أي يمنعون. في «المصباح» يقال ترك حقه إذا أسقطه اهـ. فيؤخذ من التعبير به أن لهم الحق في ذلك وأن المانع لهم ساع في إسقاط حقهم. وفي الحديث أن القربة قد يقترن بها ما يخرجها عن ذلك، وفيه الاحتياط والتحرز عن الموبقات، وفيه مراعاة الفقراء والتلطف بهم، وفيه النهي عن الركون إلى الأغنياء وتعظيمهم لغناهم، فقد ورد «من عظم غنياً لغناه ذهب ثلثا دينه» وذلك لأن أعمال العبادة باللسان والجنان والأركان فهذا استعمل لغرض نفسه ثلثي ما يستعمل في العبادة فأثنى على ذلك بلسانه بالباطل وأكرمه بجوارحه طمعاً فيما عنده وغفله عن أبي الذي ينبغي أن يتوجه إليه العبد على كل حال هو الله الموصوف بأنواع الكمال، قالوا: فإن جمع إلى تعظيمه بلسانه وأركانه تعظيمه بجنانه ذهب جميع دينه والمراد التعظيم المنهى عنه، أما شكره لكونه مظهراً للفيض الرباني فلا منع منه بل هو مأمور به، قال: «لا يشكر الله
من لا يشكر الناس» وقال: «من صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فكافئوه بالدعاء» .
2678 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه) ناقلاً (عن النبي قال: من عال جاريتين) أي قام عليهما بالمؤنة والتربية ونحوهما مأخوذ من العول وهو العون ومنه: «ابدأ بمن تعول» وفي «المصباح» : عال الرجل اليتيم عولاً من باب قال كفله وقام به (حتى تبلغا) بالفوقية أي تصيرا بالغتين. قال في «المصباح» : بلغ الصبي بلوغاً من باب قعد: احتلم وأدرك، وقال ابن القطاع: بلغ بلاغاً فهو بالغ والجارية بالغ أيضاً بغير تاء، قال ابن الأنباري يقال جارية بالغ فاستغنوا بذكر الموصوف وبتأنيثه عن تأنيث صفته كما يقال امرأة حامل، قال الأزهري: وكان الشافعي يقول جارية بالغ وسمعت العرب تقوله، وهذا التعليل والتمثيل يفهم أنه لو لم يذكر الموصوف وجب التأنيف دفعاً للبس اهـ. ثم بلوغها إما بالسن أو بالحيض أو بالاحتلام ويقدر بلوغها قبل الولادة بستة أشهر، قال القرطبي ويعني ببلوغهما وصولهما إلى حال يستقلان بأنفسهما وذلك إنما يكون في النساء إلى أن يدخل بهن أزواجهن فلا يعني به بلوغهما إلى أن تحيض وتكلف إذ قد تتزوج قبل ذلك فتستغني بالزوج عن قيام الكافل، وقد تحيض وهي غير مستقلة بشيء من مصالحها ولو تركت لضاعت وفسدت أحوالها، بل هي في هذه الحالة أحق بالصيانة والحفظ والقائم عليها لتكمل صيانتها فيرغب في تزويجها ولهذا المعنى قال علماؤنا لا تسقط النفقة عن والد الصبية ببلوغها بل بدخول الزوج بها اهـ. (جاء يوم القيامة) معي وبقربي (أنا وهو)(3/86)
أي مقرونان فالخبر محذوف وجوباً لدلالة واو المعية عليه وقيامها مقامه، قال ابن مالك في «شرح المشارق» : أنا مبتدأ وهو معطوف عليه وخبره هكذا أي المصرح به في روايته والجملة حال بغير واو أي جاء مصاحباً لي، وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره جاء هو وأنا لأن في جاء ضمير يعود إلى من فكلمة هو تأكيد له وأنا
معطوف عليه، وقدم لشرفه ولكونه أصلاً في تلك الخصلة اهـ. وعلى الأول فالخبر مقدر وهو كهاتين وقد صرح في رواية من حديث أنس وهي عند البخاري وجاءت في حديثه بلفظ «من عال جاريتين حتى يدركا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين» قال السيوطي في «الجامع الصغير» أخرجه مسلم والترمذي وبين ذلك المقدر قول الصحابي (وضم أصابعه) مبيناً لذلك القرب المشار إليه بالمقدر (رواه مسلم) في كتاب الأدب ثم فسر المصنف (الجاريتين) المذكورتين في الخبر بقوله (أي بنتين) ولا يظهر وجه قصر الجاريتين في الخبر على البنتين فإن الجارية في اللغة لا تختص بالبنت، قال في «المصباح» : الجارية السفينة، سميت بذلك لجريها في البحر، ومنه قيل للأمة جارية على التشبيه لجريها مسخرة في أشغال مواليها، والأصل فيها الشابة لخفتها، ثم توسعوا حتى سموا كل أمة جارية وإن كانت عجوزاً لا تقدر على السعي تسمية بما كانت عليه اهـ. وأصرح منه ما في «المعرب» للمطرزي الجريّ بوزن الوصي الوكيل لأنه يجري في أمور موكله والجمع أجرياء، ومنه الجارية لأنثى الغلام لخفتها وجريانهم بخلاف العجوز اهـ. فلا يختص الفضل المذكور في الخبر بالبنتين بل يعمهما وغيرهما. ففي «مسند الفردوس» للديلمي عن أبي المحبر قال: قال رسول الله: «من عال بنتين أو أختين أو خالتين أو جدتين أو عمتين فهو معي في الجنة كهاتين» الحديث أخرجه أحمد في «المسند» .
2689 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت) بتسكين التاء وهي الدلالة على تأنيث الفاعل وقوله (عليّ) بتشديد الياء متعلق به و (امرأة) فاعل وفي «المصباح» ، الأنثى امرأة، وفيها لغة أخرى مرأة بوزن تمرة، ويجوز نقل حركة الهمزة إلى الراء فتحذف وتبقى مرة بوزن سنة، وربما قيل أمرء بغير هاء اعتماداً على قرينة تدل عن المسمى. قال الكسائي:(3/87)
سمعت امرأة من فصحاء العرب تقول: أنا امرء أريد الخير، بغير هاء وجمعها نساء ونسوة من غير لفظها اهـ. وهذه المرأة وبنتاها لم أقف على من عينهن من شرّاح الصحيحين ولا غيرهما. قال الشيخ زكريا لم تعرف أسماؤهن (ومعها ابنتان) جملة حالية وتعدد الرابط، وقوله (لها) في محل الصفة وجملة (تسأل) مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن قائلاً يقول: ما سبب دخولها بمن معها؟ فقالت: تسأل (فلم تجد عندي شيئاً) من مطلوبها الذي تعرضت له بالسؤال (غير تمرة واحدة) أكدت مفهوم الواحدة الدال عليها التاء في تمرة دفعاً لتوهم أنها للتأنيث لا للواحدة و «وواحدة مما انفرد بها مسلم عن البخاري فلم يذكرها في الحديث في كتاب الزكاة (فأعطيتها) أي المرأة (إياها) أي التمرة. قال في «فتح الباري» : فيه مزيد حرص عائشة رضي الله عنها على الصدقة امتثالاً لوصية النبي لها بقوله: «لا يرجع من عندك سائل ولو بشق تمرة» رواه البزار (فقسمتها) بتخفيف السين: أي الثمرة (بين ابنتيها ولم تأكل منها) أي التمرة وفي نسخة «شيئاً» وهذا منها محتمل لكونه لداعي الثواب لكونه لذلك ولداعي الطبع أيضاً، فإن طبع الوالد إيثار الولد بذلك، فيؤخذ منه على الاحتمال الأخير حصول الثواب فيه، ويؤيده حديث سعد السابق في باب الإخلاص «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك» (ثم قامت) أي منصرفة (فخرجت) ولعل حكمة الإتيان بثم في الأول وبالفاء في الثاني أنها كانت راجية حصول شيء غير التمرة فأطالت الجلوس لانتظاره، فلما غلب على
ظنها عدم ذلك قامت فعقبت قيامها بخروجها (فدخل النبي علينا) أي أهل المنزل الشامل لها ولمن عندها من خادم وجليس، فالنون على حقيقتها ويحتمل أن يكون الضمير استعملته في نفسها على انفرادها تعظيماً لكونها من أمهات المؤمنين وزوجات سيد المرسلين لا لذاتها، وقالت بالنظر لذاتها متواضعة كما هو مقتضى عظيم شأنها ومزيد فضلها (فأخبرته) وحذفت المفعولين الأخيرين لدلالة السياق عليهما (فقال: من ابتلي) بضم الفوقية مبنى للمجهول أي امتحن واختبر، وسماه ابتلاء لموضع الكراهة لهن (من هذه البنات) من فيه بيان لقوله (بشيء) وهو نائب الفاعل: أي بأنفسهن أو أحوالهن. قال القرطبي: يفيد بعمومه أن الستر من النار يحصل بالإحسان إلى واحدة من البنات، فإذا عال زيادة على الواحدة فيحصل له زيادة على الستر السبق مع النبي إلى الجنة كما في الحديث السابق «من عال جاريتين» إلخ (فأحسن إليهن) هذه الجملة عند مسلم، وعند(3/88)
البخاري في كتاب الأدب وليست عنده في كتاب الزكاة، وإحسانه إليهن: صونهن والقيام بمصالحهن والنظر في أصلح الأحوال لهن، فمن فعل ذلك قاصداً به وجه الله تعالى: (كنّ له ستراً) أي سبب ستر (من النار) ولم يقل أستاراً لأن المراد الجنس المتناول للقليل والكثير، ولا شك أن من لم يدخل النار دخل الجنة، وقد جاء في الحديث الآخر في المرأة التي قسمت التمرة بين بنتيها «قد أوجب الله لها الجنة وأعاذها من النار» والحديث عند مسلم (متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة والأدب، ورواه مسلم في الأدب، ورواه الترمذي في البرّ والصلة وفي «الجامع الصغير» بعد ذكر المرفوع منه الرمز لمن ذكر وزاد أحمد.
26910 - (و) روي (عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني مسكينة) مأخوذ من السكون: أي ذهاب الحركة وهو بفتح الميم في لغة بني أسد وبكسرها عند غيرهم. قال ابن السكِّيت: المسكين الذي لا شيء له، والفقير الذي له بلغة من العيش، وكذا قال يونس وجعل الفقير أحسن حالاً من المسكين قال: وسألت أعرابياً أفقير أنت؟ قال: لا وا بل مسكين، وقال الأصمعي: المسكين أحسن حالاً من الفقير، وهو الوجه لأن الله تعالى قال: {أما السفينة فكانت لمساكين} (الكهف: 79) وكانت تساوي جملة. وقال في حق الفقراء: {لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} (البقرة: 273) وقال ابن الأعرابي: المسكين هو الفقير وهو الذي لا شيء له فجعلهما سواء، والمسكين أيضاً الذليل وإن كان غنياً والمرأة مسكينة، والقياس حذف الهاء لأن بناء مفعيل ومفعال في المؤنث لا تلحقه هاء نحو امرأة معطير ومسكان لكنها حملت على فقيرة فدخلت الهاء كذا في «المصباح» (تحمل ابنتين لها) أي تسأل كما تقدم في الرواية قبلها وحذف لدلالة الحال عليه/ وكذا ظاهر قولها (فأطعمتها ثلاث تمرات) بفتح الفوقية والميم جمع تمرة بسكونها كسجدة وسجدات (فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة(3/89)
لتأكلها) بحق القسمة (فاستطعمها) وفي نسخة فاستطعمتها وفي نسخة فاستطعمتها بإثبات التاء (ابنتاها) حذف المفعول الثاني لاستطعم: أي استطعمتها التمرة الثالثة أي طلبتا منها أن تطعمهما إياها (فشقت التمرة) أي شقين (التي كانت تريد أن تأكلها) وقولها (بينهما) متعلق بمحذوف أي وقسمتها (فأعجبني شأنها) لما فيه من الإيثار على النفس بحظوظها ورحمة الصغار ومزيد الإحسان والرفق بالبنات طلباً لوجه الله تعالى، وفي «مفردات الراغب» : الشأن الحال والأمر الذي يتفق ويصلح ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور اهـ. (فذكرت التي صنعت) بتاء التأنيث أي الخصلة التي، وفي نسخة «الذي» أي الأمر الذي (لرسول الله)
والإتيان بالفاء الدالة على التعقيب، إما لكونه كان بالمنزل إلا أنه لم ير ذلك أو لدخوله عقب صدور ذلك منها كما جاء كذلك فيما قبله (فقال: إن الله قد أوجب لها) أي للمرأة (بها) أي بهذه الفعلة (الجنة) بفضله لما عندها من الرحمة والشفقة وذلك سبب لحلول الرحمة قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة» (أو) شك من الراوي، ويحتمل كونها بمعنى الواو (أعتقها بها من النار) لإعتاقها نفسها من الركون إلى الدنيا والغفلة عن جانب الله بالإيثار للصغار ورحمة لهم (رواه مسلم) في الأدب من صحيحه.
27011 - (وعن أبي شريح) بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية بعدها حاء مهملة (خويلد) بضم المعجمة وفتح الواو وسكون التحتية آخره دال مهملة (ابن عمرو) بن صخر بن عبد العزى بن معاوية بن المحترس بن عمرو بن مازن بن عمرو بن ربيعة (الخزاعي) نسبة إلى خزاعة قبيلة، وما ذكره من أن اسمه (رضي الله عنه) خويلد هو قول الأكثر وقيل اسمه كعب بن عمرو، وقيل عبد الرحمن بن عمرو، وقيل عمرو بن خويلد، وقيل هانىء نزل المدينة وأسلم قبل الفتح، وتوفى بالمدينة سنة ثمان وستين كما قاله ابن سعد، وأخرج ابن الأثير في الكنى من «أسد الغابة» عن المقدام بن شريح بن هانىء(3/90)
عن أبيه قال: قدم هانىء على رسول الله في وفد بني الحارث بن كعب وكان يكنى أبا الحكم فقال: كانوا إذا كان بينهم شيء حكموني فرضوا لحكمي فكنوني أبا الحكم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيّ ولدك أكبر؟ فقلت: شريح؟ فقال: أنت أبو شريح. قيل إن النبي دعا له ولولده وهو والد شريح بن هانىء صاحب علي بن أبي طالب يعد في أهل الكوفة، وما ذكر من أنه خزاعي هو أحد ما قيل فيه. قيل كعبيّ، وقيل عدوي قال المصنف في «التهذيب» : كان يوم فتح مكة حاملاً أحد ألوية بني كعب، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرون حديثاً، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديث واحد اهـ. (قال قال رسول الله: اللهم) أصله كما تقدم يا أعلى الصحيح وهو قول البصريين، فحذف حرف النداء وعوض عنه الميم المشددة في الآخر، ولذا لا يجمع بينهما إلا ضرورة نحو: أقول يا اللهم يا اللهما (إني أحرّج) بتشديد الراء تفعيل من الحرج: وهو الإثم والصيغة للمبالغة (حق الضعيفين) أي ما يستحقانه بملك أو غيره كاختصاص ولذا عبر به دون مال وليشمل سائر الحقوق المالية وغيرها (اليتيم) هو من بني آدم من لا أب له وهو دون البلوغ كما مرّ قريباً (والمرأة) بوزن التمرة، وتقدم أنها لغة، وإنما حرّج حقهما وبالغ في المنع منه لأنهما
لا جاه لهما يلتجئان إليه ويحاجّ عنهما سوى المولى سبحانه وتعالى/ فالمتعرض لهما كالمخفر في عهده فهو حقيق بأنواع الوبال، وهذا بخلاف الكامل من الرجال فإن الغالب منهم من يعتمد على قوته أو قوة من يركن إليه ويعول في أمره عليه من مخلوق ذي أمر صورى، ومن اعتزّ بغير الله ذلّ (حديث حسن) هو مشارك للصحيح في اعتبار اتصال السند وعدالة الرواة وضبطهم وانتفاء الشذوذ والعلة القادحة كما تقدم أواخر شرح خطبة الكتاب، إلا أن المعتبر من هذه الأوصاف في الصحيح أعلاها، وفي الحسن مسماها، وهذا من المصنف بناء على ما مشى عليه هو والمتأخرون من إمكان التصحيح والتضعيف والتحسين من الأئمة المتأخرين وخالف فيه ابن الصلاح (رواه النسائي بإسناد جيد) أراد من الإسناد الرواة وتارة يسمون ذلك بالسند ويطلقون الإسناد على رفع الحديث لقائله فلذا قال السيوطي: والسند الإخبار عن طريق متن والإسناد لذي فريق. قال السيوطي في شرح ألفيته في علم الأثر نقلاً عن الحافظ ابن حجر. قال بعد نقله الكلام عن ابن الصلاح: هذا يدل على أن ابن الصلاح يرى التسوية بين الجيد والصحيح. وكذا قال البلقيني في محاسن الاصطلاح بعد أن نقل ذلك ومن ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها عن الصحة، وكذا قال غيره لا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم إلا أن الجيد منهم لا يعدل(3/91)
عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة، كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ويتردد في بلوغه الصحيح. فالوصف به أنزل من الوصف بصحيح اهـ. (ومعنى أحرج ألحق الحرج وهو الإثم بمن ضيع حقهما) فالتفعيل فيه للنسبة نحو فسقت زيداً: أي نسبته إليه وقوله ضيع حقهما يقتضي أنه لو ضاع بسكونه وكان لا مانع به من الكلام شرعاً دخل في الحرج وقوله: (وأحذر من ذلك تحذيراً بليغاً وأزجر عنه زجراً أكيداً) ليس مدلول قوله أحرّج وإنما أخذه المصنف من دلالة السياق عليه وأكيد بمعنى متأكد.
27112 - (وعن مصعب) بضم أوله وسكون الصاد المهملة وفتح المهملة بعدها موحدة (ابن سعد ابن أبي وقاص) بتشديد القاف وآخره صاد مهملة: وهو مالك بن وهيب ويقال أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن كعب بن لؤي القرشي الزهري التابعي المدني سمع أباه وعلي بن أبي طالب وابن عمر، روى عنه مجاهد وأبو إسحاق السبيعي وآخرون واتفقوا على توثيقه. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، توفي سنة مائة وثلاث (قال: رأى) أي ظن وهي رواية النسائي كما في «فتح الباري» (سعد) يعني أباه (أن له فضلاً على من دونه) زاد النسائي من أصحاب رسول الله: أي بسبب شجاعته أو نحو ذلك (فقال: النبي: هل تنصرون وترزقون) ببنائهما للمفعول (إلا بضعفائكم؟) جمع ضعيف ويجمع على ضعاف أيضاً، وفي رواية النسائي «إنما نصر هذه الأمة بضعفتهم بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم» وله شاهد من حديث أبي الدرداء عند أحمد والنسائي بلفظ: «إنما تنصرون وترزقون بضعفاكم» قال ابن بطال: تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصاً في الدعاء وأكثر خشوعاً في العبادة لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا. وقال المهلب: أراد بذلك حض سعد على التواضع ونفي الزهو على غيره وترك احتقار المسلم في كل حالة. وقد روى عبد الرزاق من طريق مكحول في قصة سعد هذه زيادة مع إرسالها فقال: «قال سعد: يا رسول الله أرأيت رجلاً يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبه كنصيب غيره؟ فذكر الحديث، وعلى هذا فالمراد(3/92)
بالفضل الزيادة من الغنيمة، فأعلمه أن سهام المقاتلة سواء، فإن كان القويّ يترجح بفضل شجاعته فإن الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه (رواه البخاري) في كتاب الجهاد (هكذا) من طريق محمد بن طلحة بن مصرف عن أبيه عن مصعب (مرسلاً) لعدم إدراك مصعب لزمن القصة كما قال (فإن مصعب بن سعد تابعي) فحذف منه الصحابي (ورواه الحافظ أبو بكر) أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب (البرقاني) بفتح الموحدة والقاف بينهما راء ساكنة وبعد الألف
نون نسبة إلى برقان: قرية بنواحي خوارزم كذا في «اللباب» للسيوطي، زاد الأصبهاني: وفي «لب اللباب» له البرقاني نسبة إلى قرية من قرى كانت بنواحي خوارزم خربت، والمشهور منها الإمام أبو بكر أحمد بن محمد البرقاني الخوارزمي الفقيه المحدث الأديب الصالح (في صحيحه متصلاً عن مصعب عن أبيه) وكذا هو عند النسائي من طريق مسعر عن طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه ظن أن له فضلاً الحديث. قال الحافظ ابن حجر في «النكت الظراف على الأطراف» بعد أن بين اختلاف الرواة في ذكر لفظة «عن أبيه» وحذفها في طريق محمد بن طلحة أيضاً ما لفظه: قال الدارقطني: المحفوظ عن محمد بن طلحة مرسل كما عند البخاري، قال: ولم يسمع محمد بن طلحة من أبيه، والصواب رواية مسعر، يعني التي أخرجها النسائي، قال: وتابعه زبيد وليث على وصله اهـ.
27213 - (وعن أبي الدرداء) بفتح الدالين المهملتين وسكون الراء بينهما وبالمد كنيته (عويمر) بالمهملة تصغير عامر، وقيل إن اسمه مكبراً، ابن قيس بن زيد بن أمية بن مالك بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث الأنصاري (رضي الله عنه) قال ابن قدامة في كتاب «أنساب الأنصار» : وقيل في نسبه غير هذا، تأخر إسلامه قليلاً، شهد ما بعد أحد من المشاهد، واختلف في شهوده أحداً، وكان فقيهاً عاقلاً حكيماً عالماً آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سلمة كما تقدم في باب الاقتصاد من حديث أبي جحيفة بذلك عند البخاري.
روى عن النبي أنه قال: «عويمر حكيم أمتي» وعن أبي ذر قال: «ما حملت» ورقاء ولا أظلت خضراء أعلم منك يا أبا الدرداء» وعن خالد بن معدان قال: كان ابن المبارك يقول: حدثونا عن العالمين العاملين: معاذ، وأبي الدرداء. وله حكم مشهورة(3/93)
توفي في خلافة عثمان سنة نيف وثلاثين، وقبره في مقبرة الشهداء يزار. قال المصنف روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وتسعة وسبعون حديثاً اتفقا على حديثين منها وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بثمانية اهـ. وقال المصنف في «التهذيب» روى عنه جماعة الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وخلائق من التابعين اهـ.
(قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ابغوني) بكسر همزة الوصل لأنه من فعل ثلاثي مكسور العين: أي اطلبوا لي (الضعفاء) يعني صعاليك المسلمين أستعين بهم فإذا قلت: أبغني بهمزة القطع فمعناه أعني على الطلب. وقال الحافظ: ابغني بالوصل من الثلاثي أي اطلب لي، يقال بغيتك الشيء: طلبته لك، وبالقطع: أي أعني والأول المراد بالحديث اهـ. والحاصل أنه إن كان من الثلاثي فهمزته للوصل مكسورة والمراد به مطلق الطلب، وإن كان من الرباعي فهمزته للقطع والمراد به طلب الإعانة: أي أعينوني على طلب الضعفاء. قال السيوطي: هو بإسقاط حرف الجرّ عند أبي داود والنسائي، وعند أحمد والطبراني «ابغوني ضعفاءكم» وعن الترمذي «ابغوني في ضعفائكم» قال صاحب «الفتح الكبير» لمعلق «الجامع الصغير» : وطلبهم ليكتبهم في ديوان المجاهدين ويستعين بهم. ولحضورهم فوائد أشار إليها بقوله: (فإنما ترزقون) بالبناء للمفعول وحذف المفعول الثاني المتعدى إليه لتضمنه معنى إعطاء للتعميم: أي ترزقون المطر والفيء وغيرهما مما تنتفعون به (وتنصرون) على أعدائكم (بضعفائكم) أي ببركة وجود صعاليك المسلمين فيكم ودعائهم لكم (رواه أبو داود) في كتاب الجهاد (بإسناد جيد) أي مقبول كما تقدم قريباً/ رواه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم في «المستدرك» وفي أحاديث الباب والانقطاع إلى الله سبحانه وإعانة الفقراء وإغاثة المنقطعين وعدم رؤية النفس وفضلها على أحد من العاملين والحذر من التعرض لإيذاء أحد من الضعفاء والمساكين الذين لا جار لهم ولا كهف سوى ربّ العالمين.d
34 - باب الوصية بالنساء
بكسر النون وبالمد، جمع لامرأة من غير لفظها، وتجمع على نسوة بكسر النون(3/94)
كما تقدم عن «المصباح» ، والمراد الوصية بالرفق بهن والإحسان إليهن لضعفهن واحتياجهن لمن يقوم بأمرهن.
(قال الله تعالى) شأنه عما لا يليق به ( {وعاشروهن بالمعروف} ) أمر يعم الأزواج والأولياء ولكن المتلبس في الأغلب بهذا الأمر الأزواج والمعاشرة المخالطة والممازجة. قال السلمي: «وعاشروهن بالمعروف» قيل علموهن الفرائض والسنن. وقال أبو جعفر: المعاشرة بالمعروف حسن الخلق مع العيال.
(وقال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا} ) العدل التام على الإطلاق: المستوى في الأقوال والأفعال والمحبة والجماع وغير ذلك ( {بين النساء ولو حرصتم} ) «كان يقسم بين نسائه ثم يقول: اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» فأخبر عزّ وجلّ عن حال البشر أنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض الأزواج دون بعض ( {فلا تميلوا كل الميل} ) بأن يفعل فعلاً يقصد به التفضيل، وهو يقدر أن لا يفعله فهذا هو كل الميل وإن كان في أمر حقير (فتذورها) أي الزوجة التي ميل عليها كل الميل ( {كالمعلقة} ) لا هي أيم ولا هي ذات زوج (وإن تصلحوا) ما أفسدتم بالميل التام (وتتقوا) بالعدل في القسم وترك خلافه ( {فإن الله كان} ) فيما مضى وبالاستمرار ( {غفوراً} ) لما عدا الشرك من المعاصي إن شاء ذلك ( {رحيماً} ) مفيضاً للنعم على عباده، ومناسبة هذين الاسمين لما قبلهما أن الميل السابق إثم ودواءه الغفران، وأن الداعي إلى عدم التقوى من المساواة بالمواساة بين الأزواج ما يعد لهم الشيطان من الفقر فدواؤه استحضار ما للمولى سبحانه وتعالى من النعم الحسان.
2731 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: استوصوا بالنساء خيراً) أي تواصوا بهن والباء للتعدية، والاستفعال بمعنى الإفعال كالاستجابة بمعنى الإجابة. وقال الطيبي: السين للطلب وهو للمبالغة: أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن، أو اطلبوا الوصية من غيركم بهن، وقيل معناه: اقبلوا وصيتي فيهن واعملوا بها وارفقوا بهن وأحسنوا عشرتهن. قال العلقمي: وهذا الوجه أوجه في نظري وليس مخالفاً لما قال الطيبي.(3/95)
قلت: لأن المعنى اطلبوا وصيتي واقبلوها واعملوا بها (فإن المرأة خلقت) بالبناء للمفعول: أي أخرجت (من ضلع) بكسر المعجمة وفتح اللام، ويجوز تسكينها وهي مؤنثة كما في «القاموس» و «المصباح» ، قال في «الفتح» : فيه إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر، وقيل من ضلعه القصير، أخرجه ابن إسحاق في المبتدأ عن ابن عباس وكذا أخرجه ابن أبي حاتم وغيره من حديث مجاهد، وأغرب النووي فعزاه للفقهاء أو لبعضهم اهـ.
وهذا لا يختلف الحديث الذي فيه تشبيه المرأة بالضلع، بل يستفاد من هذا نكتة التشبيه وأنها عوجاء مثله لكون أصلها منه. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون معناه: أن المرأة خلقت من مبلغ ضلع فهي كالضلع (وإن أعوج ما) أي شيء كما في رواية أخرى (في الضلع أعلاه) قيل فيه إشارة إلى أن أعوج ما في المرأة لسانها، وفائدة هذه المقدمة أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فلا ينكر اعوجاجها، أو أنها لا تقبل التقويم كما أن الضلع لا يقبله، ولذا قال (فإن ذهبت تقيمه) أي أعلاه عن الاعوجاج الذي هو شأنه (كسرته) لعدم قابليته له (وإن تركته) غير آخذ في إقامته (لم يزل أعوج) لأنه وضعه وشأنه، وكذا المرأة إن أردت إقامتها على الجادة، وعدم اعوجاجها أدى إلى الشقاق والفراق، وهو كسرها وإن صبرت على سوء حالها وضعف معقولها ونحو ذلك من عوجها دام الأمر واستمرت العشرة، والفاء في قوله: (فاستوصوا بالنساء) الفاء الفصيحة: أي فاعرفوا ذلك فاستوصوا بهن (خيراً) بالصبر على ما يقع منهن، فيه رمز إلى التقويم برفق بحيث لا يبالغ فيه فيكسر ولا يتركه فيستمر على عوجه وما قررت من أن الفاء الفصيحة هي العاطفة على مقدر هو ما في النهر لأبي حيان وردّ ما في «الكشاف» ، وتبعه البيضاوي من أنها الواقعة جواباً لشرط مقدر حذف هو وفعله بأن النحاة أجمعوا على عدم جواز حذف الأداة والفعل في مثل ذلك (متفق عليه) رواه البخاري في بدء الخلق وفي النكاح، ورواه مسلم في النكاح، ورواه النسائي في عشرة النساء وابن أبي شيبة، وزاد «من كان يؤمن با واليوم الآخر فإذا شهد أمراً فليتكلم بخير أو ليسكت» .
(وفي رواية في الصحيحين) في هذا الحديث عن أبي هريرة لكن اقتصر المزيّ على عزوه بهذا اللفظ إلى مسلم في النكاح. قال: ورواه الترمذي فيه وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه (المرأة) اللام فيها للحقيقة (كالضلع) في الاعوجاج وعدم قابلية الإقامة (إن أقمتها) أي الضلع وهي مؤنثة، ويحتمل(3/96)
أن يكون ضمير المؤنث هنا للمرأة، ويؤيده قوله بعد (وإن استمتعت بها كسرتها) لعدم قابليتها للإقامة ويحتمل أن المراد بكسرها طلاقها، وقد وقع ذلك صريحاً كما سيأتي، وكسرها طلاقها (وإن استمتعت بها) لقضاء الوطر وطلب الولد الصالح والإعفاف (استمتعت بها) وجملة (وفيها عوج) جملة إسمية حالية.
(وفي رواية لمسلم) في النكاح (إن المرأة) الإتيان بالمؤكد لاقتضاء المقام له، وكأنه لكثرة الشكاية من الأزواج من عدم استقامتهن، وذلك يقتضي منهم أنهم توهموا إمكان استقامتهن أو ترددوا فيه، فأتى دفعاً لذلك بذلك (خلقت من ضلع لن تستقيم لك) أي تدوم (على طريقة) ترضاها، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن سائلاً يقول: ماذا ينشأ من كونها خلقت من ذلك؟ فقال: لن تستقيم (فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج، وإن ذهبت تقيمها) إقامة تامة مرضية لك (كسرتها) لأنه خلاف شأنها، وليس في وسعها واستعدادها (وكسرها) المدلول عليه بقوله كسرتها (طلاقها. قوله) في الحديث (هو عوج بفتح العين) المهملة (والواو) قال الفيومي في «المصباح» : العوج بفتحتين في الأجساد: خلاف الاعتدال، وهو مصدر من باب تعب، يقال عوج العود ونحوه فهو أعوج والأنثى عوجاء من باب أحمر، والعوج بكسر العين في المعاني، يقال: في الأمر عوج وفي الدين عوج. قال أبو زيد في الفرق بكل ما رأيته بعينك فهو مفتوح، وما لم تره فهو مكسور. وقال بعض العرب: يقول في الطريق عوج بالكسر اهـ. وفي «التهذيب» للمصنف اختلف في ضبط عوج في هذا الحيث، فضبطه كثيرون بفتح العين، وضبطه الحافظ أبو القاسم وآخرون من المحققين بالكسر وهو الصواب الجاري على ما ذكره أهل اللغة اهـ. ومنه يعلم أنه تبع في ضبطه هنا الكثيرين والصواب خلافه، إلا أن يدعي أن تلك الأخلاق منهن لما تكررت صارت كالمحسوس فاستعمل فيها ما يستعمل فيه، فيكون صحيحاً أيضاً إلا أنه تكلف.
2742 - (وعن عبد الله بن زمعة) بفتح الزاي وإسكان الميم، ابن الأسود بن(3/97)
المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصيّ القرشي الأسدي (رضي الله عنه) أمه قرينة بنت أمية بن المغيرة أخته أم سلمة أم المؤمنين، كان من أشراف قريش، وكان يأذن على النبي روى عنه أبو بكر بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير، وقتل زمعة يوم بدر كافراً، وكان الأسود من المستهزئين الذين قال تعالى في حقهم: {إنا كفيناك المستهزئين} (الحجر: 95) وقتل عبد الله مع عثمان يوم الدار، قاله أبو أحمد العسكري عن أبي حسان الزيادي، وكان لعبد الله ابن اسمه يزيد قُتل يوم الحرة صبراً، قتله مسلم بن عقبة المري اهـ. ملخصاً من «أسد الغابة» . قال ابن حزم في آخر كتابه «مختصر التاريخ» : روي له عن النبي حديث واحد. قلت: وذكر المزي في الأطراف له حديثين أحدهما حديث الباب والثاني عند أبي داود (أنه سمع النبي يخطب وذكر الناقة) التي كانت معجزة لسيدنا صالح على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، والواو عاطفة على محذوف تقديره خطب فذكر كذا وذكر الناقة (والذي عقرها) وهو قذار بضم القاف وبالذال المعجمة آخره راء، ابن سالف أحيمر ثمود (فقال) مبيناً لوصفه (إذا انبعث أشقاها) أشقى قبيلة ثمود، وهو أشقى الأولين (انبعث لها) أي للناقة (رجل عزيز) بالمهملة وزاءين معجمتين بوزن رحيم: أي قليل المثل (عارم) بالمهملتين كما سيأتي في تفسيره (منيع) أي قوي ذو متعة (في رهطه) يمنعونه من الضيم، زاد البخاري في رواية «مثل أبي زمعة» وفي أخرى «مثل أبي زمعة عم الزبير بن العوام» وهو عمه مجازاً لأنه ابن عم أبيه فكأنه أخر أبيه فأطلق عليه عم بهذا الاعتبار قال القرطبي في «المفهم» : يحتمل أن المراد بأبي زمعة الصحابي الذي بايع تحت الشجرة، يعني وهو عبيد البلوى، قال: ووجه تشبيهه به أنه كان في عز ومنعة في قومه كما كان ذلك الكافر، قال: ويحتمل أن يريد غيره من الكفار ممن يكنى بأبي زمعة. قال الحافظ في «الفتح» : وهذا
الثاني هو المعتمد والغير المذكور هو الأسود، وهو جد عبد الله بن زمعة راوي الخبر لقوله في نفس الخبر عم الزبير، وليس بين البلوى والزبير نسب اهـ. (ثم ذكر) يعني النبي في خطبته تلك (النساء) استطراداً (فوعظ فيهن) فاستطرد إلى ما يقع من(3/98)
أزواجهن (فقال يعمد) بكسر الميم (أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد) بالنصب أي مثل ضربه في كونه مبرّحاً مؤذياً.
وعند مسلم في رواية «ضرب الأمة» وللنسائي «كما يضرب العبد أو الأمة» . وفي البخاري في الأدب من رواية ابن عيينة «ضرب الفحل» والمراد منه البعير. وفي حديث لقيط بن صبرة عند أبي داود «ولا تضرب ظعينتك ضربك» ، أمتك «فلعله يضاجعها» .
وفي رواية البخاري في النكاح «يجامعها» (من آخر يومه) وعند النسائي «من آخر النهار» ورواية ابن نمير والأكثر «آخر يومه» ورواية وكيع «آخر الليل أو من آخر الليل» وكلها متقاربة وفي الحديث جواز تأديب الرقيق بالضرب الشديد، والإيماء إلى جواز ضرب النساء دون ذلك، وفي سياق الحديث استبعاد وقوع الأمرين من العاقل أن يبالغ في ضرب امرأته ثم يجامعها من بقية يومه أو ليلته، والمجامعة أو المضاجعة إنما تستحسن مع الميل والرغبة في العشرة والمجلود غالباً ينفر ممن جلده، فوقعت الإشارة إلى ذم ذلك، وأنه إذا كان ولا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير بحيث لا يحصل معه النفور التام فلا يفرط في الضرب ولا يفرط في التأديب (ثم وعظهم) استطراداً: أي حذرهم (في ضحكهم من الضرطة) وذلك لأنه خلاف المروءة، ولما فيه من هتك الحرمة (وقال) في تقبيح ذلك (لم) بكسر اللام (يضحك أحدكم مما يفعل) وذلك لأن الضحك إنما يكون من الأمر العجيب والشأن الغريب يبدو أثره على البشرة فيكون التبسم، فإن قوي وحصل معه الصوت كان الضحك، فإن ارتقى على ذلك كانت القهقهة، وإذا كان هذا الأمر معتاداً من كل إنسان فما وجه الضحك من وقوع ذلك ممن وقع منه (متفق عليه) رواه البخاري في التفسير بجملته، وروى قصة النساء فقط في النكاح أيضاً، وقصة النكاح والضرطة في الأدب أيضاً، ورواه بجملته مسلم في باب صفة النار، ورواه الترمذي في «التفسير» وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي في «التفسير» وفي عشرة النساء بالقصة الثالثة، كذا قاله المزي في «الأطراف» . قال الحافظ التقي ابن فهد: بل الثانية وابن ماجه في النكاح (والعارم بالعين المهملة والراء) لم يحتج لتقييد الراء بالمهملة لأن تلك زاي بالياء في اللغة المشهورة فلا تلتبس بالراء (هو الشرير) بكسر المعجمة وتشديد الراء الأولى (المفسد) . وفي «النهاية» ، أي خبيث شرير وقد عرم بالضم والفتح والكسر، والعرام: القوة والشدة والشراسة. وفي «الصحاح» :
وصبيّ عارم بين العرام: أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم أي بضم عين المضارع(3/99)
وكسرها عرامة بالفتح، (وقوله) في الحديث (انبعث) انفعل من البعث (أي قام بسرعة) وجعله في «الصحاح» مطاوع بعثه وابتعته وذلك يؤذن بالسرعة.
2753 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يفرك) أتى ضبطه ومعناه (مؤمن مؤمنة) نكرهما للتعميم: أي لا تبغض المؤمنة على كل حالها به شأن المؤمن معها (إن كره فيها خلقاً) بضم الخاء المعجمة كسوء الخلق مثلاً (رضي منها) خلقاً (آخر) كالعفاف (أو) شك من الراوي (قال) يعني النبي (غيره) بدل قوله آخر. قال المصنف: قال القاضي عياض: ليس هذا على النهي بل هو خبر: أي لا يقع منه بغض تام لها، قال: وبغض الرجال للنساء بخلاف بغضهن لهم، قال: ولهذا قال: إن كره منها خلقاً رضي منها آخر اهـ. وهو ضعيف أو غلط، بل الصواب أنه نهي: أي ينبغي أن لا يبغضها لأنه إن وجد فيها خلقاً يكره وجد فيها خلقاً مرضياً، وهذا الذي ذكرته من أنه نهي يتعين بوجهين:
أحدهما أن المعروف في الروايات لا يفرك بإسكان الكاف لا برفعها وهذا يتعين فيه النهي، ولو روي مرفوعاً لكان نهياً لفظ الخبر.
الثاني: أنه قد وقع خلافه فبغض الناس يبغض زوجته بغضاً شديداً ولو كان خبراً لم يقع خلافه وهذا وقع خلافه، وما أدري ما حمل القاضي على هذا التعبير اهـ. (رواه مسلم) في كتاب النكاح (قوله: يفرك هو بفتح الياء) التحتية (وإسكان الفاء) هذا مستغنى عنه أتى به زيادة في الإيضاح (وفتح الراء) فهو من باب فرح يفرح (ومعناه يبغض) بضم(3/100)
التحتية وكسر المعجمة مضارع من الإبغاض (يقال: فركت المرأة زوجها وفركها زوجها بكسر الراء) في الماضي (يفركها بفتحها) في المضارع (أي أبغضها) قال في «المصباح» : أبغضت الشيء إبغاضاً فهو مبغض والاسم البغض، ولا يقال بغضه بغير ألف، والمراد من الحديث أن شأن المؤمن أن لا يبغض المؤمنة بغضاً كلياً يحمله على فراقها: أي ينبغي له أن يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره بما يحبّ. قال القرطبي: وأصل الفرك إنما يقال في النساء يقال فركت المرأة زوجها وأبغض الرجل امرأته، وقد استعمل الفرك في الرجل قليلاً وتجوّزاً، منه ما في هذا الحديث اهـ. (والله أعلم) .
2764 - (وعن عمرو بن الأحوص) بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وبعد الواو مهملة ثانية ابن جعفر بن كلاب (الجشمي) الكلابي قاله أبو عمرو، وأما ابن منده وأبو نعيم فلم ينسباه إنما قالا: عمرو بن الأحوص الجشمي. قال ابن الأثير: قول أبي عمرو إنه جشمي كلابي لا أعرفه فإنه ليس في نسبته إلى كلاب جشم ولا فيما بعد كلاب وإنما الأحوص بن جعفر بن كلاب نسب معروف ولعله له حلف في جشم فنسب إليه اهـ. (رضي الله عنه) .
قال ابن حزم: روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثان (أنه سمع النبي في حجة الوداع) بفتح الواو لأن النبي ودّع الناس ولم يحج بعدها، ويقال بكسرها وتقدم فيها مزيد في باب النية في حديث سعد بن أبي وقاص (يقول بعد أن حمد الله تعالى) بالأوصاف الجميلة (وأثنى عليه) بتنزيهه عما لا يليق به (وذكر) بتخفيف الكاف: أي أتى بذكر الله تعالى من التكبير والتهليل، أو بتشديدها من التذكير با والتخويف من عقابه، ويؤيد هذا قوله (ووعظ ثم) أي بعد أن أطال في ذلك لاستدعاء المقام له (قال) مستطرداً للوصية بالنساء (ألا) بتخفيف اللام: أداة استفتاح يؤتى بها أول الكلام إذا كان المقام يهتم به (واستوصوا بالنساء خيراً) المعطوف عليه محذوف اختصاراً مدلول عليه بما قبله (فإنما هن عوان) جمع واحدة عانية وإعرابه مقدر لثقل الضمة على الياء المحذوفة(3/101)
لالتقاء الساكنين. قال في «النهاية» : أي أسراء أو كالأسراء، وأشار به إلى أنه محتمل لكونه من باب التشبيه البليغ أو أنه على ظاهره من غير تقدير لشيء (عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك) المشار إليه محذوف مدلول عليه بباقي الكلام وهو الاستمتاع وحفظ الزوج في نفسها وماله (إلا أن يأتين بفاحشة) كبيرة كنشوز وسوء عشرة (مبينة) بكسر الياء اسم فاعل، لأنها تبين عدم انقيادها المفروض عليها، أو بفتحها اسم مفعول: أي إن سوء حالها يدل على تلك الفاحشة ويبينها (فإن فعلن) ذلك أي النشوز بأن ظهرت مقدماته منها فعظوهن، فإن لم ينزجرن به (فاهجروهنّ في المضاجع) في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف (واضربوهنّ ضرباً غير مبرح) بكسر الراء المشددة، ولا شائن بأن لا يجرحها ولا يكسر لها عظماً ويجتنب الوجه والمهالك فيضربن مع الهجران عند تحقق النشوز والعصيان وهو ضرب تأديب وتعزير. قال الروياني في «البحر» : ويضربها بمنديل ملفوف أو بيده لا بسوط ولا عصى، وإباحة الضرب في هذه الحالة ولاية من الشرع للزوج لأخذ حقه. قال العز بن
عبد السلام: ليس لنا موضع يضرب المستحق من منع حقه غير هذا، والعبد إذا منع حق سيده، لأن الحاجة ماسة إلى ذلك فيهما لتعذر إثبات ذلك بسبب عدم الاطلاع وإنما يجوز ضربها إن علم أو ظن أنه يصلحها فإن علم عدم إفادته لم يجز (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً) بالتوبيخ والإيذاء؛ فالمعنى: فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان فيهن كأن لم يكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وهذه الجملة مقتبسة من معنى قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن} (النساء: 34) إلى قوله: {سبيلاً} (ألا) أداة استفتاح أتى بها للتنبيه على ما بعدها لأنه حكم آخر (إن لكم على نسائكم حقاً) أمراً واجباً (ولنسائكم عليكم حقاً) هذا من عطف معمولين على معمولي عامل واحد، وهو جائز اتفاقاً (فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون) قال المازري: قيل المراد بذلك أن لا يستخلين بالرجال. قال القاضي عياض: كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء، ولم يكن ذلك(3/102)
عيباً ولا ريبة عندهم، فلما نزلت آية الحجاب نهوا عن ذلك اهـ.
قال المصنف: والمختار أن معناه لا يأذنّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم سواء كان المأذون له رجلاً أجنبياً أو امرأة أو أحد محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك. قلت: ولذا عقب بقوله: (ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون) أي تكرهون دخوله لمنزلكم من أنثى وذكر وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنه لا يحلّ لها أن تأذن لرجل ولا امرأة لا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه، لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن منه في ذلك أو ممن أذن له في الإذن في ذلك أو عرف رضاه به باطراد العرف بذلك ونحوه، ومتى حصل الشك في الرضا ولم يترجح شيء ولا وجدت قرينة لا يحلّ الدخول ولا الإذن، والله أعلم اهـ. (ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) بإعطائهن ذلك بحسب اللائق بأحوالكم يساراً وإعساراً. وفي الحديث وجوب نفقة الزوجة وكسوتها عند عدم نحو النشوز وهو واجب إجماعاً (رواه الترمذي) في النكاح من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) وتقدم أن الجمع بين الوصفين المذكورين إن كان في متعدد السند فهو على تقدير واو العطف والتقدير حسن وصحيح: أي حسن باعتبار أحد الإسنادين، وصحيح باعتبار الآخر، وإلا فهو عى تقدير أو التي للترديد: أي أنه حسن أو صحيح: أي إن المحدثين اختلفوا في رجال سنده هل بلغوا درجة الصحة أو هم قاصرون على درجة الحسن، ورواه النسائي وابن ماجه (قوله: عوان) التنوين فيه للعوض عن الياء إن اعتبر الإعلال سابقاً على منع الصرف، أو عن الحركة إن اعتبر منع الصرف قبل اعتبار الإعلال، وقيل: إنه للصرف وهذا ضعيف جداً (أي أسيرات جمع عانية. بالعين المهملة) إن قلت: هذا القسم من جمع التكسير هو الذي ادعى النحاة فقده خارجاً ووجوده عقلاً وهو التغيير بالزيادة والنقص من غير تغيير الشكل. قلنا: يمكن أن يقال: إنه ليس كذلك، فإن حركات الجمع غير حركات المفرد فضمة الفاء في فلك جمعاً كضمة
همزة أسد وضمته مفرداً كضمة قاف قفل، وقد صرح بذلك شراح الكافية فكان ما ذكر كغلام وغلمان مما اجتع فيه التغيير بالنقص والزيادة(3/103)
وتغيير الشكل (وهي الأسيرة والعاني: الأسير) ومنه حديث «أطعموا الجائع وفكوا العاني» قال في «النهاية» : العاني: الأسير وكل من ذلّ واستكان وخضع، يقال عنا يعنو فهو عان (شبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة في دخولها تحت حكم الزوج) ووجوب طاعتها له (بالأسير) فيكون قوله: «فإنما هن عوان» من التشبيه البليغ على حد زيد أسد (والضرب المبرح) المنهيّ عنه (هو الشاق الشديد) قال في «المصباح» : برح به الضرب تبريحاً: اشتد وعظم (وقوله: فلا تبغوا عليهن سبيلاً: أي لا تطلبوا طريقاً تحتجون به عليهن) بعد توبتهن ورجوعهن إلى الطاعة (وتؤذوهن به) أي ولا تؤذوهن به، ويجوز أن تكون الواو للمعية والنصب بأن مضمرة لكونه في جواب النهي، لكن يوهم أن الممنوع منه إنما هو طلب الطريق المذكور مع الإيذاء، أما طلبها من غير إيذاء فلا نهي عنه وليس كذلك، بل منهي عن التعرض لها بعد التوبة مطلقاً (والله أعلم) .
2775 - (وعن معاوية) بالعين المهملة وبالتحتية بعد الواو المكسورة (ابن حيدة) بمهملة مفتوحة وسكون تحتية وفتح دال مهملة فهاء تأنيث كذا في «المغني» ، ابن معاوية بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة القشيري من أهل البصرة، غزا (رضي الله عنه) خراسان ومات بها، وهو جدّ بهز بن حكيم بن معاوية، وروى عنه ابنه حكيم بن معاوية، وسئل يحيى بن معين عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فقال: إسناد صحيح إذا كان من دون بهز: ثقة (قال: قلت يا رسول الله) ورواه ابن الأثير في «أسد الغابة» عنه «أن رجلاً سأل رسول الله: ما حقّ المرأة على الزوج؟» إلى آخر الحديث، ولا تنافي لاحتمال التعدد أو أنه أبهم نفسه في تلك الرواية إما نسياناً لعين السائل أو لغرض آخر (ما حقّ زوجة أحدنا عليه) أي ما واجبها عليه (قال: أن تطعمها) بضم الفوقية (إذا طمعت) بكسر العين أي(3/104)
أكلت (وتكسوها) بفتح التاء الفوقية والواو (إذا اكتسيت) ومعنى كونه فرضاً عليه إذا كان لا يأكل زائداً على فرض القوت، أما لو كان مترفها في المطعم والملبس فما زاد على الواجب لها فنفل منه وإحسان عليها (ولا تضرب الوجه) لأنه عضو لطيف والشين فيه شنيع (ولا تقبح) بتشديد الباء الموحدة المكسورة: أي لا تقل قبح الله وجهك أو لا تقل ما أقبح هذا الخلق، فإن ذمّ الصنعة ذم لصانعها (ولا تهجر) عند النشوز (إلا في البيت) فاترك مضاجعتها ولا تترك كلامها عند حاجتها (حديث حسن رواه أبو داود) في كتاب النكاح من سننه والنسائي وابن ماجه (وقال) أي أبو داود (معنى لا تقبح أي) تفسير لمعنى الجملة (لا تقل قبحك ا) وهذا أحد احتمالين فيه.
2786 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أكمل المؤمنين) أي من أكملهم (إيماناً) منصوب على التمييز عن أفعل التفضيل وهو فاعله من حديث المعنى (أحسنهم خلقاً) بضم الخاء المعجمة واللام وسكونها، وتقدم أنه ملكة تبعث النفس على أفعال حميدة واكتساب شيم شريفة. وقال الحسن البصري: حقيقة حسن الخلق بذل المعروف وكفّ الأذى وطلاقة الوجه. قال الباجي: وتحسين الخلق أن يظهر منه لمن يجالسه أو يردّ عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير. وقد اختلف فيه هل هو مكتسب أو غريزي، وجمع بين القولين بأنه غريزي باعتبار أصله ويقوى وينمو بالكسب. قال الحافظ في «الفتح» : ومحصل ما أجاب العلماء عن الأحاديث المختلف فيها الأجوبة بأن أفضل الأعمال كذا أن اختلاف الجواب لاختلاف حال السائلين بأن أعلم كلا بما يحتاج إليه أو بما لهم فيه رغبة أو بما هو اللائق، أو أن اختلافه باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره - فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن منها، وقد(3/105)
تظافرت الأدلة على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل، أو أن أفضل ليس على بابه بل المراد الفضل المطلق، أو أن المراد من أفضل فحذفت من وهي مرادة كما ورد «خيركم خيركم لأهله» ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس مطلقاً، فعلى هذا فأفضل الأعمال على الإطلاق الإيمان والباقيات متساوية في كونها من أفضلها وإن تفاوتت درجاتها بما ورد فيها اهـ. ملخصاً (وخياركم خياركم لنسائهم) .
وفي رواية «خيركم خيركم لأهله» قال في «النهاية» : هو إشارة إلى صلة الرحم والحثّ عليها. قيل: ولعل المراد من حديث الباب أن يعامل زوجته بطلاقة الوجه وكفّ الأذى والإحسان إليها والصبر على أذاها. قلت: ويحتمل أن الإضافة فيه للعهد والمعهود هو النبيّ، والمراد أنا خيركم لأهلي، وقد كان أحسن الناس لأهله وأصبرهم على اختلاف أحوالهم (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح) وكذا رواه ابن حبان.
2797 - (وعن إياس) بكسر الهمزة وتخفيف التحتية وبعد الألف سين مهملة (ابن عبد الله بن أبي ذباب) بضم المعجمة وخفة الموحدة الأولى كما في «المغني» . الدوسي وقيل المزني والأوّل أكثر (رضي الله عنه) سكن مكة، قال أبو عمرو: له صحبة، وقال ابن منده وأبو نعيم: اختلف في صحبته، كذا في «أسد الغابة» ، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث.
(قال: قال رسول الله: لا تضربوا إماء ا) الإماء بكسر الهمزة وبالمد بوزن كتاب جمع أمة وهي محذوفة اللام والهاء عوض عنها والأصل أموة بفتحات، ولذا يرد في التصغير فيقال أمية والأصل أميوة، ويجمع أيضاً على آإم بوزن قاض وعلى إموان بوزن إسلام، وقد يجمع على أموات بوزن سنوات، والمراد بإماء الله النساء: أي لا تضربوهن ظاهره على كل حال (فـ) ـلذا (جاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ذئرن النساء) سيأتي ضبطه ومعناه وهو على لغة أكلوني البراغيث، والفصيح تجريد الفعل من علامة الجمع بأن يقال ذئر أو ذئرت بالتاء، والثاني أفصح لأن المسند لجمع التكسير الأفصح إلحاق التاء آخره، ورأيته في أصل آخر من «سنن أبي داود» ذئر النساء بحذف(3/106)
النون (على أزواجهن) لما سمعن المنع عن ضربهن مطلقاً (فرخص في ضربهن) من الرخصة، وهي تغيير الحكم من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام سبب حكم الأصل، وسبب المنع الرفق بهن وهو قائم حال إباحته للعذر وهو دوام الزوجية والقيام بحقوقها عند حقوقهن من ترك ذلك (فأطاف بآل رسول الله) أي بأزواجه وسراريه، وليس المراد بالآل من تحرم عليهم الزكاة (نساء كثير) من صيغ جمع الكثرة (يشكون أزواجهن) أي ضربهم. (فقال رسول الله: لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك) أي الضاربون لأزواجهم (بخياركم) وذلك لأنه يؤذن بحرج الصدر وضيق النفس، ذلك خلاف حسن الخلق الذي هو من أوصاف الخيار.
(رواه أبو داود) في كتاب النكاح (بإسناد صحيح) ورواه النسائي وابن ماجه.
(قوله) في الحديث (ذئرن هو بذال معجمة مفتوحة ثم همزة مكسورة ثم راء ساكنة ثم نون: أي اجترأن) عليهم ونشزن (قوله أطاف: أي أحاط) وهو متعد بالباء أيضاً، يقال أطاف بالشيء: أي أحاط به.
2808 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بإثبات الياء كما هو الفصيح، وتقدم تحقيق ذلك في باب الاقتصاد وتقدمت ترجمته في باب بيان كثرة طرق الخير (رضي الله عنهما إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الدنيا متاع) أي شيء يتمتع به حيناً كما قال تعالى: {قل متاع الدنيا قليل} (النساء: 33) (وخير متاع الدنيا) أتى بالاسم الظاهر موضع الضمير لزيادة الإيضاح (المرأة الصالحة) قال القرطبي: فسرت في الحديث بقوله: «التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله» (رواه مسلم) في كتاب النكاح وأحمد والنسائي.(3/107)
35 - باب حق أي واجب الزواج على المرأة
أي ما يجب له عليها ويستحقه منها (قال الله تعالى) : ( {الرجال قوّامون على النساء} ) يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية، وعلل ذلك بأمرين: وهما قوله: ( {بما فضل الله بعضهم على بعض} ) أي بسبب تفضيله بالرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات، ولذلك خصوا بالفتوّة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر والشهادة في مجامع القضايا ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق. وبأمر كسبي هو قوله: ( {وبما أنفقوا من أموالهم} ) في نكاحهن كالمهر والنفقة. ثم قسم الله النساء قسمين فقال: ( {فالصالحات قانتات} ) مطيعات قائمات بحقوق الأزواج ( {حافظات للغيب} ) لمواجب الغيب: أي يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، وقيل للأسرار ( {بما حفظ ا} ) أي بحفظ الله إياهن بالأمر على حفظ الغيب والحثّ عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له، أوبالذي حفظه الله لهنّ عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن. قال السفاقسي: قراءة الجمهور برفع الجلالة وما مصدرية: أي يحفظ الله إياهن وجوز كون ما موصولاً اسمياً محذوف العائد: أي بما حفظهالله، وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة والعائد محذوف، وقرأ أبو جعفر بنصب الجلالة فما بمعنى الذي، وفي حفظ ضمير يعود عليها: أي بالبرّ الذي حفظ حق الله من التعفف وغيره، وقدره ابن جني بما حفظ حدود الله والمضاف متعين لأن الذات المقدسة لا ينسب حفظها إلى أحد وفيه حذف الضمير من حفظ: أي بحفظهن وهو قبيح لا يجوز إلا في الشعر، والأحسن أن لا يقال حذف الضمير بل عاد عليهن مفرداً ملاحظة للجنس، فكأن الصالحات في معنى من صلح، وإنما أدى إلى هذه الشذوذ في هذه القراءة توجيهها على أن ما موصولة، أما إذا جعلناها مصدرية كما تقدم فلا اهـ.
(وأما الأحاديث) النبوية (فمنها حديث عمرو بن الأحوص السابق) بالرفع (في الباب قبله) .(3/108)
2801 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه) قيل هو كناية عن الجماع ويقويه قوله: «الولد للفراش» والكناية عما يستحي من التصريح به فاشية في الكتاب والسنة (فلم تأته) ن غير عذر بها (فبات غضبان) غير مصروف بناء على أن الشرط في منع صرف الوصف ذي الزيادة وجود فعلي (عليها لعنتها الملائكة) ويستمرّ ذلك منهم إن استمرت على الامتناع (حتى تصبح) ويؤيد ما تقرّر أنه جاء في رواية «حتى ترجع» قال بعضهم: ورواية الأصل محمولة على الغالب، وظاهر عموم الحديث حرمة امتناعها من فراشها ولو حائضاً وهو كذلك لإمكان الاستمتاع بها بغير الجماع. وظاهر الخبر اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ذلك ليلاً، لقوله: حتى تصبح وكأن السرّ فيه تأكيد ذلك الشأن في الليل وقوّة الباعث عليه، ولا يلزم منه جواز امتناعها منه نهاراً، لأن تخصيص الليل بالذكر لأنه مظنة ذلك، ويؤخذ من قوله: فبات غضبان، أن اللعن عليها إنما يكون حينئذٍ لتحقق ثبوت معصيتها، بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك إما لعذرها، وإما لأنه ترك حقه من ذلك.
قال القرطبي: أما لو دعت المرأة زوجها فأبى فلا إثم عليه ما لم يقصد بالامتناع المضارة لها فيحرم حينئذٍ/ والفرق بينهما أن الرجل لبذله لماله هو المالك للبضع، والدرجة التي له بسبب سلطته عليها بسبب ملكه أيضاً فقد لا ينشط في وقت دعائها له فلا ينتشر ولا يتهيأ له ذلك بخلافها. قال المهلب: هذا الحديث يوجب أن منع الحق في البدن كان أو في المال مما يوجب سخط الله إلا أن يتغمد الله بالعفو، وفيه جواز لعن العاصي المسلم إذا كان على وجه الإرهاب عليه لئلا يواقع الفعل إذا واقعه فإنما يدعي له بالتوبة والهداية قال الحافظ ابن حجر: والحق أن من منع أراد باللعنة المعنى الغوي وهو الإبعاد من الرحمة ومن أجاز أراد بها المعنى العرفي وهو مطلق السبب، وحديث الباب ليس فيه إلا أن الملائكة يدعون على أهل المعصية ما داموا فيها وهل هم الحفظة أو غيرهم، كل محتمل. ويحتمل أن يكون بعض الملائكة موكلاً بذلك. قلت: وظاهر الحديث التعميم لأن الجمع المحلى بأل من صيغه، وفيه دليل على قبول دعاء الملائكة لكونه خوف به، وفيه الإرشاد إلى مساعدة الزوج ومرضاته، وفيه أن صبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة، وفيه أن امتناعها من ذلك كبيرة (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي.
(وفي رواية لهما) أي للشيخين وهي عند أحمد(3/109)
أيضاً (إذا باتت المرأة هاجرة) أي تاركة (فراش زوجها) بغير مانع من مرض أو امتناع لتسلم صداق حال عقدت عليه (لعنتها الملائكة حتى تصبح) ما دامت كذلك، فإذا تابت من الذنب وأقلعت وعادت إلى الطاعة وأجابت إلى الفراش أو كانت معذورة فلا.
(وفي رواية) لمسلم من حديث أبي هريرة أيضاً (قال: قال رسول الله: والذي نفسي بيده) أي بقدرته وفي تصرفه، وفيه القسم على الشيء لتأكيده وتقويته عند السامع، وهو كذلك مستحب وواقع في الأخبار كثيراً (ما) نافية (من) مزيدة لتأكيد استغراق النفي (رجل) يحتمل أن يراد به ما يقابل المرأة فيشمل الصبيّ فتكون إجابته واجبة على زوجته المكلفة، وعلى وليّ غير المكلفة أمرها بذلك وهو أقرب، ويحتمل أن يراد به ما يقابل الصبيّ فيخص البالغ (يدعو امرأته إلى فراشه) أضيف الفراش إليها هنا وإليه أوّلاً لملابسة كل منها له (فتأبى) أي تمتنع (عليه) في «المصباح» : أبى الرجل يأبى إباء بالكسر والمد وإباية: امتنع (إلا كان الذي في السماء) إن كان المراد منه ساكنها فهو الملائكة، وإن أريد به حضرة الحق سبحانه فيؤول بأن المراد الذي سلطانه أو ملكوته أو أمره في السماء، لاستحالة المكان والجهة عليه سبحانه وتعالى علوّاً كبيراً، والوجه الأخير أقرب إلى قوله (ساخطاً عليها) وإن صح على الأول إفراده باعتبار لفظ الذي المراد منه النوع الذي هو الملائكة، والسخط المراد منه بالنسبة إليه تعالى غايته مجازاً مرسلاً من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم إما الانتقام فيكون صفة فعل، أو إرادته فيكون صفة ذات كما تقدم أوّل الكتاب، وظاهر أن ذلك إذا غضب منه الزوج كما يدل عليه قوله في الحديث قبله «فبات غضبان عليها» وقوله هنا: (حتى يرضى عنها) .
2822 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحلّ) أي لا يجوز(3/110)
(لامرأة أن تصوم) ولو فرضاً موسعاً لأن حق الزوج ناجز ووقت الفرض متسع، ومن ثم لو ضاق بأن نذرت صوم وقت معين قبل التزوج به أو بعده بإذن أو ضاق الوقت بأن لم يبق من شعبان إلا قدر ما عليها من قضاء رمضان حل لها الصوم بغير إذنه (وزوجها شاهد) أي حاضر، وظاهر عمومه أنه لا فرق في ذلك بين حريتهما ورقهما وتخالفهما في ذلك (إلا بإذنه) وذلك لأنه قد يكون له إليها حاجة فيمنعه عن ذلك الصوم. فإن قيل يجوز له أن يفطرها والحالة هذه فلا يكون صومها مانعاً له. أجيب بأنه قد يهاب ذلك فأدى إلى تركه لحقه فحرم إلا بإذنه (ولا تأذن في بيته) لرجل محرم أو غيره ولالامرأة كذلك (إلا بإذنه) صريحاً أو ما في معناه مما تقدم في الباب قبله (متفق عليه. وهذا لفظ البخاري) من جملة حديث أورده في كتاب النكاح، وآخره «وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدي إليه شطره» وأخرجه النسائي في الصوم ولفظ مسلم في كتاب الزكاة «لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه» .
2833 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: كلكم راع) أي حافظ مؤتمن ملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه (كلكم مسؤول عن رعيته) أي هل قام بما عليه من صلاحها وحفظها والقيام بمصلحتها أولاً (والأمير) أي ذو الأمر فيشمل سائر الحكام، وفي رواية الإمام، وعليها فخص بالذكر لأنه الأشرف الأكمل وباقي الولاة مثله كما أفادته رواية الباب، والأمير (راع) على من تحت ولايته فعليه النظر في شأنهم وتسديد أمرهم ودفع المضرات عنهم (والرجل راع على أهل بيته) فيقوم بكفايتهم من سائر المؤن بحسب حاله يساراً وإعساراً، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الشرائع (والمرأة راعية على بيت زوجها) فتقوم بحفظه عن السارق والهرة وسائر المتلفات، ولا تخزن فيه ولا تتصدق بما(3/111)
تعلم أنه لا يرضى به (وولده) فتقوم بحضانته وخدمته. قال الخطابي: اشتركوا يعني الأمير ومن بعده في الوصف بالراعي، ومعناه مختلف، فرعاية الإمام الأعظم رعاية الشريعة بإقامة حدودها والعدل في الحكم، ورعاية الرجل أهله سياسته لأمرهم وإيصال حقوقهم، ورعاية المرأة تدبيرها لأمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج (فكلكم) حتى من لا أمر له ولا زوجة وهو الإنسان في نفسه فإنه (راع) على جوارحه فيعمل المأمورات ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقاً واعتقاداً، فجوارحه وقواه وحواسه رعاياه، ثم لا يلزم من كونه راعياً أن لا يكون مرعياً باعتبار آخر (وكلكم مسؤول عن رعيته) هل قام بما يجب لها عليه أولا؟ وجاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر، وفي آخره «فاعدد للمسألة جواباً، قال: وما جوابها؟ قال: أعمال البرّ» أخرجه ابن عديّ والطبراني في «الأوسط» وسنده حسن (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي. 5
2844 - (وعن أبي علي) بفتح المهملة وكسر اللام (طلق) بفتح المهملة وسكون اللام (ابن علي) بفتح فكسر كذلك، ابن طلق بن عمرو، وقيل طلق بن قيس بن عمرو بن عبد الله بن عمر بن عبد العزى بن سحيم بن مرة بن الدؤل بن حنيفة الربعي الحنفي السحيمي (رضي الله عنه) كان من الوفد الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمامة فأسلموا، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر حديثاً كما ذكره ابن حزم في أواخر سيرته، وليس له في «الصحيحين» شيء (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دعا الرجل زوجته) كذا في النسخ بإثبات التاء وهي لغة واللغة الفصيحة المشهورة التي جاء بها القرآن حذف التاء وهي لغة أهل الحجاز، قال المصنف: وثبت إلحاق التاء في أحاديث في الصحيح (لحاجته) التي يستحقها عليها (فلتأته) فوراً (وإن كانت على التنور) الجملة الشرطية وصلية وهي في محل الحال كما تقدم عن المطول. والتنور بفتح الفوقية وتشديد النون: الذي يخبز فيه. قال في «المصباح» : وافقت فيه لغة العرب لغة العجم. وقال أبو حاتم: ليس بعربي صحيح، والجمع(3/112)
تنانير (رواه الترمذي) في النكاح (و) رواه (النسائي) في باب عشرة النساء (وقال الترمذي: حديث حسن) زاد فيما حكى المزي عنه في «الأطراف» بعد قوله حسن: غريب.
2855 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي: قال: لو) حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه (كنت آمراً) بمد الهمزة مضارع من الأمر، والجملة خبر كان، ورأيته في نسخة من «الجامع الصغير» منوناً على أنه وصف خبر مفرد (أحداً) أي من بني آدم (أن يسجد لأحد) تعظيماً له وأداء لحقه (لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) لما له عليها من عظيم الحق الواجب القيام به. وسبب هذا الحديث ما في أبي داود عن قيس بن سعد قال: «أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم. فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت يا رسول الله أحق أن يُسجد لك، قال: أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد لي؟ فقال: لا، قال: فلا تفعلوا لو كنت» فذكره (رواه الترمذي) أي من حديث أبي هريرة (وقال: حديث حسن صحيح) ورواه أحمد من حديث معاذ والحاكم في «المستدرك» من حديث بريدة.
2866 - (وعن أم) المؤمنين أم (سلمة) هند بنت أبي أمية سبقت ترجمتها (رضي الله عنها) في باب التوكل (قالت: قال رسول الله: أيما) بتشديد التحتية وهي الشرطية وحاصلة للتأكيد، وأي مضافاً إلى (امرأة ماتت) أي فارقت الحياة مؤمنة (وزوجها عنها راض) جملة حالية من الضمير المستكن في ماتت والظرف متعلق براض قدم اهتماماً بشأنه (دخلت الجنة) ظاهره ابتداء مع الفائزين، وهو محتمل بأن يغفر الله سيئاتها ويرضى عنها الخصماء(3/113)
(رواه الترمذي) ابن ماجه والحاكم (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) ثم مفهوم الحديث أن من ماتت وهو عنها غير راض لا تدخل الجنة: أي مع الفائزين كما تقدم أنه ظاهر المنطوق، ويحتمل أن يبقى على عمومه ويحمل على ما إذا استغلت ذلك، وكان مما أجمع على تحريمه وعلم من الدين بالضرورة وقد علمت ذلك.
2877 - (وعن معاذ بن جبل) الأنصاري تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المراقبة، وقوله: (عن النبي) متعلق بمحذوف دلّ عليه المقام حال من المجرور بعن: أي ناقلاً عن النبي (أنه قال: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا) أي لا يقع منها معه ما من شأنه أن يتأذى به من غير مجوّز لذلك شرعاً، وإلا فطلب نحو النفقة ممن يتأذى بها لنحو بخله لا يدخل الزوجة في ذلك (إلا قالت زوجه) بالإضافة إلى الهاء (من الحور) بضم الحاء المهملة وهن نساء أهل الجنة، واحدتهن حوراء: وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها (العين) بكسر العين المهملة: أي بخل العيون. وقال البيضاوي جمع عيناء (لا تؤذيه قاتلك ا) جملة دعائية والمراد من المفاعلة فيه أصل الفعل وعبر بها للمبالغة، وأنها لما فعلت ذلك وتعرضت لعقوبة الله صارت كالمقاتلة له تعالى فعبر بذلك (فإنما هو عندك) في الدنيا (دخيل) أي ضيف ونزيل، وعبرت بذلك لأن مدة المقام بالدنيا وإن طالت فهي يسيرة بالنظر إلى الآخرة التي لا أمد لها، فعبرت بما يعبر به عن قصير الإقامة وهو الضيف (يوشك) بضم أوله وكسر الشين المعجمة مضارع أوشك ومنه قوله الشاعر:
يوشك من فر من منيته
في بعض غراته يوافقها
وفي «المصباح» أوشك من أفعال المقاربة والمعنى: الدنوّ من الشيء. وقال الفارابي: الإيشاك الإسراع، لكن قال النحاة: استعمال المضارع أكثر من الماضي، واستعمال اسم الفاعل منها أقل. قال بعضهم: وقد استعملوا ماضياً ثلاثياً فقالوا: وشك مثل قرب وشكا اهـ. وتقدم في باب التوبة بعضه (أن يفارقك) منتقلاً (إلينا) أي فأحسني إليه، وفي تعبيرها بالدخيل إيماء إلى ذلك، ففي الحديث الشريف: «من كان يؤمن با واليوم الآخر(3/114)
فليكرم ضيفه» (رواه الترمذي) آخر كتاب النكاح (وقال: حديث حسن) غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه اهـ، ورواه ابن ماجه في النكاح أيضاً.
2888 - (وعن أسامة بن زيد) بن حارثة الحب ابن الحب (رضي الله عنهما) الصحابي ابن الصحابي تقدمت ترجمته في باب الصبر (عن النبي قال: ما تركت بعدي) أي بعد وفاتي (فتنة) هي كما في «المصباح» : المحنة والابتلاء، والجمع فتن، وأصلها من قولك فتنت الذهب والفضة إذا أدخلتهما النار لتمييز الجيد من الردىء (هي أضرّ على الرجال من النساء) أفاد الحديث أن الافتتان بهن أشد منه بغيرهن، ويشهد له قوله تعالى: {زين الناس حب الشهوات من النساء} (آل عمران: 14) فجعلهن من عين الشهوات وبدأ بهن قبل بقية الأنواع إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك. ويقع في المشاهدة حبّ الرجل ولده الذي هو من امرأته التي هي عنده أشد من حبه لباقي ولده، ومن ذلك قصة النعمان بن بشير في الهبة. وقد قال بعض الحكماء: النساء شرّ كلهن وأشرّ ما فيهن عدم الاستغناء عنهن، ومع نقص عقلهن يحملن الرجل على تعاطي ما فيه ذلك، كشغله عن طلب أمور الدين وحمله على التهالك على طلب الدنيا، وذلك أشد الفساد. وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيدالخدري في أثناء حديث «واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» . اهـ. ملخصاً من «الفتح» للحافظ العسقلاني (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب النكاح، ومسلم في آخر كتاب الدعاء، ورواه الترمذي في الاستئذان، والنسائي في عشرة النساء، وابن ماجه في الفتن.(3/115)
36 - باب النفقة
المراد بها سائر المؤن من كسوة ونفقة وسكن (على العيال) بكسر العين المهملة: أي من يعولهم من زوجة وبعض وخادم. قال ابن النحوي في الإشارة إلى لغات «المنهاج» : النفقة من الإنفاق وهو الإخراج، والنفقة الدراهم ونحوها من الأموال تجمع على نفقات وعلى نفاق أيضاً، وسميت بذلك إما لذهابها بالموت وإما لرواجها من نفقت السوق أو من نفق البيع كثر طلابه وإما لنفادها من نفق الزاد إذا ذهب لأنها عرضة للنفاد اهـ.
(قال الله تعالى: {وعلى المولود له} ) أي الذي يولد له، يعني الوالد فإن الوالد يولد له وينسب إليه في التعبير بما ذكر إشارة للمعنى المقتضى لوجوب النفقة عليه ( {رزقهن وكسوتهن} ) أجرة لهن. واختلف في استئجار الأم، فجوزه الشافعي، ومنعه أبو حنيفة ما دامت زوجة أو معتدة بنكاح ( {بالمعروف} ) حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعه.
(وقال تعالى: {لينفق ذو} ) أي صاحب (سعة) بفتح السين وبه قرأ السبعة، وكسرها لغة وقرأ به بعض التابعين ( {من سعته ومن قدر} ) أي ضيق ( {عليه رزقه فلينفق مما آتاه ا} ) فإنه تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وفيه تطييب لقلب المعسر، ولذا عقبه بوعده باليسر بقوله: {سيجعل الله بعد عسر يسراً} (الطلاق: 7) .
(وقال تعالى: {وما} ) شرط أو بمعنى الذي مبتدأ ( {أنفقتم من شيء} ) عمومه متناول لليسير والحقير ( {فهو يخلفه} ) عوضاً إما عاجلاً أو آجلاً، وقيل بخلفه في الدنيا بالقناعة التي هي كنز لا يفنى وبالثواب في الآخرة، وبالجملة جواب الشرط وهل هي الخبر أو الجملة الشرطية والجواب قيد له، أو الخبر مجموعهما أقوال أرجحها ثانيها، فإن كانت «ما» موصولة فالجملة خبر المبتدأ.(3/116)
2891 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: دينار) مبتدأ وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة إرادة التنويع فهو كقوله: فيوم لنا ويوم علينا، أو إرادة الجنس به كقولهم: تمرة خير من جرادة (أنفقته في سبيل ا) أي في الجهاد بإعانة ذلك عليه، ويحتمل أن المراد به الأعم: أي في طاعة الله (ودينار أنفقته في رقبة) أي فعتقت به كأن بقي ذلك من النجم الذي على المكاتب وبه تحصل حريته، أو المراد به الجنس: أي وما أنفق في عتق الرقبة وتخليصها من الرق، أو تصدق به عليها فخلصت به من التلف الذي كان بها من الجوع والظمأ أو العري، وعلى الاحتمال الثالث فبينه وبين قوله: (ودينار تصدقت به على مسكين) أي محتاج فيشمل الفقير أيضاً عمومه (ودينار أنفقته على عيالك) أي من تعولهم، وفي نسخة على أهلك (أعظمها) أي أكثرها (أجراً الذي أنفقته على أهلك) لأن من تلزمه مؤنتهم يكون في الإنفاق عليهم صلة رحمهم، وثوابها أعظم مما ذكر بكثير (رواه مسلم) /
2902 - (وعن أبي عبد ا) ويقال أبو عبد الرحمن (ثوبان بن بجدد) بضم الموحدة والدال المهملة الأولى وسكون الجيم بينهما، والتصريح باسمه في نسخة (مولى رسول الله) قيل وجده مسبياً فأمر به فعتق، وقيل شراه وعتقه، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: قال رسول الله: أفضل دينار ينفقه الرجل) في سبيل الخير (دينار ينفقه على عياله) أي الذين يمونهم، وقدم هذا في الذكر اهتماها به لأنه أشرف الأنواع كما صرح به في الحديث قبله (ودينار ينفقه على دابته) التي يركبها أو يحمل عليها (في(3/117)
سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه) الذين يركبون معه (في سبيل ا) الظاهر أن المراد به في هذين الجهاد، ويصح أن يراد به الأعم هنا لأن ثواب الإنفاق على الدابة التي تركب أو يحمل عليها في الطاعة وعلى الأصحاب الذين يجتمعون على الطاعة عظيم، وعلى الثاني فقد يشكل التساوي بين الثلاثة، فإنه إذا أريد مطلق الطاعة يكون الأول أفضلها. ويجاب بأنه لا مانع أن الثلاثة وإن كانت أفضل من غيرها أن يكون أحدها أفضلها فهو أفضل الأفضل ثم أفضل مبتدأ خبره دينار وما عطف عليه بتقدير تقديم العطف على الربط (رواه مسلم) في الزكاة والترمذي في البرّ، وقال: حسن صحيح، والنسائي في عشرة النساء، وابن ماجه في الجهاد.
2913 - (وعن) أم المؤمنين (أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله هل) يكتب (لي أجر) أي ثواب أخروي (في بني أبي سلمة) تعني أولادها منه (أن أنفق عليهم) بدل من بني سلمة بدل اشتمال: أي هل يكتب لي أجر في الإنفاق عليهم (و) الحال أني (لست بتاركتهم هكذا وهكذا) أي يتفرقون لطلب القوت يميناً وشمالاً، بل أنا كافيتهم ذلك بحسب الطبع لأن شفقة الأمومة تحمل على تكلف القيام بما يحتاج إليه الأولاد، وقولها (إنما هم بنيّ؟) بفتح الموحدة وتشديد التحتية، هو تعليل لما أفاده الاستفهام التعجبي من ترتب الثواب على الإنفاق عليهم المنسوب لشفقة الأمومة وشأن أعمال البرّ أن شوب غيرها بها يسقطها وهذا حالها وحالهم (فقال: نعم) أي لك أجر وسكت عن جوابها عن سبب التعجب المذكور علماً منه أنها إذا أخبرت بترتب الثواب عليه إنما تأتي به لذلك لا غير، وحينئذٍ فلا شوب، ولما كان في قولها هل لي أجر؟ إبهام، وكان لو اقتصر على قوله: نعم لأوهم أن لها ثواباً زائداً على قدر ما تنفقه عليهم دفعه بقوله: (لك أجر ما) هو في الأصول المصححة من «الصحيحين» بالإضافة فما موصول أو موصوف صلة، أو صفته جملة قوله: (أنفقت عليهم) قليلاً كان أو كثيراً، قال السيوطي في «التوضيح» ، وجوّز بعضهم تنوينه(3/118)
على أن ما وقتية. قلت: أو موصولة وثمة مضاف مقدر: أي قدر ما أنفقته (متفق عليه) أخرجاه في كتاب الزكاة.
2924 - (وعن سعد بن أبي وقاص) مالك بن وهيب أحد العشرة (رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي قدمناه أول الكتاب في باب النية) الذي فيه أن النبي عاده عام حجة الوداع من وجع اشتد به (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه ا) أي ذات الله تعالى وطلب مرضاته، وفيه تعميم للنفقة باعتبار قلتها وكثرتها وجلالها وحقارتها وباعتبار مصرفها (إلا أجرت بها) أي أجرك الله بسببها السببية صورية وإلا فلا سبيل للوصول للفضل إلا بمحض الفضل (حتى) غاية للعموم المستفاد مما قبله باعتبار المصرف (ما) أي الذي أو شيئاً (تجعل) بحذف العائد المنصوب: أي تجعله (في في امرأتك) أي فمها، وإنما غيابه لأنه ربما يتوهم أنها لكونها محل قضاء الوطر أنه لا ثواب فيما يسدي إليها من الجميل، فأفاد أن كل شيء قصد به وجه الله تعالى أثيب عليه فاعله. وأخذ منه أن المباحات إذا اقترن بها النية تنتقل إلى درجة الطاعات ويثاب عليها، فللوسائل حكم المقاصد (متفق عليه) وتقدّم ثمة بيان من خرّجه.
2935 - (وعن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (البدري) نسبة لبدر لكونه سكنها لا أنه شهد وقعتها على ما تقدم فيه، وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (عن النبي(3/119)
قال: إذا أنفق الرجل) المسلم كما في رواية المشكاة بدل قوله الرجل (على أهله) الذين تلزمه مؤنتهم وغيرهم (يحتسبها) عند الله: أي يقصد بها وجه الله والتقرب إليه، والجملة حالية (فهو) أي المنفق الدالّ عليه بقوله إذا أنفق (له صدقة) أي عظيمة الثواب لما فيها من أداء الواجب وصلة الرحم الوارد فيه من الثواب ما لا يحصيه إلا المتفضل به (متفق عليه) .
2946 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) كذا هو بحذف الياء وتقدم أن الأفصح بناء على كونه منقوصاً إثبات الياء (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: كفى بالمرء إثماً) الباء زائدة في المفعول به، وإثماً تمييز محوّل عن الفاعل، والأصل كفى المرء في عظم الإثم إثم تضييع من يقوت. قال ابن رسلان: أي لو لم يكن له من الإثم إلا هذا لكفاه لعظمه عند الله تعالى، وفاعل كفى هو قوله: (أن يضيع من يقوت) يقال قاته يقوته إذا أعطاه قوته، ويقال فيه أقاته يقيته، وروي أن يضيع من يقيت على لغة أقات. والمراد أن يمنع من تلزمه نفقته من زوجة وولد ووالد ويعطي غيرهم ولو صدقة اهـ. ولم أرَ من تعرّض لضبط يضيع هل هو من الإفعال أو من التفعيل، والدائر على ألسنة المشايخ الثاني (حديث صحيح رواه أبو داود) في آخر كتاب الزكاة (وغيره) فرواه النسائي في عشرة النساء والبزار (ورواه مسلم في صحيحه بمعناه) وأوله عنده «أن ابن عمرو قال: لقهرمان: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: قم فانطلق فأعطهم فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال: كفى بالمرء إثماً أن يحبس من يملك قوته) حذف مفعول يملك أي يملك القيام بأمره وقوته(3/120)
مفعول يحبس. وقال العلقمي: هو من باب التنازع وإعمال الأول وترك الإضمار في الثاني. وقال المظهري: «أن يحبس» مبتدأ وكفى خبره مقدماً عليه، مثل بئس رجلاً زيد أو خبر مبتدأ محذوف.
2957 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ قال: ما) نافية (من) مزيدة لتأكيد النفي (يوم) وهو شرعاً من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وقوله: (يصبح العباد فيه) وصف توضيحي (إلا ملكان) مبتدأ (ينزلان) خبر والجملة في محل الحال مما قبله، قال في «فتح الباري» : وفي حديث أبي الدرداء «ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بصوت يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غريب شمسه إلا وبجنبيها ملكان يناديان» فذكر مثل حديث أبي هريرة (فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً) كذا في نسخ الرياض وهو لفظ مسلم وعند البخاري «منفق مال» بالإضافة ولبعض رواته «منفقاً مالاً» (خلفاً) وأبهم الخلف ليتناول المال والثواب وغيرهما. قال الحافظ: وإبهامه أولى، فكم من منفق مات قبل وقوع الخلف المالي له، فيكون خلفه الثواب المعدّ له في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء ما يقابل ذلك (ويقول) الملك (الآخر: اللهمّ أعط) عبر بالعطية مشاكلة لما قبلها وإلا فهي لا تكون في التلف (ممسكاً تلفاً) يحتمل تلف ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب المال، والمراد به فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها. قال النووي: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات. وقال القرطبي: هي تعم الواجبات والمندوبات/ لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق هذا الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه اهـ. (متفق عليه) .
2968 - (وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه. (عن النبي قال: اليد العليا) قال أبو(3/121)
داود: قال الأكثر عن حماد بن زيد: هي المنفقة، وقال غير واحد عنه: هي المتعففة، وكذا قال عبد الوارث عن أيوب اهـ. وعند أبي نعيم في «المستخرج» عن حماد «واليد العليا يد المعطي» . وعند النسائي عن طارف المحاربي قال: «قدمنا المدينة فإذا النبي قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطي العليا» قال الحافظ في «الفتح» بعد ذكر أحاديث: فهذه الأحاديث متظافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وأن السفلى أي في قوله: (خير من اليد السفلى) هي السائلة، وهذا هو المعتمد. وهو قول الجمهور، وقيل السفلى الآخذة سواء كان بسؤال أو بغيره، وهذا أباه قوم واستندوا إلى أن الصدقة تقع أولاً في يد الله قبل يد المتصدق عليه. قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل أما يد الآخذ فلا، لأن يد اهي المعطية ويد اهي الآخذة وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين اهـ. وفيه نظر لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، أما يده تعالى فباعتبار كونه مالك كل شيء نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ ويده العليا على كل حال. أما يد الأدمي فأربعة: يد المعطي وقد تظافرت الأخبار بأنها عليا ويد السائل وقد تظافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالباً، وللمقابلة بين العلوّ والسفل المشتق منهما، ويد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي، وهذه وهذه توصف بالعلو المعنوي، ويد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها، فذهب جمع إلى أنها سفلى وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، أما المعنوي فلا يطرد فقد تكون علياً في بعض الصور وعليه يحمل كلام من أطلق كونها عليا. وقال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة لا الآخذة بغير سؤال وعن الحسن البصري: اليد العليا المعطية والسفلى المانعة ولم يوافق عليه. وأطلق آخرون
من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقاً. وقد حكى ابن قتيبة ذلك في «غريب الحديث» عن قوم، ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قوماً استطابوا السؤال فهم يجنحون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى من فوق من كان رقيقاً فأعتق والمولى من أسفل من كان سيداً فأعتق اهـ. ثم قال الحافظ بعد نقل أقوال أخر: وكل هذه التأويلات تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد، فأولى ما فسر الحديث بالحديث. ومحصل ما في الأحاديث المتقدمة أن أعلا الأيدي المنفقة ثم المتعففة عن الأخذ ثم الآخذة بغير سؤال وأسفل ما في الأيدي السائلة والمانعة اهـ. (وابدأ) في العطاء (بمن تعول) لأنه إما واجب أو مندوب ففيه أداء حق أو صلة رحم (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) أي أفضلها ما وقع عن غنى وعدم احتياج إلى(3/122)
المتصدق به لنفسه أو لممونه.. قال الخطابي: لفظ الظهر يزاد في مثل هذا إشباعاً للكلام، والمعنى: أفضلها ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية لأهله وعياله ولذا قال أولاً: «وابدأ بمن تعول» . وقال البغوي: المراد غنى يستظهر به على النوائب التي تنوبه، والتنكير في غنى للتعظيم. قال الحافظ في «الفتح» : هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن السؤال، وقيل عن للسببية والظهر زائد: أي خير الصدقة ما كان سببها غنى المتصدق اهـ. وقال القرطبي: معنى الغنى حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه وستر العورة ونحوه اهـ. وقال المصنف: مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دين عليه لا عيال له لا يصبرون ويكون هو أيضاً ممن يصبر على الإضافة، فإن لم تجتمع هذه الشروط كره. وأما ما يحتاج إليه ويؤدي الإيثار به إلى هلاك النفس والإضرار بها أو كشف العورة فلا يجوز الإيثار به، فإذا سقطت هذه الحقوق الواجبة صحّ الإيثار وكان أفضل بشرطه وبهذا يندفع التعارض بين الأخبار (ومن
يستعفف) بفك الإدغام: أي عن السؤال (يعفه ا) بضم التحتية والفاء اتباعاً لحركة الضمير أي يصيره عفيفاً: أي بمال يغنيه به عن الحاجة، أو بقناعة في نفسه، وقيل معناه ومن يطلب العفة وهي الكفّ عن الحرام يعفه الله: أي يصير عفيفاً (ومن يستغن) بما أعطيه ويقنع به (يغنه ا) عن الاحتياج لما فوقه فإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة، والنفس معك إن أرسلتها استرسلت وإن فطمتها وقفت وانفطمت (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ، ولفظ مسلم أخصر كما يأتي التنبيه عليه في باب القناعة من الأصل. وثمة زيادة في «شرح الحديث» في الشرح.
37 - باب طلب الإنفاق مما يحب
أي من محبوبه طبعاً فما مصدرية أو من الذي، أو من شيء يحبه، فما موصول اسمي أو نكرة موصوفة والعائد محذوف عليهما (ومن(3/123)
الجيد) عادة، أو من الجيد بالنسبة للمدفوع إليه المحبوب عنده.
(قال الله تعالى) : ( {لن تنالوا البر} ) أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضى والجنة ( {حتى تنفقوا مما تحبون} ) أي من المال أو مما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الإخوان والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيله، ومن للتبعيض أو للابتداء، ويؤيد الأول أنه قرىء بعض في مكان من.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} ) من حلاله أو من خياره ( {ومما أخرجنا لكم من الأرض} ) أي ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والتمر والمعادن فحذف المضاف لتقدم ذكره، وفي الإملاء الحسن: أظن والله أعلم أن أفضل ما يتصدق به الشخص ما كان من كسب يده، وقد كان يذهب الواحد من الصحابة رضي الله عنهم يكتسب بنحو عمل ثم يتصدق به أو منه (ولا تيمموا الخبيث) ولا تقصدوا الردىء (منه) أي من المذكور أو مما أخرجنا، وتخصيصه بذلك لأن التفاوت فيه أكثر (تنفقون) حال مقدرة من فاعل تيمموا، ويجوز أن يتعلق منه به ويكون الضمير للخبيث والجملة حالاً منه. قال بعضهم من تصدق بنفيس فاز بنفيس - {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} ــــ.
2971 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه: كان أبو طلحة) زيد بن سهل (رضي الله عنه أكثر الأنصار) هم أولاد الأوس والخزرج وهو اسم إسلامي، سموا به لنصرهم النبي بالمدينة (مالاً) تمييز عن نسبة الأكثرية إليه (من نخل) بيان لمال (وكان أحب أمواله إليه) يجوز أن يكون مرفوعاً اسم كان وخبرها (بيرحاء) ويجوز العكس، ويؤيد الأول قوله الآتي: «وإن أحبّ مالي إليّ بيرحاء» ففيه أن مراده بيان الأحب إليه، لا الحكم عليها بأنها(3/124)
أحبّ إليه، وجاء في ضبط هذا اللفظ أوجه كثيرة ضبطها في «النهاية» فقال: يروى بفتح الباء وبكسرها وفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمان لغات، كذا في باب الزكاة على الأقارب من الفتح للحافظ ونازعه تلميذه شيخ الإسلام زكريا بأن الذي في عبارة «النهاية» أنها بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها والمد فيهما وفتحهما والقصر فجملتها خمسة لا ثمانية كما وقع لبعض الشراح، وكأنه تصرف في عبارة «النهاية» اهـ. قال الحافظ: وفي رواية حماد بن سلمة «بريحاء» بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتية، وفي «سنن أبي داود» «بأريحا» مثله لكن بزيادة ألف، وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصوراً وكذا جزم به الصاغاني وقال: إنه فيعلا من البراح، قال: ومن ذكره بكسر الموحدة فظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف. وقال القاضي عياض: رواية المغاربة إعراب الراء والقصر في حاء، وخطأ هذا الصوري، وقال الباجي: أدركت أهل العلم ومنهم أبو ذر يفتحون الراء في كل حال، زاد الصوري وكذا الباء: أي أوله فانتهى الخلاف في النطق بها إلى عشرة أوجه. واختلف في «حاء» هل هي اسم رجل أو امرأة أو مكان أضيفت إليه، أو هي كلمة للإبل، فكأن الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البير إلى اللفظ المذكور (وكانت مستقبلة) بكسر الموحدة (المسجد) النبوي (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها) أي الحديقة المذكورة (ويشرب من ماء
فيها طيب) أي عذب. ففيه جواز دخول أهل الفضل للحوائط والبساتين والاستظلال بظلها والأكل من ثمرها والراحة والتنزّه، وقد يكون ذلك مستحسناً ليترتب عليه الأجر إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها في الطاعة (قال: أنس) أعاد الراوي ذكره لطول الكلام وهذه عادة العرب في محاوراتها (فلما نزلت هذه الآية) وبينها بقوله: (لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة قاصداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الله سبحانه وتعالى يقول: (لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون) وهذا من أبي طلحة من باب لازم فائدة الخبر (وإن أحبّ مالي إليّ بيرحاء وإنها) لكونها أحبّ إليّ وقد وقف حصول البرّ على الإنفاق(3/125)
من المحبوب (صدقة تعالى) أي وقفا على المتصدق بها عليه، ويحتمل صدقة التمليك وهو ظاهر سياق الماجشون عن إسحاق حيث قال: فجعلها أبو طلحة في ذوي رحمه، قاله الحافظ (أرجو برّها) أي خيرها (وذخرها) بضم الذال المعجمة وبالخاء الساكنة المعجمة هو ما يعد لوقت الحاجة إليه كما في «المصباح» : أي انتفاعي بها وقت حاجتي إليها وهو يوم القيامة وسائر أوقات الشدائد، وفسره الشيخ زكريا بقوله أي أجرها (عند الله تعالى) ظرف تنازعه ما قبله (فضعها يا رسول الله حيث أراك ا) تفويض منه إليه في تعيين مصرفها لا في وقفيتها (فقال رسول الله: بخ) بفتح الموحدة وسكون المعجمة وقد تنون مع التثقيل والتخفيف بالكسر والرفع: كلمة تقال لتفخيم الأمر والإعجاب به (ذلك) أي المتصدق به (مال رابح) بالمثناة التحتية بعد الألف أو بالموحدة بعدها كما سيأتي. قال الحافظ: في الحديث فضيلة لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحثّ على الإنفاق من المحبوب، فترقى هو إلى إنفاق أحبّ المحبوب، فصوب رأيه، وشكر عن ربه فعله، وكنى عن ذلك بقوله: بخ إلخ.
قال البيضاوي في «التفسير» : وهذا يدل على أن إنفاق أحبّ الأموال على أقرب الأقارب أفضل وإن الآية تعم الإنفاق الواجب والمستحب اهـ. (وقد سمعت ما قلت) إن كانت ما مصدرية فلا خلاف، وإن كانت موصولة فالعائد محذوف: أي قلته، ثم أمره أن يخص بها أهله بقوله (وإني أرى) من الرأي في الأمر، والجملة معطوفة على قوله وقد سمعت (أن تجعلها) صدقة (في الأقربين) أي لك (فقال أبو طلحة أفعل) بضم اللام على أن الضمير المستتر فيه لأبي طلحة (يا رسول الله فقسمها أبو طلحة) فيه تعيين أحد الاحتمالين في رواية غيره حيث وقع فيها أفعل فقسمها فإنه احتمل الأول، واحتمل أن يكون أفعل صيغة أمر وفاعل قسمها النبي فانتفى الاحتمال الثاني بهذه الرواية، وذكر الحافظ ابن عبد البرّ أن إسماعيل القاضي رواه من القعنبي عن مالك فقال في روايته: فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقاربه وبني عمه» قال وقوله أقاربه: أي أقارب أبي طلحة قال ابن عبد البرّ إضافة القسم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان شائعاً في «لسان العرب» على معنى أنه الآمر به لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك، والصواب رواية من قال: فقسمها أبو طلحة (في(3/126)
أقاربه وبني عمه) من عطف الخاص على العام، وجاء في أحاديث تبيين الأقارب وأوضحها ما في «مراسيل أبي بكر» بن حزم: فرده على أقاربه أُبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه وابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر فنقاوموه، فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم، وهذا موافق للاحتمال السابق من كون ذلك تمليكاً للأقارب (متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة وفي الوصايا وفي الوكالة وفي «التفسير» ، ورواه مسلم في الزكاة، ورواه النسائي في «التفسير» (قوله: رابح) مرويّ (في الصحيحين رابح ورائح بالباء الموحدة والياء المثناة) لفّ ونشر مرتب أو مشوش. قال المصنف: قال القاضي عياض: روايتنا فيه في كتاب مسلم بالموحدة اهـ. وأما البخاري فرواه بالوجهين ثم معناه
بالموحدة واضح من الربح: أي ذو ربح. وقيل هو فاعل بمعنى مفعول: أي مربوح فيه، وأما بالتحتية فمعناه رايح عليك أجره وبمعناه قول المصنف (أي رائح عليه) وفي نسخة (عليك نفعه) ولا يخفى ما فيه من إبهام أنه معناه على الوجهين وليس كذلك، وقد عبر به في «شرح مسلم» على الصواب فقال: أما بالموحدة فمعناه ظاهر، وأما بالمثناة فمعناه رايح عليك أجره ونفعه في الآخر اهـ. قال ابن بطال: والمعنى أن مسافته قريبة وذلك أنفس الأموال وقيل معناه يروح بالأجر ويغدو به اهـ. واكتفى بالرواح عن الغدو، وادعى الإسماعيلي أن من رواه بالتحتية فقد صحف اهـ. ملخصاً من «الفتح» ، وقيل إنما عبر به، لأن المراد أنه مال من شأنه الرواح وهو الذهاب والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى (وبيرحاء حديقة نخل) وليس اسم بئر (وروي بكسر الباء وفتحها) أي مع فتح الراء وضمها والمد والقصر كما تقدم عن الحافظ بما فيه، قال المصنف: في هذا الحديث من الفوائد: أن النفقة على الأقارب أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين، وفيه أن القرابة يراعى حقها في الصلة وإن لم يجتمعوا إلا في أب بعيد، لأن النبي أمر أبا طلحة أن يجعل ذلك في الأقربين فجعلها في أُبيّ بن كعب وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان في الجد السابع اهـ.(3/127)
38 - باب وجوب أمره أهله
أي زوجته ومستولدته (وأولاده المميزين) المراد منهم ما يشمل بناته المميزات والتذكير للتغليب وشرف الذكور (وسائر من في رعيته) من العبيد والإماء (بطاعة الله تعالى) أي امتثال أمره ونهيه وهي غير العبادة والقربة، والعبادة: ما تعبد به بشرط النية ومعرفة المعبود، والقربة: ما تقرّب به بشرط معرفة المتقرّب إليه، فالطاعة توجد بدونها في النظر المؤدي إلى معرفةالله، إذ معرفته إنما تحصل بتمام النظر، والقربة توجد بدون العبادة في القرب التي لا تحتاج إلى نية كالعتق والوقف، كذا في الأضواء البهجة (ونهيهم) هو وما بعده من المصادر مضاف لمفعوله: أي نهيه إياهم (عن المخالفة) لأوامر الله تعالى (وتأديبهم) عند فعل ما لا ينبغي فعله مما لا حد فيه ولا تعزير، أما هو فيأتي به ولا تأخذه رأفة في دين الله (ومنعهم من ارتكاب منهي عنه) بالحيلولة بينهم وبينه، وهذا واجب في المنهي عنه المحرم، مندوب في المنهي عنه المكروه، ومثله في ذلك التأديب فينبغي حمل الوجوب في الترجمة على ما يشمل الندب بأن يراد به الحق المتأكد.
(قال الله تعالى) : ( {وأمر أهلك بالصلاة} ) قال السيوطي في «الإكليل» فيه: أنه يجب على الإنسان أمر أهله من زوجة وعبد وأمة وسائر عياله بالتقوى والطاعة خصوصاً الصلاة. أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا استيقظ من الليل أقام أهله للصلاة وتلا هذه الآية اهـ.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم} ) بترك المعاصي وفعل الطاعات ( {وأهليكم} ) بالنصح والتأديب، وقرىء «وأهلكم» عطفاً على واو قوا، فتكون أنفسكم أنفس القبيلين على تغليب المخاطبين (ناراً) التنوين فيها للتعظيم، وبين عظمها بما وصفها به من قوله «وقودها الناس والحجارة» .(3/128)
2981 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي) بن أبي طالب (رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة) وفي رواية معمر عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: «كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم تمراً من تمر الصدقة والحسن في حجره» أخرجه أحمد (فجعلها في فيه) زاد أبو مسلم الكجي عن محمد بن زياد فلم يفطن له النبي حتى قام ولعابه يسيل، فضرب النبي شدقه، وفي رواية معمر «فلما فرغ حمله على عاتقه فسال لعابه، فرفع رأسه فإذا تمرة في فيه» (فقال رسول الله) زجراً له ليطرحها (كخ كخ) سيأتي ضبطها ومعناه (ارم بها) هذه من زيادة مسلم على البخاري، وفي رواية حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أحمد «فنظر إليه فإذا هو يلوك تمرة، فحرك خده وقال: ألقها يا بنيّ ألقها يا بنيّ» ويجمع بين هذين وبين قوله كخ كخ بأنه كلمه أولاً بهما، فلما تمادى قال: له كخ كخ إشارة إلى استقذاره ذلك، ويحتمل العكس بأن يكون أعلمه بذلك فلما تمادى نزعها من فيه (أما علمت) هذا لفظ مسلم، وفي رواية للبخاري «أما شعرت» وفي أخرى له في الجهاد «أما تعرف» (أنا لا نأكل الصدقة) قال المصنف: هذه اللفظة تقال في الشيء الواضح التحريم وإن لم يكن المخاطب عالماً بذلك، وتقديره، عجب كيف خفي عليك هذا مع ظهور تحريمه، وهذا أبلغ في الزجر من قوله لا تفعل (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الجهاد، ومسلم في الزكاة والنسائي في السير.
(وفي رواية) هي لمسلم كما في «الفتح» (إنا لا تحلّ لنا الصدقة) قال في رواية معمر «إن الصدقة لا تحلّ لآل محمد» وكذا عند أحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي نفسه قال «كنت مع النبي، فمرّ على جرين من تمر الصدقة» وإسناده قوي. وللطبراني والطحاوي من حديث ابن أبي ليلى نحوه (وقوله) في الحديث (كخ كخ يقال بإسكان الخاء) المعجمة مثقلة ومخففة (ويقال بكسرها) منونة وغير منونة وهي بفتح الكاف في الجميع وكسرها قال الحافظ: فيخرج من ذلك ستّ لغات، قلت بل ثمان (وهي كلمة زجر للصبيّ عن المستقذرات) قيل هي من أسماء الأصوات، وقيل من أسماء الأفعال، وأشار البخاري في(3/129)
باب من تكلم بالفارسية إلى أنها عجمية معربة، والثانية تأكيد للأولى (وكان الحسن رضي الله عنه صبياً) لأنه ولد بعد الهجرة بسنة.
2992 - (وعن أبي حفص) بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء هو الأسد وهي كنية (عمر بن أبي سلمة) واسم أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي الصحابي بن الصحابيين (ربيب رسول الله) أي ولد زوجته أم سلمة، ولدته بالحبشة وأبواه مهاجران إليها في آخر السنة الثانية من هجرة رسول الله، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر حديثاً، روى البخاري ومسلم منها حديثين، روى عنه ابن المسيب وعروة ووهب بن كيسان وغيرهم، توفي سنة ثلاث وثمانين، وقد ذكرت زيادة في ترجمته في كتاب «إتحاف السائل بمعرفة رجال الشمال» (قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله) بفتح المهملة: أي كنفه وحمايته، أو المراد به الحضن: وهو ما بين الإبط إلى الكشح فيكون كقوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} (النساء: 23) (وكانت يدي تطيش في) نواحي (الصحة) قال في «المصباح» هي إناء كالقصعة والجمع صحاف مثل كلبة وكلاب، قال الزمخشري: الصحفة قصعة مستطيلة (فقال لي رسول الله) معلماً ومؤدباً (يا غلام) بضم الميم (سم ا) أمر ندب اتفاقاً (وكل بيمينك) ذهب الجمهور إلى أنه للندب أيضاً، وذهب بعضهم إلى وجوبه ويؤيده ما تقدم في باب الأمر بالمحافظة على السنة «من أن رجلاف أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله فقال: كُل بيمينك، قال: لا أستطيع، فقال: لا استطعت فما رفعها إلى فيه بعد» وفي الطبراني «أنه رأى سبيعة الأسلمية تأكل بشمالها، فدعا عليها فأصابها طاعون فماتت» فحمله الجمهور على الزجر والسياسة (وكل مما يليك)(3/130)
أي ندباً على الأصح وقيل وجوباً لما فيه من إلحاق الضرر بالغير ومزيد الشره، قال ابن حجر الهيثمي: وانتصر له السبكي ونص عليه الشافعي في «الرسالة «ومواضع من» الأم» ، وفي «مختصر البويطي» يحرم الأكل من رأس الثريد والأصح الكراهة، ومحل ذلك ما إذا لم يعلم رضا من يأكل معه وإلا فلا حرمة ولا كراهة، لما ورد عن أنس من
تتبعه للدباء من حوالي القصعة وقول البعض إنه أكل وحده مردود بأن أنساً أكل معه (فـ) ـتسبب عن ذلك أنها (ما زالت تلك طعمتي) بكسر الطعاء المهملة لبيان الهيئة أي صفة أكلي (بعد) بضم الدال أي بعد ذلك الأمر (متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الأطعمة، والنسائي في المحاربة واليوم والليلة، وابن ماجه في الأطعمة وقوله: «سمّ الله وكل مما يليك» رواه أبو داود في الوليمة (وتطيش تدور في نواحي الصحفة) .c
3300 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها) ذكراً كان أو أنثى، رقيقاً أو حراً، متبرعاً أو مستأجراً (والخادم راع في مال سيده) فيحفظه عن أسباب التلف ولا يخون فيه (ومسؤول عن رعيته، كلكم راع ومسؤول عن رعيته. متفق عليه) وتقدم الكلام عليه في باب حق الزوج على امرأته. وفي «المغني» لابن هشام: إذا أضيفت كل إلى المعرفة قالوا: يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها نحو: كلهم قائم أو قائمون، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه(3/131)
يوم القيامة فرداً} (مريم: 93 - 95) والصواب أن الضمير لا يعود إليها من خبرها إلا مفرداً مذكراً على لفظها نحو: «وكلهم آتيه» وقوله: «كلكم راع» اهـ.
4301 - (وعن عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. صدوق من صغار التابعين، مات سنة ثماني عشرة ومائة. خرّج عنه البخاري في القدر وأصحاب السنن الأربعة (عن أبيه) شعيب، وهو صدوق ثبت سماعه من جده من كبار التابعين. خرّج عنه من ذكر (عن جده) أي جد الأب وهو عبد الله بن عمرو (رضي الله عنه) قال السيوطي: في حواشي سنن أبي داود: قال الدارقطني: سمعت أبا بكر النقاش يقول: عمرو بن شعيب ليس من التابعين، وقد روى عنه عشرون من التابعين، قال الدارقطني: فتبعتهم فوجدتهم أكثر من عشرين. قال ابن الصلاح: قرأت بخط الحافظ أبي موسى الطيبي في تخريج له قال: عمرو بن شعيب ليس بتابعي، وقد روى عنه نيف وسبعون رجلاً من التابعين، وهذا وهم فإنه روى عن صحابيتين هما الربيَّع بنت معوّذ بن عفراء، وزينب بنت أبي سلمة ربيبة النبي فهو تابعي. وقد اختلف الحفاظ في الاحتجاج بنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والراجح الاحتجاج بها مطلقاً، والضمير في جده لشعيب لا لعمرو، ومحمد المذكور في النسب لا مدخل له في هذا الإسناد إلا في حديث واحد لا ثاني له هو ما أخرجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن محمد بن عبد الله عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: «ألا أحدثكم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة» الحديث اهـ.
(قال: قال رسول الله: مروا أولادكم) وجوباً وسواء في ذلك الذكر والأنثى، وكذا يجب عليه أمر زوجته وخادمه (بالصلاة) أي وبما تتوقف عليه لأن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم بدونه (وهم أبناء سبع) أي تمامها: أي وقد ميزوا، كما والغالب بحيث صار الصبيّ يأكل وحده ويشرب وحده ويستنجي وحده (واضربوهم عليها) أي على أدائها إن امتنعوا منه ضرباً غير مبرّح ويتقّي الوجه (وهم أبناء عشر) وقد اختلف هل ذلك بعد تمامها أو بالدخول فيها، وإنما أمر بالضرب فيها لأنه حدّ يحتمل فيه الضرب غالباً (وفرقوا بينهم في المضاجع) فلا يباشر المميز غيره في المضاجع، قال ابن(3/132)
عبد السلام: الصبيّ ليس مخباطاً، وأما هذا الخبر فهو أمر للأولياء، لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً بذلك الشيء قال: وقد وجد أمر الله للصبيان مباشرة على وجه لا يمكن الطعن فيه وهو قوله تعالى: {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم} (النور: 58) اهـ. وآخر الحديث «وإذا زوّج أحدكم خادمه، عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرّة وفوق الركبة» (حديث حسن رواه أبو داود بإسناد حسن) ورواه الإمام أحمد والحاكم في «المستدرك» .
5302 - (وعن أبي ثرية) بضم المثلثة وفتح الراء وبتشديد التحتية ويقال بفتح المثلثة وكسر الراء والأول أكثر. وقال في «أُسد الغابة» : والأول أصح. وقال المصنف في «التهذيب» ، حكى ابن الأثير فتح الثاء وهو غريب، كنية (سبرة) بفتح المهملة الأولى وسكون الموحدة (ابن معبد) بفتح الميم الموحدة وسكون المهملة بينهما. قال في «أسد الغابة» : يقال سبرة بن معبد ويقال سبرة بن عوسجة بن سبرة بن خديج بن مالك بن عمرو بن ذهل بن ثعلبة بن نضر بن سعد بن دينار بن رشدان بن قيس بن جهينة (الجهني رضي الله عنه) ويكنى بأبي الربيع أيضاً روى عنه الربيع في المتعة. قال المصنف في «التهذيب» : يكنى بأبي ثرية على المشهور، وقيل كنيته أبو الربيع حكاه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في «الأطراف» ، كان له دار بالمدينة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر حديثاً، روى مسلم منها حديثاً واحداً، توفي في خلافة معاوية (رضي الله عنهما) .
(قال: قال رسول الله: علموا الصبي) المراد به ما يشمل الصبية لأنه فعيل بمعنى فاعل، وفعيل إذا كان كذلك يستوي فيها المذكر والمؤنث (الصلاة لسبع سنين، واضربوه عليها) حال كونه (ابن عشر سنين) فهو حال من ضمير المفعول، ويجب على الوليّ إذا ميز الصبيّ أن يعلمه ما يجب اعتقاده مما يجب ويجوز ويستحيل في حق الله تعالى وحق رسوله وحق سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن شرائعهم نسخت كلها بشريعة نبينا التي لا تنسخ أبداً، وأنه محمد بن عبد الله النبي(3/133)
الرسول العربي، ولد بمكة ومات بالمدينة، ويعلمه أحكام الشرائع ليرسخ ذلك عنده، فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر (رواه) أي هذا الخبر لا بخصوص هذا اللفظ لما يأتي من قوله: ولفظ أبي داود إلخ (أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) كان الأولى تقديم ذكر الترمذي لأنه راوي اللفظ، وكأنه قدم أبا داود لعلوّ رتبة مرويه على مروي من بعده، ويعود الضمير من قوله: «وقال» إلى أقرب مذكور (ولفظ أبي داود: مروا الصبيّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين) ليتمرّن عليها ويعتادها فلا يتركها إذا بلغ إن شاء الله تعالى.
39 - باب حق الجار
أي ما يستحقه (والوصية) من الشارع (به) وفي ذلك حصول الألف والتوادّ الذي به نظام المعاش والمعاد. وفي «المصباح» : الجار: المجاور في السكن والجمع جيران، وجاوره مجاورة وجواراً من باب قاتل والاسم الجوار بالضم: إذا لاصقه في السكن، وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي الجار هو الذي يجاورك ببيت اهـ. وأما الجار شرعاً ففي الوصايا: لو أوصى لجيرانه دفع لأربعين داراً من كل جانب من الجوانب الأربعة.
(قال الله تعالى) : ( {واعبدوا ا} ) أي وحدوه ( {ولا تشركوا بي شيئاً} ) صنماً أو غيره أو شيئاً من الشرك جلياً أو خفياً ( {وبالوالدين إحساناً} ) أي وأحسنوا بهما إحساناً ( {وبذي القربى} ) أي وبصاحب القرابة ( {واليتامى والمساكين} ) تقدم تعريفهما في باب ملاطفة اليتيم والمساكين ( {والجار ذي القربى} ) الذي قرب جواره، وقيل الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو(3/134)
دين، وقرىء بالنصب على الاختصاص تعظيماً لحفظه ( {والجار الجنب} ) البعيد أو الذي لا قرابة له. وعنه عليه الصلاة والسلام: «الجيران ثلاثة، فجار له ثلاث حقوق: حق الجوار وحق القرابة، وحتى الإسلام. وجار له حقان: حق الجوار وحق الإسلام، وجار له حق الجوار وهو المشرك من أهل الكتاب» ( {والصاحب بالجنب} ) الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر فإنه صحبك وحصل بجنبك، وقيل المرأة ( {وابن السبيل} ) المسافر والضيف ( {وما ملكت أيمانكم} ) من العبيد والإماء.
1303 - (وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما زال جبريل) عليه السلام تقدم في باب المراقبة أنه اسم سرياني. قيل: معناه عبد الرحمن، وقيل: معناه عبد الله (يوصيني بالجار) أي بالاعتناء به والاحتفال بشأنه (حتى) من شدة ذلك (ظننت أنه سيورثه) فيكون سبب الإرث الجوار، كما كان سببه أول الإسلام التحالف والتعاهد حتى نسخ بآية المواريث (متفق عليه) واللفظ للبخاري ولفظ مسلم «ليورثنه» بالمضارع المؤكد بالنون.
2304 - (وعن أبي ذرّ) جندب بن جنادة وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المراقبة (قال: قال رسول الله: يا أبا ذرّ) يكتب بحذف ألف أبا الأولى تخفيفاً وينطق بها، كذا قيل، والظاهر بحذف ألف حرف النداء لأن ألفه تحذف في رسم الإمام وكذا هنا إلحاقاً به (إذا(3/135)
طبخت مرقة) هو الماء الذي طبخ فيه اللحم ونحوه، وتوضحها رواية ابن أبي شيبة الآتية، ولفظ المرقة هنا مجاز مرسل علاقته الأول فهو نظير قوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} (يوسف: 36) (فأكثر ماءها) ليكثر الائتدام بها، فإن المراد بها إساغة الخبز وتليينه، وذلك يستوي فيه ضيق المرقة وواسعها (وتعاهد) ندباً (جيرانك) أي بالإحسان إليهم وفعل البرّ معهم، وفي التعبير بالتعاهد الموضوع للمشاركة في الفعل: أي: إلى طلب ذلك من كل الجيران مع الباقين (رواه مسلم) وعند ابن أبي شيبة من حديث جابر مرفوعاً «إذا طبختم اللحم فأكثروا المرق/ فإنه أوسع وأبلغ بالجيران» . ففي الحديث الحض على مكارم الأخلاق والإرشاد لمحاسنها لما يترتب عليه من المحبة والألفة ولما يحصل به من المنفعة ودفع الحاجة والمفسدة فقد يتأذى الجار بقتار قدر جاره وعياله وصغار ولده ولا يقدر على التوصل لذلك، فتهيج من صغارهم الشهوة ويقوم على القائم بهم الألم والكلفة، وربما كان يتيماً أو أرملة فتكون المشقة أعظم وتشتد منهم الحسرة والألم، وكل ذلك ليندفع بتشريكهم في شيء من الطبخ فلا أقبح من منع هذا اليسير المترتب عليه هذا الضرر الكبير.
(وفي رواية له) أي لمسلم (عن أبي ذر قال: إن خليلي) لا ينافيه حديث: «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر» لأن الذي لم يكن اتخاذ النبي غير ربه خليلاً، أما اتخاذ غيره إياه خليلاً فلا، ومثله حديث أبي هريرة «أوصاني خليلي بثلاث: أن لا أنام قبل أن أوتر» الحديث (أوصاني إذا طبخت مرقاً) أي ذا مرق من لحم وغيره (فأكثر ماءه ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها) أي المرقة المدول عليها بالمرق (بمعروف) الباء صلة الفعل قبله، وجملة إذا طبخت تحتمل أن تكون مفسرة لقوله أوصاني خليلي، وأن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً، كأنه قيل: ما قال لك إذا أوصاك، فقال: قال إذا طبخت إلخ. وفي قوله بمعروف إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون المرسل به إلى الجيران شيئاً به نفع في الائتدام، فإن لم يتيسر إلا القليل فليهده ولا يحتقره ففي الحديث «لا تحقرن من(3/136)
المعروف شيئاً» ويكون المهدى إليه مأموراً بقبوله ذلك والمكافأة عليه ولو بالشكر، فإنه وإن كان قليلاً دليل على تعلق قلب المهدي بجاره.
3305 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) كذا في نسختين من الرياض، والذي في باب «إثم من لاتأمن جيرانه بوائقه» من «صحيح البخاري» أن الحديث عن أبي شريح (أن النبي قال: وا لا يؤمن، وا لا يؤمن، وا لا يؤمن) فيه الحلف من غير استحلاف وتكراره لتأكيد الأمر وهو لذلك مستحبّ والمراد من الإيمان المنفي الإيمان الكامل لا أصله المخرج من النار المدخل في الجنة فذلك لا يزول بهذا (قيل: من يا رسول الله؟) هذا الذي نفى عنه الإيمان مراراً (قال) هو (الذي لا يأمن جاره بوائقه) فالموصول خبر لمبتدأ محذوف (متفق عليه) الخبر أخرجه البخاري، في الأدب واللفظ له لكن من حديث أبي سريج كما تقدم.
(وفي رواية لمسلم) من حديث أبي هريرة رواها عنه في كتاب الإيمان قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يدخل الجنة) أي مع الناجين، قال المصنف: ومعناه: هذا جزاؤه ثم قد يجازى بذلك وقد يعفو عنه فيدخلها ابتداء، أو مطلقاً إن استحل أذاه بما علم تحريمه بالضرورة (من لا يأمن جاره) وفي نسخة «ولا يؤمن جاره» (بوائقه. البوائق: الغوائل) بالغين المعجمة (والشرور) واحدها بائقة قال في «شرح مسلم» وهو الغائلة والداهية.
4306 - (وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قال: قال رسول الله: يا نساء المسلمات) من إضافة الموصوف إلى صفته وهو مؤول عند البصريين: أي يا نساء الجماعة المسلمات (لا تحقرنّ جارة) معروفاً (لجارتها ولو فرسن شاة. متفق عليه) وتقدم الكلام عليه في(3/137)
باب بيان كثرة طرق الخير.
5307 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يمنع) بالجزم على أنها ناهية، ولبعض رواة البخاري بالرفع: نفي بمعنى النهي (جار جاره) من (أن يغرز خشبة في جداره) أي لا يمنعه من ذلك في ملكه وإن تضررّ هو بذلك كأن يحدث له بها ظلام في محله ونحو ذلك، فإن المالك له أن يفعل في ملكه ما يشاء وإن آذى الجار والمار، والأكثر على أن الضمير في جداره يرجع إلى المانع: أي لا يمنعه من غرزه في جدار نفسه، لأن ذلك مما يتسامح به ويتساهل فيه، هو القول القديم للشافعي في جمع من الأئمة (ثم يقول أبو هريرة) بعد روايته الحديث (مالي) مبتدأ والظرف خبر (أراكم) جملة حالية من الضمير (عنها) أي عن السنة، أو الخصلة أو المقالة (معرضين) إن كانت أرى علمية فهو مفعول ثان وإن كانت بصرية فحال، والظرف متعلق به قدم عليه اهتماماً به واختصاصاً (وا لأرمين بها) أي بهذه السنة (بين أكتافكم) بالفوقية جمع كتف: أي بينكم، قال القاضي عياض وقد رواه بعض رواة الموطأ أكنافكم بالنون، ومعناه أيضاً بينكم، والكنف: الجانب، ومعنى الأول، أني أصرح بها بينكم وأوجعكم بالتقريع بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه (متفق عليه) .
(روى خشبه بالإضافة) إلى هاء الضمير (والجمع) لخشبه بحذف هاء الوحدة (وروي خشبة بالتنوين) مع هاء الواحدة (على الإفراد) قال الحافظ في «الفتح» : قال ابن عبد البرّ: روي اللفظان في الموطأ والمعنى واحدة، لأن المراد الجنس وهذا متعين للجمع، وإلا فالمعنى قد يختلف باعتبار أن أمر الخشبة الواحدة أخفّ في مسامحة الجار بخلاف الخشب الكثير اهـ. قال القاضي: روينا قوله خشبة في «صحيح مسلم» وغير من الأصول بالإفراد والجمع، قال: وقال الطحاوي عن روح بن الفرج: سألت أبا زيد والحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى عنه فقالوا كلهم خشبة بالتنوين على الإفراد. وقال عبد الغني بن سعيد: كل يقوله بالجمع إلا الطحاوي. وفي «فتح الباري» وما ذكرته من اختلاف رواة الصحيح يردّ على عبد الغني، إلا أن المراد خاصاً من الناس كالذين روى عنه الطحاوي اهـ. (وقوله ما لي أراكم عنها معرضين: يعني عن هذه السنة) قال المصنف في شرح مسلم: جاء(3/138)
في رواية أبي داود: «فنكسوا رؤوسهم، فقال ما لي أراكم أعرضتم» واختلف العلماء في معنى هذا الحديث، هل هو على الندب إلى تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره أم على الإيجاب؟ وفيه قولان للشافعي ولأصحاب مالك، أصحهما في المذهبين الندب، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون، والثاني الإيجاب وبه قال أحمد وأبو ثور وأصحاب الحديث وهو ظاهر الحديث، ومن قال بالندب قال، ظاهر الحديث أنهم توقفوا عن العمل فقال: ما لي أراكم عنها معرضين، وهذا يدل على أنهم فهموا منه الندب لا الإيجاب، وإلا لما أطبقوا على الإعراض عنه اهـ.
6308 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن) إيماناً كاملاً (با واليوم الآخر) هو يوم القيامة الذي هو محل الجزاء على الأعمال حسنها وقبيحها، وسمي باليوم الآخر لأنه لا يوم بعده، وذكره هنا دون نحو الملائكة مما ذكر معه في حديث جبريل تنبيه وإرشاد لما أشرنا إليه مما يوقظ النفس ويحركها في الهمة للمبادرة إلى امتثال جزاء هذا الشرط وما هو مثله (فلا يؤذي جاره) كذا هو بإثبات الباء وهو محمول على أن لا نافية والمبتدأ مقدر قبله، والأصل فهو لا يؤذي جاره: أي هذا شأنه، ويجوز أن تكون ناهية وتكون الياء فيه للإشباع، وإيذاء الجار حرام (ومن كان يؤمن با واليوم الآخر) إيماناً كاملاً (فليكرم ضيفه) الغني والفقير بحسن البشر والمبادرة بما تيسر عنده من الطعام من غير كلفة ولا إضرار بأهله إلا أن يرضوا وهم بالغون عاقلون، وعليه يحمل ما ورد من الثناء على الأنصاري وامرأته في إيثارهما الضيف على أنفسهما. والضيف لغة يشمل الواحد والجمع من أضفته وضيفته: إذا أنزلته بك ضيفاً، وضفته وتضيفته: إذا نزلت عليه ضيفاً (ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليقل) اللام فيه وفي فليكرم للأمر ويجوز سكونها وكسرها حيث دخلت عليها الفاء والواو وثم بخلافها في ليسكت فإنها مسكورة لا غير (خيراً) قال الشافعي:(3/139)
لكن بعد أن يتفكر فيما يريد أن يتكلم به، فإذا ظهر له أنه خيرمحقق لا يترتب عليه مفسدة ولا يجرّ إلى كلام محرم أو مكروه أتى به (أو ليسكت) فليطلب الصمت حتى عن المباح لأنه ربما أدى إلى محرم أو مكروه، وبفرض أنه لا يؤدي إليهما ففيه ضياع الوقت فيما لا يعني، وقد ورد «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، وهو من القواعد العظيمة لأنه بين فيه جميع أحكام اللسان الذي هو أكثر الجوارح فعلاً، وبهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه إنه ثلث الإسلام. وقال بعضهم: جميع آداب الخير تتفرّع منه، ويشار فيه إلى
سائر خصال البرّ والصلة والإحسان لأن آكدها رعاية حق الجوار، وبهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه إنه نصف الإسلام، لأن الأحكام إما أن تتعلق بالحق أو بالخلق، وهذا أفاده الثاني لأن وصلة الخلق تستلزم رعاية جميع حقوقهم.
7309 - (وعن أبي شريح) بضم الشين المعجمة وفتح الراء آخره مهملة قبلها تحتية ساكنة (الخزاعي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب ملاطفة اليتيم (أن النبي قال: من كان يؤمن با واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) ذكر حديث أبي هريرة قبل هذا، لأن ما في ذلك من باب الدرء والتخلية، وما في هذا من باب جلب النفع والتحلية، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأشار المصنف بالجمع بينهما إلى أن كمال الإيمان لا يحصل إلا بالجمع بين الأمرين، فيكفّ عنه أذاه ويحسن إليه بما تصل إليه قدرته (من كان يؤمن با واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت) ولعل حكمة الفصل بين الجمل في هذه الرواية الإيماء إلى أن مضمون كل منها مطلوب لذاته من غير اعتبار انضمام غيره إليه وإن كان أفضل، ولذلك وصل بينهما في الروايات الأخر (رواه مسلم) في كتاب الإيمان من «صحيحه» (بهذا اللفظ) ورواه أحمد والترمذي.
(وروى(3/140)
البخاري بعضه) قلت: بل جميعه إلا أن في اللفظ اختلافاً يسيراً فقال في كتاب الأدب من الصحيح في باب «من كان يؤمن با واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» عن أبي شريح العدوي قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي «من كان يؤمن با واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، ثم فسر الجائزة ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» .
8310 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله إن لي جارين) أي وقد أمرت بإكرام الجار مطلقاً ولا أقدر على الإهداء إليهما معاً (فإلى أيهما أهدي) ليحصل لي بالدخول في جملة القائمين بإكرام الجار (قال: إلى أقربهما منك باباً) لأنه المراد بالجار ذي القربى على أحد الأقوال، وقد قدم في الذكر على الجار الجنب اهتماماً به واعتناء بشأنه، ففيه إيماء إلى تقديمه عند المضايقة وباباً منصوب على التمييز (رواه البخاري) .
9311 - (وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: خير الأصحاب عند ا) أي أكثرهم عنده ثواباً أو أكرمهم عنده منزلة قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13) (خيرهم لصاحبه) في القيام بما ينفعه والدفع لما يؤذيه (وخير الجيران) ثواب أو منزلة (عند الله خيرهم لجاره، رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد والحاكم(3/141)
وورد ما يعم ذلك في حديث: «الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعباده» .
40 - باب بر الوالدين وصلة الأرحام
أي بيان ما ورد فيهما ويحصل به ذلك.
(قال الله تعالى) : ( {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} ) لا صنماً ولا غيره أو شيئاً من الشرك جلياً كان أو خفياً، فهو على الأول مفعول به، وعلى الثاني مفعول مطلق ( {وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} ) تقدم الكلام على الآية في الباب قبله.
(وقال تعالى) : ( {واتقوا ا} ) بامتثال أوامره واجتناب منهياته: أي اجعلوا ذلك وقاية لكم من عذابه ( {الذي تساءلون به} ) بإدغام إحدى التاءين في السين وقرىء بالتخفيف على حذف إحداهما أي الذي يسأل بعضكم به بعضا فيقول أحدكم أسألك با ( {والأرحام} ) أي واتقوا الأرحام، وقرأ حمزة {والأرحام} بالخفض عطفا على الضمير لقولهم أسألك با وبالرحم، قاله مجاهد، قال ابن عطية: وهذه القراءة عند نحاة البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض إلا في ضرورة كقوله:
فاذهب فما بك والأيام من عجب
لأن الضمير المخفوض لا ينفصل، فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف، واستشكل بعض النحاة هذه القراءة اهـ. قال السفاقسي: الصحيح جواز العطف على الضمير من غير إعادة الجار كمذهب الكوفيين، ولا ترد القراءة متواترة لمذهب البصريين، قال الثعالبي: وهو حسن، والرازي نحوه. قلت: القراءة ثابتة ومقبولة على المذهبين، لكنها على قول البصريين محمولة على أن الواو للقسم والأرحام مقسم به، وتعالى أن(3/142)
يقسم بما شاء، والله أعلم.
(وقال تعالى) : ( {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} ) قال ابن عباس: يريد الإيمان بجميع الكتب والرسل يعني يصلون بينهم بالإيمان بهم ولا يفرّقون بين أحد منهم، والأكثرون على أن المراد به صلة الرحم (الآية) بالنصب على تقدير أتم الآية، أو بالرفع على تقدير الآية معلومة، وتمامها {ويخشون ربهم} (الرعد: 21) أي إنهم مع وفائهم بعهد الله وميثاقه والقيام بما أمر الله به من صلة الرحم يخشون ربهم، والخشية خوف يشوبه تعظيم، وإنما يكون ذلك على علم ما يخشى به منه: {ويخافون سوء الحساب} (الرعد: 21) قال إبراهيم النخعي: هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر له منه شيء.
(وقال تعالى) : ( {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً} ) أي براً وعطفاً، والمعنى: ووصينا الإنسان أن يحسن بوالديه إحساناً، وهذه الآية هي التي في العنكبوت ونزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان لما أسلم وكان بارّاً بأمه، فقالت أمه: ما هذا الدين وا لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فمكثت كذلك أياماً فجاءها سعد فقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فكلي إن شئت أو اتركي فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل اهذه الآية، وأمر بالبرّ بوالديه والإحسان إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك.
(وقال تعالى) : ( {وقضى ربك} ) أي أمر قاله ابن عباس. وقيل: معناه أوجب. وحكى عن الضحاك: أنه قرأ ووصى ربك وقال: إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافاً، وهي قراءة علي وابن مسعود. قال الإمام فخر الدين الرازي: هذا القول بعيد جداً، لأنه يفتح بابي التغيير والتحريف في القرآن، ولو جوّزنا ذلك لارتفع الأمان عن القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا شك أنه طعن عظيم في الدين ( {ألا تعبدوا إلا إياه} ) فيه وجوب عبادته والمنع من عبادة غيره، إذ هي نهاية التعظيم، ولا تليق إلا بالمنعم المتفضل، وليس ذلك لسواه (و) أن تحسنوا أو تفعلوا ( {بالوالدين إحساناً} ) أي برّا(3/143)
بهما وعطفاً عليهما وإحساناً إليهما ( {إما} ) هما إن الشرطية وما الزائدة للتأكيد، ولذا أكد الفعل في قوله: ( {يبلغن عندك الكبر} ) مفعول مقدم ( {أحدهما} ) فاعل ( {أو كلاهما} ) معناه أن يبلغ الكبر أحدهما أو كلاهما عندك فيصير في الضعف والعجز كما كنت أنت عندهما كذلك أولاً ( {فلا تقل لهما أفّ} ) وهي كلمة تضجر وكراهة، وقيل أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك شيء من تراب أو رماد نفخته لتنزيله بقول أفّ، ثم توسعوا بذكر هذه الكلمة عند كل مكروه يصل الإنسان. وفي الآية تحريم إيذائهما بالقياس الأولوي، وفي أفّ أربعون لغة ذكرها في الارتشاف، وحاصلها أن الهمزة إما أن تكون مضمومة أو مكسورة أو مفتوحة، فإن كانت مضمومة فاثنتان وعشرون لغة، وحاصل ضبطها أنها إما مجردة عن اللواحق أو ملحقة بزوائد، والمجردة إما أن يكون آخرها ساكناً أو متحركاً والمتحرك الآخر إما مشددة أو مخففة وكل منهما مثلث الآخر مع التنوين، وعدمه فهذه اثنا عشرة لغة في المتحركة والساكنة إما مشددة أو مخففة فهذه أربع عشرة واللاحق لها من الزوائد إما هاء السكت أو حرف المد، فإن كان هاء السكت فالفاء مثلثة مشددة فهذه سبع عشرة لغة، وإن كان حرف مد فهو إما واو أو ألف أو ياء والفاء فيهن مشددة، والألف إما مفخمة أو بالإمالة المحضة أو
بين بين، فهذه خمس أخرى مع السبع عشرة، وإن كانت مكسورة فإحدى عشرة مثلثة الفاء مخففة مع التنوين وعدمه، فهذه ست، وفتح الفاء وكسرها بالتشديد فيهما مع التنوين وعدمه فهذه أربع لغات، والحادية عشرة، أوفي بالإمالة، وإن كانت مفتوحة فالفاء مشددة مع الفتح والكسر والتنوين وعدمه، والخامسة أفّ بالسكون، والسادسة أفي بالإمالة، والسابعة أفاه بهاء السكت، فهذه السبعة مكملة للأربعين. نقله الأزهري في «شرح التوضيح» ، قال الحافظ في «فتح الباري» : وإن استعمل القياس فيها بلغت السبعين لغة (
{ولا تنهرهما} ) أي تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك، يقال: نهره وانتهره بمعنى، ووجه الجمع بينه وبين ما قبله مع أنه يدل على هذا أن ذاك للمنع من إظهار الضجر القليل والكثير، وهذا للمنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد ( {وقل لهما قولاً كريماً} ) أي حسناً جميلاً ليناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما، وقيل هو قول يا أباه، يا أماه ولا يسميهما باسمهما ولا بكناهما، وقيل هو أن يقول لهما كقول العبد الذليل للسيد الفظ الغليظ ( {واخفض لهما جناج الذلّ} ) أي ألن لهما جناحك واخفضه لهما حتى لا تمتنع من شيء أحباه ( {من الرحمة} ) أي(3/144)
الشفقة عليهما لكبرهما وافتقارهما إليك الآن كما كنت مفتقراً إليهما قبل (وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً) أي وادع الله أن يرحمهما رحمته الباقية، وأراد إذا كانا مسلمين أما الكافران فالدعاء منسوخ في حقهما، قال تعالى: {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} (التوبة: 113) الآية. وقيل يدعو لهما بالهداية للإسلام فإذا هديا إليه رحما.
(وقال تعالى) : ( {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن} ) أي شدة على شدة، وقيل إن المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والمشقة، وذلك أن الحمل ضعف والطلق ضعف والوضع ضعف ( {وفصاله} ) أي فطامه ( {في عامين} ) أي سنتين ( {أن اشكر لي ولوالديك} ) قال ابن عيينة في هذه الآية: من صلى الصوات الخمس فقد شكرالله، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات فقد شكر لهما.
1312 - (وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود) بن غافل الهذلي (رضي الله عنه قال: سألت النبي أي العمل أحب إلى ا) أي أكثر تقرّباً إليه لكونه أفضل، وفي رواية مالك بن مغول «أيّ العمل أفضل» وكذا لأكثر الرواة، فإن كان هذا اللفظ هو المسؤول به فلفظ حديث الباب ملزوم عنه، وتقدم الجواب عن نحو هذا الحديث مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال بأنه ذلك باختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كلاماً هو إليه أحوج أو هو به أليق أو باختلاف الأوقات أو أنه على تقدير من التبعيضية (قال: الصلاة على وقتها) وفي رواية لهما «لوقتها» قال القرطبي وغيره قوله لوقتها اللام للاستقبال مثل: {فطلقوهن لعدتهن} (الطلاق: 1) أي مستقبلات عدتهن وقيل للابتداء كقوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء: 78) وقيل بمعنى في: أي في وقتها، وقوله على وقتها قيل على بمعنى(3/145)
اللام ففيه ما تقدم، وقيل لإرادة الاستعلاء على الوقت، وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه اهـ. وفي الحديث دليل على أن الصلاة أفضل عبادات البدن بعد الشهادتين، ويشهد له الخبر الصحيح «الصلاة خير موضوع» أي خير عمل وضعه الله لعباده ليتقرّبوا به إليه (قلت: ثم) هي لتراخي الرتبة: أي ثم بعد الصلاة (أي) قال الحافظ: قيل الصواب أنه غير منون لأنه موقوف عليه في الكلام، والسائل منتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه فتنوينه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفه لطيفة ثم يؤتى بما بعده. قال الفاكهاني: وحكى ابن الجوزي
وابن الخشاب الجزم بتنوينه لأنه معرف غير مضاف، وتعقب بأنه مضاف تقديراً والمضاف إليه محذوف لفظاً، والتقدير: ثم أيّ العمل أحبّ، فيوقف عليه بلا تنوين اهـ. (قال برّ الوالدين) قال ابن حجر: والظاهر أن المراد به إسداء الخير إليهما مما يلزمه، ويندب له مع إرضائهما بفعل ما يريدانه ما لم يكن إثماً، وليس ضده العقوق بل قد يكون بينهما واسطة كما يفيده حدّ العقول بأن يفعل بهما ما يؤذيهما به إيذاء لبس بالهين (قلت: ثم أيّ؟ قال الجهاد في سبيل ا) لإعلاء كلمة الله (متفق عليه) .
2313 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يجزي) قال المصنف، بفتح أوله ولا همز في آخره: أي لا يكافىء (ولد والداً) وإن علا ذكراً كان أو أنثى: أي لا يقوم بمكافأته فيما له عليه بالإحسان وقضاء الحاجات (إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) وأخذ أهل الظاهر من مفهوم هذا الخبر توقف عتق القريب إذا ملك على إنشاء المالك للعتق ولو أصلاً أو فرعاً. وقال جماهير العلماء: يحصل العتق في الأصل والفرع مطلقاً بمجرد الملك سواء المسلم والكافر والقريب والبعيد والوارث وغيره. واختلف فيما وراء عمود النسب. فقال الشافعي وأصحابه: لا يعتق غيرهما بالملك. وقال مالك: تعتق الإخوة. وقال أبو حنيفة: يعتق ذوو الأرحام المحرّمة، وتأول الجمهور الحديث المذكور(3/146)
على أنه لما تسبب في شرائه المتسبب عليه بالعتق أسند إليه (رواه مسلم) والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وقال صحيح وابن ماجه.
3314 - (وعنه أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن با واليوم الآخر) أي إيماناً كاملاً (فليكرم ضيفه) وتقدم ما في الحديث في الباب قبله (ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليصل رحمه) وتقدم الحديث في الباب قبله. قال القاضي عياض: لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة وقطيعتها معصية كبيرة. قال: والأحاديث في الباب تشهد بهذا، ولكن الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام وبالسلام. ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة: فمنها واجب ومنها مستحب، ولو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعاً، ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له لم يسم واصلاً، وسيأتي بيان الكلام في حد الحرم المأمور بصلتها (ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) بضم الميم، وأصمت بمعناه مضارعه يصمت بضم الميم، قاله المصنف. واعترض بأن المسموع والقياس كسرها إذ قياس فعل مفتوح العين يفعل بكسرها ويفعل بضمها دخيل فيه كما نص عليه ابن جني، وإنما يتجه ذلك إن سبرت كتب اللغة فلم تر ما قاله وإلا فهو حجة في النقل، وهو لم يقل هذا قياساً حتى يعترض بما ذكر وإنما قاله نقلاً كما هو الظاهر من كلامه فوجب قبوله: أي ليسكت عما لم يظهر له فيه الخير كما تقدم بسطه في الباب قبله (متفق عليه) .
4315 - (وعنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى خلق الخلق) أي أوجدهم(3/147)
واخترعهم من كتم العدل بباهر قدرته (حتى إذا فرغ منهم) أي كمل خلقهم لا أنه تعالى كان مشتغلاً بهم ثم فرغ من شغلهم، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فليست أفعاله تعالى بمباشرة ولا مناولة ولا بآلة ولا محاولة، تعالى عما يتوهمه المتوهمون: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس: 82) (قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة) قال القاضي عياض: الرحم التي توصل وتقطع وتبرّ إنما هي معنى من المعاني ليست بجسم إنما هي قرابة ونسب يجمعه رحم والدة ويتصل بعضه ببعض وسمي بذلك الاتصال رحماً، والمعاني لا يتأتى منها القيام ولا الكلام، فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب استعمال ذلك، والمراد تعظيم شأنها وفضيلة واصلها وعظيم اسم قاطعها بعقوقهم، ولذا سمي العقوق قطعاً، والعق الشق كأنه قطع ذلك السبب المتصل. قال: ويجوز أن يكون المراد قيام ملك من الملائكة تعلق بالعرش وتكلم على لسانها بذلك بأمر الله تعالى اهـ. قال القرطبي: فالحديث محمول إما على أن ملكاً تكلم بذلك، أو على أنه لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام، فيكون على وجه الفرض والتقدير. قال المصنف: والعائذ المستعيذ، وهو المعتصم بالشيء الملتجىء إليه المستجير به (قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك) قال العلماء: حقيقة الصلة العطف والرحمة، وصلة الله سبحانه عباده لطفه بهم ورحمته إياهم وعطفه بإحسانه ونعمه، أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته أو إرادته ذلك (قالت) أي الرحم لو كانت متكلمة أو الملائكة المتكلمة بذلك (بلى) أي رضيت به (قال فذلك) بكسر الكاف فيه وفي (لك) لأن المخاطب مؤنث (ثم قال رسول الله: اقرءوا إن شئتم)(3/148)
أي ما يدل لذلك وجملة الشرط معترضة وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه ومفعول اقرؤوا قوله:
( {فهل عسيتم} ) أي فهل يتوقع منكم، ويجوز فتح السين وكسرها وبهما قرىء: ( {إن توليتم} ) أمور الناس وتأمرتم عليهم أو أعرضتم وتوليتم عن الإسلام ( {أن تفسدوا في الأرض} ) بأنواع العتو ( {وتقطعوا أرحامكم} ) تشاجراً على الولاية وتجاذباً لها، أو رجوعاً إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغادر والماقتلة مع الأقارب. والمعنى: أنهم لضعفهم في الدين وحرصهم على الدنيا أحق بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم ويقول لهم: هل عسيتم، وهذا على لغة الحجاز فإن بني تميم لا يحلقون الضمير به، وخبره أن تفسدوا، وإن توليتم اعتراض (
{أولئك} ) إشارة إلى المذكورين ( {الذي لعنهم ا} ) لإفسادهم وقطعهم أرحامهم ( {فأصمهم} ) عن سماع الحق ( {وأعمى أبصارهم} ) فلا يهتدون إلى سبيله. وعلى القول الثاني: أي قوله أعرضتم وتوليتم عن الإسلام تكون الرحم المذكورة دين الإسلام والإيمان التي قد سماها الله تعالى إخوة بقوله: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10) وقال الفراء: نزلت هذه الآية في بني هاشم وبني أمية. قال القرطبي: وعليه فالرحم بمعنى القرابة قال المصنف: قال القاضي عياض: وقد اختلف في حدّ الرحم التي تجب صلتها ويحرم قطعها، فقيل هو كل رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى حرمت مناكحتهما فعليه لا تدخل أولاد العم والخال. واحتج هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح ونحوه وجواز ذلك في بنات الأعمام والأخوال، وقيل هو عام في كل ذي رحم من ذوي الأرحام في الميراث يستوي فيه المحرم وغيره، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «ثم أدناك أدناك» اهـ.
قال المصنف والقول الثاني هو الصواب، ومما يدل عليه قوله في الحديث في أهل مصر «فإن لهم ذمة ورحما» وحديث «إن أبرّ البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه» مع أنه لا محرمية والله أعلم. قال القرطبي: ويخرج من هذا القول أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم. والصواب ما ذكرناه من أنها قرابات الرجل من جهة طرفي أبائه وإن علوا وأبنائه وإن نزلوا، وما يتصل بالطرفين من الإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، وما يتصل بهم من أولادهم برحم جامعة اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الأدب ومسلم في كتاب البرّ والصلة.
(وفي رواية للبخاري) هي في كتاب الأدب أيضاً عن أبي هريرة (فقال الله تعالى: من(3/149)
وصلك وصلته ومن قطعك قطعته) فالفرق بين اللفظين أن الأوّل إخبار عما يبدو في عالم الشهادة للواصل والقاطع، والثاني إخبار عما في الأزل: أي قضيت أزلاً بوصل الواصل وقطع القاطع.
5316 - (وعنه: جاء رجل) قيل: هو معاوية بن حيدة، وقد جاء في «سنن أبي داود» والترمذي عنه أنه قال: «يا رسول الله من أبرّ؟ قال: أمك» الحديث وفي آخره «ثم الأقرب فالأقرب» (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أحقّ الناس بحسن صحابتي) بفتح الصاد المهملة مصدر صحب (قال أمك) وذلك لضعفها وحاجتها (قال: ثم من؟) أي الأحق بعدها (قال) تأكيداً للقيام بحق الأم (أمك، قال: ثم من؟) الأحق بعدها (قال) مبالغاً في تأكيد حق الأم (أمك، قال: ثم من؟) الأحق بعدها (قال أبوك. متفق عليه) .
(وفي رواية) لمسلم (يا رسول الله: من أحقّ بحسن الصحبة؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك) ثم (أدناك والصحابة) المذكورة في الرواية أولاً (بمعنى الصحبة) المذكور في الرواية الثانية هي بضم الصاد (وقوله ثم أباك هكذا هو) في الرواية الثانية (منصوب بفعل محذوف) جوازاً (أي ثم برّ أباك) وفيه عطف الجملة الطلبية على الجملة الخبرية، ويجوز تخريجه على أنه مرفوع بضمة على الألف على لغة القصر (وفي رواية ثم أبوك وهو واضح) أي إنه معطوف على الخبر للمبتدأ المحذوف.(3/150)
6317 - (وعنه: عن النبي قال: رغم أنف) قال في «المصباح» : من باب قتل ومن باب تعب لغة، وهو كناية عن الذلّ كأنه لصق بالرغام وهو التراب هواناً اهـ.
وفي ذيل مثلث ابن مالك لتلميذه أبي الفتح اليعلي من المثلث الرغم مصدر رغم أنف فلان (ثم) للتراخي في الدعاء (رغم أنف ثم رغم أنف من) أي شخص مكلف (أدرك أبويه) أي حياتهما (عند الكبر) بكسر ففتح، قال في «المصباح» : كبر الصغير وغيره يكبر من باب علم كبراً بوزن عنب اهـ. قال العاقولي: وفي رواية عنده الكبر بزيادة هاء، قال: ومعناه على حذفها أن يدرك هو والديه عند كبرهما وإن كانا غنيين عنه بمالهما وعن خدمته لهما بمالهما من خادم ومعناه على تلك الرواية: أن يدركهما الكبر وهما عنده وفي مؤنثه محتاجين إليه اهـ. والتقييد به لأن الابتلاء بهما حينئذٍ أتمّ لمزيد حاجتهما لضعفهما، فكان القيام بحقهما حينئذٍ آكد كما قاما بحق الابن حين زيد حاجته وافتقاره، وإلا فوجدانهما ولو حال الشباب لهما مطلوب من الابن العناية بهما ومزيد برّهما، لكن التقييد بالكبر لمزيد التأكيد لكمال الحاجة، وقوله (أحدهما أو كلاهما) بالرفع فيما وقفت عليه من النسخ وهو محتمل لكونه مبتدأ محذوف الخبر: أي أحدهما أو كلاهما سواء فيما ذكر أو فاعلاً لمحذوف: أي ليستوي أحدهما أو كلاهما في ذلك، وأعربه العاقولي فاعلاً للظرف لكونه حالاً ثم حبذا كونه خبر مبتدأ محذوف، و «كلاهما» معطوف عليه عليهما، قال: وهذه الجملة بيان لقوله: «من أدرك والديه» وقال القرطبي: الرواية الصحيحة بالنصب فيهما بدل من والديه منصوب بأدرك، قال: وقد وقع في بعض النسخ رفعهما وهو على الابتداء ويتكلف بإضمار خبر، والأوّل أولى، وفيه التعقيب به دفع لتوهم قصر المذمة على من قصّر في البر عند اجتماعهما دونه مع أحدها (فلم يدخل الجنة) عطف على أدرك، والعطف بالفاء فيه إشعار بحصول الجنة بالفضل الإلهي للبارّ بأبويه أو أحدهما عقب مفارقة الحياة، وذلك بعرض مقامه عليه وتبشيره بما يؤول إليه (رواه مسلم) في أواخر الكتاب والحديث عند أحمد أيضاً، ففي «الجامع الصغير» للسيوطي عزوه إليهما ولفظه «رغم أنفه ثم رغم
أنفه ثم رغم أنفه: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة» وعزوه اللفظ المذكور فيه لمسلم(3/151)
مراده باعتبار المعنى لا بخصوص المبنى، لأن الضمائر محذوفة من رواية مسلم، وعلى تلك الرواية فمن فاعل لفعل محذوف أو خبر مبتدأ محذوف، والجملة استئناف بيان لسؤال تقديره من هو، والإتيان بثم فيها إيماء إلى صعوبة المقام وإبطائه، فكأنه لذلك كالبعيد الحصول فعبر فيه بذلك. قال العاقولي: معنى ثم فيه استبعاد لغفلته عن نيل مثل هذه السعادة العظيمة.
7318 - (وعنه أن رجلاً) لم أقف على من سماه (قال: يا رسول الله إن لي قرابة) أي ذوي قرابة أي رحم ونسب، ويقال فيها قربي كما في «المصباح» (أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم) أي أسدي إليهم الإحسان (ويسيئون إلي وأحلم) بضم اللام (عنهم ويجهلون عليّ) ويجوز أن تكون الجمل المضارعية معطوفة على أقرانها وهو الأقرب، ويحتمل أن تكون في محل الحال على تقدير مبتدأ محذوف: أي وهم يقطعوني لأن الواو الحالية لا يجوز دخولها على الجملة المضارعة المثبتة الخالية من قد إلا ضرورة نحو قوله:
علقتها عرضاً وأقتل قومها
وبإضمار المبتدأ تخرج عن ذلك، وقد جعل منه صاحب التسهيل قوله تعالى: {الذين كفروا ويصدون عن سبيل ا} (الحج: 25) أي وهم يصدون، وحكى الأصمعي: قمت وأصك عينه، أي وأنا أصكها (فقال) يعني النبي (لئن كنت كما قلت) من إسداء الجميل: أي وهم على ما ذكرت من مقابلته بضده (فكأنما تسفهم الملل ولا يزال معك) متعلق بظهير وكذا قوله: (من ا) ويصح كونه في محل الحال لكونه في الأصل وصفاً لظهير قدّم عليه، وقوله: (ظهير) أي معين، وهو كما في «المصباح» يطلق على الواحد والجمع، وفي التنزيل: {والملائكة بعد ذلك ظهير} (التحريم: 4) والمظاهرة المعاونة اهـ. اسم يزال، وقوله: (عليهم) خبر ويجوز أن يكون صفة، وقوله: معك أو من الله الخبر، وقوله: (ما دمت على(3/152)
ذلك) أي مدة دوامك على ما ذكر، أو أنه لما كان الإحسان والحلم معطوفين على الصلة الشاملة لهما من عطف الخاص على العام أفرد اسم الإشارة. وفي الحديث أن ما ذكر من الخصال سبب لإعانة صاحبها وتأييده وتوفيقه وتسديده، فإن المعنى فيه هو التأييد الإلهي واللطف الرباني (رواه مسلم. وتفسهم بضم التاء الفوقية وكسر السين المهملة وتشديد الفاء) وفي «المصباح» : سف الدواء أكله غير ملتوت فأشار إلى أنه تناول الجامدات غير ملتوتات (والملح بفتح الميم وتشديد اللام: وهو الرماد الحار) أي باعتبار المراد في الحديث وهذا معناه مطلقاً في أحد الأقوال؛ ففي «المصباح» : الملة، قيل الحفرة التي تحفر للخبز، وقيل: التراب الحار والرماد: أي الحار كما يؤذن به كلام المصنف هنا، ويحتمل إبقاؤه على إطلاقه ويجوز إرادة ذلك فإن تناول الرماد من المضرّ وإن لم يكن حاراً (وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم) أي الذنب نفسه أو من جزئه، والثاني: أنسب بقوله: (وهو العذاب بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم) بجامع التألم والتوجع، وهو على الأّل من تشبيه معقول بمحسوس، وعلى الثاني من تشبيه محسوس بمحسوس (ولا شيء) بالفتح أي من التبعات (على هذا
المحسن إليهم) في مقابلته لسيء أعمالهم بإحسانه وذكره من المصنف إطناب إذ لم يقع منه بذلك ما يقتضي اللوم بل زاد في الإحسان والاستدراك في قوله: (ولكن ينالهم إثم عظيم) دلّ على عظم تمثيله بما ذكر (وبتقصيرهم في حقه وإدخالهم الأذى) بالقصر: أي المكروه (عليه) لدفع ما قد يتوهم من نفي الملامة عنهم بقرينة نفيها عنه وإن كان الفرق كفلق الصبح (والله أعلم) وقال المصنف في «شرح مسلم» : وقيل معناه إنك بالإحسان إليهم تحزنهم وتحقرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم، فهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسفّ المل، وقيل ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم اهـ. وقال العاقولي: أراد كأنما يجعل الرماد لهم في سفوف يسفونه، يعني إذا لم يشكروا فإن عطاءك إياهم حرام عليهم ونار في بطونهم اهـ.(3/153)
8319 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أحب) وفي رواية: «من يسره» (أن يبسط) بالبناء للمفعول: أي يوسع. في «المصباح» : بسط الله الرزق: كثره ووسعه، وقال المصنف: بسطه توسيعه وكثرته، وقيل بالبركة فيه ونائب الفاعل أحد الطرفين في قوله: (له في رزقه) أي مرزوقه مصدر بمعنى المفعول، وهو ما به النفع للحيوان، والثاني أنسب، والظرف الآخر في محل الحال، وهذا الإعراب بعينه جار في قرينه من الجملة الثانية: أعني قوله: (وينسأ) بهمزة آخره أي يؤخر (له في أثره) بفتح الهمزة والمثلثة: أي أجله، وسمي الأجل أثراً لأنه يتبع العمر قال زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل
لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أثر مشيه في الأرض فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر (فليصل رحمه) قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف: 34) والجمع بينهما إما بحمل الزيادة على أنها كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى طاعة الله وعمارة وقته بما ينفعه، ويقربه من مولاه تعالى ويقوّيه ما جاء من: أنه تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطى ليلة القدر. وحاصله أن صلة الرحم سبب للتوفيق لمرضاة المولى وحفظ الأوقات عن الضياع في غير رضا فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت، أو يحمل الزيادة في الحديث على حقيقتها، وذلك بالنسبة للأجل المعلق المكتوب في اللوح المدفوع للملك، مثلاً كتب فيه: إن أطاع فلان فعمره كذا وإلا فعمره كذا، وا سبحانه وتعالى عالم بالواقع منهما والأجل المحتوم في الآية على ما في علم الله سبحانه الذي لا تغير فيه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب} (الرعد: 39) فالحديث فيه ما أشارت إليه أول الآية من الأجل المعلق، وقوله: {عنده أمّ الكتاب} أشار به إلى العلم الإلهي الذي لا تغير فيه البتة ويعبر عنه بالقضاء المبرم وعن الأول بالقضاء المعلق، والوجه الأوّل أليق بلفظ المذكور.
وقال الطيبي: الأوّل أظهر وإليه يشير كلام صاحب(3/154)
الفائق، قال: ويجوز أن يكون المعنى: أن الله يبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلاً فلا يضمحلّ سريعاً كما يضمحل أثر قاطع الرحم، ومن هذه المادة قول إبراهيم عليه السلام: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء: 84) وورد في تفسيره وجه ثالث أخرج الطبراني في «الصغير» بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال: «ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من وصل رحمه أنسأ له في أجله، فقال: إنه ليس زيادة في عمره قال الله تعالى: {إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف: 34) ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده» وأخرج في الكبير من حديث أبي مشجعة بشين معجمة ثم صالحة» الحديث. وجزم به ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله. وقال غيره: في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعمله ونحو ذلك (متفق عليه) ورواه أبو داود وابن ماجه كلاهما من حديث أنس أيضاً ورواه أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة، كذا في «الجامع الصغير» (ومعنى ينسأ له في أثره: أي يؤخر له في أجله وعمره) فقوله: يؤخر تفسير لقوله ينسأ، وقوله في أجله وعمره وتفسير لقوله أثره كما علم مما تقدم، وهل التأخير فيهما على حقيقته أو مجاز مراد منه لازمه من الإمداد ودوام الثناء بعده؟ كل محتمل والعبارة في الأول أظهر.
9320 - (وعنه قال: كان أبو طلحة أكثر) بالمثلثة (الأنصار بالمدينة مالاً) تمييز عن نسبة الأكثرية إليه (من نخل) بيان للمال (وكان أحب أمواله) يجوز الرفع والنصب (إليه بيرحاء(3/155)
وكانت مستقبلة المسجد) بكسر الموحدة: أي مقابلته وراءه (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها) أي الحديقة المذكورة (ويشرب من ماء فيها طيب) يجوز رفع طيب فاعل الظرف لاعتماده على الموصوف وجره صفة لماء (فلما نزلت هذه الآية: لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة) وسار قاصداً (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى) عما لا يليق به، وجملة (يقول) في محل الخبر (لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء) يحتمل أن يكون ذلك لعظم نماء أرضها وعظم ثمرها وكثرته وأن يكون لمعنى آخر (وإنها) لكونها أحبّ إليّ (صدقة تعالى أرجو برّها وأدخرها عند ا) الجملة الفعلية محتملة لكونها خبراً بعد خبر على حد قوله تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} (الأنبياء: 50) على أحد الوجوه فيه ولكونها حالاً حذف عاملها وصاحبها: أي أتصدق بها حال كوني أرجو برّها (فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال رسول الله: بخ) لتفخيم فعله والثناء عليه (ذلك مال رابح ذلك مال رابح) بالموحدة وبالهمزة والتكرير للتأكيد لأن المقام يقتضي الإطناب (وقد سمعت ما قلت، وإني أرى) من الرأي والاجتهاد، ففيه دليل لجواز الاجتهاد منه ووقوعه: (أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل) أي أصرفه لهم متبعاً لرأيك (يا رسولالله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. متفق عليه، وسبق بيان ألفاظه) وبيان من خرج الحديث زيادة على من ذكره المصنف (في باب الإنفاق مما يحب)(3/156)
بالمهملة والموحدة.
10321 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل) قال الشيخ زكريا: هو جاهمة بن العباس بن مرداس، أو معاوية بن جاهمة. وقال شيخه الحافظ في «الفتح» : يحتمل أن يكون جاهمة بن العباس، فقد روى النسائي وأحمد من طريق معاوية بن جاهمة: «أن جاهمة جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله أردت الغزو وجئت لأستشيرك، فقال: هل لك من أمّ؟ قال: نعم، قال: الزمها» الحديث، ورواه البيهقي بنحوه اهـ. فاقتصر على الأوّل وجعله احتمالاً، وقوله: (إلى نبي الله) متعلق بأقبل (فقال: أبايعك على الهجرة) أي مفارقة وطني وسكني المدينة. قال القرطبي: وهذا كان في زمن وجوب الهجرة (والجهاد) في سبيل الله (أبتغي الأجر من الله تعالى) مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان سبب المبايعة الحامل عليها (قال: فهل من والديك) خبر مقدم (أحد حيّ) مبتدأ وجيء بأحد توطئة ليقوم به حتى (قال: نعم، بل) انتقال دلّ عليه جوابه بنعم من حياة أحدهما إلى الإخبار بحياتهما معاً (كليهما) كذا هو منصوب بتقدير وجدت كليهما، ويجوز كونه مرفوعاً مبتدأ محذوف الخبر: أي حيان وكتبت الألف بصورة الياء، وقد نبه المصنف في شرح مسلم على أن محل ذلك كله إذا لم يحضر الصف ويتعين للقتال (قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟) الهمزة والمعطوف عليه مقدران قبل الفاء العاطفة: أي أتفعل ذلك فتبتغي الأجر من الله تعالى: (قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) أسقط الشارع عنه وجوب الهجرة تقديماً لحق أبويه، فإن الهجرة إن كانت واجبة عليه فقد عارضها ما هو أوجب منها وهو حق الوالدين، وإن لم تكن واجبة فالواجب أولى، لكن هذا إنما يصح ممن يسلم له دينه في موضعهما، أما لو خاف على دينه وجب عليه الفرار به وترك آبائه وأبنائه كما فعل المهاجرون الذين هم صفوة الله من العباد. وفي الحديث تقديم البرّ للوالدين على الجهاد (متفق عليه، وهذا لفظ مسلم) .
(وفي رواية لهما) وهي كذلك عند البخاري في الجهاد، وعند مسلم في الأدب، ورواها أبو داود والترمذي والنسائي في الجهاد، وقال الترمذي: حسن(3/157)
صحيح والبزار، كذا من «الأطراف» للمزي ملخصاً (جاء رجل) كذا في النسخة بحذف الظرف: أي إلى النبي وهو ثابت في الصحيحين، والظاهر أنه اختصار من المصنف لدلالة ما قبله عليه أو في الكتاب (فاستأذنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك) الوصف فيه مبتدأ لاعتماده على الاستفهام ووالداك فاعله سد مسد خبره (قال: نعم) أي هما حيان (قال: ففيهما فجاهد) وقوله: ففيهما متعلق بالأمر قدم للاختصاص، والفاء الأولى جزاء لشرط محذوف، والثانية جزائية لتضمن الكلام معنى الشرط: أي إذا كان الأمر كما قلت فاخصص المجاهدة بخدمة الوالدين نحو: {فإياي فاعبدون} (العنكبوت: 56) فحذف الشرط وعوض عنه الظرف المفيد للاختصاص، قاله العاقولي. وقال ابن رسلان: المراد بالجهاد فيهما جهاد النفس في وصول البرّ إليهما بالتلطف بهما وحسن الصحبة والطاعة وغير ذلك، وتقدم أن الجهاد الأكبر جهاد النفس الأمارة بالسوء اهـ. قال المصنف: هذا كله دليل لعظم فضيلة برّهما، وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قال العلماء من أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين أو بإذن المسلم منهما، فلو كانا مشركين لم يشترط إذنهما عند الشافعي ومن وافقه، وهذا كله حيث لم يحضر الصفّ ويتعين للقتال فحينئذٍ يجوز بغير إذن اهـ.
11322 - (وعنه عن النبيّ قال: ليس الواصل) أي الكامل الوصل (بالمكافىء) وقال الطيبي: أي ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته الذي يكافىء صاحبه بمثل فعله ويعطيه نظير ما أعطاه. قلت: وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفاً: «ليس الواصل أن تصل من وصلك، ولكن الواصل أن تصل من قطعك» (ولكن) قال الطيبي: الرواية فيه بالتشديد ويجوز التخفيف (الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) أي الذي إذا منع أعطى (رواه البخاري) وأحمد وأبو داود والنسائي كلهم من حديث ابن عمر كما في الجامع الصغير(3/158)
(وقطعت بفتح القاف والطاء) والعين المهملتين (ورحمه مرفوع) على الفاعلية. قال العلقمي: ضبط هكذا في أكثر الروايات، وفي بعضها بالبناء للمجهول. قال السيوطي في شرح الترمذي: المراد بالواصل في هذا الحديث الكامل، فإن في المكافأة نوع صلة، بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه فإن فيه قطعاً بإعراضه عن ذلك، وهو من قبيل «ليس الشديد بالصرعة» و «ليس الغنيّ عن كثرة العرض» اهـ. وتعقبه العلقمي بأنه لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع. فهم ثلاث درجات: مواصل ومكافىء وقاطع: فالواصل من يبدأ بالفضل، والمكافىء من لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل. وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين فمن بدأ فواصل فإن جازى فمكافىء وإلا فقاطع اهـ.
12323 - (وعن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ قال: الرحم) بفتح الراء وكسر الحاء المهملة (معلقة بالعرش) الظاهر الحقيقية، ويحتمل أن المعنى أنها لائذة بربّ العرش كما تقدم حديث بذلك في الباب (تقول) استئناف بياني (من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه ا) قال المصنف قال عياض: الرحم التي توصل وتقطع معنى من المعاني ليست بجسم إنما هي قرابة ونسب، فيكون ذكر قيامها وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك والمراد تعظيم شأنها وفضيلة وصلها وعظيم إثم قطعها. قال ويجوز أن يكون المراد قيام ملك من الملائكة يتعلق بالعرش ويتكلم على لسانها بأمر الله تعالى (متفق عليه) اقتصر في «الجامع الصغير» على عزوه لمسلم.
13324 - (وعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث) الهلالية (رضي الله عنها أنه أعتقت وليدة)(3/159)
أي أمة. قال في المصباح: الوليد الصبيّ المولود والجمع ولدان بالكسر والصبية والأمة وليدة والجمع ولائد اهـ. (ولم تستأذن النبيّ) فيؤخذ منه صحة تصرف الزوجة مطلقاً بغير إذن زوجها خلافاً للإمام مالك حيث منعه فيما زاد على الثلث إلا بإذنه (فلما كان يومها) بالرفع وكان تامة (الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت) بفتح العين من باب قتل كما في المصباح أي أعلمت (يا رسول الله أني أعتقت وليدة) كأن التنكير فيه لتحقيرها وتصغير شأنها من حيث إنها من عملها، وفي نسخة وليدتي بالإضافة للياء (قال: أو فعلت) أي أعتقتها وفعلت فالواو وعاطفة على مقدر بعد الهمزة، هذا ما مشى عليه في مواضع كثيرة من «الكشاف» و «البيضاوي» ، فالاستفهام داخل على المتعاطفين، وجعل ابن مالك الهمزة مقدمة من تأخير وأن العاطف كان داخلاً عليها، وأن الأصل أو فعلت فصدرت الهمزة لصدارتها، وتقدم التنبيه على هذا في باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف وخالف قوله فعله (قالت نعم، قال أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح (إنك لو أعطيتها) بكسر التاء (أخوالك) أي قرابتك من جهة الأم، قال المصنف: كذا وقعت هذه اللفظة في مسلم باللام، ووقعت في رواية الأصيلي أخواتك بالتاء، قال القاضي: ولعله أصح بدليل رواية الموطأ أعطيتها أختك. > قلت: الجميع صحيح ولا تعارض ولعله قال ذلك كله (كان أعظم لأجرك) لما فيه من الصدقة مع صلة الرحم، قال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال: فيه أن هبة ذي الرحم أفضل من العتق، ويؤيده ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد وصححه، وابن حبان من حديث سلمان بن عامر الضبي مرفوعاً «الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة» لكن لا يلزم من ذلك أن تكون هبة ذي الرحم أفضل مطلقاً لاحتمال أن يكون المسكين محتاجاً ونفعه متعدياً والآخر بالعكس، وقد وقع في رواية النسائي المذكورة «فقال: أفلا
فديت بها بنت أخيك من رعاية الغنم» فتبين وجه الأولوية المذكورة وهو احتياج القريب إلى الخدمة، وليس في الحديث حجة على أن الصلة أفضل من العتق لأنها واقعة عين، فالحق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال كما قدرته اهـ (متفق عليه) .(3/160)
14325 - (وعن أسماء) بالمهملة والألف الممدودة (بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما) اسم أمها قيلة بفتح القاف وسكون التحتية قاله ابن ماكولا وغيره، قالوا: ويقال أيضاً قتيلة بقاف ثم فوقية ثم تحتية مصغراً. قال في فتح الباري: وقول الداودي اسمها أم بكر: قال ابن التين: لعله أراد كنيتها بنت عبد العزّى، ضبطه في «تاريخ دمشق» بخط الحافظ أبي محمد وعلَّم عليه صورة «راء» وفي مواضع بالزاي كما هنا. ابن سعد بن نضر بن مالك بن حسل بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية بن عامر بن لؤي بن غالب، وكانت أسماء أسن من عائشة وهي أختها لأبيها، وكان عبد الله ابن أبي بكر شقيقها، سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات النطاقين لأنها صنعت للنبيّ ولأبيها سفرة لما هاجرا، فلم تجد ما تشدها به فشقت نطاقها وشدت به السفرة فسماها النبيّ ذات النطاقين. هاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير فولدته بعد الهجرة، فكان أوّل مولود من المهاجرين ولد في الإسلام بعد الهجرة. قال عروة: بلغت أسماء مائة سنة لم يسقط لها سن ولم ينكر من عقلها شيء، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قيل ستة وخمسون حديثاً. قلت: وذكر ابن الجوزي في «مختصر التلقيح» أن لها ثمانية وخمسين حديثاً، قال: ولها في الصحيحين اثنان وعشرون حديثاً، اتفقا على ثلاثة عشر منها، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بأربعة اهـ، روى عنها عبد الله بن عباس وابناها عبد الله وعروة وعبد الله بن أبي مليكة وغيرهم، توفيت بمكة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابنها عبد الله بيسير، ولم تبق بعد إنزاله من الخشبة إلا ليالي يسيرة، قيل
ثلاث وقيل عشر وقيل عشرون وقيل بضع وعشرون. وفي «تاريخ دمشق» عن ابن أبي الزناد: كانت أسماء أكبر من عائشة بعشر سنين، وعن الحافظ أبي نعيم قال: ولدت أسماء قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، وكان لأبيها أبي بكر حين ولدت له إحدى وعشرون سنة. وفي «تاريخ دمشق» أنها شهدت غزوة اليرموك مع زوجها الزبير، وفيه عن خليفة بن خياط أنها ولدت للزبير عبد الله وعروة وعاصماً والمنذر والمهاجر وخديجة وأم حسن وعائشة. وفي «طبقات» ابن سعد بإسناد الصحيحين عن فاطمة بنت المنذر «أن أسماء كانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها» وفيها عن الواقدي: كان ابن المسيب من أعبر الناس للرؤيا أخذه عن أسماء وأخذته عن أبيها. وفي «تاريخ دمشق» عن مصعب بن(3/161)
الزبير قال: «فرض عمر رضي الله عنه الأعطية، ففرض لأسماء ألف درهم» وفي رواية «ففرض للمهاجرين ألفاً ألفاً منهن أم عبد وأسماء» اهـ من «التهذيب» للمصنف ملخصاً (قالت: قدمت) بكسر الدال المهملة (عليّ) أي من مكة إلى المدينة (أمي) وتقدم ذكر اسمها ونسبها في ترجمة بنتها أسماء آنفا (وهي مشركة) قال المصنف في التهذيب: وذكر ابن الأثير اختلاف العلماء والروايات في إسلامها، وأكثر الروايات أنها لم تسلم، ومثله في شرح مسلم (في عهد رسول الله) أي معاهدته مع المشركين وتأمينه لهم في الحديبية كما في الحديث الآتي في كلام الحافظ وغيره، وأرادت ما بين الحديبية والفتح. وقد جاء عن ابن سعد وأبي داود الطيالسي «أنها قدمت على ابنتها بهدايا زبيب وسمن وقرط، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، فأرسلت إلى عائشة: سلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لتدخلها» الحديث (فاستفتيت رسول الله) هذا مجمل بينته بقولها (قلت: قدمت عليّ أمي) زاد بعض رواية الحديث «مع أبيها» وهو كذلك في البخاري في الجزية والأدب. قال الحافظ: واسم أبيها الحارث بن مدرك بن عبيد بن عمرو بن مخزوم ولم أرد له ذكراً في الصحابة وكأنه مات مشركاً اهـ. وما
ذكره في نسب أمها مخالف لما تقدم عن «التهذيب» للمصنف في ترجمة أسماء (وهي راغبة) جملة حالية: أي راغبة عن الإسلام وكارهة له، وقيل معناه: طامعة فيما أعطيها حريصة عليه، وفي رواية أبي ذرّ «قدمت عليّ أمي راغبة في عهد قريش وهي راغمة مشركة» فالأوّل بالباء: أي طالبة صلتي، والثاني بالميم: أي كارهة للإسلام ساخطته، وفي «فتح الباري» : نقل المستغفري أن بعضهم أوله فقال: وهي راغبة في الإسلام، فذكرها لذلك في الصحابة. ورده أبو موسى بأنه لم يقع في شيء من الروايات ما يدل على إسلامها (أفاصل أمي) أي أتصدق عليها فأصلها مع كفرها ولا يكون ذلك من موادة الكفار وموالاتهم (قال: نعم) وهو كاف عن قوله (صلي أمك) وأتى به تأكيداً واهتماماً، زاد البخاري في «الأدب» : «فأنزل الله عزّ وجل فيها
{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} (الممتحنة: 8) » قال الحافظ في «الفتح» : روى ابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في ناس من المشركين كانوا ألين جانباً للمسلمين وأحسن أخلاقاً. قال الحافظ: قلت ولا منافاة بينهما، فإن السبب خاص واللفظ عام، فيتناول كل من كان في معنى والدة أسماء اهـ. وفي الحديث جواز صلة القريب المشرك (متفق عليه) ورواه البخاري في الهبة والجزية والأدب، ومسلم في الزكاة(3/162)
وأبو داود فيها أيضاً كذا لخص من «الأطراف» للمزي (وقولها) أي أسماء واصفة لأمها (راغبة) بالغين المعجمة والموحدة (أي طامعة فيما عندي تسألني شيئاً) من الإحسان (قيل كانت أمها من النسب، وقيل من الرضاعة، والصحيح الأوّل) حكاية هذا الخلاف هنا مما فات شراح مسلم التنبيه عليه. قال الحافظ في «الفتح» : أخرج ابن سعد وأبو دادو الطيالسي والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير قال: «قدمت قتيلة، بالقاف والمثناة مصغرة، بنت عبد العزّى بن سعد بن نضر بن مالك بن حسل، بكسر الحاء وسكون السين المهملتين، على ابنتها أسماء بنت أبي بكر في الهدنة، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، بهدايا زبيب وسمن قرط، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأسسلت إلى عائشة سلى لي رسول الله، فقال لتدخلها» الحديث، وعرف منه تسمية أم أسماء وأنها أمها حقيقة، ومن قال إنها أمها من الرضاعة فقد وهم، وأما قول الداودي إن اسمها أم بكر فقد قال ابن التين: لعله كنيتها كما تقدم.
15326 - (وعن زينب الثقفية) بمثلثة وقاف مفتوحتين وفاء مكسورة منسوبة إلى ثقيف بوزن رغيف (امرأة) بهمزة وصل، ويقال مرأة بحذفها، ويقال مرة بنقل حركة الهمزة إلى الراء: زوجة (عبد الله بن مسعود) الهذلي (رضي الله عنه وعنها) عدل عن قوله عنهما مع أنه أخصر لما يوهمه من عوده لابن مسعود وأبيه لكونهما أقرب مذكور، وفي تقديمه عليها مع تأخر ذكره إشارة إلى شرف الذكورية ومجدها. قال المصنف في «التهذيب» : اختلف في اسم امرأة ابن مسعود فقال جماعة: اسمها زينب، ولعله قول الأكثرين، وهي زينب بنت عبد الله ابن معاوية الثقفي؟، وقيل اسمها رايطة وقيل ريطة بنت عبد اهكذا ذكر هذه الأقوال جماعة من العلماء منهم الخطيب البغدادي في المبهمات، وجعل ابن سعد في «الطبقات» زينب ورايطة امرأتين لابن مسعود. قلت: وبعض أهل اللغة ينكر وجود رايطة في كلام العرب. وذكر أبو عمر الزاهد في آخر شرح الفيح عن ابن الأعرابي قال: يقال ريطة لا غير ولم يحك عن العرب رايطة: وأفصح اللغات عائشة، وقد يقال عيشة لغة فصيحة اهـ ملخصاً. قلت: قال الحافظ في «الفتح» : زينب الثقفية يقال لها رايطة أيضاً، وقع(3/163)
ذلك في صحيح ابن حبان، ويقال هما اثنتان عند الأكثر وممن جزم به ابن سعد. قال الكلاباذى: رايطة هي المعروفة بزينب، وبه جزم الطحاوي فقال: رايطة هي زينب لا نعلم لعبد الله امرأة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيرها، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث منها في الصحيحين حديثان، اتفقا على أحدهما وهو حديث الباب، وانفرد مسلم بحديث آخر، كذا في «مختصر التلقيح» (قالت: قال رسول الله: تصدقن) أمر لجماعة النسوة كما قال (يا معشر النساء) أي جماعة النساء، ومقتضى قول المصباح المعشر، والقوم، والرهط، والنفر لجماعة الرجال دون النساء اهـ. استعمل في غير موضوعه وكأنه لأنهن لما أمرن بالتصدق وإنما يبعث عليه الإيقان الذي هو وصف كمل الرجال كما قال: والصدقة
برهان، خوطبن بذلك، ثم رأيت في «التحفة» للشيخ زكريا: المعشر كل جماعة أمرهم واحد، وفيه رد على ثعلب حيث خصه بالرجال، إلا إن أراد بالتخصيص حالة الإطلاق لا حالة تقييده (ولو من حليكن) قلت: يحتمل أن يكون مفرداً فيكون بفتح المهملة وسكون اللام، وأن يكون جمعاً فيكون بضم المهملة وكسر اللام وتشديد الياء وأصله على وزن فعول كفلس وفلوس فأعل كما في «المصباح» : وفي «المشارق»
للقاضي عياض «تصدقن ولو من حليكن» وهو ما تتحلى به المرأة وتتزين به، يقال بفتح الحاء وسكون اللام وبضم الحاء وكسرها وكسر اللام، وقد قرىء بهما جميعاً اهـ. واختصره صاحب «المطالع» ولم أقف على من ضبط الرواية فيه، وفي «فتح الإله» : كأن وجه جعله غاية أن النساء لا يسمحن بالتفريط فيه إلا لمهم انحصر الخلاص فيه كأنه يقول: الصدقة أمر مهم جداً، فكما تسمحن بإخراج حليكن في الأمر المهم عند فقد غيره فاسمحن بإخراجه فيها إذا لم تجدن غيره (قالت: فرجعت) بتاء المتكلم، ويحتمل أن يكون بتاء التأنيث فيكون فيه التفات على طريق السكاكي (إلى عبد الله بن مسعود، فقلت: إنك رجل خفيف ذات) زائدة للتأكيد (اليد) أي قليل المال، ولم تقله تعييراً له ولا استخفافاً بحقه، بل توطئة لقولها (وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بالصدقة) أي أمر ندب بدليل الحلي فإنه لا زكاة فيه، نعم جاء أنه كان زكوياً ثم نسخت منه، فإن كان قبله فيحتمل كونه أمر إيجاب، وعلى كل فالامتثال مطلوب، ولا يشكل على الوجه الثاني صرفه لأولادها لأنه يجوز للمزي صرف زكاته إلى أولاده الذين تلزمه نفقتهم، وكذا أصوله كذلك (فأته فاسأله) هل يجزىء عني التصدق عليك وعلى أولادي فأصرفها عليكم أولاً؟ وأفاد هذا قولها عاطفة بالفاء المفيدة لتفصيل المسؤول (فإن كان ذلك يجزىء) أي يسقط(3/164)
الفرض (عني) إن قلنا إنها زكاة، أو يجزىء في الوقاية من النار لحصول الصدقة المأمور بها إن قلنا إنها تطوع، أشار
إليه الحافظ في «الفتح» ، وجواب الشرط محذوف لدلالة المقام عليه: أي دفعتها لكم (وإلا صرفتها إلى غيركم) قالت (فقال عبد الله: بل ائتيه أنت) لعل ذلك منه استحياء أو بيان أنها الأولى بالسؤال لأنه أمر يتعلق بها (فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار) قال الحافظ في «الفتح» : أخرج النسائي عن ابن مسعود قال: «انطلقت امرأة عبد الله: يعني ابن مسعود، وزينب امرأة أبي مسعود: يعني عقبة بن عمرو الأنصارية» قلت: لم يذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة أنصارية سوى هذيلة بنت ثابت بن ثعلبة الأنصارية فلعل لها اسمين، أو وهم من سماها زينب انتقالاً من اسم امرأة عبد الله إلى اسمها اهـ. وإذا للمفاجأة، والمفاجأة حضور الشيء معك في وصف من أوصافه الفعلية كخرجت فإذا الأسد بالباب، معناه حضور الأسد معك في زمان أو مكان وصفك بالخروج، وتقدير المكان أولى لأنه الذي يخصك فهو ألصق بك من الزمان، وكلما كان ألصق كانت المفاجأة فيه أقوى. قال ابن مالك: هي حرف، وقال المبرد وغيره: هي ظرف مكان، وقال الزمخشري كالزجاج: ظرف زمان وناصبها فاجأه، وردّ أن ناصبها الخبر المذكور أو المقدر ولم تذكر في القرآن إلا وخبر المبتدأ بعدها مذكوراً (بباب رسول الله) أي واقفة به (حاجتها حاجتي) من التعبير البليغ (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقيت عليه المهابة) بفتح الميم مصدر ميمي: أي الهيبة وهي الإجلال وكان فيه للاستمرار: أي إنه مهاب موقر مع ما كان عليه من عظيم حسن الخلق وبديع التواضع حتى كان أصحابه في مجلسه يعتريهم من ذلك ما يصيرون به خاضعين خافضين رؤوسهم كأن على رؤوسهم الطير (فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله) لا ينافي ذلك أنه لم يكن له حاجب ولا بواب، لأن بلالاً لم يكن موقفاً لذلك، وإنما صادف وقوفهما وجوده عند النبيّ، فأخرجه إليهما ليسألهما عن حاجتهما (فأخبره بأن) الباء زائدة في المفعول الثاني للتأكيد (امرأتين) واقفتان (بالباب يسألانك أيجزىء) بضم
الياء والهمزة من الإجزاء بمعنى الإسقاط، وبفتح الياء وترك الهمزة آخره(3/165)
بمعنى يكفي (الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما) أي ولايتهما وتربيتهما (ولا تخبره) أي إذا لم يسألك عنا (من نحن) أي فإننا نستحيي من ذلك (قالت: فدخل بلال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال له رسول الله: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد ا) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض، وفيه حذف، ولفظ مسلم الذي ساق المصنف الحديث بلفظه «فسأله فقال له رسول الله: من هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال له رسول الله: أي الزيانب؟ فقال: امرأة عبد ا» ولفظ البخاري «فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله هذه زينب فقال: أي الزيانب؟ فقيل: امرأة ابن مسعود» (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها) كذا فيما رأيت بإفراد الضمير وكأنه لتعيينها وحكم صاحبتها معلوم من ذكر حكمها لأن المادة واحدة، والذي في مسلم لهما بضمير التثنية. وحاصل الجواب أن ذلك يجزىء عنهما، ولهما عليه (أجران: أجر القرابة) في الأولاد: أي أجر صلة الرحم التي تكفل الله لمن وصلها بأن يصله بما لا يقدر غيره سبحانه قدره (وأجر الصدقة) فيهم وفي الزوج. وفي الحديث تغليب، فإن ابن مسعود كان زوجاً فقط، وفي الحديث «إن أحق الناس بصرف صدقة التطوّع والزكاة والنذر والكفارة والوقف والوصية وسائر وجوه البرّ الأقارب» وبه أخذ أئمتنا (متفق عليه) واللفظ لمسلم أخرجاه في الزكاة وأخرجه النسائي في عشرة النساء وابن ماجه في الزكاة.
16327 - (وعن أبي سفيان) بتثليث سينه المهملة والضم أشهر (صخر) بفتح المهملة وسكون الخاء المعجمة بعدها راء (ابن حرب) بفتح الحاء المهملة وسكون الراء بعدها موحدة ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي (رضي الله عنه) وسبقت ترجمته والكلام على حديث في باب الصدق (في حديثه الطويل) المذكور في «صحيح البخاري» في كتاب بدء(3/166)
الوحي، وفي «صحيح مسلم» في أثناء كتاب الجهاد (في قصة هرقل) بمنع الصرف للعلمية والعجمة (أن هرقل قال لأبي سفيان: فماذا) أي فما الذي (يأمركم به، يعني) أي هرقل بمرجع الضمير المستتر في أمركم (النبيّ) وهذه الجملة من كلام المصنف احتاج إلها، لأنه ذكر هذه القطعة المشتملة على ضمير لم يصرح بذكر مرجعه في باقي الخبر (قال: قلت يقول اعبدوا الله وحده) أي وحدوه (ولا تشركوا به شيئاً) بيان للتوحيد المأمور به وتنكير شيء للعمم، فيشمل الشرك الأكبر وهو الكفر، والأصغر وهو الرياء، فالعبادة الكاملة ما قصد بها لتقرّب لوجه الله سبحانه وتعالى دون ما سواه مطلقاً (واتركوا ما يقول آباؤكم) من الكفر (ويأمرنا) من عطف الرديف باعتبار المعنى: إذ التوحيد وترك الكفر من جملة ما أمر به النبيّ، وكأنه خالف بين العبارتين تفنناً ولاختلاف نوعهما إذ مدخول القول هو الأصول وما بعد الأمر هو الأخلاق المبنية عليها الملاحظة بعد ما تقدمها (بالصلاة والصدق) في الأقوال والأفعال (والعفاف) عن المحارم (والصلة) للأرحام (متفق عليه) .
17328 - (وعن أبي ذرّ) جندب بن جنادة وسبقت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المراقبة، (قال: قال رسول الله) هو من الإخبار بالمغيبات، فهو من جملة الإعجاز، وقد وقع كما أخبر به النبيّ والحمد (إنكم ستفتحون) السين لتأكيد الوعد، قال البيضاوي: لن يفعل نفي سيفعل، وما يفعل نفي يفعل اهـ. وفي «المغني» : زعم الزمخشري أنها: أي السين إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة ولم أر من فهم وجه ذلك، ووجهه أنها تفيد الوعد بحصول الفعل فدخولها على ما يفيد الوعد والوعيد مقتض للتوكيد اهـ. (أرضاً يذكر) بالبناء للمجهول (فيها القيراط) قال في المصباح: أصله قراط(3/167)
لكنه أبدل من أحد المضعفين ياء للتخفيف كما في دينار ونحوه، ولهذا يرد في الجمع والتصغير إلى أصله فيقال قراريط وقريرط. قال بعض الحسَّاب: القيراط في لغة اليونان حبة خرنوب، وهو نصف دانق، والدانق عندهم اثنا عشر حبة، والحسَّاب يقسمون الأشياء أربعة وعشرين قيراطاً لأنه أول عدد له ربع وثمن ونصف وثلث صحيحات من غير كسر اهـ. وقال المصنف: قال العلماء: القيراط جزء من الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به (وفي رواية) هي لمسلم أيضاً (ستفتحون مصر) بمنع الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار إرادة البقعة؛ سميت باسم أول من سكنها وهو مصر بن بنصر بن سام بن نوح. وحدّها طولاً من برقة التي في جنوب البحر الرومي إلى أيلة، ومسافة ذلك قريب من أربعين يوماً، وعرضاً من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الرومي، ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يوماً (وهي أرض يسمى) أي يذكر كثيراً (فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً) يحتمل أن تكون معطوفة على جملة ستفتحون بناء على جواز عطف الإنشاء على الخبر، ويحتمل الاستئناف وتنكير خيراً للتعميم والتكثير (فإن) الفاء فيه للسببية: أي بسبب أن (لهم ذمة) أي ذماماً: أي حقاً
وحرمة (ورحماً) .
(وفي رواية فإذا) أتى بها لأنها تستعمل في المحقق وقوعه بخلاف إن الشرطية (افتتحتموها فأحسنوا إلى أهلها) بأنواع الإحسان كما يؤذن به حذف المعمول، ويومىء إليه قوله في الرواية السابقة خيراً (فإن لهم ذمة ورحماً، أو قال ذمة وصهراً. رواه مسلم) في الفضائل، أو قال: يعني النبيّ، وهو شك من الراوي (ذمة وصهراً) بدل قوله «ورحماً» قال في «المصباح» : قال الخليل: الصهر أهل بيت المرأة، قال: ومن العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعاً أصهاراً.g وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء ذوي المحارم وذوات الأرحام، ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابة المحارم فهم أصهار المرأة أيضاً. وقال ابن السكيت: كل من كان من قبل الزوج من أبيه وأخيه وعمه فالأحماء، ومن كان من قبل المرأة فالأختان، ويجمع الصنفين الأصهار. اهـ ملخصاً.
(قال العلماء: الرحم التي لهم) أي في الحديث (كون هاجر) بفتح الجيم وتبدل الهاء همزة وهو ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، أو والتأنيث المعنوي (أم إسماعيل) بن إبراهيم (صلى الله عليه) وعليه (وسلم منهم) أي من مصر، لأنها أعطاها الجبار لسارة امرأة إبراهيم(3/168)
علي السلام لما منعته يد القدرة عنها فأعطتها سارة إبراهيم فحملت منه إسماعيل (والصهر كون مارية أم إبراهيم ابن) سيدنا وسيد الخلق أجمعين (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم) لأن المقوقس صاحب مصر لما كاتبه النبيّ يدعوه إلى الإسلام لم يسلم، وأرسل بهدية إلى النبيّ منها مارية وسيرين فحملت مارية بإبراهيم، وأعطى سيرين لحسان بن ثابت الأنصاري. وهذا التفسير عزاه هنا للعلماء لعدم الخلاف فيه ولم يعزه إلى أحد في شرح مسلم لأن المتفق عليه لا يحتاج إلى العزو، والله أعلم.
18329 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية) المبينة بقوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين) أي قرابتك الأدنين (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً) هم ولد النضر بن كنانة على الصحيح (فاجتمعوا فعم) أي دعاهم بما يعمهم (وخص) أي خصيص بعضاً بالنداء وبين كيفية التعميم والتخصيص بقوله: (فقال: يا بني كعب بن لؤي) بحذف تنوين كعب لفظاً وألف ابن خطاً، ومثله كان ابن وقع بين علمين ما لم يقع في ابتداء سطر (أنقذوا أنفسكم) أي خلصوها (من النار) المترتبة على الكفر والعصيان بالإيمان با تعالى وطاعته وأداء عبوديته (يا بني عبد مناف) بكسر دال عبد لأنه مركب إضافي ومناف محول عن منات اسم لصنم. قال السهيلي في «الروض الأنف» : كانت أمه قد أخدمته منات وكان صنماً عظيماً لهم وكان يسمى عبد منات، ثم نظر قصيّ فرآه يوافق عبد مناف بن كنانة فحوله عبد مناف. ذكره البرقي والزبير (انقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم) لقب به لهشمه الثريد لقومه، واسمه عمرو (أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب) قاله المطلب جد(3/169)
الإمام الشافعي لما جاء به من المدينة مردفاً له على راحلته وعليه ثياب بذلة، فكان إذا سئل عنه يقول عبدي، حتى ألبسه قال ابن أخي، فغلب عليه ذلك، واسمه كما قال السهيلي شيبة (أنقذوا أنفسكم من النار) وهذا آخر ما عمم فيه وقال مخصصاً (يا فاطمة) بالضم، قال المصنف: كذا وقع في بعض الأصول وفي بعضها أو أكثرها يا فاطم بحذف الهاء على الترخيم وعليه فيجوز ضم الميم وفتحها كما عرف في نظائره: أي من الانتظار وعدمه (أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً) قال المصنف: معناه لا تتكلوا على قرابتي فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله تعالى بكم (غير) استثناء منقطع، وترادفها في هذا المعنى والاستعمال بيد، ومنه حديث «نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا» والمعنى هنا لكن حصل (أن لكم رحماً سأبلها
ببلالها. رواه مسلم) في كتاب الإيمان والنسائي في الوصايا، وذكر الحافظ في «النكت الظراف» أن البخاري أخرجه عقب حديث شعيب عن الزهري فقال: تابعه أصبغ عن ابن وهب اهـ. (قوله: ببلالها هو بفتح الباء الثانية) أي التي هي أول الكلمة، أما الأولى الجارة فمكسورة لا غير (وكسرها) قال في شرح مسلم: ضبطناه بهما وهما وجهان مشهوران ذكرهما جماعة من العلماء. وقال عياض: رويناه بالكسر قال: ورأيت في الخطابي أنه بالفتح، وقال صاحب «المطالع» : رويناه بكسر الباء وفتحها من بل يبله (والبلال الماء) وفي «المصباح» : وقيل البلال ما يبل به الحلق من ماء ولبن (ومعنى الحديث سأصلها، شبه قطيعتها بالحرارة) تشبيهاً مضمراً في النفس وأثبت لازم المشبه وهو ما تضمنه قوله (تطفأ) بالبناء للمجهول (بالماء وهذه تبرد بالصلة) قال المصنف: ومنه حديث «بلوا الأرحام» أي صلوها، من البلل المذهب حرارتها فالتشبيه المضمر في النفس استعارة مكنية وإثبات البلال تخييل.
19330 - (وعن أبي عبد الله عمرو بن العاص) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب بيان(3/170)
كثرة طرق الخير (قال: سمعت النبيّ جهاراً) منصوب على الحال: أي حال كونه مجاهراً بالقول (غير مسر) ووقوع المصدر حالاً كثير لكن مع ذلك هو سماعي وابن العاص من العرب الذين لهم ذلك فيه، أو مفعول مطلق: أي يجهر جهراً به، وقوله غي مسر صفة مؤكدة (يقول: إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء) هذا لفظ مسلم، والذي في البخاري «إن آل أبي» قال عمرو: يعني ابن عباس شيخ البخاري «في كتاب محمد بن جعفر - أي شيخ عمرو - بياض» قال السيوطي: أي موضع أبيض بغير كتابة اسم للمضاف إليه قال الشيخ زكريا في «التحفة» : المراد بفلان أبو طالب أو أبو العاص بن أمية، والمراد من آله من لم يسلم منهم اهـ. وقال السيوطي: وفي «مستخرج» أبي نعيم «إن آل أبي طالب» فقيل الراوي له عنبسة بن عبد الواحد أموي من الناصبة المنحرفين على عليّ فلا يقبل منه هذا التعبير، وقيل هو محمول على غير المؤمنين، وعلى كونه العاص فإنما أبهمه الراوي لخوف مفسدة تترتب على ذكره. قال الدلجي: لأن الأمر حينئذٍ كان في ذويه اهـ. وفي «تعليق المصابيح» للدماميني قال ابن العربي في «سراج المريدين» : معنى الحديث آل أبي طالب، قال: ومعناه إني لست أخصّ قرابتي ولا فصيلتي الأدنين بولاية دون المسلمين وإنما رحمهم معي في الطالبية فسأبلها ببلالها: أي أعطيها حقها فإن المنع عند العرب يبس والصلة بلّ (إنما وليي) أي ناصري والذي أتولاه في جميع الأمر (اوصالح المؤمنين) كذا رأيته بحذف الواو من صالح على أنه مفرد مضاف اكتفى بعمومه، ويؤيده آية {فإن تظاهرا عليه فإن اهو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} (التحريم: 4) فالحديث على طبق الآية، فإنها دلت على حصر أوليائه فيمن ذكر. قال الكواشي في التفسير: المراد بصالح المؤمنين: أبو بكر أو عمر أو هما أو عليّ أو كل من برىء من المؤمنين من النفاق أو هم الأنبياء، وصالح
المؤمنين مفرد يراد به الجمع كقوله: {السارق والسارقة} (المائدة: 38) وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون أصله صالحو فيكتب بغير واو إتباعاً للفظ (ولكن) استدراك لما قد يتوهم من عدم مواصلتهم بإثباتها بقوله: (لهم رحم أبلها ببلالها. متفق عليه) رواه البخاري في الأدب ومسلم في الإيمان (واللفظ للبخاري) ورواه البزار.(3/171)
20331 - (وعن أبي أيوب خالد بن زيد) بن كليب بن ثعلبة بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار (الأنصاري) الخزرجي النجاريّ المدني الصحابي الجليل (رضي الله عنه) شهد العقبة وبدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان وجميع المشاهد مع رسول الله، ونزل عنده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة مهاجراً وأقام عنده أشهراً حتى بنيت مساكنه ومسجده. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وخمسون حديثاً، اتفقا على سبعة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر، وروى عنه البراء بن عازب وجابر بن سمرة وأبو أمامة الباهلي وزيد بن خالد الجهني وابن عباس وكلهم صحابة رضي الله عنهم وخلائق من التابعين. توفي بأرض الروم غازياً سنة خمسين، وقيل سنة إحدى وقيل اثنين وخمسين وقبره بالقسطنطينية حرسها الله بمنه (أن رجلاً) قال الشيخ زكريا: هو أبو أيوب الراوي كما قال ابن قتيبة، ولا مانع أن يبهم الراوي نفسه لغرض له. وأما تسميته في حديث آخر عن أبي هريرة عند البخاري بأعرابي فلا ينافي ذلك لجواز التعدد، وذلك الأعرابي هو ابن المنتفق، قيل: واسمه لقيط بن صبرة اهـ. (قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة) برفع يدخلني عل أنه صفة عمل وجواب الأمر محذوف: أي يثبكالله، ويجوز أن يجزم على أنه جواب الأمر، وعليه فتنوين عمل للتعظيم والتفخيم ليكون بوصف مقيداً (فقال النبيّ: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً) عطف على ما قبله مفيد لبيان العبادة المعتدّ بها، أو حال بإضمار مبتدأ كما تقدم في الباب نظيره (وتقيم الصلاة) أي
تأتي بها مستجمعة لأركانها وشرائطها وسننها (وتؤتي) أي تعطي (الزكاة، وتصل الرحم) وخص الرحم بالذكر لقربها من السائل أو نظراً لحاله كأنه كان قاطعاً لها فأمر بصلتها لأنها المهمّ بالنسبة إليه، وعطف الصلاة وما بعدها على العبادة من عطف الخاص على العام (متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة، ومسلم في الإيمان، ورواه النسائي في كتاب الصلاة وكتاب العلم، قاله الحافظ المزي.
21332 - (وعن سلمان بن عامر) بن أوس بن حجر بن عمرو بن الحارث بن تيم بن ذهل بن(3/172)
مالك بن سعد بن بكر بن ضبة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر الضبي (رضي الله عنه) قال مسلم: لم يكن في الصحابة ضبيّ غيره، نزل البصرة وله بها دار بقرب الجامع، روى عنه محمد وحفصة ولدا سيرين، روي له عن النبيّ ثلاثة عشر حديثاً، انفرد البخاري بحديث واحد ذكره في «مختصر التلقيح» ، واقتصر المصنف في «التهذيب» على أن البخاري روى عنه حديثاً واحداً عن (النبي قال: إذا أفطر أحدكم) أي أراد الفطر من صومه (فليفطر على تمر) اسم جنس جمعي فأقله ثلاثة، وهذا عند فقد الرطب، وإلا فهو مقدم عليه كما جاء من فعله ذلك (فإنه) أي التمر (بركة) لما فيه من حفظ البصر وجمع ما تفرّق منه بالصوم، ومن أنه إذا وصل المعدة فإن وجد فيها فضلة من بقايا الطعام أخرجها وإلا كان غذاء. وقول الأطباء: يضعف البصر محمول على كثيره المضرّ دون قليله (فإن لم يجد تمراً فالماء) بالجر: أي فليفطر عليه كما جاء كذلك في رواية عند رواة هذا الحديث (فإنه طهور) أي مزيل للخبائث المعنوية والحسية. وأخذ من هذا الحديث لإطلاق الماء فيه ردّ ما قيل من تقديم زمزم لمن بمكة على التمر، فإن جمع بينهما فحسن، والترتيب المذكور للاستحباب، فلو أفطر بالماء مع وجود التمر حصل أصل سنة الإفطار على الماء (وقال) أي النبيّ عطف على قال الأول، فهو من جملة ما رواه سلمان (الصدقة على المسكين صدقة) أي ثوابها ثواب صدقة واحدة
(وعلى ذي الرحم) أي القرابة من الأب أو الأم وإن بعد (ثنتان: صدقة وصلة) أي فيها ثوابان جليلان، ثواب الصدقة وثواب صلة الرحم (حديث حسن) هذا التحسين من المصنف وما يأتي بعد من الترمذي فلا تكرار، وذلك لأن تحسينات الترمذي ليست مسلمة له كما علم من سرّ كلامهم (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وكذا رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي، وروى الحديث عنه أبو داود أيضاً وابن عديّ، إلا أن قوله: «فإنه بركة» انفرد به عنهم الترمذي كما في «المشكاة» ، وفي «الجامع الصغير» بعد ذكر الحديث الأوّل بلفظ المذكور هذا رواه ابن عدي وابن خزيمة وابن حبان، وبعد ذكر الحديث الثاني ورواه الحاكم في «المستدرك» .(3/173)
22333 - (وعن ابن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما قال: كانت تحتي امرأة) لم أقف على من سماها (وكنت أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي: طلقها) أمره بذلك لكراهته لها، والظاهر أنها دينية، أو خشي أن تجره إلى ضرر في دينه (فأبيت) أي لما لها من الحبّ عندي (فأتى عمر النبيّ فذكر له ذلك) أي إبائي وامتناعي من طلاقها بعد أمره به (فقال النبيّ) من باب زيادة البر بالوالد (طلقها) والظاهر أنه طلقها لأنه لا يتخلف عن امتثال أمر النبيّ، وكأن السكوت على ذلك للعلم به من أحواله وكمال اتباعه المانع ذلك من خطور البال لمخالفة أمره (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
23334 - (وعن أبي الدرداء) عويمر، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب ملاطفة اليتيم (أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها) أي وأنا لا أريد ذلك لمحبتها أو لسبب آخر (فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الوالد) يشمل الأبوين وإن علوا (أوسط أبواب الجنة) قال أبو موسى المدني؛ أي خيرها، يقال هو من أوسط قومه أي من خيارهم. قال العراقي: والمعنى أن برّه مؤدّ إلى دخول الجنة من أوسط أبوابها. وقال العاقولي: المعنى أحسن ما يتصول به إلى دخول الجنة بر الوالدين. وكلام العراقي أقرب فيكون في الحديث مضاف إلى المبتدأ وآخر في الخبر (فإن شئت فأضع ذلك الباب) أي بعدم برّها وترك امتثال أمرها (أو احفظه) بذلك وإن لم يكن واجباً البرّ بالطلاق لكنه برّ لهما وإجلال لأمرهما فامتثله، وما ذكرته من أن ما ليس واجباً أصالة لا يصير واجباً بأمرهما هو ما عليه الجمهور فقالوا: إن أمرا بمباح في أصله صار مندوباً، أو بمندوب زاد تأكيد ندبه، وادعى القرطبي في «المفهم» أنه إذا أمراه أو أحدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه وإن لم يكن(3/174)
في أصله واجباً بل كانت من المباحات، ثم نقل المقابل عن البعض ثم قال: والصحيح الأول لأن الله تعالى قرن طاعتهما والإحسان إليهما بوجوب عبادته وتوحيده، وكذا جاء في السنة فذكر حديث ابن عمر المذكور ثم قال: فإن قيل يرتفع حكم الله الأصلي بحكم غيره الطارىء. قلت: إنما ارتفع حكمه تعالى بحكمه لأنه أوجب علينا طاعتهما والإحسان إليهما، وكان من ذلك امتثال أمرهما فوجب لأنه لا يحصل ما أمر الله به إلا بالامتثال، ولأن مخالفتهما في أمرهما عقوق اهـ. وفيه ما لا يخفى وقوله: «فإن شئت» مدرج في آخر الخبر من كلام أبي الدرداء والحديث (رواه الترمذي وقال: حديث صحيح) قال في الجامع الصغير: ورواه أحمد وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» .
24335 - (وعن البراء) بالتخفيف والمد (ابن عازب) بالمهملة والزاي والموحدة (رضي الله عنهما عن النبيّ قال) في عمرة القضاء «لما خرج النبيّ وتبعته بنت حمزة تنادي يا عم يا عم، فتناولها عليّ فأخذها بيده وقال لفاطمة: دونك بنت عمك احمليها، فاختصر فيها عليّ وزيد وجعفر، فقضى بها النبيّ لخالتها وقال (الخالة بمنزلة الأم) الحديث. قال العلقمي: أي في هذا الحكم الخاص لأنها تقرب منها في الحنوّ والشفقة والاهتداء لما يصلح الولد فلا حجة فيه لمن قال: الخالة ترث. وفي حديث مرسل للباقر «الخالة والدة، وإنما الخالة أمّ - وهو بمعنى قوله: «بمنزلة الأم» أي لا أنها أم حقيقة اهـ. والمصنف أورده في الباب اعتباراً بعموم لفظه في طلب أنواع البرّ وإسداء المعروف لها كما تسدى ذلك للأم مطلب البرّ لها (رواه الترمذي وقال: حديث صحيح) ورواه أبو داود من حديث عليّ بن أبي طالب كما في «الجامع الصغير» (وفي الباب) أي البرّ والصلة (أحاديث) مع حديث عليّ بن أبي طالب كما في «الجامع الصغير» (وفي الباب) أي البرّ والصلة (أحاديث) جمع حديث على غير قياس أو جمع أحدوثة بمعنى حديث كأراجيز جمع أرجوزة، قاله في «المفاتيح في شرح المصابيح» كما تقدم أوّل الكتاب بمزيد (كثيرة في الصحيح) أي للبخاري لأنه صار(3/175)
علماً بالغلبة في لسان المحدثين عليه، ويحتمل أنه يريد في الصحيح من الحديث للقابل للحسن والضعيف (مشهورة منها حديث أصحاب الغار الثلاثة وحديث جريج وقد سبقا) سبق حديث الغار في باب الإخلاص وحديث جريج في باب فضل ضعفة المسلمين (وأحاديث مشهورة في الصحيح حذفتها اختصاراً) وقد ذكرا كثيراً منها المنذري في «ترغيبه» (ومن أهمها حديث عمرو بن عبسة) بفتح المهملة والموحدة والسين المهملة (رضي الله عنه الطويل) صفة حديث (المشتمل على جمل كثيرة) بالمثلثة تأكيد لمدلول جمل وتنوينه (من قواعد الإسلام) أي أصوله وضوابطه الشاملة لكثير من جزئياته (وآدابه) جمع أدب وهو
كالسنة في الطلب وإن تفاوت تأكيداً كما في «الروضة» ، وتقدم تعريف الأدب أوّل لكتاب (وسأذكره بتمامه إن شاء الله تعالى في باب الرجاء، قال فيه: دخلت على النبيّ بمكة) وقوله: (يعني في أول النبوّة) هذا مدرج لبيان زمن دخوله ووصوله (فقلت له: ما أنت) المسؤول عنه وصفه، فلذلك أجابه بقوله (قال: نبي) أي أنا نبي، ومراده به الرسول، فهو من إطلاق النبيّ بالمعنى الشامل للرسول كما يدل عليه قوله أرسلني الله (قلت: وما نبيّ؟) أي ما حقيقة هذا اللفظ ومدلوله (قال) بيان لما يؤخذ منه ذلك (أرسلني ا) حذف المرسل لأجله للتعميم وليسأل عنه السائل فيصل إليه بعد الطلب فيكون أقرّ عنده (فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام) أي بالأمر بها والحثّ عليها، وذلك داع لدوام الاتصال وترك التقاطع والانفصال (وكسر الأوثان) جمع وثن، قيل هي الأصنام، وقيل أعم: أي إزالتها (وأن يوحد) بالبناء للمفعول (ا) حال كونه (لا يشرك به شيء، وذكر) عمرو (تمام الحديث) في باب الرجاء إن شاء الله تعالى (والله أعلم) .(3/176)
41 - باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم
المراد من العقوق عقوق الوالدين أو أحدهما، وهو من الكبائر، مأخوذ من العق. وهو لغة القطع والمخالفة، وشرعاً قيل ضابطه أن تعصيه في جائز وليس هذا الإطلاق بمرضيّ؛ وقال بعضهم: طالما بحثت عن ضابطه فلم أجده، والذي آل إليه كلام أئمتنا أن ضابطه أن يفعل معه ما يتأذى به تأذياً ليس بالهين، لكن هل المراد بقولهم ليس بالهين بالنسبة للوالد حتى أن ما تأذى به كثيراً وهو عرفاً بخلاف ذلك كبيرة، أو بالنسبة للعرف فما عده أهله مما لا يتأذى به كثيراً ليس بكبيرة وإن تأذى كثيراً. كل محتمل ولم يبينوه، والذي يظهر أن المراد الثاني بدليل أنه لو أمر ولده بنحو فراق حليلته لم يلزمه طاعته وإن تأذى بذلك كثيراً، فعلمنا أنه ليس المناط وجود التأذي الكثير، بل أن يكون ذلك من شأنه أنه يتأذى به كثيراً، وقطيعة الرحم ضد صلته وتقدم في الباب قبله ما تعرف منه، وكذا تقدم فيه في حديث أبي هريرة أوائل الكلام على ما يتعلق بقول المصنف.
(قال الله تعالى) : ( {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الدين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} ) .
(وقال تعالى) : ( {والذين ينقضون عهد ا} ) أي ما عهده الله إليهم من التكاليف والأحكام (من بعد ميثاقه) أي ما أوثقه به من الإقرار والقبول.t وفي «رسالة الاستعارة» للخوجة أبي القاسم السمرقندي جوز صاحب الكشاف كونه: أي الأمر الذي أثبت للمشبه من خواص المشبه به استعارة تحقيقية في بعض المواد كما في قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} (البقرة: 27) استعير الحبل المضمر في النفس للعهد بجامع الوصلة على سبيل الكناية واستعير النقض لإبطاله: أي إبطال العهد على سبيل التصريح بجامع مطلق الإبطال اهـ. ( {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} ) بدل من(3/177)
الضمير المجرور، والمراد به الرحم وموالاة المؤمنين والإيمان بجميع الأنبياء ويندرج في ذلك مراعاة جميع حقوق الناس ( {ويفسدون في الأرض} ) بالظلم وتهييج الفتن ( {أولئك لهم اللعنة} ) البعد من الله سبحانه ( {ولهم سوء الدار} ) عذاب جهنم أمر سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة - عقبي الدار - وتقدم الكلام في الباب قبله على قوله:
(وقال تعالى) : ( {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} ) فيه استعارة مكنية يتبعها استعارة تخييلية ( {وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا} ) والكاف في «كما» يحتمل أن تكون للتعليل كما في قوله تعالى: {كما هداكم} (البقرة: 198) على أحد الأقوال. وحينئذٍ فيحتمل أن يكون لبيان سبب دعائك لهما، ويحتمل أن يكون للتنظير والمراد رحمة تامة بالغة كما بالغا جهدهما في تربيتي حال صغرى وانقطاعي ثم كان اللائق بالترجمة تقديم هذه الآية لأن فيها النهي عن العقوق بالتصريح، وبالقياس الأولويّ، وباللازم من الأمر بالبر والإحسان إليهما، إذ الأمر بالشيء نهي عن ضده، والآيتان في القطيعة، إلا أن يقال إنهما شاملان للعقوق لأنه من قطع الأرحام، ومن قطع ما أمر الله به أن يوصل فذكر له من الكتاب دليلاً شاملاً لتحريمه وتحريم غيره من القطيعة ثم ذكر ما يخصه اهتماماً به.
1336 - (وعن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه) سبقت ترجمته في باب النية أول الكتاب (قال: قال رسول الله: ألا) حرف استفتاح وأتى بها ليتنبه المخاطب من غفلته ليتوجه لسماع ما يلقى إليه فيقرّ في قلبه ولذا إنما يؤتى بها فيما يهتم بأمره (أنبئكم بأكبر الكبائر) جمع كبيرة، والصحيح، بل الصواب أن من الذنوب صغائر وكبائر وأن للكبيرة حدا، فالمختار أنها ما ورد فيه وعيد شديد في الكتاب أو في السنة وإن لم يكن فيه حد وهو بمعنى قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وقلة الديانة. ومن أحسن ما ألف فيها وأجمع كتاب «الزواجر عن اقتراف الكبائر» لشيخ شيوخنا المحقق شهاب(3/178)
الدين أحمد بن حجر الهيثمي رحمه الله (قلنا: بلى يا رسول الله) فائدته مع عدم الاحتياج إليه الإشارة إلى عظيم الإذعان لرسالته وما ينشأ منها من بيان الشريعة، وإلى استجلاء شيء من كمالاته وعلومه التي أوتيها بعد رسالته (قال: الإشراك با) أي الكفر بأنواعه (وعقوق الوالدين) أو أحدهما، وجمعهما لأن عقوق أحدهما يستلزم عقوق الآخر غالباً أو يجر إليه وتقدم تعريف أول الباب. فإن قلت: أكبر الكبائر لا يكون إلا واحداً وهو الشرك فكيف تعدد هنا؟ وأيضاً فنحو القتل والزنا أكبر من العقوق فلم حذفا وذكر هو؟ قلت: ادعاء أن الأكبر لا يكون إلا واحداً إنما هو إن أريد الحقيقة، أما إن أريد الأكبر النسبي فهو يكون متعدداً، ولا شك أن الأكبر بالنسبة إلى بقية الكبائر أمور أشار إليها وإلى أمثالها النبي بقوله: «اتقوا السبع الموبقات» الحديث، وحينئذٍ فالأكبر هنا لتعدده في الجواب مراد به الأمر النسبي، وإنما ترك ذكر القتل ونحوه في هذا الحديث لأنه علم من أحاديث أخر أن ذلك من أكبر الكبائر، على أنه كان يراعي في مثل ذلك أحوال الحاضرين، وعليه يحمل اختلاف الأحاديث نحو «أفضل الأعمال الصلاة» وأخرى «أفضل الأعمال الجهاد» وأخرى «أفضل الأعمال بر الوالدين» وغير ذلك من نظائر
له لا تخفى (وكان متكئاً فجلس) تنبيهاً على عظم إثم وقبح شهادة الزور، فيفيد تأكيد تحريمه وتعظيم قبحه، وسبب الاهتمام به حتى جلس بعد اتكائه سهولة وقوع الناس فيه وتهاونهم به، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم والعقوق يصرفه عنه الطبع، والحوامل على الزور كثيرة جداً كالعداوة والحسد، فاحتيج إلى الاهتمام بشأنه لأن مفسدته متعدية إلى الغير بخلاف ما معه فقاصرة عليه (فقال: ألا وقول الزور) يحتمل كون الواو استئنافية لعظم قبح هذا الذنب ومزيد إثمه، ويحتمل أنها عاطفة على محذوف: أي اتركوا ما ذكر من الكبائر وقول الزور وهو الكذب على الغير (وشهادة الزور) قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام، لكن ينبغي أن يحمل على التوكيد، فإنا لو حملنا القول على إطلاقه لزم كون الكذبة الواحدة كبيرة وليس كذلك، قال: ولا شك أن عظم الذنب ومراتبه متفاوتة بتفاوت مفاسده، ومنه قوله تعالى:
{ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً} (النساء: 112) (فما زال يكررها) أي هذه الكلمة باعتبار المعنى اللغوي، أو الشهادة لأنها أقرب مذكور(3/179)
وقول الزور بمعناه (حتى قلنا: ليته سكت) أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه وخشية أن يجري على لسانه ما يوجب نزول البلاء عليهم. وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه والمحبة له والشفقة عليه (متفق عليه) رواه البخاري في مواضع من «صحيحه» أولها الشهادات، ورواه مسلم في الإيمان، ورواه الترمذي في مواضع من «جامعه» منها البر ومنها الشهادات وقال: حسن صحيح.
2337 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي) بإثبات الياء كما هو الأفصح كما تقدم (رضي الله عنهما عن النبي قال: الكبائر) أي منها والاقتصار عليها كأنه لاقتضاء المقام ذكرها لتقصير بعض الحاضرين في شأنها أو لكونها أعظم الكبائر إثماً وأشدها جرماً (الإشراك) أي الكفر (با وعقوق الوالدين وقتل النفس) التي حرم الله قتلها عدواناً (واليمين الغموس) الغين المعجمة والسين (رواه البخاري) وأحمد والترمذي والنسائي كما في «الجامع الصغير» .
(اليمين الغموس) المد دور في الحجر (التي يحلفها) أي الحالف، نظيره قوله تعالى: {اعدلوا هو} (المائدة: 3) أي العدل (كاذباً عامداً) حال من فاعل يحلف (سميت غموساً) بفتح الغين (لأنها تغمس الحالف في الإثم) لأنه حلف كاذباً على علم منه، فغموس فعول بمعنى فاعل كما في «المصباح» .
3338 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من الكبائر) أي بعضها: ولا ينافي ما تقدم وما(3/180)
بعده أنه من أكبرها لأنه لا يخرج بذلك عن كونها بعضاً منها (شتم الرجل) أي المكلف ومثله المكلفة (والديه) بفتح الدال: أي أمه وأباه ويلحق بهما في ذلك من له عليه ولادة من أصوله، ولو قرىء بكسر الدال على الجمع لشملهم إلا أن تمنع منه الرواية، ويدل على المشبه قوله يسبّ أبا الرجل الخ (قالوا: يا رسول الله وهل يشتم) بكسر التاء، ففي «المصباح» أنه من باب ضرب (الرجل والديه؟) استفهام استبعاد أن يصدر ذلك من ذي عقل ولب، فإن من كان ذلك شأنه تدعوه معرفة حقهما إلى القيام ببرّهما وشكرهما فضلاً عن الوقوع في شتمهما، فهو استبعاد لوقوع ذلك الموصوف بالرجولية المعربة عن الكمال (قال نعم) أي يشتم لكن بالتسبب فيه لا بالمباشرة (يسبّ أبا الرجل فيسبّ) أي المسبوب أبوه (أباه) أي أبا الساب (ويسبّ أمه فيسبّ أمه. متفق عليه) . قال السيوطي في «المرقاة» : قال النووي: فيه تحريم الوسائل والذرائع.
(وفي رواية) أي لهما أيضاً عنه وقد رواها كذلك البخاري في الأدب ومسلم في الإيمان ورواها أبو داود في الأدب والنسائي في الزينة وقال: صحيح، ذكره الحافظ المزي، لكن لم يذكر أن في قوله: (إن من أكبر الكبائر) أي النسبية وهي كذلك متعددة كما تقدم، أما أكبر الكبائر فالشرك با (أن يلعن الرجل والديه) وهو السبب في وجوده والقائم بمصالحه عند كمال ضعفه وحاجته (قال: يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمه) كأن حكمة تقديم الأب في الذكر أن الغالب عدم ذكر النساء حتى في مقام المدح، ولذا قيل: سترة الحرم من الكرم.
4339 - (وعن أبي محمد) ويقال أبو عدي (جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها راء (ابن مطعم) بصيغة الفاعل من أطعم، ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن(3/181)
قصي القرشي النوفليّ (رضي الله عنه) أسلم عام خيبر، وقيل يوم فتح مكة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستون حديثاً، اتفقا على ستة منها، وانفرد البخاري ومسلم بحديث. روى عنه سليمان بن صرد الصحابي وابناه محمد ونافع وسعيد بن المسيب وآخرون. قال الزبير بن بكار: وكان من حكماء قريش وساداتهم، توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين، وقال قتيبة: سنة تسع وخمسين اهـ. من التهذيب للمصنف (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يدخل الجنة قاطع) أي مع الفائزين الناجين أو أبداً إن كان مستحلاً للقطيعة مع علمه بتحريمها (قال سفيان) هو ابن عيينة (في روايته) لهذا الحديث فإن الحديث عندهما من طريقه ومن طريق عقيل ومن طريق مالك ومن طريق عبد الرزاق، أربعتهم عن الزهري عن جبير، ذكره الحافظ المزي في «الأطراف» (يعني) النبي بقوله: «قاطع» المجمل المحتمل لمعان (قاطع الرحم) وكأنه لعظم إثمه ومزيد الاعتناء به لا ينصرف هذا اللفظ إلا إليه ادّعاء.
5340 - (وعن أبي عيسى) ويقال أبو عبد الله ويقال أبو محمد (المغيرة) قال ابن السكيت وآخرون من أهل اللغة بضم الميم وكسرها والضم أشهر (ابن شعبة) بن أبي عامر بن مسعود بن أبي معتب بالعين المهملة المفتوحة ابن مالك بن منصور بن عكرمة بن خصفة بفتح المعجمة والصاد المهملة والفاء ابن قيس بن عيلان بالمهملة ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الثقفي الكوفي (رضي الله عنه) أسلم عام الخندق، وروي له عن النبي مائة وستة وثلاثون حديثاً، اتفقا على تسعة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، روى عنه أبو أمامة الباهلي والمسور بن مخرمة وفزة المزني الصحابيون، ومن التابعين جماعات، ولاه عمر البصرة مدة ثم نقل عنها فولاه الكوفة، فلم يزل عليها حتى قتل فأقر عثمان عليها ثم عزله، وشهد اليمامة وفتح الشام، وذهبت عينه يوم(3/182)
اليرموك، وشهد القادسية وفتح نهاوند، وكان على ميسرة النعمان بن مقرن، واعتزل الفتنة بعد قتل عثمان وشهد الحكمين، واستعمله معاوية على الكوفة فلم يزل عليها حتى توفي بها سنة خمسين وقيل إحدى وخمسين، وهو أوّل من وضع ديوان البصرة اهـ ملخصاً من «التهذيب» (عن النبي قال: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات) اقتصر عليهن مع تحريم عقوق الآباء أيضاً لأن الاستخفاف بهن أكثر لضعفهن وعجزهن بخلاف الآباء ولينبه على تقديم برّهن على برّ الأب في التلطف والخير ونحو ذلك، ويل هو من تخصيص الشيء بالذكر إظهاراً لعظم توقعه، والأمهات جمع أمهة وهي لمن لا يعقل بخلاف الأم فإنه أعم (ومنعاً) لما يجب أداؤه من الحق (وهات) الاستكثار من حق الغير بغير حق: أي حرم عليكم طلب ما ليس لكم أخذه، ثم منعاً بالتنوين وفي رواية بغير التنوين وهو بسكون النون مصدر منع يمنع، وأما هات بكسر التاء أمر من الإيتاء والأصل آت بهمزة ممدودة قلبت ألفاً. قال الحافظ: الحاصل من النهي منع ما أمر بإعطائه وطلب ما لا يستحق، ويحتمل أن يكون النهي عن السؤال مطلقا ويكون ذكر
هنا مع ضده ثم أعيد مطلقاً تأكيداً للنهي عنه، ثم ما ذكر من أن منعاً مكتوب بالألف كذا في الأصل، لكن قال ابن مالك في «التوضيح» : إنه من المكتوب على لغة ربيعة، ومنع بحذف الألف على لغتهم لأنهم يقفون على المنوّن المنصوب بالسكون فلا يكتبون الألف. وقيل حذفها لأن تنوين منعاً أبدل واواً وأدغم في الواو فصار اللفظ: يعني بعد قلبها واواً مشددة كاللفظ، يقول وشبهه فجعلت صورة الخط مطابقة للفظه، ويمكن أن يكون الأصل ومنع حق فحذف المضاف وبقيت هيئة الإضافة اهـ (ووأد) بسكون الهمزة: أي دفن (البنات) بأن يدفنّ أحياء، يقال وأد بنته وأدا من باب وعد: دفنها حية فهي موءودة كذا في «المصباح» ، وإنما خص البنات بتحريم وأدهن لأنه هو الواقع فتوجه النهي إليه لا أن الحكم مخصوص بالبنات بل هو حكم عام. يقال أوّل من وأد البنات قيس بن عاصم التميمي، كان أغار عليه بعض أعدائه فأخذ بنته فاتخذها لنفسه ثم اصطلحا فخير بنته فاختارت زوجها، فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعته العرب على ذلك. وكانوا فيه فريقين منهم من يفعله خشية الإقتار، ومن يفعله خشية العار، ومن العرب من لا يفعل ذلك. وكان صعصعة بن ناجية التميمي وهو جد الفرزدق أول من فدى الموءودة، وذلك أنه كان يعمد إلى من يراد فعل ذلك منها فيفديها منهم بمال فينفق عليها، وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام فأسلما، ولهما صحبة، وكانوا في الوأد على طريقين:(3/183)
أحدهما أن يأمر امرأته عند الوضع أن تطلق بجانب حفيرة فإن وضعت ذكراً أبقاه وإلا ألقاها فيها. وثانيهما أن يصبر على البنت إلى أن تصير سداسية ثم يأخذها وقد زينتها أمها، فيأتي بها إلى حفرة كان حفرها قبل فيقول لها انظري قعرها، ويرميها من ورائها ويطمها بالتراب (وكره لكم قيل وقال) قال الحافظ في «الفتح» في رواية الشعبي: كان ينهى عن قيل وقال، كذلك كثر في جميع المواضع بغير التنوين، ووقع في رواية الكشميني هنا
قيلاً وقالاً، والأشهر الأوّل، وفيه تعقب على من زعم أنه جائز ولم يقع في الرواية. وقال الجوهري: قيل وقال اسمان، يقال: كثر القيل والقال كذا جزم باسميتهما واستدل له بدخول أل عليهما، وقال ابن دقيق العيد: لو كانا اسمين كالقول لم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة وأشار إلى ترجيح الأوّل. وقال المحبّ الطبري: فيه أوجه:
أحدهما أنهما مصدران، والمراد من الحديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام لأنها تؤول إلى الخطأ وكرر المصدر مبالغة في الزجر.
وثانيها المراد حكاية أقوال الناس والبحث عنها ليخبره غيره فيقول قال فلان وقيل لفلان، فالنهي عنه إما للزجر وهو الاستكثار منه، وإما لشي مخصوص، وهو ما يكرهه المحكي عنه. قلت: وعليه فهما بفتح اللام حكاية للفعل الماضي وكذا على الوجه الثالث الآتي، واقتصر على الأوّل منهما ابن أقبرس في «شرح الشفاء» فقال: يريد به المنع من التبرّع بنقل الأخبار، فعاد لما فيه من هتك الستار وكشف الأسرار، وقد أشار إلى أن ذلك ليس من محسنات الإسلام بقوله: «من حسن أسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وفيه من جهة المعنى موافقة لقوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} » (النور: 19) الآية، لأن الله تعالى ستار. ويخص من هذا نقل الأخبار النافعة لا سيما إذا كانت صحيحة عن ثقة اهـ.
ثالثها أن في ذلك الإكثار الزلل إذ هو مخصوص بمن ينقل لا عن تثبت ولكن تقليداً لمن سمعه ولا يحتاط اهـ. وقول المصنف معناه الخ شامل للآخرين. وفي «المشكاة» قوله قيل: وقيل بناهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين للضمير والإعراب على أنهما مصدران ولذا دخل عليهما أل فيما يعرف القيل من القال اهـ بمعناه. وفي(3/184)
«المصباح» : القيل والقال اسمان من قال يقول لا مصدران قاله ابن السكيت ويعربان بحسب العوامل، وفي «الارتشاف» هما في الأصل فعلان ماضيان جعلا اسمين واستعملا استعمال الأسماء وأبقى فتحهما ليدل على ما كانا عليه، قال: ويدل عليه ما في الحديث «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قيل وقال» بالفتح وحكى الوجهين في «التهذيب» ، ولا يستعمل القيل والقال إلا في الشر اهـ. (وكثرة السؤال) أي سؤال المال لنفسه من غير حاجة والسؤال عن المشكلات والمعضلات من غير ضرورة وعن أخبار الناس وحوادث الزمان، وسؤال الإنسان بخصوصه عن تفصيل أحواله فقد يكره ذلك، فالأولى حمل السؤال في الخبر على ما يعم الجميع وذلك لأنه اسم جنس محلى بأل فيعم، أما سؤال المال للغير فالظاهر اختلافه باختلاف الأحوال، ولنفس لحاجة فلا كراهة بشرط عدم الإلحاح وذل نفسه زيادة على ذل السؤال والمسؤول، فإن فقد شرط حرم قال الفاكهاني: يتعجب ممن كره السؤال مطلقاً مع وجوده في عصر النبي وصالحي السلف من غير نكير، قال العلقمي لعل من كرهه أراد أنه خلاف الأولى ولا يلزم من وقوعه وتقديره تغير صفته، وينبغي حمل السؤال منهم على أنه كان عن حاجة. وفي قوله من غير نكير نظر ففي الأحاديث الكثيرة ذم السؤال فيها كفاية في إنكار ذلك (وإضاعة المال) أي بإنفاقه في غير وجه المأذون فيه شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية، والمنع من إضاعته لأن الله تعالى جعله قياماً لمصالح العباد وفي تبذيره تفويت لتلك المصالح إما في المبذر أو في حق الغير، ويستثنى كثرة الإنفاق في وجوه البرّ لتحصيل ثواب الآخرة
ما لم يفوّت حقاً آخر أهم. قال التقى السبكي في «الحلبيات» : الضابط في إضاعة المال ألا يكون لغرض ديني ولا دنيوي فإذا انتفيا حرم قطعاً، وإن وجد أحدهما وجوداً له حال وكان الإنفاق لائقاً بالحال ولا معصية فيه جاز قطعاً، وبين الرتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت الضابط، فعلى الفقيه أن يرى فيما لا ينتشر منه رأيه. وأما ما ينتشر فقد تعرض له أحكام، فالإنفاق في المعصية كله حرام، ولا نظر فيما يحصل في مطلوبه من اللذة الحسية وقضاء الشهوة النفية. وأما إنفاقه في مباحات الملاذّ فهو موضع اختلاف، وظاهر قوله:
{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} (الفرقان: 67) أن الزائد غير اللائق بحال المنفق إسراف، ثم قال: ومن بذل كثيراً في غرض يسير عده العقلاء مضيعاً بخلاف عكسه، والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والاستقراض والأدب، ومسلم في الأحكام، قال الطيبي: وهذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق وهو يستتبع جميع الأخلاق الجميلة (قوله منعاً) أي بالتنوين (معناه منع ما وجب عليه) أي أداؤه (وهات)(3/185)
أي معناه في المشهور (طلب ما ليس له) أي أخذه، وتقدم قول آخر أنه نهي عن مطلق السؤال، ثم هو محتمل لدخوله في النهي بأن يكون خطاباً لاثنين كأن ينهى الطالب عما لا يستحقه وينهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب لئلا يعينه على الإثم، قاله الحافظ في «الفتح» ، وعليه فيكون المعنى: وكره لكم هات سؤالاً وإجابة للسائل بها (وقيل وقال) ظاهره أنهما في الحديث بالبناء على الفتح، ويحتمل أن يكونا مرفوعين: أي والمراد منهما شيء واحد ولذا قال (معناه الحديث) اسم مصدر من التحديث (بكل ما يسمعه) من أقوال الناس (فيقول قيل كذا) مما قصد به بيان المحكي ولم يتعلق الغرض بتعيين من صدر عنه ذلك (وقال فلان كذا) مما تعلق الغرض فيه بهما معاً (مما لا يعلم صحته ولا يظنها) بيان لما يسمعه (وكفى بالمرء) الظاهر أن الباء مزيدة في المفعول للتأكيد، و (إثماً) تمييز وليس مفعولاً ثانياً لأن المتعدي إليهما كفى بمعنى وفي نحو قوله تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال} (الأحزاب: 25) لا بمعنى حسب، بل قد يكون حينئذٍ لازماً نحو {كفى با} ومتعدياً لواحد كالحديث، وقوله (أن يحدث) فاعل كفى أي تحديثه (بكل ما سمع) من غير تثبت واحتياط وقدمت في حديث «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته» في باب النفقة على العيال، عن المظهري أنّ يحبس مبتدأ وكفى خبره مقدماً عليه أو خبر مبتدأ محذوف وظاهر جريان ذلك هنا أيضاً (وإضاعة المال تبذيره) في «المصباح» :
بذرت الكلام: فرقته، وبذّرته بالتثقيل مبالغة وتكثير، ومنه اشتق التبذير في المال لأنه تفريق في غير القصد اهـ. (وصرفه في غير الوجوه المأذون فيها) من إتلاف أو في معصية، وقوله: (من مقاصد الآخرة والدنيا) بيان للوجوه المأذون فيها (وترك حفظه) معطوف على تبذيره لأوّليته أو على صرفه لقربه، وإنما يكون ترك الحفظ إضاعة للمال إذا كان (مع إمكان الحفظ) أما إذا عمّ الحريق أو النهب وما تمكن من حفظه فضاع عليه بذلك فلا(3/186)
يدخل في الإضاعة (وكثرة السؤال: الإلحاح) فيه (إلا لحاجة إليه) من مال أو علم، وظاهره أنه لا منع من سؤال خال عن الإلحاح لما لا يحتاج إليه، وقد تقدم بيان حكم ذلك. والإلحاح بالمهملتين: الإقبال على السؤال مواظباً (وفي الباب) أي تحريم العقوق والقطيعة (أحاديث سبقت في الباب) المعقود (قبله) أي قبل الباب المذكور في قوله وفي الباب (كحديث وأقطع) بصيغة المتكلم (من قطعك) أي من قوله تعالى للرحم: «وأقطع من قطعك» (وحديث من قطعني قطعه ا) .
42 - باب فضل بِر أصدقاء الأب والأم
جمع صديق وهو كما في «المصباح» : الصادق، وهو من الصداقة واشتقاقها من الصديق في الود والنصح والجمع أصدقاء وامرأة صديق وصديقة أيضاً (والزوجة) كذا في النسخ بالتاء وهي لغة ضعيفة والأفصح والزوجين بحذفها على أنه أولى ليعم كلاً منهما بالتصريح، وإلا فإكرام الزوجة أقرباء زوجها مقيس على إكرامه أقربائها بالأولى لتأكد حقه عليها ووجوب احترامها له (وسائر) باقي أو جميع فيكون من عطف العام على الخاص للتعميم (من يندب إكرامه) من شيخ ومريد وملك عادل.
1341 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ قال: أبرّ البرّ) أي أكمله وأبلغه (أن(3/187)
يصل الرجل) ومثله المرأة كما تقدم مراراً وإفراده بالذكر لشرفه (ودّ أبيه) بضم الواو وتشديد الدال المهملة: وهو الحب، وعقب هذا الحديث قبل ذكر مخرجه بما بعده لأنه حديث واحد. وفي الثاني بيان وقت صدور التحديث بابن عمر بالحديث.
2342 - (وعن عبد الله بن دينار) هو أبو عبد الرحمن القرشي العدوي المدني مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب سمع ابن عمر وأنساً وجماعة، روى عنه ابنه عبد الرحمن ويحيى الأنصاري وسهيل وربيعة الرأي وموسى بن عقبة، وهؤلاء تابعيون وخلائق غيرهم اتفقوا على توثيقه، توفي سنة سبع وعشرين ومائة. (عن) قصة (عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) هي (أن رجلاً من الأعراب) بفتح الهمزة أهل البدو من العرب، الواحد أعرابيّ بالفتح أيضاً، وهو الذي يكون صاحب نجعة، كذا في «المصباح» ، ولم أقف على من سماه (لقيه) الضمير المستتر يعود للرجل والبارز لابن عمر (بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه) للتروّح عليه إذا مل ركوب الراحلة كما في «الزوائد» بعد (وأعطاه عمامة كانت على رأسه) أي حينئذٍ يشد بها رأسه في السفر، والظاهر أنها غير ما يعتم به في الحضر كما يأذن به الرواية بعد، وهي تبين أيضاً أن ما وقع كان بعد تعرّفه بالرجل الأعرابي (قال ابن دينار فقلنا) يحتمل أن يكون هو وباقي من مع ابن عمر وهو الظاهر من الضمير ويحتمل أنه وحده، وعبر بذلك إما لتأكيد الإضمار بصدور ذلك عنه أو لأمر آخر (إنهم الأعراب وهم يرون باليسير فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه) بضم الواو مصدر ود من باب تعب أي ذا ود عمر، أو وادّه أو مودوده وأطلق عليه المصدر مبالغة قال الحافظ وضم الواو في المصدر هو المشهور، وحكى الفراء فتحها فيه وحكى كسرها فيه فهو مثلث، قلت وقد حكاه ابن مالك في كتاب الأعلام في المثلث
وسكت عليه، عبر بقوله لعمر الخ دون قوله لوالدي إشارة إلى أن لبره مقتضيات:
الأوّل أنه ودّ أبيه.(3/188)
والثاني أنه ودّ شيخه.
الثالث أنه ود رأس الصالحين، ودلالة لفظ عمر على هذين أظهر (وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) الجملة المصدرية يحتمل كونها معطوفة على أن هذا الخ، ويحتمل أن تكون في محل الحال الثاني أقرب والرابط الواو (إن أبرّ البر) أي أبلغه (صلة الرجل أهل) أي أصحاب (ودّ أبيه) أي حبه وإن لم يكونا أقربا للفرع ولا للأصل فإن برهم برّ ذي الود لهم من الأبوين وما أحسن ما قيل:
أهوى العقيق ومن أقام بحبه
وأهيله وهواهم لي مغنم
ما ذاك إلا أن بدري منهم
ولأجل عين ألف عين تكرم
(وفي رواية) أخرى (عن ابن دينار عن) قصة (ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار) هو الذكر من الحيوان الناهق والأنثى أتان وحمارة نادر والجمع حمير وحمر بضمتين وأحمرة كذا في «المصباح» (يتروح) بتشديد الواو أي يستريح (عليه إذا مل) أي إذا شثم وضجر (ركوب الراحلة) أي المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى. قال في «المصباح» وبعضهم يقول الناقة التي تصلح أن ترحل (وعمامة يشد بها رأسه، فبينا) الألف فيه للإشباع كافة لبين عن الإضافة فالجملة بعده مستأنفة، ومثلها بينما (هو يوماً على ذلك الحمار إذ مر به أعرابيّ فقال) يعني ابن عمر (ألست فلان بن فلان) استفهام تقريري. وفلان قال ابن السراج: كناية عن اسم يسمى به المحدث عنه خاص غالب، ويستعمل من غير أل في غير الآدمي، ومنه حديث أبي يعلى الموصلي بسند صحيح على شرط مسلم عن ابن عباس قال: «ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالوا: يا رسول الله ماتت فلانة، يعني الشاة» قال المصنف: هكذا في الأصل المصحح فلانة من غير أل فهو صريح في جواز ذلك، وعدم تعين أل فيه في غير الآدميين خلافاً للجوهري (قال بلى، فأعطاه الحمار فقال: اركب هذا والعمامة) فـ (ــقال اشدد) بضم الدال (بها رأسك، فقال له بعض أصحابه) منهم ابن دينار كما دلت عليه الرواية السابقة، وقد يبهم الراوي نفسه لغرض (غفر الله لك) فيه تنبيه على(3/189)
أدب العتاب أن يقدم الدعاء للمخاطب ثم يعاتب، وهذا أخذ من قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} (التوبة: 43) قال القاضي عياض في «الشفاء» : يجب على المسلم المجاهد نفسه، الرائض بزمام الشريعة خلقه أن يتأدب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته، وليتأمل هذه الملاطفة العجيبة والسؤال من رب الأرباب المنعم على الكل المستغني عن الجميع، ويتبين ما فيها من الفوائد وكيف ابتدأ بالإكرام قب العتب وآنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثم ذنب اهـ. (أعطيت) يحتمل أن يكون بتقديره همزة الاستفهام الإنكاري،
ويحتمل أن يكون إخباراً لبيان لازم الخبر والأول أقرب: أي أعطيت (هذا الأعرابي حماراً كنت تروّح) بتشديد الواو والرفع وحذفت من أوله إحدى التاءين تخفيفاً: أي تتروح (عليه وعمامة كنت تشد بها رأسك، فقال) دفعاً لإنكار ما أنكروه عليه مما حاصله وضع الشيء في غير موضعه ببيان الحامل على ذلك (إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن من أبرّ البر) لا ينافي إثبات «من» هنا إسقاطها في الأوّل لأنها مرادة، أو أنه أراد أنه أبرّ بالنسبة للمخاطب به ذلك الوقت كما تقدم قريباً (صلة الرجل أهل ودّ أبيه بعد أن يولى) بضم التحتية وتشديد اللام المكسورة: أي بعد أن يموت. قال العاقولي: والمعنى من جملة برّ الرجل بوالده أن يودّ أصحاب أبيه وأهل وده بعد موته. وأقول: إن المعنى إن من جملة بره صلة أهل ود أبيه بعد موته (وإن أباه) أي: أبا المعطي (كان صديقاً لعمر رضي الله عنه) أي فلذا وصلته (روى هذه الروايات كلها مسلم) فروى الرواية الأولى المذكورة عن ابن دينار فذكره، وروى الترمذي في البر والصلة من طريق آخر إلى الوليد عن دينار حديث «إن أبرّ البرّ صلة الولد أهل ودّ أبيه» من دون القصة، وقال صحيح. وروى الرواية الثانية عنه عن الحسن الحلواني: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبو الليث بن سعيد جميعاً عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد بن عبد الله بن دينار فذكره. ورواه أبو داود من طريق الحرّ إلى يزيد فذكر الحديث دون القصة.(3/190)
3343 - (وعن أبي أسيد بضم الهمزة وفتح السين) المهملة وسكون التحتية بعدها دال مهملة (مالك بن ربيعة) وقيل هلال بن ربيعة ومالك أثكر، ابن البدن بالموحدة والمهملة المفتوحتين والنون، هكذا نقله ابن هشام عن ابن إسحاق وابن عقبة عن الزهري، ورواه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى عن الزهري «بالبدى» بالياء فصحف، وإنما الصحيح النون ابن عامر بن عوف بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي (الساعدي) نسبة لجده ساعدة وهو مشهور بكنيته، شهد (رضي الله عنه) بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن أسحاق وغيره، وعمي قبل قتل عثمان رضي الله عنه، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وعشرون حديثاً، له في الصحيحين أربعة أحاديث اتفقا على واحد منها، وللبخاري وحده حديثان، ولمسلم كذلك واحد، توفي أبو أسيد سنة ستين قاله المدايني، قال أبو نعيم إنه وهم، وقيل سنة خمس وستين. وقال الواقدي وخليفة: سنة ثلاثين، قال ابن عبد البرّ: وهذا وهم فقيل إنه آخر من مات من البدريين، وكان عمره خمساً وسبعين سنة اهـ ملخصاً من «أسد الغابة» مما ذكره في الأسماء والكنى في ترجمته، وسكت عن تعيين محل وفاته، وفي كتاب «در السحابة في مواضع وفاة الصحابة» للصغاني أنه مات بالمدينة (قال: بينا نحن جلوس عند النبيّ إذ جاءه رجل من بني سلمة) لم أقف على من سماه (فقال: يا رسول الله
هل بقى من برّ أبويّ) المأمور أنا به (شيء أبرّهما به) أي لأبرهما به (بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة) أي الدعاء (لهما) كما يدل عليه قوله تعالى: {وقل ربّ ارحمها} (الإسراء: 24) (والاستغفار) من عطف الخاص على العام اهتماماً: أي وتدعو بالمغفرة (لهما، وانقاذ) بالذال المعجمة (عهدهما) أي من وصية وصدقة وغير ذلك (من بعدهما) تنازعه المبتدآت قبله ويحتمل أن المتعلق كائنات فيشمل الجميع (وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) قال
الطيبي؛ التي ليست بصفة للمضاف إليه بل المضاف الصلة الموصوفة بأنها خالصة لحقهما ورضاهما، لا(3/191)
لأمر آخر ولفظ البيهقي «وصلة رحمهما التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فقال: ما أكثر هذا وأطيبه يا رسولالله، قال: ما عمل به فإنه يصل إليهما» قال العاقولي: وفي الحديث تنبيه على اغتنام فضيلة الصلة وأنها طاعة لا يكون إدراكها إلا من جهتهما، فإنه لو فرض أن إنساناً تولد من تراب مثلاً ولم يولد له لم يكن لذلك الإنسان سبيل إلى دخول الجنة من صلة الرحم، فإنه لا رحم له، فإذا كان الوالدان سبباً في مثل هذه الطاعة وجب رعايتهما وحفظهما فيها (وإكرام صديقهما) وبمعناه حديث ابن عمر في الباب (رواه أبو داود) في الأدب، وكذا أخرجه في الأدب بنحوه.
4344 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ماغرت) بكسر الغين في «المصباح» : غار الرجل على امرأته غضب فيها، والمرأة على زوجها تغار من باب تعب غيراً وغيرة بالفتح وغاراً قال ابن السكيت: ولا يقال غيراً ولا غيرة بالكسر، وأغار الرجل امرأته تزوّج عليها فغارت عليه اهـ. (على أحد من نساء النبيّ) يعني ضرائرها أمهات المؤمنين رضي الله عنهن (ماغرت على خديجة رضي الله عنها) وذلك لما رأت لها عنده من مزيد المكانة الدالّ عليه إكثار ذكرها والتنويه بشكرها بعد فقدها، وكانت عائشة أحبّ سائر زوجاته الموجودات معها إليه، وبينت هذا المعنى بقولها: (وما رأيتها قط) ظاهره لم يقع نظرها عليها وذلك لتقدم وفاتها على تمييز السيدة عائشة، فإنه كان سنها عند عهده بها بها ستّ سنين، وكان ذلك قبل الهجرة بسنتين، وقيل ثلاث، وقيل خمس وتوفيت السيدة خديجة قبل الهجرة بقريب من ذلك، ويحتمل أن يكون مرادها ما رأيتها عنده ضرة معي، ويعضد هذا قولها عند الشيخين «ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين» قال المصنف: أي قبل بنائه بها، أما العقد بها فكان موتها قبله بنحو سنة ونصف (ولكن) أي وجه الغيرة أنه (كان يكثر ذكرها) أي وفيه دليل المحبة، قال:» من أحب شيئاً أكثر من ذكره» (وربما ذبح الشاة ثم يقطعها) يحتمل كون الإسناد فيها حقيقة، وذلك من مزيد تواضعه وكمال فضله، فقد كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويكون في مهنة أهله، ويحتمل أن يكون مجازاً. أي يأمر بذلك،(3/192)
ويقعطها مضارع من باب التفعيل للتكثير (أعضاء) جمع عضو بكسر أوّله وضمه وهو كل لحم وافر بعظمه (ثم يبثها في صدائق) جمع صديقة كصحيفة أي في ذوات صداقة (خديجة) يفعل ذلك حفظاً لعهدها وزيادة في برّها (فربما) يحتمل التقليل والتكثير، والأول أقرب (قلت له: كأن) بتخفيف النون واسمها ضمير منويّ: أي كأنه (لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة) أي فذلك المقتضى لمزيد الوداد، وأما وجود من يساويها في هذا الوصف في المقضي
لهذا الشأن (فيقول: إنها كانت وكانت) أي يثني عليها بأفعالها وفعالها وجاء في حديث آخر «أن عائشة قالت: أوليس قد أبدلك الله خيراً منها؟ فقال: لا وا، آمنت بي حين كفر بي قومي ونصرتني حين خذلني قومي وأعطتني مالها حين منعني قومي» أو كما قال (وكان لي منها ولد) بفتحتين، وهو اسم جنس يصدق على الواحد والجمع، وجميع ولده منها إلا إبراهيم فمن مارية، قيل وإلاّ سقط اسمه عبد الله من السيدة عائشة ولم يثبت هذا، وإنما كنيت بابن أختها عبد الله بن الزبير (متفق عليه) أخرجاه في فضائل خديجة، وأخرجه فيه الترمذي وقال حسن صحيح، وأخرجه فيه وفي الوفاة النسائي، وأخرجه ابن ماجه في الجنائز كذا في «الأطراف» للمزي.
(وفي رواية) هي فيهما إلى قوله خلائلها (وإن) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف: أي وإنه كان ليذبح الشاة، اللام هي الفارقة بين إن المخففة والنافية (فيهدي في خلائلها) أي صدائقها جمع خليلة: وهي الصديقة (ما يسعهن) أي يكفيهن (منها) وفي «صحيح مسلم» «وإن كان ليذبح الشاة ثم ليهديها إلى خلائلها» .
(وفي رواية) لمسلم قالت (كان إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا بها) يحتمل كون الباء للتبعيض كقوله تعالى: {يشرب بها عبدا ا} (الإنسان: 6) قال في «المغنى» : أثبت هذا المعنى الأصمعي والفارسي والعتبي وابن مالك، قيل والكوفيون اهـ ملخصاً. ويحتمل كونها مزيدة، ويؤيده ما تقدم في حديث مسلم «ثم يهديها» والأوّل أقرب بلغة الجميع، وحفظ العهد أنسب (إلى أصدقاء خديجة) أي أصحاب صداقتها وأصدقاء جمع صديق، وتقدم أنه يقال على المذكر والمؤنث، ويقال فيها أيضاً صديقة.
(وفي رواية لهما) عن عائشة رواها(3/193)
البخاري في فضل خديجة ومسلم في الفضائل كذا في «الأطراف» للمزي. وتعقبه الحافظ في «النكت» عليه بما حاصله أن البخاري لم يقل فيه: ثنا ولا أخبرنا إسماعيل بن محمد، فلذا جزم الحميدي في جميعه بأنه ذكره تعليقاً. قال الحافظ: وقد وصله أبو عوانة عن محمد بن يحيى: ثنا إسماعيل بن خالد عن علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة اهـ. (استأذنت) طلبت الإذن (هالة) بتخفيف اللام (بنت خويلد) بن أسد بن عبد العزى بن قصي (أخت) أم المؤمنين (خديجة) رضي الله عنها. وهالة هذه أم العاص بن الربيع زوج السيدة زينت بنت سيدنا رسول الله، وليس لخديجة أخت غيرها اسمها هالة، قاله ابن الأثير في «أسد الغابة» (على رسول الله) متعلق باستأذنت (فعرف استئذان خديجة) أي تذكر عند استئذانها خديجة وكانت نغمتها تشبه نغمة خديجة؛ وأصل هذا أن من أحبّ محبوباً أحبّ محبوباته وما يتعلق به ويشبهه، وما أحسن ما قيل:
أحبّ من أجلكم من كان يشبهكم
حتى لقد صرت أهوى الشمس والقمرا
أمرّ بالحجر القاسي فألثمه
لأن قلبك قاس يشبه الحجرا
وقال آخر:
أشبهت عذالي فصت أحبهم
إذ صار حظي منك حظي منهم
(فارتاح لذلك) افتعال من الراحة: أي حصلت له راحة نفسانية بسماع صوت هالة لتذكره عهد خديجة. قال المصنف: أي هش لمحبتها وسر به لتذكره بها خديجة وأيامها، وفيه دليل حسن العهد وحفظ الود ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته وبعد موته، وفي المطالع ارتاح أي هشّ ونشطت نفسه، وقيل حن إليها، وقيل سر بها، ومنه يرتاع للندى ويرتاح: أي يسرّ فيهش (فقال: اللهم هالة بنت خويلد) قال القرطبي: يجوز فيه الرفع خبر مبتدأ: أي هذه هالة فأكرمها، والنصب عن إضمار فعل؛ أي أكرم هالة ونحوه مما يليق بالمعنى، وهذه الأخبار فيها فضل خديجة، والصحيح أنها أفضل أمهات المؤمنين لما لها من السوابق الجليلة والأيادي الجميلة، وقد أقرأها الحق السلام على لسان جبريل الأمين، ولم ير ذلك لغير الأنبياء إلا لها وللصديق الأكبر، أما عائشة فهي أكثر علماً وأفضل مما عداها من باقي الأمهات بلا خلاف (قولهما فارتاح هو بالحاء) المهملة (وفي(3/194)
الجمع بين الصحيحين لـ) - أبي عبد الله بن محمد بن أبي نصر فتوح (الحميدي) بالتصغير نسبة لجده الأعلى حميد الأندلسي القرطبي (فارتاع بالعين) أي المهملة (ومعناه اهتم به) أي باستئذانها فرحاً وسروراً لمكانها من خديجة.
5345 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه) يحتمل أن يكون من قول أنس فيكون فيه أداء الفضل لأهله من أهله، ويحتمل أن يكون ممن بعده (في سفر فكان يخدمني) وهو أسن مني (فقلت له: لا تفعل) أي لسنك المقتضي لتوقيرك (فقال) مبيناً لسبب تواضعه لأنس مع صغر سنه عنه (إني قد رأيت الأنصار) علم بالغلبة على أولاد الأوس والخرزج؛ وهو اسم إسلامي كما تقدم أوّل الكتاب (تصنع برسول الله) أي معه (شيئاً) عظيماً لا تقوم العبارة بتفصيله، فلذا أجمل في مقالة (آليت) بالمد أي أقسمت من الألية، وهي اليمين (أن لا أصحب أحداً منهم) وإن كان أصغر مني (إلا خدمته) إكراماً للنبيّ وإحساناً للمنتسب إلى خدمته والمحسن إليه. قال المصنف: ففي الحديث دليل إكرام المحسن والمنتدب إليه وإن كان أصغر منه، وفيه تواضع جرير وفضيلته وإكرامه للنبيّ وإحسانه إلى من انتسب إلى من أحسن إليه (متفق عليه) والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(3/195)
43 - باب إكرام آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ
المراد منهم آله الذين يحرم عليهم الصدقات كالزكاة، وهم عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه مؤمنو ومؤمنات بني هاشم والمطلب: أي المنتمون لذلك من جانب الآباء، أما المنتمون من جانب الأمهات فليسوا من آله في منع الزكاة والصدقة الواجبة منهم، أما في الإكرام للقرابة بالمصطفى فهم كذلك لأن القرابة والنسبة إلى ذلك الجناب الشريف مشتركة بين الجميع وزوجاته. قال في «الكشاف» : وفي الآية دليل على أن أزواجه من أهل بيته فالمراد من أهل بيته المنتسبون إليه بنسب، وزوجاته (وبيان فضلهم) أي بذكر ما جاء فيه.
(قال الله تعالى) : ( {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} ) الذنب المدنس لعرضكم، والرجس كل مستقذر والمراد به هنا الإثم، وقيل الشيطان ووسوسته، وقيل الشرك، وقيل جميع المعاصي والجملة تعليل لأمر أزواجه ونهيهن على الاستئناف، ولذا عمم الحكم فقال (أهل البيت) نصب على النداء والمدح (ويطهركم) عن المعاصي (تطهيراً) من الرجس وقيل بالهدى والتوفيق، واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير للتنفير عنها. قال البيضاوي: وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعليّ وابنيهما لما روي «أنه عليه السلام خرج ذات غدوة عليه مرط ومرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه، ثم جاء عليّ فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه، ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم أهل البيت لا أنه ليس غيرهم اهـ. وقال الكواشي: المراد من أهل البيت زوجات النبي. قلت: هذا قول ابن عباس وعكرمة. قال ابن أقبرس: نقل ابن عطية عن الجمهور أنهم علي وفاطمة(3/196)
والحسنان قال ومن حجة الجمهور قوله: {عنكم} ولو كان للنساء خاصة لكان عنكن. قلت: وقد أجيب عن هذا الاستدلال. قال الكواشي وقال: عنكم، دون عنكن لأنه كان فيهن فغلب، أو لأنهن في بيته وقال ابن اقبرس للقائل باختصاص ذلك بأزواجه أن يقول: لا يمتنع أن يخاطبن بخطاب المذكر تعظيماً لهن وإجلالاً. ومنع قول من قال المراد بالبيت الكعبة وبأهله المسلمون، وقيل: هم كل من حرمت عليهم الصدقة اهـ. والمصنف أورد الآية في هذا الباب، لأن آله من جملة أهل بيته.
(قال الله تعالى) : ( {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} ) الذنب المدنس لعرضكم، والرجس كل مستقذر والمراد به هنا الإثم، وقيل الشيطان ووسوسته، وقيل الشرك، وقيل جميع المعاصي والجملة تعليل لأمر أزواجه ونهيهن على الاستئناف، ولذا عمم الحكم فقال (أهل البيت) نصب على النداء والمدح (ويطهركم) عن المعاصي (تطهيراً) من الرجس وقيل بالهدى والتوفيق، واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير للتنفير عنها. قال البيضاوي: وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعليّ وابنيهما لما روي «أنه عليه السلام خرج ذات غدوة عليه مرط ومرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه، ثم جاء عليّ فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه، ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم أهل البيت لا أنه ليس غيرهم اهـ. وقال الكواشي: المراد من أهل البيت زوجات النبي. قلت: هذا قول ابن عباس وعكرمة. قال ابن أقبرس: نقل ابن عطية عن الجمهور أنهم علي وفاطمة والحسنان قال ومن حجة الجمهور قوله: {عنكم} ولو كان للنساء خاصة لكان عنكن. قلت: وقد أجيب عن هذا الاستدلال. قال الكواشي وقال: عنكم، دون عنكن لأنه كان فيهن فغلب، أو لأنهن في بيته وقال ابن اقبرس للقائل باختصاص ذلك بأزواجه أن يقول: لا يمتنع أن يخاطبن بخطاب المذكر تعظيماً لهن وإجلالاً. ومنع قول من قال المراد بالبيت الكعبة وبأهله المسلمون، وقيل: هم كل من حرمت عليهم الصدقة اهـ. والمصنف أورد الآية في هذا الباب، لأن آله من جملة أهل بيته.
(وقال تعالى) : ( {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} ) تقدم الكلام عليها في باب تعظيم حرمات المسلمين.
1346 - (وعن يزيد) بفتح التحتية أوله وبعد الزاي تحتية ساكنة آخره دال مهملة (ابن حيان) بفتح المهملة وتشديد التحتية آخره نون: هو التيمي: الكوفي. قال الحافظ: ثقة من الرابعة من أواسط التابعين، روى عنه مسلم وأبو داود والنسائي (قال: انطلقت أنا وحصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية آخره نون (ابن سبرة) بفتح المهملة وسكون الموحدة (وعمرو بن مسلم) بصيغة الفاعل من الإسلام (إلى) أبي عمرو، وقيل أبو عامر، وقيل أبو سعد وقيل أبو سعيد، وقيل أبو حمزة، وقيل أبو نسيئة (زيد بن أرقم) بالقاف ابن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب الخزرج بن الخزرج بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي (رضي الله عنه) غزا مع النبي سبع عشرة غزوة واستصغره يوم أحد، وكان يتيماً في حجر عبد الله بن رواحة وسار معه في غزوة ومؤتة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعون حديثاً، اتفقا على أربعة، وللبخاري حديثان، ولمسلم ستة، روى عنه أنس بن مالك وخلائق من التابعين، نزل الكوفة وتوفي بها سنة ست وخمسين، وقال محمد بن سعد وآخرون: سنة ثمان وستين، وله مناقب كثيرة (فلما جلسنا) منتهين (إليه فقال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً) هذا إجمال لأنواعه بين أشرفها بقوله: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعت حديثه) أي من فيه والحديث رواية: هو ما أضيف إلى النبيّ أو من دونه ولو من التابعين قولاً أو فعلاً (وغزوت معه) أي جاهدت في سبيلالله، وفيه شرف العمل مع الصلحاء، ولذا شرعت الجماعة في الصلوات لتعود بركة الصالحين على المقصرين فيقبل الجميع فضلاً (وصليت خلفه) أي معه جماعة. ولما كان تفصيل ما حواه من الخير يعسر(3/197)
قال مؤكداً للجملة الأولى المجملة (لقد أوتيت خيراً كثيراً) وهذا تذكير منه لنعمة الله عليه وتحريض على أداء شكرها قدر طاقته وأن لا يغفل عنه، وهو محمول على أنهم أمنوا الفتنة عليه لما علموه عنده من كمال الإيمان ومزيد
العرفان المانعين من الافتتان، وقوله: (حدثنا يا زيد) فيه طلب العلو في الإسناد وأخذ العلم من أهله وفيما ذكر قبله تقديم الوسائل إلى المطالب، وفيه ما ذكره المحدثون من استحباب الثناء على المحدث بالأوصاف اللائقة به والدعاء له قبل طلب التحديث منه (ما سمعت) أي بما سمعت (من رسول الله) أي شفاهاً، واحتمال تقدير مضاف مجرور: أي من حديثه ولو بالواسطة بعيد (قال: يا ابن أخي) خاطبه بذلك لصغره بالنسبة إليه (وا لقد كبرت) بكسر الموحدة (سني) أي لقد كبرت. قال ابن طريف في كتاب الأفعال: كبر الأمر والذنب كبراً: عظم، والكبر الإثم، وفي القرآن
{كبر مقتاً عند ا} (غافر: 35) وكبر الصبي كبراً ومكبراً، وفي القرآن {بداراً أن يكبروا} (النساء: 6) اهـ. وظاهر أن ما نحن فيه من الثاني (ونسيت بعض الذي كنت أعي) أي أحفظ. قال في «المصباح» : وعيت الحديث وعياً من باب وعد: حفظته وتدبرته وقوله: (من رسول الله) متعلق بأعي وفيه أن الكبر مظنة النسيان وضعف القوة الحافظة، وهو كذلك، ومن ثم كره التحديث بعد الثمانين خوفاً من الاختلاط من حيث عدم الشعور كما وقع من جماعة لم يتنبه لهم إلا بعد الوقوع في ذلك، وفرّع على ما ذكر قوله (ما حدثتكم) العائد محذوف: أي حدثتكموه (فاقبلوا) أي فاقبلوه والضمير لربط الجملة بالمبتدأ وكأنه حذفه فيهما تخفيفاً (وما لا فلا تكلفونيه) وعلى ما تضمنه قوله هنا من نهيه عن تكليفه لتحديث ما لم يحدث به يحمل ما أخرجه ابن ماجه في باب التوقي في حديث النبيّ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «قلنا لزيد بن أرقم حدثنا عن رسول الله، قال: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد» ويؤيده أن الدميري في «الديباحة» حمله على الإكثار فقال: كره الإكثار من التحديث كثير من السلف مخافة ما فيه من الزلل، روي عن عمر قال: «أقلوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا شريككم» وكان مالك يقول: وأنا أيضاً أقلّ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. (ثم قال) محدثاً لنا (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيباً بماء) أي عنده (يدعى) أي(3/198)
الوادي الذي فيه الماء (خماً) بضم المعجمة وتشديد الميم كما سمى بدر باسم البئر التي به ولذا قال في «النهاية» : وهو موضع بين مكة والمدينة تصبّ فيه عين هناك وبينهما مسجد النبيّ اهـ. ولعل المسجد موضع قيامه حال خطبته. وقال المصنف في شرح مسلم: خم اسم لغيضة على ثلاثة أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيضة فيقال غدير خم اهـ. وقوله (بين مكة والمدينة) حال من ثاني مفعولي يدعى (فحمد الله) أي وصفه
بنعوت الكمال (وأثنى عليه) بتنزيهه عن سائر ما لا يليق به، وما حملناه عليه مما تصير به الجملتان مؤسستين أولى من جعلهما بمعنى والثانية مؤكدة للأولى (ووعظ) أي أمر بالطاعة ووصى بها، يقال وعظه يعظه وعظاً وعظة ومنه قوله تعالى: {إنما أعظكم بواحدة} (سبأ: 46) أي آمركم وأوصيكم (وذكر) بتشديد الكاف: أي ذكرهم ما قد غفلوا عنه بمزاولة الأهل والعيال من التوجه للخدمة وأداء حق العبودية (ثم قال: أما بعد) بضم الدال لحذف المضاف إليه لفظاً ونية معناه، وكان النبيّ يأتى بها في خطبه كثيراً حتى قال الحافظ في أبواب الجمعة من «فتح الباري» : إن الحافظ عبد القادر الرهاوي بضم الراء أخرجها من قوله عن أربعين صحابياً، وهي للانتقال من أسلوب كالثناء على الله سبحانه هنا إلى أسلوب آخر أي مما ذكر بعدها (ألا أيها الناس) بحذف حرف النداء إيجازاً تنبهوا (فإنما أنا بشر) والقصر فيه لردّ ما قد يتوهمه قاصر عند ظهور الخوارق على يده صلوات الله وسلامه عليه من كونه إلهاً أو كونه ملكاً، لا لقصر صفاته على ذلك، وأيضاً أتى به ليبني عليه ما يناسبه من الانتقال الذي هو شأن هذا النوع، ويسمى الإنسان بشراً لظهور بشرته: أي ظاهر جلده يطلق على الواحد والجمع وتثنيه العرب قال تعالى:
{قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا} (المؤمنون: 47) (يوشك) بضم التحتية وكسر الشين المعجمة مضارع أوشك من أفعال المقاربة: أي يقرب. وقال الفارابي: الإيشاك الإسراع، قال الأزهري في «التهذيب» : قال النحاة: استعمال المضارع أكثر من استعمال الماضي واستعمال اسم الفاعل منها أقل، كذا في «المصباح» . وقوله (أن يأتي رسول ربي) في تأويل مصدر اسم يوشك: أي يقرب إتيان رسول ربي يعني ملك الموت داعياً إلى النقلة إلى الله سبحانه مخيراً بينها وبين البقاء في الدنيا فإنه لا يموت النبي حتى يخير بينهما (فأجيبه) بالنصب عطفاً على يأتي، ويجوز قراءته بالرفع بإضمار مبتدأ، ما لم تمنعه رواية (وأنا تارك فيكم ثقلين) بفتح المثلثة(3/199)
والقاف. قال المصنف: قال العلماء: سميا ثقلين لعظمهما وكبر شأنهما، وقيل لثقل العمل بهما زاد في «النهاية» ، ويقال لكل خطير نفيس ثقل، فسماهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما اهـ (أولهما كتاب ا) يعني القرآن (فيه الهدى) هو كقوله تعالى: {فيه هدى} (البقرة: 2) على الوقف على قوله {لا ريب} (سبأ: 24) والابتداء بقوله {فيه هدى} فيكون التقدير كما قال البيضاوي: لا ريب فيه فيه هدى، ففيه خبر مقدم وهدى مبتدأ مؤخر، والهدى في الأصل مصدر كالسرى. ومعناه الدلالة، وقيل الدلالة على البغية لأنه حصل مقابل الضلال في قوله تعالى: {لعلى هدى أو في ضلال} ولم يقيد الهدى بالمتقين كما في آية البقرة إيماء إلى عموم هدايته أي دلالته لكل مسلم وكافر كما قال في الآية الأخرى {هدى للناس} والتقييد بالمتقين في آية البقرة لأنهم المهتدون المنتفعون بنصبه ثم، في قوله فيه الهدى تجريد كقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) والتجريد أن ينتزع من متصف بصفة آخر مثله لأجل البالغة في كمالها فيه ويكون بالباء الموحدة نحو: لئن لقيت زيداً لتلقين به بحراً، وبمن نحو: لتلقين منه أسداً. وبفي كالآية والحديث (والنور) أي الإشراق والإضاءة
(فخذوا بكتاب ا) الباء فيه مزيدة للتأكيد نبه عليه في «المصباح» ، فقال أخذ الخطام وأخذ بالخطام على الزيادة أمسكه (واستمسكوا به) اطلبوا من أنفسكم الإمساك به، شبه تمسك الخلق به بالتمسك بالحبل الوثيق في الاعتصام وعدم الانفصام (فحث) بتشديد المثلثة من باب قتل: أي حرض (على كتاب ا) أي على الأخذ به والتمسك بحبله (ورغب) بتشديد المعجمة: أي زاد العباد رغبة (فيه ثم قال: وأهل بيتي) بالرفع: أي وثاني المتروك فيكم المدعى حرمته أهل بيتي (أذكركم ا) بتشديد الكاف من التذكير، وهو الوعظ: أي آمركم بطاعة الله وبالقيام (في أهل بيتي) ثم كرر ذلك ثانياً تأكيداً فقال: (أذكركم الله في أهل بيتي) وفيه تأكيد الوصاية بهم وطلب العناية بشأنهم فيكون من قبيل الواجب المؤكد المطلوب على طريق الحثّ عليه وناهيك به، ثم هو هكذا في النسخ التي رأيت مكرراً مرتين. وفي الشفاء في حديث الباب لكن من غير طريق مسلم قال: قال رسول الله: «أنشدكم الله وأهل بيتي ثلاثاً» قلت: وهذا الأنسب خصوصاً، وفي(3/200)
الحديث «كان إذا تكلم تكلم ثلاثاً» وحينئذٍ فعدم ذكر الثالثة إما من الناسخ أو من الرواة اختصاراً، أو منه لعروض ما هو أهم من التكرار ثالثة والله أعلم. (فقال له حصين) في «الشفاء» «فقلنا له» وهو محتمل لتواردهم عليه، ويحتمل صدوره من حصين وأسنده إليهم في تلك الرواية لكونه مراداً لهم (ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس) استفهام تقريري وهو حمل المخاطب على الإقرار بمضمونه أي أما تقر بمضمون قولنا أليس (نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته) أعاده بلفظه ليحصل كمال المناسبة بين السؤال والجواب وخير الجواب ما كان من لفظ السؤال كما ذكره البيضاوي في التفسير، ولو راعى زيد الاختصال لقال بلى، قال المصنف: قال في هذه الرواية نساؤه من أهل بيته، وقال في الرواية الأخرى: أي لمسلم «فقلت من أهل بيته؟ قال نساؤه لا» فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات
في غير مسلم أنه قال: «نساؤه ليس من أهل بيته» فتأول الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم وأمرنا باحترامهم وإكرامهم وسماهم ثقلاً ووعظ في حفظ حقوقهم، فنساؤه داخلات في ذلك ولا يدخلن فيمن حرم عليهم الصدقة، وقد أشار إلى هذا بقوله: «نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته» الخ فاتفقت الروايتان. قال: وفي قوله في الرواية الأخرى من أهل بيته نساؤه دليل لإبطال قول من قال: هم قريش كلها لأن بعض أزواجه قرشيات اهـ (ولكن أهل بيته) أي المرادون عند الإطلاق كما في الآية والخبر (من حرم عليهم الصدقة) أي الواجبة (بعده) قال ابن أقبرس: هو أحد الأقوال وتعارضه الأدلة الدالة على دخول نسائه في أهل بيته كما تقدم في الكلام على الآية (قال: ومن هم؟) أي الذين تحرم عليهم الصدقة (قال: هم آل عليّ وآل عقيل) بفتح المهملة وكسر القاف (وآل جعفر) أولاد أبي طالب (وآل عباس) وبقي عليه باقي أولاد بني هاشم من آل حمزة وأولاد أبي لهب، وكونه آله مؤمني بني هاشم فقط قول الحنفية وهو أحد قولي الإمام مالك، والثاني وهو مذهب إمامنا الشافعي أنهم مؤمنو بني هاشم والمطلب، ويدل له قوله: «نحن وبنو المطلب كشيء واحد» (قال) أي حصين (كل هؤلاء حرم الصدقة) بالنصب أي منع الصدقة: أي الواجبة من زكاة ونذر وكفارة (قال نعم. رواه مسلم) في الفضائل، ورواه النسائي في المناقب.
(
وفي(3/201)
رواية) هي لمسلم، قال مسلم بعد إيراد الطريق الأولى وإسناد الطريقة الثانية إلى يزيد بن حيان ما لفظه: وساق الحديث بنحو حديث ابن حيان: أي الراوي في الأولى عن يزيد أنه قال (ألا) أداة استفتاح يؤتى بها لتنبيه السامع لما بعدها اهتماماً: أي ألا أنبهك (وإني تارك فيكم ثقلين) وفي نسخة «الثقلين» (أحدهما كتابالله، وهو حبل ا) قال: المصنف قيل المراد بحبل الله عهده، وقيل السبب الموصل إلى رضاه ورحمته، وقيل نوره الذي يهدى به. قلت: وهو على هذه الوجوه استعارة مصرحة، شبه ما ذكر في الأقوال الثلاثة بالحبل بجامع الوصل فأطلق عليه اسمه (من اتبعه) مؤتمراً بأوامره منتهياً عن نواهيه (كان على الهدى) الذي هو ضد الضلالة (ومن تركه) فأعرض عن أمره ونهيه (كان على الضلالة) وفيه «فقلنا من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها وترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده» اهـ. وتقدم عن المصنف الجمع بين قوله في حديث الباب في نسائه «إنهن من أهل بيته» ونفى ذلك في هذه الرواية، وقوله في هذه «وعصبته» إن أراد الأدنين اختص ببني هاشم، وإن أراد مطلقاً دخل الجميع وخرج ما عدا بني هاشم والمطلب لما يدل عليه فيكون عليه مخصوصاً، والله أعلم.
2347 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه موقوفاً عليه) الموقوف: ما أضيف إلى الصحابيّ من قول أو فعل (أنه قال: ارقبوا محمداً في أهل بيته) أداء لبعض واجبات حقه (رواه البخاري. ومعنى ارقبوا) أي مع المفعول كما يدل عليه ذكر الضمير في الأفعال المفسر بها وهي (راعوه) قال في النهاية: المراعاة الملاحظة (واحترموه وأكرموه) أي افعلوا ذلك معه بمراقبة أهل بيته وتعظيمهم وودادهم وحبهم،(3/202)
والدخول في عقد ولائهم مع ولاء سائر من أمرت الشريعة بموالاته من الصحابة الأكرمين والعلماء العاملين والأولياء الكاملين، أحيانا الله وأماتنا على محبتهم، وحشرنا في زمرتهم بمنه آمين.
44 - باب توقير بالقاف من الوقار وهو التبجيل: أي تعظيم العلماء: أي بالعلوم الشرعية وآلاتها المطلوبة: أي وإن لم يكونوا من ذوي السن، والمراد علماء السنة والجماعة لما ورد من الوعيد في تعظيم ذي البدعة، وكذا يعتبر هذا في قوله (والكبار) بكسر القاف: أي في السن وإن لم يكونوا أهل علم (وأهل الفضل) من الكرم والمروءة والشجاعة وغيرها من خصال الكمال التي بها تتفاضل الرجال (وتقديمهم على غيرهم) ممن لم يكونوا كذلك: وظاهر تعبيره أنهم عند اجتماعهم يرتبون بترتيبهم في الذكر، فيقدم ذو العلم على ذي السن، وهو على من بعده (ورفع مجالسهم) وٌّ كانوا هم ينبغي لهم أن لا يطلبوا رفعها تواضعاً واتباعاً لحديث «كان يجلس حيث ينتهي به المجلس» (وإظهار مرتبتهم) أداءاً لحق ذي الحق.
(قال الله تعالى: {قل: هل} ) استفهام إنكاري ما ( {يستوى الذين يعلمون} ) أي قام بهم العلم المطلوب تعلمه ( {والذين لا يعلمون} ) أي لم يقم بهم ذلك فالفعل فيه في الموضعين منزل منزلة اللازم. قال البيضاوي: الآية نفي لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم، وقيل تقرير للأول أي لقوله: {أمن هو قانت} (الزمر: 9) الخ: أي كما لا يستوي العالم والجاهل لا يستوي القانت والعاصي.(3/203)
1348 - (وعن ابن مسعود عقبة) بالقاف (ابن عمرو البدري) نسب إليها لكونه سكنها وإلا فلم يشهدها مع النبيّ كما تقدم بما فيه من الخلاف (الأنصاري) وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: قال رسول الله: يؤم القوم أقرؤهم) أي أكثرهم قراءة (لكتاب ا) جملة خبرية لفظاً طلبية معنى: أي ليؤمهم، ويدل عليه حديث «إذا كنتم ثلاثة فليؤمكم أكبركم» وحديث مالك بن الحويرث «وليؤمكما أكبركما» وليس المراد بها الإخبار المحض لأن ما أخبر عن حصوله فلا بد منه وكثيراً ما يؤم غير الأقرأ فدل على ما ذكرنا (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) قال القرطبي: تأول أصحاب الحديث بأن الأقرأ في الصدر الأول هو الأفقه، لأنهم كانوا يتفقهون مع القراءة فلا يوجد قارىء إلا وهو فقيه، قال: وكان من عرفهم تسمية الفقهاء بالقراء اهـ. فلا يشكل على ما قال إمامنا الشافعي وشيخه مالك من تقديم الأفقه على الأقرأ لأن حاجة الصلاة إلى الفقه أتم منها إلى القراءة، وأخذ الإمام أبو حنيفة بظاهر الخبر فقدم الأقرأ على الأفقه وهو المعبر عنه بأعلمهم بالسنة، قاله الشيخ زكريا في «شرح الإعلام» . وقال القرطبي: السنة هي أحاديث السنن عن النبيّ، وهذه الزيادة: أي فإن كانوا في القراءة سواء الخ مما انفرد بها الأعمش ومحلها عندنا وعند الشافعي فيما كان أوّل الإسلام عند عدم التفقه كان المقدم الأقرأ وإن كان صبياً كما جاء في حديث عمرو بن سلمة، فلما تفقه الناس في الكتاب والسنة قدم الفقيه بدليل تقديم النبي للصدّيق، وقد نص على أن أقرأهم أبيّ، فلو كان المقدم الأقرأ مطلقاً لقدم على الصدّيق، قيل له في قوله: «يؤم القوم أقرؤهم» حجة لمنع إمامة المرأة للرجال لأن القوم هم الرجال لأنهم بهم يقوم الأمر كما تقدم (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) إلى النبي، أو إلى دار الإسلام ويراعى ذلك في أولادهم وفيه فضل الهجرة، والأولى وإن انقطعت ففضيلتها باقية (فإن
كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً) أي في الإسلام كما تدل عليه الرواية الثانية «سلماً» أي إسلاماً فيقدم الشاب القديم المدة في الإسلام على الشيخ الحديث فيه، وهذه الفضيلة السبق إلى الإسلام. قال بعض العلماء: إنما رأت الأئمة هذا الترتيب لأنها خلافة النبي إذ هو إمام في الدنيا والآخرة، فهي بعده للأقرب إليه منزلة والأشبه به رتبة، ومحل هذا الترتيب ما إذا لم يوجد(3/204)
الوالي بمحل ولايته وإلا فيقدم حتى على الأقرأ والأفقه، فإن لم يتقدم الوالي قدم من يصلح للإمامة وإن كان غيره أصلح منه لأن الحق فيها له كما يدل عليه قوله (ولا يؤمن الرجل الرجل) مثلاً (في سلطانه) فربّ الدار مقدم على الضيف والمعير على المستعير والسيد على عبده غير المكاتب (ولا يقعد في بيته على تكرمته) في «القاموس» هي الوسادة (إلا بإذنه) وجه المنع من هذا ما فيه من التصرف في حق الغير بغير إذن، وإذا منع من التكرمة بغير الإذن مع التساهل فيها والتخفيف فيها، فالمنع من باقي حقوق الغير بغير إذنه أولى (رواه مسلم) في كتاب الصلاة من خمس طرق مدارها على الأعمش، ومن طريق أخرى عن شعبة كلاهما عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن صمغج عن أبي مسعود، وأخرجه أبو داود والنسائي في كتاب الصلاة من طريقهما، وأخرجه ابن ماجه في الصلاة، كذا لخص من «الأطراف» للحافظ المزي. وقال الحافظ السيوطي في «الجامع» : أخرجه الطبراني في «الكبير» وابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه اهـ.
(وفي رواية له: فأقدمهم سلماً) بكسر السين وسكون اللام (بدل سناً) وفسر السلم بقوله (أي إسلاماً) قلت: لعله مأخوذ من السلم بمعنى الصلح لما فيه من الاستسلام لاستسلام المسلم وانقياده لأحكام مولاه، وهو كذلك بكسر السين وفتحها يذكر ويؤنث كما في «الصحاح» .
(وفي رواية) هي لمسلم من حديث أبي مسعود أيضاً، وكان على المؤلف حيث عزا ما قبلهما له عزو هذه له لئلا يتوهم أنها لغيره، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب ا) أي أرسخهم قدماً في ذلك (و) يقدم من الأقرأ (أقدمهم قراءة) وإن اختلفوا في تقدم الهجرة وتأخرها (فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة) منصوب على التمييز (فإن كانوا في الهجرة سواء) أي وفي الأقربية وإلا فالأقرأ مقدم على الأقدم هجرة كما في الحديث قبله، فحينئذٍ يحمل المرادمن الحديث على ما إذا تساووا في قدم الهجرة والأقرئية واختلفوا في تقدم السن في الإسلام أو اتحدوا فيه وتفاوتوا في كبره وصغره (فليؤمهم أكبرهم سناً) لأنه أقرب إلى التوجه إلى المولى وأكثر عروضاً عن الدنيا وتوجهاً إلى الدار الآخرة. وتتمة الحديث قوله: «ولا يؤمنّ الرجل في أهله وعياله» والفعل فيه مبني للمجهول مؤيد بالنون الثقيلة (والمراد بسلطانه محل ولايته) من بلد إذا كان أميراً (أو الموضع الذي يختص به) من(3/205)
مسجد إن كان إماماً راتباً فيه أو بيته وأهله مطلقاً، فأمير البلد وصاحب المنزل وإمام المسجد أحق بالإمامة من الغير وإن كان الغير أفقه وأقرأ (وتكرمته بفتح التاء) الفوقية وسكون الكاف (وكسر الراء: وهي ما ينفرد به) أي عن أهل منزله كرامة له (من فراش وسرير ونحوهما) ولا يخالف ما تقدم من أنها الوسادة عن «القاموس» لإمكان حمل كلامه على أنه ذكر فرداً مما ينفرد به عنهم لأن الكرامة خاصة بها وإن كان ذلك ظاهر كلامه. وقال الشيخ زكريا في «شرح الإعلام» : وقيل مائدته.
2349 - (وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة) أي يسويّها بيده الكريمة حتى لا يخرج بعضها عن بعض (ويقول) حال التسوية كما هو ظاهر السياق (استووا ولا تختلفوا) بأن يتقدم منكب بعضكم على منكب بعض. يؤخذ منه أن الإمام إذا سوّى الصفوف باليد يسن له أن يقول ما ذكر، وجمعه بين الفعل والقول كما هنا، واقتصاره على القول فقط كما في أحاديث أخر مختلف باعتبار حال المخاطبين، فإذا علم اكتفاءهم بالقول لفقههم وسرعة امتثالهم اقتصر عليه، وإلا لكثرتهم أو لاختلاطهم بحديثي الإسلام محتاجين لمزيد العلم جمع بينهما (فتختلف) بالنصب لأنه جواب النهي (قلوبكم) أي أهويتها وإرادتها. وفي «فتح الإله» : فإن قلت هذا ينافي خبر «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» إلى أن قال «ألا وهي القلب» قلت: لا منافاة لأن حديث الباب دال على أن اختلاف القلوب ناشىء عن مخالفة الأعضاء هذا الأمر الذي أمرت به بخصوصها، والثاني على أن مخالفتها لما أمرت به ناشىء عن فساد القلب وخلوه عن نور الهدى واليقين. وحاصله أن فساد القلب ينشأ عنه فساد الأعضاء وفسادها ينشأ عنه اختلاف أهوية القلوب واختلافها ينشأ عنه اختلاف الكلمة المؤدي إل ما لا يتدارك خرقه من الفتن وضعف الدين اهـ. (ليلني) أي ليقرب مني في الصلاة (منكم أولو الأحلام) جمع حلم بالكسر كأنه من الحلم، وهو الأناة والتثبت في الأمر، وذلك من شعار العقلاء، وقال المصنف: أولو الأحلام(3/206)
هم العقلاء، وقيل البالغون (والنهي) بضم النون: العقلاء، فعلى قول من يقول أولو الأحلام العقلاء اللفظان بمعنى عطف أحدهما على الآخر تأكيداً، وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء، وعليه اقتصر المصنف فيما يأتي. قال أهل اللغة: وواحد النهي نهية بضم النون وهي العقل، ورجل نه ونهي وقوم نهين، وسمى العقل نهية لأنه ينتهي إلى ما أمر به ولا يتجاوزه، وقيل لأنه ينهى عن القبائح. قال أبو علي الفارسي:
ويجوز أن يكون مصدراً كالهدى وأن يكون جمعاً كالظلم، قال: والنهي في اللغة الثبات والحبس، ومنه النهي بكسر النون وفتحها للمكان الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع. قال الواحدي: فرجع القولان في اشتقاق النهية إلى قول واحد وهو الحبس، والنهية تنهي وتحبس عن القبيح (ثم الذين يلونهم) كالصبيان سواء المراهقون وغيرهم فهم في درجة واحدة (ثم الذين يلونهم) وهم الخناثى (رواه مسلم) وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم في كتاب الصلاة، وفيه كما قال المصنف تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام عن السهو ما لا يتفطن له غيره وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها ويتعلموها ويعلموها الناس، ولا يختص هذا التقديم بالصلاة بل السنة تقديم أهل الفضل في كل مجمع إلى إمام وكبير المجلس كمجال العلم والقضاء والذكر والتدريس والإفتاء واستماع الحديث ونحوها، ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسنّ والكفاية في ذلك الباب، والأحاديث متعاضدة على هذا، وفيه تسوية الصفوف والاعتناء بها والحثّ عليها.
(وقوله: ليلني هو بتخفيف النون) أي هي للوقاية (وليس قبلها ياء) أي قد حذفت للجازم (وروي بتشديد النون مع ياء قبلها) كذا جعلها هنا رواية، وعبارته في شرح مسلم، ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد اهـ. وهو من زيادات هذا الكتاب على شرح مسلم فليلحق بطرته وينبه عليه، ثم تنبهت لكون كلام شرح مسلم في حديث ابن مسعود، وكلامه هنا في حديث أبي مسعود ولم يذكر في الأخير شيئاً في شرح مسلم بعد ما قدمه مما نقله عنه في حديث ابن مسعود، وظاهر أن الرأي لا مجال له في هذا الشأن وجوّز ابن حجر الهيثمي إثبات الياء ساكنة مع تخفيف النون وقال: إن ذلك لغة صحيحة (والنهى العقول) سكت عن كون النهى جمعاً أو مفرداً وإن كان تفسيره بالجمع يومىء إلى الأول لما علمت ما فيه عن الفارسي من الاحتمالين (وأولو الأحلام هم البالغون) اقتصر عليه ليكون العطف على(3/207)
أصله في المغايرة. وتقدم أنه قيل إنهم العقلاء وإنه عليه من عطف الرديف (وقيل أهل الحلم) أي الأناة والتثبت في الأمر (والفضل) أي العلم وعليه فيكون عطف أولي النهي عليه من عطف العام على الخاص، وحكاية هذا مزيدة على شرح مسلم.
3350 - (وعن عبد الله بن مسعود) الهذلي الصحابي الجليل تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الصبر (قال: قال رسول الله: ليلني) بحذف الياء وتخفيف النون كما ضبطه المصنف في شرح مسلم (منكم أولو الأحلام والنهى) يجوز في الظرف أن يكون لغواً معلقاً بالفعل، وأن يكون مستقراً حالاً من الفاعل مقدماً عليه (ثم الذين يلونهم ثلاثاً) أي كرّر ذلك ثلاث مرات، والتكرار باعتبار صفوف المأمومين، فالأولون البالغون والثانون الصبيان والثالثون الخناثى (وإياكم) منصوب على التحذير وكرره لمزيد التأكيد فقال (وإياكم) أي احذروا أنفسكم (وهيشات) بفتح الهاء وسكون التحتية والشين المعجمة (الأسواق) أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها، قاله المصنف: وقال القرطبي: هيشات الأسواق، قال أبو عبيدة: هو شاذ، والهوشة الفتنة والهيج والاختلاف، يقال هوش القوم إذا اختلفوا (رواه مسلم) .
4351 - (وعن أبي يحيى، وقيل أبي محمد: سهل) بفتح المهملة وسكون الهاء (ابن أبي حثمة بفت الحاء المهملة وإسكان المثلثة) واسم أبي حثمة عبد الله بن ساعدة وقيل: عامر بن ساعدة بن عامر بن عدي بن خيثم بن مخدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس (الأنصاري الخزرجي) الأوسي الحارثي (رضي الله عنه) وهو مدني، توفي النبيّ وهو ابن ثمان سنين، وقد حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، روى له عن النبي خمسة وعشرون حديثاً، اتفقا على ثلاثاً منها، روى عنه نافع ابن جبير(3/208)
وعبد الرحمن بن مسعود والزهري، وقيل لم يسمع منه اهـ ملخصاً من «التهذيب» للمصنف (قال: انطلق عبد الله بن سهل) ابن زيد بن عامر بن عمرو بن مخدعة ابن حارثة الأنصاري الحارثي (ومحيصة) بتشديد التحتية وتخفيفها لغتان مشهورتان فيه وفي حويصة الآتي، قال المصنف: ذكرهما القاضي أشهرهما التشديد (ابن مسعود) بن كعب بن عامر بن عمرو بن مخدعة بن حارثة بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاري (إلى خيبر) البلدة المعروفة ذكر الحازمي أن أراضي خيبر يقال فيها خيابر بفتح المعجمة وخروجهما إليها ليمتارا منها (وهي يومئذٍ صلح) أي مع النبيّ أي بعد فتحها وإقرار أهلها عليها صلحاً (فتفرقا) لحوائجهما (فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط) أي يتخبط ويضطرب (في دمه قتيلاً) حال من فاعل يتشحط (فدفنه ثم قدم) بكسر الدال (المدينة) علم بالغلبة على دار هجرته مأخوذة من دان إذا أطاع وهي محل الدين في الحديث «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» (فانطلق عبد الرحمن ابن سهل) أخو المقتول (ومحيصة وحويصة) بتشديد الياء على المشهور فيهما كما تقدم (ابنا مسعود) ابنا ابن عم أبي المقتول (إلى النبي فذهب عبد الرحمن) قال الشيخ زكريا في «شرح الإعلام» وفي رواية «محيصة» (يتكلم) فيجوز أن يكون كل منهما ذهب يتكلم وكان حويصة أكبر منهما والجملة في محل الحال
(فقال) النبي للمتكلم (كبر كبر) بتشديد الموحدة: أي راع الكبر بضم الكاف كذا في «شرح الإعلام» لكن في مسلم بعد قوله كبر: الكبر في السن، قال المصنف: معناه يريد الكبر في السن، والكبر منصوب بإضمار يريد أو نحوها وفي نسخة المكبر اهـ. ومقتضى ضبطه النسخة الأولى أن يكون بالكسر والفتح، قال في «المصباح» : كبر الصغير وغيره يكبر من باب تعب كبراً بوزن عنب، وكبر الشيء كبراً من باب قرب عظم فهو كبير أيضاً اهـ. وظاهر أن ما نحن فيه من المادة الأولى، ثم رأيت العاقولي بين وجه ما في «الإعلام» كما يأتي عنه قريباً (وهو) أي عبد الرحمن (أحدث القوم) سناً وأسن منه محيصة وأسن منهما حويصة (فسكت فتكلما) بأن يذكر الأصغر الأكبر ما نسيه. قال المصنف: واعلم أن حقيقة الدعوى إنما هي لأخيه عبد الرحمن لا حق فيها لابني عمه، وإنا أمر أن يتكلم الأكبر وهو حويصة لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى(3/209)
بل سماع صورة القصة وكيف جرت، وإذا أراد حقيقة الدعوى تكلم عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون وكلهما في الدعوى. وقال العاقولي: هذا إرشاد وتأديب لأنهما ابنا عم أبيه وقد حضرا معه لنصره، وإذا لم يوقرهما بأن يجعل الكلام إليهما فقد أضاع حقهما، إذ لا نصيب لهما في الإرث ولا ترك لهما مجالاً في القول، والإنسان إنما يتسلى بأحد هذين مال يأخذه أو كلام ينصت إليه فيه ويذعن له. ويؤخذ منه استحباب تقديم الكبير سناً لأن حويصة أسنّ من عبد الرحمن ورتبة فإنه في عداد والده، والكبر بالضم يقال فلان كبر في قومه إذا كان أقعدهم سناً اهـ. وله نظائر فإنه يقدم بذلك في الإمامة وولاية النكاح ندباً وغير ذلك (فقال: أتحلفون) أي خمسين يميناً كما جاء في رواية (وتستحقون قاتلكم) أي يثبت حقكم عليه وهل هو قصاص أو دية فيه خلاف بين العلماء، وعرضه اليمين عليهم محمول على أن المراد إن علموا ذلك أو ظنوه إذ لا يجوز الحلف إلا عند وجود ذلك، وعرضه على الثلاثة مع أنها للوارث وهو الأخ،
وأما الآخران فلا ميراث لهما مع وجوده للعلم بأنها لا تجب على غير الوارث فأطلق الخطاب لهم ومراده من يختص به اليمين، والإطلاق لكونه معلوماً عند المخاطبين كما سمع صورة الواقعة من القوم وإن الدعوى مختصة بالأخ قاله المصنف (وذكر تمام الحديث) مما لا يتعلق به غرض الترجمة وهو تقديم أهل الفضل والسن (متفق عليه) أخرجه البخاري في خمسة أماكن من «صحيحه» ، ومسلم في الحدود، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في الديات، والنسائي في القضاء.
(
وقوله: كبر كبر) بالتكرير للتأكيد (معناه يتكلم) أي ليتكلم (الأكبر) أي في السن كما ذكره المصنف في شرح مسلم أو في الرتبة كما تقدم عن العاقولي وغيره.
5352 - (وعن جابر رضي الله عنه أن النبيّ كان) للحاجة من كثرة القتلى وقلة العمال (يجمع بين الرجلين من قتلى أحد) بضمتين الجبل المعروف بالمدينة، وكانت غزوته سنة(3/210)
أربع من الهجرة على قول الأكثر. قال الحافظ في «الفتح» : روى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال: «جاءت الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر» صححه الترمذي. وأما دفن الرجل مع المرأة فروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع «أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد، فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه، وكان يجعل بينهما حائل من تراب ولا سيما إذا كانا أجنبيين» اهـ، وقوله: (يعني في القبر) بيان للمجموع فيه، وخرج به الكفن فكان كل يفرد بكفنه (ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً) أي حفظاً (للقرآن، فإذا أشير) أي بكثرة الأخذ (إلى أحدهما) أي الرجلين (قدمه في اللحد) إلى جهة القبلة من غيره ولو أسن منه تعظيماً له أو تشريفاً لما خص به من أكثرية الأخذ للقرآن، وظاهر منه بالأولى تقديم الآخذ لشيء من القرآن على من لم يأخذ بالمرة (رواه البخاري) في الجنائز وفي المغازي، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في الجنائز أيضاً، وقال الترمذي: حسن صحيح.
6353 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال أراني) قال الحافظ في «الفتح» بفتح الهمزة من الرؤية ووهم من ضمها (في المنام) مصدر ميمي: أي النوم، والظرف في محل الحال، وجملة (أتسوك) بتشديد الواو في محل المفعول الثاني (بسواك) الباء فيه للاستعانة (فجاءني رجلان) في المنام (أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر) لعلة أو لمعنى رآه فيه من علم أو نحوه (فقيل لي كبر) بتشديد الموحدة والقائل جبريل كما جاء كذلك في رواية ابن المبارك (فدفعته إلى الأكبر منهما) قال ابن بطال: فيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام. قال المهلب: هذا ما لم يترتب القوم، فإن ترتبوا فالسنة تقديم الأيمن وهو صحيح، ويؤيده تقديم الأعرابي على الصديق في دفع الشراب إليه. وفيه أن استعمال سواك الغير بإذنه غير مكروه إلا أن المستحبّ غسله ثم استعماله (رواه مسلم) في الرؤيا وفي آخر الكتاب (مسنداً) عن نصر بن(3/211)
علي عن أبيه عن صخر بن جويرية عن رافع عن ابن عمر (ورواه البخاري تعليقاً) بصيغة الجزم فقال: وقال عفان ثنا صخر بن جويرية بالإسناد المذكور. قال الحافظ في «الفتح» : قال الإسماعيلي: أخرجه البخاري بلا رواية. قلت: وقد وصله أبو عوانة في «صحيحه» عن محمد بن إسحاق الصنعاني وغيره عن عفان، وكذا أخرجه أبو نعيم والبيهقي من طريقه: والتعليق حذف أول السند واحداً فأكثر ولو لجميع السند، مأخوذ من تعليق الجدار.
7354 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من إجلال ا) أي من تعظيمه وتبجيله (إكرام ذي) أي صاحب (الشيبة المسلم) الذي شاب شعره: أي ابيضّ ونفذه عمره في الإسلام والإيمان فتعظيمه وتقديمه في الصلاة بشرطه على غيره وفي المجامع والمجالس وفي القبر وغيره والرفق به والشفقة عليه من كمال تعظيم الله لحرمته عند مولاه سبحانه (وحامل القرآن) أي قارئه، سمي حاملاً لما تحمل في حفظه من الدرس والمشقة في تفهمه والعمل بأحكامه وتدبره فهو كحامل لمشاق كثيرة تزيد على الأحمال الثقيلة (غير) بالنصب على الاستثناء وبالجر على الوصفية (الغالي) بالمعجمة (فيه) المتجاوز الحد في التشدد والعمل به وتتبع ما خفي منه واشتبه عليه من معانيه، والكشف عن دقيق علله التي لا يصلح فيها عقله بما يبتدعه في الدين ليضلّ ويضلّ غيره ويجاوز حدود قراءته ومخارج حروفه ومده (والجافي عنه) أي التارك له البعيد عن تلاوته والعمل بما فيه فإن هذا من الجفاء وهو البعد عن الشيء. قال في «النهاية» : وإنما قال ذلك لأن من أخلاقه التي أمر بها القصد في الأمر. والغلوّ: التشديد في الدين ومجاوزة الحد، والتجافي: البعد عنه. قلت: لا سيما من أعرض عنه كثرة النوم والبطالة والإقبال على الدنيا والشهوات، وما أقبح بحامل القرآن أن يتلفظ بأحكامه ولا يعمل بها، فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً (وإكرام ذي) أي صاحب (السلطان) أي الملك والتسلط (المقسط) بضم الميم: أي العادل في حكمه بين رعيته (حديث حسن رواه أبو داود) في الأدب من سننه.(3/212)
8355 - (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه) شعيب (عن جده) أي جد أبيه: أي إن أباه رواه عن جده وهو عبد الله بن عمرو (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ليس منا) أي من أهل سنتنا وهدينا وطريقتنا (من لا يرحم صغيرنا) أي الصغير من المسلمين بأن يشفق عليه ويرحمه ويحسن إليه ويلاعبه (ويعرف شرف كبيرنا) أي بما يستحقه من التعظيم والإجلال والتبجيل وتوضحه رواية أحمد «ليس من أمتي من لم يجلّ كبيرنا» ولأحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه «ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر» (حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي) في أبواب البر واللفظ له عن ابن عمر (وقال الترمذي: حديث صحيح) الذي في «الجامع» وقال: حسن صحيح، وكذا في نسخة من الرياض، والظاهر أنه حسن باعتبار طريق صحيح باعتبار طريق آخ لأنه رواه من طريقين ينتهيان إلى عمرو بن شعيب، وفي رواية له عن أنس مرفوعاً؟ ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولا يوقر كبيرنا» وقد نبه المصنف على أن اللفظ المذكور للترمذي فقال:
(وفي رواية أبي داود: حق كبيرنا) أي عبر بحق بدل شرف، وقد أخرجه باللفظ المروي عن الترمذي وأحمد والحاكم في «مستدركه» .
9356 - (وعن ميمون) بفتح الميم الأولى وسكون التحتية (ابن أبي شبيب) بفتح المعجمة وكسر الموحدة بوزن حبيب: وهو الربعي أبو نصر الكوفي. قال الحافظ في «التقريب» : صدوق كثير الإرسال من الثالثة، مات سنة ثلاث وثمانين في وقعة الجماجم (أن عائشة رضي الله عنها مرّ بها سائل) أي متعرض بالسؤال لطلب الإحسان (فأعطته كسرة) بكسر(3/213)
الكاف وسكون المهملة وهي هنا القطعة المكسورة من الخبز والجمع كسر كسدرة وسدر (ومرّ بها رجل عليه ثياب وهيئة) هي في اللغة: الحالة الظاهرة، والمراد هنا حالة حسنة (فأقعدته فأكل) قال السخاوي في «المقاصد» : ولفظ أبي نعيم في «الحلية» «فمرّ رجل غنيّ ذو هيئة فقالت ادعوه، فنزل فأكل ومضى، وجاء سائل فأمرت له بكسرة فأكل، فقالت: إن هذا الغنيّ لم يحمل بنا إلا ما صنعناه به، وإن هذا السائل سأل فأمرت له بما يرضاه، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرا أن ننزل الناس منازلهم» (فقيل لها في ذلك) بحذف الفاعل لغرض من أغراض حذفه (فقالت: قال رسول الله: أنزلوا الناس منازلهم) هو حض على مراعاة مقادير الناس ومراتبهم ومناصبهم وتفضيل بعضهم عل بعض في المجالس وفي القيام والمخاطبة والمكاتبة وغير ذلك من الحقوق كما تقدم عن المصنف. قال الإمام مسلم: فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر فوق منزلته، ويعطى كل ذي حق حقه من قوله تعالى: {وفوق كل ذي علم عليم} (يوسف: 76) وهذا في بعض الأحكام أو أكثرها، وقد سوّى الشرع بينهم في القصاص والحدود وأشباهها مما هو معروف اهـ. قال العلماء: في الحديث أن العالم إذا فعل شيئاً يخفى أمره وسئل عن ذلك يستدل بالحديث النبوي إذ هو من أقوى الحجج الشرعية وهو أبلغ من ذكر الحكم بلا دليل (رواه أبو داود) في الأدب من سننه، قال السخاوي: ورواه ابن خزيمة في صحيحه، والبزار وأبو يعلى في «مسنديهما» ، والبيهقي في الأدب، والعسكري في الأمثال ومداره عندهم على ميمون (لكن قال) أبو
داود (ميمون لم يدرك عائشة) أي فالحديث منقطع، قال السخاوي في كتاب «الجواهر والدرر» في ترجمة شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: وتعقب ابن الصلاح ما ذكر عن أبي داود بأن ميمون أدرك المغيرة وهو قد مات قبل عائشة، وأشار إليه نظر، فإن الاكتفاء بالمعاصرة محله في غير المدلس، وميمون قد قال فيه عمرو بن الغلاس ليس بقويّ في شيء من حديثه سمعت، ولم أخبر أن أحداً منهم يزعم أنه سمع الصحابة اهـ. وصرح غيره بأنه روى عن جمع من الصحابة لم يدركهم منهم معاذ وأبو ذرّ وعلي، فلذا قال أبو(3/214)
حاتم: إن روايته عنها مرسلة، بل صرح أيضاً بأن روايته عن عائشة غير متصلة وكذا قال البيهقي: حديثه عنها مرسل، وقال أبو نعيم: إنه ضعيف، ثم ذكر السخاوي تصحيح بعض المحدثين لروايته عن أبي ذرّ وعن معاذ والمغيرة ثم قال: وهذا كله مشعر بإدراك ميمون لعائشة. ثم إن الجواب عن أبي داود ممكن بأن يكون مراده أنه لم يدرك السماع منها، وجزم ابن القيم بفساد التعقب المشار إليه: أي بالرواية عن المغيرة وغيره بأن ميموناً كان بالكوفة، فسماعه من المغيرة لا ينكر لأنه كان معه بها، بخلاف عائشة فإنها كانت بالمدينة، قال: وأئمة هذا الشأن لهم أمر وراء المعاصرة، على أن الحافظ العراقي قال: لم يأت في خبر قط إدراك ميمون للمغيرة، إنما أخذه ابن الصلاح من رواية مسلم في المقدمة عنه عن المغيرة حديثاً استشهاداً وقال فيه: إنه حديث مشهور، ثم أشار السخاوي إلى أن من ذكر رواية موقوفاً عليها (وقد ذكره مسلم في أول صحيحه تعليقاً) وهو في مسلم قليل جداً (فقال: وذكر) بالبناء للمفعول (عن عائشة) قال المصنف: هو بالنظر إلى أن لفظه لي جازماً لا يقتضي حكمه بصحته، وبالنظر إلى أنه احتج به، وأورده إيراد الأصول لا إيراد الشواهد يقتضي حكمه بصحته (قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل) بضم النون الأولى وسكون الثانية مضارع أنزل وفي رواية بضم الأولى وفتح الثانية وتشديد الزاي وهي
المشهورة (الناس منازلهم وذكره الحاكم أبو عبيد ا) بن الربيع بفتح الموحدة وتشديد التحتية (في كتابة معرفة علوم الحديث) في النوع السادس عشر (قال: وهو حديث صحيح) وعبارته «صحت الرواية عن عائشة رضي الله عنها» وساقه بلا إسناد وكذا صححه ابن خزيمة لأنه أخرجه في كتاب السياسة من صحيحه، وتعقب التصحيح بما تقدم من انقطاعه وباختلاف رواته في رفعه تارة ووقفه على عائشة أخرى. قال السخاوي في «الجواهر» : هذا حديث حسن. وفي المقاصد: وبالجملة فحديث عائشة حسن، قال أبو أحمد العسكري في الأمثال: وهذا الحديث مما أدب به النبيّ أمته في إيفاء الناس حقوقهم من تعظيم العلماء وإكرام ذي الشيبة وإجلال الكبير وما أشبهه.
10357 - (وعن ابن عباس رضيا عنهما قال: قدم عيينة) بضم العين وفتح التحتية الأولى وسكون الثانية بعدها نون فهاء (ابن حصن) بكسر المهملة الأولى بن حذيفة بن بدر بن(3/215)
عمرو بن حوية بن لوذان بن ثعلبة بن عديّ بن فزارة بن ذبيان بن مفيض بن ربيع بن غطفان بن سعد بن قيس عبلان بالمهملة الفزاري، أسلم بعد الفتح وقيل قبله، وشهد حنيناً والطائف، وكان من المؤلفة قلوبهم والأعراب الجفاة، ثم ارتد وقاتل مع طليحة الأسدي فأسرته الصحابة وحملوه إلى الصديق فأسلم فأطلقه، والمراد أنه قدم المدينة (فنزل على ابن أخيه الحر) بضم المهملة وتشديد الراء (ابن قيس) والحرّ صحابي، أحد الوفد الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرجعه من تبوك، وهو الذي خالف ابن عباس في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فقال ابن عباس: هو الخضر؛ فسأل أبيًّا فذكر حديثاً مرفوعاً كما قال ابن عباس، وحكاية الخلاف بينهما في كتاب العلم من صحيح البخاري، وقيل المخالف لابن عباس عوف البكالي وهو كذلك في مسلم، قال العلائي: كان للحرّ ابن شيعي وابنة حرورية وامرأة معتزلية وجارية مرجئية فقال لهم الحرّ: أنا وأنتم كما قال تعالى: {كنا طرائق قدداً} (الجن: 11) (وكان) أي الحر (من النفر) بفتح النون والفاء وهو كما في المصباح: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة ولا يقال فيما زاد على العشرة اهـ. قلت: فهو اسم جمع لا واحد له من لفظه (الذين يدنيهم) بضم التحتية الأولى: أي يقربهم (عمر رضي الله عنه) منه لعلمهم وعملهم (وكان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه) المقدمين فيه (و) أصحاب (مشاورته) مصدر شاورته في الأمر، قال في «المصباح» : شاورته في كذا واستشرته فيه: راجعته لأرى رأيه فيه؛ فأشار علي بكذا: أي أراني ما عنده من المصلحة والاسم المشورة، وفيها لغتان سكون الشين وفتح الواو وضم الشين وسكون الواو، ويقال هي «من شار الدابة» إذا عرضها في المشوار، وقيل «من
شرب العسل» شبه حسن النصيحة بشرب العسل اهـ. (كهولاً) خبر مقدم لقوله (كانوا أو شبانا) عطف على كهولاً وهو بضم الشين المعجمة وتشديد الموحدة الأولى جمع شاب كفارس وفرسان، ويجوز أن يقرأ شباب بفتح المعجمة وتخفيف الموحدة الأولى جمع شاب كفارس وفرسان، ويجوز أن يقرأ شباب بفتح المعجمة وتخفيف الموحدة الأولى جمع شاب أيضاً كما في مصدر شب فيكون على تقدير مضاف أو على تقدير المبالغة كزيد عدل. قال في «الفتح» : الأولى رواية الأكثر والثانية رواية الكشميهني: والشباب قبل الكهولة، وقد(3/216)
تقدم بيان الأسنان ونظمها للدماميني في باب تعظيم حرمات المسلمين، وفيه تقديم أولي الفضل على من عداهم وإن كانوا دونهم في السن أو في النسب والحسب (فقال عيينة لابن أخيه: يا بن أخي: لك وجه) أي تقدم (عند هذا الأمير) يعني عمر (فاستأذن لي عليه) أي اسأل لي منه الإذن في الدخول عليه (فاستأذن له فأذن له عمر رضي الله عنه، فلما دخل) معطوف على مقدر: أي دخل؛ فلما دخل (قال: هي) بكسر الهاء وسكون التحتية كلمة تهديد، وقيل ضمير، وثم محذوف أي هي داهية (يا ابن الخطاب) بفتح المعجمة وتشديد المهملة (فوا ما تعطينا الجزل) أي ما يجزل لنا من العطاء، وأصل الجزل ما عظم من الحطب (ولا تحكم فينا بالعدل) هو خلاف الجور، يقال عدل على القول من باب ضرب عدلاً (فغضب عمر) لما نسبه إليه من الجور (حتى هم) بتشديد الميم أي أراد (أن يوقع) بضم التحتية (به شيئاً) أي من العقوبة أو شيئاً من الإيقاع وذلك لجفاءه وسوء أدبه معه (فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه:
{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} ) أي والأصل في أحكام التكاليف اشتراك أمته معه حتى يدل دليل على التخصيص والاقتداء فيما لم يدل دليل على الخصوص مطلوب قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) وقوله: {خذ العفو} أي ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل، ولا تطلب ما يشق عليهم من العفو الذي هو ضد الجهد، أو خذ العفو عن المذنبين أو الفضل أو ما يسهل من صدقاتهم وقوله: {وأمر بالعرف} أي بالمعروف المستحسن من الأفعال، وقوله: {وأعرض عن الجاهلين} أي فلا تمارهم ولات كافئهم مثل أفعالهم، وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها (وإن هذا من الجاهلين) أي المأمور بالإعراض عنهم (ووا) الواو الأولى عاطفة على فقال له الحر والثانية القسم (ما جاوزها) وفي نسخة ما جازها (عمر رضي الله عنه) أي بالمخالفة لها (حين تلاها عليه) بل وقف عندها فأعرض عن مكافأة جهله (وكان وقافاً) بتشديد القاف(3/217)
(عند) أوامر (كتاب ا) يعني القرآن كناية عن امتثالها والقيام بأداء ما أمر بأدائه وترك ما نهي عنه (رواه البخاري) في كتاب التفسير والاعتصام من صحيحه، وهذا الحديث ذكره المصنف في أواخر باب الصبر وتقدم شرحه ثم، وفيه بعض فوائد زائدة على ما هنا.
11358 - (وعن أبي سعيد) وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو سليمان وقيل أبو محمد حكاها في التهذيب (سمرة) بفتح السين وضم الميم (ابن جندب) بضم الجيم والدال المهملة وبفتح الدال بينهما نون ساكنة ابن هلال بن جريج بمهملة مفتوحة فراء مكسورة فتحتية ساكنة فجيم ابن مرة بن حزن بن عمر جابر بن خشين بخاء وشين معجمتين ابن لأًيُّ بن عصم بن شمخ بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان الفزاري الصحابي (رضي الله عنه) توفي أبوه وهو صغير فقدمت به أمه المدينة فتزوّجها أنصاري وكان في حجره حتى كبر، فقيل أجازه النبيّ في المقاتلة يوم أحد، وغزا مع النبي غزوات ثم سكن البصرة، وكان زياد يستخلفه عليها إذا سار إلى الكوفة وعلى الكوفة إذا سار إلى البصرة، وكان الحسن وابن سيرين وفضلاء البصرة يثنون عليه. روي له عن النبي مائة حديث، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأربعة. توفي بالبصرة سنة تسع وقيل ثمان وخمسين، وقال البخاري: توفي سمرة بعد أبي هريرة يقال آخر سنة تسع وخمسين ويقال سنة ستين (قال: لقد كنت على عهد) أي زمن حياة (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاماً) تقدم ما يؤخذ منه أن سنه كانت عند وفاة النبيّ نيفا وعشرين سنة، فالمراد من الغلام الصغير في السن (فكنت أحفظ عليه) معطوف على كنت الأوّل (فما يمنعني من القول) أي من التحديث (إلا أن ههنا رجالاً هم أسنّ مني) أخذ منه علماء الأثر قوله: يكره أن يحدث إذا كان في البلد من هو أولى به بزيادة علم أو ضبط أو حفظ أو تقدم سن أو نحو ذلك بل يدل عليه، وهذا بخلاف باقي العلوم فلا يكره تعاطيها للمفضول المتأهل مع وجود الأعلم بها منه (متفق عليه) .(3/218)
12359 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما أكرم شاب) بتشديد الموحدة (شيخاً) أي داخلاً في سن الشيخوخة: وهو ما بعد الخمسين (لسنه) أي لأجل كبره (إلا قيض) بتشديد التحتية والضاد المعجمة: أي قدر (اله من يكرمه عند سنه) أي كبره، ففيه إيماء إلى وعد من أكرم شيخاً لسنه تعالى بأن يطول عمر المكرم حتى يبلغ ذلك السن ويقدر الله له من يقوم بكرامته فيدان بما دان به (رواه الترمذي وقال: غريب) في «الجامع الصغير» على الحديث علامة الحسن.
45 - باب زيارة أهل الخير
أي قصدهم تشوّقاً إليهم. قال في «المصباح» زاره: يزوره قصده شوقاً إليه فهو زائر وزور وزوّار مثل سافر وسفر وسفار ونسوة زور أيضاً وزوّر مثل نوح وزائرات اهـ. والمراد من أهل الخير حزب الله المنقطعون إليه اللائذون به الحائزون لشرف العلم والعمل به مع الإخلاص فيه، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم أماتنا الله على محبتهم وحشرنا كذلك في زمرتهم (ومجالستهم) أي ليحفظ نفسه ذلك الزمن عن المخالفة لمولاه فإن ذلك أقل ثمرات مجالستهم، ويراعى في ذلك الأدب ويحفظ نفسه من الخواطر بين يدي أهل الله تعالى (وصحبتهم) أي المصاحبة معهم (ومحبتهم) أي تعاطي ما يوصل إليها والمصادر مضافة لمفعولها الفاعل محذوف (وطلب زيارتهم ودعائهم) مصدران مضافان لفاعلهما واستحباب طلبه لزيارتهم له لتعود بركتهم على منزله ومن به وطلبه لدعائهم له لأنه أقرب إلى الإجابة وأرجى إلى الحصول (وزيارة) معطوف على زيارة المضاف إليه الباب: أي وزيارته (المواضع الفاضلة) وفضلها بكونها مساجداً وبكونها مأثورات عن النبيّ أو عن أحد من الصحابة أو عن متعبدات الأولياء الصالحين فالمكان بالمكين.(3/219)
(قال تعالى: {وإذ قال موسى لفتاه} ) أي واذكر إذ قال موسى لفتاه يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام، فإنه كان يخدمه ويتبعه ولذا سمي فتاه وقيل لعبده {لا أبرح} لا أزال أسير فحذف الخبر لدلالة حاله وهو السفر عليه، وقوله ( {حتى بلغ مجمع البحرين} ) من حيث إنها تستدعي ذا غاية عليه، ويجوز أن يكون لا أبرح بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه فلا تستدعى خبراً، ومجمع البحرين ملقتى بحر فارس والروم مما يلي المشرق، وعد لقاء الخضر فيه، وقيل البحر أن موسى وخضر فإن موسى كان بحر علم الظاهر، وخضر كان بحر علم الباطن، وقرىء مجمع بكسر الميم الثانية على الشذوذ من يفعل كالمشرق والمطلع {أو أمضي حقباً} أي أسير زمناً طويلاً؛ والمعنى: حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضي الحقب وهو الدهر، وقيل ثمانون سنة، وقيل سبعون سنة، وكان الخضر في أيام أفرندون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى ( {فلما بلغا مجمع بينهما} ) أي مجمع البحرين، وبينهما ظرف وأضيف إليه على الاتساع أو بمعنى الوصل ( {نسيا حوتهما} ) أي نسي موسى أن يطلب حاله ويتعرفه ويوشع أن يذكر ما رأى من حياته وووقعه في البحر، وكان ذلك العلامة من الله تعالى لموسى على مكان الخضر، وكان الحوت مشوياً فوثب في ذلك المكان في البحر معجزة لموسى أو الخضر ( {فاتخذ سبيله في البحر سرباً} ) فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكاً وسرباً مفعول ثان وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز تعلقه باتخذ ( {فلما جاوزا} ) مجمع البحرين ( {قال لفتاه آتنا غداءنا} ) أي ما نتغذى به ( {لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً} ) قيل لم ينصب حتى جاوز الموعد فلما جاوزه وسأل الليلة والغد إلى الظهر ألقي عليه الجوع والنصب، وقيل لم يعي موسى في سفر غيره ويؤيده التقييد باسم الإشارة ( {قال: أرأيت إذ أوينا} ) أي أرأيت ما دهاني إذ أوينا ( {إلى الصخرة} ) يعني التي وعد عندها موسى بلقاء الخضر
( {فإني نسيت الحوت} ) أي فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت منه ( {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} ) أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان فإن أذكره بدل من مفعول أنساني، وهو اعتذار عن نسيانه لشغل الشيطان له بوسواسه، والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما جرت بمشاهدة أمثالها عن موسى وألفها قل اهتمامه بها، ولعله نسي ذلك لاستغراقه(3/220)
في الاستقبال وانجذاب شراشره إلى جانب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه إلى الشيطان هضماً لنفسه أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الأخرى يعد من النقصان (واتخذ سبيله في البحر عجباً) سبيلاً عجباً وهو كونه كالسرب أو اتخاذ عجباً والمفعول الثاني هو الظرف. وقيل هو مصدر فعله المضمر: أي قال في آخر كلامه أو موسى في جوابه عجباً تعجباً من تلك الحال وقيل الفعل لموسى: أي واتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجباً (قال ذلك) أي أمر الحوت (ما كنا نبغ) نطلب لأنه أمارة المطلوب، قال البكري: وحذف الياء على التشبيه بالفواصل، وسهل ذلك أن الباء لا تضم ههنا وقرىء بإثباتها وهو الجيد اهـ. (
{فارتد} ) فرجعا (على آثارهما) في الطريق التي ذهبا منها ( {قصصا} ) يقصان قصصاً: أي يتبعان آثارهما اتباعاً أو مقتصين حتى أتيا الصخرة ( {فوجدا عبداً من عبادنا} ) الجمهور أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان، وقيل اليسع وقيل إلياس ( {آتيناه} ) بالمد أعطيناه ( {رحمة} ) هي الوحي والنبوة ( {من عندنا وعلمناه من لدنا علماً} ) مما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيب ( {قال له موسى: هل أتبعك} ) في هذا دليل لزيارة أهل الخير في أماكنهم ومصاحبتهم ومجالستهم والتواضع معهم. قال السيوطي في «الإكليل في أحكام التنزيل» : في الآية أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر واستحباب الرحلة في طلب العلم واستزادة العالم من العلم وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة اهـ. ملخصاً.
(وقال تعالى) : ( {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} ) تقدم الكلام عليها في باب فضل ضعفة المسلمين.
1360 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد) ظرف للقول (وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلق بنا إلى أم أيمن) هي بفتح الهمزة والميم وسكون التحتية بينهما مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنها) صارت إليه بالإرث من أبيه قاله بعض، وقال القرطبي: كانت لأمه آمنة فورثها عنها، ونقله الدميري عن أبي بن شيخ وقال في «الديباجة» : عتقها عبد الله أبو النبي، قال: وقال الواقدي: كانت لعبد المطلب وصارت للنبي(3/221)
ميراثاً: أي بأن وهبها لابنه عبد الله ثم ورثها النبيّ. 9 إذ من البين أن النبيّ لم يرث عبد المطلب لوجود أولاده. وفي «فتح الباري» في أواخر كتاب الهبة قال ابن شهاب: كان من شأن أم أيمن أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما توفي أبوه كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر، فأعتقها ثم أنكحها زيد بن حارثة، وتوفيت بعده بخمسة أشهر واسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان رضي الله عنها، وهي أم أيمن غلبت عليها كنيتها كنيت بابنها أيمن بن عبيد، وهي بعده أم أسامة بن زيد تزوجها زيد بن حارثة بعد عبيد الحبشي فولدت له أسامة، يقال لها مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادمه، وتعرف بأم الظباء، وشربت هي وأم أيمن بركة مولاة أم حبيبة جاءت بها من أرض الحبشة بوله. قال السهيلي: أم أيمن بركة المذكورة: أي في الترجمة هي التي هاجرت في حرّ شديد من مكة إلى المدينة وليس معها أحد، فبينا هي كذلك إذ سمعت حفيفاً فوق رأسها، فالتفتت فإذا دلو أدى لها من السماء فشربت منها فلم تظمأ بعدها أبداً، وكانت تتعمد الصوم في خيار القيظ لتعطش فلا تعطش (نزورها) جملة مستأنفة (كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها) كرامة لها وكان يقول أم أيمن أمي، وكان يكرمها ويبرّها مبرّة الأم ويكثر زيارتها، وكان عندها
كالولد ولذا تصخب عليه: أي ترفع صوتها عليه وتدمر: أي تغضب وتضجر فعل الوالدة بولدها، قاله القرطبي. وقال المصنف: في هذه الجملة زيارة الصالحين وفضلها وزيارة الصالح لمن هو دونه، وزيارة الإنسان لمن كان صديقه يزوره ولأهل ود صديقه، وزيارة جماعة من الرجال المرأة واستصحاب العالم والكبير في العيادة والزيارة اهـ. (فلما انتهيا إليها بكت) تذكراً لعهد المصطفى وزيارتها برئءَتها لكثرة ملازمتها له وعدم مفارقتها له في الغالب (فقالا لها ما يبكيك أما) استفهام تقريري (تعلمين أن ما) أي الذي (عند ا) مما أعد لنبيه مما لا تستطيع العبارة الإعراب عن أدناه فضلاً عن أقصاه (خير لرسول الله) قال تعالى:
{وللآخرة خير لك من الأولى} (الضحى: 4) (قالت: إني لا أبكي أني) أي لأني (لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله) أي لا أبكي لجهلي بأخيرية ما عند الله له وأنا أعلم ذلك كما(3/222)
جاء عنها عند ابن ماجه قالت: «إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله» (ولكن) استدراك لما قد يتوهم من انتفاء مقتضى البكاء عند علمها بشرف مقامه المنتقل إليه بأن للبكاء سبباً آخر هو قولها (أبكي أن) أي لأن (الوحي قد انقطع من السماء) أي لانقطاع الوحي من السماء عن الأرض بموته، فإن بفتح الهمزة على إضمار حرف التعليل كما ضبطه القرطبي. قال: وانقطاع الوحي سبب اختلاف مذاهب الناس ووقوع التنازع والفتن وحصول المصائب والمحن، ولذا نجم بعده النفاق وفشا الارتداد والشقاق، ولولا أن الله تعالى تدارك الدين بثاني اثنين لما بقي منه أثر ولا عين اهـ. (فهيجتهما) بتشديد التحتية (على البكاء) أي أثارتهما عليه بذكرها ما يدعو إليه (فجعلا) من أفعال الشروع أي فشرعا (يبكيان معها) قال المصنف: فيه البكاء حزناً على فراق الصالحين والأصحاب وإن كانوا قد انتقلوا إلى أفضل مما كانوا عليه (رواه مسلم) في باب فضل أم أيمن ورواه ابن ماجه، ومن العجيب قول الترمذي في الديباجة انفرد به المصنف وهو حديث صحيح رجاله حفاظ ثقات مخرج لهم في الصحيحين أو في أحدهما اهـ.
2361 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أن رجلاً زار أخاً له) أي في الدين، وقوله: (في قرية أخرى) في محل الحال من المفعول لتخصيصه بوصف الظرف (فأرصد الله تعالى على مدرجته) أي محل دروجه: أي في طريقه (ملكاً فلما أتى) أي مر الرجل (عليه قال) ظاهره أن الملك خاطبه وشافهه (أين تريد) واستفهم عنه مع إطلاع الله له على ذلك إن كان ليبني ما بشره الله به مما يأتي على جوابه وهو (قال أريد أخاً لي) كائناً (في هذه القرية) قال العاقولي: هو جواب على المعنى الغائي من السؤال، لأن قوله أين تريد؟ يقتضي أن يقول له قرية كذا، فيقول ما تفعل بها؟ فيقول أريد أخاً لي، فقدمه وأجابه من الأول علماً بما يؤول إليه السؤال (قال: هل لك عليه من نعمة) أي عطية بالزيارة (قال لا) أي لا نعمة لي أربها بزيارته. قال القرطبي: أي لم أزره لغرض من أغراض الدنيا(3/223)
اهـ. وهو تفسير مراد لا بيان لمعنى اللفظ كما هو واضح، ثم استثنى استثناء منقطعاً، قوله (غير) أي لكن (أني أحببته في ا) في تعليلية ومنه حديث «عذبت امرأة في هرّة حبستها» الحديث (قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك) الظرفان متعلقان برسول (كما أحببته فيه) الكاف في محل المفعول المطلق. قال ابن أبي شريف في «شرح المسايرة» في قولهم في تعريف النبيّ إنه إنسان أوحى إليه بشرع، خرج بقوله: «شرع» الوحي بغيره فيكون لغير النبي: أي كحديث الباب، وكقوله تعالى في حق مريم {أرسلنا إليها روحنا} {فأوحينا} (الشعراء: 63) إلى أن قال الملك {إنما أنا رسول ربك} (مريم: 19) الآية، والأصح عدّ نبوتها. وفي المواهب اللدنية قال القرافي كما نقله عنه ابن مرزوق يعتقد كثير أن النبوة مجرد الوحي وهو باطل لحصوله لمن ليس بنبي كمريم وليست نبية على الأصح مع قوله تعالى {فأرسلنا إليها روحنا} (مريم: 17) {أن الله يبشرك} (آل عمران: 39) وفي مسلم فذكر حديث الباب وليس بنبوة لأنها عند المحققين إيحاء الله لبعض بحكم إنسان
يختص به كقوله {اقرأ باسم ربك} (العلق: 1) فهذا تكليف يختص به في الوقت فهذه نبوة لا رسالة، فلما نزل {قم فأنذر} (المدثر: 2) كانت رسالة لتعلق هذا التلكيف بغيرة أيضاً، فالنبيّ كلف بما يخصه، والرسول بذلك وبتبليغ غيره، فالرسول أخص مطلقاً اهـ. (رواه مسلم) والمراد من محبة الله تعالى للعبد إرادته الخير والتوفيق له واللطف به. وفي الحديث ما يدل على عظم فضل الحب في الله والتزاور فيه وأنه من أعظم الأعمال وأفضل القرب إذا تجرد عن هوى النفس، قال: «من أحبّ وأبغض وأعطى ومنع فقد استكمل الإيمان» (يقال أرصده لكذا: إذا وكله بحفظه) فمعنى أرصد الله على مدرجه ملكاً: أي جعله يرتقبه وينتظره ليبشره. قال العاقولي: ويقال أرصدته إذا قعدت له على طريقه (والمدرجة بفتح الميم والراء) وسكون الدال المهملة بينهما وبعد الراء جيم ثم هاء (الطريق) أنسب منهم قول القرطبي موضع الدروج وهو المشي وإن كان المآل إلى واحد (ومعنى تربها تقوم بها وتسعى في صلاحها) أي فيتعاهده بسبب ذلك.(3/224)
3362 - (وعنه قال: قال رسول الله: «من عاد مريضاً أو زار أخاً له في ا) مخلصاً في ذلك سبحانه (ناداه مناديان) أي من الملائكة (طبت) أي انشرحت لك عند الله تعالى من جزيل الأجر في ذلك، أو طهرت من الذنوب بغفرانه لك بذلك (وطاب ممشاك) أي عظم ثوابه (وتبؤت من الجنة منزلاً» ) أي اتخذت منها داراً تنزله (ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ) حديث (غريب) .
4363 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبيّ قال: إنما) أداة حصر على الراجح كما تقدم أول الكتاب (مثل) بفتحتين الشأن العجيب والأمر الغريب، ويقال بكسر فسكون، وميل بوزن رغيف: أي نظير (الجليس الصالح وجليس السوء) كذا وقفت عليه في الرياض بتوصيف الأوّل وإضافة الثاني، وكأن حكمة ذلك مع التفنن في التعبير الإشارة إلى مجانبة الجليس السيء حيث أطلق عليه لفظ المصدر وهو السوء - بالفتح - مبالغة في التنفير، أما السوء بالضم فاسم مصدر ويجوز ضم وفتح السين فيما ذكر كقولك رجل سوء وفي نسخة من الرياض توصيف الصاحب بوصفه في كليهما (كحامل المسك) أعم من أن يكون صاحبه أو غيره (ونافخ الكير) وهو بكسر الكاف وسكون التحتية معروف وحقيقته: البناء الذي يركب عليه الزق، والزق: هو الذي ينفخ فيه فأطلق على الزق اسم الكير مجازاً لمجاورته له، وقيل واقتصر عليه في القاموس: الكير نفس الزق. وأما البناء فاسمه الكور وهذا فيه لف ونشر مرتب، ثم فصل ثمرة ذينك الحالين فقال (فحامل المسك إما أن يحذيك) بضم التحتية أوله وسكون الحاء المهملة وبالذال المعجمة: أي يعطيك وزنا ومعنى (وإما أن تبتاع) مضارع من باب الافتعال للمبالغة: أي تطلب البيع (منه) وفيه جواز بيع المسك والحكم بطهارته لأنه مدحه ورغَّب فيه، ففيه الرد على من كرهه وهو منقول عن الحسن البصري وعطاء وغيرهما ثم انقرض هذا الخلاف واستقرّ الإجماع على(3/225)
طهارته وجواز بيعه (وإما أن تجد) من الوجدان بكسر الواو والوجود لغة لبني عامر (منه ريحاً طيبة) أي فجليس الأخيار إما أن يعطي بمجالستهم من الفيوض الإلهية أنواع الهبات حباء وعطاء، وإما أن يكتسب من المجالس خيراً وآداباً يكتسبها عنه، ويأخذها منه، وإما أن يكتسب حسن الثناء بمخاللته ومخالطته (ونافخ الكير) هو بكسر الكاف وسكون التحتية. قال الحافظ في «الفتح» وفيه لغة أخرى كور بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ فيه، لكن
أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد. قال ابن التين: وقيل الكير هو الزق والحانوت هو الكور، وقال صاحب المحكم: الزق الذي ينفخ فيه الحداد، ويؤيد الأول ما رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة أن عمر رضي الله عنه رأى كير حداد في السوق فضربه برجله حتى هدمه اهـ. (إما أن يحرق ثيابك) بناره إن وصلت إليها (وإما أن تجد منه ريحاً منتنة) بضم الميم وكسر المثناة الفوقية وقد تكسر الميم اتباعاً للتاء، وضم التاء اتباعاً للميم قليل، قاله في «المصباح» : أي قبيحة متغيرة، أي فجليس الصاحب السيء إما أن يحترق بشؤم معاصيه، قال تعالى:
{واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة} (الأنفال: 25) وقال تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (هود: 113) وإما أن يدنس ثناءه بمصاحبته، وقد ورد «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» ففي الحديث بيان نتائج كل من صحبة الأخيار والأشرار وفي الحديث ضرب المثل وتقدم معناه في الأصل وهو المراد في الحديث، ثم خصص بالقول السائر الممثل مضربه بمورده. قال البيضاوي: الشرط في ضرب المثل أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يتعلق بها التمثيل في العظم والصغر والشرف، وفائدته كشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل، فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأن من طبعه ميل الحس وحبّ المحاكاة، وإنما يضرب بما فيه غرابة اهـ. ملخصاً من موضع منه، ولعله حكمة ذكر الظرف بعد تجدد الأول دون الثاني ما في الأول من الكرامة فناسب إكرام المحكى عنه به، وما في الثاني من ضدها فترك دفعاً للمكافحة لما يكره (متفق عليه) قال الحافظ المزيّ في «الأطراف» . أخرجاه في البيوع، وتعقبه الحافظ العسقلاني بأن البخاري إنما أخرجه في الذبائح، نبه عليه القطب الحلبي في «شرحه» ووجدته كذلك. قلت: وقد أخرجه البخاري في أوائل البيوع بتفاوت يسير فصح(3/226)
ما قاله المزي (ويحذيك: يعطيك) وزناً ومعنىً.
5364 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: تنكح) بالبناء للمفعول أي تتزوج (المرأة لأربع) أي من الخصال (لمالها) بدل مطابق، بدل مفصل من مجمل بإعادة العامل اهتماماً (ولحسبها) بفتح المهملتين وبالباء الموحدة: أي نسبها بأن تكون طيبة الأصل، وفي «المصباح» : الحسب ما يعد من المآثر. وقال ابن السكيت: الحسب والكرم يكونان في الإنسان وإن لم يكن لآبائه شرف، ورجل حسيب كريم بنفسه، قال: وأما المجد والشرف فلا يوصف بهما الإنسان إلا إذا كانا فيه وفي آبائه. وقال الأزهري: الحسب الشرف الثابت له ولآبائه: قال: وقوله عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة لحسبها» أحوج أهل العلم إلى معرفة الحسب لأنه مما يعتبر في مهر المثل، فالحسب الفعال له ولآبائه، مأخوذ من الحساب وهو عد المناقب لأنهم كانوا إذا تفاخروا حسب كل واحد مناقبه ومناقب آبائه، ومما يشهد لقول ابن السكيت قول الشاعر:
ومن كان ذا نسب كريم ولم يكن
له حسب كان اللئيم المذمما
فجعل الحسب فعال الشخص مثل الشجاعة والجود وحسن الخلق، ومنه قوله: «حسب المرء دينه» اهـ، وصحف من ضبطه في الحديث بالنون بدل الموحدة، لأن ذلك مذكور في قوله (ولجمالها) هو كما قال سيبويه رقة الحسن (ولدينها) وأعاد الجارّ في المتعاطفات إيماء إلى أن كل واحد منها مما يقصد على انفراده واستقلاله (فاظفر) أيها المسترشد (بذات الدين) أي بصاحبته وهو أبلغ من صاحبته لأنها كناية (تربت يداك) أي افتقرت وأسند إلى اليدين لأن التصرف يقع بهما غالباً، ولم ترد العرب بهذه الكلمة وأمثالها معناها الأصلي من الدعاء، بل إيقاظ المخاطب للمذكور بعده وحثّ وتحريض عليه ليعتنى به. وقيل معناه: افتقرت إن لم تفعل ما أرشدتك إليه، وقد ورد ما يؤيده. أخرج ابن(3/227)
ماجه عن ابن عمر قال: قال رسول الله «لا تزوّجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يؤذيهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن يطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولامرأة جذماء سوداء ذات دين أفضل» (متفق عليه) روياه في النكاح ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه كلهم عن أبي هريرة (ومعناه أن الناس يقصدون) بكسر المهملة الأولى (في العادة من نكاح) (المرأة هذه الخصال الأربع) زاد في شرح مسلم «وآخرهم عندهم ذات الدين» (فاحرص أنت) تفسير لقوله اظفر بضميره المستكن فيه (على ذات الدين) وعطف قوله (واظفر بها واحرص على صحبتها) إطنابا للتأكيد. قال الرافعي في المجلس الثالث عشر من أماليه: يرغب في النكاح لفوائد دينية ودنيوية، والفوائد المتعلقة بمطلق النكاح تحصل بنكاح أيّ امرأة كانت، ثم قال: فمن الدواعي القوية إليه الجمال، وقد نهى عن تزوّج المرأة الحسناء، وليس المراد النهي عن رعاية الجمال على الإطلاق، ألا ترى أنه قد أمر بنظر المخطوبة ليكون النكاح عن موافقة الطبع، ولكنه محمول على ما إذا كان القصد مجرد الحسن واكتفي به عن سائر الخصال، أو على الحسن التام البارع لأنه يخاف بسببه من الإفراط في الإدلال المورث
للوحشة والمنازعة والأطماع الفاسدة، فالمنهل العذب كثير الزحام، ومن شدة الصبوة والميل ولا يؤمن منها تولد أمور مضرّة، ولأنها قد تصرفه عن كثير من الطاعات في غالب الأوقات، ومن الدواعي الغالبة المال وهو غاد ورائح، وإذا كان كذلك فلا يوثق بدوام الألفة سيما إذا قلّ، وقد قيل «من عظمك عند استغلالك استقلك عند إقلالك» وأما إذا كان الداعي الدين فهو الحبل المتين الذي لا ينفصم فكان عقده أدوم وعاقبته أحمد اهـ. ملخصاً.
6365 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا) زيارة (أكثر مما تزورنا) فأكثر مفعول مطلق، ويجوز أن يكون منصوباً على نزع الخافض، قال الحافظ في «الفتح» : روى الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: «احتبس(3/228)
جبريل عن النبيّ» وروى عبد بن حميد عن عكرمة قال: «أبطأ جبريل في النزول أربعين يوماً، فقال له: يا جبريل ما نزلت حتى اشتقت إليك، فقال: أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبريل قل له {وما تنزل} الآية. وعند ابن إسحاق عن ابن عباس أن قريشاً لما سألوا عن أصحاب الكهف فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً، فلما نزل قال: أبطأت، فذكره اهـ. (فنزلت) أنث باعتبار أنها كلمات (وما نتنزل) قال البيضاوي: التنزل على مهل لأنه مطاوع نزل، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقاً كما يطلق نزل بمعنى أنزل، والمعنى: وما نتنزّل وقتاً غب وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته (إلا بأمر ربك) قال الحافظ في «الفتح» : الأمر هنا بمعنى الإذن بدليل سبب النزول المذكور ويحتمل الحكم: أي ننزل مصاحبين لأمره تعالى عباده بما شرع لهم، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك عند من يجيز حمل اللفظ على جميع معانيه اهـ. (له ما بين أيدينا وما خلفنا) كذا في الصحيح الاقتصار على ذلك، والمراد ما أمامنا وما خلفنا من الأزمنة والأمكنة، فلا ننتقل من شيء إلى شيء إلا بأمره ومشيئته (رواه البخاري) في التفسير، وكذا رواه الترمذي.
7366 - (وعن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان (الخدري) بضم المعجمة وسكون المهملة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه عن النبي قال: لا تصاحب إلا مؤمناً) فيه نهي عن موالاة الكفار ومودتهم ومصاحبتهم، قال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون با واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله} (المجادلة: 22) الآية (ولا يأكل طعامك إلا تقي) فيه الأمر بملازمة الأتقياء ودوام مخالطتهم، وترك الفجار فهو نهي له بالمعنى عن إكرام غير التقي وإسداء الجميل إليه وفي «مرقاة الصعود» للسيوطي هذا الحديث في طعام الدعوة دون طعام الحاجة، وإنما حذر من مصاحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، لأن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب، يقول لا تؤالف من ليس من أهل التقوى والورع ولا(3/229)
تجالسه ولا تطاعمه ولا تنادمه اهـ. (رواه أبو داود) في الأدب من سننه (والترمذي) في الزهد من «جامعه» (بإسناد لا بأس به) فرواه أبو داود عن عمرو بن عون. ورواه الترمذي عن سويد بن نضر كلاهما عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن سالم بن غيلان عن الوليد بن قيس عن أبي سعيد قال سالم: أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به، وقال الترمذي: إنما نعرفه من هذا الوجه وأشار إلى أنه غريب.
8367 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: الرجل على دين خليله) ويروى «المرء بخليله» والخليل الصديق فعيل بمعنى مفاعل، وقد يكون بمعنى مفعول (فلينظر أحدكم من يخالل) أي فلينظر أحدكم بعين بصيرته إلى أمور من يريد صداقته وأحواله، فمن رآه ورضي دينه صادقه، ومن سخط دينه فليتنبه، ومن رآه يرى له مثل ما يرى له صحه روى ابن عديّ في «الكامل» من حديث أنس «لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى له» فأقل درجات الأخوة والصداقة النظر بعين المساواة، والكمال رؤية الفضل للأخ (رواه أبو داود) في أبواب الأدب من السنن (والترمذي بإسناد صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن) قال الحافظ السيوطي في «المرقاة» : هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على «المصابيح» ، وزعم أنه موضوع.d قلت: قال الحافظ العلائي: نسبة هذا الحديث إلى الوضع جهل قبيح، بل هو حسن كما قال الترمذي، فإن موسى بن وردان وثقه العجلي وأبو داود، وقال فيه الإمام أحمد: لا أعلم إلا خيراً. وقال أبو حاتم والدارقطني: لا بأس به. ولم يتكلم فيه أحد، وزهير بن محمد هو المروزيّ، وثقه أحمد وابن معين وتكلم فيه غيرهما واحتج به الشيخان في الصحيحين، وذلك يدفع ما تكلم به فيه فتفردّه يكون حسناً غريباً ولا ينتهي إلى الضعف فضلاً عن الوضع اهـ. وقال الحافظ(3/230)
العسقلاني في رده عليه: قد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقد أورده ابن عديّ في ترجمة زهير، ونقل عن أبي زرعة الدمشقي قال: قلت لمحمد بن السريّ حدثنا أبو مسهر عن يحيى بن حمزة عن زهير به موصولاً فقال: لم يصنع صاحبك شيئاً حدثنا يحيى بن حمزة به مرسلاً، وقال: وقد رواه هشام بن عمار عن الوليد عن مسلم عن زيهر به وزهير بن محمد استشهد به البخاري ولكن قالوا: إن في رواية الشاميين عنه مناكير كأنه لما دخل الشام حدث من حفظه فوهم فروايتهم عنه غير معتبرة، وهذا الحديث مما اشترك فيه الشاميون وغيرهم، وموسى
المذكور وثقه جماعة وضعفه بعضهم، فحديثه من هذه الحيثية من قبيل الحسن اهـ. وبه يعلم ما في قول المصنف بإسناد صحيح ألا أن يريد به المقبول مجازاً فيشمل الحسن اهـ. والله أعلم.
9368 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبيّ قال: المرء) بفتح الميم وسكون الراء وبالميم بعده: أي الشخص (مع من أحب) وكونه معه لا يستلزم مساواته له في منزلته وعلوّ مرتبته لأن ذلك متفاوت بتفاوت الأعمال الصالحة والمتاجر الرابحة. قال في «الفتح» : المعية تحصل بمجرد الاجتماع في شيء ما ولا تلزم في جميع الأشياء، فإذا اتفق أن الجميع دخلوا الجنة صدقت المعية وإن تفاوتت الدرجات اهـ. (متفق عليه) أي من حديث أبي موسى، ورواه أحمد والشيخان والنسائي من حديث أنس والترمذي من حديثه وزاد «له ما اكتسب» والشيخان من حديث ابن مسعود كذا يؤخذ من «الجامع الصغير» .
(وفي رواية) للبخاري في أبواب الأدب عن أبي موسى الأشعري (قال: قيل للنبيّ الرجل) أل فيه للجنس (يحبّ القوم) أي من أهل الصلاح (ولما يلحق بهم) قال أهل العربية: لما تنفي الماضي المستمر فدل عل نفيه في الماضي وفي الحال، بخلاف لم فإنها للنفي في الزمن الماضي مطلقاً (قال: المرء مع من أحبّ) هو عامّ، فمن أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحداً من المؤمنين كان معه في الجنة بحسن النية لأنها الأصل، والعمل تابع لها ولا يلزم من كونه معهم كونه في منزلتهم، ولا أن يجزى مثل جزائهم من كل وجه.(3/231)
10369 - (وعن أنس رضي الله عنه أن أعرابياً) هو يختص بسكان البوادي من العرب وغيرهم أما العرب فأولاد إسماعيل عليه السلام، وفي البخاري وهو في مسلم أيضاً بلفظ «أن رجلاً» وفي الفتح للحافظ أنه ذو الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد، وحديثه بذلك مخرج عند الدارقطني، ومن زعم أنه أبو موسى أو أبو ذرّ فقد وهم لأنهما وإن اشتركا في معنى الجواب، وهو أن المرء مع من أحبّ إلا أنهما اختلفا في السؤال، فإن كلاً من أبي موسى وأبي ذرّ سأل «عن الرجل يحبّ القوم ولما يلحق بهم» وهذا سأل «متى الساعة» اهـ. (قال: يا رسول الله متى الساعة) أي القيامة، وعبر عنها بذلك لأنها تظهر في أدنى لحظة (قال له رسول الله: ما أعددت لها) أي حتى تسأل عنها، إذ هي زمن الجزاء ويوم الدين، قال العاقولي: وقوله: «ما أعددت لها» من أسلوب الحكيم لأنه سأل عن الوقت فقيل له مالك ولها إنما يهمك التزود لها والعمل بما ينفعك فيها، فطرح الرجل ذكر أعماله لأنه كان لا يرى لها قدراً، ونظر إلى ما في قلبه من مخصوص محبة الله سبحانه ورسوله فقدمه بين يديه (قال: حبّ الله و) حبّ (رسوله) يجوز رفعه نظراً لصدر جملة السؤال، ونصبه نظراً لعجز جملته، وقد قرىء بالوجهين «العفو» في قوله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} (البقرة: 19) نظراً لما ذكر، والمراد من حبّ الإنسان ورسوله طاعتهما والانقياد لأحكامهما (قال: أنت مع من أحببت) واللفظ عام لكون كل محبّ مع محبوبه من خير أو شرّ، ومعية الله مع الإنسان بالنصر والإعانة والتوفيق (متفق عليه) أخرجه البخاري في أبواب الأدب (وهذا لفظ مسلم) في أبواب البر والصلة (وفي رواية لهما) أي عن أنس أيضاً، قال: (ما أعددت لها من) صلة لتأكيد النفي واستغراقه (كثير) بالمثلثة (صوم ولا) كثير (صلاة ولا) كثير (صدقة) يحتمل أن يراد من المثبت من ذلك الغرض فيكون كقول البوصيري:
ولم أصلّ سوى فرض ولم أصم
أي سواء، ويحتمل أن يكون بعض النوافل إلا أنها غير كثيرة وفي العبارة توجيه(3/232)
(ولكني) في نسخة من مسلم «ولكن» استدراك مما يوهمه الكلام السابق من نفي تقديم ما يرجو ثمرته في آخرته أي ولكن لي أعظم الذخائر هو أني (أحبّ الله ورسوله) قال: «فأنت مع من أحببت» .
11370 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : هو أبو ذرّ (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولالله، كيف تقول في رجل أحبّ قوماً ولم يلحق بهم) عند ابن حبان: ولا يستطيع أن يعمل بعملهم (فقال رسول الله: المرء مع من أحبّ. متفق عليه) أخرجاه في الأبواب المذكورة وأخرجه أبو نعيم وزاد «وله ما اكتسب» .
12371 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: الناس) أي باعتبار الأفراد (معادن) أي أصولاً للخير والشر بحسب ما جعلهم الله مستعدين له. والمعادن جمع معدن بكسر الدال لأنه موضع العدل: أي الإقامة اللازمة وسمي المعدن بذلك لأن الناس يقيمون فيه شتاء وصيفاً قاله الجوهري (كمعادن الذهب والفضة) وجه الشبه. اشتمال المعدن على الجواهر المختلفة نفاسة وخسة وكل معدن يخرج منه ما في أصله، وكذا كل إنسان يظهر منه ما في أصله من خسة أو شرف (خيارهم في الجاهلية) أي أشرافهم فيها وهي ما قبل الإسلام سموا به لكثرة جهالاتهم (خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) بكسر(3/233)
القاف: أي علموا وبضمها، وتقدم في باب الأمر بالمحافظة على السنة أن الضم هو المشهور، ومعناه صار الفقه سجيتهم: أي فقد وصل بما حازه في شرف الإسلام والفقه فيه إلى ما كان عنده من الشرف والكرم والسماحة ونحوها في الجاهلية، وهذه القطعة من الحديث تقدم الكلام عليها في باب التقوى في آخر حديث أبي هريرة «قيل يا رسول الله من أكرم الناس» الحديث (والأرواح جنود مجندة) معطوف على جملة «الناس معادن» : أي جموع مجتمعة وأنواع مختلفة (ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) قال السيوطي: قال الخطابي: قوله الأرواح الخ يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشرّ، فالخير يحن إلى شكله والشرير إلى نظيره، فتعارف الأرواح بحسب الباع التي جبلت عليها من خير أو شر، فإذا اتفقت تعارفت وإن اختلفت تناكرت. قلت: وحكاه المصنف في شرح مسلم عنه وعن غيره، ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء «إن الأرواح خلقت قبل الأجسام فكانت تلتقي وتلتئم، فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم، فتميل الأخيار إلى الأخيار والأشرار إلى الأشرار» قال ابن الجوزي: يستفاد من الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة عن ذي فضل وصلاح،
فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته فيتخلص من الوصف المذموم وكذا عكسه. وقال ابن عبد السلام: المراد بالتعارف والتناكر التقارب في الصفات والتفاوت فيها، لأن الشخص إذا خالفتك صفاته أنكرته، والمجهول ينكر لعدم العرفان، فهذا من مجاز التشبيه، شبه المنكر بالمجهول والملائم بالمعلوم (رواه مسلم) بجملته (وروى البخاري قوله والأرواح إلى آخره من رواية عائشة) أي فهذا اللفظ لهما لكن من طريقين.
13372 - (وعن أُسير بن عمرو ويقال ابن جابر، وهو بضم الهمزة) وذكره الحافظ العسقلاني بالتحتية بدلها، قال: وقيل أصله أسير فسهلت الهمزة (وفتح السين المهملة) وسكون التحتية بعدها راء. قال الحافظ في «التقريب» : مختلف في نسبه فقيل كندي، وقيل غير(3/234)
ذلك، وقيل له رؤية، وقيل إن ابن جابر آخر تابعي. وفي «أسد الغابة» هو ابن عمرو الكندي السلولي وقيل الدريكي، وقيل الشيباني له صحبة مخضرم. توفي النبيّ وهو ابن عشر سنين، قاله ابن معين. وقيل كان له إحدى عشرة سنة. قال ابن معين: أبو الخيار الذي يروى عن ابن مسعود اسمه أسير بن عمرو أدرك النبيّ وعاش إلى زمن الحجاج، روى عن النبي حديثين، أحدهما في تلقيح النحل، والآخر في الحجامة. وقال ابن المديني: أهل البصرة يقولون أسير بن جابر ويروون عنه عن عمر بن الخطاب حديث أويس القرني، وأهل الكوفة يسمونه أسير بن عامر اهـ. ملخصاً (قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن) هم الجماعات الغزاة الذين يمدون جيوش الإسلام في الغزو، واحدهم مدد (سألهم: أفيكم أويس بن عامر) كذا رواه مسلم وهو المشهور. قال ابن ماكولا: ويقال أويس بن الخليص اهـ. قال: وكنيته أبو عمرو. قال قائل: قتل بصفين، وسيأتي بيان الخلاف فيذلك عند ذكر ترجمته، فما زال كذلك (حتى أتى على أويس رضي الله عنه) وهو تصغير أوس، وهو الذئب وبه سمي الرجل، وقيل سمي بمصدر أست الرجل أوساً إذا أعطيته فالأوس العطية. قاله القرطبي: وفي كلامه الترضي على غير الصحابي، وفيه خلاف الأصح جوازه كما في «التقريب» للنووي، وعن بعض الحنفية يقال فيما دون الصحابة رحمه الله ولا يقال فيه رضى الله عنه تمييزاً لهم بذلك عن باقي الأمة كامتياز المعصوم بالدعاء له بالصلاة (فقال: أنت أويس بن عامر) بتقدير همزة الاستفهام وحذفت تخفيفاً بدليل قوله (قال: نعم) وكذا الهمزة مقدرة بعده في أول كل سؤال (قال: من مراد) اسم قبيلة، قال ابن الكلبي: واسم مراد
جابر بن مالك بن أدد بن يشجب بن يعر بن زيد بن كهلان بن سبأ (ثم من قرن) بفتح القاف والراء وبالنون من مراد، وهو قرن بن رماد بن ناجية بن مراد، وما ذكرنا من أنه بطن من مراد وإليه ينسب هو الصواب، ولا خلاف فيه، وفي «صحاح الجوهري» أنه منسوب إلى قرن المنازل المعروف ميقات إحرام أهل نجد. قال المصنف: وهذا غلط فاحش (قال
نعم، وكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم) أبقى ليذكر مكان به من هذا الداء، ثم عوفي فيبعثه ذلك على الزيادة في الشكر (قال: نعم، قال لك والدة؟ قال نعم) ظاهره أنها كانت موجودة ذلك الحين (قال: فإني سمعت(3/235)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن) إضافة أمداد لأهل يجوز أن تكون بيانية، والأقرب كونها لاميَّة، والظرف محتمل لكونه لغواً متعلقاً بيأتي، ولكونه مستقراً حالاً من أويس أو صفة لأمداد، وكونه حالاً أنسب مما بعده، وعليه فيكون (من مراد) حالاً منه مترادفة أو حالاً منه متداخلة (ثم من قرن وكان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم) سيأتي في الرواية الآتية «إلا موضع الدينار أو الدرهم» بالشك (له والدة) اسمها و (هو بها بر) بفتح الباء الموحدة: أي بالغ في البرّ والإحسان إليها (لو أقسم على ا) أي أقسم عليه بحصول أمر (لأبرّه ا) بحصول ذلك المقسم على حصوله (فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) لا يفهم من هذا أفضليته على عمر، ولا أن عمر غير مغفور له للإجماع على أن عمر أفضل منه لأنه تابعي والصحابي أفضل منه، إنما مضمون ذلك الإخبار بأن أويساً ممن يستجاب له الدعاء، وإرشاد عمر إلى الازدياد من الخير واغتنام دعاء من ترجى إجابته، وهذا نحو مما أمرنا النبي به من الدعاء له، والصلاة عليه وسؤال الوسيلة له وإن كان النبي أفضل ولد آدم، وكذا ما يأتي من قوله لعمر: «أشركنا في دعائك يا أخي» ثم سأله عمر ذلك بقوله (فاستغفر لي فاستغفر له) ففيه طلب الدعاء من
الصالحين وإن كان الطالب أفضل (فقال له عمر: أين تريد؟ فقال: الكوفة) هي البلدة المعروفة بالعراق، وسميت بذلك لاستدارة بنائها (قال ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح (أكتب لك إلى عاملها) أي ليقوم من بيت مال المسلمين منها بكفايتك (قال: أكون) أي كوني (في غبراء الناس أحبّ إلي) فالأصل أن أكون فحذف أن فارتفع الفعل أو أطلق وأريد منه المصدر فهو نظير قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» توجهيه المذكورين (فلما كان من العام المقبل) بضم الميم وكسر الموحدة اسم فاعل، وهو بالنسبة لعام ملاقاة عمر له (حج رجل من أشرافهم) أي أشراف أهل الكوفة ولعل إضافته إليهم لسكناه بينهم، وإلا فسيأتي ما قد يؤخذ منه أنه من مراد وسكت عن بيانه وتعيينه المصنف والقرطبي وكأنه لعدم وقوفهما عليه، والمراد بشرفه ظهوره وغناؤه (فوافق عمر) يحتمل أن يكون فاعل وافق ضميراً يعود إلى رجل، وأن يكون(3/236)
الفاعل عمر ومفعول الفعل ضمير متصل بالفعل محذوف وهذا أقرب ليوافق قوله (فسأله عن أويس فقال: تركته رثّ البيت) أي رثّ متاعه، وهو المتاع الدون أو الخلق البالي. وقال المصنف: هو بمعنى قوله بعده: قليل المتاع، ويجوز أن لا يقدر مضاف بمعنى أن بيته الذي هو به خلق بال (قليل المتاع) قال في «المصباح» : المتاع في اللغة كل ما ينتفع به كالطعم والبرّ وأثاث البيت، وأصل المتاع ما يتبلغ به من ذلك وتقليله من المتاع زهد في الدنيا وإعراض عنها (قال) أي عمر (سمعت النبيّ يقول: أتى علكيم) وفي نسخة بالإفراد خطاباً لعمر ويناسبه قوله: فإن استطعت (أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برّ لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفرلك فافعل) هذا كله مرفوع كما تقدم مع الكلام عليه وهو من جملة معجزاته، لما فيه من الإخبار عن الأمر قبل وقوعه وذكره باسمه وصفته وعلامته واجتماعه بعمر، فكان كما أخبر عنه، وفيما
فعل عمر الله عنه تبليغ الشريعة ونشر السنة والإقرار بالفضل لأهله، والثناء على من لا يخشى عليه عجب بذلك ليقينه وكمال إيمانه، والخطاب باستطعت من النبي لعمر رضي الله عنه، وهو حكى لفظ خطابه له، وليس مدرجاً في آخر الخبر خطاباً لذلك الشريف كما قد يتوهم، فإن كون المصطفى يأمر عمر مع كونه أفضل من أويس بأن يطلب منه الدعاء أبلغ في إظهار فضله وإثارة رغبة المخاطب لطلب الدعاء منه فلهذا قال (فأتى) أي ذلك الرجل (أويساً فقال استغفر لي، فقال) أي أويس (أنت أحدث عهداً بسفر صالح) أي أقرب، وعهداً منصوب على التمييز كقوله تعالى:
{هم أحسن أثاثاً} (مريم: 74) وأشار إلى فضل السفر الصالح وأن القادم منه أرجى لإجابة دعائه فلذا سأل منه أويس الدعاء بقوله: «فاستغفر لي» وقد ورد «إذا لقيت الحاج فمره فليستغفرلك» وفي حديث آخر إن الله يغفرللحاج ولمن استغفر له الحاج حتى يرجع إلى بيته، (فقال) أي الرجل (استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي) وكأن الرجل طلب من أويس ثالثاً الدعاء ففطن أنه عرف بمقامه (فاقل: لقيت عمر) بتقدير همزة(3/237)
الاستفهام (قال نعم، فاستغفر له) أنه علم أنه أعلمه بعلي مقامه وأنه لما علم ذلك لا يتركه حتى يدعو له ودعا له بطلب المغفرة لورود ذلك في حديث عمر (ففطن) بكسر الطاء المهملة (له الناس) وأقبلوا عليه (فانطلق على وجهه) خارجاً لأن في ذلك إشغالاً له عن شأنه المتوجه هو إليه من إفراد الحق بالقصد والانقطاع إليه من الخلق (رواه مسلم) انفرد به عن باقي الستة ذكره في الفضائل، وقال في آخر الحديث: قال ابن المنير: وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة؟
(وفي رواية لمسلم أيضاً عن أسير بن جابر) المرويّ عنه الحديث الأول (رضي الله عنه) زيادة في الحديث (أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر رضي الله عنه، وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس) لعله الذي عبر عنه في الرواية السابقة بقوله: «من أشرافهم» ولعل سخرياه منه لغني ذلك الرجل وغروره. بما هو فيه من الجاه والمال، واحتقار أويس لرثاثته وقلة متاعه زهداً في الدنيا واطراحاً لها وإعراضاً عن زهراتها، والسخرياء: الاستهزاء، وسخر من باب تعب كما في «المصباح» (فقال عمر: هل ههنا أحد من القرنيين) بفتح القاف والراء نسبة لقرن بطن من مراد كما تقدم (فجاء ذلك الرجل فقال عمر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع) أي يترك (باليمن غير أم له) وهذا مما زادت به هذه الرواية على ما قبلها (قد كان به بياض) هو الذي عبر عنه في الرواية السابقة بقوله برص (فدعا الله فأذهبه) ليس ذلك منه اعتراضاً على مولاه وعدم رضاه بقضاه ولكن لعله دعاه لذلك أمر آخر مطلوب من برّ والدته، وأن لا تقذر مخالطته وتستنكف من خدمته وهو شديد العناية بها (إلا موضع الدينار، أو) شك من الراوي (الدرهم) والشك في ذلك عند مسلم في طريق زهير بن حرب بهذا اللفظ، فيحتمل كون الشك منه، أو من أحد شيوخه والطريق المجزوم فيها بأنه موضع الدرهم السابقة، رواها مسلم عن شيوخه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، ومحمد بن المثنى، وابن بشار قال: واللفظ لابن المثنى، والطريقان مختلفان في رجال الإسناد إلى أسير (فمن لقيه منكم فليستغفر(3/238)
لكم) أي فليطلب منه ذلك كما قال في الرواية الآتية «فمروه فليستغفر لكم» ثم إن كان اللفظان من عمر، فيحتمل على أنه تارة باللفظ وتارة بالمعنى، ويحتمل أنه تعدد ذكره منه فتارة ذكر بلفظ إحدى الروايتين، وأخرى بلفظ الأخرى، وفيه على الاحتمال الأول دليل جواز الرواية بالمعنى بشرطه.
(وفي رواية له) أي لمسلم (عن عمر رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة، وكان به بياض فمروه) فيه دليل لعدم اعتبار الاستعلاء والعلو في الأمر خلافاً لبعض الأصوليين (فليستغفر لكم) كأن حكمه الإتيان بالمؤكده في صدر الجملة ما قد يعتري الناظر له في التردد في أخيريته على التابعين فأكد ذلك لذلك، قال المصنف في شرح مسلم: وهذا الحديث صريح في أنه خير التابعين، وقد قال أحمد وغيره: أفضل التابعين سعيد بن المسيب. والجواب أن مرادهم أن سعيداً أفضل في العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه لا في الخير عند الله تعالى اهـ. قال في «الإرشاد» عن أحمد بن حنبل قال: أفضل التابعين سعيد بن المسيب، قيل فعلقمة والأسود، فقال سعيد: وعلقمة والأسود.d وعنه لا أعلم في التابعين مثل أبي عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم، وعنه أفضلهم قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق، وعن عبد الله بن جنين الزاهد قال: أهل المدينة يقولون: أفضل التابعين ابن المسيب، وأهل الكوفة يقولون: أويس القرني، وأهل البصرة يقولون: الحسن البصري والله أعلم. ومثله في «التقريب» له باختصار قال السيوطي في «شرح التقريب» واستحسنه: أي ما قال ابن حنيف - ابن الصلاح. وقال العراقي: الصحيح بل الصواب ما ذهب إليه أهل الكوفة لما ثبت في صحيح مسلم، وأشار إلى الحديث قال: فهذا قاطع للنزاع، قال: وأما تفضيل أحمد لابن المسيب وغيره فلعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده أو أراد الأفضلية في العلم لا الخيرية، قال السخاوي: فقد فرق بينهما بعض شيوخ الخطابي فيما حكاه الخطابي عنه، وأما قوله لعل أحمد لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده فإنه أخرجه في «مسنده» من الطريق التي خرّجها مسلم منها بلفظ: «إن خير التابعين رجل يقال له أويس» لكن قد أخرجه في «المسند» أيضاً بلفظ: «إن من خير التابعين» فقال: حدثنا أبو نعيم ثنا شريك فذكره بذلك. قال
السخاوي: وكذا رواه الجماعة عن شريك فزال الحصر اهـ. (قوله غبراء الناس بفتح الغين المعجمة وإسكان الباء) الموحدة (وبالمد) قال القرطبي: هذه الرواية الجيدة فيه(3/239)
(وهم فقراؤهم وصعاليكهم ومن لا يعرف عينه من أخلاطهم) قال القرطبي: والغبراء الأرض، يقال: «الفقراء بنو الغبراء» كأن الفقر ألصقهم بها، قال القرطبي: وقد روى غبَّر بضم الغين وتشديد الموحدة جمع غابر كشاهد وشهد، ويعني به بقايا الناس ومتأخريهم، وهم ضعفاء الناس لأن وجوه الناس يتقدمون للأمور ويصحبون بها ويتقاضون فيها، ويبقى الضعفاء لا يلتفت إليهم ولا يؤبه بهم، فأراد أويس أن يكون خاملاً بحيث لا يلتفت إليه. طالباً للسلامة وظافراً بالغنيمة اهـ. والمعنى الأول يئول إلى هذا أيضاً. والصعاليك بمهملتين أوله، جمع صعلوك بضم الصاد المهملة: الفقير كما في «الصحاح» ، وقوله من لا يعرف عينه: أي لخموله وعدم ظهوره (والأمداد جمع مدد) بفتح أوّليه (وهم الأعوان والناصرون الذين كانوا يمدون) من الإمداد: أي اتصال المدد (المسلمين في الجهاد) وقضية ترتيب المتن تقديم بيان الأمداد على ما قبله لأنه كذلك فيه.
(فائدة) قال القرطبي: كان أويس من أولياء الله المخلصين المخففين الذين لا يؤبه بهم، ولولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عنه ووصفه بوصفه ونعته بنعته وعلامته لما عرفه أحد، وكان موجوداً في حياة النبي وآمن به وصدقه ولم يلقه ولا كاتبه، فلم يعدّ من الصحابة، وقد أخبر النبيّ أنه من التابعين حيث قال: «إنه خير التابعين» وقد اختلف في زمن وفاته، فروي عن عبد الله بن مسلم قال: «عزونا أذربيجان زمن عمر بن الخطاب ومعنا أويس القرني، فلما رجعنا مرض علينا فحملناه فلم يستمسك فمات، فنزلنا فإذا قبر محفور وماء مسكوب وكفن وحنطوط، فغسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه، فقال بعضنا لبعض: لو رجعنا فعلمنا قبره فإذا لا قبر ولا أثر» وروي عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نادى رجل من الشام يوم صفين: أفيكم أويس القرني؟ قلنا نعم، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أويس خير التابعين بإحسان» وعطف دابته فدخل مع أصحاب عليّ قال عبد الرحمن: فوجد في قتلى أصحاب عليّ. وله أخبار كثيرة وكرامات ظاهرة ذكرها أبو نعيم وأبو الفرج بن الجوزي في كتابيهما اهـ كلام القرطبي. وقد أفرد بعض فضلاء زبيد بعضها جزءاً في مناقبه وقفت عليه وهو حسن.
14373 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: استأذنت النبي في العمرة) فيه(3/240)
استئذان التلميذ لأستاذه، والمريد لشيخه في مهامته إذا كان مع من ذكر في أمر جامع بهم يجمعهم طاعة الله ليكون على ذهنه إذا تفقده، قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا با ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} (النور: 62) (فأذن لي) في ذلك ودعا لي بالمغفرة، قال ابن رسلان: روى الثعلبي عن ابن أبي جمرة الثمالي، واسمه ثابت بن أبي صفية «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يقضي الحاجة لم يخرج من المسجد حتى يقوم بحيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يراه، فيعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن شاء منهم» . (وقال: لا تنسنا يا أخيّ) بفتح الياء المشددة وكسرها قراءتان في السبع في يا بني، وظاهر أنهما على ضم الهمزة والتصغير، وعليه اقتصر الشربيني الخطيب في «شرح جمع الجوامع» ، وفي «شرح جمع الجوامع» للمحلي بعد ذكر الحديث وأخي بضم الهمزة مصغر لتقريب المنزلة: أي لا للتحقير، وبفتحها روايتان اهـ. (من دعائك) فيه دليل على استحباب طلب المقيم من المسافر ووصيته له بالدعاء في مواطن الخير ولو كان المقيم أفضل من المسافر، وإن كان يعرف أنه يدعو له فلا بأس أن يذكره بالدعاء له لا سيما إن كان سفره عبادة كحج أو عمرة أو غزو فتتأكد الوصية كما تقدم، وفي الحديث: «يغفر للحاجّ ولمن استغفر له الحاجّ» والعمرة في معنى الحج، وهذا الحديث يؤيده.
وقال عمر: (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كلمة) أراد بها معناها اللغوي، وهو الجمل المفيدة وهل هو مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل أو استعارة مصرحة شبه الكلام بالكلمة في توقف فهم المراد على تمام كل منهما، فأطلق عليه اسمها وجهان ذكرهما شيخنا الشيخ المحقق عبد الرحمن الحساني، والمشهور في كتب النحو: الأول منهما، وعليه اقتصر ابن رسلان في «شرح السنن» (ما يسرّني أن لي بها) أي «بدلها فالباء فيه بمعنى البدل، ومنه قول الحماسي» .
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا.
(الدنيا) وما فيها، قال ابن رسلان: فيه فضل الدعاء بظهر الغيب واستحبابه للحاج إذا حضر في الأماكن التي يستجاب فيها الدعاء لنفسه ولإخوانه في الله تعالى بأعيانهم، ومن سأله الدعاء ووعده فيتعين ويتأكد عليه الدعاء له اهـ. وهذا الحديث دليل قول المصنف في الترجمة وطلب الدعاء منهم، وذكر لدليل ندب زيارة المواضع المأثورة قوله:
(وفي رواية) هي لأبي داود قال بعد إيراد الحديث كما تقدم من طريق شعبة، قال شعبة: ثم لقيت عاصماً بعد بالمدينة فحدثته فـ (ــقال) في حديثه (أشركنا) بفتح الهمزة: أي اجعلنا شركاء معك (يا أخي) بالوجهين (في) صالح (دعائك حديث صحيح. رواه أبو داود) في باب الدعوات آخر كتاب الصلاة (والترمذي) في الدعوات من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) لعل صحته لغيره، وإلا ففي سند أبي داود والترمذي عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب ليس من رجال الصحيح، إنما روى له البخاري في كتاب خلق الأفعال، وفي سند الترمذي أيضاً سفيان بن وكيع وهو الراوي، وقد تكلم فيه من قبيل دخوله(3/241)
في صنعة الوراقة، وقد رواه ابن ماجه في الحج من «سننه» عن أبي بكر بن شيبة عن وكيع عن سفيان عن عاصم أيضاً والله أعلم.
15374 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبيّ يزور قباء) بضم القاف وتخفيف الباء وبالمد وهو مذكر منون مصروف في اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى صاحب المطالع وغيره فيه لغة أخرى وهي القصر حكاها في «المطالع» عن الخليل، وأخرى وهي التأنيث وترك الصرف والمختار ما قدمت، وهو الذي قاله الجمهور ونقله صاحب المطالع عن أبي عبيد البكري وعن أبي علي القالي، كذا في «التهذيب» للمصنف، وجمعت هذا كله من عبارة «المغني» للشيخ محمد طاهر الهندي الفتني: قباء بالمد والتذكير والصرف أشهر من أضدادهن، وبضم القاف وخفة الموحدة، وفي «المصباح» هو بضم القاف ويقصر ويمد ويصرف ولا يصرف، وفي عبارته إبهام تساوي الوجوه وقد علمت الأشهر منها. قال السمهودي: هو قرية حوالي المدينة. قال ابن جبير: مدينة كبيرة كانت متصلة بالمدينة المقدسة. وفي خط المداعي إنما سميت قباء ببئر كانت هناك تسمى قباراً فتطيروا منها فسموها قباء كما نقله ابن زبالة. قال الباجي: على ميلين من المدينة ونقله النووي عن العلماء. وفي «مشارق عياض» ثلاثة أميال، وهو معنى قول الحافظ ابن حجر على فرسخ من المدينة. قال السمهودي: وقد اختبرت ذلك فرأيته على فرسخ من باب جبريل إلى باب مسجد قباء اهـ. (راكباً وماشياً) أي تارة وتارة، ويحتمل أن يكون باعتبار بعض المسافة(3/242)
والأول أقرب لقربه (فيصلي فيه) أي في مسجده (ركعتين. متفق عليه) وقد ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء أحاديث كثيرة أوردها السمهودي في فضل مسجد قباء من «تاريخه» : منها ما رواه الترمذي عن أسد بن ظهير الأنصاري عن النبي قال: «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» قال الترمذي: حديث حسن غريب، ولا نعرف لأسيد شيئاً يصح غير هذا الحديث. ثم أورد السمهودي أحاديث في كونها فيه كعمرة.
(وفي رواية) هي للبخاري والنسائي من حديث ابن عمر (كان النبي يأتي مسجد قباء كل سبت) وعند ابن حبان في صحيحه «كل يوم سبت» قال السمهودي: فيرد به على من قال السبت الأسبوع (راكباً وماشياً) أي للصلاة فيه كما تقدم فيما قبله (وكان ابن عمر يفعله) قال السمهودي: ولابن أبي شيبة عن شريك عن عبد الله بن عمر مرسلاً «أن النبي كان يأتي قباء يوم الاثنين و» عن ابن أبي عروبة قال «كان عمر بن الخطاب يأتي مسجد قباء يوم الاثنين ويوم الخميس» الحديث، ففيه استحباب زيارته ومثله سائر الأماكن المأثورة في الحرم المكي وغيره.
46 - باب فضل الحب
بضم المهملة وتشديد الموحدة، وهو كما في «القاموس» : الود كالحباب والحب بكسرها، وفي «المصباح» أن الحب بالضم اسم مصدر حابب من باب قاتل (في ا) أي لأجله، لا لغرض آخر في تعليلة (والحث) بتشديد المثلثة: أي التحريض (عليه، وإعلام) عطف على فضل مصدر مضاف إلى فاعله، وهو (الرجل من يحبه أنه يحبه) على تقدير الباء وحذف الجار من إن وأن وكي المصدريات مقيس بغير خلاف (وماذا يقول) أي المحبوب (له) أي للرجل المعلم (إذا أعلمه) .(3/243)
(قال الله تعالى) : ( {محمد رسول الله} ) جملة مبنية للمشهود به في الآية قبلها، ويجوز أن يكون رسول الله صفة ومحمد خبر محذوف أو مبتدأ ( {والذين معه} ) معطوف عليه وخبرهما ( {أشداء على الكفار رحماء بينهم} ) وأشداء جمع شديد ورحماء جمع رحيم، والمعنى: أنهم يغلظون على من خالف دينهم ويتزاحمون فيما بينهم كقوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين} (الحشر: 9) ( {تراهم ركعاً سجداً} ) لأنهم مشتغلون بالصلاة أكثر أوقاتهم ( {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} ) الثواب والرضى ( {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} ) يريد السمة التي تحدث في جباهم من كثرة السجود فعلاً، من سامه إذا علمه، وقد قرئت ممدودة، و {من أثر السجود} بيانها، أو حال من المستكن في الجار (ذلك) إشارة إلى الوصف المذكور، أو إشارة مبهمة يفسرها «كزرع» ( {مثلهم في التوراة} ) صفتهم العجيبة الشأن المذكورة فيها ( {ومثلهم في الإنجيل} ) عطف عليه: أي ذلك مثلهم في الكتابين. ثم التوراة والإنجيل اسمان أعجميان. قال البيضاوي: ومن زعم عربيتهما واشتقاقهما فهو متكلف، وقوله ( {كزرع} ) تمثيل مستأنف أو تفسر، ومثلهم في الإنجيل مبتدأ وكزرع خبره ( {أخرج شطأه} ) أي فراخه، يقال اشتطأ الزرع: إذا فرخ ( {فآزره} ) فقواه من المؤازرة بمعنى المعاونة، أو من الإيزار وهو الإعانة ( {فاستغلظ} ) فصار من الرقة إلى الغلظ ( {فاستوى على سوقه} ) فاستقام على قصبه جمع ساق ( {يعجب الزراع} ) بكثافته وقوته وغلظه وحسن منظره، وهو مثل ضربه الله للصحابة قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس ( {ليغيظ بهم الكفار} ) علة لتشبيهم بالزرع في زكاته واستحكامه، أو لقوله ( {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} ) فإن الكفار لما سمعوه غاظهم ذلك، ومنهم للبيان. ولما قال المصنف (إلى آخر السورة) تكلمنا على خاتمتها بجملتها.
(وقال الله تعالى) : ( {والذين تبوءوا الدار والإيمان} ) عطف على المهاجرين، والمراد بهم الأنصار فإنهم لزموا المدينة والإيمان وتمكنوا فيهما، وقيل المعنى: تبوءوا دار الهجرة ودار الإيمان فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام، أو تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله:(3/244)
«علفتها تبناً وماء بارداً» وقيل سمى المدينة بالإيمان لأنه مظهره ومصيره ( {من قبلهم} ) أي من قبل هجرة المهاجرين، وقيل تقدير الكلام والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان ( {يحبون من هاجر إليهم} ) ولا يثقل عليهم.
1375 - (وعن أنس رضي الله عنه عن النبيّ قال: ثلاث) أي من خصال أو ثلاث خصال أو خصال ثلاث (من كنّ) أي وجدن فهي تامة، و (فيه) ظرف لغو متعلق به كذا أعربه الحافظ في «الفتح» ، ويجوز أن تكون كان ناقصة والظرف الخبر (وجد) من الوجدان بكسر الواو في المصدر (بهن حلاوة الإيمان) قال المصنف: المراد من حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق في الدين وإيثار ذلك عن أغراض الدنيا، ومحبة العبد تحصل بفعل طاعته وترك معصيته وكذا الرسول اهـ. وقال الحافظ: فيه استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو وأثبت له لازم ذلك الشيء وأضافه إليه. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأن الله تعالى شبه الإيمان بالشجرة في قوله: {مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة} (إبراهيم: 24) فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الأوامر واجتناب النواهي، وزهرها ما يهم به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جني الشجرة وغاية كماله تناهي نضج الثمرة وبه تظهر حلاوتها (أن يكون الله ورسوله أحبّ) بالنصب خبر يكون (إليه مما سواهما) قال البيضاوي: المراد بالحبّ هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك تمرن على الائتمار بأمره حيث يصير هواه تبعاً له ويلتذ بذلك التذاذاً عقلياً، إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة، وشاهد هذا الحديث من القرآن قوله تعالى:
{قل إن كان آباؤكم} (التوبة: 24) إلى أن قال: {أحبّ إليكم من الله(3/245)
ورسوله} ثم هدد على ذلك وتوعد بقوله: {فتربصوا} قال المصنف: إنما قال مما سواهما ولم يقل ممن ليعم من يعقل ومن لا يعقل. وفيه دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية. وأما قوله للذي خطب فقال: «ومن يعصهما، فقال: بئس خطيب القوم أنت» فليس من هذا، لأن المراد في الخطب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ، وثم أجوبة أخرى قال الحافظ في «الفتح» : من محاسنها أن تثنية الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر المجموع المركب من الجهتين لا كل واحدة منهما فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى، وأما أمر الخطيب بالإفراد فلان كلاً من العصيان مستقل باستلزام الغواية إذ العطف في تقدير التكرير والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم ويشير إليه قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} (النساء: 59) فأعاد أطيعوا في الرسول دون أولي الأمر لأنهم لا استقلال في الطاعات كاستقلال الرسول اهـ. ملخصاً من كلام البيضاوي والطيبي (وأن يحبّ المرء لا يحبه إلا) قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحبّ في الله أن لا يزيد بالبرّ ولا ينقص بالجفاء (وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه) الإنقاذ أعم من العصمة منه ابتداء بأن يولد على الفطرة ويستمرّ، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان كما وقع لكثير من الصحابة، وعلى الأول فيحمل قوله يعود على معنى الصيرورة بخلاف الثاني فإن العود فيه على ظاهره، وعدى العود بفي دون إلى لتضمنه معنى الاستقرار كأنه قيل ويستقر فيه، ومثله قوله تعالى: {وما يكون لنا أن نعود فيها} (الأعراف: 89) (كما يكره أن يقذف في النار) الكاف في محل المفعول المطلق واستدل به على فضل من أكره على الكفر فصبر وترك التقية حتى قتل. قال الحافظ: وأخرجه البخاري في الأدب في فضل الحب في الله بلفظ «وحتى أن يقذف في النار أحبّ إليه من أن يرجع إلى الكفر
بعد أن أنقذه الله تعالى منه» وهو أبلغ من لفظ حديث الباب لأنه سوى فيه بين الأمرين، وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الآخرة (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه قال المصنف: هو حديث عظيم من أصول الدين.(3/246)
3376 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: سبعة) أي سبعة أنفس فلذا صح الابتداء به، ويجوز أن يعتبر مسوغ آخر، ومفهوم العدد ليس بحجة على الصحيح عند الأصوليين، فلا يشكل عليه أن الذين يظلون تحت العرش يوم القيامة فوق السبعين، وقد جمع في ذلك جزءاً الحافظ السخاوي وكذا الحافظ السيوطي (يظلهم الله في ظله) أضافه إليه تشريفاً، وقيل المراد بظله كرامته أو حمايته كما يقال: أنا في ظلّ فلان، وهو قول عيسى بن دينار وقواه عياض، وقيل المراد في ظلّ عرشه ويدل عليه حديث سلمان «سبعة بظلهم الله في ظل عرشه» فذكر الحديث، وإن أريد ظل العرش استلزم كونه في كنف الله وكرامته من غير عكس فهو أرجح، وبه جزم القرطبي، ويؤيده التقييد بيوم القيامة في رواية ابن المبارك، فترجح أن المراد ظل العرش لا ظل طوبى وظل الجنة خلافاً لمن زعم لأن ذلك إنما يكون بعد دخول الجنة وهو عام لكل داخلها. ومقصود الحديث ما اختص به أصحاب تلك الخصال (يوم لا ظل إلا ظله) وجه الكرماني الحصر في السبعة المذكورة بما ملخصه: إن الطاعة إما أن تكون بين العبد والربّ أو بينه وبين الخلق، فالأول باللسان وهو الذكر، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن وهو الناشىء في العبادة، والثاني إما عام وهو الإمام العادل، أو خاص بالقلب وهو التحاب، أو بالمال وهو الصدقة، أو بالبدن وهو العفة (إمام عادل) اسم فاعل من العدل والمراد به صاحب الولاية العظمى ويلحق به من ولي شيئاً من أمر المسلمين فيعدل فيه ويؤيده رواية مسلم من حديث ابن عمر ورفعه «إن المقسطين عند الله على منابر من نور على
يمين الرحمن: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه بغير إفراط ولا تفريط، وقدمه في الذكر لعموم النفع به (وشاب) بتشديد الموحدة اسم فاعل (نشأ في عبادة ا) زاد ابن زيد في روايته «حتى توفي على ذلك» وعند سلمان «أفنى شبابه ونشاطه في عبادة ا» وفيه إيماء إلى فضل من لم يزاول المعصية أصلاً على من أقلع وتاب منها (ورجل قلبه معلق بالمساجد) ظاهره أنه من التعليق كأنه شبه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلاً إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجاً عنه، ويدل عليه رواية الحوفي «كأنما قلبه في المسجد» ويحتمل أن يكون من العلاقة
شدة الحبّ ويدل عليه رواية أحمد «متعلق بالمساجد» ورواية الكشميهني بزيادة فوقية بعد الميم وكسر اللام، زاد(3/247)
سلمان «من حبها» وزاد مالك «إذا خرج منه يعود إليه» (ورجلان تحابا) بتشديد الموحدة وأصله تحاببا: أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما صاحبه حقيقة لا ظاهراً فقط، و «في» في قوله: (في ا) تعليلية (اجتمعا عليه) هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري «اجتمعا على ذلك» والمشار إليه ومرجع الضمير هو الحب المدلول عليه بقوله تحابا (وتفرقا عليه) المراد أنهما داما على المحبة ولم يقطعاها لعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق بينهما الموت، وعدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان لأنها لا تتم إلا باثنين.H ولما كان المتحابان بمعنى واحد كان عد أحدهما مغنياً عن الآخر، لأن الغرض عدّ الخصال لا عد جميع المتصف بها وهذا مقصود الترجمة (ورجل دعته امرأة ذات منصب) أي أصل وشرف (وجمال) وصفها بالأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه، وقل من يجتمع فيها ذلك من النساء، والمراد دعته إلى نفسها كما زاد ابن المبارك في روايته، وعن البيهقي في «الشعب» من حديث أبي هريرة «فعرضت نفسها عليه» والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة وبه جزم القرطبي ولم يحك غيره، وقال بعضهم: يحتمل أنها دعته إلى التزويج فخشي أن يشغله عن عبادة مولاه والافتتان بها، أو خاف أن لا يقوم بحقها لشغله بالعبادة عن التكسب لها. والأول أظهر ويؤيده وجود الكناية في قوله إلى نفسها، ولو كان المراد التزويج لصرح به، والصبر عن الموصوفة بما ذكر من أكبر المراتب لكثرة الرغبة في مثلها وعسر تحصيلها سيما وقد أغنت عن مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها (فقال: إني أخاف ا) في رواية كريمة «ربّ العالمين» والظاهر أنه يقول بلسانه ليزجرها وتعتبر بقلبها ويحتمل أنه بقلبه، قاله عياض، قال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله ومتين غوى وحياء (ورجل تصدّق) بلفظ الماضي، قال
الكرماني: جملة حالية بتقدير قد (بصدقة) نكرها ليشمل كل ما تصدق به من قليل وكثير، وظاهره يشمل المفروضة والمندوبة لكن نقل المصنف أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها (فأخفاها حتى لا تعلم) بضم الميم وفتحها (شماله ما تنفق يمينه) هكذا في معظم الروايات في البخاري وغيره، ووقع في صحيح مسلم مقلوباً «حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله» وقد بسط الحافظ في «الفتح» في بيان من وهم بذلك، وما في البخاري هو الصواب وهو وجه الكلام لأن السنة في الصدقة إعطاؤها باليمين. والقصد من الحديث الحثّ على المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث إن شماله مع قربها من(3/248)
يمينه وتلازمها لو تصوّر أنها تعلم لما علمت ما فعلت اليمين لشدة إخفائها فهو على هذا من مجاز التشبيه، ويؤيده أنه جاء في رواية «تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه عن شماله» ويحتمل أن يكون من مجاز لحذف أي حتى لا يعلم ملك شماله (ورجل ذكر الله تعالى) أي بقلبه من التذكر أو بلسانه من الذكر (خالياً) أي عن الخلق لأنه حينئذٍ يكون أبعد من الرياء. أو المراد خالياً عن الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ، ويؤيده رواية البيهقي «ذكر الله بين يديه» ويؤيد الأول رواية ابن المبارك وحماد بن زيد «ذكر الله خلاء» أي في موضع خال وهي أصح (ففاضت عيناه) في فاضت الدموع منهما وإسناد الفيض إليهما مبالغة كأنها هي التي فاضت» قال القرطبي: وفيض العين بحسب حال الذاكر وما ينكشف له، فبكاؤه خشية من الله تعالى حال أوصاف الجلال، وشوقاً إليه سبحانه حال أوصاف الجمال. قال الحافظ في «الفتح» وذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له فيما ذكر إلا إن أريد بالإمام العادل الإمامة العظمى وإلا فيمكن دخول المرأة حيث تكون ذات عيال فتعدل فيهم ويخرج خصلة ملازمة المسجد لأن صلاتها في بيتها أفضل من المسجد، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن.
فائدة: أورد الحافظ السخاوي في «جزئه» المسمى بالخصال الموجبة للظلال تسعة وثمانين خصلة ذكر أدلة ذلك وما ورد فيه في آخره أن الأديب معمر بن عبد القوي المكي المالكي نظمها على ترتيب لها في جزئه فقال:
أناس روينا في الصحيحين سبعة
يظلهم الرحمن في برد ظله
وقد حازهم زين الهدى شيخ وقته
أبو شامة في النظم منه بقوله
محب عفيف ناشىء متصدق
وباك مصلّ والإمام بعدله
وزاد عليه شيخ الإسلام عدة
ثلاثة سبعات رواها بنقله
وأبرزها نظماً فقال ونظمه
هو الدر لا نظم يكون كمثله
وزد سبعة: إصلال غاز وعونه
وإنظار ذي عسر وتخفيف حمله
وحامي غزاة حين ولوا وعون ذي
غرامة حق مع مكاتب أهله
وزد مع ضعف سبعتين إعانة
لأخرق مع أخذ لحق وبذله
وكره وصبر ثم مشي لمسجد
وتحسين خلق ثم معظم فضله
وكافل ذي يتم وأرملة وهت
وتاجر صدق في المقال وفعله
وحزن وتصبير ونصح ورأفة
تربع بها السبعات من فيض فضله
وقد زاد فيما بعد ستاً ولم تقع
منظمة منه كسابق قوله
وفي نظمها حكم لغير كنفسه
محب لسيف الله شيعة عدله
وترك الزنا ترك الرياء ورشوة
وأول إنعام نهاية كله
فأربعة صار الجميع وقبلها
ثلاثون فاقرأ العلم تحظ بنيله
وزاد عليها حافظ العصر شيخنا
وعلامة الإسلام جامع شمله
عنيت السخاوي الذي كل عالم
يروي صداه من تفيض فضله(3/249)
ثمانية من بعد خمسين خصلة
تتبعها فيما رواه وأصله
فدونكها نظماً ليحسن حفظها
بأحسن تعليم يكون بسهله
فأولها في العد: من هو ساكت
بحلم وذو ثبت بعلم وعقله
ومن حفظ القرآن في حال صغره
وقاد كبيرا في الأنام بحمله
مراقب شمس للمواقيت تاجر
أمين بلا مدح وذم لرحله
عيادة مرضى ثم تشييع ميت
ومن لم يخف في الله لوماً لعدله
وقبض يد عن غير حق وغضة
لطرف عن المحظور قصداً لحله
وترك غريم ثم فضل لمعسر
وإشباع ذي جوع يتوق لأكله
وواصل رحم ثم رحمة أيم
بأيتامها تعني بيتم وشغله
وصانع طعم لليتيم وموقن
عليه رقيقاً في ارتحال وحله
محب لخلق الله يبغي جلاله
مؤذن فرّاج لكرب» وكله
ومحيي طريقاً للنبي ومكثر
صلاة عليه في النهار وليله
وحامل قرآن قراءة أصفيا
كذا أنبياء الله أكرم بأهله
وإفراد إبراهيم بالذكر منهم
عليّ ونجلاه فطوبى لنجله
مريض وذو جوع وصوم وهائم
ثلاثة عشر من مرحب حوله
مصلّ بقرآن أتى بعد مغرب
وأطفال أتباع النبي وسبله
ونجل رسول الله ذكرنا به
وغير حسود والعقوق لأصله
وتارك مشي بالنميمة ظاهر
برىء ومذكور بذكر الموله
منيب لدى ذكر الإله وغاضب
بحرمته ثم المحب لأجله
وعمار بيت الله جل جلاله
ومستغفر الأسحار يا طيب قوله
ومذكور رب الناس ذاكره كذا
شهيد ومن في أحد فاز بقتله
معلم أبناء وأخيار ديننا
أمانة أمر بالجميل وفعله(3/250)
ونهى وداعي الخير واختم بخاتم
النبيين حب الله أكرم رسله
عليه صلاة الله ثم سلامه
وآل وأصحاب كرام بوصله
وقد كملت تسعين تعجز واحد
مبينة جاءتك من فيض فضله
ونسأل مولانا الكريم إلهنا
يصيرنا ممن يظل بظله اهـ
(متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي كلهم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد، ورواه مسلم أيضاً عن أبي هريرة وأبي سعيد معاً كذا في «الجامع الصغير» .
3377 - (وعنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى يقول) فيه رد على من يكره أن يؤتى بالمضارع في القول المحكي عنه تعالى لأنه كلامه قديم أزلي. والجواب أن الإتيان به للدلالة على أنه مستمر أبدي (يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي) والسؤال عنهم مع علمه بمكانهم وغيره من أحوالهم، لينادي بفضلهم في ذلك الموقف ويصرح به وعظمته واللام فيه للتعليل: أي تحابوا لجلاله وعظمته لا لغرض سوى ذلك من دنيا أو نحوها، وروي بجلالي، قال العاقولي: أي في جلالي، فالباء بمعنى «في» وخص الجلال بالذكر لدلالته على الهيبة والسطوة وأنهم في حبهم قائمون بحق تعظيمه والخوف منه مطرقون إجلالاً لهيبته، فجمع بينهما هذا الوصف العظيم لا كما يجمع حب أهل المحابين على شهواتهم الخسيسة الباعثة على ترك الهيبة وإلقاء جلباب الحياء هيهات كم بين المحبتين اهـ. (اليوم أظلهم في ظلي) قال القاضي عياض: إضافة الظل إليه تعالى إضافة ملك. قال الحافظ: ولو قال إضافته تشريف لكان أولى، والمراد ظل العرش، وجاء في غير مسلم «ظل عرشي» قال القاضي: ظاهره أي في ظله من الحرّ والشمس ووهيج الموقف وأنفاس الخلق، قال: وهذا قول الأكثر. وقال عيسى بن دينار: معناه أمنه من المكاره وأنه تعالى يكرمه ويجعله في كنفه وستره، ومنه قولهم «السلطان ظلّ الله في أرضه» وقيل الظل هنا عبارة عن الراحة والنعيم يقال هذا عيش ظليل: أي طيب (يوم لا ظل إلا ظلي) أي لا يكون في(3/251)
ذلك اليوم من ظل ظل مجازاً كما في الدنيا (رواه مسلم) وأحمد، وهو من الأحاديث القدسية، وقد جمع منها الحافظ العلائي أربعين حديثاً، وفي روايته طريقتان إحداهما كما ذكر المصنف. والثانية أن يقال عن النبي عن ربه تعالى أنه قال، والفرق بين الحديث والقرآن من وجوه: انتفاء الإعجاز، وجواز روايته بالمعنى، وعدم تعلق الثواب بقراءة ألفاظه، وجواز مسه وحمله مع الحدث وقراءته مع الجنابة وغير ذلك.
4378 - (وعنه قال: قال رسول الله: والذي نفسي بيده) أقسم لتأكيد الأمر وتحقيقه والقسم يندب لذلك (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا) أي ويأمن كل منكم صاحبه بوائقه كما جاء في الحديث (ولا تؤمنوا) قال المصنف: هكذا في جميع الأصول والروايات بحذف النون وهي لغة معروفة صحيحة اهـ. وفي التسهيل وحذفها لغير ناصب وجازم نادر. قال المرادي في «شرحه» وقال بعض النحويين: إنه ضرورة، قال العاقولي: وأما إثبات النون في بعض نسخ «المصابيح» فمن إصلاح الناظرين وحذف النون نظراً لحذفها فيما قبله فأتبعه ما بعده مشاكلة، وأعاده ليعلق عليه حكماً آخر، والمراد لا تؤمنوا إيماناً كاملاً ولا يؤمن بعضكم بعضاً (حتى تحابوا) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً وتشديد الموحدة والأصل تتحاببوا لأن المحب يأمن من محبوبه (أو لا أدلكم) الهمزة للاستفهام والواو عاطفة على محذوف مقدر بعد الهمزة. أي أتتركوا التحاب ولا أدلكم (على شي إذا فعلتموه تحاببتم) فالاستفهام وارد على الهيئة المجموعية (أفشوا) بقطع الهمزة المفتوحة (السلام بينكم) فيه الحث على إفشاء السلام وبذله للمسلم «من عرفت ومن لم تعرف» والسلام أول أسباب التآلف ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضم لبعض وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل مع ما فيه من رياضة النفس والتواضع وإعظام حرمات المسلمين (رواه مسلم) في كتاب الإيمان من صحيحه، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه قاله المنذري في الترغيب.(3/252)
5379 - (وعنه عن النبي: أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكاً وذكر) أي أبو هريرة (الحديث) المذكور في الباب قبله (إلى قوله: إن الله قد) للتحقيق (أحبك) أي أراد بك خيراً (كما أحببته فيه. رواه مسلم وقد سبق في الباب قبله) لكن لما تعلق عرض الترجمة بقوله منه: «إن الله قد أحبك» الخ أورده.
6380 - (وعن البراء) بتخفيف الراء والمد (ابن عازب) صحابي ابن صحابي، ولذا نبه عليه بقوله: (رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: في) حق (الأنصار) هم أولاد الأوس والخزرج، وتقدم أنه اسم إسلامي، سموا به لنصرهم الإسلام ومبالغتهم فيها (لا يحبهم إلا مؤمن) لأن لهم في الإسلام الأيادي الجميلة من النصر والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام وحبهم النبي وحبه إياهم وبذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثاراً للإسلام (ولا يبغضهم) مع ذلك (إلا منافق) ومحل ذلك أن أبغضهم من الحيثية المذكورة، أما إذا كان بغضه لأحد منهم لخصام أو لأمر اقتضاه معه بخصوصه فلا (من أحبهم) أي تعالى (أحبهالله، ومن أبغضهم أبغضه ا) كما يدين الفتى يدان (متفق عليه) .
7381 - (وعن معاذ) بضم الميم وبالعين والذال المعجمة: ابن جبل (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله عزّ وجلّ: المتحابون) بتشديد الموحدة: أي(3/253)
المتحابون (في جلالي) في تعليلية كما تقدم (لهم منابر من نور) يجلسون عليها، وفي حديث الطبراني عن أبي أيوب مرفوعاً: «المتحابون في الله على كراسيّ من ياقوت حول العرش» والمنابر جمع منبر بكسر فسكون ففتح، من النبر وهو العلو (يغبطهم النبيون والشهداء) الغبطة تمني مثل ما للغير منا لخير من غير زواله عن صاحبه، فدل هذا الحديث القدسي على أن لهؤلاء العباد منازل شريفة عظيمة في الآخرة، ولا يلزم من تمني الأنبياء أن يكون أولئك أفضل من الأنبياء، لأنه قد يكون لك مائة فرس من العتاق ثم ترى لأخيك فرساً فتشتهي أن تشرتيه منه أو تشتري مثله وهذا من هذا القبيل، ويجوز أنه لم يقصد النظر إلى معنى الغبطة أصلاً، وإنما أريد بيان فضلهم وشرفهم عند الله فقط (رواه الترمذي) في الزهد من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) .
8382 - (وعن أبي إدريس) اسمه عايذ الله بتحتية ومعجمة، ابن عبد الله (الخولاني) نسبة إلى خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن يشجب، قبيلة نزلت الشام، كذا في «لبّ اللباب» للأصبهاني، ولد أبو إدريس (رحمه ا) عام حنين وهو من كبار التابعين، روى عنه الزهري، توفي سنة ثمانين. قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء (قال دخلت مسجد دمشق) بكسر الدال المهملة وفتح الميم، وحكى في المطالع كسرها، أعظم بلاد الشام (فإذا فتى براق) بتشديد الراء (الثنايا) أي أبيض الثغر حسنه، وقيل معناه كثير التبسم (وإذا الناس معه) أتباع له لكونه صحابياً عالماً فقيهاً (فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقيل هو معاذ بن جبل) هو الأنصاري الذي قال في حقه: «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ» وقال السيوطي: قال الباجي قال أحمد بن خالد: وهو أبو حازم، وفي هذا القول نظر وإنما هو عبادة بن الصامت، فقد رواه شعبة عن يعلى عن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن أبي إدريس الخولاني «قال. لقيت عبادة بن الصامت» فذكر الحديث، وقال ابن عبد البر: زعم قوم أن هذا الحديث خطأ، وأن مالكاً وهم فيه، وأسقط من إسناده أبا مسلم الخراساني، وزعموا أن أبا إدريس رواه عن(3/254)
أبي مسلم عن معاذ.
وقال آخرون: وهم فيه أبو حازم، قال: وذا كله تخرّص. وقد روي عن أبي إدريس من وجوه شتى غير طريق أبي حازم أنه لقى معاذاً وسمع منه فلا شيء في ذلك على مالك ولا على أبي حازم اهـ. قلت: وحديث أبي مسلم عن معاذ رواه ابن حبان في صحيحه بنحو حديث أبي إدريس (فلما كان) أي حصل (من الغد هجرت) أي إلى المسجد (فوجدته قد سبقني بالتهجير) لمسارعته إلى طريق البر واهتمامه به (ووجدته يصلي) نافلة (فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه) فيه تنبيه على أن الأدب لمن ورد على مشغول با تعالى أن لا يشغله ويلهيه عما هو فيه، فقد ورد «من أشغل مشغولاً با أدركه المقت في الوقت» وفيه أن الأدب قصد الإنسان من قبل وجهه كما يستحب الدخول إلى البيت من باب السلام لأنه من جهة وجه البيت (فسلمت عليه ثم قلت: وا إني لأحبك) القسم للتأكيد وكأنه طلباً لإقباله عليه (فقال آ) بهمزة الاستفهام الممدودة المعوض بها عن حرف القسم فلذا وجب جر ما بعدها (قال) أبو إدريس (ا) ضبطه المصنف بالهمزة المقصورة، وهو مجرور لنيابة الهمزة مناب حرف القسم (فقال) أي تأكيداً للقسم (ا، فقلتالله، فأخذ بحبوة ردائي) يحتمل أن تكون الإضافة بيانية، ويحتمل أن تكون بمعنى اللام والحبوة من الاحتباء (فجبذني إليه) قال في «النهاية» : الجبذ لغة في الجذب، وقيل هو مقلوب منه، وفي «المصباح» : جبذه جبذاً من باب ضرب مثل جذبه، قيل مقلوب منه لغة تميمية، وأنكره ابن السراج وقال: ليس أحدهما ماخوذاً من الآخر لأن كل واحد يتصرف في نفسه (فقال أبشر) بقطع الهمزة وكسر الشين، ويجوز وصل الهمزة وفتح الشين وضمها، قال في «المصباح» بشر بكذا يبشر من باب فرح وزناً ومعنى وهو الاستبشار أيضاً. ويقال بشرته أبشره من باب قتل في لغة تهامة، وتكون البشرى في الخبر السار واستعمالها في الشرّ قليل للتهكم اهـ. وحذف المبشر به لدلالة الحديث عليه وهو قوله: (فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله
تبارك وتعالى: وجبت محبتي) من الوجوب وهو الثبوت: أي ذلك كائن لا محالة (للمتحابين فيّ) أي من أجلي لا لعرض ولا لغرض (والمتجالسين فيّ(3/255)
والمتزاورين فيّ) تفاعل من الزيارة (والمتباذلين في) تفاعل من البذل. قال الباجي: أي الذين يبذلون أنفسهم في مرضاتي من الإنفاق على عدوه وغير ذلك مما أمروا به، والمراد أنا فاعل كل هذه الأمور من الجانبين كما يدل عليه صيغة التفاعل إذا كان لوجه الله تعالى لا لعرض فانٍ، ولا لغرض فإنه تجب له محبة مولاه، وهذا أعظم الجزاء وأشرف الحياء فيدل على شرف هذا. وقد ورد «من أحبّ وأبغض وأعطى ومنع فقد استكمل الإيمان» كما تقدم (حديث صحيح رواه مالك في الموطأ بإسناده الصحيح) فإنه رواه فيه عن أبي حازم عن أبي إدريس الخولاني، قال الحافظ المنذري في «الترغيب» : وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» وصححه وقوله (هجرت) أي (بكرت) ومنه حديث «لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه» (وهو بتشديد الجيم) قال في «النهاية» : التهجير التبكير إلى كل شيء والمبادرة إليه، يقال هجر تهجيراً فهو مهجر، وهي لغة حجازية (قوله آ، فقلت أ، الأول بهمزة ممدودة، والثاني بلا مد) قال الشيخ نفيس الدين العلوي: ومن خطه نقلت سماعاً في «الموطأ» بالمد فيهما، ثم إن المصنف سكت عن بيان إعرابهما. قال النحاة: والعبارة للرضى في «شرح الكافية» : إذا حذف حرف القسم الأصلي أعني الباء فإن لم يبدل منه فالمختار النصب بفعل القسم، ويختص لفظ الله بجواز الجرّ مع حذف الجار بلا عوض. قلت: عبارة «الجامع الصغير» تومىء إلى وجوب الجرّ حينئذٍ ويختص لفظ الله بتعويض لفظها أو همزة الاستفهام من الجار، وكذا عوض من الجار فيها قطع همزة الله في الدرج، وكأنها حذفت للدرج ثم ردت عوضاً من الحروف، وجار الله جعل هذه الأحرف عوضاً من الواو، ولعل ذلك لاختصاصها بلفظالله، ثم قال: وإذا دخلت همزة الاستفهام على الله فإما أن تبدل همزة الله ألفاً صريحة وهو الأكثر وتسهل كما
هو القياس في الرجل ونحوه ولا تحذف للبس ولا تبقى للاستثقال، قال: ودليل كون هذه الثلاثة إبدالاً معاقبتها لحرف القسم ولزوم الجر معها دون النصب مع أن النصب بلا عوض أكثر اهـ. ملخصاً. وفي «شرح الجامع الصغير» : المغاربة كما قال أبو حيان يعبرون عن هذه الهمزة بهمزة الاستفهام، والمراد الصورة لا معنى الاستفهام، قال: وقد قرىء
{ولا نكتم شهادة ا} (المائدة: 106) بتنوين شهادة(3/256)
وقطع الهمزة، فلذا سموها ألف القطع، وليس المراد إلا قطع همزة الوصل التي مع لام التعريف في الاسم المعظم لأن هناك ألف قطع جيء بها عوضاً من حرف القسم لكنهم يتسامحون فيعبرون عنها بألف القطع كذلك اهـ.
9383 - (وعن أبي كريمة) بوزن حليمة، وقيل أبو يحيى (المقداد) بكسر الميم وسكون القاف وبالدال المهملة (ابن معدي يكرب) بكسر الدال وفتحها وسكون الباء تخفيفاً، ويجوز في كرب لغات مع الصرف وإضافة الأول إليه مصروفاً وممنوعاً، وأصل معنى معدي كرب في لغة قحطان أو حمير: وجه الفلاح، وفي لغة غيرهم معنى معدي يكرب: يا من جاوز الحد، نبه على الأول السهيلي، وعلى الثاني الشيخ خالد الأزهري في «شرح التوضيح» ، ابن سناد بن عبد الله بن وهب بن ربيعة بن الحارث بن معاوية بن ثور بن عفير الكندي (رضي الله عنه) كذا نسبه ابن عبد البرّ، وقيل غير ذلك، وهو أحد الوفد الذين قدموا على النبيّ من كندة بالشام، توفي سنة سبع وثمانين وهو ابن إحدى وتسعين سنة، روى له عن النبيّ سبعة وأربعون حديثاً، كذا في «المستخرج» المليح لابن الجزري (عن النبيّ: إذا أحبّ الرجل أخاه) في الله - صلى الله عليه وسلم - تعالى (فليخبره) ندباً، وعند بعضهم فليعلمه (أنه يحبه) على تقدير الجار. وحكمته أنه سبب لمزيد الحبّ وتأكده (رواه أبو داود والترمذي وقال) الترمذي: (حديث حسن صحيح) ورواه أحمد بسند صحيح والبخاري في «الأدب المفرد» ولفظه كما قال السخاوي في «المقاصد» أنه أحبه، ورواه ابن حبان والحاكم وصححاه.
10384 - (وعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده) تأنيساً وتلطفاً معه (وقال: يا معاذ وا) أتى به للتأكيد المطلوب لأجله القسم (إني لأحبك ثم أوصيك يا معاذ) وهذا الحديث أوفى شاهد على فضل معاذ وكمال استقامته واهتمامه بأمور ديانته حيث حصل له هذا المقام الأسنى من المصطفى، وذكره توطئة وبعثاً له على امتثال أمره بعده. قال بعضهم: لما صحت محبة معاذ النبيّ جازاه بأعلا منها كما هو عادة الكرام، ولا أكرم منه(3/257)
ولذا أكده بإن واللام (لا تدعن) أي لا تتركن (في دبر) بضم المهملة والموحدة: أي عقب (كل صلاة) أي مفروضة (تقول) أي أن تقول، أو قولك فهو كما تقدم نظير قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» ، وهو في محل المفعول لتدع (اللهم أعني) بقطع الهمزة (على ذكرك) الشامل للقرآن وسائر الأذكار (وشكرك) أي شكر نعمتك الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية التي لا يمكن إحصاؤها (وحسن عبادتك) أي بالقيام بشرائطها وأركانها وسننها من خضوع وخشوع وإخلاص واستغراق وتوجه تام (حديث صحيح، رواه أبو داود والسنائي بإسناد صحيح) بل قال الحاكم في موضعين من «مستدركه» : إنه على شرط مسلم، وتعقبه الحافظ في تخريج الأذكار النووية فقال: أما قوله إنه صحيح فمسلم، وأما قوله على شرطهما ففيه نظر فلم يخرجا لبعض رواته وأخرج الحديث أيضاً أحمد والطبراني في كتاب الدعاء وابن حبان في «صحيحه» .
11385 - (وعن أنس رضي الله عنه) قال (إن رجلاً كان عند النبي، فمرّ رجل) وهو عند النبي (فقال: يا رسول الله إني لأحب هذا) كان الداعي إلى التأكيد التردد الناشيء مما يدل عليه حاله (فقال له النبي: أعلمته) بتقدير همزة الاستفهام قبله (قال لا، قال أعلمه) أي ندباً، ويحتمل أن يكون أمر ذلك بخصوصه على سبيل الوجوب لتهاجر كان بينهما أو تقاطع (فلحقه فقال: إني أحبك في ا) أي تعالى (فقال) أي ذلك المعلم (أحبك الذي أحببتني له) عدل إليه عن الإتيان بالاسم الجامع إعلاماً بسبب حبه تعالى لذلك وإيماء إليه، قال العاقولي: والجملة دعائية أخرجها مخرج الماضي تحققاً له وحرصاً على وقوعه (رواه أبو داود بإسناده صحيح) .(3/258)
47 - باب علامات حب الله تعالى العبد
بالنصب مفعول المصدر، ويجوز جر باللام القوية للعامل لضعفه (والحث) عطف على علامات والتحريض (على التخلق بها) أي بتلك الخصال للمحبوب (والسعي في تحصيلها) ليستدل به بوجودها على وجوده فإن شأن العلامة الإطراد.
(قال الله تعالى) : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} ) أي تدعون محبته، نزلت لما قالت اليهود {نحن أبناء الله وأحباؤه} أي إن كنتم كذلك فاتبعوني، فعلامة حبه تعالى العبد توفيقه لاتباع المصطفى قولاً وفعلاً، وقوله ( {يحببكم ا} ) جواب الشرط المقدر: أي إن تتبعوني يحببكم الله ( {ويغفر لكم ذنوبكم} ) ولا يخفى ما في هذه الآية من الوعد للمتبعين بالمحبة من المولى وغفران الذنب، وهذه تقدم الكلام عليها في باب المحافظة على السنة وآدابها وفي باب النهي عن البدع وزاد هنا خاتمة الآية: أي قوله ( {وا غفور رحيم} ) وهو كالدليل لما تضمنه قوله: {ويغفر لكم ذنوبكم} .
(وقال تعالى) : {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم} ) بالكفر ( {عن دينه} ) قال البيضاوي: وهذا من الكائنات التي أخبر الله عنها قبل وقوعها، وقد ارتد، من العرب في آخر عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنو مدلج وبنو حنيفة وبنو أسد، فقتل العنسي رئيسي بني مدلج الذي تنبأ ليلة قبض النبي، قتله فيروز، وأخبر به النبي فسرّ به المسلمون وأتى الخبر بذلك أواخر ربيع. ومسيلمة رئيس بني حنيفة وادعى النبوة، قتله وحشي قاتل حمزة، وبنو أسد قوم طليحة بن خالد تنبأ فبعث إليه النبي خالد بن الوليد ففرّ إلى الشام، ثم أسلم وحسن إسلامه. وقد ارتد في عهد الصديق سبع: فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم قرة بن سلمة، وبنو سليم قوم الفجاجة بن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاج بنت المنذر المتنبئة زوجة(3/259)
مسيلمة، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل قوم الحطم، وكفى الله أمرهم على يده وفي إمرة عمر: غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشام ( {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} ) يل هم أهل اليمن لما روي «أنه عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبي موسى وقال: هم قوم هذا» وقيل سلمان لما روي «أنه سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال: وذووه» وقيل الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس، والراجع إلى من محذوف والتقدير: فسوف يأتي الله بقوم مكانهم (
{أذلة على المؤمنين} ) عاطفين عليهم متذللين، جميع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل واستعماله مع «علي» إما لتضمين معنى العطف والحنو، أو التنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين حافظون لهم، أو لمقابلة ( {أعزة على الكافرين} ) أي شداد متغلبين عليهم، من عزّة إذا غلبه، وقرىء بالنصب على الحال ( {يجاهدون في سبيل ا} ) صفة أخرى لقوم أو حال من الضمير في أعزة ( {ولا يخافون لومة لائم} ) عطف على يجاهدون، بمعنى أنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلب في دينالله، أو حال بمعنى أنهم يجاهدون وحالهم خلاف المنافقين فإنهم يخرجون مع المسلمين في الجهاد خائفين ملامة أوليائهم من اليهود فلا يعلمون ما يلحقهم به لوم من جهتهم، واللومة المرة من اللوم، وفي تنكير لائم مبالغتان (ذلك) أي ما تقدم من الأوصاف ( {فضل الله يؤتيه} ) يمنحه ويوفق له ( {من يشاء} ) من خلقه ( {وا واسع} ) كثير الفضل ( {عليم} ) بمن هو أهله.
1386 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إن الله تعالى قال) هكذا أورده هنا بصيغة الماضي وفي الأربعين، يقول بصيغة المضارع، وعلل بعض الشراح بقوله مضارعاً لأن المضارع يدل على الحال الخاص (من عادى لي ولياً) من الولي بسكون اللام وهو القرب والدنوّ فهو القريب من الله لتقربه إليه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، أو من المولاة ضد المعاداة فهو من تول الله بالطاعة والتقوى فتولاه بالحفظ والنصر وقدم الظرف للاختصاص: أي من اتخذ ولياً لي لا لغيري عدواً (فقد آذنته) بالمد أي أعلمته (بالحرب) أي إني محارب له عنه: أي مهلكه بأخذه على غرة، وهذا وعيد شديد(3/260)
لمعاندته ومعاداته من أحبّ الله تعالى، ويلزم من ثبوت محاربته تعالى لأعداء أوليائه ثبوت موالاته لمن والاهم (وما تقرب إليّ عبدي) إضافته إضافة تشريف (بشيء) أي بأداء شيء (أحبّ إلى ما افترضته عليه) أي من أداء ما افترضته عليه عيناً كان أو كفاية، وإنما كان أحبّ إليه من النفل لأنه أكمل من حيث إن الأمر به جازم متضمن للثواب على فعله والعقاب على تركه بخلافه، فإن الأمر به غير جازم يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، ولأنه كما قيل جزء من سبعين جزءاً من الفرض (وما يزال عبدي يتقرّب إليّ) بعد أداء فرائضه (بـ) ـــأداء (النوافل) من صلاة وصيام وحج وصدقة (حتى أحبه، فإذا أحببته) ورضيت عليه وأردت به الخير (كنت سمعه) يجوز أن يكون على تقدير مضاف فيه وفيما عطف عليه: أي حافظ سمعه وهو القوة المرتبة في العصب المفروشة على سطح باطن الصماخ يدرك بها الأصوات بتموج الهواء وقوله (الذي يسمع به) صفة توضيحية جيء بها للتأكيد، ويجوز أن تكون مخصصة احترازاً من اليد وللرجل الشلاّوين: أي حافظة عن أن يسمع به ما لا يحل سماعه من غيبة ونميمة وما في معناهما (وبصره الذي يبصر به) هو قوّة مرتبة من العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان وتفترقان إلى العينين يدرك بها الألوان ونحوها، ويؤخذ
من تقديم السمع عليه أنه أفضل منه ولأنه شرط النبوة، وقيل إنه من باب الترقي لأن متعلق البصر الأنوار ومتعلق السمع الريح وهو يرى من بعيد: أي حفظ عما يحرم النظر إليه من الصور المحرمة (ويده التي يبطش بها) فلا يبطش إلا فيما يحل (ورجله التي يمشى بها) فلا يمشى إلا فيما يحل. وحاصل ذلك حفظ جوارحه وأعضائه حتى يقلع عن الشهوات ويستغرق في الطاعات فلا يسمع ولا يبصر إلا ما ورد به الشرع وكذا اليد والرجل. ويجوز أن يكون مجازاً عن نصره وتأييده فكأنه تعالى نزل نفسه منزلة جوارحه التي يدرك بها ويستعين بها تشبيهاً، وزيادة «فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي» هذا والاتحادية والحلولية قبحهم الله يزعمون أن هذا في حقيقته، وأنه تعالى عما يقولون علواً كبيراً حالّ فيه ومتحد به (وإن سألني أعطيته) بتاء الضمير، وحذف المفعول الثاني لدلالة قوله «سألني» عليه: أي أعطيته سؤاله (ولئن استعاذني لأعيذنه» ) وأكد هذه الجملة بالقسم(3/261)
ونون التوكيد اهتماماً بمضمونها لأنه درء مفسدة، وذلك جلب مصلحة، والأول أهم والعناية به أتم (رواه البخاري) منفرداً به عن باقي الكتب الستة، ورواه ابن حبان في «صحيحه» وأبو نعيم في «حليته» والبيهقي في «الزهد» . قال السخاوي بعد أن تكلم على رجال إسناده: ولذا قال الذهبي وقد أورد الحديث في «الميزان» في ترجمة خالد بن محمد: إنه غريب جداً انفرد به خالد، ولولا هبة «الجامع الصحيح» لعدوه من منكرات خالد وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما تفرد به شريك ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد: قال السخاوي: وهذا الحصر متعقب، فقد قال ابن حبان عقب إيراده لهذا الحديث ما نصه «لا يعرف له إلا طريقان، وهما هشام الكناني عن أنس وعبد الواحد بن ميمون عن عروة عن عائشة، قال: وكلا الطريقين لا يصح، وإنما الصحيح ما ذكرنا: أي طريق خالد عن شريك بن عبد الله عن أبي نمر عن عطاء وهو ابن يسار عن أبي هريرة. قال السخاوي: وحصره في الطريقين مردود،
فقد رواه الطبراني عن أبي أمامة من طريق علي بن يزيد. قال السخاوي: وهو ضعيف، بل قال أبو حاتم الرازي: إن الحديث منكر، وروى الطبراني أيضاً من طريق حذيفة بنحوه وسنده حسن، وأخرجه ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب بنحوه وسنده ضعيف، وأخرجه أبو يعلى بسند ضعيف عن ميمونة أم المؤمنين، وأخرجه الطبراني عن ابن عباس بنحوه اهـ. ملخصاً. وهو أصلي في السلوك والتقرب إلى الله تعالى والتعرف إليه والوصول إلى معرفته ومحبته لأن المفترض: إما باطن وهو الإيمان، أو ظاهر وهو الإسلام، أو مركب منهما وهو الإحسان المتضمن لسلوك السالكين كالإخلاص والزهد والتوكل والمراقبة (معنى آذنته) بالمد (أي أعلمته بأنى محارب له) في العبارة تسامح إذ هذا معنى آذنته بالحرب، لا معنى آذنته فقط، والأمر سهل.
(
وقوله استعاذني روي بالباء) أي استعاذ مستعيذاً بحولي وقوّتي في الحفظ من كل مؤذ كما يؤذن به حذف المعمول (وروي بالنون) .
فائدة: فقال: كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من مسعه في الاستماع وبصره في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي اهـ.
2387 - (وعنه عن النبي) قال تعالى: ( «إذا أحب الله العبد) بأن أراد له الخير والهداية والإنعام(3/262)
عليه والرحمة (نادى جبريل) الظاهر أنه نداء بالكلام النفسي المنزه عن الصوت وغيره من سمات الحدوث، ومذهب الشيخ أبي الحسن أن لا يشترط الصوت في المسموع خلافاً للماتريدي. وجبريل اسم عبراني للملك المعظم ومعناه بالعربية كما تقدم عبد الرحمن وهو أمين الوحي، قيل إنه أفضل الملائكة (إن الله تعالى يحبّ فلاناً) يحتمل أن يكون بفتح الهمزة مفعول نادى، ويحتمل كسرها بإضمار قول، ويؤيد هذا ما يجيء في الرواية الآتية «فدعا جبريل فقال: إني أحبّ فلاناً» وعبر بالمضارع إيماء إلى دوام ذلك الفضل لذلك المحبوب، واستمراره وفي الحديث «إن الله كريم يستحيي أن ينزع السر من أهله» وفي الحديث عن عبد الله بن عمر مرفوعاً «إن الله كريم يستحيي أن ينزع السر من أهله» وفي الحديث عن عبد الله بن عمر مرفوعاً «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله» (فأحببه) بفك الإدغام كما هي لغة الحجاز، ويجوز إن لم يصد عنه رواية الإدغام وهي لغة تميم (فيحبه جبريل) قال المصنف: محبته محتملة أن يراد استغفاره وثناؤه عليه ودعاؤه له وأن يراد بها ظاهرها المعروف من الخلق وهو ميل القلب إلى المحبوب وشوقه إلى لقائه، وسبب حبه إياه كونه مطيعاً لمولاه محبوباً له (فينادي) بالبناء للفاعل أي جبريل ويشهد له قوله في الرواية الثانية «ثم ينادي في السماء فيقول» ويجوز أن يكون مبنياً للمفعول وقوله: «إن الله يحبّ نائب» فاعله، وبقرينة ما قرينة للمفعول: أي يوضع (في أهل السماء) أي في الملائكة الساكنين بها (إن الله يحب فلاناً) نداؤه بذلك تنويه به وتشريك له في الملأ الأعلى وليحصل من المنزلة المنيفة على الحظ العظيم وهذا نحو قوله تعالى في الحديث القدسي «أنا مع عبدي إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» (فأحبوه)
الفاء فيه للتفريع (فيحبه أهل السماء) الفاء عاطفة على جملة ينادي والوجهان السابقان في محبة جبريل يجريان هنا من غير فرق (ثم يوضع له القبول في الأرض» ) المراد بالقبول الحب في قلوب أهل الدين والخير له والرضا به واستطابة ذكره في حال غيبته، كما أجرى الله عادته بذلك في حق الصالحين من سلف هذه الأمة ومشاهير الأئمة (متفق عليه) .
(وفي رواية لمسلم) أورد مسلم الروايتين المذكورتين أواخر كتاب البرّ والصلة. ووقع للحافظ المزي أنه ذكر أن مسلماً خرّج الحديث(3/263)
في الأدب من «صحيحه» فاعترضه الحافظ في «النكت الظراف» بما لفظه «كتاب الأدب فيما عندنا من صحيح مسلم بعد كتاب اللباس وبعد كتاب الأدب كتاب الطب وبعده كتاب الرؤيا وبعده كتاب القضاء وهو كبير وبعده كتاب البرّ والصلة وحديث: إذا أحبّ الله عبداً، بجميع طرقه في أثناء كتاب البر والصلة» اهـ. (قال رسول الله: إن الله تعالى إذا أحبّ عبداً) يحتمل كون التنوين فيه للتعظيم وعظمته بإضافته إلى مولاه وتأهيله لخدمته والقيام بعبوديته (دعا جبريل فقال: إني أحبّ فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي) أي جبريل (في) أهل (السماء) ويحتمل ألا يكون مضاف مقدر ويكون بياناً لمحله حال ندائه لكن يشهد للأول قوله «فيحبه أهل السماء» وقوله في قرينه «ثم ينادي في أهل السماء» (فيقول: إن الله يحبّ فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً) التنوين فيه للتحقير والمراد من البغض المسند إليه تعالى غايته من إرادة الخذلان والإعراض والإبعاد (دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل) الإبغاض بالنسبة إليه وإلى الملائكة محتمل للحقيقة: أي الكراهية القلبية والنفرة النفسية وللمعنى المجازي أي دعاؤهم عليه بالطرد وأنواع المقت (ثم ينادي في أهل السماء فيقول: إن الله أبغض فلاناً فأبغضوه) الفعل في جميع ما ذكر من الإبغاض من باب الإفعال
من البعض. قال في المصباح بغض الشيء بالضم بغاضة فهو بغيض وأبغضته إبغاضاً فهو مبغض والاسم البغض، قالوا ولا يقال بغضته بغير ألف اهـ. (ثم توضع له البغضاء) بالمد هي شدة البغض (في الأرض) وحديث الباب رواه النسائي، وأيضاً كما ذكره الحافظ المزي ولم يرو فيه للبخاري مع أنه الأول عنده في أبواب الملائكة.(3/264)
3388 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً) قيل هو كلثوم بن الهدم بكسر الهاء وسكون الدال المهملة، وفيه نظر بأنه مات في أول قدوم النبي المدينة فيما ذكره الطبري وأصحاب المغازي قبل أن يبعث السرايا، وهذا قالت فيه عائشة إنه بعث (على سرية) بفتح أوله وتشديد التحتية، وهي القطعة من الجيش فعليه بمعنى فاعلة لأنها تسري في خفية وجمعها سرايا وسريات كعطية وعطايا وعطيات كذا في «المصباح» ، وفي «المواهب اللدنية» قال في «الفتح» : السرية التي تخرج بالليل، والنهارية التي تخرج بالنهار، قال: وقيل سميت سرية لأنه يخفى ذهابها، وهذا يقتضي أنها من السرّ ولا يصح ذلك لاختلاف المادة، وهي قطعة من الجيش تخرج ثم تعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة، يقال له منسر بالنون والمهملة، فإن زاد على الثمانمائة سمي جيشاً، فإن زاد على الأربعة آلاف سمي جحفلاً، والخميس الجيش العظيم وما افترق من السرية يسمى بعثاً اهـ. قال الحافظ في «الفتح» : ثم رأيت بعض من تكلم على العمدة فسر المبهم في الحديث بأنه كلثوم بن زهدم، وعزاه لابن منده، لكن رأيت بخط رشيد بن العطار نقلاً عن صفة التصوّف لابن طاهر عن ابن منده فسماه كرز بن هدم والله أعلم (فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم) لكونه إمامهم (فيختم بقل هو الله أحد) يدل على أنه يقرأ بغيرها، ففيه دليل جواز الجمع بين سورتين غير الفاتحة في ركعة واحدة (فلما رجعوا) أي عادوا من السرية (ذكروا ذلك) أي ما ذكر من ختمه بسورة الإخلاص (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ
فقال: سلوه) أصله اسألوه، فنقلت حركة الهمز إلى السين المهملة فحذفت همزة الوصل لذهاب المعنى الذي جيء بها لأجله (لأي شيء يصنع ذلك) أي ليرتب جزاءه على حسب نيته وقصده، ففيه إيماء إلى أن الأعمال بمقاصدها (فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن) فقد اشتملت على ما يجب له سبحانه من التوحيد وما يجوز في حقه من توجيه الخلق حوائجهم إليه وقصدهم إياه في سائر أمورهم وما يستحيل في حقه من كونه مولداً من شيء أو يتولد منه شيء، تعالى عما لا يليق به مما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبير.d وقال الدماميني: يحتمل أن يراد بقوله إنها صفة الرحمن أن فيها ذكر صفته كما إذا ذكر وصف فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصل وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف، ويحتمل أن يراد به غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بـ {قل(3/265)
هو الله أحد} ولعلها خصت به لاختصاصها بصفاته تعالى دون غيرها (فأنا أحبّ) تقديم المبتدأ للتأكيد لتكرار الإسناد وللاهتمام (أن أقرأ بها) أي محبة للدالّ على صفته تعالى (فقال رسول الله) لمن أخبره عنه بمراده أو لغيره من بعض الحاضرين (أخبروه) على وجه البشارة (أن الله يحبه) قال الدماميني: يحتمل أن يريد لمحبته قراءة هذه السورة، ويحتمل أن يكون لما يشهد به كلامه في محبته لذكر الربّ واعتقاده اهـ. وقد دلّ تبشيره بذلك على الرضا بفعله وعبر عنه بصيغة المضارع إيذاناً بدوام هذا الشأن واستمراره، قال ناصر الدين بن المنير، وفي الحديث أن المقاصد بغير أحكام الفعل، لأن الرجل لو قال، إن الحامل له على إعادتها أمر غير ما ذكره لأجابه بما يناسبه، فلما ذكر أن الداعي لذلك محبتها وظهرت صحة قصده لذلك صوّبه وقال: فيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس والاستكثار منه، ولا يعدّ ذلك هجراناً للبعض (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد، ومسلم في الصلاة ورواه النسائي في كتاب الصلاة أيضاً وفي اليوم والليلة، قاله الحافظ المزي.
3388 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً) قيل هو كلثوم بن الهدم بكسر الهاء وسكون الدال المهملة، وفيه نظر بأنه مات في أول قدوم النبي المدينة فيما ذكره الطبري وأصحاب المغازي قبل أن يبعث السرايا، وهذا قالت فيه عائشة إنه بعث (على سرية) بفتح أوله وتشديد التحتية، وهي القطعة من الجيش فعليه بمعنى فاعلة لأنها تسري في خفية وجمعها سرايا وسريات كعطية وعطايا وعطيات كذا في «المصباح» ، وفي «المواهب اللدنية» قال في «الفتح» : السرية التي تخرج بالليل، والنهارية التي تخرج بالنهار، قال: وقيل سميت سرية لأنه يخفى ذهابها، وهذا يقتضي أنها من السرّ ولا يصح ذلك لاختلاف المادة، وهي قطعة من الجيش تخرج ثم تعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة، يقال له منسر بالنون والمهملة، فإن زاد على الثمانمائة سمي جيشاً، فإن زاد على الأربعة آلاف سمي جحفلاً، والخميس الجيش العظيم وما افترق من السرية يسمى بعثاً اهـ. قال الحافظ في «الفتح» : ثم رأيت بعض من تكلم على العمدة فسر المبهم في الحديث بأنه كلثوم بن زهدم، وعزاه لابن منده، لكن رأيت بخط رشيد بن العطار نقلاً عن صفة التصوّف لابن طاهر عن ابن منده فسماه كرز بن هدم والله أعلم (فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم) لكونه إمامهم (فيختم بقل هو الله أحد) يدل على أنه يقرأ بغيرها، ففيه دليل جواز الجمع بين سورتين غير الفاتحة في ركعة واحدة (فلما رجعوا) أي عادوا من السرية (ذكروا ذلك) أي ما ذكر من ختمه بسورة الإخلاص (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: سلوه) أصله اسألوه، فنقلت حركة الهمز إلى السين المهملة فحذفت همزة الوصل لذهاب المعنى الذي جيء بها لأجله (لأي شيء يصنع ذلك) أي ليرتب جزاءه على حسب نيته وقصده، ففيه إيماء إلى أن الأعمال بمقاصدها (فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن) فقد اشتملت على ما يجب له سبحانه من التوحيد وما يجوز في حقه من توجيه الخلق حوائجهم إليه وقصدهم
إياه في سائر أمورهم وما يستحيل في حقه من كونه مولداً من شيء أو يتولد منه شيء، تعالى عما لا يليق به مما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبير.d وقال الدماميني: يحتمل أن يراد بقوله إنها صفة الرحمن أن فيها ذكر صفته كما إذا ذكر وصف فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصل وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف، ويحتمل أن يراد به غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بـ {قل هو الله أحد} ولعلها خصت به لاختصاصها بصفاته تعالى دون غيرها (فأنا أحبّ) تقديم المبتدأ للتأكيد لتكرار الإسناد وللاهتمام (أن أقرأ بها) أي محبة للدالّ على صفته تعالى (فقال رسول الله) لمن أخبره عنه بمراده أو لغيره من بعض الحاضرين (أخبروه) على وجه البشارة (أن الله يحبه) قال الدماميني: يحتمل أن يريد لمحبته قراءة هذه السورة، ويحتمل أن يكون لما يشهد به كلامه في محبته لذكر الربّ واعتقاده اهـ. وقد دلّ تبشيره بذلك على الرضا بفعله وعبر عنه بصيغة المضارع إيذاناً بدوام هذا الشأن واستمراره، قال ناصر الدين بن المنير، وفي الحديث أن المقاصد بغير أحكام الفعل، لأن الرجل لو قال، إن الحامل له على إعادتها أمر غير ما ذكره لأجابه بما يناسبه، فلما ذكر أن الداعي لذلك محبتها وظهرت صحة قصده لذلك صوّبه وقال: فيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس والاستكثار منه، ولا يعدّ ذلك هجراناً للبعض (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد، ومسلم في الصلاة ورواه النسائي في كتاب الصلاة أيضاً وفي اليوم والليلة، قاله الحافظ المزي.
48 - باب التحذير من إيذاء الصالحين
يحتمل أن يراد به المعنى الأعم: أي المسلمين كما حمل عليه الولد الصالح في قوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» الحديث، ويشهد لهذا الآية الأولى ويحتمل أن يراد به المعنى الخاص، وهو القائم بما عليه من حق الله سبحانه أو لأحد من عباده (والضعفة) جمع ضعيف (والمساكين) المراد منه ما يشمل الفقراء والمراد التحذير من إيذاء من لا ناصر له إلا الحق سبحانه: من صالح ومسكين وضعيف لا يؤبه به ولا يقام للتعرض، وظاهره أن الكلام في الإيذاء بغير حق كما في الآية فلا يرد نحو حد لأنه(3/266)
مأمور به.
(قال الله تعالى) : {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا} ) بغير جناية استحقوا بها ( {فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} ) ظاهراً قيل إنها نزلت في المنافقين يؤذون علياً رضي الله عنه وقيل في أهل الإفك، وقيل في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.
(وقال تعالى) : {فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر} ) تقدم الكلام عليها في باب ملاطفة اليتيم والمسكين (وأما الأحاديث) المرفوعة في ذلك فكثيرة.
1 - (منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الباب الذي قبل هذا) وقوله: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) بيان الحديث، فيكون المراد من حديث بعضه أو بدل بعض من كل.
2 - (ومنها حديث سعد بن أبي وقاص) بتشديد القاف وبالصاد المهملة آخره. واسمه مالك بن أهيب الزهري أحد العشرة (رضي الله عنه السابق في باب ملاطفة اليتيم) ومنها (قوله: يا أبا بكر لئن كنت أغضبتهم) أي بلالاً وسلمان وصهيباً (لقد أغضبت ربك) ولا يخفى ما في هذه الجملة المؤكدة بالقسم من مزيد الاهتمام بشأن أولئك، ومثلهم سائر المؤمنين لحرمة الإيمان وشرفه.
3389 - (وعن جندب) بضم الجيم وفتح الدال المهملة وسكون النون بينهما آخره موحدة (ابن عبد ا) بن سفيان البجلي العلقي بفتح المهملة وباللام وبالقاف نسبة إلى غفلة بن عبقر بن أنمار سكن جندب (رضي الله عنه) الكوفة ثم تحوّل عنها إلى البصرة، وقد تقدمت ترجمته في باب تحريم الظلم، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على سبعة منها، وانفرد مسلم بخمسة منها، وروى عنه الحسن وأبو عمران الجوني.(3/267)
مات بعد الستين رضي الله عنه.
(قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلى صلاة الصبح) أي جماعة كما في رواية أخرى لمسلم، قال العلقمي: فهي مقيدة لبقية الروايات المطلقة (فهو في ذمة ا) بكسر الذال المعجمة وتشديد الميم قيل ضمانه، وقيل أمانه، وكأنها إنما خصت بذلك لأنها أول النهار الذي هو وقت انتشار الناس في حوائجهم المحتاجين فيه وفي دوامه إلى أمن بعضهم من بعض لا لأفضليتها، لأن الأصح أن العصر هي الوسطى فهي أفضل منها (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء) أي لا تتعرضوا له بغير حق، فذلك سبب طلبه سبحانه ما وقع منكم من انقض عهده وخيانة أمانه فهو من باب وضع المسبب موضع السبب (فإنه) تعليل للنهي (من يطلبه) أي الله تعالى (من ذمته) أي من أجل خيانته لأمانته ويصح أن يكون من للتبعيض وظاهر جريان هذين الوجهين في من المذكورة أولاً (بشيء يدركه) إذ لا مهرب ولا مفرّ منه تعالى (ثم) بعد إدراكه (يكبه) بضم الكاف يقال كبه فأكب، وهو من غرائب اللغة، إذ المعروف أن الهمزة يتعدى بها اللازم وهنا صار بها المتعدي قاصراً: أي يلقيه (على وجهه في نار جهنم) فيه غاية التحذير عن التعرض لمن صلى الصبح المستلزم ذلك لصلاة بقية الخمس، وأن في التعرض له بسوء غاية الإهانة والعذاب (رواه مسلم) ورواه الترمذي إلا أنه قال: فلا يتبعكم الله بشيء من ذمته وليس فيه قوله فإنه الخ، كذا يستفاد من «الجامع الصغير» ، والعجب أنه لم يورد فيه حديث مسلم، واقتصر على حديث الترمذي المذكور، وفي «الجامع الكبير» «من صلى الغداة فهو في ذمةالله، فإياكم أن يطلبكم الله بشيء من ذمته» رواه أبو نعيم في «الحلية» من حديث أنس مرفوعاً وفيه «من صلى صلاة الصبح فله ذمة الله تعالى فلا تخفروا الله في ذمته، فإنه من أخفر ذمته طلبه الله تعالى حتى يكبه على وجهه» رواه أحمد عن ابن عمر مرفوعاً اهـ. هذا والحديث قد تقدم مع شرحه في باب تعظيم حرمات المسلمين.(3/268)
49 - باب إجراء أحكام الناس على ظواهرهم وسرائرهم
بالرفع مبتدأ خبره مقدر تقديره موكولة أو مفوضة (إلى الله تعالى) .
(قال الله تعالى) : {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم} ) فدعوهم لا تعرضوا لهم بشيء من القتل والحصر، وإطلاق الآية شامل لمن كان كذلك حقيقة. أو ظاهراً لا باطناً قال السيوطي في «الإكليل» : لم يكتف في تخلية السبيل بالتوبة من الشرك حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، واستدل به الشافعي على قتل تارك الصلاة وقتال مانع الزكاة، واستدل به من قال بتكفيرهما.
1390 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرت) بالبناء لغير الفاعل حذف فاعله تفخيماً له وتعظيماً والمفهوم منه أن الله تعالى هو الذي أمركما يفهم من قول الصحابي: «أمرنا» أن الآمر له هو النبي، وإنما عدل إليه تعويلاً على شهادة الفعل أنه تعالى هو الآمر لا يحتاج إلى تصريح باسمه ولا يذهب الوهم إلى غيره، إذ لا أحد يأمره سوى الله تعالى أي أمرني الله (أن أقاتل الناس) أي أن أقاتلهم لأن الأمر يتعدى إلى ثاني مفعوليه بحرف النداء، وحذفه كثير شائع، قالوا: والمراد بالناس هنا عبدة الأوثان أهل الكتاب لسقوط القتال عنهم بقبول الجزية. قال الدلجي في «شرح الأربعين» : ويحتمل أن يكون قبولها منهم كان بعد هذا الأمر المتناول لقتالهم أيضاً (حتى يشهدوا أن) أي أنه (لا إله) أي لا مستغنى بذاته عما سواه ومفتقر إليه كل ما عداه موجود (إلاالله، و) يشهدوا (أن محمداً رسول الله) وفي رواية «حتى يقولوا لا إله إلا ا» اكتفاء بها عن أختها مع إرادتها كما في {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81) أي والبرد، أي حتى يؤمنوا بأنه تعالى واحد لا شريك له وأن محمداً رسول الله (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) بشروطهما وأركانهما على وفق الأمر(3/269)
الإلهي، وعطفهما على ما قبلهما تنزيلاً لهما منزلته في كون فعلهما غاية للقتال وللأمر به إيذاناً بأنهما أعظم العبادات البدنية والمالية، ومن ثم قدمهما على مقرهما لدخولهما تحت نطاق حتى الإسلام بشهادة إحدى روايتي أبي هريرة، فإنه لم يذكرهما فيها لأنهما من حقه ولم يخصهما في روايته الأخرى، بل قال: ويؤمنوا بما جئت به، ولم يذكر الصوم والحج إما لكونهما لم يفرضا حينئذٍ، وإما لكونهما لا قتال على تركهما، إذ تارك الصوم يحبس ويمنع المفطر والحج على التراخي، وحتى هنا جارة لأن ما قبلها غير ما بعدها، وهو غاية للقتال ومتضمن لمعنى الشرط فالكفّ عن قتالهم مشروط بذلك منتف بانتفائه، كأنه قيل: إن
شهدوا وصلوا وآتوا الزكاة كففت عنهم بشهادة الآية السابقة (فإذا فعلوا ذلك) غلب فيه الفعل على القول إذ الشهادة قول إلا أن يقال: هي عمل اللسان فهو فعل: أي فإن أتوا بذلك (عصموا) أي منعوا وحقنوا (مني دماءهم) جمع دم وأصله دمو (وأموالهم إلا بحق الإسلام) استثناء مفرغ من عام والعصمة متضمنة لنفيه ليصح تفريغ الاستثناء إذ هو شرطه: أي لا تهدر دماؤهم ولا تستباح أموالهم بسبب من الأسباب إلا بحقه كفعل الواجبات وترك المنهيات فإنها واجبة بحقه، وقد التزمها المسلمون بإسلامهم، فإن فعلوا واجتنبوا بنية صالحة فمؤمنون، أو تقية وخوفاً حقنوا ذلك وعصموه (وحسابهم على ا) أي إليه (تعالى) ما يخفون وما يسترون من عقائدهم لا ما يظهرون بل يعاملون بما يقتضيه. وحاصله تفويض أمر بواطنهم إليه سبحانه لأنه الذي يتولى خبايا أسرارهم وخفايا ضمائرهم من إيمان وكفر ونفاق، وأما الرسول فإنما أمر أن يحكم بظواهر أفعالهم وأقوالهم، ولفظ «علي» وإن كانت مشعرة بالإيجاب فهو على سبيل التشبيه البليغ: أي هو كالواجب عليه تعالى بمقتضى إخباره بوقوعه حذراً من الخلف في أخباره تعالى شرعاً بمقتضى وعده فلا يخلف الميعاد خلافاً لقول المعتزلة بوجوبه عليه عقلاً (متفق عليه) ورواه الأربعة عن أبي هريرة وهو متواتر، كذا في «الجامع الصغير» للسيوطي وفي «قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة» للسيوطي. أخرج الشيخان عن ابن عمر وأبي هريرة ومسلم عن جابر ابن عبد الله وابن أبي شيبة في «المصنف» عن أبي بكر الصديق وعمر وابن أويس وجرير البجلي والطبراني عن أنس(3/270)
وسمرة بن جندب وسهل بن سعد وابن عباس وأبي بكر وأبي مالك الأشجعي والبزار عن عياض الأنصاري والنعمان بن بشير اهـ.
2391 - (وعن أبي عبد الله طارق) بالمهملة والراء والقاف (ابن أشيم) بالشين المعجمة والتحتية بوزن أحمد، ابن مسعد والأشجعي الكوفي والد سعد بن طارق وأبي مالك (رضي الله عنه) روى عن النبي فيما قاله البرقي أربعة أحاديث، روى عنه مسلم حديثاً واحداً. قال العامري في الرياض المستطابة: يقال لم يرو عن النبيّ غيره، وروى عنه الأربعة خلا أبي داود، لكن قال المصنف في «التهذيب» : روى عنه مسلم في «صحيحه» حديثين، ثم رأيت الحافظ المزي ذكر في «أطرافه» كما قال المصنف، فخرج من أحاديث مسلم عنه حديث الباب وقال: أخرجه مسلم في الإيمان وحديث «كان النبي يعلم من أسلم يقول: قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني» وقال: أخرجه مسلم وابن ماجه في الدعوات (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قال لا إله إلا ا) أي مع قرينتها، وهي محمد رسول الله ففيه اكتفاء تقدمت الإشارة إليه في شرح الحديث قبله (وكفر بما يعبد من دون ا) أي أيّ معبود كان (حرم ماله ودمه) بضم راء الفعل ورفع الاسمين بعده، وقوله (وحسابه على ا» ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان تعلق أحكام الشريعة بالظاهر دون ما يخفيه ويسره ذو العقيدة الفاسدة أو يخفيه ذو الأعمال القبيحة فيفوض أمر ذلك إلى المولى سبحانه (رواه مسلم) منفرداً به عن باقي الكتب الستة.
3392 - (وعن أبي معبد) بفتح الميم والموحدة وسكون العين المهملة بينهما آخره دال مهملة وقيل كنيته أبو الأسود، وقيل أبو عمرو حكاها المصنف في «تهذيبه» (المقداد بن الأسود رضي الله عنه) هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن عمرو بن سعد ابن دهير بفتح الدال المهملة وكسر الهاء ابن لؤيّ بن ثعلبة بن مالك بن الشريد بفتح الشين المعجمة ابن هون، وقيل ابن أبي هون بن فاس، ويقال ابن قاس ويقال قائس بن درنم بن القين بن أهود بن بهز بن عمرو بن الحاف بن(3/271)
قضاعة البهراني الكندي الصحابي، فهو المقداد بن عمرو حقيقة، وإنما قال المصنف كغيره المقداد بن الأسود لأنه كان في حجر الأسود بن عبد يغوث الزهري فتبناه إليه، ويقال المقداد الكندي لأنه أصاب دماء في بهز فهرب منهم إلى كندة فحالفهم، ثم أصاب فيهم دماً ثم هرب إلى مكة فحالف الأسود بن عبد يغوث فهو بهراني، ويقال كندي ويقال زهري قديم في الإسلام والصحبة من السابقين إلى الإسلام، قال ابن مسعود: أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة منهم المقداد، وهاجر إلى الحبشة ثم عاد لمكة ثم هاجر إلى المدينة، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائر المشاهد، ولم يثبت أنه شهد بدراً فارس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره، وكذا الزبير في قول روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وأربعون حديثاً، اتفقا على واحد منها، وانفرد مسلم بثلاثة منها، روى عنه من الصحابة عليّ وابن مسعود وابن عباس وآخرون وجمع كثير من التابعين. توفي بالجرف على عشرة أميال من المدينة، وحمل على رقاب الرجال إلى المدينة، وقيل توفي بها في خلافة عثمان سنة ثلاث وأربعين وهو ابن سبعين سنة وصلى عليه عثمان وأوصى إلى الزبير وشهد فتح مصر، ومناقبه، كثيرة: منها قوله: «أمرني الله أن أحبّ أربعة وأخبرني أنه يحبهم، قيل يا رسول الله سمهم لنا، قال عليّ منهم، يقول ذلك ثلاثاً، وأبو ذرّ والمقداد وسلمان»
قال الترمذي: حديث حسن (قال: قلت لرسول الله: أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني (إن لقيت) بتاء المتكلم (رجلاً من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي) بتشديد الياء ويدي مثنى الياء الأولى علامة الجر والثانية مضاف إليه (بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة) لاذ بالذال المعجمة قال المصنف أي اعتصم وقال القرطبي أي استتر يقال لاذ يلوذ لواذاً إذا استتر. والملاذ: ما يستتر به وفي «المصباح» لاذ يلوذ ومصدره اللواذ بكسر اللام وقيل بتثليثها: أي التجأ، وبين ما تجوز عنه بقوله (فقال أسلمت) أي دخلت في الإسلام وتدينت به. وفيه دليل على أن كل من صدر عنه ما يدل على الدخول في دين الإسلام من قول أو فعل حكم له لذلك بالإسلام، وأنه لي مقصوراً على النطق بكلمتي الشهادة، وقد حكم بإسلام بني خزيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد بما يقولون صبأنا صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فلما بلغ ذلك النبي قال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ثلاث مرات رافعاً يديه إلى السماء ثم وداهم» ويحتمل أن يكون قوله هنا «فقال أسلمت» على أنه رواية بالمعنى، وأنه عبر به بعض الرواة عن قوله فقال لا إله إلا الله كما جاء مفسراً كذلك في رواية أخرى اهـ. ملخصاً، قاله القرطبي (أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها) أي وأحمل ذلك منه على(3/272)
الخشية لا على الحقيقة (فقال: لا تقتله) لجريان الأحكام الشرعية على مقتضى الظاهر (فقلت: يا رسول الله قطع إحدى يدي ثم قال ذلك) متعوذاً به من القتل (بعد ما قطعها فقال: لا تقتله) ثم قال مبيناً حكمه إن قتل القائل الكلمة المذكورة (فإن قتلته) أي بعد نطقه بذلك (فإنه) بعد الإتيان بكلمة الشهادة (بمنزلتك) من عصمة الدم والحكم بإسلامه (قبل أن تقتله وإنك بمنزلته) في إهدار الدم (قبل أن يقول كلمته التي قال) بحذف العائد: أي قالها: أي فتصير غير معصوم الدم ولا يحرم القتل بعد قتلك له. قال ابن القصار: يعني لولا عذرك بالتأويل المسقط للقصاص عنك وما
فسرت به الحديث تبعاً للمصنف كما يأتي هو ما قاله الإمام الشافعي وابن القصار المالكي وغيرهما. وقال المصنف: إنه أحسن ما قيل فيه وأظهره، وقيل إنه بمنزلته في إخفاء الإيمان: أي إنه ممن كان يخفي إيمانه بين الكفار وأخرج مكرهاً كما كنت أنت بمكة إذ كنت تخفي إيمانك قال القرطبي: ويعضد هذا التأويل بما زاده البخاري في هذا الحديث من أنه عليه الصلاة والسلام قال للمقداد، إذا كان مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه تقتله؟ كذلك كنت تخفي إيمانك بمكة اهـ. وقال القاضي: وقيل معناه: إنك مثله في مخالفة الحق وارتكاب الإثم، وإن اختلفت أنواع المخالفة والإثم فيسمى إثمه كفراً وإثمك معصية وفسقاً. قال القرطبي: قوله «وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال» ظاهر في الكفر، وليس ذلك بصحيح لأنه إنما قتله متأولاً بقاءه على كفره ولا يكون كبيرة، وإذا لم يكن كبيرة لم يصح لأحد، وإن كان ممن يكفر بالكبائر أن يقول هذا كفر بوجه، فدل ذلك على أنه متأول (متفق عليه) أخرجه البخاري في المغازي، ومسلم في الإيمان، ورواه أبو داود في الجهاد والنسائي في السير (ومعنى إنه بمنزلتك: أي معصوم الدم محكوم بإسلامه، ومعنى إنك بمنزلته: أي مباح الدم بالقصاص لورثته، لا أنه بمنزلته في الكفر، والله أعلم) أي بما تقدم عن القرطبي من تأويله وعدم قصد المعصية.(3/273)
4393 - (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما) سبقت ترجمته أوائل الكتاب (قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحرقة) بضم المهملة وتخفيف الراء وبالقاف: موضع معروف (من) بلد (جهينة) كذا قال ابن رسلان، ولا ينافي ما يأتي للمصنف أنه اسم للقبيلة فلعلها سميت باسم مكانها بضم الجيم وفتح الهاء وسكون التحتية: بعدها نون: قبيلة من قضاعة نزلوا الكوفة والبصرة كذا في «لب اللباب» للأصبهاني (فصبحنا القوم) أي أتيناهم صباحاً، قال في «الصحاح» : ويقال صبحته: إذا أتيته صباحاً ولا يراد بالتشديد هنا التكثير اهـ. (على مياههم) بكسر الميم وتخفيف التحتية جمع ماء (ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم) الواو عاطفة على محذوف يدل عليه رواية أبي داود عن أسامة قال «فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلاً منهم» (فلما غشيناه) بكسر الشين المعجمة أي قربنا منه (قال: لا إله إلا الله فكف) بتشديد الفاء أي أمسك (عنه الأنصاري) لإتيانه بكلمة التوحيد (وطعنته برمحي حتى قتلته) عند أبي داود «ضوربناه حتى قتلناه» قال شارحه ابن رسلان: رواه مسلم «فطعنته» فيجمع بينهما أن طعنه ثم طعنه غيره حتى قتلوه. وفيه دليل على أنه لا يقتصر في القتال على ضربة واحدة ثم ينتقل إلى غيره بل يكرر الضرب هو وغيره على العدو حتى يقتلوه (فلما قدمنا) بكسر الدال، أي (المدينة بلغ ذلك النبي) في الرواية الآتية لمسلم «فجاء البشير إلى النبي فأخبره خبر الرجل فدعاه» يعني أسامة صرح في رواية أبي داود بأنه الذي ذكر ذلك للنبي، قال المصنف: يحتمل الجمع بأن أسامة وقع في نفسه من ذلك شيء بعد قتله ونوى أن يسأل عنه، فجاء البشير فأخبر به قبل مقدم أسامة، وبلغ النبي أيضاً بعد قدومهم فسأل أسامة فذكره، وليس في قوله فذكرته ما يدل على أنه قاله ابتداء قبل تقدم علم النبي اهـ.c (فقال لي) منكراً ما فعلته وموبخاً عليه (يا أسامة أقتلته بعد ما قال) أي بعد قوله (لا إله إلا ا) أي وهي العاصمة
لدم قائلها (قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذاً) منصوب على الحالية، أي وإنما عاد وأراد حقن دمه بالتلفظ بها لا الإسلام حقيقة، ولعله أسامة قام عنده ما علم به ذلك حتى أقدم على قتله، فكان متأولاً باستصحاب كفره وعدم النفع بما أتاه، لأنه لم يكن عن حقيقة ولم يتمكن من السؤال عن حكم ذلك فوقع في ذلك، وهو(3/274)
غير آثم باعتبار أن ذلك هو الحكم بالنسبة إليه، ولكن لما وردت الشريعة بإجراء الأحكام على الظواهر لم يكن ذلك التأويل مؤثراً في جواز قتله في نفس الأمر له فقرّر النبيّ المنع من ذلك بأبلغ وجه وآكده ليزيل ما في نفسه من تلك الشبهة وليبين وجوب الانكفاف عمن كان كذلك فكان تأويله مانعاً من القود لأنه قتله بظن كفره كما يدل عليه قوله «إنما قالها خوفاً من السيف» بخلاف الكفارة، وسكوته من باب تأخير البيان إلى وقت الحاجة وفي وجوب الدية قولان للعلماء (فما زال يكرّرها) أي هذه الجملة (على) منكراً وموبخاً (حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك) معناه لم يكن تقدم إسلامي بل ابتدأته الآن ليمحو عني ما تقدم، وقال: هذا الكلام من عظم ما وقع فيه قاله المصنف. قال ابن رسلان: وكأنه استصغر ما كان منه قبل من الإسلام والعلم الصالح في جنب ما ارتكبه من هذه الجناية لما حصل في نفسه من شدة إنكار النبي وتعظيمه لذلك، وفي حاشية الكشاف تمنى إسلاماً خالياً عن الإثم لا عدم الإسلام فلا إشكال اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري في المغازي وفي الديات ومسلم في الإيمان، ورواه، أبو داود في الجهاد والبزار كذا من «الأطراف» للمزي ملخصاً (وفي رواية) هي عند مسلم (فقال رسول الله: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟) مدخول همزة الإنكار قوله وقتلته: أي أقتلته مع قوله ذلك (قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح) أي لا إيماناً حقيقياً (قال أفلا شققت) أي اعتقدت ذلك وجزمت به فلا شققت (عن قلبه) لتعلم أنه كذلك أولاً تعي أن الإيمان الحقيقي خفي، محله القلب لا
يطلع عليه إلا الربّ. والأحكام إنما تناط بالظواهر، فإذا كنت غير مكلف بها فهلا شققت عن قلبه واطلعت على ما فيه من صدق أو نفاق (حتى تعلم أقالها) أي قلبه وتكلم بها في نفسه، وفاعل قال ضمير يعود على القلب (أم لا) وفيه دليل لأهل الحق على ثبوت الكلام النفسي خلافاً للمعتزلة، وفيه دليل على جريان الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة الخفية (فما زال يكررها حتى تمنيت أني ما أسلمت يومئذٍ) وهذه الجملة رواها أبو داود أيضاً (الحرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء) الخفيفة وبالقاف كذلك (بطن من جهينة القبيلة المعروفة) قال ابن عبد البر في كتاب «الإنباء» في أصول الأنساب في بطون قضاعة ما لفظه:(3/275)
وجهينة بن زيد بن أسود بن أسلم بن عمر ابن الحاف بن قضاعة: رهط عقبة بن عامر الجهني، والحرقة في جهينة هم بنو حميس بن عامر بن مودعة بن جهينة اهـ.
فائدة: للنسب مراتب: القبيلة فالشعب فالفخذ فالفصيلة فالبطن فالعشيرة (وقوله متعوذاً) بصيغة الفاعل (أي معتصماً بها من القتل لا معتقداً لها) فتوهم أسامة أن الرفع للقتل المانع منه الإيمان الحقيقي ولم يتحققه فيه والحال أن المانع منه الإسلام ولو ظاهراً.
5394 - (وعن جندب بن عبد ا) البجلي (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثاً) بفتح الموحدة وسكون المهملة وبالمثلثة، أي جيشاً تسمية بالمصدر والجمع بعوث وبعاث كذا في «المصباح» : وفي «المواهب» البعث طائفة من الجيش تبعث لأمر (من المسلمين) في محل الصفة (إلى قوم من المشركين) هم الحرقة كما في الحديث السابق، ويحتمل أن يكونوا أهل الميفعة، وهي بكسر الميم وسكون التحتية وفتح الفاء بعدها عين مهملة. قال في «القاموس» بلدان بساحل اليمن، وكان الأمير على السرية إليهم عبد الله ابن غالب الليثي ذكر القسطلاني في «المواهب» لما ذكرها ما لفظه «قالوا: وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد نهيل بن مرداس بعد أن قال لا إله إلاالله، فقال: ألا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب» وفي «الإكليل» أنه فعل ذلك في سرية كان أميراً عليها سنة ثمان وهي الحرقة اهـ. واستفيد منه تسمية المقتول في تاريخ عام خروجه للحرقة (وأنهم) أي البعض (التقوا) لما تقدم من شراد الكفار لما أنذروا بالمسلمين (وكان رجل من المشركين إذا شاء) أي أراد (أن يقصد) بكسر الصاد المهملة (إلى رجل من المسلمين قصد له) عداه أولاً «بإلى» وثانياً بـ «اللام» وذلك من وجوه استعمالاته، وثالثها تعديه بنفسه كما فيما بعد. قال في «المصباح» : قصدت الشيء وله وإليه قصداً من باب صرف: طلبته بعينه اهـ: أي إنه لمعرفه بالحرب كان إذا طلب إنساناً بعينه قصده ولا نهاية لجرأته (فقتله وأن رجلاً من المسلمين قصد غفلته)(3/276)
أي طلبها (وكنا نتحدث أنه أسامة بن زيد) بن حارثة الحب ابن الحب (فلما رفع عليه السيف قال) أي قبل وصوله إليه (لا إله إلا ا) أي مع قرينتها، وهي محمد رسول الله لأنه لا يتم الإيمان إلا بهما، فاقتصر على كلمة التوحيد اكتفاء بدلالتها عليها (فقتله فجاء البشير) أي المبشر (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله) أي عما وقع في الجيش من الأمور ليبين حكم ما فعل منها
مما لم يتقدم فيه منه بيان (وأخبره) متدرجاً من أمر إلى آخر (حتى أخبره خبر الرجل) أي أسامة (كيف صنع) تقدم الجمع بينه وبين ما في الرواية الثانية ومن كونه أخبر بذلك النبي (فدعاه فسأله فقال: لم قتلته) أي ما الباعث لك (فقال: يا رسول الله أوجع) أي أوقع الوجع والنكاية (في المسلمين) وحذف الوجع به تفهيماً ولتذهب النفس فيه كل ممكن وبين بعضه بقوله (وقتل فلاناً وفلاناً وسمى له نفراً) بفتح النون والفاء، وتقدم أنه ما بين الثلاثة إلى التسعة من الرجال وقيل إلى السبعة، ولا يقال فيما زاد على العشرة نفر (وإني حملت) بفتح أوليه أي جهدت (عليه) قال في «الصحاح» حمل عليه في الحرب حملة. قال أبو زيد: يقال حملت على بني فلان إذا أرّشت بينهم، وحمل على نفسه في السير إذا أجهدها فيه اهـ (فلما رأى السيف قال: لا إله إلاالله، قال رسول الله: أقتلته) أي مع قوله (قال: نعم، قال فكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟) أي من يشفع لك ومن يحاج عنك ويجادل إذا جيء بكلمة التوحيد، وقيل له: كيف قتلت من قالها وقد حصل له ذمة الإسلام وحرمته (فقال: يا رسول الله استغفرلي) أي هذا الذي وقعت فيه (قال) محذراً من الوقوع في مثله وموبخاً منه المرة بعد المرة تأكيداً ودفعاً لما يقوم عنده شبهة استصحاب كفره المجوز لقتله بحمل لفظه بالشهادتين على الخوف لا على الحقيقة (فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة فجعل) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا يزيد على أن يقول(3/277)
كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة) ولا يلتفت لقول أسامة استغفر لي وذلك لاهتمامه بالأمر واعتنائه به (رواه مسلم) في كتاب الإيمان في «صحيحه» .
فائدة: رأيت بخط محدث اليمن نفيس الدين العلوي ما لفظه: ذكر أبو الشيخ في عواليه أن الله سبحانه وتعالى أنزل توبة أسامة اهـ.
6 - (وعن عبد الله بن عتبة) بضم العين المهملة وسكون الفوقية بعدها موحدة ثم هاء (ابن مسعود) الهذلي فهو ابن أخي عبد الله بن مسعود من أنباء المهاجرين له رواية، سمع عمه وعمر وعنه ابناه الفقيه عبيد الله والزاهد عون وابن سيرين قال ابن سرين قال ابن سعد. ثقة رفيع كثير الفتيا والحديث، توفي بالكوفة سنة أربع وسبعين كذا في «الكاشف» (قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول إن ناساً) أصله أناس على الصحيح فحذف فاؤه. تخفيفاً (كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله) أي عصره وزمنه (وإن الوحي قد انقطع) بموت النبي (وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيراً) إيماناً وعدالة (أمناه) بهمزة بغير مد وميم مكسورة ونون مشددة من الأمن أي صيرناه عندنا أميناً. وفي رواية «ومن يظهر منكم خيراً ظننا به خيراً وأحببناه» وقربناه (وليس لنا) أي لا تعلق لنا (من سريرته) أي ما أسرّه وأخفاه (شيء) اسم ليس وأحد الظرفين السابقين خبرها وثانيهما حال من اسمها لتقدمه عليه وهو نكرة (ايحاسبه) جملة مستأنفة وهو هكذا فيما وقفت عليه بإثبات ضمير المفعول وفي «الفتح» للحافظ بحذفه وقال: كذا لأبي ذرّ عن الحموي بحذفه وللباقين «امحاسبه» بميم أوله وهاء آخره، وهو يقتضي أن إثبات الضمير مع الفعل ليس عند البخاري لكن رأيته كذلك في أصل مصحح معتبر، فلعله رواية لم يطلع عليها الحافظ (ومن أظهر لنا سوءاً) في رواية الكشميهني شراً (لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة) وفي رواية لأبي فراس «ومن يظهر لنا شراً ظننا(3/278)
به شراً وأبغضناه عليه، سرائركم فيما بينكم وبين ربكم» قال المهلب: هذا إخبار من عمر عما كان الناس عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعما صار بعده، ويؤخذ منه أن العدل من لم توجد منه ريبة وهو قول أحمد وإسحاق، كذا قال، وإنما هو في حق المعروفين لا من لا يعرف حاله أصلاً (رواه البخاري) في أوائل الشهادات من «صحيحه» .
قال الحافظ في «النكت الظراف» : أغفل هذا الحديث المزي وهو في جميع روايات البخاري اهـ.(3/279)
50 - باب الخوف
أي من الله عز وجل، قال الشيخ زكريا في «شرح الرسالة» : هو فزع القلب من مكروه يناله أو من محبوب يفوته. وسببه تفكر العبد في المخلوقات كتفكره في تقصيره وإهماله وقلة مراقبته لما يرد عليه، وتفكره فيما ذكره الله عز وجل في كتابه من إهلاك من خالفه وما أعدّ له في الآخرة، وقد يعبر عن الخوف بالفزع والروع والرهبة والخيفة والخشية.
(قال الله تعالى) : {وإياي فارهبون} ) أي خافون خوفاً معه تحرز فيما تأتون وتذرون. قال البيضاوي: وهو آكد في إفادة التخصيص من إياك نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعولية والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئا فارهبون وفي الآية أن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحداً إلا الله سبحانه وتعالى.
(وقال تعالى) : {إن بطش ربك لشديد} ) البطش: هو الأخذ بعنف وشدة بالمأخوذ بحسب إرادته تعالى.
(وقال تعالى) : {وكذلك} أي ومثل ذلك الأخذ للأمم الماضين ( {أخذ ربك إذا أخذ القرى} ) أي أهلها وقرىء/ «إذ» لأن المعنى على المضي (وهي ظالمة) حال من القرى وهي في الحقيقة(4/283)
لأهلها، لكنها لما أقيمت مقامه أجريت عليها وفائدتها الإشعار بأنهم أخذوا لظلمهم وإنذار كل ظالم ظلم نفسه أو غيره من وخامة العاقبة ( {إن أخذه أليم شديد} ) وجيع غير مرجوّ الخلاص عنه وهو مبالغة في التهديد والتحذير ( {إن في ذلك} ) أي ما أنزل بالأمم الهالكة أو فيما قصه الله من قصصهم (لآية) لعبرة ( {لمن خاف عذاب الآخرة} ) يعتبر بها عظة لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد للمجرمين في الآخرة أو ينزجر به عن موجبه لعلمه بأنها من إله مختار يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، فإن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها ( {ذلك} ) إشارة إلى يوم القيامة وعذاب الآخرة دلّ عليه ( {يوم مجموع له الناس} ) أي يجمع له الناس، والتعبير له بالجمع للدلالة على ثبات معنى الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة ( {وذلك يوم مشهود} ) أي مشهود فيه أهل السموات والأرض، واتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول، ولو جعل اليوم مشهوداً في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك (
{وما نؤخره} ) أي اليوم ( {إلا لأجل معدود} ) إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية على خلاف المضاف وإرادة مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فإنه غير معدود ( {يوم يأت} ) أي الجزاء أو اليوم كقوله {حتى تأتيهم الساعة} (الحج: 55) على أن يوم بمعنى حين أو الله تعالى كقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم ا} (البقرة: 210) ونحوه (لا تكلم) أي لا تتكلم (نفس) بما ينفع وينبغي من جواب أو شفاعة وهو الناصب للظرف، ويحتمل أن نفسه بإضمار أذكر أو بالانتهاء المحذوف (إلا بإذنه) أي بإذن الله كقوله: {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن} (النبأ: 38) وهذا في موقف، وقوله: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات: 35، 36) في موقف آخر أو المأذون فيه هي الجوابات الحقة والممنوع عنه هي الأعذار الباطنة ( {فمنهم شقى} ) وجبت له النار بمقتضى الوعيد ( {و} ) منهم ( {سعيد} ) وجبت له الجنة بمقتضى الوعد والضمير لأهل الموقف، وإن لم يذكروا لأنه معلوم مدلول عليه بقوله: {لا تكلم نفس} أو الناس ( {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} ) الزفير(4/284)
إخراج النفس والشهيق رده واستعمالها في أول النهيق وآخره، والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم فالمراد تشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير.
(وقال تعالى) : {ويحذركم الله نفسه} ) أي يغضب عليكم من فعل ما حضر وملابسة ما منع.
(وقال تعالى) : {يوم} ) بدل من إذا الظرفية المتضمنة معنى الشرط المذكور في آخر الآية قبله ( {يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته} ) أي زوجته ( {وبنيه} ) بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب ثم بالصاحبة والولد لأنهما أقرب والأخ من الأبوين والأخ إيذاناً أنه لا يقف لأحد منهم ( {لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه} ) أي يشغله عن شأن غيره: أي اشتغل كل بنفسه والجملة حال وهو دليل جواب إذا المحذوف، وقيل يفرّ حذراً من تبعاتهم، فيقول الأخ لم تواسني بمالك. والأبوان قصرت في برنا، والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت، والولد لم تعلمني ولم ترشدني. قال الكواشي: وهذا عام في كل كافر في كل موطن من مواطن القيامة وخاص بالمؤمن في بعض مواطنها.
(وقال تعالى) : {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة} ) تحريكها للأشياء على الإسناد المجازي أو تحريك الأشياء فيها فأضيفت إليها إضافة معنوية بتقدير وإضافة المصدر إلى الظرف على إجرائه مجرى المفعول به (شيء عظيم) هائل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوّرها بعقولهم ويعلموا أنه لا يؤمنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى فيبقوا على أنفسهم ويتقوها بملازمة التقوى ( {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت} ) تصوير لهولها والضمير للزلزلة ويوم منتصب بتذهل وقرىء معلوماً ومجهولاً: أي تذهلها الزلزلة، والذهول الذهاب عن الأمر بدهشة والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت التي ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه وذهلت عنه، وما موصولة أو مصدرية ( {وتضع كل ذات حمل حملها} ) أي جنينها، قال المصنف في آخر كتاب الإيمان(4/285)
من شرح مسلم: وقد اختلف العلماء في وقت وضع كل ذات حمل حملها وغيره من المذكور، فقيل عند زلزلة الساعة قبل خروجهم من النداي، وقيل هو يوم القيامة وليس فيها حمل ولا ولادة وتقديره تنتهي به الأهوال والشدائد إلى أن لو تصورت الحوامل هناك لوضعت حملهن، كما تقول العرب أصابنا أمر يشيب فيه الولد، يريدون شدته اهـ. ( {وترى الناس سكارى} ) كأنهم سكارى ( {وما هم بسكارى} ) حقيقة ( {ولكن عذاب الله شديد} ) فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم.
(وقال تعالى) : {ولمن خاف مقام ربه} ) موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب. أو قيامه على أحواله من قام عليه إذا راقبه. أو مقام الخائف عند ربه للحساب بأحد المعنيين فأضافه إلى الربّ تفخيماً وتهويلاً ربه، ومقام مفخم للمبالغة ( {جنتان} ) جنة لعقيدته وأخرى لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لاجتناب المعاصي، أو جنة يثاب بها، وأخرى يتفضل بها عليه أو روحانية وجسمانية (الآيات) إلى أواخر السورة. وفيه أن هذه الآيات من آيات الوعد المثيرة للرجاء لا من آيات الوعيد الباعثة للخوف وكأن المصنف عقَّب الآيات الأول بها إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون للمؤمن خوف يمنعه من العصيان ورجاء يبعثه على الطاعة وعمل البرّ، وقدم تلك على هذه لأنها أدلة الباب وأساس بنيانه، وإيماء إلى أن الخوف من باب التخلية، والرجاء من باب التحلية، بالمهملة والأول مقدم، وختم بما هو من قبيل الأول لمناسبته بالباب فقال:
(وقال تعالى) : {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} ) أي يسأل بعض أهل الجنة بعضاً عن أحواله وأعماله ( {قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} ) خائفين من عصيان الله تعالى معتنين بطاعته، أو وجلين من المعاقبة ( {فمنّ الله علينا} ) بالرحمة والتوفيق ( {ووقانا عذاب السموم} ) عذاب النار النافذة في المسامّ نفوذ السموم ( {إنا كنا من قبل} ) أي: من قبل ذلك في الدنيا ( {ندعوه} ) نعبده أو نسأله الوقاية ( {إنه هو البر} ) المحسن، وقرىء بفتح الهمزة: أي لأنه(4/286)
( {الرحيم} ) الكثير الرحمة (والآيات) الواردة (في الباب) أي في باب الخوف (كثيرة جداً) بكسر الجيم أي قطعاً (والغرض) أي المطلوب (الإشارة إلى بعضها) تبركاً وتشرفاً (وقد حصل) .
(وأما في الأحاديث) المرفوعة (فكثيرة جداً فنذكر منها طرفاً) أي جانباً، والطرف حال لأنه كان وصفاً لظرف قدم عليه ومن فيه للبيان (وبا) لا بغيره (التوفيق) وهو لغة جعل الأسباب موافقة للمسببات. وشرعاً خلق قدرة الطاعة في العبد.
1396 - (عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق) في أقواله وأفعاله وأحواله (المصدوق) فيما يأتيه من الوحي، والجملة اعتراضية لا حالية لتعم الأحوال كلها (أن أحدكم) أي الواحد منكم (يجمع) بالبناء للمفعول أي يقدر (خلقه) أي ما يخلق منه (في بطن أمه) صفة خلق أو حال منه: أي مادة خلقه الحاصلة أو حاصلة (أربعين يوماً) ظرف لمتعلق الظرف المحذوف (نطفة) وهي الماء القليل، والمراد هنا المنيّ لأنه ينطف: أي يسيل، ومعنى جمعه فيها: مكثه أربعين ليلة منتشراً في بشرة المرأة بعد أن انتشر تحت كل ظفر وشعر منها ثم ينزل منها دم في الرحم، فذلك جمعه وهو وقت كونه علقة، ولا ينتقل عن كونه منياً قبل الأربعين (ثم يكون) أي يصير خلقه (علقة) هي دم جامد، لأنها إذ ذاك تعلق بالرحم (مثل ذلك) بالنصب صفة علقة، وذلك إشارة إلى خلقه: أي علقة مماثلة لخلقه في أنهما يكونان أربعين يوماً (ثم يكون) أي يصير خلقه (مضغة) أي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ (مثل ذلك) أي أربعين يوماً، وفيها يصورها الله تعالى ويجعل الأعضاء والسمع والبصر وغيرهما {هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} (آل عمران: 6) (ثم) إذا تمت وصار ابن مائة وعشرين يوماً (يرسل) بالبناء للمفعول أي يرسل الله (الملك) في الطور الرابع، ولا مخالفة بين حديث الباب وحديث مسلم عن حذيفة بن أسيد مرفوعاً «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها(4/287)
وجلدها وعظامها ثم يقول: أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ثم يكتب أجله ورزقه» لأن لتصرف الملك أوقاتاً أحدها حين كونه نطفة ثم انقلابه علقة وهو أول علم الملك بأنه ولد وذلك عقب الأربعين الأولى، وحينئذٍ ربه يكتب رزقه وأجله وعمله وخلقته وصورته، ثم يتصرف فيه بتصويره وخلق أعضائه وذلك في الأربعين الثالثة، فيفرد بالتصوير بعد أن يكتب ذلك، ثم ينقله في وقت آخر لأن التصوير بعد الأربعين الأولى
غير موجود عادة، أشار إليه المصنف في شرح مسلم، وقد استفاض بين النساء أن النطفة إذا قدرت ذكراً تتصور بعد الأربعين الأولى بحيث يشاهد منه كل شيء حتى السرّة فتحمل رواية ابن مسعود على البنات أو الغالب (فينفخ فيه) أي فينفخ الملك في ذلك المخلوق (الروح) بعد كمال الجسم وخلقه؛ وفيه دليل على حدوث الروح، والنفخ بالمعجمة والمهملة والنفث يستعملان بمعنًى، إلا أن الأولين يستعملان على طريق الخير والشرّ والثالث في الثاني فقط (ويؤمر) أي ذلك الملك عطف على ينفخ (بأربع كلمات) أي يؤمر بكتابة الأحكام المقدّرة له على جبهته أو بطن كفه أو ورقة تعلق بعنقه قاله مجاهد.Y
واعلم أن الكتابة التي في أمّ الكتاب تعم الأشياء كلها وهذا ما خص به كل إنسان، إذ لكلٍ سابقة وهي ما في اللوح ولاحقة تكتب ليلة القدر ومتوسطة أشير إليها في الحديث (بكتب) بدل كل من قوله بأربع ويروى بالمضارع على الاستئناف (رزقه) ما ينتفع به حلالاً كان أو حراماً مأكولاً أو غيره (وأجله) أي مدة عمره أو الوقت الذي ينقرض فيه (وعمله) من صلاح وضده (وشقي أو سعيد) خبر لمبتدأ تقديره هو، وعدل إليه عن شقاوته وسعادته بحكاية صورة المكتوب، والتقدير: وأنه شقي أو سعيد، وكان العدول فيه لأن التفصيل الآتي وارد عليهما، ذكره الطيبي. والسعادة معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخيرات وتقابلها الشقاوة. وقدمت ليعلم أنها كالخير من عند الله تعالى، وحول الإنسان أطواراً في بطن أمه والقدرة صالحة لخلقه جملة في لمحة لدفع المشقة عن الأم لأنها غير معتادة، فربما ظنته علة، فدرج في حال إلى آخر لتعتادها، ولإظهارها قدرة الله سبحانه ليعبدوه ويشكروه إذ قلبهم من أخس الأشياء ومستقذرها إلى أحسن صورة محلى بالعقل، ولإرشاد الناس إلى كمال قدرته تعالى على الحشر والنشر، إذ من قدر على خلق إنسان من ماء مهين ثم من علقة ثم من مضغة قادر على إعادته ونفخ الروح به ولغير ذلك.
ثم اعلم أن الآيات القرآنية تشهد أن(4/288)
التصوير من الله تعالى، وفي بعض الروايات إضافته إلى الملك الموكل بالرحم، والحمل على ظاهر التنزيل أولى، وجمع بعض بأن الملك الموكل بالرحم من أعوان إسرافيل وبيده الصور، وهو ناظر إلى إسرافيل، وإسرافيل ناظر إلى الصورة المنقوشة فقد ورد «إن الله تعالى جعل لكل ما خلق صورة مخصوصة في ساق العرش، وتلك الصورة حكاية عما في علم الله الأزلي» فيأخذ إسرافيل الصورة المختصة بتلك الذرة ويلقيها إلى الرحم، وملك الأرحام يلقيها إلى الجنين فيصوره بتلك الصورة، فحيث أسند التصوير إليه تعالى فلأنه المقدر للصورة حقيقة الموجد لها، وحيث أسند للملك فلأنه المباشر لها حسبما رأى في نسخة إسرافيل (فوالذي) هو من جملة المرفوع كما يدل عليه ظاهر رواية «الصحيحين» هذه وغيرها. وأما ما رواه الخطيب البغدادي في المدح من أن من هنا إلى الآخر من كلام ابن مسعود فلا يعارض ما في «الصحيحين» ، بل ما فيهما مقدم عليه، وبفرض ثبوت ما فيه فالذي توقف عليه إنما هو هذه المباني، وإلا فقد جاء هذا المعنى مرفوعاً في أحاديث كثيرة بينتها أواخر «شرح الأذكار» ، الفاء فصيحة وهي العاطفة على مقدر، وقيل الواقعة جواباً لشرط مقدر، وقد بسطت الكلام في تحقيق هذه الفاء وأحوالها في كتابي المسمى بـ «إيقاظ النائم من سنة نومه» ببعض فوائد قوله تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه} (البقرة: 60) أي فإذا كانت السعادة والشقاوة مكتوبين فوالذي (لا إله غيره) أكده بالقسم لتأكيد أمر القضاء (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى) أي إلى أن ينتهي إلى أمد (ما يكون) ما نافية ويكون مرفوع إجراء لحتى وما بعدها مجرى الحكاية الحالية، قاله الكازروني «شارح الأربعين» ، قال: والنصب فيه وفي الجملة الثانية خطأ (بينه وبينها) أي الجنة (إلا ذراع) أراد به التمثيل للقرب من موته ودخوله عقبه الجنة (فيسبق) أورد الفاء لتدل على حصول السبق بلا مهلة وعداه بعلى في قوله (عليه
الكتاب) لتضمنه معنى يغلب: أي يغلب عليه ما كتب عليه قبل النفخ من الشقوة (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) بفصل القضاء السابق المحتوم لشقوته (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون) أي إلى أن لا يبقى (بينه وبينها إلاّ(4/289)
ذراع فسيبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة) من الإنابة والاستغفار وعمل الأبرار (فيدخلها) فالخاتمة نسخت السابقة، وبذر السعادة والشقاوة قد اختفى في الأطوار الإنسانية، ولا يظهر إلا إذا انتهى إلى الغاية الإيمانية أو الطغيانية، ففي الحديث إيماء إلى عدم الاغترار بصور الأعمال والركون إليها، بل بالخاتمة، وقد جاء في بعض روايات الحديث زيادة «وإنما الأعمال بالخواتيم» فلا يقطع لأحد معين بدخول الجنة إلا من أخبر أنه من أهلها، فعليك أن لا تنكل على عمل ولا تعجب به واسأل الله حسن الخاتمة واستعذ به من سوئها، ولا تقل قوله تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} (الكهف: 30) مخبر بأن من أخلص عمله أمن من سوئها. لأنا نقول: يجوز أن يكون ذلك معلقاً على شرط القبول وحسنه. ثم قال القاضي عياض: الثاني كثير، وأما الأول فقليل لأن الله كريم يستحي أن ينزع السرّ من أهله، وفيه إثبات القدر، وهو مذهب أهل الحق، وأن جميع ما في الكون بقضاء وقدر من نفع أو ضرر (متفق عليه) وكذا رواه أصحاب السنن الأربعة.
2397 - (وعنه قال: قال رسول الله: يؤتى بجهنم) قال المصنف: اختلف أهل العربية، هل جهنم اسم عربي أم عجمي؟ فقيل عربي مشتق من الجهومة وهي كراهة المنظر، وقيل من قولهم بئر جهنام: أي عميقة، فعل هذا لم تصرف للعلمية والتأنيث، وقال الأكثرون: هي عجمية معرّبة وامتنع صرفها للعلمية والعجمة (يومئذٍ) أي يوم إذ يقوم العباد للحساب (لها سبعون ألف زمام) جملة حالية، والزمام: لغة ما يجعل في أنف البعير يشد عليه المقود فيحتمل أن يكون ذلك على حقيقته، وأن تكون تمثيلاً لعظمها وفرط كبرها بحيث إنها تحتاج في الإتيان بها إلى هذه الأزمة (مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها رواه مسلم) في باب الجنة والنار ورواه الترمذي في «جامعه» في باب صفة جهنم.(4/290)
3398 - (وعن النعمان بن بشير) بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أهون أهل النار) أي الكفار لأنهم أهلها الملازمون لها الخالدون أبداً، أما العصاة من مؤمني الأمة المحمدية الذين سبق في العلم الأزلي تعذيبهم بها فليسوا أهلها لخروجهم ودخولهم الجنة (عذاباً يوم القيامة لرجل) هو أبو طالب (يوضع في أخمص) بفتح الهمزة (قدميه) أي المتجافي من الرجل عن الأرض (جمرتان يغلى) بالتحتية والغين المعجمة مبنى للفاعل: والغليان معروف، وهو شدة اضطراب الماء ونحوها على النار لشدة إيقادها، يقال غلت القدر تغلى غلياناً قاله المصنف (منهما دماغه) بكسر الدال المهملة معروف. قال القسطلاني في «المواهب» : جاء في رواية «حتى يسيل دماغه» (ما يرى) بفتح التحتية: أي يعتقد (أن أحداً أشد منه عذاباً) لقوّة ما يلقاه منه (وإنه لأهونهم عذاباً» . متفق عليه) رواه البخاري في الرقاق ومسلم في صفة النار، كذا قال المزي، والذي رأيته أنه منه في كتاب الإيمان.
4399 - (وعن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم (ابن جندب) بضم الجيم والدال المهملة وبفتها والنون ساكنة بينهما، آخره موحدة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب توقير العلماء (أن نبي الله) قال الشافعي فيما نقل البيهقي عنه: يكره أن يقال في حقه النبيّ أو الرسول بغير إضافة، وإنما يقال رسول الله أو نبيّ الله بها، ولا يرد نحو قوله تعالى: {يا أيها النبيّ} (الأنفال: 64) لأن خطاب الله تعالى لنبيه تشريف بأي صيغة كانت اهـ. وكأن القوم لم ينظروا بذلك لعدم حضور ما يوهمه لفظ الرسول أو النبي في الذهن كما استقرّ فيه من شرفه وعظمته مع ما فيه من كثرة الدوران المقتضي للتخليف في اللفظ (قال: «منهم) أي من أهل النار ومرجع الضمير دل عليه حال التكلم أو سياق الكلام. وفي رواية أخرى لمسلم بزيادة(4/291)
«إن» في أوله والتأكيد مناسب للوعيد والتشديد (من تأخذه النار إلى كعبيه) وهو العظم الناتىء عند مفصل الساق من القدم (ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه) وهو مجمع عظم الساق والفخذ (ومنهم من تأخذه إلى حجزته) بضم الحاء المهملة وإسكان الجيم وبالزاي (ومنهم من تأخذه إل ترقوته» ) أي وباقي الجسد الذي لم يأخذه العذاب يغلي بما أخذه منه العذاب (رواه مسلم) في صفة النار (الحجزة) بضبطها السابق وكان عليه ذكر ذلك (معقد الإزار) والسراويل كما في «شرح مسلم» له (تحت السرّة) المراد ما يحاذي ذلك المحل من جنبيه (والترقوة بفتح التاء) المثناة الفوقية (وضم القاف) وسكون الراء وفتح الواو، تفعلة وجمعها تراقي (هي العظم الذي عند ثغرة النحر) الثغرة بضم المثلثة وسكون المعجمة بعدها راء مهملة التي في وسطه قال في «شرح مسلم» : الترقوة بين ثغرة النحر والعاتق (وللإنسان ترقوتان في جانبي النحر) قال في «المصباح» : قال بعضهم: ولا تكون الترقوة لشيء من الحيوان إلا للإنسان خاصة.
5400 - (وعن ابن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقوم الناس) أي من قبورهم (لرب العالمين) أي لأمره وجزائه. قال كعب: يقومون ثلثمائة عام (حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» ) قيل سبب هذا العرق تراكم الأحوال وتزاحم حرّ الشمس والنار كما جاء في الرواية «إن جهنم تدير أهل المحشر، فلا يكون لأهل الجنة طريق إلاّ الصراط» فيكون الناس في ذلك العرق على قدر أعمالهم، فمنهم من يلجمه ويصير له كاللجام ويمنعه من الكلام ويصل لأذنه، ومنهم دون ذلك حتى إنه يكون للبعض إلى كعبه.
فإن قلت: إذ كان العرق كالبحر يلجم البعض فكيف يصل إلى كعب الآخر:(4/292)
قلنا: يجوز أن يخلق الله ارتفاعاً في الأرض تحت أقدام البعض، أو يقال يمسك الله عرق كل إنسان عليه بحسب عمله فلا يصل إلى غيره منه شيء كما أمسك جرية البحر لموسى وقومه حتى أتبعهم فرعون، قاله ابن ملك في «شرح المشارق» (متفق عليه) والسياق لمسلم (والرشح) بفتح الراء وسكون الشين المعجمة وبالحاء المهملة (العرق) بفتح أوليه المهملتين.
6401 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله) أي وعظ، وسميت خطبة لأنهم كانوا يلقونها عند الخطب والمهام. وحذف المفعول للتعميم أو للجهل بأعيانهم (خطبة، ما سمعت مثلها قط) لكمال بلاغتها، وقط بفتح القاف وضم الطاء المهملة المشددة في اللغة الفصحى ظرف لاستغراق ما مضى من الزمان نحو ما فعلته قط. قال ابن هشام: وقول العامة لا أفعله قط لحن (فقال) أي من جملتها، أو يحتمل أن يكون ذلك هو المقول كله (لو تعلمون ما أعلم) أي من أهوال الآخرة وما أعدّ في الجنة من نعيم وفي النار من العذاب الأليم (لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) قيل إن كان الخطاب للكافرين فليس لهم ما يوجب الضحك أصلاً، وإن كان للمؤمنين فعاقبتهم الجنة أبداً، وإن دخلوا النار فما يوجب البكاء بالنسبة إلى ما يوجب الضحك شيء يسير، فينبغي أن يكون الأمر بالعكس. قلنا: الخطاب للمؤمنين، لكن خرج هذا الحديث في مقام ترجيح الخوف على الرجاء، قال الكازروني: ففي الحديث الحثّ على البكاء والتحذير من إكثار الضحك (فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم) فيه استحباب تغطية الوجه عند البكاء وقد ورد الأمر به حال العطاس وكأنه ستر لما يعرض حينئذٍ في بشرة الوجه (ولهم خنين) في «المشارق» للقاضي عياض أنه بالمهملة للقابسي والعذري، وبالمعجمة للكافة وهو الصواب، وهو تردد في البكاء بصوت أغن. وقال أبو زيد: الخنين كالحنين اهـ. وفي «شرح مسلم» للمصنف: هو بالمعجمة في معظم النسخ، ولمعظم الرواة ولبعضهم بالمهملة، ومن ذكر(4/293)
الوجهين صاحب التحرير وآخرون وسيأتي معناه (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير، واللفظ له ومسلم في فضائل النبي بنحوه، ورواه الترمذي في التفسير وقال: حسن صحيح غريب، ورواه النسائي في الرقائق مختصراً «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» اهـ. ملخصاً من «الأطراف» للمزي. وللحافظ العسقلاني تعقب عليه في بعضه في كتابه «النكت الظراف» (وفي رواية)
هي لمسلم ( «بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصحابه شيء فخطب فقال: عرضت عليّ الجنة والنار) قال القاضي عياض: قال العلماء: يحتمل أنه رآهما رؤية عين كشف الله تعالى عنهما وأزال الحجاب بينه وبينهما كما خرج له عن بيت المقدس حين وصفه، ويحتمل أن يكون عرض وحي، وعلم من أمورهما تفصيلاً ما لم يعلمه قبل ذلك ومن عظم شأنهما ما زاده علماً بأمرهما وخشية وتحذيراً ودوام ذكر فلذا قال: لو تعلمون الخ. قال القاضي: والتأويل الأول أولى والتنبيه بألفاظ الحديث لما جاء في الأحاديث مما يؤيده كتناوله العنقود وتأخره مخافة أن تلحقه النار. وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان اليوم وهو مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة (فلم أر كاليوم في الخير والشر) قال المصنف: معنى الحديث لم أر خيراً أكثر مما رأيته اليوم في الجنة، ولا شرّاً أكثر مما رأيته في النار (ولو تعلمون ما أعلم) مما رأيته اليوم (لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) أي لحصل من الإشفاق البليغ ما يقلّ ضحككم ويكثر بكاءكم. وفيه دليل على أنه لا كراهية في استعمال «لو» في مثل هذا (فما أتى) أي جاء (على أصحاب النبيّ يوم أشد منه) في إزعاجهم بالموعظة وتأثرهم بها (غطوا) بتشديد الطاء المهملة أي ستروا (رءوسهم) بالغطاء (ولهم خنين» ) جملة حالية (الخنين بالخاء المعجمة) المفتوحة وبنونين أولاهما مكسورة خفيفة وبينهما تحتية ساكنة (هو البكاء مع غنة وانتشاق الصوت) وفي «شرح مسلم» : ومعناه بالمعجمة صوت وهو نوع من البكاء دون الانتحاب. قالوا: وأصل الخنين خروج الصوت (من الأنف) كالحنين بالمهملة. وقال الخليل: هو صوت فيه غنة. وقال الأصمعي:(4/294)
إذا تردد بكاؤه وصار في كونه غنة فهو: خنين. وقال أبو زيد الخنين هو شدة البكاء.
7402 - (وعن المقداد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تدنى) بالبناء للمفعول وحذف الفاعل للعلم بأنه الله تعالى (الشمس يوم القيامة من الخلق) أل فيه للجنس أي من المخلوقين (حتى يكون) تصير (منهم كمقدار) أي مثل مقدار (ميل) وذلك تشديد في الهول والكرب (قال سليم) بضم المهملة وفتح اللام وتخفيف التحتية (ابن عامر) وهو الجنائزي بالجيم والنون وهمزة بعد ألف ثم زاي الحمصي (الراوي عن المقداد) فهو تابعي يروي عن أبي الدرداء وعوف بن مالك، والمقداد ثقة بقي إلى بعد عشر ومائة روى عنه مسلم والأربعة كذا في «الكاشف» للذهبي (فوا ما أدري ما يعني) أي النبي (بالميل لمسافة الأرض) أي أراد المسافة التي هي عند العرب مقدار مدّ البصر من الأرض، وعند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع، وعند المحدثين أربعة آلاف ذراع. قال في «المصباح» : والخلف لفظي فإنهم اتفقوا على أن مقداره ستّ وتسعون ألف أصبع، ولكن القدماء يقولون الذراع اثنتان وثلاثون أصبعاً والمحدثون أربع وعشرون أصبعاً، فإذا قسم الميل على رأي المحدثين أربعاً وعشرين كان المتحصل أربعة آلاف ذراع اهـ. (أم) أراد (الميل الذي تكتحل به العين) قال في «المصباح» : قال الأصمعي: العامة يقولون لما يكتحل ب ميل وهو خطأ وإنما هو ملمول، وقال الليث: الميل المملول الذي يكتحل به البصر والله أعلم (فيكون على قدر أعمالهم في العرق) أي اختلافهم في مكان العرق منهم بحسب اختلافهم في العمل صلاحاً وفساداً ثم فصله كذلك زيادة في البيان فقال (فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه) بفتح الحاء المهملة وكسرها: وهما معقد الإزار، والمراد هنا ما يحاذي ذلك الموضع من جنبيه (ومنه من يلجمه العرق إلجاماً) أي يصل إلى فيه وأذنيه فيكون له بمنزلة اللجام من(4/295)
الحيوانات كما قال الراوي (وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى فيه» . رواه مسلم) .
8403 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يعرق) بفتح التحتية والراء (الناس) من شدة كرب يوم القيامة وأهوالها (يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم) بضم التحتية من ألجمه الماء: إذا بلغ فاه (حتى يبلغ آذانهم) وهذا لبعض الناس لتفاوت الناس في ذلك كما تقدم في الحديث قبله، واستثنى من ذلك الأنبياء والشهداء ومن شاء الله من المؤمنين والمؤمنات، ثم أشد الناس عرقاً الكافر، ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم (متفق عليه) رواه البخاري في الرقاق ومسلم في باب صفة الجنة والنار (ومعنى يذهب في الأرض: أي ينزل فيها ويغوص) في «المصباح» : يقال نزل من علوّ إلى أسفل ينزل نزولاً، وما ذكره المصنف في الحديث وجه، وفسر الشيخ زكريا يذهب بقوله يجري، ولا مانع من جريانه على وجه الأرض هذا القدر دون ما زاد عليه مع ارتفاعه وبلوغه إلى آذانهم لأنه ممكن والقدرة صالحة له.
9404 - (وعنه قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع وجبة) بفتح الواو وسكون الجيم وبالموحدة أي سقطة، قال في «المصباح» : يقال وجب الحائط ونحوه: سقط (فقال: هل تدرون ما هذا) أي المسموع، وظاهره أنهم سمعوها أيضاً كرامة، ولا مانع فقد سمعوا حنين الجذع وتسبيح الحصا في يده وغير ذلك، لكن قوله أولاً إذ سمع النبيّ ربما يومىء إلى اختصاصه بذلك، والله أعلم (فقلنا: الله ورسوله أعلم) فيه بيان أن الأدب إذا سئل الإنسان عما لا علم له به أن يكل العلم فيه إلى الله سبحانه ولا يتكلم فيما لا علم له(4/296)
به، وليس من التكلم بلا علم ما يستنبطه أهل العلم ويستخرجونه بما عندهم من جودة الذهن وحسن الفكر، بل هو من التكلم بالعلم، قال تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: 83) (قال هذا حجر) أي صوت حجر (رمي) بالبناء للمفعول (به في النار من) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض بمن الجارة وهو في مسلم بلفظ منذ وهي هنا بمعنى من لأنها جارة لاسم الزمان الماضي، فما في الرياض إن كان من المصنف فرواية بالمعنى (سبعين خريفاً) أي عاماً والمقام يقتضي حمله على حقيقته، ويحتمل أنها كناية عن الكثرة بما فوق وما دون (فهو يهوي) بكسر الواو: أي ينزل (في النار الآن) اسم للزمان الحال وهو ظرف خبر مقدم لقوله (حين انتهى إلى قعرها) وجملة انتهى مضاف إليها، وفتحت «حين» لإضافتها إلى جملة صدرها مبني فهو مرفوع، وتقديره الآن حين انتهى بها إلى قعر النار (فسمعتم وجبتها) بفتح الواو وسكون الجيم هكذا هو في أصل مصحح، ويحتمل أن يكون بكسر الجيم وبالتحتية فالموحدة ومعناه الاضطراب: أي صوت اضطراب النار من نزول الحجر إليها، قال في «المصباح» : وجب القلب وجيباً ووجباً: رجف، ثم قوله فسمعتم وجبتها ليس هو عند مسلم في حديث «حتى انتهى إلى قعرها» إنما هو عنده بإسناد آخر للحديث وفيه «وقال هذا وقع في أسفلها فسمع وجبتها» فيكون ذكر فسمعتم وجبتها مدرجاً في الحديث
الذي ذكره المصنف لأنه ليس عنده بإسناد ذلك الحديث إنما هو بإسناد آخر، والله أعلم (رواه مسلم) في باب صفة الجنة والنار.o
10405 - (وعن عديّ) بفتح العين المهملة وكسر الدال المهملة وتشديد التحتية (ابن حاتم) بالمهملة فالفوقية (رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في الكلام على الحديث في باب بيان كثرة طرق الخير (قال: قال رسول الله: ما منكم من أحد) من مزيدة في الفاعل لتأكيد العموم فيه لوقوعه بعد النفي (إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) قال في «المصباح» : ترجم(4/297)
فلان كلامه إذا بينه وأوضحه، وترجم كلام غيره: إذا عبر عنه بلغة عن المتكلم، واسم الفاعل ترجمان، وفيه لغات أجودها فتح التاء وضم الجيم ثم ضمهما ثم فتحهما والجمع تراجم والتاء والجيم فيه أصليتان فترجم بوزن دحرج اهـ. والمراد هنا أنه تعالى يكلمه بلا واسطة (فينظر أيمن منه) أي جانباً أيمن منه (فلا يرى) أي يبصر (إلا ما قدم) من صالح العمل (وينظر أشأم منه) بالشين المعجمة والهمزة من الشومي: وهو من أسماء الشمال (فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء) بكسر الفوقية وبالمد: أي قبالة (وجهه، فاتقوا النار) أي اجعلوا صالح العمل وقاية بينكم وبينها (ولو) كان (بشق) بكسر الشين المعجمة: أي نصف (تمرة متفق عليه) .
11406 - (وعن أبي ذرّ) بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إني أرى) أي أبصر أو أعلم (ما لا ترون) أي تبصرون أو تعلمون (أطت السماء وحق) بضم الحاء المهملة وتشديد القاف: أي ويحق (لها أن تئطّ) أي لما فيها من أعمال البرّ وعمالها كما قال (ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك) قال الدلجى: موضع بالتنوين، وقوله أربع أصابع ظرف مستقرّ لاعتماده على حرف النفي (إلا وملك) حال من فاعل الظرف أعني موضعاً: أي وفيه ملك (واضع) بالتنوين ويجوز تركه (جبهته ساجداً) حال من الضمير قبله لكون المضاف بعض ما أضيف إليه (تعالى) واستدل به على فضل السماء على الأرض، وهو المختار عند أصحابنا الشافعية فهي محل الطاعة ولم يقع عليها عصيان، وامتناع إبليس من السجود كان وهو خارج عنها، ويؤخذ منه فضل مواضع أعمال البرّ من الأرض على مواضع غيره، وقد أشار إليه إمامنا الشافعي بقوله:
إني نظرت إلى البقاع وجدتها
تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
(وا) أتى به تأكيداً لما بعده (لو تعلمون ما أعلم) من عظم جلال الله تعالى وشدة(4/298)
انتقامه (لضحكتم قليلاً) خوفاً من سطوة المولى سبحانه (ولبكيتم كثيراً) كذلك، وفي قوله قليلاً أولاً وكثيراً ثانياً إيماء إلى أن المطلوب من العبد أن لا ينتهي به الخوف إلى اليأس والقنوط بل يكون عنده بعض الرجاء فيعمل معه البر ويكون عنده من الخوف ما ينزجر به عن المخالفة، ويكون تارة في مظهر الجمال وتارة في مظهر الجلال (وما تلذذتم بالنساء على الفرش) أي لشدة ما كان يحصل لكم من الوجل (ولخرجتم إلى الصعدات) أي الطرقات (تجأرون) بسكون الجيم وبعدها همزة مفتوحة: أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة إلى الله تعالى، والجملة في موضع الحال: أي رافعي أصواتكم متضرّعين (إلى الله تعالى. رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال ابن أَقَبْرَس: أخرجه مرفوعاً، وأخرجه أيضاً في الزهد، ويروى عن أبي ذرّ موقوفاً، وأخرجه ابن ماجه اهـ. وكذا ذكر السيوطي في تخريج الشفاء أن ابن ماجه أخرجه أيضاً (وأطت بفتح الهمزة وتشديد الطاء) المهملة (وتئطّ بفتح التاء) أي الفوقية (وبعدها همزة مكسورة) مكتوبة بصورة الياء على القاعدة (والأطيط) بفتح الهمزة وكسر الطاء الأولى (صوت الرجل) بالحاء المهملة هو ما يشد على البعير ويوضع عليه الحمل ويسمى بالكور. قال في «النهاية» : وقد تكرر ذكر الرجل مفرداً وجمعاً وهو له كالسرج للفرس اهـ. (والقتب) بفتح القاف والفوقية وبالموحدة قال في «المصباح» القتب للبعير جمعه أقتاب كسبب وأسباب وعليه فيكون من عطف الرديف (وشبههما) من ذي الصوت (ومعناه) أي معنى هذا الكلام (أن كثرة من في السماء من الملائكة العابدين قد أثقلها حتى أطت) أي حصل الصوت منها كما يحصل من الرجل إذا ركب عليه، أجرى المصنف الكلام على ظاهره. قال ابن الأثير في «النهاية» : وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط إنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى. زاد الدلجى بعد
حكايته قوله فأفرغ هذا الكلام في قالب الاستعارة التمثيلية تقريباً وتقريراً لعظمة الله تعالى. وقال ابن أقبرس: وهذا عندي على طريق الاستعارة بالكناية، شبهت السماء بذي الصوت من الإبل، ثم ذكر شيئاً من لوازم الإبل والأقتاب المركوب عليها وهو الصوت المعبر عنه بقوله أطت لينتقل الذهن منه إليه، وأنت خبير بما بين الكلامين يعني كلامه وكلام «النهاية» من الحسن اهـ. وما ذكره من أن الاستعارة المكنية لفظ المشبه به مراداً به المشبه مذهب(4/299)
فيها، ومذهب الخطيب وعليه الجمهور أنها التشبيه المضمر في النفس وقرينتها الاستعارة التخييلية: أي إثبات لازم المشبه به للمشبه، والله أعلم (والصعدات ضم الصاد والعين) وبالدال المهملة (الطرقات) بضم أوليه جمع طريق (ومعنى تجأرون تستغيثون) مضارع من الاستغاثة بالمثلثة: سؤال للغوث.
12407 - (وعن أبي برزة) بموحدة ثم (براء ثم زاي) ثم هاء (نضلة) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة (ابن عبيد) بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية، هذا هو الصحيح المشهور في اسمه واسم أبيه، ويقال نضلة بن عمرو ويقال نضلة بن عبد الله. قال الحاكم في «تاريخ نيسابور» : وقيل اسمه عبد الله بن نضلة، وقيل نضلة بن دينار. قال: وقيل كان اسمه نضلة بن دينار فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله، وقال: «دينار» شيطان (الأسلمي) من ولد أسلم بن أقصى بن حارثة (رضي الله عنه) وأبو برزة كنية انفرد بها لا يعرف في الصحابة من يكنى بها غيره، كما قاله الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي البغدادي في التنبيه على الغربيين وذكره الحاكم في الكنى المفردة، ومعناه: ليس في الناس من يكنى بها غيره ومراده من قبله، وإلا فقد كنى بها بعده أبو برزة الفضل بن محمد الحاسب. أسلم أبو برزة قديماً وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأربعة. نزل البصرة وولده بها ثم غزا خراسان. وقيل: إنه رجع البصرة وبها توفي، وقيل توفي بخراسان في خلافة معاوية أو يزيد، وقيل توفي سنة ستين، وقيل سنة أربع وستين اهـ. ملخصاً من «التهذيب» للمصنف.
(قال: قال رسول الله: لا تزول قدما عبد) أي من موقفه للحساب إلى جنة أو نار (حتى يسأل) بالبناء للمفعول (عن عمره) بضم أوليه ويسكن ثانيه تخفيفاً: أي حياته وبقائه في الدنيا (فيما أفناه) في طاعة أم معصية، فما استفهامية فيه وفيما بعده وإثبات ألفها مع كونها مجرورة قليل والكثير حذفها (وعن عمله فيما(4/300)
فعل فيه) لوجه الله تعالى خالصاً فيثاب عليه، أو رياء وسمعة فيعاقب عليه إن شاء الله تعالى. (وعن ماله من أين اكتسبه) أمن حلال ذلك أو حرام (وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه) في طاعة مولاه أم في سواه، ويستثنى من ذلك الأنبياء وبعض صالحي المؤمنين كالذين يدخلون الجنة بغير حساب (رواه الترمذي) في أبواب الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح) وطريقه واحد، فالتقدير على ما قرره الحافظ العسقلاني في مثله كما تقدم حسن أو صحيح.
13408 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله: يومئذٍ تحدث أخبارها ثم قال أتدرون ما أخبارها؟) المحدثة بها (قالوا: الله ورسوله أعلم) أي عالم، وليس مرادهم أن عندهم به علم، وا ورسوله أعلم بذلك منهم فأفعل فيه بمعنى أصل الفعل، ويحتمل كونه على ظاهره وسكوت العالم إما أدباً أو لزيادة استبصار ووقوف على ما لم يعلم (قال: فإن أخبارها أن تشهد) بلسان قالها كما هو الظاهر ولا مانع منه لأنه ممكن وهو أبلغ في إلزام الحجة (على كل عبد أو أمة بما علم على ظهرها) الظاهر أن العموم فيه مخصوص بغير ذي الأعمال المكفرة، ويحتمل عموم الخبر لهم ويكون شهادتها بذلك تذكيراً لمزيد إنعام الله عليه حيث سامحه بسوء عمله ولم يعاقبه عليه بل أثابه من فضل، وقوله: (تقول عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا) تفصيل للشهادة وبيان لكيفتها وكذا كناية عن مقدار الشيء وعدته، وتكون كناية عن الأشياء فتقول فعلت كذا وقلت كذا، قال: فإن قلت: فعلت كذا وكذا فلتعدد الفعل، والأصل ذا ثم أدخل عليه كاف التشبيه بعد زوال معنى التشبيه والإشارة، وجعل كناية عما يراد به وهو معرفة فلا يدخله أل قاله في «المصباح» (فهذه(4/301)
أخبارها) بفتح الهمزة جمع خبر (رواه الترمذي) في الزهد والتفسير من «جامعه» (وقال حديث حسن) ورواه النسائي في التفسير.
14409 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «كيف أنعم) بفتح العين من النعمة بفتح النون: وهي المسرة والفرح. قال في «المصباح» : نعم عيشه ينعم من باب تعب: اتسع ولان: أي كيف أتسع في الدنيا وألتذ بها. قال المظهري: أي كيف أطيب عيشاً وقد قرب أمر الساعة وكأنه خاف على أصحابه منها، وقد علم أنها لا تقوم إلا على أشرار الناس، أو حثّ لأصحابه على الوصية لمن بعدهم بالتهيؤ لها (وصاحب القرن) أي الصور يعني الملك الموكل به وهو إسرافيل (قد التقم القرن) أي وضع فاه عليه: قال المظهري في «المفاتيح» : يقال التقمت اللقمة: أي ابتلعتها يعني وضع الصور في فمه (واستمع) أي أصغى (الإذن) يحتمل أن يكون مفعولاً به أي يستمعه وينظر وأن يكون مفعولاً له (متى يؤمر بالنفخ) أي بنفخ الصور (فينفخ) أي عقب الأمر فحينئذٍ يصعق من في السموات والأرض: أي يموت (فكأن ذلك) أي المذكور من قرب الساعة، وهي إنما تقوم على الأشرار (ثقل) بفتح المثلثة وضم القاف: أي عظم ومصدره ثقل بوزن عنب كما في «المصباح» : أي فكأنه ثقل (على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال) أي النبيّ (لهم: قولوا حسبنا) أي محسبنا وكافينا من أحسبه الشيء أي كفاه وهو خبر والمبتدأ هو (اونعم الوكيل) أي الموكول إليه والمخصوص بالمدح مضمر بعد الواو والجملة الفعلية خبره، والأصح وقوع الجملة الإنشائية خبراً بلا تأويل وفي الكلام عطف خبرية على مثلها. قال في «المفاتيح» : والدليل أن حسبك بمعنى محسبك وقوعه صفة للنكرة في نحو مررت برجل حسبك فلو لم يصح لكان اسم فاعل، وإضافته على معنى الانفصال لما وصف به النكرة لأنه مضاف لمعرفة (رواه الترمذي) في أبواب الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن) ورواه(4/302)
النسائي في التفسير من طريق عن أبي هريرة بنحوه (القرن) بفتح القاف وسكون الراء مضاف لمعرفة (الصور) بضم الصاد المهملة وسكون الواو وبالراء (الذي قال الله تعالى) أي فيه (ونفخ في
الصور، كذا فسره رسول الله) قلت: رواه أحمد والترمذي وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن النبيّ قال: «الصور قرن ينفخ فيه» وفي الترمذي بيان سببه قال: «قال أعرابيّ: يا رسول الله ما الصور؟ قال: قرن ينفخ فيه» قال ابن رسلان: قوله الصور قرن هو على هيئة البوق دائرة رأسه كعرض السموات والأرض، ولأبي الشيخ في كتاب العظمة من حديث أبي هريرة «إن الله تعالى لما خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر» .
وفي رواية لأبي الشيخ «فأطرق صاحب الصور وقد وكل به مستعداً ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتدّ إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان» وإسنادهما جيد اهـ.
15410 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله «من خاف) أي خاف البيات (أدلج) أي هرب في أوّل الليل (ومن أدلج بلغ المنزل) الذي يأمن فيه البيات. قال العاقولي: هذا مثل طالب الآخرة وكون الشيطان على طريقه، فإن تبتل بالطاعة وصبر مدة أيامه القلائل أمن فيه الشيطان. وقال المظهري: أي من خاف الله فليهرب من المعاصي إلى طاعته تعالى (ألا) أداة استفتاح (إن سلعة ا) بكسر السين المهملة وجمعها سلع فهي كسدرة وسدر. والسلعة: المتاع (غالية) بالمعجمة: أي رفيعة القيمة (ألا إن سلعة ا» ) هي الجنة وهي عزيزة لا يليق بثمنها إلا بذل النفس والمال (رواه الترمذي) في باب الزهد (وقال: حديث حسن) وروى عن مطرف عن أبي سعيد، وقيل عن ابن عباس اهـ. (وأدلج بإسكان الدال) المهملة وبالجيم معناه (سار من أول الليل) وهو أنسب بالحديث لكونه أدل على مزيد الاهتمام والاعتناء وأمكن في القصد للبعد عن العدو، وما ذكره المصنف هو ما في «النهاية» وزاد فيها «وادّلج» بالتشديد: إذا سار من آخره، والاسم منها الدلجة بالضم والفتح،(4/303)
ومنهم من يجعل الإدلاج أي بوزن إكرام مصدر أدلج بالتخفيف لليل كله ولم يفرق بين أوله وآخره، وأنشدوا لعلي:
اصبر على السير والإدلاج في السحر
اهـ. قلت: وجرى على هذا الأخير صاحب «المصباح» ، وعبارته أدلج إدلاجاً مثل أكرم إكراماً: سار الليل كله فهو مدلج، وإن خرج آخر الليل فقد ادّلج بالتشديد اهـ. وكأن المصنف جرى على القول المذكور في الأصل لأنه أنسب بالحديث لما ذكرنا (والمراد التشمير في طاعة ا) أي إنه تمثيل لذلك كما سبق عن العاقولي وإلا فلا مسافة حسية تقطعها بسيرك ليلاً، إنما هي المجاهدات المورثة بالفضل الإلهي للمشاهدات.
16411 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يحشر الناس) عامّ مخصوص فقد جاء في صحيح مسلم «أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ثم أكسى» الحديث (يوم القيامة حفاة) بضم أوله المهمل وبالفاء جمع حاف: وهو الذي لا حذاء في رجله ولا خف (عراة) بالضبط المذكور جمع عار وهو الذي لا ثوب ببدنه (غرلاً) أي غير مختونين، والفائدة في خلق الجلدة المقطوعة من الذكر والعلم عند الله تعالى التنبيه على إحكام خلقته إذ خلقه للأبد لا للفناء إذ لم ينقص من أعضائه بل أعيد كاملاً، أو أنه التزم عوده كما كان، قاله المظهري والثلاثة منصوبة على الحال من الفاعل (قلت: يا رسول الله الرجال والنساء جميعاً) منصوب على الحال من الرجال الفاعل بمحذوف دل عليه ما قبله: أي الحشر حال كونهم مجموعين، وقولها (ينظر بعضهم إلى بعض) يحتمل أن يكون حالاً من ذلك أو من ضمير جميعاً المستكن فيه وأن تكون مستأنفة لبيان السؤال عن جميعهم في الحشر (فقال يا عائشة الأمر) أي هول الأمر وشدته (أشد من أن يهمهم) بفتح التحتية وضم الهاء أو بضم التحتية وكسرها قال. في «المصباح» : يقال أهمني الأمر بالألف: أقلقني، وهمني هما من باب قتل مثله (ذلك» ) أي النفوس إنما تنظر لذلك عند الاستراحة وهم في(4/304)
هول يذهل به الخليل عن خليله كما تقدم أوّل الباب.
(وفي رواية) هي «للصحيحين» أيضاً كما في «المشكاة» وهي عند النسائي وابن ماجه كما في «الجامع الكبير» ( «الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض» ) جاء في رواية ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً «قالت عائشة: ينظر بعضهم إلى بعض، قال: شغل الناس يومئذٍ عن النظر وسموا بأبصارهم إلى السماء موقوفون أربعين سنة لا يأكلون ولا يشربون» (متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق ومسلم في أبواب صفة الجنة والنار (غرلاً بضم الغين المعجمة) وسكون الراء (أي غير مختونين) في «المصباح» : الغرلة مثل القلفة وزناً ومعنىً، وغرل غرلاً من باب تعب: إذا لم يختن فهو أغرل والأنثى غرلاء والجمع غرل من باب أحمر اهـ. والله أعلم.
51 - باب الرجاء
بفتح الراء وبالمد: هو ضد الخوف، وعرف بأنه تأمل الخبر وقرب وقوعه. ويطلق على الخوف ومنه قوله تعالى: {مالكم لا ترجون وقاراً} (نوم: 13) وقال الراغب في «مفرداته» : قيل مالكم لا تخافون؟ ووجه ذلك أن الرجاء والخوف يتلازمان. وفي «الرسالة القشيرية» : الرجاء تعليق القلب بمحبوب في المستقبل، والفرق بينه وبين التمني أن التمني يصاحبه الكسل ولا يسلك صاحبه طريق الجد وضده صاحب الرجاء، وقدم المصنف الخوف عليه لأنه باعتبار نتائجه من باب التخلية بالخاء المعجمة إذ ينتج ترك المخالفة، والرجاء من باب التحلية بالمهملة إذ يبعث على صالح العمل إذ لولا الرجاء لما وجد عمل، أما تمني الثواب لا مع صالح العمل فذلك أمنية وليس من الرجاء في شيء. وفي الحديث عن شداد بن أوس عن النبيّ «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» .(4/305)
(قال الله تعالى) : {قل يا عبادي} ) إضافتهم إليه إضافة تشريف وتكريم ليذهب عنهم ما عداهم من خشية المعصية وبعد المخالفة، وتخصيصهم بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن ( {الذين أسرفوا على أنفسهم} ) أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعصية ( {لا تقنطوا من رحمة ا} ) لا تيأسوا من مغفرته أوّلاً وتفضله ثانياً ( {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} ) عفوا ولو بعد بعدا وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر، ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} (النساء: 48) الآية والتعليل بقوله ( {إنه هو الغفور الرحيم} ) للمبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في عبادي من الدلالة على الذلة والاختصاص المقتضين للترحم وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم، والنهي عن القنوط مطلقاً عن الرحمة فضلاً عن المغفرة وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب، ووضع اسم الله موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق والتأكيد، وما روي من خصوص نزولها بعياش أو الوليد بن الوليد بن جماعة فتنوا فافتتنوا، أو في وحشي لا ينفي عمومها إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(وقال تعالى) : {وهل يجازى إلا الكفور} ) أي هل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في الكفران أو الكفر، وفيه إيماء إلى أن المؤمنين لا يجازون كذلك للغفران الكائن لهم بشرف الإيمان.
(وقال تعالى) مخبراً عن موسى وهارون ( {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب} ) وهو عبارة عن الألم مع الإماتة ( {على من كذب وتولى} ) وفيه إيماء إلى سلامة من أمن من ذلك، ولا ينافيه ما ورد من تعذيب قوم من أهل التوحيد لأنه ليس لإهانتهم بل لتطهيرهم لما حصل لهم من دنس المخالفة حتى يتأهلوا لدخول الجنة والحلول بها.e جعلنا الله من أهل الجنة بمحض الفضل والمنة.
(وقال تعالى:(4/306)
{ورحمتي وسعت كل شيء} ) (الأعراف: 156) المؤمن والكافر. قال البيضاوي: وهذا في الدنيا، وأما في الآخرة قوله: {فسأكتبها للذين يتقون} (الأعراف: 156) الآية.
1412 - (وعن عبادة بن الصامت) الأنصاري الخزرجي تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الأمر بالمعروف (قال: قال رسول الله: من شهد) أي علم (أن لا إله) أي لا معبود بحق في الوجود (إلا ا) بالرفع بدلاً من محل اسم لا قبل دخولها ولا يجوز الإبدال من محله بعد دخولها لأنها لا تعمل في المعارف، وفي إعرابها بسط ذكرته في باب فضل الذكر وباب التشهد من «شرح الأذكار» (وحده) أي منفرداً بالألوهية وغيرها من أوصاف الكمال (لا شريك له) في ذلك ولا في شيء من أوصافه ولا من أفعاله بل كان ما في الوجود خلق الله وحده، والمراد من صدّق بمضمون ذلك وأذعن له بجنانه ونطق به بلسانه، فإن منع من النطق مانع من خرس أو معالجة منية فهو مؤمن، وإلا فنقل المصنف في أوّل شرح مسلم الإجماع على كفره. وعورض بأن الغزالي نقل فيه عن جمع أنه مؤمن عاص بترك النطق بها (و) شهد (أن محمداً عبده) هو أشرف أوصافه فلذا ذكره به في الكتاب في أشف المواطن كمقام الإسراء وإنزال الكتاب عليه ولذا قدمه على قوله (ورسوله) وفيه إيماء إلى ما جنح إليه ابن عبد السلام في تفضيل النبوّة لتعلقها بالحق على الرسالة لتعلقها بالخلق، وذلك لأنه قدم العبودية لكونها إضافة إلى الحق له بها شرف على الخلق، والرسالة ليست كذلك وإن كان الأصح عند الجمهور تفضيل الرسالة لوجود التعلق بالحق فيها كالنبوة وزيادتها بالإبلاغ للخلق (وأن عيسى) اسم معرب يسوع كما في البيضاوي، قال: واشتقاقه من العيس وهو بياض تعلوه حمرة تكلف لا طائل تحته (عبد ا) خصه بالذكر رداً على النصارى في إنكارهم ذلك، وقولهم إنه ابنالله، تعالى الله عن ذلك (ورسوله) إلى بني إسرائيل (وكلمته) سمي به لأنه وجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأوامر،
قال الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» : وسماه كلمة مبالغة لأنه تكلم في غير أوانه، وأضيف إلى الله تعالى تعظيماً (وروح منه) سماه روحاً لأنه أحيى به الأموات فكان كالروح وأحيى به القلوب من(4/307)
موت الجهالة، أو لأنه حدث من نفخ الروح كما قال تعالى:
{فنفخنا فيها من روحنا} (الأنبياء: 91) قيل كان النافخ جبريل وإضافته إلى الله تعالى لأنه كان بأمره. وفي «تفسير البيضاوي» أي ذي روح صدر منه لا يتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة (والجنة والنار) بالنصب عطفاً على ما قبله: أي وشهد أنهما (حق) أي ثابتان موجودان، وأفرد الخبر مع تثنية المخبر عنه إما لأنه مصدر أو لإرادة كل واحدة منهما (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أي على أي عمل كان سيئاً أو حسناً، وهو حال نحو رأيت فلاناً على أكله: أي آكلاً وفيما نحن فيه لا يجوز أن يقدر عاملاً، لأن العمل غير حاصل وقت الدخول فيقدر مستحقاً بما يناسب عمله من الثواب والعقاب، يعني من مات على الإيمان لا تخرجه الكبائر عن إيمانه فيدخل الجنة، أما كونه ابتداء أو بعد دخول النار فمفوض إلى مشيئة الله تعالى. قال الطيبي في «شرح المشكاة» : لا يتصوّر هذا في حق العاصي الذي مات قبل التوبة إلا إذا دخل الجنة قبل استيفاء العقوبة. فإن قلت: ما ذكرت يستدعى أن لا يدخل أحد من عصاة المؤمنين النار. قلت: اللازم عموم العفو وهو لا يستلزم عدم دخول النار لجواز أن يعفو عنهم بعد دخولها قبل استيفاء العذاب، فليس يحثم عندنا أن يعذب بالنار أحد من الأمة بل الواجب العفو عن الجميع بموجب وعده حيث قال {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} (متفق عليه) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، ومسلم في الإيمان ورواه النسائي في «اليوم والليلة» وفي التفسير من «سننه» كذا قاله المزي في «الأطراف» .
(وفي رواية لمسلم) أي عن عبادة بن الصامت أيضاً رواه الإمام أحمد والترمذي قاله في «الجامع الصغير» : وقال الحافظ المزي: أخرجه مسلم والترمذي في الإيمان وأخرجه النسائي في «اليوم والليلة» ، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ويلزم من شهادته برسالته شهادته برسالته بسائر الأنبياء لأن النبي جاء بذلك (حرم الله عليه النار) أي الخلود فيها، وأول الحديث كما في مسلم عن الصالحي قال: «دخلت على عبادة بن الصامت وهو في الموت فبكيت، فقال لي: مهلاً لم تبك؟ فوا لئن استشهدت لأشهدن(4/308)
لك، ولئن شفعت لأشفعن لك، ولئن استطعت لأنفعنك، ثم قال: وا ما من حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً وسوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي سمعته يقول: من شهد الخ» .
2413 - (وعن أبي ذرّ) الغفاري (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يقول الله عزّ وجل) فيه دليل على عدم كراهة استعمال المضارع فيه، لأن المراد به الدلالة على دوام ذلك وعدم انقطاعه خلافاً لمن كرهه من السلف لما يدل عليه من التجدد والحدوث، وأوصاف الله تعالى قديمة أزلية، والحديث من الأحاديث القدسية (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) أي عشر حسنات أمثالها فضلاً من ا؛ أي جزاؤها مكرراً عشر، لا أنه يكرّر نفس الحسنة كذلك، وقد نبه الشيخ زكريا في سورة النساء من «حاشيته» على البيضاوي على أن هذا أقلّ مراتب المضاعفة ولذا قال (أو أزيد) وأو فيه يحتمل أن تكون بمعنى بل: أي بل أزيد من ذلك كما قال تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} (البقرة: 245) . (وقال تعالى) : {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} ) . وقال تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} (السجدة: 17) قال البيضاوي: وهذا أي العشر أقل ما وعد من الأضعاف، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب، ولذا قيل المراد بالعشرة الكثرة دون العدد (ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة سيئة مثلها) قضية العدل (أو أغفر) فضلاً وإحساناً وانظر إلى ما انطوى عليه هذا الحديث من اللطف في جانب الحسنة إضافتها للجائي بها باللام الدالة على الاختصاص تشريفاً وتكريماً، وفي جانب السيئة ترك ذلك إيماء إلى قبح المعصية وأن حقها أن تباعد وتزايل حتى لا تنسب لأحد (ومن تقرب مني) أي من فضلي ورحمتي (شبراً) بالمبالغة في المجاهدة وأداء واجب الألوهية (تقربت منه) أي بفضلي وتوفيقي (ذراعاً ومن تقرب مني) بذلك (ذراعاً) وهو دون ما قبله (تقربت منه باعاً) ففيه أن الجزاء على قدر العمل وبحسبه، والباع والبوع بضم الموحدة وفتحها طول ذراعي الإنسان وعضده(4/309)
وعرض صدره: قال الباجي: وهو قدر أربعة أذرع (ومن أتاني يمشي) وأسرع نحو طاعتي (أتيته هرولة) أي صببت عليه الرحمة وسبقته بها ولم
أحوجه إلى مزيد مشي في وصوله لمراده، والمقصود أن جزاءه يكون على حسب عمله وتقربه، والهرولة بفتح الهاء وسكون الراء وهي إسراع في المشي دون الخبب، قال المصنف: هذا الحديث من أحاديث الصفات، ومستحيل إرادة ظاهره لما فيه من باب التمثيل كما سيأتي قال القرطبي إن قيل مقتضى ظاهر الخطاب أن جزاء الحسنة بمثلها إذ الذراع شبران والباع ذراعان وتقدم في الكتاب والسنة أن أقل ما يجازى على الحسنة بعشرأمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف لا تحصى فما وجه الجمع؟ قلنا: هذا الحديث ما سيق لبيان مقدار عدد الأجور وعدد تضاعيفها، وإنما سيق لتحقيق أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل قليلاً كان أو كثيراً، وأن الله يسرع إلى قبوله وإلى مضاعفة الثواب عليه إسراع من جيء إليه بشيء فبادر لأخذه وتبشبش له بشبشة من سرته ووقع منه الموقع، ألا ترى إلى قوله: وإن أتاني يمشي أتيته هرولة وفي لفظ آخر «أسرعت إليه» ولا تتقدر الهرولة والإسراع بضعفي المشي، وأما عدد الأضعاف فيؤخذ من حديث آخر لا من هذا الحديث اهـ. وما ذكره من أن الباع ذراعان مخالف لما نقله المصنف عن الباجي من أنه أربعة أذرع (ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة) تمييز لقراب الأرض: أي بما يقارب ملأها من الخطايا لو ككان جسماً وجرماً وقوله (لا يشرك بي شيئاً) جملة في محل الحال من فاعل لقى (لقيته بمثلها مغفرة، رواه مسلم) في كتاب الدعوات ورواه ابن ماجه في فضائل التسبيح.
(ومعنى الحديث) أن قوله تعالى فيه «من تقرّب مني شبراً» إلى قوله «أتيته هرولة» ليس على ظاهره لاستحالته على الباقي لما فيه من اعتوار الحركة وغيرها عليه تعالى عن ذلك، بل معناه: من تقرب إلى بطاعتي تقربت إليه برحمتي، وإن زاد زدت. فظاهره أن قوله: وإن زاد زدت، تفسير للمراد من قوله: ومن تقرب مني ذراعاً، وفيه ما لا يخفى بل الظاهر أنها أومأت إلى جزاء العامل على عمله الصالح وإن قل، فالجملة الأولى لبيان عظم الثواب على كثرة العمل ومزيد المجاهدة، والثانية لبيان حصول ثواب العمل وإن قل {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} (الكهف: 30) والله أعلم. (وإن أتاني) أي أقبل على طاعتي(4/310)
(يمشي) أي يجد ويجتهد (وأسرع في طاعتي) حسب طاقته فيها ولم يقدم عليها علائقه (أتيته هرولة: أي صببت عليه الرحمة صباً وسبقته بها، ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود) قال القرطبي: هذه الجمل أمثال ضربت لمن عمل من الطاعات وقصد به التقرب إلى الله تعالى تدل على أنه تعالى لا يضيع أجر محسن وإن قل عمله، بل يقبله ويثيبه مضاعفاً، ولا يفهم من الحديث الخطا بنقل الأقدام إلا من ساوى الحمر في الأفهام اهـ. (وقراب الأرض بضم القاف، ويقال) فيما نقله القاضي عياض وغيره (بكسرها) مصدر قارب الأمر: إذا داناه، يقال لو أن لي قراب هذا ذهباً: أي ما يقارب ملأه ولو جاء بقراب الأرض بالكسر أيضاً بما يقاربها اهـ. (والضم أفصح وأشهر) مقتضى كلامه في «شرح مسلم» أن الكسر قريب، وعبارته فيه بضم القاف على المشهور فيخالف ما هنا من أن الكسر مشهور إلا أن الضم أشهر منه ولا مخالفة تأمل. (ومعناه: ما يقارب ملأها) بكسر الميم (والله أعلم) .
3414 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: جاء أعرابي) واحد الأعراب وهم سكان البادية من العرب (إلى النبي فقال: يا رسول الله: ما الموجبتان؟ قال) أي النبي (من مات لا يشرك با شيئاً) أي من الشرك الجلي أو من المعبودات: أي وحد الله تعالى وأفرده بالعبودية (دخل الجنة) قال المصنف: هذا مما أجمع عليه المسلمون ابتداءً مع الفائزين إن لم يمت مصرّاً على الكبائر، وإن مات مصرّا عليها فهو تحت المشيئة إن شاء عذبه ثم أدخله الجنة» وإن شاء أدخله إياها ابتداءً بفضله (ومن مات يشرك به شيئاً) من الشرك الجليّ أو من المعبودات (دخل النار) وخلد فيها ولم يخرج منها أبداً لا فرق بين كتابي وعابد وثن وسائر(4/311)
الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عناداً وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام ولا من انتسب إليها، ثم حكم بكفره يجحده ما يكفر بجحده أو غير ذلك. أما الشرك الخفي من الرياء والسمعة فلا يقتضى أن يؤيد في النار إذا مات صاحبها على الإيمان (رواه مسلم) في كتاب الإيمان.
4415 - (وعن أنس رضي الله عنه أن النبيّ، ومعاذ) كذا وقفت عليه في نسخ الرياض بالرفع وهو مبتدأ خبره قوله (رديفه) بفتح الراء وكسر المهملة وقوله (على الرحل) متعلق بالخبر والجملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها وهو قوله (قال يا معاذ؟ قال لبيك) بتشديد الموحدة، أي إجابة بعد إجابة، وقيل قربا منك وطاعة لك، وقيل أنا مقيم على طاعتك، وقيل محبتي لك، وقيل غير ذلك (وسعديك) أي ساعدت طاعتك مساعدة لك بعد مساعدة فهما مثنيان مراداً منهما التكثير (قال: يا معاذ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك، قال يا معاذ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثاً) ظرف لمقرر مقدر وتكرير نداء معاذ لتأكيد الاهتمام بما يخبره به وليكمل تنبه معاذ فيما يسمعه، وثبت في الصحيح «أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً لهذا المعنى» قاله المصنف (قال ما من) مزيدة لتأكيد عموم النفي (عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً) حال: أي حال كونه صادقاً في ذلك، أو مفعول مطلق: أي شهادة صدقاً أو شهادة صدق فأقيم المضاف مقامه فانتصب انتصابه (من قلبه) وهذا القيد لإخراج شهادة اللسان إذا لم يطابقها الجنان كالمنافقين (إلا حرّمه الله على النار) أي الخلود فيها فلا ينافي تعذيب بعضهم (قال) أي معاذ (يا رسول الله ألا أخبر بها الناس) إدخالاً للسرور عليهم وحثاً على صدق الإيمان وتحريضاً على الإخلاص (فيستبشروا، قال إذاً يتكلوا) أي يتركوا الأعمال ويتكلوا على ذلك فيفوتهم(4/312)
بذلك عالي المنازل في العقبى، وهو لمزيد اهتمامه بأمته واعتنائه بشأنهم لا يريد لهم إلا المنازل العلى، فأشار إلى معاذ بالترك لأنه رأى الثمرة المترتبة عليه أتم من المترتبة على الإعلام (فأخبر بها) أي بالبشارة المدلول عليها بقوله: يستبشرون (عند موته تأثماً) مفعول له: أي خروجاً من إثم كتم ما للناس إليه حاجة من الشريعة، وقد جاء الوعيد الشديد في الكتم، قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا
من البينات والهدى} (البقرة: 159) الآية. (متفق عليه) أخرجاه في الإيمان.
(قوله تأثماً أي خوفاً من الإثم) الكائن أو كائناً (في كتم هذا العلم) أي كتم هذا القدر منه.
5416 - (وعن أبي هريرة أو أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما) وقوله (شك الراوي) أي هو الأعمش كما في «صحيح مسلم» بيان لأن أو للتردد والشك في عين الراوي منهما (ولا يضرّ الشك في عين الصحابي لأنهم كلهم عدول) من خالط الفتن ومن اعتزلها لأنهم فيها بين مجتهد مصيب فله أجران أو مخطىء فله أجر، وإذا كانوا كذلك فلا غرض في تعيين الراوي منهم. وقد قال علماء الأثر إذا قال الراوي: حدثني فلان أو فلان وهما ثقتان احتج به بلا خلال لأن المقصود الرواية عن ثقة سمي وقد حصل. وهذه قاعدة ذكرها الخطيب البغدادي في «الكفاية» وذكرها غيره وهي في غير الصحابي، ففي الصحابي أولى لعدالتهم أجمعين، قاله المصنف في «شرح مسلم» (قال: لما كان يوم) المراد به هنا الزمن أي زمن (غزوة تبوك) تقدم ضبطه وبيان جواز صرفه وعدمه ووجه تسميته بذلك وبيان تاريخ الغزوة في باب التوبة أول الكتاب (أصاب الناس مجاعة) قال في «النهاية» : مفعلة من الجوع اهـ. ومقتضى قول «الصحاح» وقد جاع يجوع جوعاً ومجاعة أنه مصدر ميمي والجوع ضد الشبع (قالوا: يا رسول الله) استئناف بيان كأنه قيل ماذا قالوا حينئذٍ؟ فقال قالوا يا رسول الله (لو(4/313)
أذنت لنا) أي في نحر دوابنا المأكولة كما يدل عليه ما بعده، ولو في للتمني فلا جواب لها، ويحتمل كونها الشرطية والجواب محذوف: أي لو أذنت لنا في نحرها (فنحرنا نواضحنا) جمع ناضح أصله البعير الذي يستقى عليه الماء قال في «المصباح» : ثم استعمل في كل بعير وإن لم ينضح عليه ومنه حديث «أطعمه ناضحك» أي بعيرك. قلت: وما هنا محتمل لذلك (فأكلنا) لحومها (وادهنا) من شحومها، وقال صاحب «التحرير» : ليس المقصود منه ما هو المعروف من الادّهان إنما معناه: لو اتخذنا من شحومها
لارتفقنا بذلك أو لكان خيراً أو لكان صواباً أو رأياً مبيناً أو مصلحة ظاهرة وما أشبه ذلك، وعلى كونها شرطية محذوفة الجواب جرى المصنف في «شرح مسلم» : ثم قال: وقولهم «لو أذنت لنا» هذا من أحسن أدب خطاب الكبار والسؤال منهم، وهو أجمل من قولهم للكبير: افعل كذا بصيغة الأمر، وفيه أنه لا ينبغي للعسكر أن يضيعوا دوابهم التي يستعينون بها في القتال بدون إذن الإمام، ولا يأذن لهم إلا إذا رأى مصلحة أو خاف مفسدة ظاهرة اهـ. (فقال رسول الله: افعلوا) وذلك مراعاة لمصلحتهم وتقديم الأهم فالأهم وارتكاب أخفّ الضررين دفعاً لأشدهما (
فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر) أي الدوابّ سميت بذلك لكونها يركب على ظهورها أو لكونها يستظهر بها ويستعان بها على السفر، وإسناد فعلهم وهو نحرها إليه مجاز عقلي لكونه عن أمره فهو كقولهم: بنى الأمير المدينة وفي الخبر جواز الإشارة على الأئمة والرؤساء وأن للمفضول أن يشر عليهم بخلاف ما رأوه (ولكن) استدراك عن معنى الكلام السابق: أي لا تنظر لمصلحتهم بذلك لئلا يقل الظهر ولكن انظر إليها بوجه آخر. وهو قوله (ادعهم بفضل أزوادهم) متعلق الظرف: أي يأتون به والجملة في محل الحال، والفضل بفتح الفاء وسكون الضاد مصدر فضل يفضل كنصر ينصر وجاء كنعت ينعت، وهو البقية: أي بالباقي من أزوادهم، وزاد المسافر طعامه المتخذ لسفره (ثم ادع الله عليها بالبركة) أتى بثم إشارة إلى تراخى اجتماعه وانضمامه عن أمرهم بذلك الذي عندهما يكون الدعاء (لعل الله(4/314)
أن يجعل في ذلك) قال المصنف: كذا وقع في الأصول التي رأينا؛ وفيه محذوف تقديره: يجعل في ذلك بركة أو خيراً، فحذف المفعول به لأنه فضلة، وأصل البركة كثرة الخير وثبوته، وتبارك الله ثبت الخير عنده (فقال رسول الله: نعم) بفتح أوليه وهي هنا لكونها بعد الطلب للوعد فهو وعد منه بفعل ذلك لتصويبه له (قال: فدعا بنطع) فيه أربع لغات مشهورة أشهرها كسر النون مع فتح الطاء وبفتحها وفتح النون وكسرها مع سكون الطاء فيهما حكاه المصنف في «شرح مسلم» ولم يبين معناه، وكأنه لوضوحه قال في «المصباح» : هو المتخذ من الأديم معروف اهـ. (فبسطه) أي نشره (ثم دعا بفضل) أي بقية (أزوادهم قال) أي الصحابي الراوي (فجعل الرجل يجيء بكف) أي بمثله (ذرة) بتخفيف الراء: نوع من الحبوب معروف قال (ويجيء الآخر) بفتح الخاء المعجمة أي غير من قبله (بكف تمر) بفتح المثناة الفوقية، والإضافة فيه وفيما قبله بيانية من إضافة المميز إلى تمييزها كخاتم حديد إذ المراد بالكف هنا ملؤه كما قدرنا (ويجيء الآخر بكسرة) بكسر الكاف:
القطعة المكسورة من الشيء ومنه كسرة الخبز وجمعها كسر كسدرة وسدر كذا في «المصباح» (حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير) حتى فيه غاية لمقدر أي جمعوا حتى اجتمع (فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة) في الإتيان بالفاء إيماء إلى مزيد اهتمامه بشأن أمته وبما ينفعهم (ثم قال: خذوا في أوعيتكم) أي واجعلوه: أي المأخوذ في أوعيتكم فمتعلق الظرف محذوف.I والأوعية بفتح الهمزة وسكون الواو وكسر العين المهملة جمع وعاء، وهو ما يوعى فيه الشيء أي يجمع (قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى) عاطفة على عموم الآنية (ما) تركوا (في العسكري) وهو الجيش. قال ابن الجواليقي: فارسي معرب كذا في «المصباح» (وعاء إلا ملؤه قال فأكلوا) أي بعد ملء الأواعي (حتى شبعوا وفضل فضلة) تقدم أنه يجوز فتح العين في الغابر وضمها في المضارع وكسرها في الماضي وفتحها في المضارع وهما كما قال المصنف لغتان مشهورتان وأما فضل كعلم يفضل كينصر فمن باب التداخل (فقال رسول الله: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) فيه بيان كيفية إتيانه بشهادته لنفسه بالرسالة وجاء أنه أذّن فقال «وأشهد أن محمداً رسول الله» قال: وفيه أنه كان يجب عليه الإيمان برسالته ونبوته (لا يلقى الله بهما عبد) بعد موته (غير شاك) يجوز رفعه صفة لعبد، وهو الذي رأيته في أصل مصحح، ونصبه حالاً منه لتقدم النفي عليه، والمراد به إخراج المنافقين ممن قال ذلك بلسانه غير موقن بمضمونه بجنانه (فيحجب) بالنصب: أي فيمنع(4/315)
(عن الجنة) بل لا بد من دخولها إما ابتداء مع الناجين، أو بعد إخراج من النار (رواه مسلم) في كتاب الإيمان.
6417 - (وعن عتبان بن مالك) بن عمرو بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجي السالمي (رضي الله عنه) قال المصنف: كابن الأثير في «أسد الغابة» (وهو ممن شهد بدراً) قال ابن الأثير: ولم يذكره ابن إسحاق في البدريين وذكره غيره، ولم يخرج له الشيخان غير هذا الحديث الواحد، مات في خلافة معاوية وكان قائماً بديات قومه إلى أن مات رضي الله عنه (قال: كنت أصلي لقومي بني سالم) أي لأجلهم، والمراد أنه يؤمهم كما صرح به أبو داود الطيالسي إماماً بهم (وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار) أي يحول السيل الكائن فيه عند مجيء الأمطار (فيشق على اجتيازه) أي الجواز فيه والمرور به (قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة (مسجدهم، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إني أنكرت بصري) كذا ذكره جمهور أصحاب الزهري، وهو عند البخاري ومسلم في بعض طرقه وعند مسلم من طريق أخرى «أصابني في بصري بعض العمى» وعند الطبراني «لما ساء بصري» قال الحافظ: وهو ظاهر في أنه لم يعم إذ ذاك، لكن أخرج البخاري من طريق أخرى عن محمود بن الربيع أنه كان يؤم قومه وهو أمي وأنه قال: يا رسول الله إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر، قلت: وعند مسلم في رواية أنه عمي وقد جمع المصنف في «شرح مسلم» بأنه أراد به بعض الشيء في تلك الرواية العمى، وهو ذهاب البصر جميعه. ويحتمل أنه أراد به ضعفه وذهاب معظمه، وسماه عمى في الرواية الأخرى لقربه منه ولمشاركته في فوات بعض ما كان حاصلاً في حال السلامة. قال الحافظ: ابن حجر: ويجمع بأن قوله إنه كان يؤمّ قومه وهو أعمى أراد أن عماه كان حين لقي محمود له وسمع فيه حديثه لا حين سأل عتبان النبيّ وقوله فيه له وأنا ضرير البصر كقوله أنكرت بصري. قال الحافظ: وجمع ابن خزيمة بأن قوله أنكرت بصري يطلق على(4/316)
من في بصره سوء وإن أبصر بصراً ما وعلى من صار أعمى لا يبصر شيئاً اهـ. والأولى أن يقال
أطلق عليه العمى لقربه منه ومشاركته له في فوات بعض ما كان يعهده حال الصحة، وبهذا تألف الروايات، انتهى كلام الحافظ (وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل) إسناد السيل إلى الوادي إسناد مجازي من إسناد ما للحال إلى المحل (إذا جاءت الأمطار فيشق) بضم الشين المعجمة أي يصعب (على اجتيازه فوددت) بكسر الدال الأولى: أي تمنيت، وحكى الفراء فتح الدال في الماضي والواو في المصدر والمشهور في المصدر الضم، وحكي أيضاً الكسر فهو مثلث وتقدم التنبيه عليه في باب فضل برّ أصدقاء الأب (أنك تأتي فتصلي) هو بإسكان الياء ويجوز النصب لوقوع الفاء بعد التمني (مكاناً) ظرف وقوله (اتخذه مصلى) صفة لمكان وعند البخاري فاتخذه، ويجوز فيه ما جاز في يصلي من الرفع والنصب (فقال رسول الله: سأفعل) في البخاري بزيادة إن شاءالله، قال الحافظ: هو للتعليق لا لمحض التبرك كذا قيل، ويجوز أن تكون للتبرك لاحتمال اطلاعه بالوحي على الجزم بوقوع ذلك. قلت: ويؤيده إدخال حرف التنفيس عليه وتقدم في «الكاشف» أنها في مثله للتأكيد، قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى:
{أولئك سوف يؤتيهم أجورهم} (النساء: 152) ما لفظه: وتصديره بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر، لكن اعترضه في «التقريب» بأن سوف للتأخير، وأما جزم وقوعه فمن خارج وهو قرينه إخباره به سبحانه (فغدا على رسول الله) زاد الإسماعيلي بالغدو، وعند الطبراني في بعض طرقه أن السؤال وقع يوم الجمعة وأن الوصول إليه كان يوم السبت (وأبو بكر رضي الله عنه) لم يذكر جمهور الرواة عن الزهري غيره حتى إن في رواية الأوزاعي «فاستأذنا فأذنت لهما» لكن عند مسلم في طريق «فأتاني ومن شاء الله من أصحابه» وللطبراني في طريق آخر «فجاءني في نفر من أصحابه» وجاء في رواية «ومعه أبو بكر وعمر» ويحتمل الجمع بأن أبا بكر صحبه وحده ابتداء ثم عند الدخول اجتمع عمر وغيره فدخلوا معه (بعد ما اشتد النهار) قال في «النهاية» أي علا وارتفعت شمسه (واستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: أين تحب أن(4/317)
أصلي من بيتك؟) هذا لفظ إحدى روايات البخاري، وهو بين في المراد: أي إنه لم يجلس حتى صلى بخلاف ما وقع منه في بيت مليكة حيث جلس وأكل، ثم صلى لأنه هناك دعي إلى الطعام فبدأ به وهنا إلى الصلاة فبدأ بها، ثم هو هكذا عند رواة البخاري، ووقع عند الكشميهني وحده في بدلها (فأشرت له إلى المكان الذي أحبّ) أي أريد (أن يصلي فيه فقام رسول الله) أي شرع في الصلاة (وكبر وصففنا) المفعول محذوف: أي أنفسنا، ويمكن أن لا حذف، والمراد فحصل منا التصاف (وراءه فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم) فيه صحة الجماعة في النافلة المطلقة وإن كانت لا تشرع فيها (فحبسته) عند البخاري فحبسناه: أي منعناه من الرجوع (على خزيرة) يأتي ضبطها ومعناه ففيه إكرام الضيف (تصنع له) في محل الصفة لما قبله (فسمع أهل الدار) أي المحلة لقوله: «خير دور الأنصار دار بني النجار: أي محلتهم» والمراد أهلها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، فثاب رجال منهم) ثاب
بالمثلثة وبعد الألف موحدة: أي اجتمعوا بعد أن تفقوا. قال الخليل: المثابة مجتمع الناس بعد افتراقهم ومنه قيل للبيت مثابة، وفي المحكم يقال ثاب إذا رجع وثاب إذا أقبل. قلت: وكلا المعنيين هنا محتمل (حتى كثر الرجال في البيت فقال رجل منهم) قال الحافظ: لم يسم هذا المبتديء (ما فعل مالك لا أراه) أي ابن الدخيشن أو الدخشن بالدال والحاء والشين المعجمتين والنون، شك فيه الراوي عند البخاري هل هو مصغر أو مكبر، وعند أحد رواة البخاري بالميم بدل النون قال الطبراني عن أحمد بن صالح الصواب الدخشيم بالميم. قال الحافظ: وهي رواية أبي داود الطيالسي وكذا لمسلم في بعض طرقه (فقال رجل) قيل هو عتبان، واستدل قائله لتسمية المبهم به بما لا دليل فيه على دعواه (ذلك منافق لا يحب الله ورسوله) تقدم أن محبة العبد وللرسول المراد منها انقياده لأحكامهما والدخول بالرضا تحت طاعتهما (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تقل ذلك) أي إنه منافق (ألا تراه) أي ما تعلمه (قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى) فيه شهادة(4/318)
منه بالإيمان له، قال ابن عبد البر: لم يختلف في شهود مالك بدراً وهو الذي أسر سهيل بن عمرو، ثم ساق الحديث بإسناد حسن عن أبي هريرة أن النبيّ قال لمن تكلم فيه «أليس قد شهد بدراً» قال الحافظ العسقلاني: وفي مغازي ابن إسحاق «أن النبي بعث مالكاً ومعن بن عدي فحرقا مسجد الضرار» فدل على أنه برىء من النفاق، أو كان قد أقلع عن ذلك، أو النفاق الذي اتهم به نفاق العمل لا نفاق الكفر، وإنما أنكر عليه الصحابة لتردده للمنافقين ولعل له عذراً في ذلك كما وقع لحاطب (فقال: الله ورسوله أعلم، أمّا) بتشديد الهمزة أداة متضمنة لمعنى الشرط (نحن فوا لا نرى) أي نعلم (وده لا حديثه إلا إلى المنافقين) الظاهر أنه متعلق بوده، وإلى فيه بمعنى اللام فإن الود تعدى بها ومفعول حديثه محذوف (فقال رسول الله: إن الله قد حرم على النار من قال: لا إله
إلا الله محمد رسول الله) وقوله (يبتغي بذلك) أي القول (وجه ا) لإخراج من نافق بها لحقن دمه وحفظ ماله فلا يكون كذلك، والمراد من تحريمها على المؤمن الحقيقي تحريم خلوده فيها كما تقدم أو تحريم الدخول في طبقة الكفار الخاصة بهم لا الطبقة المعدة لعصاة المؤمنين، أو المراد تحريم دخولها بشرط حصول قبول العمل الصالح والتجاوز عن السيء والله أعلم (متفق عليه) رواه البخاري في مواضع من «صحيحه» وهذا سياقه في بعضها، ورواه مسلم في كتاب الإيمان بنحوه (وعتبان بكسر العين المهملة) قال في «شرح مسلم» : وهذا هو الصحيح المشهور الذي لم يذكر الجمهور سواه. قال صاحب «المطالع» : وقد ضبطناه من طريق ابن سهل بالضم أيضاً اهـ. وكذا قال في «المغني» نقل عن الزركشي بكسر العين وقد تضم، ومقتضى قول الحافظ في «الفتح» بكسر العين ويجوز ضمها جوازهما معاً والله أعلم (وإسكان المثناة الفوقية بعدها باء موحدة) وبعد الألف نون (والخزيرة بالخاء المعجمة) المفتوحة (والزاي المكسورة) وحكى في المطالع أنها رويت في «الصحيحين» بحاءين وراءين مهملات (هي دقيق يطبخ بشحم) وقال ابن قتيبية: يصنع من لحم صغار ثم يصب عليه ماء(4/319)
كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق فإن لم يكن فيه لحم فهو عصيدة، وكذا ذكره يعقوب وزاد من لحم بات ليلة، قال: وقيل حساء من دقيق فيه دسم، وحكى في «الجمهرة» نحوه. قال في النهاية: وزاد وقيل إذا كان من دقيق حريرة وإذا كان نخالة فخزيرة، وحكى الأزهري عن أبي الهيثم أن الحريرة من النخالة، وكذا حكاه البخاري في الأطعمة عن النضر بن إسماعيل، قال عياض: والمراد بالنخالة دقيق لم يغربل. قال الحافظ في «الفتح» : ويؤيد هذا التفسير قوله في رواية الأوزاعي عند مسلم «فحبسناه» على حشيشة بجيم ومعجمتين قال أهل اللغة: أن تطحن الحنطة قليلاً ثم يلقى فيها شحم أو غيره اهـ. (وثاب رجال بالثاء المثلثة) . وآخره باء موحدة (أي جاءوا واجتمعوا) تقدم بسطه.
7418 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم) بالبناء للمفعول (على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبي) أحد الظرفين نائب الفاعل والآخر في محل الحال والسبى بفتح المهملة وسكون الموحدة مصدر سبى كرمي يرمى والمراد منه اسم المفعول أي المسبي (فإذا) فجائية (امرأة) مبتدأ وقوله (من السبى) في محل الصفة له والخبر جملة (تسعى) هذه رواية البخاري بالسين المهملة من السعي ورواية مسلم «تبتغى» بالموحدة والفوقية، من الابتغاء: وهو الطلب. قال القاضي عياض: ورواية مسلم وهم والصواب ما في رواية البخاري، قال المصنف كلاهما صواب لا وهم فيه فهي ساعية وطالبة ومبتغية لابنها (إذا) ظرفية مضمنة معنى الشرط: أي كل وقت (وجدت صبياً) الظاهر أن المراد به ما يشمل الأنثى أي رضيعاً (في السبى أخذته فألزقته ببطنها) رحمة له (فأرضعته) لذلك (فقال رسول الله: أترون) يحتمل أن تكون بفتح الفوقية: أي أتعتقدون، وأن يكون بضمها أي تظنون (هذه المرأة) مفعول أول على الأول وثان على الثاني، والمرأة نعت، واسم الإشارة بدل أو عطف بيان(4/320)
عليه (طارحة) حال على الوجه الثاني و (ولدها) مفعول طارحة و (في النار) متعلق بطارحة (قلنا لا) أي لا نرى ذلك وأكد عدم اعتقاد ذلك بالقسم فقال (وا فقال) أي النبي (ا) وفي نسخة من البخاري وا» بإدخال لام القسم عليه وفي أخرى من غير قسم قبله فاللام حينئذٍ إما للتوكيد أو جواب قسم مقدر (أرحم بعباده من هذه بولدها. متفق عليه) أخرجه البخاري في الأدب ومسلم في التوبة.
8419 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لما خلق الله الخلق كتب في كتاب) أي من صحف الملائكة وإلا فأقضية الله قديمة أزلية (فهو) ضمير شأن والخبر جملة إن مع اسمها وخبرها (عنده فوق العرش) ظرفان في محل الحال حذف عاملهما: أي أعنيه حال كونه عنده، عندية شرف ومكانة فوق العرش (إن رحمتي تغلب غضبي. وفي رواية) أي لهما (سبقت غضبي) قال المصنف: قال العلماء: غضب الله ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة، فإرادته الإثابة للمطيع، ومنفعة العبد تسمى رضاه ورحمته، وإرداته عقاب العاصي وخذلانه يسمى غضباً وإرادته سبحانه صفة له قديمة يريد به جميع المراد، قالوا: والمراد بالسبق والغلبة هذا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثر منه اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري في الرقاق، ومسلم في التوبة.
9420 - (وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: جعل الله الرحمة مائة جزء) قال الدماميني في «تعليق المصابيح على أبواب الجامع الصحيح» : اعلم أنه يجوز عند المتكلمين في تأويل ما لا يسوغ نسبته إلى الله تعالى على حقيقته اللغوية وجهان: أحدهما،(4/321)
الحمل على الإرادة فيكون من صفات الذات، والآخر الحمل على فعل الإكرام فيكون من صفات الفعل، كالرحمة فإنها في اللغة مشتقة من الرحم، وحاصلها رقة طبيعية وميل جبلي، وهذا مستحيل من الباري سبحانه، فمنهم من يحملها على إرادة الخير، ومنهم من يحملها على فعل الخير، ثم بعد ذلك يتعين أحد التأويلين في بعض السياقات لمانع يمنع من الآخر. مثالها ههنا فيتعين تأويلها بفعل الخير لتكون صفة فعل فتكون حادثة عند الأشعري، فيتسلط الخلق عليها ولا يصح تأويلها هنا بالإرادة لأنها من صفات الذات فتكون قديمة فيمتنع تعلق الخلق بها ويتعين تأويلها بالإرادة في قوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (هود: 43) لأنك لو حملتها على الفعل لكانت العصمة بعينها فيكون استثناء الشيء من نفسه، وكأنك قلت: لا عاصم إلا العاصم، فتكون الرحمة الإرادة به والعصمة على بابها لفعل المنع من المكروهات كأنه قيل: لا يمتنع من المحذور إلا من أراد الله له السلامة اهـ. هذا، وقد جاء في رواية مسلم «كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض» (فأمسك عنده تسعة وتسعين) جزءاً، في رواية «وأنه أخر عنده تسعة وتسعين رحمة» (وأنزل في الأرض جزءاً واحداً) وفي رواية «وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة» (فمن ذلك الجزء) من يحتمل أن تكون تعليلية، وأن تكون بمعنى الباء أو الابتداء أو التبعيض (يتراحم الخلائق) في رواية «فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها» (حتى ترفع الدابة حافرها) هو للفرس وللحمار بمنزل الظلف من البقر والخف من الجمل (عن ولدها خشية) مفعول له (أن تصيبه) وخص ذو الحافر بالذكر، قال ابن أبي جمرة:
لأنه أشد الحيوان المألوف الذي يرى المخاطبون حركته مع ولده، ولما في الفرس من الخفة والسرعة في التنقل ومع ذلك تتجنب أن يصل الضرر منها إلى ولدها (وفي رواية) أي لهما من حديث أبي هريرة كما يقتضيه قول المصنف بعد «متفق عليه» ولكن رأيته في باب التوبة من مسلم ولم أره في أبواب الأدب من البخاري (إن تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس) الظرف محتمل الحالية لوصف النكرة، والوصفية لنكارتها (والبهائم) جمع بهيمة قال البيضاوي: والبهيمة كل حي لا يميز، وقيل كل ذات أربع، قال القرطبي: سمي بهذا لأنه بهم عن أن يبين، قال الراغب: البهيمة ما لا نطق له من الحيوان ثم خص في التعارف بما عدا السباع والطير، ثم(4/322)
استعملت في الأزواج الثمانية إذا كان فيها الإبل وسمي بذلك لإبهامه الأمر وكتمه (والهوام) بتشديد الميم جمع هامة هي الحشرات، وفي الفتح الهوام بتشديد الميم جمع هامة وهي ما يدب من الأحناش (فبها) أي بتلك الرحمة (يتعاطفون وبها يتراحمون وبها يعطف الوحش) بفتح الواو، وهو ما لا يستأنس من دواب البر كذا في «المصباح» ، وهو اسم جنس فلذا أعاد الضمير عليه مؤنثاً فقال (على ولدها، وأخر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) ففيه إيماء إلى مزيد الكرم وتقوية الرجاء في فضل المولى سبحانه (متفق عليه) أخرجه البخاري بالرواية الأولى في الأدب، ومسلم بروايته في التوبة.
(وفي رواية مسلم) في باب التوبة (أيضاً) انفرد بها البخاري وغيره (من رواية سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى) دون غيره كما يؤذن به تقدم ما حقه التأخير وهو الخبر الظرف على الاسم وهو قوله (مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم) بمعنى المجرد والعدول إلى التفاعل للبالغة: أي يرحم (بها الخلق بينهم، وتسع) وفي نسخة مصححة من مسلم وتسعة بالتاء آخره (وتسعون ليوم القيامة) يحتمل أن تكون الواو عاطفة ويكون تسع مبتدأ خبره محذوف تقديره منها. دل عليه ذكره في الجملة قبلها، والظرف حال سوغه خصوص المبتدأ بتقديم خبره الظرفي عليه، ويحتمل أن يكون الظرف الخبر، والأول أنسب بمقام التفصيل (وفي رواية) هي لمسلم في باب التوبة أيضاً (إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة) أي مائة نوع من الإنعام والإفضال كما تقدم الإيماء عليه في كلام البدر (كل رحمة طباق) بكسر الطاء المهملة قال في «النهاية» : أي غشاء (ما بين السماء والأرض) أي ما يملأ ذلك لو كان جسماً من كبره وعظمه (فجعل منها في الأرض رحمة فيها) أي يسببها، ويحتمل أن تكون للتبعيض كهي في قوله تعالى: {يشرب بها عباد ا} (الإنسان: 6) ويؤيده أنها تعود في الآخرة وتكمل بها المائة فما ظهر في الدنيا بعض ثمراتها والبعض إلى الآخرة أي(4/323)
فببعضها (تعطف) بكسر الطاء (الوالدة على ولدها) قال في «المصباح» : عطفت الناقة على ولدها عطفاً من باب ضرب: حنت عليه ودرّ لبنها اهـ. (والوحش والطير) قال أبو عبيدة وقطرب والطير يقع على الواحد والجمع، وقال ابن الأنباري: الطير جماعة وتأنيثها أكثر من التذكير، ولا يقال للواحد طير بل طائر وقل ما يقال للإنسان طائرة، وفي «المصباح» إنه جمع طائر مثل صاحب وصحب وراكب وركب وجمع الطير طيور وأطيار (بعضها) مبتدأ وقوله (على بعض) أي يعطف وحذف مع كونه كوناً لدلالة ما قبله عليه، ويجوز إعراب بعضها بدلاً مما قبله بدل بعض من كل (فإذا كان) أي وجد
(يوم القيامة) وأتى بإذا الشرطية لتحقق الأمر (أكملها) أي التسعة والتسعين المدخرة عنده (ابهذه الرحمة) قال المصنف هذه الأحاديث من أحاديث الرجاء والبشارة للمسلمين، قال العلماء، لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على الأكدار، الإسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم الله به عليه، فكيف الظن بمائة رحمة في الدار الآخرة وهي دار القرار ودار الجزاء. والله أعلم.
10421 - (وعنه) أي عن أبي هريرة لا عن سلمان كما قد يتوهم من كونه أقرب (عن النبيّ فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى قال: إذا أذنب) أي أثم (عبد ذنباً فقال اللهم اغفر لي ذنبي) في الإتيان بالفاء إيذان بوجوب المبادرة إلى التوبة عقب المخالفة (فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي) إضافة تشريف، هذا من كمال الكرم ومزيد الفضل أنه من فضله عليه بعفوه عنه أضافه إليه إضافة تشريف وتكريم (ذنباً فعلم أن له رباً) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض وهو كذلك في نسخة مصححة من مسلم، وفي أخرى منه بإثباتها وهو في صحيح(4/324)
البخاري بلفظ «فقال ربه، أعلم عبدي أن له ربا؟» وعلى هذا المعنى يحمل ما حذف منه الفاء والهمزة، أي أعلم أن له رباً، والاستفهام ليس على حقيقته، ولا يجوز أن يكون مما حذف فيه العطف لأنه لا يحذف إلا الواو فقط عند أمن اللبس (يغفر الذنوب جميعاً) أي الكثيرة فما بالك بالذنب الواحد (ثم عاد) أي بعد التوبة منه إليه أو إلى ذنب آخر (فأذنب فقال أي) بفتح الهمزة المقصورة، وحكى الكسائي أنها قد تمد أيضاً كما قاله المرادي، قال: وحكى بعضهم أنها قد تمتد إذا بعدت المسافة فيكون المد لها دليلاً على البعد وسكون الياء حرف نداء، قيل للبعيد وعليه فأتى بها لكونه كالبعيد من حيث إنه لا يراه أحد سوى المصطفى من العباد في الدنيا بالعين الشحمية، وقيل إنها للقرب كالهمزة وعليه فالنداء بها لكونه أقرب إلى كل من حبل الوريد، ونادى ثانياً بأي لما يومىء إليه العود إلى الذنب من البعد وقلة الاهتمام بالديانة وعقب النداء بقوله (ربّ) بكسر الموحدة الدالة على الياء المضاف إليها المحذوفة ويحتمل أن يكون بفتحها دلالة على الألف المحذوفة المنقلبة إليها الياء تخفيفاً، ويحتمل أن يكون بضمها وهذه الوجوه الثلاث من جملة اللغات الست الجائزة في المضاف للياء من مثله، وكان النداء للفظ الربّ توسلاً إلى التكميل والتخليص من نقص المخالفة، فإن الربّ هو الذي
يربي الشيء ويبلغه إلى كماله (اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب) أي إن شاء أل فيه للجنس فيساوى لكونه مفرداً محلى بأل الجنسية الذنوب في العموم والشمول (ويأخذ) أي يعاقب (بالذنب) وأتى به مظهراً تقبيحاً له وتنبيهاً على داعي الأخذ وهو المخالفة (ثم عاد فأذنب ذنباً فقال: أي ربّ اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي) أي لتوبته الصحيحة المشير إليها «قوله: اللهم اغفر لي» أو بمحض الفضل وإن لم يتب. والأول أقرب وسيأتي في كلام المصنف ما يقويه (فليفعل ما شاء) أي من الذنب المعقب بالتوبة الصحيحة، ففيه أن التوبة الصحيحة لا يضرّ فيها نقص بالذنب ثانياً بل مضت على صحتها ويتوب من المعصية الثانية وهكذا(4/325)
(متفق عليه) والسياق لمسلم أخرجه في التوبة وأخرجه البخاري بنحوه في التوحيد (وقوله تعالى: فليفعل ما شاء أي ما دام يفعل هكذا) أي مدة دوامه يفعل ذلك، فما فيه مصدرية ظرفية وهو ظرف لقوله أغفر له وقوله هكذا فيه إجمال بينه بقوله (يذنب ويتوب) أي فلا يتوهم منه إباحة المخالفة واكتساب الآثام (أغفر له) وبين حكمة ذلك بقوله (فإن التوبة) الصحيحة الجامعة لشروطها ومعتبراتها (تهدم) بكسر الدال المهملة، أي تسقط (ما قبلها) أي من الذنب.
11422 - (وعنه قال؛ قال رسول الله: والذي نفسي بيده) أي بقدرته، والقسم أتى به لتأكيد المقام وتقويته عند السامع (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى) أي عقب الذنب فوراً (فيغفر لهم. رواه مسلم) .
12423 - (وعن أبي أيوب الأنصاري) واسمه زيد بن خالد وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب برّ الوالدين وصلة الأرحام، قال حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم. رواه مسلم) وأحمد والترمذي كما في «الجامع الصغير» ، ورواه مسلم أيضاً بلفظ «لو أنكم لم يكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم»(4/326)
وبهذا اللفظ أورده الصغاني في المشارق ورمز بالقاف التي هي للمتفق عليه، وقد رواه أحمد عن ابن عباس بلفظ «لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون ليغفر لهم» قال ابن ملك: ليس هذا تحريضاً للناس على الذنوب بل كان صدوره لتسلية الصحابة وإزالة شدة الخوف عن صدورهم، لأن الخوف كان غالباً عليهم حتى فر بعضهم إلى رؤوس الجبال للعبادة، وبعضهم اعتزل النساء، وبعضهم النوم، وفي الحديث تنبيه على رجاء مغفرة الله تعالى وتحقق أن ما سبق في علمه كائن لأنه سبق في علمه تعالى أنه يغفر للعاصي فلو قدر عدم عاص لخلق الله من يعصيه فيغفر له.
13424 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا قعوداً) بضم أوله جمع قاعد مع رسول الله، معنا» بفتح العين مع مع، فيها على الظرفية هذه هي اللغة المشهورة ويجوز تسكينها في لغة حكاها صاحب «المحكم» و «الجوهري» وغيرهما، وهي المصاحبة قال صاحب «المحكم» مع اسم معناه الصحبة (أبو بكر وعمر في نفر) بفتح أوليه جمع الرجال من الثلاثة إلى التسعة، وقيل إلى السبعة (فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين أظهرنا) أي من بيننا بإقحام المضاف وزيد لظهور كونه بينهم (فأبطأ علينا) أي تأخذ مجيئه عنا كما في «المصباح» (وخشينا أن يقتطع) بالبناء للمفعول، أي يؤخذ (دوننا) ولعل ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: {وا يعصمك من الناس} (المائدة: 67) أو بعده وخافوا أن يصيبه من الضرر ما دون القتل (ففزعنا) بكسر الزاي، الفزع يأتي بمعنى الروع ويأتي بمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به وبمعنى الإغاثة. قال القاضي عياض: فتصح هذه المعاني الثلاثة: أي ذعرنا باحتباسه عنا، ألا تراه كيف قال: وخشينا أن يقتطع دوننا، ويدل على الوجهين الأخيرين قوله: أي خفنا أي حصل لنا خوف، وحذف المعمول لأن القصد حصول الفعل دون تعلقه بمعمول (فقمنا فكنت أول من فزع) : أي خاف (فخرجت أبتغي) أطلب (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتيت حائطاً للأنصار) حتى فيه للغاية لمقدر تقديره فسرت. والحائط البستان وجمعه حوائط. قال المصنف: سمي حائطاً لأنه لا سقف له (وذكر الحديث بطوله) أي مما لا يتعلق غرض(4/327)
الترجمة به فلذلك حذفه، ويؤخذ منه كما تقدم التنبيه عليه جواز تقطيع الحديث إذا كان لا تعلق للمأتي به بالمحذوف بأن لا يكون غاية ولا استثناء ولا نحو ذلك (إلى قوله فقال رسول الله) مخاطباً لأبي هريرة (اذهب فمن لقيته) بكسر القاف (وراء هذا الحائط) أي البستان (يشهد أن لا إله إلا ا) أي مع قرينتها التي لا يعتد بها إلا معها، وهي: محمد رسول الله كما تقدم نظيره (مستيقناً بها قلبه) أي موقناً
بها قلبه والسين فيها للمبالغة لأن كثرة المبنى تدل على زيادة المعنى غالباً، وخرج بها المنافق (فبشره بالجنة) إما ابتداء إن مات عقب الإسلام قبل التلبس بكبيرة أو بعد الإسلام بمدة ولم يفعل معصية أو فعلها وكانت صغائر وله حسنات لم تغلب عليها المعاصي أو كانت كبائر فتاب منها، أو بعد إدخال النار مدة إن مات على صغائر زائدة على حسناته أو على كبيرة ولم يتب منها، ويجوز أن يتفضل الله عليه فيدخله الجنة ابتداء، قال تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) وحذف المصنف ما أشار به عمر من ترك هذا التبشير مخافة مما يترتب عليه من ترك صالح العمل المقتضي لفوات المراتب العلية في الجنة فوافقه على ذلك لعدم تعلق غرض الترجمة به (رواه مسلم) .
14425 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبيّ تلا) أي قرأ (قول الله تعالى في قصة إبراهيم،) {رب} أي يا رب بكسر الموحدة وحذف حرف النداء لمزيد الشهرة المستغني به عن النداء الكائن للبعيد عادة ( {إنهن} ) يعني الأصنام ( {أضللن} ) أي أوقعن في الضلال ( {كثيراً من الناس} ) وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية كقوله: {وغرتهم الحياة الدنيا} (الأنعام: 70) ( {فمن تبعني} ) على ديني ( {فإنه مني} ) أي بعضي لا ينفك عني في أمر الدين ( {ومن عصاني فإنك غفور رحيم} ) تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء أو بعد التوفيق للتوبة، قال البيضاوي: وفيه دليل على أن كل ذنب فللَّه أن يغفر حتى الشرك، إلا أن الوعيد فرق بينه(4/328)
وبين غيره اهـ. وهذا مذهب الأشعري، وذهب الماتريدي إلى استحالة ذلك عقلاً وعدم إمكانه أصلاً، قال: لأن ذنبه لقبحه منع من جواز العفو (وقال) مصدر معطوف على قول الله تعالى، قال القاضي عياض: قال هو اسم للقول لا فعل، يقال قال قولاً وقالاً وقيلاً كأنه قال وتلا (عيسى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} ) أحقاء بالتعذيب لأنك المالك المتصرف ( {وإن تغفر لهم} ) أي للمؤمنين منهم ( {فإنك أنت العزيز الحكيم} ) تلخيصه إن تعذب فعدل وإن تغفر ففضل (فرفع) (يديه وقال: اللهم أمتي أمتي) أي ارحمهم أو الحظهم أو نحو ذلك فهو مفعول به بعامل محذوف، ويجوز أن يكون مبتدأ: أي أمتي عبادك فنعمتك فيهم فضل وعقابك عدل (وبكى) خضوعاً وتذللاً له (فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد) وقوله (وربك أعلم) جملة معترضة أتى بها لدفع توهم أن الاستفهام منه تعالى على حقيقته، وهو استكشاف ما يجهله المستفهم، بل علمه تعالى محيط بجميع المعلومات قبل وجودها فيه وفيه وبعد انقضائها وقوله (فسله ما يبكيك) معطوف على جملة اذهب، وهو هكذا في الأصول سله بحذف همزة الوصل والهمزة عين الفعل والأصل اسأله فنقلت حركة الهمزة إلى السين فحذفت همزة الوصل لعدم الحاجة إليها والمزة
المنقول حركتها لالتقاء الساكنين والاستفهام معلق للسؤال عن الجملة بعده (فأتاه جبريل) إظهاراً لشرف المصطفى وأنه بالمحل الأعلى عند مولاه فيسترضى ويكرم بما يرضيه (فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال) أي من قوله: أمتي أمتي (وهو) أي الله (أعلم) أي بما قال نبيه (فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك) هو موافق لقوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى: 5) (ولا نسوءك) قال صاحب التحرير: هو تأكيد للمعنى: أي لا نخزيك لأن الإرضاء قد يحصل في حق البعض بالعفو عنهم ويدخل الباقي النار، فقال تعالى: نرضيك ولا ندخل عليك خزياً بل ننجى الجميع (رواه مسلم) قال المصنف: في الحديث أنواع من(4/329)
الفوائد: منها بيان كمال شفقته على أمته واعتنائه بمصالحهم واهتمامه بأمرهم، ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة، زادها الله شرفاً بقوله: سنرضيك في أمتك، وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة، ومنها بيان عظمة النبي.
15426 - (وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف) بكسر الراء وسكون الدال المهملة، هذه الرواية المشهورة وهي التي ضبطها معظم الرواة، وحكى القاضي عياض أن أبا علي الطبري الفقيه الشافعي أحد رواة الكتاب ضبطه بفتح الراء وكسر الدار، قال: والرديف: هو الراكب خلف الراكب، يقال منه ردفته أردفه بكسر الدال في الماضي وفتحها في المضارع: إذا ركبت خلفه، قال القاضي عياض: ولا وجه لرواية الطبري إلا أن يكون فعل هذا اسم فاعل مثل عجل إن صحت رواية الطبري اهـ. (النبي على حمار) جاء في رواية أخرى لمسلم «على حمار يقال له عفير» بضم المهملة وفتح الفاء وسكون التحتية: قال المصنف: وهو يقتضي أن يكون في مرة غير المرة المتقدمة في الحديث السابق فإن الرجل يخص البعير، قال: ويحتمل أن يكونا قصة واحدة. قلت وتجوز بالرحل عما يرحل عليه على مطلق الدابة والله أعلم (فقال يا معاذ هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على ا) قال صاحب «التحرير» : اعلم أن الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة، وا سبحانه هو الحق الموجود الأزلي الباقي الأبدي، والموت والجنة والنار حق: أي إنها واقعة لا محالة، فحق الله على العباد ما يستحقه عليهم وحقهم عليه معناه محقق لا محالة اهـ. ملخصاً. وقال غيره: قول الرجل: حقك واجب عليّ: أي متأكد قيامي به قاله المصنف (قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد) أي واجبه الثابت عليهم (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) من المعبودات (وحق العباد) بالنصب عطفاً على ما قبله ويجوز الرفع على الابتداء والواو عاطفة للجملة أو مستأنفة (على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) أي وإدخال بعض عصاة المؤمنين النار ليس من العذاب، لأن العذاب فيما قال بعضهم الألم مع الإهانة والإذلال، وا تعالى إذا أدخل المؤمن النار فهو لتطهيره حتى يتأهل لمنازل الأخيار (فقلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس) أي أسكت عن نشر ذلك فلا أبشر(4/330)
الناس (قال: لا تبشرهم فيتكلوا) رجح مصلحة ترك التبليغ لما فيه من الحثّ على الإكثار من صالح العمل على التبليغ لما قد يؤدي إليه من التعطيل (متفق عليه) رواه البخاري في التوحيد ومسلم في الإيمان.
16427 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبيّ قال: المسلم) الحقيقي (إذا سئل في القبر) على وجه الامتحان وحذف السائل للعلم به، وهما الملكان المولان بذلك منكر ونكير والمسؤول عنه للعلم به: أي سئل عن ربه ونبيه (يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولالله، فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} ) أي الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم (متفق عليه) رواه البخاري في التفسير ومسلم في صفة النار ورواه النسائي في الجنائز.
17428 - (وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الكافر) بأي نوع من أنواع الكفر (إذا عمل حسنة) أي طاعة لا تتوقف على نية كإعتاق وتصدق وإطعام محتاج، أما المتوقفة عليه كالصيام والصلاة فلا تصح منه لفقد شرط النية المتوقفة عليه من الإسلام، وإنما حكم بصحة غسل الكتابية من نحو الحيض فحلت لحليلها للضرورة ولذا تجب إعادته إذا أسلمت (أطعم) بالبناء للمجهول (بها طعمة) بضم الطاء وسكون العين المهملتين، وهو(4/331)
الرزق وجمعه طعم كغرفة وغرف قاله في «المصباح» (من الدنيا) في محل الصفة لطعمة فيكون ذلك حظه من عمله الذي جاء به (وأما المؤمن) ظاهره وإن كان فاسقاً، ويحتمل تخصيصه بكامل الإيمان (فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة) أي ثوابها إلى الآخرة وقد يجزى بها مع ذلك في الدنيا أيضاً كما قال (ويعقبه) بضم التحتية: أي يعطيه من ذلك (رزقاً في الدنيا على طاعته) ولا مانع من جزائه بها فيهما، وقد ورد الشرع به فيجب اعتقاده، قاله المصنف.
(وفي رواية) هي لمسلم أيضاً (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة) أي لا يترك مجازاته بشيء من حسناته، والظلم يطلق بمعنى النقص وحقيقته الظلم محالة في حقه تعالى (يعطى) بالبناء للمفعول (بها في الدنيا) أحد الظرفين نائب الفاعل والآخر في محل الحال (ويجزى بها) أي ثواباً مع ذلك (في الآخرة) وجملة يعطى الخ استئنافية جواب ما، يقال ماذا يكون له بها (وأما الكافر فيطعم) بالبناء للمفعول: أي يرزق (بحسنات ما عمل بها) الباء الأولى للسببية والثانية للبدل: أي بدلها، وقوله () في محل الحال من فاعل عمل وفيه تنبيه على أن جزاء الكافر على عمله بالحسنة الدنيوية إنما هي فيما إذا كان العمل الصالح لا لرياء أو سمعة، وفيه إيماء إلى إحباطهما ثواب العمل وصفة الثواب دنيا وأخرى (حتى إذا أفضى) أي صار (إلى الآخرة) أي وقد مات على كفره (لم يكن له حسنة يجزى بها) أما إذا أسلم الكافر على مثل هذه الحسنات فيثاب عليها في الآخرة على المذهب الصحيح (رواه مسلم) في آخر أبواب صفة الجنة والنار.
18429 - (وعن جابر رضي الله عنه قال قال: رسول الله: مثل) بفتح أوله وثانيه المثلث تقدم معناه (الصلوات الخمس كمثل) الكاف زائدة (نهر) بسكون الهاء ويجوز فتحها(4/332)
وهما لغتان في كل ما كان هكذا وعينه حرف حلق كشعر ونحر (جار) جاء في رواية عند أحمد بزيادة «عذب» قال في «النهاية» : الماء العذب هو الطيب الذي لا ملوحة فيه (عمر) بفتح الغين المعجمة وسكون الميم، أي يغمر من دخله ويغالبه (على باب أحدكم) أشار به إلى سهولته وقرب تناوله (يغتسل منه كل يوم خمس مرات) زاد في رواية أحمد: فما يبقي ذلك من الدنس، وما فيه استفهامية والدنس الوسخ: أي كما أن الغسل المكرر كذلك يذهب الدنس الحسي كذلك الصلوات الخمس مذهبة للدنس المعنوي (رواه مسلم) في كتاب الصلاة والإمام أحمد في «مسنده» بزيادة نبهت عليها (الغمر: الكثير) كما في النهاية.
19430 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من) زائدة لتأكيد العموم المستفاد من (رجل مسلم) لكونه نكرة في سياق النفي، وذكره لشرفه وإلا فالمرأة كذلك في ذلك (يموت فيقوم) بالرفع عطفاً على يموت، ويجوز النصب لأنه في جواب النفي (على جنازته أربعون رجلاً) أي يصلون عليه (لا يشركون با شيئاً) من الإشراك (إلا شفعهم الله فيه) أي بأن يغفر له، ولا ينافيه حديث الطبراني وأبي نعيم في «الحلية» عن ابن عمر مرفوعاً «ما من رجل يصلي عليه مائة إلا غفر له» إما لأن العدد لا مفهوم له، وعلى الاعتداد بمفهومه فما في الصحيح مقدم على غيره، وإن جمع فيحمل ما عند الطبراني على أنه أخبر بما فيه، فأخبر به، ثم تفضل الله على عباده بحصول ذلك العدد المذكور في الصحيح فأخبر به ثانياً (رواه مسلم) في الجنائز.
20431 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة) بضم القاف وتشديد الموحدة من الخيام بيت صغير مستدير وهو من بيوت العرب قاله في «النهاية» (نحواً(4/333)
من أربعين) يجوز أن يكون نحواً حالاً والظرف قبله خبر كان ويجوز عكسه (فقال: أترضون أن تكونوا ربع) بضم أوليه وكذا ثلث (أهل الجنة؟ قلنا نعم، قال) أي بعد أن أخبر بثبوت ذلك (أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا نعم، قال: والذي نفس محمد بيده) أتى بالقسم وباسمه مظهراً تأكيداً للأمر وتفخيماً له (إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة) قال العلماء: كل رجاء جاء عن الله تعالى أو عن النبي فهو كائن البتة، وإنما أتى فيه بصيغة الرجاء دون صيغة الجزم على عادة الملوك في وعد ما يقطعون بفعله، يقولون: عسى تعطي ذلك وهم جازمون. % قال القرطبي: وهذه الطماعية قد حققت له بقوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى: 5) وبقوله: «إنا سنرضيك في أمتك» كما تقدم، ولكن عللوا هذه البشرى بالطمع أدباً مع الحضرة الإلهية ووقوفاً مع أحكام العبودية. قال المصنف: والحكمة في قوله: «ربع أهل الجنة ثم ثلث أهل الجنة ثم الشطر» ولم يقل أولاً شطر أهل الجنة أن ذلك أوقع في نفوسهم وأبلغ في إكرامهم، فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته، وأن ذلك فيه تكرير البشارة مرة بعد أخرى، وفيه حملهم على تجديد شكره تعالى وحمده عل كثرة نعمه. قال المصنف: وقد جاء في الحديث الآخر «إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً هذه الأمة منها ثمانون صفاً» فهذا دليل على أنهم يكونون ثلثي أهل الجنة، ولا يشكل ذلك على حديث الباب بل يكون أخبر بما في حديث الباب أولاً ثم زاده الله في العطاء فأخبر به بعد، وله نظائر كحديث «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين، وفي رواية سبع وعشرين» ثم بين وجه ذلك بقوله (وذلك) أي التبشير المشار إليه (أن الجنة) أي لأن الجنة (لا يدخلها إلا
نفس مسلمة) ، هذا نص صريح في أن من مات على الكفر لا يدخل الجنة أصلاً وهذا النص على عمومه بإجماع المسلمين (وما أنتم في أهل الشرك) في سائر الأمم ومنهم يأجوج ومأجوج (إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو) شك من الراوي (كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر) يعني الأبيض(4/334)
(متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق، ومسلم في الإيمان ورواه الترمذي وابن ماجه في الجنة.
21432 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا كان) أي وجد (يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً) يحتمل أن يقال إنهما مقيدان لمطلق الكافر الوارد في رواية أخرى لمسلم عن أبي موسى مرفوعاً «إذا كان يوم القيامة أعطي كل رجل من هذه الأمة رجلاً من الكفار» ويحتمل أن لا يقيد، بل هو من ذكر بعض الأفراد وهي لا تقيد (فيقول) أي عزّ وجل (هذا فكاكك من النار) وعند مسلم في الحديث الذي ذكرناه عنه «هذا فداؤك من النار» قال المصنف: الفكاك بفتح الفاء وكسرها، والفتح أفصح وأشهر، وهو الخلاص والفداء.
(وفي رواية) هي لمسلم أيضاً (عنه) أي عن أبي موسى (عن النبي قال: يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب) أي عظيمه كما يؤخذ من قوله (أمثال الجبال يغفرها الله لهم) اقتصر المصنف على هذا القدر من الحديث لحصول غرض الترجمة، وهي الرجاء به، وتتمته «ويضعها على اليهود والنصارى» فهو بمعنى الحديث الذي قبل. قال المصنف: ومعناه أن الله يغفر ذنوب المسلمين بفضله ويسقطها عنهم ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بعملهم، وهذا التأويل لا بد منه لقوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) فقوله يضعها مجاز: أي يضع مثلها عليهم بذنوبهم لكن لما أسقط تعالى عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم حملوا الإثم الباقي وهو آثامهم، ويحتمل أن يكون المراد آثاماً كان الكفار سبباً فيها بأن سنوها فيسقط عن المسلمين بعفو الله ويوضع(4/335)
على الكفار مثلها لكونهم سنوها، ومن سنّ سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعلم بها (رواه مسلم. قوله دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً) ليس هو على ظاهره من وضع أعمال المؤمنين على الكافرين لأن الله تعالى يقول: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) لكن (معناه ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: لكل أحد) أي سواء كان مسلماً أو كافراً (منزل من الجنة ومنزل من النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة) أي منزله فيها (خلفه الكافر في النار، لأنه مستحق لذلك) أي دخول النار (بكفره، ومعنى فكاكك) من النار (أنك كنت معرّضاً لدخول النار) أي لو كنت خذلت (وهذا فكاكك) أي بمنزلته صورة (لأن الله تعالى قدر للنار عدداً يملؤها، فإذا دخلها الكافرون بذنوبهم وكفرهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين) من حيث إن بهم تم عدد أهل النار فأمنها المسلمون، قال المصنف: قال عمر بن عبد العزيز والشافعي: هذا الحديث أرجى حديث للمسلمين، وهو كما قالا لما فيه من التصري
بفداء كل مسلم وتعميم الفداء، والحمد اهـ.
22433 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يدنى) بالبناء للمفعول: أي يقرب (المؤمن يوم القيامة من ربه) قرب مكانة لا قرب مكان قال المصنف هو دنو كرامة وإحسان لا دنو مسافة، وا تعالى منزه عن المسافة (حتى يضع عليه كنفه) بفتح الكاف والنون أي ستره (فيقرره بذنوبه) ويسترها عن سائر أهل المحشر (فيقول: ألا تعرف ذنب كذا) تقدم أنه من ألفاظ الكنايات، ويكنى به عن المجهول وما لا يراد التصريح(4/336)
به (فيقول: رب أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا) بأن لم يطلع عليها أحد من الناس ويحتمل سترها حتى عن الملكين مبالغة في الستر (وأنا أغفرها لك اليوم) عطف على الجملة المحكية بالقول (فيعطى صحيفة) أي كتاب (حسناته. متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق ومسلم في صفة الجنة والنار (كنفه) بفتح أوليه كما تقدم (ستره ورحمته) قال في «شرح مسلم» : ستره وعفوه اهـ. فالرحمة هنا مجاز عن الإحسان.
23434 - (وعن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً) عند ابن أبي خيثمة زيادة «من الأنصار يقال له معتب» وقد جاء اسمه كعب بن عمرو وهو أبو اليسر بفتح التحتية والسين المهملة الأنصاري، أخرجه الترمذي والنسائي والبزار عن أبي اليسر بن عمرو نفسه، وذكر بعض الشراح أن اسمه نبهان التمار وقيل عمرو بن عزبة وقيل عامر بن قيس وقيل عباد. قال الحافظ بعد ذكر قصتي نبهان وعمرو ومن أخرجهما، فإن ثبت حمل أيضاً على التعدد قال الحافظ العسقلاني: وظن الزمخشري أن عمرو بن عزبة اسم أبي اليسر فجزم به فوهم، وعباد اسم جد أبي اليسر فلعله نسب ثم سقط شيء وأقوى الجميع أنه أبو اليسر اهـ. ملخصاً (أصاب من امرأة قبلة) أخرج قصته الترمذي ومن معه عنه قال «أتته امرأة وزوجها قد بعثه في بعث فقالت له بعنى تمراً بدراهم، قال وأعجبتني فقلت لها: إن في البيت تمراً أطيب من هذا، فانطلق بها معه فغمزها وقبلها ثم فزع حتى قالت له اتقالله، فخرج فلقي أبا بكر فقال: تب ولا تعد، ثم أتى النبي» الحديث (فأتى النبي فأخبره، فأنزل الله تعالى) : {أقم الصلاة} ) كذا هو بحذف الواو في الصحيحين والتلاوة بإثباتها ( {طرفي النهار} ) أي غدوة وعشية وانتصابه على الظرفية لأنه مضاف إليه ( {وزلفاً من الليل} ) أي ساعات منه قريبة من النهار، فإنه من أزلف إذا قربه وهو جمع زلفة قال المصنف: ويدخل في صلوات طرفي النهار(4/337)
الصبح والظهر والعصر وفي زلفا من الليل المغرب والعشاء، وقرىء زلفا بضمتين وبضمة فسكون كبسر باللغتين في بسرة وزلفى بمعنى زلفة كقربى وقربة ( {إن الحسنات يذهبن السيئات} ) يكفرنها، وفي الحديث «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر» قال الإمام الرازي: وفي تفسير الحسنات قولان قال ابن عباس: معناه الصلوات الخمس مكفرة سائر الذنوب إذا اجتنبت الكبائر، وقال مجاهد: الحسنات قول: سبحان الله والحمد ولا إله إلا الله وا أكبر. وقد حكاهما المصنف في «شرح مسلم» (فقال الرجل: ألي هذا يا رسول الله) يعني خاص بي: أي أن صلاتي تذهب معصيتي، وظاهر هذا أن القائل هو السائل. وعند أحمد والطبراني من حديث ابن عباس «فقال: يا رسول الله ألي خاصة أم للناس عامة فضرب عمر بصدره فقال لا ونعمة عين بل للناس عامة، فقال: صدق عمر» وهذا من اجتهاد عمر الموافق للصواب لكن جاء عند مسلم في رواية «فقال معاذ: يا رسول الله أله وحده أم للناس؟» ووقع مثله عند الدارقطني، قال الحافظ: ويحمل على تعدد السائلين، وقوله ألي بفتح الهمزة استفهام والظرف بعده خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر وقدم عليه خبره لإفادة التخصيص (قال لجميع أمتي كلهم) والمكفر بالحسنات صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله تعالى كما قاله المصنف (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير ومسلم في التوبة.
24435 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال الشيخ زكريا في تحفة القارىء هو أبو اليسر (إلى النبي فقال: يا رسول الله أصبت حدا) أي مقتضيه والمراد من الحد ما فيه التعزير أوتوهم أن فيه حداً مخصوصاً (فأقمه عليّ وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله، فلما قضى الصلاة) أي أتمها معه (قال يا رسول الله إني أصبت حدا(4/338)
فأقم فيّ كتاب الله قال: هل حضرت معنا الصلاة؟ قال نعم، قال قد غفر لك) قال المصنف: هذا المقتضي للحدّ في كلامه معناه معصية من المعاصي الموجبة للتعزير وهي هنا من الصغائر لأنها كفرتها الصلاة، ولو كانت كبيرة موجبة لحد أو غير موجبة له لما كفرتها الصلاة فقد أجمع العلماء على أن المعاصي الموجبة للحد لا تسقط الحدّ بالصلاة وهو معنى قول المصنف هنا.
(قوله أصبت حداً: معناه معصية توجب التعزير وليس المراد الحد الشرعي الحقيقي كحدّ الزنا والخمر وغيرهما فإن هذه الحدود لا تسقط بالصلاة) أي بعد تعينها كما يعلم من الوجه الآتي (ولا يجوز للإمام تركها) قال المصنف في «شرح مسلم» : وهذا هو الصحيح في تفسير هذا الحديث، وحكى القاضي عن بعضهم أن المراد به الحدّ المعروف، قال: وإنما لم يحده لأنه لم يفسر موجب الحد ولم يستفسره عنه إيثاراً للستر، بل استحب تلقين الرجوع عن الإقرار بموجب الحد صريحاً (متفق عليه) أخرجه البخاري في المحاربين ومسلم في التوبة.
25436 - (وعنه قال: قال رسول الله: إن الله ليرضى) المراد منه في حقه تعالى غايته من القبول أو إرادته (عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها) يحتمل أن يكون قبل أن لام التعليل: أي لأجل أو يسب أكله. ويحتمل أن يكون أن ومدخولها بدل من العبد بدل اشتمال والمرضي منه هو الحمد على الأكل والشرب، ويحمد روي بالرفع والنصب قال بعض شراح «الشمائل» والظاهر من حيث العربية الأول أن يرضى أكله المسبب للحمد مع أن نفعه لنفسه فكيف بالحمد على ما لا نفع له فيه بوجه (أو يشرب الشربة فيحمده عليها)(4/339)
يعني يرضى لأحد هذين الفعلين أياً كان وليس هو بشك من الراوي خلافاً لزاعمه، وفي الحديث حصول أصل سنة الحمد بأي لفظ اشتق من مادة «ح م د» بل بما يدل على الثناء على الله تعالى (رواه مسلم) في باب الحمد، ورواه أحمد والترمذي في جامعه وشمائله، والنسائي كلهم من حديث أنس (الأكلة بفتح الهمزة: وهي المرة الواحدة من الأكل كالغداء والعشاء) وبضمها اسم للقمة، قال بعض شراح «الشمائل» ويرجحه ملاءمته للشربة «قلت» بل هو ملائم للفتح (والله أعلم) .
26437 - (وعن أبي موسى) وهو الأشعري (رضي الله عنه عن النبي قال: إن الله يبسط) بضم السين (يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل) قال المصنف: معناه يقبل التوبة من التائبين نهاراً وليلاً (حتى تطلع الشمس من مغربها) ولا يختص به قبولها بوقت، وبسط اليد استعارة في قبول التوبة، قال المازري: المراد به قبول التوبة، وإنما ورد لفظ بسط اليد، لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله وإذا كرهه قبضها عنه، فخوطبوا بأمر يفهمونه وهو مجاز فإن اليد بمعنى الجارحة محال عليه تعالى. (رواه مسلم) في باب التوبة وكذا أحمد.
27438 - (وعن أبي نجيح) ضبطه صاحب «المغني» بفتح النون وكسر الجيم وسكون التحتية بعدها حاء مهملة، وقيل كنيته أبو شعيب (عمرو بن عبسة بفتح العين) المهملة (والباء) الموحدة ثم سين مهملة على وزن عدسة قال المصنف في «التهذيب» : هذا الضبط لا خلاف فيه بين أهل الحديث والأسماء والتواريخ والسير والمؤتلف وغيرهم من أهل الفنون ورأيت(4/340)
جماعة ممن ضبط ألفاظ «المهذب» يزيد فيه نوناً وهو غلط فاحش ومنكر ظاهر نبهت عليه لئلا يغتّر به، وعبسة هو ابن عامر بن خالد بن عاصرة بن عتاب ويقال بن غفار بن امريء القيس بن بهثة بموحدة مضمومة ثم هاء ساكنة ثم مثلثة ابن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة ابن قيس عيلان بالمهملة ابن مضر بن نزار (السلمي) الصحابي الصالح، أسلم عمرو (رضي الله عنه) رابع أربعة، وحديث هجرته هو الحديث المذكور وقدم المدينة بعد الخندق فسكنها ثم نزل الشام، روي له عن النبي ثمانية وثلاثون حديثاً روى مسلم منها الحديث المذكور؛ روى عنه جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود وأبو أمامة وسهل بن سعد وجماعة من التابعين، سكن حمص وتوفي بها اهـ. ملخصاً (قال كنت وأنا في الجاهلية) هي ما قبل الإسلام سموا به لكثرة جهالاتهم والجملة حال من اسم كان، وخبر كان جملة (أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء) ينفعهم عند الله تعالى (وهم يعبدون الأوثان) جملة حالية من اسم ليس والأوثان جمع وثن قيل هو والصنم بمعنى، وعليه اقتصر «المصباح» في مادة وثن وزاد في مادة صنم قوله: وقيل الصنم المتخذ من الجواهر المعدنية، والوثن المتخذ من حجر أو خشب. وقال ابن فارس الصنم ما يتخذ من خشب أو نحاس أو فضة اهـ. (فسمعت برجل بمكة) الباء الثانية ظرفية (يخبر أخباراً) بفتح الهمزة: أي أخباراً عجيبة الشأن عظيمة الموقع فالتنوين فيه للتعظيم (فقعدت على راحلتي) أي ركبت عليها مسافراً (فقدمت) بكسر الدال (عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً) حال من ضمير خبر المبتدأ المحذوف تقديره كائن: أي هو حال كونه مستخفياً: أي مستتراً من الكفار الأشرار (جرآء) بضم الجيم وتشديد الراء بعدها همزة ممدودة جمع جرىء: من الجرأة وهي الإقدام والتسلط وسيأتي فيه بسط عند ذكر المصنف الاختلاف في ضبطه وهو حال مترادفة أو متداخلة، وقوله (عليه قومه) الظرف متعلق به وقومه
فاعله لأنه وصف اعتمد على ذي الحال (فتلطفت) أي ترفقت في الأمر مع قرشي (حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟) قال البيضاوي كما تقدم نقله عنه «ما» يسأل به عن كل شيء ما لم يعرّف فإذا عرف خص العاقل إذا سئل عن تعيينه وإن سئل عن وصفه يل ما زيد فقيه أم طبيب؟ اهـ. ولما كان مسؤول عمرو عن وصف النبي قال ما أنت؟ ويدل له(4/341)
قوله له (قال أنا نبي) وكذا قال المصنف في «شرح مسلم» قال ما ولم يقل من لأنه سأله عن صفته لا عن ذاته وما لصفات من يعقل اهـ. (فقلت وما نبي؟) أي ما حقيقة النبي المميزة له عن سواه (قال أرسلني ا) أي أرسل الله إياي (قلت: بأي شيء أرسلك؟) لما عمم النبيّ بحذف معمول أرسل استهفمه عمرو عنه وسأل بيانه (فقال أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد ا) بالمضارع المبني للمفعول وكذا في قوله (لا يشرك) بالرفع ونائب فاعله شي من قوله (به شيء) قال المصنف: هذا فيه دلالة ظاهرة على الحث عل صلة الأرحام لأن الله تعالى قرنها بالتوحيد ولم يذكر له جزئيات الأمور وإنما ذكر مهمها وبدأ بالصلة. فإن قلت: ما الحكمة في أنه أتى بالمصدر في الأولين وبأن والفعل في الثالث. قلت: الإشارة إلى تجديد ذلك الثالث كل آن ذكرا بقول لا إله إلاالله، فقد ورد الأمر بالإكثار منها مع ما فيه من التفنن فجمع التعبير المورث للكلام نظرية وتحسيناً (قلت: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد ومعه يومئذٍ) المراد باليوم فيه مطلق الحين أي حينئذٍ (أبو بكر وبلال رضي الله عنهما) وكان الاقتصار عليهما مع تقدم إسلام خديجة على إسلامهما إذ هي أول الناس إسلاماً وإسلام على أيضاً قيل إنه أسلم قبل الصديق وإن كان الراجح خلافه لأنهما كاملان في الرجولية والبلوغ فقد كان على حينئذٍ صبياً (فقلت: إني متبعك) أي على إظهار الإسلام هنا وإقامتي معك (قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا) أي في هذا الزمن الحاضر وذلك لضعف شوكة الإسلام فيخاف عليك من أذى كفار قريش (ولكن ارجع إلى أهلك) قال القاضي عياض: ليس معناه أنه رده دون إسلام وإنما رده عن صحبته واتباعه لأنه كان في أوّل الإسلام وقبل قوته فخاف عليه لغربته أن تهلكه قريش أو تفتنه اهـ. وحينئذٍ فتقدير الكلام كما أشار إليه المصنف، لكن قد حصل أجرك فابق على إسلامك وارجع إلى قومك واستمرّ على إسلامك حتى تعلمني ظهرت. (فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتنى) فيه معجزة للنبي هي إعلامه بأنه سيظهر فكان كما أخبر (فذهبت) أي رجعت (إلى أهلي وقدم) بكسر الدال (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة) منصوب على التوسع كدخلت المسجد أو على حذف الجار (وكنت في أهلي) أي مقيماً فيهم (فجعلت) من أفعال(4/342)
الشروع (أتخبر الأخبار) أي أتكلف الوقوف عليها وأعاني ذلك (وأسأل الناس حين قدم المدينة) أي وقت قدومه لها (حتى قدم نفر من أهل المدينة) غاية لتخبره وسؤاله، والنفرك ما تقدم مراراً بفتح أوليه: ما بين الثلاثة والتسعة، وقيل السبعة من الرجال، ومعنى قوله من أهل المدينة: أي المقيمين بها القاطنين فيها (فقلت ما فعل هذا الرجل؟) أتى باسم الإشارة الموضوع لأن يستعمل في المشار إليه الحاضر إليه تفخيماً لشأن المصطفى وأن حقه لكمال مجده أن لا يغيب عن القوس بل لا تزال مشاهدة بعين لبها لجمال كماله (الذي قدم المدينة فقالوا: الناس إليه سراع) بكسر السين أي مسرعين (وقد أراد قومه) أي كفار قريش (قتله) بأنواع من المكر والخديعة المذكورة عنهم في كتب السير (فلم يستطيعوا ذلك) بل رد الله كيدهم في نحرهم وحفظ نبيه من ذلك (فقدمت المدينة) أي امتثالاً لقوله «فإذا بعت بي ظهرت فأتني» (فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني؟ قال: نعم) وسؤاله لطول مدة غيبته ثم هو في نسخ الرياض هكذا ووقع في مسلم بلفظ «قال بلى» قال المصنف في «شرحه» : فيه صحة الجواب ببلى وإن لم يكن قبلها نفي وصحة الإقرار بها وهو صحيح في مذهبنا وشرط بعض أصحابنا أن يتقدمها نفي أو نهي وبه يعلم أن ما هنا إن لم يكن في بعض نسخ مسلم اختلاف من تحريف الكتاب. قلت: ولمن اعتبر تقدم النفي أن يقول: تقدير الكلام أما تعرفني ويكون قرينة تقديرها قوله في الجواب بلى، والله أعلم (قال: فقلت: أخبرني عما علمك ا) العائد ضمير نصب محذوف أي علمكه، قال المصنف هكذا هو وهو صحيح، ومعناه أخبرني عن حكمه وصفته وبينه لي اهـ. قلت: ويحتمل أن يكون عن للتعليل كما قيل به في قوله تعالى {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك} (هود: 53) أي لأجله، وقوله (وأجهله) يحتمل أن يكون أتى به على وجه الإطناب، ويحتمل أن يكون الاحتراز عما علمه منه في اجتماعه السابق به (أخبرني عن الصلاة) أي النافلة (قال:(4/343)
صلّ الصبح ثم اقصر) بضم الصاد أي اقعد (عن الصلاة) أي النفل المطلق الذي لا سبب له أو له سبب متأخر (حتى تطلع الشمس حتى ترتفع) يحتمل أن يكون بدلاً مما قبله ويحتمل أن يكون غاية بعد غاية لتحريم النفل المذكور قال المصنف: فيه أن النهي عن الصلاة بعد الصبح لا يرتفع بنفس الطلوع بل لا بد من الارتفاع والمراد ارتفاعها كرمح في رأي العين ثم النافلة تحرم من صلاة الصبح إلى ارتفاعها على من صلى الصبح، أما من لم يصلها فلا تحرم عليه إلا من طلوع الشمس لا قبل، إلى الغاية المذكورة (فإنها) أي الشمس (تطلع) بضم اللام (حين تطلع) أي وقت طلوعها (بين قرني شيطان) سيأتي بيان معناه وتنكير شيطان لتحقيره، وقرناه: ناحيتا رأسه، قال المصنف: وسمي شيطاناً لتمرده وعتوه وكل ما رد عات شيطان، والأظهر أنه مشتق من شطن إذا بعد لبعده من الخير والرحمة، وقيل من شاط إذا هلك واحترق: أي فالمصلي حينئذٍ كالساجد للشيطان (وحينئذٍ يسجد لها الكفار) أي وحين تطلع بين قرنيه، قال القاضي عياض: هذا يدل على صحة تأويل من جعله على ظاهره وأن الشيطان يفعل ذلك ويتطاول لها ليخادع نفسه أن السجود له (ثم صل) أي ما شئت من النفل (فإن الصلاة مشهودة محضورة) أي يحضرها الملائكة فهي أقرب إلى القبول وحصول الرحمة. قال في «فتح الإله» : أي تحضرها ملائكة النهار لتكتبها وتشهد بها لمن صلاها فهي بمعنى رواية مشهودة مكتوبة خلافاً لمن زعم أن بينهما فرقا أو أن هذه أحسن (حتى يستقل) من القلة لا من الإقلال الذي هو الارتفاع وهو غاية لقوله صلّ (الظل بالرمح) المغروس بالأرض هذا من باب القلب كطينت الطين بالقصر وعرضت الناقة على الحوض أي حتى يستقل الرمح بالظل أي يبلغ ظله أدنى غاية النقص ففيه محسن القلب من المبالغة المتولدة عنه لإفادة كون الرمح صار بمنزلة الظل في القلة، والظل صار بمنزلة الرمح في عدم وجود شيء في الأرض إلا بمقدار مركزه وذلك لأن ظل الشاخص يكون أوّل النهار طويلاً إلى جهة المغرب، ثم ما زاد يتناقص إلى أن يصل إلى غايته وذلك وقت الاستواء أو يزول بميل الشمس إلى ناحية المغرب وتحول الظل إلى جهة الشرق وهذا هو وقت الزوال الذي به يدخل وقت الظهر ويزول وقت النهي، والظل الموجود عند الاستواء يسمى ظل الزوال لوجوده في أكثر البلاد قبل ظهور الزيادة. وأقول لا يحتاج إل هذا التكلف لأن الباء للإلصاق، والرمح كناية عن الشاخص والتقدير(4/344)
حتى يقل الظل الملصق بالشاخص: أي ينتهي إلى غاية قلته، أو حتى ينتهي: أي يرتفع الظل الملصق بالشاخص عما حواليه حتى لا يبقى على الأرض منه إلا قدر لا يظهر ببادي الرأي، وما ذكر هو ما في نسخ مسلم المعتمدة، وفي بعض نسخه «حتى يستقل الرمح بالظل» وقال القاضي عياض: معنى قوله يستقل الظل بالرمح: أي يكون ظله قليلاً كأنه قال حتى يقل ظل الرمح، والباء زائدة جاءت لتحسين الكلام، وقد جاء في رواية أبي داود «حتى يعدل الرمح ظله» قال الخطابي: هذا إذا قامت الشمس وتناهى قصر الظل، ولا أدري موافقة هذا ليعدل، ولعل معنى يعدل هنا يكون مثله في الظل لا يزيد كما لا يزيد الرمح في طوله، أو يكون يعدل بمعنى يصرف كأن الرمح صرف ظله عن النقص إلى الزيادة ومن الميل إلى المغرب إلى المشرق وأضافها إلى الرمح لأنه سبب، فالمصنف لا يرتضي هذا الكلام منه، وقال القاضي عياض: كلام عجيب في تفسير الحديث نبهت عليه لئلا يغتر به اهـ. وفي هذه الجملة حجة على مالك في تجويزه الصلاة عند الاستواء مطلقاً مستدلاً بأنه لم يزل يرى الناس يصلون حينئذٍ يوم الجمعة، وما استدل به لا ينهض له لأن يوم الجمعة مستثنى (ثم اقصر عن الصلاة فإنه حينئذٍ تسجر) أي تهيج بالوقود (جهنم) وتسجر بتقدير أن المصدرية قبله اسم إن على حد قوله تعالى:
{ومن آياته يريكم البرق} (الروم: 24) أو اسمها ضمير شأن، وما قيل إنه لا تحذف لأن القصد به التعظيم وهو يفوت بحذفه مردود بأن سبب دلالته على التعظيم إبهامه وحذفه أدل على الإبهام، ومن ثم حذف في قوله تعالى: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} (التوبة: 117) (فإذا أقبل الفيء) أي: إلى الجهة المشرق. والفيء مختص بما بعد الزوال، وأما الظل فيقع على ما قبل الزوال وبعده. وفي «التهذيب» للمصنف نقلاً عن ابن قتيبة في «أدب الكاتب» إنما سمي بعد الزوال فيئاً لأنه ظل فاء من جانب إلى جانب: أي رجع والفيء الرجوع (فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر) قال المصنف: فيه دليل على أن النهي لا يدخل بدخول وقت العصر ولا بصلاة غير الإنسان، وإنما يكره لكل بصلاته حتى لو أخرها عن أول الوقت لم يكره التنفل اهـ. ومراده أخرها عن أول الوقت لما تقرّر أنها من الإصفرار يكره لمن صلى ولغيره (ثم اقصر عن الصلاة) أي النافلة التي لا سبب لها أو لها سبب متأخر (حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان)(4/345)
في تنكيره ما مر (وحينئذٍ يسجد لها الكفار) هذه حكمة النهي وليست بعلة لعدم اطرادها وإلا لنهي عن ذات السبب وفي مكة أيضاً. وقال العز بن عبد السلام: التعليل لذلك لا يظهر لأن تعظيم الله في وقت يسجد فيه لغيره أولى لما فيه من إرغام أعدائه، ولو صح التعليل فأي فرق بين ذي السبب وغيره اهـ. وأجيب بأنها حكمة فلا يلزم اطرادها ووجه اختصاصها بغير ذي السبب وبوقتي الطلوع والغروب أن إنشاء صلاة لا سبب لها في هذا الوقت فيه نوع تشبه بالكفار في عبادتهم للشمس حينئذٍ وقد نهينا عن التشبه بهم، بل وعما يؤدي إليه أو يوهمه ولا شك أن إيقاع ذلك حينئذٍ يستلزم ذلك بخلاف ذات السبب كالعيد والضحى بناء على دخول وقتهما بالطلوع، فإن ظهور السبب الحامل عليها ينفي ذلك، وقد ذكر ابن الأثير ما يؤيد ذلك وهو أن كلا من هذين وقت لظهور سلطانها وانفصالها فكره لئلا يتوهم تعظيم شأنها كما هي عادة الملوك عند قدومهم وانفصالهم. فإن قلت: إنما يتضح ذلك إذا كان السبب غير نفس الطلوع، أما إذا كان هو الطلوع كما في المثالين المذكورين فكيف يظهر ما ينفي ذلك. قلت: الظهور وعدمه إنما هو بالنسبة إلى نية المصلي فحيث نوى سبباً انتفى ذلك عند من علم بنيته وحيث لا فلا، وبه يتضح الجواب عما يقال الصلاة عندنا للقبلة وسجود الكفار إنما هو لجهة الشمس فكيف يتأتى التشبه أو إيهامه؟ وجوابه ما تقدم أن نية الصلاة حينئذٍ لا لسبب يوهم أن للشمس باعتبار ظهور سلطانها وانفصالها حينئذٍ دخلا في ذلك فامتنعت لذلك، وإنما حرمت النافلة من بعد صلاتي الصبح والعصر قبل طلوعها وغروبها مع انتفاء الحكمة أو العلة لأن ما قارب الشيء أعطي حكمه كما حرمت مباشرة ما بين سرة الحائض وركبتها لأنه حريم الفرج، وأيضاً فعباد الشمس ربما تهيئوا لتعظيمها من أول ذينك الوقتين فيرصدونها إلى أن تظهر فيخروا لها سجداً، فلو أبيح التنفل حينئذٍ لكان فيه تشبه بهم أو إيهامه أو التسبب إليه (قال: فقلت يا رسول الله فالوضوء حدثني عنه) أي من حيث الفضيلة بدليل الجواب (فقال: ما منكم رجل يقرب وضوءه) بفتح الواو أي يحضر ما يتوضأ به، وخص بالذكر لأنه يترتب عليه من الثواب ما لا يترتب على من يزاول مشقة في تحصيل الماء وإحضاره (فيتمضمض) سكت عما يسن قبلها من نحو التسمية لعله لعلمه أنه يعلم ذلك أو لأن الغرض ذكر ما فيه ثواب عظيم من أعمال الوضوء لا سيما ما اختلف في وجوبه كالمضمضة (ويستنشق) الواو بمعنى ثم (فيستنثر) أي يجذب الماء بخياشيمه ثم يدفعه ليزيل ما في أنفه من الأذى (إلا خرت خطايا وجهه، وفيه) «خرت» بالخاء المعجمة على المختار كما يأتي أي سقطت صغائر خطاياه ثم يحتمل أن يراد خطايا جميع وجهه، وإن لم يظهر إلا بعضه لأنه أقذر ما فيه فخرت خطاياه الآني بعد كناية عن مزيد التطهير،(4/346)
ويحتمل أن يراد بعضه لذكر كله
الآني فعطف (وخياشيمه) بيان لذلك البعض المبهم، والخياشيم جمع خيشوم وهو أقصى الأنف، وقيل عظام رقاق، في أصل الأنف بينه وبين الدماغ وقيل غير ذلك (ثم إذا غسل وجهه كما أمره ا) أي بقوله عزّ وجل:
{إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (المائدة: 6) وفائدة قوله كما أمره الله الإيماء إلى وجوب الترتيب في الوضوء عند من يوجبه كإمامنا الشافعي المأخوذ وجوبه من الآية لما فيه من الفصل بالمسح بين مغسولين، والعرب سيما الفصحاء منهم لا توسط أجنبياً بين متجانسين إلا لحكمة هي هنا وجوب الترتيب لا ندبه، لأن الآية لبيان واجبات الوضوء والإيماء إلى المبادرة بامتثال هذا الأمر والمسارعة إليه عند من لا يقول بوجوب الترتيب لأن كونه أمر الله يحمل العاقل على امتثاله والإتيان به على الوجه الأكمل، وذكر هذا في أول فروضه فيه للتنبيه على أنه مراعى في باقيها فلم يحتج لتكرير (إلا خرت خطايا وجهه) إن قلت: الوجه لا يتصور منه خطايا في العادة إلا باعتبار منافذه وقد غفرت خطايا منفذين فلم يبق إلا خطايا البصر قلت: يحتمل أن يراد هنا بعضه الباقي، وهو العينان، ويحتمل أن يراد الثلاثة، وفائدته أن الأولين لو لم يطهرا بأن غسل وجهه أو لاكفرت خطاياهما وإن لم يغسلا بواسطة غسل ظاهر الوجه (من أطراف لحيته) عبر بها للغالب وإلا فمن لا لحية له كالأمرد والمرأة كذلك (مع الماء ثم) في العطف بها دلالة لوجوب الترتيب (بغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من) أطراف (أنامله مع الماء ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء) ذكره للغالب أيضاً (ثم يغسل قدميه إلى الكعبين) فيه دليل لمذهب العلماء كافة أن الواجب غسل الرجلين، وقالت الشيعة: الواجب مسحهما، وقال ابن جرير: هو مخير، وقال بعض الظاهرية يجب الغسل والمسح حكاه المصنف في «شرح مسلم» (إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء) وما بعد إلا الأولى مستثنى من مقدر هو خبر ما، أي ما منكم رجل متصف بذلك كائناً على حال من الأحوال إلا على حال خروج خطايا وجهه، وما واسمها مقدران فيما بعد ثم الأولى وفيما بعد ثم الثانية، وهكذا كما دل عليه العطف: أي ثم ما منكم رجل متصف يغسل وجهه كائناً على حال إلا على حال خروج خطايا وجهه وهكذا (فإن) شرطية(4/347)
(هو) أي المتوضىء الدال عليه سياق الكلام وسياقه ورافعه فعل الشرط محذوف تفسيره (قام) ولحذفه برز ضميره المستكن فيه (فصلى فحمد الله) أي أثنى عليه بالصفات الثبوتية (وأثنى عليه) بالتنزيه عما لا يليق به، وقيل هما بمعنى والعطف للتأكيد (ومجده) بتشديد الجيم أي وصفه (بالذي هو) سبحانه (له أهل) من أوصاف المجد وهو العز والشرف كما في «المصابح» ، وقدم الخبر أي له على المبتدأ لإفادة الاهتمام والاختصاص (وفرغ قلبه تعالى) هو بتشديد الراء للمبالغة في تنظيف القلب وتنزيهه من دنس التعلق بغير المول سبحانه والركون إلى سواه، ومن سائر الشواغل والخواطر تعالى دون غيره ولو ثواباً لأنه ربط القصد به ينافي مقام الكمال المشار إليه بقوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} (الكهف: 110) وجواب إن الشرطية مقدر: أي فلا ينصرف خارجاً من شيء من الأشياء (إلا انصرف) خارجاً (من خطيئته) : أي صغائره فيصير متطهراً منها (كهيئته) أي طهارته من كل خطيئة (يوم ولدته أمه) وقصرنا التشبيه على ما ذكرنا لقيام الأدلة عليه وكون التطهير من الذنوب بمعنى إزالتها بعد وقوعها ومن المدلول بمعنى عدم وجودها لا ينافي التشبيه، وقدرنا الجواب نفياً لأنه في سياق النفي بما وإلا لا لوجوبه، لجواز قرأت إلا يوم كذا (فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله) وأبو أمامة كنيته، واسمه صدى بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وتشديد التحتية ابن عجلان وتقدمت ترجمته في باب التقوى (فقال له أبو أمامة يا عمرو) يجوز ضمه وفتحه لوصفه بقوله (ابن عبسة) المتعين فيه النصب لكونه مضافاً (انظر) بضم الظاء: أي تفكر وتأمل (ما تقول في مقام) بفتح الميم: أي مكان (واحد يعطى هذا) الثواب العظيم (الرجل) ؟ وليس ذلك منه استبعاداً ولا استعجاباً من سعة الفضل إنما هو استكشاف للقبن وحذراً من وهل عمرو في ذلك (فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت) بكسر الباء الموحدة: أي تقدمت (سني) أي عمري. قال في «المصباح» : السن واحد الأسنان، وقد يعبر بالسن عن العمر. قلت: وعليه فتأنيث الفعل لأنها بمعنى المدة (ورق عظمي) أي تحف ونحل (واقترب أجلي) أي(4/348)
قرب والإتيان بالتاء مبالغة في ذلك (وما بي حاجة) أي داعية (أن أكذب على الله تعالى ولا على رسول الله) أي فيّ أو إلى أن أكذب (لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً) منصوبات على الظرفية (حتى عدّ سبع مرّات) أي بأن قال أو أربعاً إلى أن قال أو سبع مرات (ما حدثت به أبداً ولكني سمعته أكثر من ذلك) قال المصنف: هذا الكلام قد يستشكل من حيث إن ظاهره أنه لا يرى التحديث إلا بما سمع أكثر من سبع مرات، ومعلوم أن من سمع مرة واحدة جاز له الرواية، بل تجب عليه إذا تعين لها وجوابه أن معناه: لو لم أتحققه وأجزم به لما حدثت به، وذكر المراتب بياناً لصورة حاله ولم يرد أن ذلك شرط، والله أعلم (رواه مسلم) قبيل باب صلاة الخوف وبعضه عند النسائي وابن ماجه.
(قوله جرآء عليه قومه، هو بجيم مضمومة وبالمد على وزن علماء) لأن واحدة جرىء فهو كعليم وعلماء وشريف وشرفاء (أي جاسرون مستطيلون) من الاستطالة لكن في «شرح مسلم» من الجرأة: وهي الإقدام والتسلط وقضيته أن يكون جاسرون متسلطون وكذا هو في «المشارق» للقاضي عياض أي جرآء متسلطون عليه (غير هائبين) أي له لعدم معرفتهم بعظيم قدره لعمى بصائرهم عن مشاهدة أنواره:
لكن نور الله جل فلا يرى
إلا بتوفيق من الله الصمد (هذه الرواية المشهورة) وعليها اقتصر عياض في «المشارق» ولم يحك الثانية، وفي «شرح مسلم» هكذا في جميع الأصول (ورواية الحميدي) أي في الجمع بين الصحيحين (وغيره) ولم يذكر في «شرح مسلم» هذه الرواية عن غير الحميدي (حرآء عليه بكسر الحاء المهملة) أما الراء المهملة والمد ففيهما معاً فلذا سكت عنه المصنف (وقال معناه: غضاب) بكسر الغين المعجمة (ذوو غم) هو الحزن على فوات أمر (وهم) هو الخوف من أمر يترقب وقوعه (قد عيل صبرهم به) قال في «النهاية» : في أثناء كلام له يجوز أن يكون من عاله يعوله إذا غلبه، ومنه قولهم عيل صبرك اهـ: أي غلبهم صبرك عنه (حتى أثر) أي الصبر (في أجسامهم) مأخوذ (من قولهم حرى جسمه يحري) قال في «شرح مسلم» : كضرب(4/349)
يضرب (إذا نقص من ألم أو غم ونحوه. والصحيح أنه) أي قوله جرا لا جرى جسمه يجري كما قد يتوهم من قربه (بالجيم قوله بين قرني شيطان أي ناحيتي رأسه) كما تقدم (والمراد) منه (التمثيل) وبينه بقوله (معناه) أي المراد منه في الحديث (أنه حينئذ يتحرك الشيطان وشعيته ويستلطون) فشبه تحركهم وانتشارهم وتمكنهم من الأذى واستعير للحاصل من ذلك قوله بين قرني شيطان فهي ستعارة تمثيلية وقال القاضي عياض قيل إن ذلك استعارة وكناية عن أضراره لما كانت ذوات القرون تتسلط بقرونها على الأذى استعير للشيطان اهـ. وفي «شرح مسلم» قيل المراد بقرني شيطان حزبه وأتباعه، وقيل قوته وغلبته وانتشار فساده، وقيل القرنان ناحيتا الرأس وأنه على الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة، وحينئذٍ يكون له ولشيعته تسلط ظاهر وتمكن من أن يلبسوا على المصلين فكرهت الصلاة حينئذٍ صيانة لها عن ذلك، وهذا الأخير هو الظاهر لما فيه من السلامة من تأويل الخبر عن ظاهره الذي لا يعارضه معارض (وقوله يقرب وضوءه: معناه يحضر الماء الذي يتوضأ به) ويطلق الوضوء لغة على الماء المغسول به أعضاء الوضوء بضم الواو. وعلى الباقي في الإناء بعد تمام الوضوء
(وقوله إلا خرت خطاياه هو بالخاء المعجمة أي سقطت، ورواه بعضهم) هو ابن أبي جعفر أحد رواة مسلم كما نقله عنه القاضي عياض (جرت) أي (بالجيم) وتخفيف الراء معناه على هذا ظاهر (والصحيح بالخاء) أي المعجمة (وهو رواية الجمهور) قال في «شرح مسلم» : وكذا نقله القاضي عياض عن جميع الرواة إلا ابن أبي جعفر (وقوله فيستنثر: أي يستخرج ما في أنفه من أذى) بعد أن يجذب الماء بالنفس إلى الخيشوم والانتشار افتعال من النثرة (والنثرة بفتح النون وسكون المثلثة (طرف الأنف) .(4/350)
28439 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي قال: إذا أراد الله رحمة أمة) أي الإحسان إليهم واللطف بهم ولا يصح تأويلها هنا بإرادة ذلك لأن الإرادة لا تتعلق بالإرادة كما سبق عن الدماميني (قبض) بفتح الموحدة أي توفي (نبيها قبلها) ليكون صبرهم على المصاب به واحتسابهم ذلك زيادة في أجورهم قال تعالى: {وبشر الصابرين} (البقرة: 155) الآية. وقال: «من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته فيّ» أو كما قال، دل مجموع الحديث والآية على أن المؤمن إذا صبر على مصيبته على فقد المصطفى واحتسب ذلك عند مولاه أجر، كما أن الإنسان إذا ذكر مصابه بمن تقدم له من القرابة فاحتسب عند ذلك يؤجر فكذا ما ذكرنا وهو ظاهر والله أعلم (فجعله لها فرطاً) الفرط بفتح الفاء والراء، والفارط الذي يتقدم الورّاد يصلح لهم الحياض والدلاء ونحوهما من أمور الاستقاء أي إنه المهيىء لمصالحها في عقابها من مزيد رحمته (وسلفاً) قال في «النهاية» قيل هو من سلف المال كأنه قد أسلفه وجعله ثمناً للأجر والثواب الذي يجازى به على الصر عليه، وقوله (بين يديها) ظرف مستقرّ متعلق بمحذوف صفة لهما: أي كاثنتين بين يدي الأمة، أو حال من مفعول جعله: أي كائناً بين يديها أو ظرف لغو متعلق بجعل (وإذا أراد هلكة) بفتح حروفه مصدر هلك الشيء هلكاً من باب ضرب وهلاكاً وهلوكاً ومهلكاً بفتح الميم وتثليث اللام، وأهلكه بوزن أتبعه والهلكة بوزن القصبة مثل الهلاك: أي في كونه مصدراً كذا في «المصباح» : أي وإذا أراد هلاك (أمة عذبها ونبيها حيّ) جملة حالية من فاعل عذب والمراد منه الرسول لأنه الذي له أمة لكونها مأمورة بالتسلي، بخلاف النبي هذا هو المشهور (فأهلكها وهو) أي نبيها (ينظر) هلاكها والجملة الإسمية حالية (فأقر) أي الله تعالى (عينه) أي عين نبيه لتلك الأمة (بهلاكها حين كذبوه وعصوا أمره) أي وقت تكذيبهم له وعصيانهم أمره (رواه مسلم) في باب فضائل النبيّ فقال: وحدثت عن أبي أمامة قال
المازري والقاضي: هذا الحديث من الأحاديث المنقطعة في مسلم لفظاً لجهل الذي حدثه عن أبي أمامة، قال المصنف: قلت: ليس هذا حقيقة انقطاع وإنما هو رواية مجهول قلت: هو وإن كان كذلك إلا أن المحدثين المتقدمين يعبرون عنه بالمنقطع، وبعضهم بالمرسل قال العراقي(4/351)
في «ألفيته» :
6
ورسموا منقطعاً عن رجل
وفي الأصول رسمه بالمرسل
قال الشيخ العراقي في «شرحها» : قلت وفي كلام غير واحد من أهل الحديث: إنه متصل في سنده مجهول، وحكاه الرشيد العطار في الغرر المجموعة عند الأكثرين واختاره شيخنا الحافظ أبو سعيد العلائي في كتاب «جامع التحصيل» قال المصنف: وقد وقع في حاشية بعض النسخ المعتمدة قال الخلودي حدثنا محمد بن المسيب الأرعياني حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري بهذا الحديث عن أبي أسامة بإسناده اهـ. وفي «النكت على الأطراف» للحافظ: وقع لنا أن مسلماً لم يسمعه من إبراهيم إنما سمعه من محمد بن المسيب عن إبراهيم، وأخرجه البزار في «مسنده» عن إبراهيم بن سعيد، وأخرجه أبو نعيم من طريق أبي يعلى وغيره عن إبراهيم بن سعيد اهـ.
قال الشيخ العراقي في «شرحها» : قلت وفي كلام غير واحد من أهل الحديث: إنه متصل في سنده مجهول، وحكاه الرشيد العطار في الغرر المجموعة عند الأكثرين واختاره شيخنا الحافظ أبو سعيد العلائي في كتاب «جامع التحصيل» قال المصنف: وقد وقع في حاشية بعض النسخ المعتمدة قال الخلودي حدثنا محمد بن المسيب الأرعياني حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري بهذا الحديث عن أبي أسامة بإسناده اهـ. وفي «النكت على الأطراف» للحافظ: وقع لنا أن مسلماً لم يسمعه من إبراهيم إنما سمعه من محمد بن المسيب عن إبراهيم، وأخرجه البزار في «مسنده» عن إبراهيم بن سعيد، وأخرجه أبو نعيم من طريق أبي يعلى وغيره عن إبراهيم بن سعيد اهـ.
52 - باب فضل الرجاء
أي ما جاء فيه من الكتاب والسنة.
(قال الله تعالى) إخباراً أي مخبراً، ويجوز أن يكون منصوباً على المصدرية يكون الإخبار من أنواع القبول (عن العبد الصالح) هو مؤمن آل فرعون (وأفوض أمري إلى ا) أي أسلمه إلى الله تعالى ليعصمني من كل سوء (إن الله بصير بالعباد) فيجيزهم وكأنه جواب بوعد المفهوم من قوله (فوقاه الله سيئات ما مكروا) شدائد مكرهم، وقال البيضاوي: وقيل الضمير لموسى.
1440 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي) قال ابن الجوزي أي في الرجاء وأمل العفو، قال القاري في «شرح الحصن الحصين» : ويؤيده ما أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «أمر الله بعبد إلى النار فلما وقف على شفيرها التفت وقال: أما وا يا رب إن(4/352)
كان ظني بك لحسن فقال الله: ردوه أنا عند ظن عبدي بي» ذكره السيوطي في «البدور السافرة» ، وعليه فانظر بمعناه: أي الطرف الراجح، وقيل بمعنى اليقين، والمعنى أنا عند يقينه بي وعلمه بأن مصيره إليّ وحسابه عليّ وأن ما قضيت له به من خير أو شر فلا مرد له لديّ.
(فائدة) : الظن في الشرع ينقسم إلى واجب كحسن الظن با تعالى، وإلى حرام كسوء الظن به تعالى، قال تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم} (فصلت: 23) وبكل من ظاهره العدالة، ومندوب وهو حسن الظن بمن ظاهره العدالة من المسلمين، وجائز كظن السوء بمن وقف مواقف التهم (وأنا معه) أي بالرحمة والتوفيق والإعانة والنصر (حيث ذكرني) بين الملأ أو في الخلاء (وا أفرح بتوبة عبده من أحدهم يجد ضالته) الذي هو في غاية الاحتياج إليها والاضطرار كما بينته رواية أخرى في الصحيح (بالفلاة) هي كما في «المصباح» الأرض التي لا ماء فيها وجمعها فلا، قال المصنف: قال العلماء: فرح اهو رضاه، قال المازري: الفرح ينقسم إلى وجوه منها السرور، والسرور يقارنه الرضى بالمسرور به، والمراد هنا أن الله يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالته بالفلاة فعبر عن الرضى بالفرح تأكيداً لمعنى الرضى في نفس السامع ومبالغة في تقريره (ومن تقرّب إليّ) أي إلى فضلي ورحمتي بصالح العمل (ذراعاً تقربت منه باعاً وإذا أقبل إليّ يمشي أقبلت إليه أهرول. متفق عليه) رواه البخاري في باب الرجاء ومسلم في باب التوبة (وهذا لفظ إحدى روايات مسلم وتقدم شرحه) أي شرح قوله ومن تقرّب الخ، الموهم ظاهره المكان وجواز الأعراض على الباري سبحانه (في الباب قبله) بما حاصل أنه مؤول بأن المراد بالتقرّب إليه التقرّب إلى فضله وإحسانه بصالح العمل، والمراد بتقربه تعالى من العامل إسباغ فضله عليه زيادة على قدر عمله (وروي في الصحيحين) أي في رواية أخرى (وأنا معه حين يذكرني بالنون) فيكون منصوباً على الظرفية الزمانية (و) روي (في هذه(4/353)
الرواية بالثاء) أي المثلثة (وكلاهما) أي المرويين (صحيح) زاد في شرح مسلم بعد قوله صحيح ظاهر المعنى وأفرد الخبر باعتبار لفظ «كلا» وهو الأصح، قال تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها} (الكهف: 33) ويجوز مطابقة معناهما وقد اجتمع الاستعمالان في قوله:
كلاهما حين جد الجري بينهما
قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
2441 - (وعن جابر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته) أي قبل موت النبيّ (بثلاثة أيام) كما صرح به في مسلم (يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو محسن الظن با عزّ وجل) قال المصنف: وفي رواية «وهو يحسن الظن با» قال العلماء: هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة، وقد سبق «أنا عند ظن عبدي بي» قال العلماء: معنى إحسان الظن با أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، قالوا وفي حال الصحة يكون خائفاً راجياً وسيأتي الخلاف في أنهما هل يكونان متساويين حينئذٍ أولا؟، وإذا دنت أمارات الموت غلب الرجاء أو محضه لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح والحرص على إكثار الطاعة وصالح العمل، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذه الحال فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى والإذعان له، ويؤيده حديث «يبعث كل عبد على ما مات عليه» قال العلماء: معناه يبعث على الحال التي مات عليها، قال القرطبي نهى أن يموتوا على غير حالة حسن الظن، وذلك ليس بمقدورهم بل المراد الأمر بتحسين الظن ليوافي الموت وهو عليه اهـ. ونظيره قوله تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (البقرة: 132) وفي «الديباجة» للدميري في «مروج الذهب» عن فقير بن مسكين. قال: دخلت على الشافعي أعوده في مرض موته فقلت له كيف أصبحت يا أبا عبد الله قال أصبحت من الدنيا راحلاً ولإخواني مفارقاً(4/354)
ولكأس المنية شارباً ولا أدري إلى الجنة تسير روحي فأهنيها أم إلى النار فأعزيها، وأنشأ يقول:
لما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما اهـ.
وما يعزى للرافعي قوله:
إذا أمسى فراشي من تراب
وصرت مجاور الرب الرحيم
فهنون أحبائي وقولوا
لكل البشرى قدمت على كريم
3442 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى يا ابن آدم) نداء لم يرد به واحد معين عدل إليه ليعلم من يتأتى نداؤه، وآدم عربي مشتق من أديم الأرض أي وجهها، وأصله أأدم بهمزتين وزن أفعل فأبدلت الثانية ألفاً ومنع الصرف للعلمية والوزن، وقيل أعجمي وعليه فمنع صرفه للعلمية والعجمة وأضيف إليه المنادى للعموم لأن إضافته المفرد تقيده فالنداء هنا لا يختص به منادى دون آخر (إنك ما دعوتني ورجوتني) أي مدة دعائك إياي نفعاً وصلاحاً وتأميلك خبر ما عندي (غفرت لك ما كان منك) أي محوت ما كان من الذنوب منك كذنب الكفر بالإيمان وغيره بالاستغفار (ولا أبالي) بما كان منك منها عظم أولا، وذلك لحسن رجاء العبد وا عند حسن ظن عبده به (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء) أي ما يملأ ما بينها وبين الأرض لو كان جسماً (ثم استغفرتني) أي سألتني غفران ذلك (غفرت لك) إياها وذلك لأنه تعالى كريم يقيل العثرات ويغفر الزلات وهذا مثال بالغ في الكثرة جيء به تنبيهاً على أن كرمه وفضله ورحمته لا تتناهى وأنها أكثر وأوسع مما ذكر (يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض) أي ما يقارب ملأها (خطايا) جمع خطيئة، قال في «الصحاح» : وكان الأصل خطائىء على فعائل فلما اجتمعت الهمزتان قلبت ياء لأن قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل وهو معتل مع ذلك فقلبت الياء ألفاً ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين اهـ. (ثم لقيتني لا تشرك(4/355)
بي) جملة في محل الحال من الفاعل (شيئاً) أي من الشرك أو من المعبودات (لأتيتك بقرابها مغفرة) أي لغفرتها لك وذلك لأن الإيمان به تعالى شرط في العفو عن الذنب غير الشرك لأنه أصل يبنى عليه قبول الطاعة والعفو عن المعصية، بخلاف الشرك إذ لا أصل معه يبنى عليه العفو عنه ولا بد أن يضم إلى الإيمان با تعالى الإيمان بنبيه محمد وبما جاء به هذا، والمراد من «أتيتك» غايته من المغفرة، أو إرادتها لاستحالته عليه وأتى به مشاكلة، والحديث من الأحاديث القدسية (رواه الترمذي وقال حديث حسن) زاد في «الجامع» بعد قوله حسن: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال الحافظ العلائي في الأربعين: قلت: يعني غريباً من جهة أنس، وقد روي من حديث ابن عباس وأبي ذر ثم أخرج حديث ابن عباس من طريق الطبراني وحديث أبي ذر من طريقين وقال بعد إخراجه رواه الحافظ أبو عوانة في «صحيحه» . قلت وذكر السخاوي في «تخريج الأربعين» الحديث التي جمعها المصنف أن لحديث أنس طريقاً آخر غير طريق الترمذي عند ابن فنجويه بنحو الحديث المذكور وقال بعد تخريجه سنده ضعيف والأوّل أصح (عنان السماء بفتح العين) المهملة وبنونين خفيفتين (قيل هو ما عنَّ) بتشديد النون (لك منها أي ظهر إذا رفعت رأسك، وقيل هو السحاب) هو ما اقتصر عليه صاحب «المصباح المنير» ، وعبارته: العنان قيل السحاب وزناً ومعنى الواحدة عنانة (وقراب الأرض بضم القاف وقيل بكسرها والضم أصح وأشهر، وهو ما يقارب ملأها) تقدم الكلام من المصنف أوائل باب الرجاء، وتقدم ما يتعلق به من الشرح ثمة.(4/356)
باب الجمع بين الخوف من الله تعالى (والرجاء) لفضله وإحسانه
(اعلم أن المختار للعبد) أي المكلف حراً كان أو رقيقاً ذكراً كان أو غيره (في حال صحته) أي سلامته من المرض (أن يكون خائفاً راجياً) ليزجره الخوف عن المخالفة ويبعثه الرجاء على اكتساب العمل الصالح (ويكون خوفه ورجاؤه سواء) لأن الغالب في القرآن ذكر الترغيب والترهيب مقترنين، وهذا أصح الوجهين عند الأصحاب، وقيل يكون خوفه أكثر، ومحل الخلاف ما لم يغلب عليه القنوط فيغلّب على نفسه باب الرجاء، وما لم يغلب عليه سعة الرجاء ويخشى انحلال ربقة التكليف فيغلب حينئذٍ باب الخوف (وفي حال المرض يتمحض الرجاء) لما تقدم في حديث «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن با» (وقواعد الشرع) جمع قاعدة، وهي قانون كلي يتعرف منه أحكام جزئياته، والشرع ما شرعه الله من الأحكام للعباد مما ينتظم به أمر معاشهم ومعادهم، وتسمى القاعدة قانوناً وضابطاً وأصلاً، ويرادف الشرع من حيث الماصدق الإسلام والدين والملة، وإن كانت متكلفة من حيث الاعتبار (من نصوص الكتاب) أي القرآن (والسنة) وهو ما أضيف إليه من قول أو صفة أو فعل أو تقرير (وغير ذلك) كالإجماع (متظاهرة على ذلك) أي المذكور والتظاهر بالهاء كأن بعضها يشد ظهر الدليل الآخر.
(قال تعالى) : {فلا يأمن مكر ا} ) قال البيضاوي: ومكر الله استعارة لاستدراج العبد وأخذه من حيث لا يحتسب ( {إلا القوم الخاسرون} ) أي الذين خسروا بالكفر وتركوا النظر والاعتبار.
(وقال تعالى) : {إنه لا ييأس} ) أي يقنط ( {من روح ا} ) أي من رحمته التي يحيى به العباد ( {إلا القوم الكافرون} ) با وصفاته فإن العارف لا يقنط من رحمته تعالى في شيء من الأحوال.
(وقال تعالى) : {يوم تبيض وجوه} ) وهو يوم القيامة تبيض وجوه المحقين سروراً ونوراً ( {وتسودّ وجوه} ) هي وجوه(4/357)
المبطلين تسودّ خزاية ودحوراً.
(وقال تعالى) : {إن ربك لسريع العقاب} ) لمن عصاه ( {وإنه لغفور} ) لأهل طاعته. ( {رحيم} ) بهم.
(وقال تعالى) : {إن الأبرار} ) المؤمنين الصادقين ( {لفي نعيم} ) جنة ( {وإن الفجار} ) الكفار ( {لفي جحيم} ) نار محرقة.
(وقال تعالى) : ( {فأما من ثقلت موازينه} ) بأن رجحت حسناته على سيئاته ( {فهو في عيشة راضية} ) في الجنة: أي ذات رضى برضاها أي مرضية له ( {وأما من خفت موازينه} ) بأن رجحت سيئاته على حسناته ( {فأمه} ) مسكنه ( {هاوية} ) وبينها سبحانه مهولاً لشأنها بقوله ( {وما أدراك ماهيه نار حامية} ) نسأل الله العافية (والآيات في هذا المعنى) أي الجمع بين الرجاء والخوف (كثيرة، فجمع الخوف والرجاء في آيتين مقرونتين) كآية {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} (الانفطار: 13 - 14) ؟ أو آيات (وذلك كثير في التنزيل) أو آية (كقوله) : {يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه} ) .
1443 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو يعلم المؤمن ما عند ا) من العقوبة (ما طمع بجنته أحد) وذلك لما يشهده من جلال الحق سبحانه ويخشاه من انتقامه وهو العدل في جميع ذلك (ولو يعلم الكافر ما عند ا) من الرحمة (ما قنط) من القنوط بالضم: وهو الإياس (من رحمة ا) قال في «المصباح» : قنط يقنط من باب ضرب يضرب وتعب فهو قانط وقنوط وقنط. وحكى الجوهري لغة ثالثة من باب قعد اهـ: أي ما(4/358)
يئس من جنته أحد، بل كان يرجوها لما يعلمه من كثرة الرحمة وسعتها (رواه مسلم) وفي «الجامع الصغير» رواه الترمذي، وهو منه عجيب كان حقه حيث ما هو في الصحيح عزوه إليه، وفي «المشارق» رمز متفق عليه، وتعقبه شارحه الكازروني بأن الحديث لمسلم انفرد به عن البخاري.
2444 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا وضعت الجنازة) أي بين يدي الرجال ليحملوها (واحتملها الرجال على أعناقهم) قيد إذ لا يتولى حمل الجنازة ولو امرأة إلا الرجال إن وجدوا لضعف النساء غالباً فيكره لهن حملها، ويكره للرجال كراهة شديدة تمكينهن منها، بل أطال بعضهم في الانتصال لحرمته: نعم الأولى لا يتولى حمل المرأة من المغتسل إلى النعش وتسليمها لمن في القبر وحلّ ثيابها إلا النساء على أعناقهن (فإن كانت صالحة) يحتمل أن المراد مطلق الصلاح وهو الإيمان، والصلاح الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي (قالت: قدموني قدموني) اشتياقاً إلى ما أعدّه الله لها من نعيم القبر ونضارته (وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها) إضافته وما بعده إليها بضمير الغيبة على خلاف القياس من ويلي لأنه حكاية كلامها وكراهة أن الويل يضاف لنفس المتكلم، وهو كلمة جوع وتحسر، والمعنى: يا حسرته وندامته هذا وقتك فاحضريني. والويل الهلاك (أين تذهبون بها يسمع) الظاهر أنه بمعنى يستمع (صوتها كل شيء) عمومه متناول للجماد ولا بعد في خلق قوّة الاستماع في الجماد (إلا الإنسان) وحكمة استثنائه قوله (ولو سمعه لصعق) بكسر العين: أي مات لشدة ذلك الصوت الناشيء عن شدة ما يرى مما أعد له من الويل والثبور (رواه البخاري) في الجنائز.(4/359)
3445 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) بكسر الشين المعجمة وتخفيف الراء وآخره كاف: أحد سيور النعل التي تكون في وجهها، ويطلق على كل سير وقى به القدم (والنار مثل ذلك) أي في الأقربية. قال ابن بطال: فيه أن الطاعة موصلة إلى الجنة وأن المعصية مقربة إلى النار وأن الطاعة والمعصية قد يكونان في أيسر الأشياء، وفي هذا المعنى حديث «إن الرجل ليتكلم بالكلمة» الحديث فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه ولا في قليل من الشر أن يجتنبه فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط الله عليه بها وقال ابن الجوزي: معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية اهـ. من «فتح الباري» (رواه البخاري) ورواه أحمد أيضاً كما في «الجامع الصغير» .
54 - باب فضل البكاء من خشية الله تعالى
الخشية: الخوف المقرون بإجلال، وذلك للعلماء با كما قال تعالى: {إنما يخشى الله من عبادة العلماء} (فاطر: 28) أماتنا الله على محبتهم (وشوقاً إليه) معطوف على محل المجرور بمن، إذ هو مفعول له، وقد صرح النحاة بأن المفعول له عند اجتماع شروط نصبه لا يجب النصب بل يجوز جره حينئذٍ وما هنا كذلك، ويجوز العطف بالنصب على محل ذلك، قال الله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} (النحل: 8) قزينة معطوف على محل لتركبوها على أحد الأقوال في إعراب الآية، وأشار المصنف بالترجمة إلى أن الداعي للبكاء إما أن يكون خشية لما علم العارف من عظم جلال مولاه، وإما شوقاً لما كشف له مما تقصر العبارة عن بيان أدناه، فضلاً عن أقصاه.......
(قال الله تعالى) مبيناً حال من اطلع على الكتب(4/360)
الساقة وعرف حقيقة المصطفى وما أنزل عليه في تلك الكتب ( {ويخرّون للأذقان يبكون} ) أي لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله تعالى، وذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الأرض من وجه الساجد واللام فيه لاختصاص الخرورية (ويزيدهم) أي سماع القرآن (خشوعاً) كما يزيدهم علماً ويقيناً با تعالى.
(وقال تعالى) : ( {أفمن هذا الحديث} ) يعني القرآن ( {تعجبون} ) إنكاراً ( {وتضحكون} ) استهزاء ( {ولا تبكون} ) تحزناً على كشف ما فرطتم.......
1446 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: اقرأ على القرآن فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك؟) بتقدير همزة الاستفهام قبله: أي أأقرأ عليك (وعليك) أي لا على غيرك (أنزل) الجملة حالية من ضمير المخاطب، والرابط الواو، فهم ابن مسعود أنه أمر بالقراءة ليتلذذ بقراءته، لا ليختبر ضبطه فلذا سأل متعجباً وإلا فلا مقام للتعجب (قال: إني أحبّ أن أسمعه من غيري) لكونه أبلغ من التفهيم والتدبير لأن القلب حينئذٍ يخلص لتعلق المعاني والقارىء مشغول بضبط الألفاظ وأدائها حقها ولأنه اعتاد سماعه من جبريل والعادة محبوبة بالطبع، ولهذا كان عرض القرآن على الغير سنة. قالوا: ومن فوائد هذا الحديث التنبيه على أن الفاضل لا يأنف من الأخذ عن المفضول. قال ابن النحوي: وقراءته عليه يحتمل أن يراد بها علم الناس بحاله أو يخشى أن يغلبه البكاء عنها (فقرأت عليه سورة النساء) فيه رد على من قال ينبغي أن يقال السورة التي يذكرفيها كذا (حتى جئت) أي وصلت (إلى هذه الآية) وعطف عليها عطف بيان قوله ( {فكيف} ) أي فكيف حال الكفار ( {إذا جئنا من كل أمة بشهيد} ) يشهد عليها بعملها وهو نبيها (وجئنا بك على هؤلاء) أي الأشخاص المعينين من الكفرة ( {شهيداً} ) وزعم المغني أن كل نبيّ شهيد على أمته، وكذا تفعل بك وبأمتك يا محمد، رده الطيبي بقوله تعالى: {ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا(4/361)
شهداء على الناس} (الحج: 78) فالشهادة لهم لا عليهم وقال ابن النحوي: وهؤلاء هم سائر أمته يشهد عليهم أو لهم، فعلى بمعنى اللام، وقيل أراد به أمته الكفار، وقيل اليهود والنصارى، وقيل كفار قريش، وفيما يشهد به البلاغ أو بالإيمان أو بالأعمال أقوال اهـ. (قال حسبك) أي يكفيك ذلك (الآن فالتفت إليه) أي لأنظر الداعي إلى الأمر بالكف، عن القراءة بعد الأمر بها (فإذا عيناه تذرفان) بذال معجمة ساكنة وكسر الراء: أي تسيل دموعهما. قال ابن النحوي في شرح البخاري: يقال ذرف الدمع وذرفت......
العين دمعها. قال في «تفسير السمرقندي» من حديث محمد بن فضالة عن أبيه: إنه عليه الصلاة والسلام أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر قارئاً يقرأ حتى أتى على هذه الآية {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} (انساء: 41) بكى حتى اخضلت لحيته وقال: يا ربّ هذا على من أنا بين أظهرهم فكيف بمن لم أرهم؟ وللثعلبي: فدمعت عيناً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: حسبناالله. وفي «تفسير ابن الجوزي» {شهيداً عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} (المائدة: 117) قال ابن النحوي: وبكاؤه عند هذه الآية لأنه لا بد من أداء الشهادة، والحكم على المشهود عليه إنا يكون بقول الشاهد، فلما كان هو الشاهد وهو السامع بكى على المفرطين منهم. وقيل بكى لعظم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر، إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب. وقيل بكى فرحاً بقبول شهادة أمته وتزكيته لهم ذلك اليوم اهـ.......
وقال بعض شراح «الشمائل» : بكاؤه عليهم لفرط رأفته ومزيد شفقته حيث عزّ عليه عنتهم، ويؤخذ من قوله «حسبك الآن» جواز أمر الغير بقطع القراءة للمصلحة. قال الحراني: إنما قال للقارىء «حسبك الآن» حفيظة عل حسن ترديه بالصبر في هيئته، فإن كان ينكف عن السماع الذي يغلب تأثيره في ظاهر الهيئة فكانت سنته العلمية أن يتردى رداء السكون ويصون ظاهر أعضائه عن الخروج عن الإحساس في الهيئة كما كان لا تبدو عليه في أقواله وأعماله عند ما ترهقه الإرهاقات حركة، فكان لا يزول عن ظاهر رداء الصبر ولا يخرج عن حسن السمت وهيئة السكون. وقد كان عيسى عليه السلام إذا ذكر الساعة يخور كما تخور البقرة فكان أثر السماع يظهر في كثير من الأنبياء والأولياء، وكان المصطفى ساكناً فيه حتى(4/362)
يفيض سكونه على جلسائه، وكان قليلاً ما يخرج حاضروه عن هيئة السكون كما قال العرباض «خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب الحديث، فقلما كان يغلب عليهم السماع لما يصل إليهم من بركة ترديه برداء الصبر ولزوم حسن السمت، فأنبأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن انفعال النفس لما تسمع الأذن لا بد منه، لكن ينبغي الستر والتثبت وعدم إظهار الحركة الصرخة فكان على من على سنته في الوجد التثبت وحسن السمت والصبر على جميع مواجيده التي لا يجدها سواه، وكان يدعو حاضريه لذلك فعلمنا التأسي به (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير، ومسلم في كتاب فضائل القرآن وأخرجه الترمذي والنسائي في التفسير.
(فائدة) : قال ابن النحوي في شرح البخاري: روى عبد بن حميد في تفسيره أن عبد الله بن مسعود لما قرأ هذه الآية قال: «من سرّ أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» اهـ.......
2447 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة) بضم الخاء المعجمة في الوعظ وهي فعلة بمعنى مفعول نحو نسخة بمعنى منسوح، وجمعها خطب (ما سمعت مثلها قط) من كمال البلاغة ومزيد التذكير والتنبيه على ما يحتاج إليه (فقال: لو تعلمون ما أعلم) أي من إجلال الله سبحانه وعظمته (لضحكتم قليلاً) لما تشهدون من مظهر الرحمة المنبثة من فضله في الأكون، ففيه إيماء إلى أن الكمال عدم غلبة الخوف بحيث يؤدي إلى الانقطاع عن الرجاء (ولبكيتم كثيراً) والاسمان منصوبان على المفعولية المطلقة، ويحتمل نصبهما على الظرفية الزمانية أي في قليل وكثير من الزمان (قال: فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم لهم خنين) جملة حالية من فاعل غطى والرابط الضمير (متفق عليه وسبق بيانه) مع(4/363)
شرحه (في باب الخوف) .......
3448 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يلج النار رجل بكى من خشية ا) من فيه تعليلية: أي لخشية الله الداعية إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي، ومن كان كذلك لا يلجها بالوعد الكريم إلا تحلة القسم. وقال العاقولي: لعل المراد به العارف به تعالى وهو العالم العامل لقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28) وبالجملة فلا بد من نوع معرفة ليتصور الخشوع والبكاء لأن البكاء ممن لا يعرفه بوجه ممتنع انتهى. وأشار إلى سبب البكاء، وما ذكرته أولى لأن الموصوف بما ذكرته القائم به من أهل الجنة ابتداء بالوعد الكريم، وظاهر الخبر إن لم يحمل على ذلك معارض لما جاء في الأخبار من دخول قوم من عصاة المؤمنين النار. وقوله (حتى يعود اللبن في الضرع) أي يدخل من مسامه إليه أي وذلك محال عادة فتعلق ولوج الخائف الوجل من الله تعالى العارف بجلاله القائم بما تقتضيه الخشية من امتثال الأوامر واجتناب النواهي بعود اللبن إلى الضرع، والمراد بالولوج الدخول فيها فلا ينافى وجوب المرور عليها المفسر به الورود، أما من لم يقم بقضية الخشية مما ذكر ومات على غير الشرك من المعاصي فأمره إلى مولاه إن شاء أدخله الجنة مع الفائزين وعفا عنه ما جناه، وإن شاء حبسه بالنار قدر ما سبق في علمه ثم أدخله الجنة لإيمانه بمحض فضله وما ذكرت من أن المراد عود اللبن إلى الضرع من مسامها ليكون محالاً عادياً وإلا فقد صرح الفقهاء بأن اللبن إذا تنجس أمن تطهيره بأن تسقاه نحو الشاة ثم يخرج من ضرعها طاهراً، وكذا إذا تنجس العسل يسقاه النحل ثم يمجه طاهراً (ولا يجتمع غبار في سبيل ا) المراد جهاد أعداء الدين لوجه الله تعالى (ودخان جهنم) ظاهره أن الجهاد في سبيل الله مقتض لسلامة المجاهد من العذاب بالوعد الذي لا يخلف فيحمل على ما إذا مات(4/364)
فيه أو بعده ولم يقترف موبقاً يصده عن ذلك (رواه الترمذي) في كتاب الجهاد (وقال: حديث حسن صحيح) .......
4449 - (وعنه قال: قال رسول الله: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة ا) هي ما تعبد به بشرط معرفة المتقرب إليه فالطاعة توجد بدونهما في النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى إذ معرفته ربما تحصل بتمام النظر، والقربة توجد بدون العبادة في القرب التي لا تحتاج إلى نية كالعتق والوقف (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب) بكسر الصاد (فقال) أي بقلبه لنفسه لينزجر عن العصيان، ويحتمل أن يكون بلسانه لينزجر طالبه منه ولا مانع أن يأتي بهما نظير ما قاله الفقهاء فيما يسن للصائم إذا خوصم من قوله: إني صائم (إني أخافالله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) خشية من الله تعالى (متفق عليه) وقد تقدم مع شرحه في باب فضل الحب فيالله.............
5450 - (وعن عبد الله بن الشخير) بشين وخاء معجمتين مكسورتين، والخاء مشددة وآخره(4/365)
راء، الصحابي هو عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب بن وفدان بن الجرش وهو معاوية بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكعبي الجرشي البصري والد مطرف بن يزيد روي له عن النبيّ نحو ستة أحاديث، قال ابن الجوزي في «مختصر التلقيح» ذكره البرقاني وقال له نحو ستة أحاديث اهـ. انفرد مسلم بالرواية عنه عن البخاري، فروى له حديثين، وأورد له المزي في «الأطراف» تسعة أحاديث، وقد ذكرته في رجال «الشمائل» بأبسط من هذا (رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ولجوفه) أي صدره وداخله وجوف كل شيء داخله، والجوف: البطن وما انطبقت عليه الكتفان والأضلاع (أزيز) بفتح الألف وكسر الزاي الأولى: صوت البكاء أو غليانه في الجوف، وفيه أن الصوت الغير المشتمل على الحروف لا يضر في الصلاة (كأزيز المرجل) بكسر فسكون ففتح: مذكر، والدور كلها مؤنثة إلا المرجل، وهو قدر من نحاس أو حجر أو يختص بالنحاس، أو كل قدر، ورجحه الحافظ ابن حجر. قال الزمخشري: سمى بذلك لأنه إذا نصب أقيم على رجل (من البكاء) أي من أجله، وذلك ناشىء عن عظيم الرهبة والخوف والإجلال سبحانه، وذلك مما ورثه من أبيه إبراهيم عليه السلام، فقد ورد أنه كان يسمع من صدره صوت كغليان القدر من مسيرة ميل اهـ. وفيه دليل على كمال خوفه وخشيته وخضوعه لربه. قال الحراني: ومن هذا الحديث ونحوه استنّ أهل الطريق الوجد والتواجد في أحوالهم وعرفوا به في أوقاتهم، وهذا الحال إنما كان يعرض للمصطفى عند تجلي الصفات الجلالية والجمالية معاً: يعني الجلال الممزوج بالجمال، وإلا فغير الممزوج بالجمال لا يطيقه أحد من البشر بل ولا واحد من الخلائق، وكان إذا تجلى لقلبه الجمال الحض يمتلىء نوراً وسروراً وملاطفة وإيناساً وتبسطاً، وكل وارث من أمته له نصيب من هذين التجليين، فتجلى الجلال يورث الخوف والقلق..................
والوجل المزعج، وتجلي الجمال يورث الأنس والسرور (حديث صحيح) فيه دليل على جواز تصحيح الحديث وتحسينه وتضعيفه لمن تمكن منه وفيه أهلية ذلك، خلافاً لابن الصلاح في منع ذلك وقد تقدم ذلك (رواه أبو داود) في كتاب الصلاة من سننه (والترمذي في «الشمائل» ) في باب البكاء (بإسناد صحيح) والنسائي في(4/366)
الصلاة بنحوه.
6451 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبيّ) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية (ابن كعب) بسكون العين المهملة آخره موحدة وهو الأنصاري سيد القراء تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب بيان كثرة طرق الخير (إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا} ) أي السورة بكمالها (قال) أي أبي للنبي (وسماني لك) الواو عاطفة على مقدر أي أمرك بذلك وسماني، وسببه احتمال أن يكون الله تعالى أمر النبي أن يقرأ على رجل من أمته ولم ينص على خصوص أبى فأراد تحقق ذلك، فيؤخذ منه الاستثبات، ويوضح ذلك لفظ البخاري «هل نص عليّ باسمي أو قال اقرأ على واحد من أصحابك فاخترتني أنت» (قال نعم) أي سماك لي. وعند الطبراني عن أبيّ بن كعب «قال نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى» (فبكى) إما فرحاً وسروراً بذلك أو خشوعاً وخوفاً من التقصير في شكر تلك النعمة أو استحقاراً لنفسه وخشية وتعجباً وهذا شأن الصالحين إذا فرحوا بشيء خلطوه بالخشية، وقيل الفرح والسرور دمعته باردة ولذلك يقال أقر الله عينه، قاله ابن النحوي. قال أبو عبيد المراد بالعرض على أبيّ ليعلّم منه القراءة. قلت: ويؤيده أن عدن أحمد بن حنبل من حديث عليّ بن زيد عن عمار بن أبي دحية البدري «لما نزلت لم يكن قال جبريل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله يأمرك أن تقرئها أُبياً فقال له رسول الله: إن الله أمرني أن أقرئك هذه السورة فبكى وقال يا رسولالله، وقد ذكرت ثمة؟ قال نعم» ، ويستثبت فيها لكيون عرض القرآن سنة.............
وللتنبيه على فضيلة أبيّ وتقدمه في حفظ القرآن وليس المراد أن يتذكر منه شيئاً بذلك العرض، وحكمة تخصيص هذه السورة لو جازتها وجمعها لقواعد كثيرة من أصول الدين وفروعه ومهماته، والإخلاص وتطهير القلوب، وكان الوقت يقتضي الاختصار، قاله المصنف والقرطبي في شرحيهما على مسلم. ويؤخذ من الحديث مشروعية التواضع في أخذ الإنسان العلم من أهله وإن كان دونه (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل أبي وفي التفسير ومسلم في كتاب فضائل القرآن من كتاب الصلاة من صحيحه.
(وفي رواية) أي لمسلم في الكتاب المذكور من صحيحه (فجعل(4/367)
أبى يبكي) وهذه أبلغ من الأولى للإتيان بالجملة المضارعية الدالة على التجدد والحدوث.......
7452 - (وعنه) أي أنس (قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد) ظرف لقال (وفاة رسول الله) أي وانتظام أمر الخلافة (انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها) جملة مستأنفة لبيان المقصود بالانطلاق إليها، وقوله (كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها) فيه إيما إلى الاقتداء به في كل أفعاله مما لم يقم الدليل على تخصيصه به (فلما انتهينا إليها بكت) لتذكرها برؤيتهما النبيّ لملازمتهما له وعدم مفارقتهما إياه في الغالب، ونظيره بكاء الصحابة لما سمعوا أذان بلال بالشام مرة بأمر عمر رضي الله عنهما حين قدومهما تذكراً لأيام المصطفى (فقالا لها: ما يبكيك) بضم التحتية (أما تعلمين أن ما عند ا) مما تقصر العبارة عن تعريف أدناه فضلاً عن أعلاه (خير لرسول الله) يحتمل أن يكون خير بغير ألف مصدراً، ويحتمل أن يكون أفعل تفضيل، فيدل على أنه كان له في الدنيا خير وهو كذلك لما يشرعه من الأحكام ويهدي من الأنام ويوصل المنقطعين إلى حضرة المولى ويقرب المبعدين إلى الفيض الأعلى، وعليه فحذف معمول أفعل: أي مما في الدنيا للتعميم وإيماء إلى أن ما عند الله لا يليق أن تقابل به الدنيا لفنائها وانقطاعها (قالت: إني لا أبكي أنى لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله) بتقدير لام التعليل قبل أن: أي لا أبكي لعدم علم ذلك وأعادت الجملة بلفظها مع إغناء اسم الإشارة عنها استعذاباً للذكر المحبوب، فمن أحبّ شيئاً أكثر ذكره (ولكن) استدراك مما يفهمه كلامها السابق مع ما قبله الموهم انحصار سب البكاء في عدم العلم بذلك: أي لسي البكاء لذلك ولكن (أبكى أن الوحي قد انقطع من السماء) تقدم في باب المحبة في الله عن المواهب وغيرها أن المخصوص بالنبيّ(4/368)
الوحي بالشريعة، أما مطلق الوحي فيكون لغيرا الأنبياء فيحمل قولها على ذلك (فهيجتهما) أي حملتهما (على البكاء فجعلا يبكيان معها) ففيه البكاء على فقد الأخيار، وأن ذلك لا يعارض لتسليم الأقدار (رواه مسلم، وقد سبق) مع......
شرحه (في باب زيارة أهل الخير) .
8453 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال لما اشتد) بالشين المعجمة: أي قوي وعظم (برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه) زاد في رواية لما اشتكى شكوه الذي توفي فيه رواه البخاري كما في «الأطراف» وذلك لتضاعف أجره وإعلاء أمره كما يدل عليه حديث «أشد الناس بلاء الأنبياء» الحديث (قيل له في الصلاة) أي من يقيمها للقوم ويؤم بهم فيها (فقال مروا) بضم الميم وأصله أؤمروا بهمزتين أولاهما للواصل وثانيتهما فاء الكلمة فحذفت تخفيفاً ومثله خذوا (أبا بكر) أي الصديق وسكت عن وصفه بذلك لتبادره إليه وحذف المأمور به أي بإقامة الصلاة لدلالة قوله (فليصل بالناس) على ذلك أورده الحافظ المزي بلفظ «للناس» باللام محل الباء أي ليصل إماماً لأجلهم ليعقدوا صلاتهم، وفي الإتيان بالفاء الدالة على التعقيب إيماء إلى مال مبادرته لامتثال أمر المصطفى وعدم توانيه، وأخذ منه أفضلية الصديق على باقي الصحابة الذين هم أفضل من جميع الأمة وأنه الخليفة من بعده، ولذا قال عمر رضي الله عنه: «رجل اختاره النبيّ لديننا ألا نرضاه لدنيانا» (فقالت عائشة) لتصرف ذلك عن أبيها خوفاً من تطير الناس به إن مات ولما تعلمه من كراهتهم الواقف موقفه لما جبلوا عليه من كمال محبته (إن أبا بكر رجل رقيق) أي رقيق قلبه، وإسناده إليه باعتبار ذلك لما غلب عليه من شهود مظهر الجلال (إذا قرأ) أي القرآن (غلبه البكاء) أي فلا يتمكن من إظهار القراءة المأمور بها الإمام، وليس مرادها أن ذلك يقع منه بسببه ظهور حرفين لأنه مبطل للصلاة إن لم يكن عن غلبة بحيث لا يمكن دفعه ولو كان كذلك لما أمر به ثانياً بقوله (قال مروه فليصل) .......
(وفي رواية) أي لهما (عن عائشة) أي من سندها بخلاف ما قبله فهو(4/369)
من سند ابن عمر (قالت) أي للنبيّ لما أمر أن يؤم الناس أبو بكر (قلت: إن أبا بكر إذا قام مقامك) أي إماماً بالناس، والمقام بفتح الميم اسم مكان من القيام (لم يسمع الناس من البكاء) من فيه تعليلية: أي بسببه، وإيراد المصنف لهذا الحديث في الباب لأن النبيّ رضي ذلك الأمر من الصدّيق وأبقاه على تقديمه فهو دليل على كونه محبوباً، قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} (الأنفال: 2) (متفق عليه) أخرجاه في كتاب الصلاة واللفظ للبخاري، ورواه النسائي في عشرة النساء من سنه كما في «الأطراف» .
9454 - (وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف) الزهري، قال الحافظ في «التقريب» : قيل له رواية وسماعه من ابن عمر أثبته يعقوب بن شيبة، مات سنة خمس، وقيل سنة ست وتسعين، خرج عنه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه (أن عبد الرحمن بن عوف) بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة القرشي الزهري أحد العشرة أسلم قديماً، ومناقبه شهيرة، مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك.
ومن مناقبه التي لا توجد لغيره كما قال المصنف في «التهذيب» : أن النبي وراءه في غزوة تبوك حين أدركه، وقد صلى بالناس ركعة، وحديثه في مسلم وغيره، قال: وقولنا لا توجد لغيره من الناس احتزازاً من صلاة النبي خلف جبريل حين أعلمه «بالمواقيت» اهـ. وما أفهمه من أنه لم يصلّ خلق غير عبد الرحمن يشكل عليه ما أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي عن عائشة قالت: صلى النبيّ خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعداً، وأخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح من حديث أنس قال: صلى النبيّ خلق أبي بكر قاعداً في ثوب متوشحاً به.......
قال الحافظ السيوطي بعد إيراد ذلك: وأحاديث أخر بمعناه وإيراد حديث تأخر أبي بكر واقتدائه بالنبيّ، واقتداء الناس بأبي بكر ما لفظه: هذه الأحاديث قد جمع بينها ابن حبان والبيهقي وابن حزم، وقال ابن حبان: لا معارضة بين هذه الأحاديث، فإنه صلى صلاتين، لا صلاة واحدة، لأن في خبر عن عائشة أنه خرج بين رجلين تريد بأحدهما العباس والآخر علياً، وفي خبر آخر عنها: أنه خرج بين بريدة وثوبة قال: فهذا يدلك على أنهما صلاتان لا صلاة واحدة. قال البيهقي في المعرفة: والذي نعرفه(4/370)
بالاستدلال بسائر الأخبار أن الصلاة التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف أبي بكر هي صلاة صبح يوم الاثنين، وهي آخر صلاة صلاها حتى مضى لسبيله، هي غير التي صلاها أبو بكر خلفه. قال: ولا يخالف هذا ما ثبت عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين، فكشف النبيّ الحجرة ونظر إليهم وهم صفوف في الصلاة وأمرهم بإتمامها وإرخائه الستر فإن ذلك إما كان في الركعة الأولى، ثم إنه وجد في نفسه خفة فخرج فأدرك معه الركعة الثانية. ثم ذكر ما يدل له من كلام موسى بن عقبة. قال البيهقي: فالصلاة التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مأموم صلاة الظهر، وهي التي خرج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الفضل بن عباس وغلام له. قال: وبذلك جمع بين الأخبار. وقال ابن حزم: وهما صلاتان متغايرتان بلا شك، إحداهما التي رواها الأسود عن عائشة وعبيد الله عنها وعن ابن عباس صفتها: أنه صلى الناس خلفه وأبو بكر عن يمينه في موقف المأموم يسمع الناس تكبيره. والثانية التي رواها مسروق وعبيد الله عن عائشة وحميد عن أنس صفتها: أنه كان خلف أبي بكر في الصف مع الناس فارتفع الإشكال جملة. قال: ومرضه كان نحو اثني عشر يوماً فيه ستون صلاة أو نحو ذلك اهـ مخلصاً. وحينئذٍ فليست هذه الفضيلة من خصائص ابن عوف كما هي له فهي لجدنا الصديق رضي الله عنه أيضاً. روي له عن النبي خمسة وستون حديثاً، اتفقا منها......
على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة، وفضائله شهيرة طوينا عن نشرها خوف التطويل (أتى) بالفوقية مبني للمجهول خبر أن: أي إنه جيء إليه (بطعام) لعل تنوينه للتعظيم كما يومىء إليه آخر القصة (وكان صائماً) جملة في محل الحال وأتى بها لبيان كماله أنه مع توافر الداعي لتناول الطعام تركه لما صرفه عنه مما يخاف منه أن يكون مؤخراً له عن الدرجات العلا (فقال قتل) بالبناء للمجهول (مصعب) بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح العين المهملة وبالباء الموحدة (ابن عمير) بضم العين المهملة وسكون التحتية ابن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى بن كلاب القرشي العبدري وكان من فضلاء الصحابة وخيارهم ومن السابقين إلى الإسلام، وكان قتله يوم أحد قتله عبد الله بن قتيبة وهو يظنه النبي (رضي الله عنه) جملة دعائية (وهو خير مني) هذا من تواضعه وكمال فضله وإلا فأفضل الصحابة العشرة الذين منهم ابن عوف (فلم يوجد له ما يكفن فيه) الفعلان مبنيان للمجهول (إلا بردة) بضم الموحدة وبالرفع بدل من ما، ويجوز نصبه على الاستثناء، وهو عربي فصيح وإن كان الأول أفصح، وقوله (إن غطى) بضم المعجمة وكسر المهملة(4/371)
المشددة أي ستر (بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطى بها رجلاه بدا رأسه) جملة شرطية في محل الصفة لبردة. وأتى بقوله «وإن غطى بها رجلاه» مع دلالة ما قبله عليه واستلزامه إياه لأن المقام للإطناب (ثم بسط) بالبناء للمجهول، أي وسع (لنا في الدنيا ما بسط) الموصول نائب الفاعل والظرفان في محل الحال منه (أو) شك من الراوي في أنه قال ما بسط أو (قال: ما أعطينا) وقوله (قد خشينا أن تكون حسناتنا) أي أعمالنا الصالحة الحسنة (عجلت لنا) أي عجل لنا جزاؤها فلا نقدم على ثواب مدخر جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً وهذا منه من مزيد خوفه من الله تعالى وشدة خشيته له، خشي أن يكون ما هو فيه من اليسار من جزاء طاعته التي فعلها مع أن ذلك اليسار من أسباب عمله الصالح ومتجره الأخروي......
الرابح كما علم من إنفاقه في سبيل الله تعالى وتصدقه على عباد الله ومع ذلك لعدم نظره لعمله واعتداده خشي أن يكون ما يدخره سواه من أسباب إبعاده عن مولاه (ثم جعل يبكي) خوفاً من ذلك وأن يكون صفر اليدين من صالح الأعمال في المآل، وجعل هنا من أفعال الشروع، وقوله (حتى ترك الطعام) غاية لبكائه: أي تمادى به إلى أن أدى به لذلك (رواه البخاري) في الجنائز وفي المغازي من «صحيحه» كما في «الأطراف» .
10455 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة (صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه) صدي بضم المهملة الأولى وفتح الثانية كما تقدم مع ترجمته في باب التقوى (عن النبيّ قال: ليس شيء أحبّ) بالنصب خبر ليس، وهو من الفعل المبني للمجهول: أي ليس شيء أكثر محبوبية (إلى الله تعالى) أي ليس شيء أكثر ثواباً عنده وأعظم مكانة من فضله (من قطرتين) بفتح القاف وهي كما في «المصباح» النقطة (وأثرين) بفتح الهمزة والثاء المثلثة هي ما بقي(4/372)
من الشيء دلالة عليه (قطرة دموع) أي قطراتها وأفردت لإضافتها إلى الجمع ثقة بذهن السامع (من) الأقرب أنها سببية ويحتمل كونها ابتدائية: أي دمعا مبتدأ من (خشية ا) أي ناشئة منها وهي تكون من المعرفة الناشئة من العلم والعمل به.......
قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28) وقال: «أنا أعرفكم با وأشدكم له خشية» (وقطرة دم) قال العاقولي. إفراد الدم يدل على أن إهراقه أفضل من الدموع (تهراق) بضم الفوقية وفتح الهاء وذلك لأنه مضارع للرباعي ولا نظر للهاء فيه لأنها زائدة، وقد استثناه ابن هشام في «الجامع الصغير» مما يفتح فيه حرف المضارعة من الخماسي فإنه مضمون فيه وإن كان الماضي خماسياً لأنه رباعي. وإنما زيدت فيه الهاء على غير قياس. قال ابن فلاح ويؤيد بقاءه على حكم الرباعي قطع الهمزة فيه ولو خرج إلى الخماسي لغير إلى همزة الوصل والجملة الفعلية في محل الصفة لقطرة، وقوله (في سبيل ا) أي في الجهاد للكفار لإعلاء كلمة الله متعلق بالفعل المذكور وقوله قطرة الخ بيان للقطرتين، وكان الظاهر أمّا القطرتان فقطرة دموع الخ كما يدل عليه قوله (وأما الأثران) ولعله مقدر كذلك بشهادة العطف (فأثر في سبيل الله تعالى) أي ما يبقى بعد الاندمال من ضربة سيف أو طعنة رمح (وأثر في فريضة الله تعالى) وذلك لبلل في أعضاء الوضوء وأثر السجود (رواه الترمذي) في كتاب الجهاد من «جامعه» (وقال: حديث حسن) زاد فيه بعد قوله حسن قوله غريب، وكان المصنف سكت عنه لعدم ضرره في حسن الحديث لأنها غرابة نسبية لا غرابة مطلقة.
(وفي الباب) أي «باب البكاء من خشية ا» (أحاديث كثيرة) وصف توكيدي وإلا فصيغة الأحاديث من جموع الكثرة الدالة عليها (منها حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة) يحتمل أن تكون منصوبة على المصدر أي وعظنا وعظاً بليغاً كما يدل عليه العدول عن وعظاً إليها، ويحتمل أن تكون منصوبة بحذف الخافض (ذرفت)(4/373)
بوزن علم، أي دمعت (منها العيون، وقد سبق في باب النهي عن البدع) وتقدم ثمة شرحه.......
55 - باب فضل الزهد في الدنيا
الظرف لغو متعلق بالزهد. قال السيد الشريف في «التعريفات» : الزهد في اللغة: ترك الميل إلى الشيء، وفي الاصطلاح هو بغض الدنيا والإعراض عنها. وقيل هو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة، وقيل هو أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك اهـ، وتقدم المراد من الدنيا في حديث «إنما الأعمال بالنيات» (والحثّ) بالمثلثة المشددة، أي التحريض (على التقلل منها) عبر بباب التفعيل المؤذن بالتكلف لما أن ذلك خلاف داعي الطبع البشري قال تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا} (الأعلى: 16) وقال تعالى: {وتحبون المال حباً جماً} (الفجر: 20) أي فيتكلف الاستقلال منها وإن كان ذلك خلاف طبعه ليسلم من تبعات ذلك (وفضل الفقر) أي غير المذموم، وهو الفقر مما زاد على الكفاية والحاجة.
(قال الله تعالى) : ( {إنما مثل الحياة الدنيا} ) أي صفتها العجيبة الشأن في سرعة نقصها وذهاب نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها ( {كماء} ) أي كمطر ( {أنزلناه من السماء فاختلط به} ) أي بسببه ( {نبات الأرض} ) واشتبك بعضه ببعض ( {مما يأكل الناس} ) من البر والشعير وغيرهما ( {والأنعام} ) من الكلأ ( {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} ) بهجتها من النبات ( {وازّينت} ) بالزهر وأصله تزينت أبدلت التاء زاياً وأدغمت ( {وظن أهلها أنهم قادرون عليها} ) متمكنون من تحصيل ثمارها ( {أتاها أمرنا} ) عذابنا ( {ليلاً أو نهاراً فجعلناها} ) أي زرعها ( {حصيداً} ) كالمحصود بالمناجل ( {كأن} ) مخففة أي كأنها ( {لم تغن} ) لم تكن ( {بالأمس كذلك نفصل} ) نبين ( {الآيات لقوم(4/374)
يتفكرون} ) فإنهم المنتفعون بها. قال البيضاوي الممثل به مضمون الحكاية وهو زوال خضرة النبات فجأةً وذهابه حطاماً بعد ما كان غضاً والتف وزين الأرض حتى طمع فيه أهله وظنوا أنه قد سلم من الجوائح، لا الماء وإن وليه حرف التشبيه لأنه من التشبيه المركب اهـ.......
(وقال تعالى) علواً معنوياً: أي تنزه عما لا يليق به ( {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا} ) أي اذكر لقومك ما تشبه الحياة في زهرتها وسرعة زوالها أو صفتها الغريبة، وقوله ( {كماء} ) خبر محذوف أو هو كماء، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً لا ضرب على أنه بمعنى صير، وعليه اقتصر المحلى في «تفسيره» والمفعول الأول مثل ( {أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض} ) فالتف بسببه وخالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه أو تجمع في النبات حتى روي ورقه وعلى هذا كان حقه فاختلط بنبات الأرض لكن لما كان كل من المختلطين موصوفاً بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته (فأصبح) أي صار النبات (هشيماً) مهشوماً مكسوراً ( {تذوره الرياح} ) تفرقه والمشبه به كما في الذي قبله الحالة المتفرقة في الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر براقاً ثم هشيماً تطيره الرياح فيصير كأن لم يكن ( {وكان الله على كل شيء} ) من الأشياء ( {مقتدراً} ) قادراً ( {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} ) أي يتزين بها الإنسان في الدنيا وتفنى عنه عما قريب ( {والباقيات الصالحات} ) هي: سبحانالله، والحمد، ولا إله إلاالله، وا أكبر. زاد بعضهم: ولا حول ولا قوّة إلا با، كما ورد تفسيرها بذلك في الأخبار. وقال البيضاوي: هي أعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبد الآباد. ويندرج فيه ما فسرت به من الصلوات الخمس وصيام رمضان، وسبحانالله، والحمد، ولا إله إلاالله، وا أكبر والكلام الطيب ( {خير عند ربك} ) من المال والبنين عندية مكانة وشرف ( {ثواباً} ) عائدة ( {وخير أملاً} ) أي ما يأمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى لأن صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل بها في الدنيا.......
(وقال تعالى) : {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} ) قال بعضهم: اللعب فعل(4/375)
يدعو إليه الجهل يروق أوله ولا ثبات له، واللهو صرف الهمّ عن النفس بفعل ما لا يجوز اهـ. وقال البيضاوي: بين سبحانه وتعالى أن الدنيا أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال، لأنها لعب يتعب الناس فيه أنفسهم جداً إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة ولهو يلهون به أنفسهم عما يهمهم منها، وزينة كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة، وتفاخر بالأنساب وتكاثر بالعدد والعدد، وهذا كما قاله المحلي في الاشتغال بالدنيا. أما الطاعات وما يعين عليها فليست منها، ثم قرر حال الدنيا وشأنها بقوله: ( {كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً} ) وهو تمثيل للدنيا في سرعة نقصها وقلة جداوها بحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب منه الحراث والكافرون با لأنهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا، ولأن المؤمن إذا رأى معجباً انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها، والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق فيه إعجاباً، ثم هاج: أي يبس بعاهة فاصفر ثم صار حطاماً فتاتاً يضمحل بالرياح. قال الحافظ عماد الدين ابن كثير في «تفسيره» : فإن الحياة الدنيا تكون أولاً شابة ثم تكتهل ثم تكون عجوزاً شوهاء، وكذا الإنسان يكون في أول عمره شاباً غضاً طرياً لين الأعضاء بهيّ المنظر ثم يكتهل فتتغير طباعه ويفقد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخاً كبيراً ضعيف القوى قليل الحركة يعجزه السير كما قال الله تعالى: {الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة} (الروم: 54) ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال ( {وفي الآخرة عذاب شديد} ) أي لمن انهمك في الدنيا، تنفيراً عن الانهماك في الدنيا وحثا على ما......
يوجب الكرامة في العقبى، ثم أكده بقوله ( {ومغفرة من الله ورضوان} ) لمن لم ينهمك في الدنيا: أي ليس في الآخرة الآتية القريبة إلا أحد هذين (وما الحياة الدنيا(4/376)
إلا متاع الغرور) أي لمن أقبل عليها ولم يطلب الآخرة بها. قال ابن كثير: هي متاع، فإن عاد لمن ركن إليها فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أن لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة. عن أبي هريرة عن النبي «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرءوا: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة اهـ. قاله المحلي.......
(وقال تعالى) : ( {زين للناس حبّ الشهوات} ) أي ما تشتهيه النفس وتدعوا إله من لعب ولهو وزينة وتكاثر، زينها الله ابتلاء، أو الشيطان ( {من النساء والبنين والقناطير} ) أي الأموال الكثيرة (المقنطرة) المجتمعة والقناطير جمع قنطار أو جمع قنطرة. واختلف في قنطار هل هو فعلال أو فعال، والقنطار المال الكثير بعضه على بعض قاله الربيع بن أنس. وقيل مائة ألف ومائة ومائه رطل ومائة مثقال ومائة درهم، قاله سعيد بن جبير وعكرمة. وقيل ملء مسك ثور ذهباً أو فضة، قاله أبو نصرة. وسمي قنطاراً من الأحكام، يقال قنطرت الشيء: إذا أحكمته ومنه القنطرة. وقيل ما بين السماء والأرض من مال قاله صاحب «الحكم» . والمقنطرة قيل إنها مأخوذة من القنطار للتأكيد كبدرة مبدرة. وقيل لغيره فقال الضحاك أي المحصنة، وقال قتادة: أي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض. وقال يمان: هي المدقوقة. وقال الفراء: المضعفة فالقناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة ( {من الذهب والفضة} ) قال في لباب التفاسير: سمى الذهب ذهباً لسرعة ذهابه في الإنفاق والزكاة، والفضة فضة لأنها تفرق بضرب الدراهم، وتفرق بالإنفاق، والفض التفريق اهـ. والظرف في محل الحال بيان للقناطير ( {والخيل المسومة} ) المعلمة من السومة وهي العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها أو المطهمة: أي المجملة ( {والأنعام} ) جمع نعم بفتح أوليه وهي الإبل والبقر والغنم، سميت به لعظم الانتفاع بها ( {والحرث} ) أي الزرع ( {ذلك} ) أي ما ذكر ( {متاع الحياة الدنيا} ) أي ما يتمتع به فيها وهو فإن مضمحلّ لا يقابل ما ادخره في الآخرة وقد عم ذلك بقوله ( {وا عنده حسن المآب} ) أي المرجع وهو تحريض على استبدال ما عند الله تعالى من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الفانية.......
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الناس إن وعد الله حق} ) لا خلف فيه. قال أبو حيان في «النهر» : شامل لجميع ما وعد به من ثواب وعقاب وغير ذلك. قلت: وكأن اقتصار البيضاوي على قوله بالحشر والجزاء لأنهما الأهم، بل اقتصر الحافظ ابن كثير على الأول وهو مستلزم للجزاء لأن ذاك لذلك ( {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} )(4/377)
فيذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة والسعي لها ( {ولا يغرنكم با الغرور} ) قال مالك عن زيد بن أرقم: هو الشيطان: أي بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية، فإنها وإن أمكنت لكن الذنب بهذا التوقع كتناول السم اعتماداً على دفع الطبيعة، وقد عقّب تعالى هذه الآية بما يدل على عداوة الشيطان لنا بقوله: {إن الشيطان لكم عدوّ} (فاطر: 6) الآية. وقرىء بالضم وهو مصدر أو جمع كقعود.
(وقال تعالى) : ( {ألهاكم} ) أي أشغلكم، وأصله الصرف إلى اللهو منقول من لها إذا غفل ( {التكاثر} ) بالأموال والأقوال ( {حتى زرتم المقابر} ) إلى أن متم وقبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا عما هو أهم لكم وهو السعي لأخراكم، فزيارة المقابر عبارة عن الموت ( {كلا} ) ردع وتنبيه على أن العاقل ينبغي له أن لا يكون جميع همته ومعظم سعيه للدنيا فإن عاقبة ذلك وبال وحسرة ( {سوف تعلمون} ) خطأ رأيكم إذا عاينتم ما وراءكم وهو إنذار ليخافوا وينتهوا عن غفلتهم ( {ثم كلا سوف تعلمون} ) تكرير للتوكيد، وفي ثم دلالة على أن الثاني أبلغ من الأول، أو الأول عند الموت أو في القبر، والثاني عند النشور ( {كلا لو تعلمون علم اليقين} ) أي لو تعلمون ما بين أيديكم على الأمر اليقين: أي كعلمكم ما تستيقنونه لشغلكم ذلك عن غيره أو لفعلتم ما لا يوصف ولا يكيف، فحذف الجواب ولذا اقتصر المصنف على ذلك. قال البيضاوي: ولا يجوز أن يكون قوله: {لترون الجحيم} جواباً لأنه محقق الوقوع بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيماً اهـ.......
(وقال تعالى) : ( {وما هذه الحياة الدنيا} ) قال في «النهر» : الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ( {إلا لهو ولعب} ) أي كما يلهى ويلعب به الصبيان ويجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون متعبين ( {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} ) أي لهي دار الحياة الحقيقية لامتناع طريان الموت عليها، أو جعلت هي في ذاتها حياة مبالغة. والحيوان مصدر حي سمي به ذو الحياة مبالغة وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واواً وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة، ولذلك اختير عليهما هنا. وفي «فتح(4/378)
الرحمن بكشف ما تلبس في القرآن» للشيخ زكريا قدم اللعب في الأنعام والقتال والحديد، وعكس في الأعراف والعنكبوت لأن اللعب زمن الصبا واللهو زمن الشباب وزمن الصبا مقدم على زمن الشباب فناسب إعطاء المقدم للأكثر والمأخر للأقل اهـ. ( {لو كانوا يعلمون} ) لم يؤثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة، والحياة فيها عارضة سريعة الزوال (والآيات في الباب كثيرة مشهورة) لا منافاة بين ما دل عليه جمع السلامة من القلة وقوله كثيرة لأن تلك بالنظر إلى الأحاديث فيه وإن كانت الآيات فيه في نفسها كثيرة. ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أن محل كون جمع السلامة من جموع القلة كما عده النحاة حيث لم يكن معرّفاً وإلا فلا، بل هو من ألفاظ العموم كما قاله الأصوليون.......
(وأما الأحاديث) في الباب (فأكثر من أن تحصر) لكمال كثرتها، وفي ذلك منه إيماء إلى الاعتناء بما عقد له الباب لاعتناء النبي بذلك كما يدل عليه كثرة الأخبار فيه (فننبه) النون فيه للعظمة تحدثاً بنعمة الله تعالى عليه بالعلم والتأهيل له (بطرف) بفتح أوّليه المهملين، أي بقطعة وجانب (منها) ويجوز أن يقرأ بضم أوله وفتح ثانيه على أنه جمع طرفة بالضم، قال في «المصباح» : الطرفة أي بالضم والسكون ما يستطرف، جمعه طرف كغرفة وغرف اهـ. والأول أنسب بقوله (على ما سواها) وهو والظرف قبله متعلقان بالمضارع.......
1456 - (عن عمرو) ويقال فيه عمير بالتصغير كما نبه عليه في «الفتح» (ابن عوف الأنصاري) زاد المزي في وصفه قوله «البدري حليف بني عامر بن لؤي» وخرج بقوله الأنصاري عمرو بن عوف المزنيّ راوي حديث تكبيره خمساً في الجنازة وأحاديث أخر غير ذلك. قال الحافظ في «الفتح» بعد قول البخاري الأنصاري: المعروف عند أهل المغازي أنه من المهاجرين، وهو موافق لقوله هنا: وهو حليف لبني عامر بن لؤي لأنه يشعر بكونه من أهل مكة. ويحتمل أن يكون وصفه بالأنصاري بالمعنى الأعم، ولا مانع أن يكون أصله من الأوس أو الخزرج فنزل مكة وحالف بعض أهلها، فبهذا الاعتبار هو أنصاري مهاجري، ثم ظهر كأن لفظة الأنصاري وهم تفرد به شعيب عن الزهري، ورواه أصحاب الزهري كلهم عنه بدونها في «الصحيحين» وغيرها، وهو معدود من أهل بدر اتفاقاً، وقول المزي. البدري لأنه(4/379)
(رضي الله عنه) شهد بدراً مع رسول الله. أخرج ابن الأثير في «أسد الغابة» عن ابن إسحاق قال: ممن شهد بدراً عمرو بن عوف: مولى سهيل بن عمرو، وقال: هكذا جعله ابن إسحاق مولى وجعله غيره حليفاً، قيل لأنه سكن المدينة ولا عقب له، وليس له في الكتب الستة سوى هذا الحديث (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة) قيل اسمه عامر بن عبد الله، وقيل عبد الله بن عامر (بن الجراح) والأوّل أصح: أحد العشرة المبشرة بالجنة (رضي الله عنه) وعنهم. والجراح بفتح الجيم وتشديد الراء آخره حاء مهملة (إلى البحرين) أي البلدة المشهورة بالعراق، وهي بين البصرة وهجر. وفي كتاب «أسامى البلدان» قال الزهري: إنما ثنوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، وهذه البحيرة ثلاثة أميال في مثلها ولا يفيض ماؤها، وماؤها......
راكد زعاف اهـ. (يأتي بجزيتها) أي بجزية أهلها، وكان غالب أهلها إذ ذاك مجوساً. وذكر ابن سعد أن النبي بعد قسمة الغنائم بالجعرانة أرسل العلاء إلى المنذر ابن ساوى عامل الفرس على البحرين يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية من المجوس (فقدم بمال من البحرين) قال في كتاب الصلاة ومن «التوشيح» نقلاً عن «مصنف ابن أبي شيبة» كان قدر المال مائة ألف وأنه أوّل خراج حمل إلى النبيّ اهـ. (فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة) أي بالمال (فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله) قال الحافظ: يؤخذ منه أنهم كانوا لا يجتمعون الجميع في كل الصلوات إلا لأمر يطرأ، وكانوا يصلون في مساجدهم إذ كان لكل قبيلة مسجد يجتمعون فيه، فلأجل ذلك عرف أنهم اجتمعوا لأمر، ودلت القرينة على تعيين ذلك الأمر، وهو احتياجهم للمال للتوسعة عليهم. ويحتمل أن يكون وعدهم بأن يعطيهم منه إذا حضروا، وقد وعد جابراً بعد هذا أن يعطيه من مال البحرين فوفى له أبو بكر (فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف) أي ذاهباً إلى مقصده (فتعرضوا له) أي قصدوا له. قال في «الصحاح» : تعرضت أسألهم اهـ. (فتبسم حين رآهم) يحتمل أن يكون تبسمه لما ظهر من مقتضى الطبع من طلب الدنيا مع أن قضية حالهم وشرفهم وكون المصطفى بين أظهرهم مع كمال إعراضه عنها ترك ذلك (ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء) يحتمل أن يكون تنوينه للتعظيم باعتبار كثرة كميته. ويحتمل(4/380)
أن يكون للتحقير لحقارة الدنيا في جانب ما أعد الله للمؤمنين في الدار الآخرة (من البحرين) يحتمل أن يكون متسقراً صفة لشيء، ويحتمل أن يكون لغواً متعلقاً بالفعل (فقالوا: أجل) هو في المعنى مثل نعم، لكن نعم يحسن أن تقال جواب الاستفهام، وأجل أحسن من نعم في التصديق (يا رسول الله) وأتوا به تلذذاً بالخطاب وإلا فقد حصل بقولهم: أجل الجواب (فقال أبشروا) أمر معناه الإخبار بحصول المقصود (وأملوا) قال في «تحفة القاري» بفتح......
الهمزة وتشديد الميم (فوا ما الفقر) بالنصب مفعول مقدم لقوله (أخشى عليكم) وتقدم المفعول اهتماماً بنفي خشية الفقر عليهم عكس الآباء مع أولادهم، فإن الوالد الشفيق يخشى على ولده الضيعة بعده، والنبي لهم مثل الوالد ولم يخش عليهم الفقر، قال الطيبي: لأن الأب الدنيوي يخشى على ولده الفقر الدنيوي، والأب الديني يخشى على ولده الفقر الديني، قال الحافظ في «الفتح» : يجوز رفع الفقر بتقدير ضمير: أي ما الفقر أخشاه عليكم، والأول هو الراجح، وخص بعضهم جواز ذلك بالشعر اهـ. وأصله للزركشي وتعقبه فيه الدماميني بأن ضعف ذلك مذهب كوفي، قال في «التسهيل» ولا يختص بالشعر خلافاً للكوفيين. فإن قلت: تقديم المفعول هذا يؤذن بأن الكلام في المفعول لا في الفعل كقولك ما زيد ضربت فلا يصح أن يعقب المنفى بإثبات ضده، فيقول ولكن أكثر منه لأن المقام في المفعول هل هو زيد أو عمرو مثلاً، لا في الفعل هل هو إكرام أو إهانة: والحديث قد وقع فيه استدراك بإثبات ضد الفعل المنفي فقال: ولكن أخشى الخ فكيف يأتي هذا. قلت: المنظور إليه في الاستدراك هو المنافسة في الدنيا عند بسطها عليه، فكأنه قال ما الفقر أخشى عليهم ولكن المنافسة في الدنيا فلم يقع الاستدراك إلا في المفعول كقولك ما ضربت زيداً، ولكن عمراً ضربت، ثم لا يضر لأنه في الحقيقة استدراك بالنسبة إلى المفعول لا إلى الفعل اهـ. (ولكن أخشى أن تبسط) أي توسع (الدنيا عليكم) وما فتحه الله عليهم من الدنيا بعده حتى إن أحدهم لا يجد للمال موضعاً يحطه فيه (كما بسطت) ما موصول اسمي أو نكرة موصوفة: أي دنيا يعود الضمير النائب عن الفعل المستتر في بسطت عليه (على من كان قبلكم) : أي من الأمم وسقطت كان من بعض نسخ البخاري (فتنافسوها كما تنافسوها) الأول مضارع حذفت إحدى تاءيه تخفيفاً، والأصل فتتنافسوها، وفي بعض نسخ البخاري حذف الضمير المنصوب من الفعل الثاني، قال المصنف: والتنافس المسابقة إلى الشيء وكراهة أخذ......
الغير له، وهو أول(4/381)
درجات الحسد اهـ. وبمعناه ما في «تحفة القاري» من أنه الرغبة في الشيء والانفراد به (فتهلككم) أي في الدين (كما أهلكتهم) في ذلك وإسناد الإهلاك إليها مجاز عقلي من باب الإسناد إلى السبب إذ التنافس فيها سبب قد يجر لفساد الدين وهلاكه، قال الحافظ في «الفتح» : لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه فتمتنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك اهـ. وقد وقع عند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً «تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون» ونحو ذلك. قال في «الفتح» : وفي الحديث إشارة إلى أن كل خصلة من المذكورات مسببة عما قبلها، وفي الحديث «واتقوا الشح فإنه أهلك من قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . قال ابن بطال: فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشرّ فتنتها عنه. وفي «تفسير البيضاوي والخازن» : أي زينتها وبهجتها: أي فلا يطمئن إلى زخرفها ولا ينافس بها أيضاً اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري واللفظ له في الجزية، وفي المغازي من «صحيحه» ، ورواه مسلم في آخر «صحيحه» في باب تحريم الظلم السابق، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه أيضاً، فرواه الأوّل في باب الزهد والثالث في الفتن، ومدار الحديث عندهم على الزهري.......
2457 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر) بكسر الميم وسكون النون وفتح الباء الموحدة، قال في «الصحاح» : نبرت الشيء أنبره نبراً: رفعته، ومنه سمي المنبر (وجلسنا حوله) لسماع أقواله وتلقي مواعظه، وحول منصوب على الظرفية. قال في «الصحاح» : يقال قعدوا حوله وحواله وحواليه، ولا يقال حواليه بكسر اللام، وقعد حياله وبحياله بالكسر: أي بإزائه وأصله الواو اهـ. (فقال إن مما أخاف عليكم بعدي) أي بعد موتي وقدمه اهتماماً بأمره على الاسم وهو قوله (ما يفتح) بالبناء للمفعول (عليكم من زهرة الدنيا) قال في «المصباح» : زهرة بوزن تمرة لا غير: أي لا يجوز(4/382)
فتحها بخلاف واحدة الزهر ففيها ذلك أيضاً، ويرده ما في «تفسير البيضاوي» من قوله، وقرأ يعقوب زهرة بالفتح، وهي لغة في الزهرة اهـ. ومثله في «تفسير النهر» إلا أنه لم يعين اسم القارىء وعبارته «وقرىء زهرة بفتح الهاء وسكونها نحو زهر ونهر» . قلت: إن ثبت ما في «المصباح» من منع الفتح في لغة فيحمل على أنه جمع زاهر كما جوزه البيضاوي فيها أيضاً قال: وهي متاعها وزينتها. وفي «تفسير البيضاوي والخازن» : أي زينتها وبهجتها فلا يطمئن إلى زخرفها ولا يتأنس بها اهـ. قلت: وعليه فعطف قوله (وزينتها) على الزهرة من عطف الخاص على العام وخشيته من ذلك لئلا يتعلق حبه بالقلب ويأخذ بهجته بالبصر فيوقع في الأسباب المؤدية إلى فساد الدين مما تقدم في الحديث قبله (متفق عليه) ورواه البخاري في الصلاة وفي الجهاد وفي الزكاة وغيرها، ومسلم في باب ورواه النسائي في الجهاد.......
3458 - (وعنه) أي أبي سعيد الخدري (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الدنيا خضرة) بفتح المعجمة الأولى وكسر الثانية (حلوة) أي جامعة بين الوصفين المحبوبين للبصر والذوق فهي كالفاكهة التي راق منظرها وحلا مذاقها (وإن الله مستخلفكم فيها) بكسر اللام: أي بمنزلة الخلفاء عنه في التصرف فيها: أي فلا تتصرفوا بما لم يأذن لكم به (فينظر كيف تعملون) فيجازيكم على ما يبدو منكم من حسن وضده في عالم الشهادة الذي ظهرك كما سبق في علم الغيب الأزلي (فاتقوا الدنيا) أي من ميلكم إلى زهرتها وحلاوتها وخضرتها عما يطلب منكم من الوقوف عند ما أبيح لكم دون ما حظر عليكم، والفاء فيه فصيحة: أي إذا علمتم أن ما تعملون فيه بمرأى من الله تعالى فاتقوه في ذلك (واتقوا النساء) أي احذروهن أن بكيدهن يحملكم الافتتان بهن على ترك ما طلب منكم من التكاليف أو أن يخدعنكم بكيدن فتقعوا في شيء من أغراضهن الممنوع منها شرعاً (رواه مسلم) في آخر الدعوات، ورواه النسائي أيضاً في(4/383)
عشرة النساء، والحديث قدمه المصنف في باب التقوى وتقدم شرحه ثمة بأبسط مما هنا.
4459 - (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:) في أشد أحواله لما رأى تعب أصحابه لحفر الخندق (اللهم) أي يا الله (إن العيش) الحياة الدائمة (عيش الآخرة) فلا يحزن الإنسان لما يصيبه في هذه الدار فإنه منقض وأجره باق دائم، وقاله في أسرّ الأحوال أيضاً لما رأى كثرة المؤمنين في يوم عرفة في حجة الوداع لبيك إن العيش عيش الآخرة: أي شأن العاقل أن لا يفرح بما يسرّه من الدنيا لانقضائها وأن يكون اهتمامه بما يفرح به في آخرته لأن حياتها الدائمة الأبدية (متفق عليه) وقد تقدم هذا الحديث مع شرحه.......
5460 - (وعنه) أي عن أنس (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتبع الميت) من منزله إلى مدفنه في الغالب (ثلاث) من الأشياء، وحذف التاء منه لحذف المعدود، وأبدل من ثلاث بدل مفصل من مجمل قوله (أهله وماله) أي الذي كان ماله قبل موته: أي بعضه كعبيده وما يصحب مع أهله لنفقة على مؤن دفنه (وعمله) أي جميع ما عمله في الدنيا كما يومىء إليه إضافة المفرد، ويحتمل أن يراد ما عمله مما يتعلق به جزاء دون ما كفر لنحو توبة أو عمل صالح أو فضل إلهي فيكون عاماً أريد به خاص (فيرجع اثنان ويبقى واحد) ذكره مجملاً ثم مفصلاً ليكون أوقع في النفس وأقر فيها فقال (يرجع أهله) بعد دفنه (وماله) كذلك أو ما يبقي مما هيىء لمؤمن الدفن بعد تمامه (ويبقى عمله) معه مرتهناً هو به. قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} (المدثر: 38) اللهم وفقنا لمرضاتك بمنك وكرمك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق، ومسلم في الزهد، وكذا رواه الترمذي في الزهد من «جامعه» ، وقال حسن صحيح، والنسائي في ذلك من «سننه» ،(4/384)
ومداره عند الجميع على سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن أنس كذا يؤخذ من «الأطراف» .......
6461 - (وعنه قال: قال رسول الله: يؤتى) بالبناء للمفعول ونائب الفاعل الظرف بعده والفاعل إما الله تعالى لأنه الموجد للجميع، وإما الملائكة لأنهم المنتصبون في ذلك بأمره (بأنعم أهل الدنيا) أي بأكثرهم نعمة فيها من لذات الدنيا وزهراتها (من أهل النار) في محل الحال نائب الفاعل، وفيه إيماء إلى أن من أنعم الله عليه في الدنيا بالنعم في ظاهره من أهل الإيمان وصالح الأعمال ليسوا كذلك (يوم القيامة) ظرف للفعل: أي بعد فصل القضاء والحكم بين العباد (فيصبغ) أي يغمس (في النار صبغة) بفتح الصاد أي غمسة ولعل التنوين فيه للتقليل فيكون أبلغ فالتعقيب بالنسبة للإتيان كذلك هنا وفي قرينة (ثم) لعل الإتيان بها إيماء إلى أنه يهان بإهماله كذلك مدة (ويقال) له بعدها تبكيتاً والقائل إن كان خزنة جهنم فالأمر ظاهر، وإن كان الحق سبحانه بلا واسطة فلا دلالة فيه على شرف لهم لأن خطابه تعالى لهم على سبيل الإهانة والإذلال، ثم رأيت حديث النسائي مصرحاً بالشق الثاني (هل مر بك نعيم قط) بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة ظرف للزمان الماضي (فيقول) عقب السؤال بلا تراخ كما تؤذن به الفاء (لا وا) الجواب مقدر بعد لا، أغنى عن التصريح به دلالة ما قبله عليه، والقسم بعد لتأكيد نفي ذلك، وكأن ذلك منه لغلبة العذاب عليه حتى يذهل عما مضى له في الدنيا من النعيم فيقول ذلك، وإلا فالآخرة لا يقع فيها الكذب من أحد، ويحتمل أنهم عدوا جميع ما ذاقوه من النعيم في جنب ما أصابهم من أقل العذاب كالعدم فصيروره في حكم المعدوم فقالوا ذلك. وقوله (يا رب) بحذف الياء اكتفاء بدلالة الكسرة عليها، أتى به للتعطف والترحم (ويؤتى بأشد الناس بؤساً) بالهمز: أي شدة، قاله المصنف، قال في «المصباح» : ويجوز التخفيف. أي لغة (في الدنيا) يحتمل أن يكون ظرفاً مستقراً صفة لبؤس وأن يكون لغواً متعلقاً به، وقوله (من أهل الجنة) في محل النصب بيان لأشد، وهو المؤمن ولو عاصياً (فيصبغ) أي......
يغمس (صبغة في الجنة) وسمى ما ذكر صبغة لظهور أثره عليهم ظهور أثر المصبوغ.
قال تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرة. إلى ربها ناظرة. ووجوه يومئذٍ(4/385)
باسرة. تظن أن يفعل بها فاقرة} (القيامة: 22، 25) ثم قوله فيصبغ الخ ثابت في «صحيح مسلم» ساقط فيما وقفت عليه من نسخ الرياض ولعله من قلم الناسخ سهواً ولعل حكمة تقديم شأن أهل النار لكونه من باب الإنذار وهو كالتخلية على ما يتعلق بأهل الجنة الذي هو من باب البشارة لكونه كالتحلية بالمهملة، والظاهر أن تقديم المفعول المطلق هنا على نائب الفاعل وتأخيره ثمة للتفنن في التعبير (فيقال له) أي عقب إذاقته لأول ما يلقاه من النعيم الذي هو جزء يسير مما أعد له من النعيم كما تؤذن الفاء، والمبادرة بذلك للتشريف (هل رأيت) أي وجدت (بؤساً) أي شدة (قط هل مرّ بك بؤس قط) يحتمل أن يكون بمعنى ما قبله وكرر تأكيداً وإطناباً لزيادة التذكير بالنعمة التي آل إليه أمرها حتى هان عليه ما لاقاه في الدنيا في جانبها يقال ما يأتي، ويحتمل أن لا يكون كذلك بأن المسؤول عنه أولاً ما وجد مشقته وشدته وثانياً ما نزل به مما لم يكن كذلك لما عارضه من خفي لطف إلهي (فيقول لا وا) وصرح بالمحذوف بعد لا النافية الدال عليه سياق الكلام بقوله (ما مر بي بؤس) أي شدة (قط ولا رأيت شدة قط) لأن المقام للإطناب شكراً لما أبيح من تلك المنة التي يقصر عن بيان أدناها البيان (رواه مسلم) في التوبة من صحيحه وكذا رواه النسائي في الجهاد من سننه، كذا قال الحافظ المزّي في «الأطراف» وتعقبه الحافظ ابن حجر في «النكت الظراف» عليه بأنهما حديثان، وكان عليهما إفرادهما وذلك بيّن من سياقهما ولفظ حديث مسلم عن يزيد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ما ذكر، ولفظ حديث النسائي عن بهز عن حماد «يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله عزّ وجل يا ابن آدم كيف وجدت منزلتك؟ فيقول ربي: خير منزل، فيقول عزّ وجل: سل وتمنّ، فيقول أسألك......
أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما رأى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول تبارك وتعالى: يا ابن آدم كيف منزلك؟» الحديث. فهذان حديثان مختلفان في السياق والمعنى وإن اتحد إسنادهما وقد أخرج الثاني الحاكم في «المستدرك» وقال صحيح على شرط مسلم انتهى.
7462 - (وعن المستورد) هو بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح الفوقية وكسر الراء(4/386)
آخره دال مهملة (ابن شداد) بفتح المعجمة وتشديد المهملة الأولى، ابن عمرو بن حنبل بن الأحب بن حبيب بن عمرو بن شبان بن محارب بن فهر القرشي الفهري (رضي الله عنه) وأمه دعد بنت جابر بن حنبل بن الأحب أخت كرز بن جابر، ولما قبض النبي كان غلاماً قاله الواقدي، وقال غيره: إنه سمع من النبي سماعاً وأتقنه، سكن الكوفة ثم مصر، روى عنه أهل الكوفة وأهل مصر كذا في «أسد الغابة» ، قال ابن الجوزي روي له عن النبيّ سبعة أحاديث، قال البرقي: في هذه السبعة التي جاءت عنه منها أربعة لأهل مصر، وحديثان لأهل الكوفة، وحديث لأهل الشام اهـ عنه روى مسلم هذا الحديث وأخرج عنه حديثاً آخر ولم يرو له البخاري (قال: قال رسول الله: ما الدنيا) أي ما مثلها أو نعيمها أو زمانها (في الآخرة) أي في جانبها أو بالنظر إليها (إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه) قال في «المصباح» : فيه عشر لغات. تثليث الهمزة مع تثليث الموحدة، والعاشرة أصبوع كعصفور والمشهور من لغاتها كسر الهمزة وفتح الباء، وهي التي ارتضاها الفصحاء اهـ، وقد نظمتها بقولي:
وفي أصبع عشر بتثليث همزة
وباء له والعاشر أصبوع فاعلم......
(في اليم) بفتح التحتية وتشديد الميم: البحر (فلينظر) أي أحدكم (بم) أصله بما حذفت الألف؛ أي بأي شيء (يرجع) بالتحتية والضمير راجع لأحد: أي بما يرجع أحدكم أصبعه لا لأصبع لأنها مؤنثة كما في «المصباح» ، ثم قال: وفي كلام ابن فارس ما يدل على تذكير الأصبع، وقال الصغاني: يذكر ويؤنث والغالب التأنيث، قال في «المفاتيح» : يجوز في مثل أن يقرأ بالرفع والفتح على أنه مبني لأن «ما» في «ما يجعل» مصدرية يعني نسبة ما ذكر من نعيم الدنيا وزمانها إلى نعيم الآخرة، ليس إلا مثل نسبة الماء اللاصق بأصبع أحدكم إذا غمسها في اليم، أي البحر (رواه مسلم) في صفة الدنيا والآخرة من «صحيحه» ، ورواه الترمذي في الزهد، وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي في الزهد.......
8463 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بالسوق) داخلاً من بعض طرق العالية كما في «صحيح مسلم» ، وحذفه المصنف اختصاراً لعدم تعلق غرضه، قال في(4/387)
«المصباح» : يذكر ويؤنث، وقال أبو إسحاق في السوق التي يباع فيها مؤنثة وهو أفصح وأوضح وتصغيرها سويقة والتذكير خطأ لأنه قيل بسوق نافقة ولم يقل نافق بغير هاء اهـ، سميت بذلك لسوق الناس بضائعهم إليها أو لأنهم يقومون فيها على سوقهم أو لتصاكك السوق فيها من الازدحام (والناس كنفيه) جملة في محل الحال من ضمير مر، وفي «شرح مسلم» للمصنف قوله: والناس كنفيه وفي بعض النسخ كنفتيه معنى الأول جانبه والثاني جانبيه اهـ. 5 ولم يظهر وجه تفسير ما حذفت التاء منه بالمفرد وما أثبت فيه تاء بالمثنى، وفي «النهاية» أنهما كذلك بمعنى والله أعلم، وفي «المصباح» : الكنف بفتحتين الجانب، وجمعه أكناف كسبب وأسباب (فمر بجدي) هو ولد المعز كذا في «المفاتيح» ، وفي المصباح قال ابن الأنباري: هو الذكر من أولاد المعز، والأنثى عناق، وقيده بعضهم في السنة الأولى، والجمع أجد وجداء كدلو وأدل وأدلاء، والجدي بالكسر لغة رديئة اهـ. (أسك) أي صغير الأذن من السك بفتحتين وهو صغيرها كذا في «المفاتيح» ، ويأتي مثله في الأصل، وقال العاقولي: الأسك مصطلم الأذنين مقطوعهما (ميت فتناوله) فيه دليل على أن لمس النجس إذا لم تكن رطوبة من أحد الجانبين لا ينجس (فأخذ بأذنه) كان الأخذ بها لمزيد الحقارة، والأذن بضمتين ويجوز تخفيفها بتسكين الثانية (ثم قال) كان الإتيان بثم لبيان أنه عرض بين الأخذ والتكلم ما تأخر بسببه التكلم، ويحتمل أن تكون استعيرت في موضع الفاء وعدل إليها تفنناً ودفعاً لثقل التكرار في الجملة (أيكم يحب أن هذه له بدرهم) أحد الظرفين في محل الخبر والآخر في محل الحال والأولى إعراب الأول خبراً والثاني حالاً كما يومىء إليه ما بعده، قال العاقولي: هو استفهام إرشاد وتنبيه ليلقوا السمع لما......
يوجهه إليهم من الخطاب الخطير في ضمن التمثيل بهذا المعنى الحقير (فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء) أي من الأشياء التي هي أقل من الدرهم فضلاً عنه (وما نصنع به) وهو نجس لموته قد انقطعت الأطماع بذلك عن الانتفاع به (قال) تأكيداً للمقام (تحبون) أي أتحبون (أنه لكم) أي من غير شيء (قالوا: وا لو كان حياً كان عيباً) أي معيباً أو ذا عيب ويجوز إبقاؤه على ظاهره من غير تأويل ولا تقدير، ويكون في الجملة مبالغة أنه لكمال قيام العيب به ولصوقه صار كأنه عيب وحذفت اللام من جملة لو، حملاً على جواب «أنّ» كما أثبتت اللام في جواب «أنّ» حملاً على جواب «لو» في قولهم وإلا لكان كذا أي لو كان حياً لترك مع رجاء الانتفاع به لكونه معيباً، قوله (أنه أسك) تفسير(4/388)
لعيب (فكيف وهو ميت) لا ينتفع به (فقال وا للدنيا) بفتح اللام صدّر بها جملة جواب القسم المركبة من مبتدأ وهو الدنيا وخبر وهو قوله (أهون على الله من هذا عليكم) وأهون أفعل من الهون بضم الهاء وسكون الواو قال في «المصباح» هان يهون هوناً بالضم وهواناً: ذل وحقر، وفي التنزيل
{أيمسكه على هون} (النحل: 59) قال أبو زيد والكلابيون يقولون: على هوان ولم يعرفوا الهون، وفيه مهانة: أي ذل وضعف اهـ، والمعنى أن الدنيا عند الله أذل وأحقر من هذا عندكم فعلى بمعنى عند. قال في «المصباح» : تأتي على بمعنى عند، قال الشاعر:
غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها......
قال الأصمعي: معناه من عنده، ثم قال العلماء: الأنبياء والأصفياء والكتب الإلهية والعبادات في الدنيا وليست منها فلا تدخل في الهوان (رواه مسلم) في الزهد من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الطهارة من سننه (قوله كنفيه: أي عن جانبيه) تقدم في «المصباح» : الكنف الجانب وكان التأنيث باعتبار معنى الجهة (والأسك الصغير الأذن) قال في «المصباح» : السكك أي بفتحتين مصدر من باب تعب، وهو صغر الأذنين وبه يتأيد ما تقدم عن المفاتيح ويحمل قوله «مصطلمهما» أن ذلك خلقي، لا أن ذلك طارىء بقطعهما كما يعطيه لفظ الاصطلام إذ معناه كما في «الصحاح» أيضاً القطع: ثم رأيت «الصحاح» قال: السكك بالتحريك صغر الأذن، يقال: كل سكاء تبيض وكل شرقاء تلد، فالسكاء التي لا أذن لها والشرقاء التي لها أذن وإن كانت مشقوقة، ويقال سكة يسكه إذا اصطلم أذنيه اهـ. ومنه يعلم أن العاقولي اشتبهت عليه مادة بمادة فحمل الأسك على أنه من باب المضاعف المضموم العين المفسر بالاصطلام وإنما هو من باب علم كما تقدم في «المصباح» وغيره، فهو الصغير الأذن كما قاله المصنف وغيره.......
9464 - (وعن أبي ذر) بفتح المعجمة وتشديد الراء كنية جندب بن جنادة (رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبي) فيه كمال تواضعه مع أصحابه وعدم ترفعه على أحد منهم (في حرة) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء: هي أرض ذات حجارة سود والجمع(4/389)
حرار بكسر أوله (بالمدينة) علم بالغلبة على دار هجرته (فاستقبلنا أحد) بضمتين: الجبل المعروف بالمدينة (فقال يا أبا ذر) فيه تكنية العالم تلميذه وتابعه تأنيساً وتكريماً، وهو من كمال فضله وحسن خلقه (قلت) في نسخ البخاري المصححة «فقلت» بالفاء أوله (لبيك يا رسول الله) فيه الجواب زيادة في الأدب (قال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا) والإتيان به للتعظيم كقوله تعالى: {ذلك الكتاب} (البقرة: 2) وقوله (ذهباً) تمييز لمثل، وجاء في رواية البخاري في باب الاستئذان من صحيحه «فلما أبصر أحداً قال: ما أحب أن يحول لي ذهباً» قال الحافظ بعد ذكر اختلاف رواياته: وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث ومخرجه متحد فهو من تصرف الرواة، ويمكن الجمع بين قوله مثل أحد وبين قوله: «يحول أحد» بحمل المثلية على شيء بكون وزنه من الذهب وزن أحد، والتحويل على أنه إن انقلب ذهباً كان على قدر وزنه أيضاً، وذهباً على تلك الرواية الثانية جعله ابن مالك مفعولاً ثانياً لحول ومفعوله الأول ضمير أحد. واستدل به على مجيء حول بمعنى صير، وعمله عملها وهو استعمال كثير يخفى على أكثر النحاة، ورده الحافظ بقوله بعد أن ذكر أن اختلاف ألفاظه من تصرف الرواة ما لفظه فلا يكون حجة في اللغة (تمضي علىَّ ثالثة) أي ليلة ثالثة وإنما قيد بالثلاث لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أحد من الذهب في أقل منها غالباً لكن يعكر عليه رواية يوم وليلة، فالأولى أن يقال الثلاث أقصى ما يحتاج إليه في تفريق مثل ذلك والليلة الواحدة أقله (وعندي منه دينار) جملة حالية (إلاّ شيء) كذا هو فيما وقفت عليه من نسخ الرياض بالرفع وقد ذكر الحافظ في «الفتح» : أن فيه روايتين: الرفع والنصب،......
قال: وهما جائزان لأن المستثنى منه مطلق عام والمستثنى مقيد خاص فاتجه النصب، وتوجيه الرفع أن المستثنى منه في سياق النفي والشيء فسر في رواية بالدينار ووقع في رواية غير أبي ذر «وعندي منه دينار أو نصف دينار» وفي رواية أخرى «وأدع منه قيراطاً قال: قلت: قنطاراً، قال: قيراطاً» وفيه «ثم قال: يا أبا ذر
إنما أقول الذي هو أقل» (أرصده لدين) قال الدماميني بفتح الهمزة والصاد مضمومة أو مكسورة أي أعده وأحفظه وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحب(4/390)
دين غائب حتى يحضر أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى (إلا أن أقول به في عباد اهكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه) هو استثناء بعد استثناء فيفيد الإثبات فيؤخذ منه أن نفي محبة المال مقيدة بعدم الإنفاق فيلزم محبة وجوده مع الإنفاق فما دام الإنفاق في سبيل الله موجوداً لا يكره وجود المال، وإذا انتفى الإنفاق ثبتت كراهية وجود المال ولايلزم من ذلك كراهية حصول شيء آخر ولو قدر أحد، أو أكبر مع استمرار الإنفاق، وقوله عن يمينه الخ هكذا اقتصر على ثلاث وحمل المبالغة لأن العطية لمن بين يديه هي الأصل، قال في «الفتح» : والذي يظهر لي أن ذلك من تصرف الرواة وأن أصل الحديث مشتمل على الجهات الأربع، ثم ذكر أنه وجده كذلك في رواية بإثبات الأربع قال: وقد أخرجه في الاستئذان فاقتصر على ثنتين وعدّي إلى الأولين بحرف المجاوزة لأن المنفق منهما كالمنحرف عن المنفق المار على عرضه، ونظيره جلست عن يمينه، وعدى الثالث بحرف الابتداء إيماء إلى كمال المبالغة في الكرم حتى كأنه ابتدأ به من جهة الخلف بعد أن أتمه من جهة الأمام وجاوز به من عن جانبيه، وقال الحافظ: قوله من خلفه بيان للإشارة وخص عن باليمين والشمال لأن الغالب في الإعطاء صدوره باليدين اهـ. وما قلناه أظهر فتدبر (ثم سار فقال) في رواية للبخاري ثم قال: وبها يتبين أن أحد العاطفين استعير في محل الثاني (ألا) ......
أداة استفتاح يؤتى بها لتنبيه السامع لما بعدها اهتماماً به (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة) هكذا عند البخاري الأقلون بالهمزة في الاستقراض والاستئذان من «صحيحه» ووقع عنده في الرقاق منه «المقلون» بالميم محل الهمز، قال الحافظ: والمراد الإكثار من المال والإقلال من ثواب الآخرة، وهذا في حق من لم يتصل بما دل عليه الاستثناء بعد من الإنفاق بقوله (إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه) في رواية عند أحمد «إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا فحثى عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره» فاشتملت الروايتان على الجهات الأربع وإن كان كل اقتصر على ثلاث منها وقد جمعها عبد العزيز بن رفيع في روايته ولفظه «إلا من أعطاه الله خيراً» أي ما لا فنفح......
بنون وفاء ومهملة أي أعطى كثيراً بلا تكلف يميناً وشمالاً وبين يديه ووراءه وبقي من الجهات فوق وأسفل والإعطاء من قبل كل منهما ممكن لكن حذف لندوره وقد فسر بعضهم الإنفاق من وراء بالوصية ولي قيداً فيه بل قد يقصد الصحيح الإخفاء فيدفع لمن وراء ما لم يدر به من أمامه، وقوله هكذا صفة لمصدر محذوف: أي لمن أشار إشارة مثل هذه الإشارة (وقليل ما هم) ما صلة مزيدة(4/391)
لتأكيد القلة، ويحتمل أن تكون موصوفة ولفظ قليل هو الخبر وهم المبتدأ والتقدير: وهم قليل وقدم الخبر اهتماماً بمضمونه كما يؤذن به تأكيده، ففيه التحريض على الإنفاق لأصحاب الأموال ليندرج في القليل الذي هو الجليل وا الموفق (ثم قال لي مكانك) بالنصب: أي الزمه وقوله (لا تبرح) تأكيد له ودفع لتوهم أن الأمر بلزوم المكان ليس عاماً في الأزمنة (حتى آتيك) غاية للزوم المكان المذكور (ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى) فيه إشعار بأن القمر كان قد غلب حتى توارى: أي غاب شخصه. قلت: ويحتمل أن يكون التواري بسبب زيادة البعد حتى خفي عن البصر سيما ونور القمر يغيب فيه الشخص عن العين في بعد لا يتوارى عنها في مثله في الشمس لضعف ضوئه (فسمعت صوتاً قد ارتفع) في رواية لغطاً وهو اختلاط الأصوات (فتخوفت أن يكون) أي من أن يكون (أحد قد عرض) أي تعرض بسوء (للنبي فأردت أن آتيه) أي أتوجه إليه كما جاء في رواية أن أذهب: أي إليه ولم يرد أن يتوجه لحال سبيله بدليل رواية الباب (فذكرت قوله لا تبرح فلم أبرح حتى أتاني) في رواية فانتظرته حتى جاء، وفي الحديث الوقوف عند أمره ولزوم طاعته قال في «الفتح» : ففيه أن امتثال أمر الكبير والوقوف عنده أولى من ارتكاب ما يخالفه بالرأي ولو كان فيما يقتضيه الرأي توهم دفع مفسدة حتى يتحقق ذلك فيكون دفعها أولى اهـ. (فقلت) جاء في رواية للبخاري زيادة يا رسول الله (لقد سمعت صوتاً تخوفت منه) اللام هي المؤذنة بالقسم المقدر الداعي إليه تأكيد مقام الإخبار (فذكرت......
له) المفعول محذوف: أي ما سمعت وقد جاء مصرحاً به في بعض رواياته بلفظ فذكرت له الذي سمعت (فقال: وهل سمعته) المعطوف عليه محذوف أي أتذكر ذلك وهل سمعته، ومفعول سمع محذوف لدلالة ما قبله: أي وهل سمعت صوتاً؟ وظاهر أن الاستفهام للتثبت والتقرير لتقدم إخباره بالسماع فجوز أن يكون التبس عليه صوت نحو ريح حينئذٍ بصوت متكلم فقال ذلك ذلك (قلت نعم) أي من غير تردد (قال ذاك) أي الذي كنت أخاطبه (جبريل) أو ذلك الصوت الذي سمعته صوت جبريل ففيه على الثاني مضاف مقدر (أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك با شيئاً)(4/392)
أي من الشرك الجلي، أما الخفي وهو نحو الرياء فغير مانع من دخول الجنة (دخل الجنة) فقيل المراد إما ابتداء أو بعد المجازاة على المعصية، وقيل المراد دخلها ابتداء وقد حمله كذلك البخاري على من تاب عند الموت وهذا ما فهمه أبو ذر، والأول أولى للجمع بين الأدلة، جواب الشرط، رتب دخول الجنة على الموت بغير إشراك با، فقد ثبت الوعيد بدخول النار لمن عمل بعض الكبائر، وبعدم دخول الجنة لمن عملها ولذا وقع الاستفهام. بقول أبي ذر (قلت وإن زنى وإن سرق) بتقدير همزة الاستفهام قبله. قال ابن مالك: حرف الاستفهام مقدر أول هذا الكلام ولا بد من تقديره (قال: وإن زنى وإن سرق) أي يدخلها وإن زنى وإن سرق، إن وصلية والواو الداخلة عليها قيل عاطفة على مقدر، وقيل حالية، واقتصر على ذكر هذين لأن أحدهما متعلق بحق الله سبحانه، والآخر بحق العباد فكأنه يقول: إن من مات على التوحيد دخلها وإن تلبس بمعصية متعلقة بحق الله تعالى أو بحق عباده، وزيادة شرب الخمر في رواية للإشارة إلى فحش تلك الكبيرة لأنها تؤدي إلى خلل في العقل الذي به شرف الإنسان على البهائم، وبوقوع الخلل فيه قد يزول التوقي الذي يحجز عن ارتكاب بقية الكبائر، وأسقط المصنف تكرار استفهام أبي ذر لذلك وجوابه عن ذلك مرتين أخريين زاد في الثالثة «وإن رغم أنف أبي ذر» لعدم تعلق غرض الترجمة به............
(متفق عليه، وهذا لفظ البخاري) في الرقاق من «صحيحه» ، وقد أخرجه في مواضع أخرى منه وأخرجه مسلم في الزكاة، ورواه الترمذي في الإيمان من «جامعه» وأخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» ومداره عندهم على زيد بن وهب عن أبي ذر كذا يؤخذ من «الأطراف» للمزي.
10465 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كان لي) أي وجد فهي تامة فاعلها (مثل أحد) والظرف حال منه، ويجوز أن تكون ناقصة والظرف خبراً مقدماً(4/393)
(ذهباً) تمييز مثل (لسرني ألا تمر عليّ ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء) بالرفع مستثنى من شيء ورفع لكونه مستثنى من كلام منزل منزلة المنفي، وهو أنه في حيز جواب لو إذ هو في تقدير النفي كما أشار إليه الحافظ في «الفتح» (أرصده) في محل الصفة للمستثنى أي أعده (لدين) أي لأدائه عند مجيء الدائن، أو عند حلول أجل الدين كما تقدمت الإشارة لذلك. وفي الحديث الحث على الإنفاق في وجوه الخير والحض على ذلك في الحياة وفي الصحة وترجيحه على إنفاقه عند الموت وقد تقدم منه حديث «أن تصدق وأنت صحيح شحيح» وأنه كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا بحيث إنه لا يحب أن يبقى بيده شيء منها لإنفاقه فيمن يستحقه أو لإرصاده لمن له حق وأما لتعذر من يقبل ذلك منه لتقيده في رواية عند البخاري بقوله أجد من يقبله وفيه تقديم وفاء الدين على صدقة التطوع وفيه الحث على وفاء الدين وأداء الأمانة وجواز استعمال لو عند تمني الخير، وتخصيص الحديث الوارد بالنهي عن استعمال ما يكون في أمر غير محمود شرعاً وفيه غير ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري مع الحديث قبله في باب واحد...................
11466 - (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (قال: قال رسول الله: انظروا إلى من) الأقرب أنه موصول، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة (أسفل) بالنصب على أنه ظرف مستقر صلة للموصول أو صفة له، وإعرابه خبراً لضمير محذوف هو العائد لمن يأباه أن شرط حذف العائد ألا يصلح ما بقي لكونه صلة، وما هنا صالح له وأن شرطه أن يكون مبتدأ مخبراً عنه بمفرد وذلك خاص بصلة أي، لاستطالتها بالإضافة، وقراءة «على الذي أحسن» برفع أحسن على أن التقدير الذي هو أحسن شاذ، وفي بعض نسخ مسلم إثبات هو قبل أسفل هو العائد وهو مبتدأ والظرف مستقرّ في محل الخبر، والجملة صلة والمراد أسفل في أمور الدنيا كما بينه الحديث بعده ويدل عليه فهو أجدر الخ، أما في أمور الدين فينظر الإنسان لمن هو أعلى منه فيها جداً أو استقامة ليدأب كذلك، وفي الحديث «رحم الله عبداً نظر في دنياه لمن هو دونه فحمد الله وشكره، وفي دينه لمن هو فوقه فحمد واجتهد» قال في «الفتح» : وقد وقع في(4/394)
نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكراً صابراً: من نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، وأما من نظر في دنياه إلى من هو فوقه وأسف إلى ما فاته فإنه لا يكتب شاكراً ولا صابراً اهـ. (ولا تنظروا إلى من) أي الذي أو شخص (هو فوقكم) أي في ذلك على سبيل استعظام ما ناله واستكثاره (فهو) أي قصر النظر عمن فوق أو هو مع ما قبله (أجدر) أي أحق (ألا تزدروا) أي بأن لا تحقروا وتستصغروا افتعال من ازدراء قلبت فاؤه دالاً لتجانس الزاي في الجهر (نعمة الله عليكم) ثم ما أذن به أفعل من التفضيل المؤذن بثبوت أصله عند النظر المذكور باعتبار ما ركز في الطباع السالمة من الآفة من شكر نعمالله. وإن قلت: وعدم احتقارها. قال ابن جرير وغيره: هذا الحديث جامع لأنواع الخير، وذلك لأن الإنسان إذا رأى من فضل عليه في الدنيا طلبت نفسه............
من ذلك واستصغر ما عنده من نعمة الله وحرص على الازدياد ليلحق من فضل عليه فيها أو يقاربه، هذا هو الموجود في غالب الناس قال بعض السلف: صاحبت الأغنياء فكنت لا أزال في حزن أرى داراً واسعة ودابة فارهة ولا عندي شيء من ذلك: فصحبت الفقراء فاسترحت، وفي معناه ما أخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن الشخير رفعه «أقلوا الدخول على الأغنياء فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة ا» أورده في «الفتح» ، وأما إذا نظر في الدنيا إلى من هو دونه ظهر له نعمة الله عليه فشكرها وتواضع وفعل ما فيه الخير وكذا إذا نظر إلى من هو فوقه في الدين ظهر له تقصيره فيما أتى به فحمله ذلك على الخضوع لمولاه، وألا ينظر لعمله ولا يعجب به ويزداد في الجهد في العمل والدأب فيه، وا الموفق وسيأتي له مزيد إن شاء الله تعالى (متفق عليه) أي في الجملة، وإلا فالحديث المذكور رواه مسلم في الزهد من «صحيحه» من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وكذا رواه الترمذي وابن ماجه في الزهد من «جامعه» وقال الترمذي صحيح، وحديث البخاري باللفظ الآتي بعده هو الذي اتفقا عليه فرواه مسلم عقب هذا الحديث عن يحيى بن يحيى وقتيبة قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة والبخاري في أواخر الرقاق من «صحيحه» عن إسماعيل عن مالك عن أبي الزناد به، فالحديث الآتي هو المتفق عليه، أما الأوّل فانفرد به مسلم عن البخاري، وقد صنع كذلك المزي في «الأطراف» فرمز على حديث الباب برمز مسلم دون رمز(4/395)
البخاري، ورمز على الحديث الثاني برمز البخاري دون مسلم، وكأن المصنف اعتمد آخر كلامه فقال (وهذا لفظ مسلم) .
(......
وفي رواية البخاري) الظاهر في اختصاص البخاري باللفظ الثاني بل إنه عند مسلم أيضاً عقب الحديث الذي قبله من غير فاصل، ولكن سبحان من لا يسهو، وقد حرّر السيوطي في «الجامع الصغير» ذلك فرمز في الحديث الأول لمسلم فقط وفي الثاني للمتفق عليه (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه) بضم الفاء وبالمعجمة مبني للمجهول (في المال والخلق) بفتح الخاء المعجمة: أي الصورة المدركة بحاسة البصر.g قال في «الفتح» : ويحتمل أن يدخل في ذلك الأولاد والأتباع وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا، قال: ورأيته في نسخة معتمدة من «الغرائب» للدارقطني بضم الخاء واللام. قلت: إن ثبتت تلك الرواية فتحمل على أن المراد الأخلاق الدنيوية لأنها المأمور فيها بما يأتي (فلينظر إلى من هو أسفل منه) أي في ذلك، قال ابن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير، لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهداً فيها إلا وجد من هو فوقه، فإذا طلبت نفسه اللحاق به فيكون أبداً في زيادة تقربه من ربه ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالاً منه: فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون من فضل هو عليه بذلك من غير أمر أوجبه فيلزم نفسه الشكر فيعظم اغتباطه بذلك في معاده، وقال غيره: في هذا الحديث دواء كل داء لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن من أن يؤثر فيه الحسد، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك باعثاً له على الشكر.......
12467 - (وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبي قال: تعس) بكسر العين المهملة، ويجوز الفتح: أي خر لوجهه، والمراد هنا هلك. قال ابن الأنباري: التعس الشر، وقيل البعد (عبد الدينار والدرهم والقطيفة) بالقاف والطاء المهملة والتحتية والفاء بوزن صحيفة هي الثوب الذي له خمل (والخميصة) بالخاء المعجمة وبالميم والصاد المهملة(4/396)
بالوزن المذكور هي كساء مربع: أي عبد كل مما ذكر وقد جاء التصريح بالمضاف مع كل في رواية للبخاري بلفظ «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة» رواه كذلك في كتاب الجهاد: أي طالب ما ذكر الحريص على جمعه القائم على حفظه فكأنه لذلك خادمه وعبده، قال: خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا كالأسير الذي لا يجد ملخصاً، ولم يقل مالك ولا جامع الدنيا لأن المذموم من الملك والجمع الزيادة على الحاجة. وقال غيره: جعله عبداً لها لشغفه وحرصه فمن كان عبداً لهواه لم يصدق في حقه «إياك نعبد وإياك نستعين» فلا يكون من اتصف بذلك صديقاً قاله في «الفتح» (إن أعطى) بالبناء للمفعول مما ذكر (رضي وإن لم يعط لم يرض) هذان الشرطان وجوابهما مسوقان لبيان سبب شدة حرصه على ذلك (رواه البخاري) في الرقاق من «صحيحه» .......
13468 - (وعنه: قال لقد رأيت) أي أبصرت (سبعين من أهل الصفة) يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم غير السبعين الذين استشهدوا ببئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضاً لكونهم استشهدوا قبل إسلامه (ما منهم رجل) جاز الابتداء به مع نكارته لتقدم الخبر الظرفي عليه أو لكونه في سياق النفي أو لوصفه بجملة (عليه رداء) ولا مانع من تعدد المسوغات لأنها معرفات لا مؤثرات، والرداء ما يستر أعالي البدن فقط وقوله (إما إزار وإما كساء) أي ما إزار وهو ما يستر أسافل البدن فقط. وإما كساء وهو بالمد معروف وقوله (قد ربطوا في أعناقهم) جملة في محل الصفة لكساء (فمنها) أي الأكسية المدلول عليها بقوله: وإما كساء (ما يبلغ نصف الساقين) لقصره (ومنها ما يبلغ الكعبين) لطوله، والكعب العظم الناتىء، عند مفصل السابق والقدم سمي به لنتوئه (فيجمعه) أي ما ذكر من الكساء بقسميه (بيده) ليستر العورة (كراهية) مفعول له (أن تبدو) بالواو: أي تظهر (عورته) من صغر الكساء وقصره واقتصارهم على ذلك زهداً في زهرات الدنيا وإقبالاً على العبادة وعمارة الدار الآخرة (رواه البخاري) في المساجد من «صحيحه» . قال البخاري في مؤلفه في(4/397)
أهل الصفة، وفي لفظ أبي نعيم عنه «رأيت سبعين منهم يصلون في ثوب، فمنهم من يبلغ ركبتيه ومنهم من هو أسفل من ذلك، فإذا ركع أحدهم قبض عليه مخافة أن تبدو عورته» وبعضه عند الحاكم عنه ولفظه «لقد كان أصحاب الصفة سبعين رجلاً مالهم أردية» وقال صحيح على شرطهما، والمراد أن ذلك قدر ما رآه كما تقدم. قال أبو نعيم: الظاهر من أحوالهم والشاهد من أخبارهم غلبة الفقر عليهم وإيثار القلة واختيارهم لها فلم يجتمع لهم ثوبان ولا حضرهم من الطعام لونان اهـ. وقد ألف في أهل الصفة الحافظ أبو نعيم كما نقل الحافظ في «الفتح» في أبواب المساجد والسخاوي وغيرهما.......
14469 - (وعنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول الله: الدنيا سجن المؤمن) أي بالنسبة لما أعد له من النعيم (وجنة الكافر) أي بالنسبة لما أعد له من العذاب، أو يقال المؤمن ممنوع من شهواتها المحرمة فكأنه في السجن، والكافر عكسه فهي كالجنة له، قاله الشيخ أكمل الدين، وأشار إلى أنه من التشبيه البليغ: أي حذفت أداته وحمل المشبه على المشبه به مبالغة وادعاء أنه من أفراده، لا استعارة لأن شرطها طيّ ذكر المشبه أو المشبه به، وأشار بعضهم إلى أنه على حقيقته وأن المؤمن لما عليه في الدنيا من التكاليف وتوالي المحن والمكابدات للهموم والغموم والأسقام وغير ذلك في سجن وأي سجن أعظم من ذلك، ثم هو في السجن لا يدري بماذا يختم له من عمل كيف وهو يتوقع أمراً لا شيء أعظم منه ويخاف هلاكاً لا هلاك فوقه، فلولا أنه يرتجي الخلاص من هذا السجن لهلك حالاً، ولكن لطف الله به بما وعده على صبره وبما كشف له من حميد عاقبة أمره، والكافر منفك عن تلك التكاليف آمن من تلك المخاوف مقبل على لذته منهمك في شهوته فهو كالأنعام، وعن قريب يستيقظ من هذه الأحلام ويحصل في السجن الذي يرام، نسأل الله العافية اهـ.
وفي الحديث تحريض للمؤمن على الإعراض عنها وعدم النظر لها نظر محبة لأن ذلك شأن السجن (رواه مسلم) في أواخر صحيحه، قال السيوطي في «الجامع الصغير» : رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة، والطبراني والحاكم في «المستدرك» عن ابن(4/398)
عمر، وأخرجه أحمد والطبراني وأبو نعيم في «الحلية» والحاكم في «المستدرك» عن ابن عمر بلفظ «الدنيا سجن المؤمن وسنته فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة» اهـ.......
«لطيفة» حكى القرطبي في كتاب جمع الحرص بالقناعة عن سهل الصعلوكي الفقيه الخراساني وكان ممن جمع رياسة الدين والدنيا أنه كان في بعض مواكبه ذات يوم إذ خرج عليه يهودي من إيوان حمام وهو بثياب دنسة وصفة نجسة فقال أنتم تزعمون أن نبيكم قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟» وأنا عبد كافر وترى حالي. وأنت مؤمن وترى حالك فقال له على الفور: إذا صرت غداً إلى عذاب الله كانت هذه الجنة لك وإذا صرت أنا إلى النعيم ورضوان الله صار هذا سجني، فعجب الخلق من فهمه وسرعة جوابه اهـ.......
15470 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبيّ) بتشديد التحتية إحداهما ياء التثنية ويروى بتخفيف الياء على الإفراد، والمنكب بوزن مسجد مجتمع رأس العضد والكتف لأنه يعتمد عليه كذا في المصباح، وأخذه بمنكبيه ليقبل بقلبه على ما يلقيه إلي ويستيقظ إن كان في غفلة لذلك عما هو فيه مع ما فيه من التأنيس والتنبيه والتذكير، إذ محال عادة أن ينسى من فعل معه هذا ما يقال له، وهذا لا يفعل غالباً إلا مع من يميل إليه الفاعل دليل على محبته، ونظير هذا قول ابن مسعود: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفي بين كفيه (فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) زاد الترمذي «وعد نفسك من أهل القبور» ورواه أحمد والنسائي أوله «اعبد الله كأنك تراه وكن في الدنيا» الخ (وكان ابن عمر) راوي الخبر (يقول) أي عقب روايه له كما يؤذن به سياق المصنف وهو كالرديف لما قبله، قال الأعمش راويه عن مجاهد عن ابن عمر وقال: قال لي ابن عمر، وفي لفظ آخر عنه قال مجاهد ثم قال لي ابن عمر وكذا جاء في رواية غير الأعمش (إذا أمسيت) أي دخلت في المساء وهو لغة من الزوال إلى نصف الليل (فلا تنتظر) أي بأعمال المساء (الصباح وإذا أصبحت) أي دخلت في الصباح فالفعلان تامان، والصباح من نصف الليل إلى الزوال كما ذكره السيوطي (فلا تنتظر) أي بأعمال النهار (المساء) وذلك أن لكل منهما عملاً يخصه فإذا أخر عنه فات ولم يستدرك كماله وإن شرع قضاؤه فطلبت المبادرة بعمل كل(4/399)
وقت في وقته، أو المراد إذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالبقاء إلى الصباح وكذا عكسه بل انتظر الموت كل وقت واجعله نصب عينيك، وعقب به المصنف ما قبله لأن الحديث للحض على ترك الدنيا والزهد فيها كما سيأتي بيانه في الأصل، وهذا للحض على تقصير الأمل فذاك متوقف على هذا لأنه المصلح للعمل والمنجي من آفات التراخي والكسل، فإن من أطال أمله ساء عمله، فعلم أن هذا سبب للزهد في......
الدنيا، وقولهم إنه هو مرادهم أن بينهما تلازماً صيرهما كالشيء الواحد فهو مجازي وإلا فالحقيقة ما قلنا، فمن قصر أمله زهد ومن طال أمله رغب وترك الطاعة وتكاسل عن التوبة وقسا قلبه لنسيان الآخرة ومقدماتها من الموت وما بعده من الأهوال (وخذ من صحتك) أي أعمالاً صالحة تستعين في تحصيلها بها مبتدأه منها منتهية أو مدخرة (لمرضك) أي لمدته التي تشتغل عنها في المرض أي فلا تغفل عنها في زمن تمكنت فيه منها، وهو زمن الصحة لئلا تغبن في صفقتك (و) خذ (من حياتك لموتك) يحتمل أن يكون أعم مما قبله بأن يراد الإكثار منها ولو في زمن المرض المتمكن فيه منها فيكون فيه ترق وزيادة في التحريض على اغتنام الطاعة وعدم التواني فيها مع إمكانها ولو شقت وصعبت على النفوس لمرض أو غيره، ويحتمل أن يكون بمعنى ما قبله أي من زمن صحتك مدة حياتك فيكون تأكيداً لما قبله واهتماماً به وزيادة تحريض عليه، وبالجملة فرأس مال المؤمن صحته وحياته وأيام حياته زمن تجارته فلا ينبغي له أن يفرط فيها مع التمكن منها ليحصل له من ربح التجارة ونفعها ما يدوم نفعه عليه عند حاجته إليه لنحو مرض، وفي الحديث «إذا مرض العبد أو سافر بقول الله لملائكته اكتبوا ما كان يعمله صحيحاً مقيماً» وهذا فيه توسل لدوام فضل المولى سبحانه بحسن العمل، وفي الحديث «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» وقلت في هذا المعنى:
أيها السالك المريد تنبه
من منامك وغفلة قبل فوتك
خذ لسقم من الشباب وبادر
ومن الوقت قبل فوت لموتك......
(رواه البخاري) في الرقاق من صحيحه، ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» ، وابن حبان في «صحيحه» ، وقد صرح الأعمش فيه بتحديث مجاهد له في الصحيح بخلاف رواية ابن حبان، ولذا قال: مكثت مدة أتوهم أن الأعمش سمع هذا الحديث من ليث ودلسه حتى رأيت ابن المديني رواه عن الطفاوي فصرح بقول الأعمش سمعت مجاهداً. ذكره السخاوي في «تخريج الأربعين» حديثاً التي جمعها المصنف، ثم نقل أنه أنكر الاتصال وقال: إنما رواه الأعمش بالعنعنة، وكذا رواه عنه(4/400)
أصحابه، وكذا أصحاب الطفاوي عنه، وتفرد ابن المديني بالتصريح قال: ولم يسمعه الأعمش عن مجاهد وإنما سمعه من ليث عنه فدلسه: يعني فرجع الحديث إلى ليث وسكت عن رده، وكأنه لوضوحه بأن الصحيح ما في الصحيح فلا عبرة بما يخالفه (قالوا) أي شراح الحديث المدلول عليهم بالسياق (معناه) أي معنى الحديث من حيث الجملة (لا تركن) بفتح الكاف وبضمها لأنه جاء من بابي علم ونصر كما في «مفردات الراغب» ، زاد في «الصحاح» أن الذي حكاه من باب علم. أبو زيد قال: وما حكى أبو عمرو: ركن يركن، بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين اهـ: أي لا تمل وتسكن (إلى الدنيا) وتطمئن بها (ولا تتخذها وطناً) يحتمل أن يكون من عطف الجزء على الكل اهتماماً، وذلك لأن السكون إليها والطمأنينة بها إنما يكون مع توطنها، ويحتمل أن يكون من عطف المغاير، فالأولى للنهي عن النظر لزهراتها على وجه الإعجاب بها والميل إليها. والثانية للنهي عن استيطانها والإقامة بها، وذلك لأن من توطن مكاناً سعى في عمارته، وعمارتها خلاف شأن الحازم لأنه مفارق لها إلى دار لا يفارقها الأبد، فحقه الاحتفال بتلك لا بهذه، وهذا راجع لقوله «كن في الدنيا كأنك غريب» لأن شأن الغريب عدم الركون لغير وطنه وترك التوطن بسواه. وقوله (ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها) راجع لقوله أو عابر سبيل، لأن شأن من دخل بلداً في أثناء......
سفره ألا يحدث نفسه بالمقام بها لأنه ينقطع بذلك عن الرفق فتلحقه المشاق، ولا بالاعتناء بتلك البلد لأن المرء لا يعتني بحسب طبعه إلا بما يعود نفعه عليه من وطنه، وقوله (ولا تتعلق منها) ظرف مستقر صفة لمحذوف: أي بشيء منها أو بمعنى متعلق بالفعل: أي تعلقاً مبتدأ منها، فمن للتبعيض أو للابتداء (بما) أي بالذي (لا يتعلق به الغريب في غير وطنه) مما لا تدعو إليه ضرورته من زاد ومركوب، فكذا شأن الحازم ألا يتعلق في سفره إلى مولاه بشيء من الدنيا إلا براحلته التي يتوصل بها إلى مرضات ربه وهي نفسه، فيشتغل بما يتوصل به إلى أن يؤديها حقها ويكفيها عن الغير، وكذا يكتسب ما يقوم به من تجب عليه مؤنتهم وبزاده الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ويعرض عما عداه (ولا يشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي(4/401)
يريد الذهاب) أي العود (إلى أهله) فإن شأنه ألا يستكثر من المتاع لأن ذلك يتعبه في مقصده ويثقله عن مطلبه، بخلاف من أضرب عن العود فذلك لا يحتفل بأم السفر، فالحازم لا يتخذ من الدنيا ما يثقله في سفره إلى مولاه، والغافل عن ذلك معرض عن آخرته مقبل على زهرة دنياه، وهذا راجع لمجموع الحديث وذلك لأنه إذا كان المسافر المذكور، وإن كان يقيم بتلك البلاد شأنه الإعراض عما يثقله في سفره، فالعابر بها من غير إقامة أولى بذلك والله أعلم.......
16471 - (وعن أبي العباس) بتشديد الموحدة وبعد الألف مهملة (سهل بن سعد الساعدي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الدلالة على الخير (قال: جاء رجل) لم أقف على تسميته (إلى النبي) أي جاء ساعياً إليه (فقال: يا رسول الله دلني) سؤال من الدلالة أي نبهني (على عمل) التنوين فيه للتعظيم وعظمه إنما هو بحسب ثمرته كما يومىء إليه قوله (إذا عملته) أي مريداً به وجه الله (أحبني ا) بإرادة الثواب (وأحبني الناس) أي مالوا إليّ ميلاً طبيعياً لا يدخل تحت الاختيار، والجملة الشرطية صفة عمل (فقال: ازهد في الدنيا) أي أعرض عما لا تدعو إليه الضرورة مما زاد عنها من المباح احتقاراً له وإرباء بنفسك عنها بغضاً له، فحبّ الدنيا رأس كل خطيئة، والزهد عزوب النفس عن الدنيا مع القدرة عليها لأجل الآخرة خوفاً من النار وطمعاً في الجنة أو ترفعاً عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى، ولا يكون ذلك إلا بعد انشراح الصدر بنور اليقين (يحبك ا) جواب الشرط المقدر لوقوعه جواب الأمر كما هو الرواية، ويجوز من حيث الصناعة أن يكون مستأنفاً، وفيه إيماء إلى شرف الزهد لعظم ثمرته التي هي محبة المولى، ثم المراد من كون حبها مذموماً حبها كذلك إيثاراً لشهوة نفس ونجوها لأنه يشتغل عن الحق سبحانه، أما حبها لفعل الخير وإعانة محتاج وإغاثة ملهوف وإطعام بائس فعبادة بشهادة قوله: «نعم المال الصالح مع الرجل الصالح، يصل به رحماً ويصنع به معروفاً» (وازهد فيما عند الناس) من(4/402)
نحو مال وجاه بإعراضك عنه ورفضك إياه (يحبك الناس) أي بسبب ذلك، ومتى نازعتهم في ذلك بغضوك ونازعوك إياه فإنهم بطباعهم يتهافتون عليه تهافت الذباب على النتن، والكلاب على الجيف، ومن ثم شبه الشافعي رضي الله عنه الدنيا بها، والناس بالكلاب بقوله:
وما هي إلا جيفة مستحيلة
عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها......
(حديث حسن) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في «تخريج الأربعين» التي جمعها المصنف بعد كلام ذكره في إسناد الحديث ما لفظه: فالظاهر أن الحديث الذي أوردناه آنفاً لا يصح ولا يطلق على إسناده أنه حسن اهـ. قال السخاوي: كأنه أشار بهذا الكلام إلى شيخه: أي الحافظ الزين العراقي، فإنه حسنه في «أماليه» وسبقه إليه الشيخ: يعني النووي (رواه ابن ماجه) في سننه (وغيره) قال السخاوي في «تخريج الأربعين» المذكورة: وأخرجه الطبراني في «معجمه الكبير» وابن حبان في «روضة العقلاء» له والحاكم في الرقاق من «مستدركه» وقال: إنه صحيح الإسناد وليس كذلك (بأسانيد حسنة) فرواه ابن ماجه عن أبي عبيدة بن السفر عن شهاب بن عباد، ورواه بن حبان عن محمد بن أحمد بن المسيب عن يوسف بن سعيد بن مسلم، ورواه الحاكم عن أبي بكر محمد بن جعفر الآدمي عن أحمد بن عبيد بن ناصح، ورواه الطبراني عن علي بن عبد العزيز البغوي عن أبي عبيد القاسم بن سلام، أربعتهم عن خالد بن عمرو القرشي، وأخرجه الحافظ السخاوي من طريق محمد بن كثير المصيصي قالا وتقاربا في اللفظ: ثنا سفيان الثوري عن أبي حازم المدني عن سهل، وكذا أخرجه العقيلي والبيهقي والقضاعي في مسند الشهاب من طريق البغوي، وقال الحاكم: إنه صحيح الإسناد، وليس كذلك فخالد مجمع على تركه، ضعفه أحمد وابن معين والبخاري في آخرين، ونسبه أحمد وابن معين وآخرون إلى وضع الحديث، وابن كثير أيضاً ليس عمدة ضعفه أحمد جداً وقال مرة: حدث بمناكير لا أصل لها، وقال مرة: لم يكن عندي بثقة، وضعفه النسائي ولينه البخاري. قال السخاوي بعد نقل كلام الحافظ السابق في منع تحسين الحديث ما لفظه: ويساعد شيخنا قول أبي جعفر العقيلي ليس له من حديث الثوري أصل، ولعل ابن كثير أخذ عن خالد ودلسه لأن المشهور به خالد كذا قال، وخالفه(4/403)
الخطيب فذكر الحديث عن الثوري وقال: أشهر طرقه عن الثوري ابن كثير، لكن وافقه ابن عديّ على أنه منكر من حديث الثوري......
اهـ. وبه يعلم أن الحديث له عند من ذكر سند واحد وهو الثوري إلى منتهاه لا أسانيد، ولعله باعتبار الطرق الموصلة إليه وأن سند الحديث ليس بحسن لما علمت، والله أعلم.
17472 - (وعن النعمان) بضم النون وسكون المهملة (ابن بشير) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وسكون التحتية ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي (رضي الله عنهما) له ولأبويه صحبة وتقدمت ترجمته في باب الأمر بالمحافظة على السنة (قال: ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصاب الناس) أي حازوه وحصلوه (من الدنيا) أي المال والخول والجاه وغير ذلك من الأعراض المخدجة فما موصولة عائدها محذوف ومن بيانية (فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل) مضارع ظل التي هي لاتصاف اسمها بخبرها نهاراً (اليوم) ظرف لقوله (يلتوي) وقوله (ما يجد دقلا يملأ به بطنه) جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً بسبب التوائه طول يومه (رواه مسلم) في آخر «صحيحه» وابن ماجه في الزهد من «سننه» ، ورواه مسلم أيضاً فيه ورواه الترمذي في الزهد من «سننه» في «شمائله» لكن من حديث النعمان نفسه أنه قال: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيكم ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه» وقال الترمذي: صحيح، ورواه أبو عوانة (الدقل بفتح الدال المهملة والقاف) آخره لام (رديء) بالهمز فعيل من الرداءة (التمر) قال في «الصحاح» : أردأ التمر، وما ذكره الشيخ هو ما في «النهاية» ، وعبارتها: الدقل هو ردىء التمر ويابسه، وما ليس له اسم خاص فتراه ليبسه ورداءته لا يجتمع ويكون منثوراً اهـ.......
18473 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما في بيتي شيء يأكله ذو(4/404)
كبد) بفتح الكاف وكسر الموحدة في الأفصح: أي حيوان وعبرت به لأنه من الأجزاء الرئيسة في البدن (إلا شطر شعير) لا يخفى ما اشتمل عليه هذا الخبر من مزيد إعراضه عن الدنيا بالمرة وعدم النظر إليها، لأنه إذا كان هذا حالها وهي أحب أمهات المؤمنين إليه وقد دانت له الأرض شرقاً وغرباً وجيء بثمراتها فضة وذهباً ولم يوجد عندها إلا ما ذكر ففيه أعظم دليل على مزيد إعراضه عنها (في رفَ) بفتح الراء وتشديد الفاء، قال في «النهاية» : هو خشب يرفع عن الأرض إلى جنب الدار يوقى به ما يوضع عليه، وجمعه رفوف أو رفاف، وفي «الفتح» للحافظ قال الجوهري: الرف شبه الطاق في الحائط وقال عياض: الرفّ خشب يرفع عن الأرض يوضع فيه ما يراد حفظه. قلت: والأول أقرب للمراد اهـ. وقولها (لي) في محل الصفة لرفّ (فأكلت منه) من ابتدائية أو تبعيضية وقولها (حتى طال عليّ) غاية لمحذوف أي وداومت على الأكل منه حتى طال علي (فكلته) بكسر القاف (ففني) أي ففرغ وقد وقع نظير ذلك في قصة أخرى، رواه مسلم أيضاً أنه أطعم رجلاً وسقا من شعير فأكلوا منه مدة حتى كالوه ففني، فأخبر النبي فقال: لو لم يكل لأكلتم منه ولكفاكم. قال المصنف: إنما فنى عند كيله عقوبة لأن كيله مضاد للتسليم ومتضمن للتدبير وتكلف للإحاطة بأسرار الله تعالى. قال التلمساني في «شرح الشفاء» : ولا يخالف هذا حديث «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه» لأن ما أمر به عند إرادة المناولة فيكون استعمال آلة النبي وشريعته، وما أمر به مطردة للشيطان: وأيّ مطردة له أكثر من تناوله بيده المباركة، وأيضاً فإن تكثير الطعام القليل من أسرار الله تعالى الخفية، وشرط السرّ إخفاؤه. وقال الحافظ في «الفتح» : أجيب بأن الكيل عند المبايعة محبوب من أجل تعلق حق المتابيعين ولذا يندب، وأما الكيل عند الإنفاق فالباعث عليه الشحّ فلذا كره.............
وقال القرطبي: سبب رفع النماء عند الكيل والله أعلم. الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله تعالى ومواهب كراماته وكثرة بركاته والغفلة عن الشكر عليها والثقة بالذي وهبها والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادات، ويستفاد منه أن من رزق شيئاً أو أكرم بكرامة أو لطف به في أمر فالمتعين عليه موالاة الشكر وتنزيه المنة تعالى، ولا يحدث في تلك الحالة تغييراً اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري في الخمس، وفي الرقاق من صحيحه، ورواه مسلم في آخر «صحيحه» ، ورواه ابن ماجه في الأطعمة.
(وقولها شطر شعير: أي شيء) قليل كما يومىء إليه السياق (من شعير كذا فسره الترمذي) وكأنه مستند(4/405)
الحافظ في قوله في «الفتح» المراد بالشطر هنا البعض، والشطر يطلق على النصف وعلى ما يقاربه وعلى الجهة وليست مرادة هنا، ويقال أرادت نصف وسق. قال الحافظ: الذي يظهر أنه كان يؤثر بما عنده ففي الصحيحين «أنه كان إذا جاءه ما فتح الله عليه من خيبر أو غيرها من تمر وغيره يدخر قوت أهله سنة ثم يجعل ما بقى في سبيلالله، ثم كان مع ذلك إذا طرأ عليه طارىء ونزل به ضيف يشير على أهله بإيثارهم فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عنده أو معظمه» وقد روى البيهقي عن عائشة قالت: «ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا ولكنه كان يؤثر على نفسه» اهـ.............
19474 - (وعن عمرو) بفتح المهملة (بن الحارث) بن أبي ضرار بكسر المعجمة وتخفيف الراء الأولى الخزاعي المصطلقى (أخي) بالجر عطف بيان لعمرو، وفي بعض نسخ البخاري أخوه بالرفع خبر مبتدأ هو، هو (جويرية) بضم الجيم وتخفيف الواو وسكون التحتية الأولى وكسر الراء وتخفيف التحتية بعدها هاء (بنت الحارث أم المؤمنين) في الاحترام ووجوب الإكرام (رضي الله عنهما) قال الحافظ في «التقريب» : هو صحابي قليل الحديث بقي إلى بعد الخمسين أخرج البخاري عنه هذا الحديث الواحد وانفرد به عن مسلم (قال: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمة) أي باقيين على الرق: قال الحافظ في «الفتح» : وفيه دلالة على أن من ذكر من أرقاء النبي في جميع الأخبار كان إما مات وإما أعتقه (ولا شيئاً) في رواية الكشميهني ولا شاة، والأولى أصح وهي رواية الإسماعيلي، نعم روى مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة «ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً ولا أوصى بشيء» (إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها) قال السهيلي في «الأعلام» : أهداها له رافعة الضبيبي من لخم اهـ. وسيأتي في الملح والمنثورات أن الذي أهداها له فرقة بن نفاثة بالنون والفاء والمثلثة على الأشهر الجذامي، وإنما اسمها الدلدل وليس له بغلة غيرها (وسلاحه) وبيان ما خلفه من السلاح والكراع مذكور في كتب السير (وأرضاً) هي نصف أرض فدك وثلث أرض وادي القرى وسهم من(4/406)
خمس خيبر وضيعة من أرض بني النضير (جعلها) أي الثلاث المذكورة كما في «تحفة القاري» (لابن السبيل صدقة) أي لم يترك مالاً غير ما ذكر مما جعله صدقة على المسلمين (رواه البخاري) في مواضع من «صحيحه» منها في الوصايا وفي فرض الخمس وفي المغازي، ورواه الترمذي في «الشمائل» والنسائي.......
20 - (وعن خباب) بفتح المعجمة وتشديد الموحدة الأولى (ابن الأرت) بفتح الهمزة والراء وتشديد المثناة الفوقية وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) ونسبه في باب الصبر (قال: هاجرنا) أي فارقنا أوطاننا لنصرة الدين الحنيفي (مع رسول الله) وكان ذلك منهم من مكة إلى المدينة، وكونهم معه ليس المراد مصاحبتهم له في السفر لأنه لم يصحبه في الهجرة إلا الصديق وعامر بن فهيرة، بل المراد المعية في مفارقة الوطن إلى وطن آخر لنصرة الدين، وقوله (نلتمس) أي نطلب بهجرتنا (وجه) أي ذات (اتعالى) جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً للحامل على الهجرة، وفي «الصحاح» : الالتماس الطلب، وفي الجملة بيان نعم الله تعالى عليهم أن أهلّهم للهجرة وحركهم لها ومنّ عليهم بالإخلاص فيها ليجنوا ثمرة الاجتهاد ويحبوا بالمراد (فوقع) أي كتب، وجاء في رواية للبخاري في المغازي فوجب، وذلك لإيجاب الله تعالى ذلك على ذاته وبوعده الصادق، وإلا فلا يجب على الله شيء (أجرنا) أي إثابتنا وجزاؤنا (على ا) ويصح أن يراد منه ثمرة العلم ولو دنيوية على الله (فينا) أي فبعض المهاجرين (من مات) حاله كونه (لم يأكل) أي لم يصب، وعبر عنها بالأكل لأنه المقصود من إصابة المال (من أجره شيئاً) قال في «الفتح» : وهذا كناية عن الغنائم التي تناولها من أدرك زمن الفتوح. ولما كان المراد بالأجر عرقه فليس مقصوراً على أجر الآخرة (منهم مصعب) بضم الميم بصيغة المفعول (ابن عمير) بصيغة التصغير، العبدري، يجتمع مع النبي في قصي يكنى أبا عبد الله من السابقين إلى الإسلام وإلى(4/407)
الهجرة. قال البراء: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرءان القرآن، أخرجه البخاري. وذكر ابن إسحاق أن النبي أرسله مع أهل العقبة الأولى يقرئهم ويعلمهم (رضي الله عنه قتل يوم أحد) بضم أوليه: وقعة مشهورة كانت سنة أربع من الهجرة على الصحيح، وكان قتل مصعب بها شهيداً. وكان صاحب لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ......
يومئذٍ (وترك نمرة) بفتح النون وكسر الميم ثم راء، وهي إزار من صوف مخطط أو بردة (فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت) أي ظهرت (رجلاه، وإذا غطينا رجليه) أي بالنمرة المذكورة (بدا رأسه) هذه الجملة مسوقة لبيان مزيد صغرها ففيها مزيد تقلله من الدنيا (فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغطى) بالتحتية مبني للمفعول مرفوعه قوله (رأسه) وذلك لشرفه على باقي الأعضاء (ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر) هو نبت معروف طيب الرائحة (ومنا) أي وبعضهم (من أينعت) بفتح الهمزة والنون وسكون التحتية بينهما ويأتي معناها في الأصل (له ثمرته) والفاء في قوله (فهو يهدبها) تفريعية ومدخولها معطوف على جملة الصلة (متفق عليه) رواه البخاري في الجنائز والهجرة من صحيحه، ومسلم في الجنائز، ورواه أبو داود في الوصايا، والترمذي في المناقب وقال: حسن «صحيح» ، والنسائي في الجنائز (النمرة) تقدم ضبطها على الأفصح ويجوز كسر النون وفتحها مع سكون الميم فيهما (كساء) قال في «الصحاح» : هو واحد الأكسية (ملوّن) أي ذو ألوان وخطوط (من صوف) زاد في «الفتح» أو بردة (وقوله أينعت) قال في «فتح الباري» وفي بعض النسخ: ينعت بغير ألف، وهي لغة، قال الفراء: وأينعت أكثر (أي نضجت) بفتح النون والمعجمة والجيم من النضج وهو الاستواء (وأدركت) أي زمن القطف (وقوله يهدبها بفتح الياء) التحتية وسكون الهاء (وضم الدال) المهملة (وكسرها لغتان) ضبطه في الفتح بكسر المهملة وقال إن النووي ضبطها بالضم، وحكى ابن التين تثليثها. قلت: وعليه اقتصر السيوطي في «التوشيح» ولم ينسبه إليه (أي يقطفها) بكسر المهملة من باب ضرب كما أشار إليه في «الصحاح» بقوله قطف العنب(4/408)
قطفاً، ثم رأيته في «المصباح» من باب ضرب، وقيل معناه قطع (ويجتنيها) عطف تفسير، في الصحاح جنيت الثمرة أجنيها واجتنبها بمعنى (وهذه استعارة لما فتح الله تعالى عليهم من الدنيا وتمكنوا فيها) أي جملة قوله أينعت الخ استعارة تمثيلية. شبه......
حالهم في تمكنهم من الدنيا التي فتح عليهم بها وتمكنوا منها بتمكن ذي الثمرة النضيجة من قطفها واجتنائها ويحتمل أن يكون استعير يهدبها لمعنى التمكن منها فتكون استعارة تبعية، شبه التمكن من الدنيا بالهدب وهو القطف للثمرة بجامع سهولة الوصول في كل، فأطلق اسم المشبه على المشبه به استعارة مصرحة مرشحة بقوله أينعت، ثم سرت الاستعارة منه إلى الفعل، والله أعلم.
21475 - (وعن سهل بن سعد) الأنصاري (الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح) بفتح الجيم (بعوضة) فعول من البعض وهو القطع، غلب على هذا النوع من الحيوان المضروب به المثل في الحقارة وجناحها في غايتها ومنتهاها. قال النيسابوري في تفسيره: ومن عجائب البعوض أن خرطومه مع كونه في غاية الصغر مجوف، ومع كونه كذلك يغوص في جلد الجاموس كما يغوص الأصبع في الخبيص، وذلك لما ركب الله في رأس خرطومه من السم اهـ. (ما سقى كافراً منها شربة ماء) لهوانه عليه وسقوطه. قال العاقولي: أي لو كان لها عنده تعالى أدنى قدر ما تمتع فيها كافر أدنى تمتع. وفي «الديباجة» : هو أن الله تعالى لم يجعلها مقصودة لنفسها بل جعلها طريقاً موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه، وأنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء وإنما جعلها دار انتقال وارتحال، وأنه تعالى ملّكها في الغالب للكفار والفساق، وحمى منها الأنبياء ووراثهم، ويكفيك حديث الباب في هوانها عند الله وصغرها وحقرها وذمها وبغضها وبغض أهلها والمحبين لها، وليس من الدنيا ما يوجد فيها من الأنبياء والصديقين والعلماء العاملين والطاعة الموصلة لمرضاة رب العالمين ويدل له الاستثناء في الحديث الآتي لأنه من قوله فيه «وما فيها» ومع كون الدنيا بهذا المقام عند الله سبحانه، فهو يوم القيامة يستوفي لذي الظلامة منها ظلامته من(4/409)
ظالمه ولو كان كافراً من مؤمن إظهاراً لمزيد العدل (رواه الترمذي) في الزهد وانفرد......
به عن باقي الكتب الستة (وقال حديث صحيح) غريب من هذا الوجه، وكأن سكوت المصنف عن هذا لكون الغرابة نسبية فلا تنافي التصحيح.
22476 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح يؤتى به لتأكيد ما بعده وليتوجه السامع له (إن الدنيا ملعونة) أي مبغوضة ساقطة فعبر عنه بذلك لأن من لازم المبغوض الساقط الإبعاد (ملعون ما فيها) أي من الأموال الدنيوية المخدّجة الفانية من شهوات وغيرها: أي الاشتغال بذلك مبعد عن حضرة الحق فقد جاء «حبّ الدنيا رأس كل خطيئة» (إلاّ ذكر الله وما والاه) أي وما أدناه مما أحبه الله تعالى، والولي: القرب والدنو، والمعنى: الدنيا ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما قاربه من الطاعة الموصلة لمرضاته (وعالماً ومعلماً) كذا هو فيما وقفت عليه من نسخ الرياض بالألف فيهما وهو ظاهر، لأنهما معطوفان على المستثنى المنصوب وجوباً لكونه من كلام تام موجب، لكنهما في نسخ الترمذي من غير ألف. قال الحافظ السيوطي في حواشيه عليه: منصوبان لأن الاستثناء من كلام تام موجب وكتبا بلا ألف على طريق كثير من المحدثين (رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» ، ورواه ابن ماجه في المشكاة (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) قال القرطبي: لا يفهم من هذا الحديث سب الدنيا مطلقاً ولعنها، فقد جاء من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً «لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشرّ، وإذا قال العبد: لعن الله الدنيا قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه» أخرجه الشريف أبو القاسم زيد بن عبد الله الهاشمي، والجمع بين ذلك بحمل الأحاديث الواردة في إباحة لعن الدنيا على ما يبعد منها عن الله تعالى ويشغل عنه، وحمل(4/410)
الوارد بالمنع على ما قرّب إلى الله تعالى أو أعان على عبادته سبحانه، كما يومىء إليه الاستثناء في حديث الباب بقوله: إلا ذكر الله وما والاه الخ.......
23478 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال) قال رسول الله: لا تتخذوا الضيعة) بالضاد المعجمة: العقار، والجمع ضيع وضياع بكسر ففتح قاله في «الصحاح» . وفي «النهاية» : ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك، والمراد لا تتوغلوا في اتخاذ الضيعة فترغبوا عن صلاح آخرتكم كما قال (فترغبوا في الدنيا) أي في صلاحها وتشتغلوا به عن صلاح دار القرار: قال صاحب «المفاتيح» : وذلك لأن بأخذها تحصل الرغبة في طلب الدنيا فلا تشبعون حينئذٍ منها (رواه الترمذي: وقال: حديث حسن) ورواه أحمد والحاكم في «المستدرك» .
24479 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: مر علينا) لعل الإتيان بعلى لعلوّ محل مروره على محل الخص، أو كان راكباً، وإلا فمرّ يعدّى بالباء (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نعالج خصاً لنا) بضم الخاء المعجمة وتشديد الصاد المهملة قال في «النهاية» : هو بيت يعمل من خشب وقصب، وجمعه خصاص وأخصاص، سمي به لما فيه من الخصاص وهي الفرج والأثقاب. وفي «الصحاح» : الخص البيت من القصب اهـ. وهو محتمل لتخصيص القصب بذلك فيخالف كلام «النهاية» ، ويحتمل أن يراد من ذلك وغيره مثلاً فيوافقه، والله أعلم (فقال: ما هذا) أي المعالج (فقلنا: قد وهى) بفتحتين: أي ضعف وهم بالسقوط كما في «الصحاح» (فنحن نصلحه) بإدعامه بما يذهب به ويدوم به قوامه (فقال ما أرى) يحتمل أن يكون بضم الهمزة بمعنى أظن، وأن يكون بفتحها بمعنى أعلم (الأمر) أي الأجل (إلا أعجل) أي أسرع (من ذلك) أي الإصلاح المذكور، وعبر به مع أن(4/411)
المقام «لهذا» الموضوع للقريب، إيماء بأن الاشتغال بالبناء بعيد من شأنهم مع توقع الأجل ساعة فساعة ولحظة فلحظة (رواه أبو داود والترمذي بإسناد البخاري ومسلم) أي برجال روياً عنهم، فهو على شرطهما (وقال الترمذي: حسن صحيح) .......
25480 - (وعن كعب) بفتح الكاف وسكون العين المهملة بعدها موحدة (ابن عياض) بكسر المهملة وتخفيف التحتية آخره ضاد معجمة، الأشعري معدود في الشاميين روى عنه جابر بن عبد الله، وقيل روت عنه أم الدرداء (رضي الله عنه) خرّج عنه الترمذي والنسائي (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن لك أمة فتنة) بكسر الفاء: أي ما يمتحنون ويختبرون: أي يعاملون به معاملة المختبر للجاهل بحاله. قال الراغب في «مفرداته» : جعلت الفتنة كالبلاء يستعمل في الخير والشر. وهما في الشدّة أظهر معنى وأكثر استعمالاً، قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء: 35) اهـ. (وفتنة أمتي) ما تمتحن به في دنياها (المال) كما قال: «إن هذا المال حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» (رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» ، ورواه النسائي في الرقاق من «سننه» ، ورواه ابن عبد البر وابن منده وأبو نعيم في كتاب «معرفة الصحابة» كما في «أسد الغابة» (وقال) أي الترمذي (حديث حسن صحيح) .......
26481 - (وعن أبي عمرو) بفتح العين كني باسم أحد أولاده (ويقال) بالبناء للمجهول: أي ويقال في كنيته (أبو عبد ا) قال في «أسد الغابة» : يكنى أبا عبد الله ويقال أبو عمرو وقيل كان يكنى أولاً بابنه عبد الله، وأمه رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم كني بابنه عمرو اهـ. (ويقال أبو ليلى) بفتح اللامين بينهما تحتية ساكنة (عثمان بن عفان) بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي المكي ثم المدني أمير(4/412)
المؤمنين (رضي الله عنه) أمه أروى بنت كريز بضم الكاف وفتح الراء ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن مناف، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله. أسلم عثمان قديماً، دعاه أبو بكر إلى الإسلام وأسلم، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فهاجر بزوجته رقية بنت النبي إلى الحبشة الهجرتين الأولى والثانية، ويقال لعثمان ذو النورين لأنه تزوج بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحداهما بعد الأخرى، قالوا: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيره، روي لعثمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وستة وأربعون حديثاً، اتفق الشيخان منها على ثلاثة، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بخمسة. روى عنه جمع من الصحابة منهم زيد بن خالد الجهني وابن الزبير وغيرهم وخلق من التابعين، ولد في السنة السادسة بعد الفيل، وقتل شهيداً يوم الجمعة لثمان عشرة خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وهو ابن تسعين سنة، وقيل ثمان، وقيل ثنتين وثمانين سنة، وقيل غير ذلك. وهو رضي الله عنه أحد السابقين إلى الإسلام كما تقدم، وأحد العشرة المبشرة بالجنة الذين مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، وأحد الستة أصحاب الشورى، بويع بالخلافة غرة محرم سنة أربع وعشرين وكانت خلافته ثنتي عشرة سنة إلا ليال. وقال ابن عبد البرّ: بويع بعد دفن عمر بثلاث ليال، وحج بالناس في خلافته عشر سنين متوالية، وصلى عليه جبير بن مطعم وقيل غيره،......
ودفن بالبقيع ليلاً وأخفي قبره ذلك الوقت ثم أظهر. وقيل دفن بحش كوكب. قال ابن قتيبة: وهي أرض اشتراها عثمان وزادها في البقيع. والحش: البستان، وكوكب اسم رجل من الأنصار، والأحاديث الواردة في فضله وعلوّ مقامه كثيرة شهيرة رضي الله عنه (أن النبيّ قال: ليس لابن آدم حق) قال العاقولي: أراد بالحق ما يستحقه الإنسان لاحتياجه إليه في كنه من الحرّ والبرد وستر بدنه وسد جوعته، وهذا هو المراد......
الحقيقي من المال. وقيل أراد ما لم يكن معه حساب إذا كان مكتسباً من وجه حلال طيب، ويؤيد القول الثاني ما قال ابن كثير: أخرج الإمام أحمد بسنده إلى أبي عسيب مولى النبي قال خرج النبي ليلاً فمرّ بي فدعاني فخرجت إليه، ثم مرّ بأبي بكر فدعاه فخرج إليه، ثم مرّ بعمر فدعاه فخرج إليه، فانطلق حتى أتى حائطاً لبعض الأنصار فقال لصاحب الحائط أطعمنا» الحديث وفي آخره، فأخذ عمر العذق الذي جاء به الأنصاري فضرب به الأرض حتى تناثر البسر قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: يا رسول الله إنا مسؤولون عن هذا يوم القيامة؟ قال نعم، إلا من ثلاثة: خرقة كفى بها الرجل عورته، أو كسرة سد بها جوعته، أو جحر يدخل فيه من الحرّ والبرد» وقال ابن كثير: تفرد به أحمد (في سوى هذه الخصال) ظاهره استعمال سوى غير ظرف فيكون متصرفاً بوجوه الإعراب كغير، وهذا ما ذهب إليه ابن مالك وصححه في أكثر(4/413)
كتبه وبالغ في نصرته في «شرح التسهيل» ، لكن قال أبو حيان: لا سلف له في ذلك إلا الزجاجي. واستدل ابن مالك بشواهد من الحديث وغيره شعراً ونثراً، ونازعه أبو حيان بأنه لا حجة له في ذلك، ومذهب سيبويه والبصريين أنها لا تخرج عن الظرفية المكانية إلا في الشعر، وصححه ابن الحاج في «سبك المنظوم» وجرى عليه العاقولي هنا فقال موصوف سوى محذوف: أي شيء سوى هذه الخصال، والمراد هنا ما يحصل للرجل ويسعى في تحصيله (بيت) رأيته مضبوطاً بالقلم في أصل مصحح بالرفع على القطع بإضمار مبتدأ: أي هي، ويجوز إن لم تصدّ عنه الرواية نصبه بإضمار أعني، ويجوز جرّه على الإتباع، وهذه الأوجه جارية في بدل المفصل من المجمل إذا استوفى العدة، وجملة (يسكنه) في محل الصفة احترازاً عن بيت يعده للكراء فإن ذلك من اتخاذ الضيعة المنهيّ عنه بما تقدم في حديث ابن مسعود (وثوب يواري) أي يستر (عورته) يجوز أن يراد من العورة ما يجب ستره في نحو الصلاة، فلا يدخل فيه ستر ما عدا ما بين السرّة والركبة من......
الرجل والأمة وأن يراد به ما يجب ستره في الرجال عن النساء الأجانب فيشمل ذلك ولعل الثاني أقرب سيما إن كان تركه مخلاً بالمروءة فلا يكون لبسه من حظوظ النفس بل من حقوقها، ويؤيده أنهم أوجبوا على المعتمد في كفن الميت ساتر جميع بدنه لا العورة فقط وأصل العورة الخلل، ومنه أعور المكان ورجل أعور (وجلف) بكسر الجيم وسكون اللام، وقال في «النهاية» : ويروى بفتح اللام جمع جلف: وهي الكسرة من الخبز. قلت: وعليه يكون كحلق بكسر ففتح في جمع حلقة بفتح فسكون (الخبز والماء: رواه الترمذي وقال: حديث صحيح) قال في «الجامع الصغير» : ورواه الحاكم في «مستدركه» . وفي «النهاية» حديث عثمان «إن كل شيء سوى جلف الطعام وظل وثوب وبيت يستر فضل» (قال الترمذي: وسمعت أبا داود سليمان) بصيغة التصغير (ابن أسلم) بفتح الهمزة فسكون المهملة (البلخي) بفتح الموحدة فسكون اللام بعدها معجمة نسبة إلى بلخ: بلد معروف، ويقال له المصاحفي نسبة إلى عمل المصاحف، والترمذي تارة بصفة بتلك وتارة بهذه كما بينته في باب الكنى من حرف الدال من كتابي في «أسماء رجال الشمائل» (يقول سمعت النضر) بإعجام الضاد في مقدمة «فتح الباري» ما كان(4/414)
بهذه الصورة معرّفاً بالإعجام ومنكرّاً بالإهمال (ابن شميل) بضم المعجمة وفتح الميم وسكون التحتية. والنضر هو الإمام الكبير الشأن، في علوم العربية، وقد ذكرت ترجمته في كتابي المذكور آنفاً (يقول: الجلف) أي بكسر فسكون اسم مفرد (الخبز ليس معه إدام. وقال غيره: هو غليظ الخبز) أي وإن كا معه إدام وهذا الغير هو الليث كما في «تكملة الصحاح» للصغاني، وعبارته قال: قال الليث: الجلف فحال النخل، والجلف أيضاً من الخبز الغليظ اليابس اهـ. ويحتمل أن يكون غيره لأن المحكي هنا أعم مما حكي عنه، لأنه اعتبر فيه أمرين: الغلظ واليبس، والمحكي عن الغير هو الأول فقط (وقال الهروي) صاحب كتاب الغريبين (المراد به هنا وعاء الخبز كالجوالق) بضم الجيم، قال في......
«الصحاح» : الجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب إلا أن تكون معربة أو حكاية صوت نحو الجردقة وهي الرغيف، وذكر ألفاظاً إلى أن قال: والجوالق بضم الجيم: وعاء، والجمع الجوالق بالفتح والجواليق بالياء أيضاً اهـ. (والخرج) بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وبالجيم قال في «المصباح» : وعاء معروف عربي صحيح والجمع خرجة نحو عنبة اهـ. وفيه أيضاً قبل الجلف: كل ظرف ووعاء، وهذا القول الذي حكاه المصنف أعرض عن ذكره العاقولي في «شرح المصابيح» والحافظ السيوطي في «حاشية الترمذي» والعلقمي في حاشية «الجامع الصغير» ، وكأنه لبعده عن مقام الحديث لأن المراد به التحريض على الزهد وأخذ الوعاء لنحو الخبز إنما يكون عادة عند نحو ادخار واهتمام به، وذلك خلاف المقصود والله أعلم. وكأن من حمل الحديث عليه يمنع كون ذلك عادة عند الادخار بل يكون لنحو ما يحفظ لوقت آخر من اليوم مثلاً، والله أعلم.......
27482 - (وعن عبد الله بن الشخير بالشين والخاء المشددة المعجمتين) كأنه وجه إفراد المشددة وتثنية ما بعده مع أن الوصفين سيان الاكتفاء بكون الشين لا ينطق بها إلا كذلك لأن اللام تبدل منها وتدغم فيها، وليس في الخاء ما يدل على وجوب ذلك فيها فنبه على ما يحتاج إلى التنبيه. وأيضاً فتشديد الشين عارض عند دخول أل فيه بخلاف تشديد الخاء، وعبارة «تبصير المنتبه في تحرير المشتبه» للحافظ ابن حجر: شخيّر بالكسر وتشديد الخاء المعجمة بعدها ياء ثم راء عبد الله بن الشخير له صحبة وأولاده اهـ. والظاهر أن أل فيه(4/415)
مقارنة النقل فتكون لازمة والله أعلم. وعبد الله (رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في باب فضل البكاء من خشية الله تعالى (أنه قال) بفتح الهمز مبتدأ خبره الظرف قبله: أي وعنه قوله (أتيت النبي وهو يقرأ) جملة في محل الحال من المفعول (ألهاكم التكاثر) أي السورة المسماة بما ذكر لكونه صدرها (قال) أي النبيّ بعد إتمامها كما عند النسائي حتى ختمها (يقول ابن آدم) أتى بصيغة المضارع إيماء إلى أن هذا القول ديدنه ودأبه بحسب طبعه (مالي مالي) أي مالي هو الذي أعتني به وأهتم، فالتكرار لفظاً للتعظيم والاهتمام: قال الحافظ في «الفتح» : لأن المبتدأ والخبر إذا كانا متحدين فالمراد به بعض اللوازم (وهل لك) المعطوف عليه مخاطب مقدر: أي أتقول ذلك (يا ابن آدم) وتهتم بأمره وهل لك (من دنياك) التي اهتممت بأمرها واحتفلت بشأنها والاستفهام فيه للإنكار: أي مالك منها على الحقيقة (إلا ما أكلت فأفنيت) فوصل نفع ذلك إلى أجزاء البدن واستقام به أمرها (أو لبست) بكسر الموحدة (فأبليت) من الإبلاء: إخلاق الجديد (أو تصدقت) على محتاج قاصداً وجه الله تعالى (فأمضيت) قال في «المصباح» : أمضيت الأمر أنفذته اهـ. والمراد أمضيت التصدق ونجزته فأبقيت ثوابه مدخراً لك عند المولى. وملخصه: ما لك من دنياك إلا ما انتفعت به في دنياك بأن أكلت أو لبست أو أخرت بأن تصدقت، وما......
عدا ذلك من باقي المال فإنما أنت فيه بمنزلة الخادم الخازن لغيره كما تقدم في حديث «أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله» ففيه تحريض على الزهد عن جمع الدنيا والعروض عنها وتحرض على الاقتصار على ما تدعو إليه ضرورة الحياة وادخار ما عداه عندالله، وما أحسن قول بعضهم: اجعل ما عندك ذخيرة لك عند الله واجعل الله ذخيرة لأولادك، (رواه مسلم) في «صحيحه» ، ورواه الترمذي في الزهد وقال: حسن صحيح، والنسائي في الوصايا وفي التفسير.......
28483 - (وعن عبد الله بن مغفل) بصيغة اسم المفعول من التغفيل بالغين المعجمة والفاء،(4/416)
قال المصنف في «التهذيب» : هو أبو سعيد، وقيل أبو عبد الرحمن وأبو زياد عبد الله بن مغفل بن عبد غنم، وقيل ابن عبد نهم بن عفيف بن أسحم بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار، المزني البصري (رضي الله عنه) ومزينة امرأة عثمان بن عمرو نسبوا إليها، وهي مزينة بنت وهب بن وبرة، فولد عثمان يقال لهم مزنيون، وكان عبد الله من أهل بيعة الرضوان قال: إني لمن رفع أغصان الشجرة عن رسول الله، سكن المدينة ثم تحول إلى البصرة وابتنى بها داراً قرب الجامع قال الحسن: ما نزل البصرة أشرف منه، وقد تقدمت ترجمته وذكر بعض مناقبه وعدة ماله من الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في باب المحافظة على السنة وقد ذكرت زيادة على ذلك في ترجمته في كتابي في «رجال الشمائل» (قال: قال رجل) قال ابن أقبرس في «شرح الشفاء» : هذا الرجل من المجاهيل. قلت: ويجوز أن يكون أبا سعيد الخدري، ففي «الشفاء» وقد قال لأبي سعيد «إن الفقر إلى من يحبني منكم أسرع من السيل من أعلى الوادي أو الجبل إلى أسفله» ثم أورد حديث ابن مغفل المذكور وقال بعد ذكره إلى قوله تجفافاً، ثم ذكر نحو حديث أبي سعيد بمعناه، ثم رأيت الحافظ السيوطي في تخريج أحاديث «الشفاء» جزم بأن حديث أبي سعيد بعض حديث ابن مغفل فهو يقوي ما فهمناه من تفسير المبهم بأبي سعيد، والله أعلم. (للنبي) اللام فيه للتبليغ (يا رسول الله وا إني لأحبك) لعل ذكر المؤكدات لزيادة تثبيت مضمون الخبر عنده خصوصاً إن قلنا: إنه أبو سعيد أو غيره من خلّص المؤمنين، وإن كان من المنافقين ثم صدق في إيمانه فلإذهاب ما توهم من حاله السابق (فقال: انظر ما تقول) يرد منه الاستكشاف عن حقيقة قوله، ولذا علقه بالشرط الآتي، وفي الاصطفاء انظر ماذا تقول: أي تأمله، وتذكر فيه فإنك رمت خطة عظيمة ومشقة وخيمة تورثك خطراً يجعلك هدفاً لبلايا فظيعة ورزايا......
وجيعة، فأمره بالنظر ليوطن نفسه على ما يرهقه عسراً أو يكلفه أمراً إصراً اهـ. ولا يخفى ما فيه (قال: وا إني لأحبك) وقال الدلجى مؤكداً بالقسم والتكرير (ثلاث مرات) وهو ظرف لقال (فقال: إن كنت تحبني) أتى بإن الدالة على عدم الجزم مع تأكيد المتكلم بالمؤكدات السابقة، إما لعدم علمه بحال القائل عند معرفته بثمرة المحبة بعد ذكرها له، فلعله يرجع عن ذلك لعدم ثباته كما قال تعالى:
{ومن الناس من يعبد الله على حرف} (الحج: 11) الآية، أو تحريضاً على(4/417)
الصبر على نتائج دعواه كقول الوالد لابنه: إن كنت ولدي فأطعني (فأعد) بتشديد الدال أمر من الإعداد: أي فهيء (للفقر تجفافاً) قال ابن أقبرس: المعنى أن يرفض الدنيا ويزهد فيها ويستتر عن استنمائها بمثل التجفاف كما يستتر بالترس في الحرب عن آثار السلاح التي هي آلة الجراح اهـ. ففيه استعارة كما يأتي، وعلل ما ذكره بقوله على سبيل الاستئناف البياني (فإن الفقر) أتى به ظاهراً والمقام للضمير زيادة لتمكينه عند سامعه (أسرع إلى من يحبني) زاد في حديث أبي سعيد المذكور آنفاً قوله: منكم، فيحتمل أن يكون له مفهوم، ويحتمل أن لا، لأن خطابه لما كان معهم ذكره لا لتخصيصهم بذلك والثاني أقرب (من السيل إلى منتهاه) أي من مكان وصول السيل إلى الجبل، أو أعلى الوادي إلى منتهاه من أسفل الجبل أو آخر الوادي، وإنما كان كذلك لأن الناس على دين ملوكهم. ولما كان أزهد الناس في الدنيا بشهادة حديث ملك الجبال إن شئت جعل الله لك الأخشين ذهباً فأبى» وحديث «عرض عليه ربه أن يجعل له بطحاء مكة ذهباً فقال: لا يا رب، ولكني أجوع يوماً وأشبع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» كان المحب التابع له أسرع إلى اتصافه بما هو متصف به من السيل كما قال لقوة الرغبة وصدق المحبة، ولأن المحب يجب أن يتصف بصفات المحبوب، فالمرء مع من أحب، ومولى القوم منهم في الخير والشر، فمن أحب......
أن يكون معهم في نعيم الآخرة فليصبر كما صبروا في الدنيا عن شهواتها، لكن هذا مقام عال شريف لا يقدر عليه إلا الأفراد، فلذا قال له انظر ماذا تقول: أي إنك قد ادعيت أمراً عظيماً يستدعي الصبر على أمر عظيم قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران: 142) (رواه الترمذي وقال حديث حسن) وفيه بعد قوله حسن: غريب. وأسقطه المصنف لأن الغرابة النسبية لا تضر في الحكم بالحسن.
(التجفاف بكسر التاء المثناة فوق وإسكان الجيم وبالفاء المكررة، وهي) أنث الضمير باعتبار المعنى فإنها في معنى السترة (شيء يلبسه) بالبناء للمجهول من ألبس ومفعوله الثاني الضمير، قدم لكونه ضميراً متصلاً على مفعوله الأول الذي أقيم مقام الفاعل وهو (الفرس) ويجوز أن يقرأ بفتح التحتية وبالموحدة مبنياً للفاعل من(4/418)
لبس بكسر الموحدة (ليتقي به الأذى) أي أن يصيبه من السلاح شيء من الجراح، وقد يلبسه الإنسان، ظاهره أن التجفاف معدّ لثوب يلبسه الفرس (وقد يلبسه الإنسان) وعلى ذلك جرى العاقولي فقال: وقد يلبسه الإنسان أيضاً ولعله تبع فيه المصنف، والذي في «المصباح» : التجفاف تفعال بالكسر شيء يلبسه الفرس عند الحرب كأنه درع والجمع تجافيف، قيل سمي به لما فيه من الصلابة واليبوسة. وقال ابن الجواليقي: التجفاف معرب ومعناه ثوب البدن، وهو الذي يسمى في عصرنا بركصطوان اهـ. وفي «شرح الشفاء» لابن أقبرس قال أبو عليّ: التاء زائدة، وأشار العاقولي إلى أن في الحديث استعارة مكنية تتبعها استعارة تخييلية بقوله شبه الفقر بالسهم الصائب والسيف القاطع والرمح النافذ، وشبه صبره عليه بالتجفاف الذي يلبسه الإنسان أو يلبسه فرسه ليقيه ذلك: أي فالتشبيه المضمر في النفس استعارة مكنية وإثبات التجفاف استعارة تخييلية.......
29484 - (وعن كعب بن مالك) الأنصاري أحد الثلاثة الذين خلفوا فنزلت توبتهم في آية آخر سورة التوبة وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما) نافيه حجازية كما اقتصر عليه الطيبي ويجوز كونها تميمية لأن الباء تزاد في خبر كل منهما خلافاً لأبي علي والزمخشري زعما اختصاص الباء بلغة الحجاز، قال ابن هشام في «المغني» : أوجب الفارسي والزمخشري في نحو {ما الله بغافل} كون ما حجازية ظناً أن المقتضى لزيادة الباء نصب الخبر، وإنما المقتضى نفيه لامتناعها في نحو كان زيد قائماً وجوازها في: لم أكن بأعجلهم. وفي ما إن زيداً بقائم اهـ. (ذئبان جائعان أرسلا) بالبناء للمجهول (في غنم) متعلق به، وهذان وصفان لذئبان مفرد وجملة فهو كقوله تعالى: {وهذا كتاب مبارك أنزلناه} (الأنعام: 155) (بأفسد لها) أي بأكثر فساداً للغنم وأنث ضميرها لاعتبار الجنسية فيها (من) فساد (حرص المرء على المال) متعلق بحرص ومن فساد هو المفضل عليه (والشرف) أي الجاه معطوف على المال واللام، في قوله (لدينه) لام البيان كهي في قوله تعالى: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} (البقرة: 233) كأنه قيل لمن؟ قال لمن أراد. وكذا هنا كأنه قيل بأفسد لأي شيء فقيل(4/419)
لدينه ولا يصح جعلها متعلقة بأفسد لأنه لا يجوز تعلق حرفي جرّ بلفظ واحد ومعنى واحد بعامل واحد إلا على سبل البدل (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد من حديث كعب أيضاً.......
30485 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير) قال في «المصباح» : هو البارية وجمعه حصر مثل بريد وبرد وتأنيثه بالتاء عامي اهـ: وفي «الشفاء» من حديث، عن حفصة «وكان ينام أحياناً على سرير مومول بشريط حتى يؤثر في جنبه» قال السيوطي في تخريجه: رواه الشيخان من حديث طويل عن عمر والترمذي وابن ماجه (فقام) أي استيقظ واستوى جالساً (وقد أثر) أي الحصير (في جنبه) فإن بدنه الشريف كان ألين من الحرير. وفي الحديث عن أنس «ولا مسست خزاً ولا حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله؟ والجملة في محل الحال من فاعل قام (فقلنا) أي الحاضرون الذين منهم ابن مسعود، ويبعد أن يريد نفسه فقط، ولا يشهد له ما سيأتي عن ابن ماجه من قول ابن مسعود «فقلت» كما هو ظاهر (لو اتخذنا لك وطاء) بكسر الواو وبالمد بوزن كتاب قال في «المصباح» هو الوطىء وقد وطؤ الفرش بالضم فهو وطىء كقرب فهو قريب. وجواب لو محذوف: أي لا استراح بذلك أو نحو ذلك، وعند ابن ماجه «فقلت: يا رسول الله لو كنت آذنتنا ففرشنا لك شيئاً يقيك» (فقال مالي وللدنيا) قال الأنطاكي في حواشي «الشفاء» : قيل يجوز أن تكون «ما» نافية: أي ليس لي ألفة ومحبة لي وللدنيا حتى أرغب فيها، ويجوز أن يكون التقدير: أي شيء حالي مع الميل للدنيا اهـ: أي فتكون ما استفهامية والمعنى: أي شيء لي ولها: أي جامع فأشتغل بها. وقال الدلجي: هو استفهام بمعنى النفي: أي لا أرب فيها (ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها) وذلك لأن الدنيا ليست دار قرار ولا منزل استقرار إنما هي دار عبور يقطعها السائر إلى ميادين الآخرة، فالإنسان فيها بمثابة(4/420)
المسافر النازل في أثناء سفره تحت شجرة يطلب ظلالها من حرّ الشمس، ثم إذا ذهبت الشمس وإذا جلس تحت الشجرة منها راح عن الشجرة: أي سار بعد الزوال وتركها، ففيه أتم إرشاد إلى ترك الاهتمام بعمارة الدنيا والاشتغال......
بتحصيلها وحث وحض على الاعتناء بعمارة منزل العبد من الدار الآخرة وتحصينه، وبا التوفيق (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال في «الجامع الصغير» بعد إيراد الحديث المرفوع: رواه أحمد وابن ماجه والحاكم والضياء كلهم عن ابن مسعود.
31486 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام) لحبس الأغنياء تلك المدة في الموقف حتى يحاسبوا عما خولوه من الغنى من أين اكتسبوه وفيم أذهبوه كما سيأتي في حديث أسامة. قال العاقولي: وجه الجمع بين هذا الحديث وقوله في حديث عائشة «إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً» أن الأربعين أريد بها تقدم الفقير الحرص على الغني الحريص، وأريد بالخمسمائة تقدم الفقير الزاهد على الغني الراغب، فكان الفقير الحريص على درجتين من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد، وهذه نسبة الأربعين إلى الخمسمائة، لأن الخمسمائة عشرون مضاعفة خمساً وعشرين مرة والأربعون عشرون مضاعفة مرة، فالأربعون خمساً خمس الخمسمائة التي هي نصف يوم فيكون الأربعون خمس خمس اليوم الذي هو ألف سنة.c وحاصله أن الفقير الحريص يسبق الغني الراغب بخمس خمس يوم، والفقير الزاهد يسبقه بنصف يوم اهـ. وفي «حاشية الترمذي» للسيوطي وروى محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن الخلال في كتابه «فضل الفقير على الغني» حديث أنس بن مالك قال «بعث الفقراء إلى رسول الله» الحديث، وفيه «يدخل الفقير الجنة قبل الغني بنصف يوم وهو خمسائة عام» قال الحارث: قال سفيان يفسره «إن للجنة ثمانية أبواب ما بين الباب إلى الباب خمسمائة عام لكل باب أهل فينسى الغنى فيجيء إلى باب غيره فيقول البواب: ارجع إلى بابك، فيرجع إلى بابه وهو مسيرة خمسمائة عام» اهـ. (رواه الترمذي وقال: حديث حسن(4/421)
صحيح) هذا وقد ذكر ابن كثير في «تفسيره» أثراً عن ابن عباس قال: إنما هي ضحوة فتقيل أولياء الله على......
الأسرة مع الحور العين وتقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين، وقول سعيد بن جبير «يفرغ الله من الحساب نصف النهار فيقيل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قال تعالى: {أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} (الفرقان: 24) ثم نقل نحوه عن عكرمة، وأن ذلك للفريقين في الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة ثم روي عن ابن مسعود «لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ {أصحاب الجنة} (البقرة: 82) الخ وقوله تعالى: {ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم} (الصافات: 68) وروى آثاراً أخر. قلت: وهذا كله لا يخالف حديث الباب فإن الله تعالى يطول ذلك الزمان حتى يكون على الكافر قدر خمسين ألف عام، ويرى الغني أنه تأخر في الموقف عن الفقير بعد دخوله خمسمائة عام. وا على كل شيء قدير.......
32487 - (وعن ابن عباس وعمران) بكسر العين المهملة (ابن حصين) بضم المهملة وفتح الثانية وسكون التحتية آخره نون وسبقت ترجمتها، وقوله (رضي الله عنهم) لأنهما صحابيان ابنا صحابيين (عن النبي قال: اطلعت) بتشديد الطاء المهملة: أي أشرفت. وقال العاقولي: ضمن معنى تأملت (في الجنة) يحتمل أن يكون ذلك فيه وفيما بعده ليلة الإسراء، ويحتمل أن يكون لما كشف له في صلاته في الكسوف. والله أعلم (فرأيت) أي علمت فلذا عدى لمفعولين (أكثر أهلها الفقراء) قال ابن بطال: لا يوجب فضل الفقير عن الغني وإنما معناه الفقراء في الجنة أكثر من الأغيناء فأخبر عن ذلك، وليس الفقر أدخلهم الجنة إنما دخلوا بصلاحهم معه، فالفقير إذا لم يكن صالحاً لا يفضل، حكاه عنه الحافظ في «الفتح» . قال العلقمي: ظاهر الحديث التحريض على ترك التوسع في الدنيا. قلت وهو الذي فهمه المصنف، ولذا أورد الخبر في باب فضل الزهد في الدنيا (واطلعت في النار(4/422)
فرأيت أكثر أهلها النساء) فيه التحريض لهن على المحافظة على أمر الدين ليسلمن من النار، قال الحافظ: وفي حديث أبي سعيد عند مسلم في صفة أدنى أهل الجنة «ثم يدخل عليه زوجتاه» ولأبي يعلى عن أبي هريرة «فدخل الرجل على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله زوجتين من ولد آدم» واستدل أبو هريرة بهذا الحديث على أن النساء في الجنة أكثر من الرجال كما أخرجه عنه مسلم في «صحيحه» وهو واضح، لكن يعارضه قوله في حديث الكسوف «أكثر أهل النار» . ويجاب بأنه لا يلزم من كون أكثرهن في النار، نفى كون أكثرهن في الجنة لكن يشكل عليه حديث اطلعت الخ، ويحتمل أن الراوي رواه بالمعنى الذي فهمه من أن كونهن أكثر ساكني النار يلزم منه كونهن أقل ساكني الجنة وليس ذلك بلازم لما قدمته، ويحتمل أن يكون ذلك في أول الأمر قبل خروج العصاة من النار بالشفاعة والله أعلم. قال شيخ الإسلام زكريا: ويجاب أيضاً بأن المراد بكونهن أكثر أهل النار نساء الدنيا وبكونهن أكثر أهل......
الجنة نساء الآخرة فلا تنافي اهـ. (متفق عليه من رواية ابن عباس) قال الحافظ المزي في «الأطراف» : رواه البخاري في النكاح تعليقاً قلت: قال الحافظ في «نكته» عليه: هذا التعليق في كتاب الرقاق لا في كتاب النكاح، وقال في النكاح: تابعه أيوب ومسلم بن زيد كذا هو في الأصول قال: ورواه مسلم في الدعوات من «صحيحه» ، ورواه الترمذي في صفة جهنم وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي في عشرة النساء من «سننه» اهـ ملخصاً. وفي «الجامع الصغير» حذف رمز البخاري من رواته وكأنه سهو وزاد فيه ورواه أحمد (ورواه البخاري) في صفة الجنة، وفي النكاح وفي الرقاق (أيضاً) أي دون مسلم (من رواية عمران بن حصين) والراوي للحديث عنهما هو أبو رجاء عمران بن تيم، وقد رواه من حديث عمران أيضاً الترمذي في صفة جهنم والنسائي في عشرة النساء والرقاق، قال المزي بعد أن ذكر اختلاف الرواة عن عوف فقال: بعضهم عن أبي رجاء عن عمران، وقال أيوب عن أبي رجاء عن ابن عباس وكلا الإسنادين ليس فيه مقال ويحتمل أن يكون أبو رجاء سمعه منهما، والله أعلم.......(4/423)
33488 - (وعن أسامة) بضم الهمزة (ابن زيد) بن حارثة الحب ابن الحب تقدمت ترجمته في باب الصبر في أوائل الكتاب (رضي الله عنهما عن النبي قال: قمت على باب الجنة) أي لأنظر أهلها أو لأمر آخر اقتضى القيام ثمة (فكان عامة) قال في «المصباح» هم خلاف الخاصة والجمع عوام كدابة ودواب والهاء في عامة التأكيد اهـ. وفي كتاب «تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم» للحافظ العلائي، وأما عامة مثل فعله عامة الناس فلا ريب أنه من صيغ العموم كيف وهو من مادته وبنيته، والعموم معناه الشمول والإحاطة وهو خلاف الخصوص وهذا ظاهر لا حاجة إلى الاستشهاد إليه اهـ. وعليه فالمعنى فإذا عموم (من دخلها المساكين) جمع مسكين، والمراد به ما يشمل الفقير أي المحتاج. ويجوز من حيث صناعة الإعراب رفع المساكين على أنه اسم كان مؤخراً ونصب عامة على أنه خبرها مقدم ويجوز العكس (وأصحاب الجد محبوسون) أي في الموقف عن دخول الجنة لحياسبوا عمّا كانوا فيه من الغنى تحصيلاً وتضييعاً والفقراء سالمون من ذلك (غير) بالنصب على الاستثناء (أن أصحاب النار) أي منهم (قد أمر بهم إلى النار) والمعنى لكن أصحاب النار منكم غير محبوسين. وفي «المفاتيح» أصحاب النار هم الكفار (قد أمر بهم إلى النار) أي لا يوقفون في العرصات بل يؤمرون بدخول النار فالاستثناء منقطع، وكذا قال العاقولي: غير بمنى لكن والمغايرة بحسب التفريق، فإن القسم الأول: أي والمراد به المؤمنون من بمعنى وفقير بعضهم محبوس وهو ذو الجد وبعضهم غير محبوس وهو الفقير، والقسم الثاني غير محبوسين، ويدل على أن القسم الأول بعضه محبوس، قوله في الحديث عن صعاليك المهاجرين «إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم» ، فلولا ذلك الحبس للأغنياء لدخلوا جميعاً (متفق عليه) قال المزي في «الأطراف» : رواه البخاري في النكاح. قلت: زاد الحافظ في «نكته» عليه وفي الرقاق قال المزي: ورواه مسلم آخر كتاب الدعوات، ورواه النسائي في عشرة......
النساء من «سننه» ، وفي المواعظ والرقائق منها وهما ليسا من «سنن النسائي» في الرواية اهـ. ملخصاً، وقال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد في «مسنده» (الجد) بفتح الجيم وتشديد الدال المهملة (الحظ والغنى. وقد سبق بيان هذا الحديث) بزيادة(4/424)
في آخره «وقمت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء» (في باب فضل الضعفة) وتقدم شرح الحديث ثمة أيضاً بما بينه وبين ما هنا عموم وخصوص.
34489 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: أصدق كلمة) أي أكثر جملة مفيدة مطابقة للواقع وجملة (قالها شاعر) في محل الصفة لكلمة احترز بها عن قول الله سبحانه وأقوال أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فتلك أصدق، والمراد بالتفضيل ما عدا ذلك وإطلاق الكلمة على الجمل المفيدة هو في اللغة وتخصيصها بالقول المفرد عرف طارىء وليس للشارع اصطلاح خاص في إطلاق الكلمة فتحمل على معناها اللغوي لكن مقتضى كلام النحاة أن إطلاق الكلمة على الجمل المفيدة مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل، وجوّز بعضهم كونه استعارة مصرحة بأن شبهت الجملة في توقف الإفادة على جميع أجزائها بتوقف فهم معنى الكلمة على جميع حروفها فأطلق اسم المشبه على المشبه به حينئذٍ فتكون القرينة في الحديث على إرادة المجاز منها ما فسر به الخبر من شرط البيت (كلمة) بفتح الكاف وكسر اللام لغة أهل الحجاز وهي أفصح من فتح الكاف وكسرها مع سكون اللام فيهما وهما لغة تيم، ويكفي في تغاير المبتدأ والخبر التغاير بحسب الإضافة (لبيد) بفتح اللام وكسر الموحدة وسكون التحتية ثم دال مهملة، وهو ابن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان العامري، هكذا ذكر نسبه أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في «تاريخه» ، وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم وحسن إسلامه وكان من............
فحول شعراء الجاهلية وكان من المعمرين عاش مائة وأربعاً وقيل وسبعاً وخمسين سنة. وقال السمعاني: مات أول خلافة معاوية وله مائة واثنان وأربعون سنة، ولم يقل شعراً بعد إسلامه، وكان يقول أبدلني الله به القرآن وقيل قال بيتاً واحداً.
ما عاتب المرء الكريم لنفسه
والمرء يصلحه القرين الصالح
وقال جمهور أصحاب السير والأخبار لم يقل شعراً منذ أسلم، وقال عمر بن الخطاب(4/425)
يوماً للبيد أنشدني شيئاً من شعرك فقال: ما كنت لأقول شعراً بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران فزاده عمر في عطائه خمسمائة. وكان شريفاً في الجاهلية والإسلام. وفي ترجمته زيادة في «التهذيب» (ألا) أداة استفتاح (كل شيء ما خلا ا) أي وصفاته وإنما لم يذكرها لأنها معلومة من ذكر الذات كما هو مقرر عند الأشاعرة أنها ليست غيراً أي يجوز انفكاكها كما أنها ليست عيناً أي باعتبار المعلوم لكونها غير قابلة الانفكاك كان المتبادر من ذكر الذات ذكرها وبهذا يبطل تعلق المبتدعة بالبيت (باطل) يحتمل أن يكون المراد منه هلاكه بالفعل فينعدم كل مخلوق ساعة لتصدق الكلية ثم يوجد، ويحتمل أن المراد قبوله للبطلان والهلاك، إذ المتعقل إما واجب العدم كالمحال الذاتي أو البقاء كذات الله وصفاته أو محتمل لهما كالعالم، والبيت المذكور في معنى قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص: 88) ولو عد هذا البيت من موافقات لبيد للقرآن لم يبعد بما ذكر من استشهاد النبي بشعر لبيد وشهادته له بأنه شاعر كما جاء في رواية أخرى وأن ذلك أصدق ما قاله شاعر، ضرب الإمام الشافعي المثل به حيث يقول:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشعر من لبيد
(متفق عليه) رواه البخاري في الأدب والرقاق وغيرهما من «صحيحه» ، ومسلم في الشعر، ورواه الترمذي في الاستئذان من «جامعه» وفي «الشمائل» ، ورواه ابن ماجه أيضاً في الأدب كذا في «الأطراف» .............
56 - باب فضل الجوع وخشونة العيش
بضم أوليه المعجمين مصدر خشن خشنة وخشونة بخلاف نعم كذا في «المصباح» (العيش) والمراد ترك الترفه فيه والاقتصار على الجلف لأنه حق النفس وما فوقه حظها(4/426)
(والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها) كالمفروش والمسكون والمنكوح (من حظوظ النفس) يصح كونه بياناً للغير، إذ قليل المأكول والمشروب مما تقوم به البنية، والملبوس مما يستر البدن حق النفس لاحظها، ويصح كونه بياناً للجميع بأن يراد من القليل ما زاد على ما يحتاج إليه في ذلك من الترفهات والتنعمات (وترك الشهوات) أي مشتهى النفس وإن كان من قليل ما ذكر فعطفه عليه من عطف العام على الخاص، ويصح أن يراد مشتهاها مما عدا ذلك فيكون من عطف المغاير.......
(قال الله تعالى) : ( {فخلف من بعدهم} ) أي الذين أثنى عليهم من الآيات السابقة من الأنبياء والذين منّ الله عليهم بتوفيقه ( {خلف} ) أي عقب سوء، يقال خلف صدق بالفتح وخلف سوء بالسكون ( {أضاعوا الصلاة} ) تركوها أو أخروها عن وقتها ( {واتبعوا الشهوات} ) كشرب الخمر واستحلال نكاح الأخت من الأب وعن عليّ رضي الله عنه {واتبعوا الشهوات} من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور ( {فسوف يلقون غيا} ) شرّاً أو جزاء غي كقوله: {يلق أثاماً} أو غياً من طريق الجنة، وقيل هو واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها، والإتيان بحرف التنفيس لتأكيد الوعيد ( {إلا من تاب وآمن} ) يدل على أن الآية في الكفرة، لكن ذكر العماد ابن كثير في رتفسيره» عن مجاهد قال: عند ذهاب صالحي أمة محمد ينزو بعضهم على بعض في الأزقة ومن طريق آخر عنه قال: «هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام في الطريق، لا يخافون الله في السماء ولا يستحيون الناس في الأرض» ثم أخرج من طريق ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً» الحديث، ثم ذكر أحاديث وآثاراً في ذلك ( {وعمل} ) عملاً ( {صالحاً} ) ليزكوا به إيمانه ويزداد إيقانه فالإيمان بزيادة الطاعة ( {فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً} ) من الظلم، ألا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرّهم ولا ينقص أجورهم «قال العماد ابن كثير: والاستثناء في هذه الآية كقوله في سورة الفرقان(4/427)
{إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} (الفرقان: 70) .......
(وقال تعالى) : ( {فخرج} ) أي قارون ( {على قومه في زينته} ) كا قيل إنه خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان وهو بضم الهمزة والجيم وسكون الراء بينهما شجر على قضبان حمر يوصف به الثور الأحمر وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه، وقوله في زينته في موضع الحال من فاعل خرج: أي متزيناً بها ( {قال الذين يريدون الحياة الدنيا} ) على ما هو عادة الناس من الرغبة ( {يا ليت} ) المنادى محذوف: أي يقول ليت ( {لنا مثل ما أوتي قارون} ) تمنوا مثله لا عينه حذراً من الحسد ( {إنه لذو حظ} ) في «المصباح» : الحظ الجد وفلان محظوظ هو أخط من فلان، والحظ: النصيب اهـ. ويصح إرادة كليهما والأول أبلغ في مرادهم، لكن قول البيضاوي «حظ ( {عظيم} ) من الدنيا» ، وقول ابن كثير «حظ وافر من الدنيا» يومىء إلى حمل الحظ على النصيب لأن الأول يستعمل بفي، ( {وقال الذين أوتوا العلم} ) النافع، وهو العلم بأحوال الآخرة وما أعد الله فيها لصالحي عباده المتقين للمتمنين ذلك ( {ويلكم} ) دعاء بالهلاك استعمال للزجر عما لا يرتضي ( {ثواب ا} ) في الآخرة ( {خير لمن آمن وعمل صالحاً} ) مما أوتي قارون بل من الدنيا وما فيها، وترك المصنف ذكر باقي الآية وهو قوله: {ولا يلقاها} أي الكلمة التي تكلم بها العلماء أو الثواب وأنث لأنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو الإيمان والعمل الصالح، وأنث أيضاً لأن ذلك في معنى السيرة والطريقة {إلا الصابرون} على الطاعات وعن المعاصي لأنه اختلف فيه هل من جملة كلام العلماء: أي فيسفر بما عدا الأول من مراجع الضمير وعليه السدي. قال ابن كثير: فجعله من تمام كلامهم، أو من كلام الله ثناء عليهم بالإصابة، أو يفسر الأول وعليه ابن جرير. قال ابن كثير: قال ابن جرير: وما يلي هذه الكلمة الخ، وكأنه جعل ذلك مقطوعاً من كلام أولئك وجعله من كلام الله تعالى وإخباره اهـ. ولعل المصنف يقوى عنده الجانب الثاني.......
(وقال تعالى) : ( {ثم لتسألنّ يومئذٍ عن النعيم} ) أي الذي ألهاكم والخطاب مخصوص بكل من ألهاها دنياه عن دينه(4/428)
والنعيم مخصوص بما يشغله للقرينة والنصوص الكثيرة بقوله تعالى: {قل من حرم زينة ا} (الأعراف: 32) {كلوا من الطيبات} (المؤمنون: 51) وقيل يعمان، إذ كل يسأل عن شكره، وقيل الآية مخصوصة بالكفار، وفي «التفسير الصغير» للكواشي: النعيم هو الصحة والأمن. أو هي والفراغ. قال «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» قلت: قال ابن كثير: معناه أهم مقصرون في شكرهما لا يقومون بواجبهما ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون اهـ. أو هو الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء. قال: «أول ما يسأل العبد من النعيم ألم نصح جسمك؟ ونروك من الماء البارد؟» أو هو خبز البرّ والماء العذب، أو كل لذة من اللذات اهـ. «وفي تفسير ابن كثير» بعد ذكر الأقوال في ذلك: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي في قوله: {ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم} . قال «الأمن والصحة» وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم عن رسول الله: {ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم: يعني شبع البطون وبارد الشراب وظلال المساكن واعتدال الخلق ولذة النوم} ثم ذكر ابن كثير أقوالاً أخر ختمها بحديث قال أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي. يقول الله عزّ وجل: يا بن آدم حملتك على الخيل والإبل وزوّجتك النساء وجعلتك ترتع وترأس فأين شكر ذلك» وقال ابن كثير: تفرد به أحمد اهـ.......
(وقال تعالى) : ( {من كان يريد العاجلة} ) مقصوراً عليها همه ( {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} ) قيد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة، لأنه لا يجد كل متمنّ متمناه ولا كل واحد جميع ما يهواه، وليعلم أن الأمر بالمشيئة و {لمن يريد} بدل «من له» بدل البعض، وقرىء يشاء: والضمير فيه ليطابق المشهورة، وقيل لمن فيكون مخصوصاً بمن أراد به ذلك، وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولا غرض لهم غير مساهمتهم في الغنائم ونحوها ( {ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً} ) مطروداً من رحمة الله تعالى (والآيات) القرآنية (في الباب) أي فيما تضمنه من المطالب (كثيرة معلومة) .(4/429)
1490 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد) المراد منهم هنا أهل بيته من أزواجه وخدمه الذين كان يمونهم (من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض) أي توفي، وهذا لإعراضه عن الدنيا وزهده فيها، ولم يضطره مولاه سبحانه لذلك، بل عرض عليه جبال مكة وبطحاءها تسير معه ذهباً أينما سار كما تقدم في الباب قبله، فاختار ذلك إعلاماً بحقارة الدنيا وأنها ليست بحيث ينظر إليها تحريضاً لأمته على الزهد فيها والإعراض عما زاد على الحاجة، منها ولا منافاة كا قال المصنف في «شرح مسلم» بين حديث الباب وحديث أنه كان يدخر قوت عياله سنة لأنه كان يفعل ذلك أواخر حياته، لكن تعرض عليه حوائج المحتاجين فيخرجه فيها، فصدق أنه ادخر قوت سنة وأنهم لم يشبعوا كما ذكر لأنه لم يبق عندهم ما ادخره لهم (متفق عليه) .......
(وفي رواية) هي للبخاري في كتاب الأطعمة والرقاق من «صححيه» ، ولمسلم في أواخر الكتاب، ورواها النسائي وابن ماجه من طريق منصور بن المعتمر عن الأسود عن عائشة، وأما اللفظ الذي قال المصنف إنه متفق عليه فقضية كلام المزي أنه انفرد به مسلم عن البخاري وعبارته بعد ذكره من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن خالد عن الأسود عن عائشة رواه مسلم في آخر الكتاب والترمذي في الزهد وقال: حسن صحيح، وفي «الشمائل» والنسائي في الأطعمة، ثم أشار المزي إلى وهم جمع من المحدثين توهموا أنهما من طريق واحد وليس كذلك، وكأن مراد المصنف بقوله فيما تقدم متفق عليه: أي من حيث المعنى لا بخصوص المبنى (ما شبع آل محمد منذ) بضم الذال: أي من حين (قدم المدينة) خرج ما كانوا قبل الهجرة (من طعام بر) بضم الموحدة وتشديد الراء، قال في «المصباح» : هو القمح، الواحدة برة خرج ما عداه من باقي المأكولات (ثلاث ليال) أي بأيامها (تباعاً) بكسر المثناة الفوقية أي متتابعة يخرج المتفرقة (حتى قبض) أشار إلى استمراره على ذلك مدة إقامته بالمدينة، وهي عشر سنين، وزاد ابن سعد في رواية له وما رفع عن مائدته كسرة خبز فضلاً حتى قبض» ووقع في رواية بلفظ «ما(4/430)
شبع من خبز بأدم» أخرجه مسلم، وعند ابن سعد عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت عليه أربعة أشهر ما شبع من خبز البرّ، وفي حديث أبي هريرة نحو حديث الباب «ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام تباعاً من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا» أخرجه البخاري في الأطعمة وأخرجه مسلم أيضاً بنحوه. 6......
2491 - (وعن عروة) بضم المهملة الأولى وسكون الثانية ابن الزبير (عن) خالته (عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول وا يا ابن أختي إن) بكسر الهمزة وسكون النون مخففة من الثقيلة أي إنا (كنا) واللام في (لتنظر) هي الفارقة بينها وبين إن النافية (إلى الهلال) قال في «المصباح» : الأكثر أنه القمر في حالة مخصوصة، ويسمى القمر لليلتين من أول الشهر هلالاً، وفي ليلة ستّ وعشرين وسبع وعشرين أيضاً هلالاً، وما بين ذلك يسمى قمراً. وقال الفارابي وتبعه الجوهري: الهلال لثلاث ليال من أول الشهر ثم هو قمر بعد ذلك، وقيل الهلال هو الشهر بعينه والجمع أهلة كسنان وأسنة اهـ. وفي كتاب «إشارات المحتاج إلى لغات المنهاج» لابن النحوي: الهلال معروف سمي به لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه. قال السهروردي في «شرح ألفاظ المصابيح» : وحكى صاحب «المهذب» خلافاً فيما يخرج به عن تسميته هلالاً، ويسمى قمراً فقيل إذا استدار، وقيل إذا بهر ضوؤه اهـ. وظاهر أن المراد هنا بالهلال هو في أول ليلة الشهر (ثم) أتت بها لبعد ما بين كل من الهلالين ولا ينافيه قوله تعالى: {أياماً معدودات} (البقرة: 184) لأن ذلك لئلا ينفروا عن الانقياد للصوم لو سمعوه بلفظ الشهر أو الثلاثين (الهلال ثم الهلال) بالجر فيهما عطفاً على ما قبلهما، ويجوز نصبه بإضمار: ثم نرى، ويكون ثم لعطف الجبل، وقولها (ثلاثة أهلة في شهرين) يجوز أن يقرأ بالرفع مبتدأ خبره متعلق الظرف أو خبر لمحذوف: أي هي ثلاثة أهلة والظرف في محل الحال. قال في «الفتح» : المراد بالهلال الثالث هلال الشهر، وهو ير عند انقضاء الشهر وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث (قلت: يا خالة) يجوز فيه الضم على أنه منادى مفرد والكسر والفتح على أن مضاف لياء المتكلم حذفت منه واكتفى بدلالة الكسرة عليها على الأول أو بعد إبدالها ألفاً واكتفى بدلالة الفتحة عليها على الأخير (فما كان يعيشكم) بضم التحتية وفي بعض نسخ البخاري ما......
يغنيكم بسكون المعجمة بعدها نون فتحتية ساكنة (قالت الأسودان التمر(4/431)
والماء) قال الصغاني: أطلق الأسودان على التمر والماء والسواد للتمر دون الماء، فنعتا بنعت واحد تغليباً، وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما. وعن أبي زيد: الماء يسمى الأسود أيضاً، واستشهد له بشعر نظر فيه الحافظ في «الفتح» . قال: ووصف التمر بالأسود لأنه غالب تمر المدينة. وزعم صاحب المحكم وتبعه بعض المتأخرين من شراح البخاري أن تفسير الأسودين بالتمر والماء مدرج، وإنما أرادت الحرة والليل، واستدل له بما رده عليه الحافظ في أوائل كتاب الهبة من «فتح الباري» ، وقد يقع للخفة والشرف كالعمرين لأبي بكر وعمر، والقمرين للشمس والقمر (إلا أنه كان للنبيّ جيران من الأنصار) زاد أبو هريرة في حديثه «جزاهم الله خيراً» والاستثناء منقطع، والجملة المستثناة في محل نصب على الاستثناء كما نبه عليه في «مغنى اللبيب» وزادها على حصر الجمل المعربة المحل في سبع. والجيران: جمع جار وهو المجاور في السكن، وللجار معان أخر. حكى ثعلب عن ابن الأعرابي: الجار الذي يجاورك بيتاً ببيت، والجار الشريك في العقار مقاسماً كان أو غير مقاسم، والجار الخفير الذي يجير غيره: أي يؤمنه مما يخاف، والجار المستجير أيضاً وهو الذي يطلب الأمان، والجار الحليف، والجار الناصر، والجار الزوج، والجار أيضاً الزوجة ويقال فيها أيضاً جارة، والجارة الضرة قيل لها جارة استكراهاً للفظ الضرة اهـ. من «المصباح» . والأنصار: اسم إسلامي علم بالغلبة على أولاد الأوس والخزرج كما تقدم (وكانت لهم منايح) جمع منيحة بنون وحاء مهملة اسم من المنحة بكسر الميم وهي الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلاً يشرب لبنها ثم يردها إذا انقطع لبنها كذا في «المصباح» ، والجملة معطوفة على خبر إن، ويصح أن تكون في محل الحال بإضمار قد (فكانوا يرسلون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبانها) يحتمل كون «من» للتبعيض ويحتمل كونها......
للتبيين لمقدر شيئاً هو ألبانها، والثاني أنسب لكونها منيحة كما علم من معناها لغة (فيسقينا) يجوز ضم التحتية وفتحها مزيد ومجرد من السقي قال ابن أقبرس في «شرح الشفاء» : إن قلت: كتم هذا الخبر مما يدل عليه صحيح الأثر لما فيه من إيهام الشكوى وإفشاء ما يستحب ستره من العبادات قلت: هو من مثلها على طريق الإرشاد إذ لا يليق كتم أفعال المشرع لأنه(4/432)
علم الهدى وإمام الاقتداء اهـ. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الهبة ومسلم في آخر الكتاب.......
3492 - (وعن سعيد) بن أبي سعيد كيسان (المقبري) قال السيوطي في «لبّ اللباب» في الأنساب بفتح الميم وسكون القاف وضم الموحدة، وكأنه اقتصر عليه لكونه أفصح، وإلا فقد ذكر غير واحد منهم المصنف في «شرح مسلم» والشيخ محمد طاهر في «المغنى» جواز الفتح للموحدة والكسر نسبة إلى مواضع القبور. قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» : يكنى أبا سعيد مدني ثقة من كبار التابعين، تغير قبل موته بأربع سنين، وروايته عن عائشة وأم سلمة مرسلة روى عنه الستة (عن أبي هريرة رضي الله عنه) أي عن قصته (أنه مرّ بقوم بين أيديهم شاة مصلية، فدعوه فأبى أن يأكل) ورأى أنه من الترفهات وشأن المحب أن يتبع آثار محبوبه ويأتم بها فلذا امتنع (وقال) موضحاً لسبب إيائه (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا) أي توفي (ولم يشبع من خبز الشعير) لا ينافى ما سيأتي في حديث أبي الهيثم، فلما أن شبعوا لأن الشبع ثم لم يكن من خبز الشعير بل كان من التمر واللحم، أو لأن المنفي الشبع التام الذي لا يبقى معه مساغ لتناول غيره كما هو شأن الشره المهتم ببطنه، والمثبت أصل الشبع أو المنفى الشبع لحظ نفسه، والمثبت أنه يشبع لحظ غيره كأن ينزل به ضيف فيشبع لأكله مؤانسة له أو ينزل ضيفاً بغيره فيشبع ليقرّ عين ربّ المنزل بذلك ويكرمه به لا لحاجته إلى الطعام (رواه البخاري) في الأطعمة من «صحيحه» (مصلية بفتح الميم) اسم مفعول من صليت اللحم أصلية: أي شويته (أي مشوية) .......
4493 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه قال: لم يأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خوان) بكسر الخاء المعجمة ويجوز ضمها وهي المائدة ما لم يكن عليها طعام، وهو معرب يعتاد بعض المتكبرين والمترفهين الأكل عليه احترازاً من خفض رؤوسهم فهي بدعة لكنها جائزة(4/433)
(حتى مات وما أكل خبراً مرققاً) أي محسناً مليناً كخبز الحوّاري وشبهه، والترقيق التليين، وقد يراد بالمرقق الموسع، قاله القاضي عياض، وجزم به ابن الأثير فقال: وهو السميد وما يصنع به من كعك ونحوه، كذا في «أشرف الوسائل» والذي في «النهاية» المرقق هو الأرغفة الواسعة الرقيقة، يقال رقيق ورقاق كطويل وطوال اهـ. وقال ابن الجوزي: هو الخفيف كأنه أخذه من الرقاق وهي الخشبة التي يرقق بها وهو قريب من كلام «النهاية» : وظاهر قوله (حتى مات) أنه لم يأكل ذلك قبل البعثة ولا بعدها سواء خبز له أو لغيره، ويؤيده رواية البخاري عن أنس الآتية بعده (رواه البخاري) في الأطعمة ورواه مسلم أيضاً كما في «الأطراف» .
(وفي رواية له) أي البخاري في الرقاق من «صحيحه» عن أنس قال: «فما أعلم النبي رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق با» (ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط) السميط: هو ما أزيل شعره بماء سخن وشوي بجلده، وإنما يفعل ذلك بصغير السن وهو من فعل المترفهين. قال ابن الأثير: ولعله يعني أنه لم ير السميط في مأكوله، إذ لو كان غير معهود لم يكن في ذلك تمدح وقط بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة، ظرف لما مضى من الزمان: أي لم يره في شيء من أزمنته.......
5494 - (وعن النعمان) بضم النون وسكون المهملة (ابن بشير) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وسكون التحتية بعدها راء تقدمت ترجمته وهو صحابي ابن صحابي (رضي الله عنهما قال: لقد) هذه اللام مثلها في قوله تعالى: {ولقد علمتم} (البقرة: 65) قال أبو حيان: ي لام الابتداء مفيدة لمعنى التوكيد، ويجوز أن يكون قبلها قسم مقدر وألا يكون. وقال ابن الحاجب في «الأمالي» : لام الابتداء يجب أن يكون معها المبتدأ، وقال الزمخشري في {ولسوف يعطيك ربك} (الضحى: 5) لام الابتداء لا تدخل إلا على مبتدأ وخبر، وقال في {لا أقسم}(4/434)
لام ابتداء دخلت على مبتدأ محذوف ولم يقدرها لام قسم لأنها عنده ملازمة للنون، وكذا زعم في ولسوف أن التقدير ولأنت سوف. وقال ابن الحاجب: هي لام التأكيد اهـ. (رأيت نبيكم) الظاهر أن الرؤية فيه بصرية وجملة (وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه) في محل الحال، وقيل إنها علمية والجملة مفعول ثان دخلتها الواو إلحاقاً لها بخبر كان على رأي الأخفش، وإضافة النبيّ إلى المخاطبين ليحثهم على الاقتداء به والإعراض عن الدنيا ما أمكن، فلذا لم يقل نبييّ ونبيكم، وقتل خالد مالك بن نويرة لما قال له كان صاحبكم يقول كذا فقال صاحبنا ولي بصاحبك فقتله ليس لمجرد هذه اللفظة بل لما بلغه من ارتداده وتأكد عنده ذلك بما أباح له به الإقدام على قتله (رواه مسلم) في آخر «صحيحه» ، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» وقال صحيح وفي الشمائل، ورواه أبو عوانة وغيره وهو طرف حديث أوله «ألستم في طعام وشراب ما شئتم لقد رأيت» الخ (الدقل) بفتح الدال المهملة والقاف (تمر رديء) وفي «النهاية» هو رديء التمر ويابسه، وما ليس له اسم خاص فتراه ليبسه ورداءته لا يجتمع ويكون منثوراً اهـ. وفي «المصباح» الدقل أردأ التمر وقد تقدم الحديث مع الكلام عليه في الباب قبله.......
6495 - (وعن سهل بن سعد) الساعدي (رضي الله عنه قال: ما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النقي) أي الخالص من النخالة ونفى رؤيته مبالغة في نفي أكله (من حين ابتعثه ا) أي نبأه وبعثه، والتاء فيه للمبالغة في تحمل أعباء الرسالة لثقلها (حتى قبضه ا) أي توفاه سبحانه ونقله إلى دار كرامته (فقيل له هل كان لكم في عهد) أي زمن (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناخل) جمع منخل بضم أوله وثالثه المعجم وسكون النون بينهما، وهو أحد ما خرج عن قياس بناء اسم الآلة لأن قياسه الكسر وجمعه باعتبار جمع المخاطبين (قال: ما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منخلاً من حين) بالفتح على الأفصح لإضافته جملة (ابتعثه الله تعالى) وهي مبنية الصدر وقال بعض المحققين: أظنه احترز بهذا عما قبل البعثة لكونه سافر تلك المدة إلى الشام تاجراً، وكانت الشام إذ ذاك مع الروم،(4/435)
والخبز النقي عندهم كثير، وكذا المناخل وغيرها من آلات الترفه لا ريب أنها كانت عندهم (حتى قبضه) بفتح الموحدة أي توفاه (اإليه فقيل له) لم أقف على تعيين القائل (كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول) بالنصب على الحال ووجه التعجب من ذلك كثرة نخالته فربما نشب في الحلق (قال: كنا نطحنه وننفخه) أي المطحون الدال عليه نطحنه (فيطير ما طار) من نخالته (وما بقي) بكسر القاف: أي فضل من النخالة في الدقيق بعد نفخه (ثريناه. رواه البخاري) في الأطعمة والرقاق من «صحيحه» والنسائي (قوله النقي هو بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء) ولم يحتج إلى تقييد بالتحتية المأتي به للاحتراز عن الفوقية لأن الصورة الخطية هنا دالة على التعيين (وهو الخبز الحوّاري) بضم المهملة وتشديد الواو وبالراء ثم ألف من الحور: البياض فهو الخبز الأبيض كما قال (وهو الدرمك) بفتح الدال وسكون المهملة. قال في «الصحاح» : هو دقيق الحواري اهـ. وبه يعلم أن في كلام المصنف مضافاً مقدراً: أي خبز الدرمك (قوله ثريناه هو بثاء مثلثة ثم......
راء مشددة) مفتوحتين (ثم ياء مثناة من تحت) ساكنة (ثم نون) الأوضح ثم بالنون لأن ما ذكره يوهم أنها نون النسوة (أي بللناه) بفتح أوليه الموحدة فاللام المخففة كما في «المصباح» ، قاله بللته بالماء بلا فابتل ويجمع البل على بلال مثل سهم وسهام والاسم البلل بفتحتين، وقيل البلال ما يبل به الحلق من ماء ولبن، وبه سمى الرجل اهـ. (وعجناه) أي فيلين ما يبقى من نخالته فلا ينشب في الحلق.
7496 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم) أي في الحقيقة التي هي اليوم وأتى بذات دفعاً لتوهم أن المراد به مطلق الزمان (أو) شك من الراوي (ليلة) بالإضافة والمضاف لفظ ذات (فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما) أي(4/436)
ففاجأ خروجه رؤيتهما، وهو مبتدأ والظرف بعده خبر (فقال، ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟) أي التي لم تجر العادة بالخروج فيها لأنها ليست وقت صلاة ولا ما يجتمع له من كسوف أو نحوه من الحوادث (قالا: الجوع) يجوز أن يعرب مبتدأ خبره جملة محذوفة دل عليها السؤال: أي أخرجنا ويجوز إعرابه فاعلاً لأخرجنا مقدراً وأيهما أولى يبني على الخلاف في أي المرفوعات أصل المبتدأ أو الفاعل أو هما في مرتبة واحدة فعل الأول يعرب مبتدأ وعلى الثاني فاعلاً وعلى الثالث يخير (قال) (وأنا) الواو فيه للاستئناف ثم في رواية صاحب «الشمائل» وغيره الغابة «قال أبو بكر: خرجت للقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنظر في وجهه والسلام عليه فلم يلبث أن جاء عمر فقال: ما جاء بك يا عمر؟ قال: الجوع يا رسولالله، قال رسول الله: قد وجدت بعض ذلك» فيحتمل أن الصديق كان قال كلا من المقاتلين وإنما اكتفى بلقي المصطفى والنظر إليه والسلام عليه لأن بذلك يحصل كمال القوى فيذهل عن ألم الجوع كما قال في وصاله في صومه «إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني» على أحد الأقوال فيه (والذي نفسي بيده) أي بقدرته فيه ندب......
القسم لتأكيد الأمر عند السامع والحلف من غير استحلاف (لأخرجني الذي أخرجكما) وعند الترمذي في «شمائله» «وأنا وجدت بعض ذلك» أي الجوع. قال في «أشرف الوسائل» : فيحتمل أنه جمع بين المقالتين وفي عقد التقي الفاسي عن جده قال: سمعت الإمام محمداً المرجاني يقول قوله الذي أخرجكما لفظ مبهم ظاهره الجوع، والمراد والله أعلم هوالله، إذ هو الذي أخرجه حقيقة فعبر بلفظ الذي الصادق على السبب وعلى المسبب ليشاركهم في ظاهر الحال دفعاً للوحشة الواقعة في ذكر الجوع. قلت: وهذا من معالي الأخلاق وكريم الشيم وهو من معنى قوله تعالى: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} (الشعراء: 215) اهـ. كلامه. قلت: وهذا يسميه البديعيون بالتوجيه، ومنه قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه في خياط أعور:
خاط لي عمرو قباء
ليت عينيه سواء......
فإنه محتمل للدعاء له والدعاء عليه (قوموا فقاموا) أي على الفور كما تؤذن الفاء(4/437)
وانصرفوا (معه فأتى رجلاً من الأنصار) يأتي تعيينه في الأصل بما فيه (فإذا هو ليس في بيته) أي ففاجأ مجيئهم فقدانه من البيت، وهو مبتدأ والجملة بعده في محل الخبر (فلما رأته) أي أبصرته (المرأة) فيؤخذ منه جواز نظر الأجانب إليه كما يجوز نظره للأجانب منهن وأنه معهم كالمحارم في جواز الخلوة والنظر، ويحتمل أن تكون الرؤية علمية والمفعول الثاني محذوف لدلالة المقام عليه: أي مقبلاً، والمرأة بوزن التمرة ويجوز نقل حركة هذه الهمزة إلى الراء فتحذف وتبقى مرة بوزن سنة، ويقال فيها امرأة كما يقال مرأة وربما قيل امرأ بغير هاء اعتماداً على قرينة تدل على المسمى. قال الكسائي: سمعت امرأة من فصحاء العرب تقول أنا امرأ أريد الخير وجمع امرأة نساء ونسوة من غير لفظها كذا في «المصباح» ولم أقف على اسمها (قالت مرحباً) أي وجدت منزلاً رحباً: أي واسعاً فانزل (وأهلا) أي وصادفت أهلاً فأنس كذا في هذه الرواية، وفي رواية أنهم كرروا السلام ولم يجبهم حتى هم بالانصراف، ثم أجابت واعتذرت بأنها أرادت كثرة دعائه وتكريره لها ولصاحب منزلها فلعلها قالت ما ذكر قولاً نفسياً ثم أخبرت عنه والله أعلم (فقال لها رسول الله: أين فلان؟) قال المصنف في «التهذيب» : قال ابن السراج: كناية عن اسم يسمى به المحدث عنه خاص غالب اهـ. وتقدم هذا المعنى بزيادة في باب الصبر وزاد «تفسيري البيضاوي والكشاف» قولهما كما أن هذا كناية عن الأجناس (قالت: ذهب يستعذب لنا الماء) يؤخذ منه أن استعذاب الماء لا ينافي شأن الصحابة من الإعراض عن زهرات الدنيا ومستلذاتها (إذ جاء الأنصاري) يحتمل أن تكون للمفاجأة بناء على مجيئها لذلك كما قال به جمع وإن نوزعوا فيه بما بينته أول رسالتي «إنباه النائم من سنة نومه» ببعض فوائد قوله تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه} (البقرة: 60) (فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه......
وسلم وصاحبيه) أي وقع النظر إليهم عقب مجيئه وهذا يحتمل أن يكون اتفاقاً، ويحتمل أن يكون لما حل عليه من الإشراق والتجلي الرباني ولم يدر سببه من نفسه، فنظر ليرى سببه من الخارج فرأى مشكاة أنوار المصطفى المختار ومعه صاحباه رضوان الله عليهما (ثم قال) أي بعد أن رحب وأظهر كمال الفرح الكامن فيه الكائن عنده بحلول المصطفى في منزله وأتى بما يدل على ذلك (الحمد) أي هذه نعمة يجب شكر المنعم بها شرعاً ليدوم نفعها، وقوله (ما أحد اليوم(4/438)
أكرم أضيافاً مني) جملة مستأنفة ليبين الحامل له على الحمد والداعي إليه، وفيه دليل كمال فضيلته وبلاغته وعظم معرفته لأنه أتى بكلام بديع مختصر في هذا الموطن، وما حجازية وأكرم خبره واليوم ظرف للنفي المدلول عليه بما: أي انتفى وجدان أحد اليوم أكرم، من الكرم وهو الجود والخيار ومنه حديث «إياك وكرائم أموالهم» وأضيافاً منصوب على التمييز ومني متعلق بأكرم (فانطلق) أي من محل رؤيته من حائطه عقب قول ما ذكر (فجاءهم بعذف) وجاء عند الترمذي بدله «بفنو» وهو بكسر القاف وسكون النون: العذق الغصن من النخل (فيه بسر) هو المتلون من ثمر النخل.......
قال المصنف في «التهذيب» : قال الجوهري: البسر أوله طلع ثم خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر، الواحدة بسرة والجمع بسرات وبسر وأبسر النخل صار ما عليه بسراً اهـ (وتمر) بفتح الفوقية وسكون الميم. قال في «المصباح» هو تمر النخل كالزبيب من العنب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة لأنه يترك على النخل بعد إرطابه حتى يجف أو يقارب ثم يقطع ويترك في الشمس حتى ييبس، الواحدة تمرة والجمع تمور وتمران بالضم والتمر يذكر ويؤنث في لغة فيقال: هو التمر وهي التمر اهـ (ورطب) بضم ففتح قال في «المصباح» : الرطب تمر النخل إذا أدرج ونضج قبل أن يجف والجمع رطاب مثل كلبة وكلاب (فقال: كلوا) زاد الترمذي في «الشمائل» : فقال النبيّ: «أفلا تنقيت» ؟ فقال: يا رسول الله: إني أردت أن تختاروا من رطبه وبسره فأكلوا وشربوا، (وأخذ المدية) بسكون الدال المهملة (فقال له رسول الله: «إياك والحلوب» أصله احذر تلاقي نفسك والحلوب العامل وجوباً وفاعله، ثم المضاف الأول وأنيب عنه الثاني فانتصب، ثم الثاني وأنيب عنه الثالث، فانتصب وانفصل لتعذر اتصاله، قاله ابن هشام في «التوضيح» في نحوه وإنما نهى عن ذبحها شفقة على أهله بانتفاعهم بلبنها مع حصول المقصود بغيرها فهو نهي إرشاد لا كراهة في مخالفته لزيادة أكرام الضيف وإن أسقط حقه (فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق) أتى بمن التعيضية إشعاراً بالإعراض عن الدنيا مع تمام الداعية ومزيد الحاجة (وشربوا) أي من الماء العذب (فلما أن شبعوا ورووا) بضم الواو التي هي عين الفعل والأصل رويوا بوزن علموا (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر(4/439)
وعمر رضي الله عنهما: «والذي نفسي بيده» ) أي قبض روحي بقدرته (لتسألن) بضم اللام والفعل مبني للمجهول ونائب الفاعل واو الجماعة فحذف لالتقاء الساكنين (عن هذا النعيم يوم القيامة) ثم قال مبيناً وجه السؤال المذكور على وجه الاستئناف البياني (أخرجكم من بيوتكم) بضم الموحدة وتكسر......
اتباعاً لحركة الياء (الجوع) ونسبة الإخراج إليه مجاز عقلي من الإسناد إلى السبب، وإلا فالمخرج لهم من منازلهم هو الله تعالى (ثم لم ترجعوا) بالبناء للفاعل ويجوز بناؤه للمجهول إن لم تصد عنه رواية (حتى أصابكم هذا النعيم) وهو الطعام والشراب (رواه مسلم) في أواخر «صحيحه» ، ورواه الترمذي في «جامعه» و «شمائله» ، وقال في «جامعه» في باب الاستئذان: رواه غير واحد عن شيبان، وشيبان صاحب كتاب وهو صحيح الحديث، وقال في الزهد منه وقد رواه من طريق شيبان أيضاً: حسن غريب، ورواه فيه من طريق أخرى ثم، وشيبان ثقة عندهم صاحب كتاب وهو صحيح الحديث، ورواه النسائي في الوليمة وابن ماجه في الأدب. 5......
(وقولها: يستعذب) ، أي يطلب الماء العذب فالسين فيه للطلب، وهو أحد معاني استفعل كما ذكرته في رسالتي «إنباه النائم في سنة نومه» وفي «الصحاح» استعذب لنا الماء استقى لنا ماء عذباً واستعذب الماء سقاه عذباً اهـ. وبه يعلم أن الفرق بينه مع لنا ودونها، وإنما ذهب لطلب الماء العذب لأن أكثر مياه المدينة حينئذ كانت مالحة (وهو) أي الماء العذب (الطيب) أي ما يستطاب من الماء وليس المراد منه معنى العذب لغة، وهو ما يسوغ شربه ولو مع بعض الكزازة لأن ذلك ثابت لجميع مياه المدينة (والعذق بكسر العين) المهملة (وإسكان الذال المعجمة وهو الكباسة) قال في «المصباح» : هي بالكسر عنقود النخل والجمع كبائس وهو معنى قوله: (وهي) أي الكباسة (الغصن) أي من أغصان النخل لا مطلقاً كما هو ظاهر واكتفى عن تقييد ذلك بدلالة السياق (والمدية بضم الميم) بوزن غرفة وجمعها غرف، ومقتضى كلام «المصباح» وبنو قشير تقول مدية بكسر الميم والجمع مدى كسدرة وسدر (هي السكين) بكسر المهملة وتشديد الكاف ونون أصلية قيل: بوزن فعيل، وقيل: زائدة فيكون وزنه فعلين مثل غسلين: الشفرة سمي بذلك لأنه يسكن حركة المذبوح، وحكى ابن الأنباري فيه التذكير والتأنيث. قال السجستاني: إن أبا زيد الأنصاري والأصمعي وغيرهما ممن أدركه أنكروا(4/440)
التأنيث وقالوا: هو مذكر، وربما أنث في الشعر على معنى الشفرة وأنشد الفراء:
بِسِكِّين مُوَثَّقَةِ النِّصابِ......
ولذا قال الزجاج: السكين مذكر وربما أنث بالهاء لكنه شاذ غير مختار (والحلوب) بفتح الحاء المهملة وضم اللام (ذات اللبن) قال في «المصباح» : فإن جعلتها اسماً أتيت بالهاء فقلت: هذه حلوبة فلان مثل الركوب (والسؤال عن هذا النعيم) المؤكد بالقسم واللام، وذلك لاستبعادهم له فإنه من حاجة جافة، لا من شهوة وحظ نفس (سؤال تعداد النعم) والامتنان بها وإظهار الكرامة بإساغتها، زاد في «الشمائل» : ظل بارد ورطب وماء بارد (لا سؤال توبيخ) وفي «المصباح» وبخته توبيخاً: لمته على سواء فعله وعنفته وعتبت عليه، كلها بمعنى. وقال الفارابي: عيرته. وقال الجوهري: التوبيخ التهديد: أي لعدم القيام بشكرها (وتعذيب) أي يتسبب عن كفرانها وعدم شكرها لأن ذلك غير كائن للصاحبين فيما تتناولاه حينئذ. قال ابن القيم: كل أحد يسأل عن تنعمه الذي كان فيه هل ناله من حل أو لا؟ وإذا خلص من ذلك يسأل هل قال بواجب الشكر فاستعان به على الطاعة أو لا والأول سؤال عن سبب استخراجه، والثاني عن محل صرفه اهـ. وإنما ذكر المصطفى ذلك إرشاداً للآكلين والشاربين في حفظ أنفسهم في الشبع عن الغفلة باشتغال أحدهم بحظ نفسه ونعمتها عن تذكر الآخرة (وهذا الأنصاري الذي أتوه هو أبو الهيثم) بهاء مفتوحة وسكون التحتية وفتح المثلثة: كنية مالك (ابن التيهان) بفتح الفوقية وتشديد التحتية الأنصاري الأوسي أحد النقباء (كذا جاء مبيناً في رواية الترمذي) من حديث أبي هريرة نفسه، رواه كذلك في «جامعه» وفي «الشمائل» ، وورد في رواية أخرجها الحافظ ابن حجر العسقلاني في «تخريج أحاديث الأذكار» من حديث ابن عباس أنهم انطلقوا إلى دار أبي أيوب الأنصاري وساق القصة بنحوه وفي آخره: «إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا: بسم الله وببركةالله، وإذا شبعتم فقولوا: الحمد الذي أشبعنا وأروانا وأنعم علينا وأفضل فإن هذا كفاف هذا» وذكر بقية الحديث، وحسن الحافظ الحديث وقال: وفيه غرابة من وجهين: ذكر أبي......
أيوب والمشهور في هذا قصة أبي الهيثم، والثاني ما في آخره من التسمية والحمد اهـ. وفي «أشرف الوسائل» في رواية عند الطبراني وابن حبان أنهم جاءوا إلى أبي أيوب، ولا مانع في أنهما قصتان اتفقتا لهم مع كل(4/441)
واحد منهما، ورواية مسلم رجلاً من الأنصار محتملة لهما اهـ. وكأن المصنف جزم بكونه أبا الهيثم لكون رواية الترمذي عن الصحابي الذي رواه عنه مسلم والله أعلم (وغيره) كابن ماجه فعنده أيضاً اذهبوا إلى بيت أبي الهيثم بن التيهان وكابن أبي عاصم في كتاب الأطعمة والحاكم كما أشار إليه الحافظ في تخريجه لأحاديث الأذكار في «أماليه» عليها.......
8 - (وعن خالد بن عمر) بضم العين وفتح الميم والراء كذا وقفت عليه في نسخ متعددة من الرياض وهو من تحريف الكتاب إنما هو «عمير» بالتصغير (العدوي) بفتح المهملتين وهي نسبة إلى عدي بفتح فكسر، والمنسوب إليه كذلك متعدد في المهاجرين وفي الأنصار وفي غيرهم كما في «لب اللباب» للأصفهاني، وخالد هذا بصري. قال الحافظ العسقلاني في «التقريب» : مقبول من كبار التابعين، يقال: إنه مخضرم، وهم من ذكره في الصحابة، روى عنه مسلم والترمذي في «الشمائل» وابن ماجه اهـ. قلت: قضيته أن الترمذي لم يرو عنه في «الجامع» لكن في «الأطراف» للحافظ المزي أن حديث الباب رواه الترمذي في صفة جهنم من «جامعه» وفي «شمائله» وأشار بقولهم «وهم الخ» إلى الحافظ ابن عبد البر فإنه ذكره في «الاستيعاب» (قال خطبنا عتبة) بضم المهملة وسكون الفوقية بعدها موحدة فهاء تأنيث (ابن غزوان) بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي ابن وهب بن نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف بن مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان أبو عبد الله. ويقال أبو غزوان، قال الحاكم قال الواقدي: كان عتبة طوالاً جميلاً قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة وكان من الرماة المذكورين، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة أحاديث هذا أشهرها، وليس له في الكتب الستة سواه. وروى له الحاكم أن النبي قال يوماً لقريش: «هل فيكم أحد غيركم؟» قالوا: ابن أختنا عتبة بن غزوان قال النبي: «ابن أخت القوم منهم» ثم قال: غريب جداً. قال في «تلخيص المستدرك» : إسناده مظلم. قال الشيخ أبو العباس القرطبي: عتبة مازني حليف لبني توفل قديم الإسلام، هاجر وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدراً والمشاهد كلها. أمّره عمر على جيش فتوجه إلى العراق وفتح الأبلة والبصرة بموضع يقال له: معدن بني سليم، قاله ابن سعد. ويقال: إنه مات بالربذة، قاله ابن المدائني كذا في «الديباجة» للدميري (وكان(4/442)
أميراً على البصرة) بتثليث
الموحدة كما حكاه الأزهري وأفصحهن الفتح وهو المشهور، ويقال له: البصيرة بالتصغير، والمؤتفكة لأنها ائتفكت بأهلها في أول الدهر: أي انقلبت. قال صاحب «المطالع» : قال أبو سعيد السمعاني: يقال للبصرة قبة الإسلام وخزانة العرب، بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر سنة سبع عشرة وسكنها الناس سنة ثماني عشرة، ولم يعبد الصنم قط على أرضها اهـ. وهذا يصح كونها من جملة مثول القول والمحكي بالقول مجموع الجمل، ويحتمل كونها في محل الحال من فاعل خطب بإضمار قد (فحمد الله) أي أثنى عليه بالأوصاف الأزلية الثبوتية (وأثنى عليه) بسلب ما لا يليق به سبحانه في الثناء ويصح كونهما بمعنى وعطفهما مع كونهما كذلك لاختلافهما لفظاً إيماء إلى أنه أطنب في الثناء على مولاه سبحانه كما يدل عليه قوله (ثم قال) والأول أولى لأن التأسيس خير من التأكيد، والفاء في قوله فخطب كالفاء في نحو توضأ زيد فغسل وجهه الخ للترتيب الذكري لا للترتيب في الزماني بأن يراد أراد الخطبة وأراد الوضوء والإرادة سابقة على فعله والله أعلم. (أما بعد) أتى بها اقتداء به فقد كان يأتي بها في خطبة، وذكر الحافظ في «الفتح» أن الرهاوي أخرجها من أربعين طريقاً عنه (فإن الدنيا قد آذنت بصرم) لتحول أحوالها الدال على حدوثها، وكل ما ثبت حدوثه وجب قبوله للعدم قال الشاعر:
وإن افتقادي واحداً بعد واحد
دليل على ألا يدوم خليل
(وولت حذاء) أي منقطعة، ومنه قال للقطة حذاء: أي منقطعة الذنب قصيرته، ويقال: حمار أحذّ: إذا كان قصير الذنب، حكاه أبو عبيدة، وهذا مثل فكأنه قال: إن الدنيا قد انقطعت مسرعة (ولم يبق منها إلا صبابة) لأنه قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بإصبعيه الوسطى والمسبحة (كصبابة الإناء يتصابها بها صاحبها وإنكم منتقلون عنها) إذ هي دار ارتحال وانتقال (إلى دار لا زوال لها) ولا ارتحال عنها (فانتقلوا) أي من الدنيا (بخير ما بحضرتكم) أي بكسب صالح الأعمال وادخار الحسنات عند المولى سبحانه، جعل الخير المتمكن منه في الحياة كالحاضر المحتاج إليه في المآل، فصاحب الحزم يدخر منه حاجته لينتفع به عند(4/443)
احتياجه إليه، وهذا كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك، وبين الداعي لاستعداد الزاد وادخاره ليوم المعاد بما ورد من الترهيب والترغيب فقال على سبيل الاستئناف البياني (فإنه قد ذكر لنا) ببناء ذكر للمجهول، وحذف الفاعل للعلم به أنه المصطفى لأن الصحابي الذي لم يخالط كتب أهل الكتاب لا سبيل له إلى معرفة ذلك إلا من قبله، وقد ذكر علماء الأثر أن من الموقوف لفظاً المرفوع حكماً قول الصحابي: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا بالبناء للمجهول فيهما، وجوز في «الديباجة» أن ذلك ذكر له عن النبي ولم يسمعه هو منه وسكت عن رفعه إما نسياناً أو لأمر اقتضاه ومراده الرفع لفظاً لما ذكرناه، قال: ويحتمل أن يكون سمعه منه وسكت عن رفعه للعلم به اهـ (أن الحجر) أل فيه للجنس، والحجر معروف. قال ابن النحوي في لغات «المنهاج» : جمعه في أدنى العدد أحجار، وفي الكثرة حجار، والحجارة نادر وهو كقولنا حمل وحمالة وذكر وذكارة، كذا قال ابن فارس والجوهري ورد عليهما القرطبي بأن في القرآن «فهي كالحجارة، وإن من الحجارة، كونوا حجارة، ترميهم بحجارة، وأمطرنا عليهم حجارة» فكيف يكون نادراً إلا أن يريد أنه نادر في القياس كثير في الاستعمال فيصح ا
هـ. وذلك لأن ما كان كذلك وعكسه يقع في الفصيح بخلاف ما خالفهما معاً فمردود (يلقى من) ابتدائية (شفير جهنم) أي حرفها. وشفير كل شيء حرفه أيضاً كالبئر والنهر كذا في «المصباح» وفي «الديباجة» حرفها الأعلى كل شيء أعلاه وشفيره، ومنه شفير العين، وجهنم قيل: اسم أعجمي، وقيل: عربي مأخوذ من قولهم: بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر، وعلى كل فهي ممنوعة الصرف للعجمة أو التأنيث المعنوي مع العلمية، وهو اسم لنار الآخرة: نسأل الله العافية منها ومن كلا بلاء (فيهوي) بكسر الواو، أي ينزل (فيها سبعين) منصوب على الظرفية الزمانية: أي في قدر سبعين (عاماً لا يدرك) بالبناء للفاعل: أي لا يصل والإسناد فيه مجازي والحقيقي لا يوصله الله (لها قعراً) بفتح القاف وسكون العين وهو كما في «المصباح» أسفل الشيء وجمعه قعوراً اهـ (وا لتملأن) بالبناء للمجهول للعلم بالفاعل سبحانه أكد بالقسم وباللام دفعاً لما قد يقصر العقل عن إدراكه من ملء ما لا يقطع مدى الوصول إلى قعره سبعين عاماً فما بالك بعرضه وكمال سعته: أي وإذا كان كذلك وتمتلىء عن آخرها فاحذروا من مخالفته سبحانه لئلا توبقكم المخالفة وتوقعكم فيها المعصية، غفر الله لنا ذنوبنا وستر عيوبنا بمنه وكرمه وبما كان ما ذكره أمراً عظيماً جداً قال على وجه التقرير (أفعجبتم) أي من هذا الأمر الدال على عظم قدرة الله سبحانه وكمال جلاله وقوة انتقامه وتقدم أن في(4/444)
ذلك قولين أحدهما: أن التقدير أسمعتم فعجبتم فالفاء عاطفة على مقدر بعد الألف، والثاني: أن ألف الاستفهام من جملة المعطوف وقدمت لصدارتها لتضمنها الاستفهام، ولما حصل عند الحاضرين من مزيد الرهبة وعظيم الخوف مما سمعوه حتى كادوا أن يظنوا عموم العذاب لجميعهم، أراد رفع ذلك عنهم وإدخالهم في ميدان الرجاء إعلاماً بسعة رحمة الله تعالى وكمال فضلة، فأكد ذلك بالقسم المقدر الدال عليه اللام في قوله: (ولقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين) بكسر الميم
تثنية مصراع، ومصراع الباب ما بين عضادتيه وهو ما يسده الغلق كذا في «المفهم» للقرطبي، وفي «المصباح» : المصراع من الباب الشطر وهما مصراعان (من مصاربع الجنة مسيرة أربعين عاما) برفع مسيرة خبر أن، وإذا كان هذا سعة الباب وأبوابها ثمانية وبين كل بابين خمسمائة عام كما تقدم في حديث: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام» فما بالك بسعة باطنها ويكفيك في ذلك قوله تعالى:
{وجنة عرضها السموات والأرض} (آل عمان: 133) والعادة جارية أن الطول أزيد من العرض، فسبحان المنعم المتفضل (وليأتين عليها) أي الجنة (يوم) هو وقت دخولها (وهو) أي المصراع أن محله من الباب (كظيظ من الزحام) وذلك ما يدل على كثرة الداخلين بعموم الرحمة ومزيد الفضل ففي الحديث إيماء إلى أن المكلف ينبغي له أن يكون عنده حال الصحة خوف من مولاه سبحانه ورجاء لفضله إحسانه بقبول ما يعمله من صالح العمل. والزحام بكسر الزاي مصدر زاحمه: أي دافعه (ولقد رأيتني) قال في «أشرف الوسائل» هي بصرية وقوله: (سابع سبعة) حال: أي واحداً من سبعة، قال: لكن قضية قوله: يعني في رواية الترمذي فقسمتها بيني وبين سبعة» أنه ثامن، لكن قوله: أولئك السبعة يدل للأول وأن المراد بقوله سبعة: أي بقية سبعة اهـ. ولا يشكل على كونها بصرية اتحاد ضمير فاعلها ومفعولها وذلك من خصائص أفعال القلوب، وعبارة «الكافية» لابن الحاجب، ومنها: أي خصائص أفعال القلوب أنه يجوز أن يكون فاعلها ضميرين لشيء واحد مثل علمتني منطلقاً، قال شراحها: والعبارة للمحقق الجامي، ولا يجوز ذلك في سائر الأفعال فلا يقال: ضربتني ولا شتمتني بل يقال: ضربت نفسي، وذلك لأن أصل الفاعل أن يكون مؤثراً والمفعول به متأثراً، وأصل المتأثر أن يغاير المؤثر، فإن اتحدا معنى كره اتحادهما لفظاً فقصد مع اتحادهما معنى تغايرهما لفظاً بقدر الإمكان، فمن ثم قالوا: ضربت نفسي ولم يقولوا: ضربتني، فإن الفاعل
والمفعول فيه ليسا بمتغايرين(4/445)
بقدر الإمكان لاتفاقهما من حيث إن كل واحد منهما ضميراً متصلاً، بخلاف ضربت نفسي فإن النفس بإضافتها إلى ضمير المتكلم صارت كأنها غيره لغلبة مغايرة المضاف إليه فصار الفاعل والمفعول فيه متغايرين بقدر الإمكان، وأما أفعال القلوب فإن المفعول به ليس المفعول الأول في الحقيقة بل مضمون الجملة، فجاز اتفاقهما لفظاً لأنهما ليسا في الحقيقة فاعلاً ومفعولاً به اهـ. لكن ألحق بأفعال القلوب في ذلك رأي البصرية، قال الشاعر:
ولقد أراني للرماح دريئة
والحلمية كقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} (يوسف: 36) وقوله: (مع رسول الله) حال من فاعل رأى، ويصح كونها لغواً متعلقاً برأي، وقوله: (ما لنا طعام إلا ورق الشجر) يحتمل أن تكون في محل الحال من فاعل رأى، وأن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لكيف كنتم معه، وقوله: (حتى قرحت أشداقنا) غاية لمقدر: أي فأكلناه إلى أن قرحت جوانب أشداقنا جمع شدق بكسر الشين المعجمة كحمل وأحمال، ويقال: شدق بفتح المعجمة وجمعه شدوق كفلس وفلوس (فالتقطت بردة) أي عثرت عليها من غير قصد وطلب، وهي شملة مخططة وقيل: كساء أسود مربع، وقال القرطبي: البردة الشملة، والعرب تسمي الكساء الذي يلتحف به بردة، والبرد بغير تاء نوع من ثياب اليمن (فشققتها بيني وبين سعد بن مالك) هو ابن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة (فاتزرت) بتشديد الفوقية (بنصفها واتزر سعد بنصفها) وفي الترمذي فشققتها بيني وبين سعد كما تقدم، ثم مبادرته بشقها عقب التقاطها كما تؤذن به الفاء، إما لعلمه برضا صاحبها وإما بإعراضه عنها لسقوطها وتمزقها، أو لمعرفته بمالكها فإنه يرضى بذلك، أو كان قبل وجوب تعريف اللقطة (فما أصبح) أي صار (اليوم منا أحد) اسم أصبح والظرف قبله حال منه وكان صفة له فقدم عليه فصار حالاً (إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار) أشار به إلى اتساع الحال عليهم بعد ضيقه أولاً، زاد في آخر الحديث: وسيخربون الأمراء بعدنا: أي ليسوا مثلنا من جهة العدالة والديانة والإعراض عن الدنيا وكان الأمر على ذلك، وأشاروا إلى الفرق بأنهم رأوا معه ما كان سبباً لرياضتهم وتقللهم من الدنيا فمضوا على ذلك وغيرهم ممن بعدهم ليس كذلك، فلا يكون إلا على قضية طبعه المجبول على الخلق القبيح (وإني(4/446)
أعوذ) أي اعتصم (با) من (أن أكون في نفسي عظيماً) بأن يوهمني ذلك الشيطان والنفس (وعند الله صغيراً) لا يقبل علي بالفضل والإحسان، ولا ينصب لعملي وزن إذا نصب الميزان، قال: «يجاء يوم القيامة
بالرجل العظيم لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} أو كما قال: (رواه مسلم) أواخر «صحيحه» ورواه الترمذي في «جامعه» وفي «شمائله» إلا أنه لم يسق منه فيها إلا من قوله: «لقد رأيتني سابع سبعة» الخ، وأشار إلى باقي الحديث، ورواه النسائي في «الرقاق المفتوحة» ورواه ابن ماجه في الزهد مختصراً.
(قوله: آذنت هو بمد الهمزة) أي وبالذال المعجمة المفتوحة (أي أعلمت) عبارة القرطبي: أي أشعرت وأعلمت وحذف المصنف الأول لإغناء الثاني عنه.
(وقوله: بصرم بضم الصاد) أي المهملة وسكون الراء (أي بانقطاعها وفنائها) الأولى بانقطاع وفناء كما عبر به القرطبي وتبعه في «الديباجة» لأن المفسر غير مضاف إليها وإن كان الكلام فيها.
(وقوله: وولت حذاء) و (هو بحاء مهملة مفتوحة ثم ذال معجمة مشددة ثم ألف ممدودة: أي سريعة) هذا تفسير للحذاء لا لمجموع المحكي كما قد توهمه عبارته، ولو قال: أي أدبرت سريعة أو قال حذاء: أي سريعة لسلم من ذلك الإيهام إلى أن يسامح زيادة في الإيضاح كما هي عادته من بذل النصيحة جزاه الله خيراً، وفي «المصباح» : الأحذّ المقطوع الذنب. وقال الخليل: الأحذّ الأملس الذي ليس مستمسكاً لشيء يتعلق به والأنثى حذاء (والصبابة بضم الصاد المهملة) وهو بموحدتين خفيفتين بينهما ألف (وهي البقية اليسيرة) كذا في الأصول بإثبات الواو على أن الخبر الظرف السابق على الجملة وهي معطوفة عليه، ثم قوله: البقية غير مقيدة بشيء هو ما قاله غيره ومنهم القرطبي والدميري، وبه يعلم أن قول «المصباح» الصبابة بالضم بقية الماء مراده به التمثيل لا التقييد. قال القرطبي: والصبابة بالفتح: رقة الشوق ولطيف المحبة اهـ.
(وقوله يتصابها) بفتح التحتية والفوقية (وهو يتشديد الموحدة) من باب التفاعل فأدغمت الموحدة في مثلها (قبل الهاء أي يجمعها) قال القرطبي: أي يروم صبها على قلة الماء: أي مثلاً وضعفه (والكظيظ) بفتح الكاف وكسر الظاء المعجمة الأولى وسكون التحتية بينهما (الكثير) بالمثلثة (الممتلىء) يقال: كظة الشر فهو كظيظ، وفي «النهاية»(4/447)
حديث عتبة في باب الجنة «وليأتين عليه يوم وهو كظيظ» أي ممتلىء، والكظيظ الزحام اهـ. 6 ومثله في «مجمع البحار» نقلاً عنها، وكأنه أشار بذلك إلى أنه مشترط بين الممتلىء والزحام: أي ذي الزحام لأنه تفسير الوصف، والله أعلم.
(وقوله: قرحت هو بفتح القاف وكسر الراء) وبالحاء المهملة (أي صار فيها قروح) بضمتين جمع قرح بفتح القاف وضمها، وفي «النهاية» قيل: بالفتح المصدر وبالضم اسم مصدر وبضم أوليه أيضاً، ولم يذكر المصنف في «تحريره» سوى فتح القاف وضمها وقال: إنه الجرح، وقال غيره: إنه كالجدري، وفي «مفردات الراغب» : القرح الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من خارج، والقرح أثرها من داخل كالبثرة ونحوها، ونقل ابن عطية في «تفسيره» قرح بفتح القاف وضمها، وإسكان الراء، ثم قال: قال أبو علي: هما لغتان كالضعف والضعف، والفتح أولى لأنه لغة أهل الحجاز، وقال الأخفش: هما مصدران بمعنى واحد، ومن قال القرح بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألمها قبل منه إذا أتي برواية، لأن هذا مما يعلم بقياس، وقرأ ابن السميقع بفتح القاف والراء، قال الزمخشري: كالطرد والطرد، قال أبو البقاء: وبضمها على الاتباع كاليسر واليسر اهـ من لغات «المنهاج» لابن النحوي.
9 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أخرجت لنا عائشة كساء) بكسر الكاف وبالسين المهملة والألف الممدودة، زاد البخاري ملبداً وعندهما بلفظ كساء من التي يسمونها الملبدة (وإزاراً) بكسر الهمزة وبالزاي ثم الراء بينهما ألف اسم لما يستر أسافل البدن (غليظاً) أي ثخيناً، وفي رواية لمسلم: «أخرجت إلينا عائشة كساء وإزاراً ملبداً» وإخراجها ذلك لتبيين إعراضه عن الدنيا إلى مفارقته لها ونقلته لحضرة مولانا سبحانه وتهييجاً للمقتدين به المتبعين سبيله على ذلك، ولذا (قالت: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين) زاد مسلم في رواية له: «الثوبين» (متفق عليه) رواه البخاري في الخمس وفي اللباس، ومسلم في(4/448)
اللباس، ورواه أبو دواد والترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي كلهم في اللباس من «سننهم» ، ثم الذي في الكتب المذكورة أن الحديث عن أبي بردة بن أبي موسى قال: أخرجت إلينا عائشة، ولا ذكر فيها لأبي موسى والذي وقفت عليه من نسخ الرياض عن أبي موسى كما شرحته، وهو إن لم يكن من تحريف الكتاب سبق قلم من الشيخ بلا ارتياب.
10 - (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إني لأول العرب ممن رمى بسهم في سبيل ا) وذلك في بعث حمزة وعبيدة بن الحارث وهي ثاني سرية في الإسلام. وقيل: بل هي أول سرية فيه، وجرى عليه السيوطي في «أوائله» ، وقد جزم به الحافظ في «الفتح» ، وفيها كما روى ابن إسحاق وغيره، ما لفظه: «ولم يكن بينهم: يعني المسلمين والكفار قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمى به في الإسلام» وفي «أوائل» السيوطي: «أول من أراق دماً في سبيل الله سعد بن أبي وقاص» أسنده العسكري وهو أول من رمى بسهم في سبيلالله، أخرجه ابن سعد وابن أبي شيبة عنه، وأنه قال في ذلك:
ألا هل أتى رسول الله أني
حميت صحابتي بصدور نبل
أذود بها عدوهم ذياداً
بكل حزونه وبكل سهل
فما يعتمد رام من معدّ
بسهم قبل رسول الله قبلي
(ولقد كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لنا طعام إلا ورق الحبلة) جملة النفي في محل الحال من فاعل نغزو (وهذا السمر) قال القرطبي: عند عامة الرواة بحذف الواو: أي على أنه بيان ورق الحبلة، وعند الطبراني والتميمي: وهذا السمر بواو، ووقع عند البخاري إلا الحبلة وورق السمر، وكذا ذكره أبو عبيد، ورواية البخاري أحسنها لأنه بين فيها أنهم كانوا يأكلون ثمر العضاة وورق الشجر السمر (حتى) غاية لكون طعامهم ذلك (إن) مخففة من الثقيلة (كان أحدنا ليضع) كناية عن الغائط، وفي بعض طرقه «يبعر» (كما تضع الشاة) أي من البعر ليبسه وعدم ألفة المعدة له، وهذا كان سنة ثمان في غزوة الخبط وأميرهم أبو عبيدة، وسيأتي في الأصل إن شاء الله تعالى، وعليه، فالمراد بالمعية التبعية حكماً، ويحتمل أن تكون المعية على ظاهرها، وأن ذلك في غزوة أخرى غزاها سعد مع النبي لما في «الصحيحين» «بينا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لنا طعام إلا الحبلة» ذكره في(4/449)
«أشرف الوسائل» (ما له خلط) بكسر الخاء المعجمة: أي لا يختلط بعضه ببعض من شدة جفافه ويبسه، وهذا باعتبار ما كانوا عليه من الضيق أول الإسلام وامتحاناً ليظهر صدق ثباتهم.
لولا اشتعال النار في جزل الغضا
ما كان يعرف طيب نشر العود
(متفق عليه) رواه البخاري في فضل سعد في الأطعمة، وفي «الرقائق» ومسلم في أواخر كتابه، ورواه الترمذي في الزهد وقال: حسن غريب، والنسائي في المناقب وابن ماجه في السنة، كذا في «الأطرف» للمزي (الحبلة بضم الحاء المهملة وإسكان الباء الموحدة، وهي والسمر) بفتح فضم، قال في «المصباح» : شجر الطلح بضم الحاء وهو نوع من العضاة الواحد سمرة اهـ (نوعان معروفان من شجر البادية) قال القرطبي: الحبلة شجر العضاة، وقال ابن الأعرابي: ثمرة السمر شبه اللوبيا، وذكرهما في «النهاية» مقدماً الثاني فيهما من غير عزو لابن الأعرابي حاكياً للأول بقيل.
11 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: اللهم اجعل رزق) بكسر الراء مصدر بمعنى المفعول: أي من ينتفعون به مأكلاً ومشرباً وملبساً (آل محمد) جاء عند بعض رواته زيادة في «الدنيا» بل قضية كلام «الجامع الصغير» أنه كذلك عند مسلم، ولم أره كذلك عند مسلم إنما الحديث فيه بحذفه. قال الثعالبي في «تفسير الجواهر الحسان» : وعندي أن المراد بآل محمد هنا متبعوه (قوتاً. متفق عليه) أي بالمعنى وإلا فاللفظ لمسلم في إحدى رواياته، ولفظ البخاري وهو عند مسلم أيضاً (اللهم ارزق آل محمد قوتاً» ) قال الحافظ في «الفتح» بعد ذكر لفظ المذكور في «المتن» وهو المعتمد كون اللفظ الأول صالحاً لأن يكون دعاء بطلب القوت في ذلك اليوم، وأن يكون طلبه لهم دائماً، بخلاف لفظ مسلم فإنه يعين الاحتمال الثاني وهو الدال على الكفاف والحديث، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه كما في «الأطراف» (قال أهل اللغة) هم الحاكمون(4/450)
لمعاني المفردات عن العرب (والغريب) هم المتكلمون على مفردات الكتاب والسنة (معنى قوتاً: أي ما يسد الرمق) في «المصباح» القوت ما يؤكل ليمسك الرمق. وقال القرطبي: معنى الحديث طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، ولم يظهر وجه إدخال: أي بين المفسر والمفسر، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعاً.
12 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وا الذي لا إله إلا هو) أتى به لتأكيد ما بعده في ذهن سامعه (إن) مخففة إني (كنت لأعتمد بكبدي) بفتح الكاف وكسر الموحدة أفصح من فتح الكاف وكسرها مع سكون الموحدة (على الأرض) أي ألصق بطني بها (من الجوع) من فيه تعليلية، وكأنه كان يستفيد بذلك ما يستفيده من شده الحجر على بطنه، ويحتمل أن يكون كناية عن سقوطه إلى الأرض مغشياً عليه كما سيأتي في الحديث عنه عقب هذا: «لقد رأيتني وإني لأخرّ فيما بين منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة مغشياً عليّ» الحديث (وإني كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع) كعادة العرب وأهل الرياضة أو أهل المدينة كانوا يفعلون ذلك إن خلت أجوافهم لئلا تسترخي أمعاؤهم فتثقل عليهم الحركة، وبربط الحجر تشتد البطن والظهر فتسهل عليهم الحركة حينئذ. وقبل حكمة شده أنه يسكن بعض ألم الجوع، لأن حرارة المعدة الغريزية ما دامت مشغولة بالطعام فتلك الحرارة به، فإذا نفذ اشتعلت برطوبات الجسم وجوهره فيحصل التألم حينئذ ويزداد ما لم يضم على المعدة الأحشاء والجلد، فإن نارها حينئذ تخمد بعض الخمود فيقل الألم. وقيل: يفعل ذلك لأن البطن إذا خلا ضعف صاحبه عن القيام لتقوس ظهره، فاحتيج لربط الحجر ليشده ويقيم صلبه (ولقد قعدت على طريقهم) قال في «المصباح» : يذكر في لغة نجد وبه جاء قوله تعالى: {فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً} (طه: 77) ويؤنث في لغة الحجاز. قلت: وعدم تأنيث يبساً لكونه مصدراً وصف به كما ذكر البيضاوي في «التفسير» ، قال في «المصباح» :(4/451)
وجمعه طرق، وقد يجمع عن لغة التذكير على أطرقه والضمير يرجع إلى المارة المدلول عليه بالمضاف (الذي يخرجون منه) أي إلى مطالبهم، وذلك لئلا يفوتوه (فمرّ بي النبيّ) قبله في البخاري مرور أبي بكر وعمر، وأنه سأل كلا منهما عن آية وقصد بالسؤال التعرض للنوال فلم يقع، وسكت عنه المصنف لعدم تعرض غرض الباب به، إذ غرضه التحريض على
الزهد في الدنيا والإعراض عما تدعو إليه الضرورة بالمرة، وهذا الخبر وأمثاله يدل عليه، إذ لو كان حاله بخلاف ذلك لما بلغ حال أصحابه في الفقر إلى ما ذكر في الخبر لما علم من كمال كرمه وإيثاره على نفسه (فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي) أي مما يدل على ما في نفسي (وما في نفسي) أي من الاحتياج إلى ما يسد الرمق، ووقع عند بعض رواة البخاري بأو التي للشك بدل الواو في قوله: «وما» قال في «الفتح» استدل أبو هريرة بتبسمه على أنه عرف ما به لأن التبسم يكون لما يعجب وتارة يكون لإيناس من تبسم إليه ولم تكن لك الحالة معجبة فقوي الحمل على الثاني (ثم قال يا أبا هر) بتشديد الراء، قال في «الفتح» : وهو من رد الاسم المؤنث إلى المذكر والمصغر إلى المكبر، فإن كنيته في الأصل أبو هريرة تصغير هرة مؤنثاً، وأبو هرّ مذكر مكبر، وذكر بعضهم أنه يجوز فيه تخفيف الراء مطلقاً فعلى هذا فيسكن (قلت: لبيك يا رسول الله) هذه رواية علي بن مسهر بإثبات حرف النداء، وعند باقي الرواة له بحذفه أي إجابة بعد إجابة (قال الحق) بهمزة وصل وفتح الحاء المهملة أي اتبع (ومضى) أي إلى سبيل بيته (فاتبعته) بتشديد الفوقية، زاد في رواية علي بن مسهر: فلحقته، وفي «تفسير البغوي» أتبع بقطع الهمزة معناه أدرك وألحق، واتبع بتشديد التاء معناه سار، يقال: ما زالت أتبعه حتى اتبعته: أي ما زال أسير خلفه حتى أدركته ولحقته (فدخل) زاد علي بن مسهر إلى أهله (فاستأذن) قال في «الفتح» : بهمزة بعد التاء والنون مضمومه فعل المتكلم، وعبر عنه بذلك مبالغة في التحقق لأنه حكاية حال ماضية، ففيه الإشارة لكمال استحضاره لها حتى كأنه يخبر عن حاضر عنده وفي رواية ابن مسهر: فاستأذنت بضمير المتكلم (فأذن لي) يحتمل أن يقرأ بالبناء للفاعل: أي النبيّ،(4/452)
وأن يقرأ بالبناء للمفعول ما لم تكن رواية فيوقف عندها (فدخل) قال في «الفتح» كذا فيه، وهو إما تكرار لهذه اللفظة لوجود الفصل أو التفات (فوجد لبناً
في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟) .
وفي رواية ابن مسهر من أين لكم؟ (قالوا: أهداه فلان أو فلانة) كذا بالشك قال في «الفتح» : ولم أقف على اسم من أهداه، وفي رواية روح: «أهداه لنا فلان آل فلان أو آل فلان» وفي رواية: «أهداه لنا فلان» (قال: أبا هرّ قلت: لبيك يا رسول الله) بإثبات حرف النداء عند جميع رواه البخاري (قال: الحق إلى أهل الصفة) ضمن الحق معنى انطلق فلذا عداه بإلى، وقد وقع في رواية روح بدله: انطلق (فادعهم لي، قال) أي أبو هريرة وسقط من رواية روح ولا بد منها فإن قوله: (وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد) إلى آخر مايأتي من بيان شأنهم من كلام أبي هريرة شرح به حال أهل الصفة والسبب الداعي لدعائهم، وأنه كان يخصهم بالصدقة ويشركهم فيما يأتيه من الهدية. ووقع في رواية يونس ما يشعر بأن أبا هريرة كان منهم، وقد عدّه فيهم السخاوي في مؤلفه في أهل الصفة. والصفة بناء في مؤخر المسجد منزل فقراء المهاجرين مما لا مال له، ولا معارف بالمدينة، وقد تقد فيهم بيان قبل هذا في باب فضل الزهد في الدنيا، ووقع هكذا في الرواية: لا يأوون على أهل والكثير «إلى» بدل «على» وقوله: ولا على أحد تعميم بعد تخصيص فيشمل الأقارب والأصدقاء وغيرهم، وجملة ولا يأوون في محل الحال (وكان إذا أتته صدقه بعث بها إليهم ولم يتناول) وفي رواية روح ولم يصب (منها شيئاً) أي لنفسه وزاد روح ولم يشركهم فيها لحرمة الصدقة عليه لعلو مقامه (وإذا أتته هدية أرسل إليهم) أي ببعضها كما يدل عليه قوله: (وأصاب منها وأشركهم فيها) وهذه الجملة الأخيرة كالإطناب فيها إيماء إلى أنه يجعل لهم منها حظاً وافراً، وأما هو في نصيبه منها فلا يستكثر إيثاراً، والجملة الشرطية وما عطف عليها مستأنفة فيها بيان معاملته معهم واعتنائه بأمرهم، وما ذكر من بعث الصدقة وبعث الهدية لأهل الصفة هو أحد أحواله معهم، وتارة كان إذا أتاه شيء(4/453)
وقيل له إنه صدقة أمر من عنده بأكله ولم يأكل منه، وإن قيل: إنه هدية ضرب بيده وأكل منه، وحمل على أن هذا كان قبل بناء الصفة وكان يقسم الصدقة فيمن يستحقها ويأكل الهدية فيمن حضر من أصحابه، ويحتمل أن يكون باختلاف حالين فيحمل حديث الباب على ما إذا لم يحضره أحد فإنه يرسل ببعض الهدية إلى أهل الصفة أن يدعوهم كما في قصة الباب، وإن حضر أحد شركه في الهدية وإن كان هناك فضل أرسل به إلى أهل الصفة أو دعاهم، ووقع في حديث أحمد عن طلحة بن عمر: نزلت في الصفة مع رجل كان بيني وبينه كل يوم مدّ من تمر وهو محمول على اختلاف الأحوال، كان أولاً ينزل إلى أهل الصفة مما حضره أو يدعوهم أو يفرقه على من حضر إن لم يحضر ما يكفيهم، فلما فتحت فدك وغيرها صار يجري عليهم من التمر في كل يوم ما ذكره اهـ ملخصاً من «الفتح» (فساءني) بالمد: أي أحزنني (ذلك) أي قوله: ادعهم لي لمزيد ضرورتي وشدة فاقتي ظن أن ذلك اللبن لا يزيد عن حاجته كما هو مقتضى العادة فيه فلذا قال: (فقلت وما هذا اللبن) والواو عاطفة على محذوف والإشارة للتحقير (في أهل الصفة؟) وهم عدد كثير، وفي رواية: «وأين يقع هذا اللبن في أهل الصفة؟» (كنت أحق) أي أولى به (أن أصيب) وحذف المفضل عليه مجروراً بمن لدلالة السياق عليه: أي أولى منهم إصابة (من هذا اللبن شربة أتقوى بها) أي أصير ذا قوة من ضعف الجوع بسببها، يقال: تحجر الطين: أي صار حجراً، ويجوز أن يكون بمعنى المجرد: أي أقوى بها بعد الضعف (فإذا جاء) قال الحافظ في «الفتح» كذا فيه بالإفراد: أي من أمرني بطلبه، والأكثر جاءوا بصيغة الجمع اهـ، والموجود في بعض نسخ الرياض الوجه الثاني (أمرني) أي النبي (فكنت أنا أعطيهم) وكأنه عرف ذلك بالعادة لأنه كان يلازم النبي ويخدمه (وما عسى أن يبلغني) أي يصل إلى (من هذا اللبن) بعد أن يكتفوا منه، وقال الكرماني: لفظ عسى زائد، ووقع في رواية يونس بن بكير: «فيأمرني أن أديره عليهم وما عسى أن
يصيبني منه، وقد كنت أرجو أن أصيب منه ما يقيتني» : أي من جوع ذلك اليوم (ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد) أي محيد. قال في «المصباح» : لا بد من كذا: أي لا محيد عنه، ولا يعرف استعماله إلا مقروناً بالنفي اهـ. وذلك لأن شكر المنعم سبحانه واجب شرعاً وطاعة الرسول له سبحانه، قال تعالى:
{من يطع الرسول فقد أطاع ا} (النساء: 80) (فأتيتهم) أي عقب الأمر لي بدعوتهم وإن كان على خلاف هواي (فدعوتهم)(4/454)
قال الكرماني: وظاهر قوله: «فأتيتهم» أن الإتيان والدعوة وقعا بعد الإعطاء وليس كذلك، ثم أجاب أن معنى قوله: «فكنت أنا أعطيهم» عطف على جواب «فإذا جاءوا» ، فهي بمعنى الاستقبال، قال في «الفتح» : وهو ظاهر من السياق (فأقبلوا فاستأذنوا) أي سألوا الإذن في الدخول (فأذن لهم) بالبناء للفاعل كذا في النسخ: أي النبي، ولو قرىء بالبناء للمفعول لجاز لأن المدار على وجود الإذن من أي كان، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} (الأحزاب: 53) (فأخذوا مجالسهم) أي فقعد كل منهم في المجلس اللائق به (من البيت) أي بيت النبي وقد أمر بإنزال الناس منازلهم كما رواه مسلم في أول «صحيحه» عن عائشة معلقاً، قال الحافظ في «الفتح» : ولم أقف على عددهم إذ ذاك، قال أبو نعيم: عدد أهل الصفة يختلف بحسب الحال، فربما اجتمعوا فكثروا وربما تفرّقوا إما لغزو أو سفر أو استغناء فقلوا. ووقع في عوارف المعارف أنهم كانوا أربعمائة، وفي «المصباح» : المجلس: أي بفتح أوله وثالثه: مكان الجلوس والجمع مجالس. وقد يطلق على أهله مجازاً تسمية للحال باسم المحل اهـ (قال: يا أبا هرّ: قلت لبيك يا رسولالله، قال: خذ) أي قدح اللبن المدلول عليه بالسياق والسباق (فأعطهم، فأخذت القدح فجعلت) أي شرعت (أعطيه الرجل) والإتيان به حكاية للحال الماضية إشارة لكمال استحضار القصة، ولولا ذلك لقال فأعطيته الرجل، وأل في الرجل للجنس
(فيشرب حتى يروي ثم) فيه إيماء إلى طول شرب الرجل منهم، وذلك لمزيد الجوع وتمام الفاقة (يرد) بالبناء للفاعل (عليّ القدح فأعطيه) أي عقب رده (الآخر) أي الذي إلى جنبه، وهذه رواية يونس، وفي رواية علي بن مسهر «فجعلت أناول الإناء رجلاً رجلاً، فإذا روي أخذته فناولته الآخر حتى روي القوم جميعاً» ووقع في بعض نسخ البخاري: فأعطيته الرجل، وعليها شرح الحافظ كالكرماني فقال: أي الذي إلى جنبه، وهذا فيه أن المعرفة إذا أعيدت معرفة لا تكون عين الأولى. قال: والتحقيق أن ذلك لا يطرد بل الأصل أن تكون عينه إلا أن يكون هناك قرينة. قال الحافظ بعد ذكر اختلاف الروايات كما ذكرنا: وعليه فاللفظ المذكور من تصرف الرواة، فلا حاجة فيه لخرم القاعدة (فيشرب حتى يروي ثم يرد عليّ القدح) وقوله: (حتى(4/455)
انتهيت إلى النبي) أي فأعطيه غاية لمقدر: أي عممتهم أجمعين حتى انتهيت إليه (وقد روي القوم كلهم) جملة في محل الحال، وقد للتحقيق إيماء إلى أنه تحقق لهم الري المطلوب، وأكد القوم بكلهم دفعاً لتوهم أن المراد ري بعضهم (فأخذ القدح) أي وقد بقيت فيه فضلة من اللبن كما في رواية روح (فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم) قال الحافظ في «الفتح» : كأنه تفرس في أبي هريرة ما كان وقع في توهمه أنه لا يفضل له شيء من اللبن فلذا تبسم. قلت: ويجوز أن يكون قد اطلع على ذلك ككثير من المغيبات (فقال: أبا هر) كذا في رواية، وفي رواية ابن مسهر هنا وفيما ذكر أوله: «أبو هرّ» بالواو وهو على تقدير الاستفهام: أي أنت أبو هريرة أو على لغة من لا يعرب الكنية (فقلت: لبيك يا رسولالله، قال: بقيت أنا وأنت) كأنه بالنسبة لمن حضر من أهل الصفة، وأما من كان في البيت من أهل النبي فلم يتعرض لذكرهم، ويحتمل أن البيت إذ ذاك ما كان فيه أحد منهم، أو أخذوا كفايتهم، والذي في القدح نصيبه (قلت: صدقت يا رسول الله) وهذه الجملة والتي قبلها من باب لازم الخبر (قال: اقعد فاشرب) فيه أن اللبن كغيره من
المشروبات في استحباب الجلوس عند شربه، بخلاف المص للمشروب فإنه يستحب فيما عدا اللبن، أما هو فيعبه عباً لأن ما شرع له المص من خوف الشرقة به مفقود في اللبن لقوله تعالى:
{سائغاً للشاربين} (النحل: 66) قال الحافظ السيوطي: لم يشرق باللبن أحد أصلاً (فقعدت فشربت فما زال يقول لي: اشرب) أي لما علم من مزيد حاجته وشدة فاقته، ولأنه ربما يترك بعض حاجته ليبقى بعضه للنبي فأمره بذلك ليستوفي إربه، وظاهر أنه كرّر ذلك مراراً، والمذكور في أدب الضيافة أن المضيف يقول نحو ذلك للضيف إلى ثلاثة لا يجاوزها (حتى قلت: لا) المنفي محذوف: أي لا أشرب ثم علل ذلك على وجه الاستئناف البياني مؤكداً بالقسم بقوله: (والذي بعثك) أي أرسلك ملتبساً (بالحق لا أجد له مسلكاً) بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه المهمل بينهما: أي مكاناً يسلك فيه مني (قال فأرني) وفي رواية روح فقال:(4/456)
ناولني القدح (فأعطيته القدح فحمد الله تعالى) أي على ما منّ به من البركة في اللبن المذكور مع قلته حتى روي القوم كلهم وأفضلوا (وسمى) في ابتداء الشرب (وشرب الفضلة) أي البقية، وفي رواية روح: فشرب من الفضلة، وفيه إشعار بأنه بقي بعضه فإن كانت محفوظة فلعله أعدها لمن بقي بالبيت إن كان (رواه البخاري) في «الرقاق» من «صحيحه» ووقع في «الأطراف» أنه رواه في الاستئذان وهو وهم، إلا إن أراد أنه رواه كذلك مختصراً بنحوه في الباب المذكور كما نبهت عليه في حاشية كتاب «الأطراف» ، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» ، والنسائي في الرقاق من «سننه» .g وفي الحديث من الفوائد من علامات النبوة تكثير الطعام والشراب ببركته، وفيه جواز الشبع ولو بلغ أقصى غايته أخذاً من قول أبي هريرة لا أجد له مسلكاً، وتقرير النبيّ له على جوازه خلافاً لمن قال بتحريمه، والجمع بين ذلك وبين الأحاديث الواردة بالزجر عن الشبع بحمل الزجر على متخذ الشبع عادة لما يترتب عليه من الكسل عن
العبادة وغيرها، وحمل الجواز على من وقع له ذلك نادراً، لا سيما بعد شدة جوع واستبعاد حصول شيء بعده عن قرب.
تنبيه: قال في «الفتح» : وقع لأبي هريرة قصة أخرى في تكثير الطعام مع أهل الصفة. أخرج ابن حبان عن أبي هريرة قال: «أتت عليّ ثلاثة أيام لم أطعم، فجئت أريد الصفة فجعلت أسقط، فجعل الصبيان يقولون: جنّ أبو هريرة حتى انتهيت إلى الصفة، فوافقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بقصعة من ثريد، فدعا عليها أهل الصفة وهم يأكلون منها، فجعلت أتطاول لكي يدعوني حتى قاموا وليس في القصعة إلا شيء في نواحيها، فجمعه فصار لقمة فوضعها على أصابعه فقال لي: كل باسمالله، فوالذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت» اهـ.
13 - (وعن محمد بن سيرين) بكسر المهملة وسكون التحتية وبالراء ثم تحتية ثم نون غير منصرف للعلمية والعجمة، وابن سيرين تابعي يكنى أبا بكر، بصري ثقة ثبت، عابد كبير القدر من أوساط التابعين، مات سنة عشر ومائة، روى عنه الستة كذا في «تقريب» الحافظ (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيتني) أي أبصرتني وهذا طرف من أواخر حديثة، وأوله: «كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان، ولقد رأيتني» وكان على المصنف ذكر الواو لينبه على أن ما ذكر بعض(4/457)
حديث معطوف على شيء تقدمه (وإني لأخر) بكسر الخاء المعجمة: أي لأسقط والجملة حال من فاعل رأيتني أو مفعوله (فيما) أي في المكان الذي أو مكان (بين منبر) بكسر فسكون ففتح، من النبر بالنون فالموحدة: الارتفاع (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة رضي الله عنها) القياس وحجرة عائشة لأن بين لا تضاف إلا إلى متعدد، وكذا رأيته عزاه الحافظ في باب الرقاق من «الفتح» إلى باب الاعتصام، لكن في باب الاعتصام من «الصحيح» بلفظ إلى، وفي كتب النحو فيما اختصت به الواو العاطفة عن باقي العواطف عطف ما لا يستغني عنه كجلست بين زيد وعمرو، ولذا كان الأصمعي يقول: الصواب بين الدخول وحومل، لا فحومل. وأجيب بأن التقدير بين نواحي الدخول فهو كقولك دخلت بين الزيدين، أو أن الدخول مشتمل على أماكن ذكره في «مغني اللبيب» ، والجواب الأول ممكن هنا: أي ما بين ساحات المنبر إلى حجرة عائشة وما بين المنبر وحجرة عائشة: أي بيتها، وهي مدفنه حذاء الروضة طولاً (مغشياً علي) هذا محط الفائدة ومقصد الإخبار: أي مغمي علي، والإغماء زوال الشعور مع فتور في الأعضاء (فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون) أي وتلك عادتهم بالمجنون حتى يفيق وجملة يرى محتملة للحالية وللاستئناف البياني (وما بي من) مزيدة للتنصيص على العموم الظاهر فيه (جنون) لكونه نكرة في سياق
النفي، وهو مبتدأ والظرف قبله خبر قدم عليه اهتماماً واعتناء (وما بي) الباء فيه سببية: أي ليس سبب إغمائي (إلا الجوع. رواه البخاري) في باب الاعتصام، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» ، وقال: حسن صحيح غريب، ورواه في «الشمائل» بنحوه.
14 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه) بكسر الدال المهملة: ما يلبس في الحرب، زاد البخاري في أول البيوع عنها: ورهنه درعاً من حديد (مرهونة عند يهودي) هو أبو الشحم، قال الحافظ في «الفتح» : كما بينه الشافعي ثم البيهقي(4/458)
من طريق جعفر ابن محمد عن أبيه أن النبي رهن درعاً له عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظفر في شعير، وأبو الشحم اسمه كنيته، وظفر الهمزة وكسر الموحدة اسم فاعل من الإباء. قال العلماء: الحكمة في عدوله عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود، وإما لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجة من عندهم، أو خشي أنهم لا يأخذون ثمناً أو عوضاً فلم يرد التضييق عليهم، فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر منه على ذلك أو أكثر منه، فلعله لم يطلعهم على ذلك وإنما طلع عليه من لم يكن موسراً به ممن نقل ذلك اهـ (في ثلاثين صاعاً) وقيل في عشرين، وقيل: في أربعين، وقيل: وسقاً بدل الصاع كما ورد كل منها، قال الشيخ زكريا في «تحفة القاريء» ، وجمع في «الفتح» بين روايتي عشرين وثلاثين بأنه لعله كان ناقصاً عن الثلاثين فجبر بذلك الكسر وألغى أخرى. قال: ووقع لابن حبان عن أنس أن قيمة الطعام كانت ديناراً (من شعير) قال الشيخ زكريا في «شرح البهجة» : قيل افتكه قبل موته لخبر «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي» وهو منزّه عن ذلك والأصح خلافه لقول ابن عباس رضي الله عنهما «توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي» أي ولحديث الباب، والحديث الأول محمول على من لم يخلف وفاء. قال السبكي: مع
أنه ليس من الخبر لأن دينه ليس لمصلحة نفسه، لأنه غنيّ با، وإنما أخذ الشعير لأهله وهو متصرف عليهم بالولاية العامة فلا يتعلق الدين به بل بهم، ولم يثبت أنه كان عليه ديون وإن ثبت فهو لمصلحة المسلمين، وإذا استدان الإمام لمصالحهم كان عليهم لا عليه. فإن قيل: هذا فيما استدانه للجهات العامة دون ما استدانه لأهله، فإنه وكيل عليهم والوكيل تتعلق به العهدة. والجواب: أنه أولى بالمؤمنين، فهو يتصرف عليهم بهذه الولاية التي ليست لغيره من الأئمة ولا يخفى ما فيه اهـ كلام الشيخ زكريا. أقول: يمكن أن يجاب بأن المختار عند الأصوليين عدم دخول المتكلم في عموم كلامه، فذلك في حق من سواه، أما هو فلا يحبس عن علي مقامه تشريفاً له والله أعلم. وفي «فتح الباري» : فيه أي في حديث: «توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة» دليل على أن المراد بقوله في حديث أبي هريرة: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه» وهو حديث صححه ابن حبان وغيره من لم يترك عند صاحب الدين ما يحصل به الوفاء وإليه جنح الماوردي، وذكر ابن الطلاع في الأقضية النبوية أن أبا بكر افتك الدرع بعد النبي، لكن روى ابن سعد أن أبا بكر قضى عدات النبي وأن علياً قضى ديونه، وروى إسحاق بن راهويه في «مسنده» عن الشعبي مرسلاً أن أبا بكر افتكها وسلمها لعلي، وأما من أجاب بأنه(4/459)
افتكها قبل موته بثلاثة أيام فمعارض بحديث عائشة اهـ (متفق عليه) رواه البخاري في أبواب من «صحيحه» بعضها باللفظ المذكور وبعضها بنحوه، ورواه مسلم في البيوع، ورواه النسائي وابن ماجه.
15 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: رهن النبيّ درعه) لفظ البخاري درعاً له، فيه أنه من أدراعه لا الذي كان يعتاد لبسه (بشعير) أي مقابلة بثمن الشعير الذي شراه نسيئة، ففي الحديث مضاف مقدر والباء فيه للمقابلة، ويصح كونها باء السببية ولا مضاف: أي بسبب الشعير الذي شراه نسيئة (ومشيت إلى النبي بخبز شعير) قال الحافظ في كتاب الرهن من «الفتح» : ووقع لأحمد عن أنس: «لقد دعي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوم على خبز شعير وإهالة سنخة» ، فكأن اليهودي دعا النبي على لسان أنس، فلذا قال: مشيت إليه بخلاف ما يقتضيه ظاهره (وإهالة سنخة) بالسين المهملة، قال الشيخ زكريا: ويروى زنخة بالزاي بدلها والباقي سواء، ففيه إعراضه عن المشهيّات واجتزاؤه بما يسد الحاجة من القوت حتى حمل إليه مثل ذلك (ولقد سمعته) ظاهره أن هذا من كلام أنس، ومرجع الضمير البارز للنبي: أي قال أنس: سمعت النبي، وهو ما فهمه الحافظ ابن حجر، ورد على الكرماني قوله وهو كلام قتادة، والضمير المنصوب فيه لأنس. قال الحافظ: ويرد عليه أنه أخرجه أحمد وابن ماجه عن أنس بلفظ: «ولقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والذي نفس محمد بيده» فذكر الحديث بلفظ ابن ماجه وساقه أحمد بتمامه (يقول) مسلياً لأولي الفقر والحاجة من أمته (ما أصبح لآل محمد) أي عندهم كقوله تعالى: {أثم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء: 78) أي عنده كما يدل عليه لفظ البخاري في أوائل البيوع: «ما أمسى عند آل محمد صاع برّ» الحديث، قال في «تحفة القارىء» : وآل مقحم. قلت: ويجوز إبقاؤه على ظاهره خصوصاً ومذهب البصريين وهو المختار منع زيادة الأسماء، ويؤيده عود الضمير إليه من قوله وإنهم لتسعة أبيات (إلا صاع) أي مكيلة من الطعام لكن في باب شراء النبي نسيئة أوائل البيوع من «صحيح البخاري» في حديث الباب عن أنس: «ولقد سمعته يقول: ما(4/460)
أمسى عند آل محمد صاع برّ لا صاع حبّ» ويمكن الجمع بأن المنفي في رواية: «صاع»
تام من نوع واحد، والمثبت صاع مجمع من أقوات كما يبينه أنه في جانب النفي بين فرداً خاصاً ثم عطف عليه ما يعمه وغيره، وفي جانب الإثبات لم يبين إبهام الصاع والله أعلم (ولا أمسى) أي لهم سواه كما صرح به أبو نعيم في روايته في «مستخرجه» بلفظ: ولا أمسى إلا صاع، وحذف ذلك إيجازاً لدلالة ما قبله عليه (وإنهم) أي آله الذين ينفق عليهم من زوجاته ومن يلوذ بهن (لتسعة أبيات) هذا بالنسبة للزوجات، وكان له مارية وريحانة يطؤهما بملك اليمين، وجملة وإنهم في محل الحال من الظرف، قال الحافظ في «الفتح» : ويناسبه ذكر أنس لهذا القدر مع ما قبله الإشارة إلى سبب قوله هذا، وأنه لم يقله متضجراً ولا شاكياً. معاذالله، إنما قاله متعذراً عن إجابته لدعوة اليهودي ولرهنه درعه عنده، ولعل هذا هو الحامل للذي زعم أنه قائل ذلك هو أنس فراراً من أن يظن به أنه قاله تضجراً، والله أعلم (رواه البخاري) في البيوع والرهن، ورواه الترمذي في البيوع من «جامعه» وقال: حسن صحيح، والنسائي في البيوع أيضاً، وابن ماجه في «الأحكام» (الإهالة بكسر الهمزة) وتخفيف الهاء واللام (الشحم الذائب) وفي «المصباح» هي الودك المذاب، وفي «التحفة» : هي ما يؤتدم به من الأدهان كالألية، وهما قولان، ففي «النهاية» كل شيء من الأدهان يؤتدم به إهالة، وقيل: هو ما أذيب من الألية والشحم وبهذا بدأ الحافظ في «الفتح» ، وقيل: هو الدمس الجامد. قلت: وعلى الأول والاخير فيشمل السمن ونحوه من الزبد (وانسنخة بالنون) المكسورة، قال الحافظ: ويقال فيها بالزاي بدل السين (والخاء المعجمة، وهي المتغيرة) أي متغيرة الرائحة من طول المكث كما في «تحفة القارىء» ، ففي الحديث كمال تواضعه وزهده وتقلله من الدنيا مع قدرته عليها، وكرمه الذي أفضى به إلى عدم الإدخار حتى احتاج إلى رهن درعه.
16 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيت سبعين) بتقديم المهملة على الموحدة (من أهل الصفة) من فيه تبعيضية لما تقدم قريباً من أنهم يبلغون إلى أربعمائة (ما(4/461)
منهم رجل عليه رداء) أي لا رداء، وهو الساتر لأعلى البدن على أحد منهم وإنما معهم ما يسترون به عورتهم إما بكسر الهمزة للتفضيل (إزار وإما كساء) وهو مبتدأ خبره محذوف: أي ما لهم ذلك أو ذلك (قد ربطوا) بحذف العائد وهو المفعول به: أي ربطوه (في أعناقهم) وذلك للاستمساك فيدوم ستر العورة (منها) أي الأزر والأكسية المدلول عليها بما ذكر (ما يبلغ نصف الساقين) أفرد المضاف إلى المثنى وهو جائز كتثنيته وجمعه كقطعت رأسي الكبشين وكحديث «كان شعاره إلى أنصاف أذنيه» وقوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} (التحريم: 4) وفي «المصباح» : الساق من الأعضاء أنثى، وهي ما بين الركبة والقدم وتصغيرها سويقة اهـ (ومنها ما يبلغ) أي يدرك (الكعبين) قال في «المصباح» : الكعب من الإنسان اختلف فيه أئمة اللغة، قال أبو عمرو بن العلاء والأصمعي: الناتىء عند ملتقى الساق والقدم فيكون لكل قدم كعبان عن يمينها وشمالها، وقد صرح بهذا الأزهري وجماعة، وقال ابن الأعرابي وغيره: الكعب هو المفصل بين الساق والقدم، وذهب الشيعة إلى أن الكعب في ظهر القدم، وأنكره أئمة اللغة كالأصمعي وغيره اهـ. وظاهر أن المراد هنا لا يختلف على قول أهل اللغة الستة المذكورين إذ المراد التقريب لا التحديد، فما أدرك الناتىء قارب إدراك المفصل وبالعكس، والأول أبلغ في الإعراض عن الدنيا اللائق بأحوالهم (فيجمعه) أي الرجل أعاد الضمير أولاً مجموعاً في قوله قد ربطوا باعتبار المعنى، إذ المراد من رجل العموم وإفراده هنا باعتبار لفظه: أي فيجمع ما ذكر من الإزار والكساء (بيده كراهية) بتخفيف التحتية وهو الكراهة بحذفها مصدر كره الأمر يكرهه وهو مفعول له علة للجمع: أي استقباح (أن ترى عورته) من طرفي نحو الإزار لصغره (رواه البخاري)
في الصلاة من «صحيحه» وقد سبق الحديث في الباب قبله.
17 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فراش رسول الله) أي الذي ينام عليه (من أدم) بفتح أوليه والدال مهملة جمع أديم: الجلد المدبوغ (حشوه) أي محشوه مصدر(4/462)
بمعنى المفعول (ليف) بكسر اللام وسكون التحتية، قال في «الصحاح» : الليف للنخل واحده ليفة (رواه البخاري) .
18 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً) بضم أوليه جمع جالس (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل من الأنصار) أي وقت مجيء الرجل الأنصاري وتقدم أنها تحتمل المفاجأة بناء على قول أبي عبيدة بإفادتها له (فسلم عليه) أي على النبي (فقال رسول الله: يا أخا الأنصار) أي يا واحداً من الأنصار في «الكشاف» في قوله تعالى: {إذ قال لهم أخوهم نوح} (الشعراء: 106) قيل أخوهم لأنه كان منهم من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم، ومنه بيت الحماسة:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهاناً
(كيف أخي) فيه كمال تواضعه ومزيد فضله إذ أطلق هذا اللفظ في حقه تشريفاً له، وفيه إيماء إلى صدق إيمانه فيكون فيه تلميح إلى قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10) (سعد بن عبادة) سيد الخزرج (فقال صالح) خبر مبتدأ محذوف لدلالة السؤال عليه ففيه استحباب مثله لمن سأل عن حال مريض من نفسه أو غيره. وفي الحديث: «أن علياً رضي الله عنه خرج من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي توفي فيه النبيّ فقال: بخير، أصبح بارئاً بحمد ا» وقوله صالح: أي للشفاء عند مجيء إبانها في العلم الأزلي وهو كناية عن مرضه، فلذا توجه لعيادته (فقال رسول الله: من يعوده منكم) فيه أن العيادة مطلوبة على الكفاية (فقام وقمنا معه) ظاهره قيام جميع حاضري المجلس معه (ونحن بضعة عشر) البضعة بكسر الموحدة ما بين العقدين من العدد (ما علينا نعال) بكسر النون جمع نعل أي في أقدامنا (ولا خفاف) بكسر أوله أيضاً جمع خف بضمه، قال في «المصباح» : الخفّ(4/463)
الملبوس جمعه خفاف ككتاب: أي بل كنا حفاة (ولا قلانس) هي كالقلاسي جمع قلنسوة بوزن فعنلوة بفتح أوليه وسكون النون وضم اللام، وفي «التهذيب» للمصنف: القلنسوة هي التي تلبس، النون فيها زائدة وهي معروفة وفيها لغتان ذكرهما الجوهري وغيره، قال الجوهري: هي القلنسوة والقلنسية إذا فتحت القاف ضمت السين، وإن ضمت القاف كسرت السين وقلبت الواو ياء، فإذا جمعت أو صغرت فأنت بالخيار في حذف الواو أو النون لأنهما زائدتان، وإن شئت حذفت الواو فقلت قلانس، وإن شئت حذفت النون قلت: قلاس، وإن جمعت القلنسوة بحذف الهاء قلت: قلنس والأصل قلنسو، وإلا أن الواو رفضت لأنه ليس في الأسماء: أي المعربة اسم آخره حرف علة قبله ضمة، فإذا أدى إلى ذلك قياس وجب رفضه وتبدل من الضمة كسرة فيصير آخر الاسم ياء مكسوراً ما قبلها فتحذف كهي في غاز اهـ ملخصاً (ولا قمص) بضمتين جمع قميص ويجمع على قمصان: الثوب المعروف الملبوس على البدن
وجملة النفي في محل الحال من المبتدأ على مذهب سيبويه، ويصح أن يكون خبراً بعد خبر كجملة (نمشي في تلك السباخ) بكسر المهملة وبالموحدة جمع سبخة، بوزن تمرة أما سبخة بوزن كلمة فجمعها سبخات ككلمة وكلمات، والأرض السبخة قال في «النهاية» : هي التي يعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر. وفي هذه الجملة دلالة على الاقتصار على قليل الملبوس والإعراض عما زاد على الضرورة، وظاهر العبارة أنه حينئذ كان كذلك ليتأسوا به ويقتدوا بهديه (حتى جئناه) غاية للمشي (فاستأخر قومه) الخزرج أو الأنصار (من حوله حتى دنا) أي قرب منه (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين) جاءوا (معه) إكراماً للوافد وإنزالاً للناس منازلهم وليتأنس بهم المريض ويذهب عنه بعض الكلال الذي يحصل له من طول ملازمة من عنده إن كان (رواه مسلم) في الجنائز من «صحيحه» .
19 - (وعن عمران) بكسر المهملة (ابن حصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية بعدها نون (رضي الله عنهما عن النبيّ قال: خيركم) أيها الأمة وحذف «المصنف لفظ» إن من أول الحديث وهي ثابتة عند مسلم (قرني) وفي لفظ آخر لهما: «خير أمتي قرني» وفي لفظ آخر لمسلم: «خير الناس قرني» وحديث الباب بمعناه كما قدرناه. قال(4/464)
السيوطي في «الترشيح» : القرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، والأصح ألا يضبط بمدة فقرنه هم الصحابة وكانت مدتهم من المبعث إلى آخر من مات من الصحابة مائة وعشرين سنة (ثم الذين يلونهم) أي ثم قرن التابعين، وقرنهم من سنة مائة نحو سبعين (ثم الذين يلونهم) أي من أتباع التابعين، وقرنهم من ثمة إلى حدود العشرين ومائتين، ومن هذا الوقت ظهرت البدع ظهوراً فاشياً وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن وتغيرت الأحوال تغيراً شديداً ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن اهـ. قال المصنف: والمراد تفضيل جملة القرن، ولا يلزم منه تفضيل الصحابي على الأنبياء ولا تفضيل أفراد النساء على مريم وآسية وغيرهما بل المراد جملة القرن بالنسبة إلى جملة القرن. حكي عن عياض عن المغيرة قال: قرنه أصحابه، والذين يلونهم أبناؤهم، والثالث أبناء إبنائهم، وقال سهل: قرنه ما بقيت عين رأته، والثاني ما بقيت عين رأت من رآه ثم كذلك (قال عمران) هذا من كلام أحد الرواة عنه، ويحتمل على بعد أن يكون عبر عن نفسه باسمه كما هي طريق كثير من الأوائل (فما أدري، قال النبي) ثم الذين يلونهم (مرتين أو) قالها (ثلاثاً) وشرف القرن الرابع باعتبار من فيه من أئمة الإسلام الناصرين للحق الذابين عنه، المجاهدين في سبيلالله، الصابرين على ما أصابهم في سبيله كالإمام أحمد بن حنبل وأضرابه (ثم يكون بعدهم) أي أهل القرون المشهود لهم بالأخيرية (قوم يشهدون ولا يستشهدون) قال المصنف في «شرح
مسلم» : هذا غير مخالف لحديث: «خير الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسأل عنها» لأن ذلك محمول على دعاوى الحسبة أو على إعلام ذي الحق بأنك تشهد به وهو لا يعلم شهادتك به، وحديث الباب محمول على الشهادة لذي الحق العالم بها عند الحاكم قبل طلبها منه أو على شاهد الزور أو على من ينتصب شاهداً وليس هو من أهل الشهادة أو على من يشهد لقوم بالجنة أو النار من غير توقيف، وهذا ضعيف اهـ ملخصاً (ويخونون ولا يؤتمنون) قال المصنف في «شرح مسلم» بعد أو أورده بلفظ يتمنون بالتشديد الفوقية: كذا في أكثر النسخ، يعني من مسلم، وفي بعضها يؤتمنون ومعناه يخونون خيانة ظاهرة بحيث لا يبقى معها أمانة، بخلاف من خان بحقير مرة واحدة فإنه يصدق عليه أن خان(4/465)
فلا يخرج عن الأمانة في بعض المواطن اهـ.d قلت: ويصح أن يكون جملة النفي في محل الحال: أي إن طبعهم الخيانة مع عدم الائتمان لهم فليس لهم سوى وبال العزم عليها من غير ظفر بشيء والله أعلم (وينذرون) بفتح الفوقية وضم الذال المعجمة وكسرها لغتان كما في المصنف (ولا يوفون) قال في «شرح مسلم» : وفي رواية: «ولا يفون» وهما صحيحتان يقال وفي وأوفى (ويظهر فيهم السمن) أي كثرة اللحم: أي إنه يكثر ذلك فيهم، وليس الخلقي منهم مذموماً بل المكتسب له بالتوسع في المأكل والمشرب وغير زيادة على المعتاد، وقيل: المراد التكثر مما ليس لهم وادعاء ما ليس لهم من الشرف وغيره، وقيل: المراد جمعهم الأموال (متفق عليه) أخرجه البخاري في الشهادات وفضل الصحابة وغيرهما من «صحيحه» ، ومسلم في الفضائل، ورواه النسائي في النذور.
20ــــ (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وميمين خفيفين بينهما ألف (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «با ابن آدم إنك إن) بفتح الهمزة (تبذل الفضل) أي بذلك الفضل منصوب بدل اشتمال من اسم أن، والفضل بفتح الفاء وسكون الضاد المعجمة أفضل عما يحتاج إليه عادة (خير لك) ليبقى لك غلته، ويحتمل أن يكوم مصدراً (وأن تمسكه شر لك) لأنك ربما لا تؤدي الحقوق الواجبة، وقد يشغل به القلب الذي هو بيت الرب ومحل نظره من العبد عن التوجه إليه (ولا تلام) بضم الفوقية مبني للمجهول: أي لا يلحقك لوم: أي عتب من الشرع (على كفاف) بفتح أوليه: أي قدر الحاجة من طعام وشراب وملبس ومسكن وخادم احتاجه، قال القرطبي: وهو ما يكف عن الحاجات ويدفع الضرورات والفاقات ولا يلحق بأهل الترفهات، وهذا أحسن الأحوال لسلامته من وصمه كل من الفقر والغنى (وابدأ) في الإنفاق (بما تعول) أي بحق الذي تعوله وتمونه من زوجة وأصل أو فرع محتاج أو خادم فالعائد محذوف، أو بعائلتك فما موصولة أو مصدرية (رواه الترمذي)(4/466)
في الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح) وأخرجه مسلم في الزكاة من «صحيحه» وكان عزوه إليه أولى، وكأنه غاب عن الشيخ ولا عيب على الإنسان في النسيان.
21 - (وعن عبيد ا) بصيغة التصغير (ابن محصن) بكسر الميم وسكون المهملة الأولى وفتح الثانية آخره نون (الأنصاري) رأى (رضي الله عنه) النبي قال في «أسد الغابة» بعد أو أن أورد حديث الباب: وقال أبو عمرو يعني ابن عبد البرّ: منهم من جعل حديثه مرسلاً والأكثر يصحح صحبته فيجعل حديثه مسنداً، روي عنه أبو سلمة أيضاً اهـ (قال: قال رسول الله: «من أصبح منكم» ) الخطاب للحاضرين بمجلسه وحكمه على الواحد حكمه على الجماعة (آمناً) من عدوه (في سربه) على نفسه وبضعه وأهله وماله (معافى في جسده) من الأمراض لأن معها لا سيما الشديد منها يذهل المرء عن نظره في حسن حاله وما أنعم المولى به عليه من أمن وسعة (عنده قوت يومه) من طعام وشراب وسائر ما يحتاج إليه من أدوية ونحوها (فكأنما حيزت) بكسر المهملة وسكون التحتية بعدها زاي: أي ضمت وجمعت (له الدنيا) وفي رواية زيادة «بحذافيرها» أي بجوانبها أي فكأنما أعطي الدنيا بأسرها (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه البخاري في «الأدب المفرد» وابن ماجه (سربه بكسر السين المهملة) وسكون الراء وبالموحدة المجرورة على الحكاية (أي نفسه) قاله في «النهاية» قال: ويروى بالفتح وهو المسلك والطريق، يقال خلّ له سربه: أي طريقه، قلت: وعليه فيكون مجازاً عن الأمن أيضاً فيرجع إلى الأول (وقيل: قومه) قلت: كأن قائله أخذه من قول اللغويين: السرب أي بكسر أوله الجماعة من النساء والبقر والشاة والقطاة والوحش كذا في «المصباح» ، فجرد السرب عن قيد النساء الخ، وأراد به مطلق جماعته وقومه والله أعلم.(4/467)
22 - (وعن عبد الله بن عمرو بفتح المهملة) ابن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح» أي فاز بالفلاح وهو الفوز والبقاء والظفر (من أسلم) بدأ به لأنه الأساس في الاعتداد بقبول صالح الأعمال، والمراد الإسلام الصحيح المخلص فيه لأنه الكامل فينصرف المطلق إليه (وكان رزقه كفافاً) أي بقدر الحاجة لا يفضل عنه، قال المصنف: هي الكفاية من غير زيادة ولا نقص، وفيه شاهد لتفضيل الكفاف على كل من الفقر والغنى (وقنعه ا) أي صيره قانعاً، ولعل التضعيف إيماء إلى بعد هذا الوصف عن طبع الإنسان فكان محاول إزالتها يحتاج إلى مبالغة في ذلك، لأن الطبع البشري مائل إلى الاستكثار من الدنيا والحرص عليها إلا من عصمالله، وقيل ماهم: أي وجعله الله يخفي ألطافه قانعاً (بما آتاه) بالمد: أي أعطاه من الكفاف. قال القرطبي: معنى الحديث أن من حصل له ذلك فقد حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدارين (رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» : رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
23 - (وعن أبي محمد فضالة) بفتح الفاء وبالضاد المعجمة (ابن عبيد) بصيغة التصغير ابن ناقذ بالمعجمة ابن قيس بن صهيب بن الأصرم بن جحجبا بجيمين مفتوحتين بينهما حاء ساكنة وبباء موحدة ابن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس (الأنصاري) العمري (رضي الله عنه) قال المصنف في «التهذيب» : أول مشاهده أحد شهدها وما بعدها من المشاهد ومنها بيعة الرضوان، وشهد فتح مصر وسكن دمشق وولى قضاءها لمعاوية وأمره على غزو الروم في البحر، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسون حديثاً، روى له مسلم منها حديثين، توفي بدمشق ودفن بباب الصغير سنة ثلاث وخمسين، وقيل: تسع وستين والصحيح الأول فقد نقلوا أن معاوية حمل نعشه وقال لابنه: أعني يا بنيّ فإنك لا تحمل بعده مثله، وتوفي معاوية سنة ستين (أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: طوبى) قال في «المصباح» قيل: من الطيب، والمعنى: العيش الطيب، وقيل: الحسن، وقيل: الخير وأصلها طيبي فقلبت الياء واو المجانسة الضمة، وفي كتاب الجهاد من «صحيح البخاري» : طوبى فعلى من(4/468)
كل شيء طيب، وهي ياء حولت إلى الواو، وهو من يطيب اهـ (لمن هدى) أي أوصل (للإسلام) فعدي باللام لتضمنه معنى أوصل. قال تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء} (النور: 35) أي يوصله للدخول في جملة أهله (وكان عيشه كفافاً وقنع) الأقرب أنه بالبناء للمفعول من باب التفعيل كما يدل عليه ما قبله، ويحتمل أن يكون بتخفيف النون مفتوحة، والجملتان الأقرب كونهما معطوفتين على جملة الصلة، ويجوز كونهما في محل الحال من نائب فاعل هدي (رواه الترمذي وقال: حديث صحيح) قال في «الجامع الصغير» : ورواه ابن حبان والحاكم في «مستدركه» .
24 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة) أي التابع بعضها بعضاً مع الاتصال (طاوياً) هذا مقصود الإخبار. قال في «النهاية» يقال: طوى من الجوع يطوي طوى فهو طاوي: أي خالي لم يأكل (وأهله) بالرفع عطف على الضمير المستكن في يبيت للفصل بينهما بالظرف، ويجوز أن يقرأ بالنصب على أن الواو واو المصاحبة: أي مع من يقوم بنفقتهم، وقوله: (لا يجدون عشاء) بفتح العين وبالمد، قال في «المصباح» : اسم للطعام الذي يتعشى به الإنسان وقت العشاء: أي بكسر العين اهـ. وفي كتاب الصيام من كتب الفقه: العشاء اسم لما يؤكل بعد الزوال: أي في وقت العشي جملة مستأنفة لبيان حالهم المقتضي لطواهم (وكان أكثر خبزهم خبز الشعير) أي وهو أقل في كلفة التحصيل من البرّ وغيره من نفائس الأقوات، والجملة محتملة للعطف على ما قبلها ولكونها حالية بإضمار قد (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .
25 - (وعن فضالة بن عبيد) أي الأنصاري (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا(4/469)
صلى بالناس) أي وقت صلاته بهم، وهو مضمن معنى الشرط ولا يجزم إلا في الشعر، جوابه (يخرّ) بكسر الخاء المعجمة: أي يسقط (رجال من) ابتدائية: أي سقوط مبتدأ (من قامتهم في الصلاة) تعليلية (الخصاصة) بفتح الخاء المعجمة وبالمهملتين الخفيفتين بينهما ألف (وهم أصحاب الصفة) جملة حالية من فاعل يخر لتخصيصه بالوصف (حتى) غاية لمحذوف: أي فتعجب من خرورهم من لم يعلم سببه إلى أن (يقول الأعراب) أي من حضره حينئذ من سكان البوادي (هؤلاء مجانين) يحتمل كون الجملة خبرية كما هو الظاهر، ويحتمل أنها استفهامية على تقدير الهمزة، وعلى كل فهي منصوبة المحل على الحكاية، وذلك أنهم توهموا أن ذلك الخرور صادر عنهم اختياراً لا عن سبب يقتضيه، وذلك بحضرة الجمع شأن المجانين، فلذا حكموا عليهم به، أو سألوهم كذلك (فإذا صلى رسول الله) أي الصلاة بإتمامها بسلامه منها وانصرف عنها (انصرف إليهم) أي متوجهاً إليهم (فقال) عقب وصوله إليهم لأنه الحامل له على قصدهم (لو تعلمون ما لكم عند ا) أي ما أعده لكم مما لم تسمعه أذن ولم يره بصر، وفيه شهادة لهم بمكانتهم عند المولى سبحانه لصدق إيمانهم، وحسن مجاهدتهم وكمال وجهتهم (لأحببتم أن تزدادوا فاقة) أي حاجة فعطف قوله: (وحاجة) عليها من عطف الرديف وحبهم، ذلك ليصبروا عن الابتلاء بها فيكثر ما يؤجرون عليه من ذلك، فإن الجزاء على حسب المجازى عليه قلة وكثرة، أو لأنهم استعذبوا جميع ما يرد عليهم من الحق سبحانه لكمال عرفانهم، فنظروا إلى النعم من حيث صدورها من الرحيم لا من حيث ذاتها فأعجبوا بها على أي أمر تجلت وعلى أيّ مذاق، وما أحسن قول القائل:
إذا ما رأيت الله في الكل فاعلاً
رأيت جميع الكائنات ملاحاً
وقلت في هذا المعنى:
يا طالب التحقيق والعرفان
لا تنظرن لحوادث الأزمان
فتضيق منها وانظرن لمن بدت
منه إليك فهو العلي الشان
(رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» (وقال: حديث صحيح. الخصاصة: الفاقة(4/470)
والجوع الشديد) قال في «النهاية» : وأصلها الفقر والحاجة إلى الشيء.
26 - (وعن أبي كريمة) بفتح الكاف وكسر الراء (المقداد) بكسر الميم وسكون القاف ومهملتين بينهما ألف (ابن معد يكرب) بكسر الدال المهملة وسكون التحتية وفتح الكاف وكسر الراء وتقدمت ترجمته رضي الله عنه في باب فضل الحب في الله (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما ملأ آدمي» ) نسبة إلى آدم أبي البشر عليه السلام: أي إنسان (وعاء شراً من بطنه) قال الطيبي: نقله عن ابن أقبرس جعل البطن وعاء كالأوعية المتخذة ظروفاً لحوائج البيت توهيناً لشأنه، ثم جعله شرّ الأوعية لأنها تستعمل فيما هي له، والبطن خلق لأن يتقوم به الصلب بالطعام، وامتلاؤه يفضي إلى الفساد ديناً أو دنيا فيكون شراً منها، فإن قلت: شرّاً أفعل تفضيل وهو ما اشتق من فعل الموصوف بزيادة على غيره فما وجه تحقق ثبوت الوصف في المفضل عليه؟ قلت: ملء الأوعية لا يخلو من طمع أو حرص على الدنيا وكلاهما شرّ على الفاعل (بحسب ابن آدم) أي كافية فالباء مزيدة في المبتدأ (أكلات) بفتح الكاف وضمها مع ضم الهمزة: أي كافية ذلك في سد الرمق، ولذا قال: (يقمن صلبه) والجملة في محل الصفة لأكلات ويصح كونها مستأنفة لبيان سبب كفاية ذلك (فإن كان لا محالة) في «الصحاح» قولهم لا محالة: أي بفتح الميم: أي لا بد، يقال: الموت آت لا محالة اهـ: أي فإن كان لا بد من الكثرة على ذلك فليكن أثلاثاً (فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) قال ابن أقبرس: أي يبقى من ملئه مقدار الثلث ليكون متمكناً من النفس. ورأيت في بعض كتب الطب أن كسرى سأل طبيباً: ما الداء الذي لا دواء له؟ قال: إدخال الطعام على الطعام، فذاك الذي أفتى البرية وقتل سبع البرية، فسأل عن الحمية فقال: الاقتصاد في كل شيء، فإذا أكل فوق
المقدار ضيق على الروح اهـ (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وأخرجه النسائي من طريق الترمذي ومن طريق أخرى، وأخرجه القاضي عياض في «الشفاء» من طريق أبي نعيم الحافظ والبزار، وفي «الجامع الصغير» ،(4/471)
وأخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» (أكلات: أي لقم) بضم ففتح جمع لقمة وهذا يقتضي فتح أولى أكلات والأنسب لقمات، لأن جمع السلامة من جموع القلة، فلذا قال التلمساني في حواشي «الشفاء» : فيه إيماء إلى أنه لا يصل بها العشرة. ولعل المصنف وضع جمع الكثرة موضع ضده مجازاً كقوله تعالى: {ثلاثة قروء} (البقرة: 228) .
27 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وميمين خفيفتين بينهما ألف (إياس) بكسر الهمزة والتحتية المخففة آخره مهملة. قال في «الإصابة» : هذا اسمه عند الأكثر، وقيل: اسمه عبد الله وبه جزم أحمد بن حنبل. وقيل: ثعلبة بن سهل، وقيل: أبو عبد الرحمن، قال أبو عمر: واسمه إياس ولا يصح غيره (ابن ثعلبة) بالمثلثة المفتوحة والمهملة الساكنة بعدها لام فموحدة مفتوحتين فهاء (الأنصاري الحارثي) بالمهملة آخره مثلثة نسبة للحارث بن الخزرج أحد أجداده وقيل: إنه بلوى حليف بني حارثة وهو ابن أخت أبي بردة بن نيار (رضي الله عنه) وتوفي في منصرف النبي من أحد فصلى عليه. قال في «أسد الغابة» : رواية من روى عنه مرسلة لأنه لم يدرك النبي، وكذا رواية محمود بن الربيع عنه فإنه ولد قبل وفاة إياس على القول إنه قتل يوم أحد، والصحيح أنه لم يتوف حينئذ إنما كانت وفاة أمه عند منصرف النبي من بدر، فرده من أجلها، فرجع فوجدها ماتت فصلى عليها ولم يشهد بدراً لذلك. ومما يقوي أنه لم يقتل بأحد أن مسلماً روى في «صحيحه» بإسناده عن عبد الله بن كعب عن أبي أمامة بن ثعلبة: «من اقتطع حق مسلم بيمينه» الحديث، فلو كان منقطعاً ولم يسمع أبي بن كعب منه لما أخرجه مسلم في «الصحيح» اهـ. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث ذكر منها المزي في «الأطراف» حديثين: حديث مسلم وحديث الباب. وقال في «الإصابة» : روى له عن النبي أحاديث منها عند مسلم وأصحاب السنن انفرد به مسلم عن البخاري، فخرج له الحديث المار في كلام «أسد الغابة» وهو عند النسائي وابن ماجه (قال: ذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً عنده) أي النبيّ بقرينة إفراد الضمير وإن كان خلاف الغالب (الدنيا) أي زينتها والترفع فيها بالملبس وغيره (فقال رسول الله: ألا) بالتخفيف أداة عرض وأتى بها تحريضاً على الاستماع لما بعدها والإصغاء إليه (تسمعون ألا(4/472)
تسمعون) قال ابن رسلان في «شرح السنن» : في الكلام
أنواع من التأكيدات: إلا الدالة على العرض والتحضيض على الاستماع والتأكيد بتكرير الكلمة والتصريح بالإصغاء بالاستماع سماع فهم وانتفاع، مع أنه عالم بأنهم يستمعون لما يقوله ويبادرون إلى امتثاله، لكن يكون أبلغ في الموعظة والإتيان بلفظ (إن) للتأكيد وهي عوض إعادة الكلام مرّتين (البذاذة من) كمال (الإيمان) الراسخ في القلب، قال زيد بن وهب: رأيت عمر بن الخطاب خرج إلى السوق وبيده الدرّة وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها من أدم: أي جلد. وعوتب عليّ رضي الله عنه في إزار مرقوع فقال: يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب. قال عيسى عليه السلام: جودة الثياب خيلاء القلب، وإنما كانت البذاذة من الإيمان لما تؤدي إليه من كسر النفس والتواضع، ولكن ليس ذلك عند أكل أحد بل يورث عند بعض الناس من الكبرياء ما يورثه لبس نفيس الثياب عند آخرين، وبالجملة فالمحبوب التوسط في الثياب كما سيأتي بسطه في كتاب اللباس (إن البذاذة من الإيمان) وفي بعض نسخ أبي داود تكراره ثلاثاً، ولا ينافي حديث الباب وما في معناه، وإيثاره بذاذة الهيئة ورثاثة المنظر وتبعه عليه السلف الصالح ما اختاره جمع أئمة من متأخري الصوفية وغيرهم، لأن السلف لما رأوا أهل الهوى يتفاخرون بالزينة والملابس أظهروا لهم برثاثة ملابسهم حقارة ما حقره الحق مما عظم الغافلون، والآن قد قست القلوب ونسي ذلك المعنى، فأخذ الغافلون رثاثة الهيئة حيلة على جلب الدنيا، فانعكس الأمر وصار مخالفتهم في ذلك تبعاً للسلف، ومن ثم قال العارف با تعالى أبو الحسن الشاذلي لذي رثاثة أنكر عليه جمال هيئته: يا هذا هيئتي هذه تقول الحمد، وهيئتكم تقول: أعطوني من دنياكم (يعني التقحل) هذا قول أبي داود وتفسير للبذاذة كما صرح به شارح «سنن أبي داود» بن رسلان فقال: قال المصنف: البذاذة يعني التقحل بفتح التاء والقاف وبالحاء المهملة المشددة. (رواه أبو داود) في الترجل من «سننه» ، ورواه ابن ماجه في الزهد
(البذاذة بالباء الموحدة) المفتوحة (والذالين المعجمتين) الخفيفتين (وهي رثاثة) بالراء والمثلثتين الخفيفات مصدر رث الشيء. أي خلق، قال في «النهاية» : وأصل اللفظة من الرث وهو الثوب الخلق اهـ. والمراد منه في عبارته ضد الجيد من (الهيئة وترك فاخر الثياب) أي تواضعاً في اللباس، يقال: فلان بذّ الهيئة وباذها: أي رث اللبسة، والمراد التواضع في اللباس وترك التبجح به. قال هارون الرشيد: سألت معناً(4/473)
عن البذاذة فقال: هو الدون من اللباس (وأما التقحل فالبقاف والحاء) أي المهملة كما تقدم (قال في اللغة: المتقحل هو الرجل اليابس الجلد من خشونة العيش وترك الترفه) أي التنعم لسوء الحال، قال ابن رسلان: يقال: قد قحل الرجل قحلاً: إذا التزق جلده بعظمه من الهزال.
28 - (وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله) في سنة ثمان (وأمر) بتشديد الميم: أي جعل أميراً (علينا أبا عبيدة) بن الجراح أحد العشرة (رضي الله عنه) وفيه تأمير أهل الفضل، وقد اتفقت روايات «الصحيحين» على تأميره في تلك السرية، فهو المحفوظ، وفي رواية: إن أميرها قيس بن سعد بن عبادة حملت على أن أحد رواتها ظن من ذبح قيس النياق للجيش تأميره فصرح به وليس كذلك (نتلقى عيراً لقريش) جملة مستأنفة لبيان سبب البعث، والعير بكسر العين المهملة: القافلة التي تحمل البرّ والطعام، ثم صريح هذه الرواية ما ذكر من تلقي العير، لكن عند ابن سعد أنه بعثهم إلى حيّ من جهينة وأن ذلك كان في شهر رجب، ويمكن الجمع بين كونهم يتلقون غير قريش ويقصدون الحي من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم أيضاً عن جابر قال: بعث النبي بعثاً إلى أرض جهينة، فذكر القصة الذي يتلقى عير قريش لا يتصور أن يكون في الشهر الذي ذكر ابن سعد: أي رجب من سنة ثمان لأنهم حينئذ كانوا في الهدنة، إلا إن كان تلقيهم العير لحفظها من جهينة، ولذا لم يقع في الحديث أنهم قاتلوا أحداً، بل فيه أنهم أقاموا شهراً أو أكثر في مكان واحد (وزودنا جراباً) أي ملأه (من تمر) بفتح الفوقية، وقوله (لم يجد لنا غيره) استئناف لبيان سبب الاقتصار على ذلك القليل في ذلك العدد الكثير (فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة) هذا من باب قولهم: ركب القوم دوابهم: أي لكل(4/474)
واحد تمرة، وهذا باعتبار آخر فعل أبي عبيدة، وإلا ففي البخاري: فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة، وكذا قال المصنف في «شرح مسلم» : الظاهر أن قوله قسم تمرة تمرة إنما كان بعد أن قسم قبضة قبضة فلما قل ثمرهم قسم تمرة تمرة.l والجراب هو الذي زودهم به وكانت عندهم أزوادهم من تمر لأنفسهم كما يدل عليه قوله في رواية للبخاري ومسلم: فكنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة
بأزواد الجيش فجمعت، فكان مزودي تمراً. قال في «الفتح» : وقول عياض يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور مردود بما ذكر (فقيل) يحتمل أن يكون القائل وهب بن كيسان الراوي عن جابر فإن في رواية البخاري في المغازي التصريح بأنه سأل جابراً: ما يعني عنكم تمرة فقال: قد وجدنا نقدها حين فقدت فلعله سأل فقال: (كيف كنتم تصنعون؟) قال البيضاوي في التفسير: تصنعون أبلغ من تعملون، من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتردد وتر وتحر وإجادة (بها قال: نمصها) لم يصدر قال: بفاء ولا واو، بل أتى بها مستأنفاً، لأن مراده الإخبار عن قوله ذلك مع قطع النظر عن كونه أخبر حالاً أو بعد (كما يمصّ الصبي ثم نشرب عليها من الماء) أي بعض الماء (فتكفينا يومنا إلى الليل) ففيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الزهد في الدنيا والتقلل منها والصبر على الجوع وخشونة العيش، وفيه كرامة له حيث كفى الواحد منهم نهاره تمرة واحدة لكونها حلت عليه بركته. وفيه أن توقف الشبع على الأكل ليس على جهة اللزوم وإنما ذلك فعل الله يفعله عقبه تارة ومن غيره أخرى كما قال: «إني أظلّ عند ربي يطعمني ويسقيني» أي يجعل في قوة الطاعم والشارب على أحد الأقوال، ومنه قوله:
{أطعمهم من جوع} (قريش: 4) على القول بأن: «من» تبعيضية والله أعلم. وفني التمر كما في رواية أخرى لهما: «فلم يصلهم ولا تمرة تمرة فوجدوا فقدها» كما تقدم عن جابر فعنده ضربوا الشجر كما قال: (وكنا نضرب بعصينا) بكسر أوله إتباعاً لكسر ثانيه وتشديد التحتية ويجوز ضم أوله (الخبط ثم نبله بالماء) هذا يدل على أنه كان يابساً بخلاف ما جزم به الداودي أنه كان أخضر رطباً قاله في «الفتح» . قلت: ولعل الماء كان لإذهاب خشونته ولإساغته فلا يخالف ما قاله الداودي (فنأكله فانطلقنا على ساحل) بالمهملتين: أي شاطىء (البحر فرفع) بالبناء للمجهول (لنا على ساحل البحر كهيئة(4/475)
الكثيب) بالمثلثة والتحتية والموحدة بوزن قريب: الرمل المستطيل المحدودب وأحد الظروف نائب الفاعل والظرفان حالان متداخلان أو مترادفان منه (الضخم) بفتح المعجمة الأولى وسكون الثانية بمعنى العظيم (فأتيناه) أي المرفوع لنا (فإذا هي) أي المرفوع لنا والتأنيث رعاية لقوله: (دابة تدعى) بالبناء للمجهول (العنبر) بفتح أوله وثالثه الباء الموحدة وسكون ثانيه النون المزيدة ويجوز إبداله وإدغامه في الثالث. قال في «فتح الباري» : قال أهل اللغة: هي سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلدها الترسة يقال: إن العرف المشموم رجيع هذه الدابة قال ابن سينا: بل المشموم يخرج، وإنما يوجد في أجواف السمك الذي يبتلعه، ونقل الماوردي عن الشافعي قال: سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتاً في البحر ملتوياً مثل عنق الشاة، وفي «البحر» دابة تأكله وهو سم لها فيقتلها فيقذفها البحر فيخرج العنبر من بطنها. وقال الأزهري: العنبر سمكة تكون بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسون ذراعاً يقال لها باله، وليست بعربية اهـ. (فقال أبو عبيدة) هي (ميتة) أي وإن كانت ميتة للضرورة والميتة محرمة بنص الكتاب (ثم) تغير اجتهاده وأرشد للصواب (فقال: لا) أي لا يحرم تناولها وإن كانت ميتة للضرورة، فالمنفي ما دل عليه كلامه السابق من تحريم وحذف
لدلالة المقام عليه (بل) إضراب عما ظنه أولاً (نحن رسل) بضمتين ويجوز إسكان ثانيه تخفيفاً (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل ا) أي ونحن في طاعة الله وفي جهاد أعدائه وأعداء نبيه، ففيه إيماء إلى قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: 2، 3) ولي في هذا المعنى يديها.
اتق الله سائر الأزمان
لا تخف من طوارق الحدثان
يرزق الله متقيه ويكفيـ
ــــه فهذا قد جاء في القرآن
(وقد اضطررتم) جملة مستأنفة ويحتمل أن تكون حالية وعدل عن التكلم إليه تفنناً في التعبير وتحصيلاً للالتفات المورث في الكلام وطراوة وحسناً ونضارة (فكلوا) الفاء فيه للتقريع (فأقمنا) المعطوف عليه محذوف: أي فأكلنا فأقمنا (عليه شهراً) وفي رواية(4/476)
«الصحيحين» فأكل منه القوم ثماني عشرة ليلة، وفي رواية لهما: فأكلنا منه نصف شهر. قال في «فتح الباري» : ويجمع بأن الذي قال ثماني عشرة ضبط ما لم يضبطه غيره، ومن قال نصف شهر ألغى الكسر الزائد عليه وهو ثلاثة أيام، ومن قال: شهراً جبر الكسر وضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم، ورجح المصنف رواية الباب لما فيه من الزيادة، وجمع القاضي بأن من قال: نصف شهر أراد أكلوا منه تلك المدة، ومن قال: شهراً أراد قد زودوه فأكلوا منه باقي الشهر. وقال ابن التين: إحدى الروايتين وهم. قال الحافظ: ولعل الذي سلكته من الجمع أولى ووقع عند الحاكم اثني عشر وهي شاذة، وأشذ منها رواية فأقمنا قبلها ثلاثاً (ونحن ثلثمائة) جملة حالية من أقمنا (حتى) غاية للإقامة عليها: أي فأكلنا منها إلى أن (سمنا) يحتمل أكلهم منه زيادة عن الحاجة حتى نشأ عنه السمن، وأنهم يرون حلّ ذلك من الميتة عند الضرورة إلى التناول منها، ويحتمل أنه تغير اجتهادهم بعد فرأوا حل ميتة البحر والله أعلم (وقد رأيتنا نغترف) أتى به من باب الافتعال الدالّ على المبالغة إيماء إلى الكثرة (من وقب عينه) بالإفراد (بالقلال) بكسر القاف وتخفيف اللام جمع قلة بضم القاف وتشديد اللام (الدهن ونقطع منه) بتخفيف الطاء المهملة كذا في النسخ، والتضعيف فيه أنسب بالإفعال فيما قبله (القدر كالثور) بالمثلثة: ذكر البقر (أو) شك من الراوي (كقدر الثور) والجملة جواب القسم المقدر وهو جوابه مستأنف عطف عليه قوله: (ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه) وعطف عليه أو على المعطوف عليه قوله: (وأخذ ضلعاً) بكسر الضاد المعجمة، قال في «المصباح» : أما
اللام فتفتح في لغة الحجاز وتسكن في لغة تميم، وهي أنثى اهـ (من أضلاعه فأقامها) أي منصوبة (ثم رحل أعظم بعير معنا) بتخفيف الحاء المهملة: أي جعل عليه الرحل (فمر من تحتها) جاء في رواية عبادة بن الصامت عند ابن إسحاق: ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فخرج من تحتها وما مسك رأسه. قال الحافظ في «الفتح» : ولم أقف على اسم هذا الرجل وأظنه قيس بن سعد بن عبادة، فإن له ذكراً في هذه الغزوة، وكان مشهوراً بالطول وقصته في ذلك مع معاوية لما أرسل إليه ملك الروم بالسراويل معروفة، ذكرها المعافى الحريري في «الجليس» وأبو الفرج الأصبهاني وغيرهما، ومحصلها أن أطول رجل من الروم نزع له قيس بن سعد سراويله، فكان طول قامة الرومي بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها على الأرض،(4/477)
وعوتب قيس على نزع سراويله في المجلس فأنشد:
أردت لكيما يعلم الناس أنها
سراويل قيس والوفود شهود
وألا يقولوا غاب قيس وهذه
سراويل عاد الأولى وثمود
(وتزوّدنا من لحمه وشائق) معطوف على ما قبله، ويحتمل أن يكون مستأنفاً، إذ لا حاجة لتأكيد مثله بالقسم، لأن ما ثبت عظمه من الحيوان بما ذكر قبله لا يستبعد تزوّد ذلك منه (فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا له ذلك فقال) مبيناً لحكمه وحكمة عثورهم عليه (هو رزق) في الأصل مصدر والمراد به اسم المفعول كقوله تعالى: {هذا خلق ا} (لقمان: 11) أي مخلوقه (أخرجه الله لكم) وزاد في تطمين قلوبهم في حله ونفي الشك في إباحته لأنه ارتضاه لنفسه قوله: (فهل معكم من لحمه شيء) ويجوز أن يكون قصد التبرك به لكونه طعمة من الله تعالى خارقة للعادة أكرمهم الله بها أشار إليه المصنف، ومن للتبعيض وهي ومجرورها متعلقان بمحذوف هو الخبر وتقديمه مع وجود المسوغ للابتداء بشيء وهو تقدم الاستفهام للاهتمام، والظرف قبله في محل الحال وكان في الأصل صفة شيء قدم عليه فصار إلى ما ذكرنا كقوله:
لمية موحشاً طلل
وقوله: (فتطعمونا) جواب الاستفهام (فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأكله) أي عقب وصوله بلا تراخ كما تؤذن به الفاء وذلك لما تقدم في قوله: فهل معكم الخ (رواه مسلم) أي بهذا اللفظ في الأطعمة من «صحيحه» ، وإلا فحديث جابر في هذه السرية قد رواه البخاري في الشركة وفي الجهاد وفي المغازي من «صحيحه» ، ولعل ما ذكرنا سبب الاقتصار على العزو لمسلم، أو غاب عن الشيخ حينئذ تخريج البخاري له، ولا عيب في مثله، رواه الترمذي في الزهد وقال: حسن صحيح، والنسائي في الصيد وفي السير، وابن ماجه في الزهد كذا يؤخذ من «الأطراف» ملخصاً.
(الجراب وعاء) بكسر الواو المهملة المخففة بعدها ألف ممدودة (من جلد) أما من غيره فلا يسمى بذلك (معروف وهو بكسر الجيم) وجمعه جرب ككتاب وكتب وسمع أجربة(4/478)
كذا في «المصباح» (وفتحها والكسر أفصح) وكذا قال في «شرح مسلم» ولم يبين قائل كل من القولين، وقد بينه القاضي عياض فقال: الجراب وعاء من جلد كالمزود ونحوه وهو بكسر الجيم، وكذا قيده الخليل وغيره، وقال القزاز بفتح الجيم، ومثله في «المطالع» لابن قرقول، لكن في «الصحاح» الجراب: أي بكسر الجيم معروف، والعامة تفتحه، وفي «المصباح» : ولا يقال: جراب بالفتح، قاله ابن السكيت وغيره (وقوله: يمصها بفتح الميم) وفتح التحتية قبلها، وسكت المصنف عنه لأنه معلوم وتشديد الصاد المهملة، ويجوز ضم الميم كما في «شرح مسلم» قال: والفتح أفصح وأشهر، لكن في «المشارق» و «المطالع» تعين فتح الصاد من قوله: «امصص بظر اللات» وأنه من باب علم، حينئذ فهذا يعين الفتح كما اقتصر عليه المصنف هنا والله أعلم (والخبط) بفتح أوليه المعجمة والموحدة وبالمهملة (ورق شجر معروف تأكله الإبل) عبارة «النهاية» الخبط: أي بسكون الموحدة ضرب الشجر بالعصي ليتناثر ورقها، واسم الورق الساقط خبط فعل بمعنى مفعول وهو من علف الإبل اهـ. ومثلها في «المصباح» ، وحينئذ فما ذكره المصنف بيان للمراد في الحديث، وأن هذا النوع الخاص سمي وحده بهذا الاسم كما يطلق على كل ما تساقط من الورق بالخبط (والكثيب) يضبطه السابق في الشرح (التل) بفتح الفوقية وجمعه تلال وهو المرتفع: أي الرابية (من الرمل) قال في «المصباح» : سمي به لاجتماعه، وفي «فتح الباري» . الكثيب: الرمل المستطيل المحدودب (والوقب بفتح الواو وسكون القاف وبعدها باء موحدة وهي نقرة العين) النقرة بضم النون حفرة غير كبيرة، والمراد المجوف من عظم الرأس لمحل العين (والقلال) بكسر القاف. جمع قلة بضمها وهي الجرة الكبيرة التي يقلها الرجل بين يديه، كذا في «شرح مسلم» ، وحينئذ فكان على
الشيخ أن يزيد على قول: (الجرار) بكسر الجيم وتخفيف الراءين قوله: الكبار، وسميت القلة بذلك لأن الرجل العظيم يقلها: أي يرفعها من الأرض (والقدر بكسر الفاء وفتح الدال: القطع) هذا أحد قولين حكاهما في «شرح مسلم» وقال: إنهما وجهان مشهوران في نسخ بلادنا: أي من «صحيح مسلم» إحداهما بقاف مفتوحة ثم دال ساكنة: أي مثل الثور، والثاني بفاء مكسورة ثم دال مفتوحة جمع فدرة والأول أصح، وادعى القاضي(4/479)
عياض أنه تصحيف وأن الثاني الصواب، وليس كما قال بل هما صوابان اهـ. وبه يعلم أنه هنا متابع للقاضي عياض (ورحل البعير بتخفيف الحاء) قال في «المصباح» : من باب نفع (أي جعل عليه الرحل) أي شده عليه كما في «المصباح» ، والرحل للجمل بمنزلة السرج للفرس (الوشائق بالشين المعجمة والقاف: اللحم الذي قطع ليقدد) اللام فيه للصيرورة: أي لييبس: أي فيؤكل يابساً، وهذا قوله حكاه في «الصحاح» عن أبي عبييد عن بعضهم أن الوشيق بمنزلة القديد لا تمسه النار، حكاه في «شرح مسلم» بقوله: وقيل: الوشيق القديد، وقال أولاً: قال أبو عبيدة: هو اللحم يؤخذ فيغلى إغلاءةً ولا ينضج ويحمل في الأسفار، ومثله في «الصحاح» وزاد قوله: وهو أبقى قديد يكون.
28 - (وعن أسماء) بسكون السين المهملة آخره ألف ممدودة (بنت يزيد) بفتح الياء الأولى وسكون الثانية بينهما زاي مكسورة ابن السكن بن رافع بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن خيثم الأنصاري (رضي الله عنها) ولما لم يكن في الصحابيات أسماء بنت يزيد سواها لم يقيد بقوله: الأنصارية، تكنى أم سلمة، ويقال: أم عامر. قال الحافظ في «التقريب» لها أحاديث، قلت: عدتها أحد وثمانون، خرج لها البخاري في «الأدب المفرد» ، وروى عنها الأربعة، وفي «أسد الغابة» أنها ابنة معاذ بن جبل وأنها قتلت يوم اليرموك تسعة من الروم بعمود فسطاطها (قالت: كان كم قميص رسول الله) قال في «المصباح» : كم القميص معروف جمعه أكمام وكممة مثل عنبة (إلى الرضع) وحكمة الاقتصار عليه أنه متى جاوز اليد شق على لابسه ومنعه سرعة الحركة والبطش، ومتى قصر عنه تأذى الساعد ببروزه للحرّ والبرد فكان جعله إليه أمراً وسطاً وخير الأمور أوساطها، ولا تنافي هذه الرواية رواية أسفل من الرسغ لاحتمال تعدد القميص أو أن المراد «التقريب» لا التحديد (رواه أبو داود والترمذي) قال ابن حجر الهيثمي في «أشرف الوسائل» : هو بالصاد عندهما (وقال: حديث حسن) ورواه النسائي قال: وهو عند غيرهما بالسين (الرصغ) بضم الراء وسكون المهملة(4/480)
وضمها للاتباع لغة بعدهما معجمة (بالصاد والرسغ بالسين) أي المهملة أيضاً (هو) أي هنا (المفصل بين الكف والساعد) وإلا ففي «المصباح» أنه من الإنسان مفصل ما بين الكف والساعد والقدم: أي مشترك بينهما، ثم ظاهر عبارته أن السين والصاد كل منهما أصل غير منقلب عن الآخر، وعبارة «النهاية» تشهد له وهي الرصغ لغة في الرسغ اهـ.
29 - (وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنها قال: إنا كنا يوم) أي زمن وهو ظرف للفعل الآتي بعد (الخندق) وكان حفره لما تحزبت قريش واجايشها إلى أن بلغوا عشرة آلاف، فأرادوا حرب المدينة فأشار سلمان بحفر الخندق حول المدينة: فأمر به وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة، قال ابن إسحاق: في شوّال وقال ابن سعد: في ذي القعدة (نحفر فعرضت لنا كدية شديدة) أي تامة الإباء عن تأثير الفؤوس فيها (فجاءوا إلى النبيّ) قال في «المصباح» جاء زيد يجيء مجيئاً حضر، ويستعمل متعدياً أيضاً بنفسه فيقال: جئت شيئاً حسناً: أي فعلته، وجئت زيداً إذا أتيت إليه، وجئت به إذا أحضرته معك، وقد يقال: جئت إليه: يعني ذهبت إليه اهـ (فقالوا: هذه كدية) وقولهم: (عرضت في الخندق) في محل الصفة للكدية أتوا به إطناباً لطول المحاورة مع المصطفى نظير ما قيل في قوله موسى عليه السلام {أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي} (طه: 18) والخندق معروف (فقال: أنا نازل) عمل فيه بنفسه ترغيباً للمسلمين، فلذا سارعوا إليه فأتموه قبل وصول المشركين وحصارهم (ثم قام وبطنه معصوب) قال في «المصباح» : البطن خلاف الظهر وهو مذكر، وفي البخاري: وبطنه معصوب بحجر: أي مربوط فوق الحجر عن بطنه الشريف، وتقدم في الباب حكمة ذلك، والجملة حال من فاعل قام (ولبثنا) بالموحدة فالمثلثة: أي قمنا (ثلاثة أيام) ظرف لقوله: (لا نذوق ذواقاً) بفتح الذال المعجمة مصدر بمعنى الذوق:(4/481)
أي المطعوم: أي لا نطعم فيها، والجملة يحتمل كونها حالية بإضمار «قد» من فاعل نحفر، ويحتمل كونها معطوفة على الجملة الحالية، ففيها بيان سبب عصب بطنه من طول مدة ترك الطعام، ويحتمل كونها معترضة أتى بها لبيان أن ما حصل منه من التأثير في تلك الكدية ليس ناشئاً عن القوة المودعة في الإنسان عادة لغلبة الضعف عليه حينئذ بترك تناول الطعام المدة المذكورة، إنما ذلك معجزة، ثم رأيت الحافظ في «الفتح» جزم بالأخير وقال: إنه سبب
العصب، وغير خاف أن ما ذكرناه محتمل وله أوجه، والله أعلم (فأخذ المعول) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو بعدها لام: أي المسحاة، وعند أحمد: فأخذ المعول أو المسحاة بالشك (فضرب فعاد) أي فصارت الكدية وذكرها باعتبار المضروب الدال عليه قوله: فضرب (كثيباً أهيل) بوزن أحمد ثالثه تحتية وعند البخاري أهيل أو أهيم، والمعنى أنه صار رملاً لا يتماسك. قال الحافظ في «الفتح» : ضبط أهيم بالمثلثة وبالتحتية، والمعروف الثاني وهي بمعنى أهيل (فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت) الظرف الثاني متعلق بفعل محذوف يدل عليه المقام: أي انصرف، وفي الكلام حذف صرح به أبو نعيم في روايته في «المستخرج» فقال: «فأذن لي» (فقلت لامرأتي) اسمها سهيلة بنت معوذ الأنصارية (رأيت) أي أبصرت (بالنبي شيئاً) أي عظيماً كما يدل عليه قوله: (ما في ذلك صبر) أي ما في الاستفهام: أي أعندك ما تندفع به الحاجة في الجملة (فقالت: عندي شعير) جاء في رواية ابن بكير أنه صاع (وعناق) بفتح العين المهملة وتخفيف النون هي الأنثى من المعز (فذبحت بتاء المتكلم (العناق وطحنت)) بفتح حروف الفعل الثلاثي والتاء فيه للتأنيث وفاعله يعود إلى امرأته (الشعير) وقوله: (حتى جعلنا اللحم في البرمة) بضم الموحدة وسكون الراء كما في «الفتح» غاية لمقدر: أي واستمريت غائباً عن الخندق إلى ما ذكر، وفي رواية الكشميهني: حتى جعلت (ثم جئت النبي والعجين قد انكسر) أي لان(4/482)
ورطب وتمكن منه الخبز (والبرمة بين الأثافي) بمثلثة وفاء: ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر (قد كادت) أي قاربت (تنضج) بفتح الفوقية والضاد: أي تدرك الاستواء (فقلت: طعيم) بتشديد التحتية صغره مبالغة في تحقيره قيل: من تمام المعروف تعجيله وتحقيره (لي) في محل الصفة وأتى به طلباً لخبره بمجيئه إلى منزله إجابة لدعوته (فقم أنت يا رسول الله) أكد الضمير المستكن بالضمير البارز لينبه على أنه المقصود بالأصالة فأجد دلالة على الاهتمام بذلك
لا ليعطف عليه قوله: (ورجل أو رجلان) لوجود الفصل بالنداء بين المتعاطفين وهو كاف كذلك (قال: كم هو؟ فذكرت له ذلك) أي ما ذكر قبله واستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع للبعيد لأنه لما لم يسمع صار كأنه بعيد (فقال: كثير طيب) لعل سؤاله عنه ليتنبه جابر إذ رأى شبع أولئك العدد الكثير من ذلك النزر اليسير، فيعلم أنه معجزة كما قيل به في حكمة قوله تعالى:
{وما تلك بيمينك يا موسى} (طه: 17) وأن ذلك أثر قوله: كثير طيب (قل لها) أي لامرأتك (لا تنزع البرمة) بكسر الزاي والفعل مجزوم والمراد لا تأخذ اللحم منها (ولا الخبز من التنور) بفتح الفوقية وتشديد النون وهو الذي يخبر فيه. قال في «المصباح» : وافقت فيه لغة العرب العجم. وقال أبو حاتم: ليس بعربيّ صحيح والجمع تنانير (حتى آتي) أي أجيء إلى المنزل فقال: (أي بعد قيامهم قبل وصولهم المنزل) فقلت: ويحك (بفتح الواو وسكون التحتية وهي كلمة رحمة، وويل كلمة عذاب) ، وقيل: هما بمعنى واحد، وهو منصوب بإضمار فعل، أي ألزمك الله ويحاً، كذا يؤخذ من «الصحاح» (قد جاء النبيّ والمهاجرون والأنصار ومن معهم) أي من مواليهم والمسلمين مما لم يهاجر جاء عنه في رواية أخرى: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلاالله، وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير وعناق فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت، جاءك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق أجمعين (قالت: هل سألك؟ قلت: نعم) زاد في رواية فقالت: الله ورسوله أعلم، نحن قد أعلمناه بما عندنا فكشفت عني غماً شديداً، فيه دليل على وفور عقلها وكمال فضلها لعلمها(4/483)
أنه حيث علم بالطعام المدعو له ودعا من دعاه عليه إنما عليه إنما هو لما يعلمه، لأن الذي أشبع القوم إنما كان منه من خرق الله تعالى العادات له معجزة فلذا (قال: ادخلوا) لأن في الحقيقة الدعوة وإنما هي منه، وما جاء به جابر لا يجدي في أولئك (ولا تضاغطوا) بإعجام الضاد والغين وإهمال الطاء أي لا
تزاحموا، زاد في رواية البخاري: فأخرجت له عجينتنا فبسق فيها وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق فيها وبارك (فجعل يكسر الخبز عليه اللحم) إداماً له ونظيره ما في «الشمائل» للترمذي عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ كسرة من خبز الشعير فوضع عليها تمرة فقال: هذه إدام هذه وأكل. قال بعض الشراح: يؤخذ من وضعها عليها أنه لا بأس بوضع الأدم على الخبز. قال ابن حجر الهيثمي: ومحله إن سلم ما لم يقدر بحيث يعافه غيره (ويخمر البرمة والتنور) أي يغطيهما ويستمر التخمير (حتى إذا أخذ منه) أي إلى وقت أخذه منه (ويقرب إلى أصحابه) الطعام المأخوذ (ثم ينزع) أي يأخذ اللحم من البرمة (فلم يزل بكسر) أي الخبز (ويغرف) أي من البرمة (وبقي منه) أي بعد شبع القوم بقية وحذف للأبهام على السامع وتعظيماً لقدر الباقي، ويصح كون «من» فاعلاً بناء على ما جرى عليه في «الكشاف» من أنها بمعنى بعض فحلت محله: أي وبقي بعضه (فقال: كلي هذا وأهدي) بقطع الهمزة أمر للمخاطبة، ولعل تخصيصها بالخطاب دونه أنه أكل مع القوم دونها فكانت مشتغلة بالغرف والخبز، أو أنها وإن أكلت حينئذ أيضاً إلا أنها لما باشرت تعب ذلك أكثر منه جعل لها ذلك (فإن الناس أصابهم مجاعة) هذه جملة مستأنفة لبيان قوله: وأهدي جاء في رواية: فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع. وذكر الفعل لأن المسند إليه تأنيث مجازي وقد فضل بضمير المفعول فهو نظير قوله تعالى:
{قد جاءكم موعظة} (يونس: 57) وجاء التأنيث في التنزيل أيضاً قال تعالى: {كذلك أتتك آياتنا} (طه: 126) قال البدر الدماميني: القوم على رجحان التذكير في ذلك على التأنيث إظهاراً(4/484)
لفضل المؤنث الحقيقي على غيره، لكن الذي يظهر لي أن التأنيث أحسن بدليل أكثريته في الكتاب العزيز وفشوه فيه جداً، وأكثرية أحد الاستعمالين دليل على أرجحيته، فينبغي المصير إلى القول بأن الإتيان بالسلامة في ذلك حسن وأفصح وتركها حسن فصيح اهـ (متفق عليه) أي من حيث المعنى، وإلا فهو بهذا اللفظ للبخاري في «المغازي» .
(وفي رواية) هي لهما فرواها البخاري عقب الحديث قبله ومسلم في الأطعمة من «صحيحه» عن سعيد بن مينا (قال جابر لما حفر الخندق) بالبناء للمفعول (رأيت النبي خمصاً فانكفأت) وعند البخاري: فانكفيت بتحتية بدل الهمزة (إلى امرأتي) بعد أن استأذنت النبي كما في الرواية قبله (فقلت: هل عندك شيء) أي من الطعام والتنوين فيه للتقليل (فإني رأيت) أي أبصرت (برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصاً شديداً) وصف الخمص هنا تهييجاً على إظهار ما عندها إن كان كما هو من عادة النساء من إخفاء بعض المتاع عن الأزواج يعدونه لشدتهن: أي لا شدة يدخر لمثلها فوق هذا (فأخرجت إلي جراباً فيه صاع من شعير) الصاع مكيال، وصاع النبيّ الذي بالمدينة أربعة أمداد وذلك خمسة أرطال وثلث بالبغدادي. وقال أبو حنيفة: الصاع ثمانية أرطال لأنه الذي يعامل به أهل العراق ورد بأن الزيادة عرف طار على عرف الشرع وسبب الزيادة ما ذكر الخطابي أن الحجاج لما ولي العراق كبر الصاع ووسعه على أهل الأسواق للشعير فجعله ثمانية أرطال قال الخطابي وغيره: وصاع أهل الحرمين إنما هو خمسة أرطال وثلث، والصاع يذكر ويؤنث. قال الفراء: أهل الحجاز يؤنثونه وبنو أسد وأهل نجد يذكرونه وربما أنثه بعض بني أسد. قال الزجاج: التذكير أفصح عندالعلماء اهـ ملخصاً من «المصباح» والظاهر أن المراد من الصاع المعروف عند أهل المدينة وهو الصاع الشرعي. و «من» في قوله من شعير. بيانية للصاع: أي للمكيل به (ولنا بهيمة) يتشديد التحتية بالتصغير لما تقدم (داجن) أي ملازمة للبيت لا تفلت للرعي، ومن شأنها أن تكون سمينة (فذبحتها) بضم التاء للمتكلم (وطحنت الشعير) بكسر تاء التأنيث الساكنة لالتقاء الساكنين والفاعل ضمير يعود إلى المرأة (
ففرغت إلى) أي مع (فراغي) أي فرغت من الطحن مع فراغي من ذبح الداجن وسلخها (وقطعتها) كذا في الأصول بتخفيف الطاء المهملة ولعله لصغر جثتها وإلا فالأنسب بالتكثير التشديد (في برمتها) متعلق بمحذوف:(4/485)
أي وألقيتها في برمتها (ثم) كأن الإتيان بها لتأخره مشتغلاً بإيقاد النار وإصلاحها لسرعة النضج (وليت) أي انصرفت عنها متوجهاً (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: لا تفضحني) بفتح الصاد المعجمة (برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه) أي لا تكشف عواري وفاقتي بقلة ما يخرج إليهم المنبىء عن ذلك، أو لا تعبني بأن أنسب للبخل بذلك، ومرادها الكناية عن تقليل المدعو إليه لبيان الطعام فيهم (فجئته فساررته) بالمهملة والرائين وصيغة المبالغة في إخفاء ذلك الأمر وكتمه لئلا يطلع عليه أحد فيحضر من غير طلب لما بالناس من المجاعة فيقع في الفضيحة، وفيه جواز المسارة بحضرة الجمع إنما نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث، وقوله: (فقلت: يا رسول الله ذبحنا) لعل الإتيان فيه بهذا الضمير لأنه شورك في ذبحها بإمساك الشاة وأخذ الشفرة (بهيمة) بالتصغير (لنا) وأتى بالظرف لما تقدم في نظيره من قوله طعيم لنا (وطحنت) بضم الفوقية أي أمرت المرأة بطحن (صاعاً من شعير) فالإسناد مجازي كقولهم بنى الأمير المدينة (فتعال أنت ونفر) بفتح أوليه النون والفاء وهو كما في «المصباح» وغيره جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال فيما زاد على عشرة اهـ (معك) أتى به إعلاماً بأنه المقصود أصالة وغيره بالتبع (فصاح النبي) يحتمل كون الإسناد حقيقاً وهو المتبادر، لأن الذي وصفه به أنس أنه ليس صخاباً في الأسواق، والخندق ليس منها، وأيضاً فالأمر دعا هنا إلى رفع الصوت ليسمع القوم فيجيئوا، ويحتمل أن يكون مجازياً: أي أمر بذلك فيهم، وعلى الوجهين فهناك مقدر تقديره فقال: (يا أهل الخندق إن جابراً قد) للتحقيق (صنع سؤراً فحيهلاً) بفتح الهاء المهملة وتشديد
التحتية والهاء منوناً، وقيل: بلا تنوين: أي أقبلوا مسرعين (بكم فقال النبي: لا تنزلن) رأيته في أصل مصحح من البخاري بفتح الفوقية وفتح الزاي مسنداً لقوله: (برمتكم) وفي نسخة مصححة من الرياض بضم الفوقية واللام، فالفاعل ضمير الجماعة محذوف لالتقاء الساكنين، لدلالة الضمة عليه. وفيه تغليب الحاضر على الغائب والمذكر على المؤنث فإن الأمر بذلك له ولأهله (ولا تخبزنّ عجينكم) وفي نسخة من البخاري بضم الفوقية(4/486)
وفي أخرى بتحتية مضمومة بدل الفوقية وفتح الباء والزاي فيهما مبني للمجهول نائب فاعله ما بعده، وهو على التحتية بحذف الفوقية من عجينتكم، وفي النسخة المذكورة بفتح أوله وكسر الموحدة وضم الزاي فالفاعل محذوف، وعجينكم بحذف الفوقية مفعوله (حتى أجيء) غاية للكف عنهما المدلول عليه بالنهي عن فعل كل منهما (فجئت وجاء النبي) أعاد العامل إيماء إلى أن الواو للاعتراض ببيان صفة مجيئه بينه قوله: (يقدم الناس) إذ هو في محل الحال، قال المصنف: وإنما فعل هذا لأنه دعاهم فجاءوا تبعاً له كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهم، وكان في غير هذا الحال لا يتقدمهم ولا يمكنهم من وطء عقبه وفعله هنا لهذه المصلحة اهـ. والجملة معترضة بين المغيا وهو مجيئه والغاية وهي قوله: (حتى جئت امرأتي) أي وأعلمتها بندائه في أهل الخندق (فقالت: بك وبك) بالموحدة فيهما وفتح الكاف، وتكلمت عليه أولاً لظنها أنه لم يخبر النبي بالأمر ولم يفصح له عنه فلذا قال: (فقلت: قد فعلت) لا يخفى ما بين قوله: فقلت وفعلت من الجناس المصحف الخطي، وفيه إطلاق الفعل على القول ولعله للفرار عن التكرار المستثقل في السمع: أي قلت: (الذي قلت) بكسر الفوقية فحينئذ سكن ما بها، وهذا كما تقدم من كمال عقلها ووفور فضلها (فأخرجت عجينتنا) في «المصباح» : العجين فعيل بمعنى مفعول (فبصق) بالموحدة والصاد المهملة، قال المصنف: كذا في أكثر الأصول، وفي بعضها بالسين وهي لغة قليلة والمشهور
بصق وبزق، وحكى جماعة من أهل اللغة بسق لكنها قليلة اهـ (فيه بارك فيه) أي دعا بالبركة وهي الخير الكثير الدائم ودوام كل شيء بحسبه (ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك) أتى بثم إيماء إلى أن تأخر ذلك منه في الجملة وكأنه لأمر اقتضى تأخير وصوله لمحل البرمة وحذف متعلق كل من الفعلين إيجازاً اكتفاء بدلالة الجملة الأولى عليه (ثم قال) لعل تأخير القول عن البصق والدعاء أنه رأى الحاجة إلى ذلك بعد فأمر به عند ظهورها (ادع خابزة فلتخبز معك) كذا في الرياض من غير ياء في ادع، وبالكاف في معك.
قال المصنف في «شرح مسلم» : هذه اللفظة وهي ادعي وقعت في بعض الأصول هكذا بعين ثم تحتية، وهو الصحيح الظاهر لأنه خطاب للمرأة، ولهذا قال: فلتخبز معك، وفي بعضها ادعوني، وفي بعضها ادعني وهما أيضاً صحيحان، وتقديرهما اطلبوا لي واطلب لي اهـ. والذي في البخاري، وقال: ادع خابزة فلتخبز معي، ولعله(4/487)
وقع مباشرة الخبز منه تارة، ومن المرأة أخرى فطلب في كل معيناً (واقدحي) أي اغرفي (من برمتكم ولا تنزلوها) فيه تغليب المذكر على المؤنث لشرفه فالخطاب لجابر والأمر له ولامرأته، وفيه إن لم يكونا أزيد من ذلك إطلاق الجمع على ما فوق الواحد، وكأن حكمه الإبقاء ستر السرّ الإلهي بايهام الحاضرين كثرتها فتستمرّ سحائب الفيض متواترة معجزة له، ولا يقع عليها نظرهم ابتداء فيستقلوها فيكون بسبب رفع البركة منها أخذاً مما يأتي عن التلمساني في قصة أبي طلحة (وهم ألف) قال في «الفتح» : أي الذين أكلوا، وهذه الرواية محكوم بها لزيادة ما فيها على رواية إنهم كانوا سبعمائة أو ثمانمائة، ورواية أنهم كانوا ثمانمائة أو ثلثمائة، ورواية أنهم كانوا ثلاثمائة والقصة متحدة (فأقسم با لأكلوا) أكد بعده مؤكدات دفعاً لاستبعاد العقل بحسب العادة اكتفاء هذا العدد الكثير بهذا القدر اليسير من الطعام (حتى تركوه) أي المذكور من خبز العجين ولحم الشاة (وانحرفوا) أي مالوا عن المنزل جهة مقصدهم (وإن برمتنا لتغط) بكسر المعجمة وتشديد الطاء المهملة والجملة حالية، وقوله: (كما هي) مفعول مطلق أي تغط بعد انصرافهم شباعاً مثل غطيطها قبل الأخذ منها (وإن عجينتنا ليخبز كما هو) جملة معطوفة على الجملة الحالية، وهذه القصة علمان من أعلام النبوة: تكثير الطعام القليل، وعلمه بأنّ هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر فيكفي ألفاً وزيادة، فدعا له ألفاً قبل أن يصل إليه وقد علم أنه صاح شعير وبهيمة والله أعلم (قوله: عرضت كدية هي) في رواية الإسماعيلي (بضم
الكاف وإسكان الدال) المهملة (وبالمثناة تحت، وهي قطعة غليظة صلبة) بضم الصاد المهملة: أي شديدة قوية (من الأرض) مثله في «المصباح» وفي «فتح الباري» هي القطعة الصلبة الصماء وقوله: (لا يعمل فيها الفأس) بيان لتلك، لا أنه داخل في مفهوم الكدية كما تقدم عن «المصباح» وغيره، وعند أبي ذرّ أحد رواه البخاري أيضاً كيدة بفتح الكاف وسكون التحتية، قيل: هي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض، وقال عياض: كأن المراد بها واحدة الكيد، كأنهم أرادوا أن الكيد وهو الحيلة أعجزهم، فلجئوا إلى النبيّ. وعن ابن السكن: كتدة بفوقية بدل(4/488)
التحتية. قال عياض: لا أعلم لها معنى (والكثيب) بوزن قريب بمثلثة وتحتية فموحدة (أصله تل الرمل والمراد هنا صارت) هذا تفسير عادت فإنه يأتي كذلك. ومنه قول الكفرة لشعيب
{أو لتعودنّ في ملتنا} (الأعراف: 88) فإن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة وبعدها قولاً واحداً، ويأتي عاد بمعنى رجوع الشيء لما كان عليه، وقد حمل بعضهم عليه الآية وقال: إنه باعتبار تغليب قومه لكثرتهم عليه وهي هنا في الخبر لم يكن رملاً ثم انعقدت كدية بل الكدية أصلها فصارت بضربه معجز له (تراباً ناعماً) يسيل ولا يتماسك قال تعالى: {وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} (المزمل: 18) أي رملاً سائلاً (وهو معنى أهيل) والاقتصار على أهيل الذي جرى عليه الشيخ هو ما في رواية الإسماعيلي، وكذا عند أحمد «كثيباً يهال» وفي رواية للبخاري كما تقدم «أهيل» أو «أهيم» بالشك (والأثافي) تقدم ضبطه (الأحجار التي تكون عليها القدر) قال في «النهاية» : هي جمع أثفية وقد تخفف الياء في الجمع يقال: أثفيت القدر إذا جعلت لها الأثافي، وثفيّتها: إذا وضعتها عليها، والهمزة فيه زائدة اهـ (وتضاغطوا) بتخفيف الضاد المعجمة على أن إحدى التاءين حذفت تخفيفاً وبتشديدها على الإدغام (تزاحموا) بالوجهين، قال في «المصباح» : ضغطه ضغطاً من باب نفع: دفعه إلى حائط أو غيره (والمجاعة الجوع) فهي مصدر ميمي (وهي بفتح الميم) وتخفيف الجيم، قال في «النهاية» : مفعلة من الجوع، وفي «المصباح» إنها اسم مصدر كالجوع بضم الجيم المشترك بينه وبين مصدر جاع (والخمص بفتح الخاء المعجمة والميم) مثله في «شرح مسلم» لكن في «فتح الباري» وقد تسكن الميم (الجوع) في «الفتح» وهو ضمور البطن ولا منافاة فبأحدهما يلزم الآخر (وانكفأت) أي بالهمزة في رواية مسلم، قال المصنف: ووقع في نسخ فانكفيت وهو خلاف المعروف في اللغة، بل الصواب انكفأت بالهمزة اهـ. وتقدم أنه بالياء عند البخاري وتوجيهه كما في «الفتح» كأنه سهل الهمزة وقلبها ياء (انقلبت ورجعت. والبهيمة بضم الباء) الموحدة وتشديد التحتية (تصغير بهمة) بفتح الموحدة وسكون الهاء، قال في «المصباح» : ولد الضأن تطلق على الذكر والأنثى وجمعها
بهم كتمرة وتمر، وجمع البهم بهام كسهم(4/489)
وسهام، ويطلق البهام على أولاد الضأن والمعز إذا اجتمعت تغليباً، فإذا انفردت قيل: لأولاد الضأن بهام لأولاد المعز سخال. وقال ابن فارس: إليهم صغار الغنم. وقال أبو زيد يقال لأولاد الغنم سائمة تضعها الضأن والمعز ذكراً كان الولد أو أنثى سخلة ثم هي بهيمة
وجمعها بهم اهـ (وهي) أي المراد منها كما جاء التصريح به في الروايات السابقة عن جابر في الحديث السابق (العناق بفتح العين) المهملة وتخفيف النون آخره قاف قال في «المصباح» : هي الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول اهـ، والمراد ما قاربها ليحصل به قرى الضيف (والداجن) بالدال المهملة والجيم والنون (هي التي ألفت البيوت) ولم تفلت للمرعى وذلك للاعتناء بها المنبىء عن كرمها وسمنها (والسؤر) بضم السين المهملة وإسكان الواو مهموز (الطعام الذي يدعى الناس إليه) قال في «شرح مسلم» وقيل: الطعام مطلقاً (وهو بالفارسية) مثله في «شرح مسلم» ، وخالفه الحافظ في «الفتح» فقال: وسكون الواو بغير همز، أما بالهمز فهو البقية قلت: ويؤيده أنه ذكره في «النهاية» في مادة السين والواو بغير همز، واقتصر على أنه الطعام المدعو إليه. قال في «الفتح» وهو هنا الصنيع بالحبشة. وقيل: العرس بالفارسية، ويطلق على البناء الذي يحيط بالمدينة اهـ. ويؤخذ منه أن إطلاقه على الطعام المذكور مجار مرسل، إذ هو بالفارسية العرس الملازم له عادة فأطلق اللازم وأريد الملزوم (وحيهلاً) بتنوين هلا. وقيل: بلا تنوين. ويقال: حيهل (أي تعالوا) وقال في «الفتح» : هي كلمة استدعاء فيها حث: أي هلموا مسرعين وهذا تفسير مراد. وأما معناه ففي «شرح مسلم» للمصنف: قيل عليك بكذا أو دع بكذا، هكذا قاله أبو عبيد وغيره، وقيل: معناه أعجل به وقال الهروي: معناه هات وعجل به اهـ. وفي «النهاية» هي كلمتان جعلتا كلمة واحدة فحي معناه أقبل، وهلا أسرع. وقال ابن عيش في «شرح
المفصل» : هو من أسماء الأفعال مركب من حي وهل، وهما صوتان معناهما الحثّ والاستعجال وجمع بينهما وسمي به للمبالغة، وكان الوجه ألا ينصرف كحضرموت وبعلبك إلا أنه وقع موقع فعل الأمر فبنى كصه ومه وفيه لغات، وتارة يستعمل حيّ وحده نحو حيّ على الصلاة وتارة هلا وحدها، واستعمال حي وحده أكثر من استعمال هلا وحده اهـ. وقال صاحب «البسيط» : فيه سبع لغات حيهل بفتح الياء المشددة والهاء كخمسة عشر، وحيهلا بالتنوين لإرداة التنكير، وحيهلا بالألف من غير تنوين، وحيهلا بإسكانها مع التنوين وإيكان الهاء كراهة لاجتماع الحركات، وجاء(4/490)
متعدياً بنفسه كحيهلا الثريد: أي ائته أو أحضره وقربه وبالباء كحيهلا بعمرو: أي ائت به وبإلى كحيهلا إلى كذا: أي سارع وبادر إليه وبعلى كحيهلا على كذا: أي أقبل عليه. كذا في مرقاة الصعود للسيوطي، ويؤخذ منه تفسير المتعدي بالباء بائت به أن معنى قوله كحيهلا بكم: أي أقبلوا بأنفسكم (وقولها: بك وبك) بالموحدة وفتح الكاف فيهما (أي خاصمته وسبته) قال في «شرح مسلم» : أي ذمته ودعت عليه. وقيل: معناه: بك تلحق الفضيحة وبك يتعلق الدم، وقيل: معناه: جرى هذا برأيك وسوء نظرك وبسببك (لأنها اعتقدت أن الذي عندها لا يكفيهم) وأن جابراً لم يخبر النبيّ بقدره فاستحيت وخفي عليها ما أكرم الله سبحانه وتعالى به نبيه من هذه المعجزة الظاهرة والآية العلامة الدالة على نبوّته (الباهرة) من بهرت الشمس غلب نورها على كل ذي نور إذ كفى بهذا الطعام اليسير ذلك العدد الكثير، ولا تخالف بين ما في هذه الرواية من كونها ثالت له ما ذكر من السبّ وما تقدم في الرواية قبلها من أن رفع جابر إنما كان بقولها: هل هن كان سألك الخ، لما في «الفتح» للحافظ من الجمع بينهما بأنها أوصته أو لا ألا يعلمه بالصورة فلما قال لها: إنه جاء بالجميع ظنت أنه لم يعلمه فخاصمته، فلما أعلمها أنه أعلمه سكن ماعندها لعلمها بإمكان خرق العادة.l ثم اختلف العلماء فيما في
القصة من اكتفاء ذلك الجمع بذلك النزر اليسير هل مع بقاء الطعام على قلته، ولكن ببركته أجرى الطعام القليل مجرى الكثير، فيكفي كفايته وتوقف الشبع على كثرة المأكول أمر عادي، وأن الله زاد فيه وكثره، ويعبر عن القول الأول بتكثير الموجود، وعن الثاني بإيجاد المعدوم، والثاني أقرب (بسق) بالسين المهملة، وفي «المصباح» : أن السين بدل من الصاد، قال: ومنعه بعضهم وقال: لا يقال بسق بالسين إلا لزيادة الطول كالنخلة وغيرها وعزاه إلى الخليل (ويقال) له: (أيضاً بزق) بالزاي بدل الصاد (ثلاث لغات) وهذا لا يخالف ما ذكر في «المصباح» من أن الأصل الصاد وأن السين والزاي بدلان منها (وعمد بفتح الميم) من باب ضرب كما في «المصباح» أي قصد (واقدحي) بوصل الهمزة وفتح الدال المهملة (أي اغرفي والمقدحة) بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه ورابعه المهملين (المغرفة) بالغين المعجمة والفاء ووزن ما قبله(4/491)
وهما اسما آلة (وتغط) تقدم ضبطها (أي لغليانها صوت) وذلك كناية عن كثرة ما فيها إذ القليل يضعف غليانه عن رفع الصوت، (والله أعلم) .
30 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو طلحة) زيد بن سهل الأنصاري (لأم سليم) بضم السين المهملة زوج أبي طلحة وأم أنس، وما في «وسيط الغزالي» تبعاً لشيخه الصيدلاني ومحمد ابن يحيى صاحب «البحر» من أنها جدة أنس فغلط اتفاقاً، قاله المصنف في «التهذيب» . واختلف في اسمها فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: أنيفة، وقيل: رميثة، وقيل: الرميصاء وهي بنت ملحان بكسر الميم ويقال: بفتحها الأنصارية (قد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفاً) حال وهو مراد الإخبار، ويحتمل أن يكون ضمن معنى فعل قلبي، فعمل عمله من نصب المفعولين، وإلا فسمع في مثله لا ينصب إلا واحداً اتفاقاً، وقوله: (أعرف فيه الجوع) في محل الصفة لما قبله وأتى به تأكيداً أو دفعاً لتوهم أنه لم يعرف ذلك منه بل توهمه (فهل عندك من شيء) من مزيدة في المبتدأ لغرض التنصيص على التعميم واستغراق أفراد ما يطلق عليه شيء: أي يطعم بقرينة المقام، وتقدمت حكمة الإتيان بهذا مع الإخبار بالواقع في ثاني حديثي قصة جابر (فقالت: نعم) أي عندي شيء (فأخرجت أقراصاً من شعير) أي بادرت إلى إخراجها لأن الحال تأبى عن التأخير، قال في «فتح الباري» عند أبي يعلى عن أنس: إن أبا طلحة بلغة أنه ليس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعام، فذهب فأجبر نفسه بصاع من شعير فعمل بقية يومه ثم جاء به، الحديث (ثم أخذت خماراً) بكسر الخاء المعجمة: ثوب تغطي به المرأة رأسها ووصفه بقوله: (لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته) بفتح الدال وتشديد السين المهملتين. قال في «فتح الباري» : يقال: دسّ الشيء يدسه دساً: أدخله في الشيء بقهر وقوة اهـ: أي أدخلته (تحت ثوبي وردتني ببعضه) والمراد أنها لفت الخبز ببعض الخمار ولفت أنساً بباقيه (ثم أرسلتني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهبت فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً) مفعول ثان كقوله تعالى: {تجدوه(4/492)
عند اهو خيراً} (المزمل: 20) فوجد فيه من أفعال القلوب
يدل على العلم لأن من وجد شيئاً بحال علمه عليها وقوله: (في المسجد) متعلق بثاني المفعولين ويصح تعلقه بوجدت، وكونه حالاً من فاعله أو من رسولالله، ويقربه قوله: (ومعه الناس) فإنها جملة حالية، ويجوز كونها معطوفة على ثاني المفعولين (فقال رسول الله) في البخاري: «فقال لي» (أرسلك أبو طلحة) بالهمزة مقدرة حذفت. وقال الحافظ في «الفتح» : إنه بهمزة ممدودة للاستفهام (فقلت: نعم. قال: ألطعام) يحتمل نصبه بنزع الخافض أي يدعو إلى الطعام، ويؤيده قوله في رواية البخاري: «قال: بطعام» ، ويحتمل أن يكون مفعول جعل مقدراً وأل في الطعام جنسية (فقلت: نعم) قال الحافظ: ظاهر هذا أن النبيّ فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله، فلذا قال لمن عنده قوموا، وأول الكلام يقتضي أن أم سليم وأما طلحة أرسلا الخبز مع أنس، فيجمع بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس أن يأخذه النبي وحده خشية أن لا يكفيهم فيأكله فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حوله استحيا وظهر له أن يدعو النبي ليقوم معه وحده إلى المنزل فيحصل مقصودهم من إطعامه، ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله، عهد إليه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي وحده خشية ألا يكفيهم أجمعين ذلك الطعام ومن عادته ألا يؤثر نفسه على أصحابه بمثل ذلك فلذا دعاهم (فقال رسول الله: قوموا فانطلقوا فانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة) قال في «الفتح» : جاء في رواية زيادة: «وأنا حزين لكثرة من جاء معه» (فأخبرته) أي بمجيئه ومجيء من معه وحذف ذلك إيجازاً لدلالة ما قبله عليه (فقال أبو طلحة: يا أم سليم) فيه إكرام الرجل زوجه ونداؤها بالكنية (قد) للتحقيق ويحتمل كونها للتقريب (جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس) هو وإن كان من صيغ العموم لكونه اسم جنس محلى بأل إلا أن المراد هنا العموم العرفي: أي الحاضرين مجلسه حينئذ فهذا عام أريد به خاص فهو مجاز قرينته الحال. وفي رواية والناس بالواو بدل الموحدة والمآل واحد لأن
المعنى: الناس معه لكونه الجائي بهم والداعي لهم وجملة (وليس عندنا ما يطعمهم) حالية من فاعل جاء: أي(4/493)
يطعمهم بقدر كفايتهم (فقالت: الله ورسوله أعلم) كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمداً لتظهر له الكرامة في تكثير الطعام ودل ذلك على فطنة أم سليم ورجحان عقلها، قال الحافظ بعد ذكر روايات: فيها ملاقاة أبي طلحة للنبيّ وإخباره بقلة الطعام الذي عنده، وفي رواية يعقوب: «قال أبو طلحة إنما أرسلت أنساً يدعوك وحدك ولم يكن عندنا ما يسع من أرى فقال: ادخل فإن الله سيبارك فيما عندك» وفي رواية أنس: «فدخلت على أم سليم وأنا مندهش» ، وفي أخرى: «أن أبا طلحة قال: يا أنس فضحتنا» ، وللطبراني في «الأوسط» : «فجعل يرميني بالحجارة» (فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه حتى دخلا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلمي) قال الحافظ: كذا لأبي ذرّ عند الكشميهني ولغيره هلم، وهي لغة حجازية هلم عندهم اسم فعل لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع، ومنه قوله تعالى:
{هلم شهداءكم} (الأنعام: 150) وهي لطلب ما بعدها: أي احضري (ما عندك يا أم سليم، فأنت بذلك الخبز فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففت) بالبناء للمجهول (وعصرت عليه) أي على المفتوت المدلول عليه بالفعل قبله أو على الخبز والأول أقرب لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ما لم يصرف صارف لكن ما يأتي في الكلام على قوله: «ثم قال فيه ما شاء الله أن يقول» يؤيد الأول، إلا أن يقال: عصرها عليه بعد الفت زيادة في التطرية وعصره قبله ليلين وينكسر فيه كما يريد والله أعلم (أم سليم عكة) بضم العين المهملة وتشديد الكاف، قال في «النهاية» : هي وعاء من جلد مستدير مختص بالسمن والعسل وهو بالسمن أخص ومثله في «الفتح» (فآدمته) بمد الهمزة وتخفيف الدال المهملة: أي صيرت الخارج منها إداماً له (ثم قال فيه) أي عليه (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقول) فقال أبو طلحة: «قد كان في العكة شيء فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى خرج، ثم مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به ثيابه، ثم مسح القرص فانتفخ وقال: بسمالله، فلم يزل يصنع ذلك والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتسع» ، وفي رواية: «فمسحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعها فيها بالبركة» ، وفي رواية: «فجئت بها ففتح رباطها ثم قال: بسم الله اللهم أعظم فيها البركة» قال الحافظ بعد ذكر ذلك وتعيين راوي كل رواية منها: وعرف بهذا المراد بقوله: «ما شاء الله أن يقول» (ثم قال: ائذن لعشرة فأذن) بالبناء للفاعل:(4/494)
أي المخاطب بذلك الأمر منه من أنس وأبي طلحة، ويحتمل أنه مبني للمفعول (لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم قال: ائذن لعشرة حتى أكل القوم كلهم) قال في «الفتح» : ظاهر هذه العبارة أن النبيّ دخل منزل أبي طلحة وحده، وبه صرح في رواية لابن أبي ليلى ولفظها «فلما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الباب فقال لهم: اقعدوا ودخل» قال في
«الفتح» : وسئلت في مجلس الإملاء عن حكمة تبعيضهم، فقلت: يحتمل أن يكون عرف أن الطعام قليل وفي صحفة واحدة فلا يتصوّر تحلق ذلك العدد الكثير، فقيل: لم لا دخل الكل وبعّض ما لم يسعه التحليق فكان أبلغ في اشتراك الجميع في الاطلاع على المعجزة بخلاف التبعيض، فإنه يطرقه احتمال تكرر وضع الطعام لصغر الصحفة؟ فقلت: يحتمل أن يكون ذلك لضيق الوقت والله أعلم اهـ. وقال التلمساني في حاشية «الشفاء» : وقيل: حكمة ذلك العدد لئلا يقع نظر الكل على الطعام القليل فيزداد حرصهم ويظنون أنه لا يشبعهم فتذهب بركته، وقوله: «كلهم» توكيد أتى به للشمول وألا يتوهم أن المراد أكل المعظم (وشبعوا) أي ليس أكلاً بقدر ما يسد الرمق ويقيم البنية بل إلى حد الشبع، ولا ينافيه النهي عن الشبع لأنه فيمن أدمن عليه واعتاده، وأما نادراً كما في هذا فلا، وأيضاً فما هنا من قبيل خروجه للمطر، قوله فيه: إنه حديث عهد بربه: أي بتكوينه، ومن قبيل حثو أيوب عليه السلام ما تساقط عليه من جراد الذهب فقال الله له: ألم يكن فيما أعطيتك غنى عن هذا؟ قال: بلى، ولكن هذا فضلك ولا غنى بنا عن فضلك، والحديث في «الصحيح» (والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون) رجلاً قال في «الفتح» : كذا في هذه بالشك، وفي غيرها الجزم بالثمانين: أي كما يأتي في الرواية بعد، بل في أخرى أكل منه بضعة وثمانون رجلاً (متفق عليه) رواه البخاري في باب علامات النبوّة بطوله وفي الصلاة مختصراً وفي الأطعمة وغيرها، رواه مسلم في الإيمان، ورواه الترمذي في المناقب وقال: حسن صحيح، والنسائي في الوليمة كذا في «الأطرف» للمزي.
(وفي رواية فما زال) أي النبيّ (يدخل عشرة ويخرج عشرة) أي يأمر بذلك فإسنادهما إليه مجازي بدليل الرواية السابقة (حتى لم يبق منهم أحد إلا أدخل فأكل حتى شبع ثم هيأها) أي جمعها بعد تمامهم أجمعين: أي وبعد أكله وأهل المنزل منه، ويحتمل كونه ذلك قبل هذا (فإذا هي) أي(4/495)
الصحفة باعتبار ما فيها من الطعام (مثلها) على حالتها من قدر الطعام فيها حال وضعه قبل تناول أحد منه وهو مراده بقوله: (حين أكلوا منها) وإذا للمفاجأة والجملة الإسمية بعدها مضاف إليها والمعنى: فاجأهم هذا الأمر الخارق للعادة معجزة له، وذلك مساواتها بعد الشبع الثمانين منها لها قبل وضعهم اليد فيها، وفي رواية لمسلم «ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة فعاد كما كان فقال: دونكم هذا» .
(وفي رواية لمسلم) من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري عن أنس (فأكلوا) الواو فيه ضمير يعود إلى الصحابة المذكورين في الخبر وقوله: (عشرة عشرة) حال بمعنى مرتبين كذلك، وكان حق الإعراب فيهما أن يكون في أحدهما لكن لما قبله كلاهما كان تخصيص أحدهما به ترجيحاً بلا مرجع، فجرى الإعراب فيهما (حتى فعل ذلك بثمانين رجلاً، ثم أكل النبيّ بعد ذلك، وأهل البيت) قال المصنف: فيه إنه يستحبّ لصاحب الطعام وأهله أن يكون أكلهم بعد فراغ الضيفان (وتركوا سؤراً) تقدم ضبطه ومعناه في حديث جابر المذكور آنفاً. ففي الحديث علم من أعلام نبوته من كفاية هذا القدر اليسير من الطعام ذلك العدد الكثير من الأنام.
(وفي رواية) هي لمسلم أيضاً في الأطعمة من حديث عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس (ثم أفضلوا) أي أبقوا (ما بلغوا جيرانهم) وفي رواية: «فضلت فضلة فأهدينا لجيراننا» .
وفي رواية عن أنس: حتى أهدت أم سليم لجيرانها ثم «ما» يحتمل كونها موصولة أو نكرة موصوفة عائدها ضمير مجرور محذوف: أي ما وصلوا به جيرانهم، ويحتمل كون العائد ضميراً منصوباً: أي ما أوصلوه جيرانهم. والجيران بكسر الجيم وسكون التحتية جمع جار (وفي رواية) لمسلم عن يعقوب بن عبد الله بن طلحة الأنصاري (عن أنس) بطريق السماع منه كما صرح به مسلم (قال: جئت رسول الله) أي للقيام بشيء من الخدم لأنه كان خادمه (فوجدته جالساً) يحتمل كونه في المسجد كما وجده فيه في القصة، قيل: وقد صرح بذلك في رواية عنه عند مسلم قال: «جئت النبي فوجدته جالساً في المسجد يتقلب ظهراً لبطن» ثم ساق الحديث، ويحتمل كونه في غيره (مع أصحابه وقد عصب) قال المصنف: بالتخفيف والتشديد بمعنى: أي ربط (بطنه بعصابة) قال مسلم قال أسامة: وأنا أشك على حجر وفعله ذلك ليسكن به مغص المعدة فيضعف عنه ألمها، كما تقدم في حديث(4/496)
جابر في حكمة شدّ الحجر على بطنه. وقوله: عصب الخ جملة حالية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو من ضميرة، وهو لا يخالف قوله في الرواية السابقة يتقلب ظهراً لبطن كما قال المصنف، بل أحدهما يبين الآخر: أين كان كلا الأمرين، فذكر في كل من الروايتين أحدهما وترك الآخر سهواً أو لغيره (فقلت: لبعض أصحابه لما عصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطنه؟ فقالوا: من) من فيه تعليلية لأنها ذكرت لبيان ما سأل عنه أنس من علة الربط: أي لأجل (الجوع) وبسببه كقوله: «مما خطاياهم أغرقوا» (فذهبت إلى أبي طلحة وهو زوج أم سليم بنت ملحان) هذه جملة معترضة بين المتعاطفين أتي بها لبيان وجه مجيئه إليه وقوله: (فقلت: يا أبتاه) هو زوج أمه وسماه أبا تأدباً وألحق بآخره الهاء الساكنة للوقف عليها والجملة معطوفة على جملة ذهب (قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصب بطنه) يحتمل أن تكون رأى علمية فتكون الجملة في محل الثاني وأن تكون بصرية، فتكون الجملة في محل الحال بتقدير
قد، وعلى الثاني فالمراد أنه رأى في محل العصب من بطنه ما ليس بعورة مما كان يبدو منه في خلوته وبين خواص أصحابه وقوله: (فسألت بعض أصحابه فقالوا: من الجوع) أتى به لدفع توهم أن عصب البطن كان من دأبه إنما كان من الجوع، فلذا ذكره له ليبادر إلى السعي في رفعه والإسراع في دفعه (فدخل أبو طلحة على أمي فقال: هل من شيء) من فيه مزيدة لتنصيص العموم والمراد منه ما ينتفع به من الأقوات بقرينة المقام فهو عام أريد به خاص كما تقدم في نظيره، ومجرورها مبتدأ خبره محذوف: أي عندك (فقالت: نعم) ثم بينت ما عندها بقوله: (عندي كسر) بكسر ففتح جمع كسرة بكسر فسكون: القطعة (من الخبز وتمرات) ظاهره أنها كانت قليلة بخلاف الكسر، ويحتمل أنها تجوزت باستعمال جمع القلة في جمع الكثرة كما وقع عكسه في قوله تعالى: {ثلاثة قروء} (البقرة: 228) (فإن جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده أشبعناه) أي لأن بها يحصل الشبع عادة (وإن جاء أحد معه قل عنهم)(4/497)
أي بحسب العادة (وذكر تمام الحديث) قال المصنف: في الحديث ما كان عليه الصحابة من الاعتناء بأحوال رسول الله، وفيه منقبة لأم سليم ودلالة على فقهها ورجحان عقلها لقولها: الله ورسوله أعلم معناه: أنه قد عرف الطعام فهو أعلم بالمصلحة اهـ. وفيه ضيق حال القوم حينئذ، وفيه إجزاؤهم بالقوت وترك ما زاد عليه من شهوة النفس وحظها، والله أعلم.
57 - باب القناعة
هي كما في «الصحاح» في «الفتح» : الرضا بالقسم (والعفاف والاقتصاد) افتعال من القصد وهو ما بين الإسراف والتقتير (في المعيشة والإنفاق) وإخراج المال الطيب في الطاعة والمباحات: أي التوسط فيها كما قال تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء: 29) (وذمّ السؤال) حذف معموله ليعم سائر المسؤول من مال وطعام وغيرهما (من غير ضرورة) إليه قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» أفاد بمفهومه ذم الاشتغال بضده.
(قال الله تعالى) : ( {وما من} ) صلة للتنصيص على العموم ( {دابة في الأرض} ) قال ابن عطية: الدابة ما دبّ من الحيوان، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ودخل فيه الطير والقائم من حيوان. وفي حديث أبي عبيدة: فإذا دابة مثل الظرب، يريد من حيوان البحر، وتخصيصه بقوله في الأرض لكونه أقرب لحسهم، والطائر والقائم إنما هو في الأرض وما مات من الحيوان قبل أن يغتذي فقد اغتذى في بطن أمه ( {إلا على الله رزقها} ) إيجاب تفضل لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً. قال البيضاوي: وأتى به تخفيفاً للوصول، وحملاً على التوكل فيه.
(وقال تعالى) ( {للفقراء} ) أي الصدقات لهم، وهم الأولى والأحق بها وإن جاز صرفها لغيرهم كما يؤخذ من الآية التي قبلها في التلاوة ( {الذين أحصروا في سبيل ا} ) حبسوا أنفسهم في الجهاد. وقيل معناه: حاسبوا أنفسهم بربقة الإسلام(4/498)
وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفرة، فصار خوف العدو عذراً أحصروا به. قيل: المراد بهم فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، وقيل: أصحاب الصفة المنقطعين بكليتهم إلى الله تعالى. قال ابن عطية: يتناول كل من دخل تحت صفة الفقراء غابر الدهر، وقوله: في سبيل الله يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الإسلام ( {لا يستطيعون ضرباً في الأرض} ) ذهاباً بالتجارة فيها لاشتغالهم بالجهاد وبا أو لغلبة الكفرة في البلاد ( {يحسبهم الجاهل} ) بحالهم ( {أغنياء من التعفف} ) من أجل تعففهم عن السؤال ( {تعرفهم بسيماهم} ) من التخشع وأثر الجهد والضيق، وقيل: أثر السجود. قال ابن عطية: وهذا أحسن لأنهم متفرغون متوكلون لا شغل لهم غالباً سوى الصلاة فكان أثر السجود عليهم أبداً ( {لا يسألون الناس إلحافاً} ) أي إلحاحاً والآية تحتمل نفي السؤال عنهم جملة فيكون من نفي المقيد وهذا ما عليه الجمهور، ويحتمل أن سؤالهم: أي إن سألوا عن مزيد الحاجة لا يلحون: أي لا يظهر لهم سؤال بل هو قليل، وباحتماله فيكون النفي للقيد، وهذا هو الأكثر في النفي المتوجه إلى كلام مقيد كما قاله السفاقسي. قال الثعالبي: بعيد من ألفاظ الآية فتأمله، وينبغي للفقير أن يتعفف في فقره ويكتفي بعلم ربه. قال العارف با ابن أبي جمرة: وقال أهل التوفيق من لم يرض باليسير فهو أسير. ومن كلام عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: استغن عمن شئت تكن نظيره، وتفضل على من شئت تكون أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
قال ابن عطية: في الآية تنبيه على سوء حال من يسأل الناس إلحافاً.
(وقال تعالى) : ( {والذين إذا أنفقوا} ) أي من الطاعات لأنهم محفوظون من غيرها كما قال ابن عطية ( {لم يسرفوا} ) أي لم يفرطوا حتى يضيعوا حقاً ناجزاً أو عيالاً أو نحوه ( {ولم يقتروا} ) أي لم يفرطوا في الشحّ ( {وكان بين ذلك قواماً} ) وسطاً وعدلاً، سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي سواء لاستوائهما، والقوام في حق كل بحسب عياله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوساطها، وقواماً خبر ثان أو حال مؤكدة، ويجوز أن يكون الخبر و «بين» : ظرف لغو، وقيل: إنه اسم كان، بني لإضافته لغير متمكن، وضعف بأنه بمعنى(4/499)
القوام فيكون كالإخبار عن الشيء بنفسه.
(وقال تعالى) : ( {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون} ) أي إلا لأجلها، فإنهم خلقوا بحيث تتأتى منهم العبادة وهدوا إليها، فهذه غاية كمالية لخلقهم، وتعرى البعض عن الوصال إليها لا يمكن كون الغاية غاية، وأما قوله تعالى: {ذرأنا لجهنم} (الأعراف: 179) فلام العاقبة نحو «لدوا للموت» أو إلا لنأمرهم، أو ليقروا بي طوعاً أو كرهاً، أو المراد منهم المؤمنون ( {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} ) أي يطعموني: أي ليس شأني معهم كشأن السادة مع العبيد، وقيل: أن يرزقوا أنفسهم أو أحداً من خلقي، وأسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله وإطعام العيال علىالله، وفي الحديث القدسي: «استطعمت فلم تطعمني» .
(وأما الأحاديث) الدالة على ما ذكر في «الترجمة» (فتقدم معظمها) أي أكثرها (في البابين السابقين) قيل: فإن أحاديثهما القناعة من الصحابة والاقتصاد وترك السؤال والصبر على مضض الفقر (ومما لم يتقدم) أي بعضه وإلا فاستعيب جميع ما لم يذكر فيهما مما ورد في الباب قد يشق.
1 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ليس الغنى) أي الممدوح في الشرع المرضي عند الله سبحانه المعدّ لثواب الآخرة أو النافع أو العظيم وهو بكسر أوله المعجم مقصوراً، وقد مد في ضرورة الشعر (عن كثرة العرض) عن فيه سببية (ولكنّ) بتشديد النون فيما وقفت عليه من نسخ الرياض والاستدراك لدفع توهم كثرة العرض ينافي الغني المحمود فدفعه بقوله ولكن (الغني غني النفس) قال ابن بطال: معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال، فكثير من الموسع عليه فيه لا ينتفع بما أوتي، جاهد في الازدياد لا يبالي من أين يأتيه. فكأنه فقير من شدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من(4/500)
استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألحّ في الطلب. وقال القرطبي: وإنما كان الممدوح غنى النفس لأنها حينئذ تكفّ عن المطامع فتعزّ وتعظم، ويحصل لها من الحظوة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله مع كونه فقير النفس لحرصه، فإنه يورّطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله وحرصه، فيكثر من يذمه من الناس فيصغر قدره عندهم فيصير أحقر من كل حقير وأذلّ من كل ذليل.
والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعاً بما قسم الله له لا يحرص على الازدياد لغير حاجة ولا يلحّ في الطلب، بل يرضى بما قسم له، فكأنه واجداً أبداً، والمتصف بفقر النفس على الضد منه، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره، علماً بأن الذي عنده سبحانه خير وأبقى، فهو يعرض عن الحرص والطلب. وقال الطيبي: يمكن أن يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلية، قال الشاعر:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
أي ينبغي أن ينفق أوقاته في الغنى الحقيقي وهو تحصيل الكمالات لا في جمع المال فإنه لا يزداد به إلا فقراً اهـ. قيل: وهذا وإن أمكن إلا أن ما قبله أظهر في المراد. قلت: وعليه فيمكن أن يحمل قوله: ليس الغنى على الدوام: أي ليس الغنى الدائم عن كثرة المال فإنه عرضة للزوال إنما هو بالكمال النفساني وما أحسن ما قيل:
رضينا قسمة الجبار فينا
لنا علم وللأعداء مال
فإن المال يفنى عن قريب
وإن العلم كنز لا يزال
وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب بأن يفتقر إلى ربه في جميع أمره، فيتحقق أنه المعطي المانع فيرضى بقضائه ويشكر على نعمائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى النفس عن غير ربه، والغنى الوارد في قوله تعالى: {ووجدك عائلاً فأغنى} (الضحى: 8) ينزل على غنى النفس، فإن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه قبل أن يفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه، كذا في «الجامع الصغير» (العرض بفتح العين والراء) المهملتين والضاد المعجمة (هو المال) في «المصباح» : هو متاع الدنيا قال: وهو في(4/501)
اصطلاح المتكلمين ما لا يقوم بنفسه ولا يوجد إلا في محل يقوم به، وهو خلاف الجوهر، والعرض بالسكون: المتاع، قالوا: والدراهم والدنانير عين وما سواهما عرض، وجمعه عروض كفلس وفلوس. وقال أبو عبيد: العرض أي بالسكون: الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن ولا يكون حيواناً ولا عقاراً اهـ. وقال ابن فارس: العرض بالسكون: كل ما كان من المال غير نقد.
2 - (وعن عبد الله بن عمرو) بن العاص (رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قد) للتحقيق (أفلح) أي فاز وظفر (من أسلم) لنجاته من النار ودخوله الجنة قال تعالى: {فمن زحوح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} (آل عمران: 185) (ورزق كفافاً) في الزكاة من «الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري: الكفاف ما كفّ عن السؤال مع القناعة لا يزيد على قدر الحاجة، وفيه الزهد: الكفاف الذي ليس فيه فضل عن الكفاية. روى أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب عن سعيد بن عبد العزيز أنه سئل: ما الكفاف من الرزق؟ فقال: شبع يوم وجوع يوم اهـ. وقال القرطبي: هو ما لم يكف عن الحاجات ويدفع الضرورات والفاقات ولا يحلق بأهل الترفهات اهـ. وإنما كان ذلك فلاحاً لكونه حاز كفايته وظفر بإقامته وسلم من تبعة الغنى وذلّ سؤال الشيء، ثم على ما ذكره في الزكاة من «الترغيب» يكون قوله (وقنعه الله بما آتاه) من باب التصريح بما اندرج فيما قبله اهتماماً واحتفالاً بشأنه أو تجرد الكفاية عن اعتبار القناعة في مفهومه (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه كلهم عن ابن عمرو، كذا في «الجامع الصغير» ، وتقدم في الباب قبله حديث بمعناه عن فضالة بن عبيد وفيه شرق هذه الحال على حالي الفقر المدقع والغنى لما في الأول من كدح الحاجة والثاني من بطر الغنى. والحديث قد تقدم الكلام عليه في الباب قبله.
3 - (وعن حكيم) بفتح الحاء المهملة (ابن حزام) بكسر الحاء المهملة وبالزاي ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى الأسدي القرشي المكي (رضي الله عنه) ولد قبل عام الفيل(4/502)
بثلاث عشرة سنة بجوف الكعبة ولا يعرف هذا لغيره، وما روي أن علياً ولد فيها فضعيف عند العلماء، عاش ستين سنة في الجاهلية، وأسلم عام فتح مكة، وعاش في الإسلام ستين سنة على ما تقدم فيه، ولم يشاركه في هذا إلا حسان بن ثابت. والمراد بقولهم وستين في الإسلام: أي من حين ظهوره مظهراً فاشياً، وكان من أشراف قريس ووجوهها جاهلية وإسلاماً ولم يصنع في الجاهلية من المعروف شيئاً إلا صنع في الإسلام مثله، وتقدمت ترجمته أيضاً في باب الصدق (قال: سألت رسول الله) أي من الدنيا (فأعطاني ثم سألته) أي مستكثراً منها (فأعطاني ثم قال) كأن حكمة تأخير هذا القول عن الإعطاء دفع توهم أن ذلك لبخل في المسؤول (يا حكيم) فيه نداء الرجل باسمه، وفيه تنبيه وإيماء إلى هذا الاسم يؤذن بقيامه بالحكمة وهي المعرفة فكأنه قال: يا موصوفاً بالحكمة الداعية إلى الزهادة في الدنيا والإقبال على الآخرة (إن هذا المال خضر) بفتح أوله وكسر ثانيه المعجمين: أي كالخضر في ميل النظر إليه وإلف النفس به (حلو) بكسر المهملة وسكون اللام، قال الحافظ: معناه أن صورة المال وإنما هو للتشبيه فكأنه قال: المال كالبقل الخضر الحلو أو على معنى فائدة المال: أي إن الحياة به أو العيشة به، أو أن المراد بالمال هنا الدنيا لأنه من زينتها قال تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} (الكهف: 46) (فمن أخذه بسخاوة) بفتح السين المهملة وبالخاء المعجمة (نفس) أي بغير شره ولا إلحاح: أي أخذه بغير سؤال هذا بالنسبة للأخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة للمعطي: أي بسخاوة نفس المعطي: أي بانشراحه فيما بذله (بورك له فيه) فوقع منه القليل من المال والبركة موضع الكثير منه مع فقدها (ومن أخذه بإشراف) بالشين المعجمة (نفس) أي انتظارها له
وحرصها عليه كما يأتي بنحوه في الأصل (لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع) أي الذي يسمى جوعه كذاباً لأنه من علة به وسقم، فكلما أكل ازداد سقماً ولم يجد شبعاً. وفي الحديث وجوه من التشبيهات بديعة: تشبيه المال وثمره بالنبات وظهوره، وتشبيه آخذه بغير حق بمن يأكل ولا(4/503)
يشبع. وقال ابن أبي حمزة:
في الحديث فوائد منها أنه قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها، تقول: سخت بكذا: أي جادت به، وسخت عن كذا: أي لم تلتفت إليه. ومنها أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فتبين أن الزهد يحصل خيري الدارين. وفيه ضرب المثل لما لا يعقله السامع مع الأمثلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير، فتبين بالمثال المذكور أن البركة خلق من الله خلق، وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالآكل إنما يأكل ليشبع، فإذا أكل ولم يشبع كان غياً في حقه بغير فائدة في عينه إنما هي لما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر عند المرء من غير تحصيل منفعته كان وجوده كالعدم: «واليد العليا خير من اليد السفلى» في «صحيح البخاري» : فاليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة. قال في «فتح الباري» : عند النسائي من حديث طارق بن المخارق قال: قدمنا المدينة فوجدنا النبيّ قائماً على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطي العليا، ولابن أبي شيبة والبزار من طريق ثعلبة بن زهدم مثله. وقال في «الفتح» بعد إيراد أحاديث: فهذه متضافرة على أن اليد السفلى هي السائلة والعليا هي المعطية، وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور، ثم ذكر مقابل ذلك أقوالاً بسط بيانها في «الفتح» (قال حكيم: فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أزرأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا) هو غاية في ألا برزأ أحداً لأن من المعلوم أنه بعد مفارقته الدنيا لا يحتاج لمال، وإنما هو كناية عن دوام الانكفاف عن الغير أبداً (فكان أبو بكر رضي
الله عنه) أي لما صار خليفة (يدعو حكيماً ليعطيه) أي ما يستحقه من المغنم (فيأبى أن يقبل منه شيئاً ثم إن عمر رضي الله عنه) لما صار إليه الأمر بعد الصديق رضي الله عنه (دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله) أي ولا شيئاً منه كما يدل عليه ما قبله (فقال: يا معشر المسلمين، أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسم ا) العائد فيه ضمير منصوب محذوف (له في الفيء فيأبى أن يأخذه) قال في «المصباح» : المعشر والقوم والرهط والنفر: الجماعة من الرجال دون النساء والجمع معاشر، وفي «فتح الباري» : إنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقه لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئاً فيعتاد الأخذ فيتجاوز به إلى ما لا يريده ففطمها عن ذلك، وترك ما لا(4/504)
يريبه خوف ما يريبه. وإنما أشهد عليه عمر لأنه أراد ألا ينسبه أحد لم يعرف باطن الأمر إلى منع حكيم من حقه (فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبيّ حتى توفي) قال الحافظ في «الفتح» : زاد إسحاق بن راهويه في «مسنده» من طريق عبد الله بن عمرو مرسلاً أنه ما أخذ من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا معاوية ديوناً ولا غيرها حتى توفي لعشر سنين من إمارة معاوية. قال السيوطي في «التوشيح» : وفيه أن سبب سؤاله العطاء أن النبي أعطاه دون ما أعطى أصحابه فقال: يا رسول الله ما كنت أظن أن تقصرني دون أحد من الناس، فزاده ثم استزاده حتى رضي فذكر نحو الحديث اهـ (متفق عليه) أخرجه البخاري في الوصايا وفي الخمس وفي الرقاق: قلت: وفي الزكاة، أخرجه مسلم في الزكاة إلى قوله: واليد العليا خير من اليد السفلى. ورواه الترمذي في الزهد وقال: صحيح، والنسائي في الزكاة والرقاق اهـ ملخصاً من «الأطراف» (يرزأ أبراء ثم زاي ثم همزة) بوزن يسأل (أي لم يأخذ من أحد شيئاً) أي مجاناً كما يدل عليه قوله: (وأصل الرزء النقصان) وما بذل عوضاً لا نقص على باذله، وفي «النهاية» وأصله النقص، وكأن الشيخ رحمه الله نبه بزيادة النون على اعتبار المبالغة في
مفهومه وقوله: (أي لم ينقص أحداً شيئاً بالأخذ منه) تفسير لقوله آخر الحديث: فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس (وإشراف النفس) بالمعجمة (تطلعها وطمعها بالشيء) وأصله أن تضع يدك على حاجبك وتنظر كالذي يستظلّ من الشمس حتى يستبين الشيء، وأصله من الشرف وهو العلوّ كأنه ينظر إليه من موضع عال (وسخاوة النفس) وفي «المصباح» السخاء بالمد: الجود والكرم، وفي الفعل ثلاث لغات سخا من باب علا فهو ساخ، وفي الثانية سخى يسخي من باب علم والفاعل سخ منقوص، والثاثة سخو يسخو كقرب يقرب سخاوة فهو سخي بتشديد الياء اهـ. فيؤخذ منه أن سخاوتها كرمها وجودها وقول المصنف (هي عدم الإشراف والطمع فيه والمبالاة به والشره) أخذه من مقابلتها بالإشراف المفسر بضد ذلك وهو نتيجة ما قلنا، فإن النفس الكريمة هذا شأنها في الدنيا غير مختلفة بجمعها ولا مشتغلة بحفظها ومنعها.(4/505)
4 - (وعن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء بعدها دال مهملة وفيه كنية لصحابي اسمه على الصحيح من أقوال ثلاثة: «هانىء بن نيار» بلوي مدني، وتابعي وهو «ابن أبي موسى الأشعري» وهذا هو المراد، إذ هو المعروف بالرواية عن أبيه، ولذا لم يقيده المصنف كعادته في أمثاله من المشتبهات/ «واسمه عامر» على الصحيح المشهور الذي قاله الجمهور، تابعي كوفي، ولي فضاء الكوفة فعزله الحجاج وجعل أخاه أبا بكر مكانه، اتفقوا على توثيقه وجلالته، وهو جد أبي الحسن الأشعري الإمام في علم الكلام، توفي بالكوفة سنة ثلاث، وقيل: أربع ومائة، كذا لخص من «التهذيب» للمصنف. وحكمة ذكر التابعي في هذا الحديث قوله بعد روايته فحدث أبو موسى (عن أبي موسى الأشعري) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الإخلاص (قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة) بفتح أولية، قال في «النهاية» : غزا يغزو وغزوا، والغزوة المرة من الغزو، والإسم الغزاة: أي بفتحها. قلت: ولو قيل: بأنه للمرة وأصله غزوة بسكون الزاي فنقلت فتحة الواو إليها ثم أعلت إعلال إقوام لم يبعد والله أعلم (ونحن ستة نفر) جملة حالية من فاعل خرج، قال الحافظ: ولم أقف على أسمائهم وأظنهم من الأشعريين وقوله: (بيننا بعير نعتقه) جملة حالية متداخلة من التي قبلها، في «المصباح» البعير مثل الإنسان يقع على الذكر والأنثى والجمل، مثل الرجل يختص بالذكر، والناقة مثل المرأة تختص بالأنثى، والبكر والبكرة كالفتى والفتاة، والقلوص كالجارية، هكذا حكاه جماعة منهم ابن السكيت والأزهري وابن جني، ثم قال الأزهري: هذا كلام العرب، ولكن لا يعرفه إلا خواص أهل العلم باللغة اهـ. وقوله نعتقبه: أي نتعاقبه في الركوب واحداً بعد واحد، يقال: دارت عقبة فلان: أي جاءت نوبته ووقت ركوبه كذا في «النهاية» (فنقبت) بفتح النون وكسر القاف بعدها موحدة أي رقت (قدمي) بكسر الميم إذ لو كان مثنى لكان بالألف والمراد به الجنس، وفي نسخة
أقدامنا بصيغة الجمع المكسر (وسقطت أظفاري) جمع ظفر وفيه لغات ضم أوليه أفصح من ضم أوله وسكون ثانيه، ومن فتح أوليه ومن كسرهما، ويقال: أظفور كأسبوع، وربما يجمع الظفر على أظفر أيضاً كركن وأركن. وقول الجوهري: إنه يجمع أظفور سبق قلم، كأنه أراد أظفر فطغى القلم بزيادة واو اهـ ملخصاً من «المصباح» أي أظفار أصابع قدمي (فكنا نلفّ على(4/506)
أرجلنا الخرق) بكسر أوله المعجم وفتح ثانيه (فسميت غزوة ذات الرقاع) بنصب الغزوة ثاني المفعولين، والأول أقيم مقام فاعل سميت يعود على الغزاة (لما كنا نعصب) أي نربط، وما موصولة: أي الذي كنا نربطه (على أرجلنا من الخرق) قال الحافظ وقال ابن هشام وغيره: سميت به لأنهم رقعوا راياتهم، وقيل: لشجرة بذلك الموضع يقال لها: ذات الرقاع، وقيل: بل الأرض التي نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض قال أبو حيان. وقال الواقدي: سميت بجبل هناك كان فيه بقع، وهذا لعله مستند أبي حيان ويكون قد تصحف خيل بجبل، ورجح السهيلي السبب الذي ذكره أبو موسى وكذا النووي ثم قال: ويحتمل أن تكون سميت بالمجموع اهـ واختلف متى كانت؟ فجنح البخاري إلى أنها بعد خيبر، وذهب أهل السير إلى أنها قبل خيبر، واختلفوا في زمانها فعند ابن إسحاق أنها بعد بني النضير وقبل الخندق سنة أربع، وعند ابن سعد وابن حيان أنها في المحرم سنة خمس وجزم أبو معشر بأنها كانت بعد قريظة والخندق وتردد موسى بن عقبة في وقتها فقال: لا ندري أكانت قبل بدر أو بعدها؟ قال الحافظ: وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنها كانت بعد غزوة بني قريظة. ثم حكى الحافظ خلافاً: هل هي غزوة محارب أو هي غيرها؟ فالجمهور أنها هي، جزم به ابن إسحاق وغيره، وعند الواقدي أنهما ثنتان، وتبعه القطب الحلبي في «شرح السيرة» اهـ ملخصاً من «الفتح» (قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث) ناشراً للسنة إذ منها أيامه وأحواله (ثم كره
ذلك) لما فيه أنه ابتلي فصبر، وذلك من المعاملة بين العبد وربه، وكلما كانت أخفى كانت بالبرّ أخفى (وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره) أي ما أصنع بذكره ذلك ففيه زيادة كان مع اسمها وهو نادر، والأكثر زيادتها وحدها في مواطن وقوله: (كأنه كره أن يكون شيئاً) خبر كان واسمها ضمير مستتر: أي ما ذكر من عمله شيئاً، ويجوز أن يعرب مفعولاً لفعل محذوف هو مع فاعله والجملة خبر يكون: أي يكون أفشى شيئاً (من عمله) وقوله: (أفشاه) جملة مفسرة على الثاني، وعلى الأولى فهو صفة شيئاً والظرف متعلق به، ويحتمل كون الظرف صفة وجملة أفشاه حالاً من الخبر لتخصصه بالوصف، وعلى الثاني هو صفة للمفعول (متفق عليه) أخرجاه في «المغازي» من «صحيحهما» .(4/507)
5 - (وعن عمرو بن تغلب) بفتح التاء المثناة فوق وإسكان الغين المعجمة وكسر اللام اسم غير منصرف للعلمية ووزن الفعل، وهو العبدي من عبد القيس، وقيل غير ذلك، وجميع ما قيل في نسبه يرجع إلى أسد بن ربيعة، فهو ربعي بالاتفاق. وقال الحافظ في «الفتح» : وهو النمري بضم النون والميم (رضي الله عنه) صحب عن النبيّ حديثين رواهما عنه البخاري، لم يرو عنه غير الحسن البصري اهـ ملخصاً من «التهذيب» للمصنف (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بمال أو) شك من الراوي (سبي) بمهملة فموحدة، وعند الكشميهني أحد رواة البخاري: أو شيء بالمعجمة، وهو أشمل في «النهاية» : السبي النهب وأخذ الناس عبيداً وإماء (فقسمه) بتخفيف المهملة ويجوز تشديدها نظراً لتعدد المقسوم (فأعطى رجالاً وترك رجالاً) أي منه (فبلغه أن الذين ترك) العائد المنصوب محذوف أي تركهم (عتبوا) في «المصباح» : عتب عليه من بابي ضرب وقتل: لامه في تسخط اهـ. وفي «النهاية» : العتاب مخاطبة الإذلال ومذاكرة المؤاخذة اهـ. وهذا المراد هنا لا للتسخط من أفعاله، فإن ذلك ينافي الإيمان المشهود لهم به في الخبر (فحمد الله تعالى) بأوصاف الجمال (ثم أثنى عليه) أي بأوصاف الجلال: وقيل: أنهما بمعنى، وعليه فهو من عطف الرديف، أتي به لبيان المراد من الحمد وأنه لغوي: أي الثناء اللساني الذي هو شعبة من المعنى المعرفي (ثم قال: أما بعد، فوا إني لأعطي الرجل) أل فيه للجنس، والمراد التمثيل، وإلا فما أفاده الحديث جار في النساء أيضاً، ففي الحديث عند مسلم عن هند امرأة أبي سفيان أنها قالت: «يا رسول الله ما كان أهل بيت أبغض إليّ من أهل بيتك، والآن وا ما أهل بيت أحبّ إليّ من أهل بيتك، فقال: وأيضاً» الحديث، وأكد بالقسم وبإن اللام لعله لما بدا من شدة عتاب المتروكين في ذلك وتوهم أنه عن خلل فيهم ديني أو عن نقص حبّ منه (وأدع) أي واترك وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه (والذي أدع) أي أترك إعطاءه
(أحبّ إليّ من الذي أعطي) وجه حبه لذلك المعطي له فقال ذلك المندرج فيهم نصيبه منها، فلذا أتى بأفعل، ويحتمل كونه فيه بمعنى أصل الفعل نظراً إلى عدم كمال إيمان ذلك حتى يعتدّ به (ولكني أعطي أقواماً لما) أي للذي (أرى) أي(4/508)
أعلمه (في قلوبهم) والعائد مفعول أول والظرف مفعول ثان (من الجزع) بالجيم والزاي والعين المهملة، قال في «النهاية» : هو الحزن الخوف. وقال في «المصباح» جزع الرجل جزءاً من باب تعب تعباً: إذا ضعفت بنيته عن حمل ما نزل به ولم يجد صبراً ومن بيانية لما (والهلع) هكذا في نسخ الرياض تبعاً لبعض نسخ البخاري وسيأتي معناه، وفي نسخة أخرى منه «الضلع» بالضاد المعجمة: أي الميل والاعوجاج وفي أخرى بالظاء المثالة المفتوحة مع ما يليها: أي مرض القلب وضعف اليقين (وأكل) أفوض (أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغناء) بفتح الغين المعجمة ثم نون ومد وهو الكفاية، وفي رواية الكشميهني بكسر أوله والقصر: ضد الفقر (والخير منهم عمرو بن تغلب) هذا آخر الخبر المرفوع وقوله: (فوا ما أحبّ أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم) الباء للبدلية والمراد من الكلمة معناها اللغوي وما قاله فيه: أي بدل ما قاله فيه من إدخاله إياه في أهل الخير والغني وقيل: المراد التي قالها في حق غيره، فالمعنى: لا أحبّ أن يكون لي حمر النعم بدلاً من الكلمة المذكورة التي لي، أو أن يكون لي ذلك وقال: تلك الكلمة في حق. وفي «المصباح» : وحمر النعم بضم المهملة وسكون الميم: كرائمها وهو مثل في كل نفيس ويقال: إنه جمع أحمر وإن أحمر من أسماء الجنس (رواه البخاري) في مواضع من «صحيحه» منها في الجهاد والتوحيد وانفرد به عن باقي الستة (الهلع هو أشد الجزع) بمعناه قوله في «الصحاح» أفحش الجزع، ومقتضى كلام «المصباح» عدم اعتبار الأفضلية فيه (وقيل: الضجر) وفي «المشارق» للقاضي عياض: الجزع والهلع هما بمعنى، وقيل: الهلع قلة الصبر، وقيل: الحرص، يقال:
رجل هلع وهلوع وهلواع وهلواعة: جزوع حريص اهـ. فلعل المصنف أراد يكتب قيل: الحرص فسبق القلم فكتب ما ذكر، والله أعلم.
6 - (وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن النبي قال: اليد العليا خير من اليد(4/509)
السفلى) تقدم الكلام على هذه الجملة في الباب (وابدأ) في الإنفاق (بمن تعول) من زوجة أو أصل أو فرع أو مملوك، من عال أهله: إذ قام بما يحتاجون إليه من قوت أو كسوة، وهذه الجملة الطلبية رواها فقط الطبراني من حديث حكيم بن حزام، ورواه البخاري وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة بلفظ: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول» لأن حقهم واجب وغيرهم تطوّع والأول مقدم على الثاني (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) أي أفضلها ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته، ولفظ الظهر مزيد في مثله إشباعاً للكلام، قاله الخطابي ونقله في «النهاية» وزاد قوله تمكيناً كأنه صدقته مستندة إلى ظهر قوى من المال، والمعنى: أفضلها ما أخرجه الإنسان من ماله بعد استبقائه منه قدر الكفاية. وقال البغوي: المراد غنى يستظهر به على النوائب التي تنوبه، ونحوه قولهم: ركب متن السلامة والتنكير في غنى للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث، وقيل: خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة، وقيل: عن للسببية والظهر زائد: أي خير الصدقة ما كان سببه غنى المتصدق. قال القرطبي: يرد على تأويل الخطابي ما جاء في فضل الإيثار على النفس من الكتاب والسنة، ومنها حديث أبي ذرّ: «أفضل الصدقة جهد من مقل» والمختار أن معنى الحديث: أفضلها ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال بحيث لا يصير المصتدق محتاجاً بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في الحديث: حصول ما يدفع به الحاجة الضرورية كأكل عند جوع مشوّش لا صبر عليه، فالحاجة إلى ما يدفع به الأذى عن نفسه، لا يجوز الإيثار به بل يحرم، لأن الإيثار به يؤدي إلى هلاك النفس
والإضرار بها، أو إلى ما يستر له العورة، فمراعاة نفسه أولى، فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار وكانت صدقته أفضل لأجل ما يتحمله من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض اهـ ملخصاً من «الفتح» (ومن يستعفف) أي عن مسألة الناس (يعفه ا) بضم التحتية وضم الفاء المشددة وهو مجزوم جواب الشرط وضمه إتباع لضمة هاء الضمير، قاله الدماميني عن الزركشي: أي يرزقه العفة عن ذلك (ومن يستغن) أي يظهر الغنى (يغنه ا) أي يصيره غنياً (هذا لفظ البخاري) في كتاب الزكاة من «صحيحه» (ولفظ مسلم) في كتاب الزكاة أيضاً من «صحيحه» (أخصر) ولفظه قال: «أفضل الصدقة أو خير الصدقة عن ظهر غنى، واليد(4/510)
العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول» وقد تقدم الكلام على الحديث من حديث أبي هريرة في باب الوصية بالنساء.
7 - (وعن أبي عبد الرحمن بن أبي سفيان صخر) عطف بيان لأبي سفيان أو بدل منه بفتح المهملة وسكون المعجمة (ابن حرب) بفتح المهملة بلفظ السلم بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ الأموي، أسلم هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه هند يوم فتح مكة فلذا قال المصنف (رضي الله عنهما) وكان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم ثم حسن إسلامهما وكان أحد الكتاب لرسول الله، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وثلاثة وستون حديثاً، اتفق الشيخان على أربعة منها، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة، روى عن عدد كثير من الصحابة ومناقبه كثيرة وفضائله شهيرة وقد أفردت بالتأليف، توفي بالشام يوم الخميس لثمان بقين من رجب، وقيل: لنصفه سنة ستين، وقيل: تسع وخمسين وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل: ثمان وثمانين، وقيل: ست، ولما حضرته الوفاة أوصى أن يكفن في قميص كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كساه إياه، وأن يجعل مما يلي جسده، وكان عنده قلامة أظفار رسول الله، فأوصى أن تسحق وتجعل في عينيه وفمه وقال: افعلوا ذلك وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين (قال: قال رسول الله: لا تلحفوا) بضم الفوقية وكسر المهملة من الإلحاف الإلحاح: أي لا تلحوا (في المسألة) قال المصنف: كذا هو في بعض الأصول بالفاء، وفي بعضها بالباء الموحدة وكلاهما صحيح (فوا لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج) بالنصب في جواب النفي (له مسألته منى شيئاً) ونسبة الإخراج إليها مجاز لكونها السبب: أي يجد مني ماسأله بسبب إلحاحه وإشراف نفسه وحرصه على حصول مطلوبه (وأنا كاره) لدفعه ولكن دفعته له لنحو اتقاء فحشه (فيبارك) بالنصب عطف على المنصوب قبله: أي يكثر ويدوم (له فيما أعطيته) ومن قال الفقهاء: من أخذ شيئاً على أمر أظهره وهو غير متصف به باطناً يملك ذلك المأخوذ وتصرفه فيه باطل، ومن هنا غلبت الفاقة على كثير لاستشرافهم الأحوال وإخراجهم بالإلحاح في السؤال فلا يبارك لهم فيها بوجه (رواه مسلم)
في كتاب الزكاة من «صحيحه» .(4/511)
8 - (وعن أبي عبد الرحمن) وقيل: أبو عمرو، وبدأ به في «الأطراف» : وقيل: أبو عبد الله وقيل: أبو محمد وقيل: أبو حاتم (عوف) عطف بيان لما قبله أو بدل منه وهو بالمهملة آخره فاء بوزن فور (ابن مالك) بن أبي عوف (الأشجعي) الغطفاني (رضي الله عنه) أول مشاهده «الفتح» ، وكان حامل راية قومه، سكن دمشق وكان داره بها سنة ثلاث وسبعين، وأما قول الشيخ أبي إسحاق في «مهذبه» : إن عوف بن مالك رجع عليه بسيفه يوم خيبر فقتله فغلط صريح، إنما ذلك عامر بن الأكوع نبه عليه المصنف في «التهذيب» ، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وستون حديثاً منها عند الشيخين ستة، انفرد البخاري بواحد منها ومسلم بباقيها، وخرّج له الأربعة، وروى عنه جبير بن نضير والشعبي وآخرون (قال: كنا جلوساً) جمع جالس خبر كان، ويحتمل أنها تامة، وجلوساً مصدر منصوب على الحال وأفرد لكونه مصدراً والأول أولى (عند رسول الله) يحتمل أن يكون لغواً متعلقاً بالفعل لا بالجلوس، لأن الفعل أقوى منه في ذلك، وأن يكون مستقراً خبراً بعد خبر، أو حالاً من اسم كان (تسعة) بتقديم الفوقية (أو ثمانية أو سبعة) شك من الراوي في عددهم (فقال: ألا تبايعون رسول الله) وقوله: (وكنا حديث عهد ببيعة) جملة في محل الحال من فاعل تبايعون، والبيعة أصلها من البيع لأنهم إذا بايعوا وعقدوا عهداً حلفوا لمن بايعهم جعلوا يديهم في يده توكيداً كما يفعل البائع والمشتري، كانت هذه البيعة ليلة العقبة قبل بيعة الهجرة وبيعة الجهاد والصبر عليه (فقلنا: قد بايعناك يا رسولالله، ثم قال) أي بعد قوله الأول، والإتيان بثم للفصل بين القولين بجوابهم وما معه (ألا تبايعون رسول الله) زاد أبو داود في روايته بعد قولهم قد بايعناك حتى قالها ثلاثاً (فبسطنا أيدينا) أي نشرناها للمبايعة (وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله) أولاً (فعلام نبايعك) أي فعلى أيّ شيىء نبايعك
ثانياً، وما هي الاستفهامية حذفت ألفها لدخول الجال عليها، ويجوز زيادة هاء السكت عوضاً عن الألف المحذوفة فيقال علامه؟ كما في رواية مسلم، قاله ابن رسلان، وبه يعلم أن حذف الهاء من نسخ الرياض من علام من تحريف الكتاب، لأن الذي فيه رواية مسلم (قال: أن تعبدوا ا) أي أبايعكم على عبادة الله (وحده) أي منفرداً وهو حال من الجلالة (ولا تشركوا به شيئاً) أي(4/512)
من الشرك أو من المعبودات، فهو مفعول مطلق أو مفعول به كما تقدم (والصلوات الخمس) أي وتصلوا الصلوات كما صرح به أبو داود (وتسمعوا وتطيعوا) أي لوليّ الأمر، ومن أوجب الله طاعته في غير معصيته (وأسر كلمة خفية) إنما أسر هذه الكلمة دون ما قبلها لأن ما قبلها وصية عامة وهذه الجملة مختصة ببعضهم والمراد بالكلمة المعنى اللغوي وهي الجملة المبنية بقوله: (ولا تسألوا الناس شيئاً) قال القرطبي: هذا حمل منه على مكارم الأخلاق والترفع عن تحمل منن الخلق وتعظيم الصبر على مضض الحاجات والاستغناء عن الناس وعزّة النفس (فلقد رأيت بعض أولئك النفر) بالجرّ نعت أو عطف بيان لاسم الإشارة على الخلاف في أمثاله بين ابن الحاجب وابن مالك، وقال ابن رسلان: هو بدل منه (يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحد يناوله إياه) فيه التمسك بالعموم لأنهم نهوا عن السؤال، والمراد منه سؤال الناس أموالهم فحملوه على عمومه، وفيه التنزّه عن جميع ما يسمى سؤالاً وإن كان حقيراً. وروى الإمام أحمد عن أبي ذرّ لا تسألنّ أحداً شيئاً وإن سقط سوطك ولا تقبض أمانة (رواه مسلم) في الزكاة من «صحيحه» منفرداً به عن البخاري ورواه أبو داود فيها والنسائي في الصلاة وابن ماجه في الجهاد.
9 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ قال: لا تزال المسألة) أي طلب العطاء من السوي (بأحدكم) أي بالواحد منكم أي إن طبع الإنسان الاستكثار من الدنيا فلا يزال في الدنيا يسأل مالهم تكثراً (حتى يلقى ا) كناية عن الموت والحشر، ويؤيد الثاني أن بعض رواياته: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة» رواه مسلم (وليس في وجهه مزعة لحم) جملة حالية من فاعل يلقى (متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الزكاة من «صحيحهما» ، رواه النسائي في الزكاة أيضاً (المزعة بضم الميم وسكون الزاي وبالعين المهملة القطعة) قال المصنف قال القاضي: قيل معنى(4/513)
الحديث: يأتي يوم القيامة ذليلاً ساقطاً لا وجه له عندالله، وقيل: هو على ظاهره فيحشر وجهه لا لحم عليه عقوبة له وعلامة له بذنبه حين سأل وطلب بوجهه كما جاءت الأحاديث الأخر بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي، وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالاً منهياً عنه وكثر منه كما أشرنا إليه كما يدل عليه رواية: «من يسأل الناس أموالهم تكثراً» الحديث.
10 - (وعنه) يعني ابن عمر (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وهو على المنبر) جملة حالية أيضاً من فاعل وقوله: (وهو بذكر الصدقة والتعفف عن المسألة) جملة حالية أيضاً من فاعل قال، فتكون مترادفة أو من الجملة الحالية الأولى فتكون متداخلة، وقوله يذكر الصدقة: أي ما يذكر ما في فضلها أو فضل التعفف (اليد العليا خير من اليد السفلى) هذا مقول القول، ولما كان في ذلك نوع إجمال فلذا اختلف فيه على أقوال كما تقدم عن «الفتح» ، رفعه بقوله (واليد العليا هي المنفقة) بالنون والفاء والقاف وعند أبي داود في بعض طرقه بدلها المتعففة قال: وقال أكثرهم المنفقة (والسفلى هي السائلة) قال القرطبي: هذا أي حديث مسلم نصر يدفع تعسف من تعسف في تأويله، غير أنه وقع عند أبي داود إلى آخر ما تقدم، وقال المصنف: ورجح الخطابي رواية المتعففة بأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها. قال المصنف: والصحيح الرواية الأولى ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلا من السائلة والمتعففة أعلا منها، والمراد بالعلوّ علوّ الفضل والمجد (متفق عليه) روياه في الزكاة من «صحيحهما» ، رواه أبو داود والنسائي فيها من «سننهما» .
11 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من سأل) كذا في الرياض بصيغة الماضي وفي أصل مصحح من مسلم بصيغة المضارع المجزوم بسكون مقدر للتخلص من التقاء الساكنين (الناس تكثراً) أي ليكثر ماله مما يجتمع عنده بسبب السؤال (فإنما يسأل جمراً) قال القاضي: أي يعاقب بالنار، قال: ويحتمل أن يكون على ظاهره فإن(4/514)
الذي يأخذه يصير جمراً يكوى به كما ثبت في مانع الزكاة (فليستقل أو فليستكثر) اللام فيه ساكنة للأمر والفاء فيه للتفريع وأو فيه للتخيير: أي فهو مخير إذا عرف مآل ذلك بين الاستكثار والاستقلال فيكثر عذابه أو يقلّ (رواه مسلم) في الزكاة، ورواه ابن ماجه فيها أيضاً.
12 - (وعن سمرة) بضم الميم (ابن جندب) بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال آخره موحدة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب توقير العلماء (قال: قال رسول الله: إن المسألة) مفعلة من السؤال: أي سؤال الناس من دنياهم (كد) بفتح الكاف وتشديد الدال المهملة، قال في «النهاية» : هو الإتعاب، يقال: كدّ في عمله يكد: إذا استعجل، ونحوه ما في «المصباح» من أنه الشدة في العمل، وفي «المشارق» : هو الجهد في الطلب وسيأتي في الأصل أنه الخدش (يكد) بضم الكاف أي يتعب (بها الرجل) الباء فيه للسببية والرجل مثال فالمرأة مثله في ذلك (وجهه) قال في «النهاية» : أي ماؤه ورونقه، والحديث في «سنن أبي داود» بلفظ: «المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل» إلى آخر الحديث، وقد لمح إلى هذا المعنى من قال:
إذا أظمأتك أكف اللئام
كفتك القناعة شبعاً وريا
فكن رجلاً رجله في الثرى
وهامة همته في الثريا
قإن إراقاة ماء الحيا
ة دون إراقة ماء المحيا
(إلا أن يسأل الرجل سلطاناً) أي يطلب منه ما أوجب الله من زكاة أو خمس أو في بيت المال ونحوه (أو في أمر لا بد) بضم أوله وتشديد المهملة: لا فراق (منه) فلا يستطيع تركه فتحل له المسألة فيما دعت إليه الضرورة (رواه الترمذي) في الزكاة من «جامعه» (قال: حديث حسن صحيح) ورواه أبو داود كما ذكرناه والنسائي كلاهما من «سننهما» (والكدّ: الخدش ونحوه) لعله تفسير باللازم.(4/515)
13 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من أصابته فاقة) قال في «المصباح» : أي الحاجة (فأنزلها بالناس) طالباً رفعها عنه بإعانتهم راكناً في ذلك إليهم (لن تسد) بالبناء للمجهول للعلم بالفاعل (فاقته) أي بل يؤدي ذلك إلى غضب الله تعالى ودوام فاقته إذ أنزل حاجته إلى عاجز مثله وترك اللجأ إليه سبحانه وهو القادر على قضاء حوائج الخلق كلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء. قال وهب بن منبه لرجل يأتي الملوك: ويحك تأتي من يغلق عنك بابه ويواري عنك غناه وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار ويظهر لك غناه، فالعبد عاجز عن جلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على ذلك إلا الله سبحانه (ومن أنزلها) فالهمزة فيه وفيما قبله للتعدية، قال في «المصباح» : نزل نزولاً ويتعدى بالحرف وبالهمزة والتضعيف، يقال: نزلت به وأنزلته ونزلته: أي فمن جعل فاقته نازلة (با) أي مستعيناً به في رفعها (فيوشك) أي فهو يوشك بضم التحتية (اله بزرق عاجل) في رفع لأواه (وآجل) بالمد: أي لدع بلواه قال تعالى: {وإن يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو} (الأنعام: 17) ، وقال تعالى: {واسألوا الله من فضله} (النساء: 32) وفي الترمذي: «من لم يسأل الله يغضب عليه» (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) قال في «الجامع» : رواه من حديث ابن مسعود أحمد والحاكم في «مستدركه» .
(يوشك بكسر الشين) أي المعجمة وفتح أوله: (أي يسرع) .
14 - (وعن ثوبان) بالمثلثة والموحدة آخره نون بوزن غضبان وهو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من تكفل) بفتح الفوقية وتشديد الفاء: أي ضمن، ورواه النسائي بلفظ: «من ضمن لي واحدة وله الجنة» (لي ألا يسأل الناس شيئاً) أي مما لا(4/516)
ضرورة به إليه (وأتكفل) برفع اللام جملة حالية لضمير المجرور: أي من يضمن لي عدم السؤال حال كوني ملتزماً (له) على كرم الله عزّ وجل (بالجنة فقلت: أنا) عبارة السنن: «فقال: ثوبان: أنا» وزاد ابن ماجه فقال: «لا يسأل الناس شيئاً» (فكان لا يسأل أحد شيئاً) ظاهره نفي سؤاله لكل شيء، وعند ابن ماجه: «فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه» (رواه أبو داود) في كتاب الزكاة من سننه (بإسناد صحيح) ورجاله رجال «الصحيح» .g
15 - (وعن أبي بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة (قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة وسكون التحتية بعدها مهملة (ابن المخارق) بضم الميم بعدها خاء معجمة ابن عبد الله بن شداد بن ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعة العامري الهلالي البصري الصحابي (رضي الله عنه) قال المصنف: وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وروي له عن النبي ستة أحاديث. روى مسلم أحدها وقال الحافظ ابن حجر في «التقريب» : سكن البصرة، خرج عنه مسلم وأبو داود والنسائي (قال: تحملت) في الإتيان به من باب التفعل إيماء إلى كلفة الأمر والدخول فيه (حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها) جملة أسأل في محل الحال من فاعل أتيت، وفي يحتمل كونها للظرفية المجازية ويحتمل كونها سببية نحو حديث: «عذبت امرأة في هرة» أي أسأله لسبب الحمالة (فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة) تعني الزكاة فأل فيه عهدية، والمعهود قوله تعالى: {إنما الصدقات} (التوبة: 60) (فنأمر) بالنصب ويجوز على بعد الرفع على الاستئناف (لك بها) أي بسمألتك (ثم قال) إرشاداً إلى أنه لا ينبغي السؤال إلا عن حاجة حافة أو لأمر مهم كما هنا (يا قبيصة إن المسألة) أي السؤال للصدقة المعهودة وهي الزكاة كما في «فتح الإله» (لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة) أي أن يسأل الإمام وأهل الزكاة في أوقاتها (حتى) إلى أن (يصيبها) أي حتى(4/517)
يقضي دينه الذي تحمله لأجلها (ثم) بعد
قضائها (يمسك) عن المسألة إلا لضرورة أو حاجة أخرى (ورجل أصابته جائحة) بالجيم والحاء المهملة بينهما ألف فهمزة (اجتاحت) أي استأصلت (ماله) كزرعه وثمره (فحلت له المسألة) أي أن يسأل الناس في سد خلته (حتى يصيب قواماً من عيش) أي ما يقوم بحوائجه الضرورية. والحاجية وهو بيان للقوام (أو) شك في أي اللفظين المترادفين نطق به (قال: سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة) أي فقر شديد اشتهر بين قومه (حتى يقول) بالنصب غاية لمقدر: أي وظهرت فلم تخف على قومه إلى أن يقول: (ثلاثة من ذوي الحجى) بكسر المهملة وبعدها جيم مقصورة: أي العقل الكامل (من قومه) لأن مثل هذا العدد الذي هو أقل الكثير مع اتصافهم بكمال العقل، وكونه من قومهم العارفين بحاله الظاهرة والباطنة والمطلعين منها على ما لا يطلع عليه أحد غيرهم منها يقبله ويصدقه كل أحد بلام القسم (لقد أصابت فلاناً فاقة) وما شرحنا عليه يقول باللام هو ما وقفت عليه من نسخ الرياض وهو كذلك، في رواية أبي داود، والذي في «صحيح مسلم» حتى يقوم بالميم بدل اللام، قال المصنف: وهو صحيح والمعنى: أي يقومون بهذا الأمر فيقولون: لقد أصابته الخ وقدره ابن حجر في «فتح الإله» حتى يقوم على رءوس الإشهاد ثلاثة من ذوي الحجي قائلين لقد أصابته الخ، قال: وبما تقرر في معنى يقوم أنه باق على ظاهره وأن «لقد أصابت الخ» مقول قول محذوف حال من فاعل يقوم محذوفة لدلالة مقولها عليها لعدم صلاحية تعلقه بيقوم، على أن حذف القول وإبقاء مقولة سائغ فصيح، وإن الباعث على هذا مزيد التحري لمزيد السؤال والكف عنه حتى يظهر فقره، واضطراره للناس بإخبار العدد الكثير الجامعين مع وصف الكثرة لوصف العقل، وكونهم من أقاربه المحيطين بحاله غالباً يعلم اندفاع قول الصغاني: «يقوم» وقع في كتاب مسلم والصواب يقول كما في رواية أبي داود وقول غيره يقوم بمعنى يقول وهو وإن صح إلا أن المراد المبالغة في الكف عن المسألة حتى يظهر صدقه وهو
غالباً إنما يظهر بثلاثة من قومه، فذكر لذلك مبالغة لا لتوقف الحل عليه (فحلت له المسألة) بسبب تلك القرائن الدالة على صدقه في سؤاله (حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش) وفي تعبيره بالحاجة(4/518)
في الثاني والفاقة في الثالث حتى يشهد من ذكر غاية المبالغة في الكف عن المسألة إلا بعد الوصول لحالة الاحتياج الشديد، بل الاضطرار الملحق
بأكل الميتة وفي قوله: قواماً أو سداداً أنه بعد أن حلت له المسألة لا يكثر منها، بل يقتصر على ما يقتصر عليه المظطر من سد الرمق لا أن يحتاج إلى سد الرمق به في المستقبل بأن كان ذلك المحل يكثر فيه الناس زمناً ويقلون في آخر فله السؤال في أيام كثرتهم ما يقوم بحاجته أيام قلتهم (فما سواهن) أي هذه الأقسام الثلاثة (من المسألة) للزكاة أو وصدقة النفل (يا قبيصة سحت) أي حرام لا يحل فعله لأنه يسحت البركة أي يذهبها ويهلكها، وأصل السحت: الإهلاك، ثم هو مرفوع هكذا في نسخ الرياض فيما وقفت عليه، قال المصنف في شرح مسلم: فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً هكذا، هو في جميع النسخ سحتاً بالنصب، ورواه غير مسلم وهو واضح، ورواية مسلم في «صحيحه» وفيه إضمار: أي اعتقده سحتاً أو يؤكل سحتاً اهـ. ومنه يعلم أن إبدال الميم في يقوم باللام والنصب بالرفع إن لم يكن من سبق قلم المصنف سهواً من رواية مسلم إلى رواية غيره فهو من تحريف الكتاب وقوله: (يأكلها) صفة لسحت والتأنيث باعتبار كونه خبر ما، المراد منها الصدقة (صاحبها) حال كونها (سحتاً) أي حراماً خالصاً لا شبهة في أكلها ولا تأويل (رواه مسلم) في الزكاة في «صحيحه» ، ورواه أبو داود والنسائي في الزكاة من «سننهما» (الحمالة بفتح الحاء) المهملة وتخفيف الميم واللام بينهما ألف (أن يقع قتال ونحوه بين فريقين) أو يوجد قتيل بين قريتين أنكره أهل كل منهما وأدى الأمر إلى التقاتل (فبصلح إنسان بينهم على مال يتحمله ويلتزمه على نفسه)
دفعاً لتلك المفسدة والتعبير بالتفعل والافتعال لما تقدم في قوله تحملت. قال ابن حجر في «فتح الإله» : فيعطى من الزكاة ما يسد به دينه لذلك وإن كان غنياً (والجائحة الآفة) بالمد (تصيب مال الإنسان) قال في «فتح الإله» : أصل وضع الجائحة مختص بالآفة السماوية والمراد في الحديث ما يشمل الأرضية أيضاً، لأن المراد فقره وحاجته، وفي «النهاية» : الجائحة هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها وكل مصيبة عظيمة وفتنة منفرة جائحة اهـ. وفي «المصباح» : الجائحة الآفة اهـ. وهما مطلقان كما قال المصنف: والذي أشار إليه ابن حجر(4/519)
في «فتح الإله» هو قول الشافعي: الجائحة ما أذهبت الثمر بأمر سماوي اهـ. وحينئذ فلعل فيه لأهل اللغة قولين: الإطلاق والتقييد (والقوام بكسر القاف) واقتصر عليه المصنف في «شرح مسلم» وابن حجر في «فتح الإله» (وفتحها) وهما مع تخفيف الواو، واللغتان نقلهما في «المصباح» فقال: يقال هذا قوامه بالفتح والكسر وتقلب الواو ياء جوازاً مع الكسرة: أي عماده الذي يقوم به، ومنهم من يقتصر على الكسر. والقوام بالكسر ما يقيم الإنسان من القوت، والقوام بالفتح: العدل والاعتدال اهـ. فلعل من اقتصر على الكسر فسره بما يقيم من القوت، ومن ذكر الفتح معه فسره بقوله (وهو ما يقوم به أمر الإنسان من مال ونحوه) ولا يضر في هذا الجمع كونه قال في «شرح مسلم» : القوام والحداد بكسر أولهما ما يغني من الشيء ويشد به الحاجة، فاقتصر على الكسر إما لأن مراده ما يغني ويسدّ من خصوص القوت، أو اقتصر عليه لأنه الأفصح (والسداد بكسر السين) المهملة (ما يسد حاجة المعوز) بضم فسكون فكسر، من أعوز الرجل: افتقر (ويكفيه) أي من مال ونحوه كما قدمه المصنف في قرينه الذي شك فيه الراوي هل هو أو ذاك، زاد في «شرح مسلم» : وكل شيء سددت به شيئاً فهو سداد بالكسر، ومنه سداد الثغر وسداد القارورة، وقولهم سداد من عوز (والفاقة) بالفاء والقاف بينهما ألف (الفقر) أي
الحاجة كما في «المصباح» ، يقال: افتاق الرجل: احتاج، وهو من ذو فاقة أي حاجة (والحجى) بالضبط السابق فيه (العقل) .
16 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس المسكين) أي الكامل المسكنة الممدوحها لا لنفي أصل المسكنة (الذي ترده اللقمة واللقمتان) زاد مسلم في رواية له: ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان (والتمرة والتمرتان ولكن) عطف على ما قبله، ولكن لاستدراك ثبوت ما توهم نفيه من سابقه، إذ المعهود في المسكين عند الناس هو الطواف، وقد نفي عنه المسكنة فربما يتوهم نفيه مطلقاً فرفع ذلك بقوله ولكن (المسكين الذي لا يجد غنىً) بكسر أوله المعجم وبالقصر: ضد الفقر(4/520)
(يغنيه) بضم التحتية: أي يكفيه عن سؤال الغير (ولا يفطن له) لتصبره وكتم حاله وما هو فيه (فيتصدق عليه) بالبناء للمجهول منصوب في جواب النفي (ولا يقوم في الناس فيسأل الناس) أي فهذا هو الكامل المسكنة الممدوحها، وهذا الحديث قد سبق مع شرحه في باب ملاطفة اليتيم والمسكين (متفق عليه) رواه البخاري في «التفسير» ، ومسلم في الزكاة من «صحيحهما» ، ورواه النسائي في الزكاة وفي «التفسير» من «سننه» كذا في «الأطراف» للمزي.
58 - باب جواز الأخذ للمال
من باذله (من غير مسألة) أي سؤال (ولا تطلع) أي ترقب واستشراف (إليه) .
1 - (عن سالم بن عبد الله بن عمر) يكنى أبا عمرو، وقيل: أبو عبد الله القرشي العدوي المدني التابعي الإمام الفقيه الزاهد العابد، وأجمعوا على إمامته وجلالته وزهادته وعلوّ مرتبته، وعن مالك بن أنس: لم يكن أحد أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والقصد في العيش في سالم، كان يلبس الثوب بدرهمين، وهو أحد الفقهاء السبعة فيما عدهم ابن المبارك. توفي بالمدينة سنة ست فيما قاله البخاري وشيخه أبو نعيم، وسنة خمس فيما قال الأصمعي، وسنة ثمان فيما قال الهيثم ومائة (عن أبيه عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهم) فيه تغليب لهما على سالم فإنه تابعي، وإنما يقول بصيغة الجمع في أبناء الصحابة المتناسقين كأسامة بن زيد بن حارثة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ابن أبي قحافة وأضرابهم (قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء) أي من الغنائم (فأقول: أعطه من هو أفقر) أي أحوج (إليه) أي العطاء بمعنى المعطي (مني) وكان ذلك من عمر لسماعه من النبيّ للنهي عن الاستكثار من الدنيا والحرص عليها، وعنده حين دفع النبيّ له من العطاء(4/521)
«ما يكفيه فيقول أعطيه» (فقال) أي النبيّ (خذه) أي متملكاً له بدليل إذنه له في التصرف فيه بقوله: (إذا جاءك) أي وصلك (من هذا المال) أل فيه للحقيقة ويحتمل كونها عهدية: أي من مال العطاء (شيء) التنوين فيه للتعميم فيشمل القليل والجليل (وأنت غير مشرف ولا سائل) عطف على مشرف بإعادة النافي دفعاً لتوهم أن النفي منصب على مجموعهما والجملة في محل الحال من مفعول أتاك فخذه فتموله (أي اتخذه مالاً، ثم أنت مخير بين إنفاقه في حاجتك وبين التصدّق كما قال منبهاً بالفاء التفريعية في قوله: فإن شئت كله) أي فإن شئت أكله، فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه وهو قوله كله، وقبله فاء الجواب مقدرة، ومثله فيما ذكر من حذف مفعول شاء والفاء من الجواب قوله: (وإن شئت تصدق به) ففي الحديث حذف فاء الجواب في غير الشعر، ومذهب سيبويه
اختصاص الحذف به لكن زعم الأخفش أن حذفها واقع في النثر وأن منه قوله تعالى: {إن ترك خيراً الوصية للوالدين} (البقرة: 180) وعن المبرد أيضاً جواز حذفها في الاختيار، لكن قال في الارتشاف في حفظي قديماً عن المبرد منع حذفها حتى في الشعر، وحينئذ فالحديث شاهد لمن أجاز حذف الفاء مطلقاً، ومن منع الاستشهاد بالحديث في ذلك حمله على أنه من تغيير الرواة، والله أعلم (ومالا) أي وأي مال لا يجيئك على الحال المذكورة بأن جاءك وأنت مشرف أو سائل (فلا تتبعه نفسك) معاملة لها بنقيض مرادها (قال سالم) ذكره ها هنا هو النكتة في ذكره قبل الصحابي أول الحديث نظير ما تقدم عن أبي بردة في حديث أبي موسى في الباب السابق قال سالم: أي المذكور أولاً (فكان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً) أي قليلاً ولا جليلاً من الدنيا كما يؤذن به التنوين (ولا يرد شيئاً أعطيه) عملاً بالحديث المذكور ووقوفاً عنده وقد كان ابن عمر شديد الاتباع (متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة وفي الأحكام من «صحيحه» ،(4/522)
ومسلم في الزكاة من «صحيحه» ، ورواه النسائي في الزكاة من «سننه» . مشرف بصيغة الفاعل من الإشراف بالمعجمة والفاء: أي متطلع إليه. وفي «فتح الباري» : الإشراف التعرّض للشيء والحرص عليه من قولهم أشرف على كذا إذا تطاول له، وقيل: للمكان المرتفع شرف، لذلك قال أبو داود: سألت أحمد عن إشراف النفس فقال: بالقلب، وقال يعقوب بن محمد: سألت أحمد عنه فقال: هو أن يقول مع نفسه يبعث لي فلان بكذا، وقال الأمر يضيق عليه: أن يرده إذا كان كذلك اهـ.
59 - باب الحث بفتح المهملة وتشديد المثلثة: أي التحريض (على الأكل من عمل يده) بالاحتراف والاكتساب (والتعفف به عن السؤال والتعرض) معطوف على مجرور عن، وعن التعرض: أي التطلب (للإعطاء) .
(قال الله تعالى) : ( {فإذا قضيت الصلاة} ) أي صلاة الجمعة ( {فانتشروا في الأرض} ) أي لقضاء حوائجكم ( {وابتغوا من فضل ا} ) أي رزقه وهذا أمر إباحة بعد الحظر، عن بعض السلف «من باع واشترى بعد الجمعة بارك الله له سبعين مرة» .
1 - (وعن أبي عبد الله الزبير بن العوام) بن خويلد القرشي الأسدي المكي، ثم المدني أحد العشرة المبشرة بالجنة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الأمر بأداء الأمانة (قال: قال رسول الله) مؤكداً للشيء المقطوع بصدقه بالقسم المقدر المؤذن به اللام من قوله (لأن من يأخذ أحدكم) أي وا لأخذ أحد منكم (أحبله) بفتح أوله وسكون المهملة وضم الموحدة جمع قلة الحبل (ثم يأتي الجبل) أي مثلاً فغيره من المفازات محال الحطب كذلك، ولعل التصريح به ما في الصعود فيه من زيادة المشقة على سلوك الأودية (فيأتي(4/523)
بحزمة من حطب على ظهره) من نفسه أو من ظهر دابته والأول أنسب بما قبله (فيبيعها فيكف الله بها وجهه) أي فيمنع بها ذاته من الحاجة، وعبر بالوجه عن الكل لأنه أشرف الأجزاء الإنسانية، أو لأن السؤال إنما يكون به غالباً (خير له من أن يسأل الناس) قال الحافظ في «الفتح» : خير ليس للتفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الكسب، بل الأصح حرمته عند الشافعي، ويحتمل أنه كذلك بحسب اعتقاد السائل وتسمية الذي يعطاه خيراً وهو في الحقيقة شر (أعطوه أو منعوه) تقسم للسؤال المفضل عليه الاكتساب، وتصدير الحديث بالقسم الدال عليه اللام كما تقدم لتأكيده في نفس السامع وفيه مزيد الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشاق في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لما فضل عليها ذلك، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن الرد إذا لم يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق من ماله إن أعطى كل سائل (رواه البخاري) في الزكاة من «صحيحه» ، ورواه ابن ماجه في الزكاة من «سننه» أيضاً.
2 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره) أي فيبيعها فيكف الله بها وجهه كما تقدم في حديث الزبير قبله، قال الحافظ في «الفتح» : وحذف من هذه الرواية لدلالة السياق عليه (خير له من أن يسأل أحداً) هو بمعنى قوله فيما قبله: من أن يسأل الناس (فيعطيه أو يمنعه متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة من «صحيحه» ورواه مسلم فيها من طريق آخر من «صحيحه» ، ورواه الترمذي من طريق مسلم في الزكاة وقال: حسن غريب مستغرب من حديث بيان عن قيس.
3 - (وعنه عن النبي قال: كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يديه) قال(4/524)
الحافظ: الظاهر أن الذي كان يعمله داود بيده الدروع، وألان الله له الحديد فكان ينسج الدروع ويبيعها ولا يأكل إلا من ثمن ذلك، مع أنه كان من كبار الملوك، قال تعالى: {وشددنا ملكه} (ص: 20) وكان مع سعة ملكه يتورّع ولا يأكل إلا من عمل يده (رواه البخاري) في البيوع من «صحيحه» من حديث أبي هريرة باللفظ المذكور من جملة حديث أوله: خفف على داود القرآن وفي آخره وكان لا يأكل إلا من عمل يديه.
4 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان زكريا) قال المصنف في «التهذيب» : فيه خمس لغات: أشهرها بالمدّ، والثانية بالقصر وبهما قرىء في السبع، والثالثة والرابعة زكري بلا ألف بتخفيف الياء وتشديدها حكاهما ابن دريد وآخرون من المتأخرين الجواليقي، والخامسة زكر كعلم حكاها أبو البقاء، وقوله: (عليه السلام) فيه إيماء إلى ما قدمناه من أنه لا كراهة في إفراد واحد من الأنبياء بالصلاة لحديث الطبراني: «صلوا على سائر الأنبياء فإنهم بعقوا كما بعثت» (نجاراً) وهذا من الفضائل لحديث البخاري: «أفضل ما أكل الرجل من عمل يده» ولحديث المقدام وغيرهما، وفي «شرح مسلم» للمصنف في الحديث جواز الصنائع وأن النجارة لا تسقط المروءة وأنها صنعة فاضلة، وفيه فضيلة لزكريا وأنه كان صانعاً يأكل من كسبه (رواه مسلم) في أحاديث الأنبياء من «صحيحه» ، ورواه ابن ماجه في كتاب التجارات بالفوقية من «سننه» .
5 - (وعن المقدام) بكسر الميم وسكون القاف وبالدال المهملة (ابن معد يكرب) بسكون الياء (رضي الله عنه عن النبي قال: ما أكل أحد طعاماً قط) بفتح القاف وضم الطاء المهملة المشددة ظرف لاستغراق ما مضى وباقي الأزمنة مقيسة عليه فيما يأتي (خيراً(4/525)
من أن يأكل) أي: أو يشرب أو يلبس، وذكر الأكل لأنه أغلب أنواع الاستعمال كما قيل به في قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (النساء: 10) فإن المراد استعمالها بأي وجه وذكر لذلك (من عمل يديه) كناية عن الكسب وذكر اليدين، إما لأنه أفضل مما ليس فيه عملهما، ويؤيده أنه قيل له: أيّ الكسب أفضل؟ فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور. أو لأن أغلب الأعمال بهما، وإلا فالمراد مطلقة كالحاصل من كسب النظر كأن يستأجر لحفظ متاع، والسمع كأن يستأجر لسماع طلب درس علم، أو النظر كأن يستأجر لقراءة قرآن، أو لا من شيء من أعضائه كأن يستأجر ليصوم عن ميت، ثم المراد كما تدل عليه القواعد الشرعية كسب حلال خالص من الغش بسائر وجوهه. قال في «فتح الإله» : ويؤخذ من عموم الحديث أن الاكتساب خير من التوكل، على أنه لا ينافيه بل هو عينه لكن بقيد كما يفهم ذلك حده الذي قيل فيه: إنه أفضل حدوده: إنه مباشرة الأسباب مع شهود مسببها، فالاكتساب مع شهود أن حصوله بتيسير الله له ولطفه به وإقداره عليه، وفتح أبواب الرزق التي يحتاج إليها أفضل من عدمه وإن كان إنما تركه لنحو صلاة أو صيام وقد كان شأن أكابر القوم ذلك، فقد كان للجنيد سيد الطائفة الصوفية ذكان في البزازين، وكان يرخي ستره عليه فيصلي ما بين الظهرين قيل ألف ركعة وقيل أربعمائة وقيل: مائة، ولعله اختلف فعله فحكى كل من أصحابه ما اطلع عليه. وكان ابن أدهم يكثر الكسب وينفق منه ضرورته ويتصدق بباقيه. وكان أحب طرقه إليه حفظ البساتين وخدمتها لأنه تتم له فيها الخلوة ومجاهدة النفس بأعظم أنواع مجاهداتها، ومن ثم لم يعهد أنه أكل من ثمرة من ثمارها.
وترك بعض الكسب كان بعد كمال رياضة نفوسهم وتهذيبها (وإن نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده. رواه البخاري) في أوائل البيوع من «صحيحه» قبل حديث أبي هريرة المذكور قبله، ومما هو انفرد به البخاري عن باقي الكتب الستة، والله أعلم.
5 - (وعن المقدام) بكسر الميم وسكون القاف وبالدال المهملة (ابن معد يكرب) بسكون الياء (رضي الله عنه عن النبي قال: ما أكل أحد طعاماً قط) بفتح القاف وضم الطاء المهملة المشددة ظرف لاستغراق ما مضى وباقي الأزمنة مقيسة عليه فيما يأتي (خيراً من أن يأكل) أي: أو يشرب أو يلبس، وذكر الأكل لأنه أغلب أنواع الاستعمال كما قيل به في قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (النساء: 10) فإن المراد استعمالها بأي وجه وذكر لذلك (من عمل يديه) كناية عن الكسب وذكر اليدين، إما لأنه أفضل مما ليس فيه عملهما، ويؤيده أنه قيل له: أيّ الكسب أفضل؟ فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور. أو لأن أغلب الأعمال بهما، وإلا فالمراد مطلقة كالحاصل من كسب النظر كأن يستأجر لحفظ متاع، والسمع كأن يستأجر لسماع طلب درس علم، أو النظر كأن يستأجر لقراءة قرآن، أو لا من شيء من أعضائه كأن يستأجر ليصوم عن ميت، ثم المراد كما تدل عليه القواعد الشرعية كسب حلال خالص من الغش بسائر وجوهه. قال في «فتح الإله» : ويؤخذ من عموم الحديث أن الاكتساب خير من التوكل، على أنه لا ينافيه بل هو عينه لكن بقيد كما يفهم ذلك حده الذي قيل فيه: إنه أفضل حدوده: إنه مباشرة الأسباب مع شهود مسببها، فالاكتساب مع شهود أن حصوله بتيسير الله له ولطفه به وإقداره عليه، وفتح أبواب الرزق التي يحتاج إليها أفضل من عدمه وإن كان إنما تركه لنحو صلاة أو صيام وقد كان شأن أكابر القوم ذلك، فقد كان للجنيد سيد الطائفة الصوفية ذكان في البزازين، وكان يرخي ستره عليه فيصلي ما بين الظهرين قيل ألف ركعة وقيل أربعمائة وقيل:
مائة، ولعله اختلف فعله فحكى كل من أصحابه ما اطلع عليه. وكان ابن أدهم يكثر الكسب وينفق منه ضرورته ويتصدق بباقيه. وكان أحب طرقه إليه حفظ البساتين وخدمتها لأنه تتم له فيها الخلوة ومجاهدة النفس بأعظم أنواع مجاهداتها، ومن ثم لم يعهد أنه أكل من ثمرة من ثمارها. وترك بعض الكسب كان بعد كمال رياضة نفوسهم وتهذيبها (وإن نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده. رواه البخاري) في أوائل البيوع من «صحيحه» قبل حديث أبي هريرة المذكور قبله، ومما هو انفرد به البخاري عن باقي الكتب الستة، والله أعلم.
60 - باب الكرم والجود
بضم الجيم الكرم: بذل ما ينبغي من المال فيما ينبغي، وفي «الشفاء» للقاضي عياض:(4/526)
الكرم والجود والسخاء والسماحة معانيها متقاربة، وفرق بعضهم بينها بفروق فجعل الكلام الإنفاق يطيب النفس فيما يعظم خطره ونفعه، وسموه أيضاً حرية وهو ضد النذالة. والسماحة: التجافي عما يستحقه المرء عند غيره بطيب نفس وهو ضد الشكاية، والسخاء: سهولة الإنفاق وتجنب اكتساب ما لا يحمد وهو الجود، وهو ضد التقتير اهـ. قال في «المصباح» : يقال: جاد الرجل يجود جوداً بالضمّ، تكرّم (والإنفاق في وجوه الخير) من صدقة وصلة رحم وقرىء ضيف ووقف على جهة خير ونحو ذلك (ثقة با تعالى) أي بوعده الذي لا يخلف من حسن الجزاء على ذلك في دار القرار، قال الله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} (النساء: 40) وقال تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها} (النمل: 89) وقال: «والصدقة برهان» أي علامة على تصدق باذلها بوعد الله تعالى: (قال الله تعالى) : ( {وما أنفقتم من شيء} ) أي في رضى الله تعالى: ( {فهو يخلفه} ) يعوضه في الدارين أو في أحدهما وقد تقدمت مع الكلام عليها في باب الإنفاق على العيال.
(وقال تعالى) : ( {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} ) أي وأيّ إنفاق منكم لمرضاة الله تعالى فلأنفسكم ثوابه فلا تمنوا به على أحد ( {وما تنفقوا إلا ابتغاء وجه ا} ) الواو للحال أو عطف، يعني أن المؤمن لا ينفق إلا لمرضاة الله تعالى، وقيل: نفي في معنى النهي. قال عطاء الخراساني: معناه إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله فإنك مثاب لنفسك، كان السائل مستحقاً أو غيره برّاً أو فاجراً ( {وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون} ) فلا ينقص ثواب صدقاتكم.
(وقال تعالى) : ( {وما تنفقوا من خير} ) أي مريدين به مرضاته سبحانه ( {فإن الله به عليم} ) أي فيجازيكم بقدره، وفيه ترغيب في الإنفاق لذلك.
1 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: لا حسد) أي لا غبطة كما(4/527)
يأتي فتجوز به عنها بجامع تمني مثل النعمة إلا أنها تزيد على الحسد بتمني زوالها عن صاحبها (إلا في اثنتين) أي من الخصال (رجل) بالرفع على القطع بإضمار مبتدأ أو مضاف وتقديرهما خصلتا رجل، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وارتفع ارتفاعه ورأيته في أصل مصحح من مسلم بجر رجل، ويخرج على أنه بدل من اثنتين بتقدير مضاف قبله: أي إلا في اثنتين رجل الخ، ثم رأيت الحافظ في «فتح الباري» ذكر فيه وجوه الإعراب الثلاثة وصدر بالجرّ ولم يذكر وجهه قال: والرفع على الاستئناف والنصب بإضمار أعني اهـ (آتاه) بالمد والفوقية: أي أعطاه (امالاً) التنوين فيه للتعميم فيشمل القليل والكثير لكن في إنفاق الأوّل تفصيل مذكور في كتب الفقه (فسلطه على هلكته) بفتح أوائله وهو مصدر هلك يهلك من باب ضرب يضرب هلكاً وهلاكاً وهلوكاً ومهلكاً بفتح الميم وتثليث اللام: أي إنفاقه (في الحق) خلاف الباطل: أي في القرب والطاعات، وفيه إيماء إلى أن إذهابه في خلاف ذلك في إتلاف المال بالباطل (ورجل آتاه الله حكمة) أي علماً. قال الحافظ: المراد به القرآن كما ورد في حديث ابن عمرو، أو أعم من ذلك وضابطها ما منع من الجهل وزجر عن القبيح اهـ. (فهو يقضي بها) بين المتنازعين إليه (ويعلمها) الطالب لها (متفق عليه) قال السيوطي في «الجامع الكبير» : ورواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث ابن عمر بلفظ: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» ورواه أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت ما يعمل» ورواه ابن عدي والبيهقي والخطيب من حديث أبي هريرة بلفظ:
«لا حسد ولا ملق إلا في طلب العلم» ورواه ابن نصر في كتاب الصلاة من حديث ابن عمر بلفظ: «لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فصرفه في سبيل الخير، ورجل آتاه الله علماً فعلمه وعمل به» اهـ (ومعناه: ينبغي ألا يغبط أحد) على حال هو فيه كائناً ما كان (إلا على(4/528)
إحدى هاتين الخصلتين) لعظم نفعهما وحسن وقعهما وإذا كان يغبط على أحدهما فجملتهما بالأولى.
2 - (وعنه قال: قال رسول الله: أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله) قال في «الفتح» : أي إن الذي يخلفه الإنسان من المال وإن كان حالاً منسوباً إليه فإنه مجازيه ومن بعد حقيقة (قالوا: يا رسول الله ما منا أحد) التقديم للخبر الظرفي على المبتدأ للاهتمام بجانبه (إلا ماله أحبّ إليه) جملة وصفية لأحد، ويصح كونها في محل الحال لتخصيصه بتقديم الخبر، وحذف المفضل عليه وهو قوله من مال وارثه اكتفاء بذكره في كلام السائل (قال: فإن ماله ما قدم) بأن تصدق أو أكل أو ليس كما في الحديث السابق: «ليس لك من دنياك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت» أو كما قال، فهذا هو الذي يضاف إليه حياً وميتاً بخلاف ما يخلفه من المال. قال ابن بطال: فيه التحريض على ما يمكن تقديمه من المال في وجوه البرّ والقرب لينتفع به في الآخرة، فإن كل ما يخلفه يصير ملكاً للوارث كما قال: (ومال وارثه ما أخر) فإن عمل فيه بطاعة الله اختص بثوابه عن الميت وإن كان عمل فيه بمعصية الله تعالى فذلك أبعد لمالكه الأول من الانتفاع إن سلم من تبعته، ولا يعارض حديث سعد بن أبي وقاص: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة» لأن ذلك فيمن تصدّق بماله كله أو معظمه في مرضه، وهذا الحديث فيمن تصدق حال صحته (رواه البخاري) في الرقاق في «صحيحه» ، ورواه النسائي في الوصايا من «سننه» .
3 - (وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا النار» ) أي اتخذوا(4/529)
بينكم وبينها وقاية من صالح الأعمال جل أو قل (ولو بشق) بكسر المعجمة أي نصف (تمرة. متفق عليه) وقدم مع الكلام عليه في آخر الحديث الطويل في باب الخوف.
4 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط) لتأكيد استغراق الأزمنة وتنكير شيئاً ليعم جلالة المسؤول وقلته ووجدانه له وفقده (فقال: لا) بل إن كان عنده أعطاه، أو يقول له ميسوراً من القول فيعده أو يدعو له، فكان إن وجد جاد وإلا وعد ولم يخلف الميعاد، فليس المراد أنه يعطي ما طلب منه جزماً، بل إنه لا ينطق بالرد، فإن كان عنده المسؤول وساغ الإعطاء أعطى وإلا وعد، وقوله للإشعريين: وا لا أحملكم، أجيب أنه تأديب لهم لسؤالهم منه ما ليس عنده مع تحققهم ذلك، ومن ثمة حلف حسماً لطمعهم في تحصيله بنحو استدانة (متفق عليه) رواه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، ومسلم في فضائل النبي والترمذي في «الشمائل» .
5 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «ما من) مزيدة للتنصيص على العموم والاستغراق» في قوله (يوم) جاء في حديث أبي الدرداء «ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غربت شمسه إلا وبجنبها ملكان يناديان» فذكر مثل حديث أبي هريرة (يصبح العباد فيه) هذا ظاهر في أن المراد من اليوم ضد الليل (إلا ملكان) في حديث أبي الدرداء إلا وبجنبيها ملكان. والجنب بسكون النون الناحية (ينزلان) والجملة حال من العباد (فيقول) بالرفع عطف على الفعل المرفوع (أحدهما: اللهم أعط منفقاً) قال الأبي: أي النفقة في الواجب لأن في المال حقوقاً متعينة والنفقة في(4/530)
المندوب لكن بالمعروف، وقال القرطبي: هو يعم الواجبات والمندوبات لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه اهـ (خلفاً) يحتمل أن يكون في الدنيا ويحتمل أن يكون في الآخرة، وفيه الحض على الإنفاق ورجاء قبول دعوة الملك، وبشهد لهذا قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو بخلفه} (سبأ: 39) وفي اعتبار المعروف قوله تعالى: {ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء: 4) (ويقول الآخر) بفتح المعجمة (اللهم أعط ممسكاً) أي عن الإنفاق الواجب والمندوب (تلفاً) قال الحافظ في «الفتح» : التعبير بالعطية في هذا للمشاكلة لأن التلف ليس عطية، والتلف يحتمل أن يراد تلف ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب المال والمراد به فوت أعمال البر بالتشاغل بغيرها، وأفاد هذا الحديث توزيع الكلام بينهما فنسب إليهما في حديث أبي الدرداء نسبة المجموع إلى المجموع. قال المصنف: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات (متفق عليه) أخرجاه في الزكاة من «صحيحهما» ، وأخرجه النسائي في عشرة النساء وفي التفسير من
«سننه» . والحديث قد تقدم مع شرحه في باب النفقة على العيال.
6 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى) أي فهو من الأحاديث القدسية (أنفق) أي أيها الصالح للخطاب من سائر المؤمنين: أي أنفق المال في وجوه القرب بالطريق المأذون فيه شرعاً إيماناً واحتساباً (ينفق عليك) بالبناء للمفعول وحذف الفاعل للعلم به سبحانه وهو مجزوم جواب شرط مقدر: أي إن تنفق ينفق: أي يوسع عليك ويخلف عوض ما تنفقه، فعبر عنه بالإنفاق على سبيل المشاكلة (متفق عليه) .(4/531)
7 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بحذف الياء إما على لغة من يقف على المنقوص المعرف بالسكون، وإما على أنه من الأجوف: أي من العيص لكن الأفصح على كونه من المنقوص الوقف عليه بالياء وقد تقدم ذلك (رضي الله عنهما أن رجلاً) في «صحيح مسلم» عن أبي موسى قال: قلت: يا رسولالله، وجاء في طريق أخرى عنه: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا ظاهر في أنه هو (سأل رسول الله) وقوله: (أيّ الإسلام خير) على تقدير القول: أي قائلاً أي الإسلام: أيّ خصاله أو أي ذويه فعل الثاني يقدر قبل قوله: (قال تطعم) بالرفع (الطعام) وما بعده مضاف: أي ذو إطعام الطعام لأن المراد من الفعل فيه المصدر: إما على تقدير أن المصدرية قبله، أو على تنزيل الفعل منزلته والوجهان مذكوران في نحو: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، واقتصر البدر الدماميني في «مصابيحه» على الأول وقال فيه حذفها في غير مواضعها المشهور كالمثال المذكور قال: على أن بعضهم جعل حذفها على الإطلاق مقيساً قال: والظاهر أن المراد الإطعام على وجه الصدقة والهدية والضيافة ونحو ذلك لأنه ذكر بصيغة العموم (وتقرأ السلام) مفتوح الفوقية والراء لأنه من قرأ. قال الزركشي ويجوز ضم أوله وكسر ثالثه. قال الدماميني: هي لغة سوء. قال القاضي عياض: لا يقال: أقرئه السلام إلا في لغة سوء إلا إذا كان مكتوباً إليه فتقول ذلك: أي اجعله يقرؤه كما يقال: اقرىء الكتاب اهـ. أي ولا يتأتى هذا الأخير هنا اهـ. أي لأن المراد إفشاء السلام على من لقيت (على من عرفت ومن لم تعرف) وفي بذل الطعام كما ذكرنا وقرأ السلام على من ذكر استئلاف للقلوب استجلاب لودها فلا جرم وقع الحض عليهما (متفق عليه) أخرجه البخاري ومسلم في الإيمان، وابن ماجه في الأطعمة.
8 - (وعنه قال: قال رسول الله: أربعون خصلة) جاز الابتداء بأربعون مع نكارته لتخصيصه بالعمل في تمييزه لأن الأصح عند النحاة أن العامل في التمييز عن مبهم هو ذلك الاسم المفسر، قال الحافظ في «الفتح» : وعند أحمد أربعون حسنة (أعلاها منيحة العنز) قال(4/532)
أبو عبيدة: المنيحة عند العرب على وجهين. أولهما إعطاء الرجل صاحبه نحو شاة صلة. ثانيهما أن يعطيه شاة أو ناقة ينتفع بحلبها ثم يردها وهذا هو المراد هنا (ما من عامل يعمل بخصلة) أي بواحدة (منها رجاء ثوابها) مفعول له، ويصح كونه منصوباً على الحال: أي راجياً ثوابها وفيه إيماء إلى أن ترتب الثواب على صالح العمل ليس على سبيل اللزوم، بل على سبيل الفضل من المولى سبحانه (وتصديق موعودها) الإضافة لأدنى ملابسة أي الموعود به فيها (إلا أدخله الله تعالى بها الجنة) قال الحافظ ابن حجر نقلاً عن ابن بطال: قد كان النبي عالماً بالأربعين المذكورة، وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع من ذكرها، وذلك خشية أن يكون التعيين لها مزهداً في غيرها من أبواب البرّ. قال الحافظ بعد أن نقل عن ابن بطال عن بعضهم تعيين تلك الخصال وتعقب ابن المنير له في كون بعضها أعلى من المنيحة ما لفظه: وأنا موافق لابن بطال في إمكان تتبع أربعين خصلة من خصال الخير أدناها منيحة العنز وموافق لابن المنير في رد كثير مما قال ابن بطال، مما هو ظاهر أنه فوق المنيحة والله أعلم (رواه البخاري) في أواخر الهبة من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في كتاب الزكاة من «سننه» (وقد سبق بيان هذا الحديث) أي يذكر معنى المنيحة (في باب بيان كثرة طرق الخير) .
9 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين (صدى) بضم ففتح فتشديد التحتية (ابن عجلان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل) بفتح همزة أن المصدرية وهي ومدخولها في تأويل مصدر منصوب بدل اشتمال من اسم إن: أي بذلك الفضل، وبكسرها على أنها شرطية، والفضل ما زاد على ما تدعو إليه حاجة الإنسان لنفسه ولمن يمونه (خير لك) خبر أن على الأول وخبر محذوف مع الفاء على الثاني: أي فهو خير لك وبه يتبين ترجيح الفتح لأن الأصل عدم الحذف (وأن تمسكه) بفتح الهمزة: أي وإمساكك إياه (شر لك) لأنك تحاسب عليه ولا تلقاه بين يديك عند حاجتك إليه (ولا تلام) أي ولا يلحقك لوم من الشرع (على كفاف) أي إمساك ما تكف به الحاجة(4/533)
(وابدأ بمن تعول) من زوجة وقريب وعبد ودابة لأن حقهم واجب وهو أفضل من المندوب بسبعين ضعفاً (واليد العليا) المنفقة، وقيل: المتعففة عن السؤال (خير من اليد السفلى) أي الآخذة، وقيل: السائلة، والحديث تقدم مع الكلام عليه في باب فضل الجوع (رواه مسلم) .
10 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام) على فيه تعليلية: أي لأجل الإسلام (شيئاً) من الدنيا جل أو قل وهو ثاني مفعولي سئل (إلا أعطاه) ترغيباً في الإسلام وإنقاذاً لذلك من النار للرحمة التي طبع عليها (ولقد جاءه رجل) لم يتعرض المصنف في «شرح مسلم» لبيانه ولعله كان من المؤلفة (فأعطاه غنماً بين جبلين) أي كثيرة كأنها تملأ ما بين الجبلين، وهذا الإعطاء منه يحتمل أن يكون عن سؤال من ذلك الرجل، ويحتمل أن يكون ابتداء زيادة لترغيبه في الإسلام إن لم يكن أسلم، أو لدوامه عليه إن أسلم ونيته ضعيفة فيه. قال المصنف: يجوز أن يعطي المسلم من المؤلفة من الزكاة ومن بيت المال ولا يجوز أن يعطي مؤلفة الكفار من الزكاة، وفي إعطائهم من غيرها خلاف، الأصح عندنا لا يعطون منه الآن لأن الله قد أعزّ الإسلام وكثرهم بخلاف أوّل الإسلام، وقد قل المسلمون اهـ (فرجع إلى قومه) داعياً لهم إلى الإسلام (فقال: يا قوم أسلموا) أي لتغنموا الدنيا لأنه لم يكشف له أنوار اليقين إلى حينئذ كما يدل عليه قوله (فإن محمداً يعطي عطاء) مفعول مطلق جوز الهمذاني في مثله من قوله تعالى: {وا أنبتكم من الأرض نباتاً} (نوح: 17) أن يكون مصدراً مؤكداً لفعله وفعله محذوف يدل عليه أنبت والتقدير: أنبتكم فنبتم نباتاً وأن يكون مؤكداً لعين أنبت على حذف الهمزة من أوله، وله نظائر في كلام العرب نظماً ونثراً اهـ. واقتصر ابن هشام في «الجامع» على كونه مؤكداً لعامله، قال شارحه: فنبات مصدر لفعل عين أنبت ووقع في التوضيح ما يقتضي التمثيل به لاسم العين النائب عن المصدر قال قرينه: وهو مخالف لكلام النحويين اهـ. وقيد العطاء إنما يدل على المبالغة فيه بقوله:(4/534)
(من لا يخشى) يخاف (الفقر) لشدة معرفته بهبات ربه وسعة خزائن فضله، وقوله: (وإن) مخففة من الثقيلة: أي وإنه (كان الرجل ليسلم) أي يدخل في الإسلام وينتظم في عدادهم (ما يريد)
بإسلامه (إلا الدنيا) لما يرى من مزيد بذله تأليفاً على الإسلام وترغيباً (فما يلبث) بفتح التحتية والموحدة وسكون اللام بينهما: أي يمكث (إلا) زمناً (يسيراً) تشرق في قلبه أشعة أنوار الإيمان وتخالط بشاشته قلبه فيتمكن منه (حتى يكون الإسلام أحبّ إليه من الدنيا وما عليها) فهذا من كمال رحمته ومزيد معرفته، أن دواء كل داء بما يقطع مادته من أصلها لتقلب تلك الأمراض إلى ضدها، فصلى الله وسلم عليه وزاده فضلاً وشرفاً لديه. وفيه عناية الله بأولئك الذين أهلهم لمعاملة نبيه المصطفى إياهم بتلك المعاملة لينالوا الدرجات العلية (رواه مسلم) في فضائل الأنبياء من «صحيحه» .
11 - (وعن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسماً) أي ما يقسم من ماله الغنائم أو الخراج أو نحو ذلك (فقلت) معطوف على مقدر دل عليه الكلام فأعطى أناساً وترك آخرين (يا رسول الله لغير هؤلاء) أي المعطين (كانوا أحق) أي أولى (به) أي بالعطاء (منهم) أي من هؤلاء وآكد باللام المؤذنة بالقسم المقدر وإسمية الجملة لما فهمه من ترك النبي إعطاءهم من أن غيرهم أحق بذلك منهم، قال الأبي: وهذا التنبيه لظنه أن الإيثار بالعطاء بحسب الفضيلة والسابقة في الدين، فبين له سببه بقوله: (قال: إنهم خيروني) قال الأبي: الأظهر أنه بلسان الحال: أي وكلوا الخيرة إلى (بين أن يسألوني بالفحش فأعطيهم) أو أن (يبخلوني) معناه كما قال المصنف أنهم ألحوا عليّ في السؤال لضعف إيمانهم وألجئوني بمقتضى حالهم إلى السؤال بالفحش أو بنسبتي إلى البخل (ولست بباخل) ولا ينبغي احتمال أحد الأمرين، وقال الأبي نقلاً عن عياض: المعنى أنهم أشطوا عليه في السؤال على وجه يقتضي أنه إن أجابهم إليه حاباهم، وإن منعهم آذوه وبخلوه، فاختار أن يعطي إذ ليس البخل من خلقه مداراة وتألفاً كما قال: «شرّ الناس من اتقاه(4/535)
الناس اتقاء لشرّه» .g وكما أمر بإعطاء المؤلفة ففيه ما كان عليه من عظيم الخلق والصبر والحلم والإعراض عن الجاهلين كما أمر (رواه مسلم) في الزكاة من «صحيحه» وقد انفرد به عن باقي الستة.
12 - (وعن) أبي محمد، ويقال: أبو عدي (جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون التحتية (ابن مطعم) بصيغة اسم الفاعل ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي المدني (رضي الله عنه) أسلم يوم الفتح وقيل: قبله وحسن إسلامه، وكان سيداً حكيماً وقوراً بشأنه رئيساً كاتباً، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن الجوزي نحو ثلاثين حديثاً، اتفق الشيخان على ستة منها وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بواحد وخرج عنه الأربعة، مات بالمدينة سنة ثمان أو تسع بتقديم الفوقية (أنه قال بينما) ما مزيدة لكفّ بين عن الإضافة، فالجملة الإسمية بعدها مستأنفة (هو يسير مع النبي مقفله) منصوب على الظرفية الزمانية: أي زمن رجوعه (من حنين) بضم المهملة وتخفيف النونين بينهما تحتية ساكنة في السنة الثامنة بعد الفتح في شوال (فعلق) بفتح العين وتخفيف اللام وبالقاف من أفعال الشروع بوزن طفق ومعناه: وقد جاء بدله في رواية الكشميهني ثم هو في البخاري بالتاء الممدودة بالتأنيث لإسناده إلى (الأعراب) وهو اسم جمع لعرب كما قال سيبويه لأنه خواص بسكان البوادي والعرب تعمهم والحاضرين، ورأيت في أصل مصحح فعلقه بهاء الضمير والظاهر أنها تاء التأنيث وربطت في الرسم من تحريف الكتاب وقوله: (يسألونه) جملة في محل الخبر المعلق (حتى اضطروه) أي ألجأوه (إلى سمرة) بفتح المهملة وضم الميم: شجرة طويلة متفرقة الرأس قليلة الظل صغيرة الورق والشوك صلبة الخشب قاله ابن التين، وقال الداودي: السمرة هي العضاه، وقال الخطابي: ورق السمر أثبت وظلها أكثف، ويقال: هي شجرة الطلح (فخطفت) بكسر الطاء المهملة (رداءه) قال في «المصباح» : خطفه من باب سمع استله بسرعة، وخطف من باب ضرب لغة فيفه، وعند ابن شبة في كتاب(4/536)
مكة: حتى عدلوا ناقته عن الطريق فمرّ بسمرات فانتهش ظهره وانتزعن رداءه، والباقي بنحو حديث جبير (فوقف النبيّ) أي بإمساك خطام الناقة الذي بيده (فقال: أعطوني
ردائي) قال في «المصباح» : الرداء بكسر الراء وبالمد ما يرتدي به مذكر لا يجوز تأنيثه. قال ابن الأنباري: وتثنيته رداءان، وربما قلبوا الهمزة فقالوا: رداوان والجمع أردية بالياء كسلاح وأسلحة (فلوكان لي عدد هذه العضاه) بالرفع اسم كان وخبرها (نعماً) بالنصب ويجوز على التمييز كما في «الفتح» للحافظ زاد الدماميني ولي خبر كان.
وفي رواية أبي ذرّ بالرفع على أنه اسم كان مؤخراً، وعدد بالنصب خبر مقدم (لقسمته بينكم) قال ابن المنير: وهذا تنبيه بطريق الأولى لأنه إذا سمح بمال نفسه فلأن يسمح بقسم غنائمهم عليهم أولى (ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً) أي لا تجدوني ذا بخل ولا ذا كذب ولا ذات جبن، فالمراد نفي الوصف من أصله لا نفي المبالغة المدلول عليها بالصيغة: قال ابن المنير: في جمعه بين هذه الصفات لطيفة، وذلك أنها متلازمة وكذا أضدادها وأصل المعنى هنا الشجاعة، فإن الشجاع واثق من نفسه بالخلف من كسبه فبالضرورة لا يبخل، وإذا أمهل عليه العطاء لا يكذب بالخلف في الوعد، لأن الخلف إنما ينشأ من البخل، واستعمال ثم هنا ليس مخالفاً لمقتضاها وإن كان الكرم يتقدم العطاء، لكن علم الناس بكرم الكريم إنما يكون بعد العطاء، وليس المراد هنا بثم الدلالة على تراخي العلم بالكرم، عن العطاء إنما التراخي هنا لعلو رتبة الوصف كأن يقول: وأعلى من العطاء بما لا يتقارب أن يكون العطاء عن كرم، فقد يكون عطاء بلا كرم كعطاء البخيل قهراً أو نحو ذلك، قاله الدماميني في «المصابيح» . وفي «الفتح» للحافظ: في الحديث ذم الخصال المنفية، وأن إمام المسلمين لا ينبغي أن يكون فيه خصلة منها، وفيه ما كان عليه من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود والصبر على جفاة الأعراب، وفيه جواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة لخوف ظن أهل الجهل به خلاف ذلك ولا يكون ذلك من الفخر المذموم اهـ ملخصاً (رواه البخاري) في الجهاد وفي الخمس
من «صحيحه» منفرداً به عن باقي الستة (مقفلة) بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه (أي في حال) أحسن منه زمان (رجوعه) لما قدمناه وبذلك عبر الحافظ في الفتح (السمرة شجرة) تقدم بيانها (العضاه) بكسر العين المهملة وبالضاد المعجمة (شجر له شوك)(4/537)
قال الحافظ في «الفتح» : واختلف في واحدها فقيل عضة بفتح أوليه كشفه وشفاه والأصل عضهه فحذفت الهاء وقيل: عضاهة.
13ــــ (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما نقصت صدقة) هي المخرج من المال تقرباً إلى الله (من مال) قال المصنف: ذكروا فيه وجهين: أحدهما أنه يبارك فيه ويدفع عنه المفسدات فيجبر النقص الصوري بالبركة الخفية وهذا مدرك بالحس والعادة، وثانيهما أنه وإن نقصت صورته لكن ثوابه المعد له في الآخرة جابر لنقصه (وما زاد الله عبداً بعفوا إلا عزاً) فيه وجهان: أيضاً أحدهما أنه على ظاهره أن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب وزاد عزة وكرامة، والثاني أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك (وما تواضع أحد ألا رفعه الله عزّ وجلّ) ويجوز أن يكون في الدنيا بأن يرفعه ويثبت له في القلوب بتواضعه منزلة يرفعه بها الناس ويجلوا مكانه، ويحتمل أي يكون ذلك في الآخرة فيثبته الله في الجنة بتواضعه في الدنيا، وقد يكون المراد فيهما جميعاً اهـ ملخصاً (رواه مسلم) في البر والصلة من «صحيحه» ، ووقع في «الأطراف» للمزي في الأدب منه، والذي رأيته في الأصول من مسلم كما ذكرته.
14 - (وعن أبي كبشة) بفتح الكاف وسكون الموحدة وبالشين المعجمة كنية (عمر) بضم ففتح (ابن سعد الأنماري) بفتح الهمزة وسكون النون وبعد الألف راء نسبة إلى أنمار بطن من العرب، وقد اختلف في اسمه (رضي الله عنه) فقيل كما ذكره المصنف «عمر» ، وقيل سعد بن عمر، وقيل: عمرو بن سعد سماه يحيى بن يونس وسعيد القرشي هكذا، وقيل: اسمه عمرو بن سعد. قال ابن الأثير: وهو الأشهر أخرجه أبو موسى يعد في الشاميين، روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث ذكر منها المزي في «الأطراف» أربعين وليس منها شيء في «الصحيح» (أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ثلاثة) من الخصال أو خصال ثلاثة، وجاز إتيان(4/538)
التاء في عدد المؤنث لحذف المعدود (أقسم عليهن) تأكيداً لها في الأذهان للسامعين قبولهم لها ويشتد حرصهم على العمل بها وأكد ذلك بقوله: (وأحدثكم حديثاً) أي في ذلك (فاحفظوه) والجملتان معترضتان لذلك، وجعل العاقولي من باب التقديم والتأخير فقال: أي أحدثكم في معنى من خصال الخير وأقسم على ثلاث خصال منها، فقدم قوله ثلاث أقسم عليهن للاهتمام بها اهـ. وما سلكته أولى لأن الأصل عدم التقديم والتأخير (ما نقص مال عبد من صدقة) أي بل البركة النازلة فيه أو الثواب المعد لباذله وذلك يجبر ما نقص منه حساً، أو ما نقص ثوابه بل يضاعف يوم القيامة أضعافاً كثيرة، وفي «أمالي» العز بن عبد السلام معنى الحديث أن ابن آدم لا يضيع به شيء وما لم ينتفع به في دنياه انتفع به في عقباه، فإن الإنسان إذا كان له داران فحول ماله من إحداهما إلى الأخرى لا يقال في ذلك المحول إنه نقص من ماله، وكان بعض السلف إذا رأى السائل يقول: مرحباً بمن جاء يحول مال دنيانا إلى أخرانا قال: هذا معنى الحديث، وليس معناه أنه لا ينقص في الحس ولا أن الله يخلف عليه فإن ذلك معنى مستأنف اهـ (ولا ظلم عبد مظلمة) بفتح الميم وكسر اللام اسم مصدر ظلم ظلماً بالفتح من باب ضرب، وفي «فتح
الباري» في كتاب المظالم: المظلمة بكسر اللام على المشهور. وحكى ابن قتيبة وابن التين والجوهري فتحها، وأنكره ابن القوطية، ورأيت بخط مغلطاي أن الفراء حكى الضم، قال في «المصابيح» : هي ما يطلبه عند الظالم وهي ما أخذ منك وحذف الفاعل ليعم ظلم القويّ والضعيف ونكر مظلمة في سياق النفي ليعمّ الظلم في النفس والمال والعرض وقوله: (صبر عليها) أي حبس نفسه على ألمها ولم ينتقم من ظالمه بشيء من الانتقام، ويحتمل أن يعم ويدخل من ترك بعض حقه من الظلامة وانتصف في البعض فيثاب فيما تركه احتساباً (إلا زاده ا) في الدنيا وفي الآخرة أو فيهما (عزاً) وذلك من باب قولهم: كما تدين تدان، ومن حديث: «اعمل ما شئت فإنك مجزيّ به» وفي تفسير سورة فصلت من «صحيح البخاري» قال ابن عباس:
{ادفع بالتي هي أحسن} الصبر عند الغضب والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا عصمهم الله وخضع لهم عدوهم كأنه وليّ حميم اهـ. وهذا يؤيد ظهور أثر العفو في الدنيا (ولا فتح عبد باب مسألة) لينال بذلك الغنى تكثراً من أموال الناس (إلا فتح الله عليه باب فقر) معاملة بنقيض قصده، وفي هذه الأخيرة استعارة مكنية تتبعها استعارة تخييلية في الموضعين (أو) شك من الراوي: أي قال:(4/539)
فتح الله عليه باب فقر أو قال: (كلمة نحوها) في إفادة ذلك (وأحدثكم حديثاً فاحفظوه) ظاهر أنه مزيد على الثلاث ولعله استطرد مما أقسم عليه من الخصال إلى ذلك لمناسبة بينه وبين ما انتقل عنه، إذ كل فيه ترغيب في إنفاق المال في التقرب إلى الله وتحذير من الحرص على جمع المال، ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام أبي كبشة لما حدثهم بما تقدم، ذكر هذا الحديث بجامع ما ذكرناه فذكره وقال: هذه الجملة قبله ليقبلوا عليه، ويؤيد هذا قوله: (قال) أي النبي (إنما الدنيا لأربعة نفر) بفتح أوليه هو لغة ما بين الثلاثة إلى العشرة، وهو هنا تمييز أربعة وجاز مع أن تمييزها لا يكون إلا جمعاً كسبع ليال وثمانية أيام اعتباراً بالمعنى لأنه كذلك البعد (عبد) يجوز فيه وفي أمثاله من مفصل لمجمل استوفى العدة الجر على الإبدال مما قبله بدل كل من كل بتقدير سبق العطف على الإبدال، والقطع بالرفع بإضمار مبتدأ محذوف وجوباً، وبالنصب بإضمار نحو أعني محذوف كذلك (رزقه الله مالاً وعلماً) فيه أن العلم من الرزق (فهو يتقي فيه ربه) أي لا يصرفه في معصية بل يجتنب ما لا يرضيه (ويصل فيه رحمه ويعلم الله فيه حقاً) سواء كان ذلك واجباً عينياً من زكاة أو كفارة لمقتضاها أو نذر، أو كفائياً ككفاية مضطر من جائع بسدّ جوعته وعار بكسوته، أو مندوباً كالتقرّب إلى الله سبحانه بأنواع الطاعات المالية (فهذا بأفضل المنازل) من الجنة لأنه علم وعمل وأدى الواجب والمندوب واجتنب الحرام والمحظور، وعلمه هداه إلى الإخلاص في
ذلك وجعل معاملته في ذلك مع الله سبحانه (وعبد رزقه الله علماً) أي بالأحكام المتعلقة بالمال من حيث جمعه وإنفاقه وما يتعلق بذلك، ويحتمل أن يراد ما يعم علم ذلك وغيره، ويؤيده التنكير إذ الأصل فيه التعميم (ولم يرزقه مالاً فهو) لعلمه النافع له (صادق النية) أي القصد في طلب ثواب الله فيعزم على العمل المالي لو قدر عليه ليثاب به (يقول) ناوياً لذلك (لو أن لي مالاً لعملت) أي فيه (بعمل فلان) الجامع بين المال والعلم من طلب ما رضي الله به (فهو نيته) قال العاقولي مبتدأ وخبر أي فهو سني النية وبها أجره. قلت: ويجوز أن يكون نيته مبتدأ وخبره محذوف: أي ألحقته بمن قبله، وبالجملة خبر هو يدل على ذلك قوله: (فأجرهما سواء) أي من حيث النية وصحة القصد. ويزيد ذلك بثواب نفقة المال التي زاد على صاحبه (وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً) (يعرف به وجوه(4/540)
التصرف المأذون فيها شرعاً والممنوع منها كذلك (فهو يخبط) بكسر الموحدة (في مال الله بغير علم) وقوله: (لا يتقي فيه ربه) بترك إتلافه في المحارم ويبذله في المآثم (ولا يصل فيه رحمه) وفي الإتيان بفي هنا وفيما قبله تجريد كقوله تعالى:
{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) لأن المال نفس الصلة لا أنها فيه، كما أنه نفس القدوة لا أنها فيه (ولا يعلم فيه حقاً) لجهله به فلا يؤدي حق المال واجباً كان أو مندوباً لجهله وحرصه على جمعه وإتلافه في مستلذات نفسه (فهذا بأخبث المنازل) لماله من المآثم التي ارتكبها بمال الذي أتلفه مع جهله وعدم علمه (وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو) أي العبد الفاقد لهما لجهله (يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان) أي بصرفه في الملابس الفاخرة واستماع الملاهي وأكل المستلذات المحرمة وعير ذلك (فهو نيته) إعرابه كما تقدم أي فيجد إثم نيته قصد الفصاد (فوزرهما سواء) باعتبار العزم على المحرم وإن زاد الفاعل بإثم الفعل (رواه الترمذي) في أبواب الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح) .
15 - (وعن عائشة رضي الله عنهم أنها) أي ذوي عائشة أو أهل بيت النبيّ (ذبحوا شاة) أي فتصدقوا بها ما عدا كتفها (فقال النبي) بعد أن عاد لمنزلها لداع دعا للسؤال عما بقي من لحمها وقد علم أنهم تصدقوا ببعضها (ما بقي منها) أي عندك (قالت: ما بقي منها) أي عندنا (إلا كتفها) بفتح الكاف وكسر الفوقية على الأفصح أي أنفقنا الجميع وتصدقنا به ما عدا ذلك (قال: بقي كلها) أي ثواب كلها لأنه تصدّق به تقرّباً إلى الله تعالى فهو يخلفه ويجزي عليه (غير كتفها) أي فإنه يفنى بأكله. ومثله لا ثواب فيه إن لم يقارنه قصد صحيح، وهذا تحريض على الصدقة والاهتمام بها، وأن لا يستكثر المرء ما أنفقه فيها، فإنه(4/541)
وإن فني صورة فهو باق حقيقة لصاحبه عند الله يرى ثوابه مضاعفاً عند حاجته ومزيد فاقته، ففيه أعظم تحريض عليها من كل م يأكله الإنسان، لأن من استحضر أن ما يأكله لا ثواب له فيه حيث لا غرض صحيح معه، وأن ما يتصدق به بقي له عند مولاه حمله ذلك على التصدق منه ولو بلقمة (رواه الترمذي وقال: حديث صحيح ومعناه) أي الحديث من حيث الجملة (تصدقوا بها إلا كتفها، فقال: بقيت لنا في الآخرة إلا كتفها) وذلك لأن ما بقي منها يفنى بأكله وما تصدق به باقياً عند الله سبحانه.
16 - (وعن أسماء) بسكون المهملة بعدها ميم ألف ممدودة (بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما) تقدمت ترجمتها في باب برّ الوالدين (قالت: قال لي رسول الله: لا توكي) قال في «النهاية» : أي لا تدخري وتشدي ما عندك وتمنعي ما في يدك (فيوكي) بالنصب: أي فيقطع (اعليك) مادة الرزق، والجزاء من جنس العمل وهذا مفهوم قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} (سبأ: 39) .
(وفي رواية) هي لمسلم في الزكاة من «صحيحه» (أنفقي أو) شك من الراوي (انفحي أو انضحي) قال المصنف: بكسر الضاد المعجمة، والمعنى: أعطي النضح والنفح العطاء، ويطلق النضح على الصبّ فلعله المراد هنا ويكون أبلغ من النفح (ولا تحصي) أي تمسكي المال وتدخريه من غير إنفاق منه (فيحصى) كذا هو في نسخ الرياض بالمبنى للمجهول وفي الزكاة من البخاري ومسلم فيحصي الله (عليك) بذكر الفاعل ولعل حذفه من نسخ الرياض إن لم يكن من سبق القلم من المصنف من تحريف الكتاب: أي يمسك عنك مادة الرزق والبركة فيه ويناقشك الحساب في الموقف، إذ أصل الإحاطة بالشيء جملة وتفصيلاً، وهذا فيه تلف أيّ تلف، فيكون مطابقاً لأعط كل ممسك تلفاً، ويستفاد منه أن الممسك يعاقب بتلف ما عنده وحبس مادة رزقه والبركة فيه ومناقشة الحساب، وقد قال: «من نوقش الحساب عذّب» وهذا أبلغ وأليق بمقام التنفير والتغليظ (ولا توعي) أي لا تمنعي ما فضل عنك عمن هو محتاج إليه (فيوعي)(4/542)
بالنصب (اعليك) أي يصيبك على أعمالك بالتشديد عليك في الحساب أو يمنع عنك فضله وجوده، وبهذا يعلم أن هذه بمعنى ما قبلها وأن القصد مزيد التأكيد والحث على الإنفاق (متفق عليه) رواه مسلم بجملته وإن اقتصر المصنف على عزو قوله وفي رواية إليه، والبخاري روى عنها في حديث أن النبي قال لها: «لا توكي فيوكى عليك» وعند بعض رواته قال: «لا تحصي فيحصي الله عليك» وفي حديث آخر عنها أن النبي قال لها: «لا توعي فيوعي الله عليك انضحي ما استطعت» (وانفحي) بسكون النون وفتح الفاء (وبالحاء المهملة وهو بمعنى أنفقي وكذلك) أي ككون انفحي بمعنى أنفقي (أنضحي) فانفحي المشار إليه مشبه به وانضحي مشبه، قال في «شرح مسلم» : معنى انفحي وانضحي: أعطي النفح، والنضح: العطاء.
17 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: مثل) بفتح أوليه: أي صفة (البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان) بالموحدة أو النون كما قاله غير واحد، وقول بعضهم: إنه لا شك ولا خلاف أنه بالنون رده بعض المحققين أنه بالنون تصحيف، قيل: ومما يرجح النون أن الدرع لا يسمى جبة بالباء بل النون (من حديد) حكمة إيثاره الإعلام بأن القبض والشحّ من جبلة الإنسان، ولذا أضيف إليه في {ومن يوق شحّ نفسه} (الحشر: 9) وأن السخاوة من عطاء الله وتوفيقه يمنحها من شاء من عباده وإيثار الجنة على الغلّ لأنه يأتى فيه الانقباض والانبساط المشار بهما إلى ما يأتي (من ثديهما) قال المصنف: بضم الثاء المثلثة: أي وكسر الدال وتشديد التحتية على الجمع، كذا في معظم نسخ مسلم جمع ثدي بوزن فلس، وفيه رد على من قال: إنه خاص بالمرأة، ويقال في مثله من الرجل «تندوة» بضم الفوقية والدال المهملة وسكون النون بينهما ومن فيه ابتدائية (إلى تراقيهما) جمع ترقوة بضم الفوقية والقاف وسكون الراء وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين. قال بعضهم: ولا يكون لغير الإنسان من باقي الحيوان (فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت) أي(4/543)
امتدت وكملت (أو) شك من الراوي (وفرت) بتخفيف الفاء (على جلده حتى تخفى بنانه) مفاصل الأصبع بالموحدة ونونين، ومن قاله بالمثلثة والتحتية والموحدة فقد صحف (وتعفو أثره) أي تغطي أثره حتى لا يبدو، وتعفو منصوب عطفاً على تخفي وكلاهما مسند إلى ضمير الجنة أو الجبة، وعفا يستعمل لازماً ومتعدياً، تقول عفت الديار: أي درست، وعفاها الريح: إذا طمسها، وهو في الحديث متعد. قال الحافظ في «الفتح» : والمعنى أن الصدقة تستر خطاياه كما يغطي الثوب الذي يجرّ على الأرض أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل عليه وسيأتي فيه مزيد (وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت) في رواية مسلم انقبضت، وفي رواية لهما عضت (كل حلقة)
بسكون اللام (مكانها) والمفاد واحد إلا أن الأولى نظر فيها إلى صورة الضيق والأخرى إلى سببه (فهو يوسعها) أي يريد توسيعها بالبذل فتشح نفسه ولا تطاوعه (فلا تتسع) وفي هذا وعد للمتصدق بالبركة وستر العورة والصيانة من البلاء، فإن جبة الحديد لا تعد للستر فقط بل له وللصون من الآفات، وهذا كما ورد «إن الصدقة تدفع البلاء» وفي البخيل على الضد فهي معدة لهتك عورته وكونه هدفاً لسهام البلاء والعياذ با تعالى، كذا في «مصابيح الجامع» . قال الخطابي وغيره: هذا مثل ضربه النبي للبخيل والمتصدق، فشبههما برجلين أراد كل واحد منهما لبس درع يستتر به من سلاح الإنسان يديه في كميها، فجعل المنفق كمن لبس درعاً سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وجعل للبخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه فكلما أراد لبسها اجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته، وهو معنى قلصت: أي تضامت واجتمعت، والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره وطابت نفسه وتوسعت في الإنفاق، والبخيل إذا حدثها بها شحت بها فضاق صدره وانقبضت يداه
{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر: 9) وقال المهلب: المراد أن الله يستر المنفق في الدارين، بخلاف البخيل فإنه يفضحه، ومعنى يعفو أثره يمحو خطاياه. وتعقبه عياض بأن الخبر جاء على التمثيل لا على الإخبار عن كائن. وقيل: هو تمثيل لنماء المال بالصدقة، والبخيل بضده اهـ (متفق عليه) واللفظ للبخاري في كتاب الزكاة وهو عند مسلم بنحوه فيها من طرق (والجنة) في النسخ بالنون وهو ما صوّبه في «شرح مسلم» ، وقال لوروده كذلك في رواية بلا شك، وتقدم تعقب بعض المحققين له في ذلك(4/544)
(الدرع) بكسر الدال وبالراء والعين المهملات، وهي الثوب المنسوج من الحديد وهي مؤنثة في الأكثر (ومعناه: أن المنفق كلما أنفق سبغت وطالت حتى تجرّ وراءه وتخفي رجليه وأثر مشيه وخطوته) أي كما هو شأن الثوب الرافل، هذا بيان لمعاد الضمائر باعتبار ظاهر اللفظ، أما المعنى المراد فسكت عن بيانه هنا.
18 - (وعنه قال: قال رسول الله: من تصدق بعدل تمرة) قال الحافظ في «الفتح» : أي بقيمتها لأنه بالفتح المثل، وبالكسر الحمل بكسر المهملة هذا قول الجمهور. وقال الفراء بالفتح: المثل من غير جنسه، وبالكسر من جنسه، وقيل: بالفتح مثله في القيمة وبالكسر الشطر، وأنكر البصريون هذه التفرقة، وقال «الكشاف» : هما بمعنى، كما أن لفظ المثل لا يختلف، وضبط في هذه الرواية الأكثر بالفتح والتمرة بالمثناة، ولفظ مسلم: «ما تصدق أحد بصدقة» (من كسب طيب) أي خلال خال عن الغشّ والخديعة، وقوله: (ولا يقبل الله إلا الطيب) جملة معترضة بين الشرط والجزاء لتقرير ما قبله، وفي رواية سليمان ابن بلال التي أشار إليها البخاري: «ولا يصعد إلى الله إلا الطيب» قال القرطبي: وإنما لم يقبل الله الصدقة بالحرام لأنه غير مملوك للمتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه والتصدق به تصرف فيه، فلو قبل لزم أن يكون الشيء مأموراً ومنهياً من وجه واحد وهو محال (فإن الله يقبلها بيمينه) وفي رواية لمسلم: «إلا أخذها الله بيمينه» وعند مسلم أيضاً في رواية: «إلا أخذها الرحمن» قال الحفاظ في «الفتح» : وفي رواية لمسلم: «فيقبضها» وفي حديث عائشة عند البزار: «فتلقاه الرحمن بيده (ثم يريبها) في مسلم فيريبها (كما يربي أحدكم فلوه) جاء في رواية: «كما يربي أحدكم مهره» وفي أخرى عند البزار: مهره أو وصيفه أو فصيله (حتى تكون) أي المتصدق به القليل بالتنمية (مثل الجبل) وفي رواية عند الترمذي حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد» قال الحافظ: والظاهر أن المراد بعظمها أن عينها تعظم لتثقل في الميزان، ويحتمل أن يكون ذلك معبراً به عن ثوابها، ومثله في كلام المصنف في «شرح مسلم» نقلاً عن عياض(4/545)
وسيأتي حكمة ضرب المثل بالفلو، قال المازري: وهذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم ليفهموا عنه، فكنى عن قبول الصدقة باليمين وعن تضعيف أجرها بالتربية. وقال عياض: لما كان الشيء الذي يرتضي
يتلقى باليمين ويؤخذ استعمل في مثل هذا واستعير اليمين للقبول، وليس المراد به الجارحة، وقيل: عبر باليمين عن جهة القبول إذ الشمال بضده، وقيل: المراد يمين الدافع إليه الصدقة وإضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص لوضع هذه الصدقة في يمين الآخذ تعالى، وقيل: المراد سرعة القبول وقيل: حسنة. وقال الزين ابن المنير: الكناية عن الترضي والقبول بالتلقي باليمين لتثبيت المعاني المعقولة في الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات: أي لا تشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي الشيء باليمين، لا أن التناول كالتناول المعهود ولا أن المتناول به جارحة. وقال الترمذي في «جامعه» : قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث ولا نتوهم فيها تشبيهاً، ولا نقول كيف، هكذا روى عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم. وأنكرت الجهمية هذه الروايات اهـ (متفق عليه) روياه في الزكاة من «صحيحهما» واللفظ للبخاري (الفلو) فيه لغتان أقصحهما وأشهرهما (بفتح الفاء وشم اللام وتشديد الواو) وثانيهما أشار إليه بقوله: (ويقال أيضاً بكسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف الواو وهو المهر) قال أبو زيد: إذا فتحت الفاء شددت الواو وإذا كسرتها سكنت اللام كجرىء، وقال في «شرح مسلم» : سمي به لأنه فلى على أمه: أي فصل وعزل، وقال الحافظ: وقيل: هو كل فطيم من ذات حافر وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة. ولأن الصدقة نتاج العمل وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيماً، وإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال، وكذا عمل ابن آدم ولا سيما الصدقة، فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله يكسبها الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة إلى الجمل.
19 - (وعنه رضي الله عنه عن النبي قال: بينما) ما مزيدة لكفّ بين عن الإضافة فالجملة بعده مستأنفة (رجل بفلاة) هي الأرض التي لا ماء فيها وجمعها فلا مثل حصاة(4/546)
وحصى وجمع الجمع أفلاء كسبب وأسباب كذا في «المصباح» ، ويؤخذ منه أن قوله: (من الأرض) تصريح بما فهم مما قبله (فسمع صوتاً) لعله صوت الملك الموكل بالسحاب وهو الرعد (في سحابة) واحدة السحاب سمي به لانسحابه في الهواء وجمع السحاب سحب بضمتين (اسق حديقة فلان) لم أقف على من سماه. والحديقة البستان يكون عليه حائط فعيلة بمعنى مفعولة لأن الحائط أحدق بها: أي أحاط ثم توسعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان وإن كان بغير حائط والجمع حوائط (فتنحي ذلك السحاب) أتى بما يشار به للبعيد مع أن المشار إليه قريب إما تعظيماً له فيكون كقوله تعالى: {ذلك الكتاب} وإما لأنه لما كان اللفظ عرضاً لا يوجد التالي به إلا بعد انعدام ما قبله صار ما قبل كالبعيد فيشار إليه بما يشار به إليه، وهذا محتمل لكون السحاب أوتي فهماً فامتثل ما أمر، ولأن يكون باقياً على جماديته، وقوله: اسق أمر تكويني، وقوله: فتنحي بيان لترتب أثر الأمر الإلهي عليه حالاً من غير توان ولا تراخ، قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) وعلى الثاني فيكون في قوله: (فأفرغ) أي صب (ماءه) أي الذي فيه والإضافة لأدنى ملابسة (في حرة) إسناده مجازي إن كان الفعل للمعلوم وفاعله ضمير يعود إلى السحاب كما هو كذلك في أصل مصحح وإن كانت الرواية ببنائه للمجهول فلا (فإذا شرجه من تلك الشراج) أي مسيل من تلك المسايل (قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع) أي الرجل السامع الصوت (الماء، فإذا رجل قائم في حديقته) الظرف خبر بعد خبر، ويصح كونه حالاً من ضمير الخبر فيكون مستقراً، ويجوز أن يكون لغواً متعلقاً بقائم (يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد ا) ناداه بالوصف القائم حقيقة بكل إنسان {إن كل من في السموات
والأرض إلا آتى الرحمن عبداً} (مريم: 93) (ما اسمك) أي العلم عليك ويحتمل أن يراد مطلق ما يعرف به من علم أو صفة أو غيره (قال فلان) خبر لمحذوف دل عليه ذكره في السؤال وفلان كما تقدم كناية عن المبهم من الإنسان (للاسم) في محل الحال من فلان: أي موافقاً للاسم (الذي سمع) العائد محذوف: أي سمعه (في السحابة فقال) أي بعد بيانه اسمه (له يا عبد الله ولم تسألني) الواو عاطفة على مقدر: أي أجبتك عن مسألتك وأسألك (عن) سبب سؤالك عن(4/547)
(اسمي) واللام جارة لما الاستفهامية حذفت ألفها كقوله تعالى:
{عم يتساءلون} (النبأ: 1) وقوله: {بم يرجع المرسلون} (النمل: 35) (فقال: إني سمعت صوتاً في السحاب) أل فيه للعهد الذهني بقرينة قوله: (الذي هذا ماؤه) ويحتمل كونها للجنس (يقول) جملة في محل الحال من الصوت على حذف مضاف: أي ذا صوت قائلاً (اسق) بوصل الهمزة في الأصح ويجوز قطعها، يقال: ما أنتج له من العناية الإلهية حسن هذه الثمرة بالتخصيص (فقال: أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف للتأكيد متضمن معنى الشرط (إذا قلت هذا) أي أخبرت بما سمعت مما دعاك للسؤال (فإني) أبين لك عمل الذي نتج عنه بفضل الله سبحانه ذلك وهو أني (أنظر إلى ما يخرج منها) أي من الأرض من حب أو ثمر (فأتصدق بثلثه) بضم أوليه في الأفصح، ويجوز تسكين ثانيه تخفيفاً زيادة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فالواجب في شريعتنا في النصاب من ذلك العشر تارة ونصفه أخرى (وآكل أنا وعيالي) أي أعولهم من أهل وولد وزوجة وخادم وغير ذلك (ثلثاً وأرد فيها ثلثه) أي ثلث الخارج (رواه مسلم) في «صحيحه» في أبواب الزهد (الحرة) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وبالتاء (الأرض الملبسة حجارة سودا) أي التي علاها ذلك وغلب عليها فكأنها لبست، وقال في «المصباح» : والجمع حرار كلكبة وكلاب (والشرجة بفتح الشين المعجمة وإسكان الراء وبالجيم) وسكت المصنف عن التاء آخره، قال في «المصباح» : وبعضهم يحذف فيقول: شرج هي (مسيل الماء) وجمعها شراج ككلبة وكلاب.
61 - باب النهي عن البخل والشح
قال في «المصباح» : بخل بخلاً: أي بفتح أوليه، بخلاً: أي بضم فسكون من باب(4/548)
تعب وقرب والاسم البخل، وزان فلس. والبخل في الشرع: منع الواجب، وعند العرب: منع السائل مما يفضل عنده، وفيه أيضاً الشحّ والبخل، وفي «شرح مسلم» للمصنف قال جماعة: الشحّ أشد البخل وأبلغ في المنع منه، فقيل: هو البخل مع حرص، وقيل: البخل في أفراد الحرص الأمور، والشح عام وقيل: البخل بالأموال خاصة والشحّ بالمال والمعروف. وقيل: الشحّ الحرص على ما ليس عنده، والبخل بما عنده اهـ. وأصله في «النهاية» وزاد شح يشح شحاً فهو شحيح، والاسم الشح، وترجمة المصنف تمشي على هذا، فإن الإصل في العطف التغاير، وعلى ما في «المصباح» يكون من عطف الرديف اكتفاء بتغاير اللفظ كهو في قوله تعالى: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} (يوسف: 86) .
(قال الله تعالى) : ( {وأما من بخل} ) أي بالإنفاق في الخيرات ( {واستغنى} ) أي بالدنيا عن العقبى (وكذب بالحسنى فسنيسره) في الدنيا (للعسرى) للخلة المودية إلى الشدة في الآخرة وهي الأعمال السيئة، ولهذا قالوا من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها ( {وما يغني عنه ماله إذا تردى} ) أي هلك وسقط وتردى في جهنم.
(وقال تعالى) : ( {ومن يوق شحّ نفسه} ) أي ومن سلم من الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم بمنع أداء ما وجب عليه أداؤه، وفي تفسير ابن عطية: شحّ النفس فقر لا يذهبه غنى المال، بل يزيده وينصب به. وقال ابن زيد وابن جبير وجماعة: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برىء من شحّ النفس. وقال ابن مسعود: شحّ النفس أكل مال الناس بالباطل، أما منع الإنسان ماله فبخل وهو قبيح ولكن ليس بشحّ ( {فأولئك هم المفلحون} ) الفائزون ببغيتهم (وأما الأحاديث) أي النبوية (فتقدمت جملة منها في الباب السابق) كقوله: «وإن تمسكه شرّ لك» وقوله: «وأعط كل ممسك تلفاً، ولا توكي فيوكي الله عليك» وباقي أحاديث ذلك الباب تدل بمفهومها على ما عقد له هذا الباب لأن الثناء على الكرم والأمر به ذم بضده ونهي عنه.(4/549)
1 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا الظلم) أي اتخذوا لكم وقاية منه بالقسط. والظلم التصرف في حق الغير بغير طريق شرعي، وقيل: وضع الشيء في غير موضعه (فإن الظلم) أي في الدنيا (ظلمات) بضم اللام وبإسكانها تخفيفاً وبالفتح (يوم القيامة) يحتمل كما تقدم أنه على حقيقته وظاهره أنه يصير ظلمة في الآخرة، ويحتمل كونها كناية عن شدائد ذلك اليوم وما يلقاه من الأهوال (واتقوا الشحّ) بالضم على الأفصح من لغات ثلاث في أوله (فإن الشحّ) أتى بالظاهر فيه وفيما قبله تقبيحاً له وتنفيراً منه، ونعتاً بقبحه بالنداء عليه بالاسم الدال على ذلك (أهلك من كان قبلكم) أي من بني إسرائيل (حملهم على أن سفكوا) بفتح الفاء: أي أراقوا (دماءهم) أي قتل بعضهم بعضاً فهو كقوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} (البقرة: 84) قال المفسرون: أي لا يقتل بعضكم بعضاً (واستحلوا محارمهم) أي ما حرّم عليهم من الشحوم فباعوه واحتالوا لولوج السمك إلى ما حفروه يوم السبت ليدخل في حوزهم فيبيعوه بعد، فيوقعهم في ذلك الشحّ (رواه مسلم) وقد تقدم مع شرحه في باب تحريم الظلم.
62 - باب الإيثار
بكسر الهمزة وسكون التحتية بعدها مثلثة مصدر آثر يؤثر (والمواساة) مفاعلة من التواسي قال في «القاموس» : بماله مواساة: أناله منه وجعله أسوة ولا يكون ذلك إلا من كفاف، فإن كان من فضل فليس بمواساة الله - صلى الله عليه وسلم - هـ. وقال في محل آخر منه: واساه مواساة أي بالواو بدل الهمزة لغة رديئة اهـ.
(قال الله تعالى) : ( {ويؤثرون} ) أي يقدمون يعني الأنصار(4/550)
والمهاجرين ( {على أنفسهم} ) فيما عندهم من الأموال (ولو كان بهم خصاصة) أي حاجة إلى ما عندهم، ونزلت في قصة الأنصاري الآتية أوّل الحديث.
(وقال تعالى) : ( {ويطعمون الطعام على حبه} ) الأولى أن يكون الضمير للطعام ليكون موافقاً لقوله تعالى: {لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: 92) ولأن فيما بعده وهو لوجه الله غنية عن أن يكون التقدير على حب الله (مسكيناً ويتيماً وأسيراً) وإن كان من أهل الشرك أمر بإكرام الأسراء يوم بدر والمراد المسجونون من المسلمين {إنما نطعمكم لوجه ا} أي قائلين ذلك بلسان الحال أو المقال لتعريف الفقير أنها صدقة لا تطلب جزاء، وقوله لوجه الله: أي إطعاماً خالصاً غير مشوب {لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً} مصدر كالقعود والجملة حالية من فاعل نطعم {إنا نخاف من ربنا} جملة مستأنفة كالتعليل {يوماً} أي عذابه فهو مفعول به {عبوساً} شديد العبوس مجازاً: أي عبوساً فيه أهله أو كالأسد العبوس في الضرر والشدة {قمطريراً} شديد العبوس. عن عكرمة وغيره يعبس الكافر حتى يسيل من عينيه عرق كالقطران. وعن ابن عباس: العبوس الضيق، والقمطرير: الطويل {فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم ولقاهم نضرة} بدل عبوس الكفار {وسروراً} بدل حزنهم {وجزاهم بما صبروا} بدل صبرهم على ترك الشهوات وأداء الواجبات {جنة وحريراً} يلبسونه وهذا مراد الشيخ رحمه الله بقوله: (الآيات) فإن فيها بيان مثوبة الإيثار والمساواة في الله سبحانه.
1 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : هو أبو هريرة، وفي «تفسير ابن عطية» : إنه مهاجري ولم يسمعه فلعله هو (إلى النبي فقال: إني مجهود أي أصابني الجهد وهو المشقة والحاجة وسوء العيش، والجوع فأرسل إلى بعض نسائه) يحتمل بدؤه بها لتجويزه وجود شيء عندها مما يسدّ حاجة الرجل أو لقرب منزلهما منه وتأخير الباقيات لبعد منزلهن بالنسبة إلى الأولى (فقالت) أي المرسل إليها منهن (والذي بعثك بالحق) أي محقاً أو ملتبساً به (ما عندي إلا ماء) ومرادها(4/551)
ما عندي من جنس ما يطعم شيء من الأشياء إلا الماء بقرينة السياق، فالاستثناء مفرغ من أعم الأشياء (ثم أرسل إلى أخرى) أي منهن (فقالت مثل ذلك) هذا من باب الرواية بالمعنى والمشار إليه قول السابقة والذي بعثك الخ: أي فقالت الثانية ذلك المقال وهكذا (حتى قلن كلهن) توكيد للضمير قبله لا فاعل للفعل قبله إلا على لغة أكلوني البراغيث (مثل ذلك) هو من باب الرواية بالمعنى ولذا فسره ببيان قول كل واحدة (لا) نافية لجملة بعدها: أي لا أحد له ما طلبت، وقولها: (والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء) جملة قسمية لتأكيد الأمر وأن ليس عندها ما يطعمه ذلك الضيف سوى المال (فقال من يضيف) بضم أوله (هذا) أي الرجل المجهود (الليلة) بالنصب على الظرفية (فقال رجل من الأنصار) زاد مسلم: يقال له أبو طلحة، وقيل: هو ثابت بن قيس بن شماس، وقيل: عبد الله بن رواحة ذكره السيوطي في «التوشيح» ، وفي «تفسير ابن عطية» قال أبو هريرة في كتاب مكي: هذا الرجل هو أبو طلحة. وقال المتوكل: هو ثابت بن قيس، وخلط المهدوي في ذكر هذا الرجل اهـ. عزوه كونه أبا طلحة إلى ما ذكره من أنه في «صحيح مسلم» عجيب منه مع أنه من حفاظ الإسلام (أنا) يحتمل أن يكون مبتدأ حذف خبره لدلالة وجوده في السؤال: أي أنا أضيفه، ويحتمل كونه فاعلاً لمحذوف: أي أضيف فحذف الفعل اكتفاء بدلالة وجوده في السؤال عليه
وانفصل الضمير (يا رسولالله، فانطلق به إلى رحله) بفتح الراء وسكون المهملة: أي منزله قال في «المصباح» رحل الشخص مأواه في الحضر ثم أطلق على أمتعة المسافر لأنها هناك مأواه (فقال لامرأته) إن كان أبا طلحة فامرأته أم سليم (أكرمي ضيف رسول الله) أي فإنه نزل عليه ولم يكن في بيونه ما يضيفه به، وفيه أن كرامة الضيف كرامة مضيفه (وفي رواية) هي لمسلم (قال) في مسلم: فقال بفاء عاطفة على فانطلق في قوله قبله فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسولالله، فانطلق به إلى رحله فقال: (هل عندك شيء) وهذا في هذه الرواية عوض قوله في الرواية السابقة: أكرمي الخ، ولعله سألها أولاً بما في رواية مسلم فلما أخبرته بما عندها كما قال: (قالت: لا) بعدها جملة مقدرة لدلالة ما قبلها عليها: أي لا شيء عندي وقولها: (إلا قوت صبياني) استثناء من ذلك القدر قال لها:(4/552)
أكرمي الخ (قال: فعلليهم بشيء) محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاحين للأكل وإنما تطلبه أنفسهم على عادة الصبيان من غير جوع يضر، إذ لو كانوا بتلك الحال بحيث يضرهم ترك الأكل لكان طعامهم واجباً مقدماً على الضيافة، وقد أثنى الله عليه وعلى امرأته فدل على أنهما لم يتركا واجباً بل أحسنا وأجملا، قاله المصنف.l قلت: وحينئذ فيراد بقولها: «قوت صبياني» أي ما يعتادون الاقتيات به على عادتهم من الولع بالطعام من غير حاجة حافة إليه فيكون فيه مجاز (وإذا أرادوا العشاء فنوميهم) وذلك لئلا يضيقوا الطعام على الضيف فلا يبلغ حاجته منه (وإذا دخل ضيفنا) أي منزلنا (فاطفئي السراج) (وأريه أنا نأكل) أي أظهري له فهو كناية عن تداول أيديهما على الطعام وتحريك الفم والمضغ كفعل الآكل، وليس ذلك من باب الشبع بما ليس للإنسان بل هو من باب المروءة والإيثار للضيف ليأنس ويأخذ حاجته (فقعدوا) أي الضيف وهما (وأكل الضيف وباتا طاويين) أي خاليين بطنهما جائعين ولم يأكلا، والجملة محتملة للعطف والحالية (فلما أصبح) أي
دخل الصباح (غداً) أي جاء صباحاً عارضاً نفسه (على النبي فقال: لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) قال القاضي عياض: المراد بالعجب من الله رضاه عن ذلك الشيء وقيل: مجازاته عليه بالثواب، وقيل: تعظيمه ذلك قال: وقد يكون المراد عجبت ملائكة الله وأضافه إليه سبحانه وتعالى تشريفاً (متفق عليه) واللفظ من قوله وفي رواية الخ لمسلم وللبخاري بنحوه، أخرجه البخاري في فضائل الأنصار وفي التفسير، وأخرجه مسلم في أواخر الأطعمة ورواه الترمذي بنحوه في التفسير من «جامعه» وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي في التفسير أيضاً من «سننه» .
2 - (وعنه قال: قال رسول الله: طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي(4/553)
الأربعة) : قال المهلب: المراد بهذا الحديث وما بعده الحض على المكارم والتقنع بالكفاية: يعني وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية، وإنما المراد المواساة وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما وإدخال رابع أيضاً بحسب من يحضر. ووقع عند الطبراني ما يرشد إلى العلة في ذلك وأوله: «كلوا جميعاً ولا تفرقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين» الحديث، فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما زاد زادت البركة. وقال ابن المنذر: يؤخذ من الحديث استحباب الاجتماع على الطعام وألا يأكل المرء وحده، وفيه أيضاً الإشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصل معها البركة فتعم الحاضرين، وفيه أيضاً أنه ينبغي للمرء ألا يستحقر ما عنده فيمتنع من تقديمه فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء بمعنى سدّ الرمق وإقامة البنية لا حقيقة الشبع اهـ ملخصاً. وأما «أمالي» العز بن عبد السلام قوله: طعام الاثنين الخ هو خبر بمعنى الأمر: أي أطعموا طعام الاثنين بين الثلاثة، أو أنه التنبيه على أن طعامهما يقوت الثلاثة وأخبر بذلك ليذهب الجزع، قال: والأول أرجح لأن الثاني معلوم (متفق عليه) ورواه الترمذي أيضاً من حديث أبي هريرة: ورواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي من حديث جابر مرفوعاً بلفظ: «طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية» كذا في «الجامع الصغير» .
(وفي رواية لمسلم) ورواها أيضاً أحمد والترمذي والنسائي (عن جابر رضي الله عنه عن النبي قال: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) لا يقال: يؤخذ منه أن طعام الواحد يكفي الثمانية بإسقاط المكرر فينتج ما ذكر من الشكل، لفقد شرط إنتاجه من كلية الكبرى.
3 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال؛ بينما نحن في سفر مع النبي) يجوز أن يكون الظرفان خبراً بعد خبر ويجوز أن يكون أحدهما خبراً والثاني حالاً (إذ جاء(4/554)
رجل على راحلة) هي المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى، وبعضهم يقول: هي الناقة التي تصلح أن ترجل والظرف في محل الصفة للفاعل، وقوله: (له) في محل الصفة للراحلة (فجعل من) أفعال الشروع (يصرف) أي يحول (بصره يميناً وشمالاً) ينظر من يجود عليه بما يسد خلته (فقال رسول الله: من كان معه فضل ظهر) أي مركوب فاضل عن حاجته فهو من إضافته الصفة للموصوف (فليعد) أي يتصدق (به على) المحتاج إليه (من لا ظهر) أي مركوب (له) كافياً لحاجته بذلاً لما فضل عن الحاجة في مرضاة الله فيبقى له بعد أن كان فانياً (ومن كان معه فضل) أي فاضل عن حاجته (من زاد) في «المصباح» : زاد المسافر هو الطعام المعد لسفره (فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر) جمع صنف. قال ابن فارس: هو فيما ذكر عن الخليل الطائفة من كل شيء وقال الجوهري: الصنف هو النوع والضرب بكسر الصاد وفتحها لغة، حكاه ابن السكيت وجماعة وجمع المكسور أصناف كحمل وأحمال والمفتوح صنوف كفلس وفلوس، قاله في «المصباح» : أي ذكر أنواع المال وأمر ببذل الفاضل عن الحاجة من كل للمحتاج إليه من باب المواساة، وهذا الحديث كحديث: «إنك يا ابن آدم إن تبذل الفضل من مالك خير لك وإن تمسكه شر لك» وقد تقدم قريباً (حتى) غاية لمقدر: أي أمر بالعود بما فضل عن الحاجة للمحتاج إلى أن (رأينا) من الرأي أو بمعنى العلم (أنه لا حقّ لأحد منا) أي معشر بني آدم، أو معشر الصحابة المخاطبين بذلك وحكم غيرهم من باقي الأمة حكمهم (في فضل) أي في فاضل عن حاجته إلحاقه (رواه مسلم) .
4 - (وعن سهل بن سعد) الأنصاري الساعدي (رضي الله عنه: أن امرأة) قال الحافظ في «الفتح» : لم أقف على اسمها (جاءت إلى النبي ببردة) قال في «النهاية» : البرد نوع من الثياب معروف الجمع أبراد وبرود، والبردة: الشملة المخططة، وقيل: هي كساء أسود مربع(4/555)
فيه صفر تلبسه الأعراب وجمعها برد اهـ. وقد روى البخاري في باب حسن الخلق والسخاء من كتاب الأدب من «صحيحه» تفسير البرد عن سهل ولفظه: «وقال سهل للقوم: أتدرون ما البرد؟ فقالوا: هي شملة، فقال سهل: شملة منسوجة فيها حاشيتها» اهـ. وهذا أولى ما قيل فيه لأن بيان الراوي المشاهد للقصة (منسوجة) صفة بردة (فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبيّ) جبراً لخاطرها بتلقي هديتها بالقبول، ففيه استحباب المبادرة لأخذ الهدية لجبر خاطر مهديها وأنها وقعت منه موقعاً، وقوله: (محتاجاً إليها) حال من الفاعل وكأنهم عرفوا ذلك بقرينة الحال أو بتصريح سابق منه بذلك، ومع ذلك فليس الباعث على أخذها الحاجة بل التشريع بما ذكرنا (فخرج إلينا وإنها إزاره) بكسر الهمزة وجمعه أزر: وهو ما يلبس في أسفل البدن لستر العورة والجملة حال من ضمير خرج (فقال: فلان) هو كما أفاد المحب الطبري في الأحكام له: عبد الرحمن بن عوف وعزاه للطبراني فقال الحافظ: لم أره في «المعجم الكبير» لا في «مسند سهل» ولا في «مسند ابن عوف» ، ونقل ابن النحوي عن المحبّ في «شرح العمدة» وكذا قال لنا شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيثمي إنه وقف عليه لكن لم يستحضر مكانه، ووقع شيخنا ابن النحوي في «شرح التنبيه» أنه سهل بن سعد وهو غلط كأنه تلبس عليه الراوي، نعم أخرج الطبراني الحديث المذكور من طريق قتيبة بن سعيد عن سهل بن سعد وقال في آخره: قال قتيبة هو سعد بن أبي وقاص اهـ. وقد أخرجه البخاري في اللباس والنسائي في الزينة عن قتيبة ولما يذكرا عنه ذلك، وجاء من طريق زمعة بن صالح أن السائل المذكور كان أعرابياً، قال الحافظ: فلو لم يكن زمعة
ضعيفاً لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن أو سعد، ويقال: تعددت القصة (اكسينها ما أحسنها) بنصب النون وما تعجبية (فقال: نعم) هذا وعد بأن يكسوه (فجلس النبي في المجلس) الذي وقع فيه السؤال (ثم رجع) إلى منزله (فطواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم) ووقع في نفسير المعاتب له من الصحابة أنه سهل الراوي، قال سهل: فقلت للرجل: لم سألته وقد رأيت حاجته إليه؟ قال: رأيت ما رأيتم، ولكني أردت أن أخبأها حتى أكفن فيها (ما أحسنت) ما نفاية (لبسها النبي محتاجاً إليها) جملة استئنافية تعليل لنفي الإحسان عنه (ثم سألته وعلمت) جملة حالية بتقدير قد: أي وقد علمت (أنه لا يرد) قال في «الفتح» في كتاب الجنائز: كذا وقع هنا بحذف(4/556)
المفعول، وثبت في رواية ابن ماجه بلفظ: لا يرد سائلاً ونحوه، وفي رواية يعقوب في البيوع وفي رواية ابن غسان في الأدب: لا يسأل شيئاً فيمنعه اهـ ويستفاد منه أن (سائلاً) الذي أورده المصنف هنا إنما هو لابن ماجه، ولعله من تغيير الكتاب أو أنه التبس على المصنف لورود معناه به عند البخاري في البيوع فتوهمه فرواه والله أعلم (فقال: إني وا ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني) في رواية أبي داود. فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي» (قال سهل: فكانت كفنه. رواه البخاري) في الجنائز من «صحيحه» بهذا اللفظ، ورواه ابن ماجه في اللباس من «سننه» . وفي الحديث التبرّك بآثار الصالحين، وجواز إعداد الشيء قبل الحاجة إليه، لكن لا يندب عند الشافعية إعداد الكفن لنفسه لئلا يحاسب على ادخاره كما يحاسب على اكتسابه، إلا أن يقطع بحله أو يكون من أثر ذي صلاح، وفيه حسن خلق النبي وسعة جوده وقبول الهدية.
5 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الأشعريين) نسبة للأشعر، وهو ثبت بن أدد بن يشجب بن يعرب بن قحطان (إذا أرملوا) أي في أزوادهم، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة كما في {ذا متربة} (في الغزو) أي الخروج لقتال العدو (أو) يحتمل أن تكون للشك من الراوي أقال ما تقدم أو قال إذ (قل طعامهم في المدينة) أي محل إقامتهم، ويحتمل أن تكون للتنويع، أي إنهم يفعلون ذلك في السفر والحضر، ولفظ البخاري: «أو قل طعام عيالهم» (جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية) على قدر الحاجة (فهم مني) قريبون خلقاً وهدياً (وأنا منهم) قال المصنف هذا معناه المبالغة في اتحاد طريقتهما واتفاقهما في طاعة الله تعالى. وقال الحافظ في «الفتح» : معناه هم متصلون بي وتسمى «من» هذه الاتصالية قال الشيخ زكريا، ومثله: «لا أنا من الدّد ولا الدّد مني» وقيل: المراد فعلهم فعلي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الشركة ومسلم في الفضائل، ورواه النسائي في السير. قال(4/557)
المصنف: في الحديث فضيلة الأشعريين وفضيلة الإيثار والمواساة وفضيلة خلط الأزواد في السفر وفضيلة جمعها في شيء عند قلتها ثم قسمها، وليس المراد من القسمة هنا المعروفة في كتب الفقه بشروطها ومنعها في الربويات واشتراط المساواة وغيرها، بل المراد إباحة بعضهم بعضاً ومواساتهم بالموجود (أرملوا: فرغ زادهم) هو ما اقتصر عليه في «شرح مسلم» (أو قارب الفراغ) وكأن الأول بيان موضوع اللفظ لغة. والثاني بيان المراد هنا لأن القسمة إنما تكون في الموجود لا في الذاهب رأساً، والله أعلم.
63 - باب التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به
أي طلب ذلك لما جاء فيه. وفي «النهاية» : التنافس من المنافسة وهي الرغبة في الشيء والانفراد به، وهو من الشيء النفيس الجيد في نوعه اهـ. والاستكثار طلب لكثرة وقوله مما يتبرك متعلق به، والتبرك بالشيء لأسباب كأن كان فيه أثر صالح أو ظهر فيه آية أو كان قريب عهد بتكوين من الله سبحانه.
(قال الله تعالى) : ( {وفي ذلك فليتنافس} ) فليرتقب ( {المتنافسون} ) المرتقبون: وقال ابن عطية: التنافس في الشيء المغالاة فيه وأن يتبعه كل واحد نفسه فكأن نفسهما تتباريان فيه، قيل: هو من قولك: شيء نفيس فكأن هذا يعظمه الآخر ويستبقان إليه.
1 - (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي أتى بشراب) وهو كما في «المصباح» ما يشرب من المائعات، وكان ذلك كما قال الحافظ في بيت ميمونة أم المؤمنين (فشرب منه) فيه استحباب شرب البعض إذا كان ثمة غيره (وعن يمينه غلام) هو كما سيأتي في الأصل(4/558)
عبد الله بن عباس، وقيل: هو الفضل أخوه، حكاه ابن بطال، قال الحافظ: والصواب الأول (وعن يساره الأشياخ) جمع شيخ من شاخ في السنّ إذا طعن فيها، وذلك من الخمسين سنة ففوق، ويطلق الشيخ لغة على من مهر في العلوم وإن لم يكن في السن كذلك فيقال الغلام، ويصلح كما قال الحافظ أن يعد من جملة الأشياخ خالد. قال: وقد روى ابن أبي حازم عن أبيه في حديث سهل بن سعد ذكر أبي بكر الصديق فيمن كان على يساره، ذكره ابن عبد البرّ وخطأه (فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) جاء في رواية الترمذي عن ابن عباس: «فقال لي الشربة لك، فإن شئت آثرت بها خالداً» الحديث، قال الحافظ: قال ابن الجوزي: وإنما استأذن الغلام دون الأعرابي المذكور في حديث أنس من شربه للبن وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر الصديق. لأن الأعرابي لم يكن له علم بالشريعة فاستألفه بترك استئذانه بخلاف الغلام (فقال الغلام: وا يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحداً) أكد بالقسم وتوسيط ندائه بوصف الرسالة إيماء إلى أن العلة في عدم الإيثار ليس كونه شراباً، فإن الاهتمام بأمر المطاعم شأن البهائم، إنما هو لحلول أثر بركته عليه لكونه سؤره وفضله، وذلك يفزع إليه أرباب الأفهام ويتنافس فيه أولو الأحلام، فلذا عبر بقوله بنصيبي منك: أي من أثر بركتك وفيضك أحداً، والتنكير فيه للتعميم ليعم القريب والبعيد والمشرف والشريف، وفيه مزيد نباهة ابن عباس وجودة فكره إذ نظر إلى الأشياء في مكانها ولذا قال بقوله: عمر عند استجلاء أفكاره فيما يدلهم عليه من الأمور: «غص يا غواص» (فتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده. متفق عليه) رواه البخاري بهذا اللفظ
في كتاب المظالم والغضب وفي كتاب الشرب وزاد بعد «احداً» قوله: يا رسولالله، وقال: بدل قوله: «فتله» فأعطاه إياه في يده، رواه مسلم في الأشربة، وأخرجه النسائي في الأشربة من «سننه» (تله بالتاء المثناة فوق) أي وتشديد اللام (أي وضعه) في «تحفة القاري» أي وضعه بقوّة. وفي «النهاية» : قيل: التل الصب فاستعير للالقاء يقال: تل يتل: إذا صب، وتل يتل: إذا سقط، والأول بالضم والثاني بالكسر في المضارع (وهذا الغلام) كما حكاه الحافظ عن ابن التين، وجاء كذلك في رواية الترمذي من حديث ابن عباس نفسه (هو ابن عباس) أي عبد الله بن عباس (رضي الله(4/559)
عنهما) فإن هذا علم عليه بالغلبة كابن عمر وابن مسعود على عبد الله.
2 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: بينا أيوب عليه السلام) قال العراقي في «شرح التقريب» : يقال: هو أيوب بن رزاح بن روم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم (يغتسل عرياناً) فيه جواز الاغتسال عرياناً في الخلوة مع إمكان التستر، وهو مذهب الجمهور (فخرّ) بالخاء المعجمة: أي سقط (عليه جراد من ذهب) هذا ظاهر في سقوطه عليه من علوّ وهو إكرام من الله تعالى له، وهو معجزة في حقه، وهل كان جراداً حقيقة ذا روح، إلا أن جسمه من ذهب، أو كان على شكل الجراد ولا روح فيه؟ الأظهر الثاني. قال الجوهري: وليس المراد ذكر الجراد وإنما هو اسم جنس كبقر وبقرة، فحق مذكره أن لا يكون من لفظه لئلا يلتبس الواحد المذكر بالجمع (فجعل) شرح (أيوب يحثي في ثوبه) استكثاراً من البركة لكونه قريب عهد بتكوين من الله سبحانه (فناداه ربه عزّ وجلّ) لا يخفى ما في التعبير من الرب المؤذن بالتربية والإيصال إلى الكمال في هذا المقام وهذا النداء الله أعلم أنه كان بواسطة الملك لأن المخصوص بالسماع من حضرة الحق سبحانه من الأنبياء والمرسلين نبينا وموسى، ثم رأيت العراقي أشار إلى ما ذكرته وزاد احتمال كونه إلهاماً قال: ويجوز كونه كفاحاً كما وقع لموسى وفيه نقد ولعل وجهه ما ذكرنا، وقوله: (ألم أكن أغنيتك عما ترى) محكي لقول مقدر أو للنداء لما فيه من معنى القول، والقول محتمل لأن يراد منه غنى القلب، أو غنى المال، وفيه على الثاني أن أيوب كان غنياً شاكراً، ولا ينافيه قوله تعالى: {إنا وجدناه صابراً} لأن المراد صبره على البلاء أو على الفقر معه. والذي يظهر أن الله تعالى جمع لأيوب مقامي الصبر على الفقر والشكر على الغنى باعتبار حالتيه، فكان في نفس البلاء فقيراً صابراً وقبله وبعده غنياً شاكراً، ولذا قال تعالى: {إنا وجدناه صابراً} ثم قال: {نعم العبد} ففيه الإيماء إلى أنه غنيّ شاكر كما قال في حق سليمان {نعم العبد إنه أوّاب} مع أنه كان غنياً شاكراً
(قال: بلى) واستدرك من مفهوم ذلك قوله: (ولكن لا(4/560)
غنى لي عن بركتك) أي أغنيتني عنه من سائر الجهاد من حيث إنه مال، وأنا لا آخذه كذلك شرهاً وحرصاً، ولكن لكونه بركة، وفيها وجوه: فقيل لأنه قريب عهد بتكوين من الله تعالى كما حسر نبينا عن جلده حين نزل عليه المطر وقال: إنه حديث عهد بربه: أي بتكوينه. وقيل: لأنه نعمة جديدة خارقة للعادة فينبغي تلقيها بالقبول، ففي ذلك منه شكر لها وتعظيم لشأنها وفي الإعراض عنها كفر بها، وقريب منه حديث: «إن الله يحب أن تأتى رخصه كما تؤتى عزائمه» وقيل: إن هذا آية ومعجزة وكل ما نشأ عنها فهو بركة، ومن ذلك قول الصحابة: كنا نعد الآيات بركة، وقيل: غير ذلك (رواه البخاري) في كتاب الأنبياء من «صحيحه» .
64 - باب فضل الغني الشاكر
أي ما جاء في ذلك، والشاكر: هو القائم بما أمر الله تعالى به في المال فعلاً وتركاً كما قال المصنف: (وهو من أخذ المال من وجهه) أي طريقه المأذون بأخذه منه شرعاً كالمعاوضة المستجمعة لشروط الصحة السالمة من غش وخديعة، وكالإرث والوصية والاكتسابات المأذون فيها من احتطاب ونحوه (وصرفه) الأولى وإنفاقه لقوله: (في وجوهه) أي طرقه (المأمور بها) شرعاً واجباً عينياً كأداء الزكوات والكفارات والنذور، أو كفائياً كالقيام بحاجة المحتاج من طعام وكسوة، أو مندوباً كالتطوعات.
(قال الله تعالى) : ( {فأما من أعطى} ) أي أنفق ماله لوجه الله ( {واتقى} ) محارمه ( {وصدق بالحسنى} ) المجازاة وأيقن أن الله سيخلفه عليه، أو بالكلمة الحسنى وهي كلمة التوحيد ( {فسنيسره} ) نهيئه في الدنيا ( {لليسرى} ) للخلة التي توصله إلى اليسرى والزلفى في الدار الآخرة يعني الأعمال الصالحة والآية بعدها(4/561)
في ضدّ ذلك تقدمت مع الكلام على ما يتعلق بها في باب النهي عن البخل.
(وقال تعالى) : ( {وسيجنبها} ) أي النار ( {الأتقى} ) أي الذي اتقى الشرك والمعصية فلا يدخلها أصلاً، وأما من اتقى الشرك فقط فيمكن أن يدخلها لكن لا يصلاها ولا يلزمها ( {الذي يؤتي ماله} ) يعطيه وينفقه في طاعة الله ( {يتزكى} ) أي يطلب تزكية نفسه وماله فصله الذي بدل أو حال فلا محل له على الأول ( {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} ) فيقصد إتيانه مجازاتها ( {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} ) أي لكن يؤتى طلباً لمرضاة الله سبحانه، والجمهور على نصب ابتغاء وأنه على الاستثناء المنقطع، وإلا بمعنى لكن كما تقرر فهو في الحقيقة مفعول له، قاله الهمذاني، وانظر ابن عطية في كون الاستثناء منقطعاً وجعل الكواشي الاسثناء المنقطع والمفعولية له وجهين متقابلين محمول على المعنى، والتقدير: لم يعط الشيء إلا ابتغاء وجهه سبحانه، والابتغاء: الطلب أي إلا لطلب التوجه إلى ربه الأعلى (ولسوف يرضى) من ربه حين يدخله في رحمته، وعن كثير من السلف أن هذه السورة في الصديق وهو الأتقى فيكون الحصر ادعائياً لا حقيقياً، كأن غير هذا الأتقى غير مجتنب بالكلية كذا في «تفسير» السيد معين الدين الصفوي، وفي «تفسير ابن عطية» لم يختلف أهل التأويل أن المراد بالأتقى إلى آخر السورة أبو بكر ثم هي تتناول كل من دخل في هذه الصفات. وقال ابن كثير في «تفسيره» : قد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآي نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حتى أن بعضهم حكى الإجماع عن المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الناس بعمومها، وأن لفظها لفظ العموم وهو قوله: {وسيجنبها الأتقى} الخ. ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقاً تقياً كريماً جواداً بذالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصر رسوله، وفي «تفسير الكواشي» : والمراد بالأتقى أبو بكر الصديق قالوا بإجماع المفسرين، وما ذكره ابن عطية وابن كثير من أن الآية تشمل من دخل في تلك الصفات تعقبه الحافظ السيوطي في
«الإتقان» فقال بعد أن مهد قاعدة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» :
«تنبيه» : قد علمت أن فرض المسألة في لفظ له عموم أما آية نزلت في معين ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعاً كقوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} الخ فإنها نزلت في الصديق إجماعاً وقد استدل بها الفخر الرازي مع قوله: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} على أنه(4/562)
أفضل الناس بعد رسول الله، ووهم من ظن أن الآية عامة في كل عمله إجراء له على القاعدة، وهذا غلط، فإن هذه الآية ليس فيها صيغة عموم، إذ أل إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرّفة في جمع، زاد قوم أو مفرد بشرط أن لا يكون هناك عهد، واللام في الأتقى ليست موصولة، لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعاً، والأتقى ليس جمعاً، بل مفرد، والعهد موجود خصوصاً مع ما يفيد صيغة أفعل من التمييز وقطع المشاركة، فبطل القول بالعموم وتعين القطع بالخصوص والقصر على من نزلت فيه رضي الله عنه» اهـ.
(وقال تعالى) : ( {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} ) أي إن أظهرتموها فنعم شيئاً إبداؤها ( {وإن تخفوها وتؤثرها الفقراء} ) أي تعطوها مع إخفاء ( {فهو} ) أي إخفاؤها ( {خير لكم} ) والآية عامة في كل صدقة، لكن عن ابن عباس: السرّ في التطوع أفضل من العلانية يقال: بسبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل بخمسة وعشرين ضعفاف ( {ويكفر عنكم} ) أي الله أو الإخفاء ففيه إسناد مجازي، ومن قرأ مجزوماً فهو عطف على محل جواب الشرط ( {من سيئاتكم} ) من للتبعيض أو لبيان الجنس أي شيئاً هو السيئات ( {وا بما تعملون خبير} ) ترغيب في الإخفاء.
(وقال تعالى) : ( {لن تنالوا البرّ} ) الجنة: أو التقوى، أو كمال الخير ( {حتى تنفقوا مما تحبون} ) أي بعضه، والمراد منه أداء الزكاة أو صدقة السنة، ويدل على الثاني أن كثيراً من الصحابة تصدقوا بأراضيهم وأعتقوا جواريهم حين أنزلت، والمعنى: لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا وأنتم أصحاء أشحاء ( {وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} ) فيجازي بحسبه (والآيات) الكائنة أو كائنة (في فضل الإنفاق في الطاعات) هي ما تقرب بها إلى المولى (كثيرة معلومة) وفيما ذكر كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
1 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا حسد) أي(4/563)
لاغبطة محمودة (إلا في اثنتين) من الخصال أو في ذي اثنتين منها فعلى الأول يقدر مضاف نحو خصلة قبل قوله رجل وهو في الأصول مرفوع خبر محذوف: أي هما خصلتان رجل ورجل، فحذف المضاف وأقيم رجل مقامه فارتفع (رجل آتاه) أي أعطاه (امالاً) أي بطريق لا تبعة فيه كما يومىء إليه إسناد الإعطاء إلى الله سبحانه، وإلا فالتصدق بالسحت لا غبطة فيه (فسلطه على هلكته) أي إتلاف عينه بإبقائه عند الله بإنفاقه لوجهه ومرضاته (في الحق) متعلق بالمصدر قبله (ورجل آتاه الله حكمة) أي علماً ويجوز أن يراد بها القرآن لورود كل منهما في رواية، ويجوز أن يراد بها السنة والأول أقرب (فهو يقضي بها) أي عند التحاكم إليه (ويعلمها) ففيه أن شكر المال إنفاقه في وجوه الطاعات ابتغاء مرضاة الله تعالى، وأن شكر العلم العمل به وتعليمه (متفق عليه) (وتقدم شرحه) أي تبيان المراد من قوله لا حسد (قريباً) نصبه على أنه صفة مصدر: أي تقدماً قريباً، أو على الظرفية: أي في مكان قريب من الكتاب وهو باب فضل الكرم والجود.
2 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: لا حسد) أي لا ينبغي أن يحسد أي يغبط (إلا في اثنتين) ثوابهما بحسن التصرف من فاعلهما (رجل آتاه الله القرآن) قدم هنا على المال من باب التدلي من الشريف إلى المشروف، وعكس في الحديث قبله من باب الترقي، أو لأن ذلك سبق للحضّ على الاشتغال بالقرآن فقدم في كل ما سبق له الحديث وذكر الآخر بالتبع، أو أن ذلك على وجه التفنن في التعبير، وعبر هنا بالقرآن الذي هو منبع العلوم ومعدنها وأصلها ومكمنها، قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام: 38) وقال تعالى: {والكتاب المبين} (الدخان: 2) أي لكل شيء محتاج إليه كما يؤذن به حذف(4/564)
المعمول، لأنه الأصل، وثم بالحكمة المراد بها العلم الشرعي على قوم لعموم حاجة الناس في معاشهم ومعادهم إليه (فهو يقوم به) أي في صلاته (آناء الليل وآناء النهار) منصوب على الظرفية وأعاد المضاف دفعاً لتوهم أن المراد آناء مجموعهما لا كل على الانفراد، ويحتمل أن يراد من القيام المداومة على تلاوته لا يخصوص كونه في صلاة (ورجل آتاه الله مالاً) التنكير فيه للتعظيم كما يدل عليه قوله: (فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) ويحتمل أن يكون للشيوع فيشمل الجليل منه والحقير، قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قد عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} (الطلاق: 7) (متفق عليه) تقدم ذكر من خرّجه من حديث ابن عمر في باب فضل الكرم المذكور (الآناء) بالفتح ومد الهمزة قبل النون (الساعات) جمع واحده أني بالكسر والقصر وأناء بالمد والفتح، وإني بوزن قنو، وأنو بوزن دلو، ذكرها الواحدي في «تفسيره» .
3 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن) بالفتح ويجوز كسر الهمزة بتقدير قول قبلها (فقراء المهاجرين) من إضافة الصفة لموصوفها: أي المهاجرين الفقراء (قالوا) : على وجه الغبطة والتأسف على عدم تمكنهم من ذلك (يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات) الباء فيه للتعدية وفيها معنى المصاحبة (العلا) أي الرفيعة، قال ابن عطية في «التفسير» : الدرجات العلا هي القرب من الله تعالى: (والنعيم المقيم) وهو نعيم الجنة الذي لا ينقضي أبداً (فقال: وما ذاك) استفهام عن الذي لأجله قيل فيهم إنهم فازوا بذلك دنيا وعقبى ولم يتركوا منه للفقراء شيئاً كما يومىء إليه السياق، وأتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد فيه مع قربه لفخامة شأنه كقوله تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين} (الشعراء: 2) بناء على أن المشار إليه هو الحروف المقطّعة أوّل السور (فقالوا: يصلون كما نصلي) ما كافة مهيئة للدخول على(4/565)
الجملة الفعلية، وتفيد تشبيه مضمون الجملة بالجملة أو مصدرية أي مثل صلاتنا، أو موصولة: أي مثل الذي نصليه (ويصومون كما نصوم) أي هم في العبادات البدنية مماثلون لنا مساوون فيها وزائدون علينا بالعبادات المالية المدلول عليها بقولهم (ويتصدقون ولا نتصدق) كذا في النسخ بإظهار الفوقية وتخفيف المهملة الأولى فيهما (ويعتقون) بفتح التحتية وكسر الفوقية فيهما (ولا نعتق) أي فهم يرجحون علينا بذلك، إذ لا مال لنا نصل به إلى مثل ذلك (فقال رسول الله: أفلا أعلمكم) أي أترككم تعاباً من ذلك فلا أعلمكم (شيئاً) أي عظيماً بقرينة وصفه بقوله: (تدركون به من سبقكم) أي إلى المنازل العلى أو من سبقكم من مؤمني الأمم (وتسبقون) بكسر الموحدة (به من بعدكم) أي في الرتبة: أي دونكم أو في الزمن (ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم) الاستثناء فيه منقطع: أي ولكن من صنع مثل ما صنعتم فلا تسبقونه ولا يفضل عليه أحد كما لا يفضل عليكم (قالوا: بلى يا رسول الله) أي تعليم ذلك مرادنا
لنلحق به من سبق ونجوز به على من بعد فضل السبق، وفي قولهم: يا رسول الله تحريض على الإعلام: أي إن الله رحم بك العباد وتعليم ذلك منها فجد به (قال: تسبحون وتكبرون) بتضعيف الفعلين اعتباراً بتكرير الفعل (وتحمدون) بفتح الفوقية والميم (دبر) أي خلف (كل صلاة) أي من المكتوبات كما جاء كذلك في رواية، ودبر ظرف تنازعه الأفعال قبله وكذا تنازعت (ثلاثاً وثلاثين) وهو منصوب على المفعولية المطلقة للعامل فيه منها (فرجع) العطف على محذوف دلّ عليه السياق: أي فذهب فقراء المهاجرين بما علمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعملوا فعلمه الأغنياء فعملوا به وشاركوها فيه كغيره من العبادات البدنية فرجع (فقراء المهاجرين إلى رسول الله) إذا فاتهم ما استأثروا به عن الأغنياء ليلحقوهم في فضل عملهم المالي بمشاركتهم فيه (فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال) هذا تفسير منهم للدثور المذكور عنهم أول الحديث (بما فعلنا) أي مما ذكرت وما فيه من عظيم الفضل (ففعلوا مثله) فساورنا فيه وازدادوا عليه بالعمل المالي فرجع الأمر بالآخرة إلى ما اشتكوا منه أولاً (فقال رسول الله: ذلك فضل ا) أي(4/566)
ثوابه (يؤتيه) أي يعطيه (من يشاء) من فقير وغنيّ، والمشار إليه يحتمل أن يكون السبق إلى المنازل العلى المذكور أوّل الخبر: أي أنالهم الله ذلك وقصره عليهم، فلا سبيل لمشاركتهم فيه من غيرهم، ويحتمل أن يكون الثواب المرتب على هذا المذكور أنه فضل الله إن شاء خص به الفقراء فلا يلزم من إتيان الأغنياء به مساواة الفقراء فيه: أي فلا عليكم من مشاركتهم في ذلك صورة، والأول قال به من مال إلى تفضيل الغنيّ الشاكر، والثاني قال به ما قال بتفضيل الفقير الصابر (متفق عليه) رواه البخاري في الدعوات ومسلم (وهذا لفظ رواية مسلم) في كتاب الصلاة وليس في رواية البخاري وصف الدرجات بالعلا، وفيها أن كلاً من التكبير والتسبيح والتحميد عشراً عشراً وليس عنده من قوله فرجع فقراء المهاجرين
إلى الآخر، وسبق في باب بيان طرق الخيرات أن حديث أبي ذرّ عند مسلم بنحو حديث الباب، وأن كلاً من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة وفيه زيادة على ما في حديث الباب ونقص عنه (الدثور) بضم المهملة والمثلثة (الأموال الكثيرة) كما في «النهاية» ، وبه يعلم ما في اقتصار الكازروني شارح «الأربعين» على قوله الدثر: المال ولم يقيده بالكثير، وفي باب بيان طرق الخيرات الدثور واحدها دثر، فأفاد ثمة بيان مفرده وهنا بيان معناه. وفي «النهاية» : الدثور جمع دثر: أي كفلس يقع على الواحد والاثنين والجمع اهـ.(4/567)
65 - باب ذكر الموت
الأكثر أنه أمر وجودىّ. وهو عرض مضادّ الحياة، وقيل عدمي أي عدم الحياة عما من شأنه، وفسر هذا قوله تعالى: {خلق الموت} (الملك: 2) بقوله أي قدرّه (وقصر) بكسر ففتح (الأمل) بفتحتين. قال السيوطي في «التوشيح» : هو رجاء ما تحبه النفس، قال ابن الجوزى: وهو مذموم للناس لا للعلماء فلولا أملهم لما ألفوا ولا صنفوا (قال الله تعالى) : ( {كل نفس ذائقة الموت} ) ألم مقدماته وحال سكراته، وهذا وعد ووعيد للمصدّق والمكذب ( {وإنما توفون أجوركم} ) تعطون جزاء أعمالكم خيراً كان أو شراً تاماً وافياً ( {يوم القيامة} ) إذ هو يوم الجزاء للعمال على ما لهم في الدنيا من الأعمال ( {فمن زحزح} ) أي نحى وأبعد ( {عن النار وأدخل الجنة} ) هو كالتصريح بالملزوم، إذ يلزم الإبعاد عن النار إدخال الجنة إذ لا واسطة بينهما عند أكثر أهل الحق ( {فقد فاز} ) من الفوز، وهو الظفر بالمراد والمرام ( {وما الحياة الدنيا} ) أى زخارفها ( {إلا متاع الغرور} ) أى كمتاع يدلس به على المستام فيغر ويشتريه، فمن اغترّ بها وآثرها فهو مغرور (وقال تعالى) في الآية التي فيها ما جاء في الحديث: إنها من مفاتيح الغيب ( {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا} ) أي أيّ شىء خير أو شرّ ( {تكسب غدا} ) والجملة عطف على جملة: إن الله أثبت اختصاصه(5/5)
به تعالى على سبيل الكفاية على الوجه الأبلغ ( {وما تدري نفس بأيّ أرض تموت} ) وإذا كان هذا شأنها فيما هو أخص الأشياء بها فكيف هي بمعرفة ما عداهما.
(وقال تعالى) : ( {فإذا جاء أجلهم} ) أي وقت انقضاء عمرهم ( {لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} ) أي لا يستمهلون لحظة.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} ) الصلوات الخمس وسائر العبادات، والمراد نهيهم عن اللهو بها ( {ومن يفعل ذلك} ) أي الشغل عن ذكر الله بالمال والولد ( {فأولئك هم الخاسرون} ) حيث آثروا العاجل على الآجل والفاني على الباقي ( {وأنفقوا مما رزقناكم} ) المراد كما قال جمهور المتأولين: الزكاة، وقيل: هو عام في كل مفروض ومندوب ( {من قبل أن يأتي أحدكم الموت} ) أي علامته وأوائل أمره ( {فيقول ربّ لولا أخرتني} ) أي أمهلتني وهو طلب الكرّة والإمهال ( {إلى أجل قريب} ) أي زمن يسير آخر، قال ابن عطية: سماه قريبا لأنه آت أو لأنه إنما تمناه ليقضي فيه العمل الصالح فقط، وليس يتسع الأمل حينئذ لطلب العيش ونضرته (فأصدّق) أي أتصدق وهو منصوب في جواب الطلب ( {وأكن من الصالحين} ) بالتدارك، وكل مفرّط يندم عند الاحتضار ويسأل الإمهال للتدارك، وقرأ الجمهور أكن بالجزم. قال الزمخشري: عطف على محل فأصدق، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن، هذا مذهب أبي علي الفارسي. وأما ما حكاه سيبويه عن الخليل، فهو غير هذا، وهو أنه جزم أكن على توهم الشرط الذي يدل على التمني، ولا موضع هنا لأنه الشرط ليس بظاهر، وإنما يعطف على الموضع حيث يظهر الشرط كقوله: «من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم» فيمن جزم ويذر عطف على موضع «فلا هادي له» لأنه لو وقع هنالك فعل كان مجزوماً. والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم مفقود وأثره موجود دون مؤثره اهـ ( {ولن يؤخر الله إذا نفساً إذا جاء أجلها} ) حض على المبادرة والمسابقة للأجل بالعمل الصالح ( {والله خبير بما تعلمون} ) قرىء بالفوقية وعد وبالتحتية(5/6)
وعيد: أي فهو مجازيكم على صالح عملكم ومجازيكم على سيئها. (وقال تعالى) ( {حتى} ) متعلق بيصفون المذكور قبله في قوله {وسبحان الله عما يصفون} وما بينهما اعتراض لتأكيد الاعتناء بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: أي لا يزالون على سوء الذكر
إلى أن جاء أحدهم. وجوّز ابن عطية كونها غاية لكلام محذوف، واقتصر عليه أبو حيان في «النهر» قال: والتقدير فلا أكون كالكفار الذين يهمزهم الشياطين ويحضرونهم ( {حتى إذا جاء أحدهم الموت} ) ورجح ابن عطية كونها ابتدائية (
{قال ربّ ارجعون} ) ردوني إلى الدنيا، والواو لتعظيم المخاطب. وقيل: لتكرر قوله ارجعني، قال ابن عطية: أو استغاث بربه أوّلا ثم خاطب ملائكة العذاب بقوله أرجعون ( {لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} ) أي في الذي تركته من الإيمان لعلي آتي به وأعمل فيه صالحاً، أو المال، أو الدنيا ( {كلا} ) ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها. وفي النهر قيل: هي من قوله الله تعالى، وقيل من قول من عاين الموت، يقولها لنفسه تحسرا وتندما ( {إنها} ) أي رب أرجعون ألخ ( {كلمة} ) والكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض ( {هو قائلها} ) لا محالة لتسلط الحسرة عليه، وهذا محتمل كما قال ابن عطية للأخبار المؤكدة بوقوع هذا الشيء، أو بأن المعنى: إن هذه كلمة لا تغني من أكثر قولها ولا نفع له بها ولا غوث فيها، وإشارة إلى أنهم لو ردوا لعادوا كما كانوا، ففيه ذمهم، قال الصفوي: وعلى الثالث فهو علة الردع: أي ارتدعوا، فوعدكم بالعمل الصالح لو رجعتم مجرد وعد لا وفاء بحقه ( {ومن ورائهم} ) أي أمامهم ( {برزخ} ) حاجز بينهم وبين الرجعة ( {إلى يوم يبعثون} ) هو إقناط كلي للعلم بأن لا رجعة إلى الدنيا يوم البعث فلا رجعة أصلاً ( {فإذا نفخ في الصور} ) وهو القرن، وقيل جمع صورة وأيده القاضي البيضاوي بقراءة صور بضم ففتح وكسر، والمراد النفخة الأخيرة ( {فلا أنساب بينهم} ) أي لا تنفع ( {يومئذ ولا يتساءلون} ) كما يفعلون اليوم بل يفرح القريب إن وجب له حق ولو على ولد ووالده فيأخذ منهما، ولا يتساءلون: أي لا يسأل حميم قريب حميمه وقريبه، ولا ينافيه قوله تعالى: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} لأن يوم القيامة مواطن ومواقف أو ما(5/7)
نحن فيه عند النفخة.
والآية الثانية بعد المحاسبة، أو دخول أهل الجنة. هذا وعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» ( {فمن ثقلت موازينه} ) بأن تكون له عقائد وأعمال صالحة تثقل ميزانه (فأولئك هم المفلحون) الفائزون بالنجاة والدرجات ( {ومن خفت موازينه} ) بأن لا عقائد ولا أعمال صالحة تثقل ميزانه ( {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} ) حيث أبطلو استعدادها، وجمع الموازين من حيث أن الموزون جمع وهي أعمال. ومعنى الوزن: إقامة الحجة على العباد وإظهار للعدل بالمحسوس على عادتهم وعرفهم. وفي وزن الكافر وجهان: قيل يوضع كفره في كفة فلا يوجد شيء يعادله في الكفة الأخرى. وقيل بأن يوضع في الثانية ماله من عمل صالح من صلة رحم ووجه برّ فيخف عمله (
{في جهنم خالدون} ) بدل من خسروا أنفسهم ولا محل له، لأن المبدل منه وهو الصلة لا محل له، أو خبر بعد خبر لأولئك، أو خبر مبتدإ محذوف: أي متعلق الظرف بدل من الصلة وهو من بدل المطابق كما في «النهر» ، قال: وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين نعت أولئك وخبر أولئك في جهنم، والظاهر أنه خبر أولئك لا نعته وخالدون خبر ثان وفي جهنم متعلق به ( {تلفح} ) تحذف ( {وجوههم النار وهم فيها كالحون} ) أي عابسون وهو تقلص الشفتين من الإنسان، وخص الوجه باللفح لأنه أشرف ما في الإنسان، والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء، فإذا لفح فغيره ملفوح، ولما ذكر اللفح ذكر الكلوح المختص ببعض الأعضاء وهو الوجه فتتقلص الشفة العليا حتى تبلغ الرأس وتسترخى الشفة السفلى حتى تبلغ السرّة كما جاء ذلك في حديث مرفوع عند الترمذي وقال: إنه حسن صحيح ( {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} ) أي يقال لهم ذلك ( {فكنتم بها تكذبون. قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا} ) الشقاوة: سوء العاقبة ( {وكنا قوماً ضالين} ) عن الهدى ( {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا} ) لما تكره ( {فإنا ظالمون. قال اخسئوا فيها} ) أي ذلوا وانزجروا كما تنزجر الكلاب ( {ولا تكلمون} ) في رفع العذاب أو لا تكلمون رأساً. وعن بعض السلف أنه لم يكن لهم بعد ذلك إلا زفير وشهيق وعواء كالكلاب ( {إنه} ) أي الشأن ( {كان فريق من عبادي يقولون. ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين} ) قال ابن عطية: والفريق المشار إليه هم المستضعفون من المؤمنين، وهي وإن نزلت في شأن الكفار من قريش مع صهيب وبلال وعمار ونظرائهم إلا أن نظراءهم في ذلك مثلهم (فاتخذتموهم سخريا) بكسر(5/8)
السين وضمها لغتان بمعنى الهزؤ، وزيدت ياء النسبة للمبالغة. وعند الكوفيين المضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية، وكسرها من الاستهزاء والكسر فيه أكثر وهو أليق بالآية، ألا ترى أن قوله ( {حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون} ) ونسبة الإنساء إلى الفريق من حيث
إنه كان بسببهم. والمعنى: اشتغالهم بالهزؤ بهؤلاء أنساهم ما ينفعهم ( {إني جزيتهم اليوم بما صبروا} ) أي بصبرهم على أذاكم ( {أنهم هم الفائزون} ) قال الزمخشري: من فتح همزة إن فهي ومعمولاها المفعول الثاني أني جزيتهم فوزهم، ومن كسر فهو استئناف، وقال في «النهر» : الظاهر أنه تعليل من حيث المعنى لا من الإعراب لاضطرار المفتوحة إلى عامل، والفائزون: المنتهون إلى غايتهم التي كانت أملهم، ومعنى الفوز: النجاة من هلكة إلى نعمة (
{قال} ) أي الله، أو الملك المأمور بسؤالهم ( {كم لبثتم في الأرض} ) أي أحياء ( {عدد سنين} ) تمييز لكم، وسؤاله لهم توقيف وهو تعالى يعلم عدد ما لبثوا، أو لفرط هول العذاب نسوا ذلك ( {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} ) قال ابن عطية. والغرض توقيفهم على أن أعمارهم القصيرة أداهم الكفر فيها إلى عذاب طويل، وقيل معناه: السؤال عن مدة لبثهم في التراب أمواتاً، وعليه جمهور المتأولين. قال ابن عطية: وهو أصوب من حيث إنهم أنكروا البعث وكانوا يرون أن لا يقوموا من التراب، قيل لهم لما قاموا منه كم لبثتم ( {فسئل العادين} ) أي القادرين على العدد فنحن في شيء لا نقدر معه على أعمال الكفر. والعادين الملائكة الحفظة ( {قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون} ) أي ما لبثتم فيها إلا زماناً قليلا على فرض أنكم تعلمون مدة لبثكم ( {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} ) أي عابثين بلا فائدة، حال أو مفعول له ملهياً بكم، وما زيدت للتأكيد ( {وأنكم إلينا لا ترجعون} ) عطف على أنما.
(وقال تعالى) ( {ألم يأن} ) أي ألم يحن، يقال أنى الشيء يأنى إذا حان ( {للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} ) أي ألم يأت وقت خشوعها عند ذكر الله، أو لأجل ذكر الله والموعظة وسماع القرآن. عن ابن عباس: عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وحكى السبكي عن ابن المبارك أنه في صباه حرّك العود ليضربه فإذا به قد نطق بهذه الآية، فتاب ابن المبارك وكسر العود وجاءه التوفيق والخشوع والإخبات والتطامن، وهي هيئة تظهر في الجوارح متى كانت في القلب ولذا خص(5/9)
القلب بالذكر ( {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل} ) كاليهود والنصارى عطف على تخشع على قراءته بالتحتية، ونهى عن مماثلة أهل الكتاب على القراءة بالفوقية وفيه التفات ( {فطال عليهم الأمد} ) الزمان بينهم وبين أنبيائهم ( {فقست قلوبهم} ) معناه صلبت وقلّ خيرها وانفعالها للطاعات وسكنت إلى المعاصي ففعلوا منها ما هو مأثور عنهم ( {وكثير منهم فاسقون} ) خارجون عن الدين (والآيات) القرآنية (في الباب) أي التحريص على تذكر الموت وترك الاغترار بالحياة (كثيرة معلومة) والسعيد يكفيه واعظ واحد، بخلاف من لا نور له فلا ينجع فيه ألف عظة وشاهد.
1574 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي) كأنه فعل به ذلك ليقبل على سماع ما يلقي إليه ويفيق من عمرة ما هو فيه من الشغل عن ذلك، ونظير هذا التنبيه الفعلي التنيه القولي في قوله «ألا أنبئكم بخير أعمالكم» الحديث والياء يحتمل أن تكون بالتشديد على أن المضاف مثنى أدغمت ياؤه في ياء المتكلم، وإنما أخذ بهما زيادة في التنبيه، ويحتمل أن تكون بالتخفيف على إفراد ما قبله وهو الأقرب (فقال كن في الدنيا كأنك غريب) أي فلا تستكثر فيها من أمتعتها وزهراتها فإن شأن ذي الأسفار التخفيف عن نفسه بإلقاء ما يثقله، قال الشاعر:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله
والزاد حتى نعله ألقاها
والإنسان في الدنيا غريب على الحقيقة، لأن الوطن الحقيقي هو الجنة كما حمل عليه كثير «حب الوطن من الإيمان» على الجنة وهي التي أنزل الله بها الأبوين ابتداء وإليها المرجع إن شاء الله تعالى بفضل الله ومنه، والإنسان في الدنيا في دار غربة كالمسافر من وطنه حتى يرجع إليه، والله الموفق لما يوصل إلى الرجوع إليه (أو عابر سبيل) أي داخل البلد على سبيل المرور بها لكونها على طريقك، ومن كان كذلك لا يأخذ منها إلا ما تدعو(5/10)
إليه ضرورة سفره من نحو طعام أو شراب (وكان ابن عمر يقول) كالتذييل لما قبله من حيث المعنى، حضا للنّاس على ورود هذا المنهل ورد عناية ببركة حلول نظر المصطفى (إذا أمسيت) أي دخلت في المساء (فلا تنتظر الصباح) وهو لغة من نصف الليل إلى الزوال، ومنه إلى نصف الليل المساء كما نقله السيوطى عن الجمهرة لابن دريد وقال: إنها فائدة عزيزة النقل، أما الصباح شرعاً فمن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والمعنى: إذا أدركك المساء فبادر بصالح العمل والتوبة من الزلل ولا تسوّف بأن تدرك زمن الصباح فتؤخر ذلك له فلعل الأجل ينقضي قبله كما يقع كثيراً، وعقدت هذا المعنى في قولى:
إذا أمسيت فابتدرالفلاحا
ولا تهمله تنتظر الصباحا
وتب مما جنيت فكم أناس
قضوا نحبا وقد باتوا صحاحاً
(وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك) أي زمنها لعمل البر ما تدخره (لمرضك) لعجزك عن ذلك (ومن حياتك) لتمكنك فيها من عمل الطاعات (لموتك) ليؤنسك في القبر (رواه البخاري) والحديث تقدم مع «شرحه» في باب فضل الزهد.
2575 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حق) أي ليس شأن (امرىء مسلم) من جهة الحزم والاحتياط، والتقييد بالمسلم خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو للتهييج لتقع المبادرة إلى امتثاله لمايشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك قاله في «فتح الباري» (له شيء) في رواية: له مال (يوصي فيه يبيت) كأنه على تقدير أن أي بيانه، وهو كقوله تعالى: {ومن آياته يريكم البرق} أي ليس شأنه من جهة الحزم والاحتياط بياته كذلك لعله يفجؤه الموت وهو على غير وصية، ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد له، والمصدر المؤول من أن بدل من امرىء، ويجوز أن يكون يبيت صفة لمسلم وبه جزم الطيبى وقال: هي صفة ثانية، وقوله «يوصى فيه» صفة شيء ومفعول يبيت محذوف: أي آمنا أو ذاكراً وقال ابن التين: تقديره موعكا، والأول أولى لأن طلب(5/11)
الوصية لا يختص بالمريض، وخبر «ما» هو المستثنى كذا نقل الطيبى والكرماني، وفيه أن الرواية بإثبات الواو في المستثنى وهي لا تدخل الخبر. ويؤخذ عن إعراب ابن مالك لرواية مسلم الآلي أنّ يبيت خبر ما: أي من غير تقدير قبلها. قال ابن عبد البر: والوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو ذكر تهييجاً للمبادرة لامتثال مضمونه لإشعاره بنفي إسلام تاركها، ووصية الكافر جائزة في الجملة (ليلتين) كذا لأكثر الرواة، ولأبي عوانة والبيهقي من طريق حماد بن زيد «يبيت ليلة أو ليلتين» وسيأتي ما عند مسلم، وكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي لا بد له منها ففسح له بهذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات دال على أنه للتقريب لا للتحديد، والمعنى: لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلا (إلا ووصيته مكتوبة عنده) أي مشهود بها لأن الغالب في كتابتها الشهود، ولأن أكثر الناس لا يحسن الكتابة فلا دليل فيه على اعتماد الخط (متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الوصايا وفي «الجامع الصغير» ، ورواه مالك
والأربعة من حديث ابن عمر (هذا لفظ البخاري) في أول كتاب الوصايا من «صحيحه» (وفي رواية لمسلم يبيت ثلاث ليال) كأن التقييد بالثلاث غاية التأخير، ولذا قال ابن عمر: ما مرّت علىّ ليلة إلى آخر ما يأتي، وفي رواية لمسلم «ما حق امرىء مسلم تمر عليه ثلاث ليال إلا عنده وصيته» قال ابن مالك في شرح «المشارق» : ما نافية وتمر خبره. والجمهور على استحباب الوصية لأنه جعلها حقا للمسلم لا عليه، ولو وجبت لكانت عليه لا له، وهو خلاف ما يدل عليه اللفظ، وهذا في الوصية المتبرّع بها، أما الوصية بأداء الدين ورد الأمانات فواجبة (قال ابن عمر) وكان دأبه الاقتداء والاقتفاء (ما مرت عليّ ليلة منذ) أي من زمن (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك إلا وعندي وصيتي) أخذا بالأحوط ومسارعة لما حرّض الشارع إلى فعله.
3576 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: خطّ النبيّ خطوطا) يحتمل أن يكون على الكيفية(5/12)
الآتية في حديث ابن مسعود بما فيها من الخلاف (فقال: هذه أمله) التأنيث باعتبار مفهوم الواحدة وهذا الذي هو خارج عن الخط المربع أمله وإلا فالخط مذكر كما قال فيه (وهذا) أي المعترض القاطع للخط المستطيل (أجله) ولعل في تأنيثه المشار إليه إلى الأمل إيماء إلى ذمه ونقصه، وأنه الذي ينبغي قصره ليبادر إلى صالح العمل والتوبة من الزلل، فإن التأنيث ناقص بالنسبة إلى التذكير (فبينما هو كذلك) أي تتعارضه حال بعد حال والأمل مستطيل (إذ جاء الخط الأقرب) أي من منتهى الخط الخارج الذي هو الأمل فقطعه (رواه البخاري) في كتاب الرقاق.
4577 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خطّ النبيّ خطا مربعاً وخط خطاً في الوسط) بفتح السين (خارجاً منه) أي من الخط المربع، قال الحافظ وقيل خارجاً منه (وخط خططا) بضم المعجمة والطاء الأولى للأكثر، ويجوز فتح الطاء كذا في «فتح الباري» (صغاراً) بكسر المهملة (إلى هذا) أي الخط (الذي في الوسط من جانبه) متعلق بقوله وخط (الذي في الوسط) وهذا منه من باب تصوير المعاني وإدخالها في أذهان السامعين بالتمثيل بالمحسوسات (فقال: هذا الإنسان) مبتدأ وخبره: أي هذا الخط هو الإنسان على سبيل التمثيل والمشار إليه هو الخط الأوسط (وهذا الذي هو خارج) عن الخط المربع (أمله وهذا) أي الخط الحافّ (أجله) بدليل قوله «حافاً به» بالحاء المهملة وتشديد الفاء منصوب على الحال: أي محيطاً بحفافيه أي بجوانبه (وهذه الخطط) بضمتين أو بضم ففتح (الصغار الأعراض) جمع عرض بفتحتين: ما ينتفع به في الدنيا في الخير والشرّ (فإن أخطأه هذا) بأن نجا منه (نهشه) بالنون والهاء والشين المعجمة: أي(5/13)
أصابه (هذا) وعبر بالنهش استعارة من لذغ ذات السم مبالغة في الإصابة والإهلاك. واستشكلت هذه الإشارات الأربع مع أن الخطوط ثلاثة. وأجاب الكرماني بأن للخط الداخل اعتبارين، فالمقدار الداخل منه هو الإنسان والخارج أمله، والمراد بالأعراض الآفات العارضة، فإن سلم من هذا لم يسلم من ذاك، وإن سلم من الجميع بأن لم تصبه آفة من مرض أو فقد حال أو غير ذلك بغته الأجل. والحاصل أن من لم يمت بالسيف مات بالأجل، ففي الحديث التحريض على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل (رواه البخاري) .
قال الحافظ: والأول أي مما ذكرنا عنه وهو المعتمد، وسياق الحديث يدل عليه والإشارة بقوله هذا الإنسان إلى النقطة الداخلة، وبقوله هذا أجله محيط به إلى المربع، وبقوله الذي هو خارج أمله إلى الخط المستطيل المنفرد، وبقوله هذه الخطط وهي مذكورة على سبيل المثال، لا أن المراد انحصارها في عدد معين، ويدل عليه قوله في حديث أنس: «إذا جاء الخط الأقرب» فإنه أشار به إلى المحيط به، ولا شك أن الذي يحيط به أقرب إليه من الخارج عنه اهـ. وفي «المفاتح» صورة هذه الخطوط، الخط الوسط(5/14)
هو الإنسان، والمربع هو أجله أحاط به بحيث لا يمكنه الفرار والخروج عنه، والصغار هي أعراضه: أي الآفات والعاهات من نحو مرض وجوع من سائر الحوادث فهذه الأعراض متصلة به، والقدر الخارج من المربع أمله، يعنى هو يظن أنه يصل إلى أمله قبل الأجل وظنه خطأ، بل الأجل أقرب إليه من الأمل فعسى أن يموت قبل أن يصل إليه أمله اهـ.
5578 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بادروا بالأعمال) أي اسبقوا بما تمكنتم منه من الأعمال الصالحة (سبعاً) من النوازل أو الشئون وتذكير العدد لحذف المعدود (هل تنتظرون) أي في ترك المبادرة بالعمل (إلا فقرا منسيا) استثناء من أعم المفاعيل: أي شيئاً من الأشياء المترقبة أو المترجاة، ونسبة النسيان إلى الفقر مجازية لأنه سبب النسيان والذي به تذهل الحافظة عمل أورد فيها، قال إمامنا الشافعي: لو احتجت إلى بصلة ما فهمت مسئلة، وكذا إسناد الإطغاء إلى الغنى في قوله (أو غنى مطغياً) أي يجاوز المرء عن حده ومقامه فيقع به في هوة المخالفات ومهامه المشتبهات (أو مرضا مفسداً) للأجزاء البدنية التي بسلامتها يحصل التمكن من التوجه إلى العبادات بخلافه فيذهل الشخص بما يلقاه من الألم على التوجه لها، ولذا قال ابن عمر: خذ من صحتك لمرضك (أو هرما) عجز خلقي يحصل عند الكبر لا دواء له (مفنداً) أي ينسب به صاحبه لنقص العقل بسبب الهرم: أي يتسبب عنه نقص العقل تارة واختلاله أخرى (أو موتا مجهزا) بإسكان الجيم وكسر الهاء: أي سريعا. قال في «النهاية» : يقال أجهز على الجريح إذا أسرع قتله وحرره (أو الدجال فشر غائب) أي فهو شر غائب (ينتظر) لما يمتحن به العباد، فلا يكادون ينجون من فتنته إلا من عصم الله، فكيف التمكن من صالح العمل (أو الساعة فالساعة أدهى) أي أشد داهية وهي نازلة لا يهتدى لدوائها (وأمرّ) مما ينزل به من مصائب الدنيا. وحاصله أن الصحيح البدن ذا الكفاف المقصر في العبادات المفرّط في تعمير الوقت بصالح العمل مغبون في أمره ندمان في صفقته كما قال «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» (رواه الترمذي) في «الزهد» من جامعه (وقال: حديث حسن) وقد تقدم مع شرحه في باب المبادرة إلى الخيرات.(5/15)
6579 - (وعنه قال: قال رسول الله: أكثر واذكر هاذم اللذات) قال السيوطى في «حاشيته» على جامع الترمذي بالذال المعجمة: أي قاطعها، وفي التحفة لابن حجر الهيثمي: هو بالدال المهملة: أي مزيلها أي من أصلها، وبالذال المعجمة: أي قاطعها. قال السهيلي: والرواية بالمعجمة اهـ. والعجب أنه غفل عن نقل كلام السهيلي في «شرح المشكاة» مع أنه بذلك المحل أقعد وفيه بعد ذكر إعجام الذال وإهمالها وعليه فهو استعارة تبعية أو بالكناية، شبه وجود اللذات ثم زوالها بذكر الموت ببنيان مرتفع هدمته صدمات هائلة حتى لم تبق منه شيئاً (يعني الموت) هذا تفسير لهاذم اللذات، وفي المشكاة بحذف يعني، وظاهر كلام شارحها أن الموت من جملة الحديث وليس مدرجاً فيه، فإن جوّز فيه الأعاريب الثلاثة بتقدير هو أو أعني أو أعطف بيان أو بدل من هاذم (رواه الترمذي) والنسائي وابن ماجه (وقال حديث حسن) قال في فتح الإله: وسند صحيح على شرطهما اهـ. وفي «الجامع الصغير» حديث «أكثروا ذكر هاذم اللذات» رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم في «الحلية» من حديث ابن عمر، والحاكم في «المستدرك» ، والبيهقي في «الشعب» من حديث أبي هريرة، ورواه الطبراني في «الأوسط» وأبو نعيم في «الحلية» والبيهقي في «الشعب» من حديث أنس وحديث «أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه» اهـ. رواه البيهقي في «الشعب» وابن حبان من حديث أبي هريرة والبزار من حديث أنس ومن هذا وأمثاله أخذ أئمتنا قولهم: يسنّ لكل أحد من «صحيح» وغيره ذكر الموت بقلبه ولسانه وإلا فبقلبه، والإكثار منه حتى يكون نصب عينيه، فإن ذلك أزجر عن المعصية وأدعى إلى الطاعة كما يدل عليه زيادة «فإنه لم يذكره أحد» الخ.
7580 - (وعن أُبيّ) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد الياء (ابن كعب رضي الله عنه. قال: كان رسول الله إذا ذهب ثلث) بضم أوليه، وتسكين ثانيه تخفيف (الليل) قال في(5/16)
فتح الإله: وفي رواية: ربع الليل. ويجمع بأنه كان يختلف قيامه، فتارة يقدم وتارة يؤخر (قام) أي من نومه (فقال) منبها لأمته من سنة الغفلة محرضا لها على ما يوصلها لمرضاة الله سبحانه من كمال رحمته (با أيها الناس اذكروا الله) أي باللسان والجنان ليَحمِل ما يحصل من ثمرة الذكر على الإكثار من عمل البرّ وترك غيره (جاءت الراجفة) وهي النفخة الأولى التي تضطرب وتتحرك عندها الجبال، قال تعالى: {يوم ترجف الأرض والجبال} (المزمل: 14) (تتبعها الرادفة) أي في الواقعة التي تردف الأولى وهي النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة، والجملة حال (جاء الموت بما فيه) من الأهوال عند الاحتضار كما جاء في حديث «أنه كان يدخل يده في علبة الماء أو الركوة ويمسح وجهه ويقول: إن للموت سكرات» وفي القبر من فتنته وعذابه وأهواله كما صحّ الأمر بالاستعاذة منها وفي قوله «بما فيه» تفخيم للأمر على السامعين (قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك) فيه جواز ذكر الإنسان صالح عمله إذا أمن نحو العجب لغرض كالاستفتاء هنا المدلول عليه بقوله (فكم أجعل لك من صلاتي؟) أي من دعائي بدليل ما جاء في رواية أخرى «قال رجل: يا رسول الله أريد أجعل شطر دعائي لك» الحديث قال في «فتح الإله» : وبفرض صحة هذا فلا مانع أن يكون وقع له ما وقع لأبي ذر رضي الله عنهما: أي ما قدر ما أصرفه في الدعاء لك والصلاة عليك؟ وأشتغل فيه عن الدعاء لنفسي؟ وقيل المراد بالصلاة حقيقتها، والتقدير: فكم أجعل لك من ثوابها أو مثله. قال في «فتح الإله» : وفيه نظر، بل السياق يرده لا سيما تفريع «فكم» على ما قبله إذ لا يلتئم مع إرادة الصلاة الحقيقية إلا بمزيد تعسف، وأيضاً فالثواب أمر يتفضل الله به على من يشاء من عباده ويحرمه من يشاء، إذ لا
يجب عليه سبحانه لأحد شيء كائناً من كان. وعندنا يمتنع النيابة في التطوّع البدني المحض كالصلاة فلا تجوز ولا إهداء ثواب ذلك (فقال ما شئت) لم يحد له تحديداً بل فرضه لمشيئته حثا له على أنه لو صرف زمن عبادته لنفسه جميعه للصلاة عليه لكان أحرى وأولى، وخوفاً من أنه لوحد له بحد لأغلق عليه باب المزيد (قلت الربع) بالنصب أي أجعل لك الربع وكذا ما بعد (قال: ما شئت، فإن زدت) بالفاء وفي رواية بالواو في الكل (فهو) أي المزيد (خير لك) لزيادة الثواب بزيادته(5/17)
بشهادته «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره» (قلت فالنصف) الفاء فيه عاطفة على ما قبله: أي أجعل لك النصف (قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك. قلت: فالثلثين، قال: ما شئت. فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل) يحتمل الاستفهام لتناسب ما قبله ويحتمل الإخبار: أي فإذا أجعل (لك صلاتي كلها) إذ ما بقي بعد الثلثين ما يستفهم عن زيادته عليها مما له وقع حتى ينتقل بعده إلى الجملة، فأخبر بذلك لأن الأمر انتهى إليه ووقف عنده، والمعنى: أصرف جميع أوقات دعائي لنفسي للصلاة عليه أو جميع صلواتي وثوابها إليه على ما عرفت (قال: إذن تكفي همك) المتعلق بالدارين بدليل ما جاء في رواية سندها حسن «قال رجل: يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: إذن يكفيك الله أمر دنياك وآخرتك» وبفرض صحة هذه الرواية فلا مانع من تعدد القصة وأنها وقعت لأبي ولغيره ووجه كفاية المهمات بصرف ذلك الزمن إلى الصلاة عليه أنها مشتملة على امتثال أمر الله تعالى وعلى ذكره وتعظيمه وتعظيم رسوله، وقد جاء في الحديث القدسي «من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» ففي الحقيقة لم يفت بذلك الصرف شيء على المصلي، بل حصل له بتعرضه بذلك الثناء الأعظم أفضل ما كان يدعو به لنفسه، وحصل له مع ذلك صلاة الله وملائكته عليه عشراً أو سبعين أو ألفاً كما جاء بذلك روايات، مع ما انضم لذلك من الثواب الذي لا يوازيه ثواب،
فأيّ فوائد أعظم من هذه الفوائد، ومتى يظفر المتعبد بمثلها فضلا عن أنفس منها، وأنى يوازي دعاؤه لنفسه واحدة من تلك الفضائل التي ليس لها مماثل ببركته (ويغفر لك ذنبك) لأنه يبارك على نفسك بواسطته الكريمة في وصول كل خير إليك إذ قمت بأفضل أنواع الشكر المتضمن لزيادة الإفضال والإنعام المستلزمين لرضا الحق عنك ومن رضى عنه لا يعذبه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه عبد بن حميد في «مسنده» وأحمد بن منيع والروياني والحاكم وصححه.
66 - باب استحباب زيارة القبور للرجال
القبور: جمع قبر وهو معروف، وهو مما أكرم به بنو آدم، وأول من سنه الغراب حين(5/18)
قتل قابيل أخاه هابيل. وقد قيل إن بني إسرائيل أول من أقبر وليس بشيء كذا في لغات المناج، وخرج بالرجال النساء والخناثى فيكره لهم على الصحيح مطلقاً خشية الفتنة وارتفاع أصواتهن بالبكاء نعم يسنّ لهن زيارته. قال بعضهم: وكذا مآثر الأنبياء والعلماء والأولياء، قال الأذرعى: إن صح فأقاربها أولى بالصلة من الصالحين اهـ. وظاهره أنه لا يرتضيه لكن ارتضاه غير واحد بل جزموا به. والحق أن يفصل بين أن تذهب بمشهد كذهابها للمسجد فيشترط فيه ما يشترط ثمة من كونها عجوزاً ليست متزينة بطيب ولا حليّ ولا ثوب زينة كما في الجماعة بل أولى، وأن تذهب في نحو هودج مما يستر شخصها عن الأجانب فيسنّ لها ولو شابة، إذ لا خشية فتنة هنا، ويفرق بين نحو العلماء والأقارب بأن القصد إظهار تعظيم نحو العلماء بإحياء مشاهدهم، وأيضا فزوّارهم يعود عليهم منهم مدد أخروى لا ينكره إلا المجرمون، بخلاف الأقارب. فاندفع قول الأذرعي إن صح الخ، كذا في «التحفة» لابن حجر (وما يقوله الزائر) أي من التحتية والدعاء لهم وما مع ذلك.
1581 - (عن بريدة) بضم الموحدة وفتح الراء وسكون التحتية بعدها مهملة ثم هاء تأنيث، وهو ابن الحصيب بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية بعدها فموحدة، ابن الحارث الأسلمي. أسلم (رضي الله عنه) قبل بدر ولم يشهدها، وقيل أسلم بعدها، وشهد خيبر، روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وسبعة وسبعون حديثاً، منها في الصحيحين أربعة عشر، اتفقا على واحد منها، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأحد عشر، روى عنه ابناه والشعبي وأبو المليح الهذلي، سكن المدينة ثم البصرة ثم مرو، وتوفى بها سنة ثنتين أو ثلاث وستين، وهو آخر الصحابة موتاً بخراسان وبقى ولده بها (قال: قال رسول الله: كنت نهيتكم عن زيارة القبور) لقرب عهدهم بالجاهلية وكلماتها القبيحة التي كانوا يألفونها على القبور (فزوروها) نسخ لذلك النهي لما تمهدت القواعد واتضحت الأحكام، فعلموا ما ينفع وما يضرّ، فحينئذ طلبها منهم وعللها كما في رواية أخرى لمسلم بأنها تذكر الآخرة: أي لأنها ترقّ القلوب بذكر الموت وأحواله وما بعده، وأكد في تحفظهم عن عادة الجاهلية كما صح: ألا يقولوا هجرا: أي باطلا لأجل ما في ذلك من التذكير بالآخرة خلاف ما هذا. والقاعدة الأصولية أن الأمر بعد الحظر للإباحة على أنه اعتضد بتكرر زيارته للأموات وبالإجماع على طلبها، بل حكى ابن عبد البرّ عن بعضهم وجوبها، واتفقوا على ندبها للرجال في قبور المسلمين وإن بلوا، لأنه يبقى منه عجب الذنب ولبقاء الروح(5/19)
بمحل القبر، وأخذوا من تعليله بأنها تذكر الآخرة قصر استحبابها على من قصد بها التفكر في الموت ومآل الدنيا إلى ماذا؟ مع الترحم والاستغفار والتلاوة والدعاء لهم، وهي لمن كان يعرفهم في الدنيا آكد. وقد قسم المصنف الزيارة إلى أقسام، لأنها إما لمجرد تذكر الموت والآخرة فيكفي رؤية القبور من غير معرفة أصحابها، وإما لنحو الدعاء فيسن لكل مسلم، وإما للتبرك فيسن لأهل الخير لأن لهم في برازخهم
تصرفات وبركات لا يحصى مددها. وإما لأداء حق نحو صديق ووالد لخبر أبي نعيم «من زار قبر والديه أو أحدهما يوم الجمعة كان كحجة» ولفظ رواية البيهقي «غفر له وكتب له براءة» وإما رحمة وتأنساً لخبر أنس «ما يكون الميت في قبره إذا رأى من كان يحبه في الدنيا» ولا يسن سفر الرجل لأجل الزيارة إلا لقبر نبيّ أو عالم أو صالح، وشذّ الروياني فقال: يحرم السفر لها في غير ما استثنى (رواه مسلم) أول حديث فيه أشياء كان نهى عنها ثم نسخ ذلك النهي وأباحها، في «الجامع الصغير» «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة» رواه ابن ماجة وابن مسعود، وحديث «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها ترقّ القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجراً» رواه الحاكم في «المستدرك» عن أنس اهـ.
2582 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما) «ما» فيه وقتية، فلذا وصلت بها كل في الخط ونصبت على الظرفية (كان ليلتها) أي باعتبار دور القسم (من رسول الله) متعلق بالليلة لأنها بمعنى النصيب أو بمحذوف أي التي تخصها منه (يخرج) جواب كلما لأنه وإن كان ظرفا فيه معنى الشرط لعمومه وهو العامل فيه وهما خبر كان، وذلك حكاية معنى كلامها لا لفظه، فكأن الراوي قال عن عائشة كان عادته أن يخرج (من آخر الليل إلى بقيع) بالموحدة فالقاف فالتحتية فالمهملة بوزن سميع (الغرقد) بالغين المعجمة والراء والقاف والدّال المهملة وزن جعفر. قال في «النهاية» : هو ضرب من شجر العضاة وشجر الشوك واحدته الغرقدة، ومنه قيل لمقبرة أهل المدينة بقيع الغرقد لأنه كان(5/20)
فيها غرقد وقطع (رواه مسلم) وآخره «فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل البقيع أهل الغرقد» .
3583 - (وعن بريدة رضي الله عنه قال: كان النبي يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر) جمع مقبرة، ورواه في «المشكاة» «القبور» (أن يقول قائلهم) أن ومنصوبها في تأويل مصدر مفعول يعلمهم وإذا ظرف له، ولا يصح كونه ظرفا ليقول مقدراً قبله يدل عليه منصوب أن المذكورة بعد، نظير ما قيل فى فيه من قوله تعالى: {وكانوا فيه من الزاهدين} (يوسف: 20) أي علمهم قولهم، وفيه يخرجوا إلى القبور ويصلوها (السلام عليكم) أخذ منه أفضلية تعريف السلام على تنكيره والرد على من قال الأولى أن يقال للأموات عليكم السلام لأنهم ليسوا أهلاً للخطاب، والحديث «إن عليك السلام تحية الموتى» وردّ بأن الخطاب لا فرق في النظر إليه بين تقدمه وتأخره على أن الصواب أن الميت أهل للخطاب مطلقاً، لأن روحه وإن كانت في أعلى عليين لها مزيد تعلق بالقبر فيعرف من يأتي، ومن لا كما دل عليه الخبر الصحيح «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المؤمن يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام» والحديث إخبار عن عادتهم في الجاهلية لا تعليم لهم، أو المراد بالموتى كفار الجاهلية: أي تحية موتى القلوب فلا تفعلوه (أهل الديار) بالنصب على الاختصاص وهو الأصح، أو النداء وأيد بوروده في رواية أخرى «يا أهل الديار» فكانت تلك قرينة على إرادة النداء هنا وتقدير أداته وترجيحه على الاختصاص وإن كان أفصح وبالجر بدل من كم، والمراد بالديار القبور، وسميت بذلك لأنها للموتى من حيث اجتماعهم كالديار للأحياء (من المؤمنين والمسلمين) بيان لأهل الديار ولللاحتراز عمن قد يكون في المقبرة من خارج عن(5/21)
الملة من الجاهلية (وإنا إن شاء الله) أتى به للتبرك امتثالا للآية أو تعليق بالنظر للحوق بهم في هذا المكان بعينه أو للموت على الإسلام أو أنّ إن فيه بمعنى إذ كما قيل به في قوله تعالى: {وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 175) (بكم للاحقون نسأل الله) استئناف على طريقة أسلوب الحكيم، فإنهم لما سلموا عليهم
ودعوا لهم خبروا أنهم لاحقون بهم، قال لسان حالهم: جئتمونا فلم لا تدعوا لنا بدعاء جامع وتشركوا أنفسكم فيه معنا كما هو السنة؟ فقالوا نسأل الله (لنا ولكم العافية) وهي الأمن من مكره (رواه مسلم) في الجنائز، رواه أبو داود في رواية أبي الحسن بن العبد عنه لا في رواية أبي القاسم، ورواه النسائي وابن ماجه.
4584 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور بالمدينة، فأقبل عليهم بوجهه) ضمير المذكرين العقلاء باعتبار من فيها من الأموات بتغليبهم على من سواهم. ويؤخذ منه سنّ استقبال وجه الميت بوجه الزائر حال السلام عليه، وظاهر الحديث استمرار ذلك حال الدعاء أيضاً وعليه العمل كما قالوه، لكن السنة عندنا أنه حال الدعاء يستقبل القبلة كما علم ذلك من أحاديث أخرى في مطلق الدعاء، وقدمت على هذا الحديث لاحتمال أنه إنما أقبل بوجهه حال السلام، قال أصحابنا: ويسنّ التأدب مع الميت حال زيارته كما كان يفعل معه حال حياته أي ولو تقديراً بأن أدرك زمنه (فقال: السلام على أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم) وقدم نفسه اهتماما وفيما مرّ إعلاما بأن من أدب الداعي للغير أن يشرك فيه نفسه وأن يقدمها لحديث «ابدأ بنفسك» (أنتم سلفنا) قيل هو مجاز من سلف المال فكأنه أسلفه وجعله ثمنا للأجر المقابل لصبره عليه، وقيل حقيقة لأن سلف الإنسان من مات قبله ممن يعزّ عليه وبهذا سمى الصدر الأول من الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم بالسلف الصالح، ومن خص اسم السلف بالتابعين فقد أبعد، والذي دل عليه كلامهم في مواضع ما ذكرنا، وضابطه القرون الثلاثة التي شهد بخيريتها (ونحن(5/22)
بالأثر) بفتحتين أو بكسر ففتح: أي ميتون عن قريب، إذ كل آت قريب (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن) وسكت المصنف عن وصف الترمذي له بالغرابة أيضا كما يفعله كثيراً، لأنه يرى أن ذلك لا يضرّ في حسن الحديث وحجيته لأنها غرابة نسبية.
67 - باب كراهية تمني الموت بسبب ضر نزل به..
بتخفيف التحتية مصدر كره (تمنى الموت) مفعول كراهية فهو مصدر مضاف لمفعوله والفاعل محذوف: أي كراهية الشارع تمنى الموت. ويحتمل أن يكون مصدراً مبنياً للمجهول كحديث «أمر بقتل الأسود ذي الطفيتين» أي بأن يقتل فيكون مضافاً لمرفوعه النائب عن الفاعل (بسبب ضرّ نزل به) الضرّ بضم الضاد المعجمة وهو كما في المصباح الفاقة والفقر اسم وبفتحها مصدر ضرّه يضرّه من باب قتل: إذا فعل به مكروها اهـ. وحينئذ فيقاس كراهية تمني الموت بسبب الأمراض والجراحات على ما صرح به في الترجمة من كراهيته بسبب الفقر والفاقة بجامع عدم الصبر في كل أحكام المولى سبحانه، والجملة الفعلية في محل الصفة، وفي التعبير بذلك إيماء إلى استحباب لجأ من نزلت به إلى مولاه في كشفها عنه وإنجائه منها، لأن ذلك مطلوب في النوازل (ولا بأس به) كلمة تدل على الإباحة، بل قال جمع باستحباب تمنيه، ونقلوه عن الشافعي وعمر بن عبد العزيز وغيرهما (لخوف الفتنة في الدين) ومن قال بالإباحة استند إلى عدم ورود الأمر بتمنيه حالتئذ وقد رد من جاءه مسلماً في قصة الحديبية إلى الكفار لاشتراطهم ذلك مع أنهم إنما فروا خوف الفتنة في الدين، فلو استحب تمنيه لدلهم.
1585 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يتمنى) بالرفع كما هو في كتب الحديث فهو خبر بمعنى النهي كـ «لا يمسه إلا المطهرون» أو بالجزم على بابه، وأثبت(5/23)
حرف العلة فيه على لغة شهيرة فيه، والأوّل أبلغ لإفادته أن من شأن المؤمن انتفاء ذلك عنه وعدم وقوعه منه بالكلية لما يأتي (أحدكم الموت) أي لضرّ نزل به كما يأتي في أحاديث الباب، وإنما نهى عن تمنيه، لأنه (إما) أن يكون (محسنا) أي مطيعاً لله تعالى قائماً بوظائف الواجبات والمندوبات أو الواجبات فقط (فلعله) إذا طال عمره وهو على هذا الكمال (يزداد) أي خيراً كثيراً، فلا ينبغي له وهو على مدرج التزوّد للآخرة والاستكثار من حيازة ثواب الأعمال الصالحة أن يتمنى ما يمنعه عن البرّ والسلوك لطريق الله تعالى وزيادة رضاه وقد ورده «خياركم من طال عمره وحسن عمله» أي أنه يزداد الترقي في زيادة الأعمال المزيدة في القرب من الله تعالى فكيف يسأل قطع ذلك (وإما) أن يكون (مسيئاً فلعله يستعتب) أي يرجع إلى الله سبحانه بالتوبة وردّ المظالم وتدارك الفائت وطلب عتبى الله تعالى: أي رضاه عنه، فالعتبى والإعتاب: الإرضاء، ولعل فيهما لمجرد الرجاء وكثر مجيئها له إذا صحبه تعليل نحو {واتقوا الله لعلكم تفلحون} (البقرة: 189) (متفق عليه، وهذا لفظ البخاري) في آخر حديث أوله «لن يدخل أحداً عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا وقاربوا ولا يتمنى» الحديث أخرجه في كتاب المرضى.
(وفي رواية مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللُّه قال: لا يتمنى أحدكم) أي الواحد منكم، وكونه من ألفاظ العموم إنما هو إذا تقدمه نفى أو ما في معناه (الموت) والفعل يحتمل الرفع والجزم كما تقدم، ويؤيد الثاني قوله (ولا يدع به) فإنه مجزوم والأصل تناسب المتعاطفات في الخبر والإنشاء، وإن كان المختار جواز عطف الإنشاء على الخبر وعكسه وحينئذ فيكون في الحديث الجمع بين لغتين حذف حرف العلة للجازم وإثباته (من قبل أن يأتيه) وقوله (إنه) يصح فتحها تعليلا وكسرها استئنافا على أن الثاني لا ينافي الأول، والضمير يرجع إلى فاعل يتمنى (إذا مات انقطع عمله) في رواية «أمله» وهما متقاربان إذ المراد بالأمل ما يطمع فيه من ثواب العمل الذي يستكثر منه لو بقي والأمل كذلك ممدوح والمذموم من الأمل الذي يحمل على بطر أو فتور عن صالح العمل (وإنه) أي الشأن (لا(5/24)
يزيد المؤمن عمره) أي طوله (إلا خيراً) كثيراً لأن صدق إيمانه يحمله على استكثار صالح العمل سيما في آخر عمره.
2586 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يتمنين) هذا يؤيد لكون يتمنى في الروايتين قبله مجزوماً جاء على لغة من أثبت حرف العلة مع الجازم (أحدكم الموت لضرّ أصابه) أي في دنياه لما تقدم عن المصباح، ويقاس به تمنيه لضر أصابه في بدنه، وإنما كره تمنيه حينئذ لأنه يشعر بعدم الرضا بالقضاء بخلافه عند عدمه (فإن كان لا بد فاعلاً) أي لا غنى له عن فعل التمني لغلبة نفسه وهواه عليه حتى منعاه من اجتناب المنهيّ عنه (فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة) أي مدة كونها (خيرا لي) من الموت لاستكثاري فيها من صالح العمل من غير فتنة ولا محنة (وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) من الحياة لخوف فتنة أو تثبيط عن العمل، فيسن للمتمني قول ذلك لأنه تيقظ به من سنة الغفلة الحاملة على التمني، ولأن الله هو العالم بحقائق الأمور وعواقبها، وغاير بين الأسلوبين بما المصدرية الظرفية وإذا الشرطية لأن المراد بالحياة زمنها الذي يبقى وبالموت وجوده القاطع لذلك الزمن (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطب ومسلم في الدعوات.
3587 - (وعن قيس) بفتح القاف وسكون التحتية (ابن أبي حازم) بالمهملة والزاي واسمه عبد بن عوف بن الحارث، وقبل عوف الأحمسي بالمهملتين البجلي الكوفي التابعي الجليل المخضرم، أدرك الجاهلية وجاء ليبايع النبي فتوفي النبي وهو بالطريق وأبوه صحابي. روى عن جمع من الصحابة منهم العشرة وليس في التابعين من روى عن العشرة غيره. وقال أبو داود السجستاني: روى عما عدا ابن عوف منهم توفي سنة أربع وثمانين،(5/25)
وقيل سبع وقيل ثمان اهـ من «التهذيب» للمصنف (قال: دخلنا على خباب) بفتح المعجمة وتشديد الموحدة الأولى بينهما ألف (ابن الأرتّ) بتشديد الفوقية تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الصبر (نعوده) جملة مستأنفة لبيان سبب دخوله عليه وإتيانه بالنون لعله لكونه مع غيره (وقد اكتوى) أي بالنار (سبع كيات) جملة حالية من خباب: أي اكتوى سبع كيات في سبع مواضع من بدنه، وهو نافع مجرب لبعض الأمراض والنهي عنه محمول على من ينسب الشفاء إليه كالجاهلية بخلاف من يراه سبباً، وأن الله الشافي أو على أنه إرشاد للتوكل الأفضل كما حمل عليه حديث «لا يسترقون ولا يكتوون» (فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا) أي ماتوا وسلفوا إلى حضرة الحق سبحانه (مضوا) أي ذهبوا من الدنيا (ولم تنقصهم الدنيا) شيئاً مما لهم من المراتب المعدة لهم في الآخرة لأنهم لم يتمتعوا بشيء من مستلذات الدنيا فيكون ذلك منقصا لهم مما أعد لهم في الآخرة، بل انتقلوا وأجورهم موفورة كاملة، وإسناد النقص إلى الدنيا مجاز عقلي من الإسناد إلى السبب: أي لم ينقصه الله شيئاً من درجاته بسبب الدنيا (وإنا) يعني نفسه وأرباب اليسار من الصحابة الذين نالوا من الغنائم وفاض فيهم العطاء (أصبنا مالا) جاء عند الترمذي عنه «لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أملك درهما، وإن في جانب بيتي الآن أربعين ألف درهم» الحديث (لا نجد له موضعا) لزيادته على الحاجة (إلا التراب) أي يدفن فيه ليحفظ من أيدي نحو
السراق ففيه جواز دفن المال: أي إذا أعطى حق الله الواجب فيه، أو المراد البناء به ليحصل ريع ذلك بالأجر ونحوها، وعليه اقتصر الشيخ زكريا في «تحفة القاري» (ولولا أن النبيّ نهانا أن ندعو بالموت) ظاهره العموم حتى ولو كان لخوف الفتنة في الدين وكأنه سمع النهي مطلقاً كما في أوّل أحاديث الباب، ويدل له ما يأتي عند الترمذي وإن كان يحتمل أنه من تضرره بألم الكي (لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً) أي جداراً كما في النهاية (له فقال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه) أي من المال طلباً لمرضاة الله سبحانه (إلا في شيء) بدل من المجرور قبل بإعادة الجار، وهذا باعتبار المعنى أي ما(5/26)
ينقص ثوابه في كل شيء ينفقه إلا في شيء، وإلا فالمستثنى من كلام تام موجب يجب نصبه ولا يجوز فيه الإبدال (يجعله في هذا التراب عبر في هذا بالجعل لأن الإنفاق إنما يستعمل فيما كان في القرب واستعماله في غيره مجاز، وهذا من كمال خباب ومزيد عرفانه بمولاه فاشتد اتهامه لنفسه ونظره لها بعين النقص، وخشي بمراقبته لمولاه أن يكون ما هو فيه من تلك الدنيا استدراجا، ومن حاسب نفسه قبل أن يحاسب أمن وقت الخوف (متفق عليه. وهذا لفظ رواية البخاري) ولفظ رواية مسلم «دخلنا على خباب وقد اكتوى سبع كيات في بطنه فقال: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به» وقد روى أحمد والترمذي الحديث عن حارثة بن مصرف قال «دخلت على خباب وقد اكتوى سبعا فقال: لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يتمنينّ أحدكم الموت لتمنيته، ولقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أملك درهما، وإن في جانب بيتي الآن أربعين ألف درهم، ثم أني بكفنه. فلما رآه بكى وقال: لكن حمزة لم يوجد له كفن له إلا بردة ملحاء. إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإن جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر» وليس عند الترمذي «ثم
أتى بكفنه الخ» وقد تقدم له نحو هذا الحديث ليس فيه الكيّ وتمنى الموت عن البخاري في باب فضل الزهد في الدنيا.
68 - باب الورع
هو عند العلماء ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وفي شرح الرسالة القشيرية للشيخ زكريا هو ترك الشبهات وهو الورع المندوب ويطلق على ترك المحرمات وهو الورع الواجب اهـ (وترك الشبهات) بضم أوليه وبضم ففتح خفيف جمع شبهة بضم فسكون كظلمات بالوجهين جمع ظلمة كما تقدم وهو ما لم يتضح وجهاً حله وحرمته.
(قال الله تعالى: وتحسبونه هينا) أي سهلاً لا تبعة فيه (وهو عند الله عظيم) أي إثما(5/27)
وجرماً، والآية وإن نزلت في قصة الإفك لكن المصنف استشهد بذلك فيما عقد له الترجمة، لأن سائر المآثم وإن كان بعضها صغيرة هي بالنظر إلى جراءة مرتكبها على الحدود الإلهية عند الله الله عظيم وزرها، وفي «الصحيح» مرفوعا «لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش» .
(وقال الله تعالى) : ( {إن ربك لبالمرصاد} ) هو مكان يترقب فيه الرصد وهذا تمثيل لإرصاده لعباد بالخير فإنهم لا يفوتونه، وعن ابن عباس: يرصد خلقه فيما يعملون.
1588 - (وعن النعمان) بضم النون وسكون العين المهملة (ابن بشير) بفتح فكسر فتحتية ساكنة تقدمت ترجمته (رضي الله عنهما) في باب المحافظة على السنة (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الحلال بين) أي ما أحلّ ظهر حليته بأن ورد نص على حله أو مهد أصل يمكن استخراج الجزئيات منه كقوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (الفجر: 14) فإن اللام للنفع، فعلم منه أن الأصل ما فيه الحلّ إلا أن يثبت ما يعارضه (وإن الحرام بين) أي ما حرم واضح حرمته بأن ورد نص على تحريمه كالفواحش والمحارم وما فيه حدّ أو عقوبة أو مهد أصل مستخرج منه ذلك، كقوله «كل مسكر حرام» (وبينهما) أي البين من الأمرين (مشتبهات) لوقوعها بين أصلين ومشاركتها لأفراد كل منهما، فلكونها ذات جهة إلى كل منهما لم يجز أن تعدم البين عن أحدهما (لا يعلمهنّ كثير من الناس) لتعارض الأمارتين، والجملة صفة مشتبهات، ولم يقل كل الناس لأن العلماء المحققين لا يشتبه عليهم ذلك، فإذا تردد ذلك بين الحلّ والحرمة ولم يكن نص أو إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بدليل شرعي، وإذا لم يبق له شيء فالورع تركه. وقد اختلف العلماء في المشتبهات المشار إليها في هذا الحديث فقيل حرام لقوله: فمن اتقى الشبهات الخ، قالوا: ومن لم يستبرىء لعرضه ودينه فقد وقع في الحرام. وقيل هي حلال بدليل قوله: كالراعي يرعى حول الحمى، فدل على أنه لابس الحرام المرموز عنه بالحمى، وأن الترك ورع وتوقفت طائفة (فمن اتقى الشبهات) أي من احترز وحفظ نفسه عنها (فقد(5/28)
استبرأ) أي طلب البراءة أو حصلها (لدينه) من ذم الشرع (وعرضه) من وقوع الناس فيه لاتهامه بمواقعة المحظورات إن واقع الشبهات. وقيل المراد بالعرض البدن: أي طهر دينه وبدنه، وقيل المراد به موضع المدح والذم من الإنسان سواء في نفسه أو سلفه، ولما كان موضعها النفس حمل عليها من إطلاق المحل على الحال واستبرأ من برىء من الدين والعيب، فأطلق
العلم بالحصول وأراد الحصول أو طلب براءته، فالسين فيه للتأكيد على الأوّل لا للطلب إذ الطلب لا يستلزم به الحصول وعلى الثاني للطلب (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) لأن من سهل على نفسه ارتكاب الشبهة أو صله الحال متدّرجا إلى ارتكاب المحرمات المقطوع بحرمتها أو ارتكب المحرّمات لأن ما ارتكبه ربما كان حراماً في نفس الأمر فيقع فيه (كالراعي يرعى حول الحمى) هو ما حمى من الأرض لأجل الدواب، ويمنع دخول الغير وهذا غير جائز إلا لله ورسوله لحديث «لا حمى إلا الله ورسوله» (يوشك) بضم التحتية وكسر المعجمة: أي يسرع (أن يرتع فيه) أي في ذلك الحمى بناء على تساهله في المحافظة وجراءته على الرعي. ثم نبه بكلمة «ألا» على أمور خطرة في الشرع في ثلاثة مواضع إرشاداً إلى أن كل أمر دخله حرف التنبيه له شأن ينبغي أن يتنبه له المخاطب ويستأنف الكلام لأجله فقال (ألا) وهي مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي فيفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها، وإلا فأداة التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم (وإن لكل ملك حمى) يمنع الناس عنه ويعاقب عليه والواو عاطفة على «أنبه» مقدر المشير إليه أداة التنبيه. وقال الكازروني: إنه معطوف على لفظ الإنباه، قال: على أنه يفهم من لفظ ألا أنبه ومن قوله إن لكل ملك حمى أحقق، فبهذا التأويل صح العطف إذ عطف الجملة على المفرد لا يستقيم إلا باعتبار أن يتضمن المفرد معنى الفعل كما في
{فالق الإصباح وجاعل الليل} (الأنعام: 96) والأولى أن يقال الواو استئنافية دالة على انقطاع ما بعدها عما قبلها (ألا وإن حمى الله محارمه) وهي المعاصي فمن دخلها بالتلبس بشيء منها استحق العقوبة، شبه المحارم من حيث إنها ممنوع التبسط منها بحمى السلطان. ولما كان التورّع والتهتك مما يتبع سلامة القلب وفساده نبه على ذلك بقوله (ألا إن في الجسد مضغة) أي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ (إذا صلحت) بفتح اللام أفصح من(5/29)
ضمها: أي بالإيمان والعلم والعرفان (صلح الجسد كله) بالأعمال والأخلاق والأحوال، وما أحسن قول من قال:
وإذا حلت العناية قلباً
نشطت في العبادة الأعضاء
(وإذا فسدت) بفتح السين المهملة وضمها، والرواية بالاوّل: أي تلك المضغة بالجحود، والشك والكفران (فسد الجسد كله) بالفجور والعصيان (ألا وهي) أي المضغة الموصوفة بما ذكر (القلب) فهو الملك والأعضاء كالرعية، وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة قال أبو داود السجستاني: الإسلام يدور على أربعة أحاديث ذكر منها هذا الحديث وأجمع العلماء على عظم موقعه وكثرة فوائده (متفق عليه. روياه) أي في مواضع من صحيحيهما (من طرق) جمع طريق وهي رجال السند (بألفاظ متقاربة) بالقاف والراء: أي بعضها يقرب من بعض من حيث المعنى، وفي نسخة بالفاء والواو: أي من جهة المبنى، فرواه البخاري في الإيمان عن أبي نعيم عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن النعمان باللفظ الذي ساقه المصنف، ورواه في البيوع عن عليّ بن عبد الّله بن محمد كلاهما عن سفيان بن عيينة، وعن محمد بن كثير عن سفيان الثوري كلاهما عن أبي فروة الهمداني، وعن محمد ابن المثنى عن ابن أبي عديّ عن عبد الله بن عون كلاهما عن الشعبي عن النعمان بلفظ «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» ورواه مسلم في «البيوع» عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه، وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع، وعن إسحاق ابن إبراهيم عن جرير عن مطرف وأبي فروة، وعن عبد الله بن شعيب بن الليث عن أبيه عن جده عن خالد بن يزيد عن معبد بن أبي هلال عن عون بن عبد الله بن عتبة، وعن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن محمد بن عجلان عن عبد الرحمن بن سعيد أربعتهم عن الشعبي عن النعمان كذا في «الأطراف» للمزي. قلت: وأورده مسلم في «صحيحه» من طريق ابن نمير عن أبيه عن زكريا عن(5/30)
الشعبي عن النعمان، ولم أر في نسختي من «الأطراف» ذكر زكريا بين ابن نمير والشعبي في هذا
الإسناد في «الصحيح» باللفظ الذي أورده المصنف عنه، ثم بعد إيراده ذكر طريقيه عن ابن أبي شيبة وإسحاق ابن إبراهيم عن عيسى. بن يونس عن زكريا وقال بهذا الإسناد مثله، وأخرجه عن إسحاق أيضاً عن جرير عن مطرف وأبي فروة، وأخرجه عن قتيبة عن يعقوب، ابن عبد الرحمن القاري عن ابن عجلان عن عبد الرحمن بن سعيد القاري عن الشعبي عن النعمان عن النبيّ بهذا الحديث، إلا أن حديث زكريا أتم من حديثهم وأكثر، وذكر حديث عبد الملك بن شعيب بن الليث «الحلال بين والحرام بين» وذكر مثل حديث زكريا عن الشعبي إلى قوله «يوشك أن يقع فيه» هذه ألفاظ الحديث وطرقه في «الصحيحين» ، وقد رواه أبو داود الترمذي وقال: حسن صحيح والنسائي كلهم في البيوع، ورواه ابن ماجه في الفتن ومداره عند الجميع على الشعبي عن النعمان.
2589 - (وعن أنس رضي الله عنه أن النبيّ وجد تمرة في الطريق) أي كائنة فيه (فقال: لولا) امتناعية (أنى أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) أن ومعمولاها في تأويل مصدر مبتدأ والخبر محذوف: أي خوفي من كونها من تمر الصدقة موجود لأكلتها والمراد الصدقة التي لم تنته إلى محلها، وإلا ففي قصة برمة بريرة بما تصدق عليها من الشاة قوله «هو لها صدقة ولنا هدية» وقد خص بحرمة قبول الصدقة الواجبة والمندوبة، وحكمته أنها تنبىء عن ذلّ الآخذ وعزّ الباذل، وقد قال «اليد العليا» أي المعطية «خير من اليد السفلى» أي الآخذة. ويؤخذ من الحديث. جواز تملك وأكل ما يجده الإنسان في الأرض من الحقير الذي يعرض عنه غالباً وإن كان متمولاً للعلم بقرائن الأحوال المفيدة للقطع في مثل ذلك أن مالكه أعرض عنه وسامح آخذه، ومن ثم رأى عمر رضي الله عنه رجلاً ينادي على عنبة التقطها فضربه بالدرة وقال: إن من الورع ما يمقت الله عليه: أي لأن الغالب من حال فاعل ذلك أنه إنما يقصد به الرياء والسمعة وإظهار الورع والتعفف.c ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي للإنسان إذا شك في إباحة شيء ألا يفعله، لكن هل الترك حينئذ واجب أو مندوب؟ تقدم فيه الخلاف في حديث النعمان، وكلام أئمتنا مصرّح بالثاني لأن الأصل الإباحة والبراءة الأصلية ما لم تعلم جهة محرمة قبل ذلك في شيء بعينه ويشك في زوالها، كأن يشك في شرط من شروط الذبح المبيح هل وجد أم لا، لأن الأصل حينئذ بقاء الحرمة فلا يحلّ إلا بيقين، ثم لا يرعى من الاحتمال في ذلك إلا القريب لأن الظاهر أن تمرّ الصدقة(5/31)
كان موجودا إذ ذاك، أما الاحتمال البعيد فتؤدي مراعاته إلى التنطع المذموم والخروج عما عرف من أحوال السلف، فقد أتى بجبنة وجبة فأكل ولبس ولم ينظر لاحتمال مخالطة الخنزير لهم ولا إلى صوفها من مذبوح أو ميتة، ولو نظر أحد للاحتمال المذكور لم يجد حلالاً على وجه الأرض، ومن ثم قال أصحابنا: لا يتصوّر الحلال بيقين إلا في ماء
المطر النازل من السماء المتلقي باليد (متفق عليه) رواه مسلم في كتاب «الزكاة» .
3590 - (وعن النوّاس) بفتح النون وتشديد الواو آخره سين مهملة (ابن سمعان) بكسر السين وفتحها ابن خالد بن عمرو بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكلابي، ووقع في «صحيح مسلم» أنه أنصاري وحمل على أنه حليف لهم (رضي الله عنه) الأولى عنهما لأن لأبيه وفادة كذا في «الفتح المبين» ، وكأن اقتصار المصنف عليه دون أبيه لأن ذلك قول ضعيف كما أشار إليه الأثير بقوله في «أسد الغابة» : يقال إن أباه وفد على النبيّ فدعا له النبيّ، وأهدي إلى النبيّ نعلين فقبلهما، وزوّج أخته من النبيّ، فلما دخلت على النبيّ تعوّذت منه فتركها وهي الكلابية وفي المتعوذة خلاف كبير اهـ. وهو صريح في أن المتعوذة عمة النوّاس وبه يدفع قول ابن حجر في «الفتح المبين» : تزوّج النبي أخت النوّاس وهي المتعوذة إلا إن كان ذلك على قول آخر، روى للنواس عن النبيّ سبعة عشر حديثاً، روى منها مسلم ثلاثة، وروى له أصحاب السنن. وقال الكازورني في «شرح الأربعين» : كان من أصحاب الصفَّة وسكن الشام (وعن النبي قال: البر) وهو لمقابلته بالفجور: عبارة عما اقتضاه الشرع وجوبا كما أن الإثم عما نهى عنه الشرع وجوبا أو ندبا، وتارة يقابل بالعقوق فيكون عبارة عن الإحسان كما أن العقوق عبارة عن الإساءة، من بررت فلاناً بالكسر أبرّه برّا فأنا برّ بفتح أوله، وبارّ وجمع الأوّل أبرار والثاني بررة (حسن الخلق) أي معظم البر حسن الخلق: أي التخلق فالحصر فيه مجازي كما في قوله «الحج عرفة» و «الدين النصيحة» والمراد من الخلق المعروف الذي هو طلاقة الوجه وكف الأذى وبذل الندى وأن يحب للناس ما يحب(5/32)
لنفسه، وهذا راجع لقول بعضهم: هو الإنصاف في المعاملة والرفق في المجادلة والعدل في الأحكام والبذل والإحسان في اليسر والإيثار في العسر وغير ذلك من الصفات
الحميدة (والإثم) أي الذنب كما علم من تعريفه وهمزته عوض من الواو كأنه يتم الأعمال: أي يكسرها بإحباطه (ما حاك) أي تردد وتحرك وقيل أي رسخ وأثر (في نفسك) اضطراباً وقلقاً ونفوراً وكراهية لعدم طمأنينتها ومن ثم لم يرض بالاطلاع عليه كما قال (وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي وجوههم وأشرافهم إذ المطلق ينصرف للفرد الكامل، والمراد الكراهية العرفية الجازمة لا العادية فقط ككراهة أن يرى آكلاً من حياء أو بخل، ولا غير الجازمة كمن يكره أن يركب بين مشاة تواضعاً فإنه لو رؤى كذلك لم يكره. وقد تبين من الحديث أن للاثم علامتين، وفيه أن للنفس شعوراً من أصل الفطرة بما تحمد وتندم عاقبته ولكن غلبت عليها الشهوة فأوجبت لها الإقدام على ما يضرّها، فإذا عرفت هذا اتضح لك وجه كون التأثير في النفس علامة للإثم لأنه لا يصدر إلا لشعورها بسوى عاقبته، ووجه كون كراهة اطلاع الناس على الشيء دليل الإثم أن النفس بطبعها تحب اطلاع الناس على خيرها وبرّها وتكره ضد ذلك، فكراهتها اطلاع الناس على فعلها ذلك يدل على أنه إثم، ثم هل كل منهما علامة مستقلة على الإثم من غير احتياج إلى الأخرى أولا؟ بل كل جزء علامة، والعلامة الحقيقية مركبة منهما كل محتمل وحينئذ فما وجد فيه العلامتان معا فإثم قطعا كالرياء والزنا وما انتفيتا متلازمتان لأن كراهة النفس تستلزم كراهة اطلاعهم وعكسه، والحديث مخصوص بغير مجرد خطور المعصية ما لم يعمل أو يتكلم (رواه مسلم) وهو من جوامع كلمه بل من أوجزها، إذ البرّ كلمة جامعة لجميع أفعال الخير وخصال المعروف، والإثم كلمة جامعة لجميع أفعال الشرّ والقبائح كبيرها وصغيرها، ولذا قابل بينهما (حاك بالحاء المهملة والكاف: أي تردد فيه) الأولى «فيها» أي النفس.
4591 - (وعن وابصة) بكسر الموحدة بعدها مهملة (ابن معبد) بفتح الميم والموحدة وسكون العين المهملة وبالدال المهملة بن مالك بن عبيد الأسدي من أسد بن خزيمة، قاله(5/33)
ابن عبد البر وقيل غير ذلك في نسبه (رضي الله عنه) قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشرة رهط من قومه بني أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ورجع إلى بلاده، ثم نزل الجزيرة وسكن الرقة ودمشق ومات بالرقة ودفن عند منارة جامعها، روى له عن النبي أحد عشر حديثاً روى عنه ابناه عمرو وسالم والشعبي وغيرهم، وكان كثير البكاء لا يملك دمعته وله عقب بالرقة (قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال) من باب الإخبار بالغيوب من جملة معجزاته الكبرى (جئت تسأل عن البرّ) جملة حالية من الضمير (قلت: نعم، قال: استفت قلبك) أي اطلب الفتوى منه، وفيه إيماء إلى بقاء قلب المخاطب على أصل صفاء فطرته وعدم تدنسه بشىء من آفات الهوى الموقعة فيما لا يرضى، ثم بين نتيجة الاستفتاء وأن فيه بيان ما سأل عنه فقال (البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب) أي نفسه وقلبه إن كان من أهل الاجتهاد، وإلا فليسأل المجتهد فيأخذ ما اطمأنت إليه نفسه وسكن إليه قلبه، فإن لم يوجد شيء من ذلك فليترك ما التبس عليه من مطلوبه ولم يدر حله وحرمته. والقلب القوة المودعة في الجزء الصنبوري المسمى بالقلب أيضاً، والنفس لغة: حقيقة الشيء، واصطلاحاً: لطيفة في البدن تولدت من ازدواج الروح بالبدن واتصالهما معاً (والإثم ما حاك في النفس) أي في نفس المجتهد، ولم يستقرّ حله عنده (وتردد في الصدر) ولم ينشرح له (وإن أفتاك الناس) أي غير أهل الاجتهاد من أولى الجهل والفساد وقالوا لك إنه حق، فلا تأخذ بقولهم لأنه قد يوقع في الغلط وأكل الشبهة أو مطلق الناس فيشمل ما أفتى فيه المفتي بالحلّ في ظاهر الحكم الشرعي، والورع تركه، وذلك كمعاملة من أكثر ماله حرام فلا يأخذ منه شيئاً ولا يعامله، وإن أباح المفتي معاملته
لعدم تعين ما يأخذه منه للحرام، فلا يأخذه ورعا لاحتمال كونه الحرام في نفس الأمر. قال الكازروني: ولأن الفتوى غير التقوى، وجملة «وإن أفتاك الخ» معطوفة على مقدر: أي إن لم يفتك الناس وإن أفتاك وقوله (وأفتوك) هو بمعنى ما قبله كرر للتأكيد والحاصل أن فيه الأمر بترك الشبهات التي تحصل للنفوس المعتد بها الحرارة عند تناولها وأخذها خشية أن تكون حراماً في نفس الأمر، وتقدم أن محل ذلك إذا كان عن مستند قريب يعتد بمثله شرعا وإلا فمراعاة ذلك تنطع (حديث حسن) قال في «الفتح المبين» : بل «صحيح» (رواه أحمد) يعني ابن حنبل الشيباني الإمام المشهور أفردت(5/34)
ترجمته بالتأليف ومنها كتاب حافل لابن الجوزي، ولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة وتوفي بها ضحوة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبعة وسبعون سنة (و) أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن السمرقندي (الدارمي) منسوب إلى دارم بطن من تميم، مات سنة خمس وخمسين ومائتين (في مسنديهما) .
المسند: هو ما جمع من الأحاديث على مسانيد الصحابة كل مسندّ على حدة ويقال أول مسند صنف مسند أبي داود الطيالسي، وعن الدارقطني أول من صنف مسنداً وتتبعه أبو نعيم بن حماد، وتبع المصنف في عد كتاب الدارمي من المسانيد الإمام ابن الصلاح، وقد تعقبه الحافظ زين الدين العراقي في «ألفيته» وشرحها في ذلك وقال: إنه مؤلف على الأبواب لا على المسانيد.
5592 - (وعن أبي سروعة بكسر السين المهملة) وإسكان الراء وبالعين المهملة (عقبة ابن الحارث) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المبادرة إلى الخير (أنه تزوّج ابنة لأبي إهاب ابن عزيز) قلت: وفي كتاب الشهادات من البخاري أنه تزوّج أم يحيى بنت أبي إهاب فهذه كنيتها واسمها غنية، ذكره الدارقطني في المؤتلف والمختلف. قال السيوطي في «التوشيح» : تكنى أم غنى، قال الحافظ بن زين الدين العراقي في مبهماته: يعني بغين معجمة ونون مكسورة وياء آخر الحروف قال وقال والذي في «شرح ألفيته» أنه وقع في بعض طرق الحديث عن عقبة بن عامر بن الحارث قال: تزوجت زينب بنت أبي إهاب. قلت: وقد عزا الحافظ المزي في «الأطرف» إلى البزار أنه أخرج الحديث عن عقبة قال «تزوجت زينب بنت أبي إهاب» قال الحافظ في أوائل الشهادات من «الفتح» : قد تقدم في العلم أن اسمها غنية بفتح المعجمة وكسر النون بعدها تحتية مثقلة، ثم وجدت في النسائي أن اسمها زينب فلعل غنية لقبها أو كان اسمها فغير بزينب كما غير اسم غيرها، والأمة المذكورة لم أقف على اسمها اهـ. وأبو إهاب لم أر من ذكر اسمه فكأن كنيته هي اسمه، وهو ابن عزيز بن قيس بن سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي، قاله خليفة، وقد ذكره(5/35)
في «أسد الغابة» قال: حليف بني نوفل (فأتته امرأة) في رواية البخاري في البيوع امرأة سوداء، وفي رواية له في الشهادات: فجاءت أمة سوداء (فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي قد تزوج بها، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني) قال الحافظ في «الفتح» : عند الدارقطني من طريق أبي أيوب عن مليكة عن عقبة: فدخلت علينا: مرأة سوداء، فسألت فأبطأنا عليها فقالت: تصدّقوا عليّ فوالله لقد أرضعتكما جميعاً، وقوله «ولا أخبرتني» على ما أعلم وأتى به ماضياً لأن نفيه باعتبار المعنى وبأعلم مضارعاً لأن نفي العلم حاصل في الحال (فركب) أي من مكة كما في «التوشيح» (إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالمدينة) حال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا متعلق بركب (فسأله) أي عن حكم هذه النازلة (فقال رسول الله: كيف) ظرف يسأل به عن الحال وهو خبر محذوف: أي كيف اجتماعكما بعد (وقد قيل) جملة في محل الحال في المقدر: أي كيف اجتماعكما على حال قولها إنكما أخوان من الرضاعة. إذ ذاك بعيد من المروءة (ففارقها عقبة) أي صورة أو طلقها احتياطاً أو ورعاً. ولا حكماً بثبوت الرضاع وفساد النكاح، إذ ليس قول المرأة الواحدة شهادة يجوز بها الحكم، نعم أخذ بظاهره الإمام أحمد فقال: الرضاع يثبت بشهادة المرضعة وعدمه، وفي المسألة خلاف طويل بينه الحافظ في كتاب الشهادات في باب شهادة المرضعة من «فتح الباري» (ونكحت زوجا غيره) هو ضريب بضم المعجمة وفتح الراء آخره موحدة ابن الحارث، وفي الحديث الحض على ترك الشبه والأخذ بالأحوط في الأمر (رواه البخاري) في العلم والبيوع والشهادات والنكاح من «صحيحه» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (إهاب بكسر الهمزة) أي وتخفيف الهاء وبالموحدة (وعزيز بفتح العين وبزاي مكررة) قال في فتح الباري: ووقع عند أبي ذرّ عن المستملي والحموي بزاي وآخره راء مصغر، والأوّل هو الصواب.
6593 - (وعن الحسن) بفتح الحاء والسين المهملتين والنون (ابن عليّ) بن أبي طالب ابن(5/36)
عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته من الدنيا (رضي الله عنهما) تقدمت ترجمته وحديثه في باب الصدق (قال: حفظت من رسول الله: دع) الظاهر أنه أمر ندب وإرشاد وحض على مكارم الأخلاق بالتورّع عن الشبه وليس أمر إيجاب بحيث يأثم تاركه ويكون عاصياً بتركه (ما يريبك إلى ما لا يريبك) بفتح التحتية وضمها والفتح أفصح، تقول رابني فلان: إذا رأيت منه ما يريبك وتكرهه، وهذيل تقول أرابني (رواه الترمذي) «في الزهد» من جامعه (وقال: حديث حسن) الذي تقدم في باب الصدق وقال: حسن صحيح، وكذا نقله عنه المزي في «الأطراف» ، وحينئذ فلعل سقوط «صحيح» من بعض النسخ أو سهو من قلم المصنف، ورواه النسائي. والحديث قد تقدم مع ترجمة الحسن، وشرح الحديث في باب الصدق أوائل الكتاب بزيادة في آخره: فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة (ومعناه) أي الحديث (اترك ما تشك فيه) أي مما تعارض فيه دليلاً الحل والتحريم (وخذ ما لا تشك فيه) مما قام النص على حله، أو قال بحله مجتهد، قياساً على ما جاء حله في النص ولم يعارضه ما يرده. والمصنف بين هذا المعنى، وسكت عن ضبط المضارع لأنه قدمه ثمة، وقد سبق له نظير ذلك كما نبهنا عليه قريباً.
7594 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام) قال الحافظ في «الفتح» : لم أقف على اسمه، ووقع لأبي بكر مع النعيمان بن عمر وأحد الأحرار من الصحابة قصة ذكرها عبد الرزاق بإسناد مرسل «أنهم نزلوا بماء فجعل النعمان يقول لهم يكون كذا، فيأتونه بالطعام فيرسله إلى الصحابة، فبلغ أبا بكر فقال: أراني آكل كهانة النعيمان منذ اليوم، ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه» وفي الورع لأحمد عن ابن سيرين: لم أعلم أحداً استقاء من طعام غير أبي بكر، فإنه أتي بطعام فأكل، ثم قيل له جاء به ابن النعيمان قال: وأطعمتموني كهانة ابن النعيمان؟ ثم استقاء. ورجاله ثقات لكنه مرسل، ولأبي بكر قصة أخرى في ذلك أخرجها يعقوب بن أبي شيبة في «مسنده» (يخرج له الخراج) أي يأتيه بما(5/37)
يكسبه من الخراج، وهو ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره من كسبه وسيأتي في الأصل (وكان أبو بكر يأكل من خراجه) أي بعد أن يسأله عنه كما في رواية الإسماعيلي (فأتاه في ليلة بكسبه فأكله) ولم يسأله ثم سأل (فقال له الغلام: تدري) همزة الاستفهام قبله مقدرة: أي أتدري (ما هذا) أي الذي أكلته: أي سبب حصوله ووصوله (فقال أبو بكر: وما هو) سؤال عن بيان حقيقة جهة وصوله (فقال: كنت تكهنت لإنسان) قال الحافظ: لم أعرف اسمه (في الجاهلية) هو ما قبل الإسلام سميت بذلك لكثرة جهالاتها (وما أحسن الكهانة) فجمع إلى قبح الكهانة قبح التشييع بما ليس له والخديعة كما قال (إلا أني خدعته) وهو استثناء منقطع، والخدع الإطماع بما لا وصول إليه. وفي «مفردات الراغب» : الخداع إنزال الغبي عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه (فلقيني فأعطاني) أي في الإسلام (لذلك) أي لأجله، وفي نسخة من البخاري بالموحدة: أي عوض تكهني له (هذا الذي أكلت منه) وكأنه دفع له حينئذ لأنه تبين له إذ ذاك ما كان قال قبل (فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) الظرف في محل الصفة لشيء، قال ابن
التين: إنما استقاء أبو بكر تنزّهاً لأن أمر الجاهلية وضع، ولو كان في الإسلام لغرم مثل ما أكل أو قيمته ولم يكفه القيء. قال الحافظ: كذا والذي يظهر أن أبا بكر إنما قاء لما ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن وحلوان الكاهن ما يأخذه على كهانته، والكاهن من يخبر بما سيكون من غير دليل شرعي، وكان ذلك قد كثر في الجاهلية قبل ظهور النبيّ (رواه البخاري) في أيام الجاهلية من «صحيحه» (الخراج) بفتح أوليه وتخفيف ثانيه آخره جيم (شيء يجعله السيد على عبده يؤديه إلى السيد كل يوم) أي مثلاً، إذ منه ما تجعل المرأة على عبدها والسيد على أمته أو يجعل عليه في الجمعة أو في الشهر أو في العام، وكأن ما ذكر لأنه الغالب خصوصاً وفي التوقيت بنحو شهر تعويض لضياع ما يوظف عليه (وباقي كسبه يكون(5/38)
للعبد) أي يبيح له السيد أن ينتفع به إلا أنه لا يملكه العبد ولا يخرج عن ملك سيده، إذ لا يملك الرقيق شيئاً وإن ملكه سيده.
8595 - (وعن نافع) مولى ابن عمر تابعي جليل (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فرض) أي قدر (للمهاجرين الأولين) أي لكل منهم: أي من فيء ديوان العطاء (أربعة آلاف) أي درهم (وفرض لابنه) أي عبد الله مع أنه منهم (ثلاثة آلاف وخمسمائة) احتياطاً (فقيل له) لم يتعرض الحافظ لبيان القائل (هو من المهاجرين) أي فينبغي أن يكون له مثل ما لكل مهاجر (فلم نقصته؟) أي خمسمائة فالمفعول الثاني محذوف لأن نقص جاء قاصراً نحو حديث «ما نقص مال من صدقه» ومتعدياً لاثنين نحو نقصت المال ديناراً وما نحن فيه من الثاني (فقال: إنما هاجر به أبوه) كذا في نسخ الرياض أبوه مرفوعاً بالواو. والذي رأيته في أصل مصحح معتمد من البخاري: أبواه بصيغة المثنى بتغليب الأب على الأم، كالعمران في تثنية أبي بكر وعمر والقمران في تثنية شمس وقمر، ونسبة المهاجرة به إلى الأم مجاز، والمهاجر به حقيقة إنما هو أبوه (يقول ليس هو كمن هاجر بنفسه) أي كأنه حينئذ كان في كنف أبويه، فليس هو كمن هاجر بنفسه وعانى كلفتها وذاق مرارة وعثاء السفر ومشقتها. وجاء في رواية الداودي: فقال عمر لابن عمر: إنما هاجر بك أبواك. وكان سن ابن عمر حين هاجر به أبوه إحدى عشرة سنة، ووهم من قال ثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة لما ثبت في «الصحيح» من أنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وكانت أحد في شوال سنة ثلاث (رواه البخاري) في أبواب الهجرة في «صحيحه» .
9596 - (وعن عطية بن عروة) بضم المهملة وسكون الراء قال المزي في الأطراف: ويقال أبو عمرو بن عوف ويقال أبو سعد (السعدي) بفتح المهملة وسكون الثانية والدال مهملة أيضاً. قال في «أسد الغابة» : من سعد بن بكر. وفي «أطراف المزي» : من سعد من بني خيثم بن سعد بن بكر بن هوازن اهـ (الصحابي رضي الله عنه) روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ(5/39)
ثلاثة أحاديث (قال: قال رسول الله: لا يبلغ العبد) أي لا يصل (أن يكون من المتقين) أي من الموصوفين بكمال التقوى، فإن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل (حتى يدع) أي يترك خشية من الله (ما لا بأس به) أي بظاهر الفتوى أو مطلقاً (حذراً) بفتح أوليه مفعول مطلق لفعل هو وفاعله في محل الحال: أي حال كونه يحذر حذراً. أو مفعول له (لما) أي للذي (به بأس) وهذا من باب قوله «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» (رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن) غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ورواه ابن ماجه في الزهد من «سننه» أيضاً، والحاكم في «مستدركه» ، والله أعلم.
69 - باب استحباب العزلة
بضم المهلة وسكون الزاي اسم مصدر اعتزله وتعزله: أي تجنبه كما في «الصحاح» ، قال: ويقال العزلة عبادة (عند فساد الزمان) أي تغيره بحسب ما يظهره الله فيه من فساد بعد صلاح أهله كأن يبدو الرياء والكذب بعد الصدق والخيانة بعد الأمانة وهكذا (أو) عند (الخوف) أي الخشية (من فتنة) أي محنة (في الدين) بسبب الدين التي تنشأ عن الاجتماع به كأن يداهنهم على محرّم أو يرى منهم منكراً أو يقرهم عليه أو نحو ذلك أي وإن لم يكن ذلك من فساد الزمان وإنما ذلك ناشىء عن اجتماع مخصوص له (ووقوع في حرام وشبهات ونحوها) معطوفة على محنة من عطف الخاص على العام، وكون الوقوع في الشبه من المحنة في الدين إما باعتبار كونها حراماً في نفس الأمر، وأن الوقوع فيها يجرّ إلى الوقوع فيه كما تقدم في قوله «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» وفهم من الترجمة فضل الخلطة عند الأمن من ذلك. قال المصنف: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه وقوع المخالفة بسببها، فإن أشكل فالعزلة أولى، وسيأتي فيه مزيد في الباب بعده.(5/40)
(قال الله تعالى) : ( {ففرّوا إلى الله} ) أي من جميع ما عداه، وهوأمر بالدخول في الإيمان بالله وطاعته وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار تنبيهاً على أن وراء الناس عقاباً وعذاباً وأمراً حقه أن يفر منه فجمعت لفظة ففروا التحذير والاستدعاء، وينظر إلى هذا المعنى قوله «ولا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» الحديث. قال الحسين بن الفضل: من فرّ إلى غير الله لم يمتنع من الله ( {إنى لكم نذير مبين} ) يجب أن ينذر ويحذر، أو يبين كونه منذراً من الله بالمعجزات.
1597 - (وعن سعد بن أبي وقاص) واسمه مالك، وسعد أحد العشرة المبشرة بالجنة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: سمعت النبي يقول: إن الله يحبّ) المراد من المحبة لاستحالة قيام حقيقتها من الميل النفساني به تعالى غايتها، مجازاً مرسلاً من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم من التوفيق للطاعة أو الإنابة بأحسن الفضل أو الثناء عليه عند ملائكته أو يكون صفة فعل أو إرادة ذلك فتكون صفة ذات (العبد) أي المكلف ولو حرّا وهو اسنى أوصاف الإنسان (التقي) الممتثل للأوامر والمجتنب للنواهي (الغني) الغنى المحمود شرعاً الآتي بيانه في الأصل (الخفي) بالخاء المعجمة هذا هو الموجود في النسخ والمعروف في الروايات. وذكر القاضي عياض أن بعض رواة مسلم رواها بإهمال الحاء، ومعناه بالإعجام الخامل المنقطع إلى العبادة والاشتغال بها وبأمور نفسه التي تعنيه دينا ودنيا. وقال آخرون: هو الذي يعتزل الناس ويخفي عنهم مكانه، وبالإهمال الوصول للرحم، اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء، والصحيح المعجمة. ففيه دليل تفضيل الاعتزال على الخلطة، أما مطلقاً كما قيل به، أو عند خوف فتنة في الدين كما جرى عليه المصنف وترجم به تبعاً للكثير (رواه مسلم) وأحمد كما في «الجامع الصغير» (المراد بالغني) بفتح المعجمة أي المراد من الغني المذكور في الحديث (غني النفس) كذلك، ويصح أن يقرأ بكسر المعجمة وبالقصر فيهما، وحينئذ فيكون المعنى المراد بالغنى المشتق منه الغنى في الحديث، ويؤيد هذا قوله (كما(5/41)
سبق في الحديث الصحيح) أي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي «ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» ويؤيد الأول سلامته من التكلف والتقدير في الثاني.
2598 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ويبعد تفسيره بما جاء في حديث أن أبا ذرّ سأل عن ذلك أنه جاء عند البخاري في كتاب الرقاق: جاء أعرابيّ وأبو ذرّ لا يحسن أن يقال فيه إنه أعرابي (أيّ الناس أفضل) وعند البخاري في رواية «أي الناس خير» وفيه روايات أخر. وقوله: (يا رسول الله) تلذذ بذكره واستعذاب لمخاطبته، قال الشاعر:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره
هو المسك ما كررته يتضوّع وفي النداء به الإيماء إلى سبب توجيه السؤال إليه عن ذلك، وأن مثل هذا لا يعلم إلا من حضرة الحق سبحانه فيطلب معرفته من أمينه على وحيه (قال) أتى به على طريق الاستئناف لأن المراد الإخبار عن حصول جواب السؤال مع قطع النظر عن كونه عقبه كما هو مدلول الفاء أو بعده كما هو مدلول ثم أو غير ذلك، وقوله (مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله) خبر مبتدأ محذوف التقدير هو: أي الأفضل مؤمن، وقوله في سبيل الله) هو في لسان الشرع عبارة عن جهاد الكفار وإعزاز الدين: أي يقاتل بنفسه ويحمل ويعين بماله في ذلك، وقد يراد منه مطلق طاعة الله سبحانه (قال ثم من) أي بعده في ذلك (قال: ثم) أتى بها في الجواب مع وجودها للتنصيص على نزول مرتبة مدخولها عمن قبله،: أي ثم بعده (رجل) وعند مسلم: مؤمن (معتّزل في شعب من الشعاب) فرجل مبتدأ محذوف الخبر عكس ما قبله، والشعب بكسر الشين المعجمة: هو الطريق في الجبل وما انفرج بين الجبلين ومسيل الماء. وقوله (يعبد ربه) زاد مسلم في رواية له «يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة حتى يأتيه(5/42)
اليقين ليس من الناس إلا في خير» والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان الحامل له على الاعتزال، فإن في الاجتماع بالناس الشغل عن ذلك. وفي الخلوة الجلوة، ويجوز إعرابها خبراً بعد خبر، ولا ينافي هذا الحديث حديث «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» وحديث «خيركم من طال عمره وحسن عمله» ونحوهما لأن هذا الاختلاف بحسب الأوقات
والأقوام والأحوال، وفي الحديث فضل العزلة به. قال الحافظ: والذي يظهر أنه محمول على ما بعد عصر النبيّ (وفي رواية) وهي للبخاري في «الجهاد صحيحة» إلا أنه قال: ثم مؤمن في شعب من الشعاب (يتقي) الله أي لمراقبته مولاه وعلمه بأنه رقيب عليه محيط به (ويدع الناس) أي يتركهم (من شره) باعتزاله عنهم وانفراده فلا يصل إليهم شرّه، ثم جملة يتقي ربه عندهما آخر الحديث الذي أورده المصنف، وكأنه غفل رحمه الله عن ذلك فاحتاج لعزوه إلى رواية أخرى (متفق عليه) فأخرجه البخاري في الجهاد وفي الرقاق، وأخرجه مسلم في الجهاد، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في الجهاد، ورواه ابن ماجه في الفتن وقال الترمذي حسن صحيح.
3599 - (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوشك) بضم التحتية وكسر الشين المعجمة. قال في «الصحاح» والعامة تفتح الشين وهي لغة رديئة: أي يقرب (أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال) قال ابن مالك: في الحديث شاهد على إسناد أوشك إلى أن ومنصوبها وغنم نكرة موصوفة اسم يكون، والخبر قوله خير، والمراد بالمسلم الجنس، وقدم الخبر للاهتمام بالاعتزال لأن الكلام مسوق فيه لا في الغنم ولذا أخرها. قال في «الفتح» : ويجوز العكس بأن يكون خير اسمها مال الخبر والأشهر في غنم الرفع، وقيل يجوز رفع الجزءين على الابتداء والخبر. والجملة في موضع نصب خبر يكون، واسمها(5/43)
ضمير شأن لأنه كلام يتضمن تحذيراً وتعظيماً وتقديم ضمير الشأن مؤكد لمعناه، قال الحافظ: ولا يخفى تكلفه (ومواقع القطر) أي الغيث ومواقعه هي مواضع الكلأ (والغيث) لأن المطر إذا أصاب الأرض أعشبت (يفر بدينه من الفتن) قال الكرماني: جملة حالية من الضمير المستكن في يتبع أو المسلم إذا جوّزنا الحال من المضاف إليه فقد وجد شرطه وهي شدة الملابسة فكأنه جزؤه. ويجوز أن تكون استئنافية وهو واضح اهـ (رواه البخاري) في الإيمان وفي الجزية والفتن ورواه أبو داود في الفتن، ورواه النسائي في الإيمان، وابن ماجه في الفتن (وشعف الجبال) بفتح الشين المعجمة والمهملة بعدها فاء جمع شعفة كأكم وأكمة وجمعها شعاف (أعلاها) قال الحافظ: والماء والمرعى يكون فيها ولا سيما في بلاد الحجاز. والخبر دالّ على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه.
4600 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ما بعث الله نبياً) يحتمل أن يكون المراد من النبي مطلق من أوحى إليه بشرع سواء أمر بتبليغه أو لا، فيفسر البعث بالإيحاء، ويحتمل أن المراد منه الرسول من إطلاق العام مراداً به الخاص وقرينته قوله بعث: أي أرسل (إلا رعى) وفي نسخة من البخاري راعي بصيغة اسم الفاعل (الغنم) وذلك ليتمرّنوا برعيها على ما سيكلفون من القيام بأمر الأمة ولأن في مخالطتها يحصل الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها، وجمعها بعد تفريقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى آخر، ودفع غدرها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها ورفقوا بضعفائها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعى الغنم، وخضت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها فهي أسرع انقياداً من غيرها (فقال أصحابه: وأنت) بحذف همزة الاستفهام: أي وأنت أيضاً رعيتها (فقال نعم) ذكره لذلك بعد علم(5/44)
كونه أكرم خلق الله على الله من عظيم تواضعه لربه، وفيه اعتراف بمنة الله سبحانه، وفيه التحريض للأمة على سلوك ذلك (كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) قيل المراد بالقيراط هنا جزء من الدينار والدرهم، وقال إبراهيم الجرمي: قراريط اسم مرعى بمكة ولم يرد القراريط من الفضة، وصوّبه ابن الجوزى تبعاً لابن ناصر وخطأ الأول، لكن رجح الأول آخرون بأنه لا يعرف أهل مكة بها محلاً يقال له القراريط (رواه البخاري) في الإجارة من صحيحه، ورواه ابن ماجه في الإجارة من «سننه» .
5601 - (وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من خير معاش) والمراد: أي عيش به الحياة (الناس لهم) قال المصنف: أي من خير أحوال عيشهم (رجل) هو على تقدير مضاف: أي معاش رجل فحذف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع (ممسك عنان) بكسر المهملة وبالنونين الخفيفتين (فرسه في سبيل الله) حال من رجل لتخصيصه بالوصف أو وصف له، والمراد به جهاد الكفار، وقوله (يطير على متنه) يجوز فيه الوجهان (كلما) ظرف لقوله طار أي في وقت (سمع هيعة) بفتح الهاء والعين المهملة وسكون التحتية بينهما (أو) يحتمل أن تكون شكاً من الراوي ويقرّ به قول المصنف الآتي: والفزعة نحوه، ويحتمل أنها للتنويع بناء على ما سيأتي ثمة من الفرق بينهما (فزعة) بفتح الفاء والمهملة وسكون الزاي بينهما (طار عليه) أي على فرسه وهو كما في «المصباح» يطلق على الذكر والأنثى من الخيل (يبتغي القتل) أي من الكفار له (أو الموت) أي حتف أنفه (مظانه) أي فيما يظن وجوده فيه: أي يطلب ذلك في مواطنه التي يرجى فيها لشدة رغبته في الشهادة. وفيه فضيلة الموت في سبيل الله وإن لم يقتله العدوّ، وجملة يبتغي الخ مستأنفة أتى بها لبيان سبب ملازمته عنان فرسه: أي الحامل له على ذلك مزيد رغبته في الشهادة وإعلاء كلمة الله سبحانه (أو) للتنويع ويحتمل كونها بمعنى الواو فإن كلاً منهما عيشه محمود آخره (رجل في غنيمة) بضم الغين المعجمة وفتح النون وسكون التحتية والتصغير للتقليل إيماء إلى الإعراض عن الاستكثار من الدنيا والاقتصار على ما تدعو إليه الحاجة (في رأس شعفة من هذه الشعف)(5/45)
الظرف الأول في محل الصفة لغنيمة والثاني صفة لشعفة: أي في أعلى جبل من هذه العوالي (أو) للتنويع (بطن واد من هذه الأودية) جمع قلة لواد والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل وذلك لأن صاحب الغنيمة تابع للكلأ سواء كان في الأعلى أو في الأسفل. وقوله (يقيم الصلاة) جملة حالية من رجل لتخصيصه بالوصف أو
مستأنفة جىء بها لبيان ما لأجله كان من ذوي المعاش النسبي ومعنى يقيم الصلاة: أي يؤديها جامعة لأركانها وشرائطها وآدابها (ويؤتي الزكاة) أي المفروضة (ويعبد ربه) بأنواع الطاعات (حتى يأتيه اليقين) أي الموت المتيقن لحاقه (ليس من الناس) أي من أمورهم وأحوالهم (في شيء) من الأشياء (إلا في خير) فهو استثناء من أعم الأشياء كما قدرناه لاعتزالهم عنه ومجانبته لهم، والجملة في محل الحال من فاعل يقيم فيكون حالاً متداخلة، أو من رجل لتخصيصه بالوصف فيكون حالاً مترادفة إن أعربت الجملة السابقة حالاً (رواه مسلم) وجعله المزي في «الأطراف» ، والحديث الذي نقله المصنف في أول الباب وقال إنه متفق عليه واحداً: أي باعتبار المعنى وإن تفاوت في بعض المبنى (يطير) بفتح أوله (أي يسرع) وأراد به مع بيان معنى طار المذكور في الحديث التنبيه على أنه من باب ضرب (ومتنه) بفتح الميم وسكون الفوقية بعدها نون (ظهره) مأخوذ من متن الأرض وهو ما صلب وارتفع منها (والهيعة) بضبطه السابق (الصوت للحرب) في «شرح مسلم» للمصنف: الصوت عند حضور العدو، وفي «النهاية» : الهيعة الصوت الذي يفزع منه ويخافه عدو، وبها يعلم أن ما فسره به المصنف مراده بيان المراد في خصوص الحديث بدليل السياق، لا تفسير مطلق الهيعة لأنه أعم مما ذكره (والفزعة) بالضبط السابق (نحوه) هذا محتمل للتوافق كما جرت به عادة المحدثين من استعمالهم فيما يكون معناه موافقاً لمعنى ما قبله، فإن توافقا لفظاً ومعنى قالوا فيه «مثله» وهو ما يثبت عليه كون «أو» في الحديث للشك، ومحتمل أن يراد به القريب فيكون غير ما قبله وهذا أقرب، ففي شرح مسلم للمصنف الفزعة النهوض إلى العدو، وإنما كان حينئذ قريباً، لأنه إنما يكون عند الصوت (ومظان الشيء) بفتح الميم والظاء(5/46)
المعجمة جميع مظنة بفتح الميم وكسر الظاء كما في «المصباح» (المواضع التي يظن وجوده فيها) أي ظناً قوياً يقرب أن يلحق بالعلم، ففي «المصباح» المظنة
بالكسر: العلم وهو حيث يعلم الشيء «قال النابغة: فإن مظنة الجهل الشباب» .
وقال ابن فارس مظنة الشيء موضعه ومآلفه اهـ (والغنيمة بضم الغين) المعجمة وسكت عن باقي ضبطه الذي ذكرناه لدلالة ما ذكره عليه عند العارف بصيغ التصغير (تصغير الغنم) بفتح أوليه، قال في «المصباح» : وتدخله الهاء إذا صغر فيقال غنيمة، لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين وصغرت فالتأنيث لازم لها (والشعفة بفتح الشين) أي المعجمة (والعين) أي المهملة، وكان الظاهر ذكر هذا الضبط عند ذكر الشعف أولاً وإحالة ما هنا عليه ولعل المصنف تركه ثمة نسياناً وذكر هنا استدراكاً (وهي أعلى الجبل) والله أعلم.
70 - باب فضل الاختلاط بالناس
أي عند السلامة مما ذكر في الباب قبله، والناس اسم جنس محلي بأل، فهو من صيغ العموم فيحتمل بقاؤه على عمومه ويكون الشرط مقدراً في الكلام بدليل السياق «بالوحدة» ويحتمل أن يراد به الخصوص: أي الذين ينبغي الاختلاط بهم (وحضور جمعهم) بضم ففتح جمع جمعة بضم فسكون أو فتح (وجماعاتهم) جمع جماعة: أي في الصلوات المكتوبات (ومشاهد الخير) من الأعياد (ومجالس العلم) والتذكير بالله تعالى (ومجالس الذكر معهم) الظرف متعلق بحضور: أي حضوره ما ذكر مع المسلمين وفي جملتهم ليندرج معهم في ثوابهم ولتعود بركة الفالح على غيره (وعيادة مريضهم) وسيأتي أنها مندوبة (وحضور جنائزهم) وهي مندوبة إن حصل الكفاية من نقله إلى المقبرة(5/47)
بسواء لسقوط الطلب عنه حينئذ، وهل يثاب عليه ثواب الفرض كما يثاب المصلي على جنازة صلى عليها قبل أو يفرق؟ كل محتمل والله أعلم (ومواساة محتاجهم) وتقدم أنها فرض كفاية على مياسير المسلمين (وإرشاد جاهلهم) وهو فرض كفاية بذلاً للنصيحة الواجبة لعامة المسلمين بعضهم على بعض (وغير ذلك من مصالحهم) التي يتمكن منها بالاجتماع بالناس (لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عى المنكر وقمح نفسه عن الإيذاء والصبر على الأذى) اللام تنازعها المصادر المذكورة فكل يطلبها معمولة له والأولى جعله معمولاً للأخير كما هو مذهب البصريين وحذف معمول العوامل السوابق عليه، لأنه فضلة وحذفه في مثل ما ذكر جائز بل واجب، ولو أعربته معمول الأول لوجب إضمار مثله في كل من المذكورات بعده خلافاً لمن أجاز الحذف في ذلك كما أشار إليه ابن هشام في توضيحه، ويؤخذ من هذا أن من لم يقدر على ما ذكر فيه فالاعتزال أفضل له لما تقدم، فإن أشكل الأمر عليه قال المصنف: فالعزلة أولى.
(اعلم) أيها الصالح للخطاب (أن الاختلاط بالناس على الوجه الذي ذكرته) أي من شهود خيرهم دون شرهم وسلامتهم من شره (هو المختار الذي كان عليه رسول الله) إذ كان يجمع الناس ويقيم لهم أعمالهم ويبين لهم أحوالهم (وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) أي وباقي الأنبياء فيكون من عطف المغاير، أو وجميع الأنبياء بناء على أن سائر يجيء بمعنى الجميع، وهو ما ذكره الجوهري ووافقه عليه الجواليقي أول شرح آداب الكتاب واستشهد له. قال المصنف: وإذا اتفق هذان الإمامان على نقل ذلك فهو لغة. وحينئذ فيكون من عطف العام على الخاص، وذكر ذلك بعد ما قبله إيماء إلى أن هذا سنن قديم ونهج مستقيم وسيأتي دليل استحباب الصلاة والتسليم على سائر الأنبياء في كتاب الصلاة على النبيّ (وكذلك) أي وكالمذكور من الأنبياء (الخلفاء الراشدون) هم الأربعة الذي تمت بهم مدة الخلافة المشار إليها في حديث «الخلافة بعدى ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً عضوضاً» (ومن بعدهم من الصحابة) أفرد الخلفاء بالذكر لمزيد فضلهم وكمال علمهم ولمزيد ملازمتهم المصطفى وباقي الصحابة رضي الله عنهم لا يساوونهم في ذلك، والصحابة بفتح الصاد وبالحاء المهملة، قال في المصباح: جمع صاحب وكذا يجمع على صحب وأصحاب اهـ. والذي عليه سيبويه أن صحبا اسم جمع لا جمع وما جرى عليه في المصباح هو قول الأخفش: والمراد من الصاحب هنا الصحابى(5/48)
وهو من اجتمع مؤمناً بنبينا حال حياته ولو لحظة ومات على الإيمان (والتابعين) جمع تابعي، وهو من اجتمع بالصحابى؟ وهل يكتفي بأدنى مدة كما في الصحابى أولاً ويفرق والراجح الثاني كما تقرر في كتب أصول الفقه (ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم) جمع خير بالتشديد أو بالتخفيف مشددا منه كأموات جمع ميت مخفف ميت كأقوال جمع قول كما قاله السمين، دفعا لما قيل من أن قياس جمع ميت ميائت كسيد وسيائد، لكن تعقبه شيخنا بأنه على ما ذكره لا يستقيم له مراده لأن أفعالاً إنما تنقاس
جمعيته لما كان ثلاثياً، وإذ كان ميت مخفف ميت فهو رباعي لا محالة، فيكون جمعه على أموات كجمع ميت عليه على خلاف القياس (هو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم) أي من أتباع التابعين المشهود لقرونهم الثلاثة بالخيرية، وذكر هذا ثانيا لبيان أنه مذهب اقتضاه الدليل وأولاً لبيان أنه عمهم.d وفيه إيماء إلى أن بعض التابعين ومن بعدهم كان يرى الانفراد أفضل ولكنه يعمل بخلافه لحكم الوقت عليه بذلك (وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء) أي من أئمة المذاهب الذين هم الأسوة وفيهم القدوة (رضي الله عنهم أجمعين) وقال الحافظ في فتح الباري بعد نقل اختيار المصنف المذكور: وقال غيره يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتعين عليه أحد الأمرين، ومنهم من يترجح له وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأوقات، فمنهم من يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه إما عينيا وإما كفائيا بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي من يأمن على نفسه لكن يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا تكون فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة لما ينشأ عنها غالباً من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها كما قال تعالى:
{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ويؤيد التفضيل حديث أبي سعيد «خير الناس رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من(5/49)
الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شرّه» (قال الله تعالى: {وتعاونوا على البرّ والتقوى} ) أي ففيه الاجتماع للتعاون على البرّ: أي فعل المأمورات كالجمعة والجماعات وإقامة الشرائع والتعاون على التقوّى عن المنهيات (والآيات في معنى ما ذكرته) أي من طلب الاجتماع لإقامة الشرائع وإبطال المفاسد (كثيرة معلومة) قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران: 104) وقال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} (آل عمران: 110) وقال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} (الصف: 4) .
71 - باب التواضع
في «الرسالة القشيرية» : التواضع هو الاستسلام للحق وترك الاعتراض في الحكم، قال الشيخ زكريا: وهو أعم من الخشوع لأنه يستعمل فيما بين العباد وفيما بينهم وبين الرب سبحانه، والخشوع لا يستعمل إلا في الثاني، فلا يقال خشع العبد لمثله ويقال تواضع له اهـ. وفي «فتح الباري» : من الضعة بكسر أوله وهي الذلّ والهوان، والمراد بالتواضع إظهار الذل لمن يراد تعظيمه، وقيل هو تعظيم من فوقه لفضله. وسئل الفضيل عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله، وكذا قال ابن عطاء: التواضع قبول الحق من كل من قاله. وقيل لأبي يزيد البسطامي متى يكون الرجل متواضعاً؟ قال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً، ولا يرى أن في الخلق من هو شرّ منه اهـ. وسيأتي فيه مزيد في الكلام على الأحاديث والمراد (وخفض الجناح) قال أبو حيان في النهر: هو كناية عن التعطف والرفق،(5/50)
وأصله أن الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه ثم قبضه على فرخه، والجناحان من ابن آدم جانباه.
(وقال الله تعالى) : ( {واخفض جناحك للمؤمنين} ) قال ابن عطية: وهذه استعارة بمعنى لين لهم جانبك ووطىء لهم أكنافك والجناح الجانب والجنب ومنه واضمم يدك إلى جناحك فهو أمر بالميل إليهم، والجنوح الميل اهـ. ولا مخالفة بين كونه كناية واستعارة: أي تمثيلية لاختلاف الاعتبار، قال في «النهر» : وقد كان كثير الشفقة على من بعث إليه، وقد تقدمت الآية مع الكلام عليها في باب ضعفة المسلمين.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} ) وقد ارتد قبائل في عهده، وفي خلافة أبي بكر وعمر ( {فسوف يأتي الله بقوم} ) بدلهم ومكانهم، وحرف التنفيس لتحقيق الوعد (يحبهم) يهديهم ويثبتهم (ويحبونه) أي يطيعونه وهم أبو بكر وأصحابه أو أهل اليمن أو الأشعريون، قال في النهر في «مستدرك الحاكم» عن أبي موسى الأشعري: لما نزلت أشار إلى أبي موسى وقال: هم هذا. وهذا أصح الأقوال وكان لهم بلاء في الإسلام زمن رسول الله، وعامة فتوح عمر على أيديهم ( {أذلة على المؤمنين} ) أي متذللين لهم عاطفين عليهم خافضين عليهم أجنحتهم. وأذلة جمع ذليل لا ذلول الذي هو نقيض الصعب لأنه لا يجمع على أفعلة، بل على ذلل وتعديته بعلى لما أشرنا إليه من تضمينه معنى الحنوّ والعطف ( {أعزّة على الكافرين} ) شداد متغلبين عليهم. قال في «النهر» : جاءت هذه الصفة بالاسم الذي فيه المبالغة لأن أذلة وأعزة جمع ذليل وعزيز، وهما من صيغ المبالغة، وجاءت الصفة قبلهما بالفعل في قوله، يحبهم ويحبونه لأنه الاسم يدل على الثبوت، فلما كانت صيغة مبالغة وكانت لا تتجدد، بل هي كالغريزة جاء الوصف بالاسم. ولما كانت الصفة قبل تتجدد لأنها عبارة عن فعل الطاعات والإنابة المرتبة عليها جاء الوصف بالفعل المقتضي للتجدد، ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن آكد ولموصوفه ألزم قدم على الوصف المتعلق بالكافر ولشرف المؤمن أيضاً، ولما كان الوصف الذي بين المؤمن وربه آكد مما بينه وبين المؤمن قدم قوله
يحبهم ويحبونه على قوله أذلة على المؤمنين وفي الآية إبطال قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم والفعل لا يتقدم الفعل إلا في ضرورة الشعر، وقرىء شاذاً بنصب أذلة وأعزّة على الحالية من(5/51)
النكرة لقربها بالوصف من المعرفة.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} ) آدم وحواء فأنتم متساوون في النسب فلا فخر لأحد على أحد بالنسب ( {وجعلناكم شعوباً} ) الشعب بالفتح رأس القبائل والطبقة الأولى والقبائل تشعبت منه ( {وقبائل} ) هي دون الشعب كتميم من مضر، وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب ( {لتعارفوا} ) أي ليعرف بعضكم بعضاً لا للتفاخر، وفي الحديث «لتعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل» ( {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ) بيان للخصلة التي بها التفاضل.
(وقال تعالى) : ( {فلا تزكوا أنفسكم} ) أي لا تمدحوها ولا تنسبوها إلى الطهارة ولا تفخروا بأعمالها. قال ابن عطية: ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه. ويحتمل أن يكون نهياً عن تزكية بعض بعضاً، وحينئذ فالمنهي عنه منه ما كان للدنيا أو القطع بالتزكية، وأما تزكية الإمام أو القدوة أحداً ليؤتمّ به أو ليتمم به الخير فجائزة، فقد زكى بعض أصحابه أبا بكر وغيره ( {هو أعلم بمن اتقى} ) فربما ينسبون أحداً إلى التقوى، والله يعلم أنه ليس كذلك، ولذا ورد في الحديث الصحيح «إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكى على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا أن يعلم ذلك» وأفعل التفضيل قيل هو بمعنى عالم، وقال الجمهور: بل هو على بابه: أي هو أعلم بالموجودين جملة (وقال تعالى) : ( {ونادى أصحاب الأعراف} ) وهو السور المضروب بينهما ( {رجالاً يعرفونهم بسيماهم} ) من رؤساء الكفار يقولون يا أبا جهل يا فلان يا فلان ( {قالوا} ) أي لهم ( {ما أغنى عنكم} ) أي لم ينفعكم، ويجوز أن تكون ما استفهامية: أي أيّ شىء نفعكم، بل قال ابن عطية إنه أصوب ( {جمعكم} ) أي كثرتكم التي كانت في الدنيا وجمعكم المال ( {وما كنتم تستكبرون} ) أي(5/52)
واستكباركم عن الحق وعدم انقيادكم له، ويقول أهل الأعراف لأولئك الكفار ( {أهؤلاء} ) المشار إليهم ضعفاء أهل الجنة الذين كان الكفار يحقرونهم في الدنيا ويسخرون بهم ويقسمون إنهم لا يدخلون الجنة كما قال ( {الذين أقسمتم} ) من القسم: الحلف ( {لا ينالهم الله برحمة} ) المراد منها هنا إدخال الجنة مجازاً مرسلاً، وقدمنا عن البدر الدمامينى أنه يتعين في بعض المواضع تأويل الرحمة بالإحسان ولا يجوز تأويلها فيه إرادة ذلك لأن المقام يأباه كما يتعين عكسه في بعض آخر ( {ادخلوا الجنة لا خوف عليكم} ) من مكروه يتوقع فأنتم مؤمنون ( {ولا أنتم تحزنون} ) على فوات محبوب لكم، وبناء الحكم على الضمير للتأكيد لما فيه من تكرار الإسناد، والمخاطب
بقوله: ادخلوا يحتمل أنه ضعفاء المؤمنين: أي قيل لهم ذلك، أهل الأعراف أي يقال لهم ذلك، أو لما عير أهل الأعراف أهل النار وقال أهل النار: إن دخل هؤلاء الجنة فوالله أنتم لا تدخلونها تعبيراً لهم، فقالت الملائكة: أهؤلاء؟ يعني أهل الأعراف الذين أقسمتم يا أهل النار إنهم لا ينالهم الله برحمة، ثم قالت الملائكة لهم: أدخلوا الجنة.
1602 - (وعن عياض) بكسر العين المهملة وتخفيف التحتية والضاد (ابن حمار) بكسر المهملة وتخفيف الميم على لفظ الحمار: الدابة المعروفة ابن أبي حمار بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم التميمي المجاشعي (رضي الله عنه) وقيل في نسبه غير هذا، نزل عياض البصرة وهو معدود من أهلها، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون حديثاً، روى منها مسلم حديثين كذا في «التهذيب» للمصنف (قال: قال رسول الله: إن الله أوحى إليّ) قال ابن رسلان: لعله وحي إلهام أو برسالة (أن تواضعوا) أن فيه مفسرة فالموحى هو الأمر بالتواضع، قال الحسن: التواضع أن تخرج من بيتك فلا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً. وقال أبو زيد: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شرّ منه فهو متكبر، وقيل التواضع الإنكسار والتذلل، ونقيضه التكبر والترفع، وقيل غير ذلك مما تقدم بعضه في الكلام على الترجمة. وقال القرطبى: التواضع الإنكسار والتذلل وهو يقتضي متواضعاً له:(5/53)
هو الله تعالى، ومن أمر الله بالتواضع له كالرسول والإمام والحاكم والعالم والوالد، فهذا التواضع الواجب المحمود الذي يرفع الله به صاحبه في الدارين، وأما التواضع لسائر الخلق فالأصل فيه أنه محمود ومندوب إليه ومرغب فيه إذا قصد به وجه الله تعالى، ومن كان كذلك رفع الله قدره في القلوب وطيب ذكره في الأفواه ورفع درجته في الآخرة. وأما التواضع لأهل الدنيا ولأهل الظلم فذاك الذل الذي لا
عزّ معه، والخيبة التي لا رفعة معها، بل يترتب عليه ذل الآخرة وكل صفقة خاسرة، وقد ورد «من تواضع لغني لغناه ذهب ثلثا دينه» (حتى) غاية للتذلل وكسر النفس وعدم النظر إليها: أي افعلوا ذلك إلى أن (لا يفخر) بفتح الخاء المعجمة ومصدره الفخر والاسم منه الفخار كسلام، قال في «المصباح» : هو المباهاة بالمكارم والمناقب من حسب ونسب وغير ذلك سواء كان فيه أو في آبائه، أي لا يباهي (أحد) مستعلياً بفخره (على أحد) ليس كذلك فالخلق من أصل واحد والنظر إلى العرض الحاضر الزائل ليس من شأن العاقل (ولا يبغي) بالنصب عطف على يفخر: أي وحتى لا يظلم ولا يتعدى (أحد على أحد) وذلك أن من انكسر وتذلل امتثالاً لأمر الله عزّ وجل حال ذلك بينه وبين الفساد والوقوع في الظلم والاعتداد والعناد (رواه مسلم) ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث عياض أيضاً.
2603 - (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: ما نقصت صدقة من مال) قيل هو عائد إلى الدنيا بالبركة فيه ودفع المفسدات عنه: أي ما ينقص منه بالصدقة يتدارك بما يحصل فيه من النماء ببركتها. وقيل إلى الآخرة بالثواب والتضعيف (وما زاد الله عبداً يعفو) عمن جنى عليه في نفس أو عرض أو مال أو نحو ذلك (إلا عزّاً) قيل في الدنيا، وقيل في الآخرة (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) فيه القولان فيما قبله، قال المصنف: ويجوز إرادة الوجهين معاً في الأمور الثلاثة (رواه مسلم) والحديث سبق مع(5/54)
الكلام عليه وعلى من خرّجه في باب الكرم والجود.
3604 - (وعن أنس رضي الله عنه إنه) بدل من أنس على تقدير مضاف: أي وعن قصة أنس أنه (مرّ على صبيان) بكسر المهملة، وضمها وسكون الموحدة بعدها تحتية جمع كثرة ويجمع في القلة على صبية بكسر المهملة أي على جماعة مميزين منهم (فسلم عليهم وقال: كان النبيّ يفعله) أي تواضعاً وكسراً للنفس، فإن من طبعها الترفع عن خطابهم فضلاً عن مؤانستهم بالسلام. قال ابن بطال: وفيه تدريبهم على آداب الشريعة وطرح رداء الكبر وتناول التواضع ولين الجانب وظاهر «كان» تكرر ذلك فإنها تفيده كما أشار إليه ابن الحاجب لكن عرفاً كما قيد ابن دقيق العيد: أي في مقام تقبله كما قال بعضهم، لكن نقل المصنف في «شرح مسلم» عن المحققين والأكثر من الأصوليين أنها لا تفيده (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الاستئذان من «صحيحه» كما قال الحافظ في «الفتح» . وأخرج النسائي حديث الباب بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزور الأنصار فيسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم ويدعو لهم» وهو مشعر بوقوع ذلك منه غير مرة، بخلاف سياق الباب حيث قال «مرّ على صبيان فسلم عليهم» فإنها تدل على أنها واقعة حال، قلت: قول أنس «كان النبيّ» يشعر بما تشعر به رواية النسائي، وقول ثابت «إنه مر الخ» لا ينافي ذلك لأن أنساً أشار إلى أن حكمة تسليمه عليهم الاتباع لكونه رآه كان يفعل ذلك، والله أعلم. قال: وأخرجه مسلم والنسائي وأبو داود بلفظ غلمان بدل صبيان. ووقع لابن السني وأبي نعيم في «اليوم والليلة» بلفظ «فقال: السلام عليكم يا صبيان» وعثمان بن مطر الراوي له عن ثابت رواه. ولأبي داود من طريق حميد عن أنس «انتهى إلينا النبي وأنا غلام في الغلمان فسلم علينا» الحديث.
4605 - (وعنه قال: إن) مخففة من الثقيلة: أي إنه (كانت الأمة) بفتح أوليه ولامه واو محذوفة أي الجارية (من إماء) بكسر الهمزة والمد بوزن كتاب: أي جواري أهل (المدينة) علم بالغلبة على دار هجرته (لتأخذ بيد النبيّ) اللام فيه فارقة بين المخففة والنافية(5/55)
(فتنطلق به حيث شاءت) ففيه مزيد تواضعه من وجوه: الأول أنها أمة وليست من وجوه الناس. الثاني أنها تأخذ بيده وذلك يدل على مزيد الانقياد. الثالث أنها تذهب به لحاجتها أيّ مكان كانت قريبة أو بعيدة، ففيه منه التحريض على ذلك والحث على سلوكه (رواه البخاري) في الأدب من «صحيحه» .
5606 - (وعن الأسود بن يزيد) بفتح التحتية الأولى وسكون الثانية وكسر الزاي وهو أبو عمرو، ويقال أبو عبد الرحمن الأسود بن يزيد بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة ابن سلامان بن كهيل النخعي الكوفي التابعي الجليل. قال أحمد بن حنبل: هو ثقة من أهل الخير، واتفقوا على توثيقه وجلالته، روينا عن ميمون بن حمزة قال: سافر الأسود ثمانين حجة وعمرة لم يجمع بينهما اهـ ملخصاً من «التهذيب» (قال: سألت عائشة رضي الله عنها ما كان النبيّ يصنع) هو أخص من الفعل كما قاله البيضاوي في سورة المائدة (في بيته) أي منزله (قالت: يكون في مهنة أهله) قال في «المصباح» : المهنة أخص من المهن كالضربة والضرب، وقيل المهنة بالكسر لغة، وأنكرها الأصمعي وقال: الكلام في الفتح وهو في مهنة أهله: أي في خدمتهم، وفي «النهاية» الرواية بفتح الميم الخدمة وقد تكسر. وقال الزمخشري: وهو عند الإثبات خطأ، قال الأصمعي: المهنة بفتح الميم الخدمة ولا يقال المهنة بالكسر، وكان القياس لو قيل مثل جلسة وخدمة إلا أنه جاء على فعلة واحدة اهـ. وفي بعض «حواشي الشفاء» : المهنة الخدمة بفتح الميم، وكسرها خطأ، قاله سمرة، وقال غيره: فيه الكسر وأنكر الفتح. وفي «شرح ابن أقبرس» : قيل الفتح أفصح وأنكره البعض، وقيل الكسر أفصح، وأنكره البعض الآخر ووجه لغة الكسر على وزن خدمة اهـ (تعني) أي عائشة بقولها في مهنة أهله (في خدمة أهله) وقد فسرت المهنة بما رواه عياض في الشفاء والحسن وأبو سعيد وغيرهم في صفته قال وبعضهم يزيد على بعض «كان في بيته في مهنة أهله يفلي ثوبه ويحلب شاته ويرقع ثوبه ويخصف نعله ويخدم نفسه ويعلف ناضحه ويقمّ البيت ويعقل البعير ويأكل مع الخادم ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق»(5/56)
الله. هـ، وظاهر عبارة المصنف أن تعني الخ قول الأسود، ويحتمل أن تكون قول من دونه، وهذا التفسير لم أجده في أصلين مصححين من البخاري، وبه يظهر أنه من صنيع المؤلف فيكون مخالفاً لعادته في
مثله من تأخيره عن سوق الحديث بجملته، ثم بيان مخرجه ثم غريبه، وكونه يباشر خدمة أهله من مزيد فضله وكمال تواضعه، إذ سيد القوم خادمهم، وظاهر أن المراد من قوله كان كذلك في بيته إذا انفرد بهم ولم يكن ثم ما هو أهم منه وإلا اشتغل بالأهم (فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة) أي مبادراً لأدائها تحريضاً على فعلها أول وقتها الذي جاء في الصحيح أنه أفضل الأعمال (رواه البخاري) في الصلاة وفي النفقات في الأدب من «صحيحه» ، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» وقال: حسن صحيح.
6607 - (وعن أبي رفاعة) بكسر الراء وخفة الفاء وإهمال العين (تميم) بفتح الفوقية وكسر الميم الأولى بينهما تحتية ساكنة (ابن أسيد) قال الحافظ العسقلاني في «تبصير المنتبه» اختلف فيه هل هو بضم الهمزة مصغراً أو أسد بفتح أوليه مكبراً، ابن عبد العزّى بن جعونة بن عمرو بن العين بن رزاح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو الخزاعي (رضي الله عنه) قال في «أسد الغابة» : أسلم وولاه النبيّ تجديد أنصاب الحرم وإعادتها، نزل مكة قاله ابن سعد اهـ. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر حديثاً فيما يؤخذ من كلام ابن الجوزي في «المستخرج المليح» . أخرج له مسلم هذا الحديث الواحد ولم يخرّج عنه البخاري شيئاً (قال: انتهيت إلى النبيّ وهو يخطب) أي خطبة الجمعة (فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه) كل من الجملتين الفعليتين محتمل لكونه صفة رجل من الوصف بالجملة بعد المفرد كقوله تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} (الأنبياء: 50) ومحتمل لكونه حالاً، إما كلاهما من رجل لتخصيصه بالوصف فيكونان مترادفين أو الأول منه كذلك، والثاني من المستكنّ في جاء فيكونان متداخلين، والمراد يسأل عما يلزمه عمله حالاً من الأحكام الدينية (لا يدري ما دينه) أي ما هو، وجملة الاستفهام معلقة للفعل قبلها عنها. قال المصنف: وفي(5/57)
قوله رجل غريب إلى قوله ما دينه استحباب تلطف السائل (فأقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك خطبته حتى انتهى إليّ فأتى) بالبناء للمفعول (بكرسي) بضم الكاف وفتحها والضم أشهر وتشديد الياء (فقعد عليه رسول الله) أي ليسمع باقي الناس الحاضرين كلامه ويروا شخصه الكريم (وجعل) أي شرع (يعلمني مما علمه الله) أي من الدخول في الإسلام والإيمان وما يجب الإيمان به (ثم أتى خطبته فأتم آخرها) قال المصنف: فيه كمال تواضعه ورفقه بالمسلمين وكمال شفقته عليهم وخفض جناحه لهم. وفيه المبادرة إلى جواب المستفتي وتقديم أهم الأمور فأهمها،
ولعله كان يسأل عن الإيمان وقواعده المهمة.t وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وجبت إجابته وتعليمه على الفور، ويحتمل أن هذه الخطبة التي كان النبيّ فيها خطبة أمر غير الجمعة فلذا قطعها بهذا الفصل الطويل، أو كان كلامه لهذا الغريب متعلقاً بالخطبة فيكون منها ولا يضرّ المشي في أثنائها (رواه مسلم) في أبواب الجمعة من «صحيحه» ، ورواه النسائي في «سننه» .
7608 - (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أكل طعاماً) أي ملوّثاً كالمائعات (لعق) بكسر المهملة وبالقاف (أصابعه الثلاث) الإبهام والمسبحة والوسطى يبدأ بالوسطى لأنها أكثر تلويثاً إذ هي أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما ينزل في الطعام ثم السبابة ثم التي تليها لخبر الطبراني في «الأوسط» «ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها، الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام» واعترض ذلك بأن نسبة الثلاث للفم سواء غفلة عن الخبر والمعنى المذكورين. وفيه رد على من كره لعق الأصابع استقذاراً. قال الخطابي: عاب قوم أفسد قلوبهم الترفه لعقها وزعموا أنه مستقبح كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي علق بالأصابع جزء ما أكلوه، وإذا لم يستقذر كله فلا يستقذر بعضه، وليس فيه أكثر من مصها بباطن الشفة، ولا يشك عاقل أن لا بأس بذلك، وقد(5/58)
يدخل إنسان أصبعه في فيه ويدلكه ولم يستقذر ذلك أحد اهـ. ويؤيده أن الاستقذار إنما يتوهم في اللعق أثناء الأكل لأنه يعيدها في الطعام وعليها آثار ريقه وذلك غير سنة. وظاهر أن الكلام فيمن استقذر ذلك من حيث هو لا مع نسبته للنبي إذ من استقذر شيئاً من أحواله كفر، قاله في أشرف الوسائل (قال) أي أنس (وقال) أي النبيّ (إذ سقطت لقمة) بضم اللام (أحدكم فليمط) بضم التحتية: أي يزل (عنها الأذى) الذي لابسها عند سقوطها (وليأكلها) كسراً لنفسه في إبائها بحسب الطبع واستنكافها من تناولها بعد ملاقاتها ما سقطت عليه (ولا يدعها) بالجزم عطف طلبي على مثله: أي لا يتركها (للشيطان وأمر) عطف على قال (أن تسلت) بضم الفوقية: أي تلعق (القصعة) بفتح القاف وجمعها قصع بكسر ففتح وهي التي يأكل عليها عشرة أنفس كما في «مهذب الأسماء» ، والصحفة هي التي يأكل عليها خمسة أنفس على ما في «الصحاح» و «المهذب» ، وقيل هما واحدة، والمراد بالقصعة هنا مطلق الإناء الذي فيه الأدم المائع (قال: فإنكم لا
تدرون) أي لا تعلمون (في أيّ طعامكم البركة) أي هي في المأكول أم في الباقي بالأصابع والقصعة أو في الساقط. قال المصنف في شرح «مسلم» : معنى قوله فإنكم لا تدرون الخ: أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة، فلا يدري أهي فيما أكل أو فيما سقط أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي بأسفل الصحفة؟ فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصيل البركة. وأصل البركة: الزيادة وثبوت الخير والانتفاع به، والمراد هنا - والله أعلم - ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوّي على طاعة الله وغير ذلك اهـ (رواه مسلم) في الأطعمة من «صحيحه» ورواه أبو داود في الأطعمة من «سننه» والنسائي في الوليمة من «سننه» ومداره عندهم على حماد بن أسامة عن ثابت عن أنس، وقد تقدم الحديث في باب الأمر بالمحافظة على السنة من حديث جابر.
8609 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ما بعث) أي نبأ أو أرسل (الله نبيا إلا رعى الغنم) ليتدرب برعايتها إلى رعاية أمته الذين يدعوهم إلى ما أوحي إليه من الشرائع (قال أصحابه: وأنت) أي وأنت رعيتها أخذاً بعموم «نبياً» المذكور من نكارته في سياق النفي أو(5/59)
لست كذلك، والمراد من عداك لأن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه فيكون عاماً: أي أريد به خاص فيكون مجازاً (قال: نعم) أي أنا منهم في ذلك، وبين ما قد يكتفي بدلالة نعم عليه بقوله (كنت أرعاها) زيادة في الإيضاح وتنبيهاً على التواضع وأن تعاطي الكامل ما فيه كسر النفس وعدم النظر إليها لا يخلّ من كمالها ما لم يكن فيه إخلال بمروءة أو وقوع في منهيّ عنه (على قراريط) اسم مكان بمكة وقيل جزء من الدرهم والديناري (لأهل مكة) متعلق بأرعاها ففيه أن الكسب لا يخل بالكمال، ويحتمل كونه ظرفاً مستقراً لقرار بناء على أنه اسم مكان بمكة (رواه البخاري) وتقدم مع شرحه وتخريجه في باب استحباب العزلة.
9610 - (وعنه عن النبي قال: لو دعيت إلى كراع) بضم الكاف وتخفيف الراء آخره عين مهملة: وهو من الدابة ما بين الركبتين إلى الساق، وقيل هو اسم مكان، ولا يثبت. ويرده حديث أنس عند الترمذي بلفظ «لو أهدي إليّ كراع لقبلت» وللطبراني في حديث أم حكيم الخزاعية «قلت: يا رسول الله، يكره ردّ الظلف؟ قال: ماأقبحه، لو أهدي إليّ كراع لقبلت» الحديث (أو ذراع) قال الحافظ: خص الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الخطير والحقير، لأن الذراع كانت أحبّ إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له، وفي المثل: أعط العبد كراعاً يطلب ذراعاً (لأجبت ولو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت) قال ابن بطال: أشار إلى الحض على قبول الهدية، وإن قلت لئلا يمتنع الباعث من الهدية لاحتقار الشيء فحض على ذلك لما فيه من التآلف، وفي الحديث إجابة الداعي وإن قلّ المدعو إليه، وفي ذلك كله تحريض على التواضع وحث على تعاطي ما يبعث على التآلف ويغرس الوداد (رواه البخاري) في الهبة وفي النكاح من «صحيحه» ، ورواه النسائي في الوليمة من «سننه» .
10611 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كانت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضباء) بفتح المهملة(5/60)
وسكون المعجمة بعدها باء موحدة فألف ممدودة. قال المصنف في «شرح مسلم» : قال ابن قتيبة: كانت للنبي نوق: القصوى، والجدعاء والعضباء، قال أبو عبيدة: العضباء اسم لناقة النبي، ولم تسم بذلك لشىء أصابها. قلت: وفي «تحفة القاري» للشيخ زكريا: ناقته لم تكن عضباء ولا قصوى، وإنما كان ذلك نعتاً لها، قاله الجوهري اهـ. وهو موافق لأبي عبيدة، ثم نقل عن القاضي أحاديث فيها ذكر الناقة قال: فهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة خلاف ما قاله ابن قتيبة، وأن هذا كان اسمها أو وصفها بهذا الذي بها خلاف ما قاله أبو عبيدة، لكن يأتي أن القصوى غير العضباء. قال الحربيّ: العضب والجدع: الخرم والقصوى والخضرمة في الأذن. قال ابن الأعرابي: القصوى التي قطع طرف أذنها، والجدع أكبر منه. وقال الأصمعي في القصوى مثله، قال: وكل قطع في الأذن جدع، فإن جاوز الربع فهي عضباء، والمخضرمة المستأصلة، والعضباء المقطوعة النصف فما فوقه. وقال الخليل: المخضرمة مقطوعة الأذن، والعضباء مشقوقة الأذن. قال الحربي: والحديث يدل على أن العضباء اسم لها وإن كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها، هذا كلام القاضي. وقال إبراهيم بن محمد التيمي التابعي وغيره: العضباء والقصوى والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. وفي «فتح الباري» اختلف هل العضباء هي القصوى أو غيرها؟ فجزم الحربي بالأول وقال: تسمى العضباء والقصوى والجدعاء، وروى ذلك ابن سعد عن الواقدي، وقال بالثاني غير وقال: الجدعاء كانت شهباء، وكان لا يحمله عند نزول الوحي غيرها، وذكر له عدة غير هذه جمعها من اعتنى بجميع سيره (لا تسبق أو) شك من حميد الراوي عن أنس كما صرّح به البخاري في كتاب الجهاد من «صحيحه» فقال حميد أو (لا تكاد) تقارب (تسبق) وهو في باقي الروايات «لا تسبق» بغير شك (فجاء أعرابي)
هو ساكن البادية. قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا الأعرابي بعد التتبع الشديد (على قعود له) بفتح القاف: هو ما استحق الركوب من الإبل، قال الجوهري: هو البكر حتى يركب، وأقل ذلك أن يكون ابن سنتين إلى أن يدخل في السادسة فيسمى جملاً. وقال الأزهري: لا يقال إلا للذكر، ولا يقال للأنثى قعود إنما يقال لها قلوص، قال: وقد حكى الكسائي في النوادر قعودة للقلوص وكلام الأكثر على غيره. وقال الخليل: القعود ما يعتقده الراعي يحمل متاعه والهاء فيه للمبالغة (فسبقها فشق ذلك) أي سبقها (على المسلمين حتى عرفه) أي عرف النبيّ شق السبق عليهم. وفي الرقاق من البخاري: فلما رأى ما في وجوههم(5/61)
وقالوا: أي سبقت العضباء (فقال) النبيّ من حسن خلقه إذهاباً لذلك الغضب من نفوسهم: إن هذا السبق لهذه من جنس ما جرت به الأقضية الإلهية من ضعة المرتفع من الدنيا فيها كائناً ما كان (حق) أي واجب (على الله) تعالى لقضائه به على ذاته (ألاّ يرتف شيء من الدنيا) من مال أو جاه أو غيرها ذلك من زهرات الدنيا وما ينظر إليه منها (إلا وضعه) ففيه التزهيد في الدنيا وإغماض الطرف عن زهراتها، فإنها تتناهى في مكان من النظر الفائق إذا بها صارت بأدنى حال ما لم تنظر إليها العيون. قال ابن بطال: فيه هوان الدنيا على الله والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة، وفيه الحث على التواضع وطرح رداء التكبر والإعلام بأن أمور الدنيا ناقصة غير كاملة، وفيه ما كان عليه لحسن خلقه من إذهاب ما يشق على أصحابه عنهم وما كان قصد به من الدنيا التقرّب إلى الله تعالى فليس منها إنما هو فيها فلا يدخل تحت هذا الخبر، بل لا يزال مرفوعاً دنيا وأخرى، وفيه تواضعه إذ سابق أعرابياً (رواه البخاري) في الجهاد وفي الرقاق من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الجهاد من «سننه» .
72 - باب تحريم الكبر
هو: احتقار المرء غيره وازدراؤه له، والكبر على الله كفر بأن لا يطيعه ولا يقبل أمره، فمن ترك أمر الله أو وقع في منهيه استخفافاً به تعالى فهو كافر، وأما من تركه لا على سبيل ذلك بل لغلبة الشهوة أو الغفلة فعاص. والتكبر على الخلق وهو ما عرّف به الكبر في الترجمة فعصيان إن لم يكن فيه استخفاف الشرع، وإلا كأن يحقر نبياً أو ملكاً أو عالماً عن اعتقاد حقارة العلم فذاك كفر أيضاً قاله المظهري (والإعجاب) أي النظر إلى النفس بعين الكمال والفخر بما فيها من علم أو صلاح صورى أو عندها من مال أو جاه (قال الله تعالى) : ( {تلك الدار الآخرة} ) الإشارة لتعظيم الآخرة: أي التي سمعت بذكرها، أو بلغك وصفها هي(5/62)
الدار الآخرة ( {نجعلها} ) إما خبر تلك والدار صفة أو الدار خبره، والجملة استئناف أو خبر بعد خبر ( {للذين} ) أو حال من الدار والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ( {لا يريدون علواً} ) كبراً أو استكباراً ( {في الأرض} ) يحتمل أن يكون مستقراً على أنه صفة لما قبله، ويحتمل أن يكون لغواً متعلقاً به ( {ولا فساداً} ) عملاً بالمعاصي أو دعوة الخلق إلى الشرك ( {والعاقبة} ) الحسنى ( {للمتقين} ) عن معاصيه (وقال تعالى) : ( {ولا تمش في الأرض مرحاً} ) بفتح أوليه عند الجمهور وسيأتي معناه في الأصل وهو مصدر في موضع الحال أي مرحاً أو ذا مرح أو مفعول له. قلت: فيكون كقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس} (الأنفال: 47) ويجوز أن يكون مفعولاً من معناه مطلقاً عامله: أي لا تمرح مرحاً وقرىء بكسر الراء منصوب على الحال، وفضل أبو الحسن المصدر على اسم الحال لما فيه من التأكيد: أي والمبالغة، ولم يظهر حكمة إيراد هذه الآية مع أنها من جملة التي بعدها، ولعل المصنف كتبها قبل استحضار ما بعدها ثم رأى إبقاءها وإن اشتمل ما بعدها عليها تأكيداً في النهي عن ذلك بذكر ما فيه النهي عنه المرة بعد الأخرى (وقال تعالى) : ( {ولا تصعر خدك
للناس} ) كما يفعله المتكبر أي تعرض وجهك عنهم إذا حدثوك تكبراً ( {ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب} ) أي لا يوافق ( {كل مختال فخور} ) ذي خيلاء أي تكبر يفخر على الناس ولا يتواضع لهم. وقوله إن الله الخ مستأنفة على النهي (ومعنى تصعر خدك) برفع تصعر كما يومىء إليه قوله (أي تميله) إذ لو كان المفسر مجزوماً لكان المفسر كذلك لأن ما بعد أي عطف بيان لما قبله أو بدل منه والمراد تميله عن مخاطبك (وتعرض عن الناس) حال خطابهم لك (تكبراً عليهم) مفعول له بخلاف ما إذا به كانت الإمالة والإعراض عن الناس المخاطبين تأديباً لهم لكونهم وقعوا في منكر أو تركوا معروفاً(5/63)
فذلك لا يكون تصعيراً بل هو مندوب، فقد أمر بمهاجرة الثلاثة المخلفين حتى نزلت توبتهم، وفي الحديث «من أحبّ لله وغضب لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (والمرح) أي بفتح أوليه مصدر معناه (التبختر) وذلك يكون عن الإعجاب النفس واحتقار الناس.
(وقال تعالى) : ( {إن قارون} ) اسم أعجمي فلذا منع من الصرف (كان من قوم موسى) ابن عمه كما قال ابن جريج وإبراهيم النخعي وهو أشهر الأقوال، وقال ابن إسحاق: هو عمه، وقيل هو ابن خالته، وهو بالإجماع من بني إسرائيل آمن بموسى وحفظ التوراة ثم لحقه الزهو والإعجاب (فبغى) أي تكبر (عليهم) بأنواع من البغي، من ذلك كفره بموسى واستخفافه به ورميه له بما رماه من البغي فبرأه الله من ذلك، وقيل كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فظلمهم وبغى عليهم، وقيل بغى بكثرة ماله، وقيل بزيادة في طول ثيابه شبراً وقيل بالكبر والعلو (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه) جمع مفتاح، وهو ما يفتح به الباب، وقيل خزائنه، قال ابن عطية وأكثر المفسرون في شأن قارون: فروي أن في الإنجيل أن مفاتيح قارون كانت من جلود الإبل، وكان المفتاح من نصف سير وكانت وقر ستين بعيراً أو بغلاً لكل كنز مفتاح، وقد روي غير هذا مما يقرب منه، وذلك كله ضعيف، والنظر يشهد بفساده، ومن كان الذي يميز بعضها عن بعض وما الداعي إلى هذا وفي الممكن أن ترجع كلها إلى مالا يحصى ويقدر على حصره بسهولة، ولكان يقال مفاتيح بالياء كما قرىء به شاذاً، والذي يشبه على هذا أن تكون المفاتيح من حديد ونحوه وفي «النهر» قيل أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليه السلام، وقيل سمى ماله كنوزاً لأنها كانت لا تزكى، وبسبب ذلك كانت أول معاداته لموسى. وفي «تفسير الكواشي» قيل: سبب كثرة ماله أنه كان يعلم الكيمياء ويعلمها وما موصولة ثاني مفعولي آتى وصلتها إن ومعمولاها ( {لتنوء بالعصبة} ) أي الجماعة الكثيرة ( {أولي القوة} ) والجملة خبر إن، ومعنى تنوء: تثقل. قال أبو حيان: الصحيح أن الباء للتعدية: أي لتثقل على العصبة أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها يتعب حفظها القائمين عليها اهـ. وهو ما نحاه سيبويه وشيخه الخليل فجعلا الباء للتعدية وقالا: التقدير لتنوء العصبة، فجعل بدل ذلك تعدية الفعل بحرف الجر(5/64)
كما
تقول: ناء الحمل وأناءه ونؤت به بمعنى جعلته ينوء، وجعله ابن عطية من باب القلب فقال: والوجه أن يقال لتنوء العصبة بالمفاتيح المثقلة لها، وكذا قال كثير من المتأولين إن المراد هذا، لكنه قلب كما تفعله العرب كثيراً، ثم نقل ما تقدم عن سيبويه: ثم قال: ويحتمل أن تنوء مسند إلى المفاتيح إسناداً مجازياً لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها. والعصبة قال ابن عباس: ثلاثة، وقال قتادة: من العشرة إلى الأربعين، وقال مجاهد خمسة عشر، وقيل أحد وعشرون. وقيل أربعون ( {إذ قال له قومه} ) قال «البيضاوي» «كالكشاف» منصوب بتنوء، قال في «النهر» : وهو ضعيف جداً لأن إيناء المفاتيح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه له. وقال ابن عطية: متعلق ببغى، قال أبو حيان: وهذا ضعيف أيضاً لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول. قال ابن عطية أيضاً: ويجوز أن يكون ظرفاً لمحذوف دل عليه الكلام: أي بغى عليهم وقت قولهم له. قال في «النهر» : ويظهر لي أن يكون التقدير: وأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز وقت قولهم له (لا تفرح) أي فرحاً مطغياً، وهو انهماك النفس والأشر والإعجاب، ونهى عنه لأن الفرح بالدنيا مذموم لأنه ينتجه حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بمفارقة ما فيها من اللذات لا محالة يوجب النزع، قال الشاعر:
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالاً
وعلل النهي هنا بقوله ( {إن الله لا يحبّ الفرحين} ) أي بزخارف الدنيا، قال ابن عطية: لا يحبّ في هذا الموضع صفة فعل لأنه أمر قد وقع لا محالة، فمحال أن يرجع إلى الإرادة وأنها هو، لا تظهر عليهم بركته ولا تعمهم رحمته ( {وابتغ} ) أي اطلب ( {فيما آتاك الله} ) من المال ( {الدار الآخرة} ) بأن تصرفه في مرضاة الله تعالى ( {ولا تنس نصيبك من الدنيا} ) (القصص: 77) أي ما ينفعك منها في المآل وما هو إلا الأعمال الصالحة فنصيب الإنسان من الدنيا عمره وعمله الصالح فيه فلا ينبغي أن يهمله، وقيل هو أخذ ما يكفيك منها(5/65)
( {وأحسن} ) فيما أنعم الله عليك ( {كما أحسن الله إليك} ) وقيل أحسن بالشكر والطاعة، كما أحسن إليك بالإنعام (ولا تبغ) أي تطلب (الفساد في الأرض) بأمر يكون علة للظلم والبغي، قيل كل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض ( {إن الله لا يحبّ المفسدين} ) لسوى أفعالهم (قال) أي لما وعظه قومه وأخذته العزّة بالإثم وأعجب بنفسه ( {إنما أوتيته على علم عندي} ) أي فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلاً لهذا ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره. واختلف في هذا العلم فقيل علم التوراة وحفظها، قالوا: وكانت هذه مغالطة منه، وقيل العلم بالتجارة ووجوه تثمير المال فكأنه قال أوتيته بإدراكي وسعيي، وقيل علم الكيمياء، وقيل مراده إنما أوتيته على علم من الله وتخصيص من لدنه قصدني به: أي فلا يلزمني فيه شيء مما قلتم، وعلى هذا فقوله عندي خبر مبتدأ: أي هذا عندي كما تقول: في معتقدي أو في رأيي، وعلى كلا الوجهين فقد نبه القرآن على خطئه في اعتزازه ( {أولم يعلم} ) عطف على مقدر: أي عنده مثل ذلك العلم الذي ادعى ولم يعلم ( {أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوّة وأكثر جمعاً} ) فلا تدل كثرة المال على أن صاحبها يستحق رضا الله ليبقى بعلمه بذلك نفسه مصارع الهالكين ( {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} ) سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليه أو
معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة فلا ينافي الآيات التي فيها سؤال المجرمين لأنه سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت ( {فخرج على قومه في زينته} ) قال ابن عطية: أكثر المفسرون في تحديد زينة قارون وتعيينها بما لا حجة له فاختصرته (
{قال الذين يريدون الحياة الدنيا} ) على ما هو عادة الناس من الرغبة فيها ( {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون} ) تمنوا مثله لاعينه حذراً عن الحسد ( {إنه لذو حظ} ) أي نصيب ( {عظيم} ) من الدنيا ( {وقال الذين أوتوا العلم} ) أي الأحبار لمن تمنى (ويلكم) دعاء بالهلاك استعمل للزجر عما لا يرضى ( {ثواب الله} ) في الآخرة ( {خير} ) مما أوتي قارون ( {لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها} ) الضمير للكلمة التي تعلم بها العلماء أو للثواب فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو الإيمان والعمل الصالح فإنهما في معنى السيرة والطريقة، وجرى ابن عطية على أن الضمير عاد إلى غير مذكور لفظاً دل عليه المقام كهو في حتى توارت بالحجاب، وكل من عليها فان ( {إلا الصابرون} ) أي على الطاعات وعن الشهوات وهذا جماع الخيرات كلها ( {فخسفنا به} )(5/66)
أي بقارون ( {وبداره الأرض} ) وذلك لدعاء موسى عليه وأمر الله الأرض بطاعة موسى فقال لها: يا أرض خذيهم فأخذته ومن معه، ففي الآيات شؤم البغي وسوء مصرع الكبر، قال الشاعر:
والبغي مصرع مبتغيه وخيم
1612 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ قال: لا يدخل الجنة) أي أبداً إن استحلّ ما يأتي مع علمه بتحريمه، والمراد من في قلبه كبر عن الإيمان. وقيل لا يدخلها ذو كبر: أي لا يكون في قلبه شيء منه حال دخولها، قال تعالى {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ} قال المصنف: وهذا كتأويل الخطابي فيهما بعد، فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر الآتي معناه في الحديث، فلا ينبغي حمله على هذين المخرجين له عن المطلوب، بل الظاهر ما اختاره عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخلها دون مجازاة إن جازاه، وقيل هذا جزاؤه إن جازاه وقد تكرم بأنه لا يجازيه، بل لا بد أن يدخل كل الموحدين الجنة إما أولاً وإما ثانياً بعد تعذيب أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها، وقيل لا يدخلها مع المتقين أول وهلة (من في قلبه مثقال ذرة) أي زنة نملة صغيرة أو جزء من أجزاء الهباء (من كبر) بكسر فسكون (فقال رجل) هو مالك بن مرارة بضم الميم الرهاوي بفتح الراء فيما ذكره الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، وبضمها كما يؤخذ من كلام الجوهري في «صحاحه» وكون القائل مالكاً، قاله القاضي عياض وأشار إليه ابن عبد البرّ وقد جمع ابن بشكوال الحافظ في اسمه أقوالاً من جهات فقال: هو أبو ريحانة واسمه شمعون ذكره ابن الأعرابي. وشمعون قال المصنف بالشين المعجمة وإهمال العين وإعجامها، وقيل ربيعة ابن عامر ذكره عليّ ابن المديني في «الطبقات» . وقيل سواد بالتخفيف ابن عمرو ذكره ابن السكن، وقيل معاذ بن جبل ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع. وقيل مرارة الرهاوي ذكر أبو عبيد في غريب الحديث، وقيل عبد الله بن عمرو بن العاص ذكره عمر في «جامعه» ، وقيل خُريم بن فاتك هذا ما ذكره ابن بشكوال ذكره المصنف في «شرح مسلم» (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال: إن اللَّه جميل يحب الجمال) أي فليس ذلك من(5/67)
الكبر: أي إذا لم يكن على وجه الفخر والخيلاء والمباهاة بل
على سبيل إظهار نعمة الله امتثالاً لقوله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى: 11) واختلف في معنى قوله «إن الله جميل» فقيل معناه: كل أمره جميل فله الأسماء الحسنى والصفات العلا. وقيل جميل بمعنى مجمل ككريم بمعنى مكرم. وقال القشيري: معناه جليل. وحكى الخطابي أنه بمعنى ذي النور والبهجة: أي مالكها. وقيل معناه جميل الأفعال بكم والنظر إليكم، يكلفكم اليسير ويغنيكم عن الكثير ويثيب الجزيل ويشكر عليه. واعلم أن هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الآحاد، وورد أيضاً في الأسماء الحسنى وفي إسناده مقال، والمختار جواز إطلاقه عليه تعالى. ومن العلماء من منعه، قال إمام الحرمين: ما ورد في الشرع إطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه، وما منع الشرع من إطلاقه منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم لأن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع، ولو قضينا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكماً بغير الشرع، قال: ثم لا يشترط في جواز الإطلاق ورود ما يقطع به في الشرع ولكن ما يقتضي العمل وإن لم يوجب العلم فإنه كاف، إلا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل، ولا يجوز التمسك بها في تسمية الله تعالى ووصفه، هذا كلام إمام الحرمين ومحله من الإتقان والتحقيق بالعلم مطلقاً، وبهذا العلم خصوصاً معروف بالغاية العليا، وكذا قال القاضي عياض: الصواب جواز العمل في ذلك بخبر الآحاد لاشتماله على العمل: أي بأن يدعي بها ويثني على الله بها، وذلك عمل لقوله
{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (الأعراف: 180) (الكبر بطر الحق) وعدم الانقياد له (وغمط الناس. رواه مسلم) في كتاب الإيمان من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في كتاب اللباس من «سننه» ، والترمذي في البرّ والصلة من «جامعه» ، والنسائي في السنة من «سننه» ، ومداره عندهم على الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود اهـ ملخصاً من «الأطراف» (بطر) بفتح الموحدة والطاء والراء المهملتين (الحق دفعه) قال في «النهاية» : هو أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده وعبادته باطلاً. وقيل هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله اهـ. قلت: وعليه فالدفع على المعنى الأول عدم الإذعان لذلك، وعلى المعنى الثاني عدم الانقياد. ومن الأول آية النساء {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} (النساء: 65) الآية. ومن الثاني آية النور في صفة المنافقين {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم(5/68)
معرضون} (النور: 48) أقول: إن جعلت أل في الحق للاستغراق فالكبر لا يكون إلا من الكافر وهو لا يدخلها أبداً، وإن أريد بالحق بعض أفراده: أي ما عدا الإيمان من أحكام الشرع كان الكبر موجوداً في الكافر والمؤمن، لأنه قد يمتنع من الانقياد له عصياناً ولا يخرجه ذلك عن إيمانه، ويؤيد إرادة الثاني قوله (ورده على قائله) أي كائناً من كان من كبير أو صغير جليل أو حقير، وذلك الدفع والردّ قد صدرا منه ترفعاً وتجبراً، أما لو لم يتضح له حقيقة أمر ولم ينقد له ورده على قائله لا تكبراً عن الحق ولا ترفعاً عليه بل لعدم ظهور أن ذلك من الحق عنده فلا يكون من الكبر، وقد تقدم في التواضع أنه قبول الحق والإذعان له من غير نظر لقائله فهذا ضده (وغمط الناس) بفتح الغين المعجمة وسكون الميم وبالطاء المهملة، قال: وبالظاء ذكره أبو داود في «مصنفه» ، وذكره أبو عيسى الترمذي وغيره بالصاد المهملة وهما بمعنى واحد، وهو ما بينه المصنف بقوله (احتقارهم) يقال في الفعل منه غمطه يغمطه
من باب ضرب، وجاء من باب علم.
2613 - (وعن سلمة) بفتح أوليه (ابن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً) تقدم تعيينه مع الكلام على الحديث وشرحه في باب المحافظة على السنة (أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله) يحتمل أن يكون فعله لذلك ابتداء جهلاً بالسنة ثم لما عرفها كما قال (فقال) يعني النبيّ (كل بيمينك) أي كما هو الأدب المندوب المحبوب، أخذته نفسه فلم ينقد للحق واعتذر بما ليس كذلك في الواقع (فقال: لا أستطيع) أي الأكل بها أي لعلة تمنع من إعمالها (فقال: لا استطعت) ويحتمل أن يكون ذلك منه من أوّل الأمر عناداً واستكباراً فأصابه ما أصابه، وقوله (ما منعه إلا الكبر) جملة مستأنفة لبيان الذي اقتضى دعاءه عند ذلك مع كمال رحمته ومزيد عفوه وصفحه: أي إنه لما علم أن المانع له عن الانقياد كبره عن الحق ودفعه له دعا عليه، ففيه الدعاء على من قصد الخروج عن الشريعة عمداً (قال) أي سلمة (فما رفعها) أي فما رفع المدعو عليه شماله (إلى فيه) إجابة لدعائه، وقدمنا ثمة أنه(5/69)
كان مؤمناً خلافاً لما قال القاضي عياض إنه كان من المنافقين (رواه مسلم) في باب الأطعمة من «صحيحه» .
3614 - (وعن حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة (ابن وهب) وهو الخزاعي أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه، ذكره ابن الأثير في «أسد الغابة» وقال روى عنه أبو إسحاق السبيعي ومعبد بن خالد الجهني ثم أخرج عنه الحديث الذي فيه الكلام ولم يزد عليه في ترجمته (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألا أخبركم بأهل النار؟) أي بأغلبهم (كل عتلّ) بضم المهملة والفوقية وتشديد اللام: أي غليظ جاف (جواظ) بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة: أي جموع منوع. وقيل المختال في مشيته (مستكبر) وفي التعبير بتاء الاستفعال إيماء إلى أن داء الكبر يطلبه لنفسه وليس هو له، بل الذي له العبودية والتذلل، والكبرياء لله سبحانه (متفق عليه. وتقدم شرحه) ومن خرّجه (في باب ضعفة المسلمين) وكذا ذكر في الباب المذكور الحديث عقبه.
4615 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: احتجت الجنة والنار) قال المصنف: هو على ظاهره، وإن الله تعالى جعل فيهما تمييزاً يدركان به فتحاجا، ولا يلزم من ذلك دوام التمييز لهما (فقالت النار: فيَّ الجبارون) قال الراغب في «مفرداته» :(5/70)
الجبار في صفة الإنسان يقال لمن تجبر بمعصية بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، ولا يقال إلا على طريق الذم نحو {وخاب كل جبار عنيد} (إبراهيم: 15) ويقال للقاهر غيره جبار نحو {وما أنت عليهم بجبار} (ق: 45) اهـ. قلت: والأنسب هنا المعنى الأول بقرينة قرينه وهو (والمتكبرون) وأنه جاء عند أبي هريرة «أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين» كما سيأتي، ويحتمل المعنى الثاني ويراد يجبر غيره على الباطل فيكون مذموماً إذ الجبر على الحق لمن تمكن منه محمود، وفي التعبير بصيغة التفعيل إيماء إلى ما تقدم فيما قبله من تكلف المتكبر صفة التكبر وادعائه ما ليس له (وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس) جمع ضعيف وألفه ممدودة: أي الخاضعون لله سبحانه المذلون أنفسهم له (ومساكينهم) جمع تكسير لمسكين: أي ذوو حاجاتهم من فقير ومسكين قال الشافعي رضي الله عنه: الفقير والمسكين إذا اجتمعا: أي في الذكر افترقا: أي في المعنى، وإذا افترقا: أي بأن ذكر أحدهما فقط اجتمعا: أي في المعنى بأن يفسر المذكور بما يشملهما (فقضى الله بينهما) أي فصل بينهما قائلاً (إنك) بكسر الهمزة والكاف (الجنة) يجوز رفعه كما رأيته مضبوطاً بالقلم في أصل مصحح من الرياض خبر إن ونصبه بدلاً من الضمير بدل كل، وقوله (رحمتي) خبر إن على الثاني، وعلى الأول خبر بعد خبر، ويكون ذلك الخبر الأول كالموطىء للثاني نحو جاء كما في جاء زيد رجلاً راكباً من الحال الموطئة وضابطها كل جامد موصوف بما يبين الهيئة به، وظاهر أن ما ذكر يجيء في قوله وإنك النار الخ، وجملة (أرحم بك من أشاء) مستأنفة ببيان حكمة إنشائها وإيجارها، ويجوز
كونهاحالاً مما قبلها (وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء) وتقديم الأول على الثاني إيماء إلى سبق الرحمة على العذاب والفضل على العقاب (ولكليكما عليّ ملؤها) أي ما يملؤها من الخلائق (رواه مسلم) في باب صفة الجنة والنار منفرداً به عن باقي السنة، لكن قضية صنيع المصنف أنه ساقه بهذا اللّفظ عن أبي سعيد. والذي في مسلم أنه أورد الحديث عن أبي هريرة من طرق قال في أولها «تحاجت النار والجنة فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، فقالت الجنة: وما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم، فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاى من عبادي، وقال للنار: أنت النار أعذب بك من أشاء(5/71)
من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلىء فيضع قدمه عليها فتقول قط قط، فهنالك تمتلىء ويزوى بعضها إلى بعض، وفي باقيها عنه نحو هذا وفي آخره «قال اللَّه للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أتت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها» الحديث، وهو بهذا اللّفظ عند البخاري بالطريق التي عند مسلم، ثم أورد مسلم الحديث عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله «احتجت الجنة والنار» وقال مسلم: فذكر أبو سعيد نحو حديث أبي هريرة إلى قوله: ولكليكما عليّ ملؤها، ولم يذكر ما بعده من الزيادة انتهت عبارة مسلم، وبهذا يظهر أن ما ساقه المصنف من لفظ الحديث لم يسقه مسلم كذلك، وإنما أشار إلى أنه نحو حديث أبي هريرة، ولعل المصنف وقف عليه من طريق آخر أن هذا لفظه، وأنه الذي أشار إليه الحافظ مسلم بقوله نحو حديث أبي هريرة والله أعلم.
5616 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ينظر الله يوم القيامة) أي نظر رحمة (إلى من جر إزاره بطراً) بفتح أوليه الموحدة والطاء المهملة، قال الراغب: البطر دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها، ويقارب البطر الطرب وهو خفة أكثر ما يعتري من الفرح، وقد يقال ذلك من البرح اهـ. وبطراً منصوب على العلة أو الحالية بتقدير مضاف: أي ذا بطر أو بتأويله بالوصف أي بطراً أو بإبقائه على ظاهره مبالغة في وصفه كأنه عينه (متفق عليه) أخرجاه في اللباس، وعندهما عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» قال المصنف: والخيلاء بالمد والمخيلة والبطر والزهو والكبر والتبختر كلها بمعنى واحد، وهو حرام، وحديث ابن عمر يدل على أن الإسبال يكون في الإزار والقميص والعمامة، والمستحبّ فيما ينزل إليه طرف القميص والإزار من الرجل نصف الساق، ففي حديث أبي سعيد مرفوعاً: «إزرة المؤمن إلى أنصاف سامية لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين فما نزل عن الكعبين(5/72)
فممنوع تحريماً إذا كان على سبيل الخيلاء وتنزيهاً إن لم يكن كذلك والأحاديث المطلقة بأن ما تحت الكعبين في النار محمولة على ما كان للخيلاء، لأن المطلق يحمل على المقيد، قاله المصنف في «شرح مسلم» ، وحديث أبي هريرة قال السيوطي في «الجامع الكبير» : خرّجه البيهقي أيضاً في «الشعب» ، ولم أره تعرض فيه لحديث ابن عمر مرفوعاً «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» مع أنه عندهما وهذا من العجب/ والنسيان من طبع الإنسان وبالله المستعان.
6617 - (وعنه قال: قال رسول الله: ثلاثة) أي أصناف ثلاثة، أو ثلاثة من الأصناف، فللوصف ساغ الابتداء به (لا يكلمهم الله يوم القيامة) كناية عن الغضب أو لا يكلمهم بما يسرهم، قال المصنف: وقيل المعنى لا يكلمهم تكليم أهل الخير بإظهار الرضا بل كلام أهل السخط (ولا يزكيهم) أي لا يقبل أعمالهم فيثنى عليهم أو لا يطهرهم من الذنوب (ولا ينظر إليهم) أي نظر رحمة (ولهم عذاب أليم) أي مؤلم، قال الواحدي: هو الذي يخلص إلى قلوبهم وجعه، قال: والعذاب كل ما يعي الإنسان ويشق عليه، وهذا منه على أن أليم بمعنى مؤلم اسم فاعل، ويجوز أن يكون بمعنى المفعول فيكون فيه إيماء إلى شدة فظاعة العذاب، لأنه إذا تألم من نفسه فكيف بمن فيه، وقدم الخبر للاهتمام به تحذيراً عما يؤدي إلى الاندراج في شيء منه (شيخ) أي من طعن في السن واستطال فيه، وذلك من الخمسين فما فوق (زان، وملك) بكسر اللام (كذاب، وعائل مستكبر) قال القاضي عياض: سبب تخصيص هؤلاء بهذا الوعيد أن كلاً منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يعذر أحد بذنب، لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة ولا دواعي معتادة أشبه إقدامهم عليها المعائدة والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها، فإن الشيخ لكمال عقله وتمام معرفته بطول ما مرّ عليه من الزمان وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء واختلاف دواعيه لذلك عنده ما يريحه من دواعي الحلال في هذا وتخلى سرّه فكيف بالزنى الحرام، وإنما دواعي ذلك الشباب والحرارة الغريزية وقلة المعرفة وغلبة الشهوة لضعف العقل وصغر السن. وكذلك الإمام لا يخشى من أحد من رعيته، ولا يحتاج إلى مداهنة ومصانعة، فإن الإنسان إنما يداهن ويصانع بالكذب من يحذره ويخشى أذاه أو معاتبته ويطلب عنده بذلك منزلة أو منفعة(5/73)
فهو غنى عن الكذب مطلقاً، وكذلك الفقير العائل قد عدم المال، وإنما سبب الفخر والخيلاء والكبر
الارتفاع عن القرناء بالثروة في الدنيا لكونه ظاهراً فيها وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويستحقر غيره؟ فلم يبق فعله وفعل الشيخ الزاني والإمام الكاذب إلا لضرب من الاستخفاف بحق الله تعالى اهـ (رواه مسلم) في كتاب الإيمان من «صحيحه» ، ورواه النسائي في الرحم من «سننه» (العائل الفقير) من العيلة بفتح العين وهو الفقر وجمع عائلاً عالة وهو في تقدير فعله ككافر وكفرة، قاله في «المصباح» .
7618 - (وعنه: قال رسول الله: يقول الله عزّ وجل: العزّ إزاري والكبرياء ردائي) قال المظهري: الكبرياء غاية العظمة والترفع عن أن ينقاد لأحد أو إلى شيء بوجه من الوجوه، وهذا لا يكون إلا لله، والإزار والرداء متشابهان، لأن الرداء ما يلبس به الرجل رأسه وكتفه وأسفل من ذلك، والإزار ما يلبس به الرجل من وسطه إلى قدميه، والعزّ والكبرياء صفتان مختصتان بي لا يشاركني فيهما غيري كما لا يشارك الرجل في ردائه وإزاره اللذين هما لباساه (فمن نازعني عذبته) يقال نازعه إذا جذب وأخذ شيئاً من واحد وجذب ذلك الواحد من صاحبه ذلك ويقول كل منهما هذا ملكي وحقي: أي يقول تعالى: إن هذين حق لا يستحق واحداً منهما غيري، فمن ادعى العزّ أو الكبرياء فقد خاصمني ومن خاصمني صار كافراً عذبته (رواه مسلم) قال المزي في «الأطراف» : رواه في اللباس من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الزهد وابن ماجه في «سننهما» / ورواه البزار اهـ ملخصاً. وفي الأحاديث القدسية التي جمعها الحافظ العلائي بعد إبراد الحديث عن الأغرّ عن أبي هريرة كما أورده مسلم باللفظ المذكور ما لفظه متفق عليه من هذا الوجه.
8619 - (وعنه: أن رسول الله قال: بينما رجل) قال الدماميني في «المصابيح» نقلا عن(5/74)
السهيلي في «مبهمات القرآن» : إنه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم من الترك. وفي «صحاح الجوهري» : إنه قارون اهـ. وفي «تفسير الخازن» : قال قتادة: خسف به، أي قارون فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغها: أي إلى قعرها إلى يوم القيامة (يمشي في حلة) بضم المهملة: ثوب له ظهارة وبطانة (تعجبه نفسه) جملة مستأنفة لبيان سبب الخسف به أو حالية من ضمير يمشي أو خبر بعد خبر (مرجل رأسه) بتشديد الجيم من الترجيل وهو تسريح الشعر (يختال) أي يزهو ويتكبر في مشيته بكسر الميم (إذ خسف الله به) أشار ابن حجر الهيثمي في شرح حديث جبريل في الإسلام والإيمان والإحسان أن إذ أفادت هنا مع كونها ظرف زمان المفاجأة. قال وخالف في ذلك أبو حيان في «بحره» فقال: وهو ملازم للظرفية، ولا يكون مفعولاً به ولا حرفاً للتعليل أو المفاجأة ولا ظرف مكان خلافاً لزاعمي ذلك اهـ. وقد بسطت الكلام في «إذ» في أوّل رسالتي في قوله تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه} (البقرة: 60) (فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة) وإنما فعل به ذلك تدريجاً ليدوم عليه العذاب فيكون أبلغ في نكايته وإهانته لكبره (متفق عليه) روياه في اللباس. والذي في مسلم في روايته «قد أعجبته جمته وبرداه» وفي أخرى له «بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد أعجبته نفسه» وفي رواية له «بينما رجل يتبختر يمشي في بردين» وفي رواية «إن رجلاً ممن كان قبلكم يتبختر في حلته» ولم أر قوله «يختال في مشيته» عند البخاري في أبواب اللباس ولا عند مسلم، والله أعلم (مرجل رأسه: أي ممشطه) كذا بصيغة الماضي والأنسب ممشط قال: بصيغة الوصف (يتجلجل بالجيمين: أي يغوص وينزل) به إلى أسفل. وروي بالخاء المعجمة واستبعده القاضي إلا أن يكون من قولهم خلخلت العظم إذ أخذت ما عليه من اللحم، ورويناه في غير الصحيحين بحاء مهملة.
9620 - (وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يزال الرجل يذهب(5/75)
بنفسه) قال العاقولي: الباء فيه للتعدية: أي يرفع نفسه ويعتقدها عظيمة مرتفعة المقدار على الناس، ويجوز أن تكون للمصاحبة: أي يرافقها ويوافقها على ما تريد من الاستعلاء ويعززها ويكرمها كما يكرم الخليل الخليل حتى تصير متكبرة. وفي الأساس ذهب به فرّ مع نفسه، ومن المجاز ذهب به الخيلاء اهـ (حتى يكتب في الجبارين) أي من جملتهم ومندرجاً غمارهم (فيصيبه ما أصابهم) أي من العذاب، وأتى به بلفظ ما الموصولة تفظيعاً في الوعيد (رواه الترمذي) في البر والصلة (وقال: حديث حسن. يذهب بنفسه: أي يرتفع ويتكبر) سكت عن الكلام على الباء وقد علمته.
73 - باب حسن الخلق
بضم المعجمة واللام وقد تسكن تخفيفاً، وحسن الخلق: ملكة بالنفس يقتدر بها على صدور الأفعال الجميلة بسهولة، واختلف هل هو غريزي، أو كسبي؟
(قال الله تعالى) : ( {وإنك لعلى خلق عظيم} ) سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت: كان خلقه القرآن: أي آدابه وأوامره. وقال عليّ: الخلق العظيم آداب القرآن. وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع، وذلك لا محالة رأس الخلق ووكيده، إما أن الظاهر من الآية أن الخلق الذي أثنى تعالى عليه به فهو كرم السجية وبراعة القريحة والملكة الجميلة وجودة الضرائب، ومنه قوله «بعثت لأتمم مكارم الأخلام» وقال الجنيد: سمى خلقه عظيماً إذ لم يكن همه سوى الحق سبحانه عاشر الخلق يخلقه وزايلهم بقلبه، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق. وفي وصية الحكماء: عليك بالخلق مع الخلق وبالصدق مع الحق وحسن الخلق خير كله. وقيل وصف خلقه بالعظم إشارة إلى أنه كان يؤدي كل مقام من رفق وغلظ حقه، فكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، وكان يغلظ على الكفار وينتقم لله سبحانه.
(وقال تعالى)(5/76)
( {والكاظمين الغيظ} ) الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه ( {والعافين} ) التاركين ( {عن الناس} ) عقوبة استحقوها قبلهم ( {والله يحبّ} ) أي يثيب ( {المحسنين} ) إشارة إلى أن هؤلاء في مقام الإحسان.
1621 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله أحسن الناس خلقاً) كيف وقد قال «أدبني ربي فأحسن تأديبي» (متفق عليه) وعندهما من حديث البراء بن عازب «كان النبيّ أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً» الحديث.
2622 - (وعنه قال: ما مست) بكسر السين وجاء بفتحها: من باب قتل، والمس الإفضاء باليد بلا حائل، هكذا قيدوه، كذا في «المصباح» (ديباجاً) بكسر الدال المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة آخره جيم: وهو ثوب سداه ولحمته إبريسم ويقال هو معرّب، واختلف في الياء فقيل زائدة ووزنه فيعال ولذا يجمع على ديابيج، وقيل هي أصل والأصل دباج بالتضعيف فأبدل من أحد الضعفين حرف العلة ولذا ترد في الجمع إلى الأصل فيقال دبابيج بياء موحدة بعد الدار (ولا حريراً) هو الإبريسم وهو هنا من باب الترقي لأنه أنعم من الديباج (ألين من كفّ رسول الله) لا ينافيه ما جاء في صفته أنه شثن الكف والقدمين بالمعجمة والمثلثة، وضبطه الحافظ السيوطي بالمثناة الفوقية بدل المثلثة، وفسره الأصمعي بالغلظ مع الخشونة، فأورد عليه أنه جاء في صفته عند البخاري وغيره أنه لين الكف، فحلف أن لا يفسر شيئاً في الحديث، إما أن ذلك تفسير لشثنها لا في خصوص هذا الحديث والمراد منه فيه ميلها إلى الغلظ من غير قصر ولا خشونة: أي غلظ العضو لا خشونة الجلد وهذا محمود في الرجال كما في «النهاية» ، لأنه أشد لقبضهم لا في النساء، وإما لأن المراد اللين بحسب أصل الخلق والخشونة لعارض عمل أو سفر. والكفّ هي الراحة مع الأصابع، سميت(5/77)
بذلك لأنها تكفّ الأذى عن البدن وهي مؤنثة. وقال ابن الأنباري: زعم من لا يوثق به أنها مذكر ولا يعرف تذكيرها عمن يوثق بعلمه، وأما كفّ مخضب فعلى معنى ساعد مخضب (ولا شممت) من باب تعب وشم يشم من باب قتل في لغة (رائحة قط) بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة المضمومة: أي في زمن من الأزمنة الماضية (أطيب من رائحة رسول الله) وهي له عرض لازم غير منفك ومن ذاته غير مستمدّ من شيء خارج (ولقد خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين) هي مدة توطنه المدينة بعد هجرته إليها جاء به أهله إليه ليخدمه فأخدمه (فما قال لي قط أفّ) هو صوت دلّ على التضجر وهو مبنى على الكسر
والتنوين للتنكير، ومن فتح فعلى التخفيف وفيها لغات عديدة تقدمت الإشارة إليها، وفي ذلك حفظ أنس من الأفعال المحظورة، إذ لو وقعت منه لما سكت على شيء منها (ولا قال لشيء فعلته) جليلاً كان أو حقيراً كما يؤذن به تنكير شيء في سياق النفي (لم فعلته) سؤال عن سبب الفعل والباعث عليه (ولا لشيء لم أفعله ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام أداة عرض (فعلت كذا) وذلك منه كما تسليم منه لمولاه سبحانه وشهود لما يصدر من أقداره في عالم الشهادة، وأن ما ترك ولم يظهر مما لم يرد الله عدم ظهوره لا سبيل لظهوره فلا فائدة لطلب حصول ما لم يحصل ولا للسؤال عن السبب الحامل. وفيه كمال حسن خلقه، فإن شأن المجاورة والمخالطة تقتضي السؤال عن ذلك، ولكن حسن خلقه حمله على ألا يسأل عما وقع من خادمه (متفق عليه) .
3623 - (وعن الصعب) بتشديد المهملة الأولى وسكون الثانية آخره موحدة (ابن جثامة) بفتح الجيم وتشديد المثلثة، واسم جثامة يزيد بن قيس بن عبد الّله بن يعمر بن عوف بن عامر ابن ليث الليثي الحجازي، توفي (رضي الله عنه) في خلافة الصديق رضي الله عنه كذا في «التهذيب» للمصنف وفي «المستخرج المليح» لابن الجوزي، روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ(5/78)
ستة عشر حديثاً، أخرج له في الصحيحين حديثان متفق عليهما وأحدهما يجمع حديثين للبخاري أحد الحديثين وما سوى ذلك متفق عليه (قال: أهديت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حماراً وحشياً) وهو أحد ما روي في هديته كما بينه الحافظ في أواخر الحج من «الفتح» (فرده عليّ) لأن المحرم لا يتعرض للصيد بوجه (فلما رأى ما في وجهي) من الأثر الناشيء فيه عن رد هديته فإن ذلك يكسر في نفس المهدي (قال: إنا لم نرده) بضم الدال على الأفصح إتباعاً لحركة الضمير، وقول القاضي بوجوب الضم فيه حينئذ رده المصنف في «شرح مسلم» بأنه أفصح، وإلا فيجوز فيه الكسر بضعف، والفتح هو أضعف منه، وممن ذكره ثعلب في الفصيح لكن غلطوه لكونه يوهم فصاحته ولم ينبه على ضعفه (عليك إلا لأنا حرم) بضمتين أي محرمون (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الهبة، ولفظه في الهبة «فلما رأى في وجهي» بإسقاط «ما» وأخرجه مسلم في الحج ورواه الترمذي فيه وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه في الحج من «سننهما» .
4624 - (وعن النواس) بفتح النون وتشديد المهملة آخره سين مهملة (ابن سمعان) بفتح السين وكسرها، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) مع الكلام على حديثه في باب الورع وترك الشبهات (قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر) أي الطاعة (والإثم) أي المعصية لأنها سببه (فقال البرّ) أي معظمه (حسن الخلق) وذلك لأنه يقتدر به صاحبه على محاسن الأفعال وترك رذائل الأعمال وهذا وضع الشريعة (والإثم ما حاك) بالمهملة أي تردد (في نفسك) أن تفعله لداعية النفس لفعله أو تتركه لكراهة النفس له لعدم وضوح جوازه شرعاً (وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي فيعبرونه بفعله فإن النفس بطبعها تحب المدحة وتكره(5/79)
المذمة (رواه مسلم) في البر والصلة.
5625 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) كذا فيما وقفت عليه بحذف الياء، وتقدم أن الأفصح إثباتها في مثله من كل منقوص حذفت لامه تخفيفاً (رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً) أي ليس ذا فحش في كلامه وأفعاله. والفحش ما يشتد قبحه من الأقوال والأفعال (ولا متفحشاً) أي متكلف ذلك ومتعمده (وكان يقول: إن من خياركم) عند البخاري «من أخيركم» بإثبات الألف في رواية وبحذفها في رواية الأصيلي، والأولى هي الأصل إلا أنهم تركوه غالباً فيها وفي شر (أحسنكم أخلاقاً) وذلك لما تقدم من دعاء حسن الخلق إلى المحاسن والانكفاف عن المساوي، ومن كان كذلك فلا شك في كونه من الخيار والأخيار، وقيل المراد منه هو لأنه أحسن خلقاً فيكون عاماً مراداً به خاص، والأول لما فيه من التهييج على التخلق بذلك أنسب (متفق عليه) أخرجه البخاري في صفة النبيّ وفي الأدب، وأخرجه مسلم في الفضائل، ورواه الترمذي في البرّ وقال: حسن صحيح.
6626 - (وعن أبي الدرداء) تقدمت ترجمته وبيان اسمه (رضي الله عنه) في باب ملاطفة اليتيم (أن النبي قال: ما من) مزيدة لتأكيد العموم المستفاد من (شيء) لكونه نكرة في سياق النفي وهو اسم ما وخبرها (أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) وهذا الحديث ظاهر في أن نفس العمل بوزن بأن يجسد. وتجسد المعاني جائز كما جاء «يؤتى بالموت في صورة كبش» الحديث. وقد اختلف على ذلك في أقوال: ثانيها أن الموزون(5/80)
الأعمال. ثالثها الموزون نفس العمل. وفي التقييد بالمؤمن إيماء إلى أن الكافر لا يوزن عمله لأنه لا طاعة له لتوزن في مقابلة كفره، وهو أحد قولين في ذلك أيضاً. وفيه إشارة إلى سوء خلق الكافر، وذلك لأنه ترك عبادة خالق كل شيء إلا عبادة من لا يخلق من شيء (وإن الله يبغض) بضم التحتية من الإبغاض، قال في «المصباح» : ولا يقال بغضته بغير ألف ويقال أبغضته فهو مبغض وبغضه الله بتشديد الغين فأبغضوه: أي لا يثنى عليه في عالم الملكوت خيراً أو لا يثيبه أو لا يوفقه (الفاحش البذيء. رواه الترمذي) في البر والصلة من «جامعه» (وقال: حديث صحيح) وفي «الجامع الصغير» بعد ذكر الحديث بلفظ «ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي الدرداء بلفظ «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب الخلق الحسن ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة» رواه الترمذي عن أبي الدرداء (البذي) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد التحتية على وزن فعيل من بذا يبذو وبذاء بالفتح والمد: سفه وأفحش في منطقة وإن كان كلامه صدوقاً، كذا في «المصباح» (هو الذي يتكلم بالفحش) أي الخارج عن الاعتدال من القول (ورديء الكلام) وقال العاقولي: البذي هو السىء الخلق، وهو ملازم لما قبله لأن الفحش إنما يصدر عنه.
7627 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة) أي من الأعمال والأقوال والأحوال (فقال: تقوى الله وحسن الخلق) قال ابن القيم: جمع بينهما لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه (وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج) وذلك لأنه يصدر من الفم الكفر والغيبة والنميمة ورمي الغير في المهالك وإبطال الحق وإبداء الباطل وغير ذلك مما أشار إليه الشارع بقوله «وهل يكبّ الناس على وجوههم/ أو قال على مناخرهم إلا(5/81)
حصائد ألسنتهم» وبقوله «وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً» والفرج يصدر منه الزنى واللواط (رواه الترمذي) في أبواب الصبر والصلة (وقال: حديث حسن صحيح) .
8628 - (وعنه قال: قال رسول الله: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) وقد تقدم حديث «البرّ حسن الخلق» فكلما كان العبد أحسن أخلاقاً كان أكمل إيماناً. وفيه دليل زيادة الإيمان ونقصانه (وخياركم) أي عند الله سبحانه (خياركم) أي في الظاهر (لنسائهم) وذلك بالبشاشة وطلاقة الوجه وكفّ الأذى وبذل الندى والصبر على إيذائها، فالتغاير بين المسند إليه والمسند حاصل (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وأورده في «الجامع الصغير» بلفظ «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله» وقال: رواه الترمذي والحاكم في «مستدركه» عن عائشة، وقد تقدم الحديث مع شرحه في باب الوصية بالنساء.
9629 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه) الباء فيه سببية، قال العاقولي: قيل هو بسط الوجه وبذل الندى وكفّ الأذى، وقيل هو ألا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى. وقال سهل: أدنى حسن الخلق الاحتمال وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه: أي ليبلغ بحسن خلقه الداعي له إلى التحلي بالمحامد والتخلي عن المذامّ (درجة الصائم القائم)(5/82)
أي أعلى الدرجات، فإن أعلى درجات الليل درجات القائم في التهجد، وأعلى درجات النهار درجات الصائم في حرّ الهواجر (رواه أبو داود) وكذا أخرجه ابن حبان في «صحيحه» كما في «الجامع الصغير» .
10630 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين واسمه صدى بن عجلان (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة) بفتح الراء والموحدة وضاد معجمة: ما حولها خارجاً عنها تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدينة وتحت القلاع، قاله في «النهاية» (لمن ترك المراء) بالكسر مصدر كالمماراة وهي المجادلة، ويقال ماريته أيضاً: إذا طعنت في قوله تزييفاً للقول وتصغيراً للقائل، ولا يقال المراء إلا اعتراضاً بخلاف الجدال فإن يكون ابتداء واعتراضاً، قاله في «المصباح» (وإن كان محقاً) بضم أوله وكسر المهملة فيما يماري ويجادل: أي وإن كان ذا الحق في نفس الأمر، وذلك لأنه بعد أن يرشد خصمه إليه ويأبى عن قبوله، وليس من طالبي الاستبصار فلا ثمرة للمراء إلا تضييع الوقت فيما هو كالعبث (وببيت في وسط الجنة) الواو عاطفة على ما قبله: أي وأنا زعيم ببيت في وسطها وهو بفتح المهملة: أي متوسطها، ويجوز إسكان المهملة كما في «المصباح» (لمن ترك الكذب) أي الإخبار بخلاف الواقع، والمراد ترك المذموم منه وهو مالا مصلحة راجحة فيه. فيكون عاماً مخصوصاً مما عدا ذلك، إذ قد يكون مندوباً تارة كالكذب للإصلاح بين المتخاصمين وواجباً أخرى، كما إذا تيقن ترتب هلاك معصوم على صدقه بالإخبار عنه، ودليل التخصيص الأحاديث الواردة باستثناء ذلك (وإن كان مازحاً) أي بكذبه غير قاصد به الجد ولا يتناول التعريض فإنه ليس بكذب أصلاً كقول إبراهيم: {إني سقيم} أي سأسقم، وقوله في سارة إنهاأخته: أي باعتبار الإسلام وإطلاق الكذب على ذلك في بعض الأحاديث من مجاز المشاكلة: أي ظاهر صورته ذلك (وببيت في أعلى الجنة) هو ظاهر في أن المراد بوسط الجنة فيما قبله متوسط درجاتها ومنازلها، ففيه شرف كل من ترك الكذب وحسن الخلق على ما(5/83)
قبله (لمن حسن) بتشديد السين المهملة (خلقه) وفي الإتيان به بصيغة التفعيل إيماء إلى مشقة التخلق بذلك والاحتياج فيه إلى مزاولة للنفس
ورياضة لها (حديث صحيح رواه أبو داود) في الأدب (بإسناد) هو رجال السند (صحيح) أي ولا علة بالمتن ولا شذوذ فلذا صحح المصنف المتن، وإلا فظاهر أنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن لجواز عروض شذوذ أو نكارة أو علة فادحة (الزعيم) بوزن عظيم بالزاي والعين المهملة والتحتية (الضامن) ومنه قوله تعالى: {قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} (يوسف: 72) .
11631 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: إن من أحبكم إليّ) أي أكثركم حباً إليّ: أي اتباعاً لسنتي (وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) أي في الجنة فإنها دار الراحة والجلوس، أما الموقف فالناس فيه قيام لرب العالمين، والنبيّ حينئذ قائم للشفاعة للعباد وتخليصهم مما هم فيه من الكرب إذ هو المقام المحمود الذي أعطيه يومئذ، ويوم تنازعه الوصفان قبله، ويحتمل ألاّ يكون من ذلك ويكون للأقرب منه (أحاسنكم أخلاقاً) جمع أفعل التفضيل هنا وأفرده في حديث أبي هريرة السابق، لأن المضاف إلى المعرفة يجوز فيه الوجهان، وأخلاقاً جمع خلق بضمتين أو بضم فسكون تخفيفاً ويجمع على خلائق أيضاً كما قاله الحافظ في كتاب الإنقاض في دفع الاعتراض (وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني) حذف الظرف لدلالة ما قبله عليه أو لزيادة التفظيع للمعصية وشناعتها بتعميم البعد للمجلس والموقف لأن حذف المعمول يؤذن به. قال العاقولي في «شرح المصابيح» : هذا الحديث مبني على قاعدة هي أن المؤمنين من حيث الإيمان محبوبون ويتفاضلون بعد في صفات الخير وشعب الإيمان، فيتميز الفاضل بزيادة محبة، وقد يتفاوتون في الرذائل فيصيرون مبغوضين من حيث ذلك ويصير بعضهم أبغض من بعض، وقد يكون الشخص الواحد محبوباً من وجه مبغوضاً من وجه. وعلى هذه القاعدة فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبّ المؤمنين كافة من حيث هم مؤمنون، وحبه لأحسنهم خلقاً أشد، ويبغض العصاة من حيث هم عاصون، وبغضه لأسوئهم(5/84)
أخلاقاً أشد، كما يؤخذ ذلك من المعاملة. بل جاء عند البيهقي في «الشعب» «وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مساوئكم أخلاقاً الثرثارون» والحديث أورده في «المشكاة» من حديث أبي ثعلبة الخشني (الثرثارون والمتشدقون) بضم الميم وبفتح أوليه وكسر الدال المشددة (والمتفيهقون) أي إنهم الذين يتعمقون في الكلام، والتشدق: تكلف السجع والفصاحة والتصنع بالمقامات، وهو بضم الميم وفتح أوليه وكسر الهاء (قالوا) أي الحاضرون من الصحابة، ولم أقف على أسمائهم (يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون) كذا هو بالواو في الأصول على الحكاية لما وقع منه في لفظ الخبر، أي عرفنا المراد منهما (فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون. رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه البيهقي بنحوه في «الشعب» من حديث ثعلبة الخشني، وليس فيه قالوا قد علمنا الخ (والثرثار) بالمثلثتين المفتوحتين بينهما راء ساكنة (هو كثير الكلام) تكلفاً. زاد العاقولي: وخروجاً عن الحق، والثرثرة كثرة الكلام وترديده (والتشدق: المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعاظماً لكلامه) قال ابن الحاجب في «الشافية» : ويجىء بمعنى تفاعل ليدل على أن الفاعل أظهر أن أصله: أي الفعل حاصل له وهