرف وتركه باعتبار البقعة والمكان (فأتى الجمرة) والمعهودة هي جمرة العقبة: أي من غير تراخ عند وصوله إلى منى (فرماها، ثم أتى منزله بمنى) وهو ما بين مسجد الخيف ومحل النحر المشهور، وإلى الأول أقرب من يمين الصاعد إلى عرفة (ثم قال للحلاق) واسمه معمر بن عبد الله العدوي، وقيل أقرب من يمين الصاعد إلى عرفة وقيل خراس بن أمية الكلبى (خذ) أي الرأس لحلقه (وأشار إلى جانبه) أي جانب الرأس (الأيمن) ففيه البدء بيمين المحلوق وهو شق رأسه وعليه الجمهور، وقيل بيمين الحالق وهو شق رأس المحلوق الأيسر وعليه أبو حنيفة (ثم الأيسر ثم جعل) أي النبي، والإسناد إليه مجازي لما يأتي في الحديث بعد أن ذلك من فعل أبي طلحة (يعطيه) أي بعضه لما يأتي فيه أيضاً (الناس) ليكون بركة باقية بين أظهرهم وليذكروه كلما رأوا ذلك فإنه أشار لهم في هذه الحجة مراراً إلى قرب أجله بقوله «لعلكم لا تلقوني بعد عامكم هذا» وباقتصاره على نحر ثلاث وستين ناقة من بدنه، وقد أدركت شعرة تزار، اتفق الخلق من السلف على أنها من شعره، وقد فقدت لما سرق بيت صاحبها (متفق عليه) واللفظ لمسلم، ورواه أبو داود(5/214)
والترمذي والنسائي ذكره المزي.
(وفي رواية) عند مسلم (لما رمى جمرة العقبة ونحر نسكه) بضمتين ويجوز إسكان الثاني: أي هديه الذي ساقه معه (وحلق) أي بعد نحره (ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري) واسمه زيد بن سهل زوج أم أنس بن مالك (وأعطاه إياه) لأنه كان له مزيد خصوصية ومحبة به وبأهله ليست لغيرهم من الأنصار ولا لكثير من المهاجرين. ولذا خصه بدفنه لبنته أم كلثوم وزوجها عثمان حاضر، ولذا خصه الصحابة بأنه الذي حفر القبر الشريف وألحد فيه النبي وبنى فيه اللبن (ثم) أي بعد أن ناول أبا طلحة (ناوله) أي الحلاق (الأيسر، فقال احلق، فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال اقسمه بين الناس) لكن في رواية لمسلم أن الشعر الذي قسمه بين الناس شعر رأسه الأيمن وأن الذي أعطاه أبا طلحة شعر شق الرأس الأيسر، وقد أشار إلى ذلك الآتي في «شرح مسلم» فقال: إعطاؤه لأبي طلحة ليس مخالفاً لقوله فرّقه بين الناس لاحتمال أن يكون إعطاؤه له ليفرقه بينهم، وينبغي النظر في اختلاف الرواية في الجانب الأيسر ففي الأولى أنه فرقه كالأيمن وفي الثنية أنه أعطاه أم سليم وهي امرأة أبي طلحة والجمع بين الروايات. والله أعلم.(5/215)
2 - كتاب أدب الطعام
المراد منه ما يقابل الشراب، وإلا فيطلق لغة على كل ما يساغ فيدخل فيه الشراب كما في «المصباح» .
(وفي رواية) عند مسلم (لما رمى جمرة العقبة ونحر نسكه) بضمتين ويجوز إسكان الثاني: أي هديه الذي ساقه معه (وحلق) أي بعد نحره (ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري) واسمه زيد بن سهل زوج أم أنس بن مالك (وأعطاه إياه) لأنه كان له مزيد خصوصية ومحبة به وبأهله ليست لغيرهم من الأنصار ولا لكثير من المهاجرين. ولذا خصه بدفنه لبنته أم كلثوم وزوجها عثمان حاضر، ولذا خصه الصحابة بأنه الذي حفر القبر الشريف وألحد فيه النبي وبنى فيه اللبن (ثم) أي بعد أن ناول أبا طلحة (ناوله) أي الحلاق (الأيسر، فقال احلق، فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال اقسمه بين الناس) لكن في رواية لمسلم أن الشعر الذي قسمه بين الناس شعر رأسه الأيمن وأن الذي أعطاه أبا طلحة شعر شق الرأس الأيسر، وقد أشار إلى ذلك الآتي في «شرح مسلم» فقال: إعطاؤه لأبي طلحة ليس مخالفاً لقوله فرّقه بين الناس لاحتمال أن يكون إعطاؤه له ليفرقه بينهم، وينبغي النظر في اختلاف الرواية في الجانب الأيسر ففي الأولى أنه فرقه كالأيمن وفي الثنية أنه أعطاه أم سليم وهي امرأة أبي طلحة والجمع بين الروايات. والله أعلم.
2 - كتاب أدب الطعام
المراد منه ما يقابل الشراب، وإلا فيطلق لغة على كل ما يساغ فيدخل فيه الشراب كما في «المصباح» .
100 - باب التسمية في أوله أي عند استعماله والحمد في آخره
1728 - (عن عمرو بن أبي سلمة) ربيب رسول الله من أم سلمة (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: سمّ الله) أي اذكر اسم الله، قال المصنف: وأفضله بسم الله الرحمن الرحيم، ونازعه الحافظ ابن حجر بأنه لم يرد ما يدل لذلك (وكل بيمينك) لأنها لما ليس من باب الإهانة وهذا منه، وسيأتي الخلاف في وجوبه (وكل ما يليك) أي إذا كان الطعام لوناً واحداً، فإن كان ألواناً جاز الأكل من جميع الجوانب (متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الأطعمة، ورواه النسائي وابن ماجه، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه أيضاً من طريق آخر.(5/216)
2729 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله إذا أكل أحدكم) أي شرع، وهو في «الجامع الصغير» بلفظ «إذا أكل أحدكم طعاماً» وقال في آخره «فليقل بسم الله على أوله وآخره» لكن قال بعض شراحه: إن زيادة على فيه في بعض النسخ (فليذكر اسم الله تعالى) بأن يقول بسم الله الرحمن الرحيم وظاهر إطلاق الحديث شامل ما لو أتى عند إرادة أكله كما في قوله تعالى: {وتنسون أنفسكم} (البقرة: 44) أي تتركونها من البرّ الذي تأمرون به الغير. بلفظ الجلالة (فإن نسي) يحتمل أن يراد ما يقابل العمد وهو المتبادر، فالتارك عمداً لا يأتي بها أثناءه، ويحتمل أنه يأتي بها أيضاً، ولا مفهوم لقيد النسائي لأنه جرى على الغالب أن شأن المؤمن أنه لا يترك ذكر الله على طعامه إلا نسياناً، ويحتمل أن يراد به الترك كما في قوله تعالى: {وتنسون أنفسكم} أي تتركونها من البرّ الذي تأمرون به الغير فيشمل ذلك (أن يذكر اسم الله تعالى في) أي عند (أوله فليقل) ندباً (بسم الله) أي آكل (أوله وآخره) المراد بهما ما يشمل سائر الأحزاء ونصبهما على نزع الخافض.
(رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) ورواه الحاكم في «المستدرك» ، وظاهر الخبر يتناول ما بعد الفراغ وأخذ بعديته جمع من أصحابنا وقالوا: فارق عدم استحباب ذلك بعد تمام الوضوء بأن القصد منها فيه عود البركة عليه وذلك انتهى بتمامه، والقصد منها هنا منع الشيطان من الطعام، فليتقايأ ما أكله قبلها لما أتى به بعد مها. ومشى ابن رسلان في شرح أبي داود. وأرجح آخرون على خلافه فقالوا: التقدير فليقل في أثنائه لا بعده فلا يستحب.
3730 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إذا دخل الرجل) ذكر(5/217)
لأنه الأشرف، وإلا فالمرأة في جميع ما ذكر في الحديث مثله (بيته) أي منزله ولو كان خيمة، وظاهر أن المراد دخوله في المساء بدليل المبيت والعشاء، إذ إن قبله الغذاء والفطور (فذكر الله تعالى) أي اسمه بأن قال بسم الله (عند دخوله) يحتمل أن يراد عند إرادة الدخول، ويحتمل عند نفس الدخول الذي ابتداؤه الولوج في المنزل (وعند طعامه) أي تناوله له (قال الشيطان) لأعوانه على سبيل الإخبار (لا مبيت لكم ولا عشاء) ويحتمل أن يكون دعاء على الداخل وأهله إذ فوتهم كلا من المبيت والعشاء بما يأتي به من الذكر، لكن شأن الشيطان فيه كما قال تعالى: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (الرعد: 14) (وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت) إطلاقه يقتضي تمكنه من المبيت عند تركه الذكر حال الدخول وإن أتى به بعد، ويحتمل أنه مقيد بما إذا لم يأت به بعد، وإلا فلا سبيل لهم إلا قياساً على التسمية أثناء الطعام (وإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه) أي تركه كذلك عند الطعام أيضاً (قال) أي الشيطان لأعوانه (أدركتم المبيت) أي مكان البيات، ويجوز أن يكون مصدراً اسمياً (والعشاء. رواه مسلم) في كتاب الأطعمة من «صحيحه» ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، ومداره عندهم على أبي جريج عن ابن الزبير عن جابر.
4731 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا إذا حضرنا مع رسول الله طعاماً) التنوين فيه للشيوع فيشمل القليل والكثير والحقير والجليل (لم نضع أيدينا) أي فيه (حتى يبدأ رسول الله فيضع يده) وذلك تأدب معه وقد قال تعالى: {لا تقدموا بين يدي الله(5/218)
ورسوله} (الحجرات: 1) وعمومه متناول لذلك (وإنا حضرنا معه مرّة طعاماً) معطوف على قوله كنا (فجاءت جارية) يحتمل أن يكون المراد منها المعنى المشهور وهو ما يقابل الحرة ولو عجوزاً، ويحتمل أن المراد به الشابة من الحرائر (كأنها تدفع) أي لشدة سرعتها وهو بالفوقية وبصيغة البناء للمفعول وحذف الفاعل للجهل به (فذهبت) عطف على جاءت (لتضع يدها في الطعام) أي قبل وضعه يده فيها (فأخذ رسول الله بيدها) منحياً لها عن الطعام لئلا يتوصل الشيطان بيدها (إليه ثم جاء أعرابيّ) ساكن البادية (كأنما) عدل إليه عن قوله كأنها المناسب لعديله تفنناً في التعبير وما كافة مهيئة للدخول لكان على قوله (يدفع فأخذه بيده، فقال رسول الله إن الشيطان) يحتمل أن تكون أل جنسية فيشمل كل الشياطين، ويحتمل كونها عهدية، والمشار إليه إبليس لأنه كبير أتباعه، والأول أقرب، وهل هو مأخوذ من شاط إذا احترق فنونه زائدة أو من شطن إذا بعد لبعده عن الخير فيه قولان (يستحل الطعام) أي يطلب حله: أي ليتمكن منه وقوله (أن لا يذكر اسم الله تعالى عليه) علة استحلاله والجار قبلها أي بأن لا يذكر اسم الله عليه، وحذف الجار من أن وكى المصدريان قياس مطرد (وأنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها) منعاً له مما أراد (فجاء بهذا الأعرابيّ يستحل به فأخذت بيده) لذلك (والذي نفسي بيده) أي بقدرته. وفيه استحباب القسم لتأكيد الأمر عند السامع (إن يده) أي الشيطان (في يديّ) بتشديد التحتية، ويحتمل أن يكون بتخفيفها (مع يديهما) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض. والذي في معظم الأصول من مسلم يدها بالإفراد، قال
المصنف في «شرحه» : وفي بعضها يدهما: أي بالثنية فهذا ظاهر، وضمير التثنية يرجع للجارية والأعرابي، وعلى رواية الإفراد يعود الضمير على الجارية. وقد حكى القاضي عياض أن الوجه التثنية. والظاهر أن رواية الإفراد أيضاً مستقيمة، وأن إثبات يدها لا ينافي يد الأعرابي، وإذا صحت الرواية وجب قبولها(5/219)
وتأويلها كما ذكرنا اهـ (ثم ذكر) أي النبي (اسم الله تعالى وأكل) ظاهر العطف بالواو شامل لكون الذكر مقابلاً للأكل، ومتقدماً عليه وتناوله للذكر بعد الأكل يدفعه المقام (رواه مسلم) في الأطعمة أيضاً، ورواه أبو داود والنسائي أيضاً.
5732 - (وعن أمية) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية (ابن مخشى) بفتح الميم وسكون المعجمة الأولى وكسر الثانية (الصحابي) وصفه بذلك (رضي الله عنه) لخفاء صحبته على غير أهل الحديث، وهو خزاعي بصري يكنى أبا عبد الله، قاله أبو نعيم وأبو عمر، وقال ابن منده الخزاعي: وهو من الأزد، وقال ابن الأثير في «أسد الغابة» بعد ذكر حديث الباب: وقد أخرجه الثلاثة، يعني ابن عبد البر وابن منده وأبا نعيم ولا يعرف له غير هذا الحديث (قال: كان رسول الله جالساً ورجل يأكل) جملة إسمية حال من اسم كان (فلم يسمّ حتى لم يبق من طعامه إلا لقمة فلما رفعها إلى فيه قال: بسم الله) يكتب بإثبات الألف كما نبه عليه المصنف في «شرح مسلم» ، ولا يحذف إلا من جملة البسملة تخفيفاً لكثرة استعمالها (أوله وآخره) أي فيهما والمراد جميع أجزاء الطعام (فضحك النبيّ ثم) أي بعد ضحكه، ولعل تراخى الأخبار ليكثر التشوق للخبر فيكون أقر عندهم (قال: ما زال الشيطان يأكل معه) أي في دوام تناوله الطعام تاركاً التسمية فيه (فلما ذكر اسم الله استقاء ما في بطنه) قال العلماء: إنما لم يجب غسل الإناء مع أن القىء نجس منجس، لأن الخبر ليس أن تقيده يكون داخله، فيجوز أن يكون خارجه، ولا تجب الطهارة من المشكوك فيه (رواه أبو داود) في الأطعمة من «سننه» (والنسائي) في الوليمة منها.
6733 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يأكل طعاماً في) أي مع(5/220)
وهي في مثل هذا المقام أبلغ (ستة من أصحابه، فجاء) أي بعد تركهم لذلك الطعام وانقطاع نسبة ذكرهم اسم الله عند تناوله عنه (أعرابيّ فأكله بلقمتين) الباء بمعنى في (فقال رسول الله أما إنه) أي الأعرابيّ أو ضمير الشأن (لو سمى لكفاكم) أي معه بأن يبارك فيه فتأكلون ويأكل ويكفي الجميع، لكن يترك التسمية عليه نزعت منه البركة حتى أكل في لقمتين (رواه الترمذي) في الأطعمة من «جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح) .
7734 - (وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن النبيّ كان إذا رفع مائدته) تقدم ضبطها ومعناها (قال: الحمد لله حمداً) بالنصب مفعول مطلق (كثيراً) بالمثلثة (طيباً) أي منزهاً عن سائر ما ينقصه من رياء أو سمعة أو إخلال بإجلال (مباركاً) بصيغة المفعول نائب فاعله قوله (فيه) والبركة الزيادة والنماء (غير مكفي) قال المصنف بتشديد الياء هذه الرواية الصحيحة الفصيحة، ورواه أكثر الرواة بالهمزة وهو فاسد من حيث العربية سواء كان ومن الكفاية أو كفأت الإناء كما لا يقال في مقرؤ من القراءة مقرىء بالهمزة (ولا مستغني) بصيغة الفعول (عنه) قال صاحب «المطالع» : الضمير يعود على الطعام، قال الحربي: الكفي الإناء المقلوب للاستغناء عنه كما قال غير مستغني عنه أو لعدمه. وذهب الخطابي إلى أن المراد بهذا الدعاء كله الباري سبحانه وتعالى، وأن الضمير يعود إليه، ومعنى غير مكفي: إنه يطعم ولا يطعم كأنه على هذا من الكفاية، وإلى هذا ذهب غيره في تفسير الحديث: أي إن الله مستغن عن معين وظهير (ربنا) منصوب على الوجه الأخير بالاختصاص أو المدح أو النداء، كأنه قيل: يا ربنا اسمع حمدنا ودعاءنا. ومن رفعه قطعه وجعله خبراً، وكذا قيده الأصيلي كأنه قال ذلك أو أنت ربنا. ويصح فيه الجر على البدلية من لفظ الجلالة في قوله الحمد لله. وذكر ابن الأثير في «النهاية» نحو هذا الخلاف مختصراً وقال: من رفع ربنا فعلى الابتداء المؤخر: أي هو ربنا غير مكفي ولا مستغني عنه، وعلى هذا يرفع غير، ويجوز أن(5/221)
يكون الكلام راجعاً إلى الحمد كأنه قال: حمداً كثيراً غير مكفي ولا مستغني عن هذا الحمد اهـ كلام المصنف ملخصاً، وقد زدته وضوحاً في «شرح الأذكار» (رواه البخاري) أورده في «الأذكار» كذلك، وزاد فيه بعد قوله غير مكفي «ولا مودع» قال: وقال غيره «إذا رفع مائدة قال: الحمد لله الذي كفانا وآوانا غير مكفي ولا مكفور» .g
8735 - (وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من أكل طعاماً) ظاهر عمومه ولو على وجه التداوي لشمول الطعام له لغة وشرعاً كما ذكره الفقهاء في باب الربا وعدم حنث من حلف لا يأكل طعاماً يتناوله من حيث أن مدار الأيمان على العرف وهو لا يعدّه طعاماً (فقال) أي عقب الفراغ كما تومىء إليه الفاء (الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه) عطف على أطعم عطف عام على خاص (من غير حول) أي حيلة (منى ولا قوّة) أشار به إلى طريق التحصيل للطعام، فإن القويّ يأخذ ظاهراً بقوته والضعيف يحتال على تحصيل قوته، فأشار بالذكر المذكور إلى أن حصول ذلك بمحض الفضل لا دخل في ذلك لغيره سبحانه (غفر) بالبناء للمجهول (له ما تقدم من ذنبه) ظاهره ولو كبائر لكنه مقيد عندنا بالصغائر غير التبعات (رواه أبو داود) في اللباس (والترمذي) في البر والصلة (وقال: حديث حسن) قال المزي في «الأطرف» : ورواه ابن ماجه في الأطعمة، ومداره عندهم على أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل عن معاذ بن أنس عن أبيه، وقال السيوطي في «الجامع الصغير» بعد أن رواه بزيادة «ومن لبس ثوباً فقال الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول منى ولا قوّة، غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر» ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن غريب، والطبراني في «الكبير» وابن السني والحاكم عن سهل عن معاذ بن أنس عن أبيه اهـ.(5/222)
101 - (باب)
بالتنوين ويجوز بتركه وإضافته إلى قوله (لا يعيب) أي الإنسان (الطعام) على تقدير مضاف: أي استحباب عدم إعابة الطعام، وعطف عليه قوله (واستحباب مدحه) وذلك لأن الأول إن كان فيه منع للشرّ ففيه التعرض لصنع من أحسن كل شيء خلقه، وإن كان فيه منع لهما ففيه كسر قلب صاحبه والمدح فيه الثناء على الله سبحانه وجبر قلب الصانع.
1731 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما عاب رسول الله طعاماً قط) أي في زمن من الأزمنة، وذلك لأن إعابة الطعام إنما تكون من الترفه والرعونة وليس منها قوله في الضبّ «إني أعافه» لأنه إخبار عن طبعه لا إعابة للطعام (إن اشتهاه أكله وإن كرهه) أي من جهة الطبع (تركه) من غير ذم له (متفق عليه) .
2737 - (وعن جابر رضي الله عنه أن النبيّ سأل أهله الأدم) بضمتين ويجوز التسكين للثاني تخفيفاً جمع إدام بوزن كتاب وهو ما يؤدم به مائعاً كان أو حامداً كما في «المصباح» ، وفيه تجوز معاملته بعد تسكين ثانيه معاملة المفرد فيجمع على آدم مثل قفل وأقفال، وسبب سؤاله لهم ما جاء أن أهله قدموا له خبزاً فقال: ما من إدام (فقالوا: ما عندنا إلا خل) استثناء مفرغ من عام شامل لسائر الأدم: أي ليس عندنا أدم إلا خل (فدعا به) أي أمر بإحضاره (فجعل) أي شرع (يأكل ويقول: نعم الأدم الخل) هذا دليل الشطر الثاني من الترجمة، ثم قال المصنف تبعاً للقاضي عياض: معنى الحديث مدح الاقتصاد في الأكل ومنع النفس عن ملاذّ الأطعمة، والمعنى ائتدموا بالخل وما في معناه مما تخفّ مؤنته ولا(5/223)
تتنافسوا في الشهوات، وهذا قول الخطابي ومن تبعه، والصواب الذي ينبغي الجزم به أنه مدح الخل نفسه، وأما الاقتصاد في المأكل فمعلوم من دليل آخر اهـ. ونوقش فيما قال إنه الصواب أنه غير ظاهر فضلاً عن كونه هو الصواب، إذ ثبت أنه لم يكن يمدح طعاماً ولا يذمه، لأن في الأول شائبة شهوة وفي الثاني احتقار للنعمة، وفي التنظير نظر لأن المنقول عنه محمول على مدح ينشأ عن ميل النفس لذلك الطعام، أشار إليه المصنف أنه مدحه لمعنى آخر جبراً لخاطرهم وتطييباً لقلوبهم والله أعلم (رواه مسلم) وأخرجه الترمذي من حديث عائشة بنحوه.
102 - باب ما يقوله من حضر الطعام وهو صائم
«إذ» بسكون الذال وفي نسخة (إذا لم يفطر) وإفطاره من صوم واجب ولو موسعاً لقضاء لما أفطره بعذر حرام ومن مندوب إن شق على ضيفه أو مضيفه أفطر ندباً وإلا فلا.
1738 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا دعي أحدكم فليجب) وجوباً إن كان المدعو إليه وليمة نكاح في اليوم الأول، وخلت من الأعذار المسقطة للوجوب المبينة في كتب الفقه، وإلاّ فندباً، إلا في الوليمة للنكاح في اليوم الثالث (فإن كان صائماً فليصل) أي فليدع ندباً لأهل المنزل (وإن كان مفطراً فليطعم) ظاهر الأمر وجوب التناول، وبه قال جمع. قال: وعليه فأقله لقمة ولا تلزمه الزيادة عليها، والجمهور على استحباب التناول. قال المصنف في «شرح مسلم» : وهو الأصح فلا يجب الأكل لا في وليمة نكاح ولا في غيرها (رواه مسلم) في كتاب النكاح من «صحيحه» وفي «الجامع الصغير» ، ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
(قال العلماء) أي من شراح الحديث (معنى فليصل فليدع)(5/224)
هذا قول الجمهور، قال في «شرح مسلم» نقلاً عنهم: معناه ليدع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة ونحو ذلك. وقيل المراد الصلاة المشرعية ذات الركوع والسجود ليحصل له فضلها وليتبرّك أهل المكان والحاضرون بذلك (ومعنى فليطعم) بفتح التحتية (فليأكل) .
103 - باب ما يقول من دعي إلى طعام فتبعه غيره
لا يخفى أن الطعام ليس بقيد فكذا من دعي لنحو مشورة فتبعه غيره يفعل ما يأتي:
1739 - (عن أبي مسعود) واسمه عقبة بن عمرو الأنصاري (البدري) نسبته لبدر لسكناه بها، وإلا فلم يشهد وقعتها المشهورة (رضي الله عنه قال: دعا رجل) اسمه أبو شعيب (النبيّ لطعام صنعه) أي أمر غلامه بصنعه كما صرح به في رواية أخرى (له) أي النبي (خامس خمسة) أي تصير العدة به كذلك (فتبعه رجل فلما بلغ) أي النبي والرجل أو صاحب المنزل (الباب) والأخير أنسب بقوله (قال النبي: إن هذا تبعنا، فإن شئت أن تأذن له، وإن شئت رجع) هذا لا يخالف ما جاء في حديث آخر من استتباعه أنساً رضي الله عنه لما دعاه الخياط لضيافة جعله، لأن هذا محمول على ما إذا لم يعلم النبي برضا ربّ المنزل بالزيادة على العدد المدعو وعدم الاستئذان على ما إذا كان واثقاً برضاه (قال بل أذنت) بصيغة المتكلم (له يا رسول الله. متفق عليه) أخرجه البخاري في البيوع ومسلم في الأطعمة، وروه الترمذي والنسائي.(5/225)
104 - باب الأكل مما يليه
الضمير المنصوب يعود على الآكل المفهوم من الأكل وكذا ضمير قوله (ووعظه وتأديبه من يسيء أكله) .
1740 - (عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: كنت غلاماً) لأن النبي دخل بأمه وهو ابن ست سنين (في حجر) بكسر المهملة وفتحها: أي تحت نظر (رسول الله وكانت يدي) بالإفراد (تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله: يا غلام) بضم الميم (سمّ الله تعالى) أي اذكر اسمه أوّل أكلك بأن تقول بسم الله، وتقدم أكملها وما فيه (وكل بيمينك) إن كان الطعام لوناً واحداً وإلا فلا بأس بالأكل من جهة صاحبه (وكل ما يليك) والأمر في الثلاث للندب. والحديث قد تقدم بشرحه في باب التسمية على الطعام، ولعله كان يأكل باليسرى أو تارة بها وأخرى باليمين (متفق عليه. قوله تطيش) بفتح الفوقية (وبكسر الطاء المهملة وبعدها ياء مثناة من تحت) وآخره شين معجمة (معناه تتحرك وتمتد) من الامتداد (إلى نواحي) أطراف (الصحفة) وهو مأخوذ من الطيش وهو الخفة.
2741 - (وعن سلمة) بفتح أوله (ابن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً أكل عند رسول الله بشماله فقال) إرشاداً له لللأفضل (كل بيمينك) الأمر فيه للندب (قال) أي الرجل مخبراً(5/226)
بخلاف الواقع (لا أستطيع، قال) داعياً عليه لما ظهر له من عناده وكبره عن الانقياد للحق (لا استطعت) وقوله (ما منعه إلا الكبر) جملة مستأنفة من الراوي مبينة للمقتضى لدعائه مع كمال رحمته ومزيد رأفته وتجاوزه عن أكثر من ذلك خصوصاً والأمر على سبيل الندب، وقوله (فما رفعها) أي فما رفع المدعو عليه يمينه (إلى فيه) أشار به إلى حصول الإجابة حالاً (رواه مسلم) في الأشربة من «صحيحه» .
105 - باب النهي عن القران
بكسر القاف مصدر قارن (بين تمرتين ونحوهما) مما يعتاد أكله واحدة واحدة (إذا أكل جماعة إلا بإذن رفقته) بتثليث الراء. قال العلماء: إن كان يعلم رضا الشركاء بقرانه بينهما جاز مع الكراهة لما فيه من الاستئثار على الجلساء وإلا حرم. قال في «فتح الباري» : قال ابن بطال: النهي عن القران من حسن الأدب في الأكل عند الجمهور لا على التحريم كما قال أهل الظاهر، لأن الذي يوضع للأكل على سبيل المسالمة لا التشاحّ لاختلاف الناس في الأكل، لكن إذا استأثر بعضهم بأكثر من بعض لم يحمد له ذلك اهـ.
1742 - (عن جبلة) بفتح الجيم والموحدة واللام (ابن سحيم) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» : هو كوفي ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة مائة وخمس وعشرين وخرّج عنه الستة (قال أصابنا) جاء في رواية البخاري عنه قال «كنا بالمدينة في بعض أهل العراق فأصابتنا سنة» والمارد من المدينة فيه مكة (عام سنة) أي عام قحط وجدب. قال في «المصباح» : أرض سنهاء أصباتها السنة وهي الجدب اهـ. وكان ذلك لأن زمن الجدب والقحط يستطال فيطلق عليه ما هو موضوع(5/227)
للزمن الطويل (مع) عبد الله (ابن الزبير) في خلافته (فرزقنا تمراً) يحتمل أن يكون لنفاد ما عداه من الأقوات من عنده أو اتفق وجوده عنده (فكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمر بنا ونحن نأكل فيقول: لا تقارنوا) أي لا يفعل ذلك كل منكم فالمفاعلة باعتبار الأكلة، والمراد منها أصل الفعل فتكون المفالة للمبالغة، ويؤيده أنه جاء في رواية للبخاري في باب الشركة «لا تقرنوا» بضم الراء (فإن نهى عن الإقران) قال ابن الأثير وغيره: كذا روى، والأصل القران (ثم يقول) أي ابن عمر (إلا أن يستأذن الرجل أخاه) فيكون مدرجاً في آخر الحديث، ويحتمل عودالضمير إلى النبيّ فيكون الاستثناء مفرغاً أيضاً. قال القسطلاني في كتاب الأطعة من «شرحه» «إرشاد الساري» بعد قول البخاري قال شعبة الإذن من قول ابن عمر ما لفظه: أي مدرجاً في الحديث. وكذا رواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» مدرجاً، وآخرون ترددوا في الرفع والوقف، نبه عليه الحافظ ابن حجر اهـ. واستدل بقول أبي هريرة المروي عنه ابن حبان وغيره «كنت في أصحاب، فبعث إلينا رسول الله تمر عجوة، فكبشنا فكنا نأكل البسر من الجوع، وجعل أصحابنا إذا قرن أحدهم فقال لصاحبه إني قرنت فاقرنوا» على الرفع وعدم الإدراج لأن هذا الفعل منهم في زمنه دالّ على أنه كان مشروعاً بينهم، وقول الصحابي: كنا نفعل في زمانه له حكم الرفع
عند الجمهور، وقد اعتمد البخاري هذه الزيادة، ولا يلزم من كون ابن عمر ذكر الإذن مرة غير مرفوع أن لا يكون مستنده فيه الرفع (متفق عليه) قال المزي: رواه البخاري في المظالم وفي الشركة وفي الأطعمة من «صحيحه» ، ورواه مسلم في الأطعمة من «صحيحه» ورواه أبو داود والترمذي في الأطعمة أيضاً والنسائي ي الوليمة وابن ماجه في الأطعمة والترمذي وقال حسن صحيح.
106 - باب ما يقوله من الأذكار ويفعله من يأكل ولا يشبع(5/228)
1743 - (عن وحشي) بفتح الواو وسكون المهملة وكسر الشين المعجمة وتشديد التحتية (بن حرب) الحبشي (رضي الله عنه) يكنى أبا دسمة بفتح المهملتين والميم، قال المصنف وهو من سودان أهل مكة ويقال هل الحبشي وهو مولى طعيمة بن عدي، وقيل مولى جبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف، وهو الذي قتل حمزة يوم أحد وشارك في قتله مسيلمة الكذاب، وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس، وقتلت بعد إسلامي شرّ الناس. صحابي نزل حمص ومات بها، خرّج عنه البخاري وأبو داود وابن ماجه، كذا في «تقريب» الحافظ ابن حجر. قال المصنف: وروي له عن النبيّ أربعة أحاديث، وقيل ثمانية، روى البخاري منها حديثاً واحداً في قتله حمزة، قال المصنف: قيل سكن دمشق، والصحيح أنه سكن حمص (أن أصحاب النبي قالوا: يا رسول الله إنانأكل ولا نشبع) الجملة معطوفة على جملة الخبر قبلها ويجوز إعرابها حالاً (قال: فلعلكم) هي هنا للاستفهام كقوله تعالى: {وما يدريك لعله يزّكى} (عبس: 3) وهذا الاستفهام ليس على حقيقته، بل المراد التنبيه والإيماء على علة عدم الشبع قاله ابن رسلان (تفترقون) بأن تأكلوا متفرقين (قالوا نعم، قال فاجتمعوا على طعامكم) وذلك لأن البركة في الجمع ومن ثم شرعت الجماعة في الصلوات (واذكروا اسم الله) أي قولوا بسم الله عند أكله (يبارك) بالجزم جواب الطلب وهو مبني للمفعول (لكم فيه) أي يوضع لكم فيه البركة بحيث تشبعون إذا اجتمعتم وذكرتم اسم الله بالتسمية والحمد آخره (رواه أبو داود) في الأطعمة، وكذا رواه ابن ماجه في «السنن» في الأطعمة، ورواه الطبراني من حديث ابن عمر بزيادة في آخره «فإن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة» .
باب الأمر بالأكل من جانب القصعة والنهي عن الأكل من وسطها(5/229)
بالفتح قال في «المصباح» : ضربت وسط رأسه بالفتح لأنه اسم لما يكشفه من جهاته غيره، ويصح دخول العوامل عليه فيكون فاعلاً ومفعولاً ومبتدأ، والسكون فيه جائز، أما وسط بالسكون فهو بمعنى بين نحو جلست وسط القوم: أي بينهم اهـ (فيه) أي مضمون الباب (قوله) في حديث عمر بن أبي سلمة (وكل مما يليك) أي دون وسطها وما يلي صاحبك (متفق عليه) كما سبق.
1744 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ قال: البركة) التي أودعها الله في الطعام (تنزل وسط الطعام) فلا يأكل وسط الصحن جامداً كان كالثريد أو مائعاً كالأمراق. وقال الغزالي: ولا يأكل من وسط الرغيف بل من استدارته، إلا إذا قلّ الخبز فيكسر الخبز (فكلوا من حافتيه) بتخفيف الفاء: أي من ناحيته، قال في «المصباح» : حافة كل شيء ناحيته، وأصله حوفة مثل قصبة فقلبت الواو ألفاً، والمراد من التثنية هنا ما فوق الواحد فيعم سائر الجوانب (ولا تأكلوا من وسطه) والنهي كما قال المصنف محمول على التنزيه، وتعقبه الإسنوي بأن الشافعي نص على تحريم ذلك، ولفظه في «الأم» : فإن أكل مما يلي غيره أو من رأس الطعام أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالماً بنهي النبيّ.
(رواه أبو داود) أي ينحوه (والترمذي) في الأطعمة واللفظ له، وكان على المصنف تقديمه ذكراً لكونه راوي اللفظ، وإنما لأبي داود منه المعنى (وقال: حديث حسن صحيح) إنما نعرفه من حديث عطاء بن السائب/
2745 - (وعن عبد الله بن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة المازني أحد من صلى إلى(5/230)
القبلتين تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: كان للنبي قصعة) بفتح القاف وجمعها قصع كبدرة وبدر (يقال لها الغراء) بالغين المعجمة وغراء تأنيث الأغرّ، مشتق من الغرّة: وهي بياض الوجه وإضاءته، ويجوز أن تكون من الغرة بمعنى الشيء النفيس والمرغوب فيه، فيكون وصفها بذلك لرغبة الناس فيها لنفاسة ما فيها أو لكثرة ما تسعه. وقال المنذري. وسميت غراء لبياضها بالألية والشحم أو لبياض وبرها أو لبياضها باللبن (ويحملها أربعة رجال) يحتمل أن يكون لها حلق أربع، فقد جاء عند أحمد في «مسنده» من حديث ابن بسر هذا قال «كان للنبي جفنة لها أربع حلق» ويحتمل ألا يكون لها حلق وما في حديث أحمد في جفنة غير الغراء (فلما أضحوا) أي دخلوا في الضحى وهو قدر ربع النهار (وسجدوا) أي صلوا (الضحى) أي صلاته، وظاهره أنهم صلوها جماعة، ويحتمل أن كلاً صلاها بمفرده (أتى) بالبناء للمفعول (بتلك القصعة) وقوله (يعني وقد ثرد فيها) من كلام بعض الرواة بعد ابن بسر. والثريد بالمثلثة فتّ الخبز وبله بالمرق، والمراد ثرده بماء اللحم لأن الثريد غالباً لا يكون إلا من لحم (فالتفوا) بتشديد الفاء: أي استداروا (عليها فلما كثروا) بضم الثاء وضاقت بهم الحلقة (جثا رسول الله) بالجيم والمثلثة: أي قعد على ركبتيه جالساً على ظهور قدميه. وفيه استحباب هذه الجلسة عند ضيق المجلس (فقال أعرابي) أي من الحاضرين (ما هذه الجلسة) بكسر الجيم: أي ما هذه الهيئة التي جلست عليها (قال رسول الله: إن الله جعلني عبداً كريماً) أي شريفاً بالنبوة والعلم (ولم يجعلني جباراً) من الجبر: وهو قهر الغير على مراد القاهر (عنيداً) قال في «النهاية» : هو الجائز عن القصد الباغي الذي يردّ الحق مع العلم به (ثم قال رسول الله: كلوا من حواليها) قال ابن رسلان: أي من جوانبها بدليل رواية ابن ماجه
«كلوا من جوانبها» اهـ، وبه يتبين أن حركة اللام فيه الكسر فإنه جمع (ودعوا) أي اتركوا (ذروتها يبارك) بالجزم: أي يكن(5/231)
ذلك مع ذكر الله تعالى سبب حصول البركة (فيها) أي في جميع ما فيها من الأعلى والأسفل. وفيه الحرص على إبقاء ما فيه البركة والخير وعدم إزالته، فبحصولها يحصل الخير الكثير. وجاء في الحديث «من بورك له في شيء فليلزمه» (رواه أبو داود) في الأطعمة من «سننه» (بإسناد جيد) وهو من رباعياته ورواه ابن ماجه مختصراً.
(ذروتها) أعلاها بكسر الذال وضمها، وكذا عبر به في «المصباح» ، لكن قال ابن رسلان بكسر الذال، ويقال بضمها فاقتضى أن الكسر هو الأصل.
108 - باب كراهية الأكل متكئاً
قال في «النهاية» : المتكىء في العربية: كل من استوى قاعداً على وطاء متمكناً. والعامة لا تعرف المتكىء إلا من مال في قعوده كأنه أوكأ مقعدته وشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته.
1746 - (عن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة الخفيفة وسكون التحتية بعدها فاء: وهب بن عبد الله السوائي، بضم المهملة وتخفيف الواو بعدها همزة نسبة إلى سوء بن عامر ابن صعصعة، توفي رسول الله وأبو جحيفة مراهق، وولى بيت المال لعليّ (رضي الله عنه قال: قال رسول الله «لا آكل متكئاً» رواه البخاري) وأبو داود (قال) أحمد بن محمد بن إبراهيم (الخطابي) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وبعد الألف موحدة نسبة إلى الخطاب البستي الإمام المشهور صاحب «معالم السنن» على أبي داود (المتكىء ها هنا) أي في هذا الحديث وما شابهه (هو الجالس معتمداً على وطاء تحته، قال. وأراد أنه لا يقعد على وطاء) بكسر الواو وتخفيف المهملة والألف ممدودة، قال في «المصباح» : هو المهاد الوطىء (والوسائد) جمع وسادة بالكسر: هي المخدة (كفعل من يريد(5/232)
الإكثار من الطعام) أي فإنه يجلس كذلك (بل يقعد مستوفزاً) أي غير مطمئن للجلوس ولذا قال (لا مطمئناً ويأكل بلغة) بضم الموحدة وسكون اللام: أي يكتفي ويجترىء به (هذا كلام الخطابي، وأشار غيره إلى أن المتكىء في الخبر هو المائل على جنبه والله أعلم) وعلله بأن ذلك فعل المتجبرين المتكبرين، ولأنه يمنع نزول الطعام وانحداره في مجاري الأكل وإساغته هنيئاً.
2747 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله جالساً مقعياً يأكل تمراً) زاد الترمذي في «الشمائل» قوله «وهو مقع من الجوع» (رواه مسلم) ورواه الترمذي في «الشمائل» (والمقعي هو الذي يلصق ألييه بالأرض وينصب ساقيه) زاد الجوهري ويتساند ظهره: وهو الاحتباء الذي هو جلوس الأنبياء وأكثر جلوسه، وإنما كره هذا الإقعاء في الصلاة للنهي عنه، لأن فيه تشبهاً بالكلاب وطلب في الأكل لما فيه من الاستيفاز وعدم التقعد المشعر بأن أكله بقدر الحاجة مع ما فيه من التشبه بالأرقاء ففيه غاية التواضع.
109 - باب استحباب الأكل بثلاث أصابع واستحباب لعق الأصابع
اغتناماً لبركة الطعام، نعم يكره لعقها في أثناء الأكل لأنه يعيدها إلى الطعام وعليها أثر(5/233)
ريقه فيقذره (وكراهة مسحها قبل لعقها) لاحتمال كون ذلك الممسوح هو المبارك فيه من الطعام (واستحباب لعق القصعة) أي أخذ ما فيها بالأصبع ولحسه منه وذلك لما تقدم وإعمالاً للتواضع وكسر النفس (وأخذ اللقمة التي تسقط منه وأكلها) ما لم تتنجس ويتعذر تطهيرها، فإن تعذر تطهيرها أطعمها للحيوان ولا يتركها للشيطان، وإن أمكنه تطهيرها فينبغي فعل ذلك وتناولها بعدها (وجواز مسحها) أي الأصابع (بعد اللعق) أي اللحس لها (بالساعد) هي قصبة الذراع (والقدم وغيرهما) كمسح اليد باليد.
1748 - (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله إذا أكل أحدكم طعاماً) أي فيه رطوبة تعلق بالأصابع (فلا يمسح) ندباً (أصابعه) بمنديل ونحوه (حتى يلعقها) بفتح التحتية والمهملة: أي يلحسها هو اغتناماً للبركة وحرصاً عليها (أو) للتنويع (يلعقها) بضم التحتية وكسر المهملة: أي يلحسها من لا يقذر من ذلك منه من ولد وتلميذ ومريد (متفق عليه) روياه في الأطعمة من «صحيحيهما» ، ورواه أيضاً أحمد وأبو داود وابن ماجه كلهم من حديث ابن عباس، قال الخطابي: عاب قوم أفسد عقلهم الترفه فزعموا أن لعق الأصابع أن يلعقها وبطن كفه إلى جهة وجهه مبتدئاً بالوسطى ثم السبابة ثم الإبهام. فعند الطبراني من حديث كعب بن عجرة قال «رأيت النبي يأكل بأصابعه الثلاث بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام» والسرّ في ذلك أن الوسطى أكثر تلوّثاً لأنها أول داخل في الطعام ثم المسبحة، أشار إليه في «الفتح» .
2749 - (وعن كعب بن مالك) الأنصاري (رضي الله عنه قال؛ رأيت رسول الله يأكل بثلاث أصابع) قال العلماء: فيستحب الأكل بثلاث أصابع ولا يضم إليها الرابعة والخامسة(5/234)
إلا لضرورة، فقد قيل إنه ربما كان في الأكل يرابع أصابعه وكان لا يأكل بأصبعين وقال: إن الشيطان يأكل بهما. وما أخرجه سعيد بن منصور من مرسل ابن شهاب «أن النبي إذا أكل يخمس» فمحمول على القليل النادر لبيان الجواز أو على المائع، فإن عادته في أكثر الأوقات هو الأكل بثلاث أصابع. قيل وإنما اقتصر عليها لأنه الأنفع، إذ الأكل بأصبع واحدة مع أنه فعل المتكبرين لا يستلذّ به الآكل ولا يستمري به لضعف ما يناله منه كل مرة، فهو كمن أخذ حقه حبة حبة، وبالأصبعين مع أنه فعل الشيطان ليس فيه استلذاذ كامل مع أنه مفوّت الفردية، والله وتر يحبّ الوتر، والخمس مع أنه فعل الحريص الفجع يوجب ازدحام الطعام على مجراه من المعدة فربما أفسد مجراه فأوجب الموت فوراً وفجأة (فإذا فرغ) أي من أكله (لعقها) بكسر المهملة: أي لحسها لما تقدم ومبالغة في التنظيف (رواه مسلم) في الأطعمة، ورواه أبو داود فيها من «سننه» ، ورواه الترمذي في «الشمائل» ، ورواه النسائي في الوليمة.
3750 - (وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله أمر بلعق الأصابع والصحفة) أي ومن النهي عن قرينه السابق في أول الباب، فإن النهي عن الشيء أمر بضده (وقال) مبيناً حكمة الأمر بذلك (إنكم) بكسر الهمزة على الاستئناف البياني ويجوز فتحها على تقدير لام التعليل قبلها (لا تدرون) أي لا تعلمون (في أي طعامكم) أي في أي جزء من أجزائه (البركة) أهي في المأكول أو الباقي بالأصبع أو الباقي بالقصعة ونحوها من اللقمة الساقطة ومن ثم استحب التقاطها كما تقدم، ويأتي دليله في الحديث عقب هذا، والبركة هنا والله أعلم ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوي على الطاعة وغير ذلك كما قال المصنف في «شرح مسلم» ، ثم ما علل به من الأمر باللعق في الحديث لا يمنع أن يكون له علة أخرى كما قال الحافظ ابن حجر، فقد تكون العلة هنا أيضاً كما قال عياض: ألا يتهاون بقليل الطعام: أي الباقي في آخر القصعة أو الساقط، وقد تكون العلة أيضاً كما قال ابن(5/235)
دقيق العيد أن مسحها قبل لعقها فيه زيادة تلويث لما يمسح به مع الاستغناء عنه بالريق (رواه مسلم) وأحمد والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .
4751 - (وعنه أن رسول الله قال: إذا وقعت) سقطت (لقمة أحدكم) بضم اللام قال في «المصباح» : هو اسم لما يلقم في مرة كالجرعة اسم لما يجرع في مرة (فليأخذها) من الذي سقطت فيه ندباً (فليمط) بضم التحتية وكسر الميم وبالطاء المهملة، قال المصنف في «شرح مسلم» : حكى أبو عبيدة ماطه وأماطه: نحاه، وقال الأصمعي: أماطه لا غير، ومنه إماطة الأذى ومطت عنه: أي تنحيت (ما كان بها من أذى) الظرف بيان لإبهام مَّا، والمراد بالأذى هنا المستقذر من غبار وتراب ونحوه (وليأكلها) ندباً تحرصاً على البركة وحمل النفس على التواضع ومعاملة الشيطان بنقيض قصده كما قال (ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل) يكسر الميم وهو معروف، قال ابن فارس في «المجمل» : لعله مأخوذ من الندل وهو النقل. وقال غيره: من الندل وهو الوسخ لأنه يندل به، قال أهل اللغة يقال تندلت بالمنديل، قال الجوهري: ويقال أيضاً تمندلت، وأنكرها الكسائي وتقدم هذا (حتى يلعق أصابعه) اقتصر عليه لأنه الأعم الأغلب فلا ينافي ما تقدم من قوله «حتى يلعق أصابعه أو يلعقها» لأن ذلك لمن له تبع لا يستقذر منه كما تقدم (فإنه لا يدري في أي طعامه البركة. رواه مسلم) في كتاب الأطعمة، ورواه ابن ماجه في الأطعمة من «سننه» ولم يذكر في الحديث لعق الأصابع.
5752 - (وعنه أن رسول الله قال: إن الشيطان) أل فيه للجنس، ويحتمل كونها للعهد: أي كبيرهم وهو إبليس (يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه) قال المصنف: فيه التحذير منه والتنبيه على ملازمته الإنسان في سائر تصرفاته، فينبغي أن يتأهب ويحترزه منه ولا يغترّ(5/236)
بما يزينه له (حتى يحضره عند طعامه) ليلهيه عن ذكر الله تعالى فيستحل الطعام ويضرب على اللقمة بيده لتقع (فإذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى) الفاء الأول للتفريع والثانية رابطة للجواب بالشرط والثالثة للعطف، والإتيان بثم في قوله (ثم ليأكلها) لتراخي ما بين الأكل وسقوط اللقمة (ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ) أي من أكله (فليلعق أصابعه) أي واحداً بعد واحد كما تقدم سند الطبراني (فإنه لا يدري في أي طعامه البركة) وبفعله لما ذكر واستيعاب الطعام قدر حاجته استوعب ما هو مظنة لها (رواه مسلم) بل جعله المزي في «الأطراف» مع ما قبله حديثاً واحداً إلا أن الإسناد إلى جابر مختلف فيه وعبارته. وزاد جرير في أول حديثه «إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه» وحديثا جابر تقدم الكلام عليهما في باب اتباع السنة.
6753 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا أكل طعاماً لعق) بكسر العين (أصابعه الثلاث) أي إذا اقتصر عليها كما هو غالب فعله في أكله، أما إذا أكل نحو مائع فكان بالخمس كما تقدم فيلعق الجميع (وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى) لتقبل عليها النفس (وليأكلها ولا يدعها للشيطان، وأمرنا) معطوف على كان ومعمولها (أن نسلت) بفتح النون وضم اللام أي نمسح (القصعة) ونتبع ما فيها من الطعام ومنه سلت الدم (وقال) معللاً للأثر بما ذكر في الحديث على طريق الاستئناف البياني النحوي (إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة. رواه مسلم) وهذه الأحاديث سبقت مشروحة في باب الأمر(5/237)
بالمحافظة على السنة وفيما هنا بسط زائد على ما ذكر ثمة، وسبق حديث أنس في باب التواضع.
7754 - (وعن سعيد بن الحارث) تقدمت ترجمته (إنه سأل جابراً) على تقدير القول قبله: أي قال إنه سأل جابراً (رضي الله عنه عن الوضوء مما مست النار) من أكل ما مسته بخبز أو طبخ أو شتى أو قلى (فقال لا) أي لا وضوء، ثم بين مستنده في ذلك بقوله (قد) للتحقيق (كنا في زمن النبي لا نجد مثل ذلك الطعام إلا قليلاً) وذلك لإعراضهم في عصره عن حظوظ النفوس واقتصارهم على أدائهم حقوقها (فإذا نحن وجدناه) من الوجود بضم الواو ضد العدم (لم يكن لنا مناديل) نمسح بها وضر الطعام (إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا) استثناء منقطع، والأكفّ بفتح الهمزة وضم الكاف وبتشديد الفاء جمع كف وهي مؤنثة. قال ابن الأنباري: وزعم من لا يوثق به أنها مذكرة ولا يعرف تذكيرها عمن يوثق بعلمه، وأما قولهم كف مخضب فعلى معنى قولهم ساعد مخضب، ويجمع في القلة على أكف كفلس وأفلس وفي الكثرة على كفوف كفلوس وهي الراحة مع الأصابع، سميت بذلك لأنها تكفّ الأذى عن البدن. والسواعد جمع ساعد: وهي من الإنسان ما بين المرفق والكف، سمي ساعداً لأنه يساعد الكف في بطشها وعملها والأقدام جمع قدم وهي مؤنثة وهي معروفة اهـ ملخصاً من «المصباح» ، والمعنى: أن الصحابة كانوا يمسحون ما بقي في أصابعهم بعد لعقها من لزوجة الطعام بما ذكر (ثم نصلي ولا نتوضأ) وهذا ناسخ لما جاء من الأمر بالوضوء عند أكل ما مست النار (رواه البخاري) في الأطعمة، ورواه ابن ماجه في سننه اهـ.(5/238)
110 - باب تكثير الأيدي على الطعام
أي ما جاء في الحديث مما فيه الإيماء إلى طلب ذلك.
1755 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: طعام الاثنين كافي الثلاثة. وطعام الثلاثة كافي الأربعة) قال ابن المهلب: المراد بهذا الحديث وما في معناه الحضّ على المكارمة والتقنع بالكفاية، وليس المراد الحصر في مقدار المواساة، وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث بل ورابع أيضاً لا بحسب ما يحتسب من يحضر. وقع عند الطبراني ما يرشد إلى العلة في ذلك وأوله «كلوا جميعاً ولا تفرقوا، طعام الواحد يكفي الاثنين» فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع وأن الجمع كلما كثر زادت البركة. قال ابن المنذر: يؤخذ من الحديث استحباب الاجتماع على الطعام وألا يأكل وحده اهـ. (متفق عليه) .
2756 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية. رواه مسلم) وقد تقدم الحديثان مع شرحيهما وبيان من خرّجهما زيادة على ما ذكره المصنف هنا في باب المواساة والإيثار. وروى الطبراني في حديث جابر لكن عن ابن عمر بلفظ «طعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية، فاجتمعوا عليه ولا تفرقوا» أورده السيوطي في «الجامع الصغير» ، وتقدم في كلام «الفتح» الإشارة إليه.(5/239)
111 - باب آداب الشرب
بضم الشين المعجمة: وهو إدخال المائع الجوف (واستحباب التنفس ثلاثاً) لأن تركه مع توارد الشرب وتصاعد البخار من المعدة مؤد إلى الشرقة. واستحباب التنفس ثلاثاً مذهب الجمهور، وإلا ففي «فتح الباري» قال الأثرم: اختلاف الروايات في هذا: أي عدد التنفس هالّ على الجواز وعلى اختيار الثلاث، واستدل به مالك على جواز الشرب بنفس واحد. وأخرج ابن أبي شيبة الجواز عن سعيد بن المسيب. وقال عرم بن عبد العزيز: إنما نهى عن التنفس داخل الإناء، أما من لم يتنفس، فإن شاء فليشرب بنفس واحد، وقد ورد الأمر بالشرب بنفس واحد من حديث أبي قتادة مرفوعاً أخرجه الحاكم وهو محمول على التفصيل المذكور اهـ (خارج الإناء) بأن يتنفس بعد فصله له عن فيه (وكراهة التنفس فيه) لئلا يخرج من فيه مع النفس ما يتقذر به الشراب من نحو بلغم أو يبقى في الإناء ريح كريهة لذلك (واستحباب إدارة الإناء على الأيمن فالأيمن بعد المبتدىء) يؤخذ من قوله بعد المبتدىء أن التيامن بعده لا ينظر إليه، وتقدم أنه ينبغي تقديم ذوي الفضل ثم ينظر إلى الأيمن منه، والله تعالى أعلم.
1757 - (عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله كان يتنفس في الشراب ثلاثاً، متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الأشربة من «صحيحه» بلفظ «كان أنس يتنفس من الإناء مرتين أو ثلاثاً، وزعم أن النبيّ كان يتنفس ثلاثاً» ورواه مسلم فيه، وكذا رواه فيه الترمذي وقال صحيح، ورواه النسائي في الوليمة وابن ماجه في الأشربة، وقال النسائي: قال قتادة: في هذا الحديث خطأ اهـ ملخصاً من «الأطراف» للمزي (يعني يتنفس خارج الإناء) أي بعد إبانة الإناء عن فيه، وأراد بذلك الإشارة إلى دفع التعارض بين هذا الحديث وحديث نهيه(5/240)
عن التنفس في الإناء الآتي في الباب بحمل حالة النهي عن التنفس في نفس الإناء حالة الشرب وحالة الفعل على التنفس خارجه. فالنهي على ظاهره، وحديث الفعل على تقدير كان يتنفس حال الشرب ثلاثاً: أي في حال حمل الإناء، وقال القرطبي: قال بعضهم: هذا منه معارض للنهي عنه، وحينئذ هذا بيان للجواز وأن النهي للتنزيه لا للتحريم، وقيل بل هذا من خصائصه لأنه كان لا يتقذر بشيء منه اهـ.
2758 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: لا تشربوا واحداً) صفة مصدر محذوف: أي شراباً بأن لا تتنفسوا بينه (كشرب البعير) فإنه لا يتنفس بين شربه (ولكن) بكسر النون لملاقاتها ساكنة مع شين (اشربوا مثنى) أي في نفسين (وثلاث) بضم المثلثة أنفاساً ثلاثة، تقدم في كلام الفتح أن هذا الحديث وما في معناه محمول على التنفس في الإناء، وحديث الأمر بأن يتنفس في الشرب مرة محمول على ما لم يتنفس فيه. قال في «الفتح» : النهي عن الشرب من نفس واحد للتنزيه (وسموا إن أنتم شربتم) إن شرطية والضمير المنفصل بعدها فاعل لفعل الشرط المقدر المفسر بالمذكور بعده وكذا حال الشرطية بعده (واحمدوا إن أنتم رقعتم) من الشراب في كل مرة من الثلاث أو المرتين، واختلاف حرفي الشرط تفنن في التعبير (رواه الترمذي) في «جامعه» (وقال: حديث حسن) خالفه الحافظ في «فتح الباري» ، فحكم بأن سنده ضعيف ثم قال بعده: فإن كان محفوظاً الخ ما قال اهـ. والترمذي كثيراً ما يخالفه الحافظ في حكمه على الحديث، على أن النسخة التي عندي من الترمذي فيها ما يوافق كلام الحافظ، فإن فيها هذا حديث غريب وليس فيها تعرّض لتحسينه، ورأيت كذلك في نسخة أخرى. والذي حسنه الترمذي في ذلك الباب حديث آخر فلعل بصر المصنف انتقل منه إلى حديث الباب.
3759 - (وعن أبي قتادة رضي الله عنه: أن النبي نهى أن يتنفس في الإناء) قال(5/241)
المهلب: النهي عن النفس في الشرب كالنهي عن النفخ في الطعام والشراب من أجل أنه قد يقع فيه شيء من الريق فيعافه الشارب ويستقذره إذا كان التقذر في مثل ذلك عادة غالبة على طباع أكثر الناس. قال الحافظ: ولا فرق في ذلك بين كونه مع غيره أو وحده، إذ لا يؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة أو يحصل النفور من الإناء أو نحوه وقال: قال ابن العربي: قال علماؤنا: هو من مكارم الأخلاق، ولكن يحرم على الرجل أن يناول أخاه ما يقذره، فإن فعله في خاصة نفسه ثم جاء غيره فليعلمه، فإن لم يعلمه فهو غشّ والغشّ حرام. وقال القرطبي: معنى النهي عن التنفس في الإناء لئلا يتقذر به من البزاق أو أثر رائحة كريهة تعلق بالماء، وعليه إذا لم يتنفس يجوز له الشرب بنفس واحد، وقيل يمنع لأنه شرب الشيطان (متفق عليه) رواه البخاري في الطهارة، وقال الترمذي: حسن صحيح (يعني) بالتنفس المنهي عنه (يتنفس في نفس الإناء) تقدم أن هذا منه إشارة لدفع التعارض بين الحديثين.
4760 - (وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله أتى) بالبناء للمجهول (بلبن قد شيب) بكسر المعجمة. وشوبه إما لإبراد حرارته لكونه حليباً أو ليكثر فيعمّ (بماء) وقد عين في رواية أخرى بأنه الذي حلب وشاب المحلوب بالماء، فإن كانت القصة واحدة فأبهم الفاعل لغرض وإن كانت متعددة وأن ما في هذا الحديث غير ما في قصته فالأمر واضح (وعن يمينه أعرابيّ وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه) الجملة حال من ضمير أتى، وقد جاء في رواية «وعن يساره أبو بكر وعمر تجاهه» (فشرب ثم أعطى الأعرابي فضله) أي ما فضل من الإناء بعد شربه (وقال) جواباً لقول عمر له كما جاء في رواية: فقال عمر وخاف أن يعطيه الأعرابي أعط أبا بكر، وفي رواية: فقال عمر هذا أبو بكر. قال الخطابي: كانت العادة جارية لملوك الجاهلية ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب وغيره، فخشي عمر بتقديم الأعرابي على أبي بكر كذلك، فنبه عليه لأنه احتمل عنده تقديم النبي أبا بكر تلك العادة فتصير السنة تقديم(5/242)
الأفضل في الشرب على الأيمن، فبين النبيّ بفعله وقوله (الأيمن فالأيمن) أن تلك العادة لم تغيرهاالسنة وأنها مستمرة من تقديم الأيمن على غيره وإن كان أفضل، ولا يحطّ ذلك من رتبته، وكأن ذلك لفضل اليمين على اليسار، ويجوز رفع الأيمن على أنه مبتدأ محذوف الخبر: أي الأيمن أحق فالأيمن، أو على أنه خبر لمبتدإ محذوف: أي المقدم الأيمن، أو فاعل لمحذوف: أي يقدم الأيمن، ويجوز النصب على تقدير قدموا أو أعطوا.g قال في «الفتح» : واستنبط من تكرير الأيمن أن السنة إعطاء من على اليمين ثم الذي يليه وهكذا، ويلزم منه شرب عمر قبل أبي بكر لكن الظاهر أن عمر يؤثر أبا بكر اهـ (متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الأشربة من «صحيحيهما» (قوله شيب: أي خلط) ومحل النهي عن شراب اللبن بالماء إنما هو في المبيع منه لما فيه من الغش والخديعة المحرمين.
5761 - (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله أتى بشراب فشرب منه) أي بعضه (وعن يمينه غلام) سيأتي تسميته (وعن يساره أشياخ) تقدم معناه (فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) قال ابن الجوزي: إنما استأذن الغلام دون الأعرابي لأنه لم يكن له علم بالشريعة، فاستألفه بترك استئذانه بخلاف الغلام. وقال المصنف: السرّ فيه أن ابن عباس كان ابن عمه وكان له عليه إدلال، وكان من عن اليسار أقارب الغلام فطيب نفسه مع ذلك بالاستئذان لبيان الحكم وأن السنة تقديم الأيمن ولو مفضولاً بالنسبة إلى من على اليسار. وقد جاء في السنن أن النبي تلطف به وقال: الشربة لك، وإن شئت آثرت بها خالداً، وفي لفظ لأحمد: وإن شئت آثرت عمك. وإنما أطلق عليه عمه لأنه أسن منه ولعل سنه كان قريباً من سن العباس، وإن كان من جهة أخرى من أقرانه لكونه ابن خالته، وكان خالد مع رياسته في الجاهلية وشرفه في قومه قد تأخر إسلامه فلذا استأذن له ابن عباس،(5/243)
بخلاف أبي بكر فإن رسوخ قدمه في الإسلام وسبقه يقتضي طمأنينته بجميع ما يقع منه وعدم التأثر بشيء منه. قال الحافظ ابن حجر: وظاهر قوله أتأذن لي الخ أنه لو أذن لأعطاهم، فيؤخذ منه جواز الإيثار بمثل ذلك وهو مشكل على ما اشتهر من كارهة الإيثار بالقرب اهـ. وقد أجبت عنه في كتاب فضل زمزم (فقال الغلام لا) المنفي محذوف بدليل ذكره في الاستفهام أي لا أوثر به (والله) وأكد بالتصريح بذكر ذلك المقدر بقوله (لا أوثر بنصيبي منك أحداً) أي من قريب ولا شيخ لما في ذلك النصيب من علوّ المقام المكتسب له بكونه سؤر المصطفى (فتله رسول الله في يده. متفق عليه) وقد تقدم الحديث مع شرحه في باب التنافس في أمور الآخرة (قوله تله) بفتح المثناة الفوقية وتشديد اللام (أي وضعه) وقال الخطابي وضعه بعنف وأصله من الرمي على التل وهو المكان العالي، ثم استعمل في كل شيء يرمى به وفي كل إلقاء، وقيل هو من التلتل بلام ساكنة بين المثناتين
الفوقيتين المفتوحتين وآخره لام وهو العنف ومنه {وتله للجبين} أي صرعه فألقى عنقه وجعل جبينه إلى الأرض والتفسير الأول أليق بمعنى حديث الباب، وقد أنكر بعضهم تقييد الخطابي الوضع بالعنف. اهـ ملخصاً من «الفتح» للحافظ (وهذا الغلام هو ابن عباس رضي الله عنهما) أي عبد الله لأن هذا اللفظ منصرف إليه وهو ما حكاه ابن التين، قال في «الفتح» : وهذا هو الصواب، وحكى ابن بطال أنه الفضل أخوه.
112 - باب كراهية الشرب من فم القربة ونحوها
كالدورق الذي خشيى بروز مؤذ حال الشرب لا يتمكن من رده (وبيان أنه) أي النهي المدلول عليه بالكراهة (كراهة تنزيه لا كراهة تحريم) .(5/244)
1762 - (عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نهى رسول الله عن اختناث الأسقية) قال في «فتح الإله» : الاختناث افتعال من الخنث بالخاء المعجمة والنون والمثلثة: وهو الانطواء والتكثير والانثناء، والأسقية: جمع سقاء، والمراد المتخذ من الأدم صغيراً كان أو كبيراً، وقيل القربة قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة ولا يكون السقاء إلا صغيراً (يعني أن تكسر) أي تثنى (أفواهها فيشرب منها) وليس المراد الكسر حقيقة ولا إبانتها، والقائل يعني لم يصرح به، وقد أدرج التفسير في الخبر في رواية في البخاري، قال ابن المبارك: قال معمر أو غيره: هو الشرب من أفواهها، وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث من كلام الزهري، ويحمل تفسير الاختناث بمطلق الشرب من أفواهها على القيد بكونه مع كسر فمها وقلب رأسها. ووقع في مسند أبي بكر بن أبي شيبة في رواية في أول هذا الحديث «شرب رجل من سقاء فانساب في بطنه حيان فنهى رسول الله» فذكره، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة وفرقهما. والأفواه جمع فم، وهو على سبيل الردّ إلى الأصل في فم لأنه فوه، نقصت منه الهاء لاستثقال هاءين في نحو فوهة، فلما لم تحتمل الواو بعد حذف الهاء لسكونها عوضت ميماً فقيل فم وهذا إذا أفرد، ويجوز أن يقتصر على الميم حالة إضافته فتعتوره حركات الإعراب ظاهرة، فإن أضيف إلى مضمر كفت الحركات ولا يضاف مع الميم إلا في ضرورة شعر كقوله: «يصبح ظمآن وفي البحر فمه» فإن أرادوا تصغيره أو تكسيره ردوه إلى الأصل فقالوا فويه وأفواه دون فم وأفمام اهـ ملخصاً (متفق عليه) روياه في الأشربة من «صحيحيهما» ، ورواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، وابن ماجه كلهم في الأشربة من «سننهم» .
2763 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله أن يشرب من في السقاء أو) شك من الراوي (القربة) قال في «الفتح» : وكان الشك من سفيان، فقد وقع في رواية عبد الجبارين العلاء عن سفيان عند الإسماعيلي «من في السقاء» وفي رواية ابن أبي عمر(5/245)
بدله عنده «من فم القربة» (متفق عليه) روياه في الأشربة، ورواه ابن ماجه فيها.
3764 - (وعن أم ثابت كبشة) بفتح الكاف وسكون الموحدة وبشين معجمة، قال ابن الأثير: ويقال كبيشة بالتصغير وتعرف بالبرصاء (بنت ثابت) الأنصارية (أخت حسان) بفتح المهملة الأولى وتشديد الثانية أحد شعراء النبي (ابن ثابت رضي الله عنه) قدم ضميره لقربه وإن كان فيه ترك لترتيب نشر اللفّ (وعنها) وعدل إلى ما عبر به مع ما فيه من الطول دفعاً لتوهم عود الضمير عليها وعلى أبيها فيوهم صحبته. روي لها عن رسول الله حديث واحد ذكرها ابن الجوزي، خرّج لها الترمذي وابن ماجه، ثم ماجزم به المصنف من كونها أخت حسان، حكاه المزي في «الأطراف» بصيغة يقال إنها أخت حسان بن ثابت، وهي جدة عبد الرحمن بن أبي عمرة، وجزم ميرك في «شرح الشمائل» بما جزم به المصنف، واستظهره القاري وجزم الشارح به وقال: هي كسيبة الأنصارية من بني مالك بن النجار (قالت: دخل عليّ رسول الله فشرب من في قربة معلقة قائماً) أتى بها لبيان أن النهي عن الشرب من فم القربة وعن القيام حال الشرب ليس على سبيل التحريم بل على سبيل التنزيه، أو أنه فعل ذلك لعدم إمكان الشرب حينئذ إلا كذلك (فقمت إلى فيها) أي قاصدة إليه (فقطعته، رواه الترمذي) في «جامعه» و «شمائله» (وقال) في «جامعه» (حديث حسن صحيح) غريب. ورواه ابن ماجه أيضاً وابن الأثير في «أسد الغابة» ، وقال رواه الثلاثة: يعني ابن عبد البرّ وأبا نعيم وابن منده (وإنما قطعتها) أي القربة بقطع فمها (لتحفظ موضع فم رسول الله) أي عندها (وتتبرك به) بالنصب عطفاً على تحفظ، والعطف هنا بالواو
أحسن من عطف بعضهم لأحدهما على الثاني بأو الموهم أنه لأحدهم مع أنه لا مانع من كونه لهما كما صرح به المؤلف هنا. وفي «شرح مسلم» فقال: وقطعته لأمرين فذكرهما (وتصونه عن الابتذال) أي الامتهان (وهذا الحديث) أي ما فيه من الشرب من في القربة وقائماً (محمول على بيان(5/246)
الجواز) كما تقدم مع وجه آخر كذلك (والحديثان السابقان) في النهي عن الشرب من في القربة (لبيان الأفضل الأكمل، والله أعلم) فلا منافاة، وقد كان يجب عليه فعل المكروه ليشرعه ويعلم منه جوازه، فالكراهة بالنسبة لغيره لا له.
113 - باب كراهة النفخ بالمعجمة في الشراب
خشية تقذر الشراب بما يصل إليه بواسطة النفخ.
1765 - (عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي نهى عن النفخ في الشراب) نهياً تنزيهياً (فقال رجل: القذاة) واحدة القذا، قال في «الصحاح» : القذاة في العين وفي الشراب ما يسقط فهي، وهو مرفوع خبره جملة (أراها) أي أبصرها أو منصوب بمحذوف تفسيره الفعل المذكور (في الإناء فقال: أهرقها) بالهاء أي أرقها (قال: فإني لا أروي من نفس) بفتح الفاء (واحد) أي لغلبة العطش (قال: فأبن) أي أزل (القدح إذا عن فيك) وتنفس لئلا يسبق شيء بالنفس إلى الإناء فتقذره (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وانفرد به عن باقي الستة كما يؤخذ من «الأطراف» للمزي.
2766 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي نهى أن يتنفس) بالبناء للمفعول أو(5/247)
بالبناء للفاعل وهو المتنفس المفهوم من الفعل قبله (في الإناء أو) للتنويع (ينفخ فيه) وذلك خشية الاستقذار (رواه الترمذي) هو والحديث قبله في باب واحد وترجم بما ترجم المصنف (وقال: حسن صحيح) الذي رأيته في أصل معتمد منه هذا الحديث صحيح.
114 - باب بيان جواز الشرب قائماً
أي عدم حرمته، فلا ينافي كراهته (وبيان أن الأكمل والأفضل الشرب قاعداً. فيه) أي في الباب (حديث كبشة السابق) مع شرحه في باب كراهة الشرب من فم القربة.
1767 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سبقت النبي من زمزم) فيه إطلاق ذلك على نفس الماء فيكون زمزماً اسماً له، ويحتمل أن يكون على تقدير مضاف: أي من ماء زمزم فيكون زمزم اسماً للبئر (فشرب وهو قائم) وذلك لبيان الجواز أو لضيق المحل عن التمكن من الجلوس، وقد بسطت الكلام على ذلك في كتاب «درر القلائد فيما يتعلق بزمزم وسقاية العباس من الفوائد» (متفق عليه) روياه في الأطعمة من «صحيحهما» .
2768 - (وعن النزل) بفتح النون وتشديد الزاي (ابن سبرة) بفتح المهملة وسكون الموحدة(5/248)
الهلالي الكوفي ثقة من كبار التابعين، وقيل إن له صحبة كذا في «تقريب الحافظ» ، وليس للنزال في البخاري سوى هذا الحديث كما في «الفتح» (قال: أتى علي رضي الله عنه باب الرحبة) بفتح الراء وبالمهملة وبالموحدة وهو المكان المتسع، ومنه رحبة المسجد وهي ساحته قال ابن التين: فعلى هذا تسكن حاء الرحبة، ويحتمل أنها صارت رحبة الكوفة بمنزلة رحبة المسجد فيقرأ بالتحريك، قال الحافظ ابن حجر: وهذا هو الصحيح (فشرب قائماً) أي بعد غسله وجهه ورأسه ورجليه (وقال إني رأيت) أي أبصرت (رسول الله فعل كما رأيتموني فعلت) وجملة فعل الخ في محل الحال من مفعول الفعل بإضمار قد، ويجوز كون رأي علمية فالجملة ثاني مفعوليها والمشار إليه بقوله فعلت كما رأيتموني فعلت: قال الحافظ: هو الشرب من قيام ثم أورد ما يدل له ومنه قول على: «إن أشرب قائماً فقد رأيت رسول الله يشرب قائماً، وإن أشرب قاعداً فقد رأيته يشرب قاعداً» (رواه البخاري) في الأشربة من «صحيحه» ، ورواه أيضاً أبو داود فيها والترمذي في «الشمائل» والنسائي في الطهارة.
3769 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نأكل على عهد) أي زمن (رسول الله ونحن نمشي) الجملة الاسمية حال من فاعل نأكل وهذا محمول على أنه جائز: أي لا يحرم، وإن كان منهياً عنه فالنهي فيه تنزيهي لا تحريمي وكذا قوله (ونشرب ونحن قيام) جمع قائم كقوله تعالى: {فاذكروا الله قياماً وقعوداً} (النساء: 103) وهذا الفعل فيهما خلاف الأكثر من شأنهم فيهما، فالأكثر فعل الأكل والشرب من قعود (رواه الترمذي) في الأشربة من «جامعه» (وقال: حديث صحيح) والذي في نسختي منه هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، ورأيته كذلك عند المزي في «الأطراف» فلعل حذف(5/249)
الوصفين من النسخة التي عند المؤلف من النساخ. قال المزي: ورواه ابن ماجه في الأطعمة.
4770 - (وعن عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص (عن أبيه عن جده) أي جد أبيه وهو ابن العاص، ولذا قال (رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله يشرب قائماً) محمول عند الجمهور كما تقدم على بيان الجواز أو أن ضرورة ضيق المحل حملته على ذلك (وقاعداً) هذا هو الأكثر وهو الأكمل والأفضل (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) الذي في نسختي من «الجامع» الاقتصار على وصف الحسن، وكذا اقتصر المزي في «الأطراف» بقوله وقال: حديث حسن.
5771 - (وعن أنس رضي الله عنه عن النبي نهى أن يشرب الرجل قائماً) بتقدير أنه قبل الفعل وروي التثليث الترمذي وحسنه من حديث الجارود (قال قتادة) هو ابن دعامة السدوسي البصري تابعي ثقة ثبت، قال الحافظ في «التقريب» : يقال إنه ولد أكمه، خرج عنه الجميع (فقلنا لأنس فالأكل) أي قائماً كيف هو أيكره كالشرب قائماً (قال ذلك أشر) قال المصنف: كذا وقع في أصول مسلم أشر بالألف والمعروف في اللغة بحذفها وكذا أخير قال الله تعالى {فسيعلمون من هو شرّ مكاناً} (مريم: 75) وقال {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً} () ولكن هذه اللفظة وقعت على الشك فإنه قال أشر (أو أخبث) فشك الراوي عن قتادة في أي اللفظين صدر من أنس فلا يثبت عن أنس أنه قال أشر بالألف لهذه الرواية فإن بت عنه من رواية أخرى كان عربياً فصيحاً قليل الاستعمال قال ولهذا نظير مما لا يكون معروفاً عند النحاة وجارياً على قواعدهم وتثبت به الرواية فلا ينبغي رده إذا ثبت بل يقال هذه لغة قليلة الاستعمال وسببه أن النجاة لم يحيطوا إحاطة قطعية بجميع كلام العرب ولذا يمنع بعضهم ما ينقل غيره عن العرب كما هو معروف اهـ قال في الفتح وإنما جعل الأكل شراً لطول زمانه بالنسبة لزمان الشرب.
(رواه مسلم. وفي رواية له) عن أنس (أن النبيّ زجر)(5/250)
أي منع (عن الشرب قائماً) والمنع على سبيل التنزيه لدليل شربه قائماً.
6772 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يشربن أحد منكم قائماً فمن تسنى) فشرب كذلك قال المصنف: وتبعه العراقي في «شرح الترمذي» لا مفهوم لهذا القيد، فمن شرب قائماً ولو عامداً (فليستقيء) أي يتقايا والسين للمبالغة، وخص النسيان بالذكر لكون شأن المؤمن ألا يفعل ذلك بعد النهي غالباً إلا نسياناً قال الحافظ في «الفتح» : ويطلق النسيان بمعنى الترك فيشمل العمل ومنه قال المصنف: بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في المنع من الشرب قائماً والواردة في إجازة ذلك والصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائماً لبيان الجواز، ومن زعم نسخاً أو غيره فإنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر إمكان الجمع من ثبوت التاريخ وفعله لذلك لا يكون مكروهاً في حقه أصلاً لأنه كان يفعل الشيء للبيان المرة والمرات ويواظب على الأفضل، والاستقاء محمول على الاستحباب لأن الأمر إذا لم يحمل على مقتضاه من الوجوب حمل على الاستحباب، وقول عياض لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب قائماً لا يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث لا يلتفت إلى إشارته وكون أهل العلم لا يقولون به لا يمنع استحابه فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مخالف وكيف يترك السنة الصحيحة الصريحة بالتوهمات والدعاوى والتنزهات. وقال الحافظ في «الفتح» : وليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلاً بل نقل الاتفاق وإنما هو كلام المازري وتضعيف عياض للأحاديث لم يتشاغل النووي الجواب عنه وطريق الإنصاف ألا تدفع حجة العالم بالصدر فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس فلكون قتادة مدلساً، وقد يمنعه فيجاب عنه بأنه صرح في نفس السند بما يقتضي سماعه له منه فإن فيه قلنا لأنس فالإكل اهـ. وللناس في حديث الشرب المذكور مسالك ذكرها الحافظ في الأشربة من «الفتح» ، وهذا الذي ذكرناه ما اختاره المصنف وهو أوجهها والله أعلم. (رواه مسلم) .(5/251)
115 - باب استحباب كون ساقي القوم
حذف المسقى ليعم سائر الشراب (آخرهم) خبر كون ونصب (شراباً) على التمييز.
1773 - (عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي قال: ساقي القوم آخرهم) وقوله (يعني آخرهم شرباً) وقد جاء عند أبي ماجه في حديث ندائه لأهل الصفة وإسقائهم اللبن فقال «ساقي القوم آخرهم شرباً» بل في «الجامع الصغير» حديث «ساقى القوم آخرهم شرباً» رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي قتادة ولعل عزوه للترمذي من حيث أصل الحديث لا بجميع ألفاظه تفسيراً لما هو آخر فيه، قال المصنف: هذا أدب من آداب ساقي الماء واللبن ونحوهما وفي معناه من يفرق على الجماعة مأكولاً كلحم وفاكهة وغيرهما فليكن المفرق آخرهم تناولاً منه لنفسه، قال ابن رسلان: في الحديث إشارة إلى أن من ولي شيئاً من أمر الأمة فعليه السعي فيما ينفعهم ودفع ما يؤذيهم وتقديم مصلحتهم على مصلحته، وكذا في الإطعام والسقي فيبدأ بكبير القوم ثم بمن يليه وهكذا ثم يشرب ما بقي منهم (رواه الترمذي) في الأشربة من «جامعه» (وقال حديث حسن صحيح) ورواه ابن ماجه.(5/252)
116 - باب جواز
أي إباحة (الشرب من جميع الأواني الطاهرة) ولو نفيسة كياقوت وألماس لكن يكره استعمال النفيس منها لذاته كما ذكر لا لصنعته كإناء مصطنع من نحو خشب فلا كراهة في استعماله (غير الذهب والفضة) أي فيحرم استعمالها في غير ضرورة (وجواز الكرع) بفتح وسكون (وهو الشرب بالفم من النهر وغيره) كالبركة والسيل (بغير إناء ولا يد وتحريم استعمال إناء الذهب والفضة) أي لغير ضرورة وكذا يحرم ما موه بهما من باقي الأواني كأن ينحصل بالعرض على النار منه شيء، ويجوز استعمال إناء النقدين المموه بغيره إذا لم يحصل على النار شيء من ذلك، ويحرم المضبب بالذهب مطلقاً وبالفضة إن كانت الضبة كبيرة وكلها أو بعضها للزينة (في الشرب والأكل والطهارة وسائر وجوه الاستعمال) والاقتصار على أواني الأكل والشرب في حديث آخر الباب لأنهما الأغلب وإلا فسائر الاستعمال في الحرمة سواء.
1774 - (عن أنس رضي الله عنه قال: حضرت الصلاة) بدخول وقتها (فقام من كان قريب الدار إلى أهله وبقي قوم) مع النبي: أي لبعد دورهم أو للزوم الأدب معه كما هي العادة من الجلوس بين يدي الكبير (فأتى النبي بمخضب) الفعل مبني للمجهول، قال الحافظ: والمخضب بكسر الميم وسكون المعجمة الأولى وفتح الثانية آخره موحدة إناء (من حجارة فصغر) بضم الغين المعجمة (المخضب) عن (أن يبسط فيه كفه) أي لا عن ضمها مجموعة أو مبسوطة بعض أصابعها (فتوضأ القوم) أي من الماء التابع من بين أصابعه في ذلك المخضب، ثم القوم في الحديث يحتمل أن يراد منهم الباقون بمجلسه لأن من داره قريب تطهر منه، ويحتمل أن يراد منهم الجميع ويؤيده قوله (كلهم) ويكون تطهيرهم(5/253)
ثانياً لقرب عهد ذلك الماء بتكوين الله سبحانه كما أمر بالتطهير من ماء المطر وفعله، وقال: إنه حديث عهد بربه: أي بتكوينه ثم يحتمل أن يكون طهرهم الثاني بعد أن صلوا الأول صلاة ما، لأن ذلك الذي يستحب عنده تجديد الوضوء، ويحتمل أنه قيل ذلك ويكون محل ذلك ما إذا كان القصد تجديد الطهارة ليس إلا. أما إذا كان القصد مع ذلك التبرك بذلك الماء أو معنى آخر فلا يعتبر ذلك (قالوا) أي الحاضرون بمجلس أنس وقت تحديثه بذلك (كم كنتم قال ثمانين) أي كنا كذلك فحذفت الجملة لدلالة وجود نظيرها في السؤال عليها (وزيادة. متفق عليه. هذه رواية البخاري) أخرجه في باب علامات النبوة لكن لم أر فيه قوله وزيادة، وفي كتاب الطهارة وفيها قوله وزيادة (وفي رواية له) أي للبخاري في كتاب الطهارة (ولمسلم) في باب الفضائل (أن النبيّ دعا) أي أمر (بإناء من ماء فأتى) بالبناء للمفعول (بقدح رحراح) بفتح الراء وسكون الحاء المهملة. قال في «النهاية» : هو القريب القعر مع سعة (فيه شيء) أي يسير ولعل التقليل لكونه الميسور إذ ذاك (من ماء فوضع أصابعه فيه) أي في الماء ستراً للسرّ الإلهي، وإلا فكان متمكناً بإقدار الله على ما فعل من غير
الإتيان بشيء من الماء (قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع) بضم الموحدة وكسرها والجملة في محل الحال، وقوله (من بين أصابعه) ظرف لغو متعلق بالفعل، ويجوز إعرابه حالاً فيكون ظرفاً مستقراً (فحزرت) بفتح المهملة والزاي وسكون الراء: أي خرصت (من توضأ ما بين السبعين رجلاً إلى الثمانين) لا تخالف هذه الرواية ما قبلها، لأن هذا بحسب الخرص وذاك بحسب العد والله أعلم.
2775 - (وعن عبد الله بن زيد) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: أتانا النبي فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ) فدل على أن لا منع من استعماله وقوله البعض بالمنع منه رده(5/254)
بمخالفته النص، ولا يستحب الخروج من الخلاف إذا كان كذلك (رواه البخاري) في الطهارة (الصفر بضم الصاد) المهملة وسكون الفاء بعدها (ويجوز كسرها) قلت: في «المصباح» الصفر كقفل وكسر الصاد لغة (وهو النحاس) قال في «المصباح» بد أن صدر به: وقيل أجوده (والتور إناء كالقدح) قال الأزهري: فتذكره العرب (وهو بالتاء المثناة من فوق) المفتوحة.
3776 - (وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله دخل على رجل من الأنصار) قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : قيل هو أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري (ومعه صاحب له) هو أبو بكر الصديق. قال في التحفة أيضاً: وعليه فالتنوين للتعظيم (فقال رسول الله) وكان الوقت صائفاً كما في نفس الحديث عند البخاري (إن كان عندك ماء بائت هذه الليلة في شن) بفتح المعجمة وتشديد النون القربة الخلقة، الحكمة في طلب الماء البائت أنه أبرد وأصفى، وحذف جواب إن وهو نحو قوله فاسقنا لدلالة المقام عليه (وإلا) أي وإن لا يوجد ذلك وحقه أن يكتب بالنون بعد الألف وإن كانت مدغمة لفظاً في اللام، والذي وقفت عليه في النسخ كتابته بصورة إلا الاستثنائية وهو من تحريف الكتاب (كرعنا) الكرع تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كف، وقد ورد النهي عنه في حديث ابن ماجه وهو للتنزيه وهذا لبيان الجواز وذلك محمول على ما إذا انبطح الشارب على بطنه (رواه البخاري) في الأشربة من «صحيحه» ، قال المزي: ورواه أبو داود وابن ماجه في الأشربة من «سننهما» (الشنّ القربة) ظاهرة مطلق القربة وتقدم أنها بقيد الخلقة، وفي «المصباح» : الشنّ الجلد البالي وهو أنسب بالمقام لأنه يبرد الماء أكثر.(5/255)
4777 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: إن النبي نهانا) أي معشر الرجال المكلفين وألحق بهم الخنائي احتياطاً (عن الحرير والديباج) أي عن لبسهما، قال في «المصباح» : الديباج ثوب سداه ولحمته إبريسم، ويقال هو معرب. واختلف في الباء فقيل زائدة ووزنه فيعال ولذا يجمع بالياء فيقال ديابيج، وقيل أصيل والأصل دبَّاج بالتضعيف فأبدل من أحد المضعفين حرف العلة، ولذا يرد في الجمع إلى أصله فيقال دبابيج بموحدتين اهـ (والشرب في إناء الذهب والفضة) وألحق به باقي الإستعمال لهما كالاكتحال بهما لغير تداو والتخلل (وقال هنّ) أي هذه الثلاث المنهيات المعدودات، واستعمال ضمير النسوة فيما دون العشرة هو الأكثر ومنه قوله {أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} (التوبة: 36) (لهم) أي الكفار المدلول عليهم بالسياق (في الدنيا) لأنهم وإن كانوا مخاطبين بالأحكام على الصحيح إلا أنهم لا ورع لهم يحملهم على التمسك بها فكأنها أبيحت لهم (وهي) أي بضمير الواحدة على خلاف الأكثر تفننا في التعبير (لكم في الآخرة) دونهم لأنهم في العذاب المهين، وفيه إيماء إلى حسن ثمرة التقوى وسوء عاقبة المعصية (متفق عليه) روياه في اللباس.
5778 - (وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال: الذي يشرب في آنية) بفتح الهمزة وبعدها ألف لينة وبعدها نون مكسورة: أي وعاء (الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) يجوز فيه النصب على أن فاعل الفعل مضمر يعود على الشارب المفهوم من يشرب، وبه صرح الأزهري فقال: نار منصوب، ويجرجر بمعنى يلقى، وهذا مثل قوله تعالى: {إنما(5/256)
يأكلون في بطونهم ناراً} (النساء: 10) ويؤيده الرواية الآتية آخر البار ناراً من جهنم والرفع على أنها فاعل الفعل، وجاز تذكيره للفصل بينه وبينه مع أن تأنيثه مجازي وتقدم معناها (متفق عليه) روياه في اللباس أيضاً (وفي رواية لمسلم) الحديث المذكور وقال إن على ابن مسهر أحد أشياخه في هذا الحديث زاد (إن الذي يأكل ويشرب) الواو فيه يحتمل كونها على بابها من أصل الجمع فيكون فيه وعيد كل منهما على انفراده من حديث آخر، ويحتمل أنها فيه بمعنى أو (في آنية الفضة والذهب) في الواو الاحتمالان المذكوران ويؤيد الثاني الرواية بعده قال مسلم وليس في حديث أحد منهم: أي أشياخه في هذا الحديث ذكر الأكل والذهب إلا في حديث ابن مسهر (وفي رواية له) أي لمسلم في الحديث المذكور من حديث أم سلمة أيضاً، لكن من غير طريق الحديث قبله فلا يشكل بما تقدم عن مسلم لأن كلامه في حديث نافع عنها فليس عند رواته ذكر ذينك إلا عند ابن مسهر فقط، وهذه الرواية الأخيرة ليست من رواية نافع عنها بل من رواية ابن أخيها عبد الله ابن عبد الرحمن عنها والله أعلم (من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم) ففيه الوعيد الشديد في استعمال أواني النقدين المنصوص منه على الأكل والشرب لأنهما أغلب أنواعه فسائره مثلهما في الحرمة، وقضية هذه الأحاديث أن ذلك من الكبائر وبه صرح ابن حجر الهيتمي في «الزواجر» ، وظاهر أن محل حرمة ذلك حيث لا ضرورة، وإلا فمن وجد إناء أحدهما وليس عنده ما يصنع فيه طعامه المائع أو الرطب الذي يتلوّث سوى
الأرض، فيجوز له استعمال ذلك حينئذ «لأن الضرورات تبيح المحظورات» «وإذا ضاق الأمر اتسع» ، وقد قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78) .(5/257)
3 - كتاب اللباس
بكسر اللام، قال في «المصباح» : هو ما يلبس، ولباس الكعبة والهودج كذلك، وجمعه لبس مثل كتاب وكتب اهـ: أي الأحاديث الواردة فيه من حيث الحل والحرمة وما يتعلق به من الأدب.
باب استحباب الثوب الأبيض
في كل المجامع نعم يوماً العبد الأفضل فيهما لبس الأعلى قيمة وإن كان غير أبيض، فإن كان هو الأعلى فهو الأولى (وجواز) أي إباحة لبس (الأحمر والأخضر والأصفر والأسود وجوازه) أي الثوب (من قطن وكتان وشعر وصوف وغيرها) أي من كل بمفرده أو مركباً من ذلك من غير نظر لتساوي الأجزاء حينئذ وتفاضلها لأن الأول متساوية في الإباحة (إلا الحرير) فيحرم على الرجال البالغين والخناثى لبس الحرير المحض أو المركب منه ومن غيره والغالب الحرير.
(قال تعالى) : ( {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} ) أي خلقناه لكم ( {يوارى} ) أي يستر ( {سوآتكم} ) أي عوراتكم، سميت بذلك لأنه يسوء صاحبها كشفها، وكان على المصنف زيادة قوله تعالى: { «وريشا» } أي ما يتجمل به من الثياب لأنه من حكم خلقه للثياب المميز به على العباد.
(وقال تعالى) : ( {وجعل لكم سرابيل} ) أي قمصاً ( {تقيكم الحر} ) أي والبرد فحذف اكتفاء بدلالة قرينه عليه بالأولى ( {وسرابيل(5/258)
تقيكم بأسكم} ) حربكم: أي الطعن والضرب فيها كالدروع والجواشن.
1779 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: البسوا من ثيابكم البياض) أي الثياب البيض، وفيه مبالغة تامة كأن جعل البياض عينها فحمله عليها (فإنها من خير ثيابكم) لعل الإتيان بمن، دفعاً لكلفة التعب عمن لا يجد الثوب الأبيض، فأومأ إليّ أن ذلك خير أيضاً لما فيه من ستر العورة وسد الحاجة، وجاء تعليل الأخيرية في الحديث عقبه بقوله «فإنها أطيب وأطهر» والجملة استئناف بيان تعليل للأمر قبلها (وكفنوا فيها موتاكم رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) .
2780 - وعن سمرة بفتح المهملة وضم الميم وهو ابن جندب تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب توقير العلماء (قال: قال رسول الله: البسوا البياض) أي ذا البياض وفيه ما تقدم في الحديث قبله، وأعاد الضمير على الثياب الموصوفة بالبياض المحذوفة وإن لم تختص الصفة بها اكتفاء بدلالة البسوا عليها بقوله (فإنها أطهر) لأنها لنقائها يطهر ما يخالطها من الدنس وإن قل قال الشاعر:
إن البياض قليل الحمل للدنس
(وأطيب) أي لسلامتها غالباً عن الخيلاء الذي يكون في لبس الملونات (وكفنوا فيها موتاكم. رواه النسائي والحاكم وقال: حديث صحيح) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه كلهم عن سمرة أيضاً كما في «الجامع الصغير» .(5/259)
3781 - (وعن البراء) بفتح الموحدة والراء الخفيفة وبعدها ألف ممدودة (ابن عازب) بمهملة وبعد الألف زاي مكسورة فموحدة، وتقدم هذا في ترجمته (رضي الله عنه قال: كان رسول الله مربوعاً) أي لم يكن طويلاً بائناً ولا قصيراً بل كان بينهما وإلى الطول أقرب (وقد رأيته) معطوف على كان ومدخولها ويحتمل أن تكون حالية (في حلة) بضم المهملة وتشديد اللام: ثوب له ظهارة وبطانة من جنس واحد، وقال المصنف: قال أهل اللغة: الحلة لا تكون إلا ثوبين وتكون غالباً إزاراً ورداءءً قال أبو عبيدة: ولا تسمى حلة حتى تكون ثوبين من جنس واحد، فإفراد قوله (حمراء) إما نظراً للفظ حلة أو إلى أنها كثوب واحد للاحتياج إليهما معاً في ستر البدن أو لأنهما من جنس واحد، قال الحافظ ابن حجر: هي ثياب ذات خطوط اهـ. وقال ابن حجر الهيثمي: بل هي على ظاهرها. ففي الحديث حجة لإمامنا الشافعي حيث أجاز لبس الأحمر الفاني، ومنعه الحنفية فأولوا ما في الحديث بأن المراد ذات خطوط حمر، أو أن ذلك من الخصائص (ما رأيت) أي علمت (شيئاً قط أحسن منه) وليس مراده قصر ذلك على علمه وإن كان ذلك منطوق عبارته، بل ما أومأ إليه ذلك من انفراده بالمحاسن عن جميع الخليقة بطريق التجوّز في التعبير ومراده ما علمت ولا غيري (متفق عليه) رواه البخاري مختصراً هكذا في باب اللباس وبأطول منه في باب صفة النبي، ورواه مسلم في فضائل النبيّ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي.
4782 - (وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون التحتية بعدها فاء فهاء (وهب بن عبد الله) السوائي (رضي الله عنه قال: رأيت) أي أبصرت (النبي بمكة وهو بالأبطح) هو المحصب ويقال له البطحاء (في قبة) بضم القاف وتشديد الموحدة هي كما يعبر عنها الآن بالخيمة (له حمراء من أدم) بفتح الهمزة والمهملة لجمع أديم: وهو الجلد المدبوغ (فخرج بلال بوضوئه) بفتح الواو أي بالماء المعد لوضوئه (فمن ناضح) أي(5/260)
فمن رجل مبتل أصاب بعض البلل من ذلك (ومن نائل) من النيل: أي أصاب منه ماله وقع وطلبهم ذلك بعد وصول الماء إلى أعضائه الشريفة، فيكون في العبارة شبه استخدام أريد من الوضوء المعدّ للوضوء، وعند عود الضمير إليه أريد منه ما استعمل فيه (فخرج النبيّ حلة حمراء كأني) حال التكلم (انظر إلى بياض ساقيه) فالمشبه والمشبه به متحدان في الحقيقة مختلفان بالاعتبار، فهو باعتبار حال المتكلم مشبه وباعتبار النظر لذلك مشبه به، وأتى بهذه الجملة لتنبيه المخاطب على تمام استحضاره فيتلقى عنه أحسن تلق لإيقانه له (فتوضأ) والفاء فيه لترتيب الأخبار لا لترتيب المخبر وأخذهم له وافتراقهم في ذلك بعد الوضوء وهو متقدم إخباراً (وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا) أي يميناً وشمالاً (يقول) جملة حالية من المضاف إليه لأن المضاف بعضه (يميناً وشمالاً) نصبهما على الظرف (حيّ) أي أقبلوا (على الصلاة حي على الفلاح) وذكره في هذا المقام إيماء إلى أن الصلاة ذروة سنامه، فمن أحسنها فقد حلّ منه الذروة العليا وظفر منه بالدرجة القصوى، وفيه لف ونشر مرتب، فحيّ على الصلاة يدير فاه بها يميناً، وحيّ على الفلاح يديره بها شمالاً وصدره مستقبل القبلة، وإنما التفت فيهما بوجهه لما فيهما من الخطاب بخلاف باقي كلمات الأذان والإقامة (ثم ركزت) بضم الراء وكسر الكاف بعدها زاي: أي غرزت (له عنزة فتقدم فصلى) إليها جعلها بين يديه ومن ثم استحب للمصلي أن يجعل بين يديه
شاخصاً ويكون بينه وبينه ثلاثة أذرع فأقل، ولا يصمد إلى الشاخص بل يجعله عن يمينه أو عن شماله (يمرّ بين يديه الكلب والحمار) أي من وراء السترة (لا يمنع) بالبناء للمفعول: أي لا يمنع عن المرور لأن المصلي إنما يمنع المرور بينه وبين سترته (متفق عليه) أخرجاه في الصلاة، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (العنزة بفتح) المهملة و (النون) وبالزاي (نحو العكازة) قال في «المصباح» : العنزة عصا أقصر من الرمح ولها زجّ من أسفلها وجمعها عنز وعنزات كقصبة وقصب وقصبات اهـ.(5/261)
5783 - (وعن أبي رمثة) بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة (رفاعة) بكسر الراء وبالفاء والعين المهملة ابن يثربي بفتح الموحدة وسكون المثلثة وكسر الراء نسبة إلى ما كانت تسمى به طيبة في الجاهلية (التيمي) بفتح الفوقية وسكون التحتية. قال الترمذي: في «الشمائل» تيم الرباب، واحترز به عن تيم قريش ولد الرباب بكسر الراء، قال ميرك: كذا سماعنا وكذا ذكره الجوهري في «صحاحه» والفيروزأبادى في «القاموس» ، قيل فقول الحافظ ابن حجر: إنه بفتح الراء لعله سبق قلم منه أو من غيره. وتيم الرباب خمس قبائل: ضبة وثور وعكل وتيم وعدى غمسوا أيديهم في ربّ وتحالفوا عليه فصاروا يداً واحداً، وأبو رمثة ذكره الحافظ في «تقريبه» ولم يزد على ذكر اسمه واسم أبيه، وفي السكنى من «التقريب» أبو رمثة البلوي ويقال التيمي ويقال التميمي، وقيل هما اثنان، قيل اسمه رفاعة بن يثربي، وقيل عكسه، ويقال عمارة بن يثربي، ويقال حبان بن وهيب، وقيل جندب، وقيل خشخاش صحابي. قال ابن سعد: مات بأفريقية، خرج له أبو داود والترمذي والنسائي (رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله ثوبان أخضران، رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» (والترمذي) في «جامعه» ، وفي «الشمائل» «لكن قال: وعليه بردان أخضران» بالموحدة والراء والدال بدل ثوبان أخضران، قال ابن بطال: الثياب الخضر من لباس أهل الجنة وكفى بذلك شرفاً، قال القاري: ولذا صارت لباس الشرفاء، ووصف المصنف الإسناد بقوله (بإسناد صحيح) وتصحيح الإسناد إذا كان من نحو المصنف من كل ضابط متقن ولم يعقب المتن بقادح في صحته حكم بصحة المتن أيضاً.
6784 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله دخل يوم فتح مكة) حذف المفعول به وهو مكة اكتفاء بدلالة ظرف الزمان عليه، وقد صرح به الترمذي في رواية «الشمائل» (وعليه عمامة سوداء) لا يخالف ما جاء من أنه دخل يومئذ وعليه مغفر لإمكان الجمع بدخوله(5/262)
بهما معاً وهي فوقه، أو كان واحداً بعد آخر صدرا منه حال الدخول، ولبسه العمامة السوداء يومئذ إشارة إلى أن هذا الدين لا يتغير كالسواد بخلاف سائر الألوان (رواه مسلم) ورواه أصحاب السنن الأربعة.
7785 - (وعن أبي سعيد عمرو بن حريث) بضم المهملة وفتح الراء وسكون التحتية بعدها مثلثة بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن مخزوم القرشي المخزومي (رضي الله عنه) قال الحافظ في «التقريب» : صحابي صغير مات سنة خمس وثمانين خرج له الستة. روي له عن النبيّ ثمانية عشر حديثاً، ذكره ابن الجوزي في «مختصر التلقيح» ، وانفرد بالروايات عنه مسلم عن البخاري، فروى له حديثين وقد بسطت ترجمة كل منه ومن أبي رمثة في كتاب رجال «الشمائل» (قال: كأني أنظر إلى رسول الله عمامة سوداء قد أرخى طرفيها) بالتثنية، وجاء في رواية «الشمائل» بالإفراد: قال القاضي عياض: وهو الصواب اهـ (بين كتفيه) ولبسه السواد حينئذ تنبيهاً على عدم المنع منه. وفيه استحباب إرخاء طرفى العذبة بين الكتفين (رواه مسلم) في الحج (وفي رواية له) من حديث جابر ورواه أبو داود والترمذي في «الشمائل» والنسائي وابن ماجه (أن رسول الله خطب الناس) أي في يوم جمعة وعلى المنبر كما في رواية أخرى لمسلم، وبه يندفع قول بعضهم لم يلبس النبيّ في غير فتح مكة، وذلك لأن خطبته بمكة لم تكن على منبر بل على باب الكعبة، ولذا ذكر صاحب «المصابيح» هذا الحديث في خطبة الجمعة (وعليه عمامة سوداء) في رواية «وعمامة حرقانية» .
8786 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض) كما أمر بالتكفين بها كما تقدم من قوله «وكفنوا فيها موتاكم» (سحولية من كرسف ليس فيها(5/263)
قميص ولا عمامة) وهذا أفضل الكفن للرجل، ويجوز زيادة قميص وعمامة، وسياقه له باب المعقود لما يطلب للحي لبسه من الألوان ليبين أن لبس الأبيض مأمور به بالنص من قوله وبالقياس على تكفينه به ويكفن الميت بما يلبسه حياً (متفق عليه) أخرجاه في الجنائز (السحولية بفتح السين) المهملة (وضمها وضم الخاء المهملتين) أي مع فتح السين وضمها (ثياب تنسب إلى سحول) بورن رسول (قرية باليمن) فالفتح في المنسوب على لفظ المنسوب إليه والضم على النسبة إلى جمع سحل: وهو الثوب الأبيض فإنه يجمع على سحول كفلس وفلوس، وهو غلط لأن النسبة إلى الجمع إذا لم يكن علماً وكان له واحد من لفظه يرد إلى الواحد، قاله في «المصباح» ، فالضم حينئذ من تغييرات انلسب كنسبة نمرى بفتح أوليه إلى نمر بكسر فسكون (والكرسف) بضم أوله وثالثه المهمل (القطن) قال في المصباح: والكرسف أخص منه.j
9787 - (وعنها قالت: خرج رسول الله ذات غداة) أي في أيّ ساعة من البكرة (وعليه مرط مرحل من شعر أسود) أي منسوج من الشعر، ففيه حلّ لبس الصوف ولبس الأسود (رواه مسلم) في اللباس من «صحيحه» (المرط) بكسر الميم وسكون الراء وبالطاء المهملة (وهو كساء) فيه إطلاق وشمول لما يؤتزر به منه وغيره. والذي في «المصباح» : المرط كساء من صوف أو خزّ يؤتزر به وتتلفع به المرأة والجمع مروط كحمل وحمول (والمرحل بالحاء المهملة) بصيغة المفعول من مضعف رحل (هو الذي فيه صورة رحال الإبل وهي الأكوار) فأشار به إلى حلّ تصوير ما لا روح فيه. والوارد فيه التغليظ من التصوير تصوير ذي روح والأكوار جمع كور، قال في «المصباح» : هو الرحل بأداته ويجمع على أكور وكيران.(5/264)
10788 - (وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبيّ ذات ليلة) أي في ليلة وأتى بذات، لبيان أن المراد حقيقة الليلة لا أنها أريد منها مطلق الزمان مجازاً (في مسير) بفتح المهملة وكسر المهملة وسكون التحتية وذلك في غزوة تبوك (فقال لي أمعك ماء) يحتمل أن يكون مبتدأ مؤخراً ويحتمل كونه فاعلاً للظرف لاعتماده على الاستفهام (فقلت: نعم، فنزل عن راحلته) ، أي مركبه الذي كان راكباً عليه من الإبل وهي ناقته المعروفة بالقصوى وبالعضباء كما قدمت ذلك (فمشى حتى توارى) أي غاب سواده عن رؤية البصر (في سواد الليل) لزيادة الدخول في البعد، فيستحب لمن خرج لقضاء الحاجة في الصحراء الإبعاد عن الحاضرين، وهو إلى أن يغيب سواده عنهم أو إلى أن يأمن على نفسه (ثم جاء فأفرغت عليه) فيه الاستعانة بالصبّ على المتطهر وفعلها لبيان الجواز وإلا فالأفضل تركها (من الإداوة) بكسر الهمزة وبالدال المهملة المطهرة وجمعها أداوى (فغسل وجهه وعليه) أي النبي (جبة) بضم الجيم وتشديد الموحدة جمعها جبب: صنف معروف من اللباس (من صوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها) لضيق كمها (حتى أخرجهما) أي الذراعين (من أسفل الجبة فغسل ذراعيه) إلى المرفقين (ومسح برأسه) الباء فيه للتبعيض (ثم أهويت) أي مددت يدي إلى خفيه (لأنزع خفيه فقال: دعهما) أي اتركهما في ملبوسهما وهما القدمان (فإني أدخلتهما) أي القدمين المدلول عليهما بالخفين (طاهرتين) وما كان كذلك يجوز مسح خفيه عوضاً عن غسله، ويجوز عوض ضمير المثنى إلى الخفين فيكون فيه قلب كقول العرب: أدخلت القلنسوة رأسي، ويقرب هذا قوله (ومسح عليهما) فإن المسح على الخفين (متفق عليه) أخرجاه في الطهارة، وفيه قصة صلاة النبي وراء عبد الرحمن بن عوف وقد تقدم ذلك، وروى الحديث أبو داود ولم يذكر قصة ابن عوف والنسائي وابن ماجه.
(وفي رواية: وعليه جبة شامية) لا تخالف ما جاء في أخرى أنهاجبة رومية، لأن الشام حينئذ كانت مقر الروم فصح كلا الأمرين (ضيقة الكمين) فلذا لم يتمكن من إخراج يديه منهما.
(وفي رواية) لهما (أن هذه(5/265)
القضية) بفتح القاف وكسر الضاد المعجمة (كانت في غزوة تبوك) بالصرف وعدمه كما تقدم: محل معروف بالقرب من الشام، وكانت آخر مغازيه التي خرج بنفسه فيها وكانت سنة تسع من الهجرة.
118 - باب استحباب القميص
قال في «المصباح» : ويجمع على قمص بضمتين وقمصان بضم فسكون.
1789 - (عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كانت أحب الثياب) بالنصب خبر مقدم لكان وبالرفع اسمها وقوله (إلى رسول الله) متعلق بأحب (القميص) بالرفع على الأول وبالنصب على الثاني وهو المشهور في الرواية، وقيل هما روايتان، وأيد الأول بأن أحبّ وصف فهو أولى بكونه حكماً، وقال آخر: إن كان المراد تعيين الأحب فينصب القميص أو بيان وصف القميص عنده فيرفع، قال ابن الجزري: القميص ثوب مخيط بكمين غير مفرج يلبس تحت الثياب، وفي «القاموس» : ولا يكون إلا من القطن وأما الصوف فلا. وقيل وكأن حصره للغالب. والظاهر أن المراد من القميص في الحديث ما كان من القطن لأن الصوف يؤذي البدن ويدرّ العرق ورائحته يتأذى بها. وقد أخرج الدمياطي «كان قميص رسول الله قطناً قصير الطول والكمين» قيل وجه أحبية القميص إليه أنه أستر للأعضاء من الإزار والرداء لأنه أقل مؤنة وأخف على البدن، ولابسه أكثر تواضعاً، ثم لا مخالفة بين هذا الحديث وحديث «كان أحبّ الثياب إلى رسول الله الحبرة» لأن أحبيته للثوب من حيث اللبس كما جاء في رواية الترمذي «أحبّ الثياب إلى رسول الله يلبسه القميص» وأحبية الحبرة لأمر آخر. قال القاري:(5/266)
وحديث الباب بالنسبة للمخيط وحديث الحبرة بالنسبة لغيره (رواه أبو داود والترمذي) في «جامعه» و «شمائله» من طرق متعددة وفي بعضها يزيادة «يلبسه» كما تقدم (وقال) في «جامعه» (حديث حسن) .
119 - باب صفة طول القميص والكم والإزار
هو ما يستر أسافل البدن ويقابله الرداء (وطرف العمامة) أي بيان قدر الطول المشروع فيما ذكر (وتحريم إسبال) أي إرخاء (شيء من ذلك) أي المذكور من القميص وما بعده (على سبيل الخيلاء) بضم المعجمة وفتح التحتية: أي الكبر أو الإعجاب (وكراهته) تنزيهاً (من غير خيلاء) والمراد أن الإرخاء زيادة على المشروع في الطول: إما مكروه وإما حرام.
1790 - (عن أسماء) بالمد (بنت يزيد) بفتح التحتية الأولى وكسر الزاي وسكون التحتية بعدها دال مهملة ابن السكن بفتح المهملة والكاف وبالنون (الأنصارية) قال في «التقريب» : تكنى أم سلمة ويقال أم عامر صحابية لها أحاديث تقدمت ترجمتها (رضي الله عنها) في باب فضل الجوع (قالت: كان كم) بضم الكاف وتشديد الميم (قميص رسول الله إلى الرسغ) كذا في نسخ الرياض بالسين، قال ابن حجر الهيثمي في «شرح الشمائل» : هو بالصاد عند أبي داود والمصنف وبالسين عند غيرهما، قيل ولعله أراد عند الترمذي في «جامعه» وإلا فنسخ «الشمائل» بالسين بلا خلاف اهـ. ومنه يعلم أن كتابته بالسين هنا من الكتاب، وقال التوربستى: هو بالسين المهملة وبالصاد لغة فيه، وفي «القاموس» : الرسع بضم وضمتين ثم قال:(5/267)
والرصغ اهـ. والرسغ: مفصل الساعد والكف. قال ابن الجزري: فيه دليل أن لا يجاوز بكم القميص الرسغ، وأما غير القميص فالسنة ألا يجاوز رؤوس الأصابع، ولا يخالف هذا الحديث ما أورده ابن الجوزي في الوفاء من حديث ابن عباس «كان رسول الله يلبس قميصاً فوق الكعبين مستوى الكمين بأطراف أصابعه» بحمل ذلك على تعدد القميص أو أن حديث الباب على التقريب والتخمين وذاك على التعيين (رواه أبو داود والترمذي) في «جامعه» وشمائله (وقال: حديث حسن) .
2791 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: من جر) أي سحب على وجه الأرض لطوله حتى مسها (ثوبه) وهو شامل لجميع أنواعه وذكر الإزار في رواية «من جرّ إزاره» لا يخصه لأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص على أنه إنما ذكر كما قال الطبري، لأنهم كانوا إذ ذاك يلبسون الأزر والأردية، فلما اعتيد لبس القميص تركا فكان حكمهما في ذلك حكمهما (خيلاء) منصوب على أنه مفعول له (ويجوز) نصبه على أنه مفعول مطلق: أي جرّ خيلاء فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو على الحال: أي ذا خيلاء (لم ينظر الله إليه) أي نظر رضا ورحمة (يوم القيامة) الذي هو يوم الدين (فقال أبو بكر) أي الصديق (رضي الله عنه يا رسول الله إن إزاري يسترخي) أي لنحافة بدنه (إلا أن أتعاهد ذلك منه) أي بالشد والرفع أفأدخل في الوعيد المقتضي لكون فعل ذلك كبيرة (فقال رسول الله: إنك لست ممن يفعله) إفرد الضمير نظراً للفظ من (خيلاء) ففيه بيان أن قوام الأعمال بالنيات وأنها تختلف أحكامها بحسب اختلافها، وفيه أن الوعيد لمن فعل ذلك عجباً أو كبراً، لا لمن وقع له ذلك لا يقصد ذلك ولو لقصد آخر لا محظور فيه (رواه البخاري) في اللباس وأبو داود(5/268)
والنسائي في «سننهما» (وروى مسلم) في اللباس (بعضه) وهو قوله «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» وأورده من طرق بألفاظ متقاربة.
3792 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لا ينظر الله) أي نظر رضا (يوم القيامة) خص بالذكر لأنه محل الرحمة المستمرة بخلاف رحمة الدنيا فإنها قد تنقطع بما يتجدد من الحوادث، قاله في «الفتح» ، أو لأنه يوم الجزاء وإلا ففاعل ذلك لا يرضى الله بفعله دنيا وأخرى ولا ينظر الله إليه لذلك أصلاً (إلى من جر إزاره بطراً) بفتح الموحدة والمهملة هو بوزن الأشر ومعناه: وهو كفر النعمة وعدم شكرها والمراد لازم ذلك: أي عجباً وخيلاء فيكون ما قبله كالمفسر له (متفق عليه) رواه البخاري بهذا اللفظ في اللباس ولفظ مسلم عن أبي هريرة عن النبي «إن الله لا ينظر إلى من يجرّ إزاره بطراً» .
4793 - (وعنه عن النبيّ قال: ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) قال الحافظ في «الفتح» : ما موصولة وبعض صلته محذوف وهو كان وأسفل خبره وهو منصوب قلت: لا يتعين على النصب تقدير كان، بل يجوز أن يكون أسفل ظرفاً وقع صلة والله أعلم. ويجوز الرفع على ما هو أسفل وهو أفعل تفضيل، ويحتمل أن يكون فعلاً ماضياً ويجوز أن تكون ما نكرة موصوفة بأسفل. قال الخطابي: يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار فكنى بالثوب عن لابسه، ومعناه: أن ما دون الكعب من القدم يعذب عقوبة، وحاصله أنه من تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حل فيه، ويحتمل أن يكون تبيينه المراد الشخص نفسه،(5/269)
والمعنى: ماأسفل من الكعبين الذي يسامت الإزار في النار، أو التقدير: لابس أسفل ما سفل من الكعبين، أو التقدير: أن فعل ذلك محسوب في أفعال أهل النار، أو فيه تقديم وتأخير: أي ما سفل من الإزار من الكعبين في النار، وكل ذلك مستفاد من استحالة الإزار في النار حقيقة. وأخرج عبد الرزاق أن نافعاً سئل عن ذلك فقال: وما ذنب الثياب، بل هو من القدمين جاء، لكن يقتضي إدخال نفس الثوب في النار. فعليه لا مانع من حمل الحديث على ظاهره ويكون من باب قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (الأنبياء: 98) ويكون في الوعيد لما وقعت به المعصية إشارة إلى أن من يتعاطاها أحق بذلك، والفاء في قوله ففي النار مزيدة: لتضمن «ما» معنى الشرط، ثم هذا محمول على من فعل ذلك خيلاء وبطراً كما تقدم ما يدل له، ومحل الكراهة لمن أرخى إزاره عن كعبه إذا لم يكن عذر، وإلا فمن برجله جراح يؤذيه الذباب وأسبل إزاره ليسلم من أذاها فلا كراهة، نبه عليه الحافظ زين الدين العراقي في «شرح الترمذي» ، واستدل له بإذن النبي لابن عوف في لبس الحرير لحكة والجامع تعاطي ما حرم في كل للضرورة، والحديث في الرجال لما سيأتي في حديث ابن عمر عن أم سلمة (رواه البخاري) في اللباس.
5794 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي قال: ثلاثة لا يكلمهم الله) قيل المراد الإعراض عنهم وقيل لا يكلمهم كلام رضا يسرهم بل كلام غضب وسخط (يوم القيامة ولا ينظر إليهم) أي يعرض عنهم، ونظره تعالى إلى عبده رحمته ولطفه به (ولا يزكيهم) أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وقيل لا يثني عليهم (ولهم عذاب أليم) أي مؤلم، قال الواحدي: هو العذاب الذي يخلص إلى قلوبهم وجعه، والعذاب كل ما يعني الإنسان ويشق عليه (قال فقرأها) أي فتلا هذه الجملة (رسول الله ثلاث مرار) ليثبت عند السامعين فيكون أبلغ في النفع «ومرار» بكسر الميم وتخفيف الراءين بينهما ألف جمع تكسير(5/270)
لمرة (قال أبو ذرّ خابوا وخسروا) أي المحدث عنهم بالوعيد المذكور (من هم) ليعرفوا بأعيانهم أو بأوصافهم (يا رسول الله» قال: المسبل) بصيغة الفاعل من الإسبال المرخي لثوبه الجار له خيلاء فهو مخصوص بذلك (والمنان) أي الذي يذكر إحسانه ممتناً به على المحسن إليه، والمبالغة قيد في الوعيد المذكور لما فيه من المبالدة المقتضى لكونه من الكبائر وإلا فالمن حرام وإن لم يتكرر، قال تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (البقرة: 264) (والمنفق) بصيغة الفاعل من الإنفاق (سلعته) بكسر المهملة الأولى وسكون اللام أي المكثر طلاب بضاعته (بالحلف) بفتح فكسر: أي القسم (الكاذب) كقوله والله إنها حسنة والله إنها فريدة (رواه مسلم) في كتاب الأيمان ورواه أبو داود في اللباس من «سننه» (وفي رواية له) فيه (المسبل إزاره) وتقدم عن ابن جرير حكمة تخصيصه بالذكر وإلا فالحكم شامل لسائر الملبوس، وتقدم أن ذكره في هذه الرواية لا يخصص عموم الأحاديث المطلقة.
6795 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ قال الإسبال) أي الإرخاء (في الإزار) وهو ما يستر به أسافل البدن (والقميص) أي إرخاء كل منهم عن الكعب (والعمامة) أي بإطالة عذبتها (من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) أي إذا لم يتب من ذلك أما جرّ ما ذكر بغير الخيلاء فمكروه إلا لعذر كالصديق أو لضرورة كذي الجراحة القاصد بإطالة ثوبه سترها من الذباب ليسلم من أذاها (رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» (والنسائي بإسناد صحيح) أي باعتبار منتهى الإسناد وهو حسين الجعفي عن سالم عن ابن عمر وإلا ففيما قبل ذلك الإسناد متعدد، ورواه ابن ماجه في «سننه» أيضاً.(5/271)
7796 - (وعن أبي جرى) بضم الجيم وفتح الراء وتشديد التحتية مصغر كما نص عليه الحافظ في «تبصير المنتبه» وما وقع في «المفاتيح شرح المصابيح» أنه بفتح الجيم خطأ (جابر بن سليم) مصغر قال المزي في «الأطراف» : ويقال سليم بن جابر، قال ابن الأثير: والأول أصح (الهجمي) بضم الهاء وفتح الجيم نسبة إلى الهجيم بن عمرو بن تميم، عداده في أهل البصرة (رضي الله عنه) روي له عن رسول الله أحاديث وليس عنه في الصحيحين شيء (قال: رأيت) أي أبصرت (رجلاً) التنوين فيه للتعظيم بدليل وصفه بقوله (يصدر) بضم الدال (الناس عن رأيه) أي يرجعون عن رأيه: أي يرجعون إلى ما يظهر من صدره من الرأي الذي يرشدهم إليه (لا يقول لهم شيئاً إلا صدروا) بفتح الدال (عنه) بعد سماعه كما يصدر الوارد عن الورد بعد الذي يشرب من مائه، قال ابن رمد ملاك: وكان للنبيّ بئر يسمى الصادر وإنه يصدر عنها بالري (فقلت) لهم (من هذا؟ فقالوا رسول الله) بحذف المبتدأ المدلول عليه بوجوده في جملة السؤال (قلت: عليك السلام يا رسول الله مرتين) عند الترمذي أنه قال «عليك السلام يا رسول الله ثلاثاً» (قال: لا تقل عليك السلام) وعلل ذلك بقوله على طريق الاستئناف البياني (عليك السلام تحية الموتى) يعني باعتبار عادة شعر الجاهلية لا أن ذلك المشروع في السلام عليهم لأنه سلم عليهم كالأحياء فقال «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» وقيل أراد بالموتى كفار الجاهلية، قال ابن رسلان: ثم تقدم الدعاء على الضمير في الدعاء بالخير، أما في الشرّ فيقدم الضمير نحو وإن عليكم لعنتي عليهم دائرة السوء اهـ، وفيه تعقب بحديث «ألعنك بلعنة الله» إذ قدم الدعاء على ضمير المخاطب (قل السلام عليك) فيه إفراد الضمير وجمعه إذا كان المخاطب به مفرداً. فالجمع باعتبار من معه من الملكين (قال: قلت أنت) بتقدير همزة الاستفهام قبله: أي أأنت (رسول الله) (قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرّ) بضم الضاد المعجمة هو الفقر
والفاقة وبفتحها مصدر ضره يضره من باب قتل إذا فعل به مكروهاً كذا في «المصباح» وبه يعلم أنه بالضم (فدعوته) يتضرع وافتقار (كشفه) أي رفع ذلك عنك (وإن أصابك عام سنة) بالإضافة، وفي بعض نسخ أبي داود بالتنوين ورفع عام صفة لها(5/272)
والأول أصوب: أي عام شدة ومجاعة. قال المنذري: السنة هي العام الفحط الذي لم تنبت الأرض فيه
شيئاً سواء نزل عليها غيث أم لا (فدعوته أنبتها لك) أي أوجد لك فيها النبات ونماه بفضله (وإذا كنت بأرض) بالتنوين (قفر) وهي الأرض الخالية من الأنيس التي لا ماء بها ولا ناس، وفي «المصباح» هي: المفازة التي لا ماء بها ولا نبات وجمع القفر أقفار (أو) أرض (فلاة) أي لا ماء فيها وجمعها فلا كحصاة وحصى (فضلت راحلتك) في تلك الأرض (فدعوته) أي بدعاء مستجمع لشرائط الإجابة، ومنها كون الداعي عالماً بأن لا قادر على حاجته إلا الله تعالى، وأن الوسائط في قبضته وتسخيره وكون الدعاء باضطرار وافتقار، فإن الله تعالى لا يقبل دعاء من قلب غافل (ردها عليك، قال) أي جابر (قلت له) أي النبي أي بعد الإسلام بالله تعالى وبه (اعهد إلى) بفتح الهاء من العهد بمعنى الوصية ومنه حديث على «عهد إلى النبيّ» أي أوصى إلى (قال: لا تسبن أحداً) السبّ الشتم وهو حرام، ولا يجوز للمسبوب الانتصار ممن سابه إلا بمثل ما سبه به ما لم يكن كذباً أو قذفاً، وإذا انتصر المسبوب استوفى ظلامته وبرىء من حقه وبقي عليه حق الابتداء (قال) جابر (فما سببت بعده حرّاً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة) وأشار به إلى كمال الامتثال وعدم المشاحنة في شيء من ذلك، وجملة قال ومقوله معترضة بين جملة لا تسبن أحداً وجملة (ولا تحقرن) بكسر القاف يعني لا تترك (من المعروف شيئاً) احتقاراً له واستهانة لقدره فكل معروف وإن قلّ نفعه فهو صدقه ينمو أجره إلى يوم القيامة، والتنوين في شيء للتحقير والتقليل كما يدل عليه المقدم (و) لا تحقر (أن) بفتح
الهمزة (تكلم) بضم الفوقية (أخاك) المؤمن (وأنت منبسط إليه وجهك) بالرفع فاعل ما قبله، والمعنى: لا تحقر خطابك لأخيك وفي وجهك البشر له كأنك مستبشر بحديثه لما في ذلك من إدخال السرور عليه وجلب وداده المأمور به بقوله «وكونوا عباد الله إخواناً» ثم علل النهي عن احتقارك ذلك بقوله (إن ذلك) أي المتكلم أو المذكور (من المعروف) وإن قل، والخطاب مع البشر (من المعروف) أي الذي يطلبه الشرع، ومثل ذلك لا ينبغي احتقار شيء منه (وأرفع(5/273)
إزارك) ومثله باقي الثياب كما تقدم (إلى نصف الساق) وفي الحديث «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه وذلك لحصول الغرض به من لبس الثوب وهو ستر العورة، وفيه مع ذلك تواضع وإعراض عن رعونة النفس (فإن أبيت) عبر عن عدم فعل ذلك بالإباء إيماء إلى شرف مكانه، قال: إن تركت فعل ذلك المرقى لك الدرجات في الجنة (فإلى الكعبين) أي فأرفعه عن جانب الأرض إليهما فلا جناح فيما بين الكعبين إلى نصف الساقين (وإياك) منصوب على التحذير بعامل محذوف وجوباً (وإسبال الإزار) أي احذر تلاقي نفسك وإسبال الإزار فحذف الفعل وفاعله ثم المضاف الأول وأنيب عنه الثاني فانتصب، ثم الثاني وأنيب عنه الثالث فانتصب وانفصل لتعذر اتصال الضمير، قاله ابن هشام في «التوضيح» / وفي مثله لابن الحاجب طريق آخر في مثل ذلك (فإنها) تلك الهيئة المدلول عليها بالسياق، والسياق (من المخيلة) بفتح الميم وكسر الخاء المعجمة من الاختيال والكبر واحتقار الناس والعجب عليهم، وظاهر أن ذلك محمول على من قصد ذلك أو أن من شأنها ذلك فذلك نهى عنها تحريماً بقصد ذلك وتنزيهاً عند عدم قصده (وإن الله لا يحبّ) أي لا يوافق أو لا يرضى (المخيلة) أي النفوس ذوات الخيلاء فلا يظهر عليهم أثر النعمة في الآخرة وفيه وعيد للمتكبر والمختال (إن امرؤ شتمك) مبين لفعل الشرط المحذوف العامل في امرىء: أي إن شتمك امرؤ وحذف جوابه وهو فلا تشتمه اكتفاء بدلالة المذكور بعده عليه، والنهي
للتنزيه وإلا فيجوز الاستيفاء بالشرط المذكور قريباً (أو عيرك بما يعلم فيك) من الذنب والأفعال القبيحة (فلا تعيره بما تعلم فيه) فقد روى أحمد عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله: «من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله» يقال عيرته بفعل كذا: إذا قبحته عليه ونسبته إليه (فإنما وبال) بفتح الواو وتخفيف الموحدة: أي ثقل (ذلك) ووخامته (عليه) مأخوذ من وبل المرتع بضم الموحدة وبالاً إذا وخم، ولما كان عاقبة المرعى الوخيم إلى سوء قبل في سوء العاقبة وبال، والمراد به في الحديث العذاب في الآخرة، وقد يعجل بعضه في الدنيا (رواه أبو داود والترمذي) في اللباس (بالإسناد الصحيح. قال الترمذي: حديث صحيح) .(5/274)
8797 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما رجل) بالرفع مبتدأ وجملة (يصلي) خبره والجملة الإسمية مستأنفة ولم أر من عيَّن الرجل (مسبلاً إزاره) بصيغة الفاعل ونصب الإزار مفعولاً به، ويجوز قراءته بصيغة المفعول ورفع إزاره نائب فاعله والأول أنسب بقوله آخر الحديث «إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل» (قال له رسول الله: اذهب فتوضأ) فذهب عقب الأمر من غير توان كما تومىء إليه الفاء (فتوضأ) الوضوء الشرعي لأن الأصل فيما جاء في الشرعيات من الألفاظ حمل المعنى الشرعي حتى يجىء ما يصرفه عنه (ثم جاء) أي إلى النبي، لعل الإتيان بثم لتراخي مجيئه عن الوضوء لاشتغاله بأمر كسنة الوضوء (فقال: اذهب فتوضأ) أي ثانياً (فقال له رجل) ويحتمل أن تكون بمعنى عن: أي فقال عن المأمور: أي سائلاً عن سبب أمره بما أمر به أولاً الضمير فيه للنبي: أي فقال رجل للنبي واللام للتبليغ، وثانياً وسكوته عنه آخراً (يا رسول الله مالك) مبتدأ وخبر وجملة (أمرته أن يتوضأ) في محل نصب على الحال (ثم سكتّ عنه) بترك الأمر بذلك (قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره) أي بطول ثوبه وإرساله إذا مشى حتى يصل إلى الأرض وفعله ذلك كان تكبرا واختيالاً، فيحتمل والله أعلم أن يكون أمره بإعادة الوضوء ليكون مكفراً لذنبه، فقد جاء أن الطهور مكفر للذنوب، فمن ذلك حديث البراء بإسناد حسن عن عثمان مرفوعاً «لا يسبغ عبد الوضوء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» فلما كان في إسبال الإزار من الإثم ما فيه أمره بالوضوء ثانياً ليكون تكفيراً لذنب الإسبال ولم يأمره بإعادة الصلاة لأنها «صحيحه» وإن لم تقبل كما قال (إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل) ويحتمل أن يكون الأمر بإعادة الوضوء للإخلال بلمعة من أعضائه وبإخلال طهارته لا يصح الوضوء ولم يؤمر بإعادة الصلاة لأنها نفل، والله أعلم.
والمراد من قوله لا يقبل: لا يكفر ذنوبه ولا يطهر قلبه من الآثام وإن أسقطت عنه الطلب (رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط(5/275)
مسلم) في الصلاة وفي اللباس من «سننه» .
9798 - (وعن قيس بن بشر التغلبي) بالفوقية المعجمة وكسر اللام الشامي. قال الحافظ في «التقريب» : مقبول ممن عاصر صغار التابعين روى عنه أبو داود. قال تلميذه ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» : قال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأساً (قال: أخبرني أبي) بشر بن قيس التغلبي، قال في «التقريب» : من أهل قنَّسرين بكسر القاف وتشديد النون وسكون المهملة الأولى، صدوق من كبار التابعين خرّج له أبو داود (وكان جليساً لأبي الدرداء) يحتمل أن تكون حالية بإضمار قد، وأن تكون معطوفة على جملة أخبرني أبي (قال: كان بدمشق) بكسرا لدال وفتح الميم مدينة بالشام (رجل من أصحاب النبي) جمع صاحب بمعنى صحابي أي من صحابته (يقال له سهل) ابن الربيع بن عمرو بن عديّ (ابن الحنظلية) هي أمة، وقيل أم جده، وهي من بني حنظلة ابن تميم وسهل أوسيّ بايع تحت الشجرة، وكان زاهداً معتزلاً عابداً نزل دمشق. قال ابن الأثير: ومات بها أول خلافة معاوية ولا عقب له، وكان يقول: لأن يكون لي عقب أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس. قال الحافظ في «التقريب» : الحنظلية أمة أو من أمهاته، واختلف في اسم أبيه اهـ. ولم يحك كل من ابن الأثير وابن رسلان خلافاً في اسم أبيه (وكان رجلاً متوحداً) بالحاء المهملة: أي بحب التوحد وهو الانفراد عن الناس (قل ما يجالس الناس) أي قلت مجالسته الناس، في «ما» فيه مصدرية فلذا كانت في الأصول مفصولة عن الفعل والكافة توصل به (إنما هو) أي سهل (صلاة) أي ذو صلاة أو إنما شغله صلاة فحذف المبتدأ المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانفصل مرفوعاً (فإذا فرغ) منها (فإنما هو تسبيح) لله عزّ وجل: أي تنزيه له عما لا يليق به (وتكبير) أي ثناء عليه بإثبات الكبرياء والعظمة، ويحتمل أن
المراد الكناية عن كونه في غير(5/276)
الصلاة ملازم ذكر الله تعالى بأيّ نوع منه لا بخصوص هين وها أقرب (حتى يأتي أهله) غاية لمقدر: أي يستمر على ذلك إلى أن يأتيهم فيشغله ما يحتاج إليه من أمرهم عن ذلك فيشغل به (فمر بنا ونحن) جلوس (عند أبي الدرداء) الصحابي الجليل المشهور واسمه عويمر، وقيل عامر، وعويمر لقب له، ابن زيد ابن قيس الأنصاري وقد تقدمت ترجمته (فقال له أبو الدرداء: كلمة) بالنصب بفعل محذوف: أي قل لنا كلمة أو تكلم كلمة فهي مفعول به أو مفعول مطلق تنفعنا (أي بثوابها إذا عملنا بها) ولا تضرّك (أي لا يعود عليك من الإتيان بها ضرر قال: بعث رسول الله سرية) بفتح فكسر فتشديد التحتية: هي قطعة من الجيش يبعثها الإمام إلى العدو، وسميت به لأنها تكون سراة العسكر أي خلاصته الذي هو النفيس منه وقيل لسيرهم ليلاً (فقدمت) بكسر الدال: أي وصلت من البعث (فجاء رجل منهم) لم يسمه ابن رسلان في شرحه ولا السيوطي في «حواشيه» (فجلس في المجلس الذي يجلس فيه رسول الله) فيه أن من ألف مجلسه لإقراء أو إفتاء ثم قام منه جاز لغيره الجلوس فيه زمن غيبته، ثم إن كانت المفارقة له بغير عذر سقط حقه منه بعد العودة إليه وإلا فلا (فقال لرجل إلى جنبه) أي من الصحابة الذين يحضرون مجلس النبي (لو رأيتنا) بفتح الفوقية أي أبصرتنا (حين التقينا نحن والعدوّ) بالرفع عطف على الضمير المتصل لتأكيده بالمنفصل (فحمل فلان) أي على شخص من العدو (فطعن) أي برمحه العدو (فقال) عند طعنته إياه (خذها مني وأنا الغلام الغفاري) بكسر الغين المعجمة نسبة العدوّ (فقال) عند طعنته إياه (خذها مني وأنا الغلام الغفاري) بكسر الغين المعجمة نسبة لبني غفار قبيلة أبي ذرّ.
وفيه جواز قول الإنسان ذلك حال الحرب والتعريف بنفسه بذكر اسمه أو نسبه أو شهرته إذا كان بطلاً شجاعاً ليرهب عدوّه (كيف ترى في قوله هذا) أي ما رأيك في قوله المذكور مفتخراً به (قال) أي الرجل المحدث بذلك (ما أراه) بضم الهمزة: أي أظنه (إلا قد بطل أجره) لأنه أظهر عمله وافتخر على القوم (فسمع بذلك) المذكور منهما (آخر فقال: ما أرى) بفتح الهمزة بذلك القول (بأساً) لأن فيه إرهاباً للكفرة (فتنازعا) في ذلك(5/277)
(حتى سمع رسول الله) حذف المفعول: أي سمع تنازعهما فيه، وحتى غاية لمقدر، أي وانتشر تنازعهما إلى أن وصل رسول الله (فقال: سبحان الله) فيه استعمال التسبيح عند التعجب من الشيء، وقد عقد له المصنف باباً في كتاب «الأذكار» ، وكذا يقال في ذلك لا إله إلا الله ونحوها (لا بأس أن يؤجر) بالبناء للمفعول: أي بالثواب في الدار الآخرة (ويحمد) بالبناء للمفعول أيضاً: أي يثنى عليه بالثناء الحسن في الدار الدنيا: أي لا منع من حصولهما معاً، ففيه حثّ على قول أنا فلان في الحرب إذا كان مشهوراً بالشجاعة قاصداً بذلك إرهاب الكفرة وإخافتهم لا الفخر والخيلاء (فرأيت أبا الدرداء سرّ بذلك) لما فيه من أن النفع الدنيوي لا ينافي الثواب الأخروي وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً - قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل: 97) . وقال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46) (وجعل يرفع رأسه إليه) أي بعد أن كان خافضه (ويقول أنت سمعت ذلك من رسول الله؟) بتقدير همزة الاستفهام قبل الضمير: أي أأنت سمعته (فيقول نعم، فما زال أبو الدرداء يعيد عليه) القول (حتى إني لأقول) اللام معينة لكسر همزة «إن» لا لأنها تكون في خبر المفتوحة (يبركن على ركبيته) مبالغة في التواضع كما هو شأن المتعلم بين يدي المعلم (قال) أي بشر (فمرّ بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء كلمة) أي
اذكر لنا أو قل لنا كلمة (تنفعنا) وإسناد النفع إليها مجاز عقلي من الإسناد إلى السبب كما علم مما تقدم (ولا تضرّك قال: قال لنا رسول الله: المنفق على الخيل) في رعيها وسقيها وعلفها ونحو ذلك، والمراد الخيل المعدة لسبيل الله تعالى من الجهاد وإعانة منقطع بإركابه عليها (كالباسط يده بالصدقة) أي الذي يفتح يده باصدقة أبداً (لا يقبضها) بكسر الموحدة بإمساك ما فيها، ورواه ابن حبان في «صحيحه» «مثل المنفق على الخيل كالمتكفف بالصدقة، فقلت لعمر: ما المتكفف بالصدقة؟ قال: «الذي يعطي بكفه» وزاد الطبراني في «الأوسط» «وأهلها معانون عليها، والمنفق(5/278)
عليها كالباسط يده في الصدقة وأرواثها لأهلها عند الله يوم القيامة من مسك الجنة» (ثم مرّ بنا يوماً آخر فقال أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرّك) فيه طلب العلم والاستزادة منه وأن المرء في مقام التعلم إلى اللحد، وإنما وصف أبو الدرداء الكلمة بما وصفها به لما مرّ من أن المخاطب كان قليل الكلام مع الناس خوفاً من أن يقع منه ما يضرّ به في دينه، فوصف مطلوبه بقوله ولا تضرّك ليسعفه به (قال: قال رسول الله: نعم الرجل خريم) بضم الخاء المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية. وهو ابن فاتك بفاء وبعد الألف فوقية مكسورة كما ضبطه المنذري/ قال: وكنيته أبو يحيى، وقيل أبو أيمن، وقال غيره: هو خريم ابن أخرم بن شداد بن عمرو بن الفاتك (الأسيدي) وقيل فاتك لقب أبيه أخرم، شهد بدراً مع أخيه سبرة، وقيل إن خريماً وابنه أيمن أسلما يوم الفتح، وقد صحح البخاري وغيره أن خريماً وأخاه شهد بدراً ونزل خريم بالرقة (لولا طول جمته) بضم الجيم وتشديد الميم: ويه الشعر إذا طال حتى بلغ المنكبين وسقط عليهما. والوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن ثم الجمة ثم اللمة التي ألمت بالمنكب (وإسبال) أي إرخاء (إزاره) حذف جواب لولا لدلالة ما قبله عليه وفيه أن إطالة الجمة وإسبال الإزار تدافع المدح وتمانع الرفعة الدينية لأن ذلك
منهي عنه على سبيل الحرمة تارة والكراهة أخرى (فبلغ ذلك) أي الحديث (خريما فعجل) بكسر الجيم: أي سبق وبادر وهو من باب المسابقة إلى فعل البرّ خوفاً من عائق (فأخذ شفرة) بفتح الشين المعجمة: هي السكين العريضة (فقطع بهاجمته) حتى بلغت (إلى أذنيه ورفع إزاره) حتى بلغ (إلى أنصاف ساقيه) وقد قيل في قوله تعالى:
{وثيابك فطهر} (المدثر: 4) أي قصر وشمر لأن تقصير الثياب إلى أنصاف الساقين طهرة لها من الأنجاس والأوساخ (ثم مرّ بنا) أي رابعاً (يوماً آخر، فقال أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرّك) .
فيه الاستكثار من العلم والاستفادة من العالم كما مرّ (قال: سمعت رسول الله يقول) لما قفل من غزو (إنكم) أي في غد (قادمون على إخوانكم) من المؤمنين (فأصلحوا رحالكم) جمع(5/279)
رحل أي ما أنتم راكبون عليه (وأصلحوا لباسكم) من رداء أو إزار أو عمامة ونحو ذلك.
ففيه تحسين المرء ثوبه وكذا بدنه لملاقاة إخوانه ورؤية أعينهم، فإن رؤيتهم تمتد إلى الظواهر دون البواطن حذراً من ذمهم ولومهم واسترواحاً إلى توقيرهم واحترامهم فإن ذلك مطلوب في الشريعة، وفي الحديث دليل أن على الإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة الإخوان واستجلاب قلوبهم ليأنس بهم فلا يستقذروه ولا يستثقلوه، وهذه مرايأة في المباحاة وليس من باب الكبر، بل من باب إظهار نعمة الله سبحانه والتحدث بها (حتى) غائية ويصح كونها تعليلية للأمر قبلها (تكونوا كأنكم شامة) بسكون الهمزة وتخفيف الميم قال ابن الأثير: الشامة هي الحال في الجسد معروفة (في الناس) المراد منه كونوا في أحسن هيئة وزيّ حتى تظهروا للناس ظهور الشامة في البدن (فإن الله لا يحبّ الفحش) أي لا يرضى ذا الفحش وهو من تكون هيئته ولباسه وقوله فاحشاً (ولا التفحش) ولا يرضى الرجل ذا الفحش: أي المتكلف الفحش والفاعل له قصداً.
(رواه أبو داود بإسناد حسن إلا قيس بن بشر فاختلفوا) أي المحدثون (في توثيقه وتضعيفه وقد روى له مسلم) لم يرمز الحافظ في «التقريب» لرواية قيس عن مسلم بل اقتصر على رمز روايته عن أبي داود، ومثله في «الكاشف» للحافظ الذهبي وظاهر كلام المصنف أنه روى له الصحيح وهو المتبادر من عبارته.
10799 - (وعن أبي سعيدالخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إزرة) قال المنذري: ضبطها بعضهم بضم الهمزة، والصواب كسرها لأن المراد هنا الهيئة في الاتزار كالجلسة لهيئة الجلوس لا المرة الواحدة (المسلم) وعند ابن ماجه «إزرة المؤمن» أي الهيئة المستحبة في اتزار المؤمن (إلى نصف الساق) لأن ذلك أطهر لبعده عن احتمال وصول النجس وأطيب لبعده عن الكبر وقربه من التواضع (ولا حرج أو) شك من الراوي (لا(5/280)
جناح) وهما بمعنى واحد: أي لا شيء من اللوم على المؤمن إذا أرخى ثوبه (فيما بينه وبين الكعبين) فالإرخاء إليهما جائز بلا كراهة وإلى ما فوقهما من نصف الساق (وما كان أسفل من الكعبين) أي من الثياب وعند النسائي من الإزار (فهو في النار) مستحبّ هو من تسمية الشيء بما يؤول إليه أمره في الآخرة غالباً، وقيل كناية عن تحريم ذلك لأن فعل الحرام يقتضي دخول النار في الآخرة فسماه الله باسمه، والمراد بالتحريم من أسبله قصداً للتكبر والخيلاء وإلا فيكره لغير النساء، فالحديث كنظيره من حديث الصحيح السابق مطلق محمول على ما ذكر (ومن جر إزاره بطراً) بفتح أوليه مفعول له ويجوز فتح أوله وكسر ثانيه فيكون حالاً، ووقع لابن رسلان عكس ما ذكرنا وهو سبق من القلم والبطر، تقدم أنه الطغيان عند تتابع نعم الله تعالى وعافيته (لم ينظر الله إليه) أي نظر رحمة ويحتمل أن ذلك يوم القيامة كما جاء مقيداً به في الخبر الصحيح ويحتمل أن ذلك عام للدارين ولا يقيده لأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه (رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» كالذي قبله (بإسناد صحيح) .
11800 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مررت على رسول الله وفي إزاري استرخاء) جملة مركبة من خبر مقدم هو الظرف: أي متعلقة ومبتدأ مؤخر في محل نصب على الحال، والمراد أن فيه إسبالاً (فقال: يا عبد الله ارفع إزارك فرفعته) أي إلى الكعبين أو قريب منهما (ثم قال: زد) أي في الرفع لكونه أطيب وأطهر (فزدت) أي حتى بلغت به أنصاف الساقين (فما زلت أتحراها) أي أقصدها (بعد) بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه: أي بعد ذلك الأمر الصادر منه ففيه مزيد اعتنائه بالسنة وملازمته للاتباع (فقال بعض القوم: إلى أين؟) أي كان انتهاء الرفع المأمور به (قال: إلى أنصاف الساقين) جمع المضاف إلى المثنى مع أنه مثنى دفعا لثقل تكرار ذلك ومنه قوله تعالى: {فقد صغت(5/281)
قلوبكما} (التحريم: 4) وهذه اللغة أفصح من لغة تثنيته نحو جاءك غلاماً الرجلين ومن لغة إفراده نحو نصف ساقيه (رواه مسلم) .
12801 - (وعنه قال: قال رسول الله: من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) أي نظر رحمة. وقال الزين العراقي في «شرح الترمذي» : عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر، لأن من نظر إلى متواضع رحمه أو إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر. وقال الكرماني في نسبة النظر لمن يجوز عليه النظر كناية، لأن من اعتد بالشخص التفت إليه ثم كثر حتى صار عبارة عن الإحسان وإن لم يكن هناك نظر، ولمن لا يجوز عليه حقيقة النظر وهو تقليب الحدقة وهو الله تعالى مجاز بمعنى الإحسان، وظاهر الحديث أن الوعيد في جره كذلك فيخرج من أطال ثوبه كذلك، غير أنه لم يجره حال مشيه بل يشمره، ويحتمل شموله لذلك، والمراد أن هذا شأن ذلك، وبه صرح في «الفتح» فقال: التقييد بالجرّ للغالب والبطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه (فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن) أي وهن مأمورات بإرسالها.
قال تعالى: {يا أيها النبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} (الأحزاب: 59) أي والوعيد المذكور في الحديث يشمله فيتعارضان، فقال النبي منبهاً على أن ذلك فيمن زاد على المشروع قاصداً ما ذكر فيه والمشروع لهن إرساله للآية فلا شيء عليهن فيه كما حكت عنه بقولها (قال: يرخين شبراً) هو ما بين الخنصر والإبهام بالتفريج المعتاد (قالت إذن تنكشف أقدامهن) أي لصغر ذلك فربما نشب بعود أو حجر فانكشفت أقدامهن وبعض سوقهن (قال: فيرخينه ذراعاً) قال ابن رسلان: والظاهر أن المراد به ذراع اليد، قال أهل اللغة: الذراع اليدان من كل حيوان، لكنه من الإنسان فيمن المرافق إلى أطراف الأصابع، وذراع القماش قريب منه فإنه ست قبضات(5/282)
معتدلة. ومعنى الحديث: الإذن لهن في إطالة أذيالهن من القمص والأزر والخمر بحيث يسيلن قدر ذراع من أذيالهن إلى الأرض لتكون أقدامهن مستورة: يعني ظهورها، وقيل ابتداء الذراع من أول ما يمس الأرض من الثياب أو من الكعب قولان، الراجح الأول، واستظهر ابن رسلان أنه من نصف الساق وفيه بعد (ولا يزدن عليه) أي فهي عليه: أي على الكعبين بالنسبة للرجل في المنع حرمة وكراهة (رواه أبو داود) أي لا بسياق هذا اللفظ كما قد توهمه عبارته، بل الذي فيه عن صفية بنت عبيد الثقفية زوجة ابن عمر «أن أم سلمة زوج النبي قالت لرسول الله حين ذكر الإزار: فالمرأة يا رسول الله؟ قال: ترخي شبراً، قالت: إذاً ينكشفن، قال: فذراعاً لا تزيد عليه» . وفيه أيضاً عن ابن عمر «رخص رسول الله لأمهات المؤمنين في الذيل شبراً، ثم استزدته فزادهن ذراعاً، فكن يرسلن إلينا فنتذرع لهن ذراعاً» ولفظ الحديث المذكور للنسائي فكان على المصنف ذكره، وعزوه إليه لأنه روى المبنى والمعنى، وعند من ذكر المصنف من أبي داود والترمذي: المعنى وإن تفاوت بعض المبنى (وقال: حديث حسن صحيح) .
120 - باب استحباب ترك الترفع في اللباس
أي وفي الافتراش والتدثر: أي لبس الرفيع سواء كان الرفعة من جهة النفاسة كثوب الخز والحرير أو من جهة الصناعة كالجيد من الصوف (تواضعاً) علة الترك: أي لا بخلاً أو إظهاراً للزهد (وقد سبق في باب فضل الجوع وخشونة العيش جمل) من الأحاديث (تتعلق بهذا الباب) كحديث أبي هريرة «رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين» الحديث، وكحديث عائشة «كان فراش رسول الله من أدم حشوه ليف» وكحديث أبي أمامة ابن ثعلبة الخشني مرفوعاً «البذاذة من الإيمان» رثاثة الهيئة وترك فاخر اللباس.(5/283)
1802 - (وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: من ترك اللباس) أي أعرض عنه (تواضعاً) وتركاً لزهرة الحياة الدنيا (وهو يقدر عليه) أما التارك للعجز فلا، نعم إن عزم أنه لو كان قادراً عليه لأعرض عنه تواضعاً أثيب على نيته كما تقدم ما يدل عليه، وفي الحديث «نية المؤمن خير من عمله» (دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق) زيادة في تشريفه (حتى يخيره من أي حلل) بضم ففتح جمع حلة كربة وقرب (الإيمان يشاء) وحتى غاية لمقدر: أي وينشر تشريفه ثمة بأنواع الشرف إلى أن يخيره بين حلل أهل الإيمان المتفاوتة المقام، فيختار الأعلى ويرد من الفيوض المورد الأحلى فينزل المكان الأعلى، وقوله (يلبسها) جملة مستأنفة لبيان القصد من التخيير فيها (رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن) .
121 - باب استحباب التوسط في اللباس
وذلك لأن الغالي شهرة والداني جداً دناءة إلا لتواضع لله واتباع آثار السلف فالأعمال بمقاصدها، وكذا إذا لبس الغالي النفيس تحدثاً بنعمة الله وتنبيهاً للفقراء على أنه منها بمكان ليقصدوه فيحسن إليهم ويواسيهم، وللأغنياء على أنه غنى عما بأيديهم فقير إلى الله دون غيره، كما يروى عن الشاذلي أنه قال لفقير كان لابساً ثوباً مرقعاً: أنكر عليه لبس نفيس الثياب: «يا هذا ثيابي تقول للناس الحمد لله وثيابك تقول لهم أعطوني من مالكم» . وعلى هذا السنن سار العارفون فلبسوا نفيس الثياب وزينوا بها ظاهرهم إعلاماً للناس بغناهم بمطلوبهم عمن سواه، وجعل الواحد منهم فقره ومناجاته بينه وبين مولاه نفعنا الله بهم (ولا يقتصر على ما يزري) بفتح التحتية بوزن يرمي (به) أي يدخل به في استهزاء الناس به (لغير حاجة) أي من فقر (ولا مقصود شرعي) من تواضع لله واقتداء بالسلف.(5/284)
1803 - (عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله يحبّ) أي يرضى (أن يرى أثر نعمته) بكسر النون هي الأمر المستلذ المحمود العاقبة ولوخامة مستلذات الكافر للعذاب الأخروي، قيل لا نعمة لله على كافر (على عبده) وذلك بإظهار التجمل في الملبس تحدثاً بنعمة الله تعالى لا ترفعاً على الغير وكبراً بذلك وبالتوسع في أعمال البرّ من صلة الأقارب وإطعام الجائع وفك العاني وغير ذلك (رواه الترمذي) في الاستئذان من «جامعه» (وقال: حديث حسن) .
122 - باب تحريم لباس الحرير على الرجال
أي المكلف منهم ومثلهم الخناثى احتياطاً، وقد صرح أصحابنا في باب اللباس أنه يجوز للوليّ إلباس الصبي قبل البلوغ ثياب الحرير، قال: لأنه ليس فيه من الشهامة ما ينافي نومة الحرير (وتحريم جلوسهم عليه واستنادهم إليه) من غير حائل يحول بين الجالس والمستند وثوب الحرير، وإلا فلو غطى كلاً من ثوبي الحرير المفروش والمستند عليه بغير حرير من قطن أو نحوه وجلس واعتمد حينئذ لم يحرم لأنه لا يعده العرف مستعمل الحرير، واختلف في علة التحريم فقيل الفخر والخيلاء، وقيل كونه ثوب رفاهية وزينة فيليق بزي النساء دون الرجال، قال في الفتح: ويحتمل علة ثالثة هي التشبه بالمشركين (وجواز لباسه للنساء) أي وجلوسهن عليه واستنادهن إليه.
1844 - (عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا تلبسوا) الخطاب للذكور أي البالغين العاقلين (الحرير) المحض وكذا المركب منه ومن غيره والحرير الأكثر، ومن الحرير الخزّ بفتح المعجمة الأولى وتشديد الثانية وهو كدر اللون، وعلل ذلك(5/285)
على طريق الاستئناف البياني بقوله (فإن من لبسه) أي من الرجال بدليل أول الحديث وحديث علي وأبي موسى الآتيين في الباب (في الدنيا) أي مع العلم بالحرمة للبس الحرير وأن الثوب الملبوس كذلك وتعمد ذلك ولم يتب منه (لم يلبسه في الآخرة) قال الحافظ في «الفتح» : فيكون عقابه ذلك في الجنة، وذلك بأن يصرف الله نفسه عن طلبه لا أنه يجب ذلك ويمنع منه، لأن ذلك يخالف مقتضى تلك الدار من زيادة الإكرام، قال: ومثله ماجاء في شارب الخمر إذا مات ولم يتب من أنه لا يشرب الخمر في الجنة (متفق عليه) .
2845 - (وعنه قال: سمعت رسول الله يقول: إنما يلبس الحرير) أي ثوبه عرفاً (من لا خلاق له) ها محمول على أن ذلك عقابه فلا يدخل الجنة إن عوقب، ولله أن يعفو عما شاء من الذنوب غير الشرك أو يدخلها ولا يلبسه بأن ينزع عنه شهوة ذلك (متفق عليه) رواه في اللباس، ولفظ مسلم في حلة عطارد من حديث عمر مرفوعاً «إنما هذه لباس من لا خلاق له» .
(وفي رواية للبخاري) في اللباس أيضاً (من لا خلاق له في الآخرة) وهي أيضاً عند مسلم في اللباس في حديث عمر في حلة عطارد (قوله لا خلاق) بالمعجمة والقاف (أي لا نصيب) فيحرم إن عوقب هذا النصيب في الآخرة جزاء للبسه إياه في الدنيا وموته عليه من غير توبة.
3846 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من لبس الحرير في الدنيا لم(5/286)
يلبسه في الآخرة. متفق عليه) قال في «الفتح» : زاد النسائي من رواية في آخره «ومن لم يلبس الحرير في الآخرة. لم يدخل الجنة» قال تعالى: {ولباسهم فيها حرير} (الحج: 23) وهذه الزيادة مدرجة في الخير وهي موقوفة على ابن الزبير كما بين ذلك النسائي من طريق أخرى، وكذا بينه الإسماعيلي. وقد جاء ذلك أيضاً عن ابن عمر أخرجه النسائي أيضاً، وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم عن أبي سعيد «وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو» قال الحافظ: وهذا يحتمل أن يكون مدرجاً اهـ ملخصاً.
4847 - (وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت) أي أبصرت (رسول الله أخذ) جملة حالية بتقدير «قد» قبلها، ويحتمل كون الرؤية علمية فالجملة مفعول ثان لها (حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله ثم قال) أي بعد جعلها فيهما (إن هذين) الجنسين: أي استعمالما (حرام على ذكور أمتي) إلا فيما استثني كلباس الحرير لحكة أو جرب أو حرب لا يقوم فيها غيره مقامه، وكأنف الذهب إلانملة منه وتحلية المصحف به وغير ذلك مما هو مذكور في محله من كتب الفقه (رواه أبو داود بإسناد حسن) .
5808 - (وعن أبي موسى الأشعري) رضي الله عنه أن رسول الله قال: (حرم) بالبناء للمجهول والفاعل معلوم وهو الله عزّ وجل: أي حرم الله (لباس الحرير) وكذا افتراشه(5/287)
والاستناد إليه والتدثر به (و) حرم (الذهب) بالرفع: أي استعماله بتختم أو غيره من الحلي حتى يحرم ما ضبب به مطلقاً (علة ذكور أمتي) أي المكلفين، أما غيرهم منهم فيجوز للوليّ إلباسهم الحرير دون الذهب (وأحل) بالبناء للمجهول (بكسر الهمزة) وتخفيف النون وبالمثلثة (رواه الترمذي) في اللباس من «جامعه» (وقال حديث صحيح) .
6809 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: نهى النبيّ أن نشرب) في آنية الذهب والفضة وأن تأكل فيها خص الأكل والشرب بالذكر كما تقدم من أنهما أغلب أنواع الاستعمال وإلا فسائر استعمال أواني النقد حرام (وعن لبس الحرير) بضما للام: أي أن يلبس الحرير لتناسب المعطوف عليه، أما اللبس بكسر اللام فهو كاللباس ما لبس (والديباج) هو كما تقدم ثوب سداه ولحمته إبريسم، وتقدم الخلاف في أنه معرّب أو عربي (وأن تجلس عليه) أي على ما ذكر من الحرير والديباج: أي من غير حائل بين الجالس وبينه، قال الحافظ: قال بتحريم الجلوس على الحرير، وهو قول الجمهور وخلافاً لابن الماجشون والكوفيين وبعض الشافعية. وأجاب بعضهم عن هذا الحديث بأن النهي ليس صريحاً في الحرمة، وبعضهم باحتمال أن يكون النهي ورد عن مجموع اللبس والجلوس لا عن الجلوس بمفرده، وبهذا يرد على ابن بطال دعواه أن الحديث نص في تحريم الجلوس على الحرير فإنه ليس بنص فيه كما هو ظاهر اهـ. والنهي في ذلك كله للتحريم (رواه البخاري) في اللباس:(5/288)
123 - باب جواز لبس الحرير لمن به حكة
بكسر الحاء المهملة، واختلف هل هي الجرب مطلقاً، أو بقيد كونه يابساً؟ الأول عليه الجوهرى وغيره، والثاني قاله بعضهم.
1810 - (عن أنس رضي الله عنه قال: رخص رسول الله) من الرخصة وهو الحكم المتغير تعلقه من الصعوبة إلى السهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي فإنه غير حكم لبس الحرير من الصعوبة، وهي الحرمة إلى السهولة وهي الجواز لعذر وهي الحكة مع قيام السبب الأصلي الذي هو الحزمة من الخيلاء أو الخنوثة المنافية لشهامة الرجال (للزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في لبس الحرير) أي في أن يلبساه (لحكة) أي لأجل حكة (بهما) وفي رواية للبخاري «أنهما اشتكيا إلى رسول الله القمل» قال الحافظ: وكأن الحكة نشأت عن القمل، ويلتحق بها في الحديث إباحة ما يقي الحرّ والبرد من الحرير حيث لا يوجد غيره (متفق عليه) .
124 - باب النهي عن افتراش جلود النمور
جمع نمر: حيوان معروف، أخبث من الأسد وأجرأ (والركوب عليها) والنهي فيه محمول على التنزيه.(5/289)
1811 - (عن معاوية رضي الله عنه) تقدمت ترجمته (قال: قال رسول الله: لا تركبوا الخزّ) أي السرج المغشاة به. قال ابن رسلان: إن أريد بالخزّ الثياب المنسوجة من صوف أو المتخذ منه ويراد به فهي مباحة، وقد لبسها الصحابة والتابعون فيكون النهي للتنزيه لأجل التشبه بالعجم، ولما فيه من زي المترفهين والمتكبرين بالتفاخر على غيرهم، وإن أريد به النوع الآخر المعمول من الحرير وهو المعروف فهو حرام، والنهي فيه للتحريم اهـ (ولا النمار) بكسر النون وتخفيف الميم قاله في «المصباح» ، قال ابن الأثير: جمع نمرة بفتح فكسر: كساء فيه خطوط بيض وسود اهـ وحينئذ فالحديث لا يلائم ما عقدت له الترجمة، وكأن وجه النهي عن ركوب النمور وفي «الصحاح» النمر سبع والجمع نمور، وجاء في الشعر نمر وهو شاذ ولعله مقصور منه اهـ. فلم يذكر أنماراً في جمعه ثم نمر السبع ذي الخطوط من الأكسية لما في ذلك من الخيلاء، ثم رأيت ابن رسلان قال: والنمار وفي رواية النمور وكلاهما جمع نمر بفتح فكسر، ويجوز التخفيف بكسر النون وسكون الميم، قال: ونهي عن استعمال جلوده لما فيها من الزينة والخيلاء، ولأنها زي الأعاجم. قال في «النهاية» : وعموم النهي شامل للمذكى وغيره لأنه يحرم أكله (حديث حسن رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» (بإسناد حسن) ولا علة في المتن ولا شذوذ فهو حسن أيضاً.
2812 - (وعن أبي المليح) بفتح الميم وكسر اللام عامر ويقال عمير بن أسامة الهذلي (عن أبيه) أسامة بن عمير بن عامر بن أقيشر بضم الهمزة وفتح القاف وسكون التحتية وكسر الشين المعجمة واسمه عمير بن عبد الله بن حبيب بن يسار بن ناجية بن عمرو بن الحارث بن كثير ابن هند بن طلحة بن لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس الهذلي الكوفي. قال في «التقريب» : صحابي تفرد ولده بالرواية عنه، خرج عنه الأربعة، روى له عن رسول الله وسلم أحاديث (رضي الله عنه أن رسول الله: نهى عن جلود السباع) أن يركب عليها، قال البيهقي: يحتمل أن النهي وقع لما يبقي عليها من الشعر لأن الدباغ لا يؤثر فيه، وقال(5/290)
غيره: يحتمل أن النهي عما لم يدبغ منها أو من أجل أنها مراكب أهل السرف والخيلاء.
(رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» (والترمذي) فيه والنسائي في الذبائح (بأسانيد صحيحة) فرواه أبو داود عن مسدد عن يحيى القطان وابن علية كلاهما عن سعيد عن قتادة عن ابن المليح بن أسامة عن أبيه، ورواه الترمذي عن محمد بن يحيى وعن أبي كريب عن ابن المبارك ومحمد بن بشر وعبد الله بن إسماعيل هو ابن أبي خالد ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة، قال الترمذي: ولا نعلم أحداً قال عن أبيه غير ابن أبي عروبة، وعن ابن بشار عن غندر عن شعبة عن يزيد الرشك عن أبي المليح عن النبيّ مرسلاً قال: وهذا أصح، وعن ابن بشار عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي المليح «أنه كره وعبد الله أصح، وعن ابن بشار عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي المليح «أنه كره وهذا أصح، وعن ابن بشار عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي المليح «أنه كره جلود السباع» ورواه النسائي عن أبيه عبيد الله بن سعيد عن يحيى وحينئذ فليس للحديث إلا سند واحد وهو سعيد عن قتادة عن أبي المليح عن أبيه والتعداد إلى سعيد لا يقتضي تعدد سند الحديث/ ولعل المصنف أطلق الحكم بصحة الأسانيد ولم يعقبه بتضعيف المتن بالإرسال الذي صححه الترمذي أخذاً بقاعدة تقديم الوصل على الإرسال، والله أعلم.
(وفي رواية للترمذي) زيادة على رواية غيره ممن ذكر (نهى عن جلود السباع أن تفرش) أي فالمزيد فيها قوله أن تفرض وهو بدل من جلود بدل اشتمال.
125 - باب ما يقول إذا لبس ثوباً جديداً أو نعلاً أو نحوه
أي بعد تمام اللبس.
1812 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا استجد ثوباً)(5/291)
أي لبس ثوباً جديداً وأصله على ما في «القاموس» صبره جديداً (سماه) أي الثوب (باسمه) أي المعين للشخص الموضوع له الثوب مما بينه بقوله (عمامة) بكسر العين المهملة (أو قميصاً أو رداء) أي أو غيرهما كسراويل وإزار: أي كان يقول: الحمد لله الذي رزتني أو كساني هذه العمامة أو القميص، وقيل بل المراد وضع لذلك الثوب اسماً يخصه، فقد كانت له عمامة تسمى السحاب (ثم يقول) بعد لبسه (اللهم لك الحمد كما كسوتنيه) الكاف فيه للتعليل وما مصدرية، والضمير يعود إلى مسمى الثوب من قميص وعمامة: أي لكسوتك إياي هذه العمامة منة، وأتى بذلك ليكون الحمد في مقابلة نعمة وهو في مقابلها أفضل بسبعين ضعفاً، وقيل الكاف للتشبيه: أي كما كسوتنيه في موضع الرفع مبتدأ خبره قوله (أسألك خيره) هو المشبه: أي ما كسوتنيه من غير حول مني ولا قوة، وأسألك أن توصل إلى خيره (وخير ما صنع) بالبناء للمفعول: أي خلق (له) من الشكر بالجوارح والقلب والحمد لموليه باللسان (وأعوذ بك) عطف على أسألك: أي أستعيذ بك (من شره ومن شر ما صنع له) من الكفران اهـ. ملخصاً من كلام الطيبي، وفيه وجوه أخر بينتها في غير هذا الكتاب.
(رواه أبو داود) في اللباس من سننه وقال: لم يذكر الثقفي أحد رواته فيه أبا سعيد، يعني أرسله ولم يجاوز فيه أبا نضرة (والترمذي) في اللباس من «جامعه» ومن «شمائله» (وقال) في «جامعه» (حديث حسن) ورواه ابن السني في «اليوم والليلة» .
126 - باب استحباب الابتداء باليمين في اللباس
أي بأن يدخل يده اليمنى في كمها قبل إدخال اليسرى ويدخل اليمنى في كل من الخف والسراويل والنعل قبل إدخال اليسرى،(5/292)
وذلك لأن إلباس العضو كرامة له واليمين أحق بها من اليسار (هذا الباب تقدم مقصوده) أي ما يقصد منه من إثبات التيامن فيما ذكر في باب استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم (وذكرنا الأحاديث الصحيحة فيه) أي للواردة في هذا المقصود في ذلك الباب فأغنى عن الإعادة لقربه، والله الموفق.
4 - كتاب آداب النوم
هو غشية ثقيلة تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء ولذا قيل هو آفة لأن النوم أخو الموت، وقيل النوم مزيل للقوة والعقل، وقيل مغط لهما، أما السنة ففي الرأس والنعاس في العين. قيل السنة هي النعاس، وقيل هي ريح النوم تبدو في الوجه ثم تنبعث إلى القلب فينعس الإنسان فينام، كذا في «المصباح» مع زيادة حكاية أنه مغط للعقل قال الفقهاء: الجنون يزيل العقل، والسكر والإغماء يغلبانه، والنوم يستره، وعلامة النوم الرؤيا، وعلامة النعاس سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهم معناه (و) آداب (الاضطجاع) افتعال من الضجع: أي وضع الجنب بالأرض وأبدلت التاء طاء دفعاً للنقل.
1814 - (عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله إذا أوى) بالقصر أي انضم (إلى فراشه) بكسر الفاء أي مفروشة (نام على شقه الأيمن) وهو أنفع ما يكون بالقلب وأسرع لانتباه النائم لتعلق القلب وعدم انغماره بالنوم (ثم قال) لعل ثم فيه مستعارة في محل الفاء أو على ما بها والمراد أنه يقول قبل هذا الذكر بعد الاضطجاع أذكار آخر ثم يأتي بهذا (اللهم أسلمت نفسي إليك) أي تركتها مسلمة إليك من غير تعرض مني لما يرد إليها منك كما هو حق السيد على عبده وليكون صادقاً عند إرادة ذلك بقلبه وإلا أدركه لكذبه المقت (ووجهت وجهي إليك) أي ذاتي وكنى به عنه لأنه أشرف ما في الإنسان إذ(5/293)
هو محل الصورة التي بها تمايز الجمال، قال «الصورة في الرأس فإذا قطع الرأس فلا صورة» أخرجه الإسماعيل في «معجمه» من حديث ابن عباس كما في «الجامع الصغير» ومعنى كونها في الرأس: أي بالقرب منه (وفوضت) أي سلمت (أمرى إليك) ومن فوّض أمره إلى مولاه كفاه (وألجأت ظهري إليك) أي أرجعته إليك وجعلته راجعاً بين يديك فلا ملجأ منك إلا إليك (رغبة) بالغين المعجمة مفعول له: أي طمعاً في ثوابك (ورهبة) إسكان الهاء وفتحها معطوف على ما قبله: أي خوفاً من عقابك (إليك) قيل إنه متعلق برهبة ومتعلق رهبة محذوف، وقيل بل كلاهما تنازعاه: أي نحن في حالتيهما نلجأ إليك لا إلى غيرك، وقيل بل هو بطريق اللفّ والنشر المرتب كما سبق عن الطيبي (لا ملجأ) بهمزة مفتوحة أي مستند (ولا منجا) أصله بترك الهمز لكن لما جمعا جاز أن يهمز ازدواجاً لما قبله، وجاز قراءتهما بالألف اللينة من غير همز لما ذكر، وجاز إبقاء كل على حاله، ويجوز التنوين مع القصر (منك) تنازعه ما قبله إن كانا مصدرين (إلا إليك) أي لا مستند ولا نجاة منك إلى أحد إلا إليك والجملة مستأنفة لما قبلهما استئنافاً بيانياً (آمنت) أي صدقت (بكتابك الذي أنزلت) أي بجنس الكتاب المنزل منك إلى الأنبياء وبالكتاب المعهود: أي
القرآن والإيمان به ليستلزم الإيمان بكل كتاب (ونبيك) كذا في الأصول من «الرياض» بحذف الجار وهو في الأدعية من البخاري بلفظ وبنبيك بإعادة الجار (الذي أرسلت) أي إلى كافة الخلائق كما يؤذن به حذف المعمول وقد تقدم الحديث مع «شرحه» وبيان من خرجه في باب اليقين أول الكتاب (رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب الأدب من صحيحه) أي عقبه وإلا فهو مذكور في كتاب الدعوات من الصحيح.v
2815 - (وعنه قال: قال لي النبي: إذا أتيت مضجعك) بفتح الميم والجيم وسكون الضاد المعجمة بينهما أي أردت إتيان مكان اضطجاعك (فتوضأ وضوءك الصلاة) أشار إلى أن المراد به الوضوء الشرعي لا اللغوي (ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل، وذكر نحوه(5/294)
فيه: واجعلهن) أي الكلمات المذكورة (آخر ما تقول) لتكون خاتمة قولك وتمام عملك فإن مت كذلك رفعت (متفق عليه) ورواه الأربعة كما تقدم ثمة.
3816 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة) جاء في رواية لها «يصلي ستاً منها مفصولة ويوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها» (فإذا طلع الفجر) أي الصادق (صلى ركعتين خفيفتين) سنه الصبح القبلية (ثم اضطجع على شقه الأيمن) ، وذلك ليتذكر الإنسان بها ضجعة القبر فيحمله ذلك على حسن العمل في نهاره الذي استقبلة، والصحيح أن هذه الضجعة سنة مطلقاً لمن قام الليل وغيره كما سيأتي في الأصل ويستمر علة اضطجاعه (حتى يجيء المؤذن فيؤذنه) بضم التحتية وسكون الهمزة من الإيذان وهو الإعلام أي يعلمه باجتماع الناس للصلاة فيقوم من ضجعته ويخرج إليهم (متفق عليه) .
4817 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبيّ إذا أخذ مضجعه من الليل) أي أراد النوم فيه (وضع يده تحت خده) عند الترمذي في «الشمائل» في حديث البراء ابن عازب وضع كفه اليمين تحت خده الأيمن وإنما كان يختار الأيمن لأنه كان يحبّ التيمن في شأنه كله وليعلم أمته، ولأن النوم أخو الموت وهذه الهيئة عند النزع وفي القبر حال الوضع وهي(5/295)
الأفضل في هيئة الصلاة للعاجز عن الصلاة قاعداً (ثم يقول) ثم فيه بمعنى الواو بدليل رواية الترمذي في «الشمائل» في حديث حذيفة قال «كان النبيّ إذا أوى إلى فراشه قال (اللهم باسمك أموت وأحيا) قال القرطبي: فيه دلالة على أن الاسم المسمى: أي أنت تحييني وتميتني فأموت وأحيا بقدرتك. قال الحافظ: ويقال اسم مقحم، والمعنى: بك أحيا وأموت. وفيه أنه لا يجري على مذهب البصريين المانع من زيادة الأسماء قال القرطبي: أو أن المراد أن أسمائه سبحانه وتعالى لكل منها مقتضى فكل ما ظهر في الوجود فهو صادر عن تلك المقتضيات، فكأنه قال باسمك المحيى أحيا وباسمك المميت أموت، ثم تقديم الظرف فيه لأن القصد من الكلام متعلق بشأنه دون متعلقه فقدم اهتماماً، وفيه كلام للتقي السبكي نقلته في «شرح الأذكار» (وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا) أي أيقظنا ففيه استعارة تبعية كما في آماتنا (من بعد ما أماتنا) أي أنامنا والقرينة علة المجاز فيها ظاهر الحال: قال الطيبي: لما كان الانتفاع بالحياة يتحرّى رضا الله تعالى بأعمال البرّ فيها والنائم لاحظ له من هذا الانتفاع كان كالميت، فكأن الحمد شكراً لنيل هذه النعمة وزوال تلك الفترة وبه ينتظم مع قوله (وإليه النشور) أي المرجع إليه تعالى في نيل ثواب ما اكتسبه في الحياة: أي أن ذلك منه تعالى لا مدخل لغيره فيه (رواه البخاري) في الدعوات من «صحيحه» وأخرجه الأربعة أيضاً، فأخرجه أبو داود في الأدب من «سننه» والترمذي في الدعوات من «جامعه» وقال: حسن صحيح، وفي باب النوم من
«شمائله» ، والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء.
5818 - (وعن يعيش) بفتح التحتية وكسر المهملة وسكون التحتية (ابن طحفة) قال صاحب «المغني» نقلاً عن جامع الأصول: هو بمهملة وخاء معجمة وفاء، وقيل بهاء مكان الخاء، وقال الحافظ في «التقريب» بكسر أوله وسكون المعجمة الخاء، ويقال بالهاء بدلها وبالغين المعجمة (الغفارى) بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبعد الألف راء نسبة لبني غفار قبيلة أبي ذرّ (رضي الله عنهما) قال ابن الأثير: يعيش هذا شامي (قال: قال أبي) أي طخفة، وفي(5/296)
«التقريب» للحافظ ما يقتضي أنه ليس لطحفة هذا الحديث (بينما أنا مضطجع) اسم فاعل من الاضطجاع، قال في «النهاية» : هو النوم (في المسجد على بطني إذا رجل يحركني) برجله فقال أي عقب استيقاظي منبهاً علة حكمة تحريكه له (إن هذه ضجعة) بفتح الضاد وهي المرة من الاضطجاع (يبغضها الله) مجاز عن النهي عنها، لأن ما لا يرضاه تعالى من الأفعال منهيّ عنه (قال: فنظرت فإذا رسول الله) إذا فيهما فجائية وهي مضافة للجعلة بعدها وحذف خبر الجملة الثانية، ويحتمل أن يكون المحذوف المبتدأ: أي فإذا الذي أيقظني رسول الله (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (بإسناد صحيح) فرواه عن محمد بن المثنى عن معاذ بن هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن يعيش بن طخفة فذكره، ورواه النسائي أيضاً بهذا السند وبأسانيد أخر في الوليمة، ورواه ابن ماجه في الصلاة من «سننه» ببعضه، وقال فيه عن قيس بن طهفة عن طهفة بقصة نومه علة بطنه/
6819 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: من قعد مقعداً) يحتمل أن يكون مصدراً ميمياً: أي من جلس جلوساً وأن يكون اسم مكان: أي في مكان الذي (لم يذكر الله تعالى فيه) جملة في محل الصفة (كانت عليه من الله ترة) فيه الرفع على أنه اسم كان وأحد الظرفين خبرها والثاني حال، ويجوز فيه النصب على أنه خبرها واسمها مستكن يعود على القعدة المفهومة مما قبله والظرفان كما تقدم، أو أنهما لغو متعلقان بترة لكونه بمعنى نقص (ومن اضطجع) أي نام كما تقدم أو وضع جنبه وإن لم يتم لراحة (مضطجعاً) يجوز فيه ما جاز في مقعد (لا يذكرالله تعالى فيه) خالف بين لفظي النافي في الجملتين تفنناً في التعبير (كانت عليه من الله ترة. رواه أبو داود بإسناد حسن) وروى النسائي وأحمد وابن حبان «وما مشى أحدكم ممشى لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة، وما أوى أحدكم إلى(5/297)
فراشه لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة» كذا في «الحصن» لابن الجزري (الترة بكسر التاء المثناة من فوق) وتخفيف الراء، قال في «النهاية» : والهاء فيه عوض عن الواو المحذوفة: أي كعدة وزنة، إذ الأصل وتر ووعد وزن فحذف فاء كل وعوض عنها الهاء (وهي النقص) بدأ به في النهاية ثم قال (وقيل) أراد بالترة هنا (التبعة) أي بفتح الفوقية وكسر الموحدة، قال في «المصباح» : هي ما تطلب من ظلامة ونحوها.
128 - باب جواز أي إباحة الاستلقاء
أنكر ابن خلكان قول الفقهاء استلقى ومستلقي قال: إنما يقال استلقى ومستلق، ورده ابن النحوي في لغات «المنهاج» بأن صاحب العباب ذكر كلا من قول الفقهاء، وقول ابن خلكان وأن الجميع يقال في ذلك، وأن معناه نام على قفاه اهـ. فيكون قول المصنف (على القفا) تجريداً وتصريحاً لزيادة التوضيح والقفا بالقاف وألف مقصور مؤخر العتق كذا في «المصباح» (ووضع إحدى الرجلين على الأخرى) أي حال الاستلقاء وغيره (إذا لم يخف انكشاف العورة) بما ذكر من الاستلقاء والوضع المذكور، فالأحاديث الواردة بالنهي محمولة على ما إذا خيف انكشافها (وجواز القعود متربعاً محتبياً) هو ضم الظهر مع الساقين بعمامة أو بيد، والثاني من أكثر جلوسه كما فسر به القاضي عياض حديث مسلم «كان أكثر جلوسه محتبياً» . وكذا سائر أنواع الجلسات فالكل جائز، نعم يكره في الصلاة الإقعاء: أي الجلوس على وركيه ناصباً فخذيه لا الاقعاء وهو نصب أصابع القدمين ووضع الإليين على عقيبهما، فذلك سنة في الجلوس بين السجدتين وإن كان الافتراش أفضل منه فيه.
1820 - (عن عبد الله بن زيد) الأنصاري تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب إباحة الشرب من الأواني الطاهرة (أنه رأى رسول الله مستلقياً في المسجد) دليل على جواز(5/298)
ذلك (واضعاً إحدى رجليه على الأخرى. متفق عليه) رواه البخاري في الصلاة ومسلم في اللباس، ورواه أبو داود في الأدب من «سننه» والترمذي في الاستئذان من «جامعه» والنسائي في الصلاة.
2821 - (وعن جابر بن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم (رضي الله عنهما قال: كان النبي إذا صلى الفجر تربع) أي جلس متربعاً في مصلاه: أي محل صلاته يذكر الله تعالى واستمر جالساً (حتى تطلع الشمس حسناء) أي بيضاء ففيه دليل جواز القعود متربعاً (حديث صحيح رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (وغيره) بل رواه مسلم في كتاب الصلاة من صحيحه، ورواه النسائي في الصلاة وفي اليوم والليلة (بأسانيد صحيحة) فرواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن وكيع عن سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن جابر، ورواه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن داود الحفري عن سفيان بالإسناد المذكور بلفظ جلس متربعاً، ورواه النسائي عن أحمد وابن سليمان الزهيري عن يحيى بن آدم عن زهير بن حرب عن سماك عن جابر قاله المزي، وظهر حينئذ أن مراد المصنف بتعدد الإسناد ما فوق سفيان لا جميعه، وأن المراد من الجمع ما فوق الواحد، والله أعلم.
3822 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي بفناء الكعبة) قال في «المصباح» : الفناء مثل كتاب الوصيد وهو سعة البيت، وقيل ما امتد من جوانبه وجمعه أفنية اهـ (محتبيا) حال من رسول الله لأن رأى بصرية (بيديه هكذا) أي احتباء فهذا(5/299)
والمشار إليه ما بينه الراوي بقوله (ووصف) في «القاموس» : القرفصى مثلثة القاف والفاء مقصورة والقرفصاء بالضم والقرفصاء بضم القاف والراء على الاتباع أن يجلس على إليتيه ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه. وقال الجوهري: القرفصاء ضرب من القعود يمد ويقصر فإذا قلت قعد فلان القرفصاء كأنك قلت قعد قعوداً مخصوصاً هو أن يجلس على إليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه كما يحتبي بثوب فتكون يداه مكان الثوب، عن أبي عبيدة، وقال أبو المهدي: هو أن يجلس على ركبيته منكباً ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه وهي جلسة الأعراب اهـ (رواه البخاري) أي في الأدب من «صحيحه» لكن لم أر فيه قوله ووصف الخ.
4823 - (وعن قيلة) بفتح القاف واللام وسكون التحتية بينهما (بنت مخرمة) بفتح الميمين والراء وسكون الخاء المعجمة (رضي الله عنها) قال الحافظ في «التقريب» : هي العنبرية بفتح المهملة والموحدة وسكون النون بينهما، كذا صححه ابن الأثير في «أسد الغابة» قال: وقيل العنزية بفتح المهملة والنون وبالزاي، وقيل العنوية: أي بواو بدل الراء، وقيل العنبرية وهو الصحيح لأنها قد قيل فيها التميمية، والعنبر من تميم صحابية ولها حديث طويل. قل: وقد أورده بطوله صاحب كتاب «اليواقيت الفاخرة» في الحديث وهو نحو ورقتين، وذكر ابن الأثير أنه أخرجه أيضاً ابن عبد البرّ وابن منده وأبو نعيم، قال الحافظ: وفي حديثها أنها كانت تحت حبيب بن أزهر فولدت النساء فمات عنها فانتزع بناتها عمر بن أيوب بن أزهر، فذهبت إلى النبي تشكو ذلك إليه (قالت: رأيت رسول الله وهو قاعد القرفصاء، فلما رأيت رسول الله: المتخشع في الجلسة) بالنصب صفة لرسول (أرعدت) أي اضطربت وهو بصيغة المجهول (من الفرق) بفتح أوليه وآخره قاف الخوف مصدر فرق من باب تعب (رواه أبو داود) في الخراج من «سننه» (والترمذي) في الاستئذان من «جامعه» وقال:(5/300)
لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن حسان، وفي باب اللباس من «شمائله» . ورواه البزار في «مسنده» .
5824 - (وعن الشريد) بفتح المعجمة وكسر الراء وسكون التحتية بعدها دال مهملة قاله في «المغني» (ابن سويد) بضم المهملة وفتح الواو وبسكون التحتية آخره مهملة الثقفي الحجازي وقيل الحضرمي (رضي الله عنه) قال العامري، عداده في ثقيف لأنهم أخواله، وقيل قتل قتيلاً في قومه فلحق بمكة فحالف ثقيفاً، ثم لحق بالنبي فبايعه بيعة الرضوان وسماه الشريد بذلك. روى عنه مسلم حديثين في «صحيحه» ، وخرّج له أبو داود والنسائي (قال: مرّ بي رسول الله وأنا جالس هكذا) جملة اسمية حالية من فاعل مرّ، ثم بين تلك الحالة المشار إليها بقوله (وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت علة إلية يدي) بكسر الهمزة وسكون اللام: أي أصلها الذي ينتهي طرفه إلى أصل الإبهام المسمى بإليته وطرفه الآخر إلى أصل الخنصر المسمى بالصرة كما في «النهاية» ، ثم رأيت الحافظ السيوطي في حاشيته المسماة «بمرفاة الصعود إلى سنن أبي داود» قال: هي أصل الإبهام وما تحته: أي دون ما يصل إلى الصرة ويقاربها (فقال: أتقعد قعدة) بكسر القاف لبيان الهيئة (المغضوب عليهم) وهما اليهود كما قاله جمهور المفسيرين في تفسير المذكور آخر سورة الفاتحة، ففيه المنع من التشبه بالمغضوب عليهم في الهيئة أو غيرها من الأفعال والأحوال (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (بإسناد صحيح) فرواه عن علي بن برى عن عيسى بن يونس عن ابن جريج عن إبراهيم بن ميسرة الطائفي عن عمرو بن شريد عن أبيه.(5/301)
5824 - (وعن الشريد) بفتح المعجمة وكسر الراء وسكون التحتية بعدها دال مهملة قاله في «المغني» (ابن سويد) بضم المهملة وفتح الواو وبسكون التحتية آخره مهملة الثقفي الحجازي وقيل الحضرمي (رضي الله عنه) قال العامري، عداده في ثقيف لأنهم أخواله، وقيل قتل قتيلاً في قومه فلحق بمكة فحالف ثقيفاً، ثم لحق بالنبي فبايعه بيعة الرضوان وسماه الشريد بذلك. روى عنه مسلم حديثين في «صحيحه» ، وخرّج له أبو داود والنسائي (قال: مرّ بي رسول الله وأنا جالس هكذا) جملة اسمية حالية من فاعل مرّ، ثم بين تلك الحالة المشار إليها بقوله (وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت علة إلية يدي) بكسر الهمزة وسكون اللام: أي أصلها الذي ينتهي طرفه إلى أصل الإبهام المسمى بإليته وطرفه الآخر إلى أصل الخنصر المسمى بالصرة كما في «النهاية» ، ثم رأيت الحافظ السيوطي في حاشيته المسماة «بمرفاة الصعود إلى سنن أبي داود» قال: هي أصل الإبهام وما تحته: أي دون ما يصل إلى الصرة ويقاربها (فقال: أتقعد قعدة) بكسر القاف لبيان الهيئة (المغضوب عليهم) وهما اليهود كما قاله جمهور المفسيرين في تفسير المذكور آخر سورة الفاتحة، ففيه المنع من التشبه بالمغضوب عليهم في الهيئة أو غيرها من الأفعال والأحوال (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (بإسناد صحيح) فرواه عن علي بن برى عن عيسى بن يونس عن ابن جريج عن إبراهيم بن ميسرة الطائفي عن عمرو بن شريد عن أبيه.
129 - (باب في آداب المجلس والجليس)
فعيل بمعنى فاعل.
1825 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: لا يقيمن أحدكم) هو فيه للتعميم لكونه في سياق النهي الشبيه بالنفي والنهي للتحريم (رجلاً) أي جالساً فيه ولو امرأة، وذكر الرجل لكونه أشرف لما تقدم، وعمومه متناول لما إذا كان الوارد أفضل من الجالس لعلم أو صلاح أو نحو ذلك، فليس له إقامة من سبقه للجلوس في المحل المابح ليجلس هو فيه، نعم استثنى الفقهاء من عرف بمجلس من المسجد يدرس فيه فجلس فيه غيره فيقام للمدرس، ومثله البائع إذا ألف مكاناً من السوق فله إقامة من يجلس فيه ومسائل أخرى (من مجلسه) بفتح أوله وكسر ثالثه مكان الجلوس (ثم يجلس فيه) يجوز فيه الجزم عطفاً على مدخول لا الناهية والرفع على الاستئناف وتقدير مبتدأ قبل الفعل والنصب علة إضمار أن لكونه في جواب الطلب وأقيمت «ثم» مقام «الواو والفاء» فذكر الأوجه الثلاثة غير واحد في حديث «لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه» . ثم استدرك ما قد يتوهم من الحديث من جلوس الداخل في مكان الجليس بقوله (ولكن توسعوا) أي تكلفوا التوسع للقادم (وتفسحوا) هو بمعنى ما قبله فالعطف تفسيري (وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه) وذلك من مزيد ورعه وخشية دخوله في النهي بأن ذلك إقامة للجالس بالإشارة سيما إذا عرف محبة القادم لذلك فتركه ورعاً وتنزّهاً على أن ينسب إليه فعل مما نهى عنه الشارع (متفق عليه) ثم قوله «وكان ابن عمر الخ» لفظ مسلم، والذي في البخاري «وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه» وهي نحو رواية مسلم.(5/302)
2826 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا قام أحدكم من مجلس) أي كان فيه منتظراً للصلاة ثم قام منه لعذر (ثم رجع) أي عاد (إليه فهو أحق به) سواء ترك فيه متاعاً أولاً، وكذا إذا قام العالم عن المحل المعهود للدرس أو البياع من محله المعهود للبيع لعذر ولم يحصل منه إعراض عن محله فسبقه إليه غيره فله إذا عاد إليه إقامة ذلك من ذلك المحل (رواه مسلم) .
3827 - (وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: كناإذا أتينا النبي جلس أحدنا حيث ينتهي) أي سواء كان في صدر المحل أو أسفله، وقد جاء أنه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، وذلك لأن طلب القادم محلاً مخصوصاً قد سبقه إليه غيره فيقيمه منه ليجلس هو فيه أو يضغطه به بغي وعدوان وليس ذلك شأن أهل الإيمان (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (والترمذي) في الاستئذان من «جامعه» (وقال: حديث حسن) غريب، ورواه النسائي في العلم من «سننه» .
4828 - (وعن أبي عبد الله سلمان الفارسي) سلمان الخير مولى رسول الله (رضي الله عنه) سئل عن نسبه فقال: أنا ابن الإسلام، أصله من فارس من «حيّ» قرية من قرى أصبهان، وقيل من «رام هرمز» أسلم قديماً ولإسلامه قصة طويلة مذكورة في كتب السير، وأول مشاهده مع رسول الله الخندق ولم يتخلف عن مشهد بعدها وآخى النبي بينه وبين أبي الدرداء، وثبت ذلك في صحيح البخاري وتقدم في باب الإقتصاد، وكان من فضلاء الصحابة وزهادهم وعلمائهم وذوي القرب من رسول الله، وهو الذي أشار على النبي بحفر الخندق عند مجيء الأحزاب، سكن العراق وكان يعمل الخوص بيده فيأكل منه، نقلوا(5/303)
اتفاق العلماء على أنه عاش مائتين وخمسين سنة وقيل ثلاثماية وخمسين، وقيل إنه أدرك وصي عيسى بن مريم عليه السلام، روي له عن رسول الله ستون حديثاً، اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد مسلم بثلاثة أيضاً، ومن فضله ما روى الترمذي عن أنس مرفوعاً «إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة عليّ وعمار وسلمان» قال الترمذي: حديث حسن (قال: قال رسول الله: لا يغتسل رجل يوم الجمعة) ويدخل وقت هذا الغسل بطلوع الفجر وتقريبه من الزوال أولى (ويتطيب ما استطاع) ما مصدرية وثمة مضاف مقدر: أي قدر استطاعته من جيد الطيب ودنيه كما بينه بقوله (من طيب ويدهن) بإدغام الدال في التاء إذ الأصل يدتهن فأبدل تاء الافتعال دالاً دفعاً للثقل (من دهنه) بضم الدال (أو) شك من الراوي أي قال النبي: ويتطيب ما استطاع من الطيب أو قال (يمس) بفتح الميم (من طيب بيته) أي من أيّ أنواع الطيب الذي حصل له (ثم يخرج) أي من بيته مريداً الصلاة (فلا يفرق بين اثنين) أي إلا عند تقصيرهما بأن تركا فرجة بين أيديهما ففرق بينهما بسدها، فلا يضرّ ذلك في حصول ما يأتي من الثواب له (ثم يصلي ما كتب له) أي من النافلة قبل مجيء الإمام (ثم ينصت) بكسر الصاد المهملة عند شروع الإمام في الخطبة كما قال (إذا تكلم الإمام) أي بالخطبة (إلا غفر)
بالبناء للمجهول ونائب فاعله قوله (له) وقوله (ما بينه وبين الجمعة الأخرى) في محل المفعول به، وثواب الجمعة الأخرى يحتمل السابقة على جملة الصلاة والمتأخرة عنها ومؤادهما واحد: أي إن ثواب ذلك يكفر خطأ أسبوع، والمراد من الذنوب المكفرة الصغائر المتعلقة بحق الله سبحانه وتعالى (رواه البخاري) في باب الجمعة من «صحيحه» ورواه البزار من حديث سلمان، ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة كما نقله المزي في «أطرافه» .
5829 - (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) أي جد أبيه وهو عبد الله بن عمرو كما(5/304)
تقدم رضي الله عنه أن رسول الله قال: (لا يحلّ) بكسر المهملة: أي لا يباح (لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) قال العلقمي: إذا تناجى اثنان ابتداء وثمة ثالث بحيث لا يسمع كلامهما لو جهرا فأتى ليستمع تناجيهما فلا يجوز، كما لو لم يكن حاضراً معهما أصلاً، قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد الدخول على المتناجين حال تناجيهما. قال العلقمي: لا ينبغي للداخل القعود عندهما ولو تباعد عنهما إلا بإذنهما لأنهما لما افتتحا حديثهما ليس عندهما أحد دلّ على كراهتهما اطلاع أحد عليه، ويتأكد ذلك إذا كان أحد المتكلمين جهورياً لا يتأتى له إخفاء كلامه من الحاضر أو كان الحاضر له قوة فهم بحيث يتسلط بما يسمع على باقي الكلام به، فالمحافظة علة ترك ما يؤذي المؤمن مطلوبة وإن تفاوتت المراتب اهـ (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد في «مسنده» كما في الجامع الصغير (وفي رواية رواية لأبي داود: لا يجلس بين رجلين) أي متناجيين كما علم ما تقرر (إلا بإذنهما) .
6820 - (وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: إن رسول الله لعن من جلس وسط الحلقة) بفتح الحاء وسكون اللام، قال الخطابي: وهذا يتأول فيمن يأتي حلقة قوم فيتخطى رقابهم ويقعد حيث ينته به المجلس فلعن لللأذى، وقد يكون في ذلك إيذاء إذا قعد وسط الحلقة وحال بين الوجوه وحجب بعضهم عن بعض فيضرّرون بمكانه وبمقعده هناك (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (بإسناد حسن) عن موسى بن إسماعيل عن أبان عن قتادة هو أبو مجلز عن حذيفة.
(وروى الترمذي عن أبي مجلز) واسمه لاحق بن حميد(5/305)
السدوسي البصري (أن رجلاً) لم أقف على اسمه (قعد وسط) بفتح المهملة الأولى ويجوز تسكينها (حلقة، فقال حذيفة: ملعون) خبر مقدم بمتدؤه الموصول الآتي بعد (على لسان محمد من) أي الذي (جلس وسط الحلقة) والموصول على الرواية الأولى مبتدأ خبره اسم المفعول المذكور قبله، وعلى الثانية مفعول به للفعل (قال الترمذي) أي بعد إيراده (حديث حسن صحيح) .
7831 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:) سمعت رسول الله وسلم يقول: خير المجالس أوسعها) وذلك لما فيه من راحة الجليس ودفع ما يفضي إليه ضيق المجلس من حقد أو بغض (رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري) في «صحيحه» : أي بالرجال الذين روى عنهم في «صحيحه» مراعي وجه روايته عنهم من كونها في الأصول دون التوابع والشواهد: أي فالحديث صحيح على شرط البخاري، ولذا صححه الحاكم في «المستدرك» ، وقد رواه أحمد في «المسند» والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي كلهم عن أبي سعيد، ورواه البزار والحاكم في «المستدرك» ، والبيهقي أيضاً عن أنيس.
8832 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من جلس في مجلس) أي في مكان الجلوس (فكثر) بضم المثلثة (لغطه) بفتح اللام والغين في المعجمة وبالطاء المهملة. قال في «المصباح» : هو كلام فيه جلبة واختلاط ولا يتبين اهـ والمراد في الحديث كثر فيه كلامه بما لا ينفقعه آخرة (فقال قبل أن يقوم من مجلسه) يصدق بقول الذكر(5/306)
مع القيام كما يصدق بالأولى بقوله قبل القيام، وحديث أبي برزة لا يخصص بالثاني لأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص ذلك: أي الذي كثر فيه لغطه (سبحانك) بالنصب على المصدرية وهو علم علة التسبيح ثم قصد تنكيره فأضيف، ومعنى سبحان الله: تنزيهاً لله عما لا يليق به (اللهم) أي يا ألله، وعدل عنها إلى الميم دفعاً لتوهم موضوع «يا» من البعد كما أوضحت ذلك في أوائل «شرح الأذكار» ويجعل الميم عوضاً عن حرف النداء امتنع جمعه معه، وقول الشاعر أقول يا اللهم يا اللهما ضرورة، وقد جاء في رواية بزيادة ربنا بعد اللهم أوردها في «الجامع الكبير» (وبحمدك) يحتمل كون الواو عاطفة للظرف ومتعلقه على العامل في المصدر قبله: أي أسبحك وأنني عليك بحمدك فيكون في الكلام جملتان، ويحتمل كونها زائدة والظرف بعدها متعلق بسبحان لما فيه من معنى الفعل: أي سبحتك ملتبساً بحمدك (أشهد) أي أعلم وأبين (أن لا إله) أي لا معبود بحق في الوجود ولا في المكان (إلا أنت) الضمير بدل من محل «لا» مع اسمها فإنه رفع عند سيبويه، أو من محل اسم «لا» قبل دخولها (أستغفرك) أي أسألك غفر الذنوب ومنها ما اكتسب في ذلك وحذف المعمول للتعميم (وأتوب إليك) وينبغي أن يكون المتكلم بذلك قاصداً بقلبه ما دلت عليه الجملتان من سؤال غفران الذنوب والتوبة إلى الله تعالى من ذلك وإلا كان كاذباً، فكان حقيقاً بالمقت في الوقت (إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك) عمومه مخصوص بما عدا الكبائر فإنها لا تكفر إلا بالتوبة أو بالفضل الإلهي وبما عدا تبعات العباد، لأن
إسقاطها عند المتلوث بها موقوف على رضا ذي الحق، وهذا التخصيص مأخوذ من أحاديث أخر، والإتيان باسم الإشارة وتكريره لبيان أنه لكثرة اللغط فيه صارت له حالة بها يشار إليه، فإذا كان يغفر لما فيه وهو كذلك فما لم يصل لذلك بالأولى، وإنما ترتب على هذا الذكر غفر ما كسب في ذلك المجلس لما فيه من تنزيه المولى سبحانه والثناء عليه بإحسانه والشهادة بتوحيده ثم سؤال المغفرة من جنابه وهو الذي لا يخيب قاصد بابه (رواه الترمذي) في «جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح) غريب، قال السيوطي في «الجامع الكبير» : ورواه ابن حبان والحاكم في «المستدرك» وابن السنى في «عمل اليوم والليلة» كلهم من حديث أبي هريرة.(5/307)
9833 - (وعن أبي برزة) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الخوف (قال: كان رسول الله يقول بأخرة) بفتح الهمزة والخاء المعجمة: أي في آخر جلوسه، ويجوز أن يكون في آخر عمره، قاله في النهاية (إذا أراد أن يقوم من المجلس) أي من مكان جلوسه (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فقال رجل) لم أقف على ما سماه (يا رسول الله إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى) أي من ذلك الزمان (قال: ذلك) أي القول المذكور وأشير إليه مع قربه بما يشار به إلى البعيد تفخيماً لشأنه (كفارة) أي مكفر، وحمله على المبتدأ مبالغة كقولك رجل رضا (لما يكون) أي يوجد (في المجلس. رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» ، قال الحافظ المزي: ورواه النسائي في اليوم والليلة (ورواه الحاكم أبو عبد الله) محمد بن عبد الله بن حمدويه بن نعيم الطنبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع بفتح الموحدة وتشديد التحتية وبعدها مهملة، صاحب التصانيف التي قاربت ألف تصنيف، له ترجمة عظيمة في «طبقات الحافظ الذهبي» (في المستدرك) بفتح الراء لأنه استدرك فيه أحاديث على «الصحيحين» ولا استدراك عليهما بذلك لأنهما لم يلتزم إخراج جميع الصحيح إنما أراد به إخراج بعضه (من رواية عائشة رضي الله عنها) أي عن النبي (وقال) أي الحاكم (صحيح الإسناد) أي والمتن لانتفاء منافي الصحة عنه من الشذوذ والعلة القادحة.
10834 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلما) ما فيه كافة الفعل عن طلبه للمرفوع ومهيئة للدخول على الجمل الفعلية كما أدخلته هنا عليها (كان رسول الله لا يقوم من(5/308)
مجلس حتى) الظاهر أنها هنا بمعنى إلا كهي في قول الشاعر:
ليس العطاء من الفضول سماحة
حتى تجود وما لديك قليل
(يدعو بهؤلاء الدعوات) وبينهما على سبيل العطف البياني أو البدل بقول (اللهم اقسم لنا من خشيتك) هو الخوف مع معرفة جلال المخشي منه ولذا اختصت بالعلماء به تعالى: {إنما يخشى} (فاطر: 28) أي خشية إجلال لا خشية إذلال ( {الله من عباده العلماء} ) وقال سيدهم «أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية» وقال تعالى: في حق الملائكة {وهم من خشيته مشفقون} (الأنبياء: 28) (ما) موصولة أو نكرة موصوفة أي الذي أو شيئاً (يحول) بالتذكير نظراً للفظ «ما» ويجوز التأنيث نظراً لكون المطلوب الخشية (بيننا وبين معصيتك) فيه إسناد إلى السبب، فإن الذي يحول بين العبد والمعصية هو الله تعالى، وذلك بأن يجعل عنده من خشيته ما يصده عنها (ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك) معطوف على ما قبله من عطف معمولين على معمولى عامل واحد وهو جائز اتفاقاً: أي واقسم لنا من طاعتك الذي أو شيئاً تبلغنا به، والتاء فيه يحتمل أن تكون تاء الغيبة فيناسب ما قبله ويكون فيه مجاز عقلي، وأن تكون تاء الخطاب فيناسب قوله آخر الحديث «جنتك» والباء يحتمل أنها باء المصاحبة وأنها باء السببية بمعنى أنه تعالى جعل مدخولها سبباً لمسببه لأن ذلك سبب ذاتي للمطلوب (ومن اليقين) أي القلبي (ما يهون) بالتذكير من التهوين (علينا مصايب) بالياء التحتية بعد الهمزة كهي في معايش ولا يجوز قلبها همزة لأنها ليست مزيدة: وهي ما يسوء الإنسان وفي الحديث المرفوع «كل شيء يؤدي المؤمن فهو له مصيبة» وإضافته إلى الدنيا إما على معنى «في» على القول بإثباته وعليه ابن مالك في آخرين نحو قوله تعالى: {بل مكر الليل} (سبأ: 33) وعلى أن الإضافة قسمان ليس إلا، إما على معنى اللام أو معنى «من» فالإضافة هنا لامية لأدنى ملابسة، وذلك لأن المراد اكشف عن عين بصيرته ما يعلم به ذوقاً أن ما أصابها صدر إليها من حضرة أرحم الراحمين هان عليها كائناً ما كان (اللهم متعنا) بتشديد المثناة الفوقية (بأسماعنا) أي بالقوة المودعة في
الصماخ (وأبصارنا) أي بالقوة المودعة(5/309)
في الحدقة وجمعها باعتبار تعدد الداعين أو من إطلاق الجمع على ما فوق الواحد وعليه فأتى بالضمير لذلك والمقام يقتضي خلافه: أي إلى أن خلع عليه خلعة تشريف التأهيل لسؤاله تعالى فأتى بلازم العظمة من ضمير «نا» (وقوتنا ما) مصدرية ظرفية وصلتها (أحييتنا) أي متعنا بما ذكر مدة إحيائنا وذلك ليغتني المرء عن غيره بفضل ربه سبحانه فلا يحتاج لقائد ولا لمعين (واجعله) أي ما ذكر (الوارث) أي الباقي (منا) شبه دوام استمراره إلى آخر الحياة بالوارث الذي يبقى كذلك ويخلف الميت ففيه تشبيه بليغ (واجعل ثأرنا) هو بالهمزة في الأصل وسهل بقلبها ألفاً وهو طلب الدم كما في «النهاية» وأريد منه هنا التبعة والطلبة (على من ظلمنا) أي بأن تأخذ لنا حقنا منه وتجازيه على ظلمه إباناً (وانصرنا) أي اجعلنا منصورين غالبين (على من عادانا) يحتمل أن تكون المفاعلة على بابها ويحتمل أن صيغة المغالبة للمبالغة: أي على من انتصب لعداوتنا، وظاهر أن المراد المعادي لما لا تجوز المعاداة له من الأعراض الفانية المخدجة، أما المعاداة لله كأن وقعت منه عداوتك لفعلك ما لا يحل شرعاً فذلك لا يدعي عليه، والدعاء عليه غير مقبول لأنه أتى بما عليه (ولا تجعل مصيبتنا) أي ما نكرهه (في ديننا) بأن نخل بأدنى شيء مما أمرنا بأدائه أو نقع في شيء ما نهينا عن مداخلته وذلك لأن مصيبة الدين هي المصيبة العظمى لما قد يترتب عليها من الشقاوة الكبرى أعاذنا الله من ذلك، ولا كذلك مصائب الدنيا فإن ما فيها آيل إلى الذهاب، فما أصيب به المرء فذلك من عناية الله به، إن ألهمه الصبر فإنه جعل له في ذلك الثواب، ولو ذهب من غير مصيبة لما أثيب عليه (ولا تجعل الدنيا أكبر همنا) فتهتم بها عن الأمور التي علينا من أداء عبوديتك والقيام بخدمتك (ولا مبلغ علمنا) بأن نقف عند ما يصلحها ولا نجاوزه لما يصلحنا في آخرتنا فإن الكافر لما لم يؤمن بدار القرار وكان
مبلغ علمه هذه الدار استغرق بلذاتها وسبح في بحار شهواتها وقال: «إن هي إلا حياتنا الدنيا» فمن استغرق من أرباب الإيمان أوقاته في عمارة دنياه وغفل عن عمارة أخراه صار شبيهاً بأولئك الخاسرين (ولا تسلط علينا من لا يرحمنا) فيه أن جور الولاة والعمال على من تحت أيديهم من الرعايا إنما هو بتسليط من الله سبحانه، وإذا كان كذلك فإذا أصيب العبد بمصيبة من أيديهم رماداً (رواه الترمذي) في الدعوات من «جامعه» (وقال: حديث(5/310)
حسن) وقد عقد له المصنف في «الأذكار» ترجمة مستقلة فقال بعد باب ما يقوله عند القيام من المجلس «باب دعاء الجالس في جمع لنفسه ومن معه» وما فعله ثمة أولى لأن عموم الحديث يشمل ذكر ذلك في أول المجلس وفي أثنائه وفي آخره وعند القيام، فالمطلوب الإتيان به في المجلس لا بخصوص كونه عند القيام، ولما فعله هنا وجه حسن هو أنه ينبغي ختم المجلس بالذكر والدعاء وهذا من أحسن الدعاء لما فيه من جمع خيري الدنيا والآخرة.
11835 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما من) صلة أتى بها لتأكيد عموم النفي في قوله (قوم) والمراد به هنا ما يشمل النساء أيضاً وإن كان لغة مختصاً بما يقابلهن كما تقدم (يقومون) فيه مع قوله قوم جناس الاشتقاق وهو خبر ما الحجازية المجرور اسمها بمن المزيدة (من مجلس) متعلق بيقومون والتنوين فيه للشيوع فيشمل شريف المجلس كالمساجد ودنيئه كمجلس اللغو (لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة الحمار وكان) أي ذلك المجلس (لهم متعلق بقوله حسرة) وجملة النفي في محل الحال من فاعل يقومون، وذكر جيفة الحمار زيادة في التنفير وإيماء إلى أن تارك الذكر في المجلس بمثابة الحمار المضروب به المثل في البلادة، إذ غفل بما هو فيه من الترهات ولذائذ المحاورات عن ذكر من أغدق له العطيات، وتحسره عليه لما فاته من أنفس نفيس وهو الزمان الذي إذا ذهب لا يعود أبداً، فليس له عند العارف عوض، فأذهبه ذلك الجالس في غير نفع أخروي بترك ذكر الله فيه، فعظمت بذلك الحسرة واشتعلت - بالتفريط في ذكر الله في ذلك المجلس العارف بما ضاع عليه من نفيس الوقت - الجمرة هذا إذا كانت الحسرة في الدنيا، ويحتمل أنها في الآخرة، ويأتي ما يدل له والحسرة لفوات ثواب الذكر بمعانيه ما ناله غيره ممن لم يقصر في ذلك (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه الطبراني والبيهقي عن(5/311)
عبد الله بن مغفل مرفوعاً بلفظ «ما من قوم اجتمعوا في مجلس وتفرقوا ولم يذكروا الله إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة» ورواه أحمد في «مسنده» عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ «ما من قوم جلسوا مجلساً لا يذكرون الله فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة» وأورده السيوطي في «الجامع الكبير» .
12836 - (وعنه عن النبي قال: ما جلس قوم مجلساً) منصوب على الظرف وتنكيره لما تقدم، وجملة (لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم) أي مع السلام عليه (فيه) محل الصفة للظرف (إلا كان) يحتمل أن تكون ناقصة واسمها مستكن يرجع إلى المجلس و (عليهم) ظرف إما لغو متعلق بخبر كان أعنى (ترة) لما أنه بمعنى نقص وذلك كالفعل في التعلق به أو بالفعل نفسه أو مستقر في محل الحال من اسم كان، ويحتمل أنها تامة وترة فاعلها وعليهم فيه الأوجه المذكورة، ويؤيدها رواية أبي هريرة الآتية آخر الباب فإنها ظاهرة في ذلك ظهوراً تاماً (فإن شاء عذبهم) جزاء قصروا في ذلك بتركها (وإن شاء غفر لهم) ذلك النقص وهذا يقتضي وجوب وجود الذكر والصلاة على النبي في المجلس لأنه رتب العذاب على ترك ذلك وهو آية الوجوب، ولم أر من ذكر عنه القول بوجوب ذلك في كل مجلس والحديث يقتضيه والله أعلم (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه ابن ماجه أيضاً من حديث أبي هريرة، ورواه أيضاً من حديث أبي سعيد كما في «الجامع الصغير» .
13837 - (وعنه عن رسول الله قال: من قعد مقعداً) بفتح العين المهملة يحتمل أن يكون منصوباً على الظرفية الزمانية ويؤيده الروايات قبله بالصيغة المتعينة للمكان، ويحتمل أنه على المفعولية المطلقة وهو مصدر ميمي: أي قعوداً (لم يذكر الله تعالى فيه) يحتمل أن يراد الذكر اللساني وهو المتبادر، ويؤيده قرن الصلاة على النبي معه في الرواية قبله،(5/312)
فإنها لا تكون إلا باللسان مع رفع الصوت إلى أن يسمعها المتكلم بها المعتدل السمع الخالي عن نحو لغط، يحتمل أن يكون المراد ما يعمه والذكر القلبي فيدخل فيه من حصل له فيه خوف أو رجاء لله سبحانه أو غير ذلك من الأحوال وإن لم يذكر ما بالمقال (كانت) أنث لتأنيث فاعله وإن فصل بينهما قوله (عليه من الله ترة) والظرفان متعلقان به، ويجوز كونها ناقصة وأحد الظرفين خبر مقدم وترة اسمها مؤخر والتأنيث لما تقدم، وهذا كله على روايته بالرفع كما في الأصول المصححة، ويحتمل كون اسمها مستكنا يرجع إلى القعدة الدالّ عليها مقعداً «ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة» (رواه أبو داود وغيره وقد سبق قريباً) منصوب على الطرفية أو المصدرية وذلك في أول كتاب آداب النوم (وشرحنا فيه الترة) وأصلها والخلاف في معناها.
130 - باب الرؤيا
بالقصر مصدر رأي الحلمية في المشهور، قال في «المصباح» : ورؤيا على فعلي غير منصرف لألف التأنيث المقصورة وسيأتي فيها مزيد بيان (وما يتعلق بها) أي من الآداب.
(قال الله تعالى) : ( {ومن آياته} ) أي دلائل ألوهيته ووحدانيته ( {منامكم بالليل والنهار} ) وذلك لما فيه من إذهاب الشعور حتى يصير النائم كالميت ثم يستيقظ منه قيعود له ما كان من الشعور والإدراك كأنه لم يزل البتة وذلك دليل كمال القدرة.
1838 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول لم يبق) قال الدماميني في «المصابيح» : قالوا يريد لا يبقى بعده (من النبوة إلا المبشرات) أي إن الوحي(5/313)
ينقطع بموته فلا يبقى بعده ما يعلم به ما سيكون إلا المبشرات فالمقام للنفي «لمن» دون «لم» وقد جاء في رواية «لن يبقى بعدي من النبوة إلا المبشرات» اهـ. وأصل الكلام لابن التين وزاد عليه قوله: فالمقام للنفي بلن، وقال المهلب: التعبير بالمبشرات خرج للأغلب فإن من الرؤيا ما تكون منذرة وهي صادقة يريها الله المؤمن رفقاً به ليستعد لما يقع قبل وقوعه (قالوا) أي الصحابة الحاضرون كلامه (وما المبشرات: قال الرؤيا الصالحة) يحتمل أن المراد صلاحها باعتبارها في ذاتها، ويحتمل أنه باعتبار تأويلها (رواه البخاري) في كتاب التعبير من «صحيحه» . %
2839 - (وعنه أن النبي قال: إذا اقترب الزمان) أي استوى الليل والنهار واعتدلا وذلك في زمن الربيع، اقترب انتهاء أمد الدنيا أو اقترب بحيث تكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة أقوال ثلاثة حكاها الطيبي وظاهر صنيعه اعتماد الثاني، وظاهر صنيع الحافظ ابن حجر اعتماد الأول، وأيد الطيبي ما قاله بحديث «في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب» وكذا أيده السيوطي بل صوبه وقال: لأن أكثر العلم ينقص حينئذ وتندرس معالم الديانة، فتكون الناس على مثل الفترة محتاجين إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء، ولكن لما كان نبينا خاتم الأنبياء عوضوا بالرؤيا الصادقة، وقال العارف ابن أبي جمرة إن المؤمن حينئذ يكون غريباً فيقل أنيسه فيكرم بالرؤيا الصادقة. وقال الفارسي في «مجمع الغرائب» : يحتمل أن معناه إذا اقترب أجل الرائي: أي بأن طعن في السن وبلغ أوان الكهولة والمشيب فإن رؤياه أصدق وذلك لاستكماله غاية الحلم والأناة والقوة النفسية (لم تكد) لم تقارب (رؤيا المؤمن) وفي رواية «لم تكد رؤيا الرجل المسلم» (تكذب) قال الطيبي: اختلف في خبر كاد النفي، والأظهر أنه يكون منفياً أيضاً لأن أحرف النفي الداخلة على كاد تنفي قرب حصوله، والنافي لقرب حصول الشيء أدل على نفيه نفسه ويدل عليه قوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} (النور: 40) والرؤيا كما قال الطيبي نقلاً عن «الكشاف» بمعنى الرؤية، إلا أنها تختص بما كان(5/314)
منها في المنام دون اليقظة فلا جرم فرق بينهما بحذف تاء التأنيث وجعل ألف التأنيث فيها مكان تائه للفرق. وقل الواحديث الرؤيا مصدر إلا أنه لما صار إسماً للمتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء، وقال المصنف: الرؤيا مهموزة مقصورة ويجوز ترك الهمزة تخفيفاً. قال المازري: الذي عليه أهل السنة أن الرؤيا هي أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات وكأنه جعلها علماً على أمور أخرى يخلقها في أثناء
الحال قد تنخلف كالغيم خلقه الله تعالى علامة على المطر وقد يتخلف، وتلك الاعتقادات تقع منا مرة بحضرة الملك فنسر وأخرى بحضرة الشيطان فنساء، وقد بسط الكلام شيخ الإسلام في «فتح الباري» على الرؤيا فعليك بمراجعته لتقف على ما فيه من النفائس (متفق عليه) .
(وفي رواية) أي لمسلم (وأصدقهم) أي الرائين الصالحين (رؤيا) تمييز عن نسبته لمن هو له (أصدقهم حديثاً) أي خبراً هذا باعتبار الغالب. قال المهلب: قد يرى الصالح الأضغاث لكن نادراً لقلة تمكن الشيطان منه، بخلاف غيره فإن الشيطان متسلط عليه فغلب عليه الكذب. قال: فالناس ثلاث درجات: الأنبياء ورؤياهم صدق البتة وقد يقع فيها ما يحتاج إلى التعبير. والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق، والأضغاث فالمستورون يستوي الأمران فيهم، والفسقة يغلب في رؤياهم الأضغاث، والكفار يندر في رؤياهم الصدق.
3840 - (وعنه قال: قال رسول الله: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة) بفتح القاف، قال الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» : هو بالنسبة إلى لإخبار بالغيب يكون بشرى برؤيتهم إياه عليه الصلاة والسلام يوم القيامة وهو تأويله. وسمى ذلك يقظة لأنها اليقظة الحقيقية، وذلك لا ينافي أن يكون تأويله بالنسبة إلى أمر الدنيا حصول خير ودين وغير ذلك مما يؤول به. قال وقوله (أو فكأنما رآني في اليقظة) شك من الراوي، ومعناه غير الأول لأنه تشبيه وهو صحيح لأن ما رآه في المنام مثال وما يرى في عالم الحس حسي فهو تشبيه خيالي بحسي، قال وقوله (لا يتمثل بي الشيطان) واستئناف بياني كأن سائلاً قال:(5/315)
ما سبب ذلك؟ فقال: لا يتمثل الشيطان بي، يعني ليس ذلك المنام من قبيل أن يمثل الشيطان في خيال الرائي ما يشاء من التخيلات، قال: وهل هذا مختص بالنبي أولاً؟ قال بعضهم رؤية الله تعالى ورؤية الأنبياء والملائكة عليهم السلام ورؤية الشمس والقمر والنجوم المضيئة والسحاب الذي فيه الغيث لا يتمثل الشيطان بشيء منها، وذكر المحققون أن ذلك خاص به، وقالوا في ذلك: إنه وإن ظهر بجميع أحكام أسماء الحق وصفاته تخلقاً وتحققاً، فإن من مقتضى مقامات رسالته ودعوته الخلق إلى الحق أن يكون الأظهر فيه - حكماً وسلطنة من صفات الحق وأسمائه - صفة الهداية والاسم الهادي، فهو صورة الاسم الهادي ومظهر صفة الهادي، والشيطان مظهر اسم المضلّ والظاهر صفة الضلالة فهما ضدان ولا يظهر أحدهما بصفة الآخر، فالنبي خلقه الله للهداية، فلو ساغ لإبليس التمثل بها لزال الاعتماد بكل ما يبديه الحق ويظهره لمن يشاء هدايته، فلذلك عصم الله صورة النبي من أن يظهر بها شيطان، وإنما لم يمنع الشيطان من مثل ذلك في حضرة الحق وهو أعظم عظماً وجلالاً، فقد وقع أنه أضلّ قوماً بقوله أنا الله، فظنوا أنهم رأوا الحق وسمعوا خطابه، لأن كل ذي عقل يعلم استحالة الصورة في حقه تعالى فلا يحصل الاشتباه من
صورة إبليس بصورته، وقوله فيها أنا الله بخلاف النبي فإنه ذو صورة مشهورة فاقتضت الحكمة ما سبق، ولأن مقتضى حكم الحق أن يضف وأن يهدي بخلاف النبي فهو مقيد يوصف الهداية وظاهر بصورتها فوجب عصمة صورته أن يظهر بها شيطان لبقاء الاعتماد وظهور حكم الهداية فيمن شاء الله تعالى هدايته به اهـ. وقال الحافظ في «الفتح» : اختلف في معنى قوله «فسيراني في اليقظة» فقيل معناه: سيرى تفسير ما رأى في اليقظة لأنه غيب ألقي فيه. وقيل معناه: سيراني في القيامة: أي رؤية خاصة من القرب منه أو نحوه من الخصوصيات، ولا مانع من أن الله تعالى يعاقب بعض عصاة المؤمنين يوم القيامة بمنعه رؤيا النبي مدة، وقد قال ابن التين: المراد من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذ غائباً عنه فيكون مبشراً له أنه لا بد من رؤياه له يقظة قبل الموت. وقال قوم: هو على ظاهره فيمن رآه مناماً فلا بد أن يراه يقظة بعيني رأسه، وقيل بعيني قلبه حكاهما ابن العربي. وقد نقل عن جمع من الصالحين رؤياه مناماً ثم رأوه بعد ذلك يقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى النجاة من ذلك وجاء الأمر كذلك، وهذا نوع من كرامات الأولياء وأكثر من يقع له ذلك، وقد صرح بوقوع هذه الكرامة جمع منهم الغزالي وابن العربي وابن عبد السلام، وفي كون(5/316)
المرئي جسمه أو مثاله خلاف، قال بالثاني الغزالي، وقال ابن العربي: إن رآه بصفته المعلومة فإدراك حقيقته وإلا فإدراك لمثاله، وقال المصنف: الصحيح أنه يراه حقيقة سواء رآه على صفته المعروفة أو غيرها، وأيد الحافظ قول من فرق بين كون المرئي بصفته أو بغيرها فيكون الأول حقيقة والثاني للمثال (متفق عليه) .
4841 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي يقول: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها) أي لحسن صورتها أو تأويلها (فإنما هي من الله) أي إنها لحسنها تضاف إليه تعالى كما يضاف إليه كل جميل (فليحمد الله عليها) يحتمل أن يكون المراد المبالغة في الحمد لذلك حتى إنه لكثرته كأنه علا على المنعم به، فعلى على بابها. وقد ورد «ما أنعم الله على عبد بنعمة فقال الحمد لله إلا كان ما أعطى خيراً مما أخذ» ويحتمل كونها تعليلية كهي في قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} (البقرة: 185) وفي الحديث طلب الحمد عند حدوث النعم وتجدد المنن فذلك سبب لدوامها (وليحدّث بها) أي من يحب كما بينه قوله (وفي رواية) وهي لمسلم في حديث أبي قتادة الآتي بعده (فلا يحدث به) أي بالمرئي المدلول عليه بالرؤيا، وفي نسخة مصححة منه «بها» بضمير الرؤيا (إلا من يحب) وذلك لأن العدو يحملها على بعض ما تحتمله مما فيه سوء للرائي فيكون ذلك لأن المنام الأول عابر، وزاد الترمذي «ولا تحدث بها إلا لبيباً أو حبيباً» (وإذا رأى غير ذلك) المذكور، وبين ذلك الغير بقوله (مما يكره) يحتمل كون ما مصدرية وكونها موصولة حذف عائدها المنصوب وكراهتها بقبح صورتها أو تأويلها (فإنما هي) أي الرؤيا، وتخالف الضميرين تذكيراً وتأنيثاً تفنن في التعبير (من الشيطان) أضافها إليه لكونه على هواه ومراده وقيل لأنه الذي يخيل بها ولا حقيقة لها(5/317)
في نفس الأمر (فليستعذ بالله من شرها) قال الحافظ: ورد في صفة التعوذ من شرّ الرؤيا أثر صحيح أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي قال «إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره فليقل إذا استيقظ: أعوذ بالله بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه أن يصيبني فيها ما أكرهه في ديني ودنياي» (ولا يذكرها لأحد) أي وإن كان حبيباً وعلى وجه التعبير وغيره، وفي حديث أبي هريرة عند الترمذي «وإذا رأى الرؤيا
القبيحة فلا يفسرها ولا يخبر بها أحداً» فعدم ذكرها لما فيه من شرّها من أسباب الوقاية من ضرّها كما قال (فإنها) أي الرؤيا المذكورة (لا تضره) أي لا يحصل له ضر بسببها فالإسناد إلى السبب (متفق عليه) .
5 - (وعن أبي قتادة) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب تحريم الظلم (قال: قال النبي: الرؤيا الصالحة. وفي رواية) للبخاري أواخر كتاب التعبير في حديث أبي قتادة المذكور (الرؤيا الحسنة) أي بدل الصالحة فالمراد منهما واحد، لأن الروايات يفسر بعضها بعضاً، والمراد الحسنة صورة والصالحة تأويلاً (من الله والحلم) بضم الحاء المهملة وسكون اللام قال في «النهاية» وتضم (من الشيطان) قال الزركشي: هذا تصرف شرعي بتخصيص الرؤيا بما يراه من الخير، والحلم بما يراه من الشرّ وإن كان في الأصل لما يراه من النائم. وفي «النهاية» : الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء، لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وغلب الحلم على ما يراه من الشرّ والشيء القبيح ويستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. وقال ابن الجوزي: الرؤيا والحلم واحد، غير أن صاحب الشرع خص الخير باسم الرؤيا والشرّ باسم الحلم (فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن يساره) قال القاضي عياض: أمر به طرداً للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيراً له واستقذاراً وخص بها البسار لأنها محل الأقذار ونحوها (ثلاثاً) منصوب على(5/318)
المفعولية المطلقة لينفث (وليتعوذ) أي بالله تعالى (من الشيطان) وذلك لأن الله تعالى قدر وجود ما يسوء من الرؤيا عند وجوده فإبعاده يقتضي إبعادها (فإنها) أي الرؤيا (لا تضرّه متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربعة.
(النفث: نفخ لطيف لا ريق معه) وتقدم ضبطه ومعناه.
6843 - (وعن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنه) الأولى عنهما لأنه صحابي ابن صحابي (عن رسول الله قال إذا رأى) أي في المنام (أحدكم) أي الواحد منكم (الرؤيا يكرهها) لصورتها أو لتأويلها، والجملة حال أو صفة مما قبله لتعريفه بأن الجنسية (فليبصق) بضم الصاد المهملة، قال في «المصباح» : وهي بدل من الزاي. قال الكازروني: والبزاق ماء الفم الذي يلفظ (عن يساره) لأنها الجهة المعدة للمستقذر والمكروه (ثلاثاً) زيادة في الإهانة للشيطان (وليستعذ بالله) أي بلسانه مع جنانه (من الشيطان) كأن يقول أعوذ بالله من الشيطان (ثلاثاً وليتحول عن جنبه الذي كان عليه) حين الرؤيا المكروهة تفاؤلاً بتحول الحال من الرؤيا القبيحة إلى الرؤيا المليحة نظير ما قيل في تحويل الإمام الرداء في خطبة الاستسقاء وجاء من حديث أبي هريرة مرفوعاً «إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث به الناس» متفق عليه كما في «المشارق» (رواه مسلم) في التعبير.
7844 - (وعن أبي الأسقع) بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح القاف بعدها عين مهملة ومثله في الضبط المذكور اسم أبيه، وقيل بل كنيته أبو شداد وبها بدأ المصنف في «التهذيب» وقيل أبو محمد وقيل أبو الخطاب وقيل أبو قرصافة بكسر القاف (وائلة) بكسر المثلثة (ابن الأسقع) وقيل ابن عبد الله بن الأسقع بن عبد العزّى بن عبد يا ليل بن ماست بن عنزة بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة الكناني الليثي (رضي الله عنه) قيل أسلم(5/319)
والنبي يتجهز إلى تبوك وشهدها معه وشهد فتح دمشق وحمص، وقيل إنه خدم النبي ثلاثاً، وكان من أهل الصفة، روى له عن النبي ستة وخمسون حديثاً، وانفرد البخاري عنه بحديث ومسلم بآخر، سكن الشام فسكن دمشق ثم استوطن ببيت (جبرين بارة) بقرب بيت المقدس، ودخل البصرة وله بها دار، توفي بدمشق سنة ست أو خمس وثمانين عن ثمان وسبعين سنة، قاله أبو مسهر. وقال سعد بن خالد: توفي سنة ثلاث وثمانين عن مائة وخمسين سنة، قال المصنف في «التهذيب» : والصحيح الأول (قال: قال رسول الله: إن من أعظم الفرى) بكسر الفاء وفتح الراء جمع فرية: وهي الكذبة العظيمة (أن يدعي الرجل إلى غير أبيه) عدى الادعاء بإلى لتضمنه معنى الانتساب، وإنما صار أعظم لأنه افتراء على الله تعالى لأن المدعي إلى غير أبيه كأنه يقول: خلقني الله من ماء فلان وإنما خلقه من ماء غيره (أو يرى) من الإراءة منصوب عطفاً على مدخلو أن: أي وأن يرى (عينيه ما لم تر) وفي رواية البخاري «ما لم تريا» أي يكذب في رؤياه بأن يقول: رأيت في منامي كذا ولم يكن يراه، وإنما كان أعظم لأن ما يراه النائم إنما يراه بإراءة الملك، والكذب عليه كذب على الله. وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال «من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل» الحديث. قال الطبراني: إنما أسند الوعيد على الكذب في المنام مع أن الكذب في اليقظة أشد مفسدة منه، إذ قد يكون شهادة في
قتل أحد أو أخذ مال، قال: لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين، وإنما كان الكذب في المنام كذباً على الله لحديث «الرؤيا الصالحة جزء من سنة وأربعين جزءاً من النبوة» فهو من قبل الله اهـ (أو يقول على رسول الله) أي ينسب إليه من الحدث (ما) أي شيئاً أو الذي (لم يقل) وقد صح متواتراً «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» (رواه البخاري) والله أعلم.(5/320)
5 - كتاب السلام
أي التحية، قال بعضهم: تحية عرفة الوقوف بها، وتحية منى الرمي بجمرة العقبة، وتحية المسجد ركعتان فأكثر، وتحية المسلم السلام عليه.
131 - باب فضل السلام والأمر بإفشائه
أي إظهاره وإشاعته ونشره.
(قال الله تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلو بيوتاً غير بيوتكم} ) التي تسكنوها ( {حتى تستأنسوا} ) أي تستأذنوا ( {وتسلموا على أهلها} ) بأن تقولوا السلام عليكم أأدخل؟ ويقول ذلك ثلاثاً فإن أذن له وإلا انصرف وإن كان بيت أمه وبنيه.
(وقال تعالى) : ( {فإذا دخلتم بيوتاً} ) قيل المراد بيوت أنفسكم ( {فسلموا على أنفسكم} ) أي على أهل بيتكم إن كان بها له أهل وإلا سلم على نفسه، وقيل المراد بيوت من أذن لكم في الأكل من بيوتهم من الأقرباء والأصدقاء والمعنى: فإذا دخلتم تلك البيوت المذكور أهلها في الآية فسلموا على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة، وقيل المعنى: إذا دخلتم بيوتاً خالية فقولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وعلى الأول(5/321)
جرى المصنف في «أذكاره» فقال: يستحب لداخل منزل أن يسلم سواء كان في البيت آدمي أم لا لقوله تعالى، فذكره، وقال: وفي الترمذي عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً «يا بنيّ إذا دخلت على أهلك فسلم تكن بركة عليك وعلى أهل بيتك» وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقيل غير ذلك مما بيناه فيما كتبناه على الأذكار المذكورة محبين بذلك فيكون حالاً (تحية) نصب على المصدر لأنها بمعنى التسليم، ويجوز أن يكون معناه: قولوا سلام الله عليكم ورحمته وبركاته فتكون حالاً (من عند الله) أي ثابتة بأمره من عنده (مباركة) يرجى بها زيادة الخبر (طيبة) تطيب بها نفس المستمع.
(وقال تعالى) : ( {وإذا حييتم بتحية} ) أي وإذا سلم عليكم ( {فحيوا بأحسن منها} ) أي بزيادة عليها، فإذا قال لكم أحد: السلام عليكم ورحمة الله، فقولوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ( {أو ردوها} ) كما سلم عليكم من غير زيادة، والزيادة سنة، والرد واجب في أصل السلام. وقال قتادة: الزيادة للمسلمين، والرد لأهل السنة.
(وقال تعالى) : ( {وهل أتاك حديث ضيف إبراهيم} ) فيه تعظيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه إنما عرفه بالوحي، والضيف كما تقدم في الأصل مصدر ولذا أطلق على الواحد والمتعدد، قيل كانوا اثني عشر ملكاً، وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل وسماهم ضيفاً لأنهم في صورة الإنسان ( {المكرمين} ) أي عند الله تعالى أو عند إبراهيم عليه السلام إذ خدمهم بنفسه وزوجته ( {إذ دخلوا عليه} ) ظرف للحديث أو الضيف أو المكرمين ( {فقالوا سلاماً قال سلام} ) أي عليكم عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى تكون تحيته أحسن من تحيتهم كما أوضحته في «شرح الأذكار» مرفوعين أو منصوبين والمآل إلى واحد.
1845 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً) قال السيوطي: قيل هو(5/322)
أبو ذرّ (قال: أيّ الإسلام) أي خصاً له (خير) أي أكثر ثواباً عند الله تعالى (قال: تطعم) على حلف أن: أي أن تطعم (الطعام) وذلك لما فيه من تحمل كلفة الفقر ودفع الحاجة عنه ودخل فيه جليل الطعام وحقيره وقليله وكثيره (وتقرأ السلام بفتح التاء والراء قال أبو حاتم تقول اقرأ عليه السلام ولا تقول اقرأه السلام، فإذا كان مكتوباً قلت أقرئه السلام: أي اجعله يقرأه (على من) أي الذين (عرفت ومن لم تعرف) والعائد فيهما محذوف (متفق عليه) .
2846 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: لما خلق الله تعالى آدم) أي أخرجه من كتم العدم إلى الوجود (قال: اذهب فسلم على أولئك) فيه إشعار بأنهم كانوا على بعد (نفر) بالخفض في الرواية، ويجوز الرفع والنصب ووصف النفر يقوله (من الملائكة) قال في فتح «الباري» : ولم أقف على تعيينهم (فاستمع) في رواية الكشميهني «فاسمع» (ما يحيونك) كذا لللأكثر من التحية، وعند أبي ذرّ من رواية البخاري بالجيم والموحدة من الإجابة وكذا رواه البخاري في «الأدب المفرد» (فإنها) أي كلماتهم التي يحيونك أو يجيبونك بها (تحيتك وتحية ذريتك من بعدك) أي فهذه تحيتكم من الشرع أو المراد بالذرية بعضهم وهم المسلمون (فقال: السلام عليكم) يحتمل أنه علم ذلك تنصيصاً ويحتمل أن آدم فهم ذلك من قوله تعالى «فسلم» ويحتمل أنه تعالى ألهمه أن يقول ذلك كما ألهمه الحمد عند العطاس (فقالو السلام عليك ورحمة الله) كذا للأكثر رواه البخاري في الاستئذان وبدء الخلق، ووقع للكشميهني فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله(5/323)
وعليها شرح الخطابي، وأفادت رواية الأكثر إجزاء رد السلام فيه باللفظ المبتدأ به (فزادوه ورحمة الله) ففيه مشروعية الزيادة في الرد على الابتداء وتقدم قوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها} وهل يزاد من قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته في الجواب على ما قال أولاً؟ الجمهور على الثاني، أخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس «انتهاء السلام إلى البركة» والبيهقي في الشعب قال «جاء رجل إلى ابن عمر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: حسبك إلى وبركاته انتهت» وعن عمر قال اشهر السلام إلى بركاته، وقال آخرون يجوز الزيادة على ذلك، قال أبو الوليد ابن رشد: يؤخذ من قوله تعالى: {فحيوا بأحسن منها} (النساء: 86) جواز الزيادة على وبركاته إذا انتهى إليها المبتدي (متفق عليه) رواه البخاري في مواضع من «صحيحه» منها كتاب الأنبياء ومنها في
الاستئذان ومسلم في صفة الجنة.
3847 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما) والحديث تقدم بطوله وفيه ذكر السبع المنهي عنها في باب تعظيم حرمات المسلمين وسبق شرحه ثمة (قال: أمرنا رسول الله) المراد منه هنا ما يشمل أمر الوجوب والاستحباب، إما من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه كما هو مذهب جمع من الائمة منهم إمامنا الشافعي أو من عموم المجاز الجائز عند الجميع (بسبع) بتقديم المهملة على الموحدة أو إعادة الجار في البدل فقال (بعيادة المريض) أي زيارته فيسن زيارة كل مريض من المسلمين بأيّ مرض كان وهي سنة وقيل فرض كفاية (واتباع) بتشديد الفوقية (الجنائز) أي تشييعها (وتشميت) بالشين المعجمة وبالمهملة كما سيأتي بسط معناهما (العاطس) أي إذا حمد الله تعالى (ونصر(5/324)
الضعيف) أي إعانته على من ظلمه بالحيلولة بينهما وإعلاء حجته (وعون المظلوم) بالقول والفعل حتى يندفع عنه أذى الظالم (وإفشاء) أي إشاعة (السلام وإبرار المقسم) أي الحالف على عمل شيء كان يقول إنسان والله ليصلين مثلاً فيطلب منك إعانته على إبرار قسمه بفعلك الصلاة لينجو من الحنث، وفي نسخة القسم بحذف الميم: أي وإمرار الحلف (متفق عليه) وهذا لفظ البخاري في الاستئذان لكن عنده المقسم وفيه ذكر المنهيات السبع.
4848 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا) فالجنة محرمة على الكافر قال تعالى: {إن الله حرمهما على الكافرين} () (ولا تؤمنوا) أي إيماناً كاملاً وحذفت النون من الفعل المرفوع ليشاكل ما قبله ويناسبه (حتى تحابوا) أي تتحابوا فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً: أي يحبّ بعضكم بعضاً، ولما كانت المحبة أمراً قهرياً لا اختيار فيه على الأصح في ذلك لكن الأسباب المؤدية إليها في الاختيار أرشد إليها بقوله (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟) الواو عاطفة دخلت أداة الاستفهام عليها مع معطوفها والمعطوف عليه متصيد من مفهوم الكلام أي أتسألون سبب التحابب أولا أدلكم الخ والتنوين في شيء يحتمل كونه للتعظيم باعتبار ثمرته وللتعليل باعتبار لفظه (أفشوا) بقطع الهمزة: أي أظهروا (السلام بينكم) وذلك أن الله تعالى جعل إشاعة السلام وإذاعته سبباً للتوادد، وقوله أفشوا جواب لمقدر كأنهم قالوا دلنا على ذلك (رواه مسلم) .(5/325)
5849 - (وعن أبي يوسف) فيه ستّ لغات بتثليث السين مع الهمزة، وإبدالها واواً وأفصحها ضماً، وهذه كنية (عبد الله بن سلام) بفتح المهملة وتخفيف اللام ابن الحارث الإسرائيلي الصحابي (رضي الله عنه) كان اسمه الحصين فسماه النبي عبد الله مشهور له أحاديث، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين، خرّج عنه الجميع كذا في «تقريب الحافظ» وفي «تهذيب» المصنف، كان حليفاً لبني الخزرج، وهو من بني نسقاع بتثليث النون، وهو من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام: كني بولده يوسف، أسلم حين قدوم رسول الله المدينة ونزل في فضله قوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبر تم} (الأحقاف: 10) وقوله تعالى: {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} (الرعد: 34) روي له عن رسول الله خمسة وعشرون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر اهـ (قال: سمعت رسول الله يقول) وذلك أول اجتماعه عليه (يا أيها الناس أفشوا) يقطع الهمزة: أي أشيعوا وانشروا (السلام) بينكم، والابتداء به سنة والرد واجب كفاية على الأصح (وأطمعوا الطعام) ندباً في نحو الضيافة، وفرض كفاية لسد حاجة المحتاج (وصلوا الأرحام) وتقدم وجوبها وتفاوت مراتبها في باب مستقل بها (وصلوا) من الصلاة ولا يخفى ما بينه وبين ما قبله من الجناس الخطي (بالليل) أي تهجدوا (والناس نيام) جملة حالية من فاعل صلوا، وقوله (تدخلوا الجنة بسلام) جواب لمقدر: أي إن فعلتم ما ذكر تدخلوها متلبسين بالسلام من الآفات التي تكون في غيرها وبه سميت دار السلام على أحد الأقوال، والمراد دخولها مع الناجين، وإلا فدخولها لأهل الإيمان واجب بالوعد الذي لا يخلف. ويحتمل أن المراد مطلق دخولها مع الناجين فيكون فيه تبشير فاعل هذه الأمور بالموت على الإسلام ليكون من أهلها (رواه الترمذي وقال حديث صحيح) .
6850 - (وعن الطفيل) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء وسكون التحتية (بن أبي) بضم ففتح(5/326)
فتشديد التحتية (بن كعب الأنصاري) المقرىء والده، وهو تابعي وليس صحابياً إنما الصحابي والده، فما في بعض النسخ من وقوله رضي الله عنه الموهم كونه صحابياً من تحريف الكتاب بلا ارتياب. (يقول) أي قال (إنه كان يأتي ابن عمر) لغرض من الأغراض (فيغدو) من الغدوّ وهو الذهاب، وهو ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس. قال في «المصباح» : هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في الذهاب الانطلاق، أي وقت كان، ومنه قوله (واغد يا أنيس) أي انطلق. قلت: وما نحن فيه الظاهر أنه من هذا الأخير (إلى السوق) مؤنثة معنوية، سميت بذلك لسوق البضائع إليها أو للوقوف فيها على الساق أو لتزاحم السوق. وأكد قال المقدر قبل بقوله (قال: فإذا عمدنا إلى السوق لم يمر عبد الله على سقاط) بفتح المهملة الأولى وتشديد القاف: وهو بياع السقط بفتحتين أي ردىء المتاع (ولا صاحب بيعة) بفتح الموحدة الواحدة من البيع والمراد بقرينة مقابله صاحب بيعة نفيسة (ولا مسكين) أي ذي حاجة (ولا أحد) من عطف العام على الخاص (إلا سلم عليه، قال الطفيل: فجئت عبد الله ابن عمر يوماً) أي لغرض (فاستتبعني) أي طلب مني أن أتبعه (إلى السوق فقلت له: ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع) بكسر ففتح: أي البضائع جمع سلعة كقربة وقرب (ولا تسوم بها) أي بالسوق (ولا تجلس في مجالس السوق) أي إنك لا تصنع شيئاً من الأغراض التي تصنع في الأسواق من شراء المتاع، وعبر عنه بقوله: لا تقف على البيع أو معرفة السلعة، وعبر عنها بقوله: ولا تسأل عن السلع أو مما كسبه الباعة، وعبر عنها بقوله ولا تسوم بها أو الجلوس لرؤية ما فيها، وإذا لم يكن واحد من أسباب الوصول إليها حاصلاً فما فائدة الذهاب؟ وعطف على قوله فقلت له الخ قوله (وأقول) وهو هنا كحكاية الحال الماضية: أي وقلت له (اجلس بنا ها هنا) أي في هذا المكان الذي
نحن به، وقوله (نتحدث) يجوز جزمه جواباً للشرط المقدر لكونه جواب الأمر ورفعه استئنافاً (فقال: يا أبا بطن) فيه جواز ذكر بعض خلق الإنسان على وجه الملاطفة، وبين الراوي تكنية الطفيل بها بقوله (وكان الطفيل ذا بطن) أي ناتىء ولم(5/327)
يكن بطنه مساوياً لصدره، والجملة معترضة بين القول والمقول الذي أتى به لبيان أن يكون ما ذكرت المطلوب من السوق مطلوب عرضي، فإن المطلوب الأعلى لقاصد المقام الأعلى ذكر الله تعالى فيها، لكونها محل الغفلة والالتهاء بأمور الدنيا عنه. وقد جاء في الحديث «ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارين» رواه الطبراني من حديث ابن مسعود، ومنه السلام لأنه من أسماء الله تعالى كما بيناه في «شرح الأذكار» ، فلما كان كذلك وهو المطلوب الأسمى (قال: إنما لغدو من أجل السلام) أي إفشائه ونشره (نسلم على من لقيناه) أي من عرفناه وغيره. (رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح) فهو موقوف، وفعل هذا الصحابي الجليل المعتدّ بالاتباع لذلك كأنه نقل ذلك عن المصطفى، بل قد جاء في وصفه في حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما «وكان يبدر من لقيه بالسلام» .
132 - باب كيفية السلام
(يستحب أن يقول المبتدىء بالسلام) واحداً كان أو أكثر على واحد أو أكثر، والقول اللفظ الموضوع، ولا بد في حصول السنة من رفع الصوت به، ثم إن كان المسلم عليه واحداً فحتى يسمعه أو أكثر فحتى يسمع بعضهم (السلام عليكم) متعلق الخبر محذوف: أي رقيب أو مطلع، ويجوز أن يكون السلام إما مصدراً أواسم مصدر، ويؤيده عطف قوله (ورحمة الله) أي نعمته (وبركاته) أي خيراته الدائمة الثابتة، وعلى الأخير فحذف المضاف إليه من الأول لدلالة ما بعده عليه (فيأتي) أي المبتدىء (بضمير الجمع) ندباً (وإن كان المسلم عليه واحداً ذاكراً كان أو أنثى جليلاً أو حقيراً وينوي المسلم عليه ومن يحضره من الملائكة، فإن أفرد الضمير جاز في أداء السنة، وكمالها جمعه للجمع (ويقول المجيب) للمبتدىء واحداً كان أو أكثر (وعليكم السلام) الواو عاطفة للدعاء منه على الدعاء من المبتدىء، ولو قدم المبتدىء فقال السلام عليكم ناوياً الرد أجزأه كما تقدم في حديث أول(5/328)
الباب (ورحمة الله وبركاته) ولا يزيد على ذلك لما تقدم لأن البادي ما ترك للمجيب ما يزيد حتى يأتي به (ويأتي) أي المجيب ندباً (بواو العطف) أي لا واو الاستئناف (في قوله وعليكم) أي فيقصد أن جوابه مشارك لسلام المبتدىء في التعاون على إفشاء السلام.
1851 - (وعن عمران بن الحصين) كذا في الأصول بزيادة أل في اسم أبيه، وتقدم ضبطه وأنه بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية (رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي فقال) أي الرجل (السلام عليكم فرد) أي النبي (عليه) أي بأن قال له وعليكم السلام (ثم جلس فقال النبي: عشر) أي ما يأتي به من الدعاء بالسلام حسنة وهي بعشر (ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله) فرد عليه (ظاهر اللفظ أنه قال وعليكم السلام ورحمة الله، ويحتمل أنه زاد في الرد فيها وفيما قبلها (فجلس) أي الرجل (فقال عشرون) أي الدعاء بالسلام والدعاء بالرحمة عشرون حسنة لما مر (ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال: ثلاثون) أي حسنة، لأن الحسنة يجزي صاحبها بعشر أمثالها، وذلك بناء على أن كلاً من السلام ورحمة الله وبركاته حسنة مستقلة، فإذا أتى بواحدة منها حصل له عشر حسنات، وإن أتى بها كلها حصل له ثلاثون حسنة. وجعل العاقولي في «شرح المصابيح» الحسنات للرادّ فقال: فإذا أتى الردّ بواحدة منها حصل له عشر حسنات، والاحسن ما قاله المظهري من أن ذلك لكل من البادىء والرادّ، وبالجملة فأفضل صيغ الابتداء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأفضل صيغ الرد وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وأقل الرد عليكم السلام لا مجرد قوله عليكم أو وعليكم من غير ذكر السلام (رواه أبو داود في الأدب والترمذي وقال: حديث حسن) .(5/329)
2852 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله) هذا يقتضي أنه كان حاضراً حينئذ كما هو أصل وضع اسم الإشارة (جبريل) وجملة (يقرأ عليك السلام) بفتح التحتية والراء في محل الحال من جبريل، قيل والعامل فيها ما في هذا من معنى الفعل وهو أنبه أو أشير أو خبر بعد خبر أو خبر جبريل عطف بيان، لهذا (قالت قلت) امتثالاً لقوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} (النساء: 86) (وعليه السلام ورحمة الله وبركاته) فأتت بأحسن صيغ الرد وما ذكرته من أنها زادت بناءاً على ما يومىء إليه ظاهر قوله يقرأ عليك السلام. ويحتمل أن مراده أن جبريل يقرأ عليك السلام التام وأتى به بأفضل صيغ الابتداء، فيكون ما صنعته عائشة من الرد بالمثل لأنه لم يبق بعد وبركاته ما يزاد كما تقدم (متفق عليه) أخرجه البخاري في بدء الخلق وفي غيره، ورواه مسلم في الأدب (وهكذا) أي ومثل ما ذكر إلى قوله وبركاته (وقع في بعض روايات الصحيحن وبركاته) وهكذا هو عند البخاري في بدء الخلق، وفي رواية له أيضاً في الاستئذان (وفي بعضها) وهي رواية البخاري في باب الاستئذان أيضاً (بحذفها) وأشار المصنف إلى ترجيح رواية إثباتها بقوله (وزيادة الثقة مقبولة) عند الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث كما حكاه عنهم الخطيب سواء تعلق بها حكم شرعي أم لا. وسواء أوجبت نقصاً من أحكام ثبت بخبر ليست فيه تلك الزيادة أم لا، وسواء كان ذلك من شخص واحد بأن رواه مرة ناقصاً وأخرى بتلك الزيادة من غير من رواه أم كانت الزيادة من غير من رواه ناقصاً، وقد ادعى ابن ظاهر الاتفاق على هذا القول عند أهل الحديث. وفي المسألة أقوال مذكورة في علم الأثر. وفي الحديث جواز سلام الرجل الأجنبي على المرأة عند أمن الريبة. قال العيني في «شرح البخاري» : إن قلت: هلاّ واجه جبريل عائشة كما واجه مريم؟ قلت: وجه ذلك أنه لما قدر وجود عيسى عليه السلام من غير أب بعث جبريل ليعلمها تكونه قبل كونه
لتعلم أنه يكون بالقدرة فتسكن في(5/330)
زمن الحمل، ثم بعث إليها عند الولادة لكونها في وجد فقال {لا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً} فكان خطاب الملك لها فيا لحالتين لتسكن ولا تنزعج. وجواب آخر أن مريم كانت خالية من زوج فواجهها بالخطاب، وأم المؤمنين احترمت لمكان سيد الأمة كما احترم الشارع قصر عمر رضي الله عنه الذي رآه في المنام خوفاً من الغيرة، وهذا أبلغ في فضل عائشة لأنه إذا احترمها جبريل الذي لا شهوة له حفظاً لقلب زوجها سيد الأمة كان ما قيل فيها من الإفك أبعد. وجواب آخر أنه خاطب مريم لكونها نبية على قول وعائشة لم يذكر عنها ذلك اهز والجواب الآخر ساقط الاعتبار، زاد البخاري في روايته عن عائشة «أنها قالت: ترى مالا نرى يا رسول الله» أي إنه يرى الملك حينئذ وهي لا تراه وفيه إمكان رؤية الملك.
3853 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي كان إذا تكلم بكلمة) المراد منها المعنى اللغوي الصادق بالجملة والجمل: أي إذا نطق بما يعسر فهمه من الجمل. (أعادها) أي ذكرها (ثلاثاً) وليس معمول أعاد لأنه يقتضي حينئذ أنه تكلم بها أربعاً، وهو خلاف المراد وقد علل ذكرها ثلاثاً بقوله (حتى تفهم) بالبناء للمجهول: أي تؤخذ (عنه) تلك الكلمة، وهذا من كمال حسن خلقه ومزيد شفقته ورحمته بالعباد والاقتصار على الثلاث إشعار بأن مراتب الفهم كذلك أعلا وأوسط وأدنى. ومن لم يفهم في ثلاث لا يفهم ولو زيد عليه مرات (وإذا أتى قوماً فسلم عليهم ثلاثاً رواه البخاري) هكذا في كتاب العلم، ورواه فيه مسلم أيضاً فقال «وإذا سلم ثلاثاً» وزيادة الثقة مقبولة، ولذا قال المصنف (وهذا) أي تكرار السلام ثلاثاً (محمول على ما إذا كان بالجمع) المومىء إليه قوله قوم (كثيراً) بأن لا يعمهم قوله السلام عليكم مرة أو مرتين وإنما يعمهم الثلاث، ويؤخذ منه أنه لو كثر الجمع جداً بحيث لا يعمهم التسليم ثلاثاً زيد عليه بقدر ما يعمهم، وهذا منه جبر لخواطر الجمع، وإلا فأصل سنة الإسلام تحصل بسماع بعض الجمع والمسلم عليهم كما مر، والحديث رواه أحمد والترمذي كما في «الجامع الصغير» .(5/331)
4854 - (وعن المقداد) بن الأسود الكندي، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب إجراء أحكام الناس على ظواهرهم (في حديثه الطويل قال: كنا) هو وصاحبه اللذان أعطاهما النبي الشاتين يشربوا من درّهما وليشرب معهما النبي كما في الحديث (نرفع للنبي نصيبه من اللبن) المحلوب (فيجىء من الليل) أي أثناء، فمن للتبغيض (فيسلم تسليماً بصوت متوسط بين أقل الجهر وما فوقه كما يؤخذ من قوله (لا يوقظ نائماً) وذلك لنزوله عن أعلا الجهر الموقظ للنائم (ويسمع اليقظان) لوجود أصل الجهر فيؤخذ منه استحباب ذلك لمن دخل على قوم فيهم نيام (فجاء النبي) أي على عادته وذلك بعد أن يصلي ما كتب له (فسلم كما كان يسلم) والكاف فيه مفعول مطلق صفة مصدر مقدر، وسكت المصنف عن تتمة الحديث المشتمل على معجزة له من إيجاد اللبن أكثر من عادته من شاة قد حلبت قبل ذلك بزمن يسير لعدم تعلق غرض الباب هنا وذلك بجملته في «الأذكار» ، وذكرنا في الشرح ما يتعلق به (رواه مسلم) في الأطعمة ورواه الترمذي في الاستئذان والنسائي في اليوم والليلة.
5855 - (وعن أسماء) بالمد (بنت يزيد) بفتح التحتية الأولى وسكون الثانية وكسر الزاي بينهما ويزيد بن السكن بفتح المهملة والكاف ابن رافع بن امرىء القيس بن يزيد بن عبد الأشهل ابن جشم، وكنيتها أم سلمة، ويقال أم عامر الأنصارية تقدمت ترجمتها (رضي الله عنها) في كتاب اللباس (أن رسول الله مر في المسجد) الظاهر أن أل فيه للعهد الذهني: أي المسجد النبوي ويحتمل غيره (يوماً وعصبة) بضم المهملة الأولى وسكون الثانية بعدها موحدة قال في «المصباح» : العصبة من الرجال قال ابن فارس: نحو العشرة، وقال أبو يزيد: من العشرة إلى الأربعين، والجم عصب كغرفة وغرف اهـ. وظاهر أن الخلاف في عصبتهم جار فيهن والله أعلم. (من النساء) صفة للنكرة قبلها وبه ساغ الابتداء بها (قعود) جمع قاعد والتذكير باعتبار الشخص وإلا فجمع قاعدة وصف المؤنث قواعد (فألوى) أي(5/332)
أشار (بيده بالتسليم) رواه الترمذي في الاستئذان (وقال: حديث حسن) قال: قال ابن حنبل لا بأس بعبد الحميد، يعني ابن بهرام هن شهر بن حوشب، أي الراوي للخبر عن ما ذكر عنها ورواه ابن ماجه أيضاً في الأدب (وهذا محمول على أنه جمع بين اللفظ) فقال لهن السلام عليكن (والإشارة) باليد اليمين لتنبههن لسلامه وكان ذلك لعدم مبالغته في الجهر بالسلام مع بعدهن في الجملة (ويؤيده أن في رواية أبي داود) عن أسماء في كتاب الأدب من «سننه» «مر علينا رسول الله (فسلم علينا) وهو ظاهر في السلام اللفظي والجمع بين الروايات خير من إلغاء بعضها وقد جاء أيضاً عند الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعاً «ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسلمي اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالكف» قال الترمذي: إسناده ضعيف، فوجب حمل ما ورد من أنه أشار بالسلام على أنه جمع معه اللفظ به لئلا يخالف القول على أنه لو لم يجمع بذلك وأبقى على أنه أشار من غير لفظ مبيناً أن النهي تنزيهي لا تحريمي لم يكن
فيه محذور، لكن الأول أولى فلذا سلكه المصنف هنا، وفي «الأذكار» قال الحليمي: وكان النبي للعصمة مأموناً من الفتنة فمن وثق بنفسه في السلام فليسلم وإلا فالصمت أسلم.
6856 - (وعن أبي جرى) بصيغة التصغير فيه وفي قوله (الهجيمي) كما تقدّم بيان ذلك مع ترجمته (رضي الله عنه) في كتاب اللباس (قال: أتيت النبي فقلت عليك السلام يا رسول الله) أي مبتدأ بذلك (قال) حذف العاطف لأن القصد بيان ما صدر من النبي عند ذلك القول من غير قصد لربط هذه القصة بقصة الإتيان (فقال: لا تقل) أي ندباً (عليك السلام) في الابتداء (فإن عليك السلام تحية الموتى) هو إخبار عن عوائد الجاهلية الجاري على ألسنتهم فيها وجرى عليه الشعراء كثيراً حتى قال من رأى عمر بن الخطاب: عليك السلام من أمير وباركت والأخبار عن الواقع لا يدل على الجواز فضلاً عن(5/333)
الاستحباب: أي إن هذا اللفظ يستحب في تحية الموتى فرقاً بينها وبين تحية الأحياء وإن جرى عليه في «المفاتيح» فتعين المصير إلى ما ورد عنه من تقديم لفظ السلام حين السلام على الموتى، فإن تخيل متخيل في الفرق أن السلام على الأحياء يتوقع جوابه فقدم الدعاء على المدعو له بخلاف الميت، قلنا: والسلام على الميت يتوقع جوابه أيضاً كما ورد به الحديث، وقد بسطت الكلام فيه في «شرح الأذكار» وأصله من ابن القيم في «بدائع الفوائد» (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وقد سبق بطوله) مشروحاً في كتاب اللباس.
133 - باب آداب السلام
أي بالنظر إلى مؤديه والمبادرة به.
1857 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: يسلم الراكب علة الماشي) قال السيوطي: هذا خبر بمعنى الأمر وفي رواية أحمد ليسلم (والماشي) وعند أبي داود: المارّ (على القاعد والقليل على الكثير) قال ابن بطال عن المهلب: تسليم الماشي لتشبيهه بالداخل على أهل المنزل وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع وتسليم القليل لأجل حق الكثير لأن حقهم أعظم. وقال ابن العربي: حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوع مَّا يبدأ الفاضل (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأدب من «صحيحه» من طريقين ومسلم في الاستئذان (وفي رواية للبخاري) هي في الأدب أيضاً (والصغير على(5/334)
الكبير) لكن بلفظ «يسلم الصغير على الكبير» قال ابن بطال: وذلك لأن الصغير مأمور بتوقير الكبير والتواضع له.
2858 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين (صديّ) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وتشديد الياء (ابن عجلان الباهلي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن أولى الناس بالله) أي أحقهم بالقرب منه بالطاعة (من بدأ بالسلام) وذلك لما صنع من المبادرة إلى الطاعة والمسارعة إليها مع ما فيه من حمل المجيب على الرد بالتسبب فيها (رواه أبو داود بإسناد جيد، ورواه الترمذي) في الاستئذان في «جامعه» .
(وعن أبي أمامة) أيضاً (قيل) أي سئل رسول الله وقيل (يا رسول الله الرجلان يلتقيان) أي سواء كان يقصد منهما اللقاء أو من أحدهما أولا قصد لأحد (أيهما يبدأ بالسلام قال: أولاهما بالله) قال ابن رسلان: ومعنى الروايتين أقرب الناس من الله بالطاعة من بدأ أخاه بالسلام عند ملاقاته لأنه السابق إلى ذكر الله ومذكره، ورواه البيهقي في «الشعب» عن ابن مسعود يرفعه «إذا مرّ الرجل بالقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل لأنه ذكرهم السلام، وإن لم يردوا عليه رد عليه ملأ خير منهم وأطيب» قال القرطبي: الأولى بمبادرة السلام ذوي المراتب الدينية كأهل العلم، والفضل احتراماً لهم وتوقيراً، بخلاف أهل المراتب الدنيوية (وقال الترمذي: حديث حسن) وقدمنا أن الجيد عندهم نحو الحسن فوقه.(5/335)
134 - باب استحباب إعادة السلام
أي ذكره عند اللقاء (على من تكرر لقاؤه على قرب بأن دخل) أي مكان حصل به إدباره عن القوم الذين كان معهم على قرب، وقوله (ثم خرج) أي فوراً كما يدل عليه قوله على قرب وقوله (ثم دخل في الحال) أي وخرج منه فثم فيه مستعارة بمعنى الفاء (أو حال بينهما مشجرة) تمنع من رؤية أحدهما الآخر لغلظ أصلها، فإن لم تحل لرقتها ويرى كل منهما صاحبه مع وجودها بينهما فلا لانتفاء الحيلولة العرفية (ونحوها) كجدار وجبل.
1859 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المسيء صلاته) بالنصب على المفعولية ويجوز الرفع على الإسناد كجري النهر وترك تأنيث الفاعل لأن التأنيث مجازي وهو رافع ابن خلاد الزرقي الأنصاري رضي الله عنه (أنه جاء) إلى المسجد (فصلى) أي تحيته والنبي ينظر إلى صلاته (ثم جاء إلى النبي) قال الزركشي في أحكام المساجد: فيه أن السنة لداخل المسجد، وفيه جماعة أنه يقدم تحيته على السلام عليهم وذلك لأن حتى الله تعالى مقدم على حق عباده (فرد عليه السلام فقال) أي بعد رده عليه حالاً (ثم جاء) أي من مصلاه إلى النبي وقد فصل بينه وبينه فاصل كسارية ونحوها بدليل قوله (فسلم على النبي) أي فرد عليه (حتى فعل ذلك ثلاث مرات) وإنما تركه يصلي ثانياً مع إخلاله بها أولاً ثم ثالثاً مع إخلاله بها ثانياً قيل لتجويزه ذلك الصحابي بمصححاتها، وإنما تساهل في استيفاء ذلك فلذا لما أخبره آخراً بأنه لا يعلم سوى ما يعمل أرشده إلى بيان ذلك وليس ذلك من تأخير البيان عن الحاجة (متفق عليه) .(5/336)
2860 - (وعنه عن رسول الله قال: إذا لقي) بكسر القاف (أحدكم) والظاهر أن المراد به معنى العموم لكونه في سياق الشرط وهو الأقرب (أخاه) عبر به بعثاً على أداء ما بعده (فليسلم عليه) أي يبدأ به ندباً (فإن حال بينهما شجر أو جدار أو حجر) يمنع الرؤية بحيث يعد فاصلاً عرفياً بدليل قوله (ثم لقيه) وثم فيه المراد بها ما يشمل حصول التلاقي عن قرب (فليسلم عليه) أي يأتي به حينئذ لأن هذا لقاء جديد وهو مقتضي لطلب البدء بالسلام ولا يمنع قرب ما قبله له (رواه أبو داود) ورواه ابن ماجه والبيهقي في «شعب الإيمان» .(5/337)
135 - باب استحباب السلام إذا دخل بيته
أي وإن لم يكن فيه أحد أخذاً بعموم الآية التي أشار إليها المصنف حيث قال:
(قال الله تعالى) : ( {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} ) وقد تقدم تفسيرها أول كتاب السلام.
1861 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله: يا بني) بضم الموحدة وفتح النون وبتشديد الباء وتحريكها بفتحة تخفيفاً، أو بكسرة دالة على ياء المتكلم المضاف إليها المحذوفة للتخفيف وبهما قرىء، ورأيتها في الأصول المصححة بفتح الياء (إذا دخلت على أهلك فسلم) أي عليهم (يكن) أي سلامك، وفي نسخة بالفوقية فالتأنيث لمراعاة الخبر أو لأنه بمعنى التحتية أي تكن التحية (بركة عليك وهي أهل بيتك) ويجوز رفع بركة وتأنيث فعله على أنه تام أي توجد بركة على من ذكر بسبب السلام كما يومىء إليه السياق والأول أولى (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال في «الأذكار» : يستحب(6/341)
إذا دخل بيته أن يسلم وإن لم يكن فيه أحد وليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وكذا إذا دخل مسجداً أو بيتاً لغيره ليس فيه أحد يستحب أن يسلم ويقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين والسلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته.
136 - باب السلام على الصبيان
بكسر المهملة وضمها جمع صبي، قال في «القاموس» : ويجمع على صبية وصبوان بكسر أوله وضمه، والمراد المميزون منهم لأنهم أهل الخطاب، ويحتمل مطلقاً وإن لم يصلوا إلى حد التمييز ممن له أصل الإدراك زيادة في التواضع، ثم رأيت المصنف في شرح مسلم قال في استحباب السلام على الصبيان المميزين.
1862 - (عن أنس رضي الله عنه أنه مرّ على صبيان فسلم عليهم وقال: كان رسول الله يفعله) أي كثيراً كما يومىء إليه العرف، قال الكرماني: هذا من خلقه العظيم وأدبه الشريف. وفيه تدريب لهم على تعلم السنن ورياضة لهم بآداب الشريعة ليبلغوا متأدبين بآدابها (متفق عليه) أخرجاه في الاستئذان، وكذا رواه الترمذي في الاستئذان من «جامعه» وقال صحيح، ورواه النسائي في «اليوم والليلة» .
137 - باب سلام الرجل على زوجته والمرأة من محارمه
أي المحرم نكاحها عليه لذاتها على التأييد بسبب مباح من نسب أو رضاع أو مصاهرة (وعلى أجنبية لا يخاف الفتنة بهن) هو قيد في المعطوف: أي الاجنبيات(6/342)
وكذا الأجنبية (وسلامهن بهذا الشرط) أي أمن الفتنة فيسن السلام للنساء إلا مع الرجال الأجانب فيحرم السلام عليهم من الشابة ابتداء ورداً خوف الفتنة، ويكره ابتداء السلام ورده عليها إلا إن سلم جمع كثير من الرجال عليها فلا كراهة إن لم يخف الفتنة، ولا يكره ابتداء السلام على جمع نسوة أو عجوز لانتفاء خوف الفتنة بل يندب الابتداء به منهن على غيرهن وعكسه ويجب الرد كذلك هذا تفصيل أحكام المسألة عند أصحابنا الشافعية.
1863 - (عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال كانت فينا امرأة) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمها (وفي رواية كانت لنا عجوز) هي المرأة المسنة، قال في «المصباح» : قال ابن الانباري: ويقال أيضاً عجوزة بالهاء لتحقيق التأنيث. وروى عن يونس أنه قال: سمعت العرب تقول عجوزة بالهاء والجمع عجائز وعجز بضمتين (تأخذ من أصول السلق) بكسر بكسر المهملة وسكون اللام آخره قاف: بقل معروف (فتطرحه) أي المأخوذ (في القدر) بكسر القاف: الإناء الذي يطبخ فيه (وتكركر حبات) أي قليلات كما يدل عليه منون جمع السلامة (من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا نسلم عليها فتقدمه إلينا) والمحدث عنهم جمع من الأنصار من بني ساعدة أو من غيرهم (رواه البخاري) في مواضع من «صحيحه» منها الجمع ومنها الاستئذان (قوله تكركر) بضم الفوقية وكسر الكاف الثانية (أي تطحن) قال في «النهاية» كركرى أي اطحنى، والكركرة: صوت يردده الإنسان في جوفه.
2864 - (وعن أم هانىء) بالهمزة في آخره وتسهل (فاختة) بالخاء المعجمة والمثناة الفوقية (بنت أبي طالب) القرشية الهاشمية، هي شقيقة عليّ رضي الله عنه، خرج حديثها الجماعة،(6/343)
ولها في الصحيحين حديثان، واحد متفق عليه وهو حديثها في صلاة الضحى، والثاني في حديث مسلم الذي نحن فيه روى عنها ابنها جعد وحفيدها جعدة وعودة وطائفة، ماتت (رضي الله عنها) في زمن معاوية (قالت: أتيت النبي يوم الفتح) أي وهو بالأبطح (وهو يغتسل) جملة حالية من مفعول أتيت (وفاطمة تستره) عن العيون (فسلمت) وجه الدليل منه تقريره لأمن الفتنة، إذ لو حرم سلام الأجنبية مطلقاً لبينه لها (وذكرت الحديث) . وفيه تنفيذ النبي جوارها وأمن جارها الذي أراد علي رضي الله عنه قتله (رواه مسلم) في باب الطهارة.
3865 - (وعن أسماء بنت يزيد) الأنصارية (رضي الله عنها قالت: مرّ النبي علينا في نسوة) حال من المجرور بعلى وهو بكسر النون أفصح من ضمها اسم الجماعة إناث الأتاسي الواحدة امرأة من غير لف «الجمع ومثله في ذلك نسوان ونساء (فسلم علينا) أي عند المرور من غير تراخ (رواه أبو داود والترمذي) كما تقدم في باب كيفية السلام (وقال حديث حسن) ولما أوهم كلام المصنف أنه بهذا اللفظ عندهما نبه على تحقيق الأمر بقوله (وهذا) أي اللفظ المذكور لفظ أي داود، ولفظ الترمذي من حديثها: أن رسول الله مرّ في المسجد يوماً وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم وتقدم من(6/344)
المصنف مثل ما ذكر هنا في باب كيفية السلام.
138 - باب تحريم ابتداء الكافر بالسلام
وذلك لما فيه من التسبب للتحاب معه والتواد وقد نهى الله عن ذلك، قال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} (المجادلة: 22) الآية (وكيفية الرد عليهم) أي إذا بدءونا به وهو واجب بالصيغة الآتية (واستحباب السلام على أهل مجلس فيه مسلمون وكفار) بقصد المسلمين.
1866 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام) هو نهى تحريم، قال المصنف في «شرح مسلم» : هذا الحديث دليل مذهبنا ومذهب الجمهور من تحريم ابتداء الكفار بالسلام، وذهبت طائفة إلى جواز ابتدائنا لهم بالسلام، روى ذلك عن جمع منهم ابن عباس وآخرون، وهو وجه لبعض أصحابنا حكاه الماوردي لكنه يقول: السلام عليك لا عليكم، واحتج هؤلاء بعموم أحاديث الأمر بانشاء السلام وهي حجة باطلة لأنه مخصوص بهذا الحديث. ثم حكى المصنف قولاً بكراهة ابتدائهم وضعفه وصوب أن النهي فيه للتحريم وأنه يحرم ابتداؤهم به، وقولاً آخر أنه يجوز ابتداؤهم به لضرورة وحاجة وسبب وهو قول علقمة في آخرين (فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه) أي فألجئوه بالتضييق عليه (إلى أضيقه) وهذا عند الزحام فيركب المسلمون صدر الطريق فإن خلت الطريق عن الزحمة فلا حرج، وليكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه نحو جدار (رواه مسلم) في الاستئذان، قال السيوطي في «الجامع الكبير» : ورواه أحمد في «مسنده» أبو داود والترمذي وابن حبان.(6/345)
2867 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا سلم عليكم أهل الكتاب) هو شامل للذمي والحربي (فقولوا) وجوباً، قاله المصنف وحكى قولاً بعدم الوجوب وضعفه (وعليكم) وجهه في حديث ما جاء في حديث آخر عند مسلم «إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم، فقل عليك» وفي رواية فقال «فقل وعليك» قال المصنف: اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا لكن لا يقال لهم إذا سلموا وعليكم السلام، بل يقال عليكم أو وعليكم. وقد جاءت عند مسلم أحاديث بإثبات الواو وحذفها وأكثر الروايات إثباتها، وعليه ففي معناها وجهان: أحدهما أنه على ظاهره من العطف فقالوا عليكم فقال وعليكم أيضاً: أي نحن وأنتم فيه سواء: أي كلنا نموت. والثاني أن الواو للاستئناف لا للعطف والتشريك، والتقدير: وعليكم ما تستحقونه من الذم، وأما من حذف الواو فالتقدير عنده عليكم السام. قال المصنف بعد أن حكى عن ابن حبيب المالكي ترجيح حذف الواو لئلا يقتضي التشريك، وعن الخطابي أنه بعد نقله عن عامة المحدثين أنهم ترجيح حذف الواو لئلا يقتضي التشريك، وعن الخطابي أنه بعد نقله عن عامة المحدثين أنهم يروون هذا الحرف وعليكم بإثبات الواو، وأنّ ابن عيينة يرويه بغير واو صوّب رواية حذفها قال: لأنها إذا حذفت صار الكلام بعينه مردوداً عليهم خاصة، وإذا أثنتت اقتضت المشاركة معهم فيما قالوه اهـ. والصواب أن إثبات الواو وحذفها جائزان كما صحت به الروايات وأن الواو أجود كما هو في أكثر الروايات، ولا مفسدة فيه لأن السام هو الموت وهو علينا وعليهم فلا ضرورة في قوله بالواو اهـ (متفق عليه) أخرجاه في الاستئذان، ورواه أحمد الترمذي وابن حبان.
3868 - (وعن أسامة رضي الله عنه: أن النبي مرّ) وذلك في توجهه لعيادة سعد بن عبادة(6/346)
كما في مسلم على مجلس فيه أخلاط (جمع خلط بكسر المعجمة كحمل وأحمال من المسلمين والمشركين) من فيه للبيان (عبدة الأوثان) أي ممن لم يسلم حينئذ من قبيلة الأنصار فإنهم كانوا قبل الإسلام عبدة أوثان (واليهود) الظاهر أنه معطوف على المشركين فيكون قسيماً لهم، ويجوز أن يكون عطفاً على عبدة الأوثان فيكونان قسيمين للمشركين. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: و {لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} (البقرة: 22) مبيناً شمول الشرك لأهل الكتاب، والمشركات يعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله} (التوبة: 30) إلى أن قال {سبحانه عما يشركون} (التوبة: 31) (فسلم عليهم النبي) ولا شبهة أن سلامه متوجه إلى المؤمن منهم للنهي عن ابتداء غيره بالتحية (متفق عليه) أي بمعناه، فقد أخرجه مطولاً البخاري في الجهاد وفي اللباس والاستئذان والتفسير وغيرها ومسلم في المغازي، وأخرجه النسائي أيضاً، وهذا اللفظ المختصر أخرجه الترمذي في الاستئذان كما قاله المزي في «الأطراف» .
139 - باب استحباب السلام إذا قام من المجلس وفارق جلساءه إن كانوا جمعاً أو جليسه الواحد
1869 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا انتهى أحدكم) أي(6/347)
الواحد منكم (إلى المجلس) الذي يريد الجلوس به (فليسلم) ظاهره وإن لم يكن ثم أحد وتقدم ما يدل على ذلك (وإذا أراد أن يقوم) أي من ذلك المجلس (فليسلم) أي عقب قيامه فعند الترمذي «ثم إذا قام فليسلم» ويحتمل أن يسلم إذا أراد القيام لذلك فيكون مثل قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن} (النحل: 98) أي أردت قراءته (فليست الأولى) أي التسليمة الأولى (بأحق من الآخرة) قال الطيبي: قيل كما أن التسليمة الأولى إخبار عن سلامتهم من شره عند الحضور فكذا الثاني إخبار عن سلامتهم من شرّه عند الغيبة، وليست السلامة عند الحضور أولى من السلامة عند الغيبة بل الثانية أولى (رواه أبو داود) في الأدب وها لفظه (والترمذي) في الاستئذان (وقال حديث حسن) .
140 - باب الاستئذان
أي طلب الإذن في الدخول على من بالمنزل (وآدابه) بالمد جمع أدب وتقدم تعريفه. (قال الله تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا} ) خاطبهم بذلك إيماء لشرف الإيمان وأنه أعظم ما يفرد بالذكر وينوه به من شرف الخصال ( {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا} ) أي تستأذنوا ( {وتسلموا على أهلها} ) وتقدم الكلام على بعض فوائد الآية أول كتاب السلام.
(وقال تعالى) : ( {وإذا بلغ الأطفال منكم} ) أيها الأحرار ( {الحلم} ) بضم(6/348)
المهملة واللام: أي أوان أن يحتلموا وذلك بأن صاروا مراهقين ( {فليستأذنوا} ) في جميع أوقات الدخول ( {كما استأذن الذين من قبلهم} ) أي من البالغين الأحرار.
1870 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله الاستئذان) أي طلب الإذن من ربّ المنزل (ثلاث) وذلك لأنها أقل الكثير وأكثر القليل ومن لم يتنبه عندها لا يتنبه غالباً بعدها كما تقدم (فإن أذن) بالبناء للمفعول ونائب فاعله قوله (لك) وجواب الشرط محذوف لدلالة السياق عليه: أي فأدخل (وإلا) أي وإلا يؤذن لك بعدها (فارجع) قال المصنف في «شرح مسلم» : أما إذا استأذن فلم يؤذن له أو ظن أنه لم يسمعه ففيه ثلاثة مذاهب: أظهرها أنه ينصرف ولا يعيد الاستئذان. والثاني يزيد فيه. والثالث إن كان بلفظ الاستئذان الآتي لم يعده وإن كان بغيره أعاده، فمن قال بالأظهر فحجته قوله «وإلا فارجع» ومن قال بالثاني حمل الحديث على من علم أو ظن أنه سمعه فلم يأذن اهـ (متفق عليه) روياه في الاستئذان واللفظ لمسلم، وللبخاري بمعناه(6/349)
ولفظه من حديث أبي موسى مرفوعاً «إذا أستأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع» وهو عند مسلم أيضاً واللفظ الذي ذكره المصنف رواه الترمذي أيضاً.
2871...........
3872 - (وعن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة وتشديد الياء (ابن حراش) بالمهملتين المكسورة أولاهما وآخره شين معجمة وهو العبسى بفتح المهملة وسكون الموحدة تابعي جليل، قال الذهبي في «الكاشف» : قالت لله لم يكذب قط، قال الحافظ في «التقريب» : توفي سنة مائة وقيل غير ذلك (قال: حدثنا رجل من بني عامر) لا يضرّ الجهل بعينه لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول من خالط الفتن منهم ومن اعتزالها: أي قال (إنه استأذن على النبي وهو) أي النبي (في بيت) والجملة الإسمية حالية من مجرور على (فقال) أي الرجل (ألج) بهمزتين أولاهما للاستفهام والثانية همزة المتكلم وهو من الولوج: أي أأدخل (فقال رسول الله لخادمه) رأيته في أصل مصحح مضبوط بالقلم بإضافة خادم إلى ضمير الغائب وهو من يتولى الخدمة ذكر كان أو غيره، لكن قال السيوطي في «حاشيته على سنن أبي داود» في تفسير جرير من طريق عمر بن سعد الثقفي أن اسمها روضة، فتكون الهاء للتأنيث، خوطبت خطاب المذكر باعتبار أنها شخص في قوله (أخرج إلى هذا) المستأذن بغير اللفظ الذي يطلب الاستئذان به (فعلمه الاستئذان) أي لفظه وأبدل منه أو عطف عليه عطف بيان قوله (فقل له: قل السلام عليكم أأدخل) قال الحافظ في «فتح الباري» : اختلف هل السلام شرط في الاستئذان أولا، وقال المصنف: اختلفوا هل يستجب تقديم السلام ثم الاستئذان أو العكس، والصحيح الذي جاءت به السنة وقاله المحققون تقديم السلام، والثاني تقديم الاستئذان. والثالث وهو اختيار الماوردي من أصحابنا إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الاستئذان، وصح عن النبي حديثان في تقديم السلام (فسمعه) أي القول المذكور (الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل) وظاهر أن المتكلم مخير بين تحقيق(6/350)
الهمزة وإبدال الثانية ألفاً وتسهيلها (فأذن له النبي فدخل) وإنما لم يأذن له أولاً لإخلاله باللفظ الوارد في ذلك وحثا على تعلم
العلم والعمل به (رواه أبو داود) في الاستئذان (بإسناد صحيح) .
4873 - (وعن كلدة) بكسر الكاف وسكون اللام وفتح الدال المهملة بعدها هاء تأنيث (ابن الحنبل) بفتح المهملة والموحدة وسكون النون بينهما، قال الحافظ في «التقريب» : ويقال ابن عبد الله ابن الحنبل، زاد المزي في «الأطراف» بن ملك يقال مليك بن عائذ بن كلدة أخو صفوان بن أمية لأمه وقيل ابن أخته، واقتصر الحافظ على كونه أخاً لأمه وزاد التيمي المكي صحابي له (رضي الله عنه) حديث (قال أتيت النبي) وذلك لما بعثه صفوان بن أمية بلبن ولباء وضغابيس إلى النبي والنبي بأعلى الوادي رواه كل من أبي داود والترمذي في هذا الحديث وحذفه المصنف لعدم تعلق غرض الترجمة به لكن عند أبي داود بدل قوله ولباء قوله وجداية. قال الخطابي: الجداية هي الصغيرة من الظباء والضغابيس بمعجمتين وبعد الألف موحدة فتحتية فمهملة: صغار القثاء بالقاف والمثلثة (فدخلت عليه ولم أسلم) أي أستأذن (فقال النبي: ارجع) أي إلى ما هو خارج عن مكان النبي (فقل السلام عليكم أأدخل) وفيه الأمر بالمعروف واستدراك السنن وعدم التساهل فيها (رواه أبو داود والترمذي) كلاهما في الاستئذان (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن جريج.(6/351)
141 - باب بيان أن السنة إذا قيل للمستأذن
أي إذا سأله من في داخل المنزل (من أنت أن يقول فلان) كناية عن علم من يجهل قبل من ذوي العقول وقيل أعم. قال في «القاموس» : فلان وفلانة مضمومتين كناية عن أسمائنا وبأل عن غيرنا انتهى: يعني إذا أردت الكناية عن البشر تقول الفلان، وفيه نظر أشار إليه في «التهذيب» وصوب أنه يطلق بغير أن على غير البشر أيضاً، وظاهر شرح التسهيل أن فلاناً يكون كناية عن علم كل مذكر ذي علم أنسيا كان أو جنباً، وعن علم كل ملك لقوله أولاً عند شرحه قول المصنف ومسميات الأعلام أولو العلم وما يحتاج إلى تعيينه الخ قوله أولو العلم يشمل الملائكة وأشخاص الإنس والجن القبائل، وثانياً بعد الأول بقليل في شرح قوله وكنوا بفلان وفلانة نحو زيد وهند: أي من أعلام أولي العلم ففلان كناية عن علم مذكر من ذوي العقل وفلانة كناية عن علم يؤنث من ذوات العقل (فيسمي نفسه بما يعرف به من اسم أوكنية) أو لقب أو نسبة أو وصف كالأمير أو القاضي قاصداً به التعريف لا التشريف (وكراهة قوله أنا ونحوها) كنحن أو إنسان أو شخص لعدم حصول غرض السائل بذلك.
1874 - (عن أنس رضي الله عنه في حديثه المشهور عنه في الإسراء) بالنبي وهو مروي عنه من طريق بينها السيوطي في «الخصائص الكبرى» وتلميذه الشامي في تخريج أحاديث الإسراء والمعراج (قال) أي أنس (قال رسول الله ثم) أي بعد تمام الصلاة بالأنبياء في المسجد الأقصى (صعد) بفتح العين المهملة وكسرها كما في «المصباح» لغة قليلة (بي جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح) أي طلب من الملك الموكل بها واسمه إسماعيل الفتح، وذلك لأنه وجد باب السماء مغلقاً، وإنما لم يفتح له قيل مجيئه ليظهر غاية الظهور أن فتحها إنما هو لكرامة المصطفى ولا يتوهم أن ذلك عادة فيها (فقيل) حذف الفاعل لعدم العلم بعين السائل أكبير الحفظة أم خدمته (من هذا؟ قال جبريل) فسمى نفسه باسمه المعروف، قال بعضهم: لم نقف على من سمى بهذا الاسم من الملائكة(6/352)
غيره (قيل ومن معك) لعل السؤال لأنهم لم يعتادوا منه الاستفتاح حال صعوده وهبوطه بالأمور الموكل فيها، فأخذوا من استفتاحه أن معه من يطلب الفتح لأجله، أو لأن السماء شفافة يرى ما وراءها، ويؤيده أنهم قالوا ومن معك؟ دون أمعك أحد (قال محمد) ذكره باسمه الأعرف له (ثم صعد إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة) الأحسن ثم الثالثة ثم الرابعة، لكن لما كان ما أراد المصنف من سياق الحديث من الدلائل على تسمية المستأذن حاصلاً بأي عاطف كان استعار الواو مكان ثم (وسائرهن) أي باقيهن، قال الأزهري: اتفق أهل اللغة أن سائر الشيء باقيه قليلاً كان أو كثيراً. وقال الصغاني: سائر الناس باقيهم لا جميعهم كما زعم من قصر في اللغة باعه وجعله بمعنى الجميع من لحن العوام كذا في «المصباح» ، ولكن ذكر المصنف في «التهذيب» عن جميع منهم أبو منصور الجواليقي أنه يأتي بمعنى الجميع أيضاً وليس من لحن العوام (ويقال في باب كل سماء) عند استفتاح جبريل له (من هذا؟ فيقول جبريل) إن قلت كيف استدل بفعل الملك وليس مكلفاً بفروع شريعتنا، وإن قلنا بعموم بعثة
نبيانا محمد إلى الملائكة بل هم على ذلك مكلفون بالإيمان به فقط. قلنا: الاستدلال من حكايته وتقريره عليه (متفق عليه) .
2875 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا) فجائية (رسول الله يمشي وحده) أي منفرداً عن الغير والجملة الفعلية خبر المبتدأ. ويجوز كونها حالاً والخبر محذوف، والجملة الإسمية في محل جرّ على أنها مضاف إليها فجعلت أمشي في ظل القمر وذلك ليخفي على النبي مكانه، لأنه فهم أن النبي حينئذ مراد بالانفراد، ورؤيته لأبي ذرّ يفوت بها ذلك فلذا أخفى سواده في سواد ظل القمر (فالتفت فرآني فقال: من هذا) لعل سؤاله عنه خشية أن يكون من المنافقين وأعداء الدين (فقلت أبو ذرّ) أجاب بما اشتهر به من كنيته وعدل عن اسمه لأنه بها أعرف منه به (متفق عليه)(6/353)
أخرجه البخاري في الاستقراض والاستئذان وغيرهما ومسلم في الزكاة، ورواه أيضاً الترمذي في الإيمان وقال: حسن صحيح والنسائي في اليوم والليلة.
3876 - (وعن أم هانىء) بنت أبي طالب (رضي الله عنها قالت: أتيت النبي وهو يغتسل وفاطمة تستره فقال) أي بعد أن سلمت كما تقدم في باب سلام الرجل على زوجته بزيادة فسلمت (من هذه) أي التي بدأت السلام (فقلت: أم هانىء) أتت بكنيتها لما تقدم في الذي قبلها. ووجه الدلالة من هذين تقرير المصطفى لهما على ما أجابا به، إذا لو كان يطلب في الإجابة خلاف ما أتيا به لبينه كما بين لمن أخطأ سنة ما يقال في الاستئذان ما يقال فيه (متفق عليه) .
4877 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: أتيت النبي) زاد الترمذي في «جامعه» «في دين كان على أبي» (فدققت الباب) وفي نسخة بزيادة الباء في المفعول به وهو مما يقوم مقام لفظ الاستئذان، إذ لو لم يقم مقامه لأنكر عليه تركه كما أنكر عليه ما حكاه بقوله (فقال من ذا) أي المستأذن (فقلت أنا، فقال أنا أنا) على وجه الإنكار كما قال (كأنه كرهها) وعند(6/354)
الترمذي كأنه كره ذلك، وذلك لأن قصد من بالداخل معرفة عين المستأذن، ولا يحصل ذلك بقوله أنا لأن الأصوات متشابهة ولا تعيين في اللفظ فلذا أنكره، وأما الإتيان بلفظ أنا فلا كراهة فيه قال تعالى: {أنا الله لا إله إلا أنا} (طه: 12) وقال «أنا سيد ولد آدم» في أحاديث آخر، وكراهة بعض لها بأن كلاً من إبليس وفرعون قال أنا فكان له ما كان، يرد بأن ما أصابهما إنما أصابهما لسوء ما وقع منهما لا لهذه الكلمة والله أعلم (متفق عليه) .
142 - باب استحباب تشميث العاطس
التشميت بالشين المعجمة وبالسين المهملة كما ذكره الفيروز أبادي في كتاب «تخيير الموشين فيما يقال بالشين والسين» هو أن يقول للعاطس رحمك الله أو يدعو له، وفي حاشية السيوطي على سنن أبي داود قال الخليل وأبو عبيد وغيرهما يقال بالمعجمة والمهملة، والعرب تجعل السين والشين في اللفظ الواحد بمعنى، قال الفزاري: التسميت بالمهملة التبريك، يقال سمته إذا دعا له بالبركة، وبالمعجمة من شمت الإبل في المرعى إذا جمعت، فمعنى شمته دعا له أن يجمع شمله وقيل هي من الشماتة وهي فرح الشخص بما يسوء عدوه، فكأنه إذا حمد الله دخل على الشيطان ما يسوءه فشمت هو بالشيطان، وقيل هو من الشوامت جمع شامتة وهي القائمة يقال: لا ترك الله له شامتة: أي قائمة. وقال أبو بكر بن العربي: تكلم أهل اللغة في اشتقاق اللفظين ولم يبينوا المعنى فيه وهو بديع، وذلك أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق ونحوه فكأنه إذا قيل له يرحمك الله كان معناه أعطاك رحمة يرجع بها بدنك إلى حاله قبل العطاس ويقيم على حالة من غير تغيير، فإن كان التشميت بالمهملة فمعناه رجع كل عضو إلى سمته الذي كان عليه، وإن كان بالمعجمة فمعناه صان الله شوامته: أي قوائمه التي بها(6/355)
قوام بدنه عن خروجها عن الاعتدال اهـ (إذا حمد الله) وسيأتي حكمة استحبابه للعاطس (وكرهة تشميته إذا لم يحمد الله تعالى) لأنه أمر بالتشميت عند الحمد فيدل على النهي عنه عند عدمه (وبيان آداب التشميت والعطاس والتثاؤب) بمثناة ثم مثلثة وبعد الألف همزة، وجاء في مسلم «إذا تثاوب» بالواو بدل الهمزة فمصدره التثاوب بالواو، وقال السيوطي: قال غير واحد: إنهما لغتان والهمز والمد أشهر.
1 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: إن الله تعالى يحبّ العطاس ويكره التثاؤب) قال الخطابي: معنى المحبة والكراهة فيهما ينصرف إلى سببهما وذلك أن العطاس يكون عن خفة البدن وانفتاح المسام وعدم الغاية في الشبع، وهو بخلاف التثاؤب فإنه يكون عن غلبة امتلاء البدن وثقله مما يكون ناشئاً عن كثرة الأكل والتخليط فيه والأول يستدعي النشاط للعبادة والثاني عكسه اهـ. والمراد من المحبة المسندة إلى الله تعالى غايتها من الرضا والقبول والثواب أو إرادته، وقد بسطت الكلام فيها أول «شرح الأذكار» (فإذا عطس أحدكم) قال في «المصباح» : عطس من باب ضرب وفي لغة من باب قتل اهـ. (وحمد الله تعالى) يحتمل أن تكون معطوفة على فعل الشرط وأن تكون حالاً بإضمار قد، قال الحليمي: الحكمة في مشروعية الحمد للعاطس أن العاطس يدفع الأذى عن الدماغ الذي فيه قوة الفكر ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس وبسلامته تسلم الأعضاء، فظهر بهذا أنها نعمة جليلة فناسب أن تقابل بالحمدلله لما فيه من الإقرار لله بالخلق والقدرة وإضافة الخلق إليه لا إلى الطبائع وعموم الحديث متناول للحمد بأي صيغة كانت وأفضله رواه أحمد والنسائي من حديث سالم بن عبيد رفعه «إذا عطس أحدكم» فليقل الحمد لله على كل حال أو الحمد لله رب العالمين» وقال المصنف: قال ابن جرير: هو مخير بين أن يقول الحمد لله «أو» الحمد لله رب العالمين أو الحمد لله على كل حال، قال المصنف: وهذا هو الصحيح. وأجمع العلماء أنه مأمور بالحمد لله، وفي منهج العلماء للمتقي حديث «إذا عطس أحدكم فقال الحمد لله قالت الملائكة رب العالمين، فإذا قال رب العالمين قالت الملائكة يرحمك الله» رواه الطبراني من حديث(6/356)
ابن عباس مرفوعاً، قال الحافظ ابن حجر: ولا أصل لما اعتاده كثير من الناس من استكمال قراءة الفاتحة يعد قوله الحمد لله رب العالمين، وكذا العدول إلى أشهد أن لا إله إلا الله أو تقديمها على
الحمد فهو مكروه (كان حقاً) أي سنة متأكدة (على كل مسلم) أي ذي إسلام فيشمل المرأة (سمعه أن يقول له يرحمك الله) قال الحليمي: أنواع البلاء كلها والآفات مؤاخذات وإنما المؤاخذة عن ذنب، فإذا أدركت العبد الرحمة وصار الذنب مغفوراً لم تقع المؤاخذة، فمعنى رحمك الله: أي جعل لك ذلك ليدوم لك السلام. وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرحمة والتوبة من الذنب، ومن ثمة شرع له أن يجيب بقوله: يغفر الله لنا ولكم، قال ابن دقيق العبد: ظاهر الحديث أن السنة لا تتأدى إلا بالمخاطبة وما اعتاده الناس من قولهم للرئيس يرحم الله سيدنا فخلاف السنة. قال المصنف في «الأذكار» : قال أصحابنا: التشميت سنة على الكفاية، ولكن الأفضل أن يقوله كل واحد منهم لظاهر قوله «كان حقاً على كل مسلم سمعه أن يقول له يرحمك الله» هذا الذي ذكرناه من استحباب التشميت هو مذهبنا. واختلف أصحاب مالك في وجوبه فقال القاضي عبد الوهاب: هو سنة، ويجزىء تشميت واحد من الجماعة كمذهبنا وقال ابن مزين: لزم كل واحد منهم، واختاره ابن العربي وإذا لم يسمع الحمد لا يطلب منه التشميت وإن أتى به العاطس. ونقل المصنف عن الإمام مالك أنه قال: لا تشمته حتى تسمع حمده وإن رأيت من يليه شمته اهـ ملخصاً (وأما التثاوب) بالواو في الأصول المصححة، قال العيني في «شرح البخاري» : التثاوب هو النفس الذي ينفتح منه الفم لدفع البخارات المختلفة في عضلات الفك اهـ (فإنما هو من الشيطان) قال ابن بطال: إضافته إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة: أي إن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثاوباً لأنها حالة تتغير فيها صورته فيضحك، منه، وليس المراد أن الشيطان نفس التثاوب. وقال ابن العربي: بينا إن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك لأنه واسطته. قال: والتثاوب من الامتلاء وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة من الشيطان والعطاس من تقليل الغذاء وينشأ
عنه النشاط وذلك بواسطة الملك. وقال المصنف: أضيف التثاوب إلى الشيطان لأنه يدعو إلى الشهوات إذ(6/357)
يكون من ثقل البدن واسترخائه وامتلائه والمراد التحذير من السبب الذي يتولد عنه ذلك وهو التوسع في الأكل.
فائدة: أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في «التاريخ» من مرسل يزيد بن الأصم قال «ما تثاوب النبي قط» وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال «ما تثاوب نبي قط» قال السيوطي ومسلمة أدرك بعض الصحابة وهو صدوق (فإذا تثاءب) بالهمز كما قاله السيوطي قال: وروى مسلم أي في حديث آخر تثاوب بالواو (أحدكم فليرده) بالحركات الثلاث في آخر الفعل والضم إتباع لحركة الضمير (ما استطاع) أي قدر استطاعته وذلك بإطباق فيه، فإن لم يندفع بذلك فيوضع اليد عليه (فإذا تثاءب ضحك الشيطان منه) فرحاً بذلك لما فيه من تغير صورة الإنسان ودخوله في فيه كما سيأتي آخر الباب، وأشار ابن بطال إلى أن الشيطان يضحك حينئذ من جوفه نقله عنه الكرماني (رواه البخاري) في الأدب من «صحيحه» .
2879ـ (وعنه عن النبي قال: إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله) شكراً على ذلك لأنه محبوب إلى الله سبحانه (وليقل له أخوه له) شك من الراوي (صاحبه) والتعبير بأحد هذين تحريض على التشميت (يرحمك الله) قال القاضي عياض: وإنما أمر بالحمد لما حصل من المنفعة بخروج ما احتقن في دماغه من الأبخرة (فإذا قال) أي أخوه (له) أي العاطس (يرحمك الله) وهي جملة خبرية لفظاً دعائية معنى (فليقل) مقابلة للدعاء بمثله ومكافأة للجميل (يهديكم الله) أي يرشدكم بالإيصال إلى مرضاته (ويصلح بالكم) أي حالكم وخاطركم وكأن حكمة إفراد الدعاء للعاطس وجمعه للمجيب ولو منفرداً فيهما أن الرحمة مدعو بها للعاطس وحده لما أصابه مما تنحلّ به أعصابه ويضرّ سمتها لولا الرحمة والهداية مدعوّ بها لجميع المؤمنين ومنهم المخاطب فلذا جمع ضميره والله أعلم (رواه البخاري) في الأدب من «صحيحه» .(6/358)
3880 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه) وصرح بمفهوم ما قبله اعتناء به فقال (فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه) وظاهر الحديث طلب تشميت من عطس وحمد وإن لم يسمعه المشمت لكن قال المصنف: وعطس وحمد ولم يسمعه الإنسان لم يشمته، وقال مالك: لا تشمته حتى تسمع حمده فإن رأيت من يليه شمته فشمته اهـ.» وكلام مالك يدل على أنه إذا تحقق إتيان العاطس بالحمد شمته وإن لم يسمع حمده (رواه مسلم) ورواه أحمد والبخاري في «الأدب المفرد» .
4881 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: عطس رجلان) قال الشيخ جلال الدين السيوطي هما عامر بن الطفيل ولم يحمده وابن أخيه وهو الذي حمد (عند النبي فشمت) بالمعجمة وللسرخسي بالمهملة، وتقدم الخلاف هل هما بمعنى وهو الدعاء بخير أو أن بينهما فرقاً، وأن الذي بالمهملة من الرجوع: أي رجع كل عضو منك إلى سمته الذي كان عليه لتحلل أعضاء الرأس والعتق بالعطاس، والذي بالمعجمة من الشوامت جمع شامتة وهي القائمة: أي صان الله شوامتك: أي قوائمك التي بها قوام بدنك عن الخروج عن الإعتدال (أحدهما) وهو الذي حمد (ولم يشمت الآخر) وهو الذي لم يحمد (فقال الذي لم يشمته: عطس فلان) كناية عن اسم الرجل العاطس حينئذ (فشمته وعطست فلم تشمتني) أي فهو سؤال عن حكمة الإتين به مع الأول وتركه معه (فقال هذا) أي الذي شمته (حمد الله) فاستأهل الدعاء له لاشتغاله بالذكر وعدم إهماله ذلك ففيه إكرام من صنع طاعة (وإنك لم تحمد الله) فكان حقك أن تترك كما تركت الذكر فالجزاء من جنس العمل، وإنما أكد مع أنه إنكار منه لعدم مجيئه بالحمد لما قد يومىء إليه سؤاله من التأهيل له إنما يكون بالحمد، وقد قالت علماء البلاغة: وقد ينزل غير المنكر منزلة المنكر(6/359)
فيتلقى بالمؤكد، وأومأ هذا الحديث إلى ما صرح به ما قاله أنه لا يشمت من لم يحمد الله وإن أتى بنحو تسبيح أو تحميد أو تهليل وهو كذلك. وفي «معالم السنن» للخطابي حكى عن الأوزاعي أنه عطس رجل بحضرته فلم يحمد الله، فقال له الأوزاعي: كيف تقول إذا عطست، فقال أقول الحمد لله، فقال له يرحمك الله: وإنما أراد بذلك أن يستخرج منه الحمد ليستحق التشميتالله. هـ. (متفق عليه) قال الحافظ المزي: أخرجه البخاري في الأدب من «صحيحه» ومسلم في آخر الكتاب، ورواه أيضاً أبو داود في الأدب من «سننه» والترمذي في الاستئذان من «جامعه» وقال: حسن صحيح، والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في الأدب من «سننه» اهـ ملخصاً.
5882 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا عطس وضع بده أو) شك من الراوي ويحتمل أنها للتنويع أي كان تارة يضع يده وتارة (ثوبه على فيه) لئلا يخرج منه شيء من بصاق أو مخاط فوضع ما ذكر على فيه لئلا يؤذي جليسه بما يبرز منه ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يأمن من الالتواء كما شاهدنا من وقع له ذلك (وخفض أو غض بها صوته) قال ابن العربي: الحكمة في خفض الصوت بالعطاس أن في رفعه إزعاجاً للأعضاء، وقد روى من حديث عبادة بن الصامت وشداد بن أوس مرفوعاً؟ إذا تجشى أحدكم أو عطس فلا يرفع صوته بهما، فإن الشيطان يحبّ أن يرفع بهما صوت أورده السيوطي في «الجامع الصغير» (شك الراوي) أي قال، خفض أو قال غض، وهل قال وضع يده أو قال ثوبه (رواه أبو داود) في الأدب من «سننه» (والترمذي) في الاستئذان من «جامعه» وقال: حديث حسن صحيح.(6/360)
6883 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان اليهود يتعاطسون) الظاهر أن التفاعل فيه للتكلف: أي يظهرون العطاس بالإتيان بصوت يشبهه أو يتسببون له بنحو كشف الرأس (عند رسول الله يرجون) جملة حالية من الواو: أي يؤملون (أن يقول لهم يرحمكم الله) لتعود عليهم بركة دعائه بها فإنهم كانوا يعلمون باطناً نبوته ورسالته وإن أنكرو ظاهراً حسداً وعناداً (فيقول لهم) من مزيد فضله ولا يحرمهم بركة حضرته وثمرة الجلوس بين يديه (يهديكم الله) أي يدلكم على الهدى لتهتدوا، ولو أراد يوصلكم إلى الهدى لآمنوا واهتدوا (ويصلح بالكم) أي ما يهتم به من أمر الدين وذلك بأن يرشدهم إلى الاسلام ويزينه لهم ويوفقهم له (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
7884 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله إذا تثاوب) تقدم أنه عند مسلم بالواو (أحدكم فليمسك بيده على فيه) وفي نسخة فمه بالميم وذلك كراهية صورة التثاؤب المحبوبة للشيطان (فإن الشيطان يدخل فيه) أي في الإنسان عند انفتاح فمه حال التثاؤب فيمنعه من ذلك بوضع اليد على الفم سداً لطريقه ومبالغة في منعه وتعويقه (رواه مسلم) وأشار السيوطي في «الجامع الصغير» إلى أن البخاري أخرجه أيضاً، وقد أخرجه أحمد وأبو داود بلفظ «فإن الشيطان يدخل من التثاؤب» وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ «إذا تثاوب أحدكم فليضع يده على فيه، ولا يعوي فإن الشيطان يضحك منه» .(6/361)
143 - باب استحباب المصافحة
قال السيوطي: هي مفاعلة من الصفحة والمراد بها الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد قال الكرماني: وهو مما يؤكد المحبة (وبشاشة الوجه) قال في «النهاية» : بشاشة اللقاء الفرح بالمرئى والانبساط إليه والأنس به (عند اللقاء) ظرف تنازعه كل من المصدرين المذكورين قبله (وتقبيل يد الرجل الصالح) إعظاماً له لصلاحه لا لأمر دنيوي قام به (وتقبيل ولده) ولو كبيراً (شفقة) مفعول له والشفقة هي الحنو والعطف (ومعانقة القادم من سفر) أي ما لم يكن أمرد جميلاً غير محرم له (وكراهة الانحناء) أي ثنى الرجل قامته عند اللقاء.
1885 - (وعن أبي الخطاب قتادة) هو ابن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري (قال: قلت لأنس: أكانت المصافحة في أصحاب النبي) الظرف مستقر: أي كانت موجودة فيما بينهم أي وذلك معيار كونها مشروعة لأن الاجتماع السكوتي حجة (قال نعم. رواه البخاري) في الاستئذان.
2886 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: لما جاء أهل اليمن) لعلهم أصحاب أبي موسى الأشعري (قال رسول الله: قد) للتخفيف (جاء أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة. رواه أبو داود بإسناد صحيح) وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» أيضا لكن قال: أول من أظهر المصافحة، ورواه ابن وهب في «جامعه» .(6/362)
3887 - (وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما) يحتمل كونها حجازية دخلت من المزيدة تأكيداً على اسمها ويحتمل كونها تميمية، وعلى كل فالجملة الفعلية خبر (من مسلمين يلتقيان فيتصافحان) أي عقب الملاقاة من غير توان كما تومىء إليه الفاء (إلا غفر) بالبناء لما لم يسم فاعله ونائب فاعله قوله (لهما) والذي يكفر بالأعمال الصالحة صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله سبحانه (قبل أن يتفرقا) ففيه تأكيد أمر المصافحة والحث عليها، نعم يستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن (رواه أبو داود) في الأدب، ورواه أيضاً أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه والضياء كذا في «الجامع الصغير» ، زاد في «الجامع الكبير» قال الترمذي: حسن غريب، وفي «الجامع الكبير» من حديث أنس مرفوعاً «ما من مسلمين التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه إلا كان حقاً على الله عز وجل أن يحضر دعاءهما ولا يفرق أيديهما حتى يغفر لهما» الحديث، وقال: أخرجه أحمد وأبو داود.
4888 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رجل) لم أفق على من سماه (يا رسول الله الرجل منا يلقي أخاه) أي من المؤمنين (أو صديقه) أي من الأقرباء والمعارف (أينحني له؟ قال لا) ومن البدع المحرمة الانحناء عند اللقاء بهيئة الركوع، قال ابن الصلاح: يحرم السجود بين يدي المخلوق على وجه التعظيم وإن قصد بسجوده الله تعالى، وما ذكره الله تعالى من قوله في أخوة يوسف وخروا له سجداً فذلك شرع من قبلنا وهو ليس بشرع لنا إلا إن جاء تقريره في شرعنا فيعمل بذلك التقرير (قال) أي الرجل (أفيلتزمه ويقبله) أي أيترك ما ذكر من الانحناء فيلتزمه بالمعانقة ويقبله في بدنه (قال لا) أي لا يشرع ذلك، نعم تشرع المعانقة عند ملاقاة غائب من سفر ما لم يكن امرأة أجنبية أو أمرد جميلاً (قال) أي الرجل (فيأخذ بيده)(6/363)
حذفت همزة الاستفهام لدلالة وجودها في قرينة عليها: أي أيترك ما ذكر من الانحناء والالتزام والتقبيل فيأخذ بيده، ومفعول يأخذ محذوف: أي يده بيده (ويصافحه) أي يقضي بصفحة يده إلى صفحة يد صاحبه (قال نعم رواه الترمذي وقال حديث حسن) .
5889 - (وعن صفوان) بفتح المهملة وسكون الفاء (انب عسال بفتح المهملة الأولى وتشددي الثانية قال في أسد الغابة: هو من بني الريض بن زاهر بن عامر بن عوثبان بن مراد رضي الله عنه) سكن الكوفة وغزى مع النبي اثنتي عشرة غزوة، روى عنه ابن مسعود وزر بن حبيش في آخرين اهـ. وتقدمت ترجمته في باب التوبة (قال: قال يهودي) لم أقف على من سماه (لصاحبه) أي ليهودي آخر (ذهب بنا إلى هذا النبي) أي ليتبينوا بعض معجزاته الدالة على نبوته ورسالته (فأتيا رسول الله) بقصد السؤال له ولذا قال (فسألاه عن تسع آيات بينات) قال الطيبي: كان عند اليهود عشر كلمات تسع منها مشتركة بينهم وبين المسلمين وواحدة مختصة بهم، فسألوا عن التسع المشتركة وأضمروا ما كان مختصاً بهم، فأجابهم النبي عما سألوه وعما أضمروه ليكون أدلّ على معجزاته (فذكره) أي الحديث ولفظه عند الترمذي «فقال لهم لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببرىء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة أيها اليهود ألا تعدوا في السبت» (إلى قوله) متعلق بمحذوف: أي وانتهى في ذكره إلى قوله (فقبلوا) أي اليهود والحاضرون مع السائلين (يده ورجله) كذا في نسخ «الرياض» بأفراد كل من «يده ورجليه» ووقفت عليه في أصل مصحح من الترمذي بتثنيتهما والله أعلم (رواه الترمذي) في الاستئذان والتفسير من «جامعه» (وغيره) فرواه النسائي في السير والمحاربة في «سننه» ، ورواه ابن ماجه في الأدب (بأسانيد صحيحة) فرواه الترمذي في(6/364)
الاستئذان عن أبي كريب عن ابن إدريس وأبي أسامة، وفي التفسير عن محمود بن غيلان عن أبي داود ويزيد بن هرون وأبي الوليد خمستهم عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان، وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه النسائي عن كريب وأبي قمامة كلاهما عن ابن إدريس
به، وأعاده في المحاربة عن أبي كريب، ورواه ابن ماجه في الأدب عن أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن إدريس وغندر وأبي أسامة ثلاثتهم عن شعبة، وبه يعلم أن مراد المصنف من تعدد الأسانيد باعتبار مبتداه لا باعتبار منتهاه والله أعلم.
6890 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قصة) بالنصب على الحكاية، أن في أبي داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال «إن ابن عمر حدثه وذكر قصة» وتلك القصة رواها أبو داود في أواخر كتاب الجهاد فقال عن أبي ليلى أن ابن عمر حدثه «أنه كان في سرية من سرايا رسول الله، قال: فحاص الناس حيصة فكنت ممن حاص، فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فقلنا لدخل المدينة فننسل منها لذهب فلا يرانا أحد، قال: قال فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله فإذا كانت لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا، قال: فجلسنا لرسول الله قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفارّون، فأقبل إلينا فقال: بل أنتم الكارّون» وباقيه ما ذكره المصنف بقوله (قال) أي ابن عمر (فيها فدنونا من النبي فقلبنا يده) فقال: إنا فئة المسلمين (رواه أبو داود) مختصراً في كتاب الأدب كما ذكره المصنف ومطولاً في الجهاد، ورواه الترمذي في الجهاد بمعناه وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد، ورواه ابن ماجه في الادب بلفظ قبلنا يد النبي.
7891 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله في بيتي) جملة حالية رابطها الواو (فأتاه) الضمير المستكن لزيد والبارز لرسول الله: أي(6/365)
قصد زيد النبي، ففيه استحباب قصد القادم أول قدومه من يتبرك به (فقرع الباب) فيه الاستئذان بغير اللفظ، وقد عقد له أبو داود في «سننه» باباً فقال باب الاستئذان بالفرع (فقام إليه النبي) أي بعد أن علمه بالوحي أو بالإلهام أو بالفراسة الصادقة وجملة (بحر ثوبه) في محل الحال، والمراد الإشارة إلى مزيد الإسراع كما جرت به عادة المحب إذا شعر بوصول من يحب فلم يصبر إلى أن يضع نوبه موضعه من بدنه بل خرج به يجره (فاعتنقه وقبله) فيسن فعل ذلك مع القادم إلا إن كان ممن يخشى من فعل ذلك معه الفتنة كالأجنبي من امرأة وأمرد جميل (رواه الترمذي) في الإستئذان (وقال: حديث حسن) .
8892 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله: لا تحقرن) بصيغة خطاب الواحد، وهو إن كان كذلك إلا أن الحكم شامل له ولجميع الأمة لقوله «حكمي على الواحد من أمتي حكمي على الجماعة» أو كما قال: ومحل ذلك ما لم يقم دليل التخصيص وإلا كإجزاء عناق المعز لأبي بردة في الأضحية وإباحة النياحة لأم عطية فلا يتعدى محله (من المعروف شيئاً) وإن قل (ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) أن ومنصوبها في محل الفاعل لفعل محذوف على الراجح: أي ولو كان: أي وجد لقاؤك أخاك بوجه طليق، والواو الداخلة على الجملة الوصلية جرى البيضاوي وغيره أنها واو الحال والجملة بعدها منصوبة على ذلك، وقيل عاطفة على مقدر، والحديث سبق مع شرحه في باب استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه وغيره (رواه مسلم) .
9893 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل النبي الحسن بن علي) ففيه استحباب(6/366)
تقبيل الأطفال شفقة ورحمة (فقال الأقرع بن حابس) بالمهملة وبعد الألف موحدة التميمي (إن لي عشراً) كذا في الأصل بحذف الهاء ولعله لتأويل الولد بالنفس (من الولد) بفتحتين قال في «المصباح» : هو كل ما ولده شيء يطلق على الذكر والأنثى والمثنى والمجموع فعل بمعنى مفعول وهو مذكر وجمعه، أولاد الولد وزان وقيل لغة فيه، وقيس تجعل المضموم جمعاً للمفتوح كأسد جمع أُسد اهـ (ما قبلت منهم أحداً) وذلك لجفاء الأعراب وسكان البوادي وفي الحديث «من بدا فقد جفا» (فقال النبي: من لا يرحم) بالبناء للفاعل وحذف المفعول للتعميم (لا يرحم) بالبناء للمفعول: أي إن انتفاء ذلك دليل على قسوة القلب وفقد الرحمة منه للخلق، ومن انتفت منه رفعت عنه والجزاء من جنس العمل (متفق عليه) وقد سبق الحديث في باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة والرحمة لهم.(6/367)
6 - كتاب عيادة المريض
أي زيارته وهو واوي يقال عدت المريض: أي زرته فأنا عائد وجمعه عواد، وقلبت الواو ياء في المصدر لانكسار ما قبلها فهو كصيام وقيام مصدر صام وقام. وفي «الدر المنثور» للسيوطي: العيادة الزيارة واشتهر في عيادة المريض حتى صار كأنه مختص به (وتشييع) بالمعجمة الساكنة وتحتيتين الأولى مكسورة: أي اتباع (الميت) بالسير مع جنازته إكراماً له وتوديعاً كتشييع الضيف. وفي «القاموس» : مات يموت ويمات ويميت فهو ميت وميت ضد حيّ أو الميت مخففة الذي مات، والميت والمائت الذي لم يمت بعد، جمعه أموات وموتى وميتون وميتون اهـ. وقد جرى على الثاني بعض الفضلاء حيث قال:
تسائلني تفسير ميت وميت
فهاك صحيح القول إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح ذلك ميت
وما الميت إلا من إلى القبر ينقل
(والصلاة عليه) وإطلاق الصلاة عليها استعارة مصرحة، أو من إطلاق المشترك وإلا فالصلاة بالمعنى الشرعي المعروف وهو أقوال وأفعال مبدوءة بالتكبير مختتمة بالتسليم غير منطبق عليها لفقد الأفعال فيها (وحضور دفنه والمكث) بتثليث ميمه ذكره الفيروز أبادي في مثلته: أي اللبث (عند قبره) قال في «القاموس» : القبر المدفن وجمعه قبور والمقبرة مثلثة الباء وكمكنسة موضعها يقال قبره ويقبره ويقبره دفنه وأقبره: جعل له قبراً (بعد دفنه) أي ليسألوا له التثبيت في إجابة السؤال.
1894 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله) المراد من الأمر فيه(6/368)
طلب حصول المأمور به الشامل لما كان واجباً ولما كان مندوباً (بعيادة المريض) وهي سنة كفاية، وقيل فرض كفاية فتسن لأيّ مرض كان وفي كل زمان كان، وكراهة العوام لها في بعض الأيام لا أصل لها، وعقب العلم بالمرض وإن لم تطل مدة الإنقطاع ولا فرق في المذكورات بين المعروف له وغيره، وحديث «لا تزر من لا يزورك» إن صح فهو محمول على زيارة الأصحاء فإنها تستعمل فيهم والعيادة في المرضى: أي فمن رأيت منه الإعراض فأعرض عنه جزاء له، ومنه قول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه:
زن من وزنك بما وزنـ
ك وما وزنك به فزنه
من جا إليك فرح إليـ
ـه أو جفاك فصد عنه
ثم للعيادة آداب أفردت بالتأليف، وممن أفردها ابن حجر الهيثمي.
فمن آدابها أنه لا يطيل الجلوس إلا إذا علم أنه لا يشق عليه ويأنس به.
وأن يدنو منه ويضع يده على جسده ويسأله عن حاله، وينفس له في الأجل بأن يقول ما يسر به، ويوصيه بالصبر على مرضه ويذكر له فضله إن صبر عليه، ويسأل منه الدعاء فدعاؤه مجاب كما ورد، ومن أراد البسط في هذا المقام فعليه بالإفادة لابن حجر المذكور (واتباع) بتشديد الفوقية (الجنائز) جمع جنازة بفتح الجيم وتكسر، الميت على النعش، وقيل بالفتح اسم لذلك وبالكسر النعش وعليه الميت، وقيل عكسه، وقيل غير ذلك من جنسه: إذا ستره (وتشميت) بالمعجمة والمهملة كما تقدم (العاطس وإبرار المقسم) بصيغة اسم الفاعل: أي الحالف على حصول أمر لا يقدر على تحصيله منك لتبر قسمه، قال التوربشتى: نرويه عن صحيح البخاري إبرار المقسم، وقد روي إبرار القسم: أي بفتحتين وكلاهما صحيح اهـ. وفي قوله روى بصيغة التمريض مع أنه في الصحيح مالا يخفي (ونصر المظلوم) بكفّ الظالم عنه (وإجابة الداعي) إلى وليمة النكاح في اليوم الأول وجوباً بشرطه وإلى غيرها سنة، ومنه الوليمة الثانية في النكاح، أما الوليمة(6/369)
الثالثة فيكره حضورها (وإفشاء السلام) أي إظهاره ونشره والحديث تقدم مراراً أقربها في كتاب السلام (متفق عليه) .
2895 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال «حق المسلم على المسلم خمس) أي الأمر المتأكد للمسلم على مثله خمسة أشياء وحذف التاء لحذف المعدود أو خمس خصال، وجاء في رواية لأحمد ومسلم من حديث أبي هريرة ستّ، وزاده» وإذا استنصحك فانصح له» ولا منافاة لأن مفهوم العدد غير حجة (رد السلام) وهو فرض عين إن كان المسلم عليه واحداً بأن يقول عليك السلام ويرفع صوته بقدر ما يسمع البادىء به، وفرض كفاية إن كان جمعاً (وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة) بفتح الدال في الطعام هو اسم من دعوت الناس إذا طلبتهم ليأكلوا عندك فقال نحن في دعوة فلان ومدعاته بمعنى قال أبو عبيد: وهذا كلام أكثر العرب كذا في «المصباح» (وتشميت العاطس) أي إذا حمد الله لما تقدم في بابه وقد جاء في حديث أحمد ومسلم وإذا عطس فحمد الله فشمته، كلها واجبة عند الإمام مالك والأمر فيها عنده على أصل موضوعه من الدلالة على الوجوب وعند الشافعي كل من العيادة والتشميت سنة واتباع الجنائز المتوقف عليه الدفن فرض كفاية والدعوة تقدم تفصيلها في الحديث قبله (متفق عليه) والحديث قد سبق في باب تعظيم حرمات المسلمين.
3896 - (وعنه قال: قال رسول الله: إن الله عزّ وجل يقول) هذا أحد الكيفيات في رواية(6/370)
الحديث القدسي، والكيفية الأخرى أن يقال عن النبي فيما يرويه عن ربه كما تقدم عن المصنف حيث قال في باب المجاهدة: عن أبي ذرّ عن النبي فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى، وتقدم ثمة بعض ما افترق فيه القرآن والحديث القدسي من الأحكام (يوم القيامة ابن آدم) قيل إنه اسم عربي بوزن أفعل وألفه منقلبة عن همزة، وقيل أعجمي وزنه فاعل كخاتم وألفه أصيلة (مرضت) أسند ما قام بالعبد إليه تعالى تشريفاً له كقوله تعالى: {يخادعون الله} (البقرة: 9) جعل مخادعتهم للمؤمنين مخادعة لربّ العالمين تشريفاً لهم (فلم تعدني) بضم العين من العبادة (قال) أي ابن آدم المخاطب بهذا الحديث (يا رب كيف أعودك استبعاد لإمكان لحوق المريض له تعالى المرتب عليه العيادة أخذاً بظاهر الخطاب وبين وجه الاستبعاد بقوله (وأنت ربّ) أي ملك (العالمين) ومن كان كذلك لا يطرقه شيء من الأعراض فكيف يعاد (فقال) أي الله تعالى يقال مبيناً أن إسناد المرض إليه تعالى مجاز عقلي لكونه عن إرادته وفيه تشريف ذلك الإنسان (أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح لتنبيه المخاطب على ما بعده (علمت أن عبدي فلاناً) يحتمل أن يراد منه العبد الكامل كما تومىء إليه الاضافة إلى الذات العلى، ويحتمل أن يراد منه مطلق العبد فالإضافة فيه للعهد بدليل قوله فلاناً (مرض فلم تعده أما علمت) فصل عما قبله إيماء إلى أنه المقصود بالتنبيه عليه وما قبله كالوسيلة إليه (أنك لو عدته لوجدتني) أي وجوداً معنوياً (عنده) .
قال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلى هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} (المجادلة: 7) أي بالعلم فعلمه شامل لجميع المكونات والله تعالى مقدس عن المكان والحلول في شيء أو الاتحاد معه، وفيه إيماء إلى أن المحسن ينبغي له التيقظ لهذا النور الأسنى ليفوز بوافر السناء وحسن الثناء والله الموفق (يا ابن آدم) فصله عما قبله إيماء إلى أن كلا مأمور به على حدته موبخ تاركه على تركه (استطعمتك فلم تطعمني) حاله كما تقدم فيما قبله من الإسناد المجازي العقلي والنكتة فيه (قال) أي العبد المخاطب، وعبر عنه بالماضي إما لأنه إخبار عما صدر منه عز وجل مع بعض من تقدم(6/371)
على الإخبار عنه أو أنه لما كان محقق الحصول عبر به بما يعبر عن ذلك كقوله تعالى: {ونفخ في الصور} (الكهف: 99) (يا ربّ وكيف أطعمك وأنت ربّ العالمين) الواو عاطفة لهذا الاستبعاد على الاستبعاد قبله، وكأن شدة دهش أحوال الموقف أذهله عن جريان ما ذكره الحق فيما قبله فيه وفيما بعده فاستغرب ذلك وقال ما قال (فقال: أما علمت أنه) أي الشأن (استطعمك) طلب منك الطعام (عبدي فلان فلم تطعمه) أي ومنعك له من ذلك الطالب ظاهراً كأنه منع منك للطالب حقيقة كما أشار إليه تعالى تلويحاً وتعريضاً في غير ما آية كقوله: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله} (الإنسان: 8، 9) الآية (إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي) أي باعتبار ثوابه المضاعف.
قال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} (البقرة: 110) أي تجدوا ثوابه عنده فلا يضيع عمل عامل قال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} (النساء: 40) (يا ابن آدم استسقيتك) أي طلبت منك السقيا بلسان عبدي (فلم تسقني) أي تسق عبدي السائل منك ذلك (قال: يا ربّ كيف أسقيك) لعل الفصل مع وصل ما قبله إن لم يكن لشدة الذهول من عظيم ما يلقاه من التوبيخ للتفنن في التعبير (وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لو جدت ذلك) أي ثوابه (عندي) ففيه دليل على أن الحسنات لا تضيع وأنها عند الله بمكان (رواه مسلم) أواخر «صحيحه» .(6/372)
4897 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله. عودوا المريض) أي بأي مرض كان كما يؤذن به تعريفه بأل الاستغراقية، وفي كل زمان كما يؤذن به إطلاق الأمر عن التقييد بزمان (وأطعموا الجائع) وهو كغيره من القيام بسد خلات المحتاج فرض كفاية على مياسير المسلمين فإن لم يكن ثمة إلا واحد تعين عليه (وفكوا العاني) أي المأسور لكفار أو لدين عليه أداؤه (رواه البخاري) في كتاب المرضى، ورواه أحمد وابن حبان والبيهقي من حديث أبي سعيد بلفظ «عودوا المريض واتبعوا الجنازة تذكركم الآخرة» ورواه البغوي في مسند عثمان من حديثه بلفظ «عودوا المريض واتبعوا الجنائز والعيادة غبا أو ريعاً إلا أن يكون مغلوباً فلا يعاد والتعزي مرة» كذا في «الجامع الصغير» (العاني) بالمهملة وبعد الألف نون (الأسير) في «المصباح» عنا يعنو عنواً من باب قعد خضع وذل، وعنا عنواً أيضاً إذا نشِب في الإِسار فهو عان والجمع عناة، وعنى الأسير من باب تعب لغة فيه، ومنه قيل للمرأة عانية لأنها محبوسة كالأسير عند الزوج والجمع عوان. قلت: وقد تقدم في باب الوصية بالنساء خيراً «استوصوا بالنساء فإنهن عوان عندكم» .
5898 - (وعن ثوبان) بفتح المثلثة وبعد الواو موحدة وبعد الألف نون ابن بجدد بموحدة فجيم فمهملتين، قال في «القاموس» : كقعدد مولى رسول الله تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (عن النبي قال: إن المسلم إذا عاد أخاه) أي في الاسلام وإن لم تكن أخوة نسب كما يومىء إليه وصفه بقوله (المسلم لم يزل في خرفة الجنة) قال في «النهاية» : الخرفة بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وبالفاء اسم ما يخترف من النخل حين يدرك (قيل) لم أر من سمى السائل (يا رسول الله وما خرفة الجنة) قال القاضي البيضاوي في «التفسير» «ما» يسأل به عن كل شيء ما لم يعرف، فإذا عرف خص العاقل بمن(6/373)
إذا سئل عن تعيينه وإن سئل عن وصفه قيل ما زيد أفقيه أم طبيب وقال في قوله تعالى: {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} (البقرة: 68) أي ما حالها وما صفتها وكان حقهم أن يقولوا أي بقرة هي أو كيف هي لأن «ما» يسأل بها عن الجنس غالباً، لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله اهـ. والخرفة وإن كانت معلومة عندهم إلا أنها لما أضيفت في الحديث إلى الجنة جهلوا المراد منها فسألوا بما ذكر (قال جناها) بفتح الجيم وبالنون مقصور، قال في «النهاية» : هو ما يجني من الثمر وجمعه أجن كعضا وأعص قال التوربشتى: المعنى إنه بسعيه إلى عيادة المريض يستوجب الجنة ومخارفها والعيادة لما كانت مفضية إلى مخارف الجنة سميت بها، وروي «كان له خريف في الجنة» وروي في خرافة وخروف ومخروف ومخارف الجنة، وروى كان له خريف أي مخروف (رواه مسلم) في الأدب من «صحيحه» ورواه الترمذي في الجنائز من «جامعه» وقال. حسن، ثم أشار فيه إلى الاختلاف في رواته.
6899 - (وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ما من) صلة لتأكيد عموم الاستغراق (مسلم يعود مسلماً غدوة) بضم المعجمة وبالواو وسكون المهملة بينهما قال في «المصباح» : هي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس وجمعها غدا كمدية ومدى (إلاّ صلى عليه سبعون ألف ملك) أي استغفروا له ودعوا له بأنواع الرحمة مستمرين كذلك (حتى) أي إلى أن (يمسي) أي يدخل في المساء وهو من زوال الشمس إلى نصف الليل (وإن عادة عشبة) هو وقرينه منصوبان على الظرفية وهي آخر النهار، وقيل ما بين الزوال إلى الغروب، قال ابن الأنباري: العشية مؤنثة: أي تأنيث العشي، قال: وربما ذكرتها العرب(6/374)
على معنى العشي، وقال بعضهم: العشية واحدة وجمعها عشي كذا في «المصباح» (صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح) أي يدخل في الصباح وحتى فيه وفيما قبله غاية لمقدر دل عليه السياق كما أشرت إليه ثم إن كانت إن بمعنى ما لمقابلتها بها فتقدر إلا وحذفت لدلالة مقابلها عليها والواو حينئذ عاطفة أو مستأنفة، وإن كانت شرطية فلا تقدير لها، والجملة جواب الشرط (وكان له خريف في الجنة) كان يحتمل كونها تامة وخريف فاعلها والظرف المتقدم حال منه والمتأخر صفته، يحتمل كونها ناقصة والمرفوع اسمها وأحد الظرفين خبرها والثاني حال أو صفة، والرابط محذوف: أي بسببه والخريف بوزن الربيع (رواه الترمذي وقال حديث حسن) .
(الخريف التمر المخروف أي المجتنى) قال في «النهاية» فعيل بمعنى مفعول.
7900 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي) اسمه عبد القدوس كما قال الجلال البلقيني في مهمات البخاري (يخدم النبي فمرض، فأتاه النبي وسلم يعوده) فيه جواز عيادة الكافر (فقعد عند رأسه فقال له) أي عقب قعوده وقدمه على السؤال عن حاله لأنه الأهم المقدم وخشية أن يبغته الموت قبل الإسلام فيموت كذلك، ويحتمل أنه بعد السؤال عن ذلك وكان يسيراً جداً وتعقيب كل شيء بحسب حاله (أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده) جملة حالية من المجرور بإلى والرابط كل من الضمير والواو: أي كالمستشير له في طاعة ما أمر به (فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم) ففيه حلول الأنوار النبوية على نجاسه فانقلب إبريزاً (فخرج النبي وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار) ففيه بركة صحبة الصالحين ظهور ثمرتها دنيا وأخرى (رواه البخاري في الجنائز من صحيحه) .(6/375)
154 - باب ما يدعى به للمريض
أي بالفعل بصيغة المجهول ليشمل ما يدعو به المريض لنفسه أو يدعو به له غيره.
1901 - (عن عائشة رضي الله عنه أن النبي كان إذا اشتكى) من باب الافتعال من الشكاية والتاء للمبالغة (الإنسان الشيء منه) من عضو ألم به (أو كانت قرحة) بفتح القاف من القرح وهو الجرح، فقوله (أو جرح) الظاهر أنه شك من الراوي هل قالت قرحة أو جرح (قال النبي بأصبعه) فيه إطلاق القول على الفعل (هكذا) وبين كيفية المشار إليه بقوله (ووضع سفيان) بتثليث السين من أتباع التابعين (ابن عيينة) بضم المهملة وكسرها (الراوي) أي لهذا الحديث (سبابته) بتشديد الموحدة الأولى وتخفيف الثانية بعدها فوقية وهي السبحة أي الأصبع التي تلي الإبهام، سميت بذلك لأنها تستعمل حال التسبيح، وسبابة لأنها بها يشار إلى الإنسان حال سبه (بالأرض) متعلق بوضع (ثم رفعها) إن كانت ثم على موضوعها من المهملة ففيه إيماء إلى طلب إطالة بقاء الأصبع بالأرض والله أعلم بسر ذلك وإلا فهي فيه بمعنى الفاء (وقال) عطف على قال الأول (باسم الله) يكتب بالألف بعد الباء وحذفها في مثله من خطأ الكتاب نبه عليه المصنف في «شرح مسلم» ، لكن حكى الخطابي المالكي في إعراب الألفية عن السمين جواز الوجهين، والظرف فيه متعلق بمحذوف دل عليه المقام: أي أداوي باسم الله، وقوله (تربة) بضم الفوقية وسكون الراء وفتح الموحدة (أرضنا) أي ترابها مبتدأ، وقال التوربشتي: خبر مبتدأ محذوف: أي هذه تربة أرضنا، والباء في قوله (بريقة بعضنا) باء المصاحبة: أي ممزوجة معها وخبر المبتدأ جملة (يشفي) بالبناء للمجهول ويتعلق به قوله (به) ونائب فاعله قوله (سقيمنا) والرابط هو الضمير المجرور وذكر لأن التربة بمعنى التراب، وقوله (بإذن ربنا) أي بأمره محل الحال من الخبر. والمعنى أنه يحصل الشفاء بإذن الله تعالى بهذا المذكور، قال(6/376)
التوربشتي: أمثال هذه الكلمات عسر الوقوف على معانيها وقصرت الأفهام عن تقرير التناسب بين ألفاظها ومبانيها لأنها لم توضع للعمل والاستنباط منها بل وضعت للتلفظ بها تيمناً
وتشفيعاً، وربما وقع شيء من معانيها في القلوب السليمة الواقعة لاستماع كلام النبوة بمرصاد الأدب والحرمة، وقد علمنا من غير هذه الرواية أنه كان يبل أنملة إبهامه اليمنى بريقه ويضعها على الأرض ليلتزف بها التراب ثم يرفعها ويشير بها إلى السقيم، وذلك معنى قول عائشة بأصبعه. قلت: لكن صرحت في هذه الرواية بأنها السببابة والله أعلم. قال: والذي يسبق إلى الفهم من صنعه ذلك ومن قوله تربة أرضنا إشارة إلى فطرة أول مفطور من البشر، وريقة بعضنا إشارة إلى النطفة التي خلق الله منها الإنسان كأنه يتضرع بلسان الحال ويتعرض لفحوى المقال إنك اخترعت الأصل من طين، ثم ابتدعت نسله من سلالة من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته وتمن بالعافية على من استوى في ملكك موته وحياته. فإن قيل إن صحت المناسبة بين التربة وفطرة الإنسان فما وجه المناسبة بين الريقة والنطفة؟ قلت: هما من فضلات الإنسان فعبر بإحداهما عن الأخرى وكانت عادته الكناية في مثل ذلك ونظيره ما جاء في حديث بشير بن الخصاصية «أنه بصق على كفه ثم وضع عليه أصبعه ثم قال: يقول الله عز وجل: ابن آدم أتعجزني وقد خلقتك من مثل هذا؟ وأراد بها النطفة» (متفق عليه) .
2902 - (وعنها أن النبي كان يعود بعض أهله) أي عند مرضه (يمسح) أي ذلك المعاذ (بيده اليمنى) وبركتها عليه فيستحب فعل ذلك لمن يتبرك به (ويقول: اللهم ربّ الناس) ربّ منصوب على أنه منادى ثان، ولا يجوز نصبه عند البصريين على أن يكون صفة لقوله اللهم: أي يا مربيهم بالنعم والمخرج لهم إلى الوجود من العدم (أذهب) بهمزة(6/377)
القطع (الباس) هو في أصله مهموزاً وسهل بقلب الهمزة ألفا لمناسبة ما قبله: أي الشدة في الحرب والعذاب (اشف) بوصل الهمزة (أنت الشافي لاشفاء) بفتح الهمزة (إلا شفاؤك) بالرفع بدل من خبر لا المحذوف أو من ضميره أو من محل لا مع اسمها، وجملة لا شفاء إلا شفاؤك معترضة بين الفعل ومفعوله المطلق كالتعليل لسؤال ذلك (شفاء) مفعول اشف، ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو أو هذا وعليه فالجملة قبله مستأنفة (لا يغادر) بالغين المعجمة والدال المهملة والراء: أي لا يترك (سقماً) بفتحتين وبضم فسكون: أي مرضاً، وفائدة التقييد به أنه قد يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر متولد منه مثلاً فكأنه يدعو بالشفاء المطلق لا بمطلق الشفاء (متفق عليه) ورواه النسائي أيضاً.
3903 - (وعن أنس رضي الله عنه أنه قال لثابت) بالمثلثة وبعد الألف موحدة فمثناة فوقية بوزن فاعل وهو البناني بضم الموحدة ونونين بينهما ألف التابعي الجليل، وقوله (رحمه الله) جملة خبرية لفظاً دعائية معنى مستأنفة أتى بها دعاء لثابت (ألا) بفتح الهمزة واللام الخفيفة أداة استفتاح (أرقيك) بفتح الهمزة (برقية) بضم الراء وسكون القاف اسم للمرة من الرقي وجمعها رقي كمدية ومدى كذا في «المصباح» . وفي «فتح الباري» الرقى بضم الراء وبالقاف مقصور جمع رقية بسكون القاف، يقال رقي بالفتح في الماضي يرقى بالكسر في المستقبل، واسترقى فلان طلب الرقية والجمع بغير همز وهو بمعنى التعويذ بالذال المعجمة (رسول الله) أي بما كان يرقى به. قال القرطبي: فيه دليل على جواز الرقية من كل الآلام وأنه كان أمراً فاشياً معلوماً بينهم. وفي «فتح الباري» أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه أو بصفاته وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى. واختلفوا في كون الأخير شرطاً والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط الثلاثة. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقي فقال: لا بأس أن يرقي بكتاب الله أو بما يعرف من ذكر الله.(6/378)
قلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الّله، ثم أورد نحوه عن مالك. وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة فمنع منها مالا يعرف لئلا يكون كفراً هـ ملخصاً (قال: بلى قال: اللهم ربّ الناس مذهب الباس) بقلب الهمزة ألفاً لمناسبة ما قبله، ومذهب يجوز أن يكون منادى أيضاً كما قبله، ويجوز أن يكون نعتاً لرب، أما على أن رب صفة مشبهة فإضافته كإضافة مذهب لفظية، وعلى كونه مصدراً فيجعل مذهب بمعنى الدوام والثبوت فتكون إضافته معنوية، ويجوز كونه بدلاً مطابقاً مما قبله (اشف) وقوله (أنت الشافي لا شافي
إلا أنت) معترضة كما تقدم فيما قبله (شفاء لا يغادر سقماً، رواه البخاري) في آخر كتاب المرضى، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في «اليوم والليلة» .
4904 - (وعن سعد بن وقاص) بفتح الواو وتشديد القاف آخره مهملة كنية مالك بن أهيب ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في الكتاب في باب الإخلاص (قال: عادني رسول الله فقال اللهم اشف سعداً ثلاث مرات) ظرف لقال: أي كرره ثلاثاً لمزيد الاهتمام والاعتناء، وقد تقدم أن النبي كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثاً وفي الحديث «إن الله يحبّ الملحين في الدعاء» رواه الحكيم الترمذي وابن عديّ والبيهقي في «الشعب» من حديث عائشة مرفوعاً (رواه مسلم) .j
5905 - (ومن أبي عبد الله عثمان بن أبي العاص) بحذف التحتية في الأصول على حذف ياء المنقوص المعرف حال الوقف عليه، وبه قرىء قوله تعالى: {المتعال} ويجوز(6/379)
إثباتها وتقدم زيادة بيان فيه في ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان هذا (رضي الله عنه) ثقفى طائفي صحابي شهير استعمله النبي على الطائف ومات في خلافة معاوية بالبصرة خرج عنه مسلم والأربعة كذا في «تقريب الحافظ» ، وزاد المصنف في «التهذيب» أن الصديق وعمر أقراه على الطائف وأنه أسلم في وقد ثقيف، قال: روى له عن رسول الله تسعة أحاديث، أخرج له مسلم ثلاثة منها، واستعمله عمر على عمان والبحرين ثم نزل البصرة قال ابن قتيبة: أقطعه عثمان بن عفان اثني عشر ألف جريب. قال في «المصباح» بعد كلام قدمه فحصل من هذا أن الجريب عشرة آلاف ذراع، وعن عبد الله الكاتب ثلاثة آلاف وستمائة ذراع، وجريب الطعام أربعة أقفزة قاله الأزهري (أنه شكا إلى رسول الله مرضاً يجده) من الوجدان أي يحسه في جسده (فقال له رسول الله: ضع يدك) أي أجعلها موضوعة (على الذي يألم) بفتح التحتية واللام وسكون الهمزة بينهما: أي يوجع (من جسدك) بيان للذي (وقل) أي مع وضعها أو عقبه مصاحباً كما يومىء إليه السياق وهو يدفع ما تصدق به الواو من قوله ذلك قبل الوضع: أي بحضور قلب مع الربّ ونسيان ما سواه (باسم الله) أي استشفى باسمه (ثلاثاً) ظرف لقل (وقل) عطف على قل الأول (سبع) ظرف لقل الثانية (مرات) أي تارات (أعوذ) أعتصم وأتحصن (بعزّة الله) أي بغلبته (وقدرته) أي صفته الأزلية القادر بها على كل ممكن (من شر ما أجد) أي من الألم (وأحاذر) أي أحذر والمغالبة للمبالغة والإتيان بالذكر المذكور ليسرى أثره في الأعضاء السبعة. قال الطيبي، تعوذ من مكروه ووجع هو فيه ومما يتوقع حصوله في المستقبل من حزن وخوف فإن الحذر الاحتراز عن الخوف (رواه مسلم) والأربعة أيضاً.(6/380)
6906 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: من عاد مريضاً لم يحضر أجله) أي لم تتم مدة عمره (فقال: عنده سبع مرات) كلاهما ظرفان للقول والأول مكاني والثاني زماني (أسأل الله العظيم) والإتيان به لبيان أنه لا يتعاظم عليه مطلوب لعظمته (ربّ العرش العظيم) بالجرّ على أنه صفة العرش، وفي نسخة مصححة من «الحصن» لابن الجزري بنصبه على أنه صفة لربّ (أن يشفيك) بفتح التحتيتين وهو ثاني مفعول أسأل (إلا عافاه الله) استثناء من «من» الشرطية العامة كأنه قال: ما عاد أحد مريضاً فقال كذا إلا عافاه الله والمغالة وللمبالغة: أي أعطاه عافية تامة (من ذلك المرض) ويشمل الوعد ما ينشأ عنه ففيه عافية من قيل عنده ذلك من مرضه القائم به ومما يتسبب عنه، ويحتمل أن يكون قاصراً عليه دون ما ينشأ عنه والله أعلم (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) وكذا رواه النسائي وابن حبان الحاكم في «مستدركه» كما أشار إليه المصنف بقوله (وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري) أي مرويّ برجال روى عنهم البخاري في «صحيحه» الحديث الصحيح ورواه أيضاً ابن أبي شيبة في «مصنفه» .
7907 - (وعنه أن النبي دخل على أعرابيّ) منسوب إلى الأعراب بفتح فسكون وهم سكان البادية، قال الشيخ زكريا في «التحفة» : واسمه قيس بن أبي حازم بالمهملة والزاي (يعوده وكان إذا دخل على من يعوده) قال: وفي رواية البخاري فقال له بزيادة الفاء أوله(6/381)
والظرف بعده (لا بأس) بالهمزة على أصله ويجوز تسهيله ألفاً، وقد أجاز السوسى إبداله وإبدال مثله ألفاء مطلقاً وهمزة عند الوقف (طهور) بفتح أوله ويجوز ضمه وهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هذا: أي مرضك مطهر لذنبك مكفر لعيبك واقتصر عليه لكونه الأكثر، وإلا فقد يكون أيضاً سبباً لرفع الدرجات في العقبى أو لعلوّ المقامات فيها في الدنيا لأن الرياضيات تنتج الحالات والكشوفات (إن شاء الله تعالى) أي إن تعلقت المشيئة بتطهيره بذلك، وجملة «كان» حالية من فاعل دخل والجملة الشرطية في محل نصب خبر كان، وقد أورده ابن الجوزي في «الحصن» مكرراً، وعزاه لتخريج البخاري والنسائي وهو في باب العيادة من البخاري بلا تكرار فلعله للنسائي (رواه البخاري) .
8908 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي فقال: يا محمد) في ندائه باسمه إيماء إلى أن الخطاب بقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} (النور: 63) متوجه للمكلف من الثقلين (اشتكيت) لعل التاء فيه للمبالغة في الشكوى. كما يومىء إليه حديث «أشد الناس بلاء الأنبياء (قال نعم) فيه جواز الإخبار بالمرض على طريق بيان الواقع من غير تضجر ولا تبرم (قال باسم الله) قدمه على متعلقه وهو قوله (أرقيك) بفتح الهمزة وكسر القاف اهتماماً واختصاصاً كما في بسم الله مجراها، وعلق به أيضاً قوله (من كل شيء يؤذيك) أي يوصلك إلى المكروه، ثم بين إبهام شيء بقوله (من شرّ كل نفس) خبيثة أمارة بالسوء ولا ينافي هذا قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة: 6) بفرض تأخره عنه لأن الذي عصم منه هو إزهاق الروح ونحوه لا مطلق الإيذاء، لأنه لم يزل يؤذي إلى آخر حياته زيادة في إعلاء رتبه وتشريفاً للسالكين(6/382)
سننه من بعده من أمته (أو) الظاهر أنها بمعنى الواو، وإنما ذكر هين مع أن المراد ما يعمهما وغيرهما لبيان أخص أنواع الأذى وحينئذ يصح بقاء «أو» على حالها إشارة إلى أن الأخص أحد هذين (عين كل حاسد) عدل إليه عن معيان الذي هو القياس، إذا لا يلزم من الحاسد أن يكون معياناً إشارة إلى أن الغالب أن المعيان لا تؤثر عينه إلا بعد استحسان الشيء في نفسه الخبيثة حسداً لصاحب ذلك الشيء. وقال المصنف في «شرح مسلم» : قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الآدمي. ويحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق عليها، ويكون قوله أو عين حاسد من باب التوكيد بلفظ مختلف أوشك من الراوي في لفظه اهـ. ويحتمل أن يكون الظرف بدلاً من قوله من شيء ما بدل بعض من كل، ويحتمل أن يكون متعلقاً بقوله يؤذيك ومن فيه حينئذ للابتداء (الله يشفيك) بفتح التحتية كما تقدم قريباً (باسم الله أرقيك) كرره تأكيداً تنبيهاً على أن الرقي لا تنبغي أن تكون إلا
بأسماء الله وأوصافه وذكره، فببركة ذلك يرتفع ما يؤذن في رفعه من الضرر (رواه مسلم) .
9909 - (وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: أنهما شهدا على رسول الله أنه قال: من قال لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه) وبين كيفية تصديقه بقوله على سبيل عطف البيان والتفسير (فقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر) أي فإتيانه تعالى بمثل ما قال العبد بمعناه تصديق له (وإذا قال) أي الشخص المدلول عليه بأداة الشرط (لا إله) أي لا معبود بحق في الوجود (إلا الله وحده) منفرداً في ذاته وفي أوصافه (لا شريك له) أي في ملكه ولا في فعله (قال) أي الله مصدقاً له نظير ما قبله (لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال لا إله إلا الله له) دون غيره (الملك) بضم الميم: أي التصرف والقهر وكل ملك مالك ولا عكس، وهو بمعنى قوله فيما قبله لا شريك له (وله) دون غيره (الحمد) إذ هو الثناء على الجميل الاختياري، وهو الفاعل لجميع ذلك الموجد له، والموجد على يده إنما هو مظهر فعله سبحانه، فعاد جميع الحمد إليه وقصر عليه كما يؤذن به تقديم ما حقه التأخير فيهما (قال)(6/383)
أي الله عزّ وجل مصدقاً لعبده (لا إله إلا أنا لي الحمد ولي الملك، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله) عطف جملة الحوقلة على جملة التوحيد وذلك لتلازمهما وعدم انفكاك مضمون كل منهما عن مضمون الآخر، إذ الممكن لا بد له من موجد ومنه الحول والقوة، وليس ذلك الموجد إلا إله، فإذا لم يكن الإله إلا هو سبحانه وتعالى فيلزم أن لا حول ولا قوة لغيره (قال) أي الله (لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي) ثم الذي وقفت عليه في الأصول ضبط «حول» و «قوة» فيهما بالفتح على إعمال «لا» فيهن وكأنه لأنه الرواية (وكان) يعني النبي وهو عطف على قال فيكون من جملة ما حكياه (يقول من قالهن في مرضه ثم مات) أي فيه (لم تطعمه) بفتح الفوقية والمهملة (والنار) وهذا كناية
من عدم دخوله إليها، ثم يحتمل أن يراد لا يدخلها دخول تخليد وتأبيد، ويحتمل أن يتسبب عنه بفضل الله تعالى من حسن الخاتمة ما يدخل به قائله الجنة مع الفائزين وهو المتبادر من متن الحديث (رواه الترمذي) في الدعوات من «جامعه» (وقال: حديث حسن) ثم أشار إلى أن شعبة قد رواه عنهما بنحوه ووقفه عليهما.
146 - باب استحباب سؤال أهل المريض عن حاله
وذلك لما فيه من العناية بحال المريض والاحتفال بأمره وإدخال السرور عليه.
1 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله؟) يؤخذ منه استحباب السؤال عن حال المريض إذا عسر الوصول إليه لعارض(6/384)
كغلبة مرض أو شرب دواء فيسن سؤال أهله حينئذ عن حاله، قال ابن حجر الهيتمي: وهذا الندب وإن لم يصرح به أصحابنا لكنه ظاهر المعنى لأن المريض إذا بلغه ذلك سرّ به (قال: أصبح بحمد الله) أي متلبساً بحمد الله (بارئاً) اسم فاعل من البرء خبر بعد خبر أو حال ضمير أصبح ويجوز عكسه، والمعنى قريباً من البرء بحسب ظنه، أو للتفاؤل أو بارئاً مما يعتري المريض من قلق وغفلة. وفيه أن ينبغي لمن يسأل عن حال المريض أن يجيب بمثل ما ذكره فيه مما يشعر برضا المريض بما هو فيه عن الله تعالى، وأنه مستمرّ على حمده وشكره لم نغيره عنه شدة ولا مشقة، وبما يؤذن بخفة مرضه وقرب عافيته: قال ابن حجر أيضاً: وهذا وإن لم يصرح به أصحابنا لكنه واضح (رواه البخاري) في الاستئذان، وأخرجه في المغازي أيضاً من وجهين وزاد بعد بارئاً، فقال العباس: «والله إني لأرى رسول الله سيتوفى من وجعه هذا، وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت» الحديث.
147 - باب ما يقوله من أيس
بالبناء للفاعل (من حياته) أي بظهور علامات الموت التي لا يتخلف عنها عادة.
1911 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله) وفي نسخة: (وهو مستند إلى) جملة حالية من مفعول سمعت وجملة (يقول) يصح كونها حالاً منه أيضاً أو من مجرور إلى فهي مترادفة أو متداخلة (اللهم اغفر لي) وهذا منه خضوع لمقام الربوبية وإلا فهو معصوم من جميع الذنوب، أو تشريع للأمة وتنبيه على أن حق مثل هذا المطلب ألا يغفل عنه المستيقظ حالتئذ لأنها حالة الانتقال وساعة الارتحال (وارحمني) ورحمة كل(6/385)
شيء بحسب ما يليق به، فأعظم الرحمات ما منحه نبيه مما لا يحيط به بيان، وظاهر أن الرحمة فيها مجاز مرسل تبعي، وقد صرح العصام بأنه كما توصف الاستعارة بالتبعية وهي ما كان في الحرف أو المشتق يوصف به المجاز المرسل، قال: ومنه قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} (المائدة: 6) أي إذا أردتم القيام إليها (وألحقني) بقطع الهمزة (بالرفيق الأعلى) قيل المراد به الملائكة المقرّبون والعباد الصالحون بالمعنى الأعمّ وهو الوجه الأتم المناسب لما جاء في قول يوسف {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} (يوسف: 101) وفي السلاح لابن همام: هم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون المذكورون في قوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقاً} (النساء: 69) ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح مبيناً «فجعل يقول مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين» الخ. والحديث يفسر بعضه بعضاً اهـ. قال القاري عن بعضهم: وهو المعتمد، ومعنى كونهم رفيقاً بقاؤهم على طاعة الله تعالى وارتفاق بعضهم ببعض، ونكتة إفراد هذه الكلمة الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد. وقيل معناه: الإلحاق بالله تعالى فإن من أسمائه الحسنى الرفيق، والمراد بالأعلى الموصوف به أعلى علوّ المكانة لا المكان. قال في الحرز وهذا هو الأنسب بالمصطفى آخر كلامه في طلب المولى كما أنه أول من قال بلى في جواب ألست بربكم في الميثاق الأعلى (متفق عليه) ورواه الترمذي والإسماعيلي وابن حبان.
2912 - (وعنها قالت: رأيت رسول الله وهو بالموت) أي متلبس بمقدماته (وعنده قدح فيه ماء) الجملتان الأوليان حالان من مفعول رأيت والثانية حال من الأولى، وأما قوله فيه ماء فهي في محل الصفة للمبتدأ إن أعرب الظرف خبراً مقدماً وما مبتدأ مؤخراً، فإن(6/386)
أعرب الظرف صفة فماء فاعله (وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء) الذي بيده من القدح وذلك للحرارة التي يجدها من مزاولة ما كان فيه (ثم يقول: اللهم أعني على غمرات) بفتح المعجمة والميم كسجدة وسجدات: أي شدائد (الموت) التي هي لشدتها تكاد تغمر: أي تغطى عليه وتستره (وسكرات) بفتح أوليه أيضاً (الموت) كذا هو في الأصول وسكرات بالواو: أي شدائد مقدماته التي يقوي على الروح حتى يغيبها عن إدراكها وقد صح «أنه كان يعمى عليه من مرض موته» وقد ألف الشيخ محمد البكري رسالة سماها «القول الأجلّ في حكمة كرب المصطفى عند حلول الأجل» لخصناها في «شرح الأذكار» (رواه الترمذي) وكذا رأيته في الجنائز من «جامعه» في أصلين مصححين ثم رأيته في المشكاة بلفظ «أعنى على منكرات الموت أو سكرات الموت» وقال: رواه الترمذي وابن ماجه ولعله لفظ ابن ماجه، وعزوه للترمذي باعتبار أصل الحديث، وسكت المصنف عن نقل قول الترمذي في رتبة الحديث على خلاف عادته سهواً، قال الترمذي: هذا حديث غريب.
148 - باب استحباب وصية أهل المريض
مصدر مبني للمفعول مضاف إليه: أي أن يوصوهم (ومن يخدمه بالإحسان إليه) بلين الكلام وإظهار البشر وإعطائه المطلوب (واحتماله) على ما قد يوقعه فيه المرض من سيء الكلام (والصبر على ما يشقّ من أمره وكذا الوصية بمن قرب سبب موته بحد) نحو زنا (أو قصاص ونحوهما) الأولى ونحوه لأن العطف فيما قبله بـ «و» وهي لأحد الشيئين.
1913 - (عن عمران بن حصين) بضم المهملة وفتح الثانية وسكون التحتية (رضي الله عنها أن امرأة) لم أقف على من سماها وهي واحدة نسوة من معناها (من جهينة) بضم(6/387)
الجيم وفتح الهاء والنون وسكون التحتية بينهما: وعند مسلم في رواية «من غامد» قال المصنف في شرحه: وغامد بالغين المعجمة وبعد الألف ميم فدال مهملة. بطن من جهينة (أتت النبي وهي حبلى من الزنى) من فيه ابتدائية أو تعليمية (فقالت: يا رسول الله أصبت حداً) أي موجبه ومقتضيه. ففيه مجاز مرسل من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم (فأقمه على) وذلك لتبالغ في تطهير نفسها من دنس ذلك الذنب الذي تطهرت منه بالتوبة إذ لولاها لما سمحت بنفسها (فدعا نبي الله وليها) أي قريبها القائم عليها (فقال: أحسن إليها) أمره بذلك للخوف عليها منه لما أن العار يلحقهم من الغيرة ولحوق العار بهم ما يحملهم على أذاها، فأوصى بها تحذيراً من ذلك، ولمزيد الرحمة بها لأنها تابت وحرض على الإحسان إليها لما في قلوب الناس من النفرة من مثلها وإسماعها الكلام المؤذي، فنهى عن ذلك كله كما أشار إليه المصنف (فإذا وضعت فأثنى بها) إنما وجه الأمر إليه بذلك ليحمله على الاهتمام بحفظها ودفع الموبقات عنها (ففعل) أي الرجل (فأمر بها النبي) أي بعد استغناء ولدها عنها (فشدت) وفي رواية النسائي وابن ماجه «فشكت» بالكاف بدل الدال (عليها ثيابها) لئلا ينكشف شيء من بدنها عند رجمها (ثم أمر بها فرجمت) وهي معنى قوله في رواية النسائي فرجمها، ويحتمل أنه ابتدأ بالرجم فرجمها الناس بعد فيكون كل من الروايتين بعض ما وقع. وفيه دليل على أن ذلك موقوف على إذن الإمام فيه فمن افتات فيه عليه عزر (ثم صلى عليها) وعلل ذلك في «صحيح مسلم» بأنها «تابت توبة لو قسمت على أهل المدنية لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل» . وفيه الصلاة على المقتول حداً وأن الحد طهرة له من دنس الذنب (رواه مسلم) في الحدود ورواه أبو داود
والترمذي في الحدود، وقال الترمذي: صحيح أيضاً، ورواه النسائي في الجنائز وفي الرجم، والحديث مر شرحه بكماله في باب التوبة.(6/388)
باب جواز قول المريض أنا وجع
بكسر الجيم: أي مريض متألم كما في «المصباح» اسم فاعل من وجه من باب علم (أو شديد الوجع) بفتح أوليه من إضافة الصفة إلى الموصوف (أو موعوك) أي محموم (أو وا رأساه) هو مندوب والمندوب المنادى المتفجع عليه نحو واعمراه، أو المتوجع منه نحو وارأساه والهاء فيه للوقف فإن وصلت حذفتها، ويجوز إثباتها في الضرورة، ويجوز حينئذ كسرها على أصل التخلص من التقاء الساكنين وضمها وتشبيهاً بهاء الضمير (ونحو ذلك، وبيان أنه لا كراهة في ذلك إذا لم يكن على وجه التسخط) أي تكلف السخط مما نزل به وكأنه أشار بذلك إلى أن من شأن المؤمن ألا يبدو منه غضب امتحان المولى سبحانه له، وأن ما يظهر منه على بغض كأنه تكلف صدر عن غير سجيته (وإظهار الجزع) وفي تعبير المصنف بالجواز أولاً وعدم الكراهة ثانياً إيماء إلى أن الأفضل والأعلى الصبر على ما نزل به وعدم إبرازه وإظهاره وما فعله المصطفى فهو على وجه التشريع وبيان جوازه كما فعل التداوي لذلك وإن كان تركه توكلاً أعلى وأغلى.
1914 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي وهو بالبناء للمفعول: أي وعك الحمى (فمسته) بكسر المهملة الأولى وجاء أيضاً بفتحها من باب قتل: أي أفضيت إليه بيدي من غير حائل، كذا قيدوه، قاله في «المصباح» (فقلت إنك لتوعك) بالبناء للمفعول (وعكاً) بسكون العين المهملة مصدر مبني للمفعول (شديداً) وعرف ذلك بما أصاب يده عند مسه جسده (قال أجل) بفتح الجيم وسكون اللام قال في «القاموس» حرف جواب كنعم إلا أنه أحسن منه في التصديق ونعم أحسن منه في الاستفهام اهـ (كما يوعك رجلان منكم) وذلك زيادة في درجته وإعلاء رتبته كما صرح به في الحديث «فقلت ذلك أن لك أجرين، فقال رسول الله أجل» الحديث، وسكت عنه المصنف(6/389)
لعدم تعلق غرض الترجمة به (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطب ومسلم في الأدب وكذا رواه فيه النسائي، وقد سبق الحديث مشروحاً في باب الصبر.
2915 - (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه) سبقت ترجمته في باب الإخلاص (قال جاءني رسول الله يعودني من وجع اشتد بي) وكان ذلك بمكة عام حجة الوداع كما صرح به البخاري في رواية له في أبواب الهجرة (فقلت: بلغ بي ما ترى) يحتمل أن يكون «ما» فاعل بلغ ويكون المفعول محذوفاً، ويحتمل كونها مفعولاً به والفاعل مستتر يعود إلى الوجع المدلول عليه بالمشاهدة (وإناذو) أي صاحب (مال) أي عظيم كما يومىء إليه إضافة ذو الأبلغ من «صاحب» إليه (ولا ترثني إلا ابنتي) لعلها ابنته عائشة التي روى البخاري الحديث من طريقها عنه في باب المرضى (وذكر الحديث) وفيه الإذن بالوصية بالثلث والإيماء إلى طلب النقص منه وشاهد الترجمة من الحديث إقرار النبي سعداً على قوله بلغ بي ما ترى، ولو كان منهياً عنه ولو تنزيهاً لنهاه كما نهى بشيراً عن تخصيص ولده النعمان بعطية وعن باقي إخوته بامتناعه عن الشهادة على ذلك وقوله لا أشهد على جور (متفق عليه) رواه البخاري في الجنائز والهجرة والمغازي والطب والدعوات والفرائض قاله المزي، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه لم يجده فيه وإنما وجده في كتاب الإيمان باختصار اهـ. ورواه مسلم في الوصايا، وكذا رواه فيه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح ورواه فيه النسائي وابن ماجه في الوصايا.(6/390)
3916 - (وعن القاسم بن محمد) بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي، قال الحافظ: هو ثقة وهو أحد الفقهاء بالمدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه وهو من الثالثة: أي من كبار التابعين مات سنة ستّ ومائة على الصحيح خرّج عنه أصحاب الستة، وقد نظم بعض المتقدمين أسماء فقهاء المدينة السبعة فقال:
ألا كل من لا يقتدي بأئمة
فقسمته ضيزي عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة سالم
سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وقد نظمت أسماءهم أيضاً فقلت:
عبيد الله خارجة وعروه
أبو بكر سعيد ثم سالم
سليمان همو فقهاء طيبة
بعد التابعين أولى المكارم
(قال: قالت عائشة رضي الله عنها وارأساه، فقال النبي: بل أنا وارأساه) فيه دليل الترجمة في موضعين: الأول من المرفوع والثاني من الموقوف على عائشة كما تقدم في نظيره من قول سعد من إقرره (وذكر الحديث، رواه البخاري) في كتاب المرضى.
150 - باب استحباب تلقين المحتضر
بالبناء للمفعول: أي من حضره الموت (لا إله إلا الله) ليكون آخر كلامه فيفوز بالوعد المرتب عليه، واستغنى المصنف بما أورده من الأحاديث الدالة على استحبابه عن التصريح به.
1917 - (عن معاذ رضي الله عنه قال: قال النبي من كان آخر كلامه) بالنصب خبر كان(6/391)
مقدماً واسمها قوله (لا إله إلا الله) لأنه أريد بها لفظها فصارت كلمة، بل إسماً وعلماً، ويجوز العكس (دخل الجنة) أي بعد التعذيب إن عذب، ففيه الوعد بموت قائل ذلك على الإسلام، ويحتمل أن يراد دخلها ابتداء مع الفائزين، ويؤيده حديث أبي يعلى الآتي وهذا ما استظهره عياض (رواه أبو داود والحاكم) في «المستدرك» (وقال صحيح الإسناد) ورواه: أحمد في «الجامع الكبير» للسيوطي، وأخرجه الطبراني في «الأوسط» من حديث علي ابن أبي طالب «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله لم يدخل النار» وأخرجه أبو يعلى وابن عساكر في «تاريخه» من حديث «من كان آخر كلامه عند الموت لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدمت ما كان قبلها من الذنوب والخطايا» وبيض في «الجامع» لصحابيه في روايتهما.
2918 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله لقنوا موتاكم) أي الآيلين إلى الموت فسماهم بذلك مجازاً مرسلاً أو لأنهم صاروا في حكم الأموات، وقد اقتصر عليه التوربشتي، وأجاز في حديث «اقرءوا على موتاكم يس» حمله على ذلك وعلى حقيقته فتقرأ عليه بعد موته في بيته ومدفنه (لا إله إلا الله) وجرى قوم على حقيقة اللفظ وعليه أصحابنا وجمع من الأئمة، فاستحبو التلقين بعد الموت وبعد الدفن، وقد ألف فيه الحافظ السخاوي مؤلفاً نفيساً (رواه مسلم) وأحمد والأربعة كلهم في حديث أبي سعيد ورواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة والنسائي عن عائشة كذا في «الجامع الصغير» . قال السخاوي في مؤلفه في التلقين: وهو عند ابن حبان من حديث أبي هريرة، وفيه من الزيادة قوله «فإنه من كان آخر كلامه عند الموت لا إله إلا الله دخل الجنة يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه» وعند الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعاً «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنه ليس من مسلم يقولها عند الموت إلا نجته» وجاء كذلك من طرق عديدة وهو مؤيد لحمل الموتى على المشارفين له، ومن جملة من حمله على ذلك من الشافعية العزّ بن عبد السلام في «فتاويه» . قال العراقي في «شرح الترمذي» في قوله لقنوا موتاكم: هل الأولى حمله على الحقيقة(6/392)
فيكون المراد به تلقين الميت بعد الموت لأن إطلاق اسم الميت عليه قبل موته مجاز والحقيقة مقدمة على المجاز أو الأولى حمله على المجاز لما دل عليه لفظ حديث أبي هريرة عند ابن حبان «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» فإن هذا يدل على تلقين المحتضر وهو قرينة صارفة للفظ عن الحقيقة وعليه حمله المصنف: يعني الترمذي وغيره اهـ. ومعتمد مذهب الشافعية التلقين بعد الموت كما نقله المصنف في «المجموع» عن جماعة من الأصحاب. قال السخاوي: وممن نص على استحبابه القاضي حسين والمتولي والشيخ نصر المقدسي والرافعي وغيرهم، ونقل حسين عن أصحابنا
مطلقاً، وقال ابن الصلاح، هو الذي نختاره ونعمل به، قال السخاوي وقد وافقنا المالكية على استحبابه أيضاً، وممن صرح به منهم القاضي أبو بكر بن العربي قال: وهو فعل أهل المدينة والصالحين والأخيار، وجرى عليه العمل عندنا بقرطبة. وأما الحنفية فاختلف فيه مشايخهم كما في المحيط من كتبهم، وكذا اختلف فيه الحنابلة اهـ. ملخصاً.
151 - باب ما يقوله بعد تغميض الميت
1919 - (وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله أبي سلمة) هو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي الصحابي الجليل (وقد شقّ بصره) قال التوربشتي: بفتح الشين وضم الراء إذا نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه، وضم الشين منه غير مختار. قال ابن السكيت: ولا يقال شق الميت بصره، وقد اختصر في هذا المقام لكنه بسطه المؤلف فقال في «شرح مسلم» هو بفتح الشين، ورفع بصره فاعل على شق، كذا ضبطناه وهو المشهور وضبطه بعضهم بضره بالنصب وهوصحيح أيضاً والشين مفتوحة بلا خلاف. قال القاضي: قال صاحب الأفعال: يقال شق بصر الميت وشق الميت بصره ومعناه شخص كما في الرواية الأخرى. وقال ابن السكيت في الاصطلاح والجوهري حكاية عن ابن السكيت: يقال شق بصر الميت ولا يقال شق الميت بصره وهو الذي حضره الموت وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد إليه طرفه (فأغمضه) لئلا يتشوه منظره (ثم قال: إن الروح إذا قبض) بالبناء(6/393)
للمفعول (تبعه البصر) أي إذا خرج الروح من الجسد تبعه البصر ناظراً أين نذهب. قال الحافظ: وفي فهم هذا المقام دقة لأن البصر إنما يبصر ما دام الروح في الجسد، فإذا فارقه تعطل كغيره من الإحساس، والذي ظهر لي فيه بعد النظر ثلاثين عاماً أنه محمول على أن المراد خروج الروح من أكثر الجسد مع بقائه في الرأس والعين، فإذا خرج الأكثر من الفم ولم يخرج الباقي نظر البصر إلى القدر الخارجي فيكون معنى قوله إذا قبض أخذ في القبض ولم ينته، أو على ما ذكر كثير من العلماء من أن للروح
اتصالاً بالبدن وإن خرجت فترى وتسمع وترد السلام، فيكون هذا الحديث من أقوى الأدلة لذلك اهـ ملخصاً. وفيهما نظر إذا الأول مجاز والثاني إنما فيه بقاء إدراك حاسة البصر الذي الكلام فيه وفي شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي يحتمل أن المراد من قوله تبعه البصر أن القوة الباصرة تذهب عقب خروج الروح فحينئذ تجمد العين ويقبح منظرها، ويحتمل أنه يبقى فيه عقب خروج الروح شيء من البخار الغريزي فيشخص بذلك ناظراً إلى أين تذهب. ولا بعد في هذا لأن حركته حينئذ قريبة من حركة المذبوح، ويحكم على الإنسان مع وجودها بسائر أحكام الموتى اهـ. والأول من وجهية أقرب، وقد سبقه إليه التوربشتي في «شرح المصابيح» ، وعلل الإغماض بوجه آخر فقال: ولذا أغمض لذهاب فائدة الانفتاح بذهاب البصر عند ذهاب الروح، وذكر احتمالاً ثانياً هو أن من حضره الموت ينظر إلى روحه نظر شزر لا يرتد إليه طرفه حتى تضمحل بقية القوة الباقية بعد مفارقة الروح الإنساني الذي يقع به الإدراك والتمييز دون الحيواني الذي به الحس والحركة وغير مستنكر من قدرة الله تعالى أن ينكشف عنه الغطاء ساعتئذ حتى يبصر ما لم يكن يبصر، وهذا الوجه في حديث أبي هريرة أظهر، وهو أيضاً صحيح أخرجه مسلم في «صحيحه» عنه مرفوعاً «ألم تروا أن الإنسان إذا مات شخص بصره، قالوا بلى؟ قال فذلك حين يتبع بصره نفسه» اهـ (فضج) بفتح الضاد المعجمة وتشديد الجيم أي رفع الصوت بالبكاء وصاح (ناس من أهله) من هول ما سمعوا ووقع منهم دعاء على أنفسهم كما أومأ إليه بقوله (فقال لا تدعو على أنفسكم(6/394)
إلا بخير) أي لا يقل أحدكم ويلي أو الويل أو الشرّ لي أو نحو ذلك، وقيل معناه: لا تدعوا على الميت بما لا يرضاه فترجع تبعته عليكم والأول بدليل قوله (فإن الملائكة) أي الحاضرين حينئذ (يؤمنون) بتشديد الميم: أي يقولون آمين: أي استجب (على ما تقولون) أي من الدعاء ودعاؤهم مجاب لما لهم من علوّ الاقتراب فلا تدعوا: إلا بما تحبون أن
تجابوا إليه (ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة) ذكره بكنيته دون اسمه وهو عبد الله لأنه اشتهر بها (وارفع درجته) وهذا أحسن ترتيب لأن الأول من باب التخلية بالمعجمة والثاني من باب التحلية بالمهملة، وفيه أن الأوزار تتقاعد بصاحبها عن رفعة المنار والمراد واجعل له درجة علية عندك (في المهديين) بتشديد الياء الأولى: أي الذين هداهم الله بالإسلام سابقاً والهجرة إلى خير الأنام لاحقاً، والظرف في محل الحال من الضمير المضاف إليه لكون المضاف إليه كجزئه: أي ارفع درجته حال كونه منغمراً في عداد المهديين المشرّفين بالاهتداء (واخلفه) بوصل الهمزة وضم اللام: أي كن له خلفاً وخليفة (في عقبه) بفتح فكسر: أي فيمن يعقبه من ولد وغيره (في الغابرين) بالمعجمة فالموحدة: أي الباقين بدل بإعادة العامل، ويحتمل كونه حالاً مما قبله (واغفر لنا) هذا من باب الخضوع لمقام الربوبية كما تقدم أو هو مجاز عن إعلاء الرتبة من ذكر اللازم وإرادة الملزوم (وله) وقوله (يا ربّ العالمين) مناسبة ختم الدعاء به واضحة إذ من كان موجداً للعالم ماكلاً أمورهم مصلحاً شؤونهم هو الذي يطلب منه ذلك، والعالمين بفتح اللام اسم جميع عالم لاجمعه لاختصاص عالمين بأولى العقول من إنس وجن وملك وشمول عالم لما سوى الله تعالى من سائر الأجناس، والجمع لا يكون أخص من مفرده، وقيل جمعه مراداً به العموم للعقلاء وغيرهم وغلب العقلاء لشرفهم، وعلى الأول ابن مالك في آخرين (وافسح) بهمزة وصل وفتح المهملة الأولى: أي أوسع (له في قبره) يقال فسحت له فسحاً من باب نفع فرجت له عن مكان يسعه كذا في «المصباح» (ونور) أي أوجد النور العظيم المتكاثف (له فيه، رواه مسلم) .(6/395)
152 - باب ما يقال (باب ما يقال) للمفعول عند الميت بالبناء للمفعول أي ما يطلب قوله من كل حاضر (عند الميت) من قريب وغيره
(وما يقوله من مات له ميت)
1920 - (عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: إذا حضرتم المريض) أي المحتضر كما يومىء إليه السياق، وشك الراوي فيه وفي الميت المشار إليه بقوله (أو الميت) أي من فارق الروح جسده كما هو الحقيقة، وقال في «فتح الإله» : المراد منه هو الأول نظير ما في حديث «لقنوا موتاكم» فجعله من مجاز المشارفة» ومن مجاز الأول (فقولوا خيراً) أي لا إله إلا الله مع الإتيان بالدعاء بخير له أولكم كما يدل هل ما جاء في أحاديث طلب الدعاء في العيادة السابق بعضها، وقوله (فإن الملائكة) أي الموظفين بالاستغفار للمؤمنين وللتأمين على دعائهم (يؤمنون) من التأمين: أي يقولون آمين (على ما تقولون) أي من الدعاء (قالت: فلما مات أبو سلمة) وذلك سنة ثلاث أو أربع، وقول ابن عبد الله: إن النبي تزوّح أم سلمة سنة اثنتين من الهجرة بعد وفاة زوجها، رده في «المفهم» نقلاً عن أبي محمد عبد الله بن على الرشاطى بأنه وهم شنيع، قال: فإن أبا سلمة شهد أحداً وكانت في شوال سنة ثلاث فجرح فيها جرحاً فاندمل ثم انتقض فتوفي منه لثلاث خلون من جمادى سنة أربع، وقد ذكره ابن عبد البرّ في كتابه «الاستيعاب» على الصواب (أتيت النبي فقلت: يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات، قال) حذف العاطف لأن مرادها الإخبار بما قال من غير قيد اتصال أو انفصال (قولي: اللهم اغفر لي وله) فيه البداءة بالنفس في الدعاء (وأعقبني) بقطع الهمزة: أي أبدلني وعوضني (منه) أي بدله (عقبى) بوزن بشرى اسم مصدر أعقب (حسنة) أي بدلاً صالحاً (فقلت) أي ما أمرني به (فأعقبني الله من هو خير لي منه) أبدلت «من» من قولها (محمداً) ففيه حصول ثمرة الامتثال بسرعة من غير توان (رواه مسلم(6/396)
هكذا) أي مثل ما ذكر (إذا حضرتم المريض أو الميت على الشك) وقد تعقب القاري في شرح المشكاة الجزم بالشك، وقال إن أريد بالميت من يؤول إلى الموت فأو للشك وإن أريد به الحقيقة: أي المقابل للحي فأو للتنويع اهـ. والأوجه كما
جزم به المصنف إنها للشك. وقد يجاب عنه بأنه قام ما يعلم منه أن المراد بالميت المعنى المجازي فيساوي المريض والشك حينئذ في تعيين أي اللفظين منهما قيل ويقوي أنه لفظ الميت قول المصنف (رواه أبو داود) في الجنائز (وغيره) من باقي أصحاب السنن الأربعة كما ذكره المزي قال: وقال الترمذي: حسن صحيح، قال الحافظ في تخريج أحاديث «الأذكار» ، وأخرجه كذلك البيهقي في طريقين (الميت بلا شك) قال الحافظ في تخريج أحاديث «الأذكار» : ورويناه في الغيلانيات مقتصراً على المريض من غير شك.
2921 - (وعنها قالت سمعت رسول الله يقول: ما من) مزيدة للتأكيد (عبد) وفي المشكاة بدله مسلم (تصيبه مصيبة) متناولة لقليل المصيبة وكثيرها وعظيمها وحقيرها لكونها نكرة في عموم النفي (فيقول) زاد في رواية «ما أمر الله به» أي تلويحاً للثناء على قائله الثناء العظيم المستلزم لطلبه منه (إنا) أي ذاتنا وجميع ما ينسب إلينا (لله) ملكاً وخلقاً فيتصرف فينا كيف يشاء فالكل عوار مستردة كما أشار إليه بقوله (وإنا إليه راجعون) فعلينا الصبر على المصائب وتدير حقائق هذه الآية ليسهل علينا مزاولة كل ما أصابنا، وليس فائدة الأمر للمصاب قول هذا الذكر بمجرد لفظه لأنه لا ينفع وحده، وإنما فائدته مع تدبره حق التدبر فإنه الدواء النافع الحامل على كمال الصبر بل وحقائق الرضا (اللهم) ظاهره أن هذا من جملة ما رتب على الإتبان به ما وعد به الأجر (اؤجرني) بسكون الهمزة ووقع لابن مالك في «شرح المشارق» أنه قال بهمزة وصل وهو وهم لأن الهمزة الموجودة فاء(6/397)
الفعل وهمزة الوصل سقطت للدرج من أجره يأجره أو يأجره بضم الجيم وكسرها: أي أثابه وأعطاء الأجر قاله ابن حجر الهيثمي ويأتي ما في الكسر، والمعنى أعطني الأجر (في مصيبتي) «في» يحتمل كونها بمعنى مع وكونها للسببية والثاني أظهر، والمصيبة كل مكروه ينزل بالإنسان: أي أثبني ثواباً مقارناً لها أو بسببها (وأخلف) من الإخلاف، إذ ما يخلف يقال فيه أخلف عليك وما لا يخلف كالأب إذا مات يقال خلف عليك (لي خيراً منها إلا آجره الله) أي أثابه، في «المصباح» يقال أجره الله أجراً من بابي ضرب وقتل وآجره بالمد لغة ثالثة: أي أثابه لكن في المراقة أنه بالكسر مع القصر غير موجود في النسخ (تعالى في مصيبته وأخلف له خيراً منها) وذلك لاستكانته تحت أقضية مولاه وصبره على ما أتاه والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن جاء بالحسنة فله خير منها (قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله) زاد في رواية عناه
قالت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله؟ ثم إني قلتها (فأخلف الله تعالى لي خيراً منه) أي من أبي سلمة (رسول الله) عطف بيان أو بدل من مفعول أخلف (رواه مسلم) في الجنائز، قال في سلاح المؤمن: انفرد به مسلم عن أصحاب الستة، وإلا فقد أخرجه أبو عوانة كما قاله الحافظ في تخريج أحاديث «الأذكار» .
3922 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا مات ولد العبد) هو شرعاً المكلف ولو حرّاً وعمومه متناول للصغير والكبير (قال الله تعالى لملائكته قبضتم) بفتح(6/398)
الموحدة وهو على تقدير الاستفهام التقريري لبيان عظم خبره لهم: أي أقبضتم (ولد) بفتح أوليه ويقال بضم فسكون في لغة، قال في «المصباح» : وقيس تجعل المضموم جمعاً للمفتوح كأسد وأسد كما مر (عبدي) الإضافة فيه للتشريف جبراً لما أصابه من المصيبة وتشريفاً له لصبره على أقضية ربه (فيقولون نعم، فيقول) تنبيهاً لهم على عظيم صبره (قبضتم ثمرة فؤاده) أي لبّ لبِّه وخلاصة خلاصته، إذا القلب خلاصة ما في الإنسان وخلاصته اللطيفة الموضوعة فيه من كمال الإدراكات والعلوم التي خلق لها وشرف بشرفها، فلشدة شغف هذه اللطيفة بالولد صار كأنه ثمرتها المقصود منها، وبين بهذه الجملة عظم المصاب وعظم الصبر عليه مع ذلك (فيقولون نعم، فيقول ماذا قال عبدي؟ فيقولون حمدك) أي قال مترقياً عن مقام الصبر إلى مقام الرضا الحمد لله (واسترجع) أي قال «إنا لله إليه راجعون» (فيقول الله ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد) الفاء التفريعية إيماء إلى أن من فقد مثل هذه الثمرة الخطيرة ومع ذلك لم يعدها مصيبة من كل وجه بل من وجه فاسترجع ومنحة من وجه آخر فحمد، حقيق أن يقابل بالحمد حتى في تسمية محله به (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) .
4923 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن عندي) ظرف لقوله (جزاء) وهو مبتدأ خبره المجرور قبله، والعندية عندية شرف ومكانة لا عندية مكان وبينه وبين عبدي جناس مصحف، وإذا في قوله (إذا قبضت صفيه) ظرفية ويحتمل كونها متضمنة معنى الشرط، والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه، والصفي بفتح فكسر فتشديد: أي حبيبه لأنه يضافيه وده ويخلصه حبه فعيل بمعنى فاعل أو مفعول (من أهل الدنيا) حال أتى به لبيان الواقع (ثم احتسبه) أي بأن يرجو ثوابه(6/399)
ويدخره عند الله تعالى، وذلك ينبىء عن مزيد الصبر التسليم (إلا الجنة) بالرفع بدل من المبتدأ ويجوز نصبه على الاستثناء (رواه البخاري) في الرقاق، وقد سبق الحديث مشروحاً في باب الصبر أول الكتاب.
5924 - (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إحدى بنات النبي) وهي زينب كما صرح به ابن أبي شيبة وصوبه غيره (إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً) تقدم أنها أمامة بنت زينب من أبي العاص بن الربيع واستشكل بأن في الحديث لفظ صبيّ أوابن فكيف يطلق ذلك عليها؟ فالراجح أن القضية متعددة كان المريض في إحداهما الابن واسمه عليّ وهو المشار إليه بما في هذا الحديث، وأخرى كان البنت، وحمله على غيرهما يرد بأن الإخباريين صرحوا أنها لم تلد غيرهما، ثم لا ينافي تفسيرها بأمامة كونها عاشت حتى تزوجها عليّ رضي الله عنه، لأن المراد من قبض في رواية لهما قارب القبض كقولها هنا (في الموت) في مقدماته المعتاد وجوده بعدها (فقال للرسول: ارجع إليها وقل لها: إن لله ما أخذ) مقتبس من قوله تعالى: {إنا لله} (البقرة: 156) (وله ما أعطى) تأكيد مناسب للمقام (وكل شيء) مما أخذه وأعطاه من الآجال والأرزاق التي أخذها وأبقاها (عنده) عندية علم أو مكتوب عند ملائكته وجعل ما عندهم عنده تشريفاً لهم كقوله تعالى: {والله يدعو إلى دار السلام} (يونس: 25) أي وأولياء الله يدعون إليها جعل دعاءهم دعاءه تشريفاً لهم كما أشار إليه البيضاوي (بأجل مسمى) معلوم معين لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه فلا فائدة في الجزع، ولذا قال (فمرها فتصبر) بأن تتحمل مرارة فقده من غير أن يظهر عليها شيء من أنواع الجزع (ولتحتسب) أي تدخر ثواب فقده والصبر عليه عند الله، وكل منهما أمر للغائبة المؤنثة(6/400)
أو الحاضرة نظير فبذلك فلتفرحوا فعلى الأول المبلغ المعنى لا بخصوص اللفظ، وعلى الثاني بخصوصه، وعلى الحضور التذكير باعتبار الشخص وفيه الوصية بالصبر عند البلية قبل وجودها ليستعد لها (وذكر تمام الحديث) السابق مع شرحه في باب الصبر (متفق عليه) .
153 - باب جواز البكاء على الميت بغير ندب
بفتح النون فسكون المهملة: تعداد محاسن الميت (ولا نياحة) بكسر النون وتخفيف التحتية والمهملة ومن ذلك قلبت الواو فيه ياء كما في صيام: وهي رفع الصوت بالندب الذي هو ذكر محاسن الميت وإن لم يكن بكلام مسجع، وكذا يحرم أيضاً إفراط رفع الصوت بالبكاء ولو بلا ندب ولا نوح، قاله في «فتح الإله» . (أما النياحة فحرام) أي سواء كان معها بكاء أم لا (وسيأتي فيها باب في كتاب النهي إن شاء الله تعالى. وأماالبكاء فجاءت أحاديث بالنهي عنه وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) وعقد المصنف في «الخلاصة» باباً لما جاء في ذلك فقال عن عمر رضي الله عنه عن النبي قال «الميت يعذب في قبره بما نيح عليه» متفق عليه، وعن المغيرة مثله، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال «أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تبكي واجبلاه واكذا، تعدِّد عليه، فقال حين أفاق، ما قلت شيئاً إلا قيل لي أنت كذا، فلما مات لم تبك عليه» . رواه البخاري.
وعن ابن أبي مليكة قال: «توفيت بنت لعثمان بمكة فجئنا لنشهدها وحضرها ابن عمر وابن عباس، فقال ابن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن النبي قال: إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: لما أصيب عمر دخل عليه صهيب يبكي يقول واأخاه،(6/401)
فقال عمر: أتبكي عليّ وقد قال رسول الله: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه؟ قال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت رحم الله عمر والّله ما حدث رسول الله «إنّ الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه» ولكن رسول الله قال: «إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه» وقالت: حسبكم القرآن {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) قال ابن أبي مليكة والله ما قال ابن عمر شيئاً. متفق عليه.
وعن عائشة «أنها ذكر لها قول ابن عمر إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه برفعه إلى النبي، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ إنما مرّ رسول الله على يهودية يبكى عليها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها» متفق عليه. وفي رواية «إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن» .
وعن أبي موسى أن رسول الله قال: «ما من ميت يموت فيقول باكيهم فيقول واجبلاه واسيداه ونحو ذلك إلا وكل الله به ملكين يلهزانه أهكذا أنت؟» رواه الترمذي وقال حسن،. اللهز: الضرب بجمع اليد في الصدر (وهي متأولة) أي مصروفة عن ظاهرها بأن المراد من تعذيبه ما يلحقه من الرقة عليهم حال سماعه بكاءهم، قاله ابن جرير الطبري وغيره. وقال عياض: هو أولى الأقوال، واحتجوا بحديث فيه «أن النبي زجر امرأة عن البكاء على ابنها وقال: إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم» أو كما قالت عائشة رضي الله عنها: إن الكافر أو غير من أصحاب الذنوب يعذب في حال بكاء أهله عليه بذنبه لا ببكائهم، أو بأنهم كانوا ينوحون على الميت ويندبونه بتعديد شمائله ومدحه في زعمهم، وتلك قبائح في الشرع يعذب بها كما كانوا يقولون يا مرمل النسوان ومخرب العمران وميتم الولدان وغير ذلك مما يرونه شجاعة وفخراً وهو حرام (أو محمولة على من أوصى به) جعل المصنف في الخلاصة هذا تأويل الأحاديث المذكورة/ ونقله في «شرح مسلم» عن الجمهور أو أهمل الوصية بتركه فيعذب لتفريطه بالوصية بذلك أو بإهمال الوصية بتركه، أما من أوصى بتركه فلا يعذب به إذ لا صنع له ولا تفريط منه، وحاصل هذا القول إيجاب الوصية بترك ذلك وتعذيب من أهملها أو وصى بفعله (والنهي إنما هو عن البكاء الذي فيه ندب أو نياحة) قال في الخلاصة: أجمعوا على(6/402)
أن البكاء الذي يعذب به أي على التفصيل السابق فيه هومجرد النياحة لا مجرد دمع العين ونحوه
(والدليل على جواز) أي إباحة (البكاء بغير ندب ولا نياحة أحاديث كثيرة منها) .
1925 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عاد سعد بن عبادة) وكان ذلك في أوائل أعوام الهجرة كما يومىء إليه ما وقع من ابن أبيّ المنافق من الكلام القبيح المذكور في الحديث في الصحيح (ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم) يحتمل أن يكون معه أبو بكر وعمر أيضاً ولم يذكرهما الراوي لعدم مفارقتهما له إلا نادراً، ويحتمل أنهما لم يكونا حينئذ معه بأن خطرت العبادة له غيبتهما عنه. والّله أعلم والجملة حالية ربطها كل من الواو والضمير (فبكى رسول الله) أي لما رأى من الغلبة التي على سعد فغلبت عليه العبرة التي هي أثر الرحمة التي هو عينها (فلما رأى القوم) أي الحاضرون معه (بكاء رسول الله) بالعيان (بكوا) اقتداء أو تأسياً (فقال: ألا تسمعون) ثم استأنف بقوله (إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب) سواء اجتمعا أو كان كل بانفراد (ولكن يعذب بهذا) أي بما يصدر منه مما حرّم الشارع من ندب أو نياحة أو مبالغة رفع صوت بالبكاء، وكذا يعذب بالتبرم بالقلب والتضجر، ودليل ذلك ما يصدر من لسانه لأنه يعرب عن شأنه (أو يرحم) أو فيه للتنويع: أي أو يرحمه به إن أتى بما فيه صبر واسترجاع وحمد لله سبحانه (وأشار) أي النبي (بيده) مبيناً للمشار إليه بقوله بهذا (إلى لسانه متفق عليه) .
2926 - (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن رسول الله رفع) بالبناء للمفعول، ويجوز أن يقرأ بالبناء الفاعل (إليه ابن ابنته) زينب، وقد تقدم تعيينه وما فيه من الخلاف في(6/403)
حديثه قبل هذا (وهو في الموت) أي في مقدماته فلا ينافيه حياته إلى زمن طويل بعد (ففاضت عينا رسول الله) أي كثر دمعها حتى سال، ففيه إسناد مجازي وحذف التمييز: أي دمعاً لدلالة الحال على تعيينه. وفي «القاموس» : فاض الماء يفيض هو ابن عبادة كما تقدم في الحديث بجملته في باب الصبر «ومعه سعد بن عبادة» وليس فيه ابن معاذ ولا ابن أبي وقاص (ما هذا يا رسول الله) سؤال عن سببه وحكمته ووصفه لا عن حقيقته فلذا (قال) في جوابه (هذه) أي الرحمة المداول عليها بتلك العبرة وقد تقدم في باب الصبر فقال هذه (رحمة جعلها الله في قلوب عباده) مفعول ثان لجعل لأنه بمعنى صير: أي من يشاء منهم كما جاء كذلك في رواية وسبقت في باب الصبر (وإنما يرحم الله) أي الرحمة الكاملة كما يومىء إليه إسناد الفعل إلى لفظ الجلالة الذي هو جامع لمعاني الأسماء موضوع لمجرد تعيين الذات المسمى (من عباده الرحماء) جمع رحيم ككريم وكرماء (متفق عليه) .
3927 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله دخل على ابنه إبراهيم) في بيت ضيرة أبي سيف وكان من العوالي (وهو يجود بنفسه) في «المصباح» جاد بالمال بذله، وجاد بنفسه: سمح بها عند الموت والجود مستعار من ذلك اهـ. ففي الكلام استعارة تبعية. وفي «فتح الباري» يجود بنفسه: أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ما يجود به، وكان موت إبراهيم سنة عشر من الهجرة عن ثمانية عشر شهراً، وكان مولده في ذي الحجة من سنة ثمان منها، ووفاته يوم الثلاثاء لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر قاله المصنف في «التهذيب» وغيره، وفي «فتح الباري» وجزم به الواقدي وقال ابن حزم: مات قبل النبي بثلاثة أشهر. واتفقوا على أنه ولد في ذي الحجة سنة ثمان اهـ (فجعلت) من أفعال(6/404)
الشروع واسمها (عينا رسول الله تذرفان) بسكون الذال المعجمة وكسر الراء من باب ضرب: أي تدمعان (فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله) قال الطيبي: فيه معنى التعجب والواو عاطفة على مقدر: أي الناس لا يصبرون وأنت تفعل كفعلهم كأنه تعجب لذلك منه مع عهده فيه أنه يحث على الصبر وينهى عن الجزع (فقال: يا ابن عوف إنها) أي الحال التي شاهدتها منى (رحمة) على الولد، لا ما توهمت من الجزع اهـ. وفي رواية عن ابن عوف «فقلت: يا رسول الله تبكي أو لم تنه عن البكاء» وزاد فيه «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، إنما هذه رحمة ومن لا يرحم لا يرحم» (ثم أتبعها بأخرى) قيل معناه: أتبع الدمعة الأولى بدمعة أخرى، وقيل أتبع الكلمة الأولى المجملة وهي قوله إنها رحمة بكلمة أخرى مفصلة هي قوله على سبيل البيان (فقال: إن العين تدمع والقلب يحزن) قال الدماميني في «المصابيح» : يجوز في القلب الرفع والنصب. قال ابن المنير: فيه أنه بين أن مثل هذا لا يدخل تحت القدرة ولا يكلف العبد الانكفاف عنه، وذلك لأنه أضاف الفعل إلى
الجوارح، كأنها امتنعت على صاحبها فصارت هي الفاعل ولذا قال (ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فعبر بصيغة اسم المفعول لا بصيغة الفاعل: أي ليس الحزن من فعلنا ولكنه واقع بنا من غيرنا ولا يكلف الإنسان بفعل غيره (رواه البخاري) وعقد له ترجمة فقال باب قول النبي إنا بك لمحزونون (وروى مسلم) في كتاب الفضائل (بعضه) ولفظه من حديث أنس «فقال أنس: لقد رأيته: يعني إبراهيم يكيد بنفسه بين يدي رسول الله، فدمعت عينا رسول الله وقال: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون» قال في «فتح الباري» : قوله يكيد قال صاحب العين: إي يسوق بنفسه، وقيل معناه: يقارب بها الموت، وقال أبو مروان: قد يكون من الكيد وهو القيء، يقال منه كاد يكيد شبه تقلع نفسه عند الموت بذلك (والأحاديث في الباب) أي باب إباحة(6/405)
البكاء المجرد عن نياحة وندب ومبالغة رفع صوت به (كثيرة في الصحيح مشهورة) وشهرتها تغني عن ذكرها، وبالله التوفيق (والّه أعلم) .
154 - باب الكف عما يرى باب الكف عما يرى من الميت من مكروه
من الميت من مكروه من تغير لون أو تشويه صورة، نعم إن كان من وقع له ذلك ذا بدعة فلا بأس به ليكون زجراً عن بدعته، أما إذا رأى به أمراً محموداً من إضاءة وإشراق ونحوهما فليذكر ذلك، إلا إن كان من وقع له ذلك ذا بدعة فليكتمه لئلا يقع الناس في بدعته.
1928 - (عن أبي رافع) القبطي (أسلم) بفتح الهمزة وسكون السين المهملة هو اسمه، وقيل اسمه إبراهيم، وقيل ثابت بالمثلثة فالموحدة وقيل اسمه أيو هرمز (مولى رسول الله) قال المصنف في «التهذيب» : شهد أحداً والخندق والمشاهد بعدها، وزوّجه النبي مولاته سلمى فولدت له عبيد الله بن أبي رافع، وشهد أبو رافع فتح مصر، وتوفي بالمدينة قبل قتل عثمان وقيل بعده، وكان أبو راف مملوكاً للعباس فوهبه لرسول الله، فلما أسلم العباس أعتقه رسول الله اهـ. روى له عن رسول الله ثمانية وستون حديثاً، قال ابن الجوزي في «مختصر التلقيح» وقال في البرقي: في بضعة عشر حديثاً، وروى عنه البخاري حديثاً واحداً ومسلم ثلاثة (أن رسول الله قال: من غسل ميتاً فكتم عليه) معطوف على مقدر: أي ورأى منه سوءاً فكتم عليه (غفر الله له أربعين مرة) ولا يعلم عدد ما في كل مرة من الذنب المغفور إلا الستار الغفور (رواه الحاكم) في «المستدرك» (وقال: صحيح على شرط مسلم) زاد في «الجامع الكبير» ورواه البيهقي في «الشعب» وهو حديث فيه فضل الدفن(6/406)
والكفن. وفي «الجامع الصغير» : أخرج الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً «من غسل ميتاً فستره ستره الله من الذنوب» الحديث، وفي «الجامع الكبير» : أخرج الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً «من غسل ميتاً فكتم عليه طهره الله من ذنوبه، فإن هو كفنه كساه الله من السندس» وأخرج أبو يعلى والبيهقي وأحمد من حديث عائشة مرفوعاً «من غسل ميتاً فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ليله أقربكم منه إن كان بعلم، فإن لم يعلم فمن ترون عنده حظاً من ورع وأمانة» وفي «الجامع الكبير» أيضاً: أخرج ابن ماجه من حديث عليّ مرفوعاً «من غسل ميتاً وكفنه وحنطه وحمله وصلى عليه ولم يفش عليه ما رأى منه خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه» .
155 - باب الصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه وكراهة اتباع
بتشديدالفوقية ويجوز تخفيفها، يقال اتبعه بالتشديد إذا سبقه فلحقه، وبالتخفيف أي ألحق به غيره كما يؤخذ من «القاموس» (النساء الجنائز) كراهة تنزيه.
(قد سبق فضل التشييع) بقوله في كتاب عيادة المريض في حديث البراء «أمرنا بسبع إلى أن قال: واتباع الجنائز» وبقوله في حديث أبي هريرة عقبه «حق المسلم على المسلم خمس» إلى أن قال: واتباع الجنائز» .
1929 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من شهد الجنازة حتى يصلى) بالبناء للمفعول ونائب فاعله قوله (عليها فله قيراط) قال في «المصباح» : يقال أصله قرط بتشديد الراء لكن أبدل من أحد المضعفين ياء للتخفيف كما في دينار ونحوه، ولذا يرد في الجمع والتصغير إلى أصله فيقال قراريط وقريريط اهـ. قال ابن حجر الهيتمي: حصول هذا القيراط مرتب على الحضور معها من المنزل. وخالف الحافظ في «فتح الباري» فقال بعد أن(6/407)
ذكر ما تقدم وأنه صرح به المحب الطبري: والذي يظهر لي أن القيراط يحصل أيضاً لمن صلى فقط، لأن ما قيل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع مثلاً وصلى اهـ. قال: وتتعدد قراريط الصلاة بتعدد الجنائز وإن صلى عليهم معاً (ومن شهدها حتى تدفن) أي ويكمل دفنها هذا أصح الأوجه عند إمامنا الشافعي، وقيل غير ذلك، ويترجح ما قلنا أولاً بما جاء عند مسلم «حتى يتفرغ منها» وللرواية الآتية «ويفرغ من دفنها» (فله قيراطان) أي أحدهما قيراط الصلاة، في حديث للطبراني «من تبع جنازة حتى يقضي دفنها كتب له ثلاث قراريط» فعليه. الأول للحضور معها من المنزل قبل الصلاة. والثاني للصلاة، والثالث للتشييع. قال في «فتح الباري» : الإشارة بهذا المقدار إلى الأجر المتعلق بالميت في تجهيزه وغسله وجميع ما يتعلق به، فللمصلي عليه قيراط من ذلك، ولمن شهد الدفن قيراط، وذكر القيراط تقريباً للفهم لما كان الإنسان يعرف
القيراط ويعمل العمل في مقابلته وعد من جنس ما يعرف وضرب له المثل بما يعلم، نقله عن ابن الجوزي عن ابن عقيل قال: وليس ما قاله ببيعد. وقد روى الطبراني من طريق عجلان عن أبي هريرة مرفوعاً «من أتى جنازة من أهلها فله قيراط، فإن اتبعها فله قيراط، فإن اتبعها فله قيراط، فإن صلى عليها فله قيراط» وإن اختلف مقادير القراريط ولا سيما بالنسبة إلى مشقة ذلك العمل وسهولته، وعليه فيقال إنما خص قيراطي الصلاة والدفن بالذكر لكونهما المقصودين بخلاف باقي أحوال الميت فإنها وسائل، ولكن هذا يخالف ظاهر الحديث الذي في كتاب الإيمان من «صحيح البخاري» ، فإن فيه أن لمن كان معها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها قيراطين فقط. ويجاب عنه بأن القيراطين المذكورين لمن شهد. والذي ذكره ابن عقيل لمن باشر الأعمال التي يحتاج إليها الميت فافترقا وقال المصنف وغيره: لا يلزم من ذكر القيراط في العملين تساويهما لأن عادة الشرع تعظيم الحسنة بحسب مقابلها (قيل: وما القيراطان) سأل عن تعيينهما لذكرهما مبهمين ولم يعين في هذه الرواية القائل ولا المقول له. وقد جاء عند مسلم «فقيل: وما القيراطان يا رسول الله» وعنده في حديث ثوبان «سئل رسول الله عن القيراط» وبين أبو عوانة في رواية أن السائل هو أبو هريرة (قال: فمثل الجبلين العظيمين) جاء في رواية للبخاري «مثل أحد» وعند النسائي من طريق الشعبي، وله قيراطان من الأجر كل واحد منهما(6/408)
أعظم من أحد وفي رواية لمسلم «أصغرها مثل أحد» وفي حديث وائلة عن ابن عدي «كتب له قيراطان من أجر أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد» قال ابن المنير: أراد بهذا تعظيم الثواب فمثله بالجبلين العظيمين (متفق عليه) .
2930 - (وعنه أن رسول الله قال: من اتبع جنازة مسلم إيماناً) مفعول له أي تصديقاً بالوعد الوارد فيه (واحتساباً) وقوله (وكان معه) كذا في الأصل والظاهر معها. وإن صحت به الرواية فالتذكير لعود الضمير إلى المضاف إليه (حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها) أي بتمام تسوية التراب على القبر (فإنه يرجع من الأجر بقيراطين) أجر للاتباع وأجر للصلاة عليها مع السير والصبر لتمام الدفن (كل قيراط مثل أحد) قال الطيبي قوله مثل أحد تفسير للمقصود من الكلام، لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبين الموزون بقوله من الأجر وبين المقدار منه بقوله مثل أحد.d قال الزين بن المنير: أراد تعظيم الثواب فمثله للعباد بأعظم الجبال خلقاً وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حباً لأنه الذي قال في حقه «أحد جبل يحبنا ونحبه» اهـ، ولأنه أيضاً قريب من المخاطبين يشترك أكثرهم في معرفته، وخص القيراط بالذكر لأنه كان أقل ما تقع به الإجارة في ذلك الوقت، أو جرى ذلك مجرى العادة من تقليل الأجر بتقليل العمل (ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن) بالفوقية أي الجنازة باعتبار من عليها إن كانت اسم النعش وإن كانت اسم الميت فالتأنيث باعتبار أنها نفس أو باعتبار لفظ الجنازة (فإنه يرجع بقيراط، رواه البخاري) .
3 - (وعن أم عطية) نسيبة بضم النون وفتح المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة(6/409)
(رضي الله عنه قالت: نهينا) بالبناء للمفعول، والمروي بهذه الصيغة موقوف لفظاً مرفوع حكماً: أي نهانا رسول الله، وقد رواه الإسماعيلي بهذا اللفظ والمراد جماعة النساء (عن اتباع الجنائز) وذلك أنهن يؤمرن بالستر واتباع الجنائز مقتض لكشفهن (ولم يعزم) بالبناء للمفعول: أي لم يؤكد (علينا) في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم. قال القرطبي: ظاهر سياق حديث أم عطية أن النهي نهى تنزيه وبه قال جمهور أهل العلم. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون المراد بقولها ولم يعزم علينا: أي كما عزم على الرجال بترغيبهم بحصول القيراط ونحو ذلك والله أعلم (متفق عليه) أخرجاه في الجنائز (ومعناه) أي معنى مجموع الحديث باعتبار قوله «لم يعزم علينا» (ولم يشدد في النهي كما يشدد في المحرمات) أي فيكره اتباعهن لها ولا يحرم.
156 - باب استحباب تكثير المصلين
بالمثلثة (على الجنازة) لكونهم شفعاء للميت (وجعل صفوفهم ثلاثة) مفعول ثان لجعل وهو مضاف إلى مفعوله الأول (أو أكثر) أو فيه بمعنى بل.
1932 - (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله: ما من) صلة لتأكيد النفي (ميت) أي من المسلمين كما في الحديث بعد (يصلي عليه أمة) أي جماعة (من المسلمين) والجملة الفعلية في محل الصفة لما قبله والظرف صفة أمة من فيه بيانية(6/410)
وقوله (يبلغون مائة) جملة في محل الحال من فاعل يصلي (كلهم) يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره «يشفعون» ويحتمل أن يكون تأكيداً معنوياً لفاعل يبلغون، وجملة يشفعون حال منه أو من أمة فهي متداخلة أو مترادفة أو مستأنفة استئنافاً بيانياً (إلا شفعوا) بالبناء للمفعول: أي من أعم الأحوال (رواه مسلم) في الجنائز، ورواه النسائي من حديث ميمونة بلفظه، لكن بإسقاط قوله «يبلغون مائة كلهم يشفعون فيه» .
2933 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ما من رجل مسلم) والتقييد بالرجل لأنه أشرف (يموت) جملة صفة لرجل لعدله فيها (فيقوم على جنازته أربعون رجلاً) أي مصلين عليه مستشفعين له فيها (لا يشركون بالله شيئاً) من الإشراك ومن المعبودين (إلا شفعهم الله فيه، روه مسلم) في الجنائز، ولا مخالفة بين هذا الخبر وما قبله لأن مفهوم العدد غير حجة على الصحيح، وأن الله أخبره بما جاء فيمن صلى عليه مائة ثم زاد الفضل من الله تعالى بحصول مثل ذلك فيمن صلى عليه أربعون فأخبر به، والله أعلم.
3934 - (وعن مرثد) بفتح الميم والمثلثة وسكون الراء بينهما آخره دال مهملة (ابن عبد الله اليزني) بفتح التحتية والزاي بعدها نون أبو الخير المصري ثقة فقيه من كبار التابعين، مات سنة تسعين، خرّج عنه أصحاب الستة كذا في «التقريب» للحافظ (قال: كان مالك بن هبيرة) بضم الهاء وفتح الموحدة والراء وسكون التحتية بينهما ابن خالد بن مسلم السكوني أو الكندي الصحابي (رضي الله عنه) قال في «التقريب» : نزل حمص ومصر، مات في أيام مروان،(6/411)
روى له عن رسول الله كما في «مختصر التلقيح» أربعة أحاديث، وقال البرقي: له حديثان (إذا صلى على الجنازة فتقال الناس) بتشديد اللام من باب التفاعل والأصل تقالل فسكنت الأولى وأدغمت: أي إذا رآهم قليلين، وقوله (عليها) ظرف متعلق بمحذوف: أي المصلين عليها (جزأهم) بتشديد الزاي: أي جعلهم مجزئين (ثلاثة أجزاء) مفعول مطلق كل جزء صفا (ثم قال: قال رسول الله: من صلى عليه ثلاثة صفوف) بضم أوليه جمع صف وهو كقوله عز وجل: {ثلاثة قروء} () في استعمال جمع القلة موضع جمع الكثرة على سبيل التجوز (فقد أوجب) أي أوجب له الجنة بالوعد الصادق على لسان نبيه ووعد الله لا يخلف (رواه أبو داود) في الجنائز (والترمذي) فيه، وكذا رواه ابن ماجه في الجنائز أيضاً، ورواه البزار أيضاً (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) وقال: يزيد وبين مالك رجلاً، ورواية هؤلاء أصح عندنا.
157 - باب ما يقرأ
بالبناء للمفعول ويجوز بالبناء للفاعل ويعود الفاعل إلى المصلي (في الصلاة على الجنازة) . (يكبر) أي المصلي مع رفع يديه إلى حذو منكبيه كما يفعل في تكبير التحريم (أربع تكبيرات) بالنصب مفعول مطلق (يتعوذ) أي ندباً (بعد) التكبيرة (الأولى) وهي تكبيرة التحريم (ثم يقرأ) أي من غير دعاء افتتاح صلاتها على التخفيف (فاتحة الكتاب)(6/412)
والأولى كونها بعد التكبيرة الأولى، ويجوز إخلاؤها منها وقراءتها مع الصلاة على النبي بعد التكبيرة الثانية أو مع الدعاء بعد الثالثة (ثم يكبر الثانية) رافعاً يديه كما يفعل في تكبير الركوع (ثم يصلي على النبي فيقول) وجوباً (اللهم صل على محمد) ندباً (وعلى آل محمد، والأفضل) في حصول اللفظ المسنون فيها (أن يتممه) بضم أوله من التتميم: أي يكمل لفظ الصلاة بقوله (كما صليت على إبراهيم) والكاف للتشبيه وسيأتي بيان وجهه إن شاء الله تعالى، ومن أحسنه أنه من تشبيه الإحسان بالإحسان، وقوله (إلى قوله حميد مجيد) متعلق بقوله يتممه: أي فيقول «كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» وتبين بما ذكر أن الأقل والأكمل منها هنا كالأقل والأكمل منها في الصلاة (ولا يفعل) بالجزم نهي، ويجوز أن يقرأ بالرفع فيكون خبراً لفظاً إنشاء معنى (ما يفعله العوام) بتشديد الميم جمع عامة مثل دابة ودواب، والعامة خلاف الخاصة، كذا في «المصباح» ، وفي الكلام إطلاق الفعل على القول لأنه فعل اللسان وباقي المخارج (من قراءتهم إن الله وملائكته يصلون على النبيّ الآية) بالنصب بتقدير بأن فيه حذف الجارّ وإبقاء عمله، وذلك سماعي لا يجوز في مثله (فإنه لا تصح صلاته إذا اقتصر عليه) أي من غير أن يأتي بعده بنحو اللهم صل على محمد وذلك لأنه ليس فيه إلا الإخبار عما تفضل به الله تعالى على نبيه من أنه مع ملائكته يصلون عليه وأمر الأمة لذلك، وهذا ليس بصلاة والواجب
فيها الصلاة عليه وهو لم يأت بها، ويكره الإتيان بها مع الإتيان بالصلاة عليه لما فيها من ابتداع ما لم يرد عن الشارع والتطويل فيها مع بنائها على التخفيف (ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت) وهو واجب وأقله نحو اللهم اغفر له (وللمسلمين) وهو مندوب، واستحب الدعاء لهم حينئذ للخبر لما لحقهم من النقص بفقد ذلك الميت (بما سنذكره من) أي في (الأحاديث إن شاء الله تعالى) ويجوز كون ابتدائية: أي مبدوءة من الأحاديث (ثم يكبر الرابعة ويدعو) ندباً (ومن أحسنه) أي في(6/413)
الدعاء المندوب بعدها (اللهم) أي بالله (لا تحرمنا) بفتح الفوقية وكسر الراء. في القاموس: حرمه الشيء كضربه وأحرمه وكسر الثانية: أي لا توقعنا في الفتنة: أي المحنة (بعده) أي بعد موته (واغفر لنا وله، والمختار) عند أصحابنا الشافعية (أنه يطوّل الدعاء) للميت وللمسلمين (في) أي بعد التكبيرة (الرابعة) وقوله (خلاف ما يعتاده الناس من الدعاء) بالنصب حال من فاعل يطول: أي حال كونه مخالفاً لمعتاد أكثر الناس من تقصير الدعاء فيه اقتصار على الذكر السابق مرة واحدة (لحديث) عبد الله (بن أبي أوفي الذي سنذكره إن شاء الله تعالى) آخر الباب (فأما الأدعية) جمع دعاء وقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها (المأثورة) بالمثلثة أي الواردة عنه بعد التكبيرة الثالثة (فـ) كثيرة (منها) .
1935 - (عن أبي عبد الرحمن عوف) بالفاء في آخره (بن مالك الأشجعي) وما ذكره المصنف في كنيته أحد أقوال فيها، وقيل كنيته أبو عمرو وقيل أبو عبد الله وقيل أبو محمد وقيل أبو حماد وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب القناعة (قال: صلى رسول الله على جنازة فحفظت من دعائه) لعله جهر به ليحفظ عنه (وهو يقول) جملة في محل الحال من الضمير المضاف إليه المصدر (اللهم اغفر له) وحذف المفعول طلباً للتعميم ولتذهب النفس فيه كل مذهب (وارحمه) أي بفيض خاص تتلقاه به من كرامتك (وعافه) أي من المؤذيات في القبر من فتنته ووحشته وظلمته وعذابه (واعف عنه) أي مما وقع له من التقصير في الطاعة قال في النهاية: العفو محو الذنوب والعافية السلامة من الأسقام والبلايا (وأكرم) بقطع الهمزة (نزله) بضمتين: وهو ما يهيأ للضيف من الطعام: أي أحسن(6/414)
نصيبه من الجنة. قال ابن الجزري: وهو في الأصل قرى الضيف، والمراد الدعاء بإكرامه بالأجر والثواب والمغفرة (ووسع) بكسر السين المشددة (مدخله) بضم الميم وفتحها وبهما قرى قوله تعالى: {مدخلاً كريماً} (النساء: 31) قال ابن الجزري: بضم الميم الموضع الذي يدخل فيه وهو قره الذي يدخله الله فيه، وقال: لكن المسموع من أفواه المشايخ والمضبوط في الأصول فتح الميم وكلاهما صحيح المعنى. قال صاحب «الصحاح» : المدخل الدخول وموضع الدخول أيضاً تقول دخلت مدخلاً وأدخلته مدخل صدق اهـ. قال صاحب «الحرز» : ويجوز بالضم موضع الإدخال وهو المناسب للمقام. قلت: وعليه فيكون نصبه على الظرفية بخلافه إذا جعل بمعنى الدخول فيكون على المصدرية (واغسله) بوصل الهمزة: أي اغسل ذنوبه وطهر عيوبه (بالماء والثلج والبرد) بفتحتين، والغرض تعميم أنواع الرحمة والمغفرة في مقابلة أصناف المعصية والغفلة (ونقه) بتشديد القاف دعاء من التنقية، بمعنى التطهير، والهاء يحتمل أن تكون ضمير الميت وأن تكون هاء السكت (من الخطايا) أي من أثرها وهي جمع خطيئة وهل وزنها
فعالى أو فعائل خلاف (كما نقيت) نظفت (الثوب الأبيض من الدنس) بفتحتين: أي الدرن، قال ابن الجزري: الدنس بفتح الدار المهملة والنون: الوسخ يريد المبالغة في التطهير من الخطايا والذنوب (وأبدله) من الإبدال: أي عوّضه (داراً) من القصور أو من سعة القبور (خيراً من داره) التي بالدنيا الفانية (وأهلاً) أي من الخدم والولدان (خيراً من أهله) ليأنس بهم وتذهب عنه الوحشة (وزوجاً) أي من الحور العين، أو من نساء الدنيا في الجنة (خيراً من زوجه) أي زوجته التي كانت في الدنيا، فإن كان الميت امرأة فالمعنى إبدالها زوجاً من رجال الدنيا في الجنة خيراً من زوجها حقيقة أو حكماً (وأدخله الجنة) أي ابتداء من الناجين الفائزين (وأعذه) من الإعاذة: أي خلصه (من عذاب القبر) الناشىء عن فتنته في عالم البرزخ (ومن عذاب النار) أي بعد البعث،(6/415)
إما بإعاذته منها ابتداء أو بإنجائه من الخلود فيها وإعادة الجار إيماء إلى اختلاف نوعي العذاب، قال عوف بن مالك راوي الحديث (حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت) أي لأظفر بتلك الدعوات المجابات والأدعية المقبولات (رواه مسلم) والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة و (المصنف) كلهم من حديث عوف.
2936 - (وعن أبي هريرة وأبي قتادة) الأنصاري واسمه ربعي بن النعمان (وأبي إبراهيم الأشهلي) قال الحافظ في «التقريب» : مقبول من كبار التابعين، قيل إنه عبد الله بن أبي قتادة ولا يصح، قال الترمذي: هو غلط، أبو إبراهيم من بني عبد الأشهل وأبو قتادة من بني سلمة بطن من الأنصار (عن أبيه) لم يعلم اسمه (وأبوه صحابي) فلا تضرّ جهالة عينه لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول (عن النبي أنه صلى على جنازة فقال: اللهم اغفر لحينا وميتنا) أي لجميع أحيائنا وأمواتنا معشر المسلمين لأن المفرد المضاف حيث لا عهد للعموم (وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا) أي حاضرنا (وغائبنا) قال التوربشتي: سئل الطحاوي عن معنى الاستغفار للصغار مع أنه لا ذنب لهم، فقال: إن النبي سأل ربه أن يغفر لهم الذنوب التي قضيت لهم أن يصيبوها بعد الانتهاء إلى الكبر، وعليه فالصغار عام مخصوص بمن سيكبر. قيل ويجوز أن يراد بالصغار الشباب وبالكبار الشيوخ، وعليه فالأمر واضح. قال ميرك: كل من القرائن الأربع في الحديث على الشمول والاستيعاب فلا يحمل على التخصيص نظراً إلى مفردات التركيب كأنه قيل: اللهم اغفر لكل السملمين فهي من الكنايات الرمزية يدل عليه جمعه في قوله «اللهم من أحييته منا» الخ، قال في «الحرز» ، لا كلام في إفادة العموم (اللهم من أحييته منا فأحيه) بقطع الهمزة(6/416)
(على الإسلام) وفي رواية للترمذي والحاكم «على الإيمان» (ومن توفيته) بتشديد الفاء: أي قبضت روحه (منا فتوفه على الإيمان) وفي روايتهما «على الإسلام» ولا شك أن رواية غيرهما أولى لمناسبة الحياة للإسلام ولائمة الوفاة لللإيمان (منهم لا تحرمنا أجره) أي أجر المصيبة فيه (ولا تفتنا) وفي رواية «تضلنا» (بعده) أي بعد موته (رواه الترمذي من رواية) أي من حديث (أبي هريرة والأشهلي، ورواه أبو داود من رواية أبي هريرة وأبي قتادة) وكذا رواه من حديث أبي هريرة أحمد والنسائي وابن حبان (قال الحاكم) في
«المستدرك» (حديث أبي هريرة صحيح على شرط البخاري ومسلم قال الترمذي) في «جامعه» (قال البخاري) صاحب الصحيح وهو من مشايخ الترمذي (أجمع روايات هذا الباب) أي لهذا الحديث (رواية الأشهلي، قال البخاري، وأصح شيء في الباب حديث عوف بن مالك) وقد تقدم أنه صحيح أخرجه مسلم، ولا شك أن ما أخرجه أحدهما مقدم على ما هو على شرطهما مما لم يخرّجاه وإن كان قول المحدث أصح ما في هذا الباب حديث كذا لا يستلزم الحكم بصحة ذلك الحديث.
3937 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله يقول: إذا صلبتم على الميت) أي تلبستم بها (فأخلصوا) بقطع الهمزة (له الدعاء) قال العلقمي: إخلاص الدعاء له ألا يشرك معه غيره، وأقله: اللهم اغفر له، ويدعي له بخصوصه وإن كان طفلاً (رواه أبو داود) ورواه ابن ماجه وابن حبان كما في «الجامع الصغير» وفي «تخريج أحاديث الرافعي»(6/417)
للحافظ ابن حجر، وأخرجه البيهقي وفيه ابن إسحاق، وقد عنعن لكن أخرجه ابن حبان من طريق أخرى عنه مصرحاً بالسماع.
4938 - (وعنه عن النبي في الصلاة على الجنازة) أي من دعائه في الصلاة عليها (اللهم) أي يا ألله (أنت ربها) أي مربيها بنعمتك بالإخراج من العدم ثم بالغذاء بالنعم (وأنت خلقتها) أي والمضاف يشرف بشرف المضاف إليه (وأنت هديتها) أي أوصلتها (للإسلام) إذ لولا إرادتك هدايته لما اهتدى (وأنت قبضت) بفتح الموحدة (روحها) أي وذلك بإخراج الملائكة الموكلين بالنزع لها من الجسد ثم أخذ الملك لها. وليس إسناد القبض مجازاً عقلياً خلافاً لما في «الحرز» (وأنت أعلم بسرها) أي بما كانت تسره في الحياة من اعتقاد ونية (وعلانيتها) بتخفيف التحتية: أي ما تعلنه أي تظهره من ذلك والجملة معطوفة على ما قبلها ويحتمل كونها حالية من فاعل هديت: أي حكمنا بهدايتك إياها باعتبار ما ظهر لنا والسرائر علمها إليك (جئنا) أي حضرنا (شفعاء) حال أي شافعين (له فاغفر له) أي جميع ذنوبه كما يومىء إليه حذف المفعول (رواه أبو داود) .
5939 - (وعن واثلة) بالمثلثة (ابن الأسقع) بالمهملة وبعدها قاف فعين مهملة سبقت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الرؤيا وما يتعلق بها (قال: صلى بنا رسول الله على رجل من المسلمين) لم أقف على تسميته (فسمعته يقول: اللهم إن فلان بن فلان) كناية عن اسم الرجل المصلى عليه واسم أبيه، ولما نسى الراوي اسمهما كنى به عنهما (في ذمتك) بكسر الذال المعجمة وتشديد الميم: أي في عهدك المشار إليه بقوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} (البقرة: 40) (وحبل) بالمهملة فالموحدة مستعار استعارة مصرحة للميثاق: أي وفي عروة(6/418)
(جوارك) بكسر الجيم: أي أمانك، قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله} (آل عمران: 103) قال الطيبي: الحبل العهد والأمان والذمة: أي هو في كنف حفظك وعهد طاعتك. وقال ابن الجزري: أي في خفارتك وطلب غفرانك، وكان عادة العرب أن يخفر بعضها بعضاً، فكان الرجل إذا أراد سفراً أخذ عهداً من سيد كل قبيلة فيأمن به ما دام في حدودها حتى ينتهي إلى أخرى فيفعل مثل ذلك فهذا حبل الجوار: أي ما دام مجاور أرضه. ويجوز أن يكون من الإجارة وهو الأمان والنصرة (فقه) بهاء الضمير: أي حفظه (من فتنة القبر) أي اختباره أو عذابه، وعليه فعطف قوله (وعذابه) من عطف الرديف وعلى الأول من عطف المسبب على السبب (وأنت أهل الوفاء) قال تعالى: {أوف بعهدكم} (والحمد) وأهل أن تحمد بالتزكية والثناء وبالشكر والجزاء لمن ثبت على الإيمان وقام بحق القرآن، والجملة حالية من فاعل «قه» أو استئنافية (اللهم فاغفر له) الإتيان بفاء السببية للإيماء إلى أن من كان محموداً أهلاً للوفاء فهو الذي يسأل منه الغفران بمحو السيئات (وارحمه) أي برفع الدرجات (إنك أنت الغفور الرحيم) بكسر همزة «إن» على الاستئناف ويجوز فتحها بتقدير لام التعليل، وهو كالدليل لسؤال المغفرة والرحمة منه، وأتى بهما بصيغة المبالغة إيماء إلى سعة رحمته وشموله مغفرته وعظمها (رواه أبو داود وابن ماجه) .
6940 - (وعن عبد الله بن أبي أوفى) واسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي (رضي الله عنهما أنه كبر على جنازة ابنة له) بدل اشتمال من عبد الله (أربع تكبيرات) مفعول مطلق لكبر (فقام بعد) التكبيرة (الرابعة) قياماً (بقدر ما بين التكبيرتين) الثالثة والرابعة التي يدعى(6/419)
فيها للميت لأن في هذه أيضاً دعاء له (يستغفر لها) أي يسأل الله لها المغفرة (ويدعو) لها أي بنيل المراتب العلية كالجنة (ثم قال: كان رسول الله يصنع هكذا) أي مثل ما صنعت من تطويل ما بعد التكبيرة الرابعة (وفي رواية) لأبي بكر الشافعي الغيلاني كما قال الحافظ في «تخريج أحاديث الرافعي» : أي عن ابن أبي أوفى (كبر أربعاً فمكث) بفتح الكاف على الأفصح (ساعة) أي زمناً طويلاً يستغفر ويدعو، وقوله (حتى ظننا أنه سيكبر خمساً) غاية للإطالة المدلول عليها بقوله ساعة (ثم سلم عن يمينه) كتسليم الصلاة حتى يرى بياض خده الأيمن (و) كذا (عن شماله، فلما انصرف) أي انتهى من الصلاة (قلنا له: ما هذا قال: إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله يصنع، أو) شك من الراوي هل قال ابن أبي أوفى كما تقدم عنه، أو (قال هكذا) مثل ما صنعت (صنع رسول الله رواه الحاكم) في «المستدرك» (وقال: حديث صحيح) وفي «تخريج أحاديث الرافعي» رواه أحمد اهـ. فيؤخذ منه استحباب الدعاء للميت بعد الرابعة وهو الذي رجحه الرافعي بعد أن ذكر فيه خلافاً.
158 - باب الإسراع بالجنازة
أي ندب الإسراع بالسير بها، وحكى البيهقي في «المعرفة» عن الشافعي أن الإسراع بها هو فوق سجية المشي، وحكى ابن المنذر وابن بطال أنه سجية المشي. قال العراقي: والأول أثبت ويوافقه قول أصحابنا وهذه عبارة الرافعي والنووي. والمراد بالإسراع فوق المشي المعتاد ودون الخبب. وعبارة صاحب «الهداية» من الحنفية ويمشون بها مسرعين دون الخبث، والمراد بطلب إسراع لا يشق على من تبعها ولا يحرك الميت فذلك مكروه.
1941 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: أسرعوا) بقطع الهمزة (بالجنازة)(6/420)
أي بالسير إلى القبر على وجه لا يؤدي إلى سقوطها ولا إلى تفجر الميت (فإن تك صالحة فخير) أي فهو خير (تقدمونها إليه) والمبادرة بتقريب الخير مطلوبة (وإن تك) أي الجنازة (سوى ذلك) ذكر اسم الإشارة باعتبار الميت ولذا ذكر الضمير في قوله (فشر تضعونه عن رقابكم، متفق عليه) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربع كما في «الجامع الصغير» (وفي رواية لمسلم: فخير تقدمونها عليه) فينبغي الاسراع به ليظفر عن قرب بنيل ماأعد له والتأخير يفوِّت عليه بعض ذلك، وروى بنصب خير من باب الاشتغال.
2942 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان النبي يقول: إذا وضعت) بالبناء لما لم يسم فاعله ونائب فاعله (الجنازة) بفتح الجيم الميت وتقدم الكلام في ذلك وبكسرها: السرير كذا في «شرح المشارق» لابن ملك، وفي «القاموس» : الجنازة وبفتح الميت أو بالكسر الميت، وبالفتح السرير أو عكسه، أو بالكسر السرير مع الميت، وتقدم الكلام في ذلك في كتاب عيادة المريض، وقوله «إذا وضعت الجنازة» أي إذا وضعها أهلها (فاحتملها) وفي «المشارق» بالواو بدل الفاء (الرجال على أعناقهم) أي على أكهالهم المقاربة لأعناقهم، ففيه مجاز مرسل علاقته المجاورة (فإن كانت صالحة) بامتثال الأوامر واجتناب النواهي في حياتها، أو لم تكن كذلك ولكن منّ عليها بالتوبة عند موتها (قالت: قدموني) وحذف المقدم إليه إيماء إلى أنه مما تضيق العبارة عن بيانه لكثرته (وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها) يحتمل أنها تقول يا ويلي، لكن كنى عن ذلك بضمير الغيبة إيماء إلى أن الإنسان إذا حكى ما تستقبح إضافته للنفس ينبغي أن يسنده لضمير الغيبة، كما في حديث وفاة أبي طالب «فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب» مع أنه جاء بضمير المتكلم قال: المصنف في «شرح مسلم» : هذا من حسن الآداب والتصرفات، وهو أن من حكى قول غيره(6/421)
القبيح أتى به بضمير الغيبة لقبح صورة اللفظ الواقع اهـ. وعلى هذا فلا التفات في العبارة. ويحتمل أنه يقول بهذا اللفظ ففيه التفات على مذهب السكاكي، والويل كلمة تقال عند العذاب أو خوفه. قال ابن ملك: إن أريد من الجنازة السرير يكون الضمير في يا ويلها في موضعه لكن يكون المراد من صالحة ومن قدموني ما حمل عليه فيلزم التجوز في موضعين فإرادة الميت أولى، وهذا القول بلسان الحال فيكون استعارة. وقال المكاشفون: إنه حقيقي لأن الجمادات ناطقة ومسبحة بالحقيقة لكن لا يفهم المحجوب قاله ابن ملك. قلت: ويؤيده أن الأصل حمل ما جاء في الكتاب والسنة على حقيقته حتى
يأتي ما يصرفه عنها، ويؤيده قوله في الحديث «يسمع صوتها» الخ (أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان) دخل في جملة السامع الجن (ولو سمع الإنسان لصعق) بفتح فكسر: أي لغشي عليه وقيل لمات وهذا أبلغ في حكمة منع إسماع الصوت لإفضائه إلى فساد العالم (رواه البخاري) في باب الجنائز.
159 - باب تعجيل قضاء الدين عن الميت
مسارعة لللإطلاق مما يعقله عن بلوغه مقامه السني (والمبادرة إلى تجهيزه) بالغسل والتكفين والصلاة والدفن (إلا أن يموت) استثناء من أعم الأحوال: أي في كل حال وهو استثناء مفرغ اعتباراً بوجود النفي من حيث المعنى كأنه قيل لا يترك المبادرة بتجهيزه في حال من الأحوال إلا حال موته (فجأة) بفتح فسكون وبضم ففتح فألف ممدودة: أي بغتة (فيترك) بالبناء للمفعول ونائب فاعله ضمير الميت (حتى يتيقن موته) ولو بالتغير.
1943 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: نفس المؤمن معلقة بدينه) قال(6/422)
السيوطي: أي محبوسة عن مقامها الكريم. وقال العراقي: أي أمرها موقوف لا يحكم لها بنجاة ولا هلاك حتى تنظر: هل يقضي ما عليها من الدين أو لا؟ ويستمر تعلقها الحديث. وشذ الماوردي فقال: الحديث محمول على من لم يخلف وفاء، وظاهر أن من عصى بالاستدانة أو قصر في القضاء فذلك حاله، وإلا فالمرجو من الله العفو عنه وإرضاء الخصوم (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وفي نسخة من الرياض زيادة «صحيح» ولا وجود لها فيما وقفت عليه من أصلي من الترمذي.
2944 - (وعن حصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية آخره نون (ابن وحوح) بفتح أوله وبمهملتين الأولى ساكنة الأنصاري المدني صحابي (رضي الله عنه) له حديث ذكر ابن الكلبي أنه استشهد بالقادسية، خرّج عنه أبو داود كذا في «تقريب» الحافظ (أن طلحة بن البراء) بتخفيف الموحدة والراء ابن عمير بن وبرة بن ثعلبة بن غنم بن سري بضم المهملة وفتح الراء وتشديد الياء ابن سلمة بن أسد البلوي الأنصاري (رضي الله عنه مرض، فأتاه رسول الله يعوده فقال) أي لأهله كما صرح به ابن الأثير في روايته وقال: أخرجه ابن عبد البرّ والمديني وأبو نعيم (إني لا أرى) بضم الهمزة: أي أظن (طلحة إلا قد حدث فيه الموت) أي بالشروع في النزع وفي رواية ابن الأثير «إني أرى طلحة» الخ (فآذنوني) زاد ابن الأثير في روايته «فإذا مات فآذنوني» وهو بمد الهمزة وكسر الذال المعجمة: أي أعلموني (به) أي بموته زاد ابن الأثير في روايته «أصلي عليه» (وعجلوا) بتشديد الجيم (به فإنه لا ينبغي) أي لا يحسن (لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله) زادابن الأثير روي «أنه توفي ليلاً فقال: ادفنوني ليلاً وألحقوني بربي، ولا تدعوا رسول الله فإني أخاف عليه من اليهود أن يصاب في سببي. فأخبر رسول الله حين أصبح، فجاء حتى وقف على قبره وصفّ الناس معه ثم رفع يديه وقال: اللهم الق طلحة وأنت تضحك إليه وهو(6/423)
يضحك إليك» وقد روي عن طلحة بن البراء أن النبي دعا له، أخرجه الثلاثة اهـ. وتذكير ضمير أهله لعوده على المضاف إليه وتأنيث ضمير تحبس لعوده على المضاف (رواه أبو داود) .
160 - باب الموعظة
مصدر ميمي بمعنى الوعظ وهو التذكير بعذاب الله تعالى الزاجر عن مخالفته وبثوابه الباعث على طاعته (عند القبر) لأنه حينئذ أنجع وذلك لأن رؤية الميت وذكر الموت يرقق القلب ويذهب غلظته.
3945 - (عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة) لم أر عين اسمها (في بقيع) بفتح الموحدة وكسر القاف فعين مهملة وسكون التحتية (الغرقد) بالمعجمة والقاف بوزن جعفر هو كما في «النهاية» : ضرب من شجر العضاه وسجر الشوك، الغرقدة واحدته، وبقيع الغرقد: مقبرة المدينة، قال في «النهاية» : قيل لها ذلك لأنه كان فيها غرقد وقطع (فأتانا رسول الله فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة) بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة، قال في النهاية: هي ما يختصره الإنسان فيمسكه: من عصاة أو عكاز أو مقرعة أو قضيب، وقد يتكىء عليه. قلت: والمراد هنا عصا ذات رأس معوج (فنكس) أي طأطأ رأسه، وذلك يكون عند التفكر والتدبر (وجعل) من أفعال الشروع (ينكث) أي يؤثر في الأرض (بمخصرته) أي يضرب الأرض بطرفها، قال في «النهاية» : وهو فعل المفكر المهموم (ثم قال:(6/424)
ما منكم من) مزيدة لتأكيد استغراق النفي في (أحد إلا قد كتب) بالبناء للمجهول (مقعده) بالرفع نائب الفاعل، ويجوز نصبه على الظرفية، ونائب الفاعل مستتر (من النار) قدم ذكر مقعدها لأن المقام للوعظ وهي أنجع فيه من قرينتها لأنها من باب النذارة وهي انجع من البشارة (ومقعده من الجنة) والمراد أن أهل الجنة كتب في الأزل مقعدهم منها، وكذا أهل النار، ويدل على إرادة ذلك المقام، وأن ما بعد إلا من الجملة في محل الحال وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي ما منكم أحد في حال إلا حال كتابة مقعدة منهما في الأزل (فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل) من الاتكال وهو الاعتماد: أي أتعمل مع ذلك فلا نتكل (على كتابنا) أي مكتوبنا السابق من سعادة وضدها، قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : والقائل هو سراقة بن خيثم أو أبو بكر أو عمر أو علي الراوي، قلت: ولا مانع من كون كل سأل بدليل فقالوا (فقال اعملوا) أي ماأمرتم بعمله من التكاليف الشرعية (فكل) منكم (ميسر لما خلق له) من سعادة أو شقاوة بعمل السعداء أو الأشقياء (وذكر
تمام الحديث) جاء في رواية البخاري قال «أماأهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة، ثم قرأ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى إلى قوله: {فسنيسره للعسرى} (الليل: 6) (متفق عليه) وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
161 - باب الدعاء للميت بعد دفنه
لأن ذلك أول مفارقته للدنيا ونزوله بمنزل لا يألفه ولا يعرفه فيناسب الدعاء له بالعفو والغفران والتثبيت ودفع هوله (والقعود عند قبره) بعد الدفن (ساعة) قدر نحر جزور وتفريق لحمها (للدعاء والاستغفار والقراءة) أي عليه، فإن الرحمة تنزل عند قراءة القرآن فتعمه فتعود عليه بركتها.(6/425)
1946 - (عن أبي عمرو) بفتح المهملة (وقيل أبو عبد الله) ولد من بنت سيدنا رسول الله توفي مراهقاً من ديك نقر عينه (وقيل أبو ليلى عثمان بن عفان) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب فضل الزهد (قال: كان النبي إذا فرغ) بالبناء للمفعول (من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا) أي أسألوا الله غفر الذنوب (لأخيكم) وفي التعبير به إيماء إلى السبب الداعي للدعاء له لأن شأن الأخ الاهتمام بنفع أخيه (واسألوا له التثبيت) أي أن يثبته الله عند سؤال الملكين له في القبر عن ربه ونبيه (فإنه) أي الأخ (الآن) ظرف لقوله (يسأل) بالبناء للمفعول: أي يسأله الملكان أي والدعاء له بالتثبيت ربما كان يفضل الله تعالى سبباً لتلقينه حجته وكفايته من القبر وفتنته (رواه أبو داود) .
2947 - (وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إذا دفنتموتي فأقيموا) أي امكثوا (حول) أي عند (قبري قدر ما ينحر) بالبناء للمفعول (جزور) بفتح الجيم وضم الزاي وهي المنحور من الإبل ذكراً كان أو أنثى (ويقسم لحمها) ببناء الفعل للمجهول أيضاً (حتى) تعليلية: أي كي (أستأنس) أي آنس (بكم) والسين فيه للمبالغة (وأعلم ما) أي أيّ شيء الذي (أراجع به رسل ربي) وكأنّ حكمة ذلك والله أعلم أن النوع الإنساني يأنس بمثله ولو من وراء جدار، وإذا أنس الإنسان سكن قلبه واطمأنت نفسه وإذا كان كذلك ثبت في بين ما يطلب منه بيانه بخلاف النفس عند الوحشة والقلق والاضطراب والفرق فإنه يختل عليها الأمر في الجواب، والله الموفق (رواه مسلم، وقد سبق) الحديث (بطوله) في باب(6/426)
الرجاء (قال الشافعي رحمه الله: ويستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن) ليصيبه من الرحمة النازلة على القراء للقرآن نصيب (وإن ختموا القرآن) أي قرءوه (كله كان حسناً) لعظيم فضله.
162 - باب الصدقة عن الميت والدعاء له
أي استحباب ذلك له.
(قال الله تعالى) : ( {والذين} ) معطوف إما على قوله «للفقراء» أو على قوله «والذين تبوءوا الدار» أي أن الفىء لهؤلاء الثلاثة المهاجرين والأنصار والذين ( {جاءوا من بعدهم} ) زمناً وهم التابعون بإحسان (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان» ) جملة حالية قيد لاستحقاق المتأخر الفىء ولذا قال الإمام مالك: لا حق لسابي السلف في الفيء وذكر الآية وهذا دليل طلب الدعاء للميت، ويقاس به الصدقة عنه بالأولى لأنهم إذا مدحوا بالدعاء لهم فلأن يمدحوا بالصدقة عنهم أولى.
1 948ـ (وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً) هو سعد بن عبادة الأنصاري (قال للنبي: إن أمى افتلتت) افتعال من الفلت مبني لما لم يسم فاعله و (نفسها) بالرفع نائبه (وأراها) بضم الهمزة (لو تكلمت تصدقت) الجملة الشرطية ثاني مفعولي رأى (فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟) وكأن وجه هذا السؤال ظاهر قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 39) الموهم قصور الثواب على ما يعمله العامل دون ما عمل له وإن بفتح الهمزة(6/427)
وحذف الجار: أي في تصدقي عنها أو بكسرها والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه (قال نعم) أي لها ذلك والآية، قيل هي في الكافر فالإنسان عام مراد به خاص، وإن كان في المؤمن فالمعنى ليس للمؤمن من حيث العدل إلا جزاء ما عمل، وأما على سبيل الفضل فالله أعظم وأكرم يتجاوز عن السيئة ويضاعف الحسنة ويثيبه بما فعل عنه من القرب (متفق عليه) .
2949 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله) لزوال التكليف بالموت ولخروجه من عالمه إلى البرزخ وليس محل عمل والمراد لازم العمل: أي أن الإنسان يتم تحصيله للثواب بنفسه بموته (إلا من ثلاث) لا تنافي بينه وبين حديث ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله «إنما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه ومصحفاً ورثه، ومسجداً بناه، وبيتاً لابن السبيل بناه، ونهراً أجراه، وصدقة أخرجه من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته» إما لأن مفهوم العدد خير حجة، وإما لأنه اطلع أولاً على ما في حديث مسلم ثم أطلعه الله على الزائد فأخبر به.. قال السيوطي: وقد تضمن حديث ابن ماجه سبع خصال، ووردت خصال أخر بلغت بها عشراً، وقد نظمتها فقلت:
إذا مات ابن آدم ليس يجري
عليه من فعال غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل
وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر
وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي
إليه أو بناء محل ذكر
وزاد رحمه الله في شرح مسلم الحادية عشر فقال:
وتعليم لقرآن كريم
فخذها من أحاديث بحصر(6/428)
(صدقة جارية) كوقف أو وصية لفقير (أو علم) شرعي أو آلته (ينتفع به) لكونه ألفه أو وقف كتباً فيه أو تخرّج عليه الطلبة أو تعلم منه متعلم فعمل به فله مثل ثوابه (أو ولد صالح) أي مسلم (يدعو له) لأنه من كسبه وقد تفضل الله تعالى بكتابه مثل ثواب سائر الحسنات التي يعملها الأولاد للوالد دون آثام السيئات (رواه مسلم) .
باب ثناء الناس بتقديم المثلثة (على الميت) والثناء وإن كان محصوصاً بالمحاسن والمساوي ثناء، لكن المراد ما يعمها
1950 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: مروا بجنازة) أي على النبي ومن عنده (فأثنوا عليها خيراً) منصوب بنزع الخافض: أي بخير أو أنه مفعول مطلق إما بتقدير ثناء خير فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، أو لكون الخير من نوع الثناء فيكون نحو قعدت جلوساً وقرينة كون المرور عليه قول أنس (فقال النبي) أي عند سماع ثنائهم عليها (وجبت) واحتمال كونها مرت عليهم فقط فأثنوا عليها فبلغه ذلك خلاف الظاهر، وضمير وجبت يرجع إلى الجنة المدلول عليها بالسياق (ثم مرّوا بأخرى) أي بجنازة أخرى (فأثنوا عليها شراً) هذا الحديث مؤيد للعزّ بن عبد السلام الشافعي حيث رأى أن الثناء حقيقة في الخير والشرّ، ورأى الجمهور أنه حقيقة في الخير فقط، وعله ففي الحديث مجاز مرسل تبعي علاقته التضادّ، وأقرهم على الثناء عليه بالشر مع نهيه عن ذكر مساوىء الموتى،(6/429)
لأن النهي عنه في غير الكافر والمنافق والمتجاهر بفسقه، فلعل التي أثنوا عليها شراً كانت واحداً من الثلاثة (فقال النبي وجبت) أي النار كما سيصرح به والخفاء الدالّ على تعيين الواجب فيهما سأل عمر رضي الله عنه عن بيانه (فقال عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه: ما وجبت؟) أي ما معناها فقال معناها ما تضمنه قولنا (هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة) فانطلاق الألسنة بالثناء الحسن علامة على وجوب الجنة للمثنى عليه به (وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار) أما إذا كان ذلك على سبيل الهوى والغرض من غير باعث ووازع فالظاهر أنه لا يكون كذلك (أنتم) أيها الصحابة أو مطلق المؤمنين ويؤيده أنه جاء في رواية المؤمنون (شهداء الله في الأرض) فإذا جرى على ألسنتكم ثناء بخير أو شرّ كان مطابقاً لما عند الله: أي باعتبار الغالب أن الله تعالى يطلق الألسنة في حق كل إنسان بما يعلم من سريرته التي لا يطلع عليها غيره، وبما يظهر عليه من الأعمال الصالحة وضدها، فكأنه استنبط من هذا في حق هذين القطع لهما بالجنة والنار، أو
أعلم الله تعالى أنهما في باطن الأمر عنده على طبق ثناء الناس عليهما، فعلم أنه ليس المراد أن من خلق للجنة يصير للنار بقولهم ولا عكسه، بل قد يقع الثناء بالخير أو الشر وفي الباطن خلافه، وإنما المراد أن الثناء علامة مطابقة وعلة دالة على ما في الواقع غالباً كما أنبأ عن ذلك ترتيبه وجبت على الثناء المشعر بأن الثناء علة ذلك، ولذا أشار أشرف المثنين بكونهم شهداء الله الصادقين في ثنائهم لكونهم يجري على ألسنتهم ما يطابق ما عنده غالباً، ففيه غاية التزكية منه لأمته بأن الله تعالى ما أنطقهم إلا ليصدقهم غالباً في ثنائهم الواقع كالدعاء والشفاعة بوعده الحق الذي لا يخلف، أو العادة المنزلين منزل الواجب الوقوع، فلذا رتب على الثناء الوجوب بالمعنى المذكور لأنه تعالى لا يجب عليه شيء بعمل ولا بشهادة ولا بغيرهما، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً اهـ من «فتح الإله» (متفق عليه) .c
2951 - (وعن أبي الأسود الديلي) هو بكسر الدال وسكون التحتية، ويقال الدؤلي بضم(6/430)
الدال بعدها مفتوحة البصري اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان ويقال ابن عمر، ويقال: عمير بن ظليم بالتصغير فيهما، ويقال: عمرو بن عثمان بن عمر، ثقة فاضل مخضرم مات سنة تسع وستين من الهجرة، خرّج عنه الجميع، قاله الحافظ العسقلاني في «التقريب» (قال: قدمت المدينة فجلست) مستنداً (إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمرت بهم جنازة فأثنى) بالبناء للمجهول ونائب فاعله قوله (على صاحبها) أي المتوفى (خيراً، فقال عمر وجبت، ثم مرّ بأخرى فأثنى على صاحبها خيراً، فقال عمر: وجبت، ثم مرّ بالثالثة فأثنى على صاحبها شرّاً) هو على وزن قرينه وإعرابه (فقال عمر وجبت، فقال أبو الأسود) مستكشفاً للواجب (فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي) في نظير ما وقع الآن من قوله لمن أثنى عليه بخير وجبت: أي الجنة، ولمن أثنى عليه بشرّ وجبت: أي النار، وعليه فالمشبه قول عمر فيهما والمشبه به قول النبيّ فيهما بخصوص اللفظ المذكور، ويحتمل أن يكون المشبه به ما دلّ عليه قوله (أيما) اسم شرط جازم مبتدأ، وما صلة غير مانعة أياً من إضافتها إلى (مسلم) وقوله (شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة) جملتا الشرط والجواب فإن ذلك يدل بمنطوقه بوجوب الجنة لمن انطلقت الألسنة بالثناء عليه بخير، وبمفهومه بوجوب النار لمن انطلقت الألسنة بالثناء عليه بشرّ. وعند أحمد «تشهد له أربعة أبيات من جيرانه الأدنين إلا قال الله تعالى: قد قبلت علمهم فيه وغفرت له ما لا يعلمون» (فقلنا: وثلاثة) أي ومن شهد له ثلاثة بخير أدخله الله الجنة (قال: وثلاثة) أي ومن شهد له ثلاثة كذلك (فقلنا واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد) أي عمن شهد له واحد بالخير أيدخلها: أي والباب توقيف لا مجال فيه للرأي (رواه البخاري) قال في «فتح الإله» : وكأن سبب تخصيص المسلم بهذا سعة مظاهر الفضل والرحمة
للمؤمنين، وأن الله تعالى يعطيهم من خير ما عنده بأدنى سبب أو(6/431)
دعاء أو شفاعة، وأخذ أئمتنا من هذا وما قبله أنه يسن لمن مرّت به جنازة أن يدعو لها ويثني عليها خيراً إن تأهل الميت لذلك لكن بلا إطراء.
164 - باب فضل من مات له أولاد صغار
بكسر المهملة جمع صغير، والمراد منه من دون البلوغ ذكراً كان أو غيره.
1952 - (عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما من مسلم يموت له ثلاثة) أي من الأولاد (لم يبلغوا الحنث) بكسر المهملة وسكون النون بعدها مثلثة كذا لجميع الرواة. وحكى ابن قرقول عن الداودي أنه ضبطه الخبث بفتح المعجمة والموحدة وفسره بأن المراد لم يبلغوا، أو أن يعملوا المعاصي، قال: ولم يذكره غيره كذلك، والمحفوظ الأول والمعنى لم يبلغوا الحلم فتكتب عليهم الآثام. قال الخليل: بلغ الغلام الحنث: أي جرى عليه القلم، والحنث الذنب، قال الله تعالى: {وكانوا يصرون على الحنث العظيم} (الواقعة: 46) وقال الراغب غبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يؤاخذ بما يرتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر لأنه الذي يحصل بالبلوغ لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر، وعليه فمن بلغ الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبه صرح كثير من العلماء. وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصوّر منه العقوق المقتضي لعدم الرحمة، بخلاف الصغير فإنه لا يتصوّر منه ذلك إذ ليس مخاطباً. وقال ابن المنير: بل يدخل الكبير في ذلك من طريق الفحوى، لأنه ثبت ذلك من الطفل الذي هو كلّ على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي ببلغ معه السعي وحصل له منه النفع وتوجه إليه الخطاب بالحقوق اهـ. قال في «فتح الباري» : ويؤيد الأول قوله (إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم) لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم منهم، وهل يلتحق بالصغار من
بلغ مجنونا مثلاً واستمر على ذلك(6/432)
فمات؛ فيه نظر لكونهم لا إثم عليهم يقتضي الإلحاق، وكون الامتحان بهم يخفّ لموتهم يقتضي عدمه، قال: ولم يقع التقييد في طرق الحديث بشدة الحبّ ولا عدمه، وكان القياس يقتضي ذلك لما يوجد من كراهة بعض الناس لولده وتبريه منه لاسيما من كان ضيق الحال، لكن لما كان الولد مظنة المحبة والشفقة نيط الحكم به وإن تخلف في بعض الأفراد. وعند أبي ماجه من حديث عقبة مرفوعاً حديث نحو حديث الباب لكن قال فيه «إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل» ويشهد له رواه النسائي بإسناد صحيح من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً من أثناء حديث «أما يسرك أنك لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك؟» والضمير في قوله «بفضل رحمته إياهم» يرجع إلى الله تعالى: أي بفضل رحمة الله للأولاد، وقال ابن التين: يرجع للأب: أي لكونه يرحمهم في الدنيا جوزى برحمته في الآخرة. قال الحافظ: والأولى أولى، ويؤيده أن في رواية ابن ماجه من هذا الوجه بفضل رحمة الله إياهم. وللنسائي من حديث أبي ذرّ «إلا غفر الله لهما بفضل رحمته» وضمير إياهم راجع للأولاد خلافاً لما توهمه الكرماني من كونه راجعاً لمسلم وإن جمعه باعتبر عمومه لكونه في سياق النفي (متفق عليه) لكن اقتصر السيوطي في كتاب فقد الولد على عزوه للبخاري فقط، ولعله لكونه عنده بهنا اللفظ، وزاد: ورواه النسائي وابن ماجه.
2953 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاث من الولد) بفتحتين اسم جنس يقع على الواحد فما فوقه وجمعه ولد بضم فسكون، والمراد ثلاثة منهم مطلقاً أو لم يبلغوا الحنث كم تقدم فيما قبله (لا تمسه النار) برفع تمسه جزماً كما قال في «فتح الباري» قال الكرماني: هو في حكم البدل من لا يموت فكأنه قال: لا تمس النار من مات له ثلاث من الأولاد من المسلمين (إلا تحلة) بفتح المثناة الفوقية وكسر المهملة وتشديد اللام (القسم) أي إلا بقدر ما ينحل به القسم وهو اليمين.(6/433)
والتحلة مصدر حلل اليمين كفرها، يقال حللته تحليلاً وتحلة وتحللاً بغير هاء والثالثة شاذة. قال أهل اللغة يقال فعلته تحلة القسم: أي قدر ما حللت به يميني ولم أبالغ (متفق عليه وتحلة القسم) المذكور في الحديث (هو قول الله تعالى) : ( {وإن منكم إلا واردها} ) قال في «فتح الباري» : قال الكرماني: اختلف في المراد بهذا القسم، فقيل هو معين، وقيل غير معين، والجمهور على الأول، وقيل لم يعن به قسم معين وإنما معناه التقليل لأمر ورودها، وهذا اللفظ يستعمل في هذا القول يقال ما ينام فلان إلا تحلة الألية، وقيل الاستثناء بمعنى الواو: أي لا تمسه النار أصلاً ولا تحلة القسم، وجّز الفراء والأخفش مجىء إلا بمعنى الواو، والأول هو قول الجمهور، وبه جزم أبو عبيد وغيره وقالوا: المراد به قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} (مريم: 71) قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها، ولكنه يدخل مجتازاً ويكون ذلك الجواز بقدر ما يحلل الرجل به يمينه، ويدل لذلك ما وقع عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في آخر الحديث «إلا تحلة القسم» يعني الورود، وفي سنن سعد بن منصور عن سفين بن عيينة، ثم قرأ سفيان {وإن منكم إلا واردها} ومن طريق زمعة بنت صالح عن الزهري في آخره «قيل وما تحلة القسم؟ قال قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} » وكذا حكاه عبد الملك بن حبيب عن
مالك في تفسير هذا الحديث، وجاء عند الطبراني من حديث عبد الرحمن بن بشير الأنصاري مرفوعاً «من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل» يعني الجواز على الصراط. واختلف في موضع القسم من الآية، فقيل هو مقدر: أي والله إن منكم إلا واردها، وقيل معطوف على القسم الماضي في قوله تعالى:
{فوربك لنحشرنهم} (مريم: 68) وقيل مستفاد من قوله: {حتماً مقتضياً} أي قسماً واجباً كذا رواه الطبراني وغيره، وقال الطيبي: يحتمل أن المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق، فإن قوله: {كان على ربك حتماً مقتضياً} تذييل وتقرير لقوله: {وإن منكم إلا واردها} فهو بمنزلة القسم بل أبلغ لمجىء الاستثناء بالنفي والإثبات. واختلف في المراد بالورود في الآية، فقال المصنف (والورود هو العبور على الصراط، وهو) أي الصراط (جسر) بكسر الجيم وسكون المهملة أي ممر (منصوب على ظهر جهنم، عافانا الله منها) وهذا القول رواه الطبراني وغيره من(6/434)
طريق بشر ابن سعيد عن أبي هريرة، ومن طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، ومن طريق معمر وسعيد عن قتادة، ومن طريق عن كعب الأحبار وزاد يستوون كلهم على منتهاه ثم ينادي منادٍ: أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فيخرج المؤمنون ندية أبدانهم. وقيل «الورود» هو الدخول بها. روى النسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعاً: «الورود الدخول لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً» . وروى الترمذي وابن أبي حاتم من حديث ابن مسعود موقوفاً قال: «يردونها أو يلجونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم» . قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لشعبة إن إسرائيل يرفعه، قال: صدق وعمداً أدعه. ثم رواه الترمذي عن إسرائيل مرفوعاً. قال في «فتح الباري» : وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك. ولا تنافي بينهما لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور، ووجهه أن المارّ عليه فوق الصراط بمعنى من دخلها، لكن
تختلف أحوال المارين باختلاف أعمالهم، فأعلى درجة من يمرّ كملح البرق. ويؤيد الأول ما يراه مسلم من حديث أم مبشر أن حفصة قالت للنبي لما قال: لا يدخل أحد ممن شهد الحديبية النار، أليس الله تعالى يقول: {وإن منكم إلا واردها؟} فقال لها: أليس الله يقول: {ثم ننجي الذين اتقوا؟} (مريم: 72) الآية. وفي هذا بيان ضعف قول من قال: الورود مختص بالكفار، ومن قال معنى الورود الدنوّ منها، ومن قال معناه الإشراف عليها، ومن قال معناه ما يصيب المؤمن من الحمى في الدنيا، على أن هذا الأخير ليس ببعيد ولا ينافيه بقية الأحاديث اهـ.
3954 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاءت امرأة) أشار الحافظ في «الفتح» إليها أنها من نساء الأنصار (إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك) أي منفردين به عن النساء (فاجعل لنا من نفسك يوماً) فيه تجريد أو في الكلام مضاف: أي من أوقات نفسك: أي الأوقات التي تجعلها لنفسك منفرداً فيها عنهم، فإنه يجزىء أوقاته ثلاثاً كما في «شمائل الترمذي» (نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله) الجملتان مستأنفتان بسبب طلبهن اليوم والمراد منه مطلق الوقت وفصلهما إيماء إلى استقلال كل منهما بالكفاية فيما طلبوا (قال: اجتمعن يوم كذا وكذا) عينه لهن ليستعددن له وليكن أشوق، فتكون(6/435)
الموعظة أوقع لأن ما حصل بالطلب ليس كالحاصل بلا تعب (فاجتمعن فأتاهن النبيّ فعلمهن مما علمه الله) أي من الأحكام المحتاجات إليها (ثم قال) زيادة على مطلوبهن مبشراً (ما منكن من امرأة) من الثانية مزيدة ومن في «منكن» لبيان إبهام المرأة حال منها: أي ما أمره منكن والمراد معشر النساء المسلمات (تقدم ثلاثة من الولد) بفتحتين يشمل الذكر والأنثى والمفرد والجمع (إلا كانوا) لبعض، رواة البخاري «كن» بضم الكاف وتشديد النون وكأن التأنيث باعتبار النفس أو النسمة (لها حجاباً من النار) الظرف الأول لغو متعلق بكان على الأصح من تعلق الظرف بها، ويجوز إعرابه حالاً من حجاباً، كان وصفاً له فنقدم فأعرب حالاً والظرف الثاني في محل الصفة. قال القرطبي: وخصت الثلاثة لأنها أول مراتب الكثرة فتعظم المصيبة بكثرة الأجر، فأما إذا زاد عليها فقد يخف أمر المصيبة لكونها تصير كالعادة اهـ. وتعقبه الحافظ ابن حجر فيما أوهمه كلامه من قصر ذلك على من فقد له ثلاثة دون من فقد له أربعة أو خمسة بأنه جمود شديد، فإن مات له أربعة مات له ثلاثة ضرورة وثبت له أجرهم وموت الرابع إن لم يزد في الأجر لا يرفعه والحق أن تناول الخبر لما فوق الثلاثة بالأولى والأحرى، ويؤيده أنهم لم
يسألوا عن الأربعة فما فوق لأن ذلك كالملعلوم عندهم من الثلاثة (فقالت امرأة) هي أم سليم أم أنس بن مالك كما رواه الطبراني عنها أنها سألته عن الاثنين، ووقع لأم مبشر الأنصارية السؤال عن ذلك، رواه الطبراني أيضاً، وجاء من حديث جابر بن سمرة أن أم أيمن ممن سأله عنه، ومن حديث ابن عباس أن عائشة أيضاً منهن. وحكى ابن بشكوال أن أم هانىء أيضاً سألت عنه قال في «فتح الباري» : فيحتمل أن كلاً منهن سألت عن ذلك في ذلك المجلس واحتمال تعدد القصة فيه بعد لأنه لما سئل عن الاثنين بعد ذكر الثلاثة أجاب بأن الاثنين كذلك. والظاهر أنه كان بوحي أوحي إليه في الحال، وبذلك جزم ابن بطال وغيره، وإذا كان كذلك كان الاقتصار على الثلاثة بعد ذلك مستبعداً لأن المفهوم يخرج الاثنين اللذين ثبت لهما ذلك الحكم بناء على الحكم بمفهوم العدد وهو المعتبر، نعم قد جاء في حديث جابر بن عبد الله أنه ممن سأل عن ذلك، وكذا عمر وحديثه عند الحاكم والبزار، وهذا لا بعد في تعدده لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال به (واثنين) هذا اللفظ رواية مسلم، والتقدير: وما حكم اثنين، وعند البخاري واثنان بالألف: أي وإذا مات اثنان ما الحكم، وهذا منها بناء على عدم اعتبار مفهوم العدد إذ لو اعتبرته لعلمت(6/436)
انتفاء الحكم عما عدا الثلاثة لكنها جوزته فسألت، قاله عياض. وتعقبه الحافظ في «الفتح» بأن الظاهر أنها اعتبرت مفهوم العدد إذ لو لم تعتبره لما سألت. والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست نصية بل محتملة فلذا سألت (فقال رسول الله: واثنين) هو بالياء أيضاً وهو لفظ مسلم: أي وحكم اثنين كذلك، وعند البخاري بالألف وتقديره: وإذا مات اثنان فالحكم كذلك، وهذا ظاهر التسوية في حكم الثلاثة والاثنين، وقد تقدم عن ابن بطال أنه أوحى إليه بذلك في الحال، ولا بعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلاً لكنه أشفق عليهن أن يتكلوا، لأن
موت الاثنين غالباً أكثر من موت الثلاثة كما وقع في حديث معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد، ثم لما سئل عنه لم يكن له بد من الجواب قاله الحافظ (متفق عليه) .
165 - باب ندب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين ومصارعهم
أي محل نزول العذاب عليهم: أي طلب الخوف قلباً وظهور آثاره على ظاهر البدن بالبكاء والخضوع ونحوه كما قاله المصنف (وإظهار الافتقار) أي المبالغة في الفقر (إلى الله تعالى والتحذير من الغفلة عن ذلك) أي التحذير من الغفلة عما ذكر.
1955 - (عن ابن عمر أن رسول الله قال لأصحابه لما وصلوا الحجر) بكسر المهملة وسكون الجيم، وعطف عليها عطف بيان قوله (ديار ثمود) قوم صالح وهي فيما بين المدينة والشام، وكان ذلك لما توجهوا معه إلى غزوة تبوك في السنة العاشرة من الهجرة(6/437)
(لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين) بفتح العين والذال المعجمة: أي على منازلهم أو عليهم في قبورهم (إلا أن تكونوا باكين) استثناء من أعم الأحوال: أي لا تدخلوا على أي حال إلا حال بكائكم، وليس المراد الاقتصار عليه حال الدخول بل استمرار ذلك مطلوب عند كل جزء من أجزاء الدخول والمرور بهم، رجاء أنه لم ينزل فيه البتة» (فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم) لأنها مواقع سخط ومنازل بلاء (لا يصيبكم) بالرفع على أن لا نافية: أي لئلا يصيبكم (ما أصابهم) أي مثل ما أصابهم من العذاب. ويجوز الجزم على أنها ناهية وهو نهي بمعنى الخبر، وللبخاري في أبواب الأنبياء «أن يصيبكم» قلت: وهو كذلك في تفسير سورة الحجر منه: أي خشية أن يصيبكم، كذا قدر البصريون مثله، وقدره الكوفيون لئلا يصيبكم فحذف الجار، ووجه هذه الخشية أن البكاء في الأول أرجح لما يأتي ببعثه التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكير في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك، فمن مرّ عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتباراً بحالهم فقد شابههم في الإهمال ودلّ على قساوة قلبه وعدم خشوعه فلا يأمن أن يجرّه ذلك إلى العمل بمثل عملهم فيصيبه ما أصابهم، ولهذا يندفع اعتراض من قال: كيف يصيب عذاب الظالم من ليس بظالم؟ لأنه بهذا التقدير لا يأمن أن يصير ظالماً فيعذب بظلمه اهـ. ملخصاً من «فتح الباري» (متفق عليه) .
(وفي رواية) للبخاري في أبواب الأنبياء، ورواه النسائي أيضاً في التفسير من «سننه» (قال) أي ابن عمر (لما مرّ رسول الله بالحجر) في غزوة تبوك (قال) أي لأصحابه (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم) أي بالكفر بالله وتكذيب رسل الله بتكذيب صالح عليه السلام، إذ من كذب رسولاً بمنزلة من كذبهم لاتفاق دعوتهم واتحاد منهجهم، ولا يضرّ اختلاف فروع شرائعهم فيما ذكر (أن يصيبكم ما أصابهم) أي خشية أن يصيبكم: أي خشية إصابة ما أصابهم، وهذا تقدير البصريين، وخرّج الكوفيون مثله كما مر آنفاً على أن حرف النفي محذوف بين أن ومنصوبها. وتعقب بأن «لا» لا تضمر، إذ لا يجوز حذف النفي ولكن يراد للتأكيد، وحذف المضاف كثير(6/438)
وبهذا رجح طريق البصريين (إلا أن تكونوا باكين) استثناء من أعم الأحوال كما تقدم: أي لا تدخلوها إلا حال الاعتبار الباعث على البكاء (ثم قنع رأسه) أي ألقي عليه القناع (وأسرع السير) واستمر كذلك (حتى أجاز) أي إلى أن قطع وخلف (الوادي) ففيه النهي عن دخول مواضع العذاب لا على وجه الاعتبار، وطلب الإسراع لداخلها، وفي «المصباح» : الوادي كل منفرج بين آكام أو جبال يكون منفذاً للسيل جمعه أودية.(6/439)
7 - كتاب آداب السفر
بفتح أوليه: هو قطع المسافة اسم مصدر سافر، يقال ذلك إذا خرج للارتحال أو لقصد مسافة فوق مسافة العدوى، لأن أهل العرف لا يسمون مسافة المدوى سفراً، قاله في «المصباح» وسمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وفي «المصباح» أيضاً: قال بعض المصنفين: أصل السفر يوم كأنه أخذه من قوله تعالى: {ربنا باعد بين أسفارنا} (سبأ: 19) فإن في التفسير كان أقل سفرهم يوماً يقيلون في موضع ويبيتون في آخر ولا يتزوّدون لهذا، وجمع السفر أسفار.
166 - باب استحباب الخروج يوم الخميس
سمي به لأنه خامس الأسبوع على الصحيح واستحبابه أول النهار منه إن خرج فيه وإلا فمن أي يوم خرج فيه.
1956 - (عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه خرج في غزوة تبوك) بفتح الفوقية وتخفيف الموحدة بالصرف وعدمه (يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس) جملة حالية ولذا كان الأفضل الخروج يومه فالاثنين فالسبت (متفق عليه) .
(وفي رواية في الصحيحين قلما) «ما» فيه كافة لقلّ عن طلب الفاعل مهيئة لدخولها على الجمل الفعلية (كان رسول الله يخرج(6/440)
إلا يوم الخميس) ساقه المصنف بعد ما قبله لينبه على أن ندب الخروج يوم الخميس مأخوذ من محبته لذلك وفعله.
2957 - (وعن صخر) بفتح المهملة وسكون المعجمة (ابن وداعة) بفح الواو وبالدال وبالعين المهملتين (الغامدي) بالغين المعجمة وكسر الميم، قال الأصبهاني في «لبّ اللباب» : نسبة إلى غامد بطن من الأزد، واسمه عمر بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأزد، قيل له غامد لأنه كان بين قوم شرّ فأصلح بينهم وتغمد ما كان من ذلك. قال الحافظ: وصخر هذا حجازي سكن الطائف الصحابي المتفق على صحبته. قال أبو الفتح الأزدي وابن السكن: ما روى عنه إلا عمار بن حديد، خرّج عنه الأربعة اهـ. روي له عن رسول الله كما في «مختصر التلقيح» لابن الجوزي حديثان، وقال البرقي له حديث واحد، ولم أقف على من ذكر عام وفاته (رضي الله عنه أن رسول الله قال اللهم) أي يا الله أي يا الله (بارك) المفاعلة للمبالغة: أي أنزل البركة العظيمة الكثيرة (لأمتي في بكورها) بضم الموحدة والكاف. في «المصباح» . قال أبو زيد في كتاب «المصادر» : بكر بكوراً وغدا غدواً هذان من أول النهار. وفي «القاموس» : بكر عليه وإليه وفيه بكوراً وابتكر وأبكر وباكره: أتاه بكرة، وفيه البكرة بالضم الغدوة، وأدرج الراوي في آخر الحديث قوله (وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجراً فكان يبعث) أي يرسل (تجارته أول النهار) طلباً للبركة الموعود بها فيه (فأثرى) بالمثلثة أي سار ذا ثروة: أي غنى (وكثر) بضم المثلثة (ماله) أي صار كثيراً (رواه أبو داود) في الجهاد (والترمذي) في البيوع (وقال: حديث حسن) ولم يعرف لصخر عن النبي غير هذا الحديث، قاله الحافظ ابن حجر في «الإصابة» ، وتعقب بأن الطبراني أخرج(6/441)
له آخر متنه «لا تسبوا الأموات» وروى حديث الباب أحمد والنسائي في السير وابن ماجه في التجارات، وقد رواه الترمذي من حديث ابن عباس كما في «الأطراف» .
176 - باب استحباب طلب الرفقة
أي طلب المسافر رفقة وهو مثلث الراء سموا بذلك للارتفاق بهم (وتأميرهم على أنفسهم واحداً) والأولى أن يكون فقيها حازماً عارفاً بأبواب السفر، وقوله (يطيعونه) جملة مستأنفة لبيان حكمة التأمير وثمرته، ويجوز جعلها صفة لواحد: أي ينبغي أن يكون الآمر مطاعاً لهيبته وجلاله.
1958 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: لو أن الناس يعلمون من الوحدة) بفتح الواو وسكون الحاء المهملة: أي الانفراد في السفر (ما أعلم) أي الذي أو شيئاً أعلمه أو علمي، ولا يخفى ما في هذه العبارة من الإيماء إلى كثرة حذر الانفراد وأن ذلك لكثرته فوق أن يبين بالعبارة، وأن ومدخولها مؤول بمصدر فاعل فعل الشرط: أي لو ثبت علم الناس ما أعلم من ضرر الوحدة الدنيوي والديني كحرمانه من الصلاة بالجماعة وعدم من يعينه في حوائجه، ولأنه ربما مرض في الطريق فلا يجد من يتولى تمريضه، أو يموت فلا يجد من يتولى أمره وحمل تركته لأهله، وهذا وإن كان يحصل أمره بالثاني لكن كماله إنما يكون بالثلاثة فلذا قال في الحديث بعده «والثلاثة ركب» (ما سار راكب) التعبير به باعتبار أنه شأن المسافر وإلا فالمشي في السفر مثله (بليل) أي فيه، والتقييد بزيادة الضرر الناشىء عن الانفراد وظلام الليل (وحده) أي منفرداً، وجرى بعضهم على أن إضافة وحده للضمير لم تكسبه التعريف لكونه المحل للحال وهو لا يكون إلا نكرة، فمنع ذلك كسب الإضافة للتعريف وعليه فهو معرفة صورة فلا يحتاج للتأويل، وما ذكرته أولاً هو ما عليه الجمهور لأنه معرفة حقيقة بالإضافة وأنه أول لكون الحال لا يكون إلا نكرة، ثم أخذ بعضهم بمفهوم قوله بليل فقال الكراهة في الانفراد ليلاً لا نهاراً (رواه البخاري) قال(6/442)
ابن مثال في «شرح المشارق» العلم في الحديث بمعنى المعرفة، وراه أحمد والترمذي وابن ماجه بلفظ «لو يعلم الناس من الوحدة ما أعلم» الخ.
2959 - (وعن عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو (عن أبيه عن جده) أي جد أبيه وهو عبد الله بن عمرو بن العاص كما تقدم رضي الله عنه، وقد أخذ شعيب عن جده ابن عمرو كما قدمناه (قال: قال رسول الله: الراكب شيطان والركبان شيطانان) والتخصيص بالركوب لا مفهوم له لما ذكر فيما قبله، وكذا الذكورة، فالمرأة والماشي كذلك. قال العراقي: إن المعنى مع الراكب شيطان أو إن المعنى تشبيهه بالشيطان، لأن عادته الانفراد في الأماكن الخالية كالأودية والحشوش. وقال الخطابي: معناه أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان وهو شيء يحمل عليه الشيطان ويدعوه إليه فقيل لذلك إن فاعله شيطان، وكذا الاثنان ليس معهما ثالث (والثلاثة ركب) أي إذا وجد ذلك تعاضدوا وتعاونوا على نوائب السفر ودفع ما فيه من الضرر، وأصل الركب هم أصحاب الإبل، وأصحاب الخيل والبغال والحمير في معنى ذلك (رواه أبو داود) في الجهاد من «سننه» (والترمذي) في الجهاد أيضاً من «جامعه» (والنسائي) في السير، ورواه الحاكم في «المستدرك» (بأسانيد صحيحة) التعداد باعتبار أول السند، فرواه أبو داود عن القعنبي، ورواه الترمذي عن إسحاق بن موسى عن معن، ورواه النسائي عن عتيبة ثلاثتهم عن عمرو بإسناده المذكور (وقال الترمذي حديث حسن) .
3960 - (وعن أبي سعيد) هو الخدري (وأبي هريرة رضي الله عنهما) قدم أبو سعيد ذلك ذكراً مع أن أبا هريرة أكثر منه مروياً لأنه من الأنصار وأقدم إسلاماً (قالا: قال رسول الله: إذا خرج ثلاثة) خرج الاثنان إن اعتبرنا مفهوم العدد، وظاهر الحديث اعتباره(6/443)
هنا، واستوجبه بعض شراح «الجامع الصغير» ، وقال بعضهم: لا يبعد قياسهما على الثلاثة في ذلك، ولا ينافيه كونهما شيطانين (في سفر) ولو مكروهاً كما اقتضاه الإطلاق (فليؤمروا) ندباً فيما يتعلق بالسفر من أسبابه وما يعرض فيه (أحدهم) ولو فاسقاً لأن هذه إمارة منوطة برضا المولين ويحتمل خلافه، والفاسق مستثنى من أهلية الولاية شرعاً، والمستثنى الشرعي غير داخل في الإطلاق ولا ينقض بصحة توليته في بعض الأوقات للضرورة لأن ما جاز بالضرورة لا نقض به، والأولى ولاية الأفضل الأجود رأياً، فإن تعارضا فالثاني أولى لأن رعاية المصالح السفرية هي المقصودة بالذات لأن التأمير إنما طلب لها، وينعزل هذا الأمير بالعزل بحنحة أو بانقطاع السفر وهو وصول المقصد أو بإقامة تمنع الترخص (حديث حسن) هذا من تحسينات المؤلف، بل صححه الضياء وأورده في «المختارة» له (رواه أبو داود بإسناد حسن) وقال في «فتح الكبير» : إنه إسناد صحيح، وما قاله المصنف المقدم.
4961 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: خير الصحابة) بفتح الصاد المهملة جمع صاحب، قال في «المصباح» : صحبته أصحبه فأنا صاحب والجمع صحب وأصحاب وصحابة، قال الأزهري: ومن قال صاحب وصحب مثل فاره وفره، والأصل في هذا الإطلاق أنه لمن حصل له مجالسته اهـ: أي خير الأصحاب، قال ابن رسلان: وهو كذلك في غير أبي داود (أربعة) قال الغزالي: الذي ينقدح أن فائدة تخصيص الأربعة أن المسافر لا يخلو عن رجل يحتاج إلى حفظه، وعن حاجة يحتاج إلى التردد فيها، فلو كانوا ثلاثة لكان المتردد في الحاجة واحداً فيتردد في السفر بلا رفيق فلا يخلو عن ضيق القلب لفقد أنس الرفيق، ولو تردد في الحاجة اثنان لكان الحافظ للرجل وحده فلا يخلو عن الخطر ولا عن ضيق القلب، فما دون الأربعة لا يفي بالمقصود وما زاد عليها زيادة على الحاجة، ومن يستغني عنه لا تصرف الهمة إليه، فخير الرفاق الخاصة أربعة. قلت: ويصح أن تكون للعهد أي خير أصحاب رسول الله أربعة ويراد بهم الخلف الأربع والأول أقرب، ثم رأيت العاقولي قال: هو مطلق، فإن حملته على الصحابة فما أنت ببعيد عن الصواب وهم الأربعة الخلفاء الراشدون، وسرت بركتهم إلى كل عدد أربعة فصار خير الأصحاب مطلقاً أربعة، والله أعلم(6/444)
(وخير السرايا) جمع سرية، قال النووي: هي القطعة من الجيش تخرج منه تغير وترجع إليه. وقال إبراهيم الحربي، هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها فلذا جعلها خير السرايا فقال خير السرايا (أربعمائة) سميت بذلك لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابها فعليه بمعنى فاعلة، يقال سرى وأسرى إذا ذهب ليلاً. وضعف ابن الأثير ذلك وقال: سميت بذلك لأنها خلاصة العسكر من الشيء السري: أي النفيس. قال ابن رسلان: والظاهر أنه ليس المراد التحديد بالأربعمائة، ألا ترى إلى خير السرايا وهي عدة أهل بدر ثلثمائة وبضعة عشر، وكذا عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاوز معه إلا مؤمن، فعليه خير السرايا ما بين ثلثمائة إلى
أربعمائة ومن أربعمائة إلى خمسمائة اهـ. وفيه بعد لأن المراد به بيان أحسن مراتب عدد السرية، وأقل من هذا العدد لا يجري مجراه، وما فوقه زيادة على الحاجة وفضل ما ذكر لأمر خارجي لا ينافي التحديد في الحديث (وخير الجيوش) بكسر الجيم وضمها (أربعة آلاف) خصت الأربعة آلاف نظير الأربعة في الآحاد ولعله لما ذكر آنفاً فيما قبله من الإحزاء به دون ما دونه (ولن يغلب اثنا عشر ألفاً) من الجيش (من) تعليل أي لأجل (قلة) أي قلة عدد بل لسبب آخر من عجب بكثرة أو تزيين الشيطان لهم أمرا نشأ عنه خذلهم أو نحو ذلك، وقد زاد العسكري في روايته «وخير الطائع أربعون» (رواه أبو داود) في الجهاد (والترمذي) فيه أيضاً (وقال: حديث حسن) ورواه الحاكم في «المستدرك» .
168 - باب آداب السير والنزول في منازل السفر والمبيت
مصدر ميمي أي البيات (والنوم في السفر) الظرف حال من الجمع بأن يقدر متعلقه(6/445)
عاماً مجموعاً: أي كاثنات فيه (واستحباب السري) بضم فكسر فتشديد ياء: أي السير ليلاً (والرفق بالدواب) بأن لا تحمل فوق الطاقة ولا تجدّ في الإسراع فوق القدرة (ومراعاة مصلحتها) أي ما يصلحها (وأمر من قصر في حقها بالقيام بحقها) وجوباً إن قصر في واجب منه وندباً إن قصر في مندوب (وجواز الإرداف) بل طلبه عند الحاجة إليه لوجه الله تعالى (على الدارة إذا كانت تطيق ذلك) عبَّر فيه بإذا إيماء إلى أن شرط جوازه تحقق ذلك، فإن تردد في إطاقتها حرم إردافها.
1962 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا سفرتم في الخصب) بكسر الخاء المعجمة وسكون الصاد المهملة هو خلاف الجدب وهو اسم مصدر من أخصب المكان بالألف، وفي لغة خصب المكان من باب تعب إذا نبت فيه العشب والكلأ (فأعطوا الإبل) بكسر أوليه ويسكن الثاني تخفيفاً اسم جنس (حظها) وعند أبي داود حقها بالقاف بدل الظاء، قال ابن رسلان: ومعناهما متقارب (من الأرض) قال البيضاوي: يعني دعوها ساعة فساعة ترعى (وإذا سافرتم في الجدب) قال في «المصباح» : هو المحل وزناً ومعنى: وهو انقطاع المطر ويبس الأرض، يقال جدب البلد بضم الدار جدوبة (فأسرعوا عليها السير) وعطف على ذلك الباعث على الإسراع بقوله (وبادروا بها) بالموحدة (نقيها، وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق) أي النزول بها بل اعدلوا وأعرضوا عنها، وعلل ذلك بقوله (فإنها طرق) بضمتين ويسكن الثاني تخفيفاً جمع طريق أي محل ممر (الدواب) لسهولتها فربما تضرّ بالنازل بها (ومأوى الهوامّ بالليل) أي محل إيوائها وذلك أنها تقصد ذلك بالإلهام لكونه ممراً فيسقط به شيء من المأكول ونحوه وعادي إليه بالتماس ذلك (رواه مسلم) ورواه أبو داود أيضاً والترمذي:
(معنى أعطوا الإبل حظها) بفتح المهملة وإعجام الظاء المشددة وهو النصيب (من الأرض) متعلق بأعطوا. ويجوز تعلقه بحظ وإعرابه حالاً من المفعول (أي ارفقوا بما في السير) بترك الإسراع لئلا يكون مانعاً لها من الرعى بل ارفقوا (لترعى) في حال(6/446)
سيرها فتجمع بين استيفاء ما عليها منا لسير وما لها من تناول ذلك (وقوله نقيها هو بكسر النون وإسكان القاف وبالياء المثناة من تحت وهو المخ) هو بيان للمراد من الحديث: أي أريد بالنقي المخ مجازاً مرسلاً من إطلاق اسم المحل على الحال كإطلاق الغائط على الخارج، ففي «القاموس» و «المصباح» النقو والنقي كل عظم ذي مخ، لكن متقضى قول «النهاية» : النقي المخ، يقال نقيت العظم ونقوته ونقيته اهـ أنه لذلك المعنى، وأنه من المعاني التي ذكرها أصحاب كتب الغرائب دون مدوني كتب اللغة (معناه) أي معنى قوله «وإذا سافرتم» في الجدب إلى قوله «نقيها» (أسرعوا بها حتى تصلوا المقصد قبل أن يذهب مخها من ضنك) أي جهد (السير والتعريس) قال الخليل ابن أحمد: والأكثرون هو (النزول في الليل) للنوم أو الاستراحة، وقال أبو زيد: هو النزول أيّ وقت كان من ليل أو نهار.
2963 - (وعن أبي قتادة) تقدم الخلاف في اسمه والراجح أن اسمه الحارث بن النعمان (رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا كان في سفر فعرس بليل) ذكره مع أن التعريس لا يكون إلا ليلاً ليفيد بقاء جانب من الليل له وقع (اضطجع على يمينه) لأن النفس تستوفي حقها من النوم لبقاء ما بقي من الليل، والنوم على اليمين أشرف جهة ولئلا يستغرق في النوم لكون القلب يكون حينئذ معلقاً فلا ينغمر في النوم (وإذا عرس قبيل الصبح) أي في أواخر الليل والباقي منه لا يقوم حظ البدن من المنام (نصب ذراعه) أي اليمين لأنها الأشرف (ووضع رأسه على كفه) المنصوب ذراعها (رواه مسلم) في الصلاة، ورواه الترمذي في «شمائله» (قال العلماء: إنما نصب ذراعه لئلا يستغرق في النوم) لو نام مضطجعاً (فتفوت صلاة الصبح) بأن يستمر نائماً إلى طلوع الشمس كما في قصة نومه بالوادي (عن(6/447)
وقتها أو عن أول وقتها) بأن يستيقظ قبل طلوعها بعد الإسفار مثلاً، والنوم قبل دول وقت الصلاة جائز وإن علم تفويتها به، وبعد دخوله لا يجوز إلا إن غلبه بحيث أذهب إحساسه، أو كان يعلم قيامه قبل خروج الوقت بوجود من يوقظه أو يعلم ذلك من عادته.
3 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: عليكم بالدلجة) بضم فسكون وبفتحتين وهو سير الليل سحراً كان أو غيره بدليل قوله (فإن الأرض تطوى) بضم الفوقية مبني للمفعول (بالليل) أي فيه أو بسببه والطيّ قيل على حقيقته وأنها ينزوي فيه بعضها إلى بعض ويدخل فيه، وقد ورد «عليكم الدلجة فإن لله ملائكة يطوون الأرض للمسافر كما تطوى القراطيس» رواه الطبراني وغيره، وقيل إنه مجاز عن قطع الدوابّ فيه من المسافة مالا تقطعه منها في النهار لنشاطها ببرد الليل، خصوصاً آخره الذي ما فعل فيه شيء من العبادات والمباحات إلا كان فيه البركة الكثيرة لأنه وقت التجلي، وقال تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل} (هود: 81) أي سر في سواد الليل: أي إذا بقي منه قطعة، وقال ابن رواحة.
عند الصباح يحمد القوم السري
وتنجلي عنهم غيابات الكرى
ثم قد ورد النهي عن السير أول الليل، قال «لا ترسلوا مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء» وهو في الصحيح، وقد كره البيهقي السير أول الليل لذلك، وتعقبه المصنف في المجموع بأنه لا يقتضي إطلاق الكراهة قال: والمختار أنه لا يكره، قال الشيخ عبد الرءوف المكي الواعظ: كراهة إرسال المواشي حينئذ محمولة على إرسالها من غير حافظ لها (رواه أبو داود بإسناد حسن) ورواه الحاكم في «المستدرك» والبيهقي (الدلجة) بالوجهين السابقين في ضبطه (السير في الليل) أي جزء منه أولاً كان أو آخراً.(6/448)
وقال ابن رسلان الدلجة: بالضم فالسكون سير آخر الليل فيه البركة.
4965 - (وعن أبي ثعلبة) بفتح المثلثة وسكون المهملة بينهما (الخشنى) بضم المعجمة الأولى وفتح الثانية بعدها نون، قال في التقريب: مشهور بكنيته، قيل اسمه جرثوم أو جرثومة أو جرثم أو جرهم أو لا شر بمعجمة مكسورة بعدها راء أو لاش بغير راء أو لا سومة أو ناسب أو ياسر أو عروق أو سواء أو زيد أو الأسود. واختلف في اسم أبيه أيضاً، مات (رضي الله عنه) سنة خمس وسبعين، وقيل بل قبل ذلك بكثير في أول خلافة معاوية بعد الأربعين، خرّج له الستة اهـ. وروي له عن النبي أربعون حديثاً. أخرج له في الصحيحين أربعة، اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد مسلم بواحد (قال: كان الناس إذا نزلوا) بالبناء للفاعل (منزلاً) أي في مكان من منازل سفرهم (تفرقوا في الشعاب) بكسر الشين المعجمة جمع شعب بالكسر وهو الطريق في الجبل كذا في «المصباح» (والأودية) جمع واد، وتقدم أنه كل منفرج بين جبال أو آكام يكون منفذاً لليل (فقال رسول الله: أي تفرقكم في هذه الشعاب) ظرف لغو متعلق بالمصدر قبله أو مستقر في محل الحال أو الصفة: أي تفرقكم حال كونه كائناً أو الكائن لأن الإضافة فيه للتعريف الجنسي (والأودية، إنما ذلكم) توكيد لما قبله لطول الفصل بالظرف بعد اسمها فهو نظير قوله تعالى: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} (المؤمنون: 35) والمشار إليه التفرق وجمع كاف الخطاب لجمع المخاطبين وهي في اللغة الفصيحة تختلف باختلاف إفراداً وتذكير وضديهما والخبر قوله (من الشيطان) أي ناشىء من وسواسه وإغوائه وذلك أن المراد من الرفقة دفع ما يعرض في السفر من عدم ركوبه والإعانة على نوائب السفر والتفرق مانع منه (فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً) أي من منزل (إلا انضم بعضهم إلى بعض) امتثالاً لإشارة المصطفى، وتحرجاً من العمل الداعي إلى الشيطان كما نطق به الخبر، وتلبساً بالأمر الداعي إليه الرحمن كما دل عليه مفهوم الخبر (رواه أبو داود بإسناد حسن) .(6/449)
g
5966 - (وعن سهل) بفتح فسكون (ابن عمرو، وقيل سهيل بن الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة (ابن عمرو) بن عدي بن زيد (الأنصاري) الأوسي من بني حارثة (المعروف بابن الحنظلية) بفتح المهملة والظاء المشالة وسكون النون بينهما: اسم أمه أو من أمهاته. وعلى وصفه بهذا اللفظ اقتصر في «أسد الغابة» في باب ما يعرف بابن فلانة فقال ابن الحنظلية، ولم يسق الخلاف المذكور في اسم أبيه (وهو من أهل بيعة الرضوان) التي كانت بالحديبية تحت الشجرة قال في «أسد الغابة» في الأسماء: وكان معتزلاً عن الناس كثير الصلاة والذكر، كان لا يزال يصلي مهما هو بالمسجد،. فإذا انصرف لا يزال ذاكراً من تسبيح وتهليل حتى يأتي أهله وسكن دمشق ومات بها أول خلافة معاوية ولا عقب له (رضي الله عنه) وفي «الإصابة» للحافظ بن حجر: اسم أبيه الربيع، وقيل عبيد، وقيل عقب بن عمرو وقيل عمرو بن عدي وهو الأشهر وعدي هو ابن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي. قال ابن أبي خيثمة: والحنظلية أمه وقبل جدته وقيل أم جده. قال ابن سعد: الحنظلية أم عمرو بن عدي واسمها أم إياس بن دارم التميمية، فمن كان من ولد عمرو قيل له ابن الحنظلية. قال البخاري: له صحبة، وكان عقماً. وقال غيره: شهد المشاهد كلها إلا بدراً اهـ. وقال المزي في «الأطراف» : قيل له ابن الحنظلية لأن أم أبيه من بنى حنظلة من تميم، وذكر له في «الأطراف» خمسة أحاديث، ولا شيء له في الصحيحين، وذكره ابن الجوزي في «مختصر التلقيح» فيمن روي له في مسند تقي بن مخلد تسعة أحاديث بتقديم الفوقية والله أعلم (قال: مرّ رسول الله ببعير) قال في «المصباح» : هو مثل الإنسان يقع على الذكر والأنثى، والجمل بمنزلة الرجل يختص بالذكر والناقة بمنزلة المرأة تختص بالأنثى (قد لحق) وفي لفظ السنن بالصاد بدل الحاء (ظهره ببطنه) أي من الجوع والجهد (فقال اتقوا الله) وتقواه واجبة مطلقاً، ويتأكد الوجوب بأسباب بالنسبة
لحال المخاطبين ووقائع الأحوال: منها قوله هنا (في هذه البهائم) الممتن عليكم شرعاً بركوبها ونحوه (المعجمة) صفة نص عليها للاستعطاف عليها ومزيد الشفقة بها والمعجمة بصيغة المفعول والعجماء بمعنى، وسميت به البهيمة لأنها لا تتكلم، ومن لا يفصح بكلامه يقال فيه أعجم ومعجم ومستعجم. قال الدميري: وسميت البهيمة بهيمة لأنها لا تتكلم (فاركبوها) أمر إباحي (صالحة) أي للركوب أي حيث كانت تطيقه(6/450)
وهو حال من المفعول (وكلوها) أمر كالذي قبله (صالحة) للأكل بأن ذكيت ذكاة شرعية، وقد يقال في وصفها بالصلاح إيماء إلى الأمر بأسباب صلاحيتها، وخرج بصالحة ما لا تصلح للأكل كالهدي الواجب بنذر أو غيره، فلا يصلح للمهدي الأكل منها، والاقتصار على الركوب والأكل لأنهما أظهر منافعها أو للتنصيص على أن الوصف بالصلاحية فيهما أهم منه في غيرهما (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في «صحيحيهما» .
6967 - (وعن أبي جعفر عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب القرشي الهاشمي (رضي الله عنهما) أمه أسماء بنت عميس الخثعمية، وقدم مع أبيه المدينة من الحديبية، وهو أخو محمد ابن أبي بكر الصديق ويحيى بن علي بن أبي طالب لأمهما، وروي له عن رسول الله خمسة وعشرون حديثاً اتفقا على حديثين منها، توفي رسول الله وله عشر سنين. قال الحافظ في «التقريب» : مات سنة ثمانين وهو ابن ثمانين سنة (قال: أردفني رسول الله) أي حملني خلفه على ظهر الدابة (ذات يوم) قال الحافظ في مقدمة «فتح الباري» : تكرر قوله ذات يوم وذات ليلة وذات بينكم، وكله كناية عن نفس الشيء وحقيقته، وتطلق على الخلق والصفة، وأصلها اسم إشارة للمؤنث، وقد تجعل ذات اسماً مستقلاً فيقال ذات الشيء، وقوله (خلفه) تأكيد لمفهوم قوله أردفني، أو جرد الإرداف عن كونه خلف الراكب وأريد به مطلق الحمل معه على الدابة وهو بالنصب ظرف مكان (وأسر) أي أخفى (إليّ حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس) جملة النفي محتملة لكونها صفة حديث: أي حديثاً شأنه ألا أبديه لأحد، ولكونها مستأنفة وأتى بها لئلا يطلب منه بيانه (وكان أحب) بالنصب خبر كان مقدم، ويجوز الرفع اسمها، والأول أولى لكونه وصفاً وهو بالإخبار أليق، ويؤيده اتفاق الأصول على رفع هدف (ما استتر به رسول الله) أي من الأعين عند قضاء حاجة الإنسان كما في نسخة لحاجة (هدف) بفتح أوليه قال في «المصباح» هو كل شيء عظيم مرتفع، قاله ابن فارس مثل الجبل وكثيب الرمل والبناء والجمع أهداف كسبب وأسباب(6/451)
(أو حائش) بالمهملة وبعد الألف همزة فشين معجمة (نخل) وقال عبد الله بن أسماء الضبعي أحد شيخي مسلم فيه كما صرح به مسلم بقوله قال ابن أسماء (يعني) أي ابن جعفر بقوله حائش نخل بالشين المعجمة (حائط نخل) بالطاء المهملة والحائط هو البستان وجمعه حوائط، وسمى حائطاً لأنه يحوط ما فيه من الأشجار وغيرها (رواه مسلم) في الطهارة (هكذا مختصراً) ورواه أيضاً في
الفضائل وليس فيه قوله وكان أحب الخ» .
(وزاد فيه) الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن أحمد بن غالب (البرقاني) بفتح الموحدة والقاف وسكون الراء بينهما الخوارزمي نسبة إلى قرية من قرى كانت بنواحي خوارزم خربت. قاله الأصبهاني في «لبّ اللبابّ» قال: الفقيه المحدث الأديب الصالح (بإسناد مثل هذا بعد قوله حائش تخل فدخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا) فجائية (فيه جمل) أي عند الباب كما في رواية (فلما رأى) أي أبصر (الجمل النبي جرجر) أي صوت، والجرجرة بجيمين وراءين: صوت يردده البعير في حلقه، وعند أبي داود حن بالمهملة والنون المشددة (وذرفت) بالمعجمة وفتح الراء (عيناه) أي سال منهما الدمع حين رآه، وفي رواية حتى ابتل ما حوله من الدموع وهذا من معجزاته الدالة على صدق نبوته (فأتاه النبي) تواضعاً منه (فمسح سراته) بفتح أوليه المهملين وبعد الألف فوقية فسره بقوله (أي سنامه وذافراه) وفي «النهاية» : سراة: كل شيء ظهره وأعلاه، ومنه الحديث «فمسح سراة البعير وذفراه» ثم هذا التفسير يحتمل أن يكون من بعض الرواة أدرجه، وأن يكون من المصنف رحمه الله تعالى، وعند أبي داود، فمسح ذفريه بالياء بدل الألف، قال ابن رسلان: قلبت الألف فيه ياء وهي ألف التأنيث. قلت: الظاهر أنها حينئذ ألف المثنى وإلا فألف التأنيث لا تقلب ياء في مثله والله أعلم، ويأتي ضبطه ومعناه، وفعله به ذلك من كمال شفقته ومزيد رحمته (فسكن) أي ما به من ذلك الصوت (فقال: من ربّ هذا الجمل) أي صاحبه. وفيه دليل لإطلاق الربّ مضافاً على غير الله تعالى، أما المعرف(6/452)
باللام فلا يطلق على غير الله تعالى (لمن هذا الجمل) لعله كرر السؤال عن مالكه لشدة اعتنائه بمعرفته وكثرة شفقته على الجمل (فجاء فتى من الأنصار) لم أقف على من سماه، وفي رواية لأحمد «فقال النبي: انظر لمن هذا الجمل، قال: فخرجت ألتمس صاحبه فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته له فقال: ما شأن جملك
هذا؟ فقال: ما شأنه؟ لا أدري والله ما شأنه عملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فأتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه، قال: فلا تفعل» قال ابن رسلان: في هذه الرواية منع نحر الجمل إذا: أزمن وعجز عن العمل وإن أريد أكل لحمه وقد صرح به أصحابنا اهـ. ولم أر من نقله عن أصحابنا والله أعلم. (فقال: وهذا لي يا رسول الله: قال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة) أي أتهمل أمرها فلا تتقي الله في أمرها. قال الأزهري: البهيمة في اللغة معناها المبهمة عن العقل والتمييز، والمعنى: ألا تتقي الله فيما لا لسان لها فتشكو ما بها من جوع وعطش ومشقة، فهو أبلغ في الأمر بالتقوى فيها من نحو اتق الله (التي ملكك الله) أظهر في مقام الإضمار لزيادة الحض والحث على التقوى فيها (إياها) أي أنعم بها عليك فلا تقابل نعمته بمعصيته بل بالشكر والإحسان ليدوم لك الامتنان، ثم ذكر الداعي إلى تحريضه على إصلاح شأنها بقوله (فإنه) التذكير باعتبار أنه جمل: أي فإن الجمل، وفيه تفنن في التعبير (يشكو إليّ) لا مانع من إجرائه على حقيقه، وعرف النبي ذلك باطلاع الله تعالى له عليه فهو من جملة معجزاته أو فهم ذلك من أحواله (أنك تجيعه) بضم أوله (وتدئبه) بضم التاء الفوقية أيضاً مضارع من الإفعال من الدأب بمهملة ثم همزة ثم موحدة: أي تكده وتتعبه في العمل، وفي رواية لأحمد «شاكياً كثرة العمل وقلة العلف» (ورواه أبو داود) في الجهاد (كرواية البرقاني) بتفاوت بسير منه على بعضه (قوله ذفراه هو بكسر الذال المعجمة وإسكان الفاء وهو لفظ مفرد مؤنث) قال أهل اللغة الذفري الموضع الذي يعرق من الإبل خلف الأذن، وقوله (تدئبه) بالضبط المذكور فيه (أي تتعبه) بضم الفوقية إفعال من التعب.(6/453)
7968 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كنا) أي معشر الصحابة (إذا نزلنا منزلاً) أي في منزل من منازل السفر (لا نسبح حتى نحل) بضم المهملة (الرحال) أي نضعها عن ظهور الجمال، والرحال بكسر الراء وبالمهملة جمع رحل بفتح فسكون: هو كل شيء يعدّ للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحلس ورسن، ويجمع في القلة على أرحل كبحر وأبحر كذا في «المصباح» (رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم) فرواه في الجهاد عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة عن حمزة الضبي عن أنس (وقوله لا نسبح: أي لا نصلي النافلة) وأطلق على الصلاة بطريق المجاز المرسل من تسمية الكل باسم الجزء ففيه مجاز مرسل تبعي.
(ومعناه أنا مع حرصنا) بكسر الحاء المهملة وسكون الراء (على الصلاة) واهتمامنا بها (لا نقدمها على حط الرحال إراحة للدواب) وإن كان فيه مبادرة للطاعة ومسارعة بالعبادة لكن يقدم عليها إراحتها شفقة ورحمة. وفي «حواشي سنن أبي داود» للمنذري وقد قال الحافظ: إن لفظ «لا» وإن الصواب «كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح حتى نحلّ الرحال» رواه غير واحد من الثقات، فرواه ابن السني بلفظ «كنا إذا نزلنا سبحنا حتى نحل الرحال» فقيل معناه نشتغل بالصلاة: تحية المنزل والتنفل ونحوه حتى يطأ أصحاب الرحال رحالهم، ثم نجتمع ونشتغل ببعض ما يشتغل به المسافر إذا حلّ من تهيئة الطعام، لكن الذي رأيناه في النسخ المعتمدة «لا نسبح» بزيادة لا النافية وهو أقرب إلى المعنى. فإن تأخر سبحة النافلة له فوائد: منها إراحة البهائم التي لم تصل إلى المنزل إلا وقد حصل لها التعب الكثير، فاشتغالهم بالصلاة فيه تأخير بالحط عنها، بخلاف ما إذا اشتغل الجميع بالحط، ولأن حط أصحاب الرحال رحالهم يشغل خاطر المصلي، وفي الخبر استحباب التنفل بالسفر كالحضر. وقد حكى المصنف اتفاق الفقهاء على استحباب النفل المطلق في السفر والخلاف في الراتبة، ثم استدلال المصنف بهذا مبني على القول بأن قول الصحابي كنا نفعل كذا مرفوع حكماً، سواء أضافه إلى زمن النبي أو لا، وهو ما عليه الإمام والحاكم والإمام فخر الدين الرازي. وقد قال ابن الصباع في العدة: إنه الظاهر، وقد أطلق الحاكم ما ذكر الإمام والسيف(6/454)
الآمدي ولم يقيداه بالتقييد بالعهد النبوي، قال في «المجموع» : وبه قال كثير من الفقهاء، وهو قوي من حيث المعنى، والذي عليه ابن الصلاح أنه حيث لم يقيد بالعهد النبوي موقوف لفظاً وحكماً.
169 - باب إعانة بالمهملة والنون (الرفيق) يحتمل أن يكون المصدر مضافاً لفاعله: أي إعانة الرفيق من سعة، ويحتمل أنه مضاف للمفعول: أي إعانة المسافر الرفيق: أي المرافق في السفر.
(في الباب) أي مطلق الإعانة (أحاديث كثيرة تقدمت كحديث: والله في عون العبد) أي الإنسان (ما كان العبد) مدة كون العبد (في عون) أي إعانة (أخيه) مصدر مضاف للمفعول (وحديث: كل معروف) أي يطلب ويعرف شرعاً (صدقة) ودخل ما ترجم له الباب في عموم كل منهما (وأشباههما) أي أحاديث تشبه ما ذكر من الحديثين في طلب نفع الغير، وقد جمع من ذلك الحافظ المنذري أربعين حديثاً وأوردناها في «إيقاظ النائم من سنة نومه» ببعض فوائد قوله تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه} (البقرة: 60) .
1969 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر) أي مع النبي (إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف) بفتح أوله وكسر ثالثه أي يقلب (بصره يميناً وشمالاً) ينظر من يتوسم فيه الإعانة (فقال رسول الله من) أي الذي (كان معه فضل ظهر) مركوب فاضل عن حاجته إليه (فليعد) بفتح التحتية أي من العائدة بمعنى الصلة (به) الباء للتعدية (على من لا ظهر له) أي يواسي من عنده ذلك المحتاج بإركابه(6/455)
على الظهر، وحمله ابن مالك على العود بمعنى الرجوع فقال وهذا: أي العود بالظهر قد يحصل بلا عود، وإنما عبر عنه بالعود لأن الغالب في من لا مركب له التأخر عن الرفقاء ومواساته إنما تحصل بالعود (ومن كان له فضل زاد) أي زاد فاضل عن حاجته (فليعد به على من لا زاد له) أراد به كما قبله الإحسان، وقال ابن مالك: عبر عنه بالعود لما ذكرنا أو للمشاكلة (فذكر) أي النبي أنواعاً (من أصناف المال) وأن من عنده الفضل منها عاد به على من لا شيء له منها، وقوله (حتى) غاية لذكر الأصناف: أي ما زال يستقرى. أصناف المال ويأمر بالتصدق بفضولها إلى أن (رأينا) أي علمنا أو ظننا (أنه لا حق) أي استحقاق (لأحد منا في فضل) أي فاضها منها وأنه يجب دفعها للمحتاج إليه (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى وابن حبان كلهم عن أبي سعيد كما في «الجامع الكبير» .
2970 - (وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله: إنه إذا أراد أن يغزو قال: يا معشر) وفي «المصباح» المعشر والقوم والرهط والنفر والجماعة الرجال دون النساء وجمعه معاشر (المهاجرين والأنصار) قدم الأولين لأفضليتهم بالسبق (إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة) هي القبيلة ولا واحد لها من لفظها والجمع عشيرات وعشائر (فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة) أي أحدكم يضم الاثنين وأحدكم يضم ثلاثة على حسب الحال من اليسار والإعسار (فما لأحدنا) أي الأغنياء الواجدين (من ظهر يحمله إلا عقبة) بضم فسكون منصوب على المصدر (أحدهم) يعني كعقبة أحدهم، والمعنى أنهم كانوا يتساوون في تناوب ركوب الظهر فيركب المالك عقبة وذلك المسكين كذلك (قال: فضممت إليّ اثنين أو) شك من الراوي (ثلاثة) بالنصب (وما لي إلا عقبة أحدهم) جملة حالية من فاعل ضممت (من(6/456)
جملى) بفتح أوليه أي من ركوبه (رواه أبو داود) .
3971 - (وعنه قال: كان رسول الله يتخلف في المسير) مصدر ميمي أي في السير في السفر فيكون في آخر الناس (فيزجى) بالزاي والجيم من الإزجاء: أي يسوق (الضعيف) في «القاموس» زجاه ساقه ودفعه كزجاه وأزجاه (ويردف) أي يركب على دابة (ويدعو له) فيعان ببركة دعوته ويصل لمطلبه (رواه أبو داود بإسناد حسن) ورواه الحاكم في «المستدرك» .
170 - باب ما يقوله أي الراكب (إذا ركب دابته) أي عند ركوبها (للسفر) ظاهر عمومه ولو كان غير مباح كالسفر لنحو قطع طريق، ولا بعد فيه لأن الجهة منفكة، وظاهر عبارته أنه لا يأتي به وقت ركوبها في غير السفر، وظاهر الآية طلب الذكر حينئذ وهو الأقرب وذكر السفر جرى على الغالب.
(قال الله تعالى) : ( {وجعل} ) أي خلق ( {لكم من الفلك} ) أي السفن ( {والأنعام} ) جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، والمراد منه هنا الإبل (ما تركبون) أي الذي تركبونه بحذف العائد اختصاراً ( {لتستووا على ظهوره} ) ذكر الضمير وجمع الظهر نظراً للفظ ما ومعناها ( {ثم تذكروا نعمة ربكم} ) أي إنعامه عليكم ( {إذا استويتم عليه} ) أي وقت استوائكم عليه فهو ظرف لتذكروا ( {وتقولوا} ) أي عند الركوب ( {سبحان الذي سخر لنا هذا} ) أي إنه مقدس عما(6/457)
لا يليق به منتزه عن سائر سمات الحوادث من الركوب والاستقرار على شيء ( {وما كنا له} ) أي لتسخيره المدلول عليه بقوله سخر لنا هذا أوله: أي المشار إليه ( {مقرنين} ) أي مطيقين ( {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} ) ذكر لتنبيه الغافل للموت الذي قد ينشأ عن الركوب من تعثر الدابة وسقوطه عنها فيحمله ذلك على الاستكانة لله سبحانه والتوبة عن سائر المخالفات.
1972 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله كان إذا استوى على بعيره) ليس ذكره لتقييد طلب الذكر به بل يطلب عند ركوبه كل مركوب (خارجاً إلى السفر) أي سفر كان (كبر) أي قال الله أكبر (ثلاثاً) ظرف لكبر ( {ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا} ) أي ذلله فتسخر قال الله تعالى: {وذللناها لهم} (يس: 72) ( {وما كنا له مقرنين} ) جملة حالية من مجرور واللام ( {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} ) جملة حالية أيضاً من «الذي» قبله أو من اسم كان أو ضمير خبره، فعلى الأول حال مترادفة وعلى الآخر حال متداخلة (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا) أي بخصوصه (البر) بكسر الموحدة أي الخير والفضل أو عمل الطاعة وعليه فعطف قوله (والتقوى) من عطف العام على الخاص إن أريد بها الكف عن المخالفة وفعل الطاعة، وإن أريد بها الكفّ عن المعصية فهو من عطف المغاير وسؤال ذلك فيه لأن السفر مظنة ترك البرّ والتقوى إلا بتأييد من الله سبحانه (ومن العمل ما ترضى) أي ما تحبه وتقبله والعائد محذوف (اللهم هون علينا سفرنا) أي مشقته أو المشقة فيه ووصفه بقوله (هذا) لما تقدم (واطو) بوصل الهمزة: أي أزل أو ادفع (عنا بعده) أي حقيقة أو حكماً (اللهم أنت الصاحب) قال في «الفائق» : أي الملازم، وأراد بذلك مصاحبة الله إياه بالعناية والحفظ من الحوادث والنوازل في السفر.t قال الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي: إطلاق الصاحب على الله تعالى بقيد (في(6/458)
السفر) جائز لا غير مقيد به لأن أسماءه تعالى توقيفية، وكذا كل ما ورد مقيداً كقوله (والخليفة) أي المعتمد عليه والمفوض إليه حضوراً وغيبة (في الأهل) ولا يطلق عليه كل من الصاحب والخليفة من غير قيد اهـ ملخصاً. قال التوربشتي: الخليفة هو الذي ينوب عن المستخلف عنه، والمعنى: أنت الذي أرجوه وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي أن يلم شعثهم ويداوي سقيمهم ويحفظ عليهم دينهم وأمانتهم (اللهم إني أعوذ) أي اعتصم (بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر) بفتح الميم
والظاء قيل المراد الاستعاذة من كل منظر يعقب النظر إليه الكآبة فهو من قبيل إضافة المسبب إلى السبب (وسوء المنقلب) بصيغة المفعول مصدر ميمي: أي الانقلاب من السفر والعود إلى الوطن بمعنى استعاذ من أن يعود لوطنه فيرى ما يسوؤه (في المال والأهل) المراد بالأهل أهل البيت من الزوجة والخدم والحشم. قال ميرك استعاذ من أن ينقلب إلى وطنه فيلقي ما يكتئب به من سوء أصابه في سفره كأن يرجع غير مقضي الحوائج، أو يصيب ماله آفة، أو كأن يقدم أهله فيجدهم مرضى أو يفقد بعضهم، قال في «الحرز» : أو يرى بعضهم على المعصية (وإذا رجع) أي لابس الرجوع بالشروع فيه (قالهن) أي الكلمات المذكورة (وزاد فيهن) أي عليهن وهل في آخرهن أو أولهن؟ كل محتمل (آئبون) بكسر الهمزة بعد الألف: أي راجعون وهي خبر لمحذوف: أي نحن معشر الرفقاء آئبون (تائبون) أي من المعاصي، والأولى أن يقال تائبون عن الغفلة فإن الأوّاب صفة الأنبياء ومنه قوله تعالى:
{إنه آواب} (ص: 44) وصفة المؤمنين ومنه قوله تعالى: {إنه كان للأوابين غفوراً} (الإسراء: 25) (عابدون لربنا حامدون) الظرف متعلق بما قبله من العوامل، ويحتمل أن يكون متعلقاً أيضاً بما بعده وليس هو حينئذ من باب التنازع وإن وهم فيه صاحب الحرز، لأن شرط التنازع سبق العوامل المعمول، نعم هو من باب التنازع بالنظر للعوامل قبله (رواه مسلم) وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي (معنى مقرنين مطيقين، والوعثاء بفتح الواو وإسكان المهملة وبالثاء المثلثة وبالمد وهي الشدة) المشقة (والكآبة بالمد) مع فتح الكاف قبل الهمزة الممدودة(6/459)
(وهي تغير النفس من حزن) بضم فسكون وبفحتين (ونحوه) أي غم وهم وفي «المصباح» : الكآبة أشد الحزن (والمنقلب) بضم الميم وفتح اللام مصدر ميمي كما تقدم، وكذا فسره المصنف بقوله (المرجع) بفتح الميم والجيم.
2973 - (وعن عبد الله بن سرجس) بسين مهملة أوله وآخره وبعد الأولى راء فجيم بوزن نرجس ويحرز صرفه ومنعه، وهو صحابي سكن البصرة وخرج حديثه الأئمة الستة (المزني) بضم الميم وفتح الزاي بعدها نون نسبة لمزينة، قال الحافظ في «التقريب» : وهو حليف بني مخزوم (رضي الله عنه) روي له عن رسول الله فيما قاله ابن حزم في سيرته وابن الجوزي في «مختصر التلقيح» سبعة عشر حديثاً بتقديم المهملة، وانفرد به مسلم عن البخاري فروى له ثلاثة أحاديث (قال كان رسول الله إذا سافر) يحتمل أن يكون على حقيقته: أي إذا لابس السفر بأن شرع في السير أو أنه مجاز عن إرادة ذلك، ويجوز أن يراد كلاهما (يتعوذ) أي كان يقول أعوذ بالله (من وعثاء السفر وكآبة المنقلب) أي الانقلاب (والحور) بالمهملتين المفتوحة أولاهما بينهما واو ساكنة (بعد الكون) بوزن ما قبله أي من الهبوط بعد الرفعة والاستعاذة منه حينئذ لأن السفر مظنة التفريط فيما يطلب فعله، وهو أيضاً حكمة قوله (ودعوة المظلوم) لأن ذلك قد ينشأ عنه من ظلم الدابة بتحميلها فوق طاقتها أو تكليفها من الجهد في المشي فوق قدرتها أو منع الجمال ونحوه من الإتباع والعملة عن أجرهم أو نقصه، أو لأن دعوة المظلوم المسافر الذي لا يلقي إعانة ولا إغاثة أقرب إلى الإجابة (وسوء المنظر) أي وأن أنظر ما يسوءني (في الأهل) من مرض أو موت أو اشتغال بمخالفة أمر الله تعالى (والمال رواه مسلم) والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم من حديث عبد الله بن سرجس (هكذا هو في صحيح مسلم) وبين المشار إليه بقوله (الحور بعد الكون) بالنون وكذا: أي كما ذكر من كون الكون بالنون (رواه الترمذي(6/460)
والنسائي) وقوله إنه كذلك في «صحيح مسلم» هو باعتبار أكثر أصوله والمشهور منها كما في «الأذكار» (قال الترمذي) في «جامعه» (ويروي الكور) بالجر على الحكاية (بالراء) بدل النون (وكلاهما) أي كلا الراويتين (له وجه) من جهة المعنى (قال العلماء) بغريب الحديث
ومعانيه (معناه بالنون والراء جمعياً: الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص) ، أي أعوذ بك من الحور وهو النقص بعد الوجود والثبات الذي هو معنى الكون. قال في «الفائق» ، الحور الرجوع بعد الكون بالنون: أي الحصول على حالة جميلة يريد الرجوع بعد الإقبال، إذ الكون وهي الرفعة لازمة لمعنى الكور الذي أشار إليه قوله (قالوا: ورواية الراء مأخوذة من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها) وحينئذ فتكون الاستعاذة من النقض بعد الإبرام أو من النقص بعد الزيادة، وقيل الاستعاذة حينئذ من الشذوذ عن الجماعة بعد الكون فيها، أو من الفساد بعد الصلاح، أو من القلة بعد الكثرة، أو الرجوع عن الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، أو من الحضور إلى الغفلة، وذلك لأن من كان عمامته اجتمعت على رأسه، ومن نقضها تفرقت وتعقب التوربشتي من قال معنى الحور بعد الكور الرجوع عن الجماعة بعد أن كان منهم بأن استعمال الكور إنما هو في جماعة الإبل خاصة، وربما استعمل في البقر، قال صاحب الحرز: والجواب أن باب الاستعارة غير مسدود، فالعطن مختص بالإبل ويكنى يضيقه عن ضيق الخلق (ورواية النون من الكون مصدر كان يكون كوناً إذا وجد) بالبناء للمفعول (واستقر) يعني مصدر كان التامة: أي أعوذ بك من الحور وهو النقض بعد الوجود، والثبات الذي هو معنى الكون، وقال في «الفائق» : معنى الحور بعد الكور: الرجوع عن حالة جميلة بعد أن كان عليها يريد التراجع بعد الإقبال.
3974 - (وعن عليّ بن ربيعة) بفتح الراء وكسر الموحدة وسكون التحتية بعدها مهملة وربيعة ابن نضلة بالنون فالضاد المعجمة، الوالبي بكسر اللام بعدها موحدة أبو المغيرة الكوفي، ثقة من كبار التابعين (قال شهدت) أي حضرت (عليّ بن أبي طالب رضي الله(6/461)
عنه) حال كونه (أتى بدابته) وعند الترمذي بدابة بالتنوين، والدابة في أصل اللغة ما يدبّ على وجه الأرض، ثم خصها العرف بذات الأربع، قال في «المصباح» : وتخصيص الفرس والبغل والحمار بالدابة عند الإطلاق عرف طارىء (ليركبها فلما وضع رجله في الركاب) بكسر الراء (قال باسم الله) أي أركب (فلما استوى) أي استقرّ (على ظهرها قال) شكرا الله (الحمد لله) أي على هذه النعمة العظيمة، وهي تذليل الوحش النافر وإطاعته لنا على ركوبه محفوظين من شره كما صرح به بقوله (الذي سخر) أي ذلل (لنا) أي لأجلنا (هذا) المركوب (وما كنا له) أي لتسخيره (مقرنين) أي مطيقين (وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال) أي بعد حمده المقيد بالثناء بما أنعم عليه (الحمد لله) حمداً غير مقيد بشىء إيماء إلى أن التقييد فيما قبله بقوله الذي سخر لنا هذا الخ ليس لقصر طلب الحمد على وجود النعمة، بل هو سبحانه واجب الحمد لذاته ولتأكيد هذا المعنى كرره (ثلاث مرات) وفي التكرير إشعار بعظم جلال الله سبحانه وأن العبد لا يقدر الله حق قدره وهو مأمور بالدأب في طاعته حسب استطاعته، وقيل في حكمة التكرير ثلاثاً: أن الأول لحصول النعمة، والثاني لدفع النقمة، والثالث لعموم المنحة (قم قال) تنزيها لله وتقديساً له عن سمات المحدثين من الركوب والاستقرار في حيز (الله أكبر ثلاث مرات) والتكرير للمبالغة في ذلك، أو الأول إيماء إلى الكبرياء والعظمة في الذات، والثاني الكبرياء والعظمة في الصفات، والثالث إشعار بتنزيهه عن الاستواء المكاني، وقوله الرحمن على العرش استوى: «ظاهره غير مراد إجماعاً ثم هل نفوض معناه إلى الله تعالى ولا نتكلم في تعيينه
أو نتكلم فيه؟ قال بالأول السلف، وبالثاني الخلف وهو أحكم (ثم قال سبحانك) بالنصب على المفعولية المطلقة بعامل لا يظهر وجوباً: أي أقدسك تقديساً مطلقاً، لأن كل مالا يليق به تعالى فهو مقدس عنه وذلك سائر سمات الحوادث (إني ظلمت نفسي) بعدم القيام بحقك لشهود التقصير في شكر هذه النعمة العظمى ولو بغفلة أو خطره أو نظره (فاغفر لي) أي استر ذنوبي بعدم المؤاخذة بالعقاب عليها (إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) استئناف بياني كالتعليل لسؤال الغفران، وفيه إشارة بالاعتراف بتقصيره مع إنعام الله وتكثيره (ثم ضحك فقيل) وعند الترمذي في «الشمائل»(6/462)
«فقال: أي ابن ربيعة، وفي نسخة مصححه من «الشمائل» «فقلت» بضمير المتكلم (يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت) لما لم يظهر ما يتعجب منه مما ينشأ عنه الضحك استفهمه عن سببه وقدم نداءه على سؤاله كما هو الأدب في الخطاب، وفي رواية للترمذي في «شمائله» «فقلت من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين» وتقديم المسؤول عنه على ندائه لأنه أهم حينئذ لأن النداء لأجله، وفي قوله يا أمير المؤمنين إيماء إلى أن القصة جرت منه أيام خلافته (قال: رأيت) أي أبصرت (النبي صنع كما صنعت) من الركوب والذكر في أماكنه (ثم ضحك فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت) وعند الترمذي كسياق الذي قبله (قال: إن ربك سبحانه يعجب) عند الترمذي «ليعجب» : أي يرضى إذ العجب المضاف في كلام الشارع إليه تعالى لاستحالة قيام حقيقته به وهي استعظام الشيء مع خفاء سببه به تعالى، مراد مه غايته من الرضا وهي مستلزمة للثواب. ولهذا الرضا المقتضى لفرح رسول الله إذ فيه مزيد المنة عليه ضحك، ولما تذكر عليّ رضي الله عنه ذلك أوجب مزيد شكره فبشره فضحك، لا أن ضحكه مجرد تقليد فإنه غير اختياري وإن كان قد يتكلف له (من عبده) إضافة تشريف (إذا قال رب اغفر لي ذنوبي يعلم) جملة حالية من فاعل قال: أي قال ذلك عالماً غير غافل (أنه لا يغفر الذنوب غيري) في بعض نسخ
«شمائل الترمذي» غيره بضمير الغائب، واستظهر بأن الكلام من الرسول لا كلام الله تعالى. وأجيب بإمكان جعل قوله يعلم الخ معمولاً لقول محذوف هو حال من فاعل يعجب: أي يعجب قائلاً يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري (رواه أبو داود) في الجهاد (والترمذي) في الدعوات من «جامعه» وفي باب الضحك من «شمائله» ورواه النسائي في السير (وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ، حسن صحيح) وعزاه إليه كذلك الحافظ المزي في «الأطرف» (وهذ لفظ أبي داود) وقد أشرنا إلى بعض ما خالف فيه رواية الترمذي.(6/463)
171 - باب تكبير المسافر إذا صعد الثنايا
جمع ثنية والمراد منها العقبات (وشبهها) من الربوات والفدافد وذلك للتذكر بالعلوّ الحسي عظمة الله تارك وتعالى، وعلوّه المعنوي وتنزيهه عما لا يليق به (وتسبيحه) أي قول سبحان الله (إذا هبط) بفتح أوليه أي نزل (الأودية) تنزيهاً لله عما لا يليق به (ونحوها) من الأغوار والمنازل النازلة (والنهي عن المبالغة برفع صوت) الباء للتعدية أو ظرفية: أي فيه (بالتكبير ونحوه) من سائر الأذكار المأتي بها، أما أصل الجهر بالذكر فمطلوب إن أمن الرياء وإيذاء نحو نائم أو مصل.
1975 - (عن جابر رضي الله عنه قال: كنا إذا صعدنا) بكسر المهملة الثانية (الثنايا) جمع ثنية (كبرنا) أي قلنا الله أكبر، أو شهدنا كبرياء الله وعظمته انتقالاً من العلوّ الحسي إلى شهود العلوّ المعنوي (وإذا نزلنا سبحنا) أي قلنا سبحان الله، أو شهدنا تقديسه عما لا يليق به وتقدم حكم مروي هذه الصيغة من الرفع حكماً في حديث أنس في الباب قبله (رواه البخاري) في الجهاد ورواه النسائي في السير وفي اليوم والليلة وليس عنده ذكر الثنايا.
2976 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي وجيوشه) بضم الجيم وكسرها جمع جيش (إذا علوا) بفتح اللام التي هي عين الكلمة ولامها واو محذوفة بعد انقلابها ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم ملاقاتها للساكن بعدها وهو الواو، وضمها هنا عارض لالتقائها ساكنة مع الساكن في أول (الثنايا) وليس من محل جواز التقاء الساكنين، وحذفها غير ممكن لأنها فاعل ولا دليل عليها فحركت بحركة تجانسها (كبروا وإذا هبطوا) أي منها أو مطلقاً(6/464)
(سبحوا. رواه أبو داود بإسناد صحيح) أي فالحديث صحيح لما تقرر في محله من علم الحديث أن الحافظ الضابط إذا أطلق الحكم بالصحة أو الحسن للإسناد ولم يعقبه في الحكم على المتن بما ينافيه حكم بحكم الإسناد للمتن.
3977 - (وعنه قال: كان النبي إذا قفل) بالقاف كرجع وزناً ومعنى (من الحج أو) يحتمل أنها للشك في أن الرجوع المقول ما يأتي فيه أهو الرجوع من الحج (أو العمرة) ويحتمل أنها للتنويع: أي فيقوله في رجوعه من كل منها، ويؤيد الأول قول البخاري عن الراوي ولا أعلمه إلا قال الغزو، وكذا كان يقوله في سائر رجوعاته كما يدل عليه حديث مسلم (كلما) بالنصب على الظرف لقوله كبر وما عطف عليه (أوفى) أي أشرف فارتقى (على ثنية) قال في «المغرب» : الثنية العقبة لأنها تقدم الطريق وتعرض، أو لأنها تثني سالكها وتصرفه (أو فدفد كبر) أي قال الله أكبر (ثلاثاً ثم قال: لا إله إلا الله وحده) لا إله إلا الله توحيد الذات، وقوله وحده توحيد الصفات، وقوله (لا شريك له) جملة حالية توحيد الأفعال: أي ليس له مشارك في إيجاد شيء من مصنوعاته (له الملك وله الحمد) أي هو المنفرد بهما كما يؤذن به تقديم ما حقه التأخير (وهو على كل شيء) من الممكنات (قدير) إذ القدرة لا تتعلق بواجب ولا مستحيل (آئبون تائبون عابدون ساجدون لربنا) تنازعه العوامل الأربعة قبله، والتنازع يكون بين عاملين أو أكثر، ومنه حديث «تسبحون وتحمدون وتكبرون الله ثلاثاً وثلاثين» الحديث ويجوز أن يكون للظرف متعلقاً بقوله (حامدون) وحذف متعلق تلك الصفات لدلالته عليه، ويجوز تعلق الظرف بما قبله وهو ساجدون، فحذف متعلق حامدون كما عدا المتعلق به قبله لدلالة ذلك عليه (صدق الله وعده) حذف المفعول الأول لتعلق(6/465)
الغرض بالمفعول الثاني: أي صدق الله من وعده من نبيه والمؤمنين به. وعده: أي ما وعدهم به فهو مصدر مضاف لفاعله (ونصر عبده) الإضافة فيه تنصرف للفرد الكامل وهو النبي: أي نصره من غير وجود ما يرتبط به النصر عادة من كثرة العدد والعدد كما في غزوة بدر وغزوة الخندق (وهزم الأحزاب وحده) أي الذين تحزّبوا عليه من كفار قريش وأحابيشها فرد كيدهم في نحرهم بألطف الأشياء وهي ريح الصبا، ولم يكن لأحد
من الخلق دخل في ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد بهذا اللفظ، وقد غفل المزي في كتاب «الأطراف» عن ذكره في ترجمته الإسناد الذي رواه به البخاري وهو صالح بن كيسان عن سالم عن ابن عمر.
(وفي رواية لمسلم: إذا قفل من الجيوش والسرايا) أي من الغزوات ذوات الجيش أو ذوات العدد اليسير منه ففي الحديث مضاف (أو الحج والعمرة) وتقدم أنه يستحب هذا الذكر لكل قادم من سفر: أيّ سفر كان (قوله أو في: أي ارتفع) هو بمعنى قول «القاموس» أو في عليه أشرف (وقوله فدفد) بالجر على الحكاية (هو بفتح الفاءين بينهما دال مهملة ساكنة وآخرة دال أخرى) وهو وزان جعفر (وهو الغليظ المرتفع من الأرض) هو تفسير للمراد في الحديث، وإلا ففي «القاموس» : الفدفد الفلاة والمكان الصلب الغليظ والمرتفع والأرض المستوية اهـ. ومنه يعلم أن اعتبار الغلظ في تفسير الفدفد المذكور في الحديث غير لازم، بل المراد أنه كلما ارتفع على نشز وربوة من الأرض رملاً كانت أو غليظة.
4978 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني) فيه استحباب مجيء المسافر عند إرادة السفر لمن يتبرك به وعرض ذلك عليه ليشير بما رآه لائقاً بالوقت وطلب الوصية منه (قال: عليك بتقوى الله) أي الزمها والباء زائدة في المفعول، وفيه تنبيه على أن تقوى الله الحصن النافع حصراً وسفراً (والتكبير على كل شرف)(6/466)
بفتح المعجمة والراء وبالفاء: أي كل علوّ ومرتفع، وسكوته في الخبر عن التسبيح عند كل انهباط إما لكونه كان أعلم بذلك قبل، أو لعله أراد ذكره له فعرض ما اشتغل به عن ذلك، أو ذكره وتركه الراوي نسياناً (فلما ولى) بتشديد اللام أي قفل (الرجل قال: اللهم أي يا الله (طوِ له البعيد) إماطياحسيا بانزواء مسافة الأرض بانضمام بعضها إلى بعض، ومنه ما تقدم في حديث «إن الأرض تطوى بالليل» أو معنوياً بأن يتيسر له من النشاط وحسن الدواب ما يصل به مستريحاً سالماً من وعثاء السفر، ويناسبه قوله (وهوّن عليه السفر) أي سهل عليه بدفع مؤذيات السفر وحزونه عنه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة.
5979 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا نسير مع رسول الله فكنا إذا أشرفنا) أي ارتفعنا (على واد هللنا وكبرنا) أي أتينا بالذكر منهما لتشهد لنا البقاع والجملة الشرطية وجوابها خبر كان وقوله (ارتفعت أصواتنا) جملة حالية من فاعل. هللنا أو استئنافية أو جواب إذا وهللنا بدل من جملة الشرط أو حال (فقال النبي: يأيها الناس اربعوا على أنفسكم) أي في المبالغة برفع الصوت وعلل ذلك بقوله (فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً) المحوج نداء كل منهما إلى المبالغة في رفع الصوت، بل المذكور سبحانه أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد وهو السميع البصير، كما قال معللاً لذلك بالجملة المستأنفة (إنه) بكسر الهمزة، ويجوز فتحها بتقدير لام العلة قبلها فتخرج عن كونها مع مدخولها جملة (معكم سميع قريب) قرباً معنوياً (متفق عليه. اربعوا) بوصل الهمزة و (فتح الباء الموحدة) وبالعين المهملة (أي ارفقوا بأنفسكم) فلا تبالغوا في رفع الصوت لأنه مع إضراره بكم(6/467)
لا حاجة بكم إليه.
172 - باب استحباب الدعاء في السفر
1980 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن) أي في استجابتهن (دعوة) بفتح الدال المهملة أي دعاء (المظلوم) والإتيان بالوحدة تنبيه على أن جميع دعواته بجنس ما ظلم به مستجابة لا لقصر الحكم بالإجابة عليها دون ما فوقها، على أن المفرد المضاف يفيد العموم وتستمر إجابة دعائه حتى ينتصر كما جاء عند البزار (ودعوة المسافر) أي سفراً مباحاً مطلوباً ولو مندوباً وكان ذلك جبراً لمقاساته وعثاء السفر ويستمر ذلك حتى يرجع كما عند البزار (ودعوة الوالد على والده) أي إذا ظلمه ولو بعقوقه، وحينئذ فهو من جنس الأول، وعطفه عليه من عطف الخاص على العام اهتماماً به (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وليس في واية أبي داود على ولده) أي وهو المراد كما يومىء إليه قوله الوالد، والمراد من ولده ما يشمل الفرع وإن سفل وقد جاء حذف دعوة الوالد اكتفاء بدخوله في دعوة المظلوم عند البزار من حديث أبي هريرة وأبدله بقوله «والصائم حتى يفطر» وأخرجه ابن ماجه بلفظ «دعوة الوالد لولده» وعليه فعطفه على ما قبله من عطف المغاير والدعوات المجابة باعتبار وصف المجيب أو باعتبار زمن الدعاء جمعها الحافظ السيوطي في جزء سماه «سهام الإصابة في الدعوات المجابة» .(6/468)
173 - باب ما يدعو به إذا خاف ناساً أو غيرهم
من سبع أو نحوه والتنصيص على الناس للنص عليهم في الحديث وغيرهم مقيس عليهم، وهذا شامل للمسافر وغيره، وذكره المصنف في السفر لأنه مظنة الخوف غالباً.
1981 - (عن أبي موسى رضي الله عنه: أن رسول الله كان إذا خاف قوماً) والخوف أمر طبيعي للبشر لأقدح فيه أصلاً، قال تعالى عن موسى وهارون {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} (طه: 45) (قال: اللهم إنا نجعلك) أي نجعل وقايتك (في نحورهم) فتدفع عناكيدهم في نحورهم (ونعوذ) نلجأ ونعتصم (بك من شرورهم) فيه السجع في الدعاء ولا منع منه إلا إن كان يؤدي إلى التكلف أو تفويت الخشوع، وفيه إيماء إلى دواء من وقع في كيد الأعادي وترياق من أصابته سموم أفاعي الحساد البواغي، وذلك الاعتصام بحبل الله سبحانه والركون بالقلب إلى الرب (رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح) .
باب ما يقول إذا نزل منزلاً
أي في مكان من الأمكنة حضراً أو سفراً وذكره لأن السفر مظنه التحوّل إلى المنازل.
1982 - (عن خولة) بفتح المعجمة واللام وسكون الواو (بنت حكيم) بن أمية السلمية زوج(6/469)
عثمان ابن مظعون، ويقال لها أم شريك، ويقال خويلة بالتصغير، ويقال هي التي وهبت نفسها للنبي. خرج مسلم الخولة هذا الحديث، وخرج عنها الأربعة روي لها عن رسول الله خمسة عشر حديثاً، وانفرد بها مسلم عن البخاري فروى عنها (رضي الله عنها) حديث الباب (قالت: سمعت رسول الله يقول: من نزل منزلاً) أيّ منزل كان فالتنوين للتنكير والشيوع (ثم قال) ظاهره وإن لم يقل عقب النزول (أعوذ بكلمات الله) أي بصفته الأزلية القائمة به وهي لا تعدد فيها وجمعت باعتبار تعدد المتعلق (التامات) أي المنزّهات من تطرق نقص بشيء من الحوادث إليها (من شر ما خلق) أي مما هو ذو شرّ، وإلا فالملائكة والأنبياء لا شرّ فيهم ألبتة فـ «ما» عام مخصوص (لم يضره) بضم الراء على الأفصح كما تقدم في باب حسن الخلق لما اتصل به الضمير (شيء) دخل فيه سائر المضرات من الداخل وهو النفس والهوى ومن الخارج وهو الشيطان وغيره من المؤذيات (حتى يرتحل من منزله ذلك رواه مسلم) وفي «الجامع الكبير» للسيوطي: ورواه أحمد والترمذي عن خولة.
2983 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله إذا سافر) وتلبس بالسفر (فأقبل الليل قال: ياأرض) يحتمل نداؤه لها أن يكون من تنزيلها منزلة العقلاء، وأن يكون بعد أن جعل الله لها إدراكاً تعقل به النداء تشريفاً له. وفي الحرز فيه إشعار بأن الله جعل لها إدراكاً كالكلام الداعي، قلت: وهو محتمل (ربي وربك الله) أي وما كان كذلك لا يضر كل منا صاحبه، وذكر ذلك قبل الاستعاذة من شرها لأنه كالوسيلة في حفظه من ذلك، أو هو إذعان لربوبية من يستعيذ به (أعوذ بالله من شرك) هو صادق بالشرّ المتصل بها، بأن يكون من نفسها لسقوطه في وهدة وتعثره بمرتفع منها (وشرّ ما فيك) أي من المؤذيات (وشرّ ما خلق فيك)(6/470)
بالبناء للمفعول، ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل: أي ما خلق: هو أي الربّ فيك من فدفد وربوة أو حجر أو شجر بأن يصطدم به (وشر ما يدب) بكسر الدال المهملة وتشديد الموحدة: أي يتحرك (عليك) من الحشرات. قال ابن الجوزي: أي من كل ما يمشي عليك وكل ما يمشي عليها دابة ودبيب (وأعوذ بك) فيه التفات من لفظ الغائب وهو لفظ الجلالة إلى ضمير خطابه، وفي نسخة من «الرياض» «وأعوذ بربك» ففيه تفنن في عبارات الاستعاذة وفي أخرى «أعوذ بالله» وإنما أعاد الاستعاذة لعظم شر ما بعدها بالنسبة لما قبلها (من شر أسد) بفتحتين الحيوان المعروف (وأسود) بالصرف لأنه اسم جنس وليس بصفة، إذ ليس فيه شيء من الوصفية كما هو معتبر في الصفات الغالب عليها الاسمية في منع الصرف وقد جمع على أساود، لكن في الحرز عن بعضهم المسموع من أفواه المشايخ والمضبوط في أكثر النسخ أسود بالفتحة، وعن بعضهم الوجه منع صرفه لأصالته ووصفيته فلا يضرّ عروض اسميته (ومن الحية والعقرب) استعاذ منهما مع دخولهما في عموم ما في كل من قوله ما خلق فيك، وقوله ما يدبّ عليك لعظم خبثهما (ومن ساكن البلد) كذا هو في أصول «الرياض» ، وفي «الحصن» «من شرّ ساكن البلد» بزيادة شر، وفي أصل الجلال من
الحصن ساكني بصيغة الجمع وحذفت الباء لفظاً لالتقاء الساكنين واكتفاء بدلالة الكسرة عليها وأريد به على حذفها الجنس (ومن والد وما ولد، رواه أبو داود والنسائي) والحاكم في «مستدركه» كما في الحصن (والأسود الشخص) وقيل هو العظيم من الحيات وخص بالذكر لخبثه، وقال التوربشتي: الأسود الحية العظيمة التي فيها سواد وهي أخبث الحيات، وذكر من شأنها أنها تعارض الركب وتتبع الصوت فلذا خصها بالذكر، وجعلها كجنس مستقل وعطف عليها الحية (قال) أبو سليمان (الخطابي) بفتح المعجمة وتشديد الهاء المهملة وبعد الألف موحدة (وساكن البلد: هو الجن الذين هم سكان الأرض، قال والبلد من الأرض ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء ومنازل) . ومثله في «النهاية» (قال) أي الخطابي (ويحتمل أن المراد بالولد إبليس و) المراد بِـ (ما ولد الشياطين) ويحتمل أن يراد بذلك جميع ما فيه التوالد من سائر الحيوانات أصلاً(6/471)
وفرعاً. وقيل المراد به آدم وأولاده، وما ذكره الخطابي فيه إيماء إلى إبليس له أولادهم الشياطين، وفي ذلك بسط بينته في باب ما يقول إذا دخل منزله من «شرح الأذكار» .
175 - باب استحباب تعجيل المسافر الرجوع إلى أهله
التقييد به باعتبار الغالب من وجود الأهل وإلا فالمراد رجوعه لوطنه سواء كان ذا أهل به أو بغيره أو لا أهل له (إذا قضى حاجته) التي سافر لها.
1984 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: السفر قطعة من العذاب) يحتمل أن يكون من التشبيه البليغ، وأن يكون حقيقة لما فيه من إيلام الجسد وإتعاب النفس. ومن لطيف ما يحكى أن إمام الحرمين سئل أول جلوسه بعد موت أبيه لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فقال: لما فيه من فراق الأحباب، ثم علل كونه قطعة من العذاب على سبيل الاستئناف بقوله (يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه) قال المصنف: أي يمنعه كمالها ولذاتها لما فيه من المشقة والتعب ومقاساة الحر والبرد ومفارقة الأهل والوطن وخشونة العيش (فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل) قال ابن مالك: بفتح الجيم، وفي نسخ من «الرياض» بتشديد الجيم (إلى أهله) قال المصنف المقصود من الحديث الحث على استحباب الرجوع للأهل بعد قضاء الوطر وألا يتأخر مع من ليس منهم (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» (نهمته) بفتح النون وسكون الهاء (مقصوده) من وجهه الذي توجه إليه.(6/472)
176 - باب استحباب القدوم على أهله
أي زوجته أو حليلته (نهاراً وكراهته في الليل) أي إن لم يعلم علم أهله بقدومه، وإلا فلو أرسل إلى أهله نهاراً بوصوله ليلاً فلا كراهة (لغير حاجة) قيد في الكراهة، فإن احتاج للدخول ليلاً لخوف من عدوه أو لدفع ضرر فلا بأس.
1985 - (عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا طال أحدكم الغيبة) مقتضاه عدم كراهة الطروق ليلاً مع قصر السفر. ومقتضى الحديثين بعده التعميم، ويمكن الجمع بأنه إن كان بحيث لا يتعب الزوجة وتتوقع امرأته إتيانه مدة غيبته لقصرها فلا بأس بالطروق ليلاً وإلا فهو كالطويل (فلا يطرقهن) أي يأتين (أهله ليلاً) التنكير للتعميم فيشمل أول الليل وأناءه وآخره، بل ينبغي الإتيان نهاراً لتمتشط الزوجة وتتأهب له (وفي رواية) أي لهما (أن رسول الله نهى أن يطرق) أي يأتي (الرجل أهله ليلاً، متفق عليه) والحديث الأول رواه أحمد أيضاً.
2986 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله لا يطرق) بضم الراء: أي يأتي (أهله) إذا آب من السفر (ليلاً وكان يأتيهم غدوة) أول النهار (أو عشية) آخره (متفق عليه. الطروق: المجيء في الليل) وفي «المصباح» كل من يأبى ليلا فقد طرق وهو صادق اهـ.(6/473)
وحينئذ فذكر ليلاً بعده في الحديث إما بعد تحديد مفهوم الطروق عن قيد الليل وأنه بمعنى مطلق الإتيان، أو التقييد به لتعميم كراهة المجيء فيه في سائر أجزائه ويدل للثاني تنكيره في الأحاديث.
177 - باب ما يقول إذا رجع أي من مسيره وإن لم ير البلد وإذا رأى بلدته
(فيه حديث ابن عمر السابق في باب تكبير المسافر إذا صعد الثنايا) هو الحديث الثاني من أحاديث فيه.
1987 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: أقبلنا مع النبي) أي في خيبر (حتى إذا كنا بظهر المدينة) أي بمحل تظهر فيه المدينة وهو علم بالغلبة على طيبة، على مشرفها أفضل الصلاة والسلام (قال آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون) ففيه مقابلة النعم الإلهية بالخدم على قدر الطاقة، والبداءة بالإيباب إلى الله تعالى من المخالفة لأنها كالتخلية بالمعجمة، ثم التوجه إلى صالح العمل، ثم حمد الله على التوفيق له وتيسيره ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم أحد أبداً (فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة) هذا دليل الشطر الأخير من الترجمة، وحديث ابن عمر دليل شطرها الأول (رواه مسلم) .
178 - باب استحباب ابتداء القادم بالمسجد الذي في جواره
قبل دخوله منزله، والجوار بكسر الجيم مصدر جاور (وصلاته فيه) أي ما شاء وأقله ركعتان.(6/474)
1988 - (عن كعب بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله كان إذا قدم) بكسر الدال (من سفر) أي سفر كان (بدأ بالمسجد) لأنه أشرف البقاع (فركع فيه ركعتين) بنية التحية (متفق عليه) وتقدم الكلام فيه في باب التوبة في جملة حديث كعب بطوله.
179 - باب تحريم سفر المرأة وحدها
أي وإن كان السفر قصيراً كالسفر إلى ميل أو فرسخ، ومحل تحريمه في غير سفر الفرض، أما سفر الحج والعمرة المفروضين عليها فلا حرمة عليها وكان خشيت على نفسها الفتنة في الدين إن أقامت بمحلها.
1989 - (عن أبي هريرة عنه قال: قال رسول الله: ولا يحل) بكسر المهملة: أي لا يجوز ويراد المصنف له بالعاطف تنبيهاً على أنه طرف حديث (لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) التقييد بالإيمان لأن المؤمنة هي المتقيدة بأحكام الشرائع المنقادة لها، وإلا فالأصح أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة: أي ما أجمع عليه منها (تسافر مسيرة يوم وليلة) بتقدير أن المصدرية قبله أو تنزيل الفعل منزلة المصدر نحو: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» : أي لا يحل لها مسافرة مسافتهما، والتقييد بذلك جرى على الغالب إذ غالب السفر القصير لا يكون أقل منه، وإلا فمسمى السفر حرام عليها إلا مع ذي محرم عليها، ومثله الزوج وألحق به عبدها الأمين إذا كانت أمينة، ولا فرق في جوازه مع المحرم بين كونه صالحاً أو فاسقاً لأن الوازع الطبيعي يحمل على الذبّ عن وصول السوء للمحارم ولو من الفاسق متفق عليه.(6/475)
2990 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي يقول: لا يخلون رجل بامرأة) لأن ذلك مظنة الريبة ووسيلة إليها (إلا ومعها ذو محرم) حملة حالية مستثناة من أعم الأحوال، وهو في الحقيقة تأكيد لما تضمنه ما قبله من حرمة الخلوة بالأجنبية مطلقاً، إذ مع حضور المحرم لم تحصل الخلوة بالأجنبية (ولا تسافر المرأة) أي مسمى سفره، ولا يخصص باليوم والليلة المذكورين فيما قبله لما تقدم فيه ولأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه (إلا مع ذي محرم) أي أو زوج أو عبد أمين وهي أمينة (فقال رجل) لم أقف على من سماه (يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة) أي خرجت للتلبس به (وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا) أي عينت في أسماء من عين لتلك الغزاة. قال في «فتح الباري» : لم أقف على اسم الرجل ولا امرأته ولا تعيين الغزوة. وقال ابن المنير: الظاهر أن ذلك كان في حجة الوداع (قال: انطلق فحج مع امرأتك) أي إعانة لها على تحصيل الحج، والظاهر أن النسك كان مفروضاً أو كان معها محرم وإلا لكان يلزمها بالتأخير إلى وجود ذلك، وأنها لم تخرج حينئذ من غير نحو محرم وإلا لبين لها حرمة ذلك، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز (متفق عليه) .
وأفادت أحاديث الباب وما في معناها: حرمة سفر المرأة بما يسمى سفراً من غير محرم ونحوه لأيّ سفر كان من حج أو زيارة النبي أو سفر بتجارة، نعم لها الخروج كذلك للسفر الواجب إن أمنت فيه على نفسها ومالها، والله أعلم.(6/476)
8 - كتاب الفضائل
جمع فضيلة: وهي الخير والفضل خلاف النقيصة. وفي «فتح الإله» الفضائل: جمع فضيلة بمعنى فاضلة وهي صفة، والأغلب أن تكون محمودة تمييز من قامت به. وفي «القاموس» : الفضل ضد النقص جمعه فضول، ثم قال: والفضيلة الدرجة الرفيعة في الفضل والاسم منه الفاضلة، ثم قال والفواضل: الأيادي الجسيمة أو الجميلة.
180 - باب فضل قراءة تلاوة القرآن
1991 - (عن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين كنية صدى بن عجلان (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: اقرءوا) الخطاب للحاضرين إذ ذاك من الصحابة رضي الله عنهم وهو سار على جميع الأمة (القرآن فإنه) أي القرآن (يأتي يوم القيامة) قال العلقمي قال شيخة: قيل يصور القرآن بصورة بحيث يجيء يوم القيامة ويراه الناس كما يجعل الله لأعمال العباد خيرها وشرها صورة ووزناً بوضع في الميزان (شفيعاً) أي شافعاً (لأصحابه) أي القارئين له المشتغلين به المتمسكين بأمره ونهيه (رواه مسلم) هو طرف حديث في آخر فضل الزاهدين، والحديث بجملته كذلك رواه أحمد.
2992 - (وعن النواس) بتشديد النون المفتوحة والواو وآخره مهملة (ابن سمعان) بفتح(6/477)
المهملة الأولى وكسرها (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: يؤتى) بالبناء للمفعول (يوم القيامة) بالنصب على الظرف (بالقرآن) نائب فاعله (وأهله) وصفهم وصفاً بيانياً بقوله (الذين كانوا يعملون به في الدنيا) فيأتمرون بما أمر وينزجرون عما زجر عنه (تقدمه) بفتح الفوقية وضم المهملة أي تتقدمه (سورة البقرة) فيه رد لمن قال: لا يقال سورة البقرة بل السورة التي يذكر فيها البقرة (وآل عمران) يحتمل أن يكون التقدير وسورة آل عمران فحذف لدلالة ما قبله عليه، ويحتمل أنه من باب قطعت رأس الكبشين أفرد المضاف لكراهة ثقل تثنية المضاف في مثله (تحاجان) بضم الفوقية وتشديد الجيم من المحاجة وهي المجادلة (عن صاحبهما) أي التالي لهما المتدبر لما اشتملتا عليه العامل بما أمرتا به أن يعمل والتارك ما نهتا عنه (رواه مسلم) .
3993 - (وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: خيركم) يا معشر القراء (من تعلم القرآن) هو يطلق على بعضه وعلى كله، ويصح إرادة البعض هنا باعتبار أن من وجد منه ما يأتي ولو كان في آية خير ممن لم يكن كذلك (وعلمه) مخلصاً في كلا الأمرين مبتغياً به وجه الله تعالى عاملاً بما فيه من الأخلاق والآداب والأحكام، ووجه أخيريته ما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أن لا يوحى إليه» وغيره من الاحاديث، فإذا حاز خير الكلام وتسبب مع ذلك أن يكون غيره مثله، فقد ألحق ببعض درجات الأنبياء وكان من جملة الصديقين القائمين بحقوق الله تعالى وحقوق عباده على أقصى الطاعة وأكمل الاتباع. واستفيد من ربط التعلم والتعليم بالقرآن أن المراد به كلام الله لا المعنى النفسي القائم بالذات، بل اللفظ المتعبد بتلاوته المنزل على محمد للإعجاز بأقصر سورة منه (رواه البخاري) في الجامع الصغير أن حديث «خيركم(6/478)
من تعلم القرآن وعلمه» رواه البخاري والترمذي عن علي، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عثمان وهو من سبق قلم الناسخ، فحديث عثمان عند البخاري في كتاب فضائل القرآن باللفظ المذكور، وبلفظ «أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه» وليس عنده فيه على شيء.
4994 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به) جملة حالية: أي مجيد لفظه على ما ينبغي بحيث لا يتشابه ولا يقف في قراءته مع الملائكة (السفرة) أي الرسل لأنهم يسفرون إلى الرسل برسالات ربهم، أو الكتبة لأنهم بكتابتهم سفرة بين الله وخلقه. وفي «القاموس» : السفرة الكتبة جمع سافر والملائكة يحصون الأعمال (الكرام) لعصمتهم عن دنس الآثام (البررة) بفتح أوليه، أو المطيعين من البرّ، وهو الطاعة والإحسان: أي معهم في منازلهم في الآخرة لأنهم مثلهم في حمل كتاب الله تعالى أو نفع المسلمين بإسماعهم القرآن وهدايتهم إلى ما فيه كما أنهم معهم بالحفظ والبركة (والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه) أي يتردد عليه في قراءته (وهو عليه شاق) بثقله على لسانه لضعف حفظه (له أجران) أجر لقراءته وأجر لتتعتعه، ومع ذلك فالأول أكمل كما دلت عليه تلك المعية لمزيد اعتنائه بالقرآن وكثرة دراسته له وإتقانه لحروفه حتى مهر فيه (متفق عليه) رواه أبو داوود وابن ماجه.
5995 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن) أي صفته العجيبة ذات الشأن من حيث طيب قلبه لثبات الإيمان واستراحته بقراءة القرآن واستراحة الناس بصوته وثوابهم بالاستماع إليه والتعلم منه، وعبر(6/479)
بقوله يقرأ لإفادة تكريره ومداومته عليها حتى صارت دأبه وعادته كفلان يقرى الضيف (مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب) فيستلذ الناس بطعمها ويستريحون بريحها، قيل خصت لأنها أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان: أي التي يقصد بها الريح من الفواكه لا مطلقاً وإلا فالثمر والعنب أفضل. وفي أفضلهما خلاف مع ما اشتملت عليه من الخواص الموجودة فيها مع حسن المنظر وطيب الطعام ولين الملمس وأخذها الأبصار صبغة ولوناً فاقع لونها تسرّ الناظرين تتوق إليها النفس قبل التناول، ويستفيد المتناول لها بعد الالتذاذ بها طيب النكهة ودباغ المعدة وقوة الهضم، فاشتركت الحواس الأربع في الاحتفاظ بها الشمّ والبصر والذوق واللمس. وهي في أجزائها تنقسم على طبائع: فقشرها حارّ يابس ولحمها حارّ رطب وحميضها بارد يابس وبزرها حارّ مجفف. وفيها من المنافع ما هو مذكور في الكتب الطيبات (مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن) من حيث طيب باطنه لثبات الإيمان فيه وعدم استراحته بشيء يظهر منه، والمراد نفي قراءته ما عدة الواجب منه كالفاتحة (كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو) فاشتماله على الإيمان كاشتمال التمرة على الحلاوة، بجامع أن كلاّ أمر باطني، وعدم ظهور ريح لها يستريح الناس لشمه لعدم ظهور قراءة منه يستريح الناس بسماعها (ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن) من حيث تعطل باطنه عن الإيمان واستراحة الناس بقراءته (مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرّ) فريحها الطيب أشبه قراءته وطعمها المرّ أشبه كفره (ومثل المنافق لا يقرأ القرآن) من حيث تعطل باطنه عن الإيمان وظاهره عن سائر المنافع وتلبسه بالمضارّ (كمثل الحنظلة ليس لها ريح
وطعمها مرّ) فسلب ريحها أشبه سلب ريحه لعدم قراءته، وسلب طعمها الحلو أشبه سلب إيمانه (متفق عليه) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
6966 - (وعن عمر رضي الله عنه أن النبي قال: إن الله يرفع) رفعة معنوية (بهذا(6/480)
الكتاب) هو القرآن (أقواماً) هم الذين آمنوا به وائتموا بسائر ما اشتمل عليه (ويضع) أي يخفض (به آخرين) هم من صدّ عن الإيمان به، أي لم يقف عند حدوده (رواه مسلم) وابن ماجه.
7997 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: لا حسد) أي لا غبطة: أي لا تنبغي الغبطة (إلا في اثنتين) من الخصال لعظم شرفهما عند الله تعالى (رجل) بوجوه الإعراب الثلاثة فالجرّ إتباع والآخران على القطع (آتاه) بالمد: أي أعطاه (الله القرآن) أي بتيسير حفظه عليه (فهو يقوم به آناء الليل) أي ساعاته بالمد جمع إني بالكسر والقصر أو أنا بالفتح أو إني بوزن نحى أو إنو بوزن قنو (وآناء النهار) والمراد استغراق أوقاته بالتلاوة مع التدبر والتفكر وامتثال ما فيه (ورجل آتاه الله مالاً) شمل القليل والكثير وإسناد الإتيان إلى الله سبحانه يدل على طيب وصوله إليه وعدم لحاق دنس الحرمة به (فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار) أي يجاهد نفسه ببذل ما تصل إليه طاقته قاصداً وجه الله تعالى والتقرب. إليه (متفق عليه) والحديث قد تقدم مع شرحه في باب الكرم والجود وباب فضل الغنيّ الشاكر (الآناء) يمد الهمزة قبل النون (الساعات) .
8998 - (وعن البراء رضي الله عنه قال: كان رجل) هو أسيد بن حضير كما في «تحفة القارىء» (يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو) أي تقرب وتنزل (وجعل فرسه) قال في «المصباح» : الفرس يقع على الذكر والأنثى من الخيل (بنفر) بالتحتية والنون والفاء والراء (منها) أي من الصحابة أو بسببها(6/481)
(فلما أصبح أتى النبي فذكر ذلك) المرئي (له فقال تلك) أتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد تفخيماً للمشار إليه (السكينة تنزلت) والتضعيف للمبالغة (للقرآن) لأجله أو السماع قراءته (متفق عليه. الشطن بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة) وبالنون (الحبل) بالمهملة والموحدة قال في «المصباح» . وجمعه أشطان كسبب وأسباب.
9999 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من قرأ حرفاً من كتاب الله) القرآن المنزل على رسول الله للإعجاز بأقصر سورة منه المتعبد بتلاوته (فله حسنة) هي ذلك الحرف المقروء (والحسنة) مجزية (بعشر أمثالها) فالقارىء مجازى عن الحرف الواحد بعشر حسنات (لا أقول الم حرف) أي لا أقول إن مجموع الأحرف الثلاثة حرف (بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف) أي فيثاب قارىء ذلك ثلاثين حسنة (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ولا يشكل على هذا حديث «من قرأ القرآن فأعرب في قراءته كان له بكل حرف منه عشرون حسنة، ومن قرأ بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات» رواه البيهقي من حديث ابن عمر لأنه يحتمل أن العشر الحسنات الأخرى في مقابلة الحرص على ضبطه وإتقانه.(6/482)
101000 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله إن الذي ليس في جوفه) أي ليس في قلبه إطلاقاً لاسم المحل على الحال، واحتيج لذكره ليتم التشبيه له بالبيت الخرب (شيء من القرآن كالبيت الخرب) بفتح المعجمة وكسر الراء، وذلك بجامع أن القرآن إذا كان في الجوف بأن حفظه أو بعضه يكون عامراً مزيناً بحسب قلة ما فيه وكثرته، وإذا خلا عنه الجوف بأن لم يحفظ منه شيئاً يكون شيئاً خرباً كالبيت الخالي عن الأمتعة التي بها زينته وبهجته (رواه الترمذي) والدارمي أيضاً (وقال) الترمذي (حديث حسن صحيح) وفيه تأكيد طلب حفظ القرآن والدأب فيه.
111001 - (وعن عبد الله بن عمرو العاص رضي الله عنهما عن النبي قال: يقال) بالبناء للمفعول وذلك عند دخول الجنة، وتوجه العاملين إلى مراتبهم على حسب أعمالهم كما دل عليه السياق (لصاحب القرآن) أي حافظه عن ظهري قلب، أو حافظه بعضه الملازم لتلاوته وتدبره والعمل به والتأدب بآدابه (اقرأ وارتق) في درج الجنة بقدر ما حفظته من أي القرآن لما جاء في الحديث الذي رواه البيهقي في «الشعب» من حديث عائشة، وصححه الحاكم لكنه شاذّ أنه «عدد درج الجنة عدد آي القرآن، ومن دخل الجنة من أهل القرآن فليس فوقه درجة» أي إن كان من أهله حقيقة لا حفظه فحسب، وإلا كان المراد أنه ليس فوقه درجة لغيره من الحفاظ لباقي الكتب الإلهية، وفي حديث عند النسائي في «مسنده» كذاب خبيث «مقدار درج الجنة على قدر رأي القرآن بكل آية درجة، فتلك ستة آلاف آية ومئتا آية وستة عشر آية بين كل درجتين مقدار ما بين السماء والأرض» واستفيد من حديث المتن وحديث الحاكم أن من استوفى قراءة جميع آي القرآن استولى على أقصى درج الجنة التي لللأتقياء، ومن لا كان رقيه إلى قدر منتهى قراءته، هذا كله إن أريد بالصاحب ما ذكرنا (ورتل) أي قراءتك بالجنة التي هي لمجرد التلذذ والشهود الأكبر كعبادة الملائكة إذ لا تكليف ولا عمل في الجنة (كما كنت(6/483)
ترتل) قراءتك (في الدنيا) يؤخذ منه أنه لا يقال هذا الثواب العظيم إلا لمن حفظ القرآن وأتقن أداءه وقراءته كما ينبغي له، والترتيل هو التأني بالقراءة على ما رسمه وبينه أئمتنا حتى يكسبه ذلك أبهى رونق وأعظم حسن وزينة، وتخصيص الصاحب في الحديث بالحافظ عن ظهر قلب دون التالي من المصحف، لأن ما في الجنة أصله أن يحكى ما في الدنيا، وفي الدنيا لا يطلق ذلك إلا على الحافظ له، نظراً إلى أن القارىء إنما يطلق على من لا يفارقه القرآن أبداً، وذلك الحافظ له عن ظهر قلب، وقد وردت أحاديث تومىء إلى تفسير الصاحب بالحافظ عن ظهر قلب نبه عليه في «فتح الإله»
(فإن) تعليل يفيد الترغيب في حفظ جميع القرآن كما تقدم من أن عدد درج الجنة عدد آية (منزلتك) أي من الجنة (عند آخر آية تقرؤها) فإن قرأت الكل فأعلى المنازل وإلا فمنزلك أدون منه بقدر قراءتك، وقيل إن المراد بالصاحب العامل بالقرآن المتدبر له وهو أفضل من الحافظ المرتل، بغيرهما، والمراد بالدرجات ما نالها من علمه، وحينئذ فلا يقدر في الجنة أن يتلو من الآيات إلا ما هو على مقدار عمله، فلا يستطيع أحد أن يتلو آية إلا وقد أقام ما يجب عليه فيها، وقيل المراد به الحافظ المرتل العالم العامل فيكون له درجات لقراءته ودرجات بعمله، ويرتقي الحافظ له كله والعامل به المتدبر له إلى ما لا نهاية له، قال تعالى:
{إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب} () (رواه أبو داود والترمذي وقال) أي الترمذي (حديث حسن صحيح) ورواه أحمد والنسائي أيضاً.
(تتمة) قضية هذه الأحاديث وما في معناها الدأب في التلاوة والإكثار منها مع التدبر والتفكر والتأمل، ولو تيسر له مع ذلك الخيم في كل يوم أو ليلة أو ختمات في كل. ومحل النهي عن ختمه في أقل من سبع لمن له شغل يمنعه عنها أو عن التدبر فيها كما تقدم في باب الاقتصاد. قال المصنف في «الأذكار» بعد ذكر الخلاف في مدة الختم المختار أن ذلك مختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق التفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو فصل الخصومات بين المسلمين أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة للمسلمين فليقتصر على قدر(6/484)
لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوات، كماله، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد المال والهذرمة في القراءة اهـ.
181 - باب الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان
بكسر النون، وهو والنسى والنساوة بكسر النون فيهما أيضاً والنسوة وتفتح النون مصادر نسيه: ضد حفظه.
11002 - (عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي قال: تعاهدوا القرآن) أي حافظوا على قراءته وواظبوا على تلاوته (فوالذي نفس محمد بيده لهو أشدّ تفلتاً) تخلصاً (من الإبل) بكسر أوليه ويسكن الثاني تخفيفاً (في عقلها) بضم المهملة والقاف جمع عقال، وهو حبل يشد به البعير في وسط الذراع. قال الطيبي: شبه للقرآن في كونه محفوظ عن ظهر القلب بالإبل النافرة وقد عقل عليها بالحبل، ولبس بين القرآن والبشر مناسبة قريبة لأنه حادث وهو قديم، والله تعالى بلطفه منحهم هذه النعمة العظيمة فينبغي له أن يتعاهده بالحفظ والمواظبة عليه (متفق عليه) ورواه أحمد.
21003 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: إنما مثل) بفتحتين (صاحب القرآن) أي الحافظ له عن ظهر قلب: أي إنما صفته العجيبة الشأن (كمثل صاحب الإبل المعقلة) بضم الميم وفتح العين المهملة والقاف المشددة: أي المربوطة بالعقال وبين وجه شبهه بقوله (إن عاهد عليها) أي بالربط (أمسكها، وإن أطلقها) أي بفك العقال عنها (ذهبت) وكذا صاحب القرآن إن دام على تعهده بالتلاوة قرّ وإن ترك ذلك فرّ من حفظه ولا يقدر على عوده إلا بعد غاية الكلفة والمشقة، ولا ينافي تشبيه صاحب القرآن(6/485)
صاحب الإبل ما مرَّ من تشبيه القرآن بالإبل، لأنه كما يشبه القرآن بالإبل يشبه صاحبه بصاحبها في احتياج كل إلى تعهد ما عنده حتى لا يفقده (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .
182 - باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن
أي استعمال السواك ليذهب ما في الحلق مما يخل بحسنه وترقيق الصوت وتحزينه لأن ذلك أوقع في القلوب (وطلب القراءة من حسن الصوت) ليكون أنفع للسامع وأنجع (والاستماع) أي إلقاء السمع (لها) .
11004 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ما أذن الله لشيء ما أذن) ما فيه مصدرية: أي أذنه بفتحتين وجاء عند البخاري بلفظ «ما أذن الله لشيء كأذنه» (لنبي حسن الصوت) والباقي سواء (يتغنى بالقرآن) مصدر بمعنى القراءة والمقروء، والمراد به الكتب المنزلة، والمراد بتغنيه الإفصاح بألفاظه، وقيل إعلانه، والجملة في محل الصفة لنبي، وقوله (يجهر به) تفسير له. وقال الكلاباذي: معنى تغنيه قراءته على خشية من الله تعالى ورقة من فؤاده، وقيل معناه: كشف الغموم، وذلك لأن الإنسان إذا أصابه غم ربما تغنى بالشعر يطلب بذلك فرجة مما هو فيه، والصديقون همومهم همة المعاد وضيق صدورهم عما يشغلهم عن الله، ولا ينفرجون من كربهم إلا بذكر كلام ربهم، وإليه أشار النبي بقوله «من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا» أي من لم ينفرج من عمومه بقراءة القرآن والتدبر فيه فليس منا خلقاً وسيرة، وقيل معناه: يستغن بالقرآن عن غيره. لكن أنكره بعض الشراح بأن(6/486)
الاستغناء به عن الناس وتكليمهم يفضي إلى مفاسد من تصنع القارىء وفوت التبليغ وغيرهما، على أن مجيء تفعل بمعنى استفعل قليل فلا يحمل عليه مع محمل آخر صحيح. قال ابن مالك: وأقول الظاهر أن الاستغناء يكون وقت قراءته، إذ لا دليل في اللفظ على استغراق استغنائه جميع الأوقات فلا يلزم منه الفساد، وقلة الاستعمال لا يمنع احتمال الإرادة، وقيل يتغنى: أي يتطرب لتحسين صوته لأن الغناء من علامات الطرب، وأباحه الجمهور إن لم يؤدّ إلى تغيير يزيادة حرف أو نقصه وإلا فلا. وعلى الأول حمل إباحة الشافعي له، وعلى الثاني حمل منعه منه أشار إليه المؤلف في «شرح مسلم» (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي كما في «الجامع الصغير» (معنى أذن) بفتح الهمزة وكسر الذال المعجمة (الله أي استمع) والمراد بالاستماع لكونه محالاً على الله سبحانه لما فيه من الإصغاء المحال عليه تعالى غايته كما أشار إليه المؤلف
بقوله (وهو إشارة إلى الرضا والقبول) وفي «شرح المشارق» : المراد بهذا الاستماع إجزال ثوابه والاعتداد به كما يقال الأمير يسمع كلام فلان، لا الاصغاء إليه لأنه مستحيل على الله تعالى.
21005 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال له) أي لما سمع قراءته في بهجة (لقد أوتيت) بالبناء للمفعول: أي أعطيت (مزماراً من مزامير آل داود) أي داود نفسه، فآل مقحمة لأن أحداً منهم لم يعط من حسن الصوت ما أعطيه داود (متفق عليه) .
(وفي راية لمسلم أن رسول الله قال له: لو رأيتني) أي أبصرتني (وأنا أستمع لقراءتك) جملة حالية وجواب «لو» محذوف: أي لسرك ذلك، فقال أبو موسى: يا رسول الله لو أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيراً (البارحة) قال المصنف في التهذيب: اسم لليلة. قال ثعلب:(6/487)
لا يقال البارحة إلا بعد الزوال، ويقال فيما قبله الليلة، ثم تعقبه بحديث جابر بن سمرة عند مسلم «وكان إذا صلى الصبح أقبل علينا بوجهه فقال: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا» قال المصنف: فيحمل قول ثعلب على أن ذلك حقيقة وهذا مجاز، وإلا فقوله مردود بهذا الحديث.
31006 - (وعن البراء رضي الله عنه قال: سمعت النبي قرأ في العشاء) جاء عن البراء أن النبي كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين والزيتون، أخرجه البخاري في التفسير، وقوله (بالتين والزيتون) أي بالسورة المشتملة عليهما (فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه) وقد جاء عند الترمذي من حديث أنس «ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجهاً وأحسنهم صوتاً» (متفق عليه) .
41007 - (وعن أبي لبابة) بضم اللام وتخفيف الموحدتين (بشير) بفتح الموحدة وتخفيف الشين المعجمة (ابن عبد المنذر) الأوسي ثم من بني عمرو بن عوف من بني أمية بن زيد، وقيل اسمه رفاعة وهو بكنيته أشهر، وتوفي (رضي الله عنه) قبل عثمان بن عفان رضي الله عنه، روي له عن رسول الله خمسة عشر حديثاً (أن النبي قال: من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا) أي من أهل هدينا وطريقنا (رواه أبو داود بإسناد جيد معنى يتغن: يحسن صوته بالقرآن) وروى الطبراني «حسن الصوت زينته القرآن» وروى الحاكم وغيره «حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً» وروى عبد الرزاق وغيره «لكل شيء حلية(6/488)
وحلية القرآن الصوت الحسن، قالوا فإن لم يكن حسن الصوت؟ قال حسنه ما استطاع» .
51008 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لي رسول الله: اقرأ عليّ القرآن) هو دليل طلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لهما المذكورين في الترجمة وفي الحديث «من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأ بقراءة ابن أم عبد» (فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك) بتقدير الهمزة قبل المضارع وحذفها لنقل توالي همزتين (وعليك أنزل) جملة حالية من الضمير المجرور (قال: اقرأ فإني أحبّ أن أسمعه) أي سماعه، فهو على تقدير أن المصدرية أو تنزيل الفعل منزلة المصدر (من غيري) ومنه أخذ العلماء الأخيار والصلحاء الأبرار استحباب طلب التلاوة من حسن الصوت والاستماع لها (فقرأت عليه سورة النساء) يحتمل أن يكون قراءته لها لكونها حضرته إذ ذاك أو عن تروّ، وذلك لما اشتملت عليه من الأمر بالتقوى وما فيها من الثناء على المصطفى وذكر ما منّ به عليه مولاه من عظيم الخير والاصطفاء مع ما فيها من أنواع الأحكام (حتى جئت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء} ) أي أمتك ( {شهيداً} ) ، (قال: حسبك) أي كافيك قراءتك (الآن) أي فإني أخذت من استماعي غرضي (فالتفتّ فإذا عيناه تذرفان) أي تجري دموعهما رحمة لأمته فإن الشاهد لا يكتم شيئاً، فإذا كلف الشهادة عليهم وهو لا يحبّ لهم إلا الكمال، ومن لازم الشهادة أن يذكر ما فعلوه من النقائص خشي عليهم أن يحلّ بهم العذاب بسبب شهادته، فرق قلبه خوفاً وحزناً عليهم حتى جرت دموعه شفقة عليهم، لعل الله بواسطة ذلك يشفعه فيهم، فكان ذلك البكاء غاية الرقة بهم والرحمة لهم قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} (التوبة: 128) فعنده من الشفقة عليهم ما ليس عند نبي على أمته، ومن ثم لما أعطي كل نبي دعوة مجابة دعا كل منهم بدعوته لنفسه وخبأ دعوته لأمته (متفق عليه) وقد تقدم مع الكلام عليه في باب فضل البكاء من(6/489)
خشية الله تعالى قال المؤلف: في الحديث
استحباب استماع قراءة القرآن والإصغاء إليها والتدبر فيها واستحباب طلب القرآن من الغير ليستمع له، وهو أبلغ في التفهم والتدبر من قراءته بنفسه، وفيه التواضع لأهل العلم والفضل ورفع منزلتهم اهـ. قال في «فتح الإله» ، وقد يؤخذ من الحديث أن الاستماع أفضل من التلاوة، وينبغي أن محله إذا كان فيه من الخشوع والتدبر ما ليس في القراءة.
183 - باب في الحث على سور
جمع سورة، وهي كما قال الكافيجي: الطائفة من القرآن المترجمة باسم مخصوص توفيقاً: أي بالنسبة إلى الاسم المشتهرة به، فلا يشكل عليه تسمية كثير من الصحابة والتابعين سوراً بأسماء من عندهم، كتسمية حذيفة التوبة بالفاضحة وسورة العذاب، وكتسمية سفيان ابن عيينة الفاتحة بالوافية، وسماها يحيى بن أبي كثير بالكافية، وتهمز السورة أخذا لها من أسأرت: أي أفضلت كأنها قطعة من القرآن، ولا تهمز من أسارت أيضاً لكن سهلت، ومنهم من يشهدها بسورة البناء: أي القطعة منه لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى، وقيل من سور المدينة لإحاطتها بآياتها واجتماعها فيها كاجتماع البيوت بالسور، ومنه السوار لإحاطته بالساعد، وقيل لارتفاعها لأنها كلام الله والسورة المنزلة الرفيعة، وقيل لتركب بعضها على بعض من التسوّر بمعنى التصاعد، ومنه {إذ تسوروا المحراب} (ص: 21) (وآيات) جمع آية وفي وزنها أقوال ستة ذكرها ابن الصائغ في «شرح البردة» أرجحها أن أصلها أبية بوزن شجرة والآية طائفة من كلمات القرآن متميزة بفصل ويقال بفاصل وهو آخر الآية (مخصوصة) .
11009 - (عن أبي سعيد رافع بن المعلى) بضم الميم وفتح المهملة وتشديد اللام(6/490)
المفتوحة، وقيل اسمه الحارث، وقال ابن عبد البر: إنه أصح ما قيل في اسمه، قال: ومن قال اسمه رافع فقد أخطأ لأن رافع بن المعلى قتل ببدر، قال: وأصح ما قيل فيه إنه الحارث بن نفيع بن المعلى بن لوان بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بن عدي بن مالك بن زيد بن مناة بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن عضب الأنصاري الزرقي (رضي الله عنه) وأمه آمنة بنت قرط بن خنساء عن بني سلمة نسبه كما ذكرنا جماعة وحبيب بن عبد حارثة هو أخو زمرمق، وقيل لأبي سعيد الزرقي لأن العرب كثيراً ما تنسب ولد الأخ إلى أخيه المشهور وهو معدود في أهل الحجاز روي له عن رسول الله حديثان، روى عنه البخاري هذا الحديث انفرد به عن مسلم. (قال: قال لي رسول الله: ألا) بتخفيف اللام أتى بها لتنبيه المخاطب لما يلقي إليه بعدها (أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد) وإنما قال له ذلك ولم يعلمه بها ابتداء ليكون أدعى إلى تفريغ ذهنه لتلقيها وإقباله عليها بكليته (فأخذ بيدي) أي بعد أن قال ذلك ومشينا (فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمتك) هو رواية بالمعنى إن كان الصادر من النبي ما حكاه عنه أولاً وإن كان قاله له مع ذلك لأعلمنك فيكون رواية باللفظ (أعظم سورة في القرآن، قال: الحمد لله ربّ العالمين) أي سورة الفاتحة، وإنما كانت أعظم سورة لأنها جمعت جميع مقاصد القرآن، ولذا سميت بأم القرآن. ولا ينافيه حديث البقرة أعظم السورلأن المراد به ما عدا الفاتحة من السور التي فصلت فيها الأحكام وضربت فيها الأمثال وأقيمت فيها الحجج إذ لم تشتمل سورة على ما اشتملت عليه سورة البقرة ولذا سميت فسطاط القرآن، ولعظيم فقهها أقام عمر كما في الموطأ ثمان سنين على تعلمها، وحكي ذلك عن ابنه أيضاً، ثم أشار إلى ما تميزت به الفاتحة عن غيرها من بقية السور حتى صارت أعظم منها بقوله (هي السبع
المثاني) أي المسماة به جمع مثناة من التثنية لأنها تثنى في الصلاة في كل ركعة كما جاء عن ابن عمر بسند حسن قال «السبع المثاني فاتحة الكتاب تثنى في كل ركعة» أو لأنها تثنى بسورة أخرى أو لأنهانزلت بمكة ونزلت بالمدينة وذلك للجمع بين ما جاء من كونها مكية وكونها مدنية ومثلها في ذلك خواتيم سورة النحل وأول سورة الروم وآية الروح «وأقم الصلاة طرفى النهار» أو سميت بذلك لاشتمالها على قسمين: ثناء ودعاء، أو لما اجتمع فيها من(6/491)
فصاحة المباني وبلاغة المعاني، أو لأنها تثنى على مرور الزمان وتتكرر فلا تنقطع وتدرس فلا تندرس، أو لأن فوائدها تتجدد حالاً فحالاً إذ لا منتهى لها أو جمع مثناه من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله تعالى فكأنها تثنى عليه بأسمائه الحسنى وصفاته أو لأنها تدعو أبداً بواسطة وصفها المعجز ببراعة النظم وغزارة المعنى إلى الثناء عليها ثم قال من يتعلمها أو من الثنايا لأن الله استناها لهذه الأمة ولا تنافي بين ما هنا وبين قوله تعالى «سبعاً من المثاني» لأن «من» فيه للبيان أو للتبعيض ولا مانع من أن القرآن كله يسمى مثاني أيضاً (والقرآن العظيم) أي وهي المسماة بذلك أيضاً (الذي أوتيته) بالبناء للمجهول: أي أعطيته وتسميتها بالقرآن العظيم وجهه الأئمة بما حاصله كما أخرجه الحسن البصري «إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن ثم أودع علومه في الفاتحة، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسيره» وقد ورد عن عليّ رضي الله عنه. لو شئت أن أوقر على الفاتحة سبعين وقراً لأمكنني ذلك، وهو صحيح لجمعها سائر ما يتعلق بالموجودات دنيا وأخرى وأحكاماً وعقائد، وتفصيل كل ذلك وتوابعه على وجهها يستغرق العمر وزيادة (رواه البخاري) في أول كتاب تفسير القرآن وفي باب فاتحة الكتاب من كتاب فضائل القرآن.
21010 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال في قل هو الله أحد) أي السورة المسماة بذلك وبسورة الإخلاص (والذي نفسي بيده) فيه استحباب القسم لتأكيد الأمر والحث على الخير والحض عليه، وقوله بيده: أي بقدرته (إنها) أي سورة الإخلاص المتقدم ذكرها في الحديث الذي حكى المصنف منه هذا المقدار وسيأتي بجملته بأثره (لتعدل) أي باعتبار ثواب قراءتها (ثلث القرآن. وفي رواية) أي عن أبي سعيد أيضاً (أن رسول الله قال لأصحابه: أيعجز) بكسر الجيم على الأفصح (أحدكم) أي الواحد منكم (أن يقرأ بثلث القرآن) الباء فيه مزيدة في المفعول به (في ليلة) ظرف ليقرأ(6/492)
(فشق ذلك) أي ما ذكر من قراءتهم الثلث في الليلة (عليهم) أي رأوه شاقاً عليهم (وقالوا: أينا يطيق ذلك) لكثرته مع الأمر بتدبر القراءة وإعطاء كل حرف حقه من وجوه الأداء فهو ذلك مشقّ جداً، وقولهم (يا رسول الله) أتوا به إيماء إلى أن المراد سؤالهم منه سؤال الله تعالى التخفيف والرفق بهم لما يعلمون له من علوّ المكانة عند الله سبحانه (فقال) أي مبيناً للمراد وأنه لا مشقة فيه (قل هو الله أحد الله الصمد) الذي في البخاري في باب فضل {قل هو الله أحد} من كتاب «فضل القرآن» فقال {الله أحد الله الصمد} (ثلث القرآن. رواه البخاري) باللفظ المذكور في الباب المذكور، وروى مسلم من حديث أبي الدرداء مرفوعاً «أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف نقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قل هو الله} أحد تعدل ثلث القرآن»
31011 - (وعنه) أي عن أبي سعيد (أن رجلاً) قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : هو أبو سعيد (سمع رجلاً) قال في «التحفة» : قيل هو قتادة بن النعمان (يقرأ قل هو الله أحد يرددها) جملة حالية من فاعل يقرأ أو مستأنفة لبيان كيفية قراءته إياها (فلما أصبح) أي دخل في الصباح (جاء إلى رسول الله فذكر ذلك) أي ما ذكر من قراءة الرجل وترديده السورة (له) أي لرسول الله (وكأن) بتشديد النون (الرجل يتقالها) بفتح التحتية والفوقية والقاف وتشديد اللام: أي يعدّها قليلة في العمل والجملة كلها حالية، وجملة يتقالها خبر كأن (فقال رسول الله: والذي نفسي بيده) أي بتصاريف قدرته (إنها لتعدل ثلث القرآن) هذا هو الحديث الذي ذكر أوّلا طرقه، وعجيب ما فعله المصنف هنا من كونه ذكر بعضه أولاً ثم ذكره، كله، وكان ذكر جملته مغنياً عن ذكر بعضه، والله أعلم (رواه البخاري) في الباب المذكور.(6/493)
41012 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، قال في: قل هو الله أحد، إنها) بالكسر لكونها في ابتداء الكلام. ويحتمل كونها جواب قسم مقدر يدل عليه تصريحه به في الرواية قبله (لتعدل ثلث القرآن، رواه مسلم) واختلف في معنى كونها تعدل ثلث القرآن. فقيل إن ثواب قراءتها يعدل ثواب قراءة ثلثه بلا تضعيف، وقيل معناه أن القرآن على ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بالقصص، وقسم يتعلق بالأحكام، وقسم يتعلق بصفات الله، وهي متمحضة لها فكانت بمنزلة الثلث. نقلهما المصنف عن المازري، فعلى الأول يلزم من تكريرها ثلاثين مرة استيعاب القرآن وختمه لا على الثاني، وبيان الملازمة أن من قرأها ثلاثين مرة يكون كمن قرأ القرآن مع المضاعفة، لأن كل ثلاث مرات تعدل القرآن كله، فمن قرأ الثلاثين كأنه قرأ القرآن عشر مرات بلا مضاعفة، وهي يمنزلة قراءته مرة مع المضاعفة. وقيل لأن معارف القرآن المهمات ثلاث: معرفة التوحيد، والصراط المستقيم، والآخرة، وهي مشتملة على الأول فكانت ثلثاً. وقيل لأن البراهين القاطعة دلت على وجود الله ووحدانيته وصفاته، وهي: إما صفات الحقيقة، وإما صفات الفعل، وإما صفات الحكم، ويه تشتمل على صفات الحقيقة فهي ثلث. وقيل معظم مطالب القرآن معرفة الله ورسوله ولقائه وهي تفيد الأول، وقيل غير ذلك. ورجح أن المراد ثلثه من حيث الأجر، ولا يرد عليه حديث «من قرأ القرآن أعطي بكل حرف عشر حسنات» إما لأن المراد ثواب الثلث من غير مضاعفة أو معها، ولا بدع أن يجعل الله في الأحرف القليلة من الثواب ما لم يجعله في الكثيرة ألا ترى أن الصلاة بمكة بمائة ألف ألف ألف صلاة فيما عدا مسجد المدينة والقدس وفي مسجد المدينة بمائة ألف ألف، وفي الأقصى بمائة ألف. واختار ابن عبد البر أن السكوت عن ذلك كله أفضل وأسلم كما فعل أحمد وكذا ابن راهويه، فإنه حمل الحديث على أن معناه أن لها فضلاً وثواباً تحريضاً على تعلمها، لا أن قراءتها ثلاث مرات
كقراءة القرآن، قال: هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة.
51013 - (وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبّ هذه السورة)(6/494)
وعطف عليها عطف بيان قوله (قل هو الله أحد) أيقانه لاشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتقديسه وذلك يحمل كل ذي إيمان كامل على أن يستمد بقراءتها ما يكمل به إيمانه ويزيد ءيقانه (قال: إن حبها) مصدر مضاف لمفعوله: أي حبك إياها كما جاء هكذا عند الترمذي (أدخلك الجنة) أي أنا لك أفاضل درجاتها، والداعي لتأويله بما ذكر الجمع بينه وبين حديث «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» الحديث (رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه البخاري في «صحيحه» تعليقاً) أي حذف أول إسناده.
61014 - (وعن عقبة بن عامر) بن عبس بفتح المهملة وسكون الموحدة آخره سين مهملة الجهني القضاعي (رضي الله عنه) قال الحافظ الذهبي: فيه صحابي كبير أمير شريف فصيح مقرىء فرضى شاعر، ولي غزو البحر. وقال الحافظ ابن حجر: اختلف في كنيته على سبعة أقوال أشهرها أبو حماد، وكان عقبة من فضلاء الصحابة ونبلائهم، وباشر فتوح الشام فإذا حزم عزم. وكان البشير إلى عمر بفتح دمشق، ووصل إلى المدينة في سبعة أيام ورجع منها إلى دمشق في يومين ونصف ببركة دعائه عند قبر النبي أن يقرب الله عليه المسافة وكان سكن دمشق ثم انتقل لمصر والياً لمعاوية سنة أربع وخمسين ومات بها سنة ثمان وخمسين، روي له عن رسول الله خمسة وحمسون حديثاً اتفقا على سبعة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بتسعة (أن رسول الله قال: ألم تر) أي ألم تبصر والخطاب لعقبة (آيات أنزلت) بالبناء للمفعول: أي لم يبصر (مثلهن) أي فيما جاء في التعويذ (قط) بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة ظرف لاستغراق ما مضى من الزمان (قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس) وقد استعاذ بهما لما سحره لبيد بن الأعصم فذهب عنه ذلك بالكلية، وحديثه في الصحيح (رواه مسلم) وما أفاده الحديث من كونهما من(6/495)
القرآن هو ما أجمع عليه الأمة. وما جاء عن ابن مسعود مما يخالف ذلك محمول على أنه باعتبار ما عنده ثم أجمعوا على خلافه، وفيه أجوبة أخرى ذكرتها أول تفسير سورة المعوذتين.
71015 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله يتعوذ من الجان وعين الإنسان) لعظم ضررهما: أي كان يقول «اللهم إني أعوذ بك من الجان وعين الإنسان» (حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا) أي المعوذتان (أخذ بهما) في التعوذ لعمومهما لذلك وغيره (وترك ما سواهما) من التعاويذ (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وإنما اختصا بذلك لاشتمالهما على الجوامع في المستعاذ به والمستعاذ منه، أما الأول فلأن الافتتاح برب الفلق مؤذن بطلب فيض رباني يزيل كل ظلمة في الاعتقاد أو العمل أو الحال، لأن الفلق الصبح وهو وقت فيضان الأنوار ونزول البركات وقسم الأرزاق وذلك مناسب للمستعاذ منه. وأما الثاني لأنه في الأولى ابتدأ في ذكر المستعاذ منه باعلام وهو شرّ كل مخلوق حيّ أو جماد فيه شر في البدن أو المال أو الدنيا أو الدين كإحراق النار وقتل السمّ، ثم بالخاص اعتناء به لخلفاء أمره، إذ يلحق الإنسان من حيث لا يعلم كأنه يغتال به، وهو القمر إذا غاب لأن الظلمة التي تعقب ذلك تكون سبباً لصعوبة التحرز من الشرّ المسبب عنها، ثم نفث الساحرات في عقدهن الموجب لسريان شرهن في الروح على أبلغ وجه وأخفاه فهو أدق من الأول، ثم بشرّ الحاسد في وقت التهاب نار حسده فيه لأنه حينئذ يسعى في إيصال أدق المكائد المذهبة للنفس والدين فهو أدق وأعظم من الثاني، وفي الثانية خص شرّ الموسوس في الصدور من الجنة والناس لأن شرّه حينئذ يعادل تلك الشرور بأسرها، لأنها إذا كانت في صدر المستعيذ ينشأ عنهما كل كفر وبدعة، وضلالة، ومن ثم زاد التأكيد والمبالغة في جانب المستعاذ به إيذاناً بعظمة المستعاذ منه، وكأنه قيل أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بمن رباهم بنعمه وملكهم بقهره وقوته، وهو إلههم ومعبودهم الذي يستعيذون به ممن سواه(6/496)
ويعتقدون أن لا ملجأ لهم إلا إياه، وختم به لأنه مختص به تعالى، بخلاف الأولين فإنهما قد يطلقان على غيره.
81016 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: من القرآن سورة ثلاثون آية) صفة سورة أو خبر مبتدأ محذوف: أي هي ثلاثون أية (شفعت) صفة أيضاً أو حال أو خبر بعد خبر أو استئناف (لرجل حتى غفر) بالبناء للمفعول ونائب فاعله قوله (له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك) طوّل ما قبله وأبهمه ثم بينه وحصره بقوله وهي الخ ليكون أوقع في شرفها وفخامتها وأبلغ في المواظبة على قراءتها، وقوله شفعت إما على ظاهره إخبار عما وقع بعد نزولها أن رجلاً قرأها فشفعت حتى غفر له، أو اطلع على ذلك فأخبر به ترغيباً فيها، فرجل حينئذ إما باق على تنكيره بالنسبة لعلمه والأمة بأن أخبر به على إبهامه أو للأمة فقط؟ بأن أعلم به وكتمه للأمر له به أو لمصلحة رآها، أو بمعنى تشفع في القيامة على حد {ونادى أصحاب الجنة} (الأعراف: 44) فرجل المراد به جنس القارىء وإثبات الشفاعة للقرآن صحيح باعتبار أنه يجسد فلا معدل عنه (رواه أبو داود والترمذي) زاد في «المشكاة» وأحمد والنسائي وزاد في «فتح الإله» وابن حبان والحاكم (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) .
(وفي رواية أبي داود تشفع) أي بدل قوله شفعت وخصت بذلك لافتتاحهما بخلق الحياة وختمها بالماء الذي هو سبب الحياة فأنتجت الشفاعة التي هي سبب الحياة الكاملة للمشفوع له، وأيضاً افتتاحها بعظائم عظمته ثم بباهر قدرته وإتقان صنعته، ثم بذم من نازع في ذلك أو أعرض عنه، ثم بذكر عقابهم وماله عليهم من النعيم، ثم ختمها بما اختصها به من بين سائر السور وهو الإنعام بالماء المعين الذي هو سبب الحياة المناسب لذلك لكه أثمر المعافاة عن سوء القطيعة بتشفيع هذه السورة في قارئها وجعلها مانعة عنه منجية له.(6/497)
91017 - (وعن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (البدري) نسبة لبدر لكونه سكنها، وقيل شهد وقعتها (رضي الله عنه عن النبي قال: من قرأ بالآيتين) الباء مزيدة للتأكيد أو الاستعانة وتجويز كونها لإلصاق القراءة به بعيد إذ قراءة الحرف التلفظ به (من آخر سورة البقرة) من {آمن الرسول} إلى آخر السورة (في ليلة كفتاه متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي كما في «الجامع الكبير» ، ورواه الديلمي بلفظ «من قرأ خاتمة سورة البقرة حتى يختمها في ليلة أجزأت عنه قيام تلك الليلة» (قيل كفتاه المكروه تلك الليلة) أي ودفعتا عنه شرّ الإنس والجنّ ويشهد له حديث الحاكم «إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا تقرآن في دار فيقربها شيطان ثلاث ليال» (وقيل كفتاه عن قيام الليل) حتى لا يبول الشيطان في أذنيه ولا يقعد على ناصيته: أي فقراءتها تتكفل بمنع ذلك لكن على وجه الاحتمال، لكن تعقب بأن مثل هذا لا يكتفي فيه بالاحتمال. وقيل من الكفاية بمعنى الإجزاء: أي أجزأتاه عن فوائد قراءة سورة الكهف المشتملة على الآيات العشر آخرها التي من قرأها أمن من الدجال، وعن قراءة آية الكرسي المتضمنة لقارئها عند النوم الأمن على داره الحديث الآتي، ويحتمل وهو الظاهر المناسب لنظمها أنهما كفتاه عن تجديد الإيمان لأن من تأمل أولاهما أدنى تأمل حصل له من الرسوخ في الإيمان والإيقان مقام خطير وحظ كبير، لاشتمالها على غاية التفويض والتسليم لأقضية الله وأوامره ونواهيه لأن من تأمل قول أولئك الكمل «سمعنا وأطعنا» حمله ذلك على التأسي بهم في هذا المقام العلي وغاية التواضع للَّه وهضم النفس باعتقاد أنها ليست على شيء، لأن من تأمل قول أولئك الكمل ربما حمله على التأسي بهم فيه أيضاً، وغاية ذكر الموت واستحضار البعث الحامل أو لهما على تكثير العمل وتقليل الأمل، وثانيهما على التبري من حقوق الخلق، لأن من تأمل رجوعه إلى
الله تعالى للحساب سارع فيما يبرئه ويخلصه من ورطة المناقشة في الحساب، أو كفتاه عما ورد من الأدعية الكثيرة لأن الدعاء بما فيهما متكفل لخير الدنيا والآخرة.(6/498)
101018 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله: قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر) جمع مقبرة: أي لا تكن بيوتكم مثلها في عدم اشتغال من فيها من الموتى بنحو الصلاة والقراءة، ولا تكونوا كالموتى في ترك ذلك (إن الشيطان ينفر) بكسر الفاء على الأفصح وضمها لغة: أي يصدّ ويعرض إعراضاً بالغاً، فلا يقال إنه ينفر من كل ما يقرأ فيه غير البقرة أيضاً (من البيت الذي تقرأ فيه) بالفوقية في الأصول المصححة مبنياً للمجهول ونائب فاعله (سورة البقرة) ليأسه من إغوائهم وإضلالهم ببركة قراءتها وامتثالها لما فيها، لأنه ليس في سورة من القرآن ما في سورة البقرة من تفصيل الأحكام والحكم وضرب الأمثال وإقامة الحجج والبراهين وبيان الشرائع أو القصص والمواعظ والوقائع الغريبة والمعجزات العجيبة وذكر خاصة أوليائه والمصطفين من عباده، وتفضيح الشيطان ولعنه وكشف ما توسل به إلى التسويل لآدم وذريته، ومن ثم قيل فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي كما في «الجامع الكبير» .l
111019 - (وعن أبي) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد الياء (ابن كعب) الأنصاري البدري وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب البكاء. (قال: قال رسول الله: يا أبا المنذر) بصيغة الفاعل من الإنذار ضد التبشير وهي كنية أبي (أتدري أي) اسم الاستفهام معرب ملازم للإضافة، وعند إضافته لمؤنث كما هنا يجوز تذكيره وتأنيثه (آية من كتاب الله معك) حال أي مصاحباً لك، وأشار بذلك: أي أشار بقوله معك إلى أنه رضي الله عنه ممن حفظ جميع القرآن في زمنه، ومن مزاياه التي لم يشاركه فيها غيره أن النبي أقرأ عليه سورة «لم يكن» كما تقدم في باب البكاء (أعظم؟ قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أي جميع آية(6/499)
الكرسي ثم الذي في مسلم أنه قال: أولاً قلت الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أيّ أية في كتاب الله معك أعظم قلت: {الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم} فوّض أولاً العلم إلى الله ورسوله لأنه جوّز فضيلة شيء من الآيات غيرها عليها، فلما كرر عليه السؤال علم أن المراد سؤاله عما عنده فأجاب بذلك، أو يقال إنه لم يكن عنده أولاً علم ذلك ففوض، فلما رأى حسن تفويضه ألقى الله عليه من أنوار علومه ومنحه عن مكنون معارفه ما علم به الجواب فسأله ثانياً ليظهر عليه شيء من ذلك الإمناح، فأجابه فزاده تثبيتاً وإمداداً بضربه في صدره وهنأه بما منحه كم قال (فضرب في صدري) عداه بفي مع أنه متعد بنفسه على حد قوله تعالى: {وأصلح لي في ذريتي} (الأحقاف: 15) أي أوقع الصلاح الكامل فيهم حتى يكونوا محلاً له فكذا هنا (وقال: ليهنك العلم أبا المنذر) من هناني الطعام يهنيني ويهناني، وهنأت به: أي تهنأت به: أي جاءني من غير مشقة ولا تعب، والقصد الدعاء له بتيسير العلم ورسوخه فيه، وحقيقته الإخبار على طريق الكناية بأنه راسخ في العلم لإجابته بما هو الحق عند الله تعالى، وأبرز ذلك في صورة أمر العلم بأن يكون هو هناء له مبالغة في البشارة والمنة وإعلاماً بما
قدمته من أن النبي أمده من علومه الإلهية بما هنأه به وأزال عنه مشقة التعلم، فأجاب فوراً بالحق، وفي هذا منقبة جليلة لأبيّ، ودليل ظاهر على كثرة علومه وسابغ منته، وأنه خصه من إمداداته الإلهية بما لم يخص به نظراءه وتكريمه بالكنية، وجواز بل ندب مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الإعجاب لرسوخه في التقوى وعدم نظره إلى شيء من حظوظ نفسه وكان فيه مصلحة كإظهار علمه للآخذين منه والمنتفعين به. وفيه دليل على تفضيل بعض القرآن على بعض وهو الذي عليه الجمهور، وهو الحق الذي لا مرية فيه. ومن أول أعظم بمعنى عظيم فقد أبعد لأن العقل لا يوجب تأويله، بخلاف قوله «وهو أهون عليه» فإنه يوجب تأويله بهين لتساوي جميع المكوّنات بالنسبة للقدرة الإلهية ويخلاف قوله تعالى:
{هو أعلم بكم} (النجم: 32) الآية، فإن العقل أيضاً يوجب تأويله بعالم لتساوي المعلومات بالنسبة للعلم الإلهي، وأما في حديث الباب فالعقل لا يمنع من بقائه على ظاهره، إنما كانت الآية المذكورة أعظم الآيات وسيدتها لما تضمنته من عظم مقتضاها، إذ الشيء إنما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته، وهي اشتملت على إثبات الذات والصفات والأفعال، ومعرفة هذه الثلاثة هي المقصد الأقصى في العلوم معنى القيوم الذي يقوم(6/500)
بنفسه ويقوم به غيره وذلك غاية الجلال والعظمة {لا تأخذه سنة ولا نوم} (البقرة: 255) تنزيه وتقديس له عما يستحيل عليه من صفات الحوادث والتقديس عما يستحيل عليه أحد أقسام المعرفة {له ما في السموات وما في الأرض} إشارة إلى الأفعال كلها وأن جمعيها منه وإليه من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه إشارة إلى انفراده بالملك والحكم والأمر، وأنه لا يملك الشفاعة عنده في أمر من الأمور إلا من شرفه بها وأذن له فيها، وهذا نفي للشركة عنه في الملك والأمر يعلم ما بين أيديهم، إلى قوله: بما شاء إشارة إلى صفة المعلم وتفضيل بعض المعلومات والانفراد بالعلم، ولا علم لغيره إلا ما أعطاه ووهبه على قدر مشيئته وإرادته {وسع كرسيه السموات والأرض} إشارة إلى عظم ملكه وكمال قدرته ولا يؤوده حفظهما إشارة إلى صفة العزة وكمالها وتنزيهها عن الضعف والنقص وهو العليّ العظيم إشارة إلى أصلين عظيمين في الصفات، وحينئذ لا تجد في آية غيرها جميع هذه المعاني حتى آية {شهد الله} إذ ليس فيها إلا التوحيد {وقل اللهم مالك الملك} (آل عمران: 26) إذ ليس فيها إلا توحيد الأفعال «والإخلاص» ليس فيها إلا التوحيد والتقديس «والفاتحة» فيها الثلاثة لكنها مرموزة لا مشروحة، نعم يقرب منها في جميعها آخر الحشر وأول الحديد ولكنها آيات لا آية الكرسي اشتمالها على ستة عشر موضعاً فيها اسم الله تعالى لفظاً أو ضميراً، بل إن عدّ المحتمل في الحيّ القيوم والعليّ العظيم والفاعل المقدر
في حفظهما المضاف لمفعوله بلغت إحدى وعشرين، وكما وصفت هذه الآية بأنها أعظم أي القرآن كما في حديث الباب وصفت بكونها سيدة أي القرآن في حديث الترمذي والحاكم، ووصفت بهما دون الفاتحة، فإنها إنما وصفت بالأعظمية والأفضلية لما قال الغزالي: إن الجامع بين فنون الفضل وأنواعه الكثيرة يسمى أفضل، فإن الفضل هو الزيادة والأفضل هو الأزيد: وأما السؤدد فهو رسوخ معنى الشرف الذي يقتضي الاستتباع ويأتي التبعية، والفاتحة تتضمن التنبيه على معان كثيرة ومعارف مختلفة فكانت أفضل، وآية الكرسي تشتمل على المعرفة العظمى المقصودة المتبوعة التي يتبعها سائر المعارف فكان اسم السيد بها أليق اهـ. ملخصاً من «فتح الإله» (رواه مسلم) .(6/501)
121020 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله بحفظ) أي في حفظ (زكاة رمضان) أي زكاة الفطر، وأضيفت لرمضان لكون إدراك جزء منه شرطاً لإيجابها ولجبرها خلل ما يقع خلال الصوم مما ينقصه ويمنع كماله فهي بمعنى اللام (فأتاني آت فجعل) أي شرع (يحثو) بسكون المهملة بعدها مثلثة، وللنسائي: فوجد التمر كأنه قد أخذ منه، ولابن الضريس: فإذا قد أخذ منه ملء كف (من الطعام) في إنائه أو ثوره (فأخذته) أي أمسكته، قال السيوطي في «التوشيح» للنسائي: إن أبا هريرة شكا ذلك للنبي أولاً فقال: إن أردت تأخذه فقل: سبحان من سخرك لحمله، قال: فقلتها فإذا أنا به قام بين يديّ فأخذته (فقلت: لأرفعنك) أي والله لأذهبن بك (إلى رسول الله) أي لأعلمه بك وفاء بما فوّض إليّ من الحفظ المقتضى لمنع كل خائن ورفع من سرق أو اختلس شيئاً إليه ليحده أو يعزره بحسب ما يراه (قال: إني محتاج) أي وهذا لذوي الحاجة (وعليّ عيال) أي نفقتهم (وبي حاجة شديدة) أي إلى ما أخذت وهو تأكيد لما قبله بوجه أقوى أو تأسيس حملاً لقوله إني محتاج على أني فقير في نفسي ولهذا عليّ الحاجة للعيال ووصفها بشديدة لأن الحاجة لهم أشد لأنه يصبر أكثر منهم، واقتصار أبي هريرة لما ذكر النبي على قوله شكا حاجة شديدة يؤيد التأكيد (فخليت عنه) اجتهاد منه حمله عليه أن الطعام بجمع لذوي الحاجة، فمن أخذ منه وهو محتاج ملكه والحراسة المفوضة إليه إنما هي من غير المحتاج (فأصبحت فقال رسول الله: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟) واستفهام تقرير لأن الله تعالى أطلع نبيه على ما وقع لأبي هريرة وأن سيقع له، فأراد إعلام أبي هريرة حاله وبأنه سيعود (قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله) كناية عن إطلاقه وفكه من الأسر (قال: أما) بتخفيف الميم للاستفتاح وتدل على تحقيق ما بعدها (إنه قد كذبك وسيعود) أي إليك فتحذر منه (فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله) وفي نسخة
«لقوله» (إنه سعود فرصدته) أي راقبته (فجاء يحثو) حال مقدرة لأن الحثو عقب المجيء لا معه، ويحتمل أن التقدير: فجاء وجعل يحثو (من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، قال: دعني) أي(6/502)
اتركني، وأتى به زيادة على ما قبله لأنه طمع في الخلاص بمقتضى ما فعله معه أولاً (فإني محتاج وعليّ عيال) حذف قوله «ولي حاجة شديدة» اكتفاء بوجوده فيما قبله (لا أعود) أي والله لا أرجع (فرحمته فخليت سبيله) وإنما خلاه مع قول النبي له فيه «إنه قد كذبك» لأنه ظن بتقرير النبي على إطلاقه أول مرة أن كذبه لا يوجب حرمانه، أو أنه قد كذب في مجموع الأخبار لا في كل جزء منه، أو أنه قد تاب من كذبه (فأصبحت فقال لي رسول الله: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك) لم يقل له البارحة لأنه لم يمض بعد قوله له غيرها بخلافه في الأول، فإنه لو أطلق لم يقيده بالبارحة لتوهم أن السؤال عما وقع له في عمره أو بعضه (قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، فقال: إنه قد كذبك وسيعود) وإنما أقره على إطلاقه بعد أن بين له أنه كاذب لأنه علم أن له عذراً بظنه الذي ذكر آنفاً أو بغيره (فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله) ثم ذكر له ما يقطع طمعه أنه يطلقه فقال (وهذا) أي المجيء الذي جئته (آخر ثلاث مرات إنك) تعليل لما تضمنه كلامه من عدم إطلاقه (تزعم لا تعود ثم تعود، فقال: دعني) أي اتركني (فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها) إنما عبر عنها بالكلمات الموضوعة لجمع القلة إيماء إلى سهولة قراءتها وتيسر تلاوتها تنشيطاً للعامل، والباء فيه للسببية وهي بجعل الله لها سبباً للنفع المذكور (قلت ما هن) أي الكلمات النافعة (قال إذا أويت) بالقصر على الأفصح لكونه قاصراً: أي أتيت (إلى فراشك) المعدّ للنوم (فاقرأ آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم حتى تختم الآية، فإنه) أي الشأن (لن يزال عليك من الله حافظ) ومن
ابتدائية: أي حافظ مبتدأ من حضرته تعالى، وقيل من للسببية مجرورها محذوف:(6/503)
أي من أمره تعالى كقوله تعالى:
{يحفظونه من أمر الله} (الرعد: 11) أي بسبب أمره لهم بحفظه وتنوين حافظ للتعظيم (ولا يقربك) بفتح الراء وبالنصب عطف على يزال، ويجوز الرفع على الاستئناف (شيطان) أتى بهذه الجملة بعد ما قبلها مع تضمنها لهذه لعظم ضرر الشيطان، فنص على إبعاده فضلاً عن حصول وساوسه وإيذائه (حتى تصبح) أي تدخل في الصباح، وظاهر الخبر انتهاء ذلك بدخول الفجر وإن كان التالي للآية لم يقم من منامه، ويحتمل أن يكون عبر به عن الاستيقاظ حينئذ كما هو الغالب (فخليت) أي تركت (سبيله) لعظم رغبة الصحابة في أعمال البر وتجويزه توبته عن الكذب وحاجته كما أخبر ولأنه قد علم ما يمنعه به عن الوصول لذلك بعد (فأصبحت فقال لي رسول الله) المعطوف عليه من هذه الجملة فيه وفيما تقدم مقدر: أي فأتيته فقال (ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله زعم) أتى به مع صحة معناه واستقامة مبناه، لأنه جوّز ذلك لقوله فيه قد كذبك (أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها) أي بسببها لما رتبه تعالى على ذلك (فخليت سبيله، قال: ما هي) أي الكلمات (قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي) مبتدئاً (من أولها) واستمر (حتى تختم الآية) ثم عطف على آية الكرسي عطف بيان قوله (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أي إلى قوله: {وهو العليّ العظيم} (وقال لي لا يزل) رواية بالمعنى، وهو مؤيد لقول أهل الحق إن لن مثل «لا» في إفادة النفي من غير تأكيد ولا تأييد، إذ لو أفادت أحدهما لما وضع أبو هريرة موضعها لا هنا، ولما وضع لن موضع لا في الجملة الثانية (عليك من الله حافظ) أحد الطرفين خبر يزال، والثاني في محل الحال من حافظ لتقدمه عليه وكان قبل صفة له لنكارته (ولن يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي: أما) بفتح الهمزة والميم الخفيفة حرف استفتاح لتنبيه
المخاطب لما بعدها (إنه قد صدقك) بتخفيف الدال: أي قال لك قولاً(6/504)
مطابقاً للواقع (وهو كذوب) جملة حالية من فاعل صدق، أتى بها تتميماً واستدراكاً لما أوهمه صدقك من أنه مدح له برفعه بصيغة المبالغة المبينة لغاية ذمه وقبحه (تعلم) بإضمار الهمزة الاستفهامية قبله: أي أتعلم (من تخاطب) أي تخاطبه (منذ) أي من مدة (ثلاث) أي من الليالي (يا أبا هريرة؟ قلت لا) أي لا أعلمه (قال: ذلك شيطان. رواه البخاري) في مواضع من «صحيحه» .
131021 - (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله قال: من حفظ) أي عن ظهر قلب (عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) بفتح المهملة وتشديد الجيم وهو الكذاب، قال ثعلب: الدجال هو المموّه، يقال سيف مدجل: إذا طلي بذهب، وقال ابن دريد: كل شيء غطيته فقد دجلته. واشتقاق الدجال من هذه لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير وجمعه دجلون كذا في «المصباح» ، والمراد أن حفظها يكون عاصماً من فتنة المسيح الدجال الذي يخرج بآخر الزمان مدعياً الألوهية لخوارق تظهر على يديه كقوله للسماء أمطري فتمطر لوقتها، وللأرض أنبتي فتنبت لوقتها زيادة في الفتنة، ولذا لم توجد فتنة في الأرض أعظم من فتنته، وما أرسل نبيّ إلا حذر قومه منه، وكان السلف يعلمون خبره الأولاد في الكتاتيب، وجوّز في «فتح الإله» كون المراد به جنس الدجال: أي من يكثر منه الكذب والتلبس وقد ورد «لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً» الحديث وفي حديث آخر «يكون في رخر الزمان دجالون» قلت: وفي هذا بعد.
(وفي رواية) أي لمسلم كما صرح به (من آخر سورة الكهف) وسرّ عصمة من حفظ تلك الآيات منه اشتمالها على عجائب وآيات يمنع تدبرها من فتنته، وأيضاً ففي أولها ذكر أولئك الفتية الذين نجاهم الله من جبار زمنهم فتعود بركتهم على قارئها حتى ينجيه الله كماأنجاهم وفي آخرها {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من(6/505)
دوني أولياء} (الكهف: 102) (رواهما مسلم) أي الروايتين المذكورتين، وقد روى حديث فضل العشر أولها أحمد وأبو داود والنسائي، ورواه أبو عبيدة وابن مردويه من حديث أبي الدرداء أيضاً بلفظ «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف كانت له نوراً يوم القيامة» .
141022 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما) ما فيه كافة لبين عن الإضافة لما بعده (جبريل قاعد عند النبي سمع نقيضاً) بفتح النون وكسر القاف وسكون التحتية وبالضاد المعجمة وسيأتي معناه (من فوقه فرفع رأسه فقال) ظاهر السياق أن الضمائر الثلاثة لجبريل، وأيد بأنه أكثر اطلاعاً على أحوال المساء وأحق بالإخبار عنها. وقيل هي للنبي، وقال بعضهم: الأولان له والأخير لجبريل أي لأن الظاهر أن جبريل إنما حضر لإعلام النبي بالأمر الغريب الآتي، فالأنسب جعل ذلك النقيض تنبيهاً له ليستعلم جبريل عنه فيقع إخباره له به على غاية من التوجه والتمكن، والظاهر أن مستند ابن عباس في حكاية ذلك التوقيف منه وحذف ذلك لوضوحه، ويحتمل أن الله كشف له حتى رأى جبريل والملك النازل من السماء ورفع رأسه وسمع النقيض والقول (هذا باب من السماء) أي الدنيا لأن الأصح الأشهر الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ جملة إلى بيت العزة وهو في سماء الدينا ليلة القدر، ثم نزل منها بعد منجماً بحسب المصالح والوقائع في عشرين أو ثلاث أو خمس وعشرين سنة على الخلاف في مدة إقامته بمكة بعد البعثة (فتح) بالبناء للمفعول (اليوم) أي الآن (لم يفتح) بالبناء للمفعول أيضاً (قط إلا اليوم) أشار به لتخصيصه بالفتح (فنزل منه) أي الباب (ملك قال) أي جبريل (هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل) بوزن يضرب (قط إلا اليوم) اختصاص هذين النورين بهذين الأمرين(6/506)
اللذين لم يقعا في غيرهما للدلالة على تمييزهما أو أفضليتهما واختصاصهما بما لم يوجد في غيرهما (فسلم) أي ذلك الملك (وقال أبشر) بفتح الهمزة وكسر الشين أو بوصل الهمزة وفتح الشين في «المصباح» بشر بكذا يبشر مثل فرح يفرح وزناً ومعنى، وهو الاستبشار أيضاً ويتعدى بالحركة فيقال بشرته أبشره من باب نصر في لغة تهامة وما والاها، والتعدية بالنقل إلى باب التفعيل لغة عامة العرب، وقرأ السبعة باللغتين اهـ. فقرأ
من باب نصر ابن كثير وأبو عمر وحمزة والكسائي قوله تعالى:
{ذلك الذي يبشر الله عباده} (الشورى: 23) وقرأ الباقون من باب التفعيل، وفي «مفردات الراغب» بشرت الرجل وبشرته وأبشرته: أخبرته بسار بسط بشرة وجهه، وذلك أن النفس إذا بشرت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر، وبين هذه الألفاظ فرقة فبشرته عام وأبشرته أو بشرته على التكثير، وقرىء بالثلاث قوله يبشرك اهـ (وظاهره أن يبشرك قرىء بالثلاث حيث وقع في القرآن وليس كذلك، فإنه لم يقرأ أحد من طريق السبعة ولا من طريق العشرة) بل ولا من طريق الأربعة عشر إلا باللغتين وهما كونه من باب نصر ومن باب التفعيل (بنورين) أي لأن كلاً منهما يكون لصاحبه نوراً يوم القيامة يسعى أمامه لإجلاله وتعظيمه، أو في الدنيا بأن يتأمل في معانيه كناية عن هدايته بسبب ذلك إلى الصراط المستقيم (أوتيتهما) أي أعطيتهما (لم يؤتهما نبيّ قبلك) إن قيل القرآن كله هكذا فما وجه اختصاص هذين بذلك؟ قيل الإشارة إلى علو شأنهما وذلك لما اشتملا عليه من المعني الجامعة المتعلقة بالألوهية وتوابعها مع وجازة لفظهما وبراعة نظمهما مما لم يشتمل على مثله غيرهما من بقية كتاب الله تعالى (فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة) خبر مبتدأ محذوف: أي هما هذان وابتداء خواتيم سورة البقرة من قوله تعالى: {آمن الرسول} (البقرة: 285) كما في «فتح الإله» قلت ولو قيل إنه من قوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض} (البقرة: 284) لم يبعد (لن تقرأ) الخطاب له والمراد هو وأمته إذ الأصل مشاركتهم له في كل ما أنزل عليه حتى يجيء ما يدل على التخصيص (بحرف) الباء فيه صلة للتأكيد وتجويز كونها للإلتصاق بعيد، نعم يجوز كونها للاستعانة: أي لن تقرأ مستعيناً بحرف: أي جملة (منهما) على قضاء غرض لك (إلا أعطيته) كيف لا؟ والفاتحة هي الكافية وتلك الخواتيم لمن قرأها في ليلة كافية،(6/507)
والمراد ثوابه الأعظم من ثواب نظيره
في غير هذين، أو المراد بالحرف معناه اللغوي وهو الطرف، وكنى به كل جملة مستقلة بنفسها: أي أعطيت ما تضمنته إن كانت دعائية {كاهدنا} {وغفرانك} الآيتين وثوابهما إن لم يتضمن ذلك كالمشتملة على الثناء والتمجيد (رواه مسلم.t النقيض) بالضبط السابق (الصوت) وقال بعضهم: إنه صوت مثل صوت الباب إذا فتح.
184 - باب استحباب الاجتماع على القراءة
وذلك لما فيه من تعظيم القرآن وإظهار شعاره بتكثير مجالسه وتعميم المواظبة بتلاوته.
11023 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: وما اجتمع قوم) المراد به هنا ما يشمل الإناث، ويحتمل تخصيصه بالذكور لأنهم لكمال عقولهم بالنسبة إليهن يقومون بآداب مجلس التلاوة، ولا كذلك هن (في بيت من بيوت الله) أي المساجد، وذكرها لأنها الأعلى لا للتخصيص (يتلون كتاب الله) أي يقرءونه جملة حالية من الفاعل (ويتدارسونه بينهم) أي يتوازعون دراسته، والأولى فيها أن يقرأ الثاني ما قرأ الأول، قيل إنه هكذا كانت مدارسة النبي مع جبريل (إلا نزلت عليهم السكينة) بالتخفيف، وحكي في «النوادر» تشديدها وقال: لا نعرف في كلام العرب فعيلة مثقلة إلا هذا الحرف وهو شاذ كما في «المصباح» ، قل المصنف في «شرح مسلم» : وقد قيل في معنى السكينة أشياء، المختار أنها شيء من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة ومنه الملائكة، والله أعلم (وغشيتهم) أي(6/508)
عمتهم (الرحمة) أي الفضل والإحسان، ويجوز أن يراد بها إرادة ذلك والتعميم باعتبار التعلق (وحفتهم) بفتح المهملة وتشديد الفاء. أي أحاطت بهم (الملائكة) تشريفاً وتعظيماً لهم لما تلبسوا به من التلاوة (وذكرهم الله فيمن عنده) من الملائكة، والعندية عندية مكانة لا عندية مكان تعالى الله عن ذلك، والظاهر أن كل جملة من العطايا فوق ما قبلها فيكون فيه كالترقي، وذلك لأن ذكر الله أعلى المقامات كما قال تعالى: {ولذكر الله أكبر} (العنكبوت: 45) ويليه إحاطة الملائكة بهم، ويليها عموم الرحمة لهم الشاملة لتنزل السكينة إذ هو منها، والله أعلم (رواه مسلم) .
185 - باب فضل الوضوء
بضم الواو من الوضاءة: وهي الحسن والنظافة. وشرعاً: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة فمتتحاً بنية، وفرض مع فرضية الصلاة ليلة الإسراء.
(قال الله تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم} ) أي أردتم القيام ( {إلى الصلاة} ) ثم قيل في الآية حذف، والتقدير: وأنتم محدثون. وقال القاضي أبو الطيب: في الآية حذف وتقديم وتأخير ذكره الشافعي عن زيد بن أسلم، تقديرها: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم إلى وأرجلكم، وإن كنتم جنباً فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا. قال: وزيد من العالمين بالقرآن. والظاهر أنه إنما قدرها توفيقاً مع أن التقدير لا بد منه، فإن نظمها يقتضي أن المرض والسفر حدثان ولا قائل به. قال الشيخ زكريا: ويغني عن تكلف التقديم والتأخير أن يقدر جنباً في قوله: {وإن كنتم مرضى(6/509)
أو على سفر} (المائدة: 6) وقال آخرون: لا تقدير في الآية ولا تقديم ولا تأخير، فقيل بل الآية على عمومها والأمر شامل للمحدث على سبيل الإيجاب وللمتطهر على سبيل الندب. وقيل إن الآية نزلت للإعلام بأن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال، إذ كان لا يمنع من غيرها من الأعمال عند الحدث. قال العز بن عبد السلام في كتاب «أحكام القرآن» : ظاهر الآية الكريمة إيجاب الوضوء لكل صلاة سواء أحدث أم لا، لكن ورد في «صحيح مسلم» «أن النبي كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال عمر: فعلت شيئاً لم تكن تفعله، قال: عمداً فعلته يا عمر» قال الحازمي: قال الخطابي: ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يجب الوضوء إلا من حدث، وما روي عن النبيّ أنه كان يتوضأ: أي لكل فرض محمول على التماس الفضل وبين النبي للناس الجواز بالحديث المتقدم. وفيه أيضاً دليل على أنه لا يشترط فعل الوضوء عند القيام إلى الصلاة، بل لو قدمه أو أخره عن الوقت أجزأه وإن كان ظاهر الآية الكريمة لا يشعر بذلك ( {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} ) أي معها لأن الجمهور على دخول المرفقين في الغسل
( {وامسحوا برؤوسكم} ) الباء فيه للإلصاق أو للتبعيض ( {وأرجلكم إلى الكعبين} ) قرىء بالنصب عطفاً على الوجوه أو الأيدي لفظاً، وبالجر لفظاً للجواز، وهي منصوبة محلاً عطفا على أحدهما، أو بالجر لفظاً ومحلاً عطفاً على رؤوس، وتحمل على لابس الخف أو الغسل الخفيف. وهذه الآية الكريمة ذكر فيها أربعة من أركان الوضوء، فمن قال لا ركن إلا تلك الأربعة فأمره واضح، ومن قال بوجوب غيرها كالنية والترتيب عند إمامنا الشافعي أخذ ذلك من أدلة تقتضيه، أما النية فمن نحو قوله «إنما الأعمال بالنيات» ، وأما الترتيب فمن الآية لأنه فصل فيها بالرأس الممسوح بين اليد والرجل المغسولين، والعرب لا تفصل بين المتجانسين إلا لنكتة وهي هنا وجوب الترتيب لا ندبه لأن الآية مسوقة لبيان مفروضاته، وكالتسمية عند جمع، وكغسل الكفين عند القيام من النوم، وكالمضمضة والاستنشاق في أشياء قيل بوجوبها لأدلة أخرى تشهد لها من كتاب أو سنة (
{وإن كنتم جنباً فاطهروا} ) أي فاغتسلوا ( {وإن كنتم مرضى أو على سفر(6/510)
أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم} ) أي لمستم ( {النساء} ) أي الأجنبيات لا من وراء حائل، وقيد بذلك أخذا من قاعدة يستنبط من النص معنى يعود عليه بالتخصيص ( {فلم تجدوا ماء فتيمموا} ) فاقصدوا ( {صعيداً} ) تراباً ذا غبار يتصاعد (طيباً) طهوراً ( {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} ) مع المرافق ( {منه} ) عوضاً عن استعمال الماء للعجز عنه ( {ما يريد الله ليجعل عليكم} ) بما فرض من الغسل والوضوء والتيمم ( {من حرج} ) ضيق ( {ولكن يريد ليطهركم} ) من الأحداث والذنوب ( {وليتم نعمته عليكم} ) ببيان ما هو مطهرة للقلوب والأبدان من الآثم والأحداث ( {لعلكم تشكرون} ) أي نعمتي فأزيدها عليكم.
11024 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إن أمتي) أي أمة الدعوة (يدعون) بالنباء للمفعول: أي يسمون والواو نائب فاعله (يوم القيامة) ظرف لما قبله (غراً) بضم الغين المعجمة وتشديد الراء جمع أغر كخمر جمع أحمر وليس أغر أفعل تفضيل كما قال ابن فرحون في إعراب «عمدة الأحكام» ، لأنه لو كان كذلك لما جمع لوجوب إفراد وتذكير أفعل التفضيل النكرة، وغراً مفعول ثان ليدعون: أي يسمون بذلك (ومحجلين) حال من الضمير فيه، ويجوز أن يكونا حالين: أي يدعون يوم القيامة حال كونهم فيها غراً محجلين، أو يدعون بمعنى ينادون وهم بهذه الحالة، وما قيل من أن كلاً من الغرة والتحجيل صفة لازمة لهم في الآخرة غير منتقلة عنهم فكيف يكون حالاً؟ أجيب عنه بأنها هنا في حكم المنتقلة لأن المعلوم من سائر الخلق عدم الغرة والتحجيل، فلما جعل الله ذلك لهذه الأمة دون سائر الأمم صارت في حكم المنتقلة بهذا المعنى، ويحتمل أن تكون هذه علامة لهم في الموقف وعند الحوض ثم تنتقل عنهم عند دخولهم الجنة فتكون منتقلة بهذا المعنى. والغرة: غسل ما زاد على فرض الوجه من أطراف الناصية والأذن وبعض العنق، والتحجيل: غسل ما فوق الواجب من اليد والرجل وغايته استيعاب العضد والساق (من) تعليلية (آثار الوضوء) جمع أثر ويجوز أن تكون من لابتداء الغاية وعليه لا تعارض بينه وبين حديث الترمذي «أمتي يوم القيامة غر من السجود محجلون من الوضو» لأن نور الوجه له(6/511)
سببان: الوضوء والسجود والظرف تنازعه يدعون وغراً ومحجلين. قال ابن فرحون: قلت قال في «الكشاف» في قوله تعالى:
{إذا دعاكم دعوة من الأرض} (الروم: 25) فإن قلت: بم تعلق من الأرض أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت: هيهات إذا جاء نهر الله بطل نهر العقل اهـ. وظاهره أنه ليس من التنازع بل يتعلق بالفعل على المذهبين والله أعلم (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) وفي رواية الغرة، والمراد منه ما يشمل التحجيل أو حذف اكتفاء بدلالة مقابله عليه، ومن اسم شرط مبتدأ والخبر جملة الشرط، وقيل الخبر الجواب لأن به تتم الفائدة، وقيل الخبر مجموع فعل الشرط والجواب، وقيل ما فيه ضمير منهما والظرف متعلق بالفعل ومن فيه محتملة للتبعيض ولبيان الجنس، وأن يطيل مفعول وعدل إليه عن إطالة لأن المطلوب نفس الفعل لا هيئته. قال السهيلي: إذا قلت كرهت خروجك احتمل أن يكون المكروه نفس الخروج وهيئته، وإذا قلت كرهت أن خرجت كان المكروه نفس الفعل (متفق عليه) قال القلقشندي في «شرح عمدة الأحكام» : وأخرجه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي وأبي ماجة والإسماعيلي وأبو عوانة والترمذي وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم.
21025 - (وعنه رضي الله عنه قال: سمعت خليلي) أصل الخليل الصديق فعيل بمعنى مفعول وهو المحبوب الذي تخللت محبته في القلب فصارت في خلاله أي باطنه واختلف في الخليل فقيل الصاحب. وقيل الخالص في الصحبة وقيل من ليس في صحبته خلل وقيل الذي يوالي فيه ويعادي وقيل غير ذلك، واختلف في اشتقاقه فقيل من الخلة بفتح المعجمة أي الحاجة وقيل بضمها، أي تخلل المودة في القلب، وقيل من الخلة بالضم نبت تستخليه الإبل، وقد تقدم في صدر الكتاب الخلاف في الأرفع من مقامي المحبة والخلة ولا منافاة بين هذا وقوله «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي» الحديث لأن الممتنع اتخاذ المصطفى لأحد غير مولاه تعالى خليلاً لا اتخاذ غيره له خليلاً (يقول(6/512)
تبلغ الحلية) بكسر الحاء المهملة وسكون اللام (حيث يبلغ الوضوء) قيل المراد هنا حلية أهل الجنة لما أخرج ابن حبان في «صحيحه» عن أبي هريرة مرفوعاً «تبلغ حلية أهل الجنة مبلغ الوضوء من المؤمن» وقيل المراد أن حلي المؤمن في الجنة يصل ما يصله ماء الطهارة، وفيه تحريض على الغرة والتحجيل (رواه مسلم) وذكر البخاري معناه في آخر كتاب اللباس في باب نقص الصور من طريق أبي قال: دخلت مع أبي هريرة داراً بالمدينة فرأى أعلاها مصوراً بصور فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الحديث. وفيه «ثم دعا بتور من ماء فغسل يديه حتى بلغ إبطيه فقال: يا أبا هريرة أشيء سمعته من النبي؟ قال منتهى اللحية» .
31026 - (وعن عثمان بن عقان رضي الله عنه قال قال رسول الله من توضأ فأحسن الوضوء) أي من توضأ فأحسن الوضوء وهو المشتمل على سننه وآدابه. قال المصنف ففيه الحث على الاعتناء بتعلم أدب الوضوء وشروطه والعمل بذلك والاحتياط فيه والحرص على وجه يصح عند جميع العلماء ولا يترخص بالاختلاف فينبغي أن يحرص على التسمية والنية والمضمضة والاستنشاق والاستنثار وغير ذلك من المختلف فيه اهـ. (خرجت خطاياه) المراد بها الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى وخروجها مجاز عن غفرانها لأنها ليست بأجسام (حتى) غاية لتعميم خروجها من جميع جسده كما صرح به في رواية مسلم كما في «المشارق» : أي خرجت من جميع أجزائه حتى (تخرج من تحت أظفاره) قال ابن مالك: وهذا تأكيد لدفع ما يتوهم أن المراد ما يصيبه الوضوء، فإن قيل ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة الآتي «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن الخ» يدل على أن المغفور ذنوب أعضاء الوضوء فقط فلم لم يحمل الساكت على الناطق؟ قلنا: لا حاجة لأن كلاهما معمول به، فغفران جميع الجسد يكون عند التوضؤ بالتسمية. وفي قوله (فأحسن الوضوء) إشارة لوجودها فيه وغفران أعضاء الوضوء يكون عند عدم التسمية يدل عليه حديث عبد الرزاق عن حسن الكوفي مرسلاً «من ذكر الله أوّل وضوئه طهر به جسده كله وإن لم يذكر الله لم يطهر إلا مواضع الوضوء» (رواه مسلم) .(6/513)
41027 - (وعنه قال) بعد أن أتى بالوضوء على كمال المشروع (رأيت رسول الله توضأ مثل) في رواية نحو (وضوئي هذا) رأى فيه إن كانت علمية فالجملة تأتي مفعولها وإن كانت بصرية فالجملة في محل الحال بإضمار قد (وقال من توضأ هكذا) أي مثل هذا فالكاف في محل المفعول المطلق صفة لمصدر مقدر، وفي رواية «من توضأ نحو وضوئي هذا» قال المصنف: إنما لم يقل لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره، لكن يشكل عليه أنه وقع في رواية البخاري «من توضأ مثل هذا الوضوء» وفي رواية لمسلم وابن حبان «من توضأ مثل وضوئي هذا» فظهر أن التعبير بنحو من تصرف الرواة لأنها تطلق على المثلية مجازاً ومثل يطلق على الغالب أيضاً وبه تلتئم الروايتان قاله في «فتح الباري» (غفر له) بالبناء للمفعول نائب فاعله (ما تقدم من ذنبه) أي الذي تقدم أو المتقدم منها، والمراد كما تقدم صغائرها المتعلقة بحق الله تعالى (وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة) عطف على جملة الجواب (رواه مسلم) ورواه بدون قوله «وكانت صلاته» الخ وبزيادة قوله «ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه» البخاري وأبو داود والنسائي وابن خزيمة والطبراني والبزار والإسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم ذكره القلقشندي في «شرح عمدة الأحكام» .
51028 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا توضأ العبد) أي المكلف حراً أو رقيقاً ذكراً أو أنثى (المسلم أو) شك من الراوي (المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة) كناية عن غفرانها كما تقدم (نظر إليها بعينيه) ذكر تأكيداً للمبالغة وإلا فالنظر لا يكون بغيرها وكذا يقال في يداه ورجلاه الآتيين ثم الكلية فيها مخصوصة بغير الكبائر وحقوق العباد لما ورد مما يشهد بالتخصيص (مع الماء) فيكون خروج خطيئة كل جزء منه(6/514)
مع جزء الماء الماس له (أو) شك من الراوي (مع آخر قطر) بضم ففتح جمع قطرة أي مع آخر قطرات (الماء) وقيل خصت العين بالذكر مع أن في الوجه الفم والأنف والأذن لأنها طليعة القلب ورائده فأغنت عن غيرها ويؤيده حديث «فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه» اهـ. وتعقبه في «فتح الإله» في قوله إن الأذن من الوجه وفي أن كون العين طليعة لا ينتج الجواب عن تخصيص خطيئتها بالمغفرة، قال: بل الذي يتجه في الجواب أن سبب التخصيص كون كل من الفم والأنف والأذن له طهارة مخصوصة خارجة عن طهارة الوجه فكانت متكلفة بإخراج خطاياه بخلاف العين ليس لها طهارة إلا في غسل الوجه فحطت خطيئتها عند غسله دون غيرها مما ذكر اهـ (فإذا غسل يديه خرج) من يديه (كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً) أي منقى ومطهراً (من الذنوب) أي الصغائر بحق الله تعالى كما ذكر آنفاً (رواه مسلم) .
61029 - (وعنه أن رسول الله أتى إلى المقبرة) بتثليث الموحدة: قاله المصنف، والمراد بها البقيع (فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين) هو بنصب دار، قال صاحب «المطالع» : هو منصوب على الاختصاص أو النداء المضاف، والأول أظهر، قال: ويصح الخفض على البدل من الكاف في «عليكم» والمراد بالدار على هذين الوجهين الآخرين الجماعة أو أهل الدار، وعلى الأول مثله أو الثاني (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) قال المصنف أتى بالاستثناء مع أن الموت لاشك فيه. وللعلماء فيه أقوال: أظهرها ليس للشك ولكنه للتبرك وامتثال أمر الله يفعله في قوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23، 24)(6/515)
والثاني حكاه الخطابي أنه عادة للمتكلم يحسن به الكلام، والثالث أن الاستثناء عائد إلى لحوق في خصوص المكان، وقيل أقوال أخر ضعيفة جداً (وددت) بكسر المهملة الأولى (أنا قد رأينا) أي أبصرنا (إخواننا) أي رأيناهم في الحياة، قال عياض: وقيل المراد تمني لقائهم بعد الموت وفيه جواز التمني لا سيما في الخير ولقاء الفضلاء (قالوا) أي الصحابة الذين معه حينئذ (أو لسنا إخوانك) المعطوف عليه مقدر بين همزة الاستفهام والواو: أي أتتمنى لقاء إخوانك أولسنا إخوانك (قال أنتم أصحابي) وفي نسخة من مسلم بزيادة بل (وإخواننا الذين لم يأتوا بعد) قال المصنف: قال الإمام الباجي ليس هذا نفياً لأخوتهم ولكن ذكر مزيتهم بالصحبة: أي فأنتم إخوة صحابة، والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة كما قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10) قال القاضي عياض: ذهب أبو عمر بن عبد البر في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في فضل من يأتي آخر الزمان أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل ممن كان من جملة الصحابة، وأن قوله «خيركم قرني» على الخصوص، معناه خير الناس قرنى: أي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأمة وهم المرادون بالحديث، أما
من خلط في زمنه وإن رآه وصحبه ولم يكن له سابقة ولا أثر في الدين فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما ذلت عليه الآثار. قال القاضي عياض: وقد ذهب إلى هذا أيضاً غيره من المتكلمين على المعاني. قال: وذهب معظم العلماء على خلاف هذا، وأن من صحب النبي ورآه مرة من عمره وحصلت له مزية الصحبة أفضل من كل من يأتي بعد، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، قالوا:
{وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} ، واحتجوا بقوله «لو أنفق أحد منكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» اهـ (قالوا: وكيف تعرف من لم يأت بعد) بالبناء على الضم (من أمتك) متعلق بيأت (يا رسول الله) تشرف لهم بالخطاب لسيد الأحباب (فقال: أرأيت) بفتح الفوقية أي أخبرني (لو أن رجلاً) أي لو ثبت أن رجلاً (له خيل غر محجلة) الغرة بياض(6/516)
في وجه الفرس، والتحجيل بياض قوائمه إذا جاوز البياض الأرساغ إلى نصف الوظيف أو نحو ذلك. وذلك موضع التحجيل فيه، قاله في «المصباح» (بين ظهري) بفتح الراء، ويقال ظهراني بزيادة الألف والنون، قيل وهو مفخم للتأكيد (خيل) أي بينها (دهم) بضم المهملة وسكون الهاء جمع أدهم وهو الأسود والدهمة السواد (بهم) بضم الموحدة وسكون الهاء، قيل معناه السود أيضاً، وقيل البهيم الذي لا يخالط لونه لوناً سواه، سواء كان أبيض أم أحمر بل يكون لونه خالصاً، وهذا قول ابن السكيت وأبي حاتم السجستاني (ألا يعرف) أي الرجل (خيله) المتميزة من خيل غيره (قالوا بل، قال: فإنهم يأتون غراً محجلين) منصوبين على الحال، ويحتمل أن يكونا مترادفين من فاعل يأتي، وأن يكونا متداخلين بأن يكون الثاني من ضمير ما قبله (من الوضوء) من تعليلية: أي لأجل الوضوء (وأنا فرطهم) بفتح الواو والراء وبالطاء المهملة، قال الهروي وغيره: أي أتقدمهم (إلى الحوض) يقال: فرطت القوم إذا تقدمتهم لترد لهم الماء وتهيى لهم الدلاء. والحوض هو الكوثر الذي أعطيه
، وهو اثنان: واحد في عرصات الموقف من شرب منه لم يظمأ أبداً، والثاني داخل الجنة، قاله القرطبي وغيره. وفي الحديث بشارة لهذه الأمة زاد الله شرفها، فهنيئاً لمن كان رسول الله فرطه (رواه مسلم) .
71030 - (وعنه أن رسول الله قال: ألا) بتخفيف اللام حرف أتى به لتنبيه السامع لما بعده (أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا) بالعفو عنها بالغفران أو يمحوها من ديوان الكتبة فيكون دليل غفرها، جعل العفو مسبباً عن مدخول الباء، يومىء إليه أن الممحو الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى لأنها المكفرة بالطاعات، ولما كان تكفير الخطايا تخلية بالمعجمة قدمه على قوله (ويرفع به الدرجات) أي في الجنة لكونه تحلية بالمهملة وهي متأخرة عن تلك. وفيه شرف ما يذكر فيه وإن لم يقتصر على تكفير المأثم بل ضم لذلك إعلاء الدرجات وذكر ذلك قبل ذكر المحدث عنه به، فيه تشويق أي تشويق فيكون ذلك أقر في ذهن السامعين لشدة طلبهم له فلذا قال (قالوا بلى) أي دلنا عليه (يا رسول الله) أي وشأن(6/517)
الرسول الحرص على ما ينفع أمته، ولا نفع كالمذكور في الحديث (قال إسباغ الوضوء) بالرفع: أي هو إسباغ الوضوء مع ما يعده مما تقدم فيه العطف للربط، وإسباغه إتمامه (على المكاره) أي من نحو شدة البرد (وكثرة الخطا) بضم المعجمة (إلى المساجد) وتلك تكون من بعد الدار وكثرة التكرار. وفي الصحيح أن بنى سلمة أرادوا أن ينتقلوا من محلتهم لمحل بقرب المسجد فقال «دياركم تكتب آثاركم» (وانتظار الصلاة بعد الصلاة) قال الباجي: هذا في المشتركتين من الصلوات في الوقت، وأما غيرهما فلم يكن من علم الناس، قال المصنف: وفي التخصيص نظر (فذلكم الرباط) أي المرغب فيه، وأصل الرباط الحبس على الشيء كأنه حبس نفسه على هذه الطاعة. قيل ويحتمل أنه أفضلها، وجاء في رواية لمسلم تكرار هذه الجملة مرتين، وفي الموطأ تكرارها ثلاثاً، فقيل التكرار للاهتمام به وتعظيم شأنه، وقيل
تكراره جرى على عادته من تكراره الكلام ليفهم عنه (رواه مسلم) وقد تقدم الحديث مشروحاً في باب بيان طرق الخير.
81031 - (وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الطهور) بضم الطاء المهملة التطهير ويصح فتحها ويكون على تقدير مضاف: أي استعمال الطهور حالة الطهارة (شطر الإيمان) أي شطر الصلاة أو جزء من الإيمان، وعبر عنه بالشطر إيماء إلى تشريفه (رواه مسلم) وغيره (وقد سبق بطوله في باب الصبر) أوائل الكتاب (وفي الباب حديث عمرو بن عبسة) بفتحات (رضي الله عنه السابق) بالرفع (في آخر باب الرجاء، وهو حديث عظيم مشتمل على جمل) بضم ففتح جمع جملة: أي مطالب (من الخيرات) هذا، وكان على المصنف أن يقول: وهما حديثان عظيمان الخ لأن حديث أبي مالك مشتمل(6/518)
على جملة من الخيرات أيضاً، وقد أفرد شرحه بالتأليف الحافظ العلائي، والمراد منهما ثواب أعمال من الطاعات.
91032 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي قال: ما منكم) الظرف خبر مقدم (من أحد) مزيدة في المبتدأ للتنصيص على العموم (يتوضأ) صفة المبتدأ أو حال منه خبر، والظرف قبله حال من المبتدأ أو من ضميره في الجملة (فيبلغ) بضم أوله وكسر ثالثه مرفوع من الإبلاغ: أي يكمل الوضوء بالإتيان بواجباته، ويحتمل ومندوباته (أو) شك من الراوي (فيسبغ الوضوء) قال المصنف: هو بمعنى يبلغ، قلت: فيؤيد إرادة مندوباته (ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) مدلول لا إله إلا الله توحيد الذات، والمراد من «وحده» توحيد الصفات، ومن «لا شريك له» توحيد الأفعال (وأشهد أن محمداً عبده) بدأ به لأن عبوديته أشرف من رسالته كما يدل عليه وصفه تعالى له بها على أشرف المواطن (ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية) بضم الفاء فكسر الفوقية المخففة، ويحتمل التشديد للتكثير لتكرر الفعل لتعدد الأبواب والظرف للربط تقول حفظت لزيد ماله (يدخل من أيها شاء) جملة مستأنفة لبيان حال المتطهر أو حال مقدرة، ولا مخالفة بين هذا الحديث وحديث «الريان يدخل منه الصائمون دون غيرهم» لأن ما في حديث الباب أنه ينادي منها كلها لكونه عمل بعمل أهل كل باب شريفاً له في ذلك الموقف، ثم يلهم الدخول من الباب الغالب عليه عمله (رواه مسلم) قال الحافظ العسقلاني في «أمالي الأذكار» بعد إخراج الحديث: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (وزاد الترمذي: اللهم اجعلني من التوابين) صيغة المبالغة إما لتكرارها وإما للمبالغة في إتقانها وضبط(6/519)
مكملاتها (واجعلني من المتطهرين) أي من الذنوب والمآثم كما يومىء إليه حذف المعمول، ثم ما عبر به المصنف عبر بمثله في «الأذكار» ، وقد تعقبه فيه الحافظ ابن حجر بأن هذه الزيادة لم تثبت في هذا الحديث، فإن جعفر بن محمد شيخ الترمذي تفرد بها ولم يضبط الإسناد ثم بين وجه عدم ضبطه بمخالفته للثقات، قال ووجدت لهذه الزيادة
شاهداً من حديث ثوبان مولى رسول الله قال: قال رسول الله «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال عند فراغه، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتح الله له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء» .
186 - باب فضل الأذان
أي والإقامة. والأذان والتأذين والأذين: لغة الإعلام. وشرعاً قول مخصوص يعلم به وقت الصلاة. والأصل فيه قبل الإجماع قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} () وقوله {وإذا ناديتم إلى الصلاة} (الجمعة: 9) وخبر عبد الله بن عبد ربه الأنصاري في الأذان والإقامة رواه الشيخان في «صحيحيهما» .
11033 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لو يعلم الناس) قال الطيبي: أتى بالمضارع محل الماضي إقامة له مقام ما يستدعيه، إذ المراد ثم حاولوا الاستباق عليه لوجب عليهم ذلك، أو ليفيد استمرار العلم فإنه ينبغي أن يكون على بال (ما في النداء) أي الأذان وحذف «من» البيانية لإبهام «ما» إيماء إلى أن الفعل المبين بها إبهامها مما لا تسعه عبارة (والصف الأول) هو على الصحيح الصف الذي يلي الإمام، وإن كان أبعد من الكعبة من(6/520)
صف أقرب إليها في غير جهة الإمام بل أقربية المأموم على إمامه للكعبة مكروهة مفوتة لفضل الجماعة كما نبه عليه ابن حجر الهيتمي في «تحفته» . قال التيمي:
وفضل الصف الأول لاستماع القرآن إذا جهر الإمام والتأمين لقراءته، ومن فضله أنه إذا احتاج الإمام للاستخلاف استخلفه ولينقل صفة الصلاة ويعلمها الناس، والصف الثاني أفضل من الثالث وهكذا (ثم لم يجدوا) أتى به لتراخي رتبة الاتهام عن العلم (إلا أن يستهموا) أي يقترعوا (عليه) لأداء تأذين المتنازعين إلى تهويش وضيق المكان عن قيامهم لاستهموا عليه لعظمه وفضله، وإفراد الضمير لعوده على «ما» العائد هو إليها أو تنزيلاً له منزله اسم الإشارة في نحو قوله تعالى: {عوان بين ذلك} (البقرة: 68) باعتبار لفظه، وقد وقع الأذان على الاستهام: قال البرماوي: حين فتح القادسية صدر النهار فاتبع الناس العدو فرجعوا وقد حانت صلاة الظهر وأصنت المؤذن، فتشاحّ الناس في الأذان حتى كادوا يجتلدون بالسيوف، وأقرع بينهم سعد فأذن من خرج سهمه. والقرعة أصل في الشريعة في تعيين ذي الحق في مواضع (ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه) لما فيه من المسارعة إلى الطاعة ولأن منتظر الصلاة في صلاة ولعدم التضايق فيه زماناً ومكاناً لم يحتج إلى المساهمة فيه وللقرعة (ولو يعلمون ما في العتمة) بفتحتين، قال في «المصباح» : هي من الليل بعد غيبوبة الشفق إلى آخر الثلث الأول، وعتمة الليل ظلام أوله عند سقوط نور الشفق اهـ. والمراد منها هنا صلاة العشاء، والتعبير بها مع النهي عن تسميتها بذلك، إما قبله أو تنبيهاً على أن النهي للتنزيه لا للتحريم، أو لدفع توهم أن المراد بالعشاء المغرب لأنهم كانوا يسمونها عشاء فتفوّت المطلوب فاستعمل العتمة التي لا شك فيها دفعاً لأعظم المفسدتين بأخفهما (والصبح لأتوهما) أي لو علموا ما في فضل صلاتهما جماعة لأتوهما بأي وجه أمكن (ولو حبواً) بفتح المهملة وسكون الموحدة، وهو المشي على اليدين والركبتين، أو على المقعدة (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد والنسائي كما في «الجامع الصغير» (الاستهام الاقتراع) وذلك لأنهم كانوا يقترعون بسهام لا ريش
فيها (والتهجير: التبكير إلى الصلاة) مطلقاً ولا ينافي تناول عمومه للظهر الأمر بالإبراد بها لأنه لقصر زمنه في الجملة لا يخرج فاعله عن التبكير بها.(6/521)
21034 - (وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: المؤذنون أطول الناس أعناقاً) بفتح الهمزة جمع عنق، واختلف في معناه، فقيل أكثر الناس تشوفاً إلى رحمة الله تعالى لأن المتشوف يطيل عنقه لما يتطلع إليه، فمعناه كثرة ما يرونه من الثواب. وقال النضر بن شميل: إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق، وقيل معناه: إنهم سادة ورؤساء، والعرب تصف السادة بطول العنق: وقيل معناه: أكثر أتباعاً. وقال ابن الأعرابي: معناه أكثر الناس أعمالاً، وفي سنن البيهقي عن أبي بكر بن أبي داود عن أبيه: ليس معنى الحديث أن أعناقهم تطول ولكن الناس يعطشون يوم القيامة ومن عطش انطوت عنقه والمؤذنون لا يعطشون فأعناقهم قائمة. قال القاضي عياض وغيره: ورواه بعضهم بكسر الهمزة: أي إسراعاً إلى الجنة وهو من سير العنق (يوم القيامة) ظرف لما قبله (رواه مسلم) ورواه ابن ماجه في «سننه» .
31035 - (وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة) بفتح الصادين المهملتين وإسكان العين المهملة الأولى المازني. قال في «الكاشف» : يروي عن أبي سعيد وعنه ابناه عبد الرحمن، ومحمد ثقة خرّج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وصفه الحافظ في «التقريب» بقوله الأنصاري المدني، وزاد من كبار التابعين (أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: إني أراك تحب الغنم) بفتحتين معروف (والبادية) هي خلاف الحاضرة والنسبة إليها بدوي على خلاف القياس وجمعها بواد (فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة) أي أردت الأذان لها (فارفع صوتك) إلى ما لا يعود عليك بالضرر (بالنداء) بكسر النون وبالمد: أي بالأذان (فإنه) أي الشأن (لا يسمع مدى) بفتحتين والدال المهملة مخففة: أي غاية (صوت المؤذن) قال التوربشتي: وفي زيادة «مدى» مع الغنية عنها تنبيه على أن آخر من ينتهي إليه الصوت يشهد له كما يشهد الأول، ففيه الحث على استفراغ الجهد في رفع الصوت(6/522)
بالأذان، وقال البيضاوي: إذا شهد من يسمع آخر الصوت مع كونه أخفى لا محالة للبعد فلأن يشهد من هو أدنى وسمع مبادئه أولى (جن ولا إنس) اقتصر عليهما دون غيرهما من أفراد الخاص لكونهما مكلفين بفروع الشريعة (ولا شيء) قيل المراد شيء يصح منه الشهادة كذلك، وقيل عام في كل ما يسمع ولو غير عاقل من سائر الحيوانات دون الجماد، وقيل عام في الجماد وغيره بأن يخلق الله له إدراكاً وعليهما فهو تعميم بعد تخصيص (إلا شهد له يوم القيامة) وفائدة هذه الشهادة «وكفى بالله شهيداً» إشهاره بالفضل يومئذ وعلو الدرجة كما يفضح من يفضح بالشهادة عليه. وفي «فتح الباري» : السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نسق أحكام الخلق في الدنيا من توجه الدعوى والجواب والشهادة قاله الزين ابن المنير.
(قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله) المسموع الكلام الأخير وهو «إنه لا يسمع مدى صوت المؤذن الخ» وذكر الغنم موقوف وهذا ما عليه المصنف في آخرين، وقيل المسموع جميعه وهو ما فهمه الرافعي تبعاً للغزالي وتعقبهم فيه المصنف واستبعده الحافظ في الفتح (رواه البخاري) ورواه مالك والنسائي.
41036 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا نودي بالصلاة) بالموحدة في نسخ «الرياض» وهذا لفظ مسلم وكذلك رواه النسائي، وهو عند البخاري للصلاة باللام، ذكره الحافظ قال: ويمكن حملهما على معنى واحد (أدبر الشيطان له ضراط) جملة اسمية حالية وإن لم تكن بواو اكتفاء بالضمير كما في قوله تعالى: {اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ} () وفي رواية الأصيلى «وله ضراط» وهي عند البخاري في بدء الخلق قال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره، ويقرّبه رواية لمسلم «له حصاص» بمهملات مضموم الأول، وفسره الأصمعي بشدة العدوّ، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان وإغفاله نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطاً تقبيحاً له، قال الحافظ: والظاهر أن المراد(6/523)
بالشيطان إبليس ويدل عليه كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد به كل متمرد من الجن والإنس لكن المراد هنا شيطان الجن (حتى لا يسمع التأذين) ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن أو يصنع ذلك استخفافاً كما يصنعه السفهاء، ويحتمل أنه يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، ويحتمل أنه يتعمد ذلك ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، وقد وقع بيان غاية الإدبار عند مسلم في حديث جابر فقال «حتى يكون مكان الروحاء» وحكى مسلم من طريق قتيبة عن جابر أن بين المدينة والروحاء ستة وثلاثين ميلاً. وأدرجها في الخبر قال الحافظ: وهو المعتمد بالنسبة لرواية ابن
راهويه في مسنده أن بينهما ثلاثين ميلاً (فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى) أي فرغ وانتهى (التثويب أقبل حتى يخطر) بضم الطاء المهملة. قال الحافظ: كذا سمعناه من أكثر الرواة وضبطناه عن المتقنين بالكسر وهو أوجه، ومعناه يوسوس، وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه، وأما بالضم فمن المرور: أي يدنو من المرء فيمر بينه وبين قلبه فيشغله، وضعف الهجرى في «نوادره» الضم مطلقاً وقال: هو يخطر بالكسر في كل اهـ. قال البرماوي: وإنما هرب الشيطان عند الأذان لما يرى من الاتفاق على إعلان كلمة التوحيد وغيرها من العقائد وإقامة الشعائر، وإنما جاء عند الصلاة مع أن فيها قراءة القرآن لأن غالبها سر ومناجاة فله تطرّق إلى إفسادها على فاعلها أو إفساد خشوعه، وقيل هربه عند الأذان حتى لا يضطر إلى الشهادة لابن آدم يوم القيامة لما تقدم في حديث أبي سعيد (بين المرء ونفسه) يقتضي أن المرء غير نفسه فيحمل على أن المراد بينه وبين قلبه كما في
{إن الله يحول بين المرء وقلبه} () قال الحافظ: وجاء كذلك عند البخاري في بدء الخلق (يقول: اذكر كذا واذكر كذا لما) أي لشيء (لم يكن يذكر من قبل) بالبناء على الضم أي قبل شروعه في الصلاة (حتى يظل الرجل) بفتح الظاء المشالة بمعنى يصير، أو يكون ليتناول صلاة الليل أيضاً والقصد أنه يسهيه، ولذا حكى فيه الراوي يضل بكسر الضاد المعجمة: أي ينسى ويذهب وهمه (ما يدري كم صلى) الجملة معلق عنها العامل لوجود ماله صدر الكلام وهو كم الاستفهامية وهي مفعول صلى مقدم عليه لذلك، قال الطيبي: كرر لفظ حتى خمس مرات: الأولى والرابعة(6/524)
والخامسة بمعنى كي، والثانية والثالثة دخلتا على الجملتين الشرطيتين وليستا للتعليل (متفق عليه) أخرجاه في الأذان وأخرجه مالك وأبو داود والنسائي.
(التثويب) كما قال الجمهور (الإقامة) قال الحافظ في «الفتح» : وجزم به أبو عوانة «صحيحه» والخطابي والبيهقي وغيرهم. وقال القرطبي: ثوَّب بالصلاة: أي أقيمت وأصله من ثاب إذا رجع: أي رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوتاً فهو مثوب يدل عليه رواية مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة «فإذا سمع الإقامة ذهب» وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة. وحكى ذلك ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به، لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة. فهذا يدل على أنه له سلفاً في الجملة، ويحتمل أن الذي تفرد به القول الخاص. وقال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب بعد الأذان إلا قول المؤذن في الأذان «الصلاة خير من النوم» لكن المراد في هذا الحديث الإقامة والله أعلم.
51037 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول: إذا سمعتم النداء) بكسر النون والمد: أي الأذان (فقولوا مثل ما يقول) تعليق الإجابة بسماع الأذان يقتضي ظاهره اختصاص الإجابة بالسامع دون غيره ولو لبعد أو صمم، وإن رأى المؤذن في المنارة في الوقت وعلم أنه يؤذن فلا تشرع له المتابعة، قاله المصنف في مجموعه، وبحث فيه القلقشندي باحتمال أن التقييد بالسماع لكونه الغالب. ويقتضي ندب إجابة كل مؤذن ولو ثانياً، وفيه خلاف حكاه الطحاوي وغيره، وقال المصنف المجموع: لا نص فيه لأصحابنا، والمختار اختصاصه بالأول لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وأما أصل الفضيلة والثواب في المتابعة فلا يختص بالأول اهـ. وقال ابن عبد السلام: يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب، وإجابة الأول أفضل إلا في الصبح والجمعة فهما سواء لأنهما مشروعان قال ابن سيد الناس: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول المؤذن عقب فراغ المؤذن من الأذان،(6/525)
لكن دلت الأحاديث المتضمنة للإجابة على أن المراد المساوقة. وقال الكرماني: إنما قال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيب عقب كل كلمة بمثل كلمتها اهـ. وقال الشافعية: يستحب التتابع عقب كل كلمة لا معها ولا يتأخر عنها عملاً بما تقتضيه فاء التعقيب، ظهر هذا الحديث أن الإجابة تكون بحكاية لفظ المؤذن في جميع ألفاظ وبه قال بعض الأئمة منهم الحنابلة. وذهب الشافعي والجمهور إلى أن السامع يبدل الحيعلة بالحوقلة لحديث معاوية المخرّج في «صحيح البخاري» وحديث عمر المخرج في «صحيح مسلم» ففيهما ذلك تصريحاً فيخص بهما عموم هذا الحديث ونحوه، ومن جهة المعنى أن ألفاظ الأذان غير الحيعلة ذكر يحصل الثواب بذكرها للمؤذن والمجيب، والحيعلة يقصد بها الدعاء لصلاة وهو خاص بالمؤذن، فعوّض المجيب من الثواب الذي يفوته بترك الحيعلة الثواب الذي يحصل له بالحوقلة، ثم ظاهر قوله «قولوا» وجوب الإجابة، قال ابن قدامة
في «المغني» : لا أعلم أحداً قال به. قلت: حكى الطحاوي والخطابي والقاضي عياض الوجوب عن بعض السلف (ثم صلوا عليّ) أي عقب الإجابة عرفاً فـ «ثم» في محل الفاء وعلل هذا الأمر بقوله على سبيل الاستئناف البياني (فإنه) أي الشأن (من صلى عليّ) أتى بأي صيغة من صيغها (صلاة) أي واحدة (صلى الله عليه بها عشراً) أي شرف عبده بذكره له بالرحمة اللائقة به عشر مرّات وهذا فيه تعظيم شرف الصلاة على النبي إذ جعل جزاءها كجزاء ذكره تعالى قال تعالى:
{فاذكروني أذكركم} (البقرة: 152) وقال تعالى: في الحديث في القدسي «أنا عند ظن عبدي بي إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» وهذا قدر زائد على ما أفاده قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام: 160) الشامل لكل فرد منها (ثم سلوا الله لي الوسيلة) في الإتيان بـ «ثم» رمز إلى استحباب تصدير الدعاء بالثناء على الله تعالى والصلاة والسلام على رسول الله، وإن كان الدعاء لرسول الله (فإنها) أي الوسيلة (منزلة) أي شريفة عالية (في الجنة لا تنبغي) أي لا تليق (إلا لعبد) أي كامل في العبودية فالتنوين للتعظيم (من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا) تأكيد لاسم أكون، وأتى به(6/526)
في ضربتك أنت، وكل ما جاء من ألفاظ الرجاء في الكتاب والسنة فإنه واجب الوقوع غير جائز الخلف (فمن سأل الله) أي طلب (لي الوسيلة) أي إعطاءها (حلت) أي وجبت (له الشفاعة) أي شفاعتي: فأل بدل من الضمير أو الشفاعة الكاملة العظيمة وهي شفاعته، فأل على بابها (رواه مسلم) وأخرجه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي.
61038 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا سمعتم النداء) أي الأذان ومثله الإقامة (فقولوا كما يقول) أي قولا مثل ما يقوله أو مثل قول (المؤذن) وادعى ابن وضاح أن لفظ المؤذن مدرج في الحديث، ولذا حذفه منه في «عمدة الأحكام» ، ولا دليل له على دعواه فأشار المصنف إلى رد ذلك بإثباته وتقدم في شرح الحديث السابق ما يبين إجمال قوله فقولوا كما يقول متفق عليه وأخرجه مالك وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والإسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم قاله القلقشندي في كتابه «غاية الإحكام شرح عمدة الأحكام» .
7 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: من قال حين) أي وقت (يسمع النداء) أي سماعه، إما على تقدير أن المصدرية، وإما على تنزيل الفعل منزلة المصدر، الوجهان في قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» ، أي سماعك به، والمراد كما دلت عليه الأحاديث بعد إجابته لا قبلها (اللهم) أي الله فلذا لا يجمع بينهما إلا في الضرورة (رب) بدل مما قبله لا وصف له، أو منادى وكرر النداء اهتماماً بالمطلوب (هذه الدعوة) بفتح الدال(6/527)
المرّة من الدعاء، والمراد بها الأذان أو الإقامة (التامة) أي السالمة من تطرق النقص إليها لجمعها الفائدة بتمامها أو لأنها المستحقة للوقف بالكمال والتمام وغيرها من الدنيا عرضة للنقص والفساد، أو لأنها محمية عن التغيير والتبديل باقية إلى يوم النشور، ومعنى رب هذه الدعوة المستحق لأن يوصف بها (والصلاة القائمة) أي التي ستقوم، أو الباقية لا تغير ولا تنسخ (آت) بمد الهمزة: أي أعط (محمداً الوسيلة) أصلها ما يتوسل به ويتقرب، والمراد منها مابينه في حديث مسلم قبله، ووقع للبيضاوي في «تفسيره» أنه ذكر في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} (المائدة: 35) ما لفظه: أي ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه فعل الطاعات وترك المعاصي، من توسل إلى كذا إذا تقرب إليه. وفي الحديث منزلة في الجنة اهـ. فحذف قوله آخر الحديث لا تنبغي إلا لعبد الخ، فأوهم ندب طلب كل لها مع أنها مخصوصة بمن اتصف بكمال العبودية وهو سيد البرية (والفضيلة) المرتبة الزائدة على الخلق (وابعثه مقاماً محموداً) مفعول به على تضمين ابعث معنى أعط، أو مفعوله فيه وإن كان مكاناً غير مبهم لكونه نزل منزلة المبهم، أو هو مشبه رميت مرمي زيد، وفي «الكشاف» أنه نصب مقاماً على الظرف: أي فيقيمك مقاماً أو ضمن يبعثك معنى يقيمك، أو حال: أي ذا مقام محمود، وإنما نكر للتفخيم: أي مقاماً أيّ مقام (الذي وعدته) بقولك {عسى أن يبعثك ربك
مقاماً محموداً} (الإسراء: 79) وأجمع المفسرون على أن عسى من الله واجب. والموصول بدل مما قبله (حلت) أي وجبت (له شفاعتي) الخاصة به (يوم القيامة) ظرف للوجوب، وفيه تبشير قائل ذلك بالموت على الإسلام إذ لا تجب الشفاعة لغيره (رواه البخاري) وأخرجه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي.
81040 - (وعن سعد بن أبي وقاص) بفتح الواو وتشديد القاف آخره مهملة كنية مال كما تقدم (رضي الله عنه عن النبي أنه قال) بفتح الهمزة بدل من النبي بدل اشتمال أو بكسرها(6/528)
على تقدير قال: أي قال سعد بياناً لقوله عن النبيّ أنه قال (من قال حين يسمع المؤذن) وقوله (أشهد) وفي رواية «وأنا أشهد» (أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) محتمل لأن يكون مقولاً للمؤذن فيكون مفعولاً ليقول المقدر بعده، فإن حذف القول وإبقاء المقول كثير جداً حتى قال أبو علي الفارسي: هو من قبيل حديث البحر «حدث ولا حرج» فيكون مقول قال: رضيت بالله رباً الخ، ومحتمل لأن يكون من جملة ما يقوله سامع المؤذن، وكلام المصنف في «شرح مسلم» ظاهر في الثاني، لكنه يقتضي أنه يأتي بذلك إجابة لقول المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول أشهد، أو، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله الخ، ثم يقول (رضيت بالله رباً) تمييز محول عن المفعول به بواسطة وكذا قرينه وهو قوله (وبمحمد) (رسولاً) وفي رواية نبياً فيجمع بينهما احتياطاً لتحقيق الإتيان بالوارد كما قال المصنف بنظيره في قوله في دعاء عرفة «ظلماً كثيراً كبيراً» (وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه) أي صغائره المتعلقة بالله (رواه مسلم) وأخرجه مالك وأبو داود والترمذي، وهو عند البيهقي بزيادة أوردتها في شرح الأذكار.
91041 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الدعاء لا يرد) بصيغة المجهول للعلم بالفاعل أي لا يرده الله (بين الأذن والإقامة) ظرف للدعاء في محل الحال قدم عليه الخبر لمزيد الاهتمام لما فيه من مزيد التشويق والحث على فعله لذلك (رواه أبو داود والترمذي) وأخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (وقال: حديث حسن) وقال الحافظ في(6/529)
«تخريج أحاديث الأذكار» من إملائه بعد تخريجه من طريق الطبراني في كتاب الدعاء. هذا الحديث حسن غريب، قال: وسكت عليه أبو داود إما لحسن رأيه في زيد العمى وإما لشهرته في الضعف وإما لكونه في فضائل الأعمال، وضعفه النسائي. وأما الترمذي فقال: هذا حديث حسن، وقد رواه أبو إسحاق: يعني السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أنس قال أبو الحسن القطان: إنما لم يصححه لضعف زيد العمي، وأما يزيد فهو موثق عنده فينبغي أن يصحح من طريقه. قال المنذري: طريق يزيد أجود من طريق زيد العمى اهـ. قال الحافظ في «أماليه» : وقد نقل المصنف: يعني مصنف «الأذكار» أن الترمذي صححه، ولم أر ذلك في شيء من النسخ التي وقفت عليها، وكلام ابن القطان والمنذري يعطي ذلك، ويبعد أن الترمذي يصححه مع تفرد زيد العمي به وقد ضعفوه، نعم طريق يزيد التي أشار إليها صححها ابن خزيمة وابن حبان اهـ. وأشار به إلى قول المصنف في «الأذكار» . قل الترمذي: حديث حسن صحيح اهـ. وحينئذ فما هنا من اقتصاره على قوله عن الترمذي حديث حسن هو الحسن، وفي «الأذكار» : وزاد الترمذي في روايته في كتاب الدعوات من «جامعه» «قالوا فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة» .
187 - باب فضل الصلوات
الشاملة للفرض منها والنفل المؤقت وذي السبب والمطلق المؤكد وغيره (قال الله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء) المعصية الشنيعة (والمنكر) شرعاً: أي شأنها ذلك ما دام المرء فيها أو أن مواظتبها تحمل على ذلك، وفي الحديث «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً» أو أن مراعاتها تجر إلى الانتهاء وفي الحديث «قيل له عليه الصلاة والسلام إن فلاناً يصلي الليل فإذا أصبح سرق، قال: سينهاه ما تقول» .
11042 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: أرأيتم)(6/530)
أخبروني (لو أن نهراً) لو ثبت أن نهراً لأن لولا تدخل إلا على فعل وجوابها محذوف: أي لما بقي من درته شيء، والنهر بسكون الهاء ويجمع على نهر بضمتين وبفتحها في لغة وجمعه أنهار كسبب وأسباب، ومثله كل ما كان وزنه وثانيه حرف حلق كبحرْ وبحرَ وشعرْ وشعرَ، وهو مكان الماء الجاري المتسع، ويطلق النهر على الماء الجاري فيه مجازاً للمجاورة فيقال جرى النهر كما يقال جرى الميزاب، كذا في «المصباح» (بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم) ظرف للمضارع قبله (خمس مرات) مفعول مطلق: أي خمس اغتسالات فعامله من معناه، أو يقدر: خمس مرات من الاغتسال (هل يبقى) بفتح التحتية (من درنه) بفتح أوليه المهملين آخره نون وهو الوسخ وفاعل يبقى قوله (شيء) وقدم البيان على المبين اهتماماً به (قالوا لا) حصل به الجواب وإنما صرحوا بالجملة التي كان يمكن حذفها اكتفاء بدلالة وجودها في السؤال عليها وهي قولهم (يبقى من درنه شيء) إطناباً وزيادة توضيح (قال فكذلك) أي فمثل رفع النهر المنغمس فيه خمس مرات كل يوم الدرن الحسي (مثل الصلوات الخمس) في رفعها الدرن المعنوي من الذنب، وبين وجه الشبه بقوله (يمحو الله بهن) أي بسببهن، وفي رواية بها، وفي رواية به: أي بأدائها (الخطايا) أي الصغائر المتعلقة بالله سبحانه والفاء في قوله فكذلك فصيحة: أي إذا قلتم ذلك فهو مثل الصلوات الخمس وفائدة التمثيل التأكيد وجعل المعقول كالمحسوس وقصر الخطايا على الصغائر مأخوذ من تشبيهها بالدرن وهو لا يبلغ مبلغ الجذام ونحوه (متفق عليه) وأخرجه الترمذي والنسائي.
21043 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله) مبيناً شرف الصلوات (مثل) بفتحتين (الصلوات الخمس) أي شأنها الذي هو لغرابته وفخامته كالقصة التي يتحدث عنها(6/531)
(كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات) وجه الشبه ما تقدم في الحديث قبله من إزالة كل من الغمر والصلوات الدرن (رواه مسلم. الغمر بفتح الغين المعجمة الكثير) وهذا تفسير له بالمعنى المراد هنا المناسب له، وإلا فقال ابن مالك في المثلث: الغمر الماء الكثير والفرس المتقدم في الجري ووصف للبحر، ومنه رجل عمر الرداء وعمر الخلق: أي سخي، والغم بالكسر: الحقد والعطش أيضاً. قلت: والغمر بالضم: الرجل الجاهل بالأمور الغرّ فيها وقد تفتح عينه، ثم هذا الحديث تقدم مع شرحه في باب الرجاء وكذا الحديث بعده.
31044 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة) بضم القاف اسم مصدر من التقبيل بمعنى اللثم كذا في «المصباح» وهي من الصغائر (فأتى النبي فأخبره) أي بما فعل (فأنزل الله تعالى) : ( {أقم الصلاة طرفي النها وزلفاً من الليل} ) طرفا النهار الصبح والعصر أو الظهر، وزلف الليل ساعات منه. قيل المراد به العشاء أو المغرب والعشاء، وقيل نزول هذه كان قبل وجوب الخمس، فإنه كان يجب صلاتان صلاة قبل طلوع الشمس وأخرى قبل غروبها، وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى أمته ثم نسخ ( {إن الحسنات. يذهبن السيئات} ) وفي الحديث «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» وفي الحديث الآخر «إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها» (قال الرجل: ألي) الهمزة للاستفهام: أي أينتهي لي (هذا) دون(6/532)
غيري (قال لجميع أمتي) أي هذا لجميعهم وأكده بقوله (كلهم) دفعاً لتوهم أن المراد من الجميع الأعم الأغلب (متفق عليه) .
41045 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة) أي مكفرة (لما بينهن) أي من الصغائر والمبالغة في التكفير، باعتبار كثرة المكفر بها، والمراد أن كلاً مما ذكر يكفر ما وقع من تلك بينها وبين ما قبلها فهو من باب: ركب الناس دوابهم: أي كل إنسان ركب دابته من توزيع المفرد على المفرد، وجمع السلامة للمؤنث غير العاقل يجوز معاملته معاملة الواحدة نحو الصلوات أقمتها ومعاملة الجمع نحو أقمتهن وجاء الاستعمالان في الحديث (ما) مصدرية ظرفية (لم تغش) بالبناء المجهول: أي تؤت (الكبائر) أي وذلك مدة عدم إتيان الكبائر، والمراد منه أن الكبائر لا تكفر بأعمال البر لأن إتيانها مانع من تكفير الطاعات للصغائر المتعلقة بالله، هذا ما عليه الجمهور (رواه مسلم) وتقدم في باب بيان كثرة طرق الخير.
51046 - (وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ما من) صلة أنى بها لتأكيد عموم (امرىء مسلم) ومثله المرأة المسلمة (تحضره صلاة مكتوبة فيحسن) يجوز رفعه عطفاً على تحضره ونصبه بأن مضمرة في جواب النفي (وضوءها) إضافته إليها للملابسة لتوقف صحتها عليه عند التمكن منه (وخشوعها) أي إقباله على الله تعالى بقلبه فيها وإضافته لما ذكر قبله من حث إنه كمالها (وركوعها) وإحسان الوضوء: الإتيان به جامع الفرائض والسنن والآداب، وإحسان الخشوع: كمال الإقبال والتوجه (إلا كانت) أي الصلاة (كفارة) أي مكفرة، والتعبير بالمصدر للمبالغة (لما قبلها من الذنوب) أي الصغائر التي هي لله تعالى (ما لم تؤت) بصيغة المجهول، ونائب فاعله (كبيرة) وفي(6/533)
نسخة الكبائر: أي مدة عدم إتيان الكبائر (وذلك) أي تكفير ما ذكر بقيده (الدهر) بالنصب ظرف للتكفير المدلول عليه بسياق الكلام وسباقه، وأكده بقوله (كله) تنبيهاً على تعميم تكفير الطاعات للصغائر كل زمن، وأن ذلك غير مقصور على أشرف الأزمنة من عصره وعصر الصحابة رضي الله عنهم بل عام لسائر الأعصار (رواه مسلم) .
188 - باب (فضل صلاة) (بالإفراد في عامة النسخ) (الصبح والعصر)
وهما أشرف الخمس وهما في الجمعة أشرف منهما في غيرها.
11047 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله قال: من صلى البردين دخل الجنة) يحتمل أن يراد مع الناجين: أي إذا لم يقترف الكبائر أو اقترفها وتاب منها، أو لم يتب وتجاوزها الله له، ويحتمل أن يراد دخلها بعد المجازاة، ففيه إيماء إلى حسن خاتمة مصليهما بوفاته على الإسلام، إذ لا يدخلها إلا من مات مسلماً (متفق عليه) والحديث سبق مع شرحه في باب بيان كثرة طرق الخير (البردان الصبح والعصر) سميا بذلك لفعلهما وقت البرد فهو من وصف الشيء بما يلابسه.
21048 - (وعن أبي زهير) بضم الزاي وفتح الهاء وسكون التحتية مصغر زهر (عمارة) بضم العين المهملة وتخفيف الميم وبالراء كما أشار إليه الحافظ ابن حجر في «تبصرة المنتبه» (ابن(6/534)
رؤيبة) بضم الراء وفتح الواو وبالموحدة وسكون التحتية بينهما، الثقفي من بني خيثم بن ثقيف كوفي، روى عنه ابنه أبو بكر وأبو إسحاق السبيعي وغيرهما، كذا في «أسد الغابة» ، وفي «تقريب التهذيب» للحافظ قال: هو صحابي نزل الكوفة وتأخر إلى بعد السبعين. خرّج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، روي له (رضي الله عنه) عن النبي تسعة أحاديث، قاله الكازروني في «شرح المشارق» ، أخرج له مسلم منها حديثين وانفرد به عن البخاري (قال: سمعت رسول الله يقول: لن يلج) بفتح التحتية وكسر اللام مضارع ولج والأصل يولج حذفت الواو لوقوعها بين حرف مضارعة مفتوح وحرف مكسور: أي لن يدخل (النار) أصلاً بالاعتبار الآتي. ولا ينافي الورود عليها المحتوم على كل أحد لأنه غير الدخول للتعذيب، أو المراد لا يدخلها على التأبيد فيها، وإنما أولت هذا وما قبله بما ذكر فيهما لما في الحديث الصحيح «إن من المسلمين من يأتي يوم القيامة وله صلوات وصيام وغيرهما وعليه ظلامات الناس فيأخذون ذلك منه» قيل ما عدا الصوم لاختصاص عمله به تعالى. قلت: وردّ بأنه جاء في صحيح مسلم «أنه كغيره من العبادات يؤخذ في ظلامات العباد، فإذا لم يبق له عمل وضع عليه من سيائتهم ثم يلقى في النار» (أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها: يعني) أي النبي (الفجر) بما قبل الطلوع (والعصر) بما قبل الغروب، هذا تفسير للصلاة فيهما المذكورة في الحديث المحتملة لهما ولغيرهما من النافلة، وتخصيصهما بالذكر ليس لإفادة حصول النجاة من النار لمن جاء بهما دون باقي الخمس لأنه بخلاف المنصوص، بل لأمر آخر فلا مفهوم للاقتصار عليهما، بل لا بد في النجاة منها من الإتيان بالبقية مع عدم تحمل حق آدمي، وذلك الأمر هو أن وقت الصبح يكون عند
النوم ولذته، ووقت العصر يكون عند الاشتغال بتتمات أعمال النهار وتجارته وتهيئة العشاء، ففي صلاة تينك مع ذلك دليل على خلوص النفس من الكسل ومحبتها للعبادة، ويلزم من ذلك إتيانها ببقية الصلوات الخمس، وأنها إذا حافظت عليهما كانت أشد مخافظة على غيرهما، ومن ثم مدح الله تعالى من هجر النوم ولذته والبيع وربحه في جنب عبادته وطاعته فقال عزّ وجل: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} (الذاريات: 17) وقال: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} (النور: 37) الآيتين، ومن هو كذلك(6/535)
حريّ أن لا يرتكب كبيرة ولا صغيرة لآدمي وإن فعل تاب، وصغائره المتعلقة بالله تعالى تقع مكفرة فحينئذ هو لا يلج النار أبداً (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي.
31049 - (وعن جندب) بضم الجيم وفتح الدال المهملة وضمها وسكون النون بينهما آخره موحدة (ابن سفيان) بتثليث السين والضم أشهرها، ويقال الكسر.p وحكى الفتح ابن أبي عمران: ثم إن المصنف نسب جندباً هنا إلى جده سفيان وقد نسبه إلى أبيه، إذ أورد الحديث في باب التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة حيث قال: وعن جندب بن عبد الله وقدمنا ترجمته (رضي الله عنه) ثم (قال: قال رسول الله: من صلى الصبح) أي جماعة كما قيل به في رواية أخرى (فهو في ذمة الله) أي كلاءته وحفظه (فانظر) أي تدبر (با بن آدم) واحذر من التعرض لمن هو كذلك. وقوله (لا يطلبنك الله من ذمته بشيء) جواب شرط مقدر دل عليه الطلب قبله ولذا أكد، وبه يضعف احتمال الاستئناف لشذوذ تأكيد الفعل لا في طلب أو جواب قسم أو شرط، وفي قوله بشيء مبالغة في التحذير عن التعرض لمن هو كذلك في أي أمر كان وأي شيء عرض (رواه مسلم) .
41050 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) أي تعقب طائفة منهم طائفة أخرى. قال المصنف: فيه دليل لمن قال من النحويين بجواز إظهار ضمير التثنية والجمع في الفعل إذا تقدم: أي على المثنى والمجموع وهو لغة بني الحارث وحكوا فيه قولهم: أكلوني البراغيث، وحمل عليه الأخفش ومن وافقه قول الله تعالى: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} (الأنبياء: 3) وقال سيبويه وأكثر النحويين: لا يجوز إظهار الضمير مع تقدم الفعل، ويتأولون كل هذا ويجعلون الاسم بعده بدلاً من الضمير ولا يرفعونه بالفعل كأنه لما قيل «وأسروا النجوى» وقيل من هم؟ قيل هم(6/536)
الذين ظلموا، وكذا «يتعاقبون» ونظائره اهـ. وهو تابع لشيخه الإمام جمال الدين ابن مالك في جعله الحديث من هذا القبيل. قال الشيخ جلال الدين السيوطي في الاقتراح بعد أن ذكر من تعقب ابن مالك فيما سلكه من إثبات القواعد العربية بالأحاديث النبوية ما لفظه: ومما يدل لصحة ما ذهب إليه ابن الضائع وأبو حيان من تعقب ابن مالك في ذلك أن ابن مالك استشهد على لغة أكلوني البراغيث بحديث الصحيحين «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وأكثر من ذلك حتى صار يسميها لغة «يتعاقبون» وقد استدل به السهيلي ثم قال: لكني أقول إن الواو فيه علامة إضمار لأنه حديث مختصر رواه البزار مطولاً فقال: «إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» اهـ. قلت: والحديث في صحيح البخاري في بدء الخلق من طريق الأعرج عن أبي هريرة. قال: قال النبي «الملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث، فلو استدرك به لكان أولى لأصحيته لكونه دالاً على أن ما في لفظ الرواية الأولى من تصرف الرواة والله أعلم (ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر) اجتماعهم فيهم من لطف الله تعالى بالمؤمنين وتكرمته لهم، إذ جعل اجتماع الملائكة عليهم ومفارقهم لهم في أوقات
عبادتهم واجتماعهم على طاعتههم ربهم فتكون شهادتهم لهم بما شاهدوه من الخير (ثم يعرج) بضم الراء يصعد (الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي) السؤال على ظاهره وحقيقته وهو تعبد منه للملائكة كما أمرهم بكتب الأعمال وهو أعلم بالجميع، قال القاضي عياض: الأظهر قول الأكثرين: إن هؤلاء الملائكة هم الحفظة الكتاب، قال: وقيل يحتمل أن يكونوا من جملة الملائكة كجملة الناس غير الحفظة (فيقولون تركناهم وهم يصلون) أي الفجر (وأتيناهم وهم يصلون) أي العصر (متفق عليه) .
51051 - (وعن جرير) بفتح الجيم وكسر الراء الأولى (ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه(6/537)
قال: كنا) أي جماعة من الصحابة (عند النبي فنظر إلى القمر) أي في (ليلة البدر) هي ليلة الرابع عشر من الشهر، سمي بذلك لمبادرة طلوعه غروب الشمس وطلوعها غروبه (فقال: إنكم سترون) السين فيه لتأكيد الوعد وتحقيق الأمر (ربكم) على ما يلييق به سبحانه من غير جهة ولا إدراك له ولا اتصال شعاع به ولا غير ذلك مما يكون في رؤية المحدث (كما ترون هذا القمر) التشبيه في أصل الرؤية وانجلائها في كل من المشبه والمشبه به لا من كل وجه، إذ القمر مرئي وهو في جهة باتصال شعاع من الرائي به وإدراك له، والله سبحانه وتعالى منزه عن جميع ذلك، والمخاطب بذلك المؤمنون، فالكفار محجوبون عن رؤيته تعالى لا فرق فيه بين منافقيهم وغيرهم على الصحيح الذي عليه الجمهور من أهل السنة كما ذكره المصنف (لا تضامون) قال المصنف: روي بتشديد الميم وتخفيفها فمن شددها فتح التاء ومن خففها ضم التاء (في رؤيته) ومعنى المشدد: لا تتضامون وتتلاصقون في التواصل إلى رؤيته، ومعنى المخفف: لا يلحقكم ضيم وهو المشقة والتعب (فإن استطعتم أن لا تغلبوا) بالبناء للمفعول (على صلاة قبل طلوع الشمس) يعني صلاة الصبح (وقبل غروبها) يعني العصر (فافعلوا) أي ترك المغلوبية التي لازمها الإتيان بالصلاتين كأنه قال صلوا، قال البرماوي في قوله «فإن استطعتم الخ» رمز إلى أن المحافظة على هاتين الصلاتين يرجى بها نيل الرؤية (متفق عليه) .
(وفي رواية) للبخاري في أبواب مواقيت الصلاة (فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة) وهي في «صحيح مسلم» عن جرير قال «كنا جلوساً عند رسول الله إذ نظر إلى القمر ليلة البدر» ولعله مراد المصنف أيضاً إلا أنه رواه بمعناه والله أعلم.
61052 - (وعن بريدة) بضم الموحدة وفتح الدال المهملة وسكون التحتية بينهما (رضي الله(6/538)
عنه قال: قال رسول الله: من ترك صلاة العصر حبط) بكسر الموحدة: أي بطل وفسد (عمله) والمراد به بطلان ثوابه، فلا حجة للمعتزلة في قولهم إن المعصية تحبط الطاعة، أو المراد من تركها مستحلاً لذلك، أو جاحداً لوجوبها، أو المراد بحبوط العمل الكفر. كما قال الإمام أحمد: إن تارك الصلاة عمداً يكفر، ويشهد له حديث أنس مرفوعاً «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر جهاراً» أخرجه الطبراني في «الأوسط» ، فيحبط عمله بسبب كفره، أو يقال المراد بالعمل عمل الدنيا الذي شغله عن الصلاة: أي لا ينتفع به ولا يتمتع، أو المراد بالحبوط نقصان عمله في يومه، أو الأعمال بالخواتيم لا سيما في الوقت الذي يقرب أن ترفع فيه الأعمال، أو هو وارد على سبيل التغليظ: أي فكأنما حبط عمله، ذكره البرماوي في «اللامع الصبيح» (رواه البخاري) وأحمد والنسائي.
189 - باب فضل المشي إلى المساجد
11053 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: من غدا) من الغدوّ: وهو السير قبل الزوال (إلى المسجد أو) للتنويع (راح) من الرواح السير بعد الزوال أي سار بعد الزوال إليه: أي ليؤدي فيه عبادة من صلاة أو اعتكاف أو قراءة قرآن أو إقراء علم أو نحو ذلك (أعد) بتشديد الدال المهملة: أي هيأ (الله له في الجنة نزلاً) بضمتين: وهو ما يهيأ للضيف من كرامة عند قدومه، والتنوين فيه للتعظيم كما يومىء إليه إسناد الفعل إلى اسم الذات الجامع لمعاني الأسماء والنعوت الحسنى (كلما غدا أو راح) ظرف لأعد. قال الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» : عادة الناس تقديم طعام لمن دخل بيتهم، والمسجد بيت الله تعالى فمن دخله أي(6/539)
وقت كان من ليل أو نهار أعطاه الله تعالى أجره من الجنة لأنه أكرم الأكرمين ولا يضيع أجر المحسنين (متفق عليه) ورواه الإمام أحمد.
21054 - (وعنه رضي الله عنه: أن النبي قال: من تطهر في بيته) شمل أنواع الطهارة حتى التيمم للعاجز حساً أو شرعاً عن استعمال الماء (ثم مضى) أي ذهب إلى بيت من بيوت الله، المراد منها المساجد كما يومىء إليه إضافتها إلى الاسم الكريم الدالة على التبجيل والتعظيم (ليقضي) أي ليؤدي فيه (فريضة) أي مفروضة (من فرائض الله) التي فرضها أصالة كالصلوات الخمس أو إلزام المكلف بها نفسه من القُرَب كالطاعة المنذورة (كانت خطواته) بضم أوليه وسكون ثانيه تخفيفاً جمع خطوة بالضم ما بين القدمين، وفي نسخة بفتح أوليه جمع خطوة بالفتح واحد الخطو: أي رفع القدم للسير (إحداهما) أي الخطوتين المدلول عليهما بالخطوات، رأيته في «الجامع الكبير» معزوّاً إلى روايته بلفظ كانت خطوتاه بصيغة المثنى المرفوع بالألف وهو ظاهر سالم من التكلف، ولعل ما في أصول الرياض من صيغة الجمع من عمل الكتاب لكن رأيت مثل ما في الرياض عند مسلم (تحط خطيئة) أي من الصغائر المتعلقة بالله تعالى (والأخرى) أي منهما (ترفع درجة) أي بعد تكفير الصغائر وتنزيهه منها. فالباقي من الخطوات ترفع بها الدرجات وهذا لمن لا كبائر له، فمن عمل من الخطوات ما يزيد على صغائره المكفرة بها عدداً وله كبائر رجى أن يكفر عنه منها بقدر ما يغفر بها من الصغائر، فإن لم يكن ذا ذنب أصلاً أو كان ذا صغائر وزادت خطواته على المكفر بها رفع له بما زاد الدرجات والله أعلم (رواه مسلم) ورواه ابن حبان كما في «الجامع الكبير» .
31055 - (وعن أُبي) بضم الهمزة ففتح للموحدة فتشديد للياء (ابن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار) لم أقف على من سماه (لا أعلم أحداً أبعد من المسجد منه) أي باعتبار داره (وكانت لا تخطئه) بضم الفوقية وكسر المهملة: أي لا تفوته (صلاة) أي في(6/540)
المسجد كما يدل عليه السياق (فقيل له) القائل هو أبيّ كما عند مسلم في هذا الحديث بزيادة «أو قلت له» وأو للشك، وفي رواية أخرى عنده قال: قال أي أبيّ، فتوجهت له فقلت يا فلان (لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء) فيقيك من أذى الحشرات المنتشرة في أوّل الظلمة (وفي الرمضاء) فيقيك من نصب الحر لأنهم كانوا حفاة (قال ما يسرني) بفتح التحتية: أي يفرحني (أن منزلي إلى جنب المسجد) وعلل ذلك بقوله على سبيل الاستئناف البياني (إني أريد) أي أقصد ولما تعين المقصود منه سكت عن ذكره (أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي) أي أجرهما أو يكتبان هما فيضاعف أجرهما والفعل المضارع بالبناء للمفعول وما بعده نائب الفاعل، ويجوز قراءته مبنيا للفاعل وهو الله سبحانه وتعالى وعاد إليه، وإن لم يتقدم ذكراً (فقال رسول الله) عطف على مقدر: أي فبلغ ذلك النبيّ فقال مخاطباً له (جمع الله لك ذلك) أي ما ذكرت من أجر المشي والرجوع، فاسم الإشارة فيه كهو في قوله تعالى: {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك} (البقرة: 68) وأكد الجمعية لئلا يذهب الوهم ويسري إلى الفهم أنه تجوز عن الأكثر بذلك فقال (كله) (رواه مسلم) .
41056 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: خلت البقاع) بكسر الموحدة جمع بقعة، قال في المصباح: البقعة من الأرض القطعة منها (حول المسجد) بالنصب على الظرفية لقوله خلت، أو صفة للبقاع لكونه محلى بأل الجنسية، وهي كالنكرة معنى (فأراد بنو سلمة) بفتح المهملة وكسر اللام بطن من الأنصار، والنسبة لهم سلمى بفتح أوليه من تغيير النسب. قال ابن عبد البر في كتاب «الأنساب» : وأما الخزرج فمن بطونهم النجار، وفي النجار بطون كثيرة إلى أن قال: ومنهم سلمة بن سعد بن الخزرج (أن ينتقلوا) إلى المكان الذي خلا قرب المسجد(6/541)
(فبلغ ذلك) أي إرادتهم الانتقال (النبي فقال لهم: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟ قالوا نعم يا رسول الله) حذف العاطف لأن القصد حكاية لفظ جوابهم من غير تعرض لكونه عقب السؤال المدلول عليه بالفاء أو بعده بمدة المدلول عليه بثم، أو محتملاً لدينك وغيرهما المدلول عليه بالواو، وجملة الجواب وهي قولهم (قد أردنا ذلك) أتوا بها مع كفاية نعم عنها زيادة في الإقرار والتصريح بما كانوا أرادوا (فقال: بني سلمة) بتقدير حرف النداء قبله (دياركم) منصوب على الإغراء (تكتب) بالجزم جواباً للشرط المقدر لكونه في جواب الأمر المدلول عليه بالاسم المنصوب على الإغراء، والفعل مبني للمجهول ونائب فاعله قوله (آثاركم) أي خطاكم الكثيرة إلى المسجد (فقالوا: ما يسرنا أنا كنا تحولنا) لحوز القرب من المسجد لما يفوت عليه من نقص الآثار بقلة الخطا لقرب المكان (رواه مسلم) في كتاب الصلاة، وقد تقدم الحديث مشروحاً في باب بيان كثرة الخيرات (وروى البخاري معناه) في باب احتساب الآثار من كتاب الصلاة وفي فضل المدينة آخر المناسك (من رواية أنس) وهو في الصلاة بلفظ «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم» وبلفظ «إن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلون قريباً من النبي، قال: فكره النبي أن يعروا منازلهم فقال: ألا تحتسبون آثاركم» ولفظه في المناسك
«أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد فكره رسول الله أن تعرى المدينة وقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا» .
51057 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن أعظم الناس أجراً) منصوب على التمييز (في الصلاة) في تعليلية: أي لأجلها (أبعدهم إليها ممشى) اسم مكان،(6/542)
ويحتمل أن يكون مصدراً ميمياً، والأول أولى لأنه الذي يوصف بالبعد (فأبعدهم) وكلما كان البعد أكثر فيكون ذلك أعظم للأجر (والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام) غاية الانتظار، ويجوز كون حتى تعليلية لبيان علة الانتظار المرتب عليه قوله (أعظم أجراً) أي ثواباً (من الذي يصليها) أول الوقت منفرداً (ثم ينام) وذلك لأن الأول في صلاة مدة انتظاره لها، ولذاكره له ما يكره للمصلي من تشبيك أصابع وفرقعتها وعبث ونحوه مع فضل الجماعة (متفق عليه) .
61058 - (وعن بريدة) بضم الموحدة وفتح الراء والدال المهملتين وسكون التحتية بينهما (رضي الله عنه قال: قال النبي: بشروا) أمر من التبشير وهو في الأصل موضوع للإخبار بالخبر السار، والمخاطب بذلك الصحابة فمن بعدهم، وهكذا هو في الرياض بضمير الجمع، وفي «الجامع الصغير» بصيغة الإفراد، قال شارحه العلقمي نقلاً عن السيوطي: هذا من الخطاب العام ولم يرد به أمر واحد بعينه (المشائين) بالهمز والمد (في الظلم) بضم ففتح جمع ظلمة وهي تعم ظلمة العشاء والفجرلكن في الطبراني عن أبي أمامة «بشر المدلجين إلى المساجد» والإدلاج بالتخفيف المشي جميع الليل، وبالتشديد المشي آخره (إلى المساجد) الجمع نظراً لجمع المشائين وهو نظير ركب الناس دوابهم من مقابلة الجمع بالجمع: أي ركب كل دابته: أي بشر كل ماش إلى المسجد في الظلمة (بالنور التام) أي من جميع جوانبهم فإنهم يختلفون في النور على قدر الأعمال (يوم القيامة) أي على الصراط. قال ابن رسلان: ويحتمل أن يراد بالنور المنابر التي من النور لرواية الطبراني «بشر المدلجين إلى المساجد في الظلم بمنابر من نور يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزعون» وفي الحديث: فضل المشي إلى الصلاة سواء كان المشي طويلاً أو قصيراً، وفضل المشي(6/543)
إليها للجماعات في ظلم الليل. (رواه أبو داود والترمذي) .
71059 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله قال: ألا) بتخفيف اللام حرف استفتاح لتنبيه المخاطب لما بعده (أدلكم على ما) أي الذي أو شيء (يمحو الله به الخطايا) بإذهابها من ديوان الحفظة أو بترك المؤاخذة عليها في الآخرة، والمراد الصغائر المتعلقة بالله تعالى، ولا يضر كون الباء سببية لأن السببية لذلك يجعل الله سبحانه وتعالى (ويرفع به الدرجات) أي يعطي به المنازل الرفيعة في الجنة، إذ التفاوت فيها إنما يظهر بذلك وظاهره جمع الأمرين لفاعل ما يأتي، وقدم الأول على الثاني لأنه من باب التخلية بالمعجمة، والثاني من باب التحلية بالمهملة، والأول مقدم على الثاني (قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء) أي استيعاب أعضائه بالغسل والمسح مع استيفاء آدابه ومكملاته (على) بمعنى مع (المكاره) جمع مكره بفتح الميم من الكره وهو المشقة، ومنها طلب الماء وشراؤه بثمن المثل بشرطه فإنه يشق على النفس (وكثرة) بفتح الكاف قال في «المصباح» الكسر رديء ويقال خطأ (الخطأ) بضم ففتح وبالقصر جمع خطوة (إلى المساجد) فيه فضل الدار البعيد عن المسجد على القريبة ويدل له أحاديث الباب، ولا ينافيه عده «من شؤم الدار بعدها عن المسجد» لأن بعدها وإن كان فيه شؤم من حيث إنه قد يؤدي إلى تفويت الصلاة عن وقتها لكن فيه فضل عظيم إذا توجه منها إلى الصلاة بالمسجد فشؤمها وفضلها اعتباريان فلا تنافي (وانتظار الصلاة بعد الصلاة) أي الجلوس لانتظارها بعد انقضاء. عمل الأولى منفرداً أو جماعة وذلك لدوام فكره وتعلق قلبه بها، فهو دائم المراقبة والحضور غير ملته عن فضل عبادات بدله بشيء (فذلكم) عدل إليه عن هذا الذي هو القياس للدلالة على بعد منزلته(6/544)
وعظمها فهو نظير {ذلك الكتاب لا ريب فيه} (البقرة: 2) (الرباط) لا غيره كما أفاده تعريف الجزءين الدالّ على الحصر لكنه إضافي: أي ما ذكر من الثلاث هو المستحق أن يسمى رباطاً، وغيره الذي هو الرابط الحقيقي وهو
ملازمة الثغر لحفظ عورة المسلمين لا يستحق ذلك بالنسبة إليه، لما فيه من أعظم القهر لأعدى عدوك الذي هو النفس الأمارة بالسوء وقمع سورتها وقلع مكايد الشيطان وأعوانه من جميع أجزائها، وفي هذا أعظم تأييد لما روي «ورجعنا من الجهاد الأصغر» أي الذي هو جهاد العدو «إلى الجهاد الأكبر» أي الذي هو جهاد النفس، وذلك لأن تلك الأعمال لما كانت تسد طرق الشيطان والهوى عن النفس وتقهرها وتمنعها من قبول الوساوس واتباع الشهوات فيغلب بها حزب الله وجنوده عدوه كانت هي المرابطة الحقيقية. والجهاد الأكبر جهاد الكفار وإن شرع للخروج عن النفوس والأولاد والأموال لإعلاء كلمة الله تعالى مع تكميل النفوس بخروجها عن مألوفاتها ومستلذاتها، لكنه لا يدوم زمنه وإنما يكون برهة ثم ينقضي، وتلك الأعمال دائمة الوجود وذلك التكميل موجود فيها بزيادة، ووقع في نسخة مصححة من «الرياض» قوله (فذلكم الرباط) مرة ثانية وقدمنا أنه كذلك في رواية لمسلم (رواه مسلم) والحديث سبق في فضل الوضوء.
81060 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: إذا رأيتم) أي علمتم (الرجل يعتاد المساجد) وفي رواية «يتعاهد المساجد» والمراد باعتياد المساجد أن يكون قلبه متعلقاً به منذ يخرج منه إلى أن يعود إليه. 4 قال السيوطي: المراد شدة حبه له وملازمة الجماعة فيه، وليس معناه دوام القعود فيه. وقال التوربشتي: هو بمعنى التعهد وهو التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، ويروى «يتعاهد» ومعناه لاعتياد معاودته إلى المسجد مرة بعد أخرى لإقامة الصلاة اهـ. وكلاهما حسن. وقال الطيبي: يتعاهد أشمل معنى وأجمع لما يناط به أمر المساجد من العمارة واعتياد الصلاة وغيرهما، ألا ترى كيف استشهد بالآية. قال في «الكشاف» : العمارة تتناول رمّ ما انهدم منها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وتعظيمها واعتيادها والذكر فيها (فاشهدوا) أي اقطعوا (له بالإيمان) فإن الشهادة تصدر عن مواطأة(6/545)
القلب اللسان على سبيل القطع كذا في «الكوكب المنير» (قال الله عزّ وجل) : ( {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله} ) أي لا يعمرها إلا المؤمن الموصوف بما في الآية من قوله: {وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله} (التوبة: 18) كما أومأ إليه المصنف بقوله (الآية) بالنصب بإضمار نحو اقرأ وبالرفع بإضمار مبتدأ: أي المتلو الآية وقوله: {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} (التوبة: 18) إيماء إلى أن الطاعات أمارات على الاهتداء فيرجى الاهتداء عندها لا علامات قطعية (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في «المستدرك» والبيهقي في «السنن» .
190 - باب فضل انتظار الصلاة
أي الجلوس لانتظارها.
11061 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لا يزال أحدكم في صلاة) أي من حيث الثواب لا في سائر الأحكام (ما) مصدرية ظرفية صلتها (دامت الصلاة تحبسه) أي تمنعه في مدة حبسها: أي منعها له عن انصرافه لحاجاته، وقوله (لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة) جملة حالية مؤكدة لمضمون عاملها (متفق عليه) .(6/546)
21062 - (وعنه أن رسول الله قال: الملائكة تصلي) أي تستغفر وتطلب الرحمة (على أحدكم) أي الواحد منكم، وعدّى بعلى لتضمنه معنى الحنوّ أو إيماء إلى علو الرحمة المدعو بها على المدعو له (ما دام في مصلاه) أي مكان صلاته (الذي صلى فيه) عمومه متناول لفرض الصلاة ونقلها (ما لم يحدث) ما فيه مصدرية ظرفية، والمراد بالإحداث الإتيان بالحدث الناقص للوضوء، أو المراد ما لم يتكلم بكلام الدنيا المنهيّ عنه، ثم بين صيغة دعائها له بقوله (تقول) أي الملائكة (اللهم اغفر له) ظاهر عمومه المستفاد من حذف المعمول شامل لكبائر الذنوب، ولا مانع منه لأنه سؤال من الله الغفران والله يغفر ما شاء غير الشرك (اللهم ارحمه. رواه البخاري) .
31063 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل) أي نصفه (ثم أقبل بوجهه بعد ما صلى فقال) مبشراً لهم بالفضل الذي نالهم من تأخيره الصلاة بهم (صلى الناس) أي غير من في مسجده المصلي معه فهو عام مراد به خاص (ورقدوا ولم تزالوا في صلاة) أي من حيث الثواب (منذ انتظرتموها) أي من ابتداء وقت انتظاركم إياها، وفي الإتيان بثم إيماء إلى أن ذلك الحكم زال بإتمامهم الصلاة (رواه البخاري) .(6/547)
191 - باب فضل صلاة الجماعة
واختلف فيها هل هي فرض أو سنة؟ وعلى الأول هل هي فرض عين أو كفاية؟ خلاف بين الأئمة. والصحيح في مذهب الشافعي أنها في غير الجمعة فرض كفاية على الأحرار الذكور المقيمين غير أولي العذر، أما في الجمعة ففرض عين لأنها شرط لصحتها في الركعة الأولى، وأقلها في غير الجمعة إمام ومأموم.
11064 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: صلاة الجماعة) الإضافة فيه بمعنى في والظرفية مجازية أو بمعنى اللام (أفضل) أي أكثر ثوابا (من صلاة الفذ) بفتح الفاء وتشديد الذال المعجمة، قال في «المصباح» : هو الواحد وجمعه فذوذ (بسبع وعشرين درجة) لا ينافي هذا ما يأتي في الحديث بعده من أنها تضعف على غيرها خمساً وعشرين، إما لأن العدد القليل لا ينفي الكثير أو أنه أعلم بالقليل أولاً فأعلم به ثم أعلم بالكثير فأخبر به، أو أن ذلك يختلف بحسب كمال الصلاة ومحافظة هيئتها وخشوعها وكثرة جماعتها وشرف البقعة ونحو ذلك. وقال الحافظ في «الفتح» : ظهر لي في الجمع بين الحديثين أن أقل الجماعة إمام ومأموم، فلولا الإمام ما سمي المأموم مأموماً وبالعكس، فإذا تفضل الله على من صلى جماعة بزيادة خمس وعشرين درجة حمل الخبر الوارد بفضلها على الفضل الزائد، والخبر الوارد بلفظ سبعة وعشرين على الأصل والفضل اهـ. قلت هذا أحسن من قول البرماوي بعد حكاية ما ذكر في أوجه الجمع بين الحديثين ما لفظه، وحيئذ يظهر وجه مناسبة السبع والعشرين أن فرائض اليوم والليلة سبع عشر ركعة، والرواتب المؤكدة للدوام عليها عشر، فضعف أجر الجماعة بهذا الاعتبار، وأماالوتر فلا مدخل له لأنه شرع بعد ذلك، وأحسن منه ما نقله الحافظ في الفتح عما كتبه شيخه السراج البلقيني على «العمدة» وقال: إنه لم يسبق إليه أن لفظ الحديث صلاة الجماعة معناه صلاة في الجماعة كما وقع في حديث أبي هريرة «صلاة الرجل في الجماعة» وعلى هذا فكل واحد من المحكوم له بذلك صلى في جماعة. وأدنى الأعداد التي يتحقق
فيها ذلك ثلاث حتى يكن، وكل واحد صلى في جماعة وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشر فتحصل من مجموعه ثلاثون، فاقتصر في الحديث على(6/548)
الفضل الزائد وهو سبع وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك اهـ (متفق عليه) ورواه الإمام مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كذا في «الجامع الصغير» .
21065 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: صلاة الرجل في جماعة) الظرف إما في محل الحال أو الصفة للرجل لأنه محلى بأل الجنسية، ويجوز جعله لغواً متعلقاً بصلاة (تضعف) بتشديد العين المهملة (على صلاته في بيته وفي سوقه) أي منفرداً كما يومىء إليه مقابلته بصلاة الجماعة، ولأن الغالب في فعلها في البيت والسوق الانفراد (خمساً وعشرين ضعفاً) مفعول مطلق كقوله تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة} (النور: 4) قال البرماوي: السرّ في الأعداد خفيّ لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، نعم يحتمل أن يقال في مناسبة الخمس والعشرين: إن صلوات اليوم والليلة خمس فإذا ضربت في نفسها بلغت ذلك، فأريد تضعيف ثوابها على الانفراد بذلك لمناسبته في جنس الأصل، ويحتمل أن الأربعة لما كانت تؤلف منها العشرة فيقال واحد واثنان وثلاثة وأربعة وهذا المجموع عشرة ومن العشرات المئات ومن المئات الألوف فكانت أصل جميع مراتب العدد، ومع ذلك زيد عليها واحد مبالغة ثم ضعفت بعدد الصلوات الخمس مبالغة أخرى اهـ. (وذلك) إن كان المشار إليه فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ اقتضى اختصاص ذلك بجماعة المسجد، وقد حكى القرطبي في «المفهم» خلاف العلماء هل الفضل المضاف للجماعة لأجل الجماعة فقط حيث كانت، أو إنما يكون الفضل للجماعة التي تكون بالمسجد لما يلازمها من فضائل تختص بها من إكثار الخطا إليه وكتب الحسنة ومحو السيئة بكل خطوة المذكورة في قوله (إنه) أي الشأن أو الرجل (إذا توضأ فأحسن الوضوء) أي أسبغه مع الإتيان بالسنن والآداب (ثم خرج إلى المسجد) أي
متوجهاً إليه (لا يخرجه إلا الصلاة) جملة حالية من(6/549)
فاعل خرج مقيدة لترتب الثواب الآتي على الخروج إلى المسجد بمضمونها، فإن أخرجه إليه غيرها أو هي مع غيرها فاته ما يأتي، وظاهر أن المفوت الخروج للشغل الدنيوي، أما إذا خرج للصلاة فيه وقراءة قرآن أو علم فذاك برّ ضم إلى بر (لم يخط خطوة) بفتح المعجمة (إلا رفعت) بالبناء للمجهول (له بها درجة) نائب الفاعل، والظرفان إما لغوان كل منهما متعلق بالفعل لاختلاف الجار لفظاً ومعنى، وإما مستقران حالان من درجة كانا صفتين لها فقدما وأعربا حالين، ومثل هذا الإعراب جار في قوله (وحط عنه بها خطيئة) أي من الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، ثم استظهر القرطبي أن الفضل للجماعة لذاتها قال: لأنها هي الوصف الذي علق عليه الحكم، وخالف الحافظ فقال: قوله: وذلك الخ ظاهر في أن الأمور المذكورة علة للتضعيف المذكور إذ التقدير وذلك لأنه، فكأنه يقول التضعيف المذكور سببه كيت وكيت، وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجودها بعضها إلا إن دل الدليل على إلغاء ما ليس معتبراً أو ليس مقصوداً لذاته، وهذه الزيادة معقولة المعنى، فالأخذ بها متجه والروايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل مطلقها على مقيدها (فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه) تترحم وتستغفر له (ما دام في مصلاه) أي جالساً فيه، ويحتمل أن يراد ما دام مستمراً فيه ولو مضطجعاً (ما لم يحدث) وعطف عطف بيان على قوله تصلي عليه قوله (اللهم صل عليه اللهم ارحمه) أي تقول ذلك (ولا يزال) غير النافي للتفنن مع كون المحدث عنه فيما تقدم أمراً منقضياً وفيما هنا أمراً آتياً، واسم يزال مستتر يعود إلى المصلي المفهوم من السياق، والخبر قوله (في صلاة ما انتظر الصلاة) أي مدة انتظاره إياها (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع من الصلاة من «صحيحه» ومسلم في صلاة الجماعة (وهذا لفظ البخاري) ولفظ مسلم نحوه.(6/550)
31066 - (وعنه قال: أتى النبيّ رجل أعمى) قال المصنف: وتبعه السيوطي في «الديباج» هو ابن أم مكتوم كما في «سنن أبي داود» وغيره، ونازعه في ذلك ابن حجر في «فتح الإله» فقال فيه لاختلاف سياق الحديثين كما يعلم من هذه وروايته الآتية بعد، قال: إلا أن تكون الواقعة متعددة (فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله أن يرخص له) في ترك الجماعة (فيصلي) بالنصب عطفاً على ما قبله وبالرعف على الاستئناف (في بيته فرخص له) من الرخصة وهي: تغير الحكم من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام سبب الحكم الأصلي كتغير الحكم هنا من الصعوبة وهي إلزامه الحضور إلى سهولة، وهي التخفيف عنه بسقوط ذلك لعذر وهو العمى مع قيام سبب الحكم الأصلي وهو طلب اجتماع المسلمين (فلما ولى دعاه فقال له) أي بعد أن جاءه (هل تسمع النداء) أي الأذان (بالصلاة) وعدي بالياء لتضمنه معنى الإعلام وعدي بإلى في قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة} (المائدة: 58) لبيان غاية النداء (قال نعم، قال فأجب) أي إن أردت كمال الفضيلة الأليق بك، ومعنى لا رخصة لك الوارد في حديث ابن أم مكتوم عند أبي داود: أي تلحقك بفضيلة من حضرها، والداعي إلى ذلك أنه رخص لعتبان حين شكا ضعف بصره أن يصلي في بيته، فأولنا حديث الباب بما ذكر جمعاً بين الأحاديث المتعين حيث أمكن. قال في «فتح الإله» : وفيه نظر بالنسبة لما ذكر عن عتبان، لأن الأصل في قصته في الصحيح أنه إنما سأل الترخيص في صلاته في منزله عند وجود مانع من حضور مسجد قومه من حيلولة السيل بينه وبينه، ولا شك أن في مثله يرخص حتى في حديث الباب اهـ. وفي الحديث تأكيد طلب الجماعة واحتمال خفيف التعب في حصوله. وذلك أن الغالب على من قرب داره من المسجد أن يعرف مكابد الطريق لقصره فيقل لحاق الضرر به، ثم الترخيص يحتمل أنه كان باجتهاد أو وحي ورفعه الناسخ له كان كذلك (روه مسلم) .(6/551)
41067 - (وعن عبد الله) حكاه المصنف في «التهذيب» بصيغة التمريض وقال: ويقال عبد الله بن زائدة، ويقال عامر بن زائدة، وقدّم ما حكاه هنا ممرضاً له بقوله (وقيل عمر بن قيس) بن زائدة، ويقال زياد بن الأصم، والأصم جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن بغيض بن عامر بن لؤي بن غالب القرشي العامري (المعروف بابن أم مكتوم المؤذن) أي للنبي (رضي الله عنه) قال المصنف في «التهذيب» : الصحيح في اسمه عمرو كما ذكرنا أولاً، وقد ثبت في «صحيح مسلم» أن النبي سماه كذلك فقال لفاطمة بنت قيس في حديثها في طلاق زوجها: «اعتدى في بيت ابن عمك عمرو بن أم مكتوم» ونقل عن ابن الأثير أن الأكثر على أن اسمه عمرو قاله مصعب بن الزبير، وأم مكتوم: بالمثناة بصيغة المفعول اسمها عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بمهملة فنون ساكنة فكاف فمثلثة مفتوحتين ثم هاء: ابن عامر ابن مخزوم وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين رضي الله عنهما، لأن أم خديجة فاطمة بنت زائدة بن الأصم. هاجر ابن أم مكتوم إلى المدينة قبل مقدم النبي وبعده مصعب بن عمير، واستخلفه النبي ثلاث عشرة مرة في غزواته على المدينة، وشهد فتح القادسية وقتل بها شهيداً وكان معه اللواء، هذا هو المشهور. وذكر ابن قتيبة في «المعارف» أنه شهد القادسية ثم رجع إلى المدينة فمات بها، ونقل ابن الأثير هذا عن الواقدي، وهو الأعمى الذي ذكره الله تعالى في قوله: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} (عبس: 1، 2) وفضله مشهور، روي له عن رسول الله على ما قال ابن الجوزي ثلاثة أحاديث، قال: وقال البرقاني له حديثان (أنه قال: يا رسول الله إن المدينة) علم بالغلبة على طيبة دار الهجرة (كثيرة الهوام) بتشديد الميم جمع هامة كذلك هي خشاش الأرض ومنها المؤذيات كالأفعى والعقرب (والسباع) بكسر المهملة وتخفيف الموحدة آخر عين مهملة جمع سبع بفتح فضم أو سكون معروف، وقال في «المصباح» إسكان الباء هي اللغة الفاشية عند العامة، ولذا قال
الصغاني السبع والسبع لغتان، وقرىء بالإسكان في قوله تعالى: {وما أكل السبع} (المائدة: 3) وهو مروي عن الحسن البصري وطلحة بن سليمان وأبي حيوة، ورواه بعضهم عن ابن كثير أحد القراء السبعة، وبجمع المضموم على سباع كرجل ورجال لا جمع له على هذه اللغة غير ذلك، ويجمع على لغة السكون على(6/552)
أسبع كفلس وأفلس، وهذا كما خفف ضبع وجمع على أضبع، وقال ابن السكيت: الأصل الضم لكن أسكن تخفيفاً. ويقع السبع على كل ماله ناب يعدو به ويفترس كالذئب لا الثعلب، فإنه وإن كان ذا ناب إلا أنه لا يعدو به ولا يفترس، وكذا الضبع قاله الأزهري اهـ. ومراد ابن أم مكتوم مما ذكره الترخيص له في ترك حضور الجماعة كما جاء عنه مصرحاً في رواية، ففي «المشكاة» بزيادة «وأنا ضرير البصر فهل تجد لي من رخصة أن أصلي في بيتي» (فقال رسول الله: تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح) أي تسمع الأذان الذي فيه ما ذكر، وخصا بالذكر لأنهما الداعيان إلى الحضور (فحيهلا) عطف على جواب ابن أم مكتوم المقدر: أي قال نعم المصرح به في رواية «المشكاة» وزاد «ولم يرخص له» وحى هلاً بالتنوين هنا وفيه لغات تقدم بيانها (رواه أبو داود) قال في «المشكاة» بعد أن أورده بما ذكرناه عنه: ورواه النسائي (بإسناد حسن) ورواه الترمذي في الصلاة عن هارون بن زيد بن أبي الزرقاء عن أبيه عن سفيان عن عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن أم مكتوم (ومعنى حيهلاً: تعال) .
51068 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال) وأقسم مؤكداً للمخبر عنه بقوله (والذي نفسي بيده) أي بقدرته (لقد هممت) أي قصدت (أن آمر بحطب فيحتطب) بالبناء للمجهول: أي يجمع، وفي الصيغة إيماء إلى كلفة معاناة ذلك (ثم آمر بالصلاة فيؤذن) بالبناء للمفعول: أي يعلم (بها) أي بالإقامة المشروعة لها (ثم آمر رجلاً فيؤم الناس) لاشتغاله عن الإمامة بما دل عليه قوله (ثم أخالف) صيغة المفاعلة للمبالغة أذهب (إلى) بيوت (رجال) قال البرماوي: أي أخالف المشتغلين بالصلاة قاصداً إلى بيوت الذين لم(6/553)
يخرجوا إليها، قال الجوهري: هو يخالف إلى أمرأة فلان: أي يأتيها إذا غاب عنها. وفي «الكشاف» في قوله تعالى: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) تقول خالفني إلى كذا إذا قصده وأنت مولّ عنه (فأحرق) من التحريق والتفعيل لما ذكر فيما قبله (عليهم بيوتهم) هذا الحديث ظاهره مقوَ لمن قال بفريضة الجماعة عيناً. وأجاب عنه من قال إنها فرض كفاية بأنه ورد في قوم منافقين لا يشهدون الجماعة ولا يصلون العشاء فرادى والسياق يؤيده، فإنه افتتح الحديث في رواية أخرى بقوله «إن أثقل الى المنافقين صلاة العشاء والفجر» ومما يصرح به قوله في حديث ابن مسعود الآتي «ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق» وكيف يظن بأدنى الصحابة رضي الله عنهم أنه يؤثر أدنى غرض دنيوي على الصلاة مع رسول الله أو أن همة بتحريقهم لاستهانتهم بصلاة الجماعة لا لمجرد الترك، أو أن المراد بها الجمعة أو أناس تركوا نفس الصلاة لا الجماعة، وجواز التحريق اللام لهمه به كان قبل تحريم المثلة، وقوله «لا يعذب بالنار إلا خالقها» وتركه إما لكونه هم به اجتهاداً ثم نزل وحي بالمنع أو تغير اجتهاده (متفق عليه) .
61069 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من سرّه أن يلقى الله غداً) أي يوم القيامة أو في الزمن المستقبل (مسلماً) حال من فاعل يلقى (فليحافظ على هؤلاء الصلوات) أي يبالغ في حفظها مراعياً لأركانها وواجباتها وسننها وآدابها (حيث ينادى بهن) أي في المكان الذي يعلم بهن للاجتماع لصلاتهن من نحو المساجد (فإن الله شرع) أي أظهر وسن (لنبيكم) عبر به دون نحولي إيماء إلى اتباعه في المشروع لأنه الأصل ما لم يقم دليل الخصوصية (سنن) بضم ففتح جمع سنة: أي طرائق (الهدى) ضد الضلال (وإنهن)(6/554)
أي الصلوات (من سنن الهدى) أي بعضها أو مبتدؤها (ولو أنكم صليتم في بيوتكم) أي المكتوبة منفردين أو جماعة على وجه لا يظهر به الشعار (كما يصلي هذا المتخلف في بيته) فيه أقصى غاية من تحقيره وتبعيده عن مواطن القرب ولم أقف على من سماه (لتركتم سنة نبيكم) أي طريقه وهديه الذي أمر به من إظهار شعار الجماعة (ولو تركتم سنة نبيكم) (لضللتم) أي لوقعتم في الضلال ضد الهدى (ولقد رأيتنا) الواو فيه عاطفة على ما يتصيد مما قبله واللام مؤذنة بالقسم قبلها ورأى بصرية، وجملة (وما يتخلف عنها) أي عن الجماعة المدلول عليها بالسياق (إلا منافق معلوم النفاق) محل الحال في من فاعل رأى أو مفعوله، وجملة (ولقد كان الرجل يؤتى به) بالبناء للمجهول والظرف نائب فاعله مستأنفة (يهادى) بالدال المهملة مبنياً للمفعول: أي يتمايل (بين الرجلين) هما المعتمد عليهما (حتى يقام في الصف) غاية المهاداة (رواه مسلم) وفيه آكد حث وأبلغ داع على المحافظة على الصلوات في الجماعات وتحمل المشاق في تحصيلها ما أمكن (وفي رواية له) أي لمسلم (قال) أي ابن مسعود (إن رسول الله علمنا سنن) بفتح أوليه وبضم ففتح (الهدى) أي طريق الصواب والكمال وحثنا على الاعتناء بتحصيل الفضائل ما أمكن (الصلاة) أي جماعة كما يدل عليه السياق، وهو بالنصب بدل من سنن، وبالرفع مبتدأ محذوف الخبر: أي منها الصلاة جماعة
(في المسجد الذي يؤذن فيه) أي الذي يحصل بإقامة الجماعة فيه شعارها، خرج به مسجد البيوت ونحوه مما لا يحصل به ذلك.d
71070 - (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ما من) مزيدة لتأكيد استغراق النفي (ثلاثة) مقيمين (في قرية) قال في «المصباح» : القرية الضيعة. وفي كفاية(6/555)
المتحفظ: القرية كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قراراً ويقع على المدن وغيرها (ولا بدو) بوزن فلس خلاف الحضر (لا تقام فيهم الصلاة) أي جماعة (إلا قد استحوذ) أي غلب (عليهم الشيطان) حتى فوّتهم هذا الثواب الجزيل والأجر الجميل (فعليكم بالجماعة) أي الزموها، والباء مزيدة في المفعول وعلل ذلك بقوله مستأنفاً بيانياً (فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) أي الشاة البعيدة عن باقي الغنم المنفردة عنهن، شبه استيلاء الشيطان بوساوسه على المنفرد وتمكنه منه كيفما أراد عند بعده عن الجماعة باستيلاء الذئب على المنفردة من الغنم عند بعدها عن جماعتهنّ، ففي الكلام استعارة مكنية تتبعها استعارة تخييلية (رواه أبو داود) في الصلاة من «سننه» (بإسناد حسن) فرواه عن أحمد بن يونس عن زائدة عن السائب بن خنيس عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء، ورواه النسائي أيضاً في الصلاة عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن زائدة نحوه، قاله المزي في «الأطراف» .
192 - باب الحث على حضور الجماعة في الصبح والعشاء
خصا بالذكر لثقلهما على النفوس غالباً، لأن وقت الأولى وقت طيب النوم ولذته ولذا أمر المؤذن أن يقول في أذانه: الصلاة خير من النوم، والعشاء وقت العشاء مع غلبة الظلمة وقتها فاختصا بالتحريض عليهما لذلك.
11071 - (عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: من صلى العشاء في جماعة) يشمل قليل الجماعة من إمام ومأموم وكثيرها وفاضلها ومفضولها (فكأنما قام نصف الليل) أي بصلاة التهجد، إذ القيام في عرف الشرع عبارة عن ذلك، ففيه فضل الجماعة في العشاء (ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) ما أفاده ظاهره من ترتب(6/556)
حصول ثواب قيام جميع الليل لمن صلى الصبح جماعة وإن لم يصل العشاء جماعة غير مراد، بل إن المراد مجموع صلاتي العشاء والصبح جماعة كقيام الليل كله، فصلاة كل منهما جماعة كقيام نصف الليل كما يشهد بهذا التفصيل الحديث بعده (رواه مسلم) في الصلاة.
(وفي رواية للترمذي) في الصلاة من «جامعه» (عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من شهد العشاء في جماعة كان له كقيام نصف ليلة) أي مثل ثوابه غير مضاعف كما يومىء إليه قوله في الحديث قبله «فكأنما قام نصف الليل» (ومن شهد العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام اليلة) وإنما: حمل الحديث الأول على هذا الحديث لأن ذاك مجمل هذا مبين وهو يقضي به على المجمل، وإنما لم يجعل الحديثان من قبيل أنه أعلم أولاً بما اشتمل عليه حديث الترمذي هذا فأخبر به، ثم تفضل الله بما اشتمل عليه حديث مسلم فأخبر به ثانياً لأن الحديث واحد وليس متعدداً، فحمل حديث مسلم المجمل على حديث الترمذي البين الواضح (وقال الترمذي: حديث حسن صحيح) كذا في نسخ «الرياض» . والذي في «أطراف» المزي عنه الاقتصار على قوله حسن، وزاد: وقد روي من وجه عن عثمان موقوفاً ومن غير وجه عن عثمان مرفوعاً.
21072 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ولو يعلمون) أي الناس المذكورون أول الحديث، ولذا أتى المصنف بالعاطف أول الحديث تنبيهاً على أنه قطعة من الحديث (ما في العتمة والصبح) أي ما في شهود جماعتهما من الأجر العظيم المفصح به الحديثان قبله (لأتوهما ولو حبواً) فيه مزيد الحض على حضورهما (متفق عليه) وقد سبق(6/557)
الحديث بطوله في باب فضل الأذان.
31073 - (وعنه قال: قال رسول الله: ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء) أي جماعة لو منفرداً، وذلك لأن وقت الصبح وقت طيب الرقاد لحسن الهواء عنده، ووقت العشاء وقت غلبة النوم لمزاولة الأعمال النهارية، والمنافقون لا يؤمنون بالله، ولا يصلون إلا رياء، فهي أثقل الصلوات عليهم، لأنها لكونها تفعل في ظلام لا يحصل غرضهم من المراءاة الحاصلة في صلاة الثلاثة الباقية جماعة مع ما فيها من فوات لذة النوم حينئذ، بخلاف المؤمن فإنهما وإن كانتا في ذينك الوقتين أشق عليه إلا أن عظم ثوابهما المرتب عليهما يخفف عنه ألم معاناتهما (ولو يعلمون ما فيهما) لا يخفى ما فيه من الإيماء إلى عظم ثواب ذلك فكأن العبارة تضيق عن تفصيله (لأتوهما ولو حبواً، متفق عليه) .
193 - باب الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات
أي التي كتبها الله أي فرضها على عباده (والنهي الأكيد) أي المتأكد (والوعيد)(6/558)
ضد الوعد فالوعد في الخير والوعيد في الشرّ (الشديد في تركهن) أي أو واحدة منهن.
(قال الله تعالى) : ( {حافظوا} ) أي داوموا ( {على الصلوات} ) أي المفروضات ومن المحافظة عليهن الإتيان بأركانهن وشرائطهن.
(وقال تعالى) : ( {فإن تابوا} ) أي من الكفر ( {وأقاموا الصلاة} ) من التقويم أي أتوا بها جامعة ما تتوق صحتها عليه لا من الإقامة المقابلة للأذان إذ هي سنة ( {وآتوا} ) أي أعطوا ( {الزكاة} ) المفروضة ( {فخلوا سبيلهم} ) كسائر المؤمنين. ومن هذه الآية وحديث ابن عمر مرفوعاً «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها» أخذ إمامنا الشافعي أن من ترك الصلاة كسلاً حتى أخرجها عن وقت الضرورة يقتل حداً إن لم يتب.
11074 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله أي الأعمال أفضل) أي أكثر ثواباً عند الله تعالى (قال الصلاة على وقتها) أي أداؤها فيه، وعبر بعلى إيماء إلى استعلاء استحقاقها الوقت إذ لا يجوز إخلاؤه عنها بغير عذر، والتفضيل فيه بالنسبة لما بعده كما يدل عليه قوله (قلت: ثم أي) بالتنوين قيل وبتركه (قال بر الوالدين) أي الإلطاف معهما حسب الإمكان (قلت: ثم أي) بالتنوين قيل وبتركه (قال بر الوالدين) أي الإلطاف معهما حسب الإمكان (قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) أي قتال الكفار لإعلاء كلمة الله طلباً لمرضاته، والحديث صريح في تقديم بر الوالدين على الجهاد، وأصرح منه ما في حديث مسلم وغيره «أن رجلا جاء إلى رسول الله يستأدنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد» (متفق عليه) وقد تقدم بشرحه في باب بر الوالدين.(6/559)
21075 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: بني الإسلام على خمس) أي أعمدة أو دعائم كما زاده عبد الرزاق، وفي رواية لمسلم على خمسة بتاء التأنيث وكلاهما جائز عند حذف المميز فإن ذكر أنث أو ذكر بحسب حاله كما قاله المصنف في حديث «من صام رمضان وستاً من شوال» في «شرح مسلم» ، وفعل وعلى فيه بمعنى الباء عند من قال الإسلام قول، ومنه حديث «بني الإسلام على خمس» وفعل واعتقاد، والإلزام أن يكون غيرها ضرورة كون المبني غير المبني عليه أو بمعنى من كما في «إلا على أزواجهم» أي إلا من أزواجهم. وأما عند من قال هو التصديق فبناؤه على الأربعة ظاهر، والشهادة قطبها الذي تدور هي عليه. وفي الحديث على هذا استعارة تمثيلية شبهت حالة الإسلام مع أركانه الخمسة بحالة خباء أقيم على خمسة أعمدة فقطبها التي تدور عليه الأركان وهو الشهادة بمنزلة العمود الذي في وسط الخباء وبقية شعبه بمنزلة الأوتاد، فتكون مغايرته لهذه الأركان كمغايرة الخباء للأعمدة، قاله الكازوني، وخالفه الدلجي فقال: وفي الحديث استعارة مكنية فتشبيهه به استعارة مكنية، وتشبيه الخمس بالأعمدة تشبيه بليغ بشهادة زيادة عبد الرزاق «خمس أعمدة» وهو قرينة المكنية، وقولهم قرينتها تكون تخييلية جرى على الغالب، وإلا فقد تكون تحقيقية كما في {الذين ينقضون عهد الله} () وإسناد البناء إليه ترشيح وليس استعارة تمثيلية وإن زعم، إذ لم يذكر المشبه به الذي هو من شرطها كما في مالي أراك تقدم رجل وتؤخر أخرى. فإن الوليد بن يزيد شبه حال تردد مروان بن الحكم في البيعة له بالخلافة بحالة من قام لأمر فتارة يعزم فيقدم رجلاً وتارة يحجم فيؤخر أخرى فهي تمثيلية، وفي جعله استعارة تبعية تكلف لا يخفى اهـ. وفي «الفتح المبين» لابن حجر الهيتمي: واستعمال البناء الموضوع للمحسوسات في المعاني مجاز علاقته المشابهة، شبه الإسلام ببناء عظيم محكم وأركانه الآتية بقواعد ثابتة محكمة حاملة لذلك
البناء، فتشبيه الإسلام بالبناء استعارة مكنية، وإثبات البناء له استعارة ترشيحية اهـ. فتوافقا في المكنية وافترقا في قرينتها، فجعل ابن حجر في قرينتها الترشيحية وجعلها شيخه الدلجي التشبيه البليغ (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) بالجر عطف بيان أو بدل كل من كل إن اعتبر العطف(6/560)
سابقاً على الإبدال، وبدل بعض من كل إن اعتبر العطف متأخراً عنه، وعلى هذا يحمل إطلاق الدلجي في «شرح الأربعين» أنه بدل بعض وبالرفع خبر مبتدأ محذوف وبالنصب مفعول، أعني قال الكازروني في «شرح الأربعين» : لكن الرواية على الأول (وإقام الصلاة) حذف التاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها، قاله الزجاج، وقيل هما مصدران، وقال الدلجى: التعويض عن المحذوف منه لازم إما بالتاء أو بالمضاف إليه اهـ، فتحصل فيه ثلاثة أوجه أشهرها الأول وإقامتها الإتيان بها جامعة الأركان والشروط (وإيتاء الزكاة) أي إعطائها مستحقها (وحج البيت) بفتح الحاء لغة الحجاز وكسرها لغة تميم نجد وكلاهما مصدر، وقيل المكسور هو الاسم منه، قال ابن حجر الهيتمي: وفي كونه بالفتح اسم مصدر نظر (وصوم رمضان) وجاء في بعض الروايات تقديمه على الحج والواو لا تقتضي الترتيب وإلا فالصوم فرض قبل الحج إجماعاً، وهذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده فإنه قد جمع أركانه (متفق عليه) . ورواه أحمد والترمذي والنسائي.
31076 - (وعنه قال: قال رسول الله: أمرت) بالبناء للمجهول للعلم بالفاعل: أي أمرني الله (أن أقاتل الناس) أي غير أهل الكتاب ومن ألحق بهم من المجوس (حتى) أي إلى أن (يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) أي يقروا بذلك وينطقوا بمضمونه (ويقيموا الصلاة) أي يأتوا بها جامعة الأركان والشرائط (ويؤتوا) أي يعطوا (الزكاة) الواجبة عليهم، أما أهل الكتاب فيقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (فإذا فعلوا ذلك) أي ما ذكر (عصموا) أي منعوا (مني دماءهم) فلا يجوز قتلهم (وأموالهم) فلا يجوز أخذها منهم (إلا بحق الإسلام) وذلك في الدماء بالقصاص وزنى المحصن وارتداد المسلم، وفي الأموال بالزكوات والكفارات والنفقات الواجبة عليهم لممونهم (وحسابهم على الله) أي إن الشارع عليه السلام إنما أمر بإجراء الأحكام على الظواهر وتفويض أمر البواطن إلى عالم(6/561)
السرائر فيحاسبهم على ذلك (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربعة، وقد تقدم في باب إجراء أحكام الناس على ظواهرهم.
41077 - (وعن معاذ) هو ابن جبل الأنصاري (رضي الله عنه قال: بعثني) أي أرسلني (النبي إلى اليمن) أي أميراً على بعض أعماله (فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) لأنهم كانوا يهوداً (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) أي إلى الإقرار بذلك لساناً مع الصديق به جناناً، وقدمها لأنها الأساس لسائر الأعمال (فإن هم) فاعل محذوف دل على تعيينه قوله (أطاعوا لذلك) أي انقادوا له (فأعلمهم أن الله افترض) أي فرض. والتعبير بالافتعال إشارة إلى مزيد الاعتناء بذلك الفرض فينبغي مزاولته والاهتمام به (عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك) بالتصديق والعمل به (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة) هي زكاة الأموال والأبدان (تؤخذ) بالبناء للمفعول (من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم) في محل الصفة لصدقة أو الحال منه لتخصيصه بتقديم الظرف فهو كما في حديث «وصلى وراءه رجال قياماً» أو أنه مستأنف استئنافاً بيانياً كأنه قيل: ماذا يفعل بهذه الصدقة؟ فقال: تؤخذ الخ (فإن أطاعوا لذلك) بالانقياد والبذل (فإياك) منصوب على التحذير بعامل محذوف وجوباً (وكرائم) جمع كريمة: أي نفائس (أموالهم) بل خذ من الوسط من المال فلا تؤخذ من الخيار لئلا يجحف بالمالك، ولا من الأرداء لئلا يجحف بالفقراء (واتق) أي احذر (دعوة المظلوم) حذر من المرة من دعواته ليحذر من دعواته المتكررة بالأحرى، وعلل ذلك بقوله (فإنه) أي الشأن (ليس(6/562)
بينها وبين الله حجاب) كناية عن سرعة إجابتها ونفوذ أثرها وقضيتها (متفق عليه) وسبق مشروحاً في باب تحريم الظلم.
51078 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إن بين الرجل) ذكر ليس للتخصيص فالمرأة مثله فيما يأتي (وبين) أعيدت تأكيداً (الشرك والكفر) من عطف العام على الخاص، فالشرك أن يعبد مع الله غيره من صنم أو نحوه، والكفر فعل ذلك وغيره من المكفرات (ترك الصلاة) اسم إن قدم عليه الخبر وهو الظرف لإفادة التخصيص والقصر الإضافي، إذ تقديم المعمول يفيد ذلك غالباً، فالصلاة هي الحد الفاصل بين وجهي الإسلام والكفر، فمن اتصف بصفة الإسلام وصلى فقد أوجد الحاجز بينه وبين الكفر فلا يتطرق إليه الاتصاف به، ومن اتصف بها ولم يصل لم يوجد حاجز بينه وبين الاتصاف بالكفر، إذ لا واسطة بين الوصفين عند أهل السنة، فهذا ما يظهر في تقرير هذا الحديث من أن الحاجز من الاتصاف بالكفر هو الصلاة، وأن تركها بمثابة هدم الحاجز الذي بينك وبين عدوك فيتمكن منك بمجرد هدمه، إذ يصح أن يقال بيني وبين لقاء عدوي هذا الحاجز، فكذا هنا يصح أن يقال بين الإسلام والاتصاف بالكفر هدم الحاجز المانع له منه وهو الصلاة وهدمها تركها، قاله في «فتح الإله» وقال: هو أظهر مما قال الطيبي وغيره لما في قولهم من تأويل الحديث من غير حاجة (رواه مسلم) .
61078 - (وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي قال: العهد الذي بيننا وبينهم) قال البيضاوي: الضمير للمنافقين، شبه الموجب لإبقائهم وحقن دماءهم بالعهد المقتضي بقاء المعاهد والكف عنه، والمعنى: أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عليهم تشبيههم(6/563)
بالمسلمين في حضور صلواتهم ولزوم جماعاتهم وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا هم وسائر الكفار سواء: وقال الطيبي: يمكن أن يقال الضمير عام فيمن بايع رسول الله على الإسلام مؤمناً كان أو منافقاً (الصلاة فمن تركها فقد كفر) لا يخفى ما فيه من تعظيم شأن الصلاة والحث على فعلها والحض على ملازمتها (رواه الترمذي) ورواه أحمد وابن ماجه والنسائي وابن حبان والحاكم في «المستدرك» كما في «الجامع الصغير» (وقال: حديث حسن صحيح) .
71080 - (وعن شقيق) بالمعجمة والقافين بوزن رفيق (ابن عبد الله التابعي) هو كما تقدم من اجتمع بالصحابي ولازمه مدة على الصحيح (المتفق على جلالته رحمه الله قال: كان أصحاب محمد) جمع صاحب بمعنى الصحابي، والمراد معظمهم للخلاف الآتي في ذلك (لا يرون) من الرأي (شيئاً من الأعمال) الظرف في محل الصفة لما قبله، وكذا قوله (تركه كفر) أو في محل المفعول الثاني ليرون (غير الصلاة) مستثنى من ضمير شيء المضاف إليه ترك أو صفة أخرى لشيئاً (رواه الترمذي في كتاب الإيمان) من «جامعه» (بإسناد صحيح) خالف ابن حجر الهيتمي فقال في «شرح المشكاة» : وسنده حسن، وقول المصنف في مثل هذا هو المقام.
إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام
واختلف العلماء في حكم هذه المسألة الوارد فيها هذه الأحاديث وأحاديث أخر بمضمونها أو قريب منه، فأخذ جماعة من الصحابة ومن بعدهم بظاهره من أن ترك إحدى(6/564)
الخمس كسلاً كفر حقيقي فيرتب عليه أحكام الردة. وقال الأكثرون: ليس بكفر، وأولوه بحمله على المستحل لتركها إن لم يكن معذوراً بقرب عهد بإسلام أو بنشئه ببادية بعيدة عن العلماء، أو على أن تركها يؤدي إلى الكفر لأن المعاصي بريد الكفر، أو على الزجر والتغليظ ومن ثم قال الشافعي كبعض أئمة السلف من تركها كسلاً قتل مع الحكم بإسلامه. وقال الزهري وجماعة: يحبس ويضرب حتى يصلي، أو على كفر النعمة إذ حقيقة العبودية أن يخضع العبد لربه ويشكر نعماءه الظاهرة والباطنة، وحقيقة المتصف بالكفر أن يستنكف عن ذلك، ولا شك أن الصلاة رأس الشكر قوامه، فكأنه قيل الفرق بين المؤمن والكافر ترك أداء شكر المنعم الحقيقي، فمن أقامها فهو المؤمن الكامل ومن تركها فهو الكافر لنعم مولاه المقصر في شكرها.
81081 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله أي المتعلق بحق الله تعالى (صلاته فإن صلحت) بفتح اللام وذلك باستجماع مصححاتها وفقد مفسداتها (فقد أفلح وأنجح) أي فاز وظفر بمطلوبه (وإن فسدت) لفقد ركن أو شرط أو وجود ما يفسدها من قول أو عمل (فقد خاب) أي لم يظفر بما طلب (وخسر) أي هلك أو خسر في تجارته الأخروية فلم يربح الثواب المرتب على عملها لو كانت صحيحة (فإن انتقص) أي نقص (من فريضته شيئاً) أي غير مفسد تركه لها ويحتمل مطلقاً (قال الرب عزّ وجل) في التعبير بالرب إيماء إلى أن ما ذكر بعده من مظهر التربية لما فيه من الترقية من دنس الإخلال إلى شرف التكميل (انظروا) الخطاب والله أعلم للملائكة الموكلين به (هل لعبدي) في إضافته من التشريف ما يذهب التدنيس (من تطوع) أي من نافلة من الصلاة (فيكمل) بالبناء للمجهول (بها) أي بالنافلة (ما انتقص من الفريضة) فتعود كاملة بعد نقصها (ثم تكون سائر أعماله) من صوم وحج (على هذا) أي فيكمل نقص فرائضة منها بنقلها، ولا منافاة بين حديث الباب وحديث «أول ما يقضي فيه يوم القيامة بين العباد الدماء» الحديث، لأن ذلك بالنسبة لحق العباد وهذا بالنسبة لحق الله(6/565)
تعالى: (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وفي «شرح المشكاة» : إنه حديث صحيح، ففيه حث على إتقان الفرائض والاهتمام بمصححاتها وترك مفسداتها، وحض على إكثار النوافل لتكون جابرة لخلل الفرائض الذي لا يخلو منها إلا الفذّ النادر.H
194 - باب فضل الصف الأول
هو الصف الذي يلي الإمام على الصحيح وإن تخلله نحو منبر أو مقصورة وإن تأخر أصحابه، وهو في المسجد الحرام من بحاشية محل الطواف دون من تقدم عليه إلى الكعبة، بل قرب المأموم إليها على الإمام في غير جبهته مكروه مفوت لفضل الجماعة كما في «التحفة» لابن حجر. وقيل الأول ما لم يتخلله شيء وإن تأخر أصحابه، وقيل هو من جاء أولاً وإن صلى في صف متأخر. قال المصنف في «شرح مسلم» : وهذان القولان غلط صريح: أي وإن جرى الغزالي على أولهما (والأمر بإتمام الصفوف الأول) أي لا يصف الثاني حتى يتم الأول والثالث حتى يتم الثاني وهكذا (وتسويتها) أي عدم تقدم بعض من بالصف على بعض (والتراص فيها) بحيث لا يكون فيها فرجة تسع مصلياً.
11082 - (عن جابر بن سمرة) بضم الميم كما تقدم (رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله فقال: ألا) بتخفيف اللام حرف استفتاح جيء بها لتنبيه السامع لما بعدها (تصفون) أي تسوون صفوفكم للصلاة (كما تصف الملائكة عند) قيامها لطاعة (ربها، فقلنا يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول) بضم(6/566)
ففتح: أي لا يشرعون في صف حتى يكمل ما قبله، ومنه أخذ أصحابنا استحباب ذلك على التأكد فتكره مخالفته ويفوت بها ثواب الجماعة (ويتراصون) من التراص وهو الاجتماع والانتظام قال تعالى: {كأنهم بنيان مرصوص} (الصف: 4) (في الصف) أي بحيث لا يبقى بينهم فرجة وهذا أيضاً سنة متأكدة يترتب على تركها ما ذكر فيما قبله (رواه مسلم) ورواه أبو داود والنسائي.
21083 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله: قال لو يعلم الناس) أي لو علموا (ما في النداء) أي الأذان (والصف الأول) أي من الثواب والشرف الذي يضيق نطاق العبارة عن بيانه كما يومىء إليه حذفه (ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا) أي يقترعوا (عليه) أي على ما ذكر لضيق الصف الأول عن جميعهم والوقت عن أذان كلهم (لاستهموا) لعظم فضلهما (متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب فضل الأذان.
31084 - (وعنه قال: قال رسول الله: خير صفوف الرجال أولها) لقربهم من الإمام واستماعهم قراءته ومشاهدتهم لأحواله وصلوات الله وملائكته عليهم كما جاء في الأحاديث، ويليه في ذلك ثانيها ثم ثالثها وهكذا، والصف الأول أفضل حتى بمكة والمدينة على الأصح عندنا، وذلك لجريان خلاف مشهور عندنا في بطلان صلاة الذين هم أقرب إلى الكعبة في غير جهة الإمام، ففي فضيلة الإتباع ما يزيد على المضاعفة الحاصلة للصف الثاني مثلاً الواقف في الروضة الشريفة، ومن ثم صرحوا بأفضلية النافلة في البيت عليها في مسجد مكة(6/567)
والمدينة نظراً للاتباع وإن فاتت المضاعفة بناء على اختصاصها بالمسجد (وشرها آخرها) لحرمانهم ثواب تلك الفضائل الحاصلة لمن قبلهم، بل لوقوعهم في فتنة قربهم من النساء المؤدي إلى الاطلاع على بعض ما ينكشف منهن (وخير صفوف النساء آخرها) لبعده عن الرجال بعداً تنتفي معه الفتنة قطعا أو غالباً، ولامتثال أهله لما أمروا به من مزيد الستر والاحتجاب، ويليه في ذلك من قبله وهكذا (وشرها أولها) لقربه من الرجال المؤدي إلى الفتنة بهم والخير والشر في الصفين أمر نسبي باعتبار كثرة الثواب وقلته، وأيضاً فالتأخر عن الكمال مع القدرة عليه فيه غاية الهضم للقدر والتسفيه للرأي والتفنع بسفساف الأمور وعدم التطلع إلى معاليها، فلا يعد في تسميته شراً لذلك ولأنه يجر إليه كما يعلم مما يأتي في شرح قوله «ولا يزال قوم يتأخرون» الخ (رواه مسلم) ورواه أبو داود
والترمذي والنسائي.
41085 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله رأى في أصحابه تأخراً) أي في صفوف الصلاة أو في أخذ العلم (فقال لهم: تقدموا فائتموا) أي اقتدوا (بي وليأتم بكم من بعدكم) معناه على الأول: ليقف خلفي من غير تأخر كثير بأن لا يزيد ما بينهم وبينه على ثلاثة أذرع، وكذا ما بين كل صف، وما يليه أهل الفضل والصلاح ثم خلفهم من هو دونهم في ذلك وهكذا، ومعنى ائتمام كل صف بمن قبله أنه يتبعه في حركاته لأن من قبله أسرع علماً بانتقالات الإمام منه، وعلى الثاني ليتعلم كل منكم العلوم الظاهرة والباطنة مني وليتعلم التايعون منكم وهكذا قرناً بعد قرن إلى آخر الدهر (لا يزال قوم يتأخرون) أي عن اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل (حتى يؤخرهم الله) عن رحمته وعظيم ثوابه وفضله ورفيع منزلة أهل قربه حتى يكون عاقبة أمرهم النار كما جاء في رواية: (رواه مسلم) وفيه آكد حث على التسبق إلى معالي الأمور والأخلاق، وأبلغ زجر عن الميل إلى الدعة والرفاهية، وأبلغ تنبيه إلى أن ذلك يؤدي إلى تجرع غصص البعد والغضب، أعادنا الله من ذلك بمنه.(6/568)
51086 - (وعن أبي مسعود) عقبة بن عامر البدري (رضي الله عنه قال: كان رسول الله يمسح مناكبنا في الصلاة) أي يسويها بيده الكريمة حتى لا يخرج بعض الصف عن بعضه (ويقول) أي حال تسوية المناكب كما هو الظاهر من السياق، ويحتمل كونها معطوفة على الجمثة الخيرية قبلها (استووا) في التصاف (ولا تختلفوا) بأن يتدم منكب بعضكم على منكب بعض (فتختلف) بالنصب لأنه في جواب النهي (قلوبكم) أي، أهويتها وإرادتها (ليلني) أي ليدن مني بحذف الياء وتخفيف النون كذا في جميع النسخ هنا، وفي إحدى رواياته بفتح الياء وتشديد النون على أنها للتوكيد كما تقدم في باب توفير العلماء والكبار، وبتخفيف النون مع الياء قيل وهي غلط لأن حقه لكونه أمراً باللام حذف الياء. وأجيب بأن عدم حذف الجازم لحرف العلة لغة صحيحة. قلت: هذا إن كانت الياء ساكنة، فإن كانت مفتوحة والنون للتأكيد خفيفة فلا يحتاج لجواب كما كان مع الثقيلة (منكم أولو الأحلام) جمع حلم بالكسر كأنه من الحلم وهو الأناة والتثبت في الأمر وذلك من شعار العقلاء (والنهي) بضم ففتح جمع نهية بالضم وهو العقل لأنه ينهي صاحبه عن القبائح، هذا ما جرى عليه المصنف في غير «شرح مسلم» وقال فيه: النهي العقول، وأولوا الأحلام هم العقلاء، وقيل البالغون، فعلى الأول اللفظان بمعنى، ولاختلافهما لفظاً عطف أحدهما على الآخر تأكيداً وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء اهـ. وفي «المجموع» : أولوا الأحلام معناه البالغون العقلاء الكاملون في الفضيلة، وقد نقل المصنف بعض هذا الخلاف في الباب المذكور آنفاً (ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميزين، المراهق وغيره سواء (ثم الذين يلونهم) وهو الخناثى ويصح أن يراد بهم النساء وذكرهم على وزن ما قبله (رواه مسلم) .
61087 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: سووا صفوفكم) بترك تقدم بعض على آخر فيها، قال الشيخ تقي الدين القشيري: تسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد، وقد تدل تسويتها أيضاً على سدّ الفرج فيها بناء على التسوية المعنوية،(6/569)
واتفقوا على أن المراد تسويتها بالمعنى الأول، وأن الثاني أمر مطلوب أيضاً (فإن تسوية الصف) المراد به الجنس بدليل رواية الصوف بصيغة الجمع الآتية (من إقامة الصلاة) وفي رواية «من تمام الصلاة» وفي رواية «من حسن الصلاة» (متفق عليه) .
(وفي رواية للبخاري) أي عن أنس أيضاً (فإن تسوية الصفوف) أي بصيغة الجمع (من إقامة الصلاة) وفي «الجامع الصغير» بعد إيراده كذلك رواه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه. قال ابن رسلان: في هذا رد على من قال المفرد المحلى بأل لا يعم، ووجهه أنه أضاف. الصفوف بصيغة الجمع فعمت ثم أفردها فلو لم يكن للعموم لتناقض بالعموم في الأول والخصوص في الثاني.
71088 - (وعنه قال: أقيمت الصلاة) وفي رواية ذكرها في «المشكاة» الصفوف (فأقبل علينا رضي الله عنه بوجهه) تأكيداً إذ الإقبال لا يكون إلا به (فقال: أقيموا صفوفكم) أي داوموا على إقامتها واعتنوا بها لعظم جدواها وشرف غايتها، هذا إن كان صدر منه بعد تمام الإقامة وإن كان قبلها فمعناه اجعلوها كذلك (وتراصوا) أي تلاصقوا بالمناكب حتى لا يكون بينكم فرجة (فإني أراكم من وراء ظهري) أي حقيقة فأعلم ما يقع منكم ثم الرؤية قيل بعينه معجزة له، وقيل بغير ذلك مما يأتي (رواه البخاري بلفظه) المذكور (ورواه مسلم بمعناه) ولفظه «أتموا الصفوف فإني أراكم من وراء ظهري» ولا ينافي هذا الحديث حديث «لا أعلم ما وراء جداري» لأن هذا خاص بحالة الصلاة، لأنه لما حصل له فيها قرة العين بما أفيض عليه فيها من غايات القرب المختص بها التي لا يوازيه فيها غيره صار بدنه الشريف كالمرآة الصافية التي لا تحجب ما وراءها، وقل كان له بين جنبيه عينان كسم الخياط لا تحجبهما الثياب (وفي رواية للبخاري) من حديث أنس أيضاً (وكان أحدنا يلزق منكبه) بفتح الميم وكسر الكاف: هو مجتمع رأس العضد والكتف (بمنكب صاحبه(6/570)
وقدمه بقدمه) مبالغة في التراص الذي أمروا به. وعند البخاري أيضاً: قال النعمان بن بشير «رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه» .
81089 - (وعن النعمان بن بشير) الأنصاري (رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: لتسوّن) بصيغة المبني للفاعل وحذف الواو الفاعل لملاقاتها ساكنة مع النون المدغمة ودلالة الضمة عليها (صفوفكم) أي بعدم تقدم بعض من فيها على بعض وعدم الانتقال إلى الثاني حتى يكمل الأول (أو) للتنويع (ليخالفنّ الله بين وجوهكم) أي ليكونن أحد الأمرين تسوية الصفوف أو مخالفة الوجوه بتحويلها إلى أدباركم، أو بمسخها على صورة بعض الحيوان أو وجوه قلوبكم الخبر أبي مسعود السابق «فتختلف قلوبكم» أي أهويتها وإرادتها، وحينئذ تثور الفتن وتختلف الكلمة وتنحل شوكة الإسلام والمسلمين فيتسلط العدو ويفشو المنكر وتقل العبادات في ذلك من المفاسد ما لا يحصى (متفق عليه) .
(وفي رواية لمسلم) أي عن النعمان أيضاً (أن رسول الله كان يسوي صفوفنا حتى) غاية التسوية (كأنما يسوي بها القداح) جمع قدح بكسر فسكون وهو السهم قبل أن يراش ويركب نصله، وعكس فيه التشبيه إذ الظاهر كأنما يسويها بالقداح مبالغة في استوائها، لأن القدح لا يصلح لما يراد منه إلا بعد نهاية الاستواء، وجمع في مقابلة الصفوف: أي يسوى كل صف بقدح (حتى رأى أنا قد عقلنا عنه) أي لم يبرح يسويها حتى استوينا فيها الاستواء الذي أراده منا وفهمناه من قوله وفعله (ثم خرج يوماً فقام حتى كاد) أي قارب (يكبر) أي للإحرام (فأي رجلاً بادياً) أي ظاهراً (صدره من الصف) لخروجه عن مساواة من فيه،(6/571)
وبادياً صفة رجل ورجل مفعول رأي البصرية (فقال: عباد الله) لم ينهه بخصوصه جريا على عادته الكريمة مبالغة في الستر (لتسوّن صفوفكم) اللام هي مؤذنة بالقسم المقدر ولذا أكد الفعل بالنون (أو ليخالفن الله بين وجوهكم) أي والله ليكونن أحد الأمرين، فيه من التوبيخ والتهديد الغاية، وفيه آكد حث على تسوية الصفوف وأبلغ زجر عن ترك تسويتها لما يترتب عليه من المخالفة المتقدم معناها والخلاف فيه.
91090 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يتخلل الصف) أي يذهب خلله نحو يتأثم ويتحنث: أي يتحرج من الوقوع في الإثم والحنث (من ناحية إلى ناحية) أي يستوعبه من سائر أطرافه (يمسح صدورنا ومناكبنا) بيده الكريمة حتى لا يخرج بعضها عن بعض (ويقول لا تختلفوا) بالتقدم والتأخر في الصف (فتختلف قلوبكم) أي أهويتها المؤدي إلى ما لا يحصى من المفاسد (وكان يقول) حثاً على تكميل الصفوف والمبادرة إلى الأقرب منها للإمام (إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول) بضم ففتح: أي بأن يكونوا في غير الأخير، وتسمية ما بين الصف الأول وهو الذي يلي الإمام والأخير صفوفاً أول مجاز لأنها كذلك بالنظر للأخير. ففيه تأكيد إتمام الصف الأول ثم الثاني وهكذا، فالصفوف الأول خير الصفوف للرجال وعكسه للنساء كما تقدم في حديث أبي هريرة (رواه أبو داود) في الصلاة من «سننه» ورواه النسائي أيضاً فيها (بإسناد حسن) فرواه أبو داود عن هناد وأبي عاصم أحمد بن خواس الحنفي كلاهما عن أبي الأحوص عن منصور عن طلحة بن مطرف عن عبد الرحمن بن عويجة الهنمي، ويقال الهمداني، ويقال الهمداني الكوفي، ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي الأحوص بالسند المذكور، كذا في «أطراف» المزي.(6/572)
101091 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: أقيموا الصفوف) بتسويتها كما جاء في رواية بلفظ: سووا الصفوف (وحاذوا بين المناكب) وذلك إنما يكون عند مساواة كل للغير في المسامنة في الصف (وسدوا الخلل) أي الفرج التي في الصفوف وذلك بأن تتراصوا حتى لا يبقى فيها فرجة ولا سعة، والفرق بينهما أن الفرجة خلاء ظاهر، والسعة أن يكونوا بحيث لو دل بينهم آخر لوسعه من غير مشقة تحصل لأحد (ولينوا بأيدي إخوانكم) أي إذا أخذوا بها ليقدموكم أو يؤخروكم حتى يستوي الصف لتنالوا فضل المعاونة على البر والتقوى، ويصح أن يراد: لينوا بيد من يجركم من الصف: أي وافقوه ليزيلوا عنه وصمة الانفراد المبطلة للصلاة عند بعض (ولا تذروا فرجات) بضمتين أو بضم فسكون جمع فرجة (للشيطان) أضيفت إليه لأنها محل تردده للإغواء (ومن وصل صفا وصله الله) أي بإدرار أصناف رحمته وإغداق هوامع نعمته والجملة مستأنفة (ومن قطع صفاً قطعه الله) أي عن مواسم الخيرات وحقائق المبرات. وفيه أبلغ حث على وصل الصفوف بسد فروجها وتكميلها بأن لا يشرع في صف حتى يكمل ما قبله، وأبلغ زجر عن قطعها بأن يقف في صف وبين يديه صف آخر ناقص أو فيه فرجة، ومن تأمل بركة دعائه للواصل وخطر دعائه المقبول الذي لا يرد على القاطع وكان عنده أدنى ذرة من الإيمان بادر إلى الوصل وفر عن القطع ما أمكنه (رواه أبو داود) ورواه أحمد والطبراني كما في «الجامع الصغير» (بإسناد صحيح) ورواه أحمد أيضاً كما في «المشكاة» بلفظ «سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم ولينوا في أيدي إخوانكم وسدوا الخلل فإن الشيطان يدخل بينكم بمنزلة الحذف» يعني بمنزلة أولاد الضأن الصغار، وعدم تعقيبه الحكم بصحة الإسناد بوصف المتن بما يخالف ذلك يشعر بصحة الحديث عنده على القاعدة في مثله.
111092 - (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: رصوا صفوفكم) أي حتى(6/573)
لا يبقى فيها فرجة ولا خلل (وقاربوا بينها) بأن يكون ما بين كل صفين ثلاثة أذرع تقريباً، فإن بعد صف عما قبله أكثر من ذلك كره لهم وفاتهم فضيلة الجماعة حيث لا عذر من حر أو برد شديد وهذا في غير النساء، أما هن فيسن لهن التأخر عن الرجال كثيراً (وحاذوا بالأعناق) ينبغي تفسيره بالمحاذاة بالمناكب التي سبق الأمر بها قولاً وفعلاً، إذ يلزم في المحاذاة بالأعناق بأن لا يتقدم عنق أحدهم ولا يتأخر المحاذاة بالمناكب (فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصفوف) أي فرجها أو تباعدها عن بعضها بأكثر مما مرّ (كأنها الحذف) ببه بهذا الإقسام العظيم على تأكيد التراص والتقارب لعظم فائدتهما وهي منع دخول الشيطان بينهم المستلزم لتسلطه وإغوائه ووسوسته حتى يفسد عليهم صلاتهم وخشوعهم الذي هو روح الصلاة وعود بركة ما فيها من الأنفاس الطاهرة على البقية، ولا مذهب للشيطان وكيده أعظم من الذكر الصادر من القلب الصالح ثم تأنيث ضمير كأنها الراجع إلى الشيطان صحيح لأنه اسم جنس بمعنى الشياطين فيجوز تذكير ضميره رعاية للفظه كما ورد به أيضاً وتأنيثه رعاية لمعناه وفيه أوجه أخر هذا أحسنها (حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح) فرواه عن مسلم بن إبراهيم عن أبان، عن قتادة، عن أنس (على شرط مسلم) أي برجال روى مسلم حديثهم في الصحيح، وإلا فليس لأحد من الشيخين شرط منصوص عليه في كتابيهما المذكورين، ورواه النسائي في الصلاة أيضاً من «سننه» عن محمد بن عبد الله بن المبارك عن أبي هشام المخزومي عن قتادة.
(الحذف بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين ثم فاء: وهي غنم سود صغار تكون باليمن) أو بالحجاز واحده حذفة بالتحريك سميت بذلك لأنها محذوفة عن مقدار غالب جنسها، وتقدم تفسيرها في حديث أحمد مرفوعاً بنحوه.
121093 - (وعنه أن رسول الله قال: أتموا الصف المقدم) أي الأول وذلك بسد فرجه(6/574)
حتى لا يبقى منها ما يسع واحداً (ثم) أي بعد تمام الأول أتموا الصف (الذي يليه) وهو الثاني وهكذا (فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر) أي الأخير (رواه أبو داود) في الصلاة من سننه (بإسناد حسن) فرواه عن محمد بن سليمان الأنباري عن عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس، ومن هذا الحديث الصريح في إتمام الصف الأول والثاني أخذ أصحابنا قولهم يسن إتمام الصف الأول ثم الذي يليه حتى لا يبقى نقص في غير الأخير، وفيه أن من وقف قبل إتمام ما قبله كان مقصراً تاركاً للسنة فيفوته فضل الجماعة.
131094 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) أي الصفوف التي في ميمنة الإمام، ومنه أخذ أئمتنا أفضلية الوقوف عن يمين الإمام ولو تعارض مع القرب من الإمام ما استوجهه أئمتنا، والمراد أنه يسن إذا وصل المأموم المسجد ووجد الناس متوسطين الإمام ووجد فرجة على يمينه وأخرى عن يساره أن يسد فرجة اليمين، فلا يلزم من تفضيل التيامن فوات سنة توسيط الإمام المطلوب أيضاً، ومحل طلب التيامن إذا كانت جهته تسع جميع الجاءين وإلا سن التسابق إليها والباقون يصلون في اليسرى، كما أن السنة إتمام الصف الأول ثم الثاني وهكذا (رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم) فرواه عن عثمان بن أبي شيبة عن معاوية بن هشام عن سفيان عن أسامة بن زيد عن عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة (وفيه رجل مختلف في توثيقه) هو معاوية بن هشام، قال في «الكاشف» : قال ابن معين: معاوية بن هشام صالح وليس بذاك في «التهذيب» للذهبي: وقال فيه أبو داود إنه ثقة، وقال يعقوب ابن أبي شيبة: كان من أعلمهم بحديث شريك هو إسحاق الأزراق اهـ.e قال المصنف في «الخلاصة» : وفيه رجل(6/575)
مختلف فيه، وصححه أبو القاسم الطبراني، وأشار البيهقي إلى تضعيفه والمختار تصحيحه فلم يذكر ما يقتضي ضعفاً اهـ. وعبارة البيهقي التي أشار إليها في «الخلاصة» هي قوله بعد إيراد الحديث باللفظ المذكور لك المحفوظ بهذا الإسناد عن النبيّ «إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف» ثم ذكر له طرقاً متنها كما ذكره ثم قال: قال الطبراني: كلاهما صحيحان، قال البيهقي: يعني الإسنادين، أما المتن الأول فإن معاوية بن هشام انفرد به، ولا أراه محفوظاً فقد رواه عبد الله بن وهب وغيره عن أمامة نحو رواية الجماعة «يصلون على الذين يصلون الصفوف» اهـ. وكأن وجه عدم تضعيف ذلك الحدث المذكور أنه لا يلزم من روايتهم بهذا الإسناد ذلك المتن أن لا يروي به غيره متناً آخر،
والسكوت عن الشيء لا ينقيها والله أعلم. قال في «الجامع الصغير» : والحديث رواه ابن حبان في «صحيحه» وأبو نعيم في «حليته» أيضاً، والحديث رواه ابن ماجه بهذا الإسناد.
141095 - (وعن البراء رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا خلف النبيّ) فيه الإيماء إلى ندب تأخر المأموم عن الإمام وإن كانت المساواة له في الموقف لا تبطل الصلاة (أحببنا أن نكون عن يمينه) أي واقفين بجهة يمناه، وعلل حبهم ذلك على طريق الاستئناف البياني بقوله (يقبل علينا بوجهه) ولا مخالفة بين هذا الحديث وحديث ابن ماجه «من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر» لاختلاف زمنهما كما قال المحدثون، وذلك أنه لما حث على التيامن عمرت جهة اليمين وازدحموا عليها فتعطلت الميسرة فقال ذلك، ذكره الدميري في «الديباجة» (فسمعته يقول) خضوعاً لربه وتعظيماً لأمته (رب قنى عذابك يوم تبعث، أو) شك من الراوي (تجمع عبادك) والمراد منه عليهما يوم القيامة وطلب الوقاية من عذابه لأنه أشد العذاب وأعظمه (رواه مسلم) ورواه ابن ماجه أيضاً مقتصراً على قوله تبعت من غير شك.
151096 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: وسطوا الإمام) أي(6/576)
اجعلوا موقفه وسط المصلى ليقف المأموم عن يمينه وعن يساره، وما دل عليه صدر هذا الحديث مزيد على الترجمة، ولا عيب في ذلك إنما المعيب خلوّ الباب عن بعض ما في الترجمة (وسدوا الخلل) بأن لا يبقى ثمة ما يسع مصلياً سداً لمداخل الشيطان كما تقدم (رواه أبو داود) وقد رمز السيوطي في «جامعه الصغير» عليه برمز الحسن.
151096 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: وسطوا الإمام) أي اجعلوا موقفه وسط المصلى ليقف المأموم عن يمينه وعن يساره، وما دل عليه صدر هذا الحديث مزيد على الترجمة، ولا عيب في ذلك إنما المعيب خلوّ الباب عن بعض ما في الترجمة (وسدوا الخلل) بأن لا يبقى ثمة ما يسع مصلياً سداً لمداخل الشيطان كما تقدم (رواه أبو داود) وقد رمز السيوطي في «جامعه الصغير» عليه برمز الحسن.
195 - باب فضل السنن الراتبة مع الفرائض
التابعة لها قبلية أو بعدية (وبيان أقلها) عدداً (وأكملها) أي عدداً أيضاً أو ثواباً (وما بينهما) أي من المرتبتين من المرتبة الوسطى عدداً أو فضلاً.
11097 - (وعن أم المؤمنين أم حبيبة) بفتح المهملة وكسر الموحدة الأولى وسكون التحتية بينهما (رملة) بفتح الراء وسكون الميم، هذا قول الأكثرين وهو الأصح المشهور، وقيل اسمها هند (بنت أبي سفيان) صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشية الأموية المكية، ثم الحبشية، ثم المدنية (رضي الله عنهما) بضمير المثنى كما في نسخة وهو الأولى لأنها صحابية بنت صحابي، وفي أخرى بضمير الواحدة كنيت بابنتها حبيبة بنت عبيد الله ابن جحش، كانت من السابقات إلى الإسلام هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبيشة فتوفي عنها، فتزوزجها رسول الله وهي هناك سنة ست من الهجرة، وقيل سنة سبع، وتوفيت سنة أربع وأربعين، وقيل قبل معاوية بسنة واستغرب، والصحيح أنها ماتت بالمدينة قال ابن منده: سنة اثنتين وأربعين، وقيل سنة أربع وأربعين، وكان النجاشي أمهرها أربعة آلاف درهم وبعثها إلى النبي مع شرحبيل بن حسنة، وقال أبو نعيم: أمهرها النجاشي أربعمائة دينار، وقيل غير ذلك، وقدمت المدينة ولها بضع وثلاثون سنة اهـ ملخصاً من «التهذيب» . روى لها عن رسول الله خمسة وستون حديثاً، رويا في «الصحيحين» أربعة منها، اتفقا على اثنين، وانفرد مسلم باثنين (قالت: سمعت رسول الله يقول: ما من(6/577)
عبد مسلم يصلي لله تعالى) أي مخلصاً لذاته (كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة) صفة مؤكدة للتطوع، وهو لغة الزيادة، وشرعاً ما عدا الفرائض (إلا بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة أو) شك من الراوي (إلا بنى) بالبناء للمجهول وسكت عن ذكر الفاعل للعلم به (له بيت في الجنة) وهذا الحديث بعمومه يعطي أن الوعيد المرتب فيه على صلاة ما ذكر شامل للرواتب وغيرها من الضحا وصلاة الإشراق وغيرهما، فإيراد المصنف له في هذا الباب لأن الرواتب من جملة ما رتب عليه هذا الوعد (رواه مسلم) .
21098 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صليت مع رسول الله ركعتين قبل الظهر ركعتين بعدها) والركعتان القبليتان والركعتان والبعديتان للظهر من سننه المؤكدة، ويسن أيضاً ركعتان قبل وركعتان أخريان بعد إلا أنهما ليستا مؤكدتين، والمفعول من السنن للظهر هو المفعول للجمعة يومها، فالاقتصار على قوله (وركعتين بعد الجمعة) باعتبار ما فعله ابن عمر مع رسول الله وعاينه (وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء) وفي «الصحيحين» عنه بزيادة في بيته: أي صليت معه ما ذكر في بيته وهو موافق للخبر الصحيح «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» وسكت عن ركعتي الصبح لما جاء عنه في الصحيح حدثتني حفصة «أن النبي كان يركع ركعتين خفيفتين بعد ما يطلع الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي فيها» والله أعلم. فالسنن المؤكدة عشر: ركعتا الفجر وثنتان قبل الظهر وأخريان بعده وركعتان بعد كل من المغرب والعشاء (متفق عليه) .(6/578)
31099 - (وعن عبد الله بن مغفل) بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد الفاء وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المحافظة على السنة وفي باب فضل الزهد أيضاً (قال: قال رسول الله: بين كل أذانين) فيه تغليب الأذان لشرفه على الإقامة (صلاة) مطلوبة وأكد هذا الأمر بتكريره بقوله (بين كل أذانين صلاة) والتكرير عناية بالمقام وحث على فعل ذلك بينهما، وعموم قوله صلاة متناول للركعة، لكن اتفق الفقهاء على أن المراد ركعتان، ويزداد كل من الظهر والعصر ركعتين أيضاً (قال) أي النبي (في المرة الثالثة) من تكريراته (لمن شاء) أي طلبه ذلك بينهما ليس على سبيل الجزم والتحتم بل على سبيل الندب والاستحباب ووكل ذلك لخيرة المكلف، فإن أراد الاستكثار من الثواب وزيادة الدرجات في الجنة جاء بذلك، وإن تركه فلا إثم عليه، نعم قال أصحابنا: مداومة ترك الرواتب مسقط للشهادة (متفق عليه) وفي «الجامع الصغير» بعد إيراده من غير تكرير، ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة كلهم من حديث ابن مغفل، ورواه البزار من حديث بريدة بزيادة إلا المغرب (المراد بالأذانين الأذان والإقامة) .
196 - باب تأكيد ركعتي سنة الصبح
أي ما جاء مما يدل على تأكدهما من فعله وقوله.
11100 - (عن عائشة رضي الله عنها أن النبي: كان لا يدع) أي لا يترك لاهتمامه بها (أربعاً قبل الظهر) والأفضل فعل كل ركعتين بتسليمة وهذا يقتضي تأكيد أربع قبل الظهر، والمعروف في كتب الفقه أن المؤكد منها اثنتان، وكأنه لحديث آخر ورد بذلك فيه تخفيفاً لأمر(6/579)
الثنتين بتركهما أحياناً وهذا بحسب ما رأته عائشة مما كان يفعله بمنزلها في نوبتها (وركعتين قبل الغداة) أي الصبح (رواه البخاري) .
21101 - (وعنها قالت: لم يكن النبي على شيء من النوافل أشد) خبر يكن، ويجوز خلاف ذلك، قاله في «فتح الإله» (تعاهداً) قال في «فتح الباري» : وفي رواية معاهدة والمعنى تفقداً، يقال تعاهده وتعهده واعتهده: أي تفقده وأحدث به وهو تمييز عامله أفعل التفضيل (منه على ركعتي الفجر متفق عليه) وأخرجه أبو داود والنسائي والترمذي في رواية لأبي داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله «لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل» .
31102 - (وعنها عن النبي قال: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) أي من الجمادات ونحوها، وخير أفعل تفضيل إن قوبلت بما فيه خير كالذكر، وبمعنى أصل الفعل إن قوبلت بما لا خير فيه من أعراض الدنيا وزهرتها (رواه مسلم. وفي رواية لهما) أي ركعتا الفجر (أحب إليّ) ويلزم منه كونهما أحب إلى الله تعالى لأن لا يحب إلا ما أحبه مولاه (من الدنيا جميعاً) وفي النسائي «ركعتان قبل الفجر خير من الدنيا جميعاً» .
41103 - (وعن أبي عبد الله) ويقال أبو عبد الكريم ويقال أبو عبد الرحمن ويقال أبو(6/580)
عبيد (بلال) بكسر الموحدة (ابن رباح) بفتح الراء الموحدة آخره مهملة الحبشي التيمي مولى أبي بكر الصديق وأمه حمامة رضي الله عنها مولاة لبني جمح (رضي الله عنه مؤذن رسول الله) أي أحد مؤذنيه وعدتهم ستأتي في كتاب الصوم، كان بلال قديم الإسلام والهجرة، شهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله، وكان ممن يعذب في الله فيصبر على العذاب، وكان أمية بن خلف يعذبه ويتابع عليه العذاب فقدر الله أن بلالاً قتله ببدر، وكان بلال أول من أسلم أوّل النبوّة ومن أول من أظهر إسلامه وكانوا يطوفون به ويعذبونه وكان من مولدي مكة وقيل من مولد السراة، اشتراه أبو بكر بخمس أواقي ذهب وقيل سبع وقيل تسع وأعتقه لله وآخى رسول الله بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، وكان بلال يؤذن لرسول الله حياته سفراً وحضراً، وهو أول من أذن في الإسلام، ولما توفي رسول الله ذهب للشام للجهاد فأقام بها إلى أن مات وقيل أذن لأبي بكر مدته وأذن لعمر مرّة حين قدم الشام فلم يُرباك أكثر من ذلك اليوم وأذن في قدومه إلى المدينة لزيارة قبره طلب ذلك منه بعض الصحابة فأخذ ولم يتم، روى عنه جماعات من الصحابة منهم الصديق وعمر وعليّ. وكان عمر يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا وفضائله مشهورة، توفي بدمشق سنة عشرين وقيل إحدى وعشرين وقيل ثمانية عشر وهو ابن أربع وستين سنة وقيل غير ذلك، ودفن بباب الصغير من دمشق وقبل غير ذلك. قال ابن السمعاني: والقول بأنه دفن بالمدينة غلط. والصحيح أنه بباب الصغير، انتهى ملخصاً من «التهذيب» للمصنف. روي له أربعة وأربعون حديثاً. وقال البرقي جاء عنه خمسة أحاديث، اتفق الشيخان على حديث منها وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بحديث (إنه أتى رسول الله ليؤذنه) أي يعلمه (بصلاة الغداة) أي الصبح، وعند الطبراني في «معجمه الأوسط» عن بلال «أنه كان يقول
عند إعلامه: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته رحمك الله» وعنده في «معجمه الكبير» عن قتادة «أن عثمان كان إذا جاءه المؤذن يؤذنه بالصلاة قال مرحباً بالقائلين عدلاً وبالصلاة مرحباً وأهلاً» وقتادة لم يسمع من عثمان (فشغلت) بفتح حر في الفعل المعجمين وما وبالصلاة مرحباً وأهلاً» وقتادة لم يسمع من عثمان (فشغلت) بفتح حر في الفعل المعجمين وما بعدها والتاء للتأنيث ساكنة (عائشة) رضي الله عنها (بلالاً بأمر سألته عنه) فيه جواز حديث المرأة لعتيق أبيها وسؤالها إياه عما تحتاج إليه وطول الحديث معه وإن كان جاء في حاجة لزوجها وتعظيمه لحرمتها في عدم إنكاره عليها وإعلامها أنها شغلته(6/581)
ما جاء بسببه وأن المصلين ينتظرون حضور رسول الله ليصلي بهم (حتى أصبح) أي دخل في الصبح (جداً) بكسر الجيم (فقام بلال فآذنه) بالمد: أي أعلمه (بالصلاة وتابع) بالمثناة فالموحدة بينهما ألف: أي وإلى وكرر (أذانه) أي إعلامه بأن أتبع بعضه بعضاً وذلك لما رأى من الإصباح (فلم يخرج رسول الله) أي إليه (فلما خرج) أي بعد ذلك (صلى بالناس) واعتذر إليه بلال (فأخبره) أن سبب تأخره بالأذان (أن عائشة شغلته بأمر سألته عنه حتى أصبح جداً وإنه) أي النبيّ (أبطأ عليه) أي على بلال (بالخروج) حتى تابع أذانه (فقال) وقوله (يعني النبي) من المصنف تعيين لمرجع الصمير الستكنّ في الفعل (إني كنت ركعت ركعتي الفجر) جوز ابن رسلان أن يريد بهما فرضه وأن يريد بهما سنته، ثم قال: ولعل الأخير أصوب. قلت: وهو الذي يدل له صنيع المؤلف (فقال يا رسول الله إنك أصبحت جداً) أي وذلك مقتض للاهتمام بأمر الفريضة وترك النافلة (قال) أي النبي له (لو أصبحت أكثر مما أصبحت) أي ولم أكن ركعتهما (لركعتهما وأحسنتهما) بالإتيان بالسنن والهيئات (وأجملتهما) بالآداب والتطوعات. وفيه أن من ترك فعل الصلاة أول وقتها لغير عذر شرعي بل لنحو بيع أو شراء أن يأتي بها فيه زائدة عما كان يصليها
أوله من القراءة والتسبيح والدعاء والطمأنينة والخشوع ما بقي الوقت ويكون فيها خجلاً مستحيياً معترفاً بالتقصير لتأخير الصلاة عن أول وقتها وحرمانه فضيلته لذنب صدر منه ويتصدق ويعتق كما كان يفعل السلف. قال ابن رسلان: وهذا شأن ذوي القلوب اليقظة والناس اليوم عملهم بخلاف ذلك فإنهم يؤخرونها اشتغالاً بأمر دنياهم عن أول الوقت ثم يفعلونها آخره مقتصرين على الفرض دون السنة وينقصون عما كانوا يعتادون من القراءة إذا صلوها أوله ويتركون الأذكار والطمأنينة كما جاء في صلاة المنافق «ينقر فيها أربع نقرات لا يذكر الله إلا قليلاً» انتهى ملخصاً (رواه أبو داود) في الصلاة من «سننه» (بإسناد حسن) فرواه عن أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة وهو عبد القدوس ابن الحجاج الحمصي الخولاني عن عبد الله بن العلاء عن أبي زياد عبيد الله بن زياد الكندي عن بلال.(6/582)
197 - باب تخفيف ركعتي الفجر
أي قراءة وأركاناً بأن يقتصر من الوارد فيهما على المجزىء في كل منهما مسارعة لأداء الفرض (وبيان ما يقرأ فيهما، وبيان وقتهما) إعادة بيان لمزيد البيان.
11104 - (عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يصلي ركعتين، خفيفتين) أي وذلك بتخفيفه أركانهما باقتصار على المجزىء منها، وهذا بيان مستند الأول، من الترجمة (بين النداء) أي الأذان (والإقامة من) سببية (صلاة الصبح) أي بسببها أو ابتدائية وهذا بيان لوقتها (متفق عليه. وفي رواية لهما) أي الشيخين من حديث عائشة بلفظ (يصلي ركعتي الفجر) أي السنة بدليل قوله (فيخففهما) لأنه كان شأنه إطالة ركعتي فرضه (حتى أقول) وفي البخاري ومسلم «حتى إني أقول» أي من شدة تخفيفهما (هل قرأ فيهما بأم القرآن) أي حتى أتردد في إتيانه بالفاتحة وليست شاكة في قراءته لها، بل إنه لما بالغ في تخفيفها جداً وعادته تطويل النفل جعلته مبالغة كأنه لم يقرأ، وسميت أمّ القرآن لاشتمالها على معاني القرآن: المبدأ: وهو الثناء على الله تعالى، والمعاش، وهو العبادة، والمعاد: وهو الجزاء (وفي رواية لمسلم) أي أنفرد بها عن البخاري من حديثها أيضاً (كان يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان) أي انفرد بها عن البخاري من حديثها أيضاً (كان يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان) أي بعد تمامه لأنه حال الأذان مشغول بإجابته (ويخففهما) مسارعة لأداء الفرض الذي كان يطيل قراءته فيه (وفي رواية) أي عنها (إذا طلع الفجر) أي بدل قوله إذا سمع الأذان والمآل واحد لأن وقت الأذان وقت طلوعه فأفادت هذه الرواية مبادرته بهما وإسراعه لأدائهما اعتناء بشأنهما.(6/583)
21105 - (وعن حفصة رضي الله عنها أن رسول الله: كان إذا أذن المؤذن للصبح وبدأ الصبح) جملة حالية بتقدير قد، وهي لدفع توهم فعلهما عقب الأذان الأول المشروع قبل دخول وقته، والمراد من الصبح الفجر الصادق وهو الذي يطلع معترضاً في الأفق (صلى ركعتين خفيفتين، متفق عليه) .
(وفي رواية لمسلم) أي من حديثهما (كان رسول الله إذا طلع الفجر) أي تحقق طلوع الفجر الصادق (لا يصلى) من النوافل (إلا ركعتين خفيفتين) وذلك ليتسع الوقت للفريضة.
31106 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي يصلي من الليل) أي فيه أو يتهجد بعضه، وفيه إيماء إلى أنه لم يقم طول الليل، وأن السنة نوم بعضه أداء لحق البدن والنفس وقيام بعضه أداء لحق الله تعالى (مثنى مثنى) بلا تنوين وتكريره للتأكيد ومنع صرفه للعدل والوصف. قال في «الكشاف» : لتكرر العدل أي ركعتين ركعتين ومن ثم كان الأفضل في صلاة الليل فعلها كذلك (ويوتر بركعة) في آخر جزء (من آخر الليل) فيه أن أقل الوتر ركعة وأنها مفصولة عما قبلها بالتسليم وبه قال الأئمة الثلاثة خلافاً لأبي حنيفة (ويصلي الركعتين) أي سنة الفجر (قبل صلاة الغداة) أي الصبح، ففيه أنها سنة قبلية (وكأن) بالهمز وتشديد النون (الأذان بأذنيه) أي لقرب صلاته من الأذان قال في «فتح الباري» : والمراد بها(6/584)
هنا الإقامة. والمعنى أنه كان يسرع ركعتي الفجر إسراع من يسمع إقامة الصلاة خشية فوات أول الوقت (متفق عليه) أخرجه البخاري في الوتر ومسلم في الصلاة، ورواه أيضاً فيها الترمذي. وقال حسن صحيح، ورواه ابن ماجه مختصراً فقال «كان يصلي الركعتين قبل الغداة» كأن الأذان بإذنه وقال في موضع آخر منه «وكان يصلي من الليل مثنى مثنى ويوتر بركعة» .
41107 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله كان يقرأ) وفي رواية أبي داود عن ابن عباس أيضاً «أنه كثيراً ما كان يقرأ» (في ركعتي الفجر) وأبدل منهما بدل مفصل من مجمل على اعتبار سبق العطف على الإبدال وأعاد العامل فقال (في الأولى منهما) أي الركعتين (قولوا آمناً بالله وما أنزل إلينا الآية) بالنصب: أي أتم الآية وبالرفع: أي هي الآية (التي في) سورة (البقرة) واحترز بذلك عن الآية التي في سورة آل عمران وهي: {قل آمناً بالله وما أنزل إلينا} () الآية (وفي الآخرة منهما آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) كذا في نسخ «الرياض» مثل ما في «صحيح مسلم» ، والمراد كما قال ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» أنه يبدأ في الركعة الأولى بقوله «قولوا آمناً بالله» وفي الثانية بقوله «آمناً» ويختم فيهما بقوله «ونحن له مسلمون» كذا قال في شرح حديث أبي داود ولفظه كلفظ هذه الرواية، وما حمله عليه تصحيف العبارة لأن آخر آية {آمناً بالله} التي في آل عمران كآخر آية {آمنا بالله} التي في البقرة، وهو قوله {ونحن له مسلمون} وأما {واشهد بأنا مسلمون} فهو آخر آية أخرى في آل عمران هي قوله: {تعالوا إلى كلمة} (آل عمران: 64) الآية الآتية في الرواية بعده، والذي يظهر لي أن مراده أنه كان يقرأ في الثانية منهما بقوله {آمنا بالله} الآية وبالآية الأخرى إلى آخرها {وأشهد بأنا مسلمون} (آل عمران: 52) فذكر أول إحداهما وآخر الثانية،(6/585)
ويكون اقتصار الرواية الثانية الآتية على الآية الثانية إما نسياناف من الراوي أو غفلة من المخبر له، والله أعلم.
51108 ـــ......................
(وفي رواية) عن ابن عباس أيضاً (وفي الآخرة التي في آل عمران: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) أي الآية بجملتها، فذكر في هذه الرواية أولها وفي الرواية الأولى آخرها (رواهما مسلم) من طريقين عن ابن عباس وهما عند أبي داود أيضاً، وعنده أيضاً عن أبي هريرة «أنه سمع النبيّ يقرأ في الركعة الأولى: {قولوا آمناً بالله وما أنزل إلينا} الآية التي في البقرة وفي الآخرة {قل آمناً بالله وما أنزل إلينا} إلى آخر الآية كما صرح به ابن رسلان وبهذه الآية {ربنا آمناً بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} (آل عمران: 53) أو {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} (البقرة: 119) .
61109 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رمقت النبي شهراً) قال في «المصباح» : رمقته بعيني من باب قتل أطلت النظر له اهـ والمراد به التفحص والتتبع (يقرأ في الركعتين(6/586)
قبل) فرض (الفجر: قل يا أيها الكافرون) أي في الأولى (وقل هو الله أحد) أي في الثانية (رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال الأصحاب: فيسن الجمع بين ذلك كله بأن يأتي في الأولى بآية البقرة وبقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية بآية البقرة إنا أرسلناك وآي آل عمران وقل هو الله أحد، ولا ينافي ذلك تخفيفهما لأنه نسبي وهذا تخفيف بالنسبة إلى الصلاة المطولة، والله أعلم.
198 - باب استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
أي في المسجد وفي البيت كما يومىء إليه عموم حذفه التقييد بذلك (على جنبه الأيمن) ليتذكر بذلك ضجعته في القبر فيحمله ذلك على الخشوع الذي هو لب العبادة، فإن تعذر الأيمن فالأيسر لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. قال في «فتح الباري» : ويحتمل أنه يومىء بالاضطجاع، ولم أقف فيه على نقل إلا أن ابن حزم قال: يومىء ولا يضطجع على الأيسر أصلاً وحمل الأمر بالأيمن على غير الندب اهـ (والحث عليه) أي على الاضطجاع المذكور (سواء كان تهجد بالليل أم لا) وعليه فقيل فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، قال في «الفتح» : وعليه فلا يتقيد بالأيمن، قال الشافعي: تتأدى السنة بكل ما يحصل به الفصل من مشي وكلام وغيره، وقال: المختار أنها سنة لظاهر حديث أبي هريرة، وقد قال أبو هريرة الراوي: إن الفصل بالمشي إلى المسجد لا يكفي، وقال ابن(6/587)
العربي: لا يستحب إلا للمتهجد، قال في «فتح الباري» : ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول «إن النبي لم يكن يضطجع لسنته، ولكنه كان يدأب ليلته فيستريح» وفي إسناده راو لم يسم، وعلى هذا ففائدتها الراحة، وقيل فائدتها الفصل بين الفرض والسنة، ومقابل استحبابها قول مالك وجماعة من الصحابة ومن بعدهم إنها بدعة، وأيده القاضي عياض وغلطه فيه المصنف وقال: الصواب استحبابه، قال في «فتح الباري» : وهو محمول على أنهم لم يبلغهم الأمر بفعله. على أن كلام ابن مسعود يدل على أنه أنكر تحتمها، وما حكى عن ابن عمر من أنه بدعة قد شذ بذلك اهـ. وقول ابن حزم إنها واجبة وإنها شرط لصحة صلاة الصبح، قال في «فتح الباري» : رد عليه العلماء بعده حتى طعن ابن تيمية ومن تبعه في صحة الحديث لتفرد عبد الرحمن بن زياد به وفي حفظه مقال. والحق أنه تقوم به الحجة ومقابل استحبابه في كل من البيت والمسجد قول بعض السلف إنه مخصوص بالبيت دون المسجد، قال في «فتح الباري» : وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا بأنه لم ينقل عن النبي أنه
فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر «أنه كان يحصب من يفعله في المسجد» أخرجه ابن أبي شيبة اهـ.
11110 - (عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن) وذلك لشرفه ولأنها هيئة الإنسان في القبر فيتذكر بذلك فتحمله على الخشوع (رواه البخاري) قال الحافظ في «الفتح» : قيل الحكمة في ذلك أن القلب في جهة اليسار، فلو اضطجع عليه لاستغرق نوماً لكونه أبلغ في الراحة، بخلاف اليمين فيكون القلب معلقاً فلا يستغرق. وفي أن الاضطجاع إنما يطلب إذا كان على الشق الأيمن اهـ.
21111 - (وعنها قالت: كان رسول الله يصلي فيما) أي في الوقت الذي (بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر) أي وقت صلاتها: أي ما بين صلاة العشاء وطلوع(6/588)
الفجر (إحدى عشرة ركعة) وجاء عنها في رواية أخرى «ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة» (يسلم بين كل ركعتين) جملة حالية من ضمير يصلي أو مستأنفة (ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر) أي من أذان صلاته (وتبين) أي ظهر (له الفجر) الصادق جملة معطوفة على الفعل قبلها، واحترز به عن الأذان الأول للفجر (وجاءه المؤذن) ليؤذنه بالصلاة ودخول وقتها (قام) فإن كان به مقتضي غسل اغتسل وإلا توضأ (فركع ركعتين خفيفتين) أي بالاقتصار على أقل كمالاتهما وتخفيفهما مسارعة لأداء الفرض بعدهما (ثم اضطجع) أي بعد فعلهما (على شقه الأيمن) واستمر كذلك (حتى يأتيه المؤذن للإقامة) أي معلماً له باجتماع الناس للصلاة (رواه مسلم) .
(قولها) أي عائشة (يسلم بين كل ركعتين هكذا هو في مسلم) أي فيوهم أنه يسلم بعد كل ركعة ويصدق ذلك على ما عدا الأخيرة وليس دلك مرادها قطعاً (ومعناه) أي وإنما معنى قولها المذكور (بعد كل ركعتين) كما جاء ذلك من فعله وقوله، كقوله «صلاة الليل مثنى مثنى» .
3 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع) أي عقب فعلهما (على يمينه) أي شقة الأيمن (رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة) فرواه أبو داود عن مسدد وأبي كامل الجحدري وعبيد الله بن عمر بن عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة: ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ الغفاري عن عبد الواحد بسنده المذكور، وحينئذ فمدار الحديث عندهما على عبد الواحد بسنده المذكور فليس له إلا سند واحد، ففي قوله(6/589)
بأسانيد ما لا يخفي (قال الترمذي حديث حسن صحيح) غريب.
199 - باب سنة الظهر قبلية وبعدية
11113 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صليت مع رسول الله ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها. متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب فضل السنن الرواتب، وتقدم أن من السنن المؤكدة ركعتين قبليتين للجمعة ومثلهما بعدها.
21114 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان لا يدع) أي لا يترك (أربعاً قبل الظهر) مقتضاه مداومته عليها أبداً فتكون مؤكدة وسبق أن المؤكد ثنتان، وكأنه لما ورد مما يدل على تسهيله في اثنتين منها (رواه البخاري) وسبق مشروحاً في باب تأكيد ركعتي الفجر، وما فعله المصنف فيه تقطيع الحديث والاقتصار على بعض وحذف بعض والصحيح جواز ذلك بشرط أن لا يكون للمذكور تعلق بالمحذوف من كونه غاية له أو شرطاً أو مستثنى منه.(6/590)
31115 - (وعنها قالت) وفي نسخة رسول الله (كان النبي يصلي في بيتي) إضافة البيت إليها لكونه سكنها وإلا فهو ملك لرسول الله كسائر مساكن أزواجه (قبل الظهر أربعاً ثم يخرج) الظاهر أن التراخي المدلول عليه بثم كان طلب الاجتماع المصلين وتكاثرهم (فيصلي بالناس) أي المكتوبة (ثم يدخل) والإتيان بثم لتراخي الدخول بما قد يشتغل به بعد أدائها من تبليغ شرائع وقضاء بين متخاصمين ونحو ذلك (فيصلي ركعتين) أي عقب الدخول كما تومىء إليه الفاء (وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل) أي بعد فعلها، والإتيان بثم لذلك (فيصلي ركعتين ويصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين) الإتيان بالواو في قولها (ويدخل) يحتمل أن يكون للإيماء إلى عدم تراخي دخوله عن صلاتها لأنه كان يكره الحديث بعدها إلا في خير، ويحتمل أنها مرادة بها وخالفت بين الحرقين تفننا في التعبير (رواه مسلم) .
41116 - (وعن أم حبيبة) بفتح المهملة وكسر الموحدة الأولى وهي أم المؤمنين سبقت ترجمتها (رضي الله عنها) قريباً (قالت: قال رسول الله: من حافظ) التعبير بصيغة المبالغة للمبالغة: أي من اهتم بالحفظ وبالغ فيه (على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله) أي بفعل ذلك، وفي رواية «حرم الله لحمه» (على النار) أي كونه فيها خالداً مؤبداً كالكافر. ففيه بشارة للمحافظ عليها بالموت على الإسلام فلا ينافي ما تقرر من تعذيب بعض عصاة الموحدين لكن يشكل على هذا التأويل رواية «لم تمسه النار» إلا أن تؤول كذلك وفيه بعد وأجراه راويه على ظاهره، ففي رواية لأبي داود عن حسان بن عطية قال:(6/591)
لما نزل بعنبسة الموت جعل يتفرز فقيل له في ذلك فقال: أما إني سمعت أم حبيبة زوج النبي تحدث عن النبي «أنه من ركع أربع ركعات قبل الظهر وأربعاً بعدها حرم الله لحمه على النار فما تركتهن منذ سمعتهن» وفي رواية له عن محمد بن أبي سفيان قال «إنه لما نزل به الموت أخذه أمر شديد فقال: حدثتني أختي أم حبيبة قالت: قال رسول الله: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار» (رواه أبو داود والترمذي) والنسائي (قال) أي الترمذي (حديث حسن صحيح) .
51117 - (وعن عبد الله بن السائب) بالمهملة وبعد الألف همزة فموحدة قال المزي في «الأطراف» : واسمه صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وكنيته أبو عبد الرحمن المخزومي قارىء أهل مكة (رضي الله عنه) قال الذهبي في «الكاشف» : له صحبة قرأ على أبيّ ابن كعب، روى عنه مجاهد وعطاء. توفي في قتل ابن الزبير. خرج عنه مسلم والأربعة اهـ. قلت: روي له عن النبيّ سبعة أحاديث أخرج له مسلم فيها حديثاً واحداً ولم يخرج له البخاري، كدا في «مختصر التلقيح» لابن الجوزي (أن رسول الله كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس) وبه يدخل وقت الظهر (قبل الظهر) أي قبل فعل فرضها (وقال إنها) أي الساعة التي بعد الزوال (ساعة تفتح) بالبناء للمفعول (فيها أبواب السماء) أي لصعود الأعمال من الأرض كما يومىء إليه قوله (فأحب أن يصعد لي) أي يرتفع لي (فيها عمل صالح) وخير الأعمال الصلاة كما جاء كذلك في قوله «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» ويحتمل أن فتحها لهبوط الفيوض على أهل الأرض فتعرّض لحوزها بأعمال البر المرتبة تلك لفيوض عليها ترتب المسبب على السبب بالحكمة الإلهية (رواه الترمذي) والنسائي أيضاً (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) في إيراد هذا الحديث في هذا الباب ما لا يخفى لأن(6/592)
الذي فيه سنة الزوال وهي غير سنة الظهر. قال في «فتح الإله» : أخذ أئمتنا من الحديث أنه يسن أربع ركعات عقب الزوال وأقلها ركعتان، وروى خبر «راقبوا زوال الشمس فإذا زالت فصلوا ركعتين، فلكم أجر بعدد كل كافر وكافرة» وكأن وجه تخصيص الكفار بذلك وقوع هذه الصلاة عقب تسجير النار لهم اهـ. إلا أن يقال هي في وقت الظهر لدخوله بالزوال فعدت من سننه وإن كانت شكراً لله تعالى على نعمة تحوّل الشمس من كبد السماء إلى جهة المغرب.
61118 - (وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي كان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعدها) فيه مزيد الاهتمام منه بها، وقد جاء أنه بعد الظهر أربعاً أيضاً، وأمر بالمحافظة عليها في حديث أم حبيبة، فمن ثم قال أصحابنا: إن من الرواتب صلاة أربع قبل الظهر وأربع بعدها. وفي كلام عائشة إيماء إلى العناية بالسنة القبلية وتقديمها على المكتوبة، فإن أخرت عنها تدوركت فيما بقي من الوقت أداء وبعده قضاء (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ومما جاء في فضل الأربع قبل الظهر حديث ابن عمر قال: قال رسول الله «رحم الله امرأ صلى قبل الظهر أربعاً» رواه أحمد والترمذي، وحسنه أبو داود، وصححه ابن خزيمة وحبان وإن أعله ابن القطان. قلت: ومن مظاهر الرحمة المرتبة عليها ما رتب عليها في حديث أم حبيبة السابق في الباب من كونه سبباً للخلوص من الخولد في النار المؤذن بالموت على الإسلام، حققه الله لنا بمنه وكرمه.
200 - باب سنة العصر
وليس فيه إلا قبلية غير مؤكدة.
11119 - (عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان النبي يصلي قبل العصر) أي(6/593)
قبل صلاته (أربع ركعات) مفعول مطلق نحو قوله تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة} (الور: 4) (يفصل) جملة حالية من فاعل يصلي أو خبر بعد خبر أو مستأنفة (بينهن) أي بعد الركعتين (بالتسليم) وهو التحلل من الصلاة (على الملائكة المقربين ومن تبعهم) أي في توحيد الله سبحانه وتعالى (من المسلمين والمؤمنين) من عطف المتساويين، إذ الإسلام والإيمان متحدان ما صدقا وإن اختلفا مفهوماً، وما فعله من الفصل بالتسليم هو الأفضل لما فيه من زيادة الأعمال والأذكار، ويجوز صلاتهن بتسليم واحد، وكذا سنة الظهر قبلية وبعدية وسنة الزوال (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) .
21120 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: رحم الله امرأ) أي أحسن وأنعم، أو أراد ذلك لشخص (صلى قبل العصر أربعاً) عمومه متناول لفعلها موصولة ومفصولة، فقصر ابن رسلان لها على الموصولة أخذاً من حديث عليّ قبله غير ظاهر وجملة رحم الله خبرية لفظاً دعائية معنى نحو غفر الله لك (روه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) فيه إيماء إلى التبشير لفاعل ذلك بالموت على الإسلام الذي هو أعظم الرحمات وأسنى العطيات لابتناء نعيم الآخرة عليه.
31121 - (وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي كان يصلي قبل العصر ركعتين) لا مخالفة بينه وبين حديثه السابق، إما لأن مفهوم العدد غير حجة أو أنه كان يلازم أولاً ركعتين ثم زاد الآخرتين أو بالعكس، أو ترك الأخيرتين لأمر أهم أو لغير ذلك (روه أبو(6/594)
داود بإسناد صحيح) رواه عن حفص بن عمر الحوصي شيخ البخاري عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن عليّ. قال ابن حجر الهيثمي في «فتح الإله» : الحديث الأول ظاهر في داوم فعله للأربع مبنياً على المتعارف في كان، والثاني ظاهر في ركعتين منهن، وحينئذ فقول أصحابنا إنهن غير مؤكدات فيه نظر بالنسبة لهذين الخبرين المقتضي أولهما لتأكيد الأربع والثاني لتأكيد تنتين منها، وبه قال بعض أصحابنا اهـ. قال ابن رسلان: من قال إنها مؤكدة استدل بهذا الحديث.
201 - باب سنة المغرب بعدها وقبلها
ذكر الظرفين هنا دون الظهر للاهتمام بالقبلية للخلاف بين الأصحاب في استحبابها، ولا كذلك سنة الظهر القبلية والبعدية (تقدم في هذه الأبواب حديث ابن عمر) وذكر في باب فضل السنن الرواتي (وحديث عائشة) المذكور في باب سنة الظهر (وهما صحيحان) الأول متفق عليه والثاني لمسلم (أن النبيّ كان يصلي بعد المغرب ركعتين) .
11122 - (وعن عبد الله بن مغفل) بالغين المعجمة والفاء بصيغة المفعول من التغفيل (رضي الله عنه عن النبيّ قال: صلوا قبل المغرب) أي قبل صلاتها أي ركعتين كما في رواية صحيحة، وكرر ذلك ثلاثاً كما يدل عليه السياق حضاً وتحريضاً على الاهتمام بذلك (ثم قال) دفعاً لما يتوهم من الأمر من الوجوب سيما مع التكرار (في الثالثة لمن شاء) وفي(6/595)
الصحيح زيادة كراهية أن يتخذها الناس سنة: أي عزيمة لازمة متمسكين بقوله: صلوا وأصل الأمر للوجوب فتعليقه بالمشيئة لدفع ذلك كما تقدم (رواه البخاري) في «المشكاة» أنه متفق عليه.
21123 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: لقد رأيت) أي أبصرت (كبار) بكسر الكاف وتخفيف الموحدة جمع كبير (أصحاب النبي يبتدرون) جملة حالية من مفعول رأيت البصرية، ويجوز كونها علمية فتكون في محل المفعول الثاني: أي يستبقونه (السواري) جمع سارية: هي الأسطوانة كجارية وجواري: أي يستبقون أساطين المسجد النبوي، وكانت من جذوع النخل على عهده إلى عهد عثمان رضي الله عنه (عند المغرب. رواه البخاري) بهذا اللفظ في باب الصلاة إلى الأسطوانة وهو ثاني ثلاثياته في «صحيحه» ، ورواه في الأذان من «صحيحه» بلفظ «يبتدرون السواري حتى يخرج النبيّ وهي كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الإقامة والأذان شيء» وهذه الزيادة تسفر عن وجه ذكر هذا الحديث في باب سنة المغرب.
31124 - (وعن أنس) الأظهر وعنه كما في نسخة صحيحة (قال: كنا) أي معشر الصحابة (نصلى على عهد) أي زمن (رسول الله ركعتين بعد غروب الشمس) وتكامله (قبل المغرب) أي قبل صلاته (فقيل) لم أقف على تعيين السائل لأنس (أكان رسول الله صلاها) أي فيستدل لاستحبابها بفعله قال (كان يرانا) أي يبصرنا أو يعلمنا (نصليها فلم يأمرنا) أي بها على الانفراد وإلا فهي داخلة في عموم قوله «بين كل أذانين صلاة» (ولم ينهنا) أي وتقريره على العبادة من دلائل ندبها (رواه مسلم) واللفظ المذكور موقوف على(6/596)
أنس لفظاً مرفوع حكماً إجماعاً لما فيه من التصريح باطلاع النبيّ على ذلك، الخلاف بين علماء الأثر فيما لم يصرح فيه باطلاعه، قاله العراقي في «شرح ألفيته» .
41125 - (وعنه قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن) أي أتم الأذان (لصلاة المغرب ابتدروا السواري) أي استبقوا إليها (فركعوا ركعتين قبل) فعل (فرضها) وقوله (حتى) غاية لمقدر: أي وأكثروا من ذلك حتى (إن) بكسر الهمزة ويجوز فتحها على تقدير زيادة اللام (الرجل الغريب ليدخل المسجد) أي مسجد المدينة فأل فيه للعهد فيحسب أن الصلاة أي المغرب (قد صليت) أي شرع فيها جماعة وأن القوم واقفون لفعلها (من) تعليلية (كثرة) بفتح الكاف والكسر ردىء وقيل خطأ (من يصليهما. رواه مسلم) في سياق المصنف ما يشعر بأن البعدية مؤكدة دون القبلية، وذلك لأنه بدأ بها وذكر ما ورد فيها من الخبرين الصحيحين المرفوعين الناصين على فعله لها.
102 - باب سنة العشاء بعدها وقبلها
لا يظهر لذكر الطرفين هنا دون الظهر وجه (فيه) أي الباب (حديث ابن عمر) المتفق على صحته (السابق) في باب فضل الرواتب، وأبدل منه قوله (صليت مع النبيّ ركعتين بعد العشاء) وهذا دليل صدر الترجمة (و) دليل عجزها (حديث عبد الله بن مغفل(6/597)
السابق) في الباب قبله وأبدل منه أو عطف عليه عطف بيان قوله (بين كل أذانين صلاة) وعكس المصنف الترتيب الطبيعي، فذكر دليل سنّ البعدية قبل دليل سن القبلية لتأكيد البعدية دون القبلية، وذلك لأن الأول ثابت بفعله والثاني بقوله، والفعل عندنا أقوى دلالة من القول (متفق عليه كما سبق) الذي سبق له في حديث ابن مغفل عند ذكره أنه للبخاري ولم يذكر ثمة أنه عند مسلم، وقد نبهنا ثمة على أنه في «المشكاة» عندهما، وحينئذ فكأن ما وقع له سابقاً من سق القلم عن رقم متفق عليه إلى رقم رواه البخاري، وأحال هنا على ما ظن أنه أورده ثمة من وصف الحديث بكونه متفقاً عليه بقوله هنا ما ذكر.
203 - باب سنة الجمعة
اعلم أن الجمعة يسن لها ما يسن للظهر قبلية وبعدية متأكدة وغير متأكدة.
(فيه) أي الباب (حديث ابن عمر السابق: أنه صلى مع النبي ركعتين بعد الجمعة) حكى القطعة هنا بالمعنى، وفي الباب قبله باللفظ تفنناً في التعبير وإعلاماً بجواز كل من ذينك باللفظ لكونه الأصل، وبالمعنى إذا صدر من عالم بمدلولات الألفاظ ومواقعها لأداء المعنى المراد. وقوله أنه بفتح الهمزة وهي مع مدخولها بدل من حديث بدل بعض من كل (متفق عليه) .
11126 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) صرف الأمر عن الوجوب الأحاديث الصريحة في نفي وجوب ما زاد(6/598)
على المكتوبات الخمس (رواه مسلم) زاد في رواية «فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت» والحديث أخرجه أبو داود والترمذي أيضاً.
21127 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي كان لا يصلي بعد الجمعة) أي شيئاً من رواتبها (حتى ينصرف) أي من المسجد ءلى بيته (فيصلي ركعتين في بيته رواه مسلم) وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي واللفظ لأبي داود عن نافع «أن ابن عمر رآى رجلاً يصلي ركعتين في المسجد في مقامه فدفعه وقال: أتصلي الجمعة أربعاً؟ وكان يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته ويقول: هكذا فعل رسول الله» وأخرج أبو داود والترمذي عن عطاء قال «كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين ثم يتقدم فيصلي أربعاً، فإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد، فقيل له، فقال: كان النبي يفعله» .
204 - باب استحباب جعل النوافل
أي من الصلاة بقرينة المقام (في البيت) لكونه أبعد عن الرياء وإخراج المنزل عن كونه شبيهاً بالقبر ولعود البركة عليه وعلى أهله (سواء الراتبة وغيرها) ما لم يخش بالتأخير نحو فوات لها (والأمر) معطوف على استحباب، وهو أمر ندب فهو من عطف الرديف (بالتحول للنافلة من موضع) فعل (الفريضة) إلى موضع آخر ليتميز بذلك الفرض عن النفل، ولتشهد له المواضع بالطاعة (أو الفصل) معطوف على التحول (بينهما بكلام) .
11128 - (عن زيد بن ثابت) بالمثلثة فالموحدة فالفوقية بن الضحاك بن زيد بن لوذان بفتح اللام وإسكان الواو وبذال معجمة، ابن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار(6/599)
الأنصاري النجاري المدني الفرضي الكاتب كاتب الوحي وكاتب المصحف (رضي الله عنه) كان عمره حين قدم رسول الله المدينة إحدى عشرة سنة، وحفظ قبل قدوم النبيّ المدينة مهاجراً ست عشرة سورة، وقتل أبوه ولزيد ست سنين، واستصغره يوم بدر فرده، وشهد أحداً، وقيل لم يشهدها، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله، وأعطاه النبيّ يوم تبوك راية بني النجار وقال: القرآن مقدم وزيد أكثر أخذاً للقرآن، وكان يكتب الوحي لرسول الله ويكتب له المراسلات إلى الناس، وكتب لأبي بكر وعمر في خلافتهما، وكان أحد الثلاثة الذين جمعوا المصحف، وكان أمر بذلك أبو بكر وعمر، وكان كل من عمر وعثمان يستخلفه إذا حج، ورمى يوم اليمامة بسهم فلم يضره، وولى قسم غنائم اليرموك. قال ابن أبي داود: وكان زيد أعلم الصحابة بالفرائض لحديث «أفرضكم زيد» قال: وكان من الراسخين في العلم، وكان على بيت المال لعثمان، وأحواله كثيرة مشهورة. روي له عن رسول الله اثنان وتسعون حديثاً، اتفقا منها على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بحديث. روى عنه جماعات من الصحابة منهم ابن عمرو وابن عباس وأنس وأبو هريرة، وخلائق من كبار التابعين منهم سعيد بن المسيب وسليمان وعطاء بن يسار وآخرون، توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين، وقيل ست وخمسين، وقيل أربعين، وقيل غير ذلك. روى البخاري في «تاريخه» بإسناده الصحيح عن أبي عمار قال: لما مات زيد بن ثابت جلسنا إلى ابن عباس فقال: هذا ذهاب العلماء، دفن اليوم علم كذا وكذا، هكذا في «التهذيب» للمصنف بنوع تلخيص، وقد حوى اسمه لطائف في الفرائض نظمها الدميري فقال في كتابه «رموز الكنوز» :
لطيفة قواعد الوراثة
مرجعها للأحرف الثلاثة
فالزاي للأصول والنسوان
واليا لأهل الفرض والذكران
والدال أسباب ورتبة العدد
هبادبز أصحاب فرض بالمدد
(أن النبيّ قال: صلوا أيها الناس) الأمر متوجه للذكور والإناث، ففيه تغليب لهم(6/600)
عليهن لشرفهم في الإتيان بواو جماعة الذكور (في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ففعلها في المساجد أفضل للذكور، أما النساء فلا استثناء بالنسبة إليهن، وصلاة النافلة ببيت الإنسان أفضل من فعلها في جوف الكعبة، وإن قيل باختصاص مضاعفة الأعمال بها وذلك لأن في الاتباع من الفضل ما يربو على ذلك (متفق عليه) اقتصر السيوطي في «الجامع الصغير» على رمز البخاري، وكأنه لكون اللفظ له، والمصنف عزاه لهما لاتفاقهما على معناه والله أعلم.
21129 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: اجعلوا من صلاتكم) أي بعضها وهو النفل (في بيوتكم) بكسر الموحدة وضمها وذلك لتعود البركة على المنزل ومن فيه، ولما أشار إليه بقوله (ولا تتخذوها قبوراً) أي كالقبور في عدم من عمل بها شيئاً من عمل البرّ، ففيه تشبيه بليغ (متفق عليه) ورواه الترمذي والنسائي بلفظ «صلوا في بيوتكم ولا تتركوا النوافل فيها» ورواه أبو يعلى والضياء المقدسي من حديث الحسن بن علي بلفظ «صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً» كذا في «الجامع الصغير» .
31130 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا قضى) أي أدى (أحدكم صلاته) أي المفروضة (في المسجد فليجعل لبيته نصيباً) التنوين فيه إن كان للتقليل(6/601)
فلنقص مرتبة النفل عن الفرض، وإن كان للتعظيم ففيه إيماء إلى طلب الإكثار من النفل (من صلاته) أي وذلك النفل، وعلل ذلك بقوله على سبيل الاستئناف البياني بقوله (فإن الله جاعل) عدل عن المضارع إليه ليدل على الدوام والاستمرار (في بيته من) سببية (صلاته خيراً) أي عظيماً كا يومىء إليه التنوين بدليل السياق (رواه مسلم) .
41131 - (وعن عمرو بن عطاء) بن أبي الخوار بضم المعجمة. قال في «الكاشف» : هو صدوق خرّج له مسلم وأبو داود (أن نافع بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون التحتية وهو ابن مطعم، قال في «الكاشف» : هو شريف مفت، توفي سنة تسع وتسعين خرّج عنه الستة (أرسله إلى السائب بن يزيد) بفتح التحتية منقول من مضارع الزيادة (ابن أخت نمر) بفتح النون وكسر الميم وبعدها راء الكندي الصحابي توفي (رضي الله عنه) سنة إحدى وتسعين على الصحيح، وقيل سنة ست وثمانين، خرّج عنه الجميع. وفي «التهذيب» للمصنف: هو ابن أخت نمر لا يعرف إلا بذلك، ويقال له أيضاً الأسدي، ويقال الليثي، ويقال الهذلي، وأبوه صحابي، وله حلف في قريش في عبد شمس. ولد السائب سنة ثلاث من الهجرة. روى له عن رسول الله خمسة أحاديث، اتفق الشيخان على واحد منها وانفرد البخاري بأربعة اهـ. روى عن عمر وعنه ابنه عبد الله والزهري ويحيى بن سعيد (يسأله) الضمير المستكن لعمرو والبارز للسائب ويصح عود المستكن لنافع، ويراد منه يسأله بواسطة عمرو (عن شيء رآه منه معاوية) أي ابن أبي سفيان (في الصلاة) أي طلب منه تبيين ذلك الشيء وتعيينه (فقال: نعم صليت معه الجمعة في المقصورة) قال في «المصباح» : مقصورة الدار حجرتها وكذا مقصورة المسجد اهـ. قال المصنف: فيه دليل على جواز اتخاذها في(6/602)
المسجد إذا رآها ولي الأمر مصلحة، قالوا: وأول من عملها معاوية بن أبي سفيان حين ضربه الخارجي. قال القاضي: واختلفوا في المقصورة فأجازها كثير من السلف وصلوا فيها منهم الحسن والقاسم بن محمد وسالم وغيرهم، وكرهها ابن عمر والشعبي وأحمد وإسحاق وكان ابن عمر إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج منها إلى المسجد (فلما سلم الإمام) أي وسلمت معه (قمت في مقامي) بفتح الميم اسم مكان (فصليت) أي الراتبة (فلما دخل) أي منزله (أرسل إليّ) فيه لزوم الأدب مع أهل الفضل وفيه حسن الإنكار، قال الشافعي: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه
وزانه، ومن وعظه جهراً فقد فضحه وشانه (فقال لا تعد) أي ندباً (لما فعلت) من وصل النافلة بالمكتوبة ثم قال على سبيل الاستئناف البياني ما هو كالدليل لما ذكره (إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة) وقوله (حتى تتكلم أو تخرج) غاية لمقدر: أي واستمر على ترك التنفل إلى أحد هذين، إما الكلام بغير ذكر أو مفارقة محل فعل الفرض، ويصح جعله غاية لما قبله بأن يراد من الوصل فعل الثانية عقيب الأولى (فإن رسول الله أمرنا بذلك) ثم أبدل من المجرور قوله (أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج) أي من المسجد إلى المنزل وهو أفضل أماكن فعل النفل كما تقدم، أو من محل الفرض الخ، فيحصل الفصل بمفارقة محل فعل الفريضة (رواه مسلم) .
205 - باب الحث على صلاة الوتر
بكسر الواو لغة الحجاز وتميم وتفتح في لغة غيرهم، ووقته ما بين فعل فرض العشاء وطلوع الفجر الصادق، وأقله ركعة، وأكمله على الصحيح إحدى عشر ركعة (وبيان أنه سنة متوكدة) أتى به من باب التفعل إيماء إلى مبالغة تأكده، كيف وقد قيل بوجوده (وبيان وقته) الذي ينبغي فعله فيه اتباعاً مؤكداً.(6/603)
11132 - (عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: قال: الوتر) أي صلاته (ليس بحتم) أي فرض (كصلاة المكتوبة) في كونها حتماً مفروضاً بل هي سنة، وفي الصحيح: لما سأله عن الصلوات المفروضات فقال خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال لا إلا أن تطوّع. الحديث (ولكن سن) بفتح المهملة وتشديد النون (رسول الله) إن كان سن ماضياً فالعائد محذوف، وإن كان مصدراً فهي بمعنى المفعول مضاف لمرفوعه بعد تحويل إسناده عنه إلى الضمير، ثم بين ما استند إليه في ذلك فقال (قال إن الله وتر) أي واحد ذاتاً وصفة وفعلاً (يحب الوتر) ومن ثمة كان كل من مرات الطواف والسعي والرمي وتسبيحات الصلاة وصلاة الوتر وغيرها كذلك (فأوتروا يا أهل القرآن) قال الخطابي: تخصيصه أهل القرآن بالأمر به يدل على عدم وجوبه إذ لو كان واجباً لعمهم وغيرهم، وأهل القرآن في العرف هم القراء والحفاظ دون العوام (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن) وقدم هذا الحديث مع تأخره رتبة عما بعده من أحاديث الباب لتعلقه بصدر الترجمة من الحث وتأكيد الندب، للرد على القائلين بوجوبه.
21133 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: من) للتبعيض (كل الليل قد أوتر رسول الله) أي صلاة في جميع أبعاضه في أوقات متعددة كما أشارت إلى ذلك بقولها على سبيل البدل بإعادة العامل (من أول الليل ومن أوسطه ومن آخره) مرادها جميع أجزائه لا خصوص الجزء الأول والجزء الأوسط مثلاً دون ما بينهما، كما يدل على إرادة ذلك قولها(6/604)
أول الحديث من كل الليل، ويجوز كون من ابتدائية، وكونها ظرفية. وجوَّز في من الثانية كونها بيانية لمعنى البعضية، أو لكل بناء على أنها ابتدائية (وانتهى وتره) أي فله الوتر (إلى السحر) فكان يفعله فيه غالباً كما يعلم من روايات أخر، وإنما حملناه على هذا ليفيد فائدة لا تعلم من سابقه وهو قوله وآخره (متفق عليه) .
31134 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) فيسن جعله الأقل منه والأكمل بعد صلاة الليل التي يريد فعلها فيه من راتبة أو تراويح أو تهجد أو نفل مطلق، وكأن حكمة ذلك أن الوتر أفضل من هذه الصلوات الليلية، فندب وقوعه عقبها ليختم عمله بالأفضل فتعود عليه بركته ويجوز نفعه، وما ورد من صلاته أول الليل محمول على بيان الجواز (متفق عليه) .
41135 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبيّ قال: أوتروا قبل أن تصبحوا. رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه وهو قريب من حديث ابن عمر الآتي.(6/605)
51136 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يصلي صلاته بالليل) أي التهجد وبين التهجد والوتر عموم خصوص من وجه، فالوتر المأتي به بعد النوم جامع للأمرين، وقبل النوم وتر لا غير، والنفل بعد النوم من غير الوتر تهجد لا غير (وهي معترضة بين يديه) أي بينه وبين القبلة (فإذا بقي) أي من صلاته الليلية (الوتر) أي صلاته (أيقظها) فتوضأت (فأوترت، رواه مسلم) .
(وفي رواية له) أي عنها أيضاً (فإذا بقي الوتر قال: قومي) فيه بيان لإجمال قوله أيقظها في الرواية السابقة، إذ هو محتمل للإيقاظ بالقول وغيره كتحريكها (فأوتري يا عائشة) وفي الإتيان بالفاء إيماء إلى طلب المبادرة بالوتر عقب الاستيقاظ لئلا يغلب عليه كسل النوم لو تماهل عنه فيفوته.
61137 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: بادروا الصبح بالوتر) أفاد زيادة على ما أفاده حديثه السابق من تأخير الوتر عن النفل المبالغة في تأخيره حتى طلب أن يبدر بفعله قبل طلوع الفجر، ومثله حديث أبي سعيد (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ووقع في «الجامع الصغير» في رمز مخرّجيه علامة مسلم بدل علامة أبي داود ولعله من قلم الناسخ.
71138 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من خاف) أي ظن أو توهم(6/606)
(أن لا يقوم) أي يستقيظ من نومه (من آخر الليل) أي فيه أو استيقاظ مبتدأ منه (فليوتر أوله) احتياطاً ومسارعة لأداء العبادة (ومن طمع) بحسب عادته أو لوجود من يوقظه (أن يقوم) أي في القيام (آخره) أي الليل (فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة) أي شهدها الملائكة المتعاقبون والذين ينزلون بالنفحات الإلهية والفيوض الربانية الدلول عليهم بقوله «إذا بقي ثلث الليل ينزل ربنا» الحديث (وذلك) أي الوقت (أفضل) أوقاته وضح فعلها حينئذ أفضل من فعلها في باقي الأوقات، قال أصحابنا: لو تعارض صلاة الجماعة في وتر رمضان والتأخير إلى آخر الليل فالتأخير أفضل من الجماعة فيه (رواه مسلم) .
206 - باب فضل صلاة الضحى
قال العراقي في «شرح التقريب» : وهو بضم الضاد مقصور، قال في «الصحاح» : الضحا ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، مقصور يذكر ويؤنث. فمن أنث ذهب إلى أنه جمع ضحوة، ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على وزن فعل مثل صرد ونفر، وهو ظرف غير متمكن مثل سحر، تقول لقيته ضحاً بالتنوين، وإذا أردت به ضحا يومك لم تنونه، ثم بعد الضحاء ممدود مذكر وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. وفي «المحكم» : الضحو والضحوة والضحية على مثال العشية ارتفاع النهار، والضحا فويق ذلك، وتصغيرها بغيرها لئلا تلتبس بتصغير ضحوة والضحاء: إذا امتد النهار وقرب أن يتنصف، وفي «النهاية» : الضحوة ارتفاع أول النهار، والضحا بالضم والقصر، سميت صلاة الضحا والضحاء بالفتح والمد إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده، وفي «المشارق» : الضحاء بفتح الضاد ممدود والضحا بالضم مقصور، قيل هما بمعنى، وأضحى النهار أشرق ضوؤه، وقيل المقصور المضموم أول ارتفاع الشمس والممدود من حين حرها إلى قرب نصف النهار، وقيل المقصور حين تطلع(6/607)
الشمس والممدود إذا ارتفعت، وقال ابن العربي: بالضم والقصر طلوع الشمس، وبالفتح والمد إشراقها وضياؤها وبياضها اهـ ملخصاً (وبيان أقلها) وهو ركعتان (وأكثرها) وهو ثمان على ما صححه المصنف في «المجموع» والتحقيق تبعاً لما عليه الأكثرون، وظاهر سياقه هنا الميل إليه، وقيل اثنتا عشرة، وجرى عليه في «المنهاج» لحديث ضعيف فيه، قيل وينبغي حمل ما في «المجموع» ليوافق عبارة الروضة على أن الثمان أفضلها لأنها أكثر ما صح عنه، وإن كان أكثرها الاثنتي عشرة لورود الحديث الضعيف، ويعمل به في مثل ذلك حتى تصح نية الضحا بالزيادة على الثمان (أو وسطها) وهو أربعة (والحث على المحافظة عليها) لعظيم ثوابها ومزيد فضلها الآتي بعضه في الباب. قال الزين العراقي: ومما ألقاه الشيطان في أذهان بعض العامة أن من صلى الضحا ثم تركها عمي، وهذا لا أصل له من كتاب ولا سنة، وإنما قصد به منعهم من حصول هذا
الأجر الفخيم.
11139 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي) في التعبير بخليل إيماء إلى الاهتمام بشأن هذه الصلاة، لأن شأن الخيل الاعتناء بنفع من يخالله، ولا ينافي تعبيره بذلك حديث «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً» الحديث لأن الممتنع اتخاذه غير ربه خليلاً لا اتخاذ غيره له خليلاً وما نحن فيه من التاني (بصيام ثلاثة أيام من كل شهر) ليكون كصيام الدهر كله كما جاء كذلك في حديث ابن عمر، والأولى أن تكون البيض أو السود أو غيرهما مما يندب صومه بخصوصه (وركعتي الضحا) اللذين هما أقل ما يحصل به صلاته (وأن أوتر) أي أصلي الوتر ولم يذكر فيه عدداً كما قبله كأنه تفنن في التعبير (قبل أن أرقد) وذلك احتياط لأنه قد لا يقوم له فيفوته، ولا ينافي هذا حديث «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» لأنه لمن وثق بيقظته حينئذ بعادته أو بإيقاظ أحد له كما سيأتي في كلامه (متفق عليه) .
(والإيثار) أي فعل صلاة الوتر الحاصل أقله بركعة (قبل النوم إنما يستحب لمن لا يثق بالاستيقاظ آخر الليل) لغلبة نومه حينئذ وانتفاء من يوقظه لذلك (فإن وثق) أي بالاستيقاظ حينئذ (فآخر الليل) بالنصب ظرف لمبتدإ محذوف: أي ففعله(6/608)
آخر الليل (أفضل) الذ هو الخبر عن ذلك المبتدإ المحذف المدلول عليه بالسياق أو آخر بالرفع مبتدأ وأفضل خبره وثمة مضاف إليه محذوف: أي أفضل وقته.
21140 - (وعن أبي ذرّ رضي الله عنه عن النبيّ قال: يصبح) بمعنى الصيرورة ويصح إبقاؤها على مدلولها (على كل سلامى) بضم المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم بعدها ألف مقصورة، تقدم في باب بيان طرق الخير أنها المفصل وتقدم ثمة نقل أقوال أخر (من أحدكم) أي الواحد منكم السليم من الآفات (صدقة) عظيمة شكراً لله تعالى على عظيم مننه بسلامة ذلك (فكل تسبيحة) الفاء لتفصيل إجمال الصدقة قبله: أي مرة من التسبيح بأي صيغة كانت (صدقة وكل تحميدة) أي ذكر الحمد بأي عبارة دلت عليه (صدقة وكل تهليلة) أي قول لا إله إلا الله (صدقة، وكل تكبيرة صدقة) أشير بذلك إلى أن الصدقة المؤداة شكراً لسلامة السلامى لا تختص بالمال، بل تكون به وبغيره من صالح الأقوال والأعمال تخفيفاً من الله ورحمة (وأمر) بالرفع عطف على كل وتعميمه المستفاد من سياقه أغنى عن دخول كل عليه، وغاير بينه وبين ما قبله عليه لاختلاف النوعين، إذ ما قبل ثوابه باعتبار مدلوله من الثناء عليه تعالى وتقديسه وهذا باعتبار ثمرته (بالمعروف) أي ما عرف شرعاً من واجب أو مندوب (صدقة، ونهي عن المنكر) أي ما لم يعرف كذلك من محرم أو مكروه (صدقة) ثم لا يلزم من كون كل مما ذكر صدقة تساويها في الرتبة وتفاوتها بتفاوت ثمرتها أو مدلولها، فمدلول لا إله إلا الله فوق مدلول نحو سبحان الله فلذا فضل عليه (ويجزىء) بضم أوله مع همز آخره من الإجزاء وبفتح أوله من غير همز آخره من الجزاء بمعنى الكفاية (من ذلك) أي بدل ما ذكر من الصدقات المتعددة بتعدد السلامى المتصدق عنها (ركعتان يركعهما) أي يفعلهما أحدكم (من) أي في (الضحا) أو بسببه أو مبتدأة منه، وفيه كمال شرف هذه(6/609)
الصلاة، وتقدم سبب ذلك في الباب المذكور (رواه مسلم) ورواه أبو داود والنسائي في آخرين تقدموا ثمة.
31141 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يصلي الضحا) في نسخة من الضحا: أي فيه أو من جهته (أربعاً) عند الترمذي في «الشمائل» أربع ركعات (ويزيد ما شاء الله) قضيته أن لا حصر للزيادة، لكن باستقراء الأحاديث الصحيحة والضعيفة علم أنه لم يزد على الثمان ولم يرغب في أكثر من ثنتي عشرة (رواه مسلم) ورواه أحمد في «مسنده» . ولا تنافي بين إثباتها لها من فعله في هذا الحديث ونفيها لها عن فعله في رواية أخرى لما قال المصنف في «شرح مسلم» من أن النبي كان يصليها في بعض الأوقات لفضلها ويتركها في بعضها خشية أن تفرض.
41142 - (وعن أم هانىء) بالهمز آخره كما تقدم كنية (فاختة) بالفاء والخاء المعجمة المكسورة والمثناة الفوقية ثم هاء تأنيث (بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح) أي زمن فتح مكة وكان في عشرين من رمضان سنة ثمان من الهجرة، وذهابها إليه لسؤاله تنفيذ جوارها لمن أجارته كما يأتي (فوجدته يغتسل) وفاطمة رضي الله تعالى عنها تستره بثوب (فلما فرغ من غسله) أي اغتساله فهو اسم مصدر له (صلى ثماني) بكسر النون وتخفيف الياء (ركعات) زاد ابن خزيمة «يسلم من كل ركعتين» (وذلك) أي المفعول من الصلاة (ضحا) أي صلاته أو المشار إليه مجموع الاغتسال(6/610)
وما بعده وضحا ظرف متعلق بمحذوف هو الخبر، ولا يقدح عليه في الاستدلال به لصلاة الضحا، لأن في رواية أبي داود التصريح بأنها صلاة الضحا ولفظه «صلى سبحة الضحا ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين» (متفق عليه) أي أصل الحديث لا بخصوص هذا اللفظ ولذا قال.
(وهذا مختصر لفظ إحدى روايات مسلم) في «صحيحه» ومن ألفاظه في بعض رواياته قالت «ذهبت إلى رسول الله عام الفتح فسلمت، فقال: من هذه فقلت: أم هانىء بنت أبي طالب، فقال: مرحبا يا أمّ هانىء، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي عليّ ابن أبي طالب أنه قاتل رجلاً أجرته فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله: قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء، قالت أم هانىء: وذلك ضحا» وله عنها ألفاظ أخر.
207 - بابٌ بالتنوين أو بتركه مضافاً إلى جملة (تجوز صلاة الضحى من ارتفاع الشمس) كرمح في رأى العين (إلى زوالها) أي ميلها عن كبد السماء إلى جهة المغرب، ودخل في عمومه وقت الاستواء فيجوز فعلها فيه، لكن ينبغي أن يكون محله مالم يقصد تأخيرها إليه لأنه بذلك مراغم للشارع قياساً على منع فعل القضاء فيه كذلك، لكن كلامهم صريح في الصحة ولو مع قصد التأخير، وكأنه لأن الوقت وقتها ولا كذلك المقضية المقصود تأخيرها لوقت الكراهة (والأفضل) أي الأكثر ثواباً (أن تصلى عند اشتداد الحر) بسبب ارتفاع الشمس (وارتفاع الضحا) أي وقته.
11143 - (عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه رأى قوماً يصلون من الضحا) أي بعضه أن فيه أو لأجله، والمراد يصلون في أول وقته بدليل قوله (فقال: أما) بتخفيف الميم وفتح(6/611)
الهمزة حرف استفتاح أتى به لتنبيه السامع لما بعده لتأكده ولذا أقسم عليه كما تؤذن به اللام المؤذنة بالقسم في قوله (لقد علموا أن الصلاة) أي المعهودة وهي صلاة الضحا (في غير هذه الساعة) من ساعاته (أفضل) ثم قال على سبيل الاستئناف البياني أو النحوي (إن رسول الله قال: صلاة الأوابين) بفتح الهمزة وتشديد الواو ثم موحدة: أي الرجاعين من الغفلة إلى الحضور ومن الذنب إلى التوبة (حين ترمض الفصال) أي فثناؤه عليها حينئذ يدل على فضلها فيه (رواه مسلم) .
(ترمض بفتح التاء) المثناة الفوقية (والميم) وسكون الراء بينهما (وبالضاد المعجمة يعني) أي بقوله ترمض الفصال (شدة الحر) أي حين رمضها: أي احتراقها من حر الشمس، قال في «المصباح» : وجدت الفصال الرمضاء فاحترقت أخفافها وذلك وقت صلاة الضحا (والفصال) بكسر الفاء وتخفيف الصاد المهملة (جمع فصيل وهو الصغير من أولاد الناقة) سمي به لأنه يفصل عن أمه، قال في «المصباح» : فهو فعيل بمعنى مفعول والجمع فصلان بضم الفاء وكسرها، وقد يجمع على فصال بالكسر لأنهم توهموا فيه الصفة مثل كريم وكرام.
208 - باب الحث على صلاة تحية المسجد ركعتين
هذا بيان أقل ما تحصل به (وكراهة الجلوس قبل أن يصلي) أي الداخل (ركعتين في أيّ وقت دخل) وذكر الجلوس جرى على الغالب، وإلا فالاضطجاع والاستلقاء قبلهما كذلك، وكذا إطالة القيام عند من يرى فوت التحية بها (وسواء) في ارتفاع الكراهة عنه(6/612)
بصلاتهما (صلى ركعتين بنية التحية) وذلك أفضل وجوهها (أو) صلى (صلاة فريضة أو سنة راتبة أو غيرها) لأنه يفعله هذه الخصال لم يتلبس بالمنهي عنه. وأما الإثابة على ذلك وحصول فضل التحية فاختلف فيه أو يتوقف على نيتها أم لا، فقال بالأول من المتأخرين ابن حجر الهيتمي وبالثاني الرملي والشربيني.
11144 - (وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس) تخصيصه جرى على الغالب وإلا فيكره ترك الصلاة لداخله ولو ماراً فيه، وكذا يكره تركها لمن نام فيه كما مر (حتى يصلي ركعتين) هو بيان لأقل ما يخرج به من الكراهة ولا حد لأكثر التحية، فلو صلى مائة ركعة بتسليمة واحدة كانت تحية بناء على أن ما زيد على الواجب مما لا يقبل التجزؤ كالبعير المخرج عن شاة أو شاتين يكون جميعه فرضاً (متفق عليه) ورواه أحمد في «مسنده» والأربعة في «سننهم» كلهم عن أبي قتادة، ورواه ابن ماجه أيضاً عن أبي هريرة، ورواه العقيلي في «الضعفاء» وابن عدي والبيهقي في «الشعب» من حديث أبي هريرة «بلفظ حتى يركع ركعتين» وبزيادة «وإذا دخل أحدكم بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فإن الله جاعل له من ركعتيه في بيته خيراً» كذا في «الجامع الصغير» .
21145 - (وعن جابر رضي الله عنه) هو قطعة من حديث في بيع الجمل منه في السفر (قال: أتيت النبي) أي أتقاضاه ثمن الجمل (وهو في المسجد) فيه جلوس الإمام في المسجد للقيام بمصالح الأمة (فقال: صلّ) هو أمر ندب (ركعتين، متفق عليه) فيه كالحديث قبله حصول المأمور به والخروج عن عهده النهي، يفعل ركعتين أياً كانت والله أعلم.(6/613)
209 - باب استحباب صلاة ركعتين بعد الوضوء
والأفضل عقبه، وفيما تفوت به خلاف بين المتأخرين، قال ابن المزجدي في «فتاويه» . إنها تفوت بالإعراض عنها، وقال محمد بن عبد السلام الناشري بطول الفصل، وأفتى بمثله البرهان ابن ظهيرة، وقول النووي في زيادة «الروضة» ومنه «ركعتان عقب الوضوء» يشهد لذلك، وأفتى الكمال الرداد بأنهما لا يفوتان إلا بالحدث، وأيده «جامع الفتاوى» المزجدية بأنه مقتضى إطلاق الشيخين أن من توضأ في الأوقات المكروهة يصليهما، ولأن المعنى في ذلك صيانة طهارته عن التعطيل وحديث بلال ظاهر فيه، وما تقدم عن الروضة يحمل على ندب المبادرة بهما عقبه لا أن الوقت منحصر فيه، صرح به السيد السمهودي واعتمده في «فتاويه» .
11146 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال) أي عند صلاة الفجر كما أخرجاه كذلك (لبلال) الحبشي مؤذنه (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام) .
(وفي رواية: بم سبقتني إلى الجنة) ومعنى بأرجى عمل: أي بالعمل الذي هو أكثر رجاء في حصول ثوابه، وبين حكمة هذا السؤال بقوله (فإني سمعت دف) وفي رواية بريدة في حديث نحوه «ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي» وهي بتكرير الخاء والشين المعجمتين مفتوحة الأول والثالث، ذكره أبو موسى المديني في ذيل الغريبين إنها حركة لها صوت كصوت السلاح وهي بمعنى رواية مسلم «خشف نعليك» بفتح الخاء وسكون الشن المعجمتين وفي آخرها فاء، واختلف في معناه، فقيل هو الحركة، وقيل الصوت. وفي رواية خشفة بزيادة الهاء، وعليها ففي الشين التحريك والإسكان. واختلف هل هما بمعنى الحركة والساكن بمعنى الحس (نعليك بين يدي في الجنة) لا ينافي(6/614)
تقدمه بين يديه حدث «آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول محمد، فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك» لأن تقدم الخدم تقدم للمخدوم قال الشاعر:
إن سار عبدك أولاً أو آخراً
من ظل مجدك ما تعدى الواجبا
فإذا تأخر كا خلقك خادماً
وإذا تقدم كان دونك حاجباً
فالفتح للمخدوم وإن تقدمه خادمه دخولاً كرامة لمخدومه، أو يقال كما قال ابن العربي في «الفتوحات المكية» : معنى سمعت خشخشتك أمامي: أي رأيتك مطرقاً بين يدي كالمطرقين بين يدي ملوك الدنيا، وبمعناه ما يأتي عن الشعراوي (قال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً) بضم الطاء وبفتحها على حذف الجار وشمل الطهور بوجهيه كلاً من الوضوء والغسل والتيمم ولو مندوبة ويومىء إليه قوله (في ساعة من ليل أو نهار) لكن جاء في رواية عنه «ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين» وظاهرها أن صلاته إنما كانت عند تطهره من الحدث فقط فلم تشمل الطهارة المجددة إلا أن يقال السكوت عن الشيء لا ينفيه (إلا صليت بذلك الطهور ما) أي الذي أو صلاة (كتب) مبني للمجهول والتذكير على الثاني باعتبار لفظ ما (لي) متعلق به ونائب فاعل الفعل قوله (أن أصلي) والعائد محذوف (متفق عليه. وهذا لفظ البخاري) وفي مسلم «فإني سمعت الليلة خشف نعليك» الحديث وقال «إني لا أتطهر طهوراً تاماً» الحديث (الدف) قال الحافظ العراقي في «شرح التقريب» : اختلف في ضبطه فقيل بالدال المعجمة وقيل بالمهملة وهي مفتوحة عليهما (بالفاء) قال أبو موسى المديني (صوت النعل) عند الوطء (وحركته على الأرض) عطف على النعل: أي وصت حركته، قال الشيخ الشعراوي في كتابه «العهود المحمدية» : والمعنى إني رأيتك مطرقاً بين يدي كالمطرقين بين يدي الملوك والأمراء.(6/615)
210 - باب فضل يوم الجمعة
قال المصنف: يقال بضم الميم وإسكانها وفتحها، حكاهن الفراء والواحدي وغيرهما، ووجهوا الفتح بأنها تجمع الناس ويكثرون فيها كما يقال همزة ولمزة لكثير الهمز واللمز ونحو ذلك، سميت جمعة لاجتماع الناس فيها، وحكي كسر الميم وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية العروبة اهـ. وكانوا يسمون الأحد أول والاثنين أهون والثلاثاء جباراً والأربعاء دباراً والخميس مونساً والسبت شباراً، قال الشاعر:
أؤمل أن أعيش وأن يومى
بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته
فمونس أو عروبة أو شبار
وقد أفرد الحافظ السيوطي فضائل الجمعة وخصائصها في مؤلف وكذا من قبله ابن أبي الصيف اليمني ومن قبله الحافظ النسائي (ووجوبها والاغتسال لها) معطوف على يوم لأن الصحيح من المذهب ندب الاغتسال وتأويل ما يوهم وجوبه، أو على وجوب ويكون حينئذ ساكتاً عن بيان حكمه من ندب وغيره، وإن قام الدليل على الأول فهو أولى (والطيب والتبكير لها) أي الوصول للمسجد من أول النهار (والدعاء يوم الجمعة والصلاة على النبي فيه) ولا يكره إفرادها فيه عن السلام لورود النص بها فيه منفردة كما ذكره الشيخ عبد الرزاق المكي الواعظ (وبيان ساعة الإجابة) أي تعيين وقتها فيه (واستحباب إكثار ذكر الله تعالى بعد الجمعة) أي صلاتها، عبر باستحباب بعد التعبير في الأعمال السابقة بفضل قمنا في التعبير.
(قال الله تعالى) : {فإذا قضيت الصلاة} أي فرغتم من الصلاة المعهودة وهي صلاة الجماعة (فانتشروا في الأرض) لقضاء حوائجكم ( {وابتغوا من فضل الله} ) أي رزقه، وهذا أمر إباحة بعد الحظر، عن بعض السلف: من باع واشترى بعد الجمعة(6/616)
بارك الله ما سبعين مرة ( {واذكروا الله كثيراً} ) في حال انتشاركم وصرح به لئلا يغفل عنه بالاشتغال بطلب الرزق ( {لعلكم تفلحون} ) أي ائتوا بما ذكر راجين الفلاح، ففيه إيماء للحض على ترك الاعتماد على حال أو مقام، والحث على التوجه إلى الله سبحانه وحسن الرجاء منه، وهذه الآية دليل على آخر الترجمة، وقدمها مع ذلك لشرف الكتاب على السنة.
11147 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: خير يوم) حذفت الألف من خير للتخفيف لكثرة استعماله (طلعت عليه الشمس) جملة في محل الصفة ليوم وهي مسوقة لبيان الواقع إذ كل يوم كذلك (يوم الجمعة) فلذا كان سيد أيام الأسبوع ولا ينافيه خبر «سيد الأيام يوم عرفة» لأنه محمول على أيام السنة، وفي كلام العلقمي ما يوهم أن يوم الجمعة أفضل من يوم عرفة. وذكر بعض أحوال اليوم بقوله (فيه خلق آدم) عليه السلام وهو أصل النوع الذي هو أفضل أنواع المخلوقات، وخلقه فيه يحتمل أن يكون سبب فضله أو بسببه، ثم رأيت العلقمي نقل عن شيخه يعني السيوطي عن القاضي يعني عياضا أنه قال: الظاهر أن هذه القضايا المعدودة ليست لذكر فضيله لأن إخراج آدم من الجنة وقيام الساعة لا يعد فضيلة، وإنما هو لبيان ما وقع فيه من الأمور العظام وما سيقع ليتأهب بصالح العمل لينال رحمة الله ويدفع نقمته. وقال أبو بكر بن العربي في كتابه «الأحوزي في شرح الترمذي» الجميع من الفضائل، وخروج آدم من الجنة هو سبب وجود الذرية والنسل والأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، ولم يخرج منها طرداً بل لقضاء أوطاره ثم يعود إليها، وقيام الساعة سبب تعجيل جزاء النبيين والصديقين اهـ ملخصاً. وقد زيد في رواية «وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه قبض وفيه تقوم الساعة» (وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها) هذا الحديث هكذا فقط في رواية لمسلم، وفي أخرى له بزيادة «ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» وأخرجه كذلك أحمد والترمذي (رواه مسلم) هو كلفظ حديث أحمد والترمذي المزيد فيه ما ذكر فيصح أن تنسب روايته لهما.(6/617)
21148 - (وعنه قال: قال رسول الله: من توضأ فأحسن الوضوء) بالإسباغ والإتيان به بآدابه وسننه (ثم أتى الجمعة) أتى بثم إيماء إلى تأخر الإتيان عن الوضوء لاشتغاله بالأذكار عقب الوضوء وصلاته (فاستمع) أي عقب إتيانه (وأنصت) أي ترك الكلام (غفر له ما بينه وبين الجمعة) أي ما بين صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية ليكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقص، نقله المصنف عن العلماء، وأعاد بين مع أنها لا تضاف إلا لمتعدد لفظاً نحو الود بين زيد وعمرو أو تقديراً نحو لا نفرق بين أحد من رسله» ويلزم على عودها إضافتها لغير متعدد دفعاً للعطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوع عند الجمهور (وزيادة) بالرفع عطف على الموصول المرفوع بغفر، وقال المصنف: إنه منصوب على الظرف: أي غفر له مدة ما بين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، فحذف المضاف المنصوب على الظرف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه، وما ذكرته أقرب إلا إن كانت الرواية بما قاله المصنف (ثلاثة أيام) أي غفر له ذنوب عشرة أيام: أي الصغائر المتعلقة بحق الله سبحانه المفعولة فيها دون الكبائر فلا تكفر إلا بالتوبة الصحيحة أو فضل إلهي، وحق العباد إذ لا يكفر إلا بارضاء صاحبه. قال المصنف: قال العلماء: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشرة أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشرة أمثالها (ومن مس الحصا فقد لغا) فيه نهي عن مس الحصى وغيره من أنواع العبث في حال الخطبة، وفيه إشارة إلى الحض على إقبال القلب والجوارح على الخطبة، والمراد باللغو هنا الباطل المذموم المردود (رواه مسلم) .g
31149 - (وعنه عن النبيّ قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان) يجوز إبقاء الكلام على ظاهره، لأن كلاً من الجمعة ورمضان لما كان محل الأفعال الحسنة صار كأنه حسنة مكفرة كما قال المصنف في الحديث قبله. ويحتمل أن في الكلام(6/618)
مقدراً: أي وصلاة الجمعة إلى صلاتها وصوم رمضان إلى صوم مثله (مكفرات) أي كل منها صالح لتكفير الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، فإن لم يجد البعض منها ما يكفره كان رفعة في درجاته، وإن وجد كبائر فقط، قال المصنف: رجونا أن يخفف عنه منها بقدر ما يكفر من الصغائر. قال العلقمي: قال شيخنا زكريا: إن قلت يلزم من جعل الصغائر مكفرة بالمذكورات عند اجتناب الكبائر اجتماع سببين على مسبب واحد وهو ممتنع. قلت: لا مانع من ذلك في الأسباب المعرفة لأنها علامات لا مؤثرات كما في اجتماع أسباب الحدث وما هنا كذلك اهـ (ما بينهن) وهو مفعول الوصف قبله إن كان منوناً كما هو في أصل مضبوط، ويؤيده أنه روى «مكفرات لما بينهن» أي بزيادة اللام وإلا فمضاف إليه (إذا اجتنبت الكبائر) قال المصنف: هو مؤول بعدم تكفير العمل الصالح للكبائر وإن كان صريحه أن شرط تكفيره اجتناب الكبائر فليس مراداً وإن قال به بعض (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي.
41150 - (وعنه عن ابن عمر رضي الله عنهم) في نسخة عنهما والأولى أولى ليشمل الترضي أبا هريرة (أنهما سمعا رسول الله يقول) جملة في محل الحال من رسول الله، وقوله (على أعواد منبره) في محل الحال من ضمير يقول (لينتهين) بفتح الياء لكونه مسنداً للاسم الظاهر وهو قوله (أقوام) وإذا أسند العامل لمرفوع مثنى أو مجموع وجب في الأفصح تجريده من علامة التثنية والجمع وإفراده، ولعل جمعه لتنوع التاركين له باعتبار قبائل المنافقين وفرقهم (عن ودعهم) بفتح الواو وسكون الدال وبالعين المهملتين مصدر ودع المستغني عنه برديفه وهو ترك: أي تركهم (الجمعات) بضمتين ويجوز إسكان الميم تخفيفاً: أي صلاتها (أو ليختمن الله على قلوبهم) فلا يصير فيها تأهل لقبول الهدى ولا استعداداً لتلقي الأنوار، والمعنى: ليكونن أحد الأمرين الانتهاء عن تركهم الجمعة أو الختم(6/619)
على قلوبهم (ثم ليكونن) بضم النون والفاعل ضمير الجماعة المحذوف لملاقاته ساكناً النون الساكنة المدغمة (من الغافلين) قال المصنف: معنى الختم الطبع والتغطية، قالوا في قوله {ختم الله على قلوبهم} (البقرة: 7) أي طبع، ومثله الرين، وقيل الرين أيسر من الطبع، والطبع أيسر الإقفال الإقفال أشدها، قال القاضي: اختلف المتكلمون في هذا اختلافاً كثيراً، فقيل هو إعدام اللطف وأسباب الخير، وقيل هو خلق الكفر في صدورهم وهو قول أكثر متكلمي أهل السنة، وقال غيرهم: هو الشهادة عليهم، وقيل هو علامة جعلها الله تعالى في قلوبهم لتعرف بها الملائكة من تمدح ومن تذم (رواه مسلم) في أبواب الجمعة من «صحيحه» ، ورواه أحمد. وأبو داود وابن ماجه.
51151 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: إذا جاء أحدكم الجمعة) أي أراد المجيء إليها كما جاء في رواية أخرى «إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة» (فليغتسل) أي وجوباً وعليه طائفة من السلف، وحكي عن بعض الصحابة وبه قال أهل الظاهر، وحكاه ابن المنذر عن مالك أو ندباً، وعليه جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار، قال القاضي: وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه. واحتج الأولون بظاهر هذا الحديث وما بعده وما في معناهما. واحتج الجمهور بأحاديث منها حديث سمرة الآتي قريباً «من توضأ يوم الجمعة الخ» وهو حديث صحيح في السنن ومنها حديث سمرة الآتي قريباً «من توضأ يوم الجمعة الخ» وهو حديث صحيح في السنن ومنها حديث عمر وقوله وهو في الخطبة للرجل المتأخر إلى الآن، فقال ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت، فقال عمر: والوضوء أيضاً، وقد علمت أن رسول الله كان يأمرنا بالغسل؟ والحديث في البخاري، وأجابوا عن الأحاديث بأنها محمولة على الندب المتأكد جمعاً بين الأحاديث أشار إليه المصنف في «شرح مسلم» (متفق عليه) ورواه مالك والنسائي.(6/620)
61153 - (وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله قال: غسل الجمعة) وفي رواية «غسل يوم الجمعة» (واجب على كل محتلم متفق عليه) ورواه مالك وأبو داود والنسائي كلهم عن أبي سعيد، وأخرجه الرافعي من حديثه بلفظ «غسل يوم الجمعة واجب كوجوب غسل الجنابة» (المراد بالمحتلم) بصيغة الفاعل (البالغ) أي ولو امرأة تحضر الجمعة بأن كانت عجوزاً، وحينئذ ففي التعبير به مجاز مرسل من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أو إطلاق الخاص وإرادة العام (والمراد بالوجوب وجوب اختيار) أي يختار فعله ويطلب كما يختار فعل الواجب وإن افترقا يترتب الإثم بترك الواجب دون تركه (كقول الرجل لصاحبه حقك واجب عليّ) أي يطلب مني على سبيل الاختيار والإتيان به (والله أعلم) وقال في «شرح مسلم» : والمراد بالوجوب التأكد كما يقول الرجل لصاحبه حقك واجب على: أي متأكد لا أن المراد الواجب المتحتم المعاقب عليه.
71153 - (وعن سمرة) بفتح فضم (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من توضأ يوم الجمعة فيها) أي فبالرخصة المدلول عليها بالسياق أخذ (ونعمت) هي الرخصة والمخصوص بالمدح محذوف وهو الوضوء لدلالة قوله توضأ عليه (ومن اغتسل) معه (فالغسل أفضل) قال المصنف: فيه دليلان على أن غسل الجمعة ليس بواجب اهـ: أحدهما مدحه للإتيان بالوضوء دون الغسل وتارك الواجب لا يمدح. الثاني قوله فالغسل أفضل فإنه يدل على ندبه وزيادة فضله على الوضوء (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) قال المصنف(6/621)
في «شرح مسلم» : هو حديث صحيح في «السنن» مشهور وفي «الجامع الصغير» ، ورواه أحمد في «مسنده» والنسائي في «سننه» وابن خزيمة.
81154 - (وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يغتسل رجل) تقدم أن المرأة كذلك في ندب الغسل للجمعة إن طلب منها الحضور (يوم الجمعة) ظاهره ولو بعد فعلها وهو غير مراد كما يدل عليه باقي الروايات (ويتطهر ما استطاع من طهر) قال البرماوي: التنكير فيه للتكثير ليشمل قص الشارب وقلم الظفر وحلق العانة وتنظيف الثياب وفي نسخة من البخاري من الطهر بالتعريف (ويدّهن) بالتشديد: أي يطلى بالدهن (من دهنه) بضم الدال (أو يمس من طيب بيته) أي يمس شيئاً من ذلك، فأو للتفصيل وفي قوله طيب بيته إيماء إلى ندب اتخاذ الطيب في البيت واعتياد الطيب، وقدم التطهير لما فيه من التخلية بالمعجمة عن الأوساخ ثم الادهان لما فيه من ترك الشعث وختم بالطيب لأنه كالتحلية بالمهملة، وقد زاد أبو داود في روايته «ويلبس من صالح ثيابه» (ثم يخرج) زاد ابن خزيمة «إلى المسجد» وزاد أحمد «ثم يمشي وعليه السكينة» (فلا يفرق) بالرفع عطف على ما قبله (بين اثنين) ولأبي داود «ثم لم يتخط رقاب الناس» قال البرماوي: وقوله فلا يفرق الخ كناية عن التبكير، فإنه إذا بكر لا يتخطى الرقاب ولا يفرق بين الناس (ثم يصلي ما كتب له) أي فرض من صلاة الجمعة أو ما قدر له من الصلاة فرضاً أو نفلاً (ثم ينصت) بضم التحتية على الأفصح من أنصت إذا سكت، ويجوز فتحها، قال المصنف: يقال أنصت وانتصت ونصت بمعنى. وتعقب قول القاضي عياض أن التعبير بانتصت بدل أنصت في حديث أبي هريرة السابق في تكفير الجمعة لما بينها وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام وهم من الراوي بأنه ليس وهماً بل هي لغة صحيحة، قال البرماوي: ويجيء أنصت أيضاً متعدياً يقال أنصته (إذا تكلم الإمام) أي خطب زاد ابن حبان «حتى يقضي صلاته» (إلا غفر له ما بينه) أي بين يوم الجمعة (وبين الجمعة الأخرى) قال البرماوي: يحتمل الجمعة الماضية والمستقبلة لأنها تأنيث الآخر بفتح الخاء لا بالكسر، والمغفرة تكون للمستقبل كالماضي قال تعالى:
{ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (الفتح: 2) اهـ، وقد عين ابن خزيمة في(6/622)
روايته أنها الجمعة التي قبلها وزاد ابن حبان «وزيادة ثلاثة أيام من اللتي بعدها» زاد ابن ماجه «ما لم تغش الكبائر» (رواه البخاري) ورواه أحمد في «مسنده» كما في «الجامع الكبير» .
91155 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: من اغتسل يوم الجمعة) ويدخل وقته بطلوع الفجر وتقريبه من الذهاب لصلاتها أولى، ولو تعارض هو والتبكير قدمه (غسل الجنابة) مفعول مطلق ناب فيه عن المصدر اسمه نحو سلمت عليك سلاماً وأعطيتك عطاء، أو هو مما ناب فيه صفته منابه والأصل اغتسالاً مثل غسل الجنابة فحذفت الصفة وأقيم المضاف إليه مقامها في ذلك، وإليه يومىء كلام المصنف الآتي ويؤيده أن عند عبد الرزاق في «مصنفه» «كما يغتسل من الجنابة» وأتى به لدفع توهم الاكتفاء بمسمى الغسل اللغوي في حصول سنة غسلها، بل لا بد فيه من الشرعي الشامل لجميع البشرة والشعر ظاهراً وباطناً وإن كثف (ثم راح) زاد في «الموطأ» «في الساعة الأولى» وراح تستعمل في جميع الأوقات بمعنى ذهب، قاله الأزهري منكراً على من زعم أنه لا يكون، إلا بعد الزوال (فكأنما قرب) بتشديد الراء (بدنة) أي تصدق بها متقرباً إلى الله تعالى، والبدنة هي البعير ذكراً كان أو أنثى والهاء فيه للوحدة لا للتأنيث سميت بذلك لعظم بدنها، وقال الجوهري: البدنة ناقة أو بقرة سميت بذلك لأنهم كانوا يسمونها (ومن راح في الساعة الثانية) أي من النهار (فكأنما قرب بقرة) مشقة من البقر وهو الشق لأنها تبقر الأرض أي تشقها بالحرث (ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن) وصفه بذلك لأنه أكمل وأحسن صورة ولأن قرنه ينتفع به (ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة) ، بفتح الدال المهملة وهو الفصيح وحكي كسرها، وقيل إنه أفصح من الفتح،(6/623)
حكاه الدماميني، في «مصابيحه» وضمها، واقتصر ابن حبيب على
الفتح في ذكورها قال: وأما في الإناث فبالكسر، وذكر الدجاجة وإن لم تكن من نوع ما يتقرب به من النعم لأن المراد مطلق التصدق (ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) قال السيوطي في «التوشيح» : ذكر الساعات هنا خمساً والنسائي ستاً، وجعل بين الدجاجة والبيضة العصفور. قلت: وفي رواية أخرى له بين الشاة والدجاجة بطة، أوردها عنه البرماوي ولها شواهد. واختلف في المراد بالساعات فقيل المراد بها بيان مراتب المبكرين، ورد بأنها متفاوتة إلى أكثر من هذا العدد، فدل على أن المراد حقيقة الساعات، ثم قيل هي لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر. قلت: وعليه مالك، وقيل هي من أول النهار، والمراد الساعات الزمانية المتفاوتة بتفاوت زيادة النهار ونقصه. وينقسم النهار إلى اثنتي عشرة ساعة منها طويلاً كان أو قصيراً. وأورد عليه لزوم تساوي الآيتين في طرفيها. وأجيب بالتساوي في مسمى البدنة مثلاً والتفاوت في صفاتها. قال المصنف: قال السيوطي في «تاريخ ابن عساكر» عن ابن عباس بسند ضعيف: أول من قدر النهار اثنتي عشرة ساعة وكذا الليل نوح عليه السلام حين كان في السفينة (فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة) قال البرماوي: أي غير الحفظة، وهم الذي وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة، وسيأتي ما ورد فيهم (يستمعون الذكر) لفظ مسلم «فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر» ولابن خزيمة «على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول» وفي «الحلية» «إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور» ولابن خزيمة «فيقول بعض الملائكة لبعض ما حبس فلاناً؟ فيقول: اللهم إن كان ضالاً فاهده، وإن كان فقيراً فاغنه، وإن كان مريضاً فعافه» (متفق عليه) قال في «الجامع الكبير» : ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان كلهم عن أبي هريرة.
(قوله غسل الجنابة) بالنصب على الحكاية (أي غسلاً كغسل الجنابة في الصفة) وهذا التأويل يحتاج إليه من يرى عدم حصول سنة غسلها بواجب غسل الجنابة إذا لم ينوه، وهو الذي عليه المصنف وهو المختار، والذي عليه الرافعي حصوله وإن لم ينوه،(6/624)
فلا يحتاج للتأويل إلا من جهة عدم التقييد بكون الغسل واجباً يحصل به وإن كان وإلا فبالمندوب والله أعلم.
101156 - (وعنه أن رسول الله ذكر يوم الجمعة) أي بالثناء عليه وبيان فضله (فقال: فيها ساعة لا يوافقها) أي يصادفها (عبد مسلم وهو قائم) جملة حالية من ضمير وافق المستكن فيه وهو خارج مخرج الغالب فلا يعمل بمفهومه (يصلي) جملة حالية من ضمير قائم، أو جملة تفسيرية لقائم أو بدل منه (يسأل) حال مترادفة أو متداخلة (الله شيئاً) عند البخاري في رواية (خيراً) . ولابن ماجه «ما لم يسأل حراماً» ولأحمد «ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم» (إلا أعطاه إياه وأشار) أي رسول الله كما في «الموطأ» من رواية أبي مصعب (بيده يقللها) أي يبين أنها لحظة لطيفة خفيفة، وزاد مسلم «وهي ساعة خفيفة» وقد اختلف العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم هل هذه الساعة باقية أو رفعت؟ وعلى الأول هل هي في كل جمعة أو جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول هل هي في وقت من اليوم معين أو مبهم؟ وعلى التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما اتبداؤه وما انتهاؤه وعلى كل ذلك هل تستمر أو تنتقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق الوقت أو بعضه؟ وحاصله أن الأقوال فيها خمسة وأربعون قولاً بينها الحافظ في «فتح الباري» والسيوطي في «شرح الموطأ» ، وقد بينتها بدلائلها في كتابي «سطوع البدر في فضائل ليلة القدر» (متفق عليه) .
111157 - (وعن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء وفتح الدال المهملتين فهاء تأنيث كنية (ابن أبي موسى) عبد الله بن قيس (الأشعري رضي الله عنه) واسم أبي بردة قيل الحارث وقيل عامر، كان قاضي الكوفة يروي عن أبيه وعلي والزبير وعنه بنوه عبد الله ويوسف وسعيد وبلال وحفيده بريد بن عبد الله، وكان من نبلاء العلماء توفي سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك جاوز الثمانين اهـ ملخصاً من «كاشف الذهبي» و «تقريب الحافظ» بن حجر (قال:(6/625)
قال عبد الله بن رسول الله) أي مخاطباً لأبي بردة (أسمعت أباك يحدث) جملة حالية من المفعول (عن رضي الله عنه في شأن) أي بيان (ساعة الجمعة؟ قال: قلت نعم) حصل به الجواب وزاد لزيادة البيان قوله (سمعته يقول: سمعت رسول الله يقول: هي) أي ساعة الإجابة فيها (ما) أي الوقت الذي (بين أن يجلس الإمام) أي على المنبر (إلى أن تقضى الصلاة. رواه مسلم) قال المصنف في «شرحه» : هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال: لم يسنده غير مخرمة عن أبيه عن أبي بردة، ورواه جماعة عن أبي بردة من قوله، ومنهم من بلغ به أبا موسى رضي الله عنه عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة وتابعه وأصل الأحدب ومجالد، روياه عن أبي بردة من قوله، وقال النعمان بن عبد السلام: عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه موقوف ولا يثبت قوله عن أبيه. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن حماد بن خالد «قلت لمخرمة: سمعت عن أبيك شيئاً؟ قال لا» هذا كلام الدارقطني وهذا الذي استدركه بناه على القاعدة المعروفة له ولأكثر المحدثين أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع، أو إرسال واتصال حكموا بالوقف والإرسال وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة. والصحيح طريقة الأصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال لأنها زيادة ثقة اهـ. قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى وأشهر الأقوال قول عبد الله بن سلام: إنها آخر ساعة
بعد العصر، زاد الحافظ ابن حجر: وما عداهما إما ضعيف الإسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف. ثم اختلف السلف في أي القولين أرجح فرجح كلاً مرجحون فمن رجح الأول البيهقي وابن العربي والقرطبي، وقال المصنف: إنه الصحيح أو الصواب، ورجح الثاني أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن عبد البر وابن الزملكاني من الشافعية، قال القاضي عياض: وليس معنى هذه الأقوال أن هذا كله وقت لها بل معناه أنها تكون في أثناء ذلك لقوله «وأشار بيده يقللها» والحكمة في إبهامها ألا يقتصر على إحيائها،(6/626)
بل يعمم بالطاعات سائر أوقات الجمعة كإخفاء ليلة القدر بين الليالي، ولا يشكل على كل من القولين قوله في الحديث يصلي، لأن المراد منه عليهما أنه منتظرها وهو في حكم المصلي كما أجاب به ابن سلام رضي الله عنه لمَّا أورد عليه ذلك وهو جار على الوجه الثاني كما في «التوشيح» .
121158 - (وعن أوس) بفتح فسكون وآخره سين مهملة (ابن أوس) بضبط ما قبله، قال المصنف في «التهذيب» : هو الثقفي، وقال يحيى بن معين: يقال له أوس بن أوس، ويقال له أوس بن أبي أوس، وقال البخاري: أوس بن أوس وأوس بن أبي أويس وأوس بن حذيفة الثلاثة اسم لرجل واحد، ووافقه جماعة وخالفه بعضهم.
قلت: ممن خالفه الحافظ ابن حجر في «التقريب» فقال: أوس بن أوس الثقفي صحابي سكن دمشق وأوس بن أبي أوس، واسم أبي أوس حذيفة الثقفي صحابي أيضاً، وهو غير الذي قبله على الصحيح اهـ. قال المصنف: نزل أوس هذا دمشق ومسجده ودراه بها في درب العلي وقبره بها، روى حديثين في الجمعة حديث «من غسل واغتسل» وحديث «أكثروا من الصلاة عليّ» وحديثاً في الصيام اهـ. وفي «تقريب الحافظ» : خرج عنه الترمذي وابن ماجه، وفي «محتضر التلقيح» : أوس بن أوس له أربعة وعشرون حديثاً وليس له في الصحيح شيء (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من أفضل أيامكم) فيه دليل لأن أفضل أيام السنة يوم عرفة كما جاء «سيد الأيام يوم عرفة» (يوم الجمعة) ويوم الجمعة من الأفضل وهو أفضل أيام الأسبوع (فأكثروا عليّ من الصلاة فيه) ليزكوا ثوابها وينمو فضلها، لأن العمل الصالح يشرف بشرف زمانه ومكانه، وقوله (فإن صلاتكم معروضة عليّ) يحتمل أن يراد عرض خاص وإلا فسائر الأعمال صالحها وفاسدها في سائر الأيام تعرض عليه كما جاء في السنة. قال الشيخ ابن حجر الهيتمي وغيره: ويوم الجمعة كغيره في أن النبي يسمع بأذنيه الصلاة عليه إن كانت بحضرته بين يديه، وإلا فتبلغه الملائكة إياها، وما اشتهر من قول العامة أن النبي ليلة الجمعة يسمع بأذنيه الصلاة عليه محمول على ما ذكر، وللحديث تتمة تأتي في كتاب الصلاة على النبيّ (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان(6/627)
والحاكم في «المستدرك» .Y
121158 - (وعن أوس) بفتح فسكون وآخره سين مهملة (ابن أوس) بضبط ما قبله، قال المصنف في «التهذيب» : هو الثقفي، وقال يحيى بن معين: يقال له أوس بن أوس، ويقال له أوس بن أبي أوس، وقال البخاري: أوس بن أوس وأوس بن أبي أويس وأوس بن حذيفة الثلاثة اسم لرجل واحد، ووافقه جماعة وخالفه بعضهم.
قلت: ممن خالفه الحافظ ابن حجر في «التقريب» فقال: أوس بن أوس الثقفي صحابي سكن دمشق وأوس بن أبي أوس، واسم أبي أوس حذيفة الثقفي صحابي أيضاً، وهو غير الذي قبله على الصحيح اهـ. قال المصنف: نزل أوس هذا دمشق ومسجده ودراه بها في درب العلي وقبره بها، روى حديثين في الجمعة حديث «من غسل واغتسل» وحديث «أكثروا من الصلاة عليّ» وحديثاً في الصيام اهـ. وفي «تقريب الحافظ» : خرج عنه الترمذي وابن ماجه، وفي «محتضر التلقيح» : أوس بن أوس له أربعة وعشرون حديثاً وليس له في الصحيح شيء (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من أفضل أيامكم) فيه دليل لأن أفضل أيام السنة يوم عرفة كما جاء «سيد الأيام يوم عرفة» (يوم الجمعة) ويوم الجمعة من الأفضل وهو أفضل أيام الأسبوع (فأكثروا عليّ من الصلاة فيه) ليزكوا ثوابها وينمو فضلها، لأن العمل الصالح يشرف بشرف زمانه ومكانه، وقوله (فإن صلاتكم معروضة عليّ) يحتمل أن يراد عرض خاص وإلا فسائر الأعمال صالحها وفاسدها في سائر الأيام تعرض عليه كما جاء في السنة. قال الشيخ ابن حجر الهيتمي وغيره: ويوم الجمعة كغيره في أن النبي يسمع بأذنيه الصلاة عليه إن كانت بحضرته بين يديه، وإلا فتبلغه الملائكة إياها، وما اشتهر من قول العامة أن النبي ليلة الجمعة يسمع بأذنيه الصلاة عليه محمول على ما ذكر، وللحديث تتمة تأتي في كتاب الصلاة على النبيّ (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في «المستدرك» .Y
211 - باب استحباب سجود الشكر
هو سجدة واحدة تطلب خارج الصلاة، ويشترط لها شروط الصلاة، وأركانها: النية، وتكبيرة الإحرام، والسجود، والسلام (عند حصول نعمة ظاهرة) أي هجومها سواء كانت مما يتوقعها أولا، لكن يظهر من قولهم هجومها أنه يشترط ألا يكون متوقعاً لها، وسواء عمت النعمة المسلمين أو خصت كما صرح به المصنف وغيره (أو اندفاع بلية ظاهرة) ولو تصدق أو صلى شكراً فحسن، قاله في «التهذيب» ، قال الناشري في (الإيضاح) أي يفعل ذلك مع السجود كما صرح به النووي في «مجموعه» ، وفهم الخوارزمي تليمذ صاحب «التهذيب» أنه بدله فقال: لو أقام التصدق أو الصلاة مقام السجود للشكر كان حسناً اهـ.
11159 - (وعن سعد بن وقاص رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله من مكة نريد المدينة) بالتحتية حال من رسول الله على مذهب الفارسي في إجازته مجيء الحال من المضاف إليه من غير شرط، وعى الاشتراط فتعرب الجملة مستأنفة، وبالنون حال من فاعل خرجنا «فلما كنا قريباً من عزوزاء» بفتح العين وضم الزاي وسكون الواو وبالزاي الثانية مثل دبوقاً اسم للمعذرة، وفي بعض النسخ بسكون الزاي وفتح الواو والمد، وهو أقرب، ولابن العبد عزوزاه بالهاء بدل الهمزة قال البكري: هو بضم الزاي وواو وزاي أخرى: موضع بين مكة والمدينة، وأنا أظنه تصحيفاً وأنه بفتح العين المهملة وسكون الزاي وفتح الواو، وراء مهملة: موضع قريب من مكة، قاله ابن رسلان (نزل) أي عن راحلته (ثم رفع يديه فدعا الله) سبحانه وتعالى (ساعة) فيه استحباب رفع اليدين في كل دعاء (ثم خر) أي سقط بعزمة (ساجداً) منصوب على الحال، والسجود هو وضع الجبهة مكشوفة على الأرض وهو غاية الخرور ونهاية الخضوع (فمكث) ضم الكاف وفتحها: أي أقام. قال ابن عطية: وفتح(6/628)
الكاف أحسن لأنه لغة القرآن في قوله ماكثين إذ هو من مكث بفتحها، ولو كان من مضمومها لكان مكيتين (طويلاً) فيه فضيلة تطويل سجدة الشكر ومثلها سجدتا السهو والتلاوة وغيرهما (ثم قام) أي من سجوده وسلم (فرفع يديه) أي للدعاء (ساعة) ويحتمل أن يكون المراد ثم قام للدعاء بعد التحلل من سجدة الشكر، فيؤخذ منه ندب القيام للدعاء بعد التحلل من سجدة الشكر (ثم خر ساجداً) لله عزّ وجل (فعله) أي ما ذكر من الخرور والسجود (ثلاثاً وقال: إني سألت ربي) سبحانه وتعالى حذف المفعول للتعميم أو لأنه المراد بقوله (وشفعت لأمتي) بفتح الفاء ظاهره حصولها منه لهم في الدنيا، ولا يشكل عليه حديث الصحيحين «لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي» خلافاً لمن توهمه لأنها وقعت منه لهم في الدنيا، وهناك شفاعة خاصة جعلها دعوته المقطوع بإجابها، وفيه مزيد كمال
شفقته بأمته ورأفته بهم واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة (فأعطاني) أي بالدعاء الأول (ثلث أمتي) أي أن يدخلهم الجنة (فخررت) بكسر الراء الأولى (ساجداً لربي) عز وجل (شكراً) نصب على المصدرية: أي خرور شكر، أو على العلة أو الحال فيه: أي ولما استجاب الله دعوته في أمته وذلك من أعظم النعم عنده وأثمها خر ساجداً شكراً لذلك. ففيه استحباب سجود الشكر عند تجدد النعمة، وظاهر الحديث أن سجوده كان خارج الصلاة وهو كذلك فإنها لا تشرع فيها (ثم رفعت رأسي) أي من سجدة الشكر (فسألت ربي وشفعت لأمتي) حذف المسؤول إيماء إلى كثرته وعظمته، وأنه فوق ما تحيط ببيانه العبارة، والمطلوب بهذا السؤال الثاني الزيادة على الحاصل الأول (فأعطاني ثلث أمتي) الثاني: أي أن يدخلوا الجنة (فخررت ساجداً لربي شكراً) فيه تكرير السجود بتكرير المقتضي له (ثم رفعت رأسي) أي من السجدة الثانية (فسألت ربي) وشفعت (لأمتي فأعطاني الثلث الآخر) بكسر الخاء (فخررت ساجداً لربي) سجدة ثالثة شكراً له سبحانه (رواه أبو داود) في «الجهاد» من «سننه» .(6/629)
212 - باب فضل قيام الليل
أي التهجد فيه.
(قال الله تعالى) : ( {ومن الليل} ) أي بعضه ( {فتهجد به} ) أترك الهجود والتهجد ترك الهجود للصلاة كالتأثم والتحرج ( {نافلة لك} ) فإنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فجمع نوافله زيادة في رفع درجته أو معناه: فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة. وعن كثير من السلف أن التهجد كان واجباً عليه، ونصبها بالعلية أو بتقدير فرضها فريضة، أو حال من مضير به ( {عسى أن يبعثك ربك مقاماً} ) أي في مقام أو تقديره فيقيمك مقاماً ( {محموداً} ) وهو مقام الشفاعة لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون. وفي الآية إيماء إلى أن ارتقاء المقامات المحمودة من نتائج قيام الليل فإن للوارث مشرباً من بحار مورثه.
(وقال تعالى) : ( {تتجافى} ) ترتفع وتتنحى ( {جنوبهم عن المضاجع} ) أي الفرش ومواضع النوم ( {يدعون ربهم} ) داعين ( {خوفاً} ) من عقابه ( {وطمعاً} ) في ثوابه ( {ومما رزقناهم ينفقون} ) في مصارف الخير، والمراد التهجد وقيام الليل، وفي الأحاديث الصحيحة ما يدل عليه وهو المناسب لسياق المصنف، وقال آخرون: هو صلاة العشاء والصبح في جماعة. وقال آخرون هو صلاة الأوابين بين العشاءين، وعن بعض: هو انتظار صلاة العتمة.
(وقال تعالى) في مدح المحسنين ( {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} ) ينامون، وما زائدة، ويهجعون خبر كان، وقليلاً إما ظرف: أي زماناً قليلاً، ومن الليل إما صفة أو متعلق بيهجعون وإما مفعول مطلق: أي هجوعاً قليلاً، ولو جعلت ما مصدرية فما يهجعون فاعل قليلاً، ومن الليل بيان أو حال من المصدر. وأما جعلها نافية: أي الهجوع في قليل من الليل منتف بمعنى أن عادتهم إحياء(6/630)
جميع أجزاء الليل فلا نوم لهم أصلاً، وأن عادتهم التهجد في جميع الليالي فلا يمكن أن يناموا جميع ليل واحد، فجائز عند من يجوز عمل ما بعد ما النافية فيما قبلها إذا كان ظرفاً، ذكره الصفوي في «جامع البيان» .
11160 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي يقوم من الليل) أي بعضه ولم يستوف ليلة بالقيام تخفيفاً على أمته (حتى تتفطر) بفتح الفاء والمهملة: أي تتشقق وفي نسخة تنفطر بالنون الساكنة فالفاء (قدماه) وهذا غاية لما دل عليه ما قبله: أي دأب في الطاعة إلى تفطر قدميه من طول القيام واعتماده عليها (فقلت له لم تصنع هذا) سؤال عن حكمة الدأب والتشمير في الطاعة (يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أتت به طبق الآية المكنى بها عن رفعة شأنه وعلو مكانه، لا أن هناك ذنباً فيغفر لوجوب العصمة له كسائر الأنبياء (قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) أي أأترك صلاتي لأجل مغفرته فلا أكون عبداً شكوراً؟ فالفاء عاطفة على مقدر بعد الهمزة كما جرى عليه «الكشاف» ، ظن السائل أن سبب تحمل مشاق الطاعة خوف الذنب، أو رجاء العفو فبين أن له سبباً آخر هو أعلى وأكمل وهو الشكر على التأهل لها مع المغفرة وإجزال النعمة والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن أدام بذل الجهد في ذلك كان شكوراً وقليل ما هم، ولم يوف أحد بعلي هذا المنصب إلا الأنبياء وأعلاهم فيه نبينا، وإنما ألزموا أنفسهم الجهد في العبادة لكمال علمهم بعظيم نعمة ربهم من غير سابقة استحقاق (متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب المجاهدة.
(وعن المغيرة) ابن شعبة (نحوه) ولفظه «إن كان رسول الله ليقوم أو ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً (متفق عليه) رواه البخاري بهذا اللفظ ومسلم بنحوه، ورواه الترمذي في «الشمائل» بلفظ «صلى رسول الله حتى انتفخت قدماه فقيل له: أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من(6/631)
ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟» والحديث تقدم في باب المجاهدة.
31161 - (وعن علي رضي الله عنه: أن النبي طرقه وفاطمة) بالنصب عطف على الضمير المنصوب (ليلة) الإتيان به على تجريد الطروق عن جزء معناه الآتي وإرادة مطلق الإتيان، ونحو قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (الإسراء: 1) بناء على أن الإسراء السير ليلاً وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإتيان (فقال ألا تصليان) ألا أداة عرض، واقتصر عليه المصنف لأنّه مقصود الترجمة لما فيه من طلب القيام حينئذ من عليّ وفاطمة، ووصوله إليهما إيقاظاً لهما من نومهما، أو تنبيهاً على عظم الصلاة حينئذ وفضلها. قال ابن جرير: لولا ما علم النبي من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان يزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلقه سكنا، لكنه اختار لهما تلك الفضيلة على الدعة والسكون، وسكت عما أجاب به على رضي الله عنه وما قاله النبيّ لعدم تعلقه بغرض الترجمة (متفق عليه. طرقه: أتاه ليلاً) .
41162 - (وعن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب) القرشي العدوي أبي عمر أو أبي عبد الله المدني أحد فقهاء المدينة السبعة، كان ثبتاً عابداً فاضلاً، وكان يشبه بأبيه في الهدي والسمت، من كبار التابعين مات آخر سنة ست ومائة على الصحيح كذا في التقريب للحافظ وفي قوله (رضي الله عنهم) تغليب لأبيه وجده الصحابيين عليه. (عن أبيه أن النبيّ) هو مرسل صحابي لأنه يرويه عن أخته حفصة عن النبيّ أنه (قال) لما عرضت عليه حفصة ما رآه ابن عمر من المنام المذكور في «الصحيحين» (نعم الرجل عبد الله) قال(6/632)
القرطبي: إنما فسر الشارع من رؤيا عبد الله ما هو محمود لأنه عرض على النار ثم عوفي منها، وقيل له: لا روع عليك وذلك لصلاحه، وفيه جواز الثناء على من أمن عليه الإعجاب (لو كان يصلي من الليل) قال البرماوي: لو للتمني لا شرطية، قال المهلب: إنما فسرها بقيام الليل لأنه لم ير شيئاً منه يغفل عنه من الفرائض فيذكر بالنار وعلم مبيته في المسجد فعبر ذلك بأنه منبه على قيام الليل. وفي الحديث إيماء إلى أن قيام الليل ينجي من النار، وفيه تمني الخير (قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك) أي التمني الصادر من رسول الله (لا ينام الليل) أي بعضه (إلا قليلاً) أي إلا بعضا قليلاً أو إلا نوماً قليلاً. ففيه إيماء لاستغراق قلبه بالتوجه للخدمة وإن نامت عينه فلا يستغرق قلبه فيه (متفق عليه) والحديث أخرجه أحمد.
51163 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله) مخاطباً له (يا عبد الله لا تكن مثل فلان) أي لا تماثله وتشابهه فيما بينه بقوله (كان يقوم الليل) هو كناية عن التهجد فيه/ وفي البخاري «من الليل» بزيادة من (فترك قيام الليل) ففيه ذم قطع ما يعتاده الإنسان من عمل البر ولذا أمر الإنسان ألا يفعل من البر إلا ما يطيق إدامته، والحديث تقدم في باب المحافظة على الأعمال (متفق عليه) .
61164 - (وعن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال ذكر) بالبناء للمجهول (عند(6/633)
النبي رجل) حذف الذاكر وأبهم المذكور ستراً على كل، ففيه أن من الأدب الستر في مثل ذلك (نام ليله) بالإضافة إلى الضمير (حتى أصبح) أي لم يقم فيه للتهجد (فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه) بالتثنية (أو) شك من الراوي هل قاله بالتثنية (أو قال) أي النبي في (أذنه) بالإفراد. واختلف في معناه فقال قوم: هو على ظاهره وحقيقته لأن الشيطان ممن يبول، ولا يلزم من بوله رؤية البول ولونه فيها إذ اللفظ محتمل لكون في أذنيه ظرفاً للبول وكونه ظرفاً للشيطان، وأصل الطهارة محقق فلا يجب التطهر ما لم يتحقق التنجيس. قال الشيخ عبد الوهاب الشعراوي في العهود المحمدية: ولقد رأيت عياناً إنساناً من أهل الزاوية نام حتى الفجر، فقام والبول يسيل من أذنه، قال: وكان يكذب بذلك، فينبغي الإيمان به وبما شاكله، وقيل إنه كناية أو استعارة عن كمال استهانة الشيطان به وتمكنه تمكن قاضي الحاجة من محل قضائها، وقيل معناه أفسده يقال بال في كذا: أي أفسده، وقيل استخف به واحتقره، يقال لمن استخف بإنسان وخدعه بال في أذنه، وأصل ذلك في دابة تفعل ذلك بالأسد إذلالاً له، وقيل معناه: ظهر عليه وسخر منه (متفق عليه) وفيه أن إهمال حق الله تعالى إنما ينشأ عن تمكن عدو الله في ذلك الإنسان حتى يحول بينه وبين القيام بحق الله سبحانه.
71165 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: يعقد الشيطان) أي إبليس أو أحد أولاده (على قافية رأس أحدكم) قيل العقد كناية عن تثقيله بالنوم وتثبيطه، وقيل مجاز عن تثبيطه عن قيام الليل قال في النهاية: المراد منه تثقيله في النوم وإطالته كأنه شد عليه شداداً وعقد عقداً، وقيل على ظاهره فعند ابن ماجه يعقد في حبل وهو من باب عقد السواحر النفاثات في العقد وذلك بأن يأخذن خيطاً فيعقدن عليه عقدة منه ويتكلمن عليه بالسحر فيتأثر المسحور بمرض أو تحريك فلب أو نحوه. وقال المصنف: هو عقد حقيقي بمعنى عقد السحر للإنسان ومنعه من القيام، فهو قول يقوله فيؤثر في تثبيط النائم كتأثير(6/634)
السحر، ويحتمل أن يكون فعلاً يفعله كفعل النفاثات في العقد، وقيل هو من عقد القلب وتصميمه فكأنه يوسوسه ويحدثه بأن عليك ليلاً طويلاً فيتأخر عن القيام (إذا هو نام) أي تلبس به أو إذا أراده (ثلاث عقد) قال البيضاوي: الثلاث إما للتأكيد وإما لحل كل منها بواحد من الذكر والوضوء والصلاة، قال: وتخصيص القفا لأنه محل الواهمة ومجال تصرفها وهي أطوع القوى للشيطان وأسرعها إجابة لدعوته (يضرب على كل عقدة) أي عندها كما في رواية (عيك ليل طويل) مبتدأ وخبر مقدم، أو فاعل لفعل محذوف: أي بقي عليك ليل، قال المصنف: هو في معظم نسخ بلادنا: أي من مسلم، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين «عليك ليلاً طويلاً» بالنصب على الإغراء، ورواه بعضهم «عليك ليل طويل» بالرفع: أي بقي عليك ليل طويل اهـ. قال البرماوي: هو أولى وأمكن في المعنى من حيث إنه يخبره عن طول الليل ثم يأمره فيقول له (فارقد) فإذا كان إغراء كان أمراً بملازمة طول الرقاد فلا يبقى لهذا الأمر كبير فائدة، والجملة مقول قول محذوف: أي قائلاً هذا الكلام، قال ابن بطال: هو تفسير لمعنى العقد كأنه يقولها إذا أراد النائم الاستيقاظ اهـ. والظاهر أنه يقول ذلك عند نومه ليحمله على الاستغراق في النوم وعدم القلق فيه
فيفوته القيام (فإن استيقظ فذكر الله تعالى) بأي ذكر من الأذكار (انحلت عقدة) بالتنوين (فإن توضأ انحلت عقدة) أي ثانية، وفي رواية لمسلم «فإن توضأ انحلت عقدتان» قال المصنف: معناه تمام عقدتين: أي انحلت عقدة ثانية وتم بها عقدتان وهو بمعنى قوله تعالى: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} () إلى قوله
{في أربعة أيام} (فصلت: 9، 10) أي في تمام أربعة أيام، ومعناه في يومين آخرين تمت الجملة بهما أربعة أيام، ومثله في الحديث الصحيح «من صلى على جنازة فله قيراط، ومن اتبعها حتى توضع في القبر فقيراطان» هذا لفظ إحدى روايات مسلم، ورواه البخاري ومسلم من طرق كثيرة بمعناه، والمراد فله قيراط بالأول أي يحصل له بالصلاة قيراط، وبالاتباع قيراط: أي تتم به الجملة قيراطان، ومثله حديث مسلم «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله» اهـ. ملخصاً (فإن صلى) أي ولو ركعة أو أقل ما يعتاد وهو ركعتان كل محتمل (انحلت عقدة) روى بالإفراد كما قبله وبالجمع، قال البرماوي: ويؤيده رواية البخاري في بدء الخلق «عقده كلها» (فأصبح نشيطاً) لسروره بما وفقه الله (طيب النفس) لما بارك الله له في نفسه من(6/635)
هذا التصرف الحسن (وإلا) أي وإن لم يأت بما ذكر من الأمور الثلاثة (أصبح خبيث النفس) أي بتركه ما كان اعتاده أو نواه من فعل الخير، ولا يعارض هذا الحديث «لا يقل أحدكم خبثت نفسي» لأن النهي لمن يقول ذلك عن نفسه، وهنا إنما أخبر عن غيره بأنه كذلك (كسلان) أي لبقاء أثر تثبيط الشيطان ولشؤم تفريطه وظفر الشيطان به بتفويته الحظ الأوفر من قيام الليل فلا يكاد تخف عليه صلاة ونحوها من القرب، وهو غير منصرف للوصف وزيادة الألف والنون ومؤنثه كسلى، وبما تقرر علم أنه يصبح كذلك ما لم يصل وإن أتى بما قبلها (متفق عليه) وهذا لفظ البخاري، ورواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه
وابن حبان في «صحيحه» كذا في الجامع الكبير (قافية الرأس) بالرفع مبتدأ وبالجر على الحكاية (آخره) وقافية كل شيء مؤخره، ومنه قافية الشعر، وقال الزركشي: قافية أي القفا بالقصر وهو مؤخر العنق.
81166 - (وعن عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام الإسرائيلي تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في كتاب السلام (أن النبيّ قال: أيها الناس) حذف حرف النداء اختصاراً وإيماء إلى شدة التوجه لما بعده (أفشوا السلام) بقطع الهمزة: أي أشيعوه وأذيعوه بينكم (وأطعموا الطعام وصلوا بالليل) أي التهجد بأن يكون بعد نوم أو ائتوا بها فيه مطلقاً (والناس نيام) لأن هجر المصلي فراشه وآداب نفسه في طاعة ربه وحرمان نفسه لذيذ المنام شديد، فلذا جوزي من محض الفضل بقوله (تدخلوا الجنة بسلام) أي مسلمين من العذاب قبل دخولها، ففيه بشارة لفاعل مجموع ذلك بالدخول لها ابتداء والله أعلم (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ورواه أحمد وعبد الله بن حميد والدارمي وابن أبي شيبة وابن ماجه وابن سعد(6/636)
وسعيد بن منصور والحاكم في «المستدرك» والطبراني وابن زنجويه/ كلهم عن عبد الله بن سلام بزيادة «وصلوا أرحامكم» قبل قوله «وصلوا بالليل» كذا في «الجامع الكبير» .
91167 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أفضل الصيام) أي النفل المطلق منه (بعد رمضان شهر الله المحرم) أي صومه كما يدل عليه قرينة المقام وإضافته إلى الله تعالى للتشريف وتخصيصه بلفظ المحرم، مع أن كلا من الأشهر الحرم يوصف به لما قيل إنه اسم إسلامي وإن تحريمه كذلك فلم تغير حرمته بما كان يفعله أهل النسىء (وأفضل الصلاة) من النفل المطلق (بعد الفريضة صلاة الليل) لأنه وقت السكون والخشوع والخضوع مع ما فيه من البعد عن الرياء (رواه مسلم) ورواه الأربعة والدارمي أيضاً بلفظ «أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم» ولا يخالفه حديث الترمذي والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعاً «أفضل الصوم بعد رمضان شعبان» لتعظيم رمضان لأن سبب الفضل مختلف، فالمحرم لكونه فاضلاً في ذاته، وشعبان لتعظيم غيره والله أعلم.
101168 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: صلاة الليل مثنى مثنى) أي ركعتان ركعتان، وهما معدولان عن اثنين اثنين، فلذا مع الوصف منع الصرف كما تقدم في باب تخفيف ركعتي الفجر (فإذا خفت) وفي رواية «فإذا خشي أحدكم» (الصبح) أي خشيت طلوعه بأن بدأ الصبح الكاذب أو نحوه مما يكون قبل الفجر الصادق (فأوتر بواحدة) فيؤخذ منه فضل فضل ركعات الوتر ركعتين ركعتين فركعة الوتر وهو الأصح من مذهبنا لأنه أكثر عملاً، وفي رواية زيادة «توتر له ما صلى» وفي أخرى «فإن الله وتريحب الوتر» (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد وأصحاب السنن الأربعة.(6/637)
111169 - (وعنه قال: كان النبي يصلي من الليل) أي يتهجد، والتهجد يحصل بالوتر وغيره من كل نفل مفعول بعد نوم (مثنى مثنى ويوتر بركعة) والحديث تقدم بجملته في باب تخفيف ركعتي الفجر (متفق عليه) .
121170 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله يفطر من الشهر) أي بعضه ويديم الفطر (حتى نظن) لطول فطره (أن لا يصوم منه) استصحاباً لفطره (ويصوم) أي بعض الشهر ويتابع الصوم (حتى نظن أن لا يفطر) منه شيئاً من الأيام أو من الفطر، وفي الإتيان به هنا دون الجملة السابقة إيماء إلى أن متابعة الصوم إذا صام أطول من متابعة الفطر إذا أفطر (وكان) أي الشأن (لا تشاء) أي لا زمن تحب (أن تراه) تبصره (من الليل مصلياً) أي فيه (إلا رأيته) أي إلا زمان رؤيتك إياه كذلك ففي الكلام مضاف مقدر (ولا نائماً إلا رأيته) وقال القسطلاني: لا بمعنى ليس أو لم: أي لست تشاء أو لم تكن تشاء، أو تقديره: لا زمن تشاء، فعلى هذا يكون التركيب من باب الاستثناء على البدل، والتقدير على الإثبات: إن تشأ رؤيته متهجداً رأيته متهجداً، وإن تشأ رؤيته نائماً رأيته نائماً، فكان أمره قصداً لا إسراف ولا تقتير، وقال بعضهم: الحصر فيه إضافي باعتبار تعاور هاتين الحالتين عليه مع غلبة التهجد على النوم تارة وعكسه أخرى والحكم للغالب فبالنظر لذلك صح الحصر فيها. ما كان يعين بعض الليل للنوم وبعضه للصلاة كأصحاب الأوراد وكذا الصوم، بل كان يخالف بين أوقاتهما ليكونا مشقين على النفس لا عادتين لها، فإنه إذا صام مدة صار عادة له واطمأنت له النفس، فإذا أفطر كان شاقاً عليها وكذا عكسه/ قال الحافظ ابن حجر: لم يكن لتهجده وقت معين بل بحسب ما يتيسر له القيام، ولا يعارضه قول أنس: «كان إذا سمع الصارخ قام» لأنه محمول على ما وراء صلاة القيام، ولا يعارضه قول أنس: «كان إذا سمع(6/638)
الصارخ قام» لأنه محمول على ما وراء صلاة، الليل، وحديث الباب محمول على صلاته، ولا قول عائشة «كان إذا صلى صلاة داوم عليها» وقولها «كان عمله ديمة» لأنّ المراد به ما اتخذه راتباً لا مطلق النفل اهـ ملخصاً، وهذه الطريقة المشار إليها بحديث أنس أعلى طبقات العبادة وأسناها، وهناك طرائق أخر: فمنهم من
شدد على نفسه بالمرة فمنعها حقها وحظها، ومنهم من أعطاها كليهما، وخير الأمور أوسطها: إعطاؤها حقها وحظها واستعمالها معه في خدمة ربها (رواه البخاري) والترمذي في «الشمائل» .
131171 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان يصلي) أي للتهجد والوتر (إحدى عشرة ركعة) وقول الراوي (تعني) بالفوقية: أي عائشة تريد بتلك الركعات النفل الذي كان يتهجد به (في الليل) وفيه أنه قد يتهجد بالوتر (يسجد السجدة من ذلك) أي القدر المذكور (قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه) ظرف ليقرأ، وجملة يسجد مستأنفة لبيان كيفية قيامه بها ولاستحباب إطالتها، أو حالية من ضمير يصلي (ويركع ركعتين) عدل إليه عن قول يصلي ركعتين تفنناً في التعبير، وفيه مجاز مرسل أطلق الجزء وأريد به الكل (قبل صلاة الفجر) بعد طلوع الفجر هما سنتاه القبليتان (ثم يضطجع على شقه) بكسر الشين المعجمة: أي جانبه (الأيمن) تشريعاً للأمة ليذكروا بها ضجعة القبر، فتحملهم على الخشوع الذي هو لب الصلاة ويستمر مضطجعاً عليه (حتى يأتيه المنادي) هو بلال (للصلاة) وذلك بعد اجتماع المصلين (رواه البخاري) .
141172 - (وعنها قالت: ما كان رسول الله يزيد) أي في الوتر (في رمضان ولا في غيره(6/639)
على إحدى عشرة ركعة) فهي أكثره، ورواية أنه صلاه ثلاث عشرة محمولة على أن الراوي عد الركعتين اللتين كان يأتي بهما قبله لإزالة ما يبقي من كسل النوم معه ثم أتت على طريق الاستئناف البياني مفصلة لذلك بقولها (يصلي أربعاً) أي من الركعات (فلا تسأل عن حسنهن) لكما اشتمالهن على الآداب المطلوبة فيها وطولهن وكان ذلك أول الدخول لتوفر النشاط، كما قال الفقهاء باستحباب السورة في الأولين لذلك دون الأخيرتين مع ورود السنة بها فيهما أيضاً (ثم يصلي أربعاً فلا تسأل) بالجزم (عن حسنهن وطولهن) أي أن ظهور هذين الوصفين فيهن يغني عن السؤال، وأتت بذلك لئلا يتوهم أنهم دون الأربع قبلهن كما هو العادة من غيره من الناس (ثم يصلي ثلاثاً) أي كذلك وسكتت عنه لما ذكر من استواء أحواله في حسن الصلاة وإكمالها (فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر) استفهام لبيان حكمة النوم قبله مع أن النوم ربما يغلب على النائم فيؤدي النوم قبله إلى فواته (فقال) مرشداً للفرق بينه وبين باقي الأمة (يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) قال المصنف: هذا من خصائص الأنبياء، ولذا لا ينتقض وضوؤهم بالنوم، وأما نومه في قصة الوادي حتى طلعت الشمس وفات وقت الصلاة فلأن طلوع الفجر والشمس متعلق بالعين وهي نائمة لا بالقلب، وأماأمر الحدث فمتعلق بالقلب، وقيل إنه كان لا ينام قلبه تارة وينام أخرى، وصادف قصة الوادي نومه، قال المصنف: والصواب الأول اهـ. (متفق عليه) .
151173 - (وعنها: أن النبي كان ينام أول الليل) أداء لكل من العين والنفس حقها منه وذلك أن الجسد يصيبه الكلال من مزاولة الأعمال (ويقوم آخره) أي في أواخره/ وتقدم في حديث أنس «أنه كان يقوم إذا صرخ الصارخ» يعني الديك وهو يقوم وقت انتصاف الليل،(6/640)
وقوله (فيصلي) تنبيه على المقصود من قيامه حينئذ، وفيه تنبيه على أن أفضل القيام لمن صلى به حينئذ وبها ترتفع العقد كما تقدم. بخلاف مجرد القيام وإن اقترن به نحو ذكر فلا يحلها كلها (متفق عليه) ورواه ابن ماجه بلفظ «كان ينام أول الليل ويحيى آخره» .
161174 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي ليلة) أي مقتدياً به في تهجده، ففيه جواز الجماعة في النفل المطلق (فلم يزل) بفتح الزاي (قائماً) أي ما برح على قيامه (حتى هممت) أي قصدت، والهم بمعنى القصد ويعدى بالباء (بأمر سوء) بالفتح نقيض المسرة مصدر وشاعت الإضافة إليه كرجل سوء ولا يقال بالضم وكما في الصحاح، وفي نسخة «بأمر سوء» على الوصف دون الإضافة. قال القسطلاني: الرواية بالإضافة كما أفهمه كلام الحافظ في «فتح الباري» (قيل وما هممت) به (قال هممت أن أجلس) وفي رواية الترمذي في «الشمائل» «أن أقعد» (وأدعه) أي بأن ينوي قطع القدوة ويتم صلاته منفرداً لا أنه يقطع صلاته كما ظنه القسطلاني وغيره، لأن ذلك لا يليق بجلالة ابن مسعود، وترك الاقتداء به والحرمان من مداومة جماعته أمر سوء، وفي الحديث تطويل الإمام لكن محله عند الشافعية عند انحصار الجمع إذا رضوا ولم يطرأ غيرهم ولم يتعلق بعينهم حق (متفق عليه) .(6/641)
171175 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي) أي مؤتماً به في تهجده (ذات ليلة فافتتح البقرة) أي بعد الفاتحة لا أنه افتتح بها من غير قراءة الفاتحة فإنه كان يقرؤها، وصح عنه «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وإنما يذكره الراوي اعتماداً على فهم السامع (فقلت: يركع عند المائة) بكسر الميم وفتح الهمزة وبينهما في الرسم ألف، وبعض الجهال يقوله بفتح الميم والتحتية بينهما ألف، قال الراعي: وهذا جهل كأنه قائله ما قرأ القرآن، وإنما كتبت الألف على خلاف قاعدة الخط دفعاً للالتباس بمنه الجار (ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة) أي فيركع عند تمامها (فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها) هذا ترتيب مصحف ابن مسعود، فلا يقال إن ترك ترتيب السور وقراءة الأخيرة ثم ما قبلها خلاف الأولى، ولعل الترتيب كان حينئذ كذلك، ثم أمر النبي بتقديم آل عمران، وقال المصنف: فيه دليل لمن قال إن ترتيب السور اجتهاد لا توقيف فيه، وبه قال مالك والجمهور والباقلاني وقال إنه أصح القولين مع احتمالهما. قال المصنف: ومن قال إنه توقيفي حدده كما استقر في المصحف العثماني، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف والعرض الأخير فيتناول قراءته النساء فآل عمران، على أنه كان قبل التوقيف في الترتيب وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أبيّ. قال المصنف: ولا خلاف في أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى، وإنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو خارج الصلاة، وأباحه آخرون وحملوا التنكيس المنهي عنه على من قرأ من آخر السورة إلى أولها، ولا خلاف أن ترتيب الآيات توقيفي اهـ. ملخصاً، وقد نقله هو عن القاضي عياض، وقوله (يقرأ مترسلاً) جملة مستأنفة أو(6/642)
حالية لبيان كيفية قراءته، والترسل ترتيل الحروف وأداؤها حقها (إذ مر بآية فيها تسبيح) كقوله تعالى: {وسبحوه بكرة وأصيلاً} (الأحزاب: 42) (سبح) أي
قال سبحان الله (وإذا مر بسؤال) أي بآية فيها ذلك كقوله تعالى: {واسألوا الله من فضله} (النساء: 32) وقوله: {فليستجيبوا لي} (البقرة: 186) (سأل وإذا مر بتعوذ) أي بآية فيها ذلك كقوله تعالى عن أم مريم: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} (آل عمران: 36) أو طلبه كقوله تعالى:
{فإما ينزغك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} (الأعراف: 200) (تعوذ) أي سأل الله العوذ من الشيطان وخالف في تعبيره بما في الشرطية الأولى وبما في الأخيرتين تفننا في التعبير. ويؤخذ من الحديث استحباب جميع ما ذكر للقارىء (ثم ركع فجعل) أي عقب تمام ركوعه وهو من أفعال الشروع أي أخذ (يقول) فيه (سبحان ربي العظيم) أي يكرره لقوله (فكان ركوعه نحواً) أي قريباً (من قيامه) أي كان زمن ركوعه قريباً من زمن قيامه، ففيه تطويل الركوع (ثم قال) أي مع رفع رأسه من الركوع (سمع الله لمن حمده) أي تقبله منه (ربنا لك الحمد) قاله حال انتصابه (ثم قام) في الاعتدال من الركوع قياماً (طويلاً قريباً مما ركع) قال المصنف: فيه دليل لجواز تطويل الاعتدال عن الركوع وأصحابنا يمنعونه ويبطلون به الصلاة (ثم سجد فقال: سبحان ربّي الأعلى) صح «أنه لما نزل: {فسبح بسم ربك العظيم} (الواقعة: 74) ، قال: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت: {سبح اسم ربك الأعلى} (الأعلى: 14) قال: اجعلوها في سجودكم» وحكمته أنه ورد «أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً» فخصه بالأعلى: أي عن الجهات والمسافات لئلا يتوهم بالأقربية ذلك، وقيل لما كان الأعلى أفعل تفضيل وهو أبلغ من العظيم والسجود(6/643)
أبلغ في التواضع فجعل الأبغ للأبلغ (فكان سجوده قريباً من قيامه. رواه مسلم) وتقدم في باب المجاهدة.
181176 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سئل) بالبناء للمجهول ولم أقف على السائل (رسول الله: أي الصلاة) أي أعمالها (أفضل؟ قال: طول القنوت. رواه مسلم المراد بالقنوت القيام) قال المصنف: فيه دليل لمن فضل تطويل القيام على تطويل السجود وتكثير الركوع، وهو مذهب الشافعي وجماعة لحديث جابر هذا، ولأن ذكر القيام القراءة وذكر السجود التسبيح والقرآن أفضل، ولأن المنقول عن النبيّ أنه كان يطول القيام أكثر من تطويل السجود. وفي المسألة مذاهب أخر، قيل تطويل القيام في الليل أفضل وتكثر الركوع والسجود نهاراً أفضل، وعليه إسحاق بن راهويه، وقيل تطويل السجود وتكثير الركوع أفضل مطلقاً، وقيل إنهما سواء.
191177 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال) مخاطباً (له) لما أمره بترك مداومة الصوم والقيام وأن يصوم ويفطر ويقوم وينام (أحب الصلاة) أي التهجد (إلى الله) أي أرضاها إليه وأكثرها ثواباً عنده (صلاة داود) عليه السلام (وأحب الصيام إلى الله) أي النفل المطلق منه (صيام داود) عليه السلام، ثم بين ذلك على طريق الاستئناف البياني أو العطف البياني بناء على مجيئه في الجمل بقوله (كان ينام نصف الليل) إعطاء للعين والجسد حقهما منه (ويقوم ثلثه) بضمتين ويخفف الثاني فيسكن: أي(6/644)
يحييه بالقيام بالتهجد (وينام سدسه) إراحة للجسد مما أصابه من مرادفة الصلاة. وفيه طلب إخفاء عمل البر وستره عن الغير ليكون أقرب للإخلاص، فإن من قام ونام ما ذكر كان لم يقم لذهاب كلال ذلك السهر بالنوم، ففيه إخفاء التهجد بخلاف المستمر على السهر إلى الفجر فإنه يبدو عليه الأثر ففيه تعرّض لظهور عمله الليلي (ويصوم يوماً ويفطر يوماً) اختلف هل الصوم كما ذكر أفضل من صوم الدهر بشرطه لكل أحد أو ذلك خاص بابن عمرو؟ والجمهور على الأول وذلك لما فيه من المشقة على النفس ومن إعطاء النفس حقها، إذ يحصل لها من القوى يوم الفطر ما يجبر ما قام بها من ضعف يوم الصوم (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
201178 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول) مؤكداً بمؤكدات إسمية الجملة وتصديرها بأن وتقديم خبرها والإتيان باللام، وكأن الداعي إليه استبعاد كون الليل محل التجليات لكونه جعل سكناً، ومع ذلك الاستبعاد بأن فيض الله على حسب مشيئته فيجعله فيما شاء من ليل أو نهار (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم) التقييد به لكونه جريا على الغالب من قيام الرجل حينئذ لا مفهوم له فمن وافقها من النساء المسلمات كذلك (يسأل الله خيراً) مفعول مطلق: أي سؤال خير وأضافه إليه لكونه أثره وحاصلاً عنه أو مفعول به، وفيه إيماء إلى كمال كرم الله سبحانه وتعالى من عدم الوعد بإجابة السائل شراً حينئذ من أمر الدنيا والآخرة كالعافية فيهما وحصول التوفيق في الدنيا والجنة في العقبى (إلا أعطاه إياه) ففيه حث على الدعاء في الليل وحض عليه، وأبهم الساعة في جميعه طلباً لعمارته بالتوجه للمولى وعدم الغفلة فيه بالنوم وإراحة الجسم عنه فإن التوجه بالقلب(6/645)
وهو لا ينافي النوم بالعين والجوارح، ويمكن أن تكون الساعة المطلقة في هذا الخبر محمولة على ما جاء من التقييد في رواية بأنها بعد مضي الثلث من الليل، وفي أخرى أنها في الثلث الأخير، ولا منافاة بينها إما بجعل الجميع على أنها في الثلث الأخير لصدق جميع الروايات عليه، وإما بأنها تنتقل فتارة تكون قبل النصف الأخير، وأخرى في النصف الأخير قبل الثلث الأخير، وأخرى في الثلث الأخير، أو على أنه أخبر أوّلاً أنها في الثلث الأخير فأخبر به، ثم أخبر بأنها نم نصف الليل فأخبر به، ثم أخبر بأنها من الثلث الأول فأخبر به، وفيه على كل وجه إيماء إلى اتساع زمنها، بخلاف ساعة الإجابة يوم الجمعة، ويؤيد ذلك أنه أشار لضيق ساعة الجمعة بقول الصحابي، وأشار: أي النبي بيده يقللها، ولم يقل مثل ذلك في الساعة التي في الليل، والله أعلم (وذلك) أي المذكور من إعطاء السائل ما سأل (كل ليلة) بالنصب ظرف والخبر
متعلقة أي كائن فيها، وفيه شرف الليل على النهار لأن التجليات الإلهية لا تختص بليلة دون ليلة بخلاف النهار فهي فيه مختصة بيوم الجمعة (رواه مسلم) ورواه أحمد. قال المصنف: في هذا الحديث إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة، ويتضمن الحث على الدعاء في سائر ساعات الليل رجاء مصادفتها اهـ.
211179 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: إذا قام أحدكم من الليل) أي لأجل قيامه أو فيه (فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين) لإذهاب ما قد يبقى في الجسد من كسل النوم فتشد الأعصاب وتقوى الأعضاء من فتورها فتتوجه بكمال نشاط لصلاة الليل (رواه مسلم) ورواه أحمد.
221180 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا قام من الليل) للتهجد(6/646)
(افتتح صلاته بركعتين خفيفتين) لإذهاب أثر النوم وليدخل الصلاة بكمال النشاط/ والفتور أثر النوم طبع البشر فلا نقص فيه كسائر العوارض والأمراض (رواه مسلم) .
231181 - (وعنها رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا فاتته الصلاة من الليل) المفعولة تهجداً (من) تعليلية (وجع أو غيره) كاشتغاله بأهم منه (صلى من النهار) أي فيه (ثنتي عشرة ركعة) يحتمل أنه يأتي بها قضاء لما فاته من نافلة الليل، فيؤخذ منه ندب قضاء النفل المؤقت، ويحتمل أنه لحوز ثوابه عوضاً عما فات من صلاة الليل لا قضاء عنه وعليه جرى ابن حجر في «شرح المشكاة» (رواه مسلم) .
241182 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من نام من حزبه) بكسر المهملة وسكون الزاي. قال في «النهاية» : هو ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالورد، والحزب النوبة في ورود الماء اهـ. (أو عن شيء منه) أي ولو يسيراً (فقرأه فيما) أي في وقت (بين صلاة الفجر وصلاة الظهر) الظرف في محل الصفة لما، ويجوز كونها موصولة صفة لمحذوف: أي في الوقت الذي بين الوقت المذكور (كتب) بالبناء للمجهول (له كأنما قرأه من الليل) فيه استحباب تدارك النفل المؤقت، وأن ما ترك لعذر وقضى كتب بمحض الفضل كثواب المؤدي، وأتى بالكاف إيماء إلى نقص ثواب القضاء ولو لعذر عن ثواب الأداء (رواه مسلم) والحديث سبق في باب المحافظة على الأعمال.(6/647)
251183 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: رحم الله) جملة خبرية لفظاً دعائية معنى عدل عنها إلى الخبرية تفاؤلاً بالإجابة كأنها حصلت وأخبر عنها بما يخبر به عن الحاصل.d وفيه مزيد حث على الإتيان بما يذكر بالدعاء لفاعله (رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته) للصلاة، فيه تعاون على البر والتقوى وإيثار اتباع الأمر الإلهي على الهوى النفساني (فإن أبت) أي امتنعت من القيام (نضح) أي رش (في وجهها الماء) ليذهب عنها النوم الغالب لها (رحم الله امرأة قامت من الليل) تتهجد (فصلت وأيقظت زوجها) للصلاة (فإن أبى) أي امتنع من أن يقوم (نضحت في وجهه الماء. رواه أبو داود بإسناد صححي) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في «المستدرك» كذا في «الجامع الصغير» ، ورواه الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري عن رسول الله قال «ما من رجل يستيقظ من الليل فيوقظ امرأته، فإن غلبها النوم نضح في وجهها الماء، فيقومان في بيتهما فيذكران الله عزّ وجل ساعة من الليل إلا غفر لهما» وهذا الحديث مطلق يشمل ذكر الله تعالى في الصلاة وخارجها كما في الآية، والنضح بالنون والضاد المعجمة وإهمال الحاء وإعجامها، قال في «فتح الباري» : قال الأصمعي: النضح بالمعجمة أكثر منه بالمهملة، وسوّى بينهما أبو زيد، وقال ابن كيسان: بالمعجمة لما ثخن، وبالمهملة لما رق: أي من الطيب ونحوه.
261184 - (وعنه وعن أبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله: إذا أيقظ الرجل أهله) هو أعم من امرأته، وفيه فضيلة أمر الرجل أهله بصلاة النوافل والتطوعات كما في الفرض (من) جوف (الليل فصلياً) أي كلاهما جميعاً، فعند النسائي «فصلياً جميعاً» ففيه اقتداء(6/648)
المرأة بزوجها في النافلة، وفيه مشروعية الجماعة فيها، وقال ابن رسلان: قد يقال لا دلالة في جميعا على الجماعة لصدقه على فعلهما النافلة جماعة ومنفردين (أو) شك من الراوي (صلى) أي كل منهما (ركعتين جميعاً) هكذا وقع/ ووجه الكلام فصلياً جميعاً أو صلى كل منهما منفرداً ركعتين (كتب) بالإفراد وكذا هو بخط ابن رسلان في شرحه لسنن أبي داود، وفي نسخة من «الرياض» كتباً بألف التثنية (في) جملة (الذاكرين والذاكرات) أي المذكورين في قوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} (الأحزاب: 35) وذكر الجلالة وكثيراً ليس في الراوية، وهذا من تفسير الكتاب بالسنة (رواه أبو داود بإسناد صحيح) قال ابن رسلان: ورواه ابن حبان في «صحيحه والحاكم» ، وهذا الحديث من جملة الحديث قبله من حيث المعنى، ولعل الإتيان به على احتمال أن الرواية أو صلى بإفراد الفعل أفاد ظاهرها ترتب ثواب الرجل لإيقاظ امرأته على إيقاظها وصلاته سواء أصلت هي أم لا، والله أعلم.
271185 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: إذا نعس أحدكم) قال في «المصباح» : حقيقة النعاس الوسن من غير نوم، يقال نعس ينعس من باب قتل والاسم منه النعاس، وقال الفقهاء: علامة النعاس سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهم معناه (في الصلاة) التي تقوم بها بالليل (فليرقد) ندباً (حتى يذهب عنه النوم) وذلك أن لب الصلاة الخشوع والخضوع والحضور مع الله عزّ وجل، وإنما يكون ذلك مع النشاط وصحة اللب وسلامته من الكسل، وعلل الأمر بالرقاد بقوله (فإن أحدكم إذا صلى) أي دخل في الصلاة (وهو ناعس) حال من فاعل صلى (لعله يذهب يستغفر) جملة لعل واسمها وخبرها في محل الخبر لإن، قال القاضي عياض: أي يدعو (فيسبّ نفسه) بسبب غلبة النعاس وتلجلج اللسان عند إرادة النطق (متفق عليه) ورواه مالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه.(6/649)
281186 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا قام أحدكم من الليل) يتهجد (فاستعجم القرآن) والتبس (على لسانه فلم يدر) من النعاس القائم به (ما يقول) من القرآن أو الذكر (فليضطجع) لأن غلبة النعاس عليه تمنعه من تدبر القرآن، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وختم الباب بهذين الحديثين إعلاماً بأن محل فضل القيام ما لم يكن في مثل هذا الحال، والله أعلم.
213 - باب استحباب قيام رمضان
(وهو) أي القيام الموعود عليه بالغفران في الحديث الصحيح (التراويح) أي حاصل بها، وهي عندنا لغير أهل المدينة عشرون ركعة بعشر تسليمات، كما أطبقوا عليه كذلك في زمن عمر رضي الله عنه لما اقتضاه نظره السديد من جمع الناس على إمام واحد فوافقوه ينوي بهما من التراويح أو من قيام رمضان وكانوا يوترون عقبها بثلاث، وسر العشرين أن الرواتب المؤكدة في غير رمضان عشر، فضوعفت فيه لأنه وقت جدّ وتشمير، ولهم فقط لشرفهم بجواره ست وثلاثون جبراً لهم بزيادة ست عشرة في مقابلة طواف أهل مكة أربعة أسباع بين كل ترويحتين من العشرين سبع، وابتداء حدوث ذلك كان في أواخر القرن الأول، ثم اشتهر ولم ينكر، فكان بمنزلة الإجماع السكرتي، ولما كان فيه ما فيه قال الشافعي: العشرون لهم أحب إليّ، وقال الحليمي: عشرون مع القراءة فيها بما يقرأ في ست وثلاثين أفضل، لأن طول القيام أفضل من كثرة الركعات، ووقتها كالوتر ما بين صلاة العشاء ولو مجموعة جمع تقديم وطلوع الفجر الصادق، وسميت تراويح لأنهم لطول قيامهم كانوا يستريحون بعد كل تسليمتين.(6/650)
11187 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: من قام رمضان) أي أحيا لياليه بالعبادة أو بالتراويح فيها (إيماناً) أي تصديقاً بثوابه (واحتساباً) أي إخلاصاً ونصبهما على الحالية أو على أنه مفعول له (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي الصغائر المتعلقة بحق الله بالعفو عنها وعدم المؤاخذة بها (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربع.
21188 - (وعنه رضي الله عنه قال: كان رسول الله يرغب) بتشديد الغين المعجمة: أي يذكر الثواب (في قيام رمضان) أي بإحياء لياليه لعنايته بالأمة ودلالته لهم على محل الفضل (من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة) أي لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم بل أمر ندب وترغيب، ثم فسر صيغة ترغيبه بقوله (فيقول) بالرفع عطفاً على يرغب (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. رواه مسلم) في أبواب النوافل ويؤخذ من الحديث فضل صلاة التراويح حيث رتب عليها ما ذكر فيه، وإنما فضل عليها نوفل أخر من العيدين والكسوفين والرواتب لمواظبته على تلك دون التراويح فإنه صلاها ثلاث ليال، فلما كثر الناس في الثالثة حتى غص المسجد تركها خوفاً من أن تفرض عليهم، ونفي الزيادة ليلة الإسراء نفي لفرض متكرر مثلها فلم يناف خشية فرض هذه.(6/651)
214 - باب فضل قيام ليلة القدر
بإسكان الدال المهملة، قيل إنه بمعنى مفتوحها لأنها التي فيها يفرق كل أمر حكيم ويقدر على الأصح، وقيل إنه بمعنى الشرف، فقيل لشرف قدرها عند الله تعالى، وقيل لأن من لا شرف له إذا صادفها فقامها صار ذا قدر وشرف، وقيل غير ذلك مما بينته في سطوع البدر في فضل ليلة القدر (وبيان أرجى لياليها) أي ليالي رمضان لها. واختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً، ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن الأصح منها أنها باقية وفي كل رمضان، وأنها تلزم ليلة بعينها من العشر الأخير، واختير القول بانتقالها فتكون تارة في الحادية والعشرين وتارة أخرى في أخرى من العشر الأخير، قال المصنف: وبه يجمع بين الأخبار ويرتفع التعارض عنها.
(قال الله تعالى) : ( {إنا أنزلناه} ) أي القرآن المدلول عليه بقرينة المقام ( {في ليلة القدر} ) بإنزاله فيها جملة نم اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بعد بحسب الوقائع ( {وما أدراك ما ليلة القدر} ) تعظيم لشأنها ( {ليلة القدر خير من ألف شهر} ) أي من ألف شهر ليس فيها ليلة قدر: أي العمل في تلك الليلة أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها تلك الليلة. نزلت هذه الآية حين ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب أصحابه من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي. والأصح أنها من خصائص هذه الأمة ( {تنزل} ) أي تتنزل ( {الملائكة والروح} ) أي جبريل أو ضرب من الملائكة ( {فيها بإذن ربهم} ) مع نزول البركة والرحمة، قال «الملائكة في الأرض تلك الليلة أكثر من عدد الحصى» وعن كعب الأحبار: لا تبقى بقعة إلا وعليها ملك يدعو للمؤمنين والمؤمنات سوى كنيسة أو بيت نار أو وثن أو موضع فيه النجاسة أو السكران أو الجرس، وجبريل لا يدع أحداً إلا صافحه، فمن اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه فمن أثر مصافحته ( {من كل أمر} ) أي لأجل كل أمر قدر في تلك السنة ( {سلام هي} ) ليس هي إلا سلامة لا يقدر فيها شر وبلاء، أو لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً. أو ما هي إلا سلام لكثرة تسليم الملائكة فيها على أهل المساجد. وعن مجاهد سلام هي من كل خطر ( {حتى مطلع الفجر} ) غاية(6/652)
تبين انتهاء تعميم السلامة أو السلام كل ليلة قدر إلى وقت طلوعه، والمطلع بالفتح مصدر على القياس، وبالكسر مصدر أيضاً كالمرجع، أو اسم زمان كالمشرق على خلاف القياس، وقد قرىء في السبع بهما.
(وقال تعالى) : ( {إنا أنزلناه} ) أي الكتباب المبين ( {في ليلة مباركة} ) هي ليلة القدر ( {إنا كنا منذرين} ) محذرين بإنزال الكتاب: جملة مستأنفة لبيان فائدة الإنزال ( {فيها} ) أي في تلك الليلة ( {يفرق} ) يفصل ويثبت ( {كل أمر حكيم} ) محكم لا يبدل من الأرزاق والآجال وجميع أمورهم إلى السنة ( {أمراً من عندنا} ) نصب على الاختصاص: أي أعني به أمراً حاصلاً من عندنا أو حال من كل أو من ضمير حكيم ( {إنا كنا مرسلين} ) إلى الناس رسلاً تتلو عليهم آياتنا بدل من «إنا كنا منذرين» أي أنزلناه لأن عادتنا الإرسال ( {رحمة من ربك} ) مفعول له، وقيل «إنا كنا» علة لِ «يفرق» و «رحمة» مفعول به: أي تفصل فيها الأمور لأن من شأننا أن نرسل رحمتنا وفصل الأمور من باب الرحمة ( {إنه هو السميع العليم} ) للأقوال والأفعال والرب لا بد وأن يكون كذلك.
11189 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: من قام) أي أحيا بالعبادة (ليلة القدر) ويحصل أصل قيامها بصلاة العشاء فيها جماعة والعزم على صلاة الصبح كذلك (إيماناً واحتساباً) أي مؤمناً ومحتسباً (غفر له ما تقدم من ذنبه) . قال المصنف: قد يقال هذا الحديث مع حديث «من قام رمضان» الخ يغني أحدهما عن الآخر. وجوابه أن يقال: قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر ومعرفتها سبب لغفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لمن وافقها وعرفها سبب للغفران وإن لم يقم غيرها اهـ. (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جان كلهم من حديث أبي هريرة، ورواه النسائي أيضاً من حديث عائشة كذا في «الجامع الكبير» .(6/653)
21190 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالاً من أصحاب النبي) قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» : لم أقف على تسمية أحد منهم (أروا) بضم أوله (ليلة القدر في المنام) أي قيل لهم فيه إنها (في السبع الأواخر) أي آخر سبع من الشهر، وقيل المراد بها التي أولها ليلة الثاني والعشرين وآخرها ليلة الثامن والعشرين. قال الدماميني في «المصابيح» : الأواخر جمع آخرة بكسر الخاء لا جمع أخرى لأنها لا دلالة لها على المقصود وهو الآخر في الوجود وإنما تقتضي المغايرة كقولك مررت بامرأة حسنة وأخرى: أي مغايرة لها، ويصح هذا التركيب سواء كان المرور بهذه المغايرة سابقاً أو لاحقاً، وهذا عكس العشر الأول لأنه جمع أولى، ولا يصح الأوائل لأنه جمع أول الذي هو للمذكر وواحد العشر ليلة وهي مؤنثة فلا توصف بمذكر اهـ (فقال رسول الله: أرى) بالفتح أي أبصر مجازاً (رؤياكم) قال القاضي عياض: كذا هو بالإفراد، والمراد رؤياكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة. وقال الدماميني: فهو ما عاقب فيه الإفراد الجمع لأمن اللبس وهو مسموع، وقال السفاقسي: كذا يرويه المحدثون بتوحيد الرؤيا وهو جائز لأنها مصدر، وأفصح منه رؤاكم جمعاً لتكون جمعاً في مقابلة جمع، ولم يبدل ذلك وإن كان أشبه بكلام النبي لكراهة تغيير ما أدته الرواية. قلت: مع حصول معنى الجمع بذلك لأن المفرد المضاف للعموم فهو كالجمع المضاف (قد تواطأت) بالهمز: أي توافقت وزناً ومعنى، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان رجل صاحبه، وهو في مسلم تواطت بطاء فتاء. قال المصنف: هكذا هو في النسخ وهو مهموز، فكان ينبغي كتابة ألف بعد الطاء صورة للمهموز ولا بد من قراءته مهمورا، قال الله تعالى: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} (التوبة: 37) اهـ (في السبع الأواخر، فمن كان متحريها) أي متوخياً مصادفتها (فليتحرها في السبع الأواخر) وجاء عند مسلم في حديث ابن عمر مرفوعاً «من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر» وعنده من حديثه أيضاً
كذلك عمر مرفوعاً «من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر» وعنده من حديثه أيضاً كذلك بلفظ «التمسوها في العشر الأواخر/ فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي. قال(6/654)
الحافظ في الفتح: هذا السياق يرجح الأول من الاحتمالين في تفسير السبع الأواخر (متفق عليه) قال في الفتح: في الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الأمور الوجودية بشرط أن لا تخالف القواعد الشرعية.
31191 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يجاور) أي يعتكف (في العشر الأواخر من رمضان) وأوله الحادي والعشرون منه وآخره انقضاء رمضان (ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) أخذ أصحابنا بقضية هذا الحديث فقالوا: إذا علق رجل طلاق زوجته بليلة القدر، فإن كان قبل الحادي والعشرين من رمضان طلقت بانقضائه وإن كان في الحادي والعشرين منه فما بعد فلا يقع الطلاق حتى يحول الحول ويأتي مثل يوم التعليق (متفق عليه) .
41192 - (وعنها أن رسول الله قال: تحروا ليلة القدر) قال في النهاية: التحري القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالقول والفعل (في الوتر) هذا مقيد لإطلاق الحديث قبله الشامل لأوتار العشر وأشفاعه (في العشر الأخير) في محل الصفة أو الحال من الوتر لكونه محلي بأل الجنسية وكذا قوله (من رمضان) والحديث محتمل لكل(6/655)
من القول بلزومها لليلة معينة من الأوتار والقول بانتقالها في لياليها والله أعلم (رواه البخاري) ورواه أحمد والترمذي، كذا في «الجامع الصغير» .
51193 - (وعنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل) أي قامه بأنواع العبادات من الصلاة والذكر والفكر، أو أحيا نفسه بالسهر فيه لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعاً لأن النائم إذا حيى باليقظة حيى ليله بحياته (وأيقظ أهله) تنبيهاً على وقت الخير ليتعرضوا للنفحات. فعند الترمذي «لم يكن النبيّ إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه» (وجد) أي بذل جهده وطاقته في أداء الطاعة (وشد المئزر) بكسر الميم الإزار، قال في النهاية: كنى بشده عن اعتزال النساء، وقبل إرادة تشميره للعبادة، يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت له اهـ. وقال القرطبي: ذهب بعضهم إلى أن اعتزال النساء كان بالاعتكاف، وفيه نظر لقوله فيه «وأيقظ أهله» فإنه يشعر بأنه كان معهن في البيت، فلو كان معتكفاً لكان في المسجد ولم يكن معه أحد. ونظر فيه بأنه قد روى «أنه اعتكف مع النبيّ امرأة من أزواجه» وبتقدير عدم اعتكاف أحد منهن فيحتمل أن يوقظهن من موضعه وأن يوقظهن عند دخوله البيت لحاجة الإنسان. قال الخطابي: يحتمل أن يريد به الجد في العبادة، كما يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي شمرت له، ويحتمل أن يكون كناية عن التشمير والاعتزال معاً، ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز معاً فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة. واعترض بأنه قد جاء في رواية «شد مئزره واعتزل النساء» فعطف بالواو فقوى الاحتمال الأول (متفق عليه) كذا أورده المصنف بلفظ للعشر الأواخر وعزاه لهما، والذي فيها «إذا دخل(6/656)
العشر شد مئزره» الخ من غير وصف للعشر، ونبه السيوطي على أن زيادة الوصف لابن أبي شيبة فقال الأخير، ونبه العلقمي أنه كذلك من حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي، وحديث الباب من غير لفظ الأواخر، ورواه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه.
61194 - (وعنها قالت: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره) لشرفه على باقي الأشهر. وفي الحديث عن أبي سعيد عن رسول الله «سيد الشهور شهر رمضان» الحديث رواه البيهقي في الشعب يجتهد (وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره) من باقي أيامه لفضله على عشريه الأولين لكون ليلة القدر فيه (رواه مسلم) واقتصر في «الجامع الصغير» على الجملة الأخيرة من هذا الحديث وعزاها لأحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه.
71195 - (وعنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني (إن علمت أي ليلة ليلة القدر) برفع أي مبتدأ خبره ليلة القدر، والجملة منصوبة المحل منع العامل من العمل في اللفظ اسم الاستفهام (ما) أي أي شيء مرفوع على الابتداء، والرابط للجملة الخبرية محذوف: أي أقوله، أو منصوب على أنه مفعول مقدم وجوباً لقولها (أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو) بصيغة فعول الموضوعة للمبالغة لأبلغية عفوه سبحانه كيفا وكما يعفو عن الكبائر غير الشرك، وعنه بعد الإسلام وعما لا يعلم عدده سواه (تحب العفو) خبر بعد خبر أو حال من ضمير الخبر قبله أو جملة مستأنفة أتى بها إطناباً (فاعف عني) وفيه إيماء إلى أن أهم المطالب انفكاك الإنسان من تبعات الذنوب وطهارته من دنس العيوب، فإن بالطهارة من ذلك يتأهل للانتظام في سلك حزب الله وحزب الله هم المفلحون (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
تتمة: من علامات ليلة القدر أنها معتدلة، والشمس تطلع صبيحتها(6/657)
بيضاء وليس لها كبير شعاع، وفائدة ذلك معرفة يومها، إذ يسن الاجتهاد فيه كليلتها.
215 - باب فضل السواك
بكسر السين المهملة، قال المصنف في «شرح مسلم» : قال أهل اللغة: السواك بكسر السين يطلق على الفعل وعلى العود الذي يتسوك به وهو مذكر، قال الليث: وتؤنثه العرب أيضاً. قال الأزهري: هذا من عدد الليث: أي من أغاليطه القبيحة. وذكر صاحب المحكم أنه يذكر ويؤنث، والسواك فعلك بالمسواك، يقال ساك فمه يسوكه سواكاً. فإن قلت: استاك لم تذكر الفم، وجمع السواك سوك بضمتين ككتاب وكتب، وذكر صاحب المحكم أنه يجوز أيضاً سؤك بالهمزة، ثم قيل إن السواك مأخوذ من ساك إذ دلك، وقيل من جاءت الإبل تساوك: أي تتمايل هزالا. وفي اصطلاح العلماء استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإزالة ما عليها، ويحصل بكل خشن ولو نحو سعد وأشنان لحصول المقصود من النظافة بهما، نعم يكره بمبرد وعود ريحان يؤذي، ويحرم بذي سم ومع ذلك يحصل به أصل سنة السواك لأن الكراهة والحرمة لأمر خارج، والعود أفضل من غيره، وأولاه ذو الريح الطيب، وأولاه الأراك للاتباع مع ما فيه من طيب طعم وريح وشعيرة لطيفة تنقى ما بين الأسنان، ثم بعده النخل لأنه آخر سواك استاك به. وصح أيضاً أنه كان أراكا لكن الأول أصح، وكل راو قال بحسب علمه، ثم الزيتون لخبر الطبراني «نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة تطيب الفم وتذهب بالحفر» أي وهو داء في الأسنان «هو سواكي وسواك الأنبياء قبلي» واليابس المندى بالماء أولى من الرطب ومن المندي بماء الورد، ويظهر أن اليابس المندي بغير الماء أولى من الرطب لأنه أبلغ في الإزالة وكذا في التحفة لابن حجر وفيه حديث في «مسند البزار» ، ثم إن السواك سنة ليس بواجب في حال من الأحوال بالإجماع اهـ.
(وخصال الفطرة) بكسر الفاء لأنها لبيان الهيئة، يقال فطر يفطر فطراً بالفتح وهو الابتداء والاختراع، وقيل الإيجاد على غير مثال. قال القلقشندي في «شرح العمدة» : المراد بها هنا السنة كما نقله الخطابي عن أكثر العلماء، وصوبه النووي في مجموعه: أي سنن الأنبياء، وقيل هي الدين، وجزم به أبو نعيم في «المستخرج» والماوردي وأبو إسحاق الشيرازي وآخرون وقيل هي الجبلة التي خلق الله الناس عليها وجبلهم على فعلها ورجحه أبو عبد الله القزاز في تفسير غريب البخاري ورد البيضاوي الفطرة إلى مجموع ما قيل في معناها فقال: هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع القديمة، فكأنها أمر جبلي اهـ.(6/658)
11196 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لولا أن أشق على أمتي) أي كراهة أو مخافة أن أشق على أمتي: أي أمة الدعوة بدليل قول الراوي على سبيل الشك (أو على الناس لأمر بهم) أي أمر إيجاب فلا دليل فيه لمن قال: المندوب ليس مأموراً به (بالسواك) إن أريد به الفعل فلا حذف، وإن أريد به الآلة فعلى تقدير مضاف: أي باستعمال السواك (مع كل صلاة) أي عند إرادتها، قال الشيخ شهاب الدين الرملي: ولو نسيه حتى دخل في الصلاة أتى به في أثنائه بعمل خفيف، وخالفه ابن حجر الهيتمي قال: لبناء الصلاة على السكون (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من حديث أبي هريرة، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي أيضاً من حديث زيد بن خالد، ورواه أحمد والترمذي أيضاً والضياء من حديث زيد بن خالد هذا بزيادة «ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل» رواه الحاكم في «المستدرك» من حديث العباس بلفظ «لفرضت عليهم السواك عند كل صلاة كما فرضت عليهم الوضوء» كذا في «الجامع الصغير» . قال المصنف: في الحديث دليل على جواز الاجتهاد للنبيّ فيما لم يرد فيه نص من الله تعالى، وهو مذهب أكثر الفقهاء وأصحاب الأصول وهو الصحيح المختار، وفيه ما كان النبيّ عليه من الرفق بأمته، وفيه فضل السواك عند كل صلاة وقد ورد نم حديث أم الدرداء مرفوعاً «ركعتان بسواك أفضل من سبعين ركعة بلا سواك» الحديث رواه ابن النجار والديلمي في الفردوس. قال السيوطي نقلا عن الزين العراقي: وحكمة الأمر به للصلاة أنا مأمورون في كل حالة من أحوال التقرب إلى الله تعالى أن نكون في حالة كمال ونظافة إظهاراً لشرف العبادة، وقد قيل إن ذلك أمر يتعلق بالملك، وهو أنه يضع فاه على «في» القاريء فيتأذى بالرائحة الكريهة فسن السواك لأجل ذلك. وفيه حديث في «مسند البزار» . وقال الحافظ زين الدين العراقي: يحتمل أن يقال حكمته عند إرادة الصلاة ما ورد من أنه يقطع البلغم ويزيد في الفصاحة، وتقطيع
البلغم مناسب للقراءة لئلا يطرأ عليه فيمنعه القراءة وكذلك الفصاحة اهـ.
21197 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي إذا قام) أي استيقظ (من النوم)(6/659)
وفي لفظ «من الليل» (يشوص فاه بالسواك) تشريعاً للأمة لما ينشأ منهم من التغير عند النوم ففعل ذلك ليفعلوه فيذهب ذلك الأثر (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
(الشوط: الدلك) .
31198 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نعد) بضم النون من الإعداد أي نهيء (لرسول الله سواكه) أي ما يستاك به (وطهوره) بفتح الطاء (فيبعثه الله) أي يوقظه من نومه، وفي عبارتها استعارة مكنية يتبعها استعارة تخييلية (ما شاء أن يبعثه) أي وقت مشيئته إيقاظه فما مصدرية ظرفية، وقولها (من الليل) حال من الضمير المفعول به (فيتسوك) أي عقب قيامه كما تومىء إليه الفاء (ويتوضأ) يحتمل أنه كان يكتفي عن السواك المسنون فيه بما قبله لقربه وأنه كان يؤتى له بسواك ثان (ويصلي) أي صلاة الليل (رواه مسلم) .
41199 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أكثرت) قال الحافظ في «الفتح» في رواية الإسماعيلي «لقد أكثرت» (عليكم في السواك) أي بالغت في تكرير طلبه منكم. وفي إيراد الأخبار في الترغيب فيه. وقال ابن التين: معناه أكثرت عليكم وحقيق أن أفعل وحقيق أن تطيعوا. وحكى الكرماني أنه روى بضم أوله: أي بولغت من عند الله بطلبه منكم، ولم أقف على هذه الرواية إلى الآن صريحة اهـ (رواه البخاري) ورواه أحمد والنسائي.(6/660)
51200 - (وعن شريح) بضم المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية (ابن هانىء) بكسر النون وهمزة آخره ابن زيد الحارثي المذحجي أبي المقدام، قال في التقريب: الكوفي ثقة مخضرم، قتل مع ابن أبي بكر بسجستان كذا في «التقريب» (قال: قلت لعائشة رضي الله عنه: بأي شيء) أي من الخصال التي ندب إليها (كان يبدأ النبي إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك) . فيه ندب السواك عند دخول المنزل وذلك لإزالة ما يحصل عادة بسبب كثرة الكلام الناشئة عن الاجتماع (رواه مسلم) .
61201 - (وعن أبي موسى) هو الأشعري، وليس في الصحابة من يكنى بذلك غيره. واسمه عبد الله بن قيس (رضي الله عنه قال: دخلت على النبي وطرف السواك على لسانه) فيه جواز الدخول على الكبار حال الاستياك (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والخوارزمي والإسماعيلي أبو عوانة والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، كذا في «غاية الأحكام» (وهذا لفظ مسلم) رواه في أبواب الطهارة مختصراً وأورده في أبواب الإمارة من جملة حديث بلفظ «أقبلت إلى النبيّ والنبي يستاك، قال: فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت» الحديث، وكأنهما قضيتان في إحداهما رأى السواك على طرف اللسان وفي أخرى تحت الشفة، أو رآه في تلك القصة فيما ذكر في الحديثين في زمن بعد آخر، وعزا صاحب «عمدة الأحكام» اللفظ المذكور لهما وزاد «وهو يقول أع أع والسواك في فيه كأنه يتهوع» .
71202 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)(6/661)
قال المصنف في المجموع: المطهرة بفتح الميم وكسرها لغتان ذكرهما ابن السكيت وغيره والكسر أشهر: كل آلة يتطهر بها شبه السواك لأنه ينظف الفم، والطهارة النظافة، وقال زين العرب في «شرح المصابيح» : مطهرة ومرضاة بالفتح مصدران بمعنى الفاعل: أي مطهر ومرض، أو باقيان على معناهما المصدري: أي سبب الطهارة والرضا، ويجوز كون مرضاة بمعنى المفعول: أي مرضية للرب. وقال الكرماني: مطهرة ومرضاة إما مصدران ميميان بمعنى اسم الفاعل أو بمعنى الآلة. فإن قلت: كيف يكون سبب مرضاة الله تعالى؟ فالجواب أنه من حيث الإتيان بالمندوب يوجب الثواب، ومن جهة أنه مقدمة الصلاة وهي مناجاة الرب ولا شك أن طيب الرائحة يقتضي طيب المناجاة. وقال الطيبي: يمكن أن يقال إنها مثل «الولد مبخلة مجبنة» أي السواك مظنة الطهارة والرضا: أي يحمل السواك الرجل على طهارة الفم ورضا الرب، وعطف مرضاة يحتمل الترتيب بأن تكون الطهارة علة للرضا وأن يكونا مستقلين في العلية (رواه النسائي وابن خزيمة في «صحيحه» بأسانيد صحيحة) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : رواه أحمد عن أبي بكر ورواه الشافعي وأحمد وابن حبان والحاكم في «المستدرك» والبيهقي في «السنن» كلهم عن عائشة، ورواه ابن ماجه عن أبي أمامة (وذكر البخاري رحمه الله في «صحيحه» هذا الحديث تعليقاً أي محذوف أول سنده (بصيغة جزم) أي وما رواه كذلك محكوم بصحته (فقال: وقالت عائشة رضي الله عنها) الخ.
81203 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: الفطرة خمس أو) شك من الراوي (خمس من الفطرة) ويتعين حمل الرواية الأولى على هذه، فقد جاء عند أحمد وغيره بلفظ «من الفطرة خمس» وعند مالك «خمس من الفطرة» سيما وقد ثبتت الرواية بزيادة على الخمس بكثير كما سيأتي في الحديث بعده، فعلم أن الحصر غير مراد. والنكتة في الإتيان بهذه الصيغة إما التنبيه على أن مفهوم الدلالة ليس بحجة، وإما أنه أعلم أولاً بالخمس نظير(6/662)
حديث «الدين النصيحة» أي معظمه، ويدل له ما أخرجه الترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم مرفوعاً «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» وورد مثله في عدم حلق العانة وتقليم الأظفار، وساغ الابتداء بخمس على الرواية الثانية لكونها صفة لموصوف محذوف تقديره خصال خمس أو مضافة لمحذوف، والتقدير خمس خصال، أو الجملة خبر مبتدإ محذوف تقديره: المشروع لكم خمس من الفطرة، وأما الرواية الأولى فالقدير: خصال الفطرة خمس، فحذف المضاف، قاله في غاية الأحكام. وفي قوله والجملة خبر مبتدإ محذوف الخ ما لا يخفي، وليس المراد بالسنة المفسر بها لفطرة هنا ما يقابل الواجب بل المراد الطريقة، كما جزم به جماعة من الأئمة منهم أبو حامد والماوردي، إذ منها الخنان وهو واجب عندنا، والمضمضة والاستنشاق وهما واجبان عند بعض الأئمة (الختان) بكسر الخاء المعجمة وتخفيف الفوقية مصدر ختن بفتحات: أي قطع، وكان قياس مصدره ختنا بسكون الفوقية وهو قطع جزء مخصوص (والاستحداد) أي استعمال الحديد لحلق شعر العانة وتنظيف محلها، وهو الشعر الذي حول كل من ذكر الذكر وفرج المرأة كما سيأتي (وتقليم الأظفار) تفعيل من القلم وهو القطع، يقال قلمت ظفري بتخفيف اللام وتشديدها للتكثير والمبالغة، والأظفار جمع ظفر بضم الظاء المعجمة والفاء وبسكون الفاء. وحكى كسرها وكسر أوليه، وأنكره انب سيده، وحكي أيضاً أظفور بوزن عصفور، والمراد قطع ما طال عن اللحم من الظفر لأن الوسخ يجتمع فيه
فيستقذر، وربما منع وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة. وفي ترتيب قصها أوجه أشهرها: يبدا بمسبحة اليد اليمنى فالوسطى إلى الخنصر ويختم بإبهامها ثم بخنصر اليسرى إلى إبهامها، ويبدأ في الرجل اليمنى بإبهامها إلى الخنصر وفي اليسرى من خنصرها إلى الإبهام (ونتف الإبط) أي نتف شعره النابت فيه وهو سنة اتفاقاً كما قاله المصنف، ويستحب أن يبدأ باليمين وأن يتولاه بنفسه، ولو حلقه أو أزاله بالنورة جاز لحصول المقصود. وقال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل، لكن يظهر أن النتف مقصود لما فيه من إضعاف الشعر وبذلك تضعف الرائحة، والإبط تذكر وتؤنث، ويقال تأبط الشيء: إذا وضعه تحت إبطه (وقص الشارب) وهو الشعر النابت على الشفة العليا، وقيل الإطار بكسر الهمزة وبالطاء المهملة وهو الذي يباشر به المشروب. والحكمة في قصه مخالفة المجوس كما ورد في الحديث أو النظافة والأمن من التشويش عند الأكل ومن بقاء زهومة المأكول فيه. وقال ابن العربي: يشرع القص لأن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر لما فهي من اللروجة فتعسر إزالته عند غسله(6/663)
وهو بإزاء حاسة شريفة وهي الشم فشرع تخفيفه ليتم الجمال والمنفعة به، والمستحب أن يبدأ بالجانب الأيمن منه، وهو مخير بين أن يتولى ذلك بنفسه أو يتولى ذلك غيره لحصول المقصود من غير هتك مروءة ولا حرمة بخلاف الإبط والعانة، ويحصل أصل السنة بالأخذ بالمقص وغيره.
فائدة: هذه الخصال هي الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فأتمهن فجعله الله إما ما يقتدي به ويستن بسننه كما قاله ابن عباس وهو أول من أمر بها من الأنبياء، قاله الخطابي، وقيل كانت عليه فرضاً وهي لنا سنة (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان والإسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم وأبو الشيخ ابن حبان والبيهقي وغيرهم، وأخرجه مالك والنسائي أيضاً موقوفاً، ورواه مالك خارج «الموطأ» مرفوعاً (الاستحداد: حلق العانة، وهو حلق الشعر الذي حول الفرج) قال الراعي: كأن مأخوذ نم الحديد لأنهم كانوا لا يعرفون النورة اهـ. والعانة: الشعر الذي قول الفرج وحواليه من الرجل والمرأة، ونقل ابن شريح أنها الشعر النابت حول حلقة الدبر، فتحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما، قاله المصنف ويحصل المقصود بالنتف لكن السنة الحق لها. وقال المصنف في «التهذيب» : النتف في حق المرأة أولى، وسبقه إليه الذرماري. واستشكله الفاكهي بأن فيه ضرراً على الزوج باسترخاء المحل باتفاق الأطباء، وقال ابن العربي: النتف في حق الشابة أولى لأن به يربو فكان التنف، والأولى في حق الكهلة التنور والضابط في إزالته الحاجة.
9 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: عشر) أي خصال عشر (من الفطرة قص الشارب) واختلف في السبالين وهما طرفاً الشارب (وإعفاء اللحية) أي عدم التعرض لشعرها بأخذ شيء منه، قال في «شرح مسلم» : قال العلماء: يكره في اللحية خصال بعضها أشد قبحاً من بعض: خضابها بالسواد لا لغرض الجهاد، وخضابها بالصفرة تشبيها بالصالحين لا اتباعاً للسنة، وتبييضها بالكبريت أو غيره استعجالاً للشيخوخة لأجل الرياسة(6/664)
والتعظيم وإيهام لقيّ المشايخ، ونتفها أول طلوعها إيثاراً للمرودة وحسن الصورة، ونتف الشيب وتصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعاً ليستحسنه النساء وغيرهن، والزيادة فهيا والنقص منها بالزيادة في شعر العذارين من الصدغين، أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك، ونسريحها تصنعاً لأجل الناس، وتركها شعثة متشعثعة إظهاراً للزهادة وقلة المبالاة بنفسه، والنظر إلى سوادها أو بياضها إعجاباً وخيلاء، وغرة بالشباب وفخراً بالمشيب وتطاولاً على الشباب، وعقدها وضفرها وحلقها إلا إذا نبتت للمرأة فيستحب لها حلقها اهـ (والسواك) أي الاستياك (واستنشاق الماء) أي إيصاله إلى الأنف وهو مطلوب في كل من الوضوء والغسل (وقص الأظفار) لإذهاب ما يجتمع تحتها من الوسخ (وغسل البراجم) دفعاً لما يجتمع في غضونها منه، ويلتحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح لأنه ربما أضرت كثرته بالسمع، وكذا ما يجتمع داخل الأنف وسائر الوسخ المجتمع في أي موضع كان من البدن بالعرق والغبار ونحوهما (ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء. قال الراوي) هومصعب ابن شيبة كما صرح به مسلم (ونسيت العاشرة) أي من الخصال (إلا أن تكو المضمضة) قال المصنف: هذا شك من الراوي، قال القاضي عياض: ولعلها الختان المذكور مع الخمس وهو أولى (قال وكيع) بفتح الواو بوزن بديع (وهو أحد رواته) وراه عند مسلم بواسطة (انتقاص الماء) أي بالقاف والصاد
المهملة (الاستنجاء) أي انتقاص البول بالماء لأنه ينقص البول من مجراه ويوقفه داخل الفرج، وقال أبو عبيد وغيره: معناه انتقاص البول بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره، وقيل هو الانتضاح، وقد جاء في رواية الانتضاح بالماء بدل انتقاص الماء، قال الجمهور: الانتضاح نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينتفي عنه الوسواس، وقيل هو الاستنجاء بالماء. وذكر ابن الأثير أنه روى انتفاص بالفاء والصاد المهملة، قال: والمارد نضحه على الذكر من قولهم لنضح الدم القليل نقصه وجمعها نفص، وهذا الذي نقله شاذ والصواب ما سبق قاله المصنف في «شرح مسلم» (رواه مسلم) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد والأربعة (البراجم بالياء الموحدة) أي المفتوحة (وبالجيم) وبعد الموحدة راء خفيفة وهي جمع برجمة بضم الموحدة والجيم (وهي عقد) بضم ففتح جمع عقدة (الأصابع) ومفاصلها(6/665)
(وإعفاء اللحية معناه) توفيرها: أي (لا يقص منها شيئاً) قال المصنف: وهو بمعنى «أوفوا اللحى» في رواية وكان من عادة الفرص قص اللحية فنهى الشارع عنه.
10 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: أحفوا الشوارب) قال المصنف: أي أخفوا ما طال منها على الشفتين (وأعفوا) بقطع الهمزة فيه كالذي قبل: أي وفروا (اللحى) قال ابن السكيت وغيره: يقال في جمع اللحية لحى ولحى بالكسر والضم لغتان والكسر أفصح. قال المصنف: حصل من مجموع روايات هذا اللفظ في «الصحيحين» خمس روايات أعفوا وأوفوا وأرخوا ووفروا، ومعناها كلها تركها على حالها، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء (متفق عليه) ورواه الترمذي والنسائي من حديث ابن عمر، ولم يعز السيوطي في الجامع الصغير الحديث للبخاري بل اقتصر فيه على ذكر مسلم، ولعل هذا اللفظ لمسلم، وللبخاري من حديث ابن عمر بلفظ «خالفوا المشركين» وعنده من حديثه أيضاً «أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى» اهـ. قال السيوطي: ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة، ووراه الطحاوي من حديث أنس وزاد في آخره «ولا تشبهوا باليهود» ورواه ابن عدي والبيهقي في الشعب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وزاد بدل وقوله «ولا تشبهوا» قوله «وانتفوا الشعر الذي في الآناف» .(6/666)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
216- باب: في تأكيد وجوب الزكاة وبيان فضلها وما يتعلق بها
قال الله تعالى (1) : (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب تأكيد وجوب الزكاة
هي لغة النماء والتطهير وشرعاً جزء مخصوص يخرج من مال مخصوص على وجه مخصوص (وبيان فضلها) معطوف على تأكيد (و) بيان (ما يتعلق بها) من بيان بعض ما يجب فيه الزكاة، ومن يجب عليه (قال الله تعالى: وأقيموا الصلاة) أي: بإتمام أركانها وشرائطها من قولهم أقمت العود أزلت عوجه (وآتوا) أي: اعطوا (الزكاة) دل قرن إعطائها بإقامة الصلاة على عظم تاكيد ذلك (وقال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله) أي: ليتذللوا غاية التذلل له (مخلصين له الدين) بأن لا يشركوا معه فيه شركاً جلياً بأن يعبدوا غيره معه كما يفعل المشركون أو شركاً خفياً بأن يرائي العامل بعمله، أو يسمع به فإن الأول يمنع أصل الإِيمان، والثاني يمنع ثواب الأعمال المفعولة كذلك (حنفاء) مائلين عن كل دين باطل (ويقيموا الصلاة) عطف على يعبدوا (ويؤتوا) أي: يعطوا (الزكاة وذلك) أي: ما ذكر من الإِيمان مخلصاً وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (دين القيمة) أي: دين الملة أو الشريعة المستقيمة، وقيل: هي جمع القيم أي: الأمة القائمين لله تعالى. وتقدم تفسير هذه الأية أول باب الإخلاص (وقال تعالى: خذ من أموالهم) أي: أموال المؤمنين (صدقة تطهرهم) عن الذنوب ورذيلة البخل (وتزكيهم بها) أي: ترفعهم بالصدقة إلى منازل المصدقين
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 43.
(2) سورة البينة، الآية: 5.(7/5)
وَقَالَ تَعَالَى (1) : (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) .
1204- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "بُنِيَ الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ" متفقٌ عَلَيْهِ. (2) .
1205- وعن طَلْحَةَ بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب التيمي رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأسِ نَسْمَعُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المخلصين. ففي الحديث والصدقة برهان.
1204- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: بُنِيَ الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ) أي: من الخصال (شهادة أن لا إله إلا الله) (وشهادة أن محمداً رسول الله) الشهادتان خصلة واحدة ويجوز في شهادة وجوه الإِعراب الثلاثة الجر على الإِتباع، والآخران على القطع.
(وإقام الصلاة) بحذف التاء للتخفيف. (وإيتاء) أي: إعطاء (الزكاة وحج البيت وصوم رمضان) . المصادر فيه محتملة؛ لكونها مبنية للفاعل، مضافة للمفعول أي: شهادة المكلف وإقامته وإيتاؤه وحجه وصومه؛ ولكونها مبنية للمفعول أي: أن تشهد الشهادتان وتقام الصلاة الخ. (متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات.
1205- (وعن طلحة) بفتح المهملتين وسكون اللام بينهما. (ابن عبيد الله) بالتصغير (ابن عثمان بن عمرو بن كعب) بن سعد بن تيم بن مرة القرشي (التيمي) أبي محمد المكي المدني أحد العشرة المبشرة بالجنة (3) ، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه، وأحد الستة أصحاب (4) الشورى الذين توفي رسول الله عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض (رضي الله عنه) سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلحة الخير، وطلحة الجود، وهو من المهاجرين الأولين ولم يشهد بدراً؛ لكن ضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه، وأجره كمن حضرها وشهد
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 103.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم (1/ 46، 48) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام، (الحديث: 20) .
(3) وإنما نفعت التوبة هنا بخلاف سائر الحدود لأن القتل ليس على الإخراج عن الوقت فقط بل مع الامتناع من القضاء وبصلاته يزول ذلك اهـ حج في شرح المنهاج.
(4) التنقير البحث. ع.(7/6)
دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَإذا هُوَ يَسألُ عَنِ الإسْلاَم، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسُ صَلَواتٍ في اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحداً وما بعدها من المشاهد، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك يوم كله كان لطلحة وفضائله أشهر من أن تذكر روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثون حديثاً اتفقا على حديثين منها وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة، وقتل يوم الجمل لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وهذا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في قدر عمره، فقيل أربع وستون، وقيل ثمان وخمسون، وقيل اثنان وستون، وقيل: ستون. وقبره بالبصرة مشهور يزار ويتبرك به، ومن فضائله أن عائشة رضي الله عنها قالت: طلحة ممن قضى نحبه، وما بدلوا تبديلاً، وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، ووقاه بيده ضربة فصد بها فشلت يده. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوجب طلحة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه انتهى. ملخصاً من التهذيب. (قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد) قال الجلال البلقيني: في مبهمات البخاري قال القاضي عياض: هو ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، كذا قال ابن بطال وغيره وفيه نظر؛ لأن ضماماً إنما هو في حديث أنس. أما حديث طلحة فلا، فالظاهر أنهما قضيتان لتباين الألفاظ نبه عليه القرطبي اهـ وكأنه لهذا التنظير قال السيوطي في التوشيح قيل هو ضمام (ثائر الرأس) أي: منتشره منتفشه وهو بالرفع صفة رجل، وقيل: يجوز نصبه على الحال. (نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول) قال المصنف: بالنون المفتوحة فيهما، وروي بالتحتية المضمومة فيهما، والأول هو الأشهر الأكثر الأعرف، ودوي الصوت بفتح الدال المهملة على المشهور، وحكى صاحب المطالع ضمها وخطأ القاضي عياض ضمها، وكسر الواو وتشديد الياء وهو بعده في الهواء، ومعناه شدة صوت لا يفهم. وقال الخطابي: الدوي صوت مرتفع متكرر لا يفهم وذلك لأنه نادى من بعد (حتى دنا) أي: قرب غاية لمقدر أي: فسار إلى أن قرب (من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا) فجائية (هو) مبتدأ خبره جملة (يسأل عن الإِسلام) أي: عن شرائعه، وعند البخاري في الصوم فقال: أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: الصلوات الخمس، وكذا قال في الزكاة. قال في التوشيح: وبه يتبين مطابقة الجواب هنا للسؤال. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات في اليوم والليلة) أي: مفروضة فيهما على كل مكلف بها لا نحو حائض ونفساء ومجنون. (فقال: هل عليّ غيرها؟) أي: علي فرض من الصلاة غير الخمس؟ (قال لا إلا أن تطوع) بتشديد الطاء والواو وأصله تتطوع فادغمت التاء في الطاء، ويجوز تخفيف(7/7)
فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَصِيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ" قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ" قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ" فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لاَ أُزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفْلَحَ إنْ صَدَقَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطاء على حذف إحدى التاءين، والاستثناء منقطع، أي: لا شيء واجب عليك غيرها؛ لكن يستحب أن تتطوع، ومنه أخذ أصحابنا عدم وجوب الوتر، وأنه سنة، وجعله بعض العلماء متصلاً، واستدل به على أن من شرع في نفل من صوم، أو صلاة، وجب عليه إتمامه، ومذهبنا أنه يستحب الإِتمام، ولا يجب. قاله المصنف (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وصيام شهر رمضان) عطف على خمس (قال: هل عليّ غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع) والمراد بيان الواجب منهما بأصل الشرع وإلا فيجب في الصلاة زيادة على الخمس بنذر، وفي الصوم بنذر، أو كفارة (قال) أي: الراوي (وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة) أي: المفروض منها (فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) قال الدماميني في المصابيح: لا يخفى أن هذا الرجل إنما وفد بالمدينة، وأقل ما قيل فيه أنه وفد سنة خمس، وقد تقرر في ذلك الزمن النهي عن أمور كالقتل، والزنى، والعقوق، والظلم، والسرقة. فثبت أن عليه وظائف أخرى غير الصلاة والزكاة والصيام. وأجاب ابن المنير بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب بما يقتضيه الحال، وبالأهم فالأهم، إذ لا يمكن بيان الشريعة دفعة، لا سيما لحديث عهد بالإِسلام، أو أن الرواة اقتصروا على بعض ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي عن المصنف. (قال: فأدبر الرجل وهو يقول) جملة حالية، أو معطوفة (والله لا أزيد على هذا ولا أنقص) أحسن ما يقال فيه: أن المعنى أبلغها قومي على ما سمعتها من غير زيادة ولا نقص؛ لأنه كان وافداً لهم ليتعلم تسلمهم. قاله ابن المنير قال الدماميني: ولا ينافيه ما في كتاب الصوم من البخاري من قوله والذي أكرمك بالحق لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئاً؛ لأن ما في الصوم من حديث أنس، وما فيه قضية غير القضية التي في حديث طلحة، كما تقدم عن القرطبي.
(فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح إن صدق) معناه ظاهر باعتبار ما تقدم، وقال ابن العربي في كتابه القبس: إنما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأنه أول ما أسلم فأراد أن يطمئن فؤاده، وبعد ذلك يفعل ما سواها بما يظهر له من ترغيب الإِسلام، وقال المصنف: أثبت له الفلاح لأنه أتى بما عليه، ومن أتى بما عليه كان مفلحاً، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد لا يكون مفلحاً، فإنه إذا أفلح بالواجب فلأن يفلح بالواجب والمندوب أولى، فإن قيل كيف قال لا أزيد على هذا وليس في الحديث جميع الواجبات، ولا المنهيات الشرعية ولا السنن المندوبات؟(7/8)
متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1206 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعث مُعاذاً - رضي الله عنه - إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَأنِّي رسول اللهِ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لِذلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أن اللهَ تَعَالَى، افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَواتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالجواب أنه جاء في رواية البخاري في آخر هذا الحديث زيادة توضح المقصود قال: فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإِسلام فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً، فعلى عموم قوله بشرائع الإسلام، وعموم قوله مما فرض عليّ، يزول الإشكال في الفرائض، وأما النوافل فقيل: يحتمل أنه كان قبل شرعها، ويحتمل أنه أراد، لا أزيد على الفريضة بصلاة النافلة مع عدم الإخلال بشيء من الفرائض، وهذا مفلح بلا شك وإن كانت مواظبته على ترك السنن مذمومة، وترد بها الشهادة، إلا أنه ليس بعاص، بل مفلح ناج. اهـ وتقدم في كلام الدماميني منع الاستدلال بما في رواية البخاري المذكورة لما في هذا الحديث لاختلاف قضيتهما (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان، وفي الصوم وفي الشهادات، وفي ترك الحيل. وأخرجه مسلم في الإِيمان، ورواه أَبو داود في الصلاة من سننه، والنسائي في الصلاة وفي الصوم وفي الإِيمان من سننه، كذا في الأطراف للمزي ملخصاً.
1206- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً) هو ابن جبل الأنصاري (رضي الله عنه إلى اليمن) عاملاً على بعض منها (فقال:) أي: في أثناء الحديث وتقدم بجملته في باب الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات، وكذا حديث ابن عمر المذكور بعده. (ادعهم) حذف العاطف وهو الفاء المذكورة قبله؛ لعدم تعلق غرض ما أورد له الحديث بها؛ أي: ادع أهل الكتاب الذين تقدم عليهم. (إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) بدأ بالدعاء إليهما لأنهما الأساس للاعتداد بالطاعات. (فإن هم أطاعوا لذلك) بالإذعان له والإِقرار به (فاعلمهم أن الله افترض) أي: فرض، والعدول إلى صيغة الافتعال إيماء إلى الاهتمام بالمفروض، (عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة) ظرف لأداء المقدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: الزكاة من الإِسلام، (1/97، 99) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإِسلام، (الحديث: 8) .(7/9)
فَإنْ هُمْ أطَاعُوك لِذلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ، وتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1207- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً رسول الله، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِني دِمَاءهُمْ وَأمْوَالَهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّ الإسْلاَمِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قبل خمس (فإن هم أطاعوا لذلك) بالتصديق بوجوبها والتزام فعلها (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة) إن قيل توقف الصلاة على الشهادتين ظاهر؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بعد الإسلام، فما وجه توقف الزكاة على الصلاة مع استوائهما في كونهما ركنين من الإسلام؟ فالجواب أن المعنى فإن أطاعوا باعتقاد الصلاة فرضاً فاذكر لهم الزكاة، والغرض بذلك التدريج حتى لا ينفروا من كثرتها لو جمعت، وتقديم الصلاة؛ لشرفها ولكونها بدنية أسهل من الزكاة؛ لكونها مالية، وبذل المال مشق (تؤخذ من أغنيائهم) يشمل الصغير فتجب الزكاة في ماله والمدين غني باعتبار الحال الحاضر، فلذا لم يمنع الدين وجوب الزكاة عليه على الأصح (وترد على فقرائهم) اقتصر عليهم مع أن مستحقها أصناف مذكورة في آية (إنما الصدقات) (2) لمقابلة الفقراء بالأغنياء ولأن الفقراء هم الأغلب، والإِضافة تقتضي منع صرف الزكاة لكافر، وإنما لم يذكر في الحديث الصوم والحج؛ لأن اهتمام الشرع بالصلاة والزكاة أكثر؛ ولذا كُررا في القرآن كثيراً، وأيضاً فإن الصوم قد يسقط بالفدية، والحج بفعل الغير في المعضوب، قال البرماوي: أو أن الحج لم يكن شرع، وفيه نظر لا يخفى لأن إرساله إلى اليمن كان قبيل موته - صلى الله عليه وسلم -، وقد استقر وجوب الحج حينئذ بلا خلاف (متفق عليه) .
1207- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت) بصيغة المجهول، ولم يذكر الفاعل وهو الله تعالى للعلم به (أن أقاتل الناس) أي: الكفرة غير الكتابيين ومن ألحق بهم (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) فيه أن تارك الصلاة كسلاً ومانع الزكاة لا يمتنع قتالهما وهو مذهب إمامنا الشافعي فيقتل بإخراج الصلاة عن وقت الضرورة إن لم يتب (3) ، ويقاتل الإمام تاركي الزكاة إذا توقف أخذها منهم عليه، (فإذا فعلوا ذلك) أي: ما ذكر من الشهادتين وما بعدهما،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، باب: (3/255) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإِسلام، (الحديث: 29) .
(2) سورة التوبة، الآية: 60.
(3) الضمير عائد إلى القول المفهوم من "قالها".(7/10)
وَحِسَابُهُم عَلَى الله" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1208- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه تغليب الفعل على القول (عصموا) أي: منعوا (مني دماءهم) فلا يجوز قتلهم إلا بسبب خاص من قصاص أو زنى مع إحصان أو ارتداد (وأموالهم) فلا يجوز أخذها إلا بطريقه من كفارة أو بدل ما أتلفوه. (وحسابهم على الله) يعني أن الشريعة الشريفة إنما تجري على الظواهر ولا تنقر عما في القلب، فمن أتى بالشهادتين والتزم أحكام الإِسلام جرت عليه أحكامهم، سواء كان في الباطن كذلك أم لا. أما الكتابي وما ألحق به من المجوسي فيقاتل حتى يسلم أو يؤدي الجزية. (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربع، قال السيوطي في الجامع الصغير: وهو متواتر.
1208- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي) بصيغة المجهول، ونائب فاعله (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وسكت عن ذكر الفاعل للعلم به. (وكان أبو بكر رضي الله عنه) أي: خليفة أو التقدير وكانت خلافة أبي بكر أي: وجدت فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وذكر العامل؛ لتذكير مرفوعه (وكفر) أي: ارتد (من كفر من العرب) وما بقي على الإِيمان سوى أهل الحرمين، ومن حولهما وأُناس قليل، وقيل: المراد منه وترك الزكاة من ترك، وأطلق الكفر على مانع الزكاة تغليظاً، أو أن الذين أراد الصديق قتالهم كان بعضهم مرتداً كأصحاب مسيلمة، وبعضهم بغاة بمنع الزكاة، وأُطلق على الجميع الكفر؛ لأنه كان أعظم خطباً، وصار مبدأ قتال أهل البغي مؤرخاً بزمان على إذ كانوا منفردين في عصره لم يختلطوا بأهل الشرك، ولا منافاة بين إيمانهم مع إنكارهم الزكاة، الذي يكفر به غير المعذور لأن التكفير بذلك إنما هو في زماننا لتقرر الأركان، وحصول الإجماع عليها، وكونها معلومة من الدين بالضرورة. وأما أولئك فلم يكفروا بذلك لكونهم كانوا قريبي عهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، وبوقوع الفترة بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا جهالاً
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وغيرهم (1/70، 72) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... (الحديث: 36) .(7/11)
فَقال عُمَرُ - رضي الله عنه -: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولوُا لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى الله" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بين الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ. وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤدُّونَهُ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: فَوَاللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بأمور الدين، فدخلتهم الشبهة فغدروا، فسموا بذلك بغاة، وذلك لأن المناظرة بين الصحابة إنما هي في قتال مانعي الزكاة (فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس) بالفوقية إنكار على أبي بكر أمره به أو بالنون أي نتلبس به، والفاء عاطفة على محذوف دل عليه السياق، أي: فأراد أبو بكر قتالهم وأمر به فقال عمر: إلخ (وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) أي: مع قرينتها وهي محمد رسول الله، وظاهر هذه الرواية الاكتفاء في رفع القتال بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإن لم يأت قبله بقوله أشهد، والرواية قبله تقتضي اعتبار ذلك، والصحيح الاكتفاء به من غير لفظ أشهد. (فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه) عمومه متناول الصادق في إيمانه والمنافق فيه فذلك منه عاصم لهما منه، ويدل له قوله (وحسابه على الله) أي: فإن كان صادقاً نفعه في الآخرة، وإلا فلا، وهذا من سند الصديق، فإن من حق المال الزكاة، فلا تعصم الشهادة من أخذها (فقال:) أي: أبو بكر رضي الله عنه (والله لأقاتلن من فرق) بالتشديد والتخفيف (بين الصلاة والزكاة) أي: بأن قال إحداهما واجبة دون الأخرى، أو امتنع من إحداهما (فإن الزكاة حق المال) أي: والشهادتان لا يعصمان من أخذه من المال (1) ، فهي داخلة في قوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بحقه (والله لو منعوني عقالاً) بكسر المهملة وبالقاف. قال في النهاية: أراد به الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة؛ لأن على صاحبها التسليم، وإنما يقع القبض بالرباط، وقيل: أراد ما يساوي عقالاً من حقوق الصدقة، وقيل: إذا أخذ المصدق أعيان الإِبل قيل أخذ عقالاً، وإذا أخذ أثمانها قيل أخذ نقداً وقيل: أراد بالعقال صدقة العام، يقال أخذ المصدق عقال هذا العام إذا أخذ منهم صدقته، واختاره أبو عبيد. وقال: هو أشبه عندي بالمعنى، وقال الخطابي: إنما يضرب المثل في هذا بالأقل إلا بالأكثر وليس بسائر في لسانهم أن العقال صدقة عام، وفي أكثر الروايات عناقاً، وفي أخرى جدياً. اهـ (كانوا يؤدونه) أي: يدفعونه (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه) أي: لأجل منعهم إياه (قال
__________
(1) أي من أخذ حق المال من المال.(7/12)
مَا هُوَ إِلاَّ أنْ رَأيْتُ اللهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبي بَكْرٍ لِلقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أنَّهُ الحَقُّ. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1209- وعن أَبي أيُّوب - رضي الله عنه -: أنّ رَجُلاً قَالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أخْبِرْنِي بعمل يُدْخِلُنِي الجَنَّة، قَالَ: "تَعْبُدُ اللهَ، وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) أي: اجتهد فطابق اجتهاده. قال البرماوي: إن عمر أخذ بظاهر أول الحديث قبل أن ينظر في آخره، فقال أبو بكر: إن الزكاة حق المال، فدخلت في قوله إلا بحقه، وقاسه على الممتنع من الصلاة، لأنها كانت بالإِجماع، فرد المختلف فيه إلى المتفق عليه والعموم يخص بالقياس، على أن هذه الرواية مختصرة من الرواية المصرح فيها بالزكاة، وهو حديث ابن عمر السابق قبله، وسبب الاختصار أنه حكى ما جرى بين الشيخين لا جميع القصة اعتماداً على علم المخاطبين بها، أو اكتفى بما هو الغرض حينئذ، وقال الخطابي: الخطاب في الكتاب ثلاثة أضرب: عام نحو: إذا أقمتم إلى الصلاة، وخاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - نحو فتهجد حيث قيد بذلك، وخطاب يواجه به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو والأمة فيه سواء كآية (خذ من أموالهم صدقة) (2) ، فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم. وأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحبها، فإن الفاعل فيها قد ينال ذلك كله بطاعة الله ورسوله فيها، وكل ثواب موعود على عمل كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - فهو باق، فيستحب للإمام أن يدعو للمتصدق ويرجى أن يستجيب الله منه ولا يخيبه (متفق عليه) .
1209- (وعن أبي أيوب) خالد بن زيد الأنصاري (رضي الله عنه أن رجلاً) نقل عن الصريفيني (3) أنه روى الحديث من طريق أبي أيوب وقال فيه: أنه وافد بني المنتفق، قاله الدماميني في المصابيح، وقال البرماوي: حكى ابن قتيبة في غريب الحديث أنه أبو أيوب نفسه، وتقدم شرح الحديث في باب بر الوالدين وصلة الأرحام (قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرني بعمل يدخلني الجنة) بالرفع جملة في محل الصفة لما قبله، وإسناد الإدخال إليه مجاز من الإِسناد للسبب. (فقال) أي: (النبي - صلى الله عليه وسلم - تعبد الله) هو من حذف أن قبل المضارع، أو تنزيل الفعل منزلة المصدر كما في تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وكذا المعطوفات (ولا تشرك
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (3/217) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا ... (الحديث: 32) .
(2) سورة التوبة، الآية: 103.
(3) نسبة لصريفين مكان بالعراق.(7/13)
وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1210- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ أعْرَابياً أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ، دَخَلْتُ الجَنَّةَ. قَالَ: "تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وتُؤتِي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ" قَالَ: وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا أزيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
به شيئاً) جملة خبرية حالية من فاعل الفعل قبله، رابطها الواو والضمير (وتقيم الصلاة) أي: تأتي بها جامعة الأركان والشرائط (وتؤتي الزكاة) أي: تؤديها للفقراء وباقي مستحقيها، وسكت عن الصوم والحج إن كانا قد وُجبا إما اكتفاء بعلم المخاطب أنهما كاللذين قبلهما في سببية دخولها؛ أو لأن الحاجة إلى ما ذكره في الحديث أهم لتقصير السائل في تلك الأمور، لا في نحو الصوم والحج، فبين له شأنهما تحريضاً عليهما، أو ذكراً وسقطاً من الراوي (وتصل الأرحام متفق عليه) .
1210- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً) هو ساكن البادية، وهذا الأعرابي لعله عبد الله بن الأحزم، قاله البلقيني في الإِفهام (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته) عبر بها لثقته بتوفيق الله تعالى له، فكأنه مقطوع بحصوله (دخلت الجنة قال تبعد الله ولا تشرك به شيئاً) من الشرك، أو من المعبودات، والجملة حال رابطها الضمير (وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة المفروضة) احترازاً من صدقة التطوع (وتصوم رمضان) سكت عن الحج والجهاد، إما لعدم طلبهما من السائل، أو لعلمه بأنه يعلم ثوابهما وعلو مكانهما (قال: والذي نفسي بيده) أي: بقدرته (لا أزيد على هذا) زاد مسلم: ولا أنقص منه. قال الطبراني: هذا الحديث ونحوه خوطب به أعراب حديثو عهد بالإِسلام فاكتفى منهم بفعل الواجب في ذلك الحال؛ لئلا يثقل ذلك عليهم فيملوا، حتى إذا انشرحت صدورهم للفهم عنه والحرص على تحصيل ثواب المندوبات سهلت عليهم. كذا في التوشيح (فلما ولى) أي: أدبر (قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) قال البرماوي: فيه أن المبشر بها أكثر من العشرة، كما ورد النص في الحسن والحسين وأمهما وجدتهما وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتحمل بشارة العشرة على أنهم بشروا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (3/208، 209) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان الإِيمان الذي يدخل به الجنة ... ، (الحديث: 12) .(7/14)
أهْلِ الجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1211- وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -، قَالَ: بايَعْتُ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1212- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ، وَلاَ فِضَّةٍ، لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دفعة واحدة، أو بلفظ بشره بالجنة، أو أن العدد لا ينفي الزائد (متفق عليه) .
1211- (وعن جرير بن عبد الله) بالجيم والرائين بوزن قتيل وهو البجلي (رضي الله عنه قال بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -) من مبايعة الجند الأمير، وهو التزام ما يلزم (على إقام الصلاة) مصدر أقام بحذف التاء المزيدة عوضاً عن ألف الافتعال تخفيفاً، وذلك خاص بحال إضافته (وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم) أي: ذي إسلام من ذكر أو أنثى (متفق عليه) وقد تقدم في باب النصيحة.
1212- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من) مزيدة لتأكيد استغراق قوله (صاحب ذهب ولا فضة) أي مما تجب فيه الزكاة منهما، فالوعيد مخصوص بذلك، وقول ابن حجر في شرح المشكاة: فذلك الوعيد لا يستثنى منه أحد، مراده ممن وجد عنده أحد النقدين الواجبة زكاتهما فلم يؤدها (لا يؤدي منها حقها) أي: الحق الواجب فيها وهو الزكاة، والإِضافة للملابسة وإفراد الضمير، إما لإِرجاعه إلى القصة لأنها أقرب، والذهب يعلم مما ذكر فيها بالأولى أو لأنها الأغلب، أو لأنهما في معنى الدنانير والدراهم، وهذا على منوال قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) (3) (إلا) استثناء من أعم الأحوال أي: لا يحصل له حال من الأحوال إلا حالة واحدة هي أنه (إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح) بالرفع ويصح النصب على أنه المفعول الثاني، والأول ضمير الذهب والفضة وأفرد لما مر ولمطابقة الثاني. قال التوربشتي: تصفيح الشيء جعله عريضاً،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (3/210) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان الإِيمان الذي يدخل به الجنة ... ، (الحديث: 15) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: البيعة على ايتاء الزكاة (3/212) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة، (الحديث: 97) .
(3) سورة التوبة، الآية: 34.(7/15)
مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ، وَجَبِينُهُ، وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ في يَومٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ العِبَادِ فَيَرَى سَبيلَهُ، إمَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والصفائح ما طبع من الحديد وغيره عريضاً (من نار (1) فاحمى عليها في نار جهنم) بيان لمعنى كونها من نار لأن حقيقتها من غيرها، لكن لهذا الإِحماء الذي يصيرها كالنار في رأي العين سميت ناراً، والآية (يوم يحمى عليها في نار جهنم) (2) إلخ ظاهرة في هذا، وذكر أحمى هنا ويحمي في الآية؛ لإِسناده إلى الظرف، والأصل أحميت النار عليها أي: صارت ذات توقد وحر شديد، ثم حول الإِسناد إلى الظرف مبالغة؛ لأن كونها يحمى عليها أبلغ من كونها محماة؛ لإِشعار الأول بمزيد علاج واعتناء أتم، ومن ثم كان المراد أن تلك الصفائح تعاد إلى النار عوداً متكرراً إلى أن تبلغ في مزيد حرها ولهبها واشتداد إحراقها الغاية، وإنما كان الأصل ذلك لأنه لا يقال أحميت على الحديد بل أحميت الحديد وحميته (3) كذا في فتح الإله، وبه يندفع منع التوربشتي من جهة الدراية لا من جهة الرواية لرفع الصفائح، زاعماً تعين نصبها؛ لأن على الرفع يتعين كون من نار لبيان الجنس ولا يستقيم، وذلك لأن الأموال هي التي جعلت صفائح ليعذب بها صاحبها، ولو كانت الصفائح متخذة من نار لم يكن لقوله (يحمى عليها) وجه، ووجه الاندفاع أنه لا منافاة بين كون التعذيب بنفس الأموال، وبين كونها من النار؛ لأن الأول حقيقة والثاني مجاز؛ لأنه لشدة التهابها بالنار صارت كأنها عينها، وقوله ثم يكن لقوله (يحمى عليها) وجه ممنوع، بل له وجه وهو المبالغة في ذلك العذاب والله أعلم بالصواب. (فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره) خصت هذه الثلاثة؛ لأن إمساك المال عن أداء الواجب لأجل الوجاهة وملء البطن من الأطعمة وستر الظهر باللباس، أو لأنه أعرض بوجهه عن الفقير، وأزور عنه بجانبه وولاه ظهره؛ أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة؛ لاشتمالها على الأعضاء الرئيسية الدماغ والقلب والكبد، أو المراد منها جهات البدن الأربع أمامه ووراءه ويمينه ويساره (كلما بردت) عن الحمو ردت إلى النار لزيادة حموها وشدتها (أعيدت له) أحر وأشد مما كانت. قال القرطبي: معناه دوام التعذيب واستمرار شدة الحرارة في تلك الصفائح، كاستمرارها في حديدة محماة ترد إلى الكير وتخرج منها ساعة فساعة (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) على الكافرين ونحوهم من الفسقة المتمردين المانعين حق الله تعالى وحق عباده، أما المؤمنون فهو على بعضهم كركعتي الفجر، وعلى
__________
(1) قوله من نار من لابتداء الغاية وكأنها لشدة كونها محماة في نار جهنم جعلت كأنها مأخوذة من نار.
(2) سورة التوبة، الآية: 35.
(3) في الصحاح أحميت الحديد في النار ولا يقال حميته. ع.(7/16)
إِلَى الجَنَّةِ، وَإمَّا إِلَى النَّارِ" قيل: يَا رسولَ الله، فالإبلُ؟ قَالَ: "وَلاَ صَاحِبِ إبلٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَومَ وِرْدِهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أوْفَرَ مَا كَانَتْ، لاَ يَفْقِدُ مِنْهَا فَصيلاً وَاحِداً، تَطَؤُهُ بِأخْفَافِهَا، وَتَعَضُّهُ بِأفْوَاهِهَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باقيهم كنصف يوم من أيام الدنيا كما أشير إليه بقوله تعالى: (وأحسن مقيلاً) (1) ولا يزال تعذيبه مستمراً في هذه المدة الطويلة (حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله) . قال الطيبي: رويناه بضم الياء وفتحها وبرفع سبيله ونصبه. اهـ وعلى ضم التحتية فسبيله أما نائب فاعل أو مفعول به، وعلى فتحها فهو مفعول به فقط. والسبيل كالطريق وزناً ومعنى يذكر ويؤنث (إما إلى الجنة) أي: إن كان مؤمناً والظرف في محل الحال (وإما إلى النار) بأن كان كافراً ومنه مستحل ترك الزكاة (قيل: يا رسول الله فالإِبل) أي: عرفنا حكم النقدين فما حكم الإِبل؟
(قال:) عطفاً على قوله ما من صاحب ذهب إلخ (ولا صاحب إبل) بكسرتين وبكسر فسكون، أي: وما من صاحب إبلٍ (لا يؤدي منها حقها) الواجب (ومن) أي: بعض (حقها) المندوب ذكر استطراداً وبياناً لما ينبغي أن يعتني به من له مروءة، وإن لم يكن فيه عذاب؛ لأن العذاب لا يكون إلا بترك واجب وفعل حرام (حلبها) بفتح المهملة واللام على الأشهر، وإسكانها غريب لكنه القياس (يوم ورودها) أي: ورودها الماء بأن تحلب حينئذ ويسقى من ألبانها للمارة والواردين للماء، ونظير ذلك الأمر بالصرام (2) نهاراً ليحضر المحتاج والنهي عنه ليلاً (إلا إذا كان يوم القيامة بطح) أي: طرح على وجهه. قال المصنف وقال القاضي: قد جاء في رواية البخاري تخبط وجهه بأخفافها، وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البطح كونه علي الوجه، وإنما هو في اللغة بمعنى المد والبسط، فقد يكون على وجهه، وقد يكون على ظهره، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها (لها) وفي نسخة له: ولا يصح رواية بل معنى خلافاً للطيبي كالتوربشتي؛ لأن الضمير لها وذكر باعتبار الجنس (بقاع) أي في صحراء واسعة مستوية (قرقر) بقافين وراءين أي: مستو فهو صفة كاشفة كذا في فتح الإِله، والظاهر أنها صفة مؤكدة. قال التوربشتي: القرقر في معنى القاع، وعبر عنه بلفظين مختلفين؛ للمبالغة في استواء ذلك المكان. قال: وروي بقاع قرق وهو مثله (أوفر) أي: أسمن (ما كانت) أي: أوقات أكوانها وأحيائها ليزداد ثقلها عليه عند وطئها له؛ ولكون إضافة أفعل غير محضة لم تمنع وقوعه حالاً، كذا في فتح الإِله وهو وهم، فإن الصفة التي تكون إضافتها لفظية هي اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة، كما في التوضيح، ونصبه في
__________
(1) سورة الفرقان، الآية: 24.
(2) ويقال بالصوم كما في الصحاح والمراد به قطف الثمار بعد نضجها وكمالها. ع.(7/17)
كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاَهَا، رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضى بَيْنَ العِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إمَّا إِلَى الجَنَّةِ، وَإمَّا إِلَى النَّارِ" قِيلَ: يَا رَسولَ اللهِ، فَالبَقَرُ وَالغَنَمُ؟ قَالَ: "وَلاَ صَاحِبِ بَقَرٍ وَلاَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ، لاَ يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئاً، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ، وَلاَ جَلْحَاءُ، وَلاَ عَضْبَاءُ، تَنْطَحُهُ بقُرُونها، وَتَطَؤُهُ بِأظْلاَفِهَا، كُلَّمَا مرَّ عَلَيْهِ أُولاَهَا، رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، في يَومٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَة حَتَّى يُقْضى بَيْنَ العِبَادِ، فَيَرى سَبيِلَهُ، إمَّا إِلَى الجَنَّةِ، وَإمَّا إِلَى النَّارِ" قيل: يَا رسول الله فالخَيْلُ؟ قَالَ: "الخَيلُ ثَلاَثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث على الظرفية أي: وقت أوفرِ أكوانها والله أعلم (لا يفقد منها) جملة حالية من فاعل كان التامة العائد للإِبل (فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها) حال أيضاً متداخلة، أو استئناف بياني جواب لسؤال مقدر تقديره لم بطح لها وقت كونها أوفر (وتعضه بأفواهها كلما) ظرف لقوله ردت (مر عليه أولاها رد عليه أخراها) قيل: الأنسب. رواية مسلم: كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها، بل قال المصنف: إنه الأصوب وإن به يستقيم الكلام، وكذا قال التوربشتي في شرح المصابيح، لكن قال في فتح القدير: وفيه ما فيه، بل المقصود من العبارتين تتابعها عليه واحداً بعد واحد (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالبقر) اسم جنس شامل للذكر والأنثى من الحيوان المعروف سمي به؛ لأنه يبقر الأرض للحرث أي: يشقها (والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم) أي: مما تجب فيه الزكاة بأن يكون نصاباً بدليل قوله (لا يؤدي منها حقها) أي: الزكاة الواجبة فيها (إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد) بكسر القاف أي: لا يعدم (منها شيئاً ليس فيها عقصاء) بالمهملتين بينهما قاف هي ملتوية القرنين (ولا جلحاء) بالجيم والمهملة أي: لا قرن لها (ولا عضباء) بالمهملة والمعجمة هي المكسورة القرن استفيد من هذه أن قرونها في غاية السلامة والقوهّ ليكون أوجع للمنطوح (تنطحه) بكسر الطاء وفتحها لغتان، ذكرهما الجوهري وغيره، وقال المصنف: الكسر أفصح وهو المعروف في الرواية (بقرونها وتطؤه بأظلافها) هي للبقر والغنم والظباء بمنزلة الخف للإِبل، فالظلف المنشق من القوائم، والخف للبعير، والقدم للآدمي، والحافر للفرس والبغل والحمار. (كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد) والفعل فيه وفيما قبله مبني للمجهول، وسكت عن ذكر الفاعل للعلم به لتعيينه (فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالخيل) قال في(7/18)
وِزْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أجْرٌ. فَأمَّا الَّتي هي لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ ربطها رِيَاءً وَفَخْراً وَنِوَاءً عَلَى أهْلِ الإسْلاَمِ، فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ، وَأمَّا الَّتي هي لَهُ سِتْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا في سَبيلِ الله، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ في ظُهُورِهَا، وَلاَ رِقَابِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَأمَّا الَّتي هي لَهُ أجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا في سَبيلِ الله لأهْلِ الإسْلاَمِ في مَرْجٍ، أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ المَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصباح: معروفة، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها. سميت خيلاً لاختيالها وهو إعجابها بنفسها مرحاً، ومنه يقال اختال الرجل وبه خيلاء أي: كبر وإعجاب، والمسئول عنه وجوب الزكاة فيها (قال الخيل ثلاثة) أي: لها أحكام غير ما مر، فلا زكاة فيها، هذا ما دل عليه السياق ويؤيده حديث "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه زكاة" وقال الطيبي، خولف بين إيراد جواب هذا وأجوبة الأنعام، فما هنا وارد على أسلوب الحكيم، فالتقدير على مذهب الشافعي دع السؤال عن الوجوب، فليس فيها حق واجب؛ ولكن سل عن اقتنائها، وعما يرجع إلى صاحبها من النفع، أو المضرة (هي لرجل وزر) بكسر الواو أي: إثم أي: سببه (وهي: فالرجل ستر) أي: للحالة التي هو فيها من الفقر أو الضيق (وهي لرجل أجر فأما التي) قال المصنف: كذا في أكثر النسخ أي من مسلم، ووقع في بعضها الذي هو أوضح وأظهر (هي له) وفي المشكاة لرجل بالاسم الظاهر محل المضمر (وزر فرجل ربطها رياء وفخراً) حال أو علة (ونواء) بكسر النون وتخفيف الواو بالمد: المعاداة (لأهل الإِسلام فهي له وزر) جملة مؤكدة مشعرة بتمام عنايته - صلى الله عليه وسلم - بتمام هذا الأمر والتحذير منه، ويأتي هذا في نظيره الآتي (وأما التي هي له ستر) أي: من إظهار الحاجة (فرجل ربطها في سبيل الله) أي: طاعته لا خصوص الجهاد لئلا يتحد مع ما بعده، ومن ثم عبر بدله في رواية بقوله: فرجل ربطها تغنياً وتعففاً أي: استغناء بنتاجها وتعففاً به عن سؤال الناس عند حاجته إلى الركوب، وهذا أشبه بصنيع ذوي الهيئات وأخلاق أهل الكرم والمروءة (ثم لم ينس حق الله في ظهورها) بأن يركبها للطاعات وعند الحاجات ندباً تارة ووجوباً أخرى (ولا رقابها) بأن يتعهدها بما يصلحها ويدفع ضررها (فهي له ستر) أي: حجاب يمنعه عن الحاجة للناس (وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله) أي: بقصد الجهاد عليها والإِعانة بها (لأهل الإِسلام في مرج) بالميم والراء والجيم بوزن فلس أي: أرض ذات نبات ومرعى والظرف متعلق بربط (أو روضة) عطف خاص على عام (فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء) من مزيدة مؤكدة؛ لعموم مجرورها إذ هو نكرة في سياق النفي (إلا كتب له عدد ما) أي: الذي (أكلت)(7/19)
حَسَنَات وكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أرْوَاثِهَا وَأبْوَالِهَا حَسَنَات، وَلاَ تَقْطَعُ طِوَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفاً أَوْ شَرَفَيْنِ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا، وَأرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ، وَلاَ مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ، وَلاَ يُرِيدُ أنْ يَسْقِيهَا إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ " قِيلَ: يَا رسولَ اللهِ فالحُمُرُ؟ قَالَ: " مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ في الحُمُرِ شَيْءٌ إِلاَّ هذِهِ الآية الفَاذَّةُ الجَامِعَةُ (1) : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العائد محذوف (حسنات) نائب فاعل كتب (وكتب له عدد) بالنصب مفعول مطلق (أرواثها وأبوالها) باعتبار أن بذلك بقاء حياتها مع كون أصلها قبل الاستحالة مالاً لمالكها، وفي ذكرهما غاية المبالغة؛ لأنهما إذا كتبا مع استقذارهما فغيرهما أولى (حسنات ولا تقطع طولها) بكسر المهملة وفتح الواو الخفيفة، ويقال طيل بوزن ما ذكر وقلب الواو ياء لإِنكسار ما قبلها. قال المصنف: وكذا جاء في الموطأ وهو حبل طويل يشد طرفه في نحو وتد وطرفه الآخر في يد الفرس (2) أو رجلها لتدور فيه وترعى من جوانبها وتذهب لوجهها (فاستنت) أي: عدت في مرجها لتوفر نشاطها (شرفاً أو شرفين) أي: طلقاً (3) أو طلقين قال التوربشتي: لأنها تعدو حتى تبلغ شرفاً من الأرض وهو ما يعلو منها فتقف عند ذلك وقفة ثم تعدو ما بدا لها، فعبر عن الطلق بالشرف، أو المراد تعدو إلى طرف المرج ثم تعود إلى محلها (إلا كتب الله له) أتى بصيغة المعلوم تفنناً في التعبير (عدد آثارها) لخطاها (وأرواثها) أراد بها هنا ما يشمل البول، وأسقط للعلم به منها (حسنات ولا مر بها صاحبها) يحتمل أن يراد به مالكها، وأن يراد من صاحبها وإن كان غيره، وإذا أثيب بالمصاحبة فالمالك أولى بالثواب. (على نهر) بسكون الهاء وفتحها (فشربت منه) ما أفادته الفاء من التعقيب هو باعتبار الغالب، وإلا فما يأتي مرتب على شربها منه ولو مع مهلة (ولا يريد أن يسقيها) بفتح التحتية على الأفصح وضمها لغة والجملة حالية من صاحب (إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات) وكتب له ذلك؛ لأنه نشأ عن فعله الذي هو إطعامها حتى احتاجت للشرب، وإذا أثيب بما ذكر من غير قصد السقي فمع قصده أولى (قيل: يا رسول الله فالحمر) بضمتين أي: أهي كالانعام في وجوب الزكاة أو كالخيل فيما ذكر؟ (قال: ما أنزل) بالفعل المبني للمجهول وفي نسخة مصححة ما أنزل الله (عليّ في الحمر شيء) أي: من الأحكام (إلا هذه الآية) بالرفع ويجوز فيه النصب (الفاذة) بالمعجمة المشددة أي: المنفردة في معناها (الجامعة) لأبواب البر لإِطلاق اسم الخير على سائر الطاعات، يقال: فذ الرجل عن أصحابه
__________
(1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8.
(2) الفرس يقع على الذكر والأنثى ولا يقال للأنثى فرسه.
(3) الطلق بفتح اللام الشوط. ع.(7/20)
ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلم. ومَعْنَى "الْقاعُ": المكانُ الْمُسْتَوي مِنَ الْأرْضِ الواسِعُ و"القَرْقَرُ" الأمْلَسُ (1) .
217- باب وجوب صوم رمضان وبيان فضل الصيام وَمَا يتعلق بِهِ
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا شذ عنهم فبقى منفرداً، وعطف عليها عطف بيان. قوله (فمن يعمل مثقال ذرة) أي: زنة نملة صغيرة أو جزء من أجزاء الهباء (خيراً يره) فإن كان مؤمناً رأى جزاءه في الدارين، وإن كان كافراً ففي الدنيا وقد يخفف عنه من عذاب الآخرة (ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره متفق عليه) أي: باعتبار أصل الوعيد في ترك الزكاة؛ لأن حديث البخاري ليس فيه ذكر وعيد النقدين، ولا ما في الخيل والحمر (وهذا) أي: المذكور (لفظ مسلم) في كتاب الزكاة، وسكت فيه عما تجب فيه الزكاة من الأقوات وعروض التجارة.
باب وجوب صوم رمضان وبيان فضل الصيام
عبر به ثانياً بعد التعبير أولاً بالصوم تفنناً في التعبير، وأصله صوام قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها (وما يتعلق به) أي: برمضان من الاعتكاف والإكثار من عمل البر، ثم الصوم والصيام مصدران لصام بمعنى أمسك ومنه قول مريم (إني نذرت للرحمن صوماً) (3) أي: إمساكاً وسكوتاً عن الكلام، وشرعاً الإمساك عن المفطرات في زمن مخصوص على وجه مخصوص. ووجوب صوم رمضان بالكتاب والسنة والإجماع، معلوم من الدين بالضرورة، فيكفر جاحده ما لم يكن معذوراً بأن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء (قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا) نداء لهم باشرف أَوصافهم وفيه تشريف بعد تشريفهم بالخطاب (كتب عليكم الصيام) قيل: هو صوم رمضان وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر وعاشوراء ثم نسخ (كما كتب على الذين من قبلكم) فيه حمل لثقله على النفوس لأن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة مختصراً (3/212) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة، (الحديث: 24) .
(2) سورة البقرة، الآية: 183.
(3) سورة مريم، الآية: 26.(7/21)
إِلَى قَوْله تَعَالَى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر) الآيةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأمر الشاق إذا عم سهل تعاطيه، واختلف على الأول هل التشبيه في أصل الصوم أو في خصوص رمضان؟ الأصح الأول وأن رمضان من خصائص هذه الأمة تشريفاً لنبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - (لعلكم تتقون) المعاصي، فإن الصوم يضيق مسالك الشيطان (أياماً معدودات) تقديره صوموا أياماً، وليس معمول الصيام لتحليته بأل وإعماله إذا كان كذلك شاذ والتعبير بجمع القلة للتنشيط على ملابسته والدخول فيه، ثم بعد التمرن يهون الأمر (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) أي: فعليه، أو فواجبه، أو فيجب عليه صوم عدة أيام المرض أو السفر من أيام أخر إن أفطر، فحذف الشرط والمضاف للقرينة (وعلى الذين يطيقونه) أي: الأصحاء المقيمين (فدية) أي: إن أفطروا (طعام مسكين) كان في بدء الإِسلام الخيار بين الصوم والإِطعام عن كل يوم مسكيناً فنسخ (1) ، أو الآية غير منسوخة، والمراد الشيخ الكبير الهرم، والمرأة الكبيرة اللذان لا يستطيعان الصوم، ومعنى يطيقونه يصومونه طاقاتهم وجهدهم، ويؤيده قراءة (يطوقونه) بتشديد الواو أي: يكلفونه ولا يطيقونه (فمن تطوع خيراً) بأن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم (فهو خير له وأن تصوموا) أي: صومكم (خير لكم) أيها المطيقون (إن كنتم تعلمون) فضائل الصوم (شهر رمضان) مبتدأ خبره ما بعده أو ذلكم شهر رمضان (الذي أنزل فيه القرآن) جملة ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل منجماً إلى الأرض، وهو خبر شهر، أو صفته (هدى للناس) أي هادياً (وبينات) أي: آيات واضحات (من الهدى) مما يهدي إلى الحق، من الأحكام (والفرقان) ومما يفرق بين الحق والباطل (فمن شهد) حضر، ولم يكن مسافراً (منكم الشهر) أي: فيه (فليصمه) أي: فيه (ومن كان مريضاً) أي: مرضاً يشق أو يضر معه الصوم (أو على سفر فعدة من أيام أخر) الآية الأولى تخيير المريض والمسافر والمقيم هذه لهما دون المقيم فلا تكرار بل علم من هذه نسخ الأولى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فلذا أباح الفطر للسفر والمرض (ولتكملوا العدة) عطف على اليسر، مثل (يريدون ليطفئوا) (2) ، أو
__________
(1) قوله فنسخ أي بتعيين الصوم بقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) كما في الجلالين.
(2) المماثلة من حيث دخول اللام على معمول يريد لأنه إذا عطف على اليسر صار التقدير ويريد لتكملوا العدة. ع.
(2) سورة الصف، الآية: 8.(7/22)
وَأما الأحاديث فقد تقدمت في الباب الَّذِي قبله.
1213- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللهُ - عز وجل -: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَام، فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقديره شرع لكم ذلك، أي: جملة أحكام الصوم لتكملوا عدد أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في المرض والسفر (ولتكبروا الله) لتعظموه (على ما هداكم) أرشدكم إليه من وجوب الصوم، ورخصة الفطر بالعذر، والمراد تكبيرات ليلة الفطر (ولعلكم تشكرون) الله على نعمته، أو رخصة الفطر. انتهى من جامع البيان. وهذا المفسر مراد المصنف بقوله (من أيام أُخر) الآية، وهي بالرفع مبتدأ خبره محذوف أي: معروفة وبالنصب أي: أتمها، ويجوز الخفض على حذف الجار لكنه ضعيف؛ لأن حذف الجار وإبقاء عمله سماعي في غير أن وإن وكي المصدريات (وأما الأحاديث) أي: الدالة على وجوبه (فقد تقدمت في الباب الذي قبله) في جملة ما يدل على وجوب الزكاة (و) مما فيها، بيان فضله ما ثبت.
1213- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل:) هو من الأحاديث القدسية (كل عمل ابن آدم له) قال الخطابي: أي: له فيه حظ ومدخل، وذلك لاطلاع الناس عليه، فهو يتعجل به ثواباً من الناس، ويحوز به حظاً من الدنيا جاهاً وتعظيماً ونحوهما (إلا الصيام فإنه لي) أي: خالص لي لا يطلع عليه أحد غيري، ولا حظ فيه للنفس، وفيه كسرها، وتعريض البدن للنقص والصبر على حراقة العطش ومضض الجوع، وقال الخطابي: معناه الصوم عبادة خالصة لا يستولي عليها الرياء والسمعة؛ لأنه عمل بر لا يطلع عليه إلا الله، وهذا كما روي: نية المؤمن خير من عمله، وذلك لأن محلها القلب، فلا يطلع عليها غير الله تعالى أي: أن النية المنفردة عن العمل خير من عمل خال عن النية، كما في (ليلة القدر خير من ألف شهر) (1) أي ألف شهر ليس فيها ليلة قدر، وقيل معناه: أن الاستغناء عن الطعام والشراب من صفات الله تعالى، فإنه يطعم ولا يُطعم، فكأنه قال: الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء، وقيل: هو إضافة تشريف كبيت الله، وقيل: غير ذلك مما يأتي بعضه (وأنا أجزي به) معناه مضاعفة الجزاء من غير عدد ولا حساب لأن تولي الكريم للعطاء يدل على سعته (والصيام جنة) بضم الجيم أي: ترس أي: فيكون مانعاً من النار أو من المعاصي كما يمنع الترس من إصابة السهم، لأنه يكسر الشهوة ويضعف القوة، زاد أحمد: وحصن حصين من النار، والنسائي: كجنة أحدكم من القتال، زاد أحمد من وجه آخر: ما لم يخرقها. قال
__________
(1) سورة القدر، الآية: 2.(7/23)
فَإذَا كَانَ يَومُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ. وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أفْطَرَ فَرِحَ بفطره، وَإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" متفقٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن العربي: إنما كان جنة من النار لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها (فإذا كان) أي: وجد (يوم صوم أحدكم فلا يرفث) بضمِ الفاء وكسرها على أن ماضيه رفث بالفتح، وأما على أنه بكسرها فالمضارع يرفث بالفتح رفثاً بالسكون في المصدر، وبالفتح في اسمه أي لا يتكلم بالكلام الفاحش (ولا يصخب) بفتح الخاء أي: لا يكثر لغطه (فإن سابه أحد) أي: سبه والمفاعلة للمبالغة لا للمغالبة، أو على بابها لأن من شأن من سب أن يسب (أو قاتله) أي: نازعه أو خاصمه (فليقل) بقلبه (1) لينزجر (إني صائم) (2) وقيل: بلسانه لينزجر خصمه عنه أي: إن أمن نحو رياء، وعليه فقيل: يجمع بينهما ليزجر بلسانه خصمه وبقلبه نفسه، ويكون من حمل اللفظ على حقيقته ومجازه وذلك جائز عند الشافعي، وهذا وإن لم يخص الصائم إلا أنه فيه آكد (والذي نفس محمد بيده) أي: بقدرته أتى به للتأكيد ففيه ندب القسم لتأكيد الأمر عند السامع (لخلوف) بضم الخاء واللام وسكون الواو وبالفاء، قال عياض: هكذا الرواية الصحيحة، وبعض الشيوخ يقوله: بفتح الخاء، قال الخطابي: وهو خطأ.
وحكي عن القابسي الوجهين، وبالغ المصنف فقال في مجموعه: لا يجوز فتح الخاء، واحتج غيره لذلك بأن المصادر التي جاءت على فعول بفتح أوله قليلة، ذكرها سيبويه وغيره، وليس هذا منها (فم الصائم) فيه دليل على إثبات الميم في فم حال إضافته لظاهر؛ خلافاً لمن منع منه، والمراد تغير فيه الناشىء عن الصوم، وهو مطلق مقيد بحديث: أعطيت أمتي في رمضان خمساً إلى أن قال والثانية أنهم يمسون، وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك، وبه أيضاً استدل على أن ذلك في الدنيا، كما قاله ابن الصلاح والجمهور، خلافاً لابن عبد السلام في قوله: إن ذلك في الآخرة، كدم الشهيد (أطيب عند الله من ريح المسك) قال المازري: هو مجاز عن تقريب الصوم منه تعالى؛ لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك للصوم؛ لتقريبه من الله تعالى أي: إنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم أي: يقرب إليه تعالى أكثر من تقرب المسك إليكم، وإليه أشار ابن عبد البر، وقيل: المعنى أن حكم الخلوف والمسك عند الله على ضد ما هو عندكم، وهذا
__________
(1) أي يحدث بها نفسه ليمنعها من مشاتمته.
(2) الذي في نسخة صحيحه من صحيح البخاري إني امرؤ صائم. ع.(7/24)
عَلَيْهِ، وهذا لفظ روايةِ البُخَارِي.
وفي روايةٍ لَهُ: "يَتْرُكُ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، وَشَهْوَتَهُ مِنْ أجْلِي، الصِّيَامُ لي وَأنَا أجْزِي بِهِ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا".
وفي رواية لمسلم: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يضاعَفُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قريب من الأول، وقيل: إن المراد أن الله يجزيه في الآخرة، فتكون نكهته فيها أطيب من ريح المسك، كما يأتي الكلوم وريح جرحه يفوح مسكاً، وقيل: المراد أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك، لا سيما بالإِضافة إلى الخلوف، حكاهما عياض، وقال الداودي وجماعة: المراد أن الخلوف أكثر ثواباً من المسك المندوب إليه في الجمع ومجالس الذكر، ورجح المصنف هذا، وحاصله حمل معنى الطيب؛ لاستحالة قيام حقيقته بذاته تعالى على القبول والرضى، وقد نقل القاضي حسين في تعليقه أن للطاعات يوم القيامة ريحاً يفوح، فرائحة الصوم بين العبادات المسك، وقال البيضاوي: هو تفضيل لما يستكره من الصائم على أطيب ما يستلذ من جنسه، وهو المسك ليقاس به ما فوقه من آثار الصوم، وقيل: إنه من مجاز الحذف أي: عند ملائكة الله أي: إنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك (للصائم فرحتان يفرحهما) فيه توسع بحذف الجار والأصل يفرح بهما، كما في قوله تعالى: (فليصمه) (1) أي: فليصم فيه، أو هو مفعول مطلق أي: يفرح الفرحتين، فجعل الضمير بدله، نحو عبد الله أظنه منطلقاً (إذا أفطر فرح بفطره) أي: لإتمام الصوم، وخلوه من المفسدات، أو لتناوله الطعام (وإذا لقي ربه فرح بصومه) أي: بلقاء ربه، أو برؤية ثوابه، وعلى الاحتمالين فهو مسرور بقبول صومه (متفق عليه) أخرجاه في الصوم، وكذا رواه فيه النسائي في سننه. (وهذا) أي: اللفظ المذكور (لفظ رواية البخاري) في باب هل يقول: إني صائم إذا شتم؟ (وفي رواية له) أي: للبخاري في باب فضل الصوم، من حديث أبي هريرة مرفوعاً لفظاً قدسياً معنى لقوله (يترك طعامه وشرابه وشهوته) من الجماع، ومقدماته (من أجلي) من فيه تعليلية (الصيام لي) أي: لم يتعبد به لأحد غيري، وإن كانت العبادات كلها لله تعالى، وكان الكفار يعظمون معبوداتهم بسجود وصدقة، أما بالصيام فلا. (وأنا أجزي به) بفتح الهمزة أي: أتولى جزاءه، وذلك دال على شرفه، وعظم جزائه (والحسنة بعشر أمثالها) هو أقل مراتب التضعيف (وفي رواية لمسلم) لهذا الحديث، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو باعتبار أوله حديث مرفوع لا قدسي (كل عمل ابن آدم يضاعف) ظاهره أن نفس العمل يضاعف، ويؤيده قوله (وإن تك حسنة
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 185.(7/25)
الحسنةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ. قَالَ الله تَعَالَى: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي. للصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يضاعفها) (2) وقيل: المراد ثوابه لقوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (3) وقوله هنا يضاعف بالتحتية خبر كل، وفي نسخة بالفوقية مسند إلى قوله (الحسنة عشر أمثالها) وعشر بالنصب ثاني مفعولي يضاعف؛ لتضمنه معنى يجعل، والجملة الخبرية رابطها ضمير محذوف، والأصل تضاعف الحسنة فيه، وعلى أنه بالتحتية فجملة الحسنة عشر أمثالها مركبة من مبتدأ وخبر مستأنفة استئنافاً بيانياً، كأنه قيل كيف تلك المضاعفة؟ فقال: الحسنة إلخ وقد تضاعف (إلى سبعمائة ضعف) قال تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) (4) (قال الله تعالى: إلا الصوم) بالنصب مستثنى من حصر المضاعفة في عدد مخصوص، وقوله: (فإنه لي وأنا أجزي به) جملة مستأنفة، أتى بها كالتعليل؛ للاستثناء المذكور وذلك أن تولي الله سبحانه لجزائه، يدل على عظمه وأنه لا يحصره عد، فهو كالصبر الذي قال الله لعالى فيه: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) (5) (يدع شهوته) أي: ما تشتاق النفس إليه (وطعامه) أراد به ما يطعم، فشمل الشراب (من أجلي) أي: بسببي (للصائم فرحتان فرحة عند فطره) لتمام عبادته، وسوغ الابتداء بالنكرة؛ كونه مسوقاً للتفصيل، فهو كقوله "فيوم لنا ويوم علينا" (وفرحة عند لقاء ربه) بلقائه ورؤية جزيل ثوابه (ولخلوف) بفتح اللام، أي: لام جواب القسم أكد به دفعاً لما يستبعد من الحكم بأطيبيته، مع كونه مستقذراً عند الناس أي: لتغير (فيه) الناشىء عن الصوم الكائن من بعد الزوال؛ لأن التغير قبله قد يحال على ما أكله وقت السحر، بخلافه بعده، فيتمحض كونه أثره (أطيب عند الله من ريح المسك) وهذه الجملة مسوقة لبيان شرف الصوم عند الله تعالى، وزيادة مكانته، كما تقدم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: وجوب صوم رمضان (4/88، 94) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، (الحديث: 163) .
(2) سورة النساء، الآية: 40.
(3) سورة الأنعام، الآية: 160.
(4) سورة البقرة، الآية: 261.
(5) سورة الزمر، الآية: 10.(7/26)
1214- وعنه رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ، يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1214- (وعنه) أي: أبي هريرة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أنفق زوجين) في بعض طرق الحديث، قيل: وما زوجان؟ قال: فرسان أو عجلان أو بعيران، وقال ابن عرفة: كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج، وقيل: يحتمل أن يكون هذا الحديث في جميع أعمال البر، من صلاتين، أو صيام يومين، أو شفع صدقة بأخرى، ويدل عليه قوله في بقية الحديث "فمن كان من أهل الصلاة" "ومن كان من أهل الصيام" والزوج الصنف أيضاً، ومنه (وكنتم أزواجاً ثلاثة) (1) ، (في سبيل الله) هو عام في جميع وجوه الخير، وقيل: خاص بالجهاد، والأول أصح وأظهر، قاله المصنف (نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير) قيل: هو اسم أي: ثواب وغبطة، وقيل: أفعل تفضيل أي: هذا فيما نعتقد خير لك من غيره من الأبواب؛ لكثرة ثوابه، ونعيمه فتعال فادخل منه. قال المصنف: ولا بد من تقدير ما ذكرناه، أن كل منا يعتقد أن ذلك الباب أفضل من غيره، وقال الحافظ في فتح الباري: هو بمعنى فاضل لا أفضل، وإن كان اللفظ قد يوهمه، وفائدته زيادة ترغيب السامع في طلب الدخول من ذلك الباب (فمن كان من أهل الصلاة) أي: بأن أكثر من التطوع منها، بحيث كان الغالب عليه في عمله ذلك، وليس المراد الواجبات؛ لاستواء الناس فيها قاله القرطبي، وظاهر جريانه في الصوم والصدقة (دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان) سُمي به على جهة مقابلة العطشان، الذي هو الصائم، وإشارة إلى أنه يجازى على عطشه بالري الدائم في الجنة التي يدخل إليها من ذلك الباب (ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) بقي من أركان الإِسلام الحج، ولا شك أن له باباً، وأما الثلاثة الباقية من الثمانية فمنها: باب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس.
روى أحمد بن حنبل عن الحسن مرسلاً: إن لله باباً في الجنة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة، ومنها: الباب الأيمن، وهو باب المتوكلين الذي يدخل منه من لا حساب عليه، ولا عذاب، وأما الثالث فلعله باب الذكر، فإن عند الترمذي ما يوميء إليه، ويحتمل أن يكون
__________
(1) سورة الواقعة، الآية: 7.(7/27)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: بِأبي أنْتَ وَأُمِّي يَا رسولَ اللهِ! مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرورةٍ، فهل يُدْعى أحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبوَابِ كُلِّهَا؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، وَأرْجُو أنْ تَكُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب العلم، ويحتمل أن يراد بالأبواب التي يدعى منها أبواب من داخل أبواب الجنة الأصلية؛ لأن الأعمال الصالحة أكثر عدداً من ثمانية. اهـ من فتح الباري. وقال السيوطي في الديباج: قال القاضي عياض: وقد جاء ذكر بقية الأبواب في أحاديث أخر: باب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وباب الراضين، والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه. قال الحافظ في الفتح: الإنفاق في الصدقة والجهاد والعلم والحج ظاهر، وأما في غيرها فمشكل، ويمكن أن يراد بالإِنفاق في الصلاة الإِنفاق في تحصيل آلاتها، من ماء وطهارة وثوب ونحو ذلك، وفي الصيام الإِنفاق فيما يقويه عليه من سحور وفطور، والإنفاق في العفو عن الناس، أن يترك ماله عليهم من حق، والإِنفاق في التوكل، ما ينفقه على نفسه في مرضه المانع له من التصرف في طلب المعاش مع الصبر على المصيبة، أو ينفقه على من أصابه مثل ذلك طلباً للثواب، والإِنفاق في الذكر على نحو من ذلك، ويحتمل أن المراد من الإِنفاق في الصلاة والصيام بذل النفس فيهما، فإن العرب تسمي ما يبذله الإِنسان من نفسه في ذلك نفقة، يقول أحدهم فيما تعلم من الصنعة: أنفقت فيها عمري، فإتعاب الجسم في الصوم والصلاة إنفاق اهـ ملخصاً (قال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي) أي: مفدى بهما (يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب) أي: من أحدها (من ضرورة) (1) ، أي نقص ولا خسارة (فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها) فيه إشعار بقلة من يدعي من كلها، ودعاء من تجتمع له تلك الأعمال من كلها تشريف له، وإلا فإنما يدخل من باب واحد، ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه، ولا يشكل على ذلك خبر مسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله الحديث، وفيه "فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" لأنه يحمل على أنها تفتح له إكراماً له ولا يدخل إلا من باب العمل الذي يكون أغلب عليه. قال الزركشي: ويحتمل أن الجنة كقلعة لها أسوار يحيط بعضها ببعض، وعلى كل سور باب، فمنهم من يدعى من الباب الأول فقط، ومنهم من يتجاوز عنه إلى الباب الداخل، وهلم جراً (قال: نعم وأرجو أن تكون
__________
(1) قال الكرماني نقلاً عن ابن بطال: معنى ما على من دعى من تلك إلخ أن من لم يكن إلا من أهل خصلة واحدة ودعي لها من بابها لا ضرر عليه لأن الغاية المطلوبة دخول الجنة. اهـ. ع.(7/28)
مِنْهُمْ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1215- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ في الجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَومَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أحدٌ غَيْرُهُمْ، يقال: أيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منهم) قال العلماء: الرجاء من الله تعالى، ومن نبيه - صلى الله عليه وسلم - واقع (متفق عليه) قال المصنف: في الحديث منقبة لأبي بكر رضي الله عنه، وفيه جواز الثناء على الإِنسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة منه بإعجاب أو غيره.
1215- (وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة) في بمعنى اللام، كما عبر بها في رواية أخرى، كذا في التوشيح، وقال ابن المنير: أتى بفي دون اللام إشارة إلى أن في الباب من النعيم والراحة ما في الجنة فيكون أبلغ في التشويق (باباً يقال له الريان) بفتح الراء وتشديد الياء التحتية، فعلان من الري، وهو مناسب لجزاء الصائمين، كما تقدم. واكتفى بذكر الري عن الشبع؛ لأنه يدل عليه من حيث إنه يستلزمه (يدخل منه الصائمون يوم القيامة) لبيان الواقع إذ دخولها إنما يكون يومئذ، ويحتمل أن يكون احترازاً عن دخول أرواح الشهداء والمؤمنين لها مدة هذا العالم، فلا يتقيد بالصائمين (لا يدخل منه أحد غيرهم) أي: في ذلك اليوم (يقال: أين الصائمون فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا) لمسلم: فإذا دخل آخرهم، وفي بعض نسخه فإذا دخل أولهم إلى آخره. قال عياض وغيره: وهو وهم، والصواب آخرهم (أغلق فلم يدخل منه أحد) كرر نفي دخول غيرهم منه تأكيداً، وأما قوله: فلم يدخل، فهو معطوف على أغلق، أي: لم يدخل منه غير من دخل، وجاء الحديث بلفظ مسلم الأول عند ابن أبي شيبة في مسنده، وأبي نعيم في مستخرجه، وابن خزيمة، والنسائي وزاد: من دخله لم يظمأ أبداً، ورواه النسائي من طريق آخر موقوفاً على أبي حازم الراوي عن سهل. قال الحافظ في الفتح: وهو مرفوع قطعاً (3) ؛ لأن مثله لا مجال للرأي فيه (متفق عليه) أخرجاه في الصوم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: الريان للصائمين (4/96) وغيره.
وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: من جمع الصدقة وأعمال البر، (الحديث: 85) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: الريان للصائمين، (4/95، 96) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، (الحديث: 166) .
(3) قوله: وهو مرفوع قطعاً إلخ هذا الحكم إنما قرره علماء المصطلح في الموقوف على الصحابي(7/29)
1216- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً في سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفَاً" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1217- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1216- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من) مزيدة؛ لاستغراق النفي (عبد) أي: مكلف، والجارية كالعبد فيما يأتي، والاقتصار عليه جري على الغالب، أو لشرفه، ويوضحه أنه جاء في رواية لمسلم: "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" (يصوم يوماً في سبيل الله) قيل: المراد به الجهاد للكفار، وقيل: المراد منه طاعة الله (إلا باعد الله تعالى وجهه) أي: أبعده، وصيغة المفاعلة للمبالغة (عن النار سبعين خريفاً) أي: مدة سير سبعين سنة وكنى عنها بالخريف؛ لأنه ألطف (3) فصولها؛ لما فيه من اعتدال البرودة والحرارة؛ ولأنه يجري فيه الماء في الأغصان (متفق عليه) .
1217- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صام رمضان إيماناً) أي: حال كونه مصدقاً بما ورد فيه من الثواب، أو منصوب على العلة (احتساباً) أي: محتسباً قاصداً به وجه الله تعالى (غفر له ما تقدم من ذنبه) زاد النسائي وأحمد وغيرهما بسند حسن "وما تأخر". والمغفور من الذنوب بالطاعات، الصغائر المتعلقة بحق الله سبحانه (متفق عليه) هو آخر حديث أورده البخاري في باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً ولفظه "من قام ليلة القدر إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان" فذكره فكان على المصنف أن يأتي بالعاطف لينبه على أنه بعض حديث.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الصوم في سبيل الله (6/35) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه ... ، (الحديث: 167) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: من صام رمضان إيماناً واحتساباً (4/221) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، (الحديث: 175) .
فيه موقوف على التابعين فالحكم بكونه مرفوعاً يحتاج إلى نظر. ع.
(3) قوله: لأنه الخ فيه أن هذه الخواص للربيع لا للخريف.(7/30)
1218- وعنه - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فُتِحَتْ أبْوَاب الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ النَّارِ، وَصفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1219- وعنه - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ، فَإنْ غَبِيَ عَلَيْكُمْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1218- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء رمضان فتحت) بتخفيف التاء الفوقية وتشديدها مبنياً للمفعول، وسكت عن ذكر الفاعل؛ للعلم به (أبواب الجنة) الأظهر: أن المراد فتح بالحقيقة لمن مات (2) فيه، أو عمل عملاً لا يفسد عليه، وقيل: مجاز أي: العمل فيه يؤدي إلى ذلك، أو عن كثرة الرحمة والمغفرة، بدليل رواية لمسلم "فتحت أبواب الرحمة" إلا أن يقال الرحمة من أسماء الجنة (وغلقت أبواب النار) فيه ما مر فيما قبله، ويحتمل أنه كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش، والتخلص من البواعث على المعاصي، بقمع الشهوات، قال الطيبي: فائدة ذلك (3) توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله تعالى بمكان عظيم وأن المكلف إذا علم ذلك بإخبار الصادق زاد نشاطه (وصفدت) بضم أوله وتشديد الفاء أي: غلت (الشياطين) يحتمل ما مر قبله من الحقيقة، ومن أنه مجاز عن منعهم فيه من كثرة إيذاء المؤمنين، والتهويش عليهم، فيصيرون كالمسلسلين، أو عن كف المكلفين عما ينكفون عنه فيه من المخالفات (متفق عليه) .
1219- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صوموا لرؤيته) أي: هلال رمضان كما يوميء إليه المقام، ولو كان الرائي واحداً وهو عدل شهادة لا رواية (وأفطروا لرؤيته) أي: هلال شوال، واللام فيهما محتملة؛ لكونها بمعنى عند كقوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) (4) ولكونها للتعليل (فإن غبي) بفتح المعجمة، وكسر الموحدة مخففة وفي نسخة مشددة، مبنياً للمفعول، وفي أخرى من البخاري بلفظ " غم عليكم " أي: حال بينكم وبينه غيم، يقال: غم وأغمى وغمى وغمي بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما، ويقال: غبي بفتح
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: هل يقال رمضان؟ أو شهر رمضان، (4/97) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل شهر رمضان، (الحديث: 1) .
(2) قوله: لمن مات الخ هذا التقييد غير ظاهر الحديث والظاهر بناء على أن الفتح حقيقي ما سيذكره عن الطيبي من أن المقصود توقيف الملائكة إلخ.
(3) أي الفتح والغلق على أنهما حقيقيان. ع.
(4) سورة الإسراء، الآية: 78.(7/31)
فَأكمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ" متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ البخاري.
وفي رواية مسلم: "فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاَثِينَ يَوْماً". (1) .
218- باب الجود وفعل المعروف والإكثار من الخير في شهر رمضان والزيادة من ذَلِكَ في العشر الأواخر منه
1220- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعجمة، وبالموحدة، وكلها صحيحة قاله المصنف. (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ومنه أخذ أصحابنا: عدم استحباب الخروج من خلاف من أوجب صوم ثلاثين شعبان، إذا منع الغيم من رؤية الهلال؛ لأن الخلاف إنما يخرج منه ما لم يعارض سنة صحيحة، ولم يشتد ضعفه، ولم يوقع الخروج منه في خلاف آخر (متفق عليه وهذا لفظ البخاري وفي رواية مسلم) هي إحدى رواياته (فإن غم عليكم) أي: هلال شوال (فصوموا ثلاثين يوماً) ومنه يؤخذ أنه إذا أكملت عدة الثلاثين، ولم ير الهلال، وجب الفطر سواء كان رؤية رمضان من واحد، أو من أكثر منه، وهو كذلك لإِكمال العدة بحجة شرعية، وما يلزم عليه من ثبوت شوال بواحد، يجاب عنه بأن الشيء يثبت ضمناً بما لا يثبت به مستقلاً.
باب ندب الجود
هو لغة: الكرم، وشرعاً: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة (وفعل المعروف) أي: ما يعرف شرعاً من واجب ومندوب (والإكثار من الخير) لينمو ثوابه بشرف زمانه (في شهر رمضان) خبر عن الجميع أي ندب ذلك أي: تأكده كائن في شهر رمضان؛ لأنه أشرف الشهور، فندب إحياؤه بذلك لينمو ثواب العمل (والزيادة من ذلك) أي: المذكور (في العشر الأواخر منه) ابتداؤه من ليلة الحادي والعشرين، وانتهاؤه بخروج رمضان تاماً كان أو ناقصاً، وعليه فإطلاق العشر عليه بطريق التغليب للتمام، لأصالته.
1225- (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس) أكثرهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصيام، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأيتم الهلال فصوموا ... (4/106) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل شهر رمضان، (الحديث: 17) .(7/32)
النَّاسِ، وَكَانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جوداً، وقد نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لم ينقل مثله عن غيره (وكان أجود ما يكون في رمضان) برفع أجود إما على أنه اسم كان مضافاً إلى المصدر المنسبك من ما يكون، أي: أجود أكوانه، وفي رمضان الخبر، أو على أنه بدل اشتمال من اسم كان الضمير المستكن فيها، وهو العائد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو بنصبه على أنه خبر كان واسمها الضمير المستكن، وما حينئذ مصدرية ظرفية أي: كان متصفاً بالأجودية مدة كونه في رمضان، مع أنه أجود الناس مطلقاً وإنما التفضيل بين حالتيه في رمضان وغيره. قال الدماميني: ولك مع نصبه أن تجعل (ما) نكرة موصوفة بيكون، وفي رمضان متعلقاً بكان على القول بدلالتها على الحدث. وهو الصحيح واسم كان ضمير يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو إلى جوده المفهوم مما سبق أي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان أجود شيء يكون، أو كان جوده في رمضان أجود شيء يكون، فجعل الجود متصفاً بالأجودية مجازاً، كقولهم شعر شاعر. اهـ وقال الحافظ في الفتح: أجود بالرفع في أكثر الروايات على أنه اسم كان وخبرها محذوف، نحو أخطب ما يكون الأمير في يوم الجمعة، أو أنه مرفوع على أنه مبتدأ مضاف للصدر المنسبك، والخبر في رمضان، والتقدير أجود ما يكون (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، وإلى هذا جنح البخاري في كتاب الصوم إذ قال: باب أجود ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون في رمضان، قلت: وعلى الثاني من إعراب الحافظ، فالجملة خبر كان، وقال المصنف: الرفع أشهر وأصح، والنصب جائز، وذكر أنه سأل ابن مالك عنه فخرج الرفع من ثلاثة أوجه والنصب من وجهين. قال في الفتح: ويرجح الرفع وروده بدون كان عند البخارى في الصوم، وعليه اقتصر ابن الحاجب في أماليه، وقال: هو الوجه. قال: لأنك إذا جعلّت في كان ضميراً يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أجود بمجرده خبراً؛ لأنه مضاف إلى ما يكون، فوجب أن يكون هو الكون ولا يستقيم الخبر بالكون عما ليس بكون ألا ترى أنك لا تقول زيد أجود ما يكون، فوجب أن يكون إما مبتدأ، وذكر الثاني من وجهي الحافظ وزاد: فيكون الخبر الجملة بتمامها كقولك: زيد كان أحسن ما يكون في يوم الجمّعة، وإما بدل اشتمال من ضمير كان وذكر ما تقدم. قال: وإن جعلت الضمير للشأن تعين رفع أجود على الابتداء والخبر، وإن لم تجعل في كان ضميراً تعين " الرفع على أنه اسمها، والخبر محذوف قامت الحال مقامه على ما تقرر في: أخطب ما يكون الأمير قائماً، وإن شئت جعلت في رمضان الخبر، كقولهم ضربي زيداً في الدار؛ لأن
__________
(1) الأنسب أن يقول والتقدير كان أجود أكوانه حاصلاً إذا كان في رمضان. ع.(7/33)
حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبْريلُ، وَكَانَ جِبْريلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِن الرِّيحِ المُرْسَلَةِ. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعنى الكون الذي هو أجود الأكوان حاصل في هذا الوقت، فلا يتعين أن يكون من باب أخطب ما يكون الأمير قائماً. اهـ ملخصاً. وقولي: وعليه اقتصر ابن الحاجب أي: على الرفع، فإنه لم يعرج على النصب، لا على الوجه المذكور للرفع، فقد ذكر له خمسة أوجه توارد مع ابن مالك في وجهين، وزاد ثلاثة، كما في الفتح. (حين يلقاه جبريل) أي: وقت لقائه إياه وجملة (وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان) معطوفة على الجملة الفعلية السابقة، أو مستأنفة؛ لبيان تواصل لقائه له فيه (فيدارسه القرآن) قيل: الحكمة فيه (2) أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود وأيضاً فرمضان موسم الخيرات؛ لأن نعم الله فيه على عباده زائدة على غيره، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤثر متابعة سنة الله تعالى في عباده، فمجموع ما ذكر من الوقت والنازل فيه والمنزول به والمذاكرة حصل من يد الجود، والله أعلم (فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) الفاء للسببية، واللام للابتداء، زيدت تأكيداً وهي جواب قسم مقدر (حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) أي: المطلقة يعني أنه في الإِسراع بالجود أسرع من الريح وعثر بالمرسلة؛ إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده، كما تعم الريح المرسلة كل ما هبت عليه، ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث: لا يسأل شيئاً إلا أعطاه (متفق عليه) قال المصنف: في هذا الحديث فوائد منها: الحث على الجود في كل وقت، والزيادة منه في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح وفيه زيارة الصلحاء وأهل الفضل، وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإِكثار من القراءة في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لها لفعلاه (3) ، وكون المقصود تجويد القرآن، يجاب عنه بأن الحفظ كان حاصلاً والزيادة عليه تحصل ببعض هذه المجالس.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الوحي وغيره، (4/99) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير من الريح المرسلة، (الحديث: 50) .
(2) (فيه) أي في زيادة جوده عند لقاء جبريل. ع.
(3) أي دائماً أو في أوقات مع تكرر اجتماعهما.(7/34)
1221- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ العَشْر أحْيَا اللَّيْلَ، وَأيْقَظَ أهْلَهُ، وَشَدَّ المِئْزَرَ. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
219- باب النهي عن تقدم رمضان بصوم بعد نصف شعبان إِلاَّ لمن وصله بما قبله أَوْ وافق عادة لَهُ بأن كَانَ عادته صوم الإثنين والخميس فوافقه
1222- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُم رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَومَهُ، فَليَصُمْ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1221- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر) (أل) فيه للعهد الذهني والمراد الأخير (أحيا الليل) بالقيام فيه (وأيقظ أهله) دلالة لهم على محل الخير، وإعانة لهم على تحصيله (وشد المئزر) مبالغة في الجد، وعمل الخيم-، والحديث سبق مشروحاً قريباً، وأورده المصنف هنا شاهداً لقوله: والزيادة من ذلك في العشر الأواخر (متفق عليه) .
باب النهي
على سبيل التحريم (عن تقدم رمضان بصوم) قل أو كثر (بعد نصف شعبان) وذلك من سادس عشره (إلا لمن وصله بما قبله) أي: بالخامس عشر (أو) لمن (وافق عادة له بأن كان عادته صوم الاثنين أو الخميس) أو صوم يوم وفطر يوم (فوافقه) أي: النصف الأخير من شعبان، فيصوم عادته.
1222- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين) أي: من النصف الثاني بدليل حديث الترمذي بعده، وذكر اليومين، لإفادة تحريم صوم ما زاد على اليوم، كحرمة صوم اليوم من ذلك دفعاً؛ لتوهم أن بالانضمام ترتفع الحرمة، كما ترتفع كراهة صوم كل من الجمعة والسبت والأحد بضم غيره منها إليه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: العمل في العشر الأواخر من رمضان (4/233 و234) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، (الحديث: 7) .(7/35)
اليَوْمَ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1223- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَصُومُوا قَبْلَ رَمضَانَ، صُومُوا لِرُؤيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ، فَإنْ حَالَتْ دُونَهُ غَيَايَةٌ فَأكْمِلُوا ثَلاثِينَ يَوْماً" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسنٌ صحيح".
"الغَيايَةُ" بالغين المعجمة وبالياءِ المثناةِ من تَحْت المكررةِ، وهي: السحابة (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(إلا) استثناء من أعم الأحوال أي: لا تصومن فيه في حال من الأحوال إلا حال (أن يكون رجل كان) أي: اليوم المقدم على رمضان (يوم يصومه) أي: اليوم الذي يعتاد صومه، وهو عند البخاري في أول الصوم بلفظ " إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم " ولم أر ما ذكره المصنف فيهما (فليصم ذلك اليوم) وإن كان فيه تقدم على رمضان به؛ لأنه لاعتياده له، لا يقال فيه عرفاً إنه متقدم به رمضان، ومثله في ذلك من عليه قضاء رمضان، ولم يقصد تأخيره؛ ليوقعه فيه قياساً على قضاء الصلوات في الأوقات التي تكره فيها الصلاة (متفق عليه) .
1223- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصوموا قبل رمضان) هو وإن تناول شعبان بجملته المراد به: من نصفه الأخير للحديث بعده (صوموا لرؤيته) أي: عند رؤية هلال رمضان (وأفطروا لرؤيته) أي: هلال شوال، واعتمد في مرجع الضمير على السياق، ويجوز إرجاع الضمير الأول؛ لشهر رمضان أي: لرؤية هلاله، فيكون على تقدير مضاف (فإن حالت دونه غياية) فمنعت رؤيته (فأكملوا ثلاثين يوماً) أي: فلا تصوموا حتى تكمل عدة شعبان، كذلك وأفطروا إذا كملت عدة رمضان كذلك (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح) قال السيوطي في الجامع الكبير: ورواه النسائي والطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه (الغياية بالغين المعجمة وبالياء المثناة من تحت المتكررة وهي السحابة) أي: معنى وكذا وزناً قال العراقي: هذا هو المشهور في ضبط هذا الحديث. وقال ابن العربي يجوز أن يجعل بدل الياء الأخيرة باء موحدة؛ لأنه من: الغيب تقديره ما خفي عليكم واستتر، أو نون من الغين، وهو الحجاب.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، (4/109) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، (الحديث: 21) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال والافطار له، (الحديث: 688) .(7/36)
وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا بَقِيَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلاَ تَصُومُوا" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1225- وعن أَبي اليقظان عمارِ بن يَاسِرٍ رضي الله عنهما، قَالَ: مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -. رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1224- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا) خص منه ما تقدم لما ورد فيه، وبقي ما عداه على المنع؛ لأن أصل النهي للتحريم، والأصل في العبادات إذا لم تطلب عدم الانعقاد (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
1225- (وعن أبي اليقظان) بفتح التحتية، وبالظاء المعجمة كنية (عمار) بتشديد الميم (ابن ياسر) الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) وتقدمت ترجمته في باب الوعظ (قال) أي: موقوفاً عليه، لكنه مرفوع حكماً، إذ لا مجال للرأي فيه (من صام اليوم الذي يشك فيه) أهو من شعبان، أم من رمضان، وهو يوم ثلاثين شعبان، إذا تحدث الناس برؤيته، أو شهد بها من لا تثبت به من عبد، أو فاسق أو صبية رشداء (فقد عصى أبا القاسم (3) - صلى الله عليه وسلم -) فيه تحريم صومه كغيره من باقي النصف الأخير من شعبان، سواء كان في ليلة غيم، أو لا. وخصه الإِمام أحمد بغير ما في ليلة غيم فاختار صوم ما كان كذلك احتياطاً (رواه أبو داود والترمذي وقال) أي الترمذي: حديث عمار (حديث حسن صحيح) قال العراقي: جمع الصاغاني في تصنيف له الأحاديث الموضوعة، فذكر فيه حديث عمار المذكور، وما أدري ما وجه الحكم عليه بالوضع، وليس في إسناده من يتهم بالكذب، وكلهم ثقات. قال: وقد كتبت على الكتاب المذكور كراسة في الرد عليه في أحاديث منها هذا الحديث قال: نعم في اتصاله نظر، فقد ذكر المزي في الأطراف أنه روي عن أبي إسحاق السبيعي أنه قال: حدثت عن صلة بن زفر، لكن جزم البخاري بصحته إلى صلة
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية الصوم في النصف ... (الحديث: 738) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: كراهية صوم يوم الشك، (الحديث: 2334) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية صوم يوم الشك، (الحديث: 686) .
(3) قوله (أبا القاسم) فائدة ذكر هذه النية الإشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكام الله زماناً ومكاناً وغيرهما اهـ كرماني.(7/37)
220- باب مَا يقال عند رؤية الهلال
1226-عن طلحة بن عبيدِ اللهِ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا رَأى الهلاَلَ،
قَالَ: "اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأمْنِ وَالإيمانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإسْلاَمِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، هِلالُ رُشْدٍ وخَيْرٍ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقال في صحيحه: وقال صلة، وهذا يقتضي صحته عنده، وقال البيهقي في المعرفة: إنه إسناد صحيح. اهـ.
باب ما يقال عند رؤية الهلال
أي من الأذكار والدعوات. في المصباح: الهلال الأكثر أنه القمر في حالة مخصوصة. قال الأزهري: يسمى القمر هلالاً لليلتين من أول الشهر، وفي ليلة ست وعشرين وما بعدها، وما بين ذلك قمراً، وقال الفارابي وتبعه الجوهري: الهلال لثلاث ليال من أوله، ثم هو قمر بعد ذلك، والجمع أهلة، كسلاح وأسلحة.
1226- (عن طلحة بن عبيد الله) التيمي أحد العشرة المبشرة بالجنة (رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال:) أي: مستقبلاً للقبلة، كما هو شأنه حال الدعاء؛ ولأنها أشرف الجهات (اللهم) أي: يا الله (أهله علينا بالأمن) أي: من المخاوف الدينية والدنيوية (والإِيمان) أي: بدوامه، وثباته، ودفع ما يزيغ عنه (والسلامة) عطف عام على خاص؛ لشموله للأمراض والأعراض البدنية، وفقد الأحباء (والإسلام) وفيه جناس الاشتقاق أولاً وثانياً، ثم خاطب القمر بقوله (ربي وربك الله) أي: كلانا مربوبان له نافذ فينا أمره؛ لدفع توهم أن الهلال بذاته له إحداث نفع أو ضر، بل هو تحت جري الأقدار، كغيره من المكونات (هلال رشد) بالرفع، أي: هذا هلال رشد، والرشد بضم، فسكون وبفتحتين ضد الغي (وخير) مصدر كالمعطوف عليه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) قال ابن حجر الهيثمي في الأمداد: ويزيد بعد قوله: وربك الله، قوله: ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك خير هذا الشهر، وأعوذ بك من شر القدر، ومن شر المحشر، هلال رشد وخير، ثلاثاً، آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات، ثم يقول: الحمد لله الذي أذهب شهر كذا، وجاء
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: ما يقول عند رؤية الهلال، (الحديث: 3451) .(7/38)
221- باب فضل السحور وتأخيره مَا لَمْ يخش طلوع الفجر
1227- عن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَسَحَّرُوا؛ فَإنَّ في السُّحُورِ بَرَكَةً" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بشهر كذا، للإِتباع في كل ذلك. اهـ وقد ذكر مخرجيه ابن همام في السلاح وابن الجزري في الحصن.
باب فضل السحور
بفتح السين ما يتناول في السحر، وبالضم التناول له حينئذ (وتأخيره) إن أريد الأول ففي الكلام مضاف أي: وتأخير تناوله (ما لم يخش طلوع الفجر) ما فيه مصدرية ظرفية، قيد للتأخير.
1227- (عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسحروا) أمر ندب، ويحصل أصل السنة بقليل الطعام، لو جرعة ماء، ففي حديث عبد الله بن سراقة مرفوعاً "تسحروا ولو بجرعة من ماء" رواه ابن عساكر: وبكثيره (فإن في السحور بركة) قال في النهاية: قيل: الصواب هنا الضم؛ لأن البركة والأجر والثواب في الفعل الذي هو تناول السحور لا في نفسه، وإن قيل: إن أكثر الروايات بالفتح. اهـ وفي كون الفتح خلاف الصواب، ما لا يخفى خصوصاً وهو صحيح، إما على تقدير مضاف، أو على سبيل المجاز من وصف الشيء بوصف ملابسه، وقال الحافظ: هو بفتح السين وضمها؛ لأن المراد بالبركة: إما الأجر والثواب فيناسب الضم؛ لأنه مصدر بمعنى التسحر، أو كونه يقوي على الصوم، وينشط له، ويخفف المشقة فيه، فيناسب الفتح، وقيل: البركة ما يتضمنه من الاستيقاظ والدعاء في السحر. والأولى أن يقال إن البركة تحصل بجهات متعددة، إتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب، والتقوي به على العبادة والتسبب للذكر، والدعاء وقت مظنة الإِجابة، وتارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام. اهـ (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أنس، ورواه النسائي أيضاً من حديث أبي هريرة وابن مسعود، ورواه أحمد من حديث ابن مسعود، كذا في الجامع الصغير.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: بركة السحور (4/120) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه ... (الحديث: 45) .(7/39)
بِلاَلٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ" قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلاَّ أنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1230- وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "فَصْلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال: إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم" رواه أبو داود وغيره، لكنه لم يكن راتباً ولذا عد مؤذنو النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة. قال الشافعي: وأحب أن أقتصر في المؤذنين على اثنين؛ لأنا إنما حفظنا أنه أذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان ولا نضيق إذ أذن أكثر من اثنين (بلال وابن أم مكتوم) الأعمى ففيه جواز كونه مؤذناً إذا كان له معرفة بالأوقات ولو بالتعريف (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن بلالاً يؤذن بليل) فيه ندب الأذان للصبح قبل دخول وقته؛ ليستعد للصلاة بالغسل من الجنابة، ونحو ذلك، وذلك من النصف الأخير (فكلوا واشربوا) لبقاء الليل المباح فيه الأكل (حتى يؤذن ابن أم مكتوم) فيه جواز نسبة الإِنسان إلى أمه (قال) أي: ابن عمر (ولم يكن بينهما) أي: بين أذانيهما (إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا) قال العلماء: المعنى أن بلالاً كان يؤذن قبل الفجر ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل ذ فأخبر ابن مكتوم، فتأهب بالطهارة وغيرها، ثم يرقى، ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر؛ ثم قد جاء عند ابن حبان في صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال " وعند النسائي من حديث أنيسة بنت حبيب "إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا" قال العراقي: هاتان الروايتان معارضتان للرواية المشهورة. قال ابن عبد البر: المحفوظ والصواب هو الأول. وقال ابن خزيمة: يجوز أن يكون بينهما نوب. وجزم به ابن حبان في الجمع بينهما (متفق عليه) .
1230- (وعن عمرو بن العاص) كذا في النسخ بحذف الياء، وتقدم ما فيه عند ذكر ولده عبد الله، في باب تحريم الظلم، وتقدم في ترجمته في باب بيان كثرة طرق الخير، نسب عمرو هذا. قال المصنف في التهذيب: أسلم عام خيبر أول سنة سبع، وقيل: في صفر سنة،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: أذان الأعمى والشهادات وغيرها، (4/117) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع ... (الحديث: 36) .(7/41)
فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وصِيَامِ أهْلِ الكِتَابِ، أكْلَةُ السَّحَرِ" رواه مسلم (1) .
222- باب في فضل تعجيل الفطر وَمَا يفطر عَلَيْهِ، وَمَا يقوله بعد إفطاره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثمان، قبل الفتح بستة أشهر، وقيل: غير ذلك، وقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، فأسلموا، ثم أمره - صلى الله عليه وسلم - في سرية ذات السلاسل، وهي السرية السابعة عشر، على جيوش هم ثلاثمائة، ثم أمده بجيش فيهم أبو بكر وعمر، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح وقال له: لا تختلف. فكان عمرو يصلي حتى رجعوا واستعمله - صلى الله عليه وسلم -، على عمان فلم يزل عليها حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أرسله أبو بكر أميراً إلى الشام فشهد فتوحها وولي فلسطين لعمر ثم أرسله عمر في جيش إلى مصر ففتحها، ولم يزل والياً عليها حتى توفي عمر، ثم أقره عثمان عليها أربع سنين، ثم عزله، فاعتزل عمرو بفلسطين، فكان يأتي المدينة أحياناً، ثم استعمله معاوية على مصر، فبقي والياً عليها حتى توفي ودفن بها، وكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين على الأصح، وعمره سبعون سنة، وصلى عليه ابنه عبد الله، وكان من أبطال العرب، ودهاتهم، وكان فيصلاً وذا رأي ولما حضرته الوفاة قال: اللهم أمرتني فلم أءتمر، ونهيتني فلم أنزجر، ولست قوياً فانتصر، ولا بريئاً فاعتزر، ولا مستكبراً بل مستغفراً لا إله إلا أنت، فلم يزل يرددها حتى توفي، وفي وفاته حديث مليح، في كتاب الأيمان من صحيح مسلم، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وسبعون حديثاً اتفقا على ثلاثة، ولمسلم اثنان، وللبخاري بعض حديث. اهـ ملخصاً (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فصل) بالمهملة أي: فاصل (ما) موصولة والأصل الفاصل الذي (بين صيامنا وصيام أهل الكتاب) أي: اليهود والنصارى (أكلة السحر) بفتح الهمزة، وهي المرة وإضافة فصل إلى ما من إضافة الموصوف لصفته (رواه مسلم) وفيه التصريح بأن السحور من خصائصنا، وأن الله تعالى تفضل به، وميزه من الرخص على هذه الأمة، ما لم يتفضل به على غيرها من الأمم.
باب فضل تعجيل الفطر
أي عند تيقن الغروب، ويجوز عند ظنه باجتهاد صحيح، والأفضل تأخيره حينئذ لتيقنه (وما يفطر عليه وما يقوله بعد إفطاره) أي: بيان كل منهما، فهو معطوف على فضل لا على مدخوله.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه ... (الحديث: 46) .(7/42)
1231- عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1232- وعن أَبي عطِيَّة، قَالَ: دَخَلْتُ أنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عائشة رضي الله عنها، فَقَالَ لَهَا مَسْرُوق: رَجُلاَنِ مِنْ أصْحَابِ محَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كِلاَهُمَا لا يَألُو عَنِ الخَيْرِ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1231- (عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يزال الناس بخير) جاء في رواية "لا يزال الدين ظاهراً وظهور الدين مستلزم لدوام الخير" (ما عجلوا الفطر) زاد أحمد في حديثه عن أبي ذر: وأخروا السحور، وما مصدرية ظرفية أي مدة فعلهم ذلك امتثالاً للسنة، واقفين عند حدها غير مستنبطين بعقولهم ما يغيروا به قواعدها، زاد أبو هريرة في حديثه "لأن اليهود والنصارى يؤخرون" أخرجه أبو داود وابن خزيمة وغيرهما، وتأخير أهل الكتاب له أمد وهو إلى ظهور النجم، وجاء من حديث سهل أيضاً بلفظ "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم" رواه ابن حبان والحاكم، وفيه بيان الغاية في ذلك. قال المهلب: والحكمة فيه أنه لا يزاد في النهار من الليل؛ ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة، واتفق العلماء على أن محل ذلك إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية، أو بأخبار عدلين، وكذا عدل واحد في الأرجح. قال الشافعي في الأم: تعجيل الفطر مستحب، ولا يكره تأخيره إلا لمن تعمده ورأى الفضل فيه. قال الحافظ في الفتح: ومن البدع المنكرة إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة، في رمضان يفعلونه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا أحاد الناس، وجرهم في ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون المغرب، إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت فيما زعموا فأخروا الفطر وعجلوا السحور، فخالفوا السنة فلذا قل فيهم الخير وكثر الشر، والله المستعان (متفق عليه) .
1232- (وعن أبي عطية) الوادعي الهمداني يروي عن ابن مسعود وأبي موسى وعنه أبو إسحق والأعمش ثقة من كبار التابعين. قال الحافظ في التقريب: اسمه مالك بن عامر أو ابن أبي عامر أو ابن عوفٍ أو ابن حمزة أو ابن أبي حمزة مات في حدود السبعين، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (قال: دخلت أنا ومسروق) ابن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم، روى عنه أصحاب السنن (على عائشة رضي الله عنها فقال لها مسروق: رجلان) مبتدأ، سوغ الابتداء به وصفه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصيام، باب: تعجيل الإِفطار (4/173) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه ... (الحديث: 48) .(7/43)
أحَدُهُمَا يُعَجِّلُ المَغْرِبَ وَالإفْطَارَ، وَالآخَرُ يُؤَخِّرُ المَغْرِبَ وَالإفْطَارَ؟ فَقَالَتْ: مَنْ يُعَجِّلُ المَغْرِبَ وَالإفْطَارَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللهِ - يعني: ابن مسعود - فَقَالَتْ: هكَذَا كَانَ رسولُ اللهِ يَصْنَعُ. رواه مسلم. قَوْله: "لا يَألُو" أيْ: لاَ يُقَصِّرُ في الخَيْرِ (1) .
1233- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بقوله (من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلاهما) مبتدأ ثان، ولا يجوز على مذهب البصريين كونه تأكيد رجلان لنكارته؛ وهم يمنعون فيها (لا يألو) فرد الخبر، باعتبار لفظ كلاهما، كما هو الأصح ومنه قوله تعالى: (كلتا الجنتينءَاتت أكلها) (2) ويجوز التثنية باعتبار المعنى، وقد اجتمعا في قول الشاعر:
كلاهما حين جد السير بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
(عن الخير أحدهما يعجل المغرب) أي: صلاته (والإِفطار) أي: عند تحقق الغروب (والآخر يؤخر المغرب والإِفطار) أتى بالظاهر محل الضمير؛ زيادة في الاستفسار (فقالت: من يعجل المغرب والإِفطار) سألت عنه دون الثاني؛ لأنه أتى بما يثنى عليه، فأحبت معرفته؛ لتثني عليه بذلك، ويحصل مقصود بيان فعل الثاني، من الثناء على ضده (قال عبد الله) وقوله (يعني ابن مسعود) يحتمل أن يكون من أبي عطية، أو ممن دونه، وذلك لأن المسمين بعبد الله من الصحابة عدد كثير جداً، لكنه إذا أطلق في حديث الكوفيين فالمراد منه ابن مسعود، وإذا أطلق في حديث الحجازيين فالمراد: منه ابن عمر (فقالت هكذا) أي: كفعل ابن مسعود (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع) في التعبير به دون يفعل، إيماء إلى الاهتمام بذلك، لأن الصنع من عمل الإنسان ما صدر منه بعد تدرب فيه وترو، وتحري إجادته (رواه مسلم) وفيه وزاد أبو كريب: والآخر أبو موسى (قوله: لا يألو أي لا يقصر في الخير) في مطاء المطول الألو التقصير، وقد استعمل معدى لاثنين في قولهم: لا آلوك جهداً، أي: لا أمنعك جهداً. اهـ. ومقتضاه: أن أصله التقصير كما استعمل في الحديث، وإن نصب المفعولين به لتضمنه معنى منع.
1233 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل: أحب
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتاكيد استحبابه ... (الحديث: 49) .
(2) سورة الكهف، الآية: 33.(7/44)
عز وجل: أحَبُّ عِبَادِي إلَيَّ أعْجَلُهُمْ فِطْراً" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1234- وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هاهُنَا، وَأدْبَرَ النهارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أفْطَر الصَّائِمُ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1235- وعن أَبي إبراهيم عبدِ الله بنِ أَبي أوفى رضي الله عنهما، قَالَ: سِرْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عبادي إلي) أي: أرضاهم عندي وأدناهم من جنابه، إدناء المحب من حبيبه، ولا يخفى ما في إضافة العباد من الإيماء إلى التشريف (أعجلهم فطراً) وذلك لما فيه من متابعة السنة (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وأخرجه الحافظ العلائي في الأحاديث القدسية بأسانيد متعددة، تنتهي إلى أبي عاصم النبيل، وبإسناد ينتهي إلى الضحاك بن مخلد بسندهما إلى أبي هريرة، ثم أورد الحديث وقال: لفظهم واحد رواه الترمذي من طريق أبي عاصم النبيل قال: فوقع لنا بدلاً عالياً.
1234- (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبل الليل ها هنا) أي: من جهة المشرق (وأدبر النهار من ها هنا) أي من جهة المغرب والجمع بينهما للتأكيد وإلا فأحدهما يستلزم الثاني، وكذا يستلزم قوله (وغربت الشمس) بأن غاب جميع قرصها، ولا يضر بعد تحققه بقاء الشعاع، قال المصنف: وإنما جمعها؛ لأنه قد يكون في واد ونحوه، بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيعتمد إقبال الظلام وإدبار الضياء (فقد أفطر الصائم) أي: مفطراً شرعاً، وإن لم يتناول شيئاً؛ لخروج وقت الصوم وهو النهار بذلك، فالإِمساك بعد الغروب تعبداً، كصوم يوم العيد قاله بعض العلماء. وقيل: معناه دخل وقت إفطاره. قال ابن ملك: وهذا أولى لما جاء في الحديث "من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" (متفق عليه) رواه أبو داود والترمذي.
1235- (وعن أبي إبراهيم) كنية (عبد الله بن أبي أوفى) بالفاء، وأسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي الصحابي، تقدمت ترجمته، في باب الصبر، ومنها أنه هو وأبوه صحابيان
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في تعجيل الإِفطار، (الحديث: 700) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم (4/171) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، (الحديث: 51) .(7/45)
مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ لِبَعْضِ القَوْمِ: "يَا فُلاَنُ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا"، فَقَالَ: يَا رسول الله، لَوْ أمْسَيْتَ؟ قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" قَالَ: إنَّ عَلَيْكَ نَهَاراً، قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" قَالَ: فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُمْ فَشَرِبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أقْبَلَ مِنْ هاهُنَا، فَقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ" وَأشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ المَشْرِقِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
قَوْله: "اجْدَحْ" بِجيم ثُمَّ دال ثُمَّ حاءٍ مهملتين، أيْ: اخْلِطِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(رضي الله عنهما قال: سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم) لعله كان في فتح مكة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - خرج لذلك في رمضان من سنة ثمان. (فلما غربت الشمس) أي: تكامل مغيب قرصها (قال لبعض القوم: يا فلان) قيل: هو بلال، أخرجه أبو داود عن مسدد شيخ البخاري في الحديث وفيه، فقال يا بلال. وأخرجه الإِسماعيلي وأبو نعيم، من طريق عبد الواحد، وهو ابن زياد شيخ مسدد، بلفظ يا فلان. فاتفقت روايتهم على قوله - صلى الله عليه وسلم -: يا فلان، قال الحافظ في الفتح: ولعلها تصحيف، وجاء عند ابن خزيمة عن عمر رضي الله عنه قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبل الليل. الخ، فيحتمل أن المخاطب بذلك عمر، فإن الحديث واحد، فلما كان المقول له إذا أقبل الليل عمر، احتمل أن يكون هو المقول له أولاً أجدح، لكن يؤيد كونه بلالاً، قوله في رواية شعبة عند أحمد، فدعا صاحب شرابه، فإن بلالاً هو المعروف بخدمته - صلى الله عليه وسلم -.
اهـ ملخصاً (انزل فاجدح لنا) أي حرك السويق ونحوه، بالماء بعود يقال له المجدح مجنح الرأس (فقال: يا رسول الله لو أمسيت) إن كانت للتمني فلا حذف، وإن كانت للشرط فالجواب محذوف، مدلول عليه بقرينة الحال، أي: لكان أحسن (قال: انزل فاجدح لنا، قال: إن عليكم نهاراً) يحتمل أن يكون المذكور كان يرى شدة الضوء، من شدة الصحو فظن أن الشمس لم تغرب، وأنها قد غطاها جبل أو نحوه، أو أن هناك غيماً، فلا يتحقق غروبها، وأما قول الراوي: قد غربت الشمس فإخبار عما في نفس الأمر، وإلا فلو تحقق الصحابي، حكم المسئلة لما توقف (قال: انزل فاجدح لنا قال) أي: الراوي للحديث، وهو ابن أبي أوفى (فنزل فجدح لهم فشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: وشربنا وسكت عنه لوضوحه (ثم قال: إذا رأيتم) أي: إذا علمتم (الليل قد أقبل من ها هنا) فالليل مفعول أول، وجملة قد أقبل سد مسد المفعول الثاني، ولك أن تجعل رأى بصرية فتكون الجملة حالية من المفعول (فقد أفطر الصائم) قال ابن أبي أوفى (وأشار) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (بيده قبل المشرق) مبيناً للمكان المشار إليه بقوله ها هنا (متفق عليه قوله: اجدح، بجيم ثم دال ثم حاء مهملتين) بوزن اسأل (أي اخلط السويق) قال في المصباح: هو ما يعمل من الحنطة،(7/46)
السَّويقَ بِالمَاءِ (1) .
1236- وعن سلمان بن عامر الضَّبِّيِّ الصحابي - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا أفْطَرَ أحَدُكُمْ، فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ، فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ؛ فإنَّهُ طَهُورٌ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو الشعير. اهـ زاد في الفتح بعد قوله السويق أو نحوه (بالماء) بعود يقال له المجدح بكسر الميم، مجنح الرأس تساط به الأشربة، وقد تكون له ثلاث شعب، وزعم الداودي أن معنى اجدح احلب، وغلطوه في ذلك. 1236- (وعن سلمان) بسكون اللام (ابن عامر) بالمهملة ابن أوس بن حجر بن عثمان بن عمرو بن الحارث (الضبي) بالمعجمة وتشديد الموحدة، نسبة إلى ضبة بن داود بن طائحة بن إلياس بن مضر، قاله ابن الأثير في الأنساب (الصحابي) سكن البصرة (رضي الله عنه) خرج عنه البخاري، وأصحاب السنن الأربعة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في مختصر التلقيح وغيره ثلاثة عشر حديثاً، أخرج له البخاري حديثاً واحداً، ولم يخرج له مسلم شيئاً، قال في أسد الغابة: قال مسلم بن الحجاج: لم يكن في ضبة صحابي غيره (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أفطر أحدكم) أي: أراد الفطر (فليفطر على تمر) زاد الترمذي في رواية: فإنه بركة، أي: إن لم يجد رطباً وإلا فهو المقدم عليه، لما يأتي في الخبر بعده، وأخذ من الحديث حصول السنة، ولو بواحدة، لكن الحديث بعده يوميء إلى أنها بثلاث، والحكمة فيه أنه إن وجد في المعدة فضلة لها وإلا كان غذاء، وأنه يجمع ما تفرق من ضوء البصر بسبب الصوم. وقول الأطباء: إنه مضعف للبصر، محمول على الإِكثار منه، ورب شيء كثيره مضر، وقليله نافع كالسقمونيا (فإن لم يجد) التمر بأن لم يسهل تحصيله (فليفطر على ماء) دخل فيه ماء زمزم، فلا يعدل إليه إلا عند فقد التمر، خلافاً لمن قال بتقديمه على التمر، وإن جمع بينهما فحسن، فإنه مردود.
أما الأول: فتصادمه السنة.
وأما الثاني: فللاستدراك عليها. وقد صام - صلى الله عليه وسلم - بمكة أياماً عام الفتح، وما نقل عنه أنه خالف عادته من تقديم التمر، ولو فعل لنقل (فإنه طهور) أي: مزيل للخبائث المعنوية
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم (4/172) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، (الحديث: 52) .(7/47)
رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1237- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرُ قَبْلَ أنْ يُصَلِّي عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ. رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والحسية، وما هو كذلك ينبغي إيثاره على غيره (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه والدارمي، ونحوه خبر الترمذي وغيره، وصححوه: إذا كان أحدكم صائماً فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء، فإنه طهور، وهذا الترتيب لكمال السنة لا لأصلها، كما هو واضح، فمن أفطر على ماء مع وجود التمر حصل له أصل سنة الإفطار على الماء الطهور.
1237- (وعن أنس) رضي الله عنه (قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر قبل أن يصلي) أي: صلاة المغرب (على رطبات فإن لم تكن) أي: توجد (رطبات) بأن عزت، أي. لم يسهل تحصيلها (فتميرات) بالتصغير، أي: فثلاث؛ لأنه أقل الجمع (فإن لم تكن تميرات) أي: توجد كما ذكر (حسا) أي: شرب (حسوات) بفتح أوليه المهملين، جمع حسوة بالفتح، وهي المرة من الشرب، وأما الحسوة بالضم فهو لغو الفم مما يحسى، ويجمع على حسوات وحسى كمدية ومدى ومديات، قاله في المصباح. (من ماء) متعلق بحسوات، أو مستقر صفة لحسوات (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) وصححه الدارقطني والحاكم، وقال: على شرط مسلم. قال في فتح الإله: ومنه أخذ أئمتنا أنه يسر أن يكون الفطر على ثلاث رطبات، فإن عز فثلاث تمرات، فإن عز فثلاث غرفات من ماء، سواء كان ذلك في الصيف، أو الشتاء. وقيل: يقدم التمر في الشتاء، والماء في الصيف لرواية به، ولما في ذلك من المناسبة، وما ذكر من التثليث والترتيب هو لكمال السنة، وإلا فأصلها يحصل بواحدة، وبتقديم المؤخر نظير ما مر.
" تنبيه " عقد المصنف الترجمة لفضل التعجيل، وما يفطر عليه، وما يقوله عند الفطر،
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: ما يفطر عليه، (الحديث: 2355) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في الصدقة على ذي القرابة، (الحديث: 658) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: ما يُفطر عليه، (الحديث: 2356) .
وأخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب: ما جاء ما يستحب عليه الإفطار، (الحديث: 696) .(7/48)
223- باب في أمر الصائم بحفظ لسانه وجوارحه عن المخالفات والمشاتمة ونحوها
1238- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1239- وعنه، قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وترك ما يتعلق بالثالث نسياناً، فحاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر قال: ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى" رواه أبو داود وعن معاذ بن زهرة قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر قال: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت رواه أبو داود مرسلاً.
باب في أمر الصائم بحفظ لسانه وجوارحه من المخالفات
وجوباً في المحرم، وندباً في المكروه، فلا يقول الخنا، ولا يفعل المحرمات (والمشاتمة ونحوها) كالغيبة والنميمة وقول الزور، وهذه الأمور وإن كان يؤمر بها كل من المفطر والصائم، إلا أنها في الصائم أولى.
1238- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان) أي: وجد (يوم) فاعلها (صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب) لمنافاتهما للمطلوب منه، من قمع النفس بالسكون والسكوت (فإن سابه أحد أو) للتنويع (قاتله) أي: ضاربه، أو طاعنه (فليقل: إني صائم) ويكف عن خصمه ويكن عبد الله المظلوم، ولا يكن الظالم (متفق عليه) وتقدم بأبسطيته أول الصوم.
1239- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يدع) أي: يترك (قول الزور) بضم الزاي أي: الكذب (والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) قال ابن بطال: ليس
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: هل يقول إني صائم إذا شتم (4/88، 89) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: حفظ اللسان للصائم، (الحديث: 160) .(7/49)
رواه البخاري (1) .
224- باب في مسائل من الصوم
1240- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معناه أنه يؤمر بالأكل والشرب، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما معه، وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - "من باع الخمر فليشقص الخنازير" أي: يذبحها، ولم يأمره بذبحها، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر، وقوله حاجة أي: إرادة (2) في صيامه، إذ الله تعالى لا حاجة له في شيء، وقيل: هو كناية عن عدم القبول، كما يقول من غضب على من أهدى له شيئاً، لا حاجة لي في هديتك، أي: هي مردودة عليك، وقال ابن العربي: إن مقتضى هذا الحديث، أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صومه. قلت: ونص عليه الشافعي والأصحاب، وأقرهم المصنف في مجموعه، وقال الأذرعي: يبطل صومه، وهو قياس مذهب أحمد في إبطاله الصلاة في المغصوب، وخبر: خمس يفطرن الصائم: الغيبة والنميمة والكذب والقبلة واليمين الفاجرة، باطل كما في المجموع وبفرض صحته، فالمراد: بطلان أجر الصوم، لا الصوم نفسه. قال الدماميني: ولو أبطل الصوم لأوجب الشارع قضاءه، وإنما المراد به التخويف من الإحباط بطريق المواربة، هذا وقد ضمن هذا الحديث أبو بكر غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي فقال:
إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما ... وإن قلت إني صمت يوماً فما صمت
(رواه البخاري) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي، كذا في الجامع الصغير، وزاد في الكبير رمز ابن ماجه وابن حبان، وفي متن الحديث بعد قوله: به، قوله: والجهل.
باب في مسائل من الصوم
أي: في ذكر أحاديثها.
1240- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نسي أحدكم) عبر بإذا إيماء
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: من لم يدع قول الزور (4/99، 100) .
(2) قوله: أي: إرادة هذا مشكل سواء أريد بالإِرادة معناها أم أريد بها الرضا فإن ترك الطعام والشراب حاصل فهو مراد لله تعالى وهو أيضاً مرضي عنه في ذاته فلعل المراد بالإرادة الرضا عن هذا الترك من حيث ما يصاحبه من الزور ونحوه. ع.(7/50)
فَأكَلَ، أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإنَّمَا أطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1241- وعن لَقِيط بن صَبِرَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى غلبة النسيان على الإنسان؛ لكونه طبعاً، وفي نسخة: إذا نسي الصائم، وعلى الأول فالمفعول محذوف، أي: الصوم مدلول عليه بالسياق إلى الصوم. قال الحافظ: وجاء عند ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم والدارقطني، من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: من أفطر (2) في شهر رمضان ناسياً، فلا قضاء عليه ولا كفارة، قال: ففيه تعيين رمضان، وتصريح بأن لا قضاء، ثم نقل الكلام في حال الحديث بما فيه طول وحاصله قبوله (فأكل أو شرب فليتم صومه) وعند الترمذي: فلا يفطر، والاقتصار على الأكل والشرب؛ لأنهما الأغلب، وإلا فكل المفطرات حكمها كذلك، ولا فرق بين قليل ما ذكر وكثيره حينئذ، وفارق بطلان الصلاة بالأكل ناسياً كثيراً بأن لها هيئة تذكر بها، ولا كذلك الصوم (فإنما أطعمه الله وسقاه) وفي رواية الترمذي " فإنما هو رزق رزقه الله ". وفي رواية الدارقطني "فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه" قال القاضي زكريا في شرح الإعلام: ومقتضى الحديث أن لا قضاء عليه، وقد زاد الدارقطني في روايته: ولا قضاء عليه "لطيفة" روى عبد الرزاق عن عمرو بن دينار أن إنساناً جاء أبا هريرة فقال: أصبحت صائماً فدخلت على رجل فنسيت فطعمت، فقال: لا بأس. قال: ثم دخلت على آخر فنسيت فطعمت وشربت فقال: لا بأس أطعمك الله وسقاك. قال: ثم دخلت على آخر فنسيت فطعمت قال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام. (متفق عليه) .
1241- (وعن لقيط) بفتح اللام وكسر القاف آخره طاء مهملة (ابن صبرة) بفتح المهملة وكسر الموحدة. قال الحافظ في التقريب: ويقال: إنه جده واسم أبيه عامر، صحابي مشهور، خرج عنه البخاري في التاريخ وأصحاب السنن الأربعة، وقال المصنف في التهذيب: قال ابن عبد البر: يقال فيه لقيط بن صبرة، ولقيط بن عامر، ولقيط بن المشفق، قال الترمذي: وقال أكثر أهل الحديث: لقيط بن صبرة هو لقيط بن عامر، وجعلهما مسلم في كتاب الطبقات اثنين، كما سلك ذلك الدارمي. روى عنه ابن أخيه وكيع بن عدس، وقال ابن بغدسي وعاصم بن لقيط وعمرو بن أوس وغيرهم قالوا: أو كان يكره السائل فإذا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: إذا أكل أو شرب ناسياً (4/135) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، (الحديث: 171) .
(2) أتى بهذا الحديث للرد على من يحمل الحديث الأول على صوم التطوع.(7/51)
رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله، أخْبِرْني عَنِ الوُضُوءِ؟ قَالَ: "أسْبغِ الوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ، إِلاَّ أنْ تَكُونَ صَائِماً" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1242- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ. متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سأله أبو رزين أعجبه مسألته. اهـ وقوله (رضي الله عنه) جملة خبرية لفظاً دعائية معنى (قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء) أي: عن سننه ومكملاته، بدليل قوله (قال: أسبغ الوضوء) أي: أتممه بغسل ما زاد على الفرائض، من الغرة والتحجيل (وخلل بين الأصابع) وذلك بالتشبيك بين أصابع اليدين، وفي الرجلين بأي كيفية كانت. قال ابن حجر في شرح المنهاج: والأفضل بخنصر اليسرى من يديه، ومن أسفل مبتدياً بخنصر يمنى رجليه، مختتماً بخنصر يسراهما للأمر بتخليل اليدين والرجلين، في حديث ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - "كان يدلك أصابع رجليه بخنصره" ومحل كونه من السنن ما لم يتوقف وصول الماء عليه، وإلا كالأصابع الملتفة، فيجب إذا لم يصل الماء لباطنها إلا به، كتحريك خاتم، كذلك ويحرم فتق ملتحمة (وبالغ في الاستنشاق) أي: بإيصال الماء إلى الخيشوم، وجذبه بالنفس مع إدخال خنصر يسراه، وإزالة ما في أنفه من أذى ولا يستقصي فيه فإنه يصير سعوطاً، لا استنشاقاً أي: كاملاً وإلا فيحصل به أصل السنة، وكذا يبالغ غير الصائم في المضمضة ندباً بأن يبلغ بالماء إلى أقصى الحنك ووجهي الإِنسان واللثات، ويسن إمرار الإصبع اليسرى عليها ومج الماء (إلا أن تكون صائماً) أي: فلا تبالغ، فمن ثم كرهت له خشية السبق إلى حلقه، أو دماغه فيفطر، وإنما حرمت القبلة المحركة للشهوة؛ لأن أصلها غير مندوب مع أن قليلها يدعو لكثيرها والإنزال المتولد منها لا حيلة في دفعه، وهنا يمكنه مج الماء (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) وفي نسخة مصححة لزيادة: حسن (3) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصوم، باب: الصائم يُصب عليه الماء من العطش ... (الحديث: 2366) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، (الحديث: 788) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: اغتسال الصائم (4/123) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، (الحديث: 75) .
(3) هنا حديث في المتن عن عائشة وليس في نسخة الشرح وهو في صحيح البخاري منسوب الى عائشة وأم سلمة معاً وكذا في عمدة الأحكام والجامع الصغير.(7/52)
1243- وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، قالتا: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصْبحُ جُنُباً مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
225- باب فضل صوم المحرم وشعبان والأشهر الحرم
1244- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفْضَلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1243- (وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً) وقولهما (من جماع غير احتلام) (2) وصف تقييدي (3) إذ جنابته - صلى الله عليه وسلم - لا تكون بالاحتلام إذ هو من تلاعب الشيطان، ولا وصلة له إليه - صلى الله عليه وسلم -، أو تخصيصي بناء على أن الاحتلام نوعان: عن إمتلاء البدن: وهو لكونه من العوارض البشرية، جائز في حقه، وعن تلاعب الشيطان: وهو الممتنع عليه كسائر الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم (ثم يصوم) وقد أومأ إلى صحة صوم من أصبح جنباً قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، إذ يلزم من حله آخر أجزاء الليل طلوع الفجر عليه وهو جنب، فيدل حله على صحة صومه، ذكره الأصوليون في دلالة الإِشارة (متفق عليه) .
باب بيان فضل صوم المحرم
سمي بذلك دون باقي الأشهر الحرم، تشريفاً، وقيل: لغير ذلك، كما بينته في مؤلفي في عاشوراء، المسمى بفتح الكريم القادر، في متعلقات عاشوراء، من الأعمال والمآثر (وشعبان والأشهر الحرم) لعل حكمة فضله بشعبان بين المحرم، وباقي الأشهر الحرام مع فضل صومها على صومه، إكثار صومه - صلى الله عليه وسلم - له كما سيأتي دونها، وإلا فهو بعده في الفضل، خلافاً لبعض منهم ابن رجب في اللطائف كما بينته في المؤلف المذكور مع رده.
1244- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفضل الصيام) أي: من
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: اغتسال الصائم (4/133، 134) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، (الحديث: 80) .
(2) قوله: (من جماع غير احتلام) كذا في نسخ الشرح وكذا أيضاً في صحيحي البخاري ومسلم والذي في بعض نسخ المتن يصبح جنباً من غير حلم.
(3) المراد أنه صفة كاشفة كما في قوله تعالى (ويقتلون النبيين بغير الحق) .(7/53)
الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ: شَهْرُ الله المُحَرَّمُ، وَأفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعدَ الفَرِيضَةِ: صَلاَةُ اللَّيْلِ" رواه مسلم (1) .
1245- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: لَمْ يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ أكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النانلة المطلقة (بعد) صيام (شهر رمضان شهر الله المحرم) أي: صيامه وإضافة الشهر لله كإضافة البيت والناقة إليه تعالى في قولنا: الكعبة بيت الله، وقوله تعالى: (ناقة الله) (3) للتشريف والتفخيم (وأفضل الصلاة) أي: من النافلة المطلقة (بعد الفريضة صلاة الليل) أي: التهجد وذلك؛ لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإِخلاص، مع حصول الحضور حينئذ؛ لعدم وجود ما يصد عنه؛ ولأنه وقت التجليات الإِلهية والفيوض الربانية (رواه مسلم) وتقدم مشروحاً في باب فضل قيام الليل.
1245- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم) أي: صوم نفل مطلق، (من شهر) أي: فيه، أو بعضه (أكثر من شعبان) وفعله - صلى الله عليه وسلم - لذلك، مع الحديث قبله الدال على أفضلية صوم المحرم على صومه، لما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "إنه شهر ترفع فيه الأعمال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" وفي حديث آخر " إنه شهر تكتب فيه الآجال فأحب أن يكتب أجلي وأنا صائم " وفي حديث آخر " إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان فأحب إحياءه "؛ أو لأنه لم يطلع على فضل صوم المحرم إلا في أواخر عمره الشريف، أو لم يتمكن من صومه؛ لكونه أول السنة، فكان يتجهز فيها للحروب ويخرج لجهاد أعداء الدين، وعلى كل فلا دليل في إكثاره صومه، دون المحرم على فضله على المحرم مع ما ذكر (فإنه كان يصوم شعبان كله) قيل: المراد أنه كان يصوم معظمه بدليل قوله: (وفي رواية) لمسلم (كان يصوم شعبان إلا قليلاً) وعند البخاري: ما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان، فلذا قال المصنف: (متفق عليه) قال المصنف في شرح مسلم: قوله كان يصوم شعبان إلا قليلاً، هذا
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل صوم المحرم، (الحديث: 202) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم شعبان (4/186) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير رمضان واستحباب ... (الحديث: 176) .
(3) سورة هود، الآية: 64.(7/54)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير للأول، وبيان أن قوله كله أي: غالبه، وقيل: كان يصومه كله في وقت وبعضه في وقت آخر، وهذا أنسب باللفظ. قال المصنف قال العلماء: وإنما لم يستكمل غير رمضان؛ لئلا يظن وجوبه، وقيل: في قولها كله أي: يصوم في أوله وفي وسطه وفي آخره، ولا يخص شيئاً منه بل يعمه بصيامه، ذكر هذه الأجوبة المصنف في شرح مسلم، وقيل: غير ذلك، وقد تعقب الدماميني في المصابيح كلامه.
"أما الأول": فإن إطلاق الكل على الأكثر مع الإِتيان به توكيداً، غير معهود. وتعقبه الحافظ زين الدين العراقي، بأن في حديث أم سلمة عند الترمذي: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم شهرين متتابعين إلا رمضان وشعبان، فعطفه على رمضان يبعد أن يراد به أكثره، إذ لا جائز أن يراد من رمضان بعضه، والعطف يقتضي المشاركة فيما عطف عليه، وإن مشى ذلك فإنما يمشي على رأي من يقول إن اللفظ الواحد يحمل على حقيقته ومجازه، وفيه خلاف لأهل الأصول قال في عمدة القاري: ولا يمشي على ذلك الرأي أيضاً؛ لأن من قال ذلك قاله في اللفظ الواحد، وهما لفظان رمضان وشعبان، لكن نقل الترمذي عن ابن المبارك أن العرب يتجوزون بذلك فيقولون: إذا صام أكثر الشهر وقام أكثر ليله صام الشهر كله، وقام ليله أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره.
"وأما الثاني": فقال الدماميني: إن قولها: كان يصوم شعبان يقتضي تكرار ذلك الفعل له عادة على ما هو المعروف في مثل هذه العبارة اهـ أي: بناء على إفادتها له، والذي اختاره المصنف وعزاه للأكثرين والمحققين أنها تقتضيه عرفاً.
"وأما الثالث": فقال الدماميني: إن أسماء الشهور إذا ذكرت غير مضاف إليها لفظ شهر كان العمل عاماً لجميعها، فلا تقول سرت المحرم، وقد سرت بعضه، فإن أضفت الشهر إليه لم يلزم التعميم، هذا مذهب سيبويه، وتبعه عليه غير واحد، ولم يخالفه إلا الزجاج، وأما قولها في رواية: وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان، فلا ينافي صيامه لجميعه، فإن المراد، أنه - صلى الله عليه وسلم - أكثر الصيام فيه على غيره من الشهور التي لم يفرض فيها الصوم، وذلك صادق بصومه كله؛ لأنه إذا صام جميعه صدق عليه أن الصوم الذي أوقعه فيه أكثر من الصوم الذي أوقعه في غيره، ضرورة أنه لم يصم غيره، مما عدا رمضان كاملاً، وأما قولها: لم يستكمل إلا رمضان فيحمل على الحذف أي: وشعبان بدليل الطريق الآخر، كان يصوم شعبان كله، وحذف المعطوف والعاطف جميعاً ليس بعزيز في كلامهم، ويمكن(7/55)
1246- وعن مُجِيبَةَ البَاهِليَّةِ، عن أبيها أَوْ عمها: أنه أتى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ انطَلَقَ فَأَتَاهُ بَعْدَ سَنَةٍ - وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ وَهيئَتُهُ - فَقَالَ: يَا رسولَ الله، أمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: "وَمَنْ أنْتَ"؟ قَالَ: أَنَا الباهِليُّ الَّذِي جِئْتُك عام الأَوَّلِ. قَالَ: "فَمَا غَيَّرَكَ، وَقَدْ كُنْتَ حَسَنَ الهَيْئَةِ! " قَالَ: مَا أكَلْتُ طَعَاماً مُنْذُ فَارقتُكَ إِلاَّ بِلَيْلٍ. فَقَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "عَذَّبْتَ نَفْسَكَ! " ثُمَّ قَالَ: "صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَيَوماً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجمع بطريق أخرى، وهي أن قولها: كان يصوم شعبان كله، محمول على محذوف أداة الإِستثناء والمستثنى أي: إلا قليلاً منه؛ بدليل رواية عبد الرزاق بلفظ "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر منه صياماً في شعبان فإنه كان يصومه كله إلا قليلاً. اهـ ملخصاً من القسطلاني على البخاري.
1246- (وعن مجيبة) بضم أوله وكسر الجيم بعدهما تحتية، ثم موحدة، امرأة من الصحابة، كذا في تقريب الحافظ (الباهلية) قال ابن الأثير: (1) (عن أبيها) وفي أطراف المزي، اسم أبي مجيبة عبد الله بن الحارث الباهلي صحابي (أو عمها) قال أبو موسى: ذكر فيمن لم يسم، وقال أبو عمر: لا أعرفه، وأخرجه أبو عمر وأبو موسى مختصراً، فيمن روى عن أبيه (أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: أتاه وافداً عليه (ثم انطلق) إلى أهله (فأتاه بعد سنة) الفاء فيه مستعارة لموضع ثم وجملة (وقد تغيرت حاله) أي: صفته، والحال يذكر ويؤنث في محل الحال من الفاعل (وهيئته) هي الحال الظاهرة فعطفها على الحال من عطف الخاص على العام (فقال) عطف على مقدر أي: فلم يعرفه فقال: (يا رسول الله أما) بتخفيف الميم، أداة استفتاح (تعرفني؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول) من إضافة الموصوف لصفته، وهو مؤول عند البصريين على تقدير عام الوقت الأول ليمنع ذلك اتحاد المتضايفين، وأجازه الكوفيون من غير تأويل (قال: فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة) جملة حالية من فاعل غير (قال: ما أكلت طعاماً منذ) ظرف لدخولها على الجملة الفعلية وهي (فارقتك إلا بليل) أي: لم أزل صائماً، ومراده ما عدا أيام العيد والتشريق، ويحتمل أنه أراد ما يعمها، وكان لم يعلم تحريم صومها، ويؤيد الأول أنه لم ينهه عن صومها، ولم يبين له تحريمها (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عذبت نفسك) أي: بمنعها من مألوفاتها وقطعها عن معتاداتها، بما يضر بالنفس التي مطية العبد للوصول إلى ساحة الفضل (ثم قال: صم) المراد من الأمر فيه مطلق الطلب الشامل للوجوب والندب (شهر الصبر)
__________
(1) كذا بالأصول. ع.(7/56)
قَالَ: زِدْنِي، فَإنَّ بِي قُوَّةً، قَالَ: "صُمْ يَوْمَيْن" قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: "صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ" قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: "صُمْ مِنَ الحُرُم وَاتركْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتركْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتركْ" وقال بأصابِعه الثَّلاثِ فَضَمَّها، ثُمَّ أرْسَلَهَا. رواه أَبُو داود.
وَ "شَهْر الصَّبر": رَمَضَان (1) .
226- باب في فضل الصوم وغيره في العشر الأول من ذي الحجة
1247- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ
__________
أي: الصوم وهو رمضان (ويوماً من كل شهر) نفلاً (قال: زدني فإن لي قدرة) على أكثر منه (قال: صم يومين) أي: من كل شهر (قال: زدني قال: صم ثلاثة أيام) وذلك كصيام الدهر كله؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها (قال: زدني قال: صم من الحرم) بضمتين، جمع حرام أي: من الأشهر الحرم، فحذف الموصوف؛ لاختصاص الصفة به، وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم (واترك) أتى به؛ لعلمه أنه يشق عليه صومها كلها تباعاً (صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك) كرره تأكيداً لطلبه وتنبيهاً على شرفه؛ ولأنه يشق عليه صوم كلها (وقال:) أي: أشار (بأصابعه الثلاث فضمها ثم أرسلها) أي: صم ثلاثاً منها ثم اترك، وهكذا وذلك لأن في ضم الثالث من القوة ما يجبر الضعف الحاصل من صوم اليومين؛ لأن المرء إذا اعتاد عمل بر ألفته النفس، وارتفعت مشقته، ولذا أشار إلى الإِفطار بعدها؛ لئلا يصير الصوم معتاداً له فلا يجد كلفة بخلاف ما إذا أفطر ثم عاد له فيكون فيه عليه مشقة، فينمو ثوابه (رواه أبو داود) قال المزي في الأطراف: ورواه النسائي (وشهر الصبر) قال الخطابي: (رمضان) قال: وأصل الصبر الحبس وسمي الصوم صبراً لما فيه من حبس النفس عن الطعام، ومنعها عن وطء النساء في نهار الشهر.
باب فضل الصوم وغيره
من عمل البر (في العشر الأول من ذي الحجة) وآخره يوم النحر، ومعلوم أن صومه لا ينعقد، فالمراد صوم ما عداه من باقي العشر، وعرفة إنما يسن صومه لغير حاج وقف نهاراً، لما سيأتي في الباب بعده فيستثنى أيضاً.
1247- (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من) مزيدة؛
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: في صوم أشهر الحرم، (الحديث: 2428) .(7/57)
أيَّامٍ، العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هذِهِ الأَيَّام" يعني أيام العشر. قالوا: يَا رسولَ اللهِ، وَلاَ الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ؟ قَالَ: "وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ" رواه البخاري (1) .
227- باب فضل صوم يوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لاستغراق النفي (أيام العمل الصالح) مبتدأ (فيها) ظرف مستقر في محل الوصف أو الحال مما قبله؛ لأنه محلى بأل الجنسية، أو لغو متعلق بالخبر وهو (أحب إلى الله من العمل الصالح في هذه الأيام) ولا يضر تعدد المتعلق لاختلاف اللفظ (يعني) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأيام المشار إليها (أيام العشر) أي: من ذي الحجة (قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله) أي: المفعول في غيرها أفضل من غيره من عمل البر فيها (قال: ولا الجهاد في سبيل الله) أي: فلا يفوق عمل البر فيها (إلا رجل) أي: إلا عمل رجل فالاستثناء متصل، والرفع على البدل، وقيل: منقطع أي لكن رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء أفضل من غيره، وقال الدماميني: إنما يستقيم هذا على اللغة التميمية، وإلا فالمنقطع عند أهل الحجاز واجب النصب (خرج يخاطر بنفسه وماله) أي: خرج يقصد قهر عدوه، ولو أدى ذلك إلى قتل نفسه وذهاب ماله (فلم يرجع من ذلك بشيء) أي: بأن رزقه الله الشهادة، ولأبي عوانة: إلا من لا يرجع بنفسه، ولا ماله، وله من طريق آخر، إلا أن لا يرجع، وله أيضاً: إلا من عقر جواده وأهريق دمه. زاد أبو عوانة في رواية عن ابن عمر "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير، فإن صيام يوم منها يعدل صيام سنة، والعمل فيها بسبعمائة ضعف " وللترمذي عن أبي هريرة "يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر".
"قلت" وبهذه الروايات يتخصص حديث: أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم (رواه البخاري) ورواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح غريب. وابن ماجه.
باب فضل صوم يوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء
ممدودان على وزن فاعولاء، والصحيح أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم وتاسوعاء اليوم الذي قبله، كما بينته في كتابي في فضل عاشوراء وبيان أعماله.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق (2/381 و383) .(7/58)
1248- وعن أَبي قتادة - رضي الله عنه -، قَالَ: سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صَومِ يَوْمِ عَرَفَةَ، قَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ" رواه مسلم (1) .
1249- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَامَ يَومَ عاشوراءَ وَأمَرَ بِصِيامِهِ. متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1250- وعن أَبي قتادة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صِيامِ يَوْمِ عَاشُوراءَ، فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1248- (عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة) أي: ما له من الفضل بدليل قوله: (قال: يكفر السنة الماضية) أي: التي آخرها سلخ ذي الحجة (والباقية) أي: الآتية وأولها المحرم حملاً على المعنى المتعارف في السنة، والمكفر صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله، والمراد بغفران ما سيأتي. أما العصمة عن ملابسته، أو وقوعه مغفوراً إن وقع ثم صومه إنما يندب لغير الحاج الواقف بعرفة نهاراً، أما هو فالأفضل له الفطر، اتباعاً لفعله - صلى الله عليه وسلم -، وهل صومه له مكروه أو خلاف الأولى قولان مبنيان على أن حديث النهي عن صومه للحاج هل هو ثابت أو لا؟ (رواه مسلم) .
1249- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام عاشوراء) وفي نسخة بزيادة يوم (وأمر بصيامه) وهل كان الأمر به قبل فرضية رمضان على سبيل الوجوب أو الندب؟ الصحيح عند الجمهور أنه على سبيل الندب المؤكد أكمل التأكد، وأنه بعدها بقي أصل التأكد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - ما زال يصومه، وعزم أن يضم إليه التاسع في العام المقبل وقد بينته ثمة (متفق عليه) .
1250- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عاشوراء) أي: عما فيه من الفضل (فقال: يكفر السنة الماضية) ينبغي أن يكون هو آخرها، لا آخر ذي الحجة؛ لئلا يلزم الفصل بين المكفر والمكفر. والله أعلم. وإنما فضل يوم عرفة فكفر سنتين؛ لأنه يوم محمدي وعاشوراء يوم موسوي؛ ولأن يوم عرفة سيد الأيام فاقتضى فضل
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ... (الحديث: 196) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصيام، باب: صيام عاشوراء (4/214 و215) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، (الحديث: 128) .(7/59)
229- باب في استحباب صوم الإثنين والخميس
1253- عن أَبي قتادة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صَومِ يَوْمِ الإثْنَيْنِ، فَقَالَ: "ذَلِكَ يَومٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَومٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ" رواه مسلم (1) .
1254- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَومَ الإثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الجامع الصغير، وفيه من صام رمضان وشوالاً والأربعاء والخميس، دخل الجنة. رواه أحمد عن رجل، وفي الجامع الكبير رواه البغوي والبيهقي في الشعب عن عكرمة بن خالد عن عريف من عرفاء قريش عن أبيه.
باب استحباب صوم الاثنين والخميس
سميا بذلك بناث على أن أول الأسبوع الأحد.
1253- (عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين) أي: عن حكمة إيثاره بالصوم عن باقي الأيام (فقال ذلك) عبر عنه بذلك تنويهاً بشأنه، كما في قوله تعالى (ذلك الكتاب) (2) والتنوين في قوله: (يوم) للتعظيم، كما يشير إليه وصفه بقوله (ولدت فيه ويوم بعثت) أي: فيه، أفاد به أن شرفه بما ظهر فيه من ولادته وبعثته (أو) شك من الراوي هل قال: بعثت فيه أو قال: (أنزل علي فيه) ؟ أي: الوحي فنائب الفاعل مستتر، أو هو الظرف أي: وجد الإِنزال علي فيه (رواه مسلم) في الصوم، وإنما لم يطلب في يوم مولده - صلى الله عليه وسلم - من الأعمال ما طلب في يوم الجمعة؛ لزيادة شرفه - صلى الله عليه وسلم - فخفف عن أمته ببركته.
1254- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تعرض الأعمال) أي: تعرضها الملائكة الحفظة، أو غيرهم (يوم الاثنين والخميس) يحتمل عرض مجموع عمل الأسبوع في الآخر منهما، بعد عرض عمل ما قبل الاثنين مع عمله فيه، ويحتمل أن المعروض في الثاني ما عمل بعد الأول، وما قبل ذلك ففي الأول فقط منهما (فأحب أن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ... (الحديث: 197) .
(2) سورة البقرة الآية: 2.(7/61)
يُعْرَضَ عَمَلِي وَأنَا صَائِمٌ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن"، ورواه مسلم بغير ذِكر الصوم (1) .
1255- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَرَّى صَومَ الإثْنَيْنِ وَالخَمِيس. رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
230- باب في استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر
والأفضل صومُها في الأيام البيض وهي الثالثَ عشر والرابعَ عشر والخامسَ عشر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعرض عملي وأنا صائم) جملة في محل الحال من المضاف إليه، لكون المضاف كبعض المضاف إليه، فهو كقوله تعالى (أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً) (3) (رواه الترمذي وقال: حديث حسن ورواه مسلم بغير ذكر الصوم) ولفظه "تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين، ويوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن، إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا" ورواه الطبراني عن أسامة بن زيد مرفوعاً بلفظ، "تعرض الأعمال على الله تعالى يوم الاثنين والخميس فيغفر الله إلا ما كان من متشاحنين أو قاطع رحم" ورواه الحاكم عن والد عبد العزيز، " بلفظ تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله، وتعرض على الأنبياء وعلى الآباء والأمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم، وتزداد وجوههم بياضاً وإشراقاً، فاتقوا الله ولا تؤذوا موتاكم ".
1255- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى) أي: يتوخى (صوم الاثنين والخميس) أي: لعظم فضلهما (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه النسائي.
باب استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر
سواء كانت البيض، أو السود أو غيرها (والأفضل صومها في أيام البيض) بكسر الموحدة، وسكون التحتية، من إضافة الموصوف لصفته؛ وسميت بذلك لبياض نهارها بالشمس وليلها بالقمر (وهي الثالث عشر) ببناء الجزأين، كما قاله الدماميني، وكذا
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، (الحديث: 747) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، (الحديث: 745) .
(3) سورة النحل، الآية: 123.(7/62)
وقِيل: الثاني عشر، والثالِثَ عشر، والرابعَ عشر، والصحيح المشهور هُوَ الأول.
1256- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: أوْصاني خَلِيلي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاثٍ: صِيَامِ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى، وَأنْ أُوتِرَ قَبْلَ أنْ أنَامَ. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1257- وعن أَبي الدرداءِ - رضي الله عنه -، قَالَ: أوصاني حَبِيبي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاثٍ لَنْ أدَعَهُنَّ مَا عِشتُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المركبات بعده (والرابع عشر والخامس عشر) يستثنى من ذلك ذو الحجة، فصوم الثالث عشر منه حرام. قال الناشري في الإِيضاح: وهل يعوض عنه السادس عشر أو يوم من التسعة الأول؟ فيه احتمالان: "قلت" في العباب عن ابن عبد السلام: يصوم السادس عشر عوضاً عن الثالث عشر (وقيل: الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والصحيح المشهور هو الأول) وفي الروضة أن الثاني وجه غريب، حكاه الصيمري الماوردي والبغوي وصاحب البيان فالاحتياط صومهما. اهـ.
1256- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم -) الخلة من أبي هريرة فلا ينافي لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً. الحديث (بثلاث) أي: من الخصال (صيام ثلاثة أيام من كل شهر) أي: سواء كانت البيض، أو السود أو غيرها أو ذلك؛ ليحصل مثل ثواب الشهر كله (وركعتي الضحى) هما أقل صلاة الضحي. وتقدم أن أكملها وهو أكثرها على الصحيح ثمان (وأن أوتر تبل أن أنام) احتياطاً؛ لئلا يغلبه النوم فيفوت عليه الوتر، وهو محمول على من لم يعتد الاستيقاظ آخر الليل، وإلا فالتأخير إليه أفضل لحديث "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" (متفق عليه) وقد سبق مشروحاً في باب فضل صلاة الضحى لكن بلفظ "أرقد" بدل "أنام".
1257- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني حبيبي) في تعبير أبي هريرة بالخلة، إيماء إلى شدة ملازمته ومرابطته، وهذا دونه فيها (- صلى الله عليه وسلم - بثلاث لن أدعهن) أي: أتركهن (ما عشت) أي: مدة عيشي، أي: حياتي وهو كناية عن المداومة على ذلك وعدم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: صلاة الضحى (3/47) ، وفي الصوم، باب: صيام البيض، (الحديث: 1981) بنحوه.
وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى ... (الحديث: 85) .(7/63)
1260- وعن أَبي ذر - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثاً، فَصُمْ ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1261- وعن قتادة بن مِلْحَان - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأمُرُنَا بِصِيَامِ أيَّامِ البِيضِ: ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَأرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ. رواه أَبُو داود (2) .
1262- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يُفْطِرُ أيَّامَ البِيضِ في حَضَرٍ وَلاَ سَفَرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
داود والترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه.
1260- (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صمت من الشهر ثلاثاً) أي: إذا أردت صوم ثلاثة منها، وحذف التاء؛ لحذف المعدود وفي الإتيان بإذا إيماء؛ لشدة حرص المخاطب على ذلك وملازمته إياه (فصم ثالث عشره ورابع عشره وخامس عشره وأورده في الجامع الصغير، بلفظ "ثلاث عشره وأربع عشره وخمس عشره "وكذا هو في بعض نسخ الرياض، والجزءان مبنيان على الفتح على كلا الروايتين (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد والنسائي وابن حبان كما في الجامع الصغير.
1261- (وعن قتادة بن ملحان) بكسر الميم وسكون اللام بعدها مهملة، القيسي بالقاف المفتوحة، فالتحتية الساكنة، فالمهملة ابن قيس بن ثعلبة، مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه ووجهه قاله في أسد الغابة. روي له (رضي الله عنه) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثان، كما ذكره ابن الأحزم في سيرته وغيره. (قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بصيام أيام البيض) أبدل منها بدل مفصل من مجمل قوله (ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) ببناء الجزأين لفظاً وجرهما محلاً (رواه أبو داود) في الصوم ورواه فيه النسائي وابن ماجه، وبه يعلم شذوذ أقوال تسعة أو عشرة، حكاها الغزالي في تعيين أيام البيض، في غير ما ذكر، فلا يعوّل على شيء منها.
1262- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر) أي: أنه لازم عليها فيهما فصومها سنة مؤكدة، وحكمته أن في هذه الأيام
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، (الحديث: 761) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: في صوم الثلاث من كل شهر، (الحديث: 2449) .(7/65)
1264- وعن أُمِّ عُمَارَةَ الأنصارِيَّةِ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ طَعَاماً، فَقَالَ: "كُلِي" فَقَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الصَائِمَ تُصَلِّي عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الترغيب والترهيب: ورواه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، ولفظ ابن خزيمة والنسائي "من جهز غازياً أو جهز حاجاً أو خلفه في أهله أو فطر صائماً كان له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء" وقال في حديث سلمان الذي رواه ابن خزيمة في صحيحه "ومن فطر فيه صائماً" يعني في رمضان "كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء" قالوا: ليس كلنا يجد ما يُفطر به الصائم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعطي الله تعالى هذا الثواب، من فطر صائماً على تمرة، أو شربة ماء، أو مزقة لبن؛ الحديث.
1264- (وعن أم عمارة) بضم المهملة وتخفيف الميم (الأنصارية رضي الله عنها) المكنى بهذه الكنية، اثنتان من الأنصار.
إحداهما: نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مندول بن عمرو بن مازن بن النجار الأنصارية المازنية.
والثانية: غير مسماة كما ذكر ابن الأثير في أسد الغابة، وقال المزي: وهي جدة حبيب بن زيد ويقال: اسمها نسيبة بنت كعب بن عمرو، وذكر النسب إلى النجار وقد ذكر الترمذي نسبتها فقال: عن أم عمارة بنت كعب الأنصارية؛ ومقتضاه أنها الأولى كما صرح به المزي، وقد وقع في كلام بن عبد البر ما يقتضي أنها واحدة، وحكاه عن ابن الأثير، وقال: إن ابن منده وأبا نعيم جعلاهما اثنتين وذكرا لكل ترجمة، وفي التقريب للحافظ أنهما واحدة، كما في كلام ابن عبد البر ومثله في الأطراف للمزي، وهو ظاهر صنيع المؤلف، إذ لو كان يرى تعددهما لأتى بما يميز الراوية عن الثانية، وقد صرح الدميري بأنها نسيبة، وقال: شهدت العقبة مع السبعين وشهدت أحداً، وأبليت يومئذ بلاءً حسناً، هي وولدها عبد الله بن زيد وزوجها زيد بن عاصم وشهدت بيعة الرضوان وشهدت اليمامة، وجرحت يومئذ أحد عشر جرحاً وقطعت يدها. روى لها أصحاب السنن ثلاثة أحاديث، هذا أحدها. اهـ والله أعلم (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها) أي: زائراً ففيه زيارة أهل الفضل أتباعهم (فقدمت إليه طعاماً) فيه إكرام الضيف بإحضار الطعام (فقال: كلي) فيه إيماء إلى استحباب بدء رب المنزل بالأكل قبل الضيف لينشط لذلك (فقالت: إني صائمة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الصائم) أي: لأي صوم كان، من فرض بأنواعه، أو نفل (تصلي عليه الملائكة) أي(7/67)
إِذَا أُكِلَ عِنْدَهُ حَتَّى يَفْرغُوا" وَرُبَّمَا قَالَ: "حَتَّى يَشْبَعُوا" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1265- وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ إِلَى سعد بن عبادة - رضي الله عنه - فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَأكَلَ، ثُمَّ قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ؛ وَأكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلاَئِكَةُ" رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تستغفر له (إذا أكل عنده حتى يفرغوا) أي: الآكلون، المدلول على تعددهم بالجملة الشرطية (وربما قال:) حتى (يشبعوا) وضمير قال: الأقرب عوده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيده أنه أورده في المشكاة بهذا اللفظ مقتصراً عليه، والمراد منه الإِشارة إلى اختلاف ألفاظه - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل على بعد عوده إلى أحد الرواة، وهذه الجملة مسوقة للشك في اللفظ النبوي على هذا. وعلى الأول لبيان صدور كل منهما منه - صلى الله عليه وسلم -. الأول كثيراً والثاني قليلاً (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد وابن ماجه والدارمي وانتهى حديث ابن ماجه إلى تصلي عليه الملائكة، ورواه النسائي أيضاً، كما في الأطراف للمزي.
1265- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى سعد بن عبادة) سيد الخزرج رضي الله عنه (فجاء بخبز وزيت) فيه إحضار ما سهل وأنه لا ينافي الجود فقد جاء سعد كأبيه من أجواد العرب (فأكل) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: بعد تمام الأكل (أفطر عندكم الصائمون) أي: أثابكم الله إثابة من فطر صائماً، فهي خبرية لفظاً دعائية معنى كجملة (وأكل طعامكم الأبرار) جمع بر، وهو التقي (وصلت عليكم الملائكة) أي: استغفرت لكم (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والبيهقي في السنن وابن السني من حديث أنس، ورواه ابن ماجه وابن حبان والطبراني. من حديث ابن الزبير، ولفظ ابن السني " كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر عند قوم دعا لهم فقال: أفطر عندكم " إلخ وروى ابن ماجه عن الزبير "قال: أفطر - صلى الله عليه وسلم - عند سعد بن معاذ فقال: أفطر عندكم إلى آخره" ورواه ابن ماجه في، صحيحه عنه لكن قال: ابن عبادة بدل ابن معاذ. قال القارىء في الحرز: ويمكن الجمع بتعدد القضة.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب: ما جاء في فضل الصائم إذا أكل عنده، (الحديث: 785) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأطعمة باب: [ما جاء] في الدعاء لرب الطعام [إذا أكل عنده] ، (الحديث: 3854) .(7/68)
8- كتاب: الاعتكاف
232- باب: في فضل الاعتكاف
1266- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1267 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ. متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الاعتكاف
هو لغة: لزوم الشيء ولو شراً، وشرعاً: مكث مخصوص على وجه مخصوص، والأصل فيه الكتاب والسنة والإِجماع. وهو من الشرائع القديمة، وسكت المصنف عن ذكر ما يتعلق به من الكتاب، كقوله تعالى: (وطهر بيتي للطائفين والقائمين) (3) الآية نسياناً.
1266- (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من مضان) بالنصب على الظرفية أي: يوقعه فيها (متفق عليه) .
1267- (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان) لما بعد العشرين منه ولو كان ناقصاً، فإطلاق العشر عليه تغليب (حتى توفاه الله) غاية لما دلت عليه كان من الدوام، قيل: لغة، وقيل: عرفاً (ثم اعتكف أزواجه بعده) أي: في العشر المذكور (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري فى كتاب: أبواب الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر (4/235 و236) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، (الحديث: 1) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر، (4/235) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، (الحديث: 5) .
(3) سورة الحج، الآية: 26.(7/69)
1268- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ في كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْماً. رواه البخاري (1) .
***
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1268- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام) وكان أولاً يعتكف العشر الأوسط طلباً لليلة القدر، ثم علم أنها في العشر الأخير فصار يعتكف كما يومىء إليه حديث سعيد المذكور في باب الاعتكاف من البخاري (فلما كان العام) بالنصب على الظرفية خبراً لكان، وبالرفع على أنها تامة (الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً) زيادة اجتهاد في الطاعة؛ لدنو الأجل ولعله أخلذه، أي: دنو الأجل كما صرح به في خطابه لبنته السيدة فاطمة رضي الله عنها، من مدارسته جبريل معه ذلك العام القرآن مرتين، ففي الحديث الحض على الاجتهاد في التعبد، والإِعراض عن الأعراض الدنيوية عند خواتم العمر وسن الكبر (رواه البخاري) وما أومأ إليه أحاديث الباب من كون المعتكف صائماً والمدة متطاولة هو الأفضل، وإلا فأقله عند إمامنا الشافعي ما يسمى لبثاً إذا اقترن بالنية ولا يشترط فيه محموم خلافاً لبعض الأئمة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان، (4/245) .(7/70)
9- كتاب: الحج
233- باب: في فضل الحج
قَالَ الله تَعَالَى: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الحج
هو بفتح الحاء وكسرها لغة: القصد، أو كثرته إلى من يعظم، وشرعاً: قصد الكعبة لأداء أعمال مخصوصة، والأصل فيه الكتاب والسنة والإِجماع، وهو من الشرائع القديمة.
روي أن آدم عليه الصلاة والسلام حج أربعين سنة من الهند ماشياً وأن جبريل قال له: إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت سبعة آلاف سنة. وقال ابن إسحاق: لم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلا حج، والذي صرح به غيره أن ما من نبي إلا حج. خلافاً لمن استثنى هوداً وصالحاً صلى الله على نبينا وعليهم وسلم. وفي وجوبه على من قبلنا خلاف. قيل: الصحيح، إنه لم يجب إلا علينا واستغرب، والصحيح أنه من أفضل العبادات، خلافاً للقاضي حسين في قوله: إنه أفضلها لاشتماله على المال والبدن (قال الله تعالى: ولله على الناس) قيل: دخل فيه الجني بناء على أنه من نوس إذا تحرك، وبه صرّح في عباب اللغة، فيجب الحج على مستطيعه وبه صرّح التقي السبكي (حج البيت) علم بالغلبة على الكعبة (من استطاع إليه سبيلاً) بأن وجد الزاد والراحلة، كما ثبت تفسيره بذلك مرفوعاً في حديث رواه الحاكم في المستدرك، ومن فيه فاعل المصدر المضاف لمفعوله. أي: ولله على الناس أن يحج البيت المستطيع منهم، فإن لم يحج المستطيع أثم الناس أجمع، أو بدل بعض من الناس، والرابط مقدر، أي: منهم وعليه اقتصر المحقق البيضاوي، أو في موضع رفع بالابتداء على أنها موصولة ضمنت معنى الشرط، أو شرطية، وحذف الخبر والجواب أي: من استطاع فليحج، ويؤيد الابتداء قوله: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) قال
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(7/71)
1269- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "بُنِي الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البيضاوي: وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتغليظاً على تاركه، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً" وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوبه، بصيغة الخبر وإبرازه في الصورة الاسمية، وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله في رقاب الناس، وتعميم الحكم أولاً وتخصيصه ثانياً، فإنه كإيضاح بعد إبهام، وتنبيه وتكرير للمراد. وتسمية ترك الحج كفراً من حيث إنه فعل الكفرة، وذكر الاستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت والخذلان، وقوله (عن العالمين) بدل عنه؛ لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان، والإِشعار بعظيم السخط؛ لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس، وإتعاب البدن، وصرف المال والتجرد، عن الشهوات، والإقبال على الله عز وجل. روي أنه لما نزل صدر الآية "جمع رسول الله أرباب الملل فخطبهم وقال: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وكفرت به خمس الملل (2) : فنزل (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) (3) ".
1269- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي) وفي نسخة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم - قال بني الإِسلام على خمس شهادة) بالجر على الأوجه، كما تقدم بيانه في شرح هذا الحديث، المتكرر غير مرة، في أبواب كالزكاة والصيام (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) أل فيها وفيما قبلها للعهد. أي: المفروض منها (وحج البيت) أي: من استطاع إليه سبيلاً، كما جاء كذلك في أحاديث أخر، والمطلق يحمل على المقيد (وصوم رمضان متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم (1/46، 47) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، (الحديث: 20) ، وقد تقدم برقم (1075) و (1206) .
(2) في نسخه جميع الملل وعلى الأولى قيل: هم اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا. ع.
(3) سورة آل عمران، الآية: 97.(7/72)
1270- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: خَطَبَنَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "أيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُم الحَجَّ فَحُجُّوا" فَقَالَ رَجُلٌ: أكُلَّ عَامٍ يَا رَسولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلاثاً. فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ" ثُمَّ قَالَ: "ذَرُوني مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ، وَاخْتِلاَفِهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1270- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا) يتعدى بنفسه وبعلى كما في المصباح (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:) عطف تفسير (يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا) أي: ادوا ذلك الواجب (فقال رجل) قال ابن حجر الهيثمي: هو الأقرع ابن حابس انتهى. وقد جاء تعيينه في حديث رواه أحمد والنسائي والدارمي، وسنده حسن (أكل عام) بالنصب ظرف لفرض مقدراً (يا رسول الله فسكت) - صلى الله عليه وسلم - عن جوابه (حتى قالها) أي: المقالة المذكورة (ثلاثاً) منصوب على المصدرية، وسكوته عنه، لينزجر عن سؤاله الواقع في غير محله؛ لوجوه منها: أن مدلول الأمر مدة وما زاد عليها لا بد له من دليل خارجي، ومع ملاحظة ذلك فلا وجه لسؤاله، فكان فيه نوع تعنت وسؤال عما لا يحتاج إليه، ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل لتبليغ الأحكام بغاية الإِيضاح والبيان، فلو وجب التكرار لأفاده صريحاً وإن لم يسأل عنه فالسؤال حينئذ ضائع، ولما علم - صلى الله عليه وسلم - من تكريره له أنه لا ينزجر بذلك ولا يقنع إلا بجواب صريح أجابه بما فيه نوع توبيخ له (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو قلت نعم) أي: فرض عليكم كل عام (لوجبت) أي: الحجة كذلك (ولما استطعتم) ذلك: لأن فيه من المشقة ما لا يطاق تحمله فأفادت (لو) الدالة على انتفاء الثاني لانتفاء المقدم الذي لم يخلفه غيره، أنه لا يجب كل عام أي: باعتبار الأصل، فلا يرد وجوبه بنحو قضاء أو نذر، وأفاد ثانيها أن الأمر للوجوب إذ لا يجب الحج كل سنة، بقوله: حجوا كل سنة إلا إذا كان الأمر للوجوب، وما بعده أنه إنما لم يتكرر لما فيه من الحرج الذي لا يطاق، وإن الأمر على السهولة واليسر لا على الصعوبة والعسر كما توهمه السائل، وإن العاقل لا ينبغي له أن يستقبل الكلف الخارجة عن وسعه وأن لا يسأل عما يسؤه لو أبدى قال تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) (1) (ثم قال) زجراً لذلك السائل أيضاً (ذروني ما تركتكم) أي: لأني لا أنطق إلا بما شرعه الله لكم، ولا أحتاج إلى تنبيه؛ لأني لا أخل بشيء مما يحتاج إلى البيان عند الحاجة إليه (فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم) أي: من غير حاجة بل لقصد التعنت المؤدي للإيذاء أو التكذيب (واختلافهم على أنبيائهم) فيتقولون عليهم ما لم يقولوه، ويحرفون ما
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 101.(7/73)
عَلَى أنْبِيَائِهِمْ، فَإذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيءٍ فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْءٍ فَدَعُوهُ" رواه مسلم (1) .
1271- وعنه، قَالَ: سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟ قَالَ: "إيمَانٌ بِاللهِ وَرسولِهِ" قيل: ثُمَّ ماذا؟ قَالَ: "الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ" قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قالوه إيثاراً لما ينالهم من ضعفائهم واتباعهم على رضا الله تعالى واتباع أنبيائه ورسله (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) كالعاجز عن بعض أعمال الطهارة، أو الصلاة من ركن أو شرط يأتي بالمستطاع له، دون ما عجز عنه (وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) وفيه أن الأوامر مقيدة بالاستطاعة دون النواهي؛ لأن الأولى: من باب جلب المصالح، والثانية: من باب درء المفاسد، ودرؤها مقدم على جلب تلك، فلذا سومح في هذه ما لم يسامح في تلك (رواه مسلم) وهذا الحديث من أجل قواعد الإِسلام، ومن جوامع الكلم لأنه يدخل فيه من الأحكام ما لا يحصى، والحديث من قوله: ذروني إلى آخره، تقدم في باب الأمر بالمحافظة على السنة.
1271- (وعنه قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -) السائل أبو ذر، كما في التوشيح (أي العمل أفضل) أي: أكثر ثواباً عند الله تعالى (قال: إيمان بالله ورسوله) هو عمل القلب؛ لأنه التصديق بكل ما علم مجيء الرسول به ضرورة، والإِقرار للساني بذلك شرط لإِجراء الأحكام (قيل: ثم ماذا؟ قال الجهاد: في سبيل الله) قال السيوطي في التوشيح: في مسند بن أبي أسامة: جهاد، وهو موافق لقوله: إيمان، ولقوله قال: حج. قال الحافظ: فالتعريف في رواية الصحيح من تصرف الرواة. اهـ ثم لعل هذا بالنسبة لحال المتكلم بذلك؛ لقوة تسلط الكفار حينئذ، فكأن القيام به لما فيه من تأسيس الإِسلام أفضل، حتى من الصلاة فلا ينافي حديث " خير أعمالكم الصلاة " ولا حديث ابن مسعود "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها. قلت: ثم أي: قال: ثم بر الوالدين قلت: ثم أي: قال: الجهاد في سبيل الله " الحديث رواه الشيخان، وقال المصنف: ذكر هنا بعد الإِيمان الجهاد والحج، وفي حديث أبي ذر، بدل الحج العتق، وفي حديث أبي موسى: السلامة من اليد واللسان، وفي حديث ابن مسعود: الصلاة ثم البر ثم الجهاد، وقال العلماء: واختلاف الأجوبة لاختلاف الأحوال واحتياج المخاطبين وذكر ما لا يعلمه السائل وترك ما علمه (قيل:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، (الحديث: 412) .(7/74)
قَالَ: "حَجٌّ مَبرُورٌ" متفقٌ عَلَيْهِ.
"المبرور" هُوَ: الَّذِي لا يرتكِبُ صاحِبُهُ فِيهِ معصيةً (1) .
1272 - وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّهُ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1273 - وعنه: أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَينَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ماذا؟ قال: حج مبرور. متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الإِيمان، وكذا رواه فيه النسائي (المبرور) اسم مفعول من البر وهو الطاعة (هو الذي لا يرتكب صاحبه فيه معصية) ولو صغيرة وإن تاب منها من إحرامه به إلى تحلله الثاني، هذا أحد القولين فيه. وقيلِ: هو المقبول وعلامة القبول أن يرجع خيراً مما كان عليه بأن يصير عابداً بعد أن كان غافلاً.
1272- (وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حج) أي: أتى بالحج (فلم يرفث) بضم الفاء معطوف على جملة حج أي: لم يلغ (ولم يفسق) أي: بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة (رجع) أي: انقلب من نسكه معرى عن الذنب بالعفو (كيوم ولدته أمه) بفتح يوم؛ لأنه أضيف إلى جملة صدرها مبني، والمراد يكفر بالحج عنه صغائر الذنوب، المتعلقة بحق الله تعالى كما قدمنا التنبيه عليه (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وعند الترمذي بلفظ "غفر له ما تقدم من ذنبه".
1273- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: العمرة) بضم فإسكان، وبضمتين وبفتح فإسكان لغات، أفصحها أولها (إلى العمرة كفارة) أي: مكفرتان، وأفرد؛ لأنه مصدر (لما بينهما) من صغائر الذنوب المتعلقة بالله تعالى، وعليه يحمل قوله في رواية: من الذنوب والخطايا (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) يحتمل أن يكون من جزائه إلهام صاحبه التوبة من كل ذنب، وتوفيقه لذلك وحفظه من المخالفة باقي عمره فيدخل الجنة مع الفائزين، والله
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: من قال إن الإِيمان هو العمل (3/302) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، (الحديث: 135) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: فضل الحج المبرور، (3/302, 303) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، (الحديث: 438) .(7/75)
متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1274 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قَالَت: قُلْتُ: يَا رسول الله، نَرَى الجِهَادَ أفْضَلَ العَمَلِ، أفَلاَ نُجَاهِدُ؟ فَقَالَ: "لَكُنَّ أفْضَلُ الجِهَادِ: حَجٌّ مَبْرُورٌ" رواه البخاري (2) .
1275 - وعنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أكْثَرَ مِنْ أن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أعلم. (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد والأربعة، كذا في الجامع الصغير.
1274- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله نرى) أي: نعتقد (الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد) لحوز ثوابه (فقال: لكن) باللام الجارة لضمير خطاب النسوة، وهو حال (أفضل الجهاد حج مبرور) وأفضل مبتدأ خبره حج، وقال الدماميني في المصابيح: معترضاً الزركشي في إعرابه أفضل مبتدأ، خبره حج، بأنه على ظن أن لكن ظرف لغو، متعلق بأفضل والمانع موجود، فالصواب أن الخبر قوله لكن، وحج بدل أو خبر لمحذوف، تقديره هو حج مبرور، والضمير عائد إلى أفضل الجهاد. اهـ ثم هذا الضبط هو الذي عند أبي ذر، وعند غيره، لكن بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها وبتسكين النون، فعليها أفضل مبتدأ خبره حج مبرور، وبتشديدها فأفضل اسمها وحج خبرها، ولا بد عليها من تقدير مستدرك عليه، وظرف بعد الاستدراك، دل عليه المقام أي: ليس لكن الجهاد أفضل، ولكن أفضل منه لكن حج مبرور. قال المهلب: وهذا بين على أن قوله تعالى؛ (وقرن في بيوتكن) (3) ليس على الفرض لملازمة البيوت (رواه البخاري) في الحج والجهاد، وفي رواية لهما عنها " قلت: استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد فقال: جهادكن الحج " ورواه النسائي وابن ماجه ولفظ النسائي "قلت: يا رسول الله أفلا نخرج فنجاهد معك". وفي التعبير عنه بالجهاد إيماء إلى عظيم فضله وحض عليه النساء فكيف بالرجال.
1275- (وعنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من) صلة لتأكيد استغراق النفي في قوله: (يوم أكثر) بالنصب خبر ما الحجازية (من أن يعتق الله فيه عبداً من النار) متعلق بيعتق (من يوم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العمرة، باب: وجوب العمرة وفضلها، (3/476) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، (الحديث: 437) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: فضل الحج المبرور (3/302) .
(3) سورة الأحزاب، الآية: 33.(7/76)
يَعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ" رواه مسلم (1) .
1276 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "عُمْرَةٌ في رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً - أَوْ حَجَّةً مَعِي" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عرفة) متعلق بأكثر وهذا صدر حديث آخره "وإنه ليدنو ثم ويباهي الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء" (رواه مسلم) .
1276 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عمرة في رمضان) أي: بأن يتبع تحرمها في جزء منه وإنْ أتى بأعمالها في شوال (تعدل) أي: تماثل (حجة أو) شك من الراوي أي: هل اقتصر على ذلك؟ أو قال: (حجة معي. متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود ابن ماجه من حديث ابن عباس، ورواه من حديث جابر، أحمد والبخاري وأبو داود، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أم معقل، وابن ماجه عن وهب ابن حنيس، والطبراني في الكبير، عن ابن الزبير، وميمونة عن أنس بلفظ "عمرة في رمضان كحجة معي"، كذا في الجامع الصغير وظاهره أنه لا فرق بين من أحرم بها من ذي الحليفة ومن أحرم بها من التنعيم مثلاً؛ ولا تخصيص بكونه وارداً في امرأة تخلفت عن الحج معه - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: اعتمري إن عمرة إلخ، وذلك؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والظاهر أن المراد بالعدل هنا ما لقوه في نحو خبر: إن قراءة الإِخلاص تعدل ثلث القرآن، من أن في القليل مثل ثواب الكثير من غير مضاعفة، لئلا يلزم تساوي القليل والكثير، فيكون حاملاً للناس على الإِعراض عنِ الكثير، وهذا أولى من قول الطيبي أنه من باب المبالغة، وإلحاق الناقص بالكامل ترغيباً، وحثاً عليه. اهـ وذلك؛ لأن الله امتن على ضعفاء عباده العاجزين عن الإِتيان بذلك الكثير، بأن جعل لهم ما يصلون به إلى مراتب الأقوياء القادرين على الكثير، ولا يلزم منه الرغبة عن الكثير، لما تقرر من الفرق بينهما. وفي الحديث "إن ثواب العمل القليل يزيد بزيادة شرف الوقت" كما يزيد ثواب الكثير بمزيد الحضور ودوام الشهود اللذين يبلغ الشخص بهما مبلغاً لا يحصل له بدون ذلك، وما اقتضاه الحديث من أفضليتها في رمضان عليها ولو في ذي القعدة هو مذهبنا، وأجابوا عن تكرير عمرته - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة دونه بأنه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، (الحديث: 436) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: العمرة، باب: عمرة في رمضان (3/480، 481) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: فضل العمرة في رمضان، (الحديث: 222) .(7/77)
1277 - وعنه - رضي الله عنه - أنَّ امرأة قالت: يَا رسول الله، إنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ في الحَجِّ، أدْرَكَتْ أَبي شَيْخاً كَبِيراً، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أفَأحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ" متفقٌ عَلَيْهِ. (1) .
1278 - وعن لقيط بن عامر - رضي الله عنه -: أنَّه أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إنَّ أَبِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان لمصلحة، هي رد ما كان عليه الجاهلية من اعتقاد أنها في أشهر الحج من أفجر الفجور، فكررها - صلى الله عليه وسلم - فيه مبالغة في إخراج ما رسخ في قلوبهم من ذلك، وعدم إيقاعه لها في رمضان في عام الفتح يحتمل أن يكون لكثرة اشتغاله بمصالح أهل مكة، ثم بتجهيز تلك الجيوش لحنين والطائف على أن ظاهر سبب حديث الباب أنه لم ينطق - صلى الله عليه وسلم - به إلّا بعد حجة الوداع، فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغه ذلك إلا حينئذ.
1277- (وعنه أن امرأة) هي من خشعم، كما في الحديث نفسه في الصحيح (قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي) فيه مجاز عقليِ من الإِسناد للسبب، وهو قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) (2) الآية (شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة) جملة في محل الصفة، أو الحال، والمراد: لا يثبت عليها ولو في نحو محارة، كما يومىء إليه إطلاقها (أفأحج عنه) أي: أيجب عليه فأحج عنه نيابة (قال: نعم) ففيه الحج عن المعضوب (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي المغازي وفي الاستئذان، ومسلم في الحج، ورواه فيه أبو داود والنسائي في سننهما، كذا في الأطراف، وتعقب بأن حديث النسائي بطرقه حديث آخر لا يطابق هذا الحديث لا لفظاً ولا معنى، وسياقه هكذا "أن امرأة سألت سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمها ماتت ولم تحج قال: حجي عن أمك" قال أحد الرواة: عن النسائي هذا حديث غريب، تفرد به علي بن حكيم. اهـ ورواه البزاز عن ابن عباس عن أخيه الفضل، ورواه أيضاً عن سلمان ابن يسار الراوي عن ابن عباس عن الفضل من غير واسطة عبد الله. اهـ وعلى الأول فهو مرسل صحابي. والله أعلم.
1278- (وعن لقيط) بفتح اللام وكسر القاف وسكون التحتية، ثم طاء مهملة (ابن عامر)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: وجوب الحج وفضله (3/300) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: الحج عن العاجز لزمانه وهرم ونحوهما أو للموت، (الحديث: 407) .
(2) سورة آل عمران، الآيه: 97.(7/78)
قَالَ: حُجَّ بي مَعَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، في حَجةِ الوَدَاعِ، وَأنَا ابنُ سَبعِ سِنينَ. رواه البخاري (1) .
1280 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ رَكْباً بالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: "مَنِ القَوْمُ؟ " قالوا: المسلِمُونَ. قالوا: مَنْ أنْتَ؟ قَالَ: "رسولُ اللهِ". فَرَفَعَتِ امْرَأةٌ صَبيّاً، فَقَالَتْ: ألِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَكِ أجْرٌ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
استحباب جعل النوافل في البيت (قال: حج) بالبناء للمفعول ونائب فاعله (بي) كذا في الأصول المصححة من الرياض، وكذا هو في البخاري. عند الترمذي قال: حج بي أبي بالبناء للفاعل، وبيان أنه أبوه (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع) بكسر الواو مصدر وادع لوداعته فيها الناس، وبفتحها اسم مصدر منه (وأنا ابنِ سبع سنين) ففيه جواز إحجاج الصبي قبل البلوغ، أو مباشرته النسك أي: إذا كان مميزاً وذلك ليتمرن على العبادة فيألفها بعد البلوغ (رواه البخاري) والترمذي وفي روايته زيادة قوله: في حجة الوداع، وليست عند البخاري، فقوله رواه البخاري أي أصل الحديث لا بجميع الألفاظ المذكورة. والله أعلم.
1280- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركباً) جمع راكب أو اسم جمعه كصحب وصاحب وبجمع راكب على ركبان أيضاً (بالروحاء) ظرف لغو متعلق بلقي، والروحاء قال في التهذيب: هي بفتح الواو والحاء المهملة وسكون الواو بينهما ممدودة، موضع من عمل الفرع بضم فسكون، بينها وبين المدينة ستة وثلاثون ميلاً، كما روى ذلك مسلم في صحيحه في الأذان عن أبي سفيان، وحكى صاحب المطالع أن بينهما أربعين ميلاً، وأن في كتاب ابن أبي شيبة بينهما ثلاثون ميلاً. اهـ ملخصاً (فقال: من القوم؟ فقالوا: المسّلمون) أي: نحن المسلمون (فقالوا: من أنت؟ قال) وعند أبي داود "قالوا: من أنتم قالوا: (رسول الله، فرفعت امرأة صبياً) عند أبي داود "ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي وأخرجته من محفتها" (فقالت: يا رسول الله ألهذا حج) أي: أيصح الإِحرام عنه بالحج ويثاب عليه وإن كان غير مميز، كما يدل لذلك أخذها له بعضده وإخراجه كذلك من المحفة، إذ من كان كذلك لا تمييز له (قال: نعم ولك أجر) أي: بسبب الحمل وتجنيبه ما يحرم على المحرم، أو بسبب إحرامها عنه إن كانت وصيته من جهة الأب أو أذن لها، الوصي، إذ لا يصح الإِحرام به إلا لولي المال من أب أو جد أو مأذونه. قال أصحابنا: يكتب
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: حج الصبيان، (4/61) .(7/80)
رواه مسلم (1) .
1281 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكانت زَامِلَتهُ. رواه البخاري (2) .
1282 - وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَتْ عُكَاظُ، وَمَجِنَّةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للصبي ثواب جميع ما يعمله من الحسنات، ولا يكتب عليه معصية بالإِجماع وكذا يكتب للأصل مثل ثواب عمل الفرع من الصالحات دون إثم ما يجتنيه من السيئات (رواه مسلم) ورواه أبو داود.
1281- (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حج) أي: في عام حجة الوداع إذ لم يحج بعد الهجرة غيرها (على رحل) بفتح فسكون كل ما يعد للرحيل من وعاء المتاع ومركب البعير، أي: حج على قتب الراحلة من غير محمل ولا محاره (وكانت) أي: الراحلة التي ركبها وإن لم يجر لها ذكر، لكن دل عليه ذكر الرحل (زاملته) والزاملة البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزمل وهو الحمل، والمراد: أنه لم يكن معه زاملة لحمل طعامه ومتاعه، بل كان ذلك محمولاً معه على راحلته وكانت هي الراحلة والزاملة. وروى سعيد بن منصور من طريق هشام بن عروة قال: كان الناس يحجون وتحتهم أزودتهم، وكان أول من حج وليس تحته شيء عثمان بن عفان رضي الله عنه (رواه البخاري) ورواه ابن ماجه بلفظ آخر وهو "حج النبي - صلى الله عليه وسلم - على رحل وقطيفة خلقة تسوى أربعة دراهم ولا تسوى، ثم قال: اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه ولا سمعة".
1282- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ) قال في المصباح: بوزن غراب، سوق من أعظم أسواق الجاهلية، وراء قرن المنازل بمرحلة من عمل الطائف على طريق اليمن، وقال أبو عبيد: هي صحراء مستوية لا جبل بها ولا علم، وهي بين نجد والطائف، وكان يقام بها السوق في ذي القعدة نحواً من نصف شهر، ثم يأتون موضعاً دونه إلى مكة يقال له: سوق مجنة، فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر، ثم يأتون موضعاً قريباً منه، يقال له: ذو المجاز، فيقام فيه السوق إلى يوم التروية، ثم يصدرون إلى منى والتأنيث لغة الحجاز، والتذكير لغة تميم. اهـ (ومجنة) بكسر الميم والجيم المفتوحة والنون المشددة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: صحة حج الصبي وأجر من حج به، (الحديث: 409) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: الحج على الراحل (3/301) .(7/81)
10 - كتاب: الجهاد
234- باب: في فضل الجهاد
قال الله تعالى (1) : (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الجهاد
أي: مقاتلة الكفرة؛ لإعزاز الدين (قال الله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي: جميعاً (كما يقاتلونكم كافة) هو محمول على ما عدا أهل الذمة من أهل الكتاب، بدليل قوله تعالى في الآية الآخرى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) (3) إلى قوله: (من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، (3) والآية فيها الإِيماء إلى تقديم داعي قتال الكفار على داعي الطبع، من ترك قتال نحو قريب وخليل وصاحب كفار، أي: لأنهم إذا لم يراعوا لكم ذلك وجهادهم في سبيل الكفر، فأنتم أحق بأن لا تراعوه منهم (واعلموا أن الله مع المتقين) الشرك بالنصر والإِعانة، وهو تشجيع على الإِقدام عليهم وإن كثرت جموعهم، فمن ينصره الله لا يغلب (وقال تعالى: كتب) أي: فرض (عليكم القتال) أي: قتال الكفرة (وهو كره لكم) جملة في محل الحال من نائب الفاعل أي: وهو مكروه لكم بحسب الطبع لما فيه من تعريض النفس للقتل (وعسى) للترجي (أن تكرهوا شيئاً) هو أو غيره (وهو) أي: المكروه (خير لكم) في نفس الأمر (وعسى) للإِشفاق (أن تحبوا شيئاً) بحسب الطبع (وهو
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 36.
(2) سورة البقرة، الآية: 216.
(3) سورة التوبة، الآية: 29.(7/83)
شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) . وقال تعالى (1) : (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
وقال تعالى (2) : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شر لكم) في نفس الأمر (والله يعلم) النافع لكم من الضار (وأنتم لا تعلمون) ذلك جملة اسمية معطوفة على الاسمية قبلها، أو حالية، وفي الآية إيماء إلى وجوب التفويض في كل الأمور لله عز وجل، والرضى بما جرى به قدره، وإن لم يكن ملائماً للطبع ولا مشتهى للنفس فالخيرة في الواقع (وقال تعالى: انفروا) أي: اخرحوا (خفافاً وثقالاً) شمالاً وشيوخاً أو نشاطاً وغير نشاط، أو ركباناً ومشاة، أو فقراء وأغنياء، أو قليلي العيال وغير قليل، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه، أو أصحاء ومرضى، أو مسرعين بعد الاستعداد، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله بشراء آلات الحرب وبذل النفس إعزازاً لدين الله (وقال تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) التي هو خلقها (وأموالهم) التي هو رزقها (بأن لهم الجنة) قيل: هو (3) تمثيل لإثابة الله من بذل نفسه وماله في سبيله على هذا البذل بالجنة (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون) الأعداء (ويقتلون) في ميدان الحرب، والجملة مستأنفة لبيان ما لأجله الشراء (وعداً عليه حقاً) مصدران مؤكدان، فإن الاشتراء بالجنة مستلزم الوعد بها (في التوراة) حقاً (والإِنجيل والقرآن) أي: هذا الوعد الموعود به المجاهد ثابت فيهما، كما هو ثابت في القرآن. قال بعضهم: الأمر بالجهاد ثابت في جميع الشرائع، وقال بعض: بين فيهما أنه اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة كما بين في القرآن (ومن أوفى بعهده من الله) أي: لا أحد أوفى بعهده منه فهو كقوله تعالى: (ومن أصدق من الله قيلاً) (4) (فاستبشروا بيعكم الذي بايعتم به) أي: افرحوا به غاية الفرح فإنه موجب للفرح الأبدي (وذلك هو الفوز العظيم) نزلت حين قال عبد الله بن رواحة وأصحابه ليلة العقبة
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 41.
(2) سورة التوبة، الآية: 111.
(3) هو أي البيع والشراء المدلول عليهما بأشتري. ع.
(4) سورة النساء، الآية: 122.(7/84)
وقال تعالى (1) : (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل (وقال تعالى: لا يستوي القاعدون) عن الجهاد (من المؤمنين غير أولي الضرر) بالرفع صفة القاعدون فإنه ما أراد به قوماً معيناً فهو كالنكرة أو بدل، ومن قرأ منصوباً فهو حال أو استثناء، وبالجر صفة المؤمنين أو بدل منه كما مر في الرفع نزلت أولاً (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد فغشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلسه، ثم سري عنه فقرأ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر (وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي: لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الحرب غير أولي الضرر (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين) غير أولي الضرر صرّح به ابن عباس (2) والحديث الصحيح يدل عليه (درجة) الجملة موضحة لما نفي الاستواء فيه ونصب درجة بنزع الخافض أي: بدرجة عظيمة تندرج تحتها الدرجات، أو على المصدر، لأنه تضمن معنى التفضيل (وكلاً) أي: من القاعدين لغير عذر والمجاهدين (وعد الله الحسنى) الجنة والجزاء الجزيل (وفضل الله المجاهدين على القاعدين) بلا عذر (أجراً عظيماً) ثم أبدل منه قوله (درجات منه ومغفرة ْورحمة) كل واحد منهما بدل من أجر، أو كرر تفضيل المجاهدين، وبالغ فيه إجمالاً وتفصيلاً تعظيماً للجهاد وترغيباً فيه، وقيل:
الأول: ما خولهم به في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر.
والثاني: ما جعل لهم في الآخرة، وقيل: المراد بالدرجة ارتفاع منزلتهم عند الله،
__________
(1) سورة النساء، الآيتان: 95، 96.
(2) لعله يريد أنها قراءة لابن عباس. ع.(7/85)
وَقَالَ تَعَالَى (1) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)
والآياتُ في آلْبابِ كَثيرَة مَشْهورَة.
وأَمًا الْأحَاديثُ في فَضْلِ الْجِهادِ فَأكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبالدرجات منازلهم في الجنة، وقال بعض المفسرين: القاعدون. الأول: هم الأضراء أي: هم أولو الضرر فإن المجاهدين أفضل منهم بدرجة واحدة؛ لأن لهم نية بلا عمل وللمجاهدين نية وعمل والقاعدون. الثاني: هم غير أولي الضرر فإن بين المجاهدين وبينهم درجات كثيرة، وهذا خلاف ما قدمناه (وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكنم من عذاب أليم) المراد به عذاب الله مطلقاً (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) استئناف مبين للتجارة كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا فقال: تؤمنون إلخ (ذلكم) أي: المذكور من الإيمان والجهاد (خير لكم إن كنتم تعلمون) أي: إن كنتم غير جاهلين (يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم) جواب الشرط مقدر؛ لكونه جواباً للأمر المذكور بلفظ الخبر، للمبالغة أي: آمنوا وجاهدوا فإن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم، وسميت جنة عدن؛ لخلود المؤمن فيها يقال: عدن بالمكان إذا أقام فيه (وأخرى) أي: ولكم نعمة أخرى (تحبونها) فإن الأمر العاجل محبوب للنفوس (نصر من الله) بدل أو بيان (وفتح قريب) عاجل (وبشر المؤمنين) يا محمد بثواب الدارين عطف على تؤمنون فإنه بمعنى آمنوا ويكون جواباً للسؤال. وزيادة كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا قيل: آمنوا يكن لكم كذا وبشرهم يا محمد بثبوته، وقل عطف على محذوف أي: قل يا أيها الذين آمنوا وبشر (والآيات في فضل الجهاد في الكتاب) أي: القرآن (كثيرة) يؤدي استيعابها إلى طول زائد (مشهورة) واضحة (وأما الأحاديث) النبوية (في فضل الجهاد فأكثر من أن تحصر) ؛ لكثرتها (فمن ذلك) أي: فبعض المذكور ما ثبت.
__________
(1) سورة الصف، الآيات: 10-13.(7/86)
1285- وعن أَبي ذرّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله، أيُّ العَمَلِ أفْضلُ؟ قَالَ: "الإيمَانُ بِاللهِ، وَالجِهَادُ في سَبِيلهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1286- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لَغَدْوَةٌ في سَبيلِ اللهِ، أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1285- (وعن أبي ذر رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أى الأعمال أفضل) هو كالعمل في اللذين قبله؛ لأن أل الجنسية تبطل معنى الجمعية وتصيره كالواحد، ويدل عليه قوله (قال: الإِيمان بالله) أي: ورسوله فاكتفى بما ذكر عن قرينه لتلازمهما شرعاً ولجمع إليه الضمير في قوله: (والجهاد في سبيله) وذلك لأنه ولو كان باقياً على معنى الجمعية لأجاب بثلاث فما فوقها، ولا يلزم من كون المذكورين فيه أفضل الأعمال تساويهما فيها، يخالف ما قبله يقال: أفضل علماء البلد زيد وعمر وإن تفاوتا فيما بينهما (متفق عليه) وتقدم أن اختلاف الأفضل في الأخبار إما باعتبار حال السائل، أو باعتبار زمن الجواب أو نحو ذلك.
1286- (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لغدوة) بفتح المعجمة وسكون المهملة قال في النهاية: الغدوة المرة من الغدو وهو سير أول النهار نقيض الرواح. اهـ واللام مؤذنة بالقسم المقدر أتى بها لتأكيد الأمر عند السامع، وقال العيني: هي لام التأكيد لا لام القسم (في سبيل الله) ظرف لغو متعلق بغدوة أو مستقر صفة لها (أو) للتنويع لا للشك، قاله العيني (روحة) بفتح المهملتين وسكون الواو بينهما المرة من الرواح (خير من الدنيا وما فيها) وذلك للثواب المرتب على كل منهما، وقد ورد أن أقل أهل الجنة منزلة من يعطى قدر الدنيا عشر مرات فما بالك بأوساطهم، فضلاً عن أعلاهم، والتفضيل بينه وبين الدنيا باعتبار ما استقر في النفوس من حب الدنيا ورؤيا خيرها، وإلّا فلا مناسبة بين ديني عظيم ثوابه باقٍ وبين دنيوي مخدج فانٍ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - خاطبنا بما نألف. ويحتمل أن يكون المراد، أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن حصلت له الدنيا وأنفقها في طاعة الله غير الجهاد (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: أي الرقاب أفضل (5/105) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، (الحديث: 136) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الغدوة والروحة في سبيل الله (6/11) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، (الحديث: 112) .(7/88)
1287- وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ قَالَ: "مُؤْمنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سَبيلِ اللهِ" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "مُؤْمِنٌ في شِعبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1288- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "رِبَاطُ يَوْمٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1287- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى رجل) قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه، وقد سبق أن أبا ذر سأل عن مثل ذلك (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أي الناس أفضل) أي: أكثر ثواباً (قال: مؤمن يجاهد) الكفار (بنفسه وماله) بأن يبذلهما لله تعالى طلباً لمرضاته (في سبيل الله) قال العيني في شرح البخاري: أي: أفضل الناس مؤمن مجاهد، قالوا: هذا عام مخصوص والتقدير من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل وكذا الصديقون، كما تدل عليه الأحاديث، ويدل له أن في بعض طرق النسائي لحديث أبي سعيد "أن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه". اهـ (قال: ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب) ابتدأ بالنكرة فيهما؛ لكونها للتنويع فهو كقوله: فيوم لنا ويوم علينا، والشعب بكسر المعجمة وسكون المهملة قيل: هو الطريق وقيل: الطريق في الجبل وجمعه شعاب وذكره جري على الغالب، من تيسر الخلوة فيه عن الناس فالمراد: هي لا هو بخصوصه، وقوله: (يعبد الله ويدع الناس من شره) خبر بجملة بعد خبر بمفرد، أو جملة حالية من الضمير المستقر في الظرف، أو مستأنفة جواب عن سؤال تقديره ماذا يعمل فيه. والحديث تقدم مشروحاً في باب العزلة، وتقدم بلفظ "رجل يعتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه" وفي رواية "يتقي الله ويدع الناس من شره" (متفق عليه) .
1288- (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رباط) بكسر الراء مصدر كالمرابطة، وإضافته إلى (يوم) (1) على معنى في كقوله تعالى: (تربص أربعة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: أفضل الناس مؤمن ... الخ (6/4) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والرباط، (الحديث: 122) .
(1) قوله: يوم فيه دلالة على صدق الرباط على يوم واحد خلافاً لمالك في قوله أقله أربعون يوماً.(7/89)
فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ في سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ الغَدْوَةُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أشهر) (2) (في سبيل الله) (3) في محل الصفة لرباط (خير من الدنيا وما عليها) عبر بفي في الحديث قبله وبعلى هنا؛ تفنناً في التعبير. ويحتمل أن يكون من نيابة الحرف الجار عن مثله، كما هو مذهب الكوفيين. قال العيني: وفائدة العدول عن في إلى على أن معنى الاستعلاء أعم من الظرفية وأقوى فقصد؛ لزيادة المبالغة (وموضع سوط أحدكم من الجنة) أي: هذا القدر اليسير منها، (خير من الدنيا وما فيها) من الزهرات والشهوات والمستلذات؛ لأنه فانٍ لا بقاء له (والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى) بائعاً لنفسه من الله تعالى بالجنة، والرضى منه تعالى (والغدوة) حذف الجملة الواقعة صفة أو حالاً اكتفاء بدلالة قرينتها عليها (خير من الدنيا وما عليها) خبر عنهما وأفرد؛ لأنه أفعل تفضيل مجرد من أل والإِضافة، وإذا كان كذلك يجب إفراده وتذكيره، أخبر أن صغير الزمان وصغير المكان في الآخرة خير من طويل الزمان وكبير المكان في الدنيا، تزهيداً فيها وتصغيراً لها، وترغيباً في الجهاد، إذ بهذا القليل يعطيه الله في الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب نفسه وأنفق ماله، وقال القرطبي: أي: الثواب الحاصل على مشيئة واحدة في الجهاد خير لصاحبها من الدنيا وما فيها لو جمعت له بحذافيرها، والظاهر أنه لا يختص ذلك بالغدو والرواح من بلدته، بل يحصل هذا الثواب بكل غدوة أو روحة في طريقه إلى الغزو. قال المصنف: وكذا غدوة أو روحة في موضع القتال؛ لأن الجميع يسمى غدوة وروحة في سبيل الله (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح، ثم هذا الحديث فيه فضل الرباط، وهو ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم، وقال العيني: الرباط هو المرابطة، وهي ملازمة ثغر الحدود، قال ابن قتيبة: أصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم في الثغر، كل يعد لصاحبه واشترط ابن التين أن يكون غير وطنه ونقله عن ابن حبيب عن مالك، ونظر فيه العيني بأنه قد
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: فضل رباط يوم في سبيل الله (6/11، 64) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، (الحديث: 113) .
(2) سورة البقرة، الآية: 226.
(3) السبيل يضاف كثيراً إلى الله والمراد به كل عمل خالص يتقرب به إليه لكن غلب إطلاقه على الجهاد حتى صار حقيقة شرعية فيه في كثير من المواطن. ع.(7/90)
1289- وعن سَلمَانَ - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الفَتَّانَ" رواه مسلم (1) .
1290- وعن فَضَالَةَ بن عُبَيْدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يكون بوطنه وينوي بالإِقامة فيه دفع العدو، ويقال: الرباط المرابطة في نحور العدو وحفظ ثغور الإِسلام، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوذة بلاد المسلمين.
1289- (وعن سلمان) هو الفارسي (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رباط يوم وليلة) هو ظاهر فيما ذهب إليه ابن مالك، في آخرين من مجيء الإِضافة على معنى في أيضاً كما تقدم. ومن منع ذلك قال: هي فيه على معنى اللام والإِضافة لأدنى ملابسة (خير من صيام شهر وقيامه) وذلك لأن نفع الرباط متعد وعام ونفعها قاصر خاص (وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل) أي: أجر ما كان يعمله حال رباطه، وأجر رباطه قاله القرطبي (وأجري عليه رزقه) أي: يرزق من الجنة، كما ترزق الشهداء الذين تكون أرواحهم في حواصل الطير تأكل من ثمر الجنة. ذكر المصنف نحوه (وأومن) هو وما قبله بالبناء للمفعول، وضبط أمن بالبناء للفاعل أيضاً بلا واو حكاه العلقمي عن السيوطي (الفتان) بفتح الفاء وتشديد الفوقية، أي: فتان القبر، ففي رواية لأبي داود في سننه "وأمن من فتاني القبر" بصيغة المثنى، وهو مراد من رواية مسلم؛ لأن المفرد المحلى بأل الجنسية يصدق بالواحد والمتعدد، وضبط أيضاً بضم الفاء جمع فتن. قال القرطبي: وتكون أل للجنس، أي: كل ذي فتنة، وقال العلقمي: المراد فتان القبر من إطلاق الجمع على اثنين أو على أنهم أكثر من اثنين، فقد ورد أن فتان القبر ثلاثة أو أربعة، وقد استدل غير واحد بهذا الحديث على أن المرابط لا يسأل في قبره كالشهيد، وقال الشيخ ولي الدين العراق: المراد به مسألة منكر ونكير. قال: ويحتمل أن يراد أنهما لا يجيئان إليه ولا يختبرانه بالكلية، ويكتفي بموته مرابطاً في سبيل الله شاهداً على حصة إيمانه، ويحتمل إنهما يجيئان إليه لكنه يأنس بهما بحيث أنهما لا يضرانه ولا يروعانه، ولا يحصل له بسبب مجيئهما فتنة، اهـ. (رواه مسلم) .
1290- (وعن فضالة) بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة واللام (ابن عبيد) بصيغة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرباط في سبيل الله عز وجل، (الحديث: 163) .(7/91)
رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلاَّ المُرَابِطَ فِي سَبيلِ اللهِ، فَإنَّهُ يُنْمى لَهُ عَمَلهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيُؤَمَّنُ فِتْنَةَ القَبْرِ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (1) .
1291- وعن عثمان - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مصغر، عبد بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي (رضي الله عنه) أول ما شهد أحداً، وشهد ما بعدها من المشاهد ومنها: بيعة الرضوان، وشهد فتح مصر، ثم نزل دمشق وولي قضاها لمعاوية، ومات سنة ثمان وخمسين، وقيل: قبلها، كذا في التقريب للحافظ. وفيه خرج له البخاري في التاريخ ومسلم، والأربعة روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسون حديثاً، روى مسلم منها حديثين. اهـ، ودفن بباب الصغير من دمشق سنة ثلاث وخمسين، وقيل: تسع وستين، والصحيح الأول فقد نقلوا أن معاوية حمل نعشه، وقال لابنه: أعني يا بني فإنك لا تحمل بعده مثله، وتوفي معاوية سنة ستين قاله المصنف في التهذيب. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل ميت يختم على عمله) فلا يزداد ثواباً ولا عقاباً (إلا المرابط) بالنصب على الاستثناء (في سبيل الله) ثم بين وجه الاستثناء بقوله (فإنه ينمي) بفتح أوله، وسكون النون، وتخفيف الميم المكسورة وبالياء (2) قال السيوطي في قوت المغتذى: قال العراقي: كذا وقع في رواية الترمذي بياء في آخره وفي رواية أبي داود "ينمو" بالواو، والأفصح ما هنا وهو الذي ذكره ثعلب في الفصيح. اهـ أي: يزداد (له عمله إلى يوم القيامة) بتنمية ثوابه والزيادة فيه ْ (ويؤمن من فتنة القبر) فلا يسأله الملكان عن إيمانه بل موته مرابطاً آية إيمانه كما تقدم (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيحاً ورواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية من حديث العرباض بن سارية، بلفظ "كل عمل منقطع عن صاحبه إذا مات، إلَّا المرابط في سبيل الله فإنه ينفي له عمله ويجري عليه رزقه إلى يوم القيامة" أورده في الجامع الصغير.
1291- (وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رباط يوم في
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في فضل الرباط، (الحديث: 2500) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل من مات مرابطاً، (الحديث: 1621)
(2) وفي الصحاح قال الكسائي: ولم أسمعه بالواو إلا من أخوين من بني سليم ثم سألت عنه بني سليم فلم يعرفوه بالواو وحكى أبو عبيدة نما ينمو وينمى اهـ. ع.(7/92)
"رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبيلِ اللهِ، خَيْرٌ مِنْ ألْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المَنَازِلِ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1292- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَضَمَّنَ الله لِمَنْ خَرَجَ في سَبيلِهِ، لا يُخْرِجُهُ إِلاَّ جِهَادٌ في سَبيلِي، وَإيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أنْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إِلَى مَنْزِلهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرٍ، أَوْ غَنيمَةٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل) قال الحافظ في الفتح: نقلاً عن ابن بريرة، لا تنافي بينه وبين حديث "خير من صيام شهر"، لأنه يحمل على الإعلام بالزيادة في الثواب على الأول، أو باختلاف العاملين. اهـ قال العلقمي: أو باختلاف العمل قلة وكثرة.
قال البيهقي في الشعب: القصد من هذا ونحوه الإِخبار بتضعيف أجر المرابط على غيره، ويختلف ذلك بحسب اختلاف حال الناس نيةً وإخلاصاً، وباختلاف الأوقات (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وقال الحافظ في الفتح: ورواه أحمد وابن حبان، وفي الجامع الصغير ورواه النسائي والحاكم في المستدرك.
1292- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تضمن الله) أي: التزم فضلا وإحساناً (لمن خرج في سبيله (2) لا يخرجه إلا جهاد (3) في سبيلي وإيمان بي) أي: بوعدي (وتصديق برسلي) أي: بأخبارهم، وبنبوتهم ورسالتهم، وجملة لا يخرجه الخ في محل الحال من فاعل خرج (فهو) أي: الله تعالى (ضامن) أي ملتزم تفضلاً وكرماً لمن كان كذلك (أن أدخله الجنة) ابتداءً من غير سابقة عذاب، أي: إن قتل في الحرب (أو أرجعه) بفتح الهمزة، من رجع المتعدي، ومنه قوله تعالي: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) (4) الآية (إلى منزله الذي خرج منه) للجهاد مصحوباً (بما نال) أي: بالذي ناله (من أجر) أخروي (أو غنيمه) أصابها من مال الكفار، ويصح أن يكون ضامن بمعنى مضمون، كماء
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل المرابط، (الحديث: 1667) .
(2) يمكن أن يقال إن في الكلام حذفاً تقديره بقوله: إن علي عهداً لمن خرج في سبيلي لا يحرجه.
(3) وفي كثير من النسخ جهاداً وإيماناً وتصديقاً بالنصب فيكون على أنه مفعول له أي لا يخرجه المخرج إلا الجهاد الخ وقوله فهو ضامن الأولى أن تكون من كلام الله تعالى جواباً عن شرط فقدر تقديره من كان كذلك فهو على ضامني أن أدخله الخ كما في العمدة ونسخة قديمة من شرح مسلم.
(4) سورة التوبة، الآية: 83.(7/93)
وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ في سَبيلِ اللهِ، إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ كُلِم؛ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ ريحُ مِسْكٍ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دافق أي: مدفوق أو بمعنى ذو ضمان أي: حفظ ورعاية كلابن وتامر وعليهما، فضمير هو راجع إلى الغازي، هذا واختلف في معنى أو فقيل للتقسيم أي: بأجر فقط وهو لمن لم يغنم وتارة بغنيمة فقط. قال العيني: وليس كذلك بل هو راجع بالأجر كانت غنيمة، أو لا. قاله ابن بطال، ويدل لأجره مطلقاً حديث ابن عمرو بن العاص مرفوعاً "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، وبقي لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" فهذا يدل على أنه لا يرجع بدون أجر، لكن ينقص أجر من أصاب الغنيمة، وتضعيف هذا الحديث بحميد بن هانىء وهو غير مشهور، رد بأنه غير ملتفت إليه فهو ثقة محتج به عند مسلم، ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما، ولا يعرف فيه تجريح لأحد، وفي رواية البخاري من حديث أبي هريرة "وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجره أو غنيمة" قال العيني: أي: ضمن الله بملابسة التوفي إدخال الجنة، وبملابسة عدم التوفي الرجوع بالأجر أو الغنيمة. قال الكرماني: يعني لا يخلو من الشهادة أو السلامة، فعلى الأول: يدخل الجنة بعد الشهادة في الحال، وعلى الثاني: لا ينفك عن أجر أو غنيمة، مع جواز الجمع بينهما في قضية مانعة خلو لا مانعة جمع. قال: ولفظ الضمان والتكفل والتوكيل والانتداب الواقعة في الأحاديث كلها بمعنى تحقيق الوعد على وجه الفضل منه. وعبّر عليه الصلاة والسلام عن تفضل الله سبحانه وتعالى بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به العادة بين الناس؛ لتطمئن به النفوس وتركن إليه القلوب (والذي نفس محمد) أظهر مكان الإِضمار؛ لفخامة هذا الاسم فهو كقول الخليفة الخليفة فعل كذا دون فعلت (بيده) أي: بقدرته، وفيه ندب القسم لتأكيد الأمر عند السامع (ما من كلم) أي: جرح، والتنكير للإِشاعة فيصدق بالقليل منه والكثير (يكلم) بالبناء للمفعول (في سبيل الله) الظرف مستقر في محل الحال، والمراد به الجهاد، ومثله كل من جرح في ذات الله وكل ما دافع فيه المرء بحق فأصيب فهو مجاهد (إلا جاء يوم القيامة كهيئة) أي: جاء حال كونه مماثلاً لهيئته (يوم كلم) أي: في الدنيا وبين وجه الشبه على طريقة الاستئناف البياني بقوله (لونه لون دم وريحه ريح مسك) وروى البخاري هذه الجملة القسمية من حديث أبي هريرة أيضاً بلفظ "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون دم والريح ريح المسك" وجملة لونه لون دم حالية. وفي الحديث: أن الشهيد يبعث في حالته(7/94)
لَوْلاَ أنْ يَشُقَّ عَلَى المُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو في سَبيلِ اللهِ أبداً، وَلكِنْ لاَ أجِدُ سَعَةً فأحْمِلُهُمْ وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي. وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أنْ أغْزُوَ في سَبيلِ اللهِ، فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أغْزُوَ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أغْزُوَ فَأُقْتَلَ"،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التي قبض عليها، والحكمة فيه أن يكون معه شاهد فضيلته ببذل نفسه في طاعة ربه ويشهد له على ظالمه بفعله، وفائدة رائحته الطيبة أن ينشهر في أهل الموقف إظهاراً لفضله (والذي نفس محمد بيده) أعاد جملة القسم؛ لأن المقسم عليه ثانياً غير المقسم عليه أولاً (لولا أن أشق على المسلمين) أي: العاجزين عن الخروج للجهاد (ما قعدت خلف سرية) منصوب على الظرفية، بدليل رواية مسلم الآخرى "ما قعدت خلف سرية" وبه فسر المصنف هذا الحديث في شرح مسلم، أو على الحال أي: مخالف سرية بأن يخالف فعلى فعلها فتذهب وأقيم، والسرية القطعة من الجيش يبلغ أقصاها أربع مائة، تبعث إلى العدو، وجمعها سرايا سموا بذلك؛ لأنهم خلاصة العسكر وخيارهم من السرى وهو الشيء النفيس وجملة (تغزو في سبيل الله) في محل الصفة لسرية (أبداً) أي: في زمان من الأزمنة الآتية (ولكن) استدراك من حاصل الكلام السابق ببيان المانع عن خروجه مع كل (لا أجد سعة) بفتح أوليه المهملين، أي: ما يسع سائر المسلمين (فاحملهم) بالنصب في جواب النفي (ولا يجدون سعة) فيخرجوا بأنفسهم (ويشق عليهم أن يتخلفوا عني) لما فيه من فقدهم الاجتماع عليه - صلى الله عليه وسلم - تلك المدة، مع فوات أجر الغزو الذي تخلفوا عن شهوده (والذي نفس محمد بيده لوددت) بكسر الدال الأولى (أن أغزو في سبيل الله فأقتل) بالنصب عطفاً على المنصوب قبله (ثم أغزو فاقتل ثم أغزو فاقتل) ولفظ البخاري من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل" قال العيني: استشكل بعضهم صدور هذا اليمين من النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع علمه بأنه لا يقتل. وأجاب ابن المنير بأنه لعنه كان قبل نزول قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) (1) وأعترض بأن نزولها كان أوائل قدومه المدينة، وقد صرح أبو هريرة بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو إنما قدم أوائل سنة سبع. وأجاب بعضهم بأن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع. قال العيني: أو ورد على المبالغة في فضل الجهاد والقتل فيه. وجاء عن أنس
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 67.(7/95)
رواه مسلم، وروى البخاري بعضه. "الكَلْمُ": الجَرْحُ (1) .
1293- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَم في سَبيِلِ الله إِلاَّ جَاءَ يَومَ القِيَامةِ، وَكَلْمُهُ يدْمِي: اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ ريحُ مِسكٍ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1294- وعن معاذٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ الله من رَجُلٍ مُسْلِمٍ فُوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَمَنْ جُرِحَ جُرْحاً في سَبِيلِ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مرفوعاً في الشهيد "أنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة" رواه مسلم وسيأتي، وروى الحاكم بسند صحيح عن جابر "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أصحابه الذين استشهدوا في أحد قال: والله لوددت أني غودرت مع أصحابي بفحص الجبل وفحص الجبل ما بسط منه وكشف من نواحيه". اهـ (رواه مسلم) في الجهاد (وروى البخاري بعضه) بل كله بنحوه، لكن مفرقاً كما علمت (الكلم) بفتح فسكون (الجرح) كذلك.
1293- (وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مكلوم) أي: مجروح (يكلم) بالبناء للمفعول، فيعم ما كان الكلم من الكفار وما كان من غيرهم، كدق حجر أو شجر أو عود (في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى) جملة حالية مصدرة بواو الحال وقوله (اللون لون دم والريح ريح مسك) جملة حالية أيضاً من فاعل يدمى، أو مستأنفة استئنافاً بيانياً جواب سؤال، تقديره كيف صفة ذلك (متفق عليه) اقتصر السيوطي في الجامع الكبير على عزوه للبخاري، ولم أر هذا اللفظ في باب من يخرج في سبيل الله من البخاري، ولا في فضل الجهاد من صحيح مسلم والله أعلم.
1294- (وعن معاذ رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم)
من فيه بيانية للإِبهام الذي في من (فواق ناقة) بضم الفاء وتخفيف الواو وآخره قاف، وسيأتي معناه: وهو كناية عن قليل الجهاد (وجبت له الجنة) ففيه بشارة لمن جاهد في سبيل الله طلباً
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، (الحديث: 103) .
وأخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: من يخرج في سبيل الله عز وجل (6/154) ، وباب. تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا وتمني الشهادة وغيرها مع اختلاف في الألفاظ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الذبائح، باب: المسك واللفظ له (9/569 و6/15) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، (الحديث: 103) .(7/96)
أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَأَغزَرِ مَا كَانَتْ؛ لَونُها الزَّعْفَرَانُ، وَريحُها كَالمِسْكِ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث صحيح (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لمرضاة الله بالموت على الإِسلام إذ لا تجب الجنة لغيره (ومن جرح) بالبناء للمجهول (جرحاً في سبيل الله) ظرف لغو متعلق بجرح، أو مستقر في محل الوصف للمصدر والأول أولى. قال في الكشاف في قوله تعالى: (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض) (2) إن قلت الظرف متعلق بالفعل، أو بالمصدر قلت بالفعل، وإذا جاء نهر الله بعلل نهر معقل (أو نكب نكبة) بضم النون وسكون الكاف، ثم موحدة وحذف الظرف المعتبر فيها أيضاً اكتفاءً بدلالة ذكره في قرينتها على ذلك، وهي كما قال ابن الأثير: ما يصيب الإِنسان من الحوادث، وقال الجوهري: النكبة واحدة نكبات الدهر يقال أصابته نكبة. اهـ وعطفها على الجرح من عطف العام على الخاص، وقد ترجم البخاري في صحيحه لكل منهما باباً فقال: باب من ينكب في سبيل الله ثم باب من يجرح في سبيل الله (فإنها) أي: المرة من الجرح أو النكبة، أو فإن النكبة وأعيد الضمير إليها؛ لقربها ولأنها تعم ما قبلها (تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران) والكاف في كأغزر مزيدة وما مصدرية، أي: تجيء ودمها أغزر مما كانت في غير ذلك الوقت، فالوقت مقدر قاله العاقولي (وريحها كالمسك) وهذا محمول على ما كان منها ذا مادة كجرح ونحوه، ولا يخالف ما ورد من أن لونها لون الدم؛ لجواز جمعه لكل من الحمرة والصفرة، أو لأن الأمر فيهما تقريبي، وأغزر أفعل تفضيل من الغزارة بالغين والزاي المعجمتين، وهي الكثرة يقال: غزر الماء بالضم غزراً وغزارة فهو غزير، كذا في المصباح (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) وفي نسخة: حسن صحيح، وأورده في الجامع الكبير وزاد بعد قوله: "من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقاً ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد، وقال: في آخره: وريحها ريح المسك، وزاد: ومن خرج به خراج في سبيل الله كان عليه طابع الشهداء" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: صحيح، والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي عن معاذ بن جبل، ورواه ابن ماجه والحاكم في المستدرك إلى قوله: أجر شهيد، وروى أحمد
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: فيمن سأل الله تعالى الشهادة، (الحديث: 2541) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: من جاء فيمن يُكلم في سبيل الله، (الحديث: 1657) .
(2) سورة الروم، الآية: 25.(7/97)
1295- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِشِعبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَة، فَأعْجَبَتْهُ، فَقَالَ: لَو اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأقَمْتُ في هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أفْعَلَ حَتَّى أسْتَأْذِنَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فذكَرَ ذَلِكَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "لاَ تَفعلْ؛ فَإنَّ مُقامَ أَحَدِكُمْ في سَبيلِ اللهِ أفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ في بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَاماً، أَلاَ تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ، وَيُدْخِلَكُمُ الجَنَّةَ؟ أُغْزُوا في سَبيلِ الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وابن زنجويه عن عمرو بن عنبسة مرفوعاً "من قاتل في سبيل الله فواق ناقة حرم الله على وجهه النار" اهـ.
1295- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لم أر من سماه (بشعب) بكسر فسكون، الطريق في الجبل (فيه عيينة) بضم المهملة، وتكسر إتباعاً للياء، تصغير عين وكأنه لقلة مائها وهي مؤنثة تأنيثاً معنوياً فلذا ظهرت التاء حال تصغيره (من ماء) صفة عُينية وكذا قوله (عذبة) بفتح فإسكان أي: سائغة الشراب، قال العاقولي: جيء بها ليلتذ السامع ويستروح إلى ذكرها، فكيف بالكون عندها، (فأعجبته) أي: العين (فقال: لو) للتمني ولذا لم يؤت لها بجواب، ويحتمل أنها للشرط، والجواب محذوف أي لو (اعتزلت الناس) أي: تركت الخلطة معهم (فأقمت في هذا الشعب) منفرداً أتعبد لكان أولى وأفضل، وجملة فأقمت معطوفة على جملة اعتزلت (ولن أفعل) شيئاً من الاعتزال والإِقامة (حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) غاية للفعل لمنفي، وجملة ولن أفعل معطوفة على لو ومدخولها، وفيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من لزوم الأدب معه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان لا يبت (1) أحد منهم أمراً ولو في خاصته حتى يعرض ذلك عليه - صلى الله عليه وسلم -. (فذكر) عطف على مقدر أي فرجع من الشعب فذكر (ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تفعل) هو نهي تنزيه عن المفضول وتحريض على ضده ولذا قال: (فإذا مقام أحدكم) مصدر ميمي أي: قيام أحدكم (في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً) هذا كان في ابتداء الأمر، ومثله ما إذا ألجأ الأمر للجهاد، بأن هجم الكفار على بلاد المسلمين، وخشي استيلاؤهم عليها، فالاشتغال بالجهاد حينئذٍ لما فيه من إنقاذ المسلمين أفضل من صلاة النافلة وذلك؛ لأنه نفع متعد، وأما إذا لم ينته الأمر لذلك فأفضل العبادات البدنية الصلاة كما قاله الجمهور (ألا) بتخفيف اللام أداة عرض (تحبون أن يغفر الله لكم) حذف المفعول؛ إيماءً للتعميم
__________
(1) يبت بضم الباء أي لا يقطع وتقال بالكسر شذوذاً لأن المضعف المكسور لم يتعد إلا قليلاً.(7/98)
القَانتِ بآياتِ الله لا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ، وَلاَ صَلاَةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ المُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللهِ" متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلمٍ.
وفي رواية البخاري: أنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رسول الله، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: "لاَ أجِدُهُ" ثُمَّ قَالَ: "هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتقومَ وَلاَ تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ"؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟! (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معناه لكل ما قبله، ويصح كونها للتعدية متعلقة على سبيل التنازع بالقائم، أو بالقانت ويراد به القارىء، ومنه حديث "أفضل الصلاة طول القنوت" أي: القراءة على أحد قولين فيه أو يراد به المطيل للقيام. قال العاقولي: يطلق القنوت على القيام وعلى طوله، وقوله (لا يفتر) بضم الفوقية أي: لا يغفل (من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله) أتى بالظرف إطناباً. (متفق عليه وهذا لفظ مسلم) في أواخر الجهاد من صحيحه (وفي رواية البخاري) أي: واللفظ في روايته، بنحو رواية مسلم وهو قوله: (أن رجلاً) قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه (قال: يا رسول الله دلني على عمل) التنوين فيه للتعظيم باعتبار ثوابه (يعدل الجهاد) بفتح التحتية (قال: لا أجده) أي: لا أجد عملاً يعدله من حيث الثواب، وهذا جواب السؤال (ثم قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - مستأنفاً مخاطباً للسائل عن ذلك (هل تستطِيع) أي: تقدر (إذا خرج المجاهد) أي: للحرب (أن تدخل مسجدك فتقوم) بالنصب عطفاً على الفعل قبله، وكذا الأفعال التي بعده (ولا تفتر) أي: تسكن عن حدتك قال في المصباح: فتر عن العمل فتوراً من باب قعد سكن عن حدته، ولان بعد شدته (وتصوم ولا تفطر) أي: تداوم على الصلاة والصوم مدة غيبته عن أهله (فقال) أي: ذلك الرجل (ومن يستطيع ذلك) استفهام إنكاري أي: لا طاقة بذلك، وهذا باعتبار العادة البشرية المألوفة، وإلا فذلك داخل تحت الإِمكان لا سيما لأرباب المجاهدات. قال السيوطي في التوشيح: ْإن قيل تقدم حديث ما لعمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام يعني أيام العشر عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله. أجيب بأنه يحتمل أن يخص بهذا الحديث حديث الباب أو يحمل على ما في تتمة الحديث: إلا رجل خرج يخاطر بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك بشيء.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: فضل الجهاد والسير، (الحديث: 2785) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، (الحديث: 110) .(7/100)
1297- وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي القَتْلَ وَالمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ في غُنَيْمَةٍ في رَأسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذَا الشَّعَفِ، أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِن الأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَيُؤتي الزَّكَاةَ، وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأتِيَهُ اليَقِينُ، لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ في خَيْرٍ" رواه مسلم (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1297- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من خير معاش) أي: ما يعيش به (الناس لهم) الظرف الأول في محل الخبر لقوله (رجل ممسك بعنان فرسه) على تقدير مضاف أي: معاش رجل، والعنان بكسر المهملة وتخفيف النون بينهما ألف، اللجام. قال في المصباح: سمي بذلك لأنه يعن أي: يعترض الفم فلا يلجه، والظرف الثاني في محل الحال من الاستقرار في الأول (في سبيل الله) حال من ضمير ممسك (يطير) بفتح التحتية الأولى وسكون الثانية أي: يسرع (على متنه) بفتح فسكون للفوقية وبعدها نون أي: ظهره (كلما سمع هيعة) بنصب كل على الظرفية لطار المذكور بعد، والهيعة بفتح فسكون التحتية بعدها عين مهملة، هي الصوت للحرب (أو) للشك من الراوي (فزعة) قال المصنف: فيما تقدم هي نحو الهيعة (طار على متنه) وقوله: (يبتغي) أي: يطلب بإسراعه لذلك (القتل أو الموت) شك من الراوي، أي: في اللفظين الواردين، وعلى الثاني ففيه إيماء لفضل الموت في الحرب، ولو بغير القتل فبه أولى (مظانه) بفتح الميم والظاء المعجمة، وتشديد النون منصوب على الظرفية، أي: يطلبه في المحل الذي يظن وجوده فيه طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى (ورجل) معطوف على المبتدأ بتقدير المضاف (في غنيمة) صفة لما قبله، أو متعلق بمعاش المقدّر إن جعل مصدراً، وهو تصغير غنم، وهي مؤنث معنوي فلذا برزت التاء في ْالتصغير (في رأس شعفة) بفتح الشين المعجمة والعين المهملة وبالفاء فالهاء (من هذه الشعف) في محل الصفة للمجرور قبله، أي: في أعلا جبلِ من هذه الجبال (أو) للتنويع في بطن واد من هذه الأودية) وذلك لتيسر الخلوة فيهما غالباً، وقوله: (يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويعبد ربه) هو من عطف العام على الخاص (حتى يأتيه اليقين) أي: الموت جمل في محل الحال من الاستقرار في الظرف الوصفي (ليس من الناس) أي: من أحوالهم في حال من الأحوال (إلا في) حال (خير) فهو استثناء متصل مما قبله باعتبار المضاف المقدر (رواه مسلم) وتقدم مشروحاً في باب استحباب العزلة عند فساد الزمان.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الجهاد والرباط، (الحديث: 125) .(7/101)
1298- وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ في الجنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ" رواه البخاري (1) .
1299- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبّاً، وَبِالإسْلاَمِ ديناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ"، فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رسولَ اللهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا العَبْدَ مِئَةَ دَرَجَةٍ في الجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَينِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ",
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1298- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله) الجملة الفعلية محتملة؛ لكونها خبرًا بعد الخبر الظرفي؛ ولكونها حالاً من الاستقرار في الخبر فتكون على تقدير قد ولكونها مستأنفة، وفيه عظيم فضل المجاهد وعظم عناية الله به، وأتى بلفظ الجلالة آخراً والمقام للإِضمار إظهاراً لتفخيم الجهاد إذا أضيف إلى الاسم العلم الأعظم (ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) ما فيهما موصول اسمي وصلته في كل منهما الظرف، والمراد بذلك بيان علو منزلتهم في الجنة ورفعة مقامهم فيها (رواه البخاري) .
1299- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من رضي بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد رسولاً وجبت له الجنة) أي: بدخولها إما ابتداءً مع الناجين أو بعد مكث في النار، ففيه إيماء إلى الموت على الإِسلام (فعجب لها أبو سعيد) اللام فيه للتعليل (فقال: أعدها علي يا رسول الله) استلذاذاً بذكر المحبوب (فأعادها عليه ثم قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (وأخرى) أي: خصلة أخرى من البر (يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة) ظرفاً لعفو، متعلق بيرفع (ما بين كل درجتين) من المائة (كما بين السماء والأرض) جملة اسمية مسوقة لبيان عظم رفعة المجاهد، وعظم رتبته. قال السيوطي في الديباج: قال القاضي عياض: يحتمل أن هذا على ظاهره وأن الدرجات هناك المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر، وهذه صفة منازل الجنة، كما جاء أهل الغرف وأنهم ليراءون كالكوكب الدري قال: يحتمل أن يكون المراد بالرفعة الرفعة في المعنى من كثرة تعدد النعم وعظيم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: درجات المجاهدين لا سبيل الله (6/9 و10) .(7/102)
قَالَ: وَمَا هيَ يَا رسول الله؟ قَالَ: "الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، الجهَادُ في سَبيلِ اللهِ" رواه مسلم (1) .
1300- وعن أَبي بكر بن أَبي موسى الأشعريِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبي - رضي الله عنه -، وَهُوَ بَحَضْرَةِ العَدُوِّ، يقول: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أبْوَابَ الجَنَّةِ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإِحسان مما لا يخطر على قلب بشر ولا يصفه مخلوق، وأن أنواع ما أنعم الله به عليهم من البر والكرامة تتفاضل تفاضلاً كثيراً، ويكون تباعدها في الفضل كما بين السماء والأرض في البعد. قال القاضي: والأول أظهر. قال المصنف: وهو كما قال والله أعلم، وقال القرطبي: ْالدرجة المنزلة الرفيعة، ويراد بها غرف الجنة ومراتبها التي أعلاها الفردوس. قال: ولا يظن من هذا أن درجات الجنة محصورة بهذا العدد؛ بل هي أكثر من ذلك ولا يعلم حصرها ْإلا الله تعالى، ألا ترى أن في الحديث الآخر يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها. فهذا يدل على أن في الجنة درجات عدد آي القرآن وهي تنوف على ستة آلاف، فإذا اجتمعت للإِنسان فضيلة الجهاد مع فضيلة القرآن جمعت له تلك الدرجات كلها وهكذا ما زادت أعماله اهـ (قال) أي: أبو سعيد (وما هي) أي: الخصلة المشار إليها بما ذكر (يا رسول الله قال: الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله) كرره تعظيماً له وتحريضاً عليه، وهو بالرفع خبر محذوف أي: هو اكتفاءً بدلالة وجوده في السؤال (رواه مسلم) في الجهاد من صحيحه، ورواه فيه النسائي وكذا في عمل اليوم والليلة له.
1300- (وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري) . قال الحافظ في التقريب: إسمه عمرو أو عامر، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة ست ومائة، وكان أسن من أخيه أبي بردة. خرج من حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (قال: سمعت أبي رضي الله عنه وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف) قال القرطبي: هذا من الكلام النفيس البديع، فإنه استفيد منه الحض على الجهاد والإِخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدو، واستعمال السيوف والاعتماد عليها، واجتماع المتقاتلين حين الزحف بعضهم لبعض، حتى تكون سيوفهم بعضها تقع على العدو وبعضها
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان ما أعده الله تعالى للمجاهدين في الجنة من الدرجات، (الحديث: 116) .(7/103)
فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الهَيْئَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى أأنْتَ سَمِعْتَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَجَعَ إِلَى أصْحَابِهِ، فَقَالَ: أقْرَأُ عَلَيْكُم السَّلاَمَ، ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فَألْقَاهُ، ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى العَدُوِّ فَضَربَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم (1) .
1301- وعن أَبي عبسٍ عبد الرحمان بن جَبْرٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ترتفع عليهم، حتى كأن السيوف أظلت الضاربين بها، والمراد أن الضارب بالسيف في سبيل الله يدخله الله الجنة بذلك. اهـ ملخصاً وتقدم سوقه بلفظه في آخر باب الصبر (فقام رجل رث الهيئة) بفتح الراء وتشديد المثلثة، أي: خلق الثياب، وهذا الرجل لم أقف على اسمه لا في شرح مسلم للمصنف ولا في شرح غيره (فقال: يا أبا موسى أأنت) بتخفيف الهمزتين، ويجوز تسهيل الثانية بقلبها ألفاً، كما هو كذلك في أصل مصحح من الرباض، وفي أخرى بألف واحدة بلا مد، وهو على نية حذف همزة الاستفهام (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هذا) أراد بهذا الاستفهام المبالغة في تحقيق الخبر وقلة الوسائط بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن كثرتها مظنة الغلط والسهو وإلا فمرسل الصحابي حجة، كما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عبرة بمن خالف فيه، فألحقه بمرسل غيره (قال: نعم فرجع إلى أصحابه) وكأنه ليوصيهم بما عليه الوصية به ويودعهم ولذا قال: (فقال: أقرأ عليكم السلام) أي: مودعاً لكم (ثم كسر جفن سيفه) بفتح الجيم وسكون الفاء وبالنون أي: غلافه، وجمعه جفون وقد يجمع على جفان (فألقاه) وإنما فعل ذلك قطعاً لطمع نفسه من الحياة، وإيئاساً لها من العود (ثم مشى بسيفه إلى العدو) لكفرة المقاتلين (فضرب به حتى قتل) بالبناء للمجهول، وحتى غاية لاستمرار مقدر (رواه مسلم) قال المنذري في الترغيب: ورواه مسلم والترمذي وغيرهما.
1301- (وعن أبي عبس) بفتح المهملة وسكون الموحدة، فسين مهملة، كنية (عبد الرحمن بن أجبر) بفتح الجيم وسكون الموحدة، ابن ريد بن جثم الأنصاري (رضي الله عنه) وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: معدٍ حكاه الحافظ في التقريب، وفيه: أنه صحابي شهد بدراً وما بعدها، ومات سنة أربع وثلاثين، عن سبعين سنة خرج حديثه البخاري والترمذي والنسائي. اهـ روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث الباب (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار) بالنصب بأن في جواب النفي، وفيه بشارة للمجاهد
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، (الحديث: 146) .(7/104)
لاَ تَمسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبيلِ اللهِ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1304- وعن زيد بن خالد - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ جَهَّزَ غَازياً في سَبيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شخصان، فهو من التعبير باسم الجزء الأشرف عن الكل، ويحتمل على بعد أنه إن دخل فيها لا تتألم العين بالعذاب (لا تمسها النار عين بكت من خشية الله) أي: لخشيته، فمن تعليلية ويجوز كونها ابتدائية، والخشية الخوف الناشىء عن تعظيم ومعرفة، ولذا خصّها الله تعالى بالعلماء قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (2) (وعين باتت تحرس في سبيل الله) شامل لمن حرس الجيش من عدو، ومن حرس الثغر بالرباط فيه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أبو يعلى والضياء من حديث أنس، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث أنس أيضاً، لكن بلفظ "عينان لا تريان النار أبداً عين بكت في جوف الليل من خشية الله، وعين باتت تكلأ في سبيل الله".
1304- (وعن زيد بن خالد) هو الجهني (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من جهز غازياً في سبيل الله) بأن أعانه بآلات السفر من زاد ونفقة ومركوب وآلته أو بشيء من ذلك (فقد غزا) يفسره ما رواه ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من جهز غازياً حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع " وما اقتضاه من ترتب الأمر على الاستقلال المقتضي لتمام التجهيز غير مقيد؛ لإِطلاق التجهيز في حديث الباب الشامل للقليل منه والكثير؛ لأن حديث ابن ماجه ضعيف؛ لأن فيه وائلة، وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من جهز غازياً أو خلفه في أهله بخير فإنه ّمعنا". وأخرج الطبراني عن زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جهز غازياً فله مثل أجره ومن خلف غازياً في أهله بخير أو أنفق على أهله فله مثل أجره" (ومن خلف) بفتح المعجمة وتخفيف اللام وبالفاء (غازياً في أهله بخير) بأن قام بحوائجهم أو بعضها، يقال: خلف فلان فلاناً إذا كان خليفته (فقد غزا) أي: أنه مثله في الأجر، وإن لم يغز حقيقة قاله ابن حبان،
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله، (الحديث: 1639) .
(2) سورة فاطر، الآية: 28.(7/106)
وَمَنْ خَلَفَ غَازياً في أهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الطبراني: فيه أن من أعان مؤمناً على عمل فللمعين عليه مثل أجر العامل، ومثله الإِعانة على معاصي الله تعالى للمعين عليها من الوزر ثقل ما على العامل منه، وقال القرطبي: ذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في هذا الحديث وشبهه إنما هو بغير تضعيف قال: لأنه يجتمع في تلك الأشياء أفعال أخر وأعمال من البر، لا يفعل الدال الذي ليس عنده إلا مجرد النية الحسنة، وقد قال: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير فله مثل نصف أجر الخارج، وقد قال: لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما، والحديث أخرجه مسلم. قال القرطبي: ولا حجة في هذا الحديث لوجهين:
أحدهما: أنه لم يتناول محل النزاع وهو أن ناوي الخير والمعروف هل له مثل أجر فاعله من غير تضعيف أو به، وهذا الحديث إنما اقتضى المشاركة والمشاطرة في العمل المضاعف فانفصلا.
ثانيهما: أن القائم على مال الغازي وأهله نائب عنه في عمل لا يتأتى له الغزو إن لم يكن ذلك العمل فصار كأنه باشر معه الغزو، فليس مقتصراً على النية فقط بل هو عامل في الغزو، ولما كان كذلك كان له مثل أجر الغازي كاملاً وافراً مضاعفاً، بحيث إذا أضيف ونسب إلى أجر الغازي كان نصفاً له، وبهذا يجمع بين حديث "من خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا" وقوله في الحديث الثاني: "فله مثل نصف أجر الغازي ويبقى للغازي النصف" فإن الغازي لم يطرأ عليه ما يوجب تنقيص ثوابه، وإنما هذا كما قال: من فطر صائماً كان مثل أجر الصائم لا ينقص من أجره شيء. اهـ وعليه فقد صارت كلمة نصف مقحمة هنا بين مثل وأجر وكأنها زيادة ممن تسامح في إيراد اللفظ، بدليل قوله في الرواية الأخرى: والأجر بينهما، وأما إن تحقق عجزه وصدقت نيته، فلا ينبغي أن يختلف في أن أجره يضاعف كأجر العامل المباشر قاله العيني (متفق عليه) قال السيوطي في الجامع الكبير: ورواه أحمد وعبد بن حميد وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن حبان عن زيد بن خالد، وأخرجه الدارمي والطبراني عنه بزيادة في آخره، ورواه ابن ماجه عنه بلفظ "من جهز غازياً في سبيل الله كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الغازي شيئاً" ورواه ابن ماجه أيضاً " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفظ "من جهز غازياً حتى يستقل كان له مثل أجره حتى
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: فضل من جهز غازياً وخلفه بخير (6/37) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله ... (الحديث: 135) .(7/107)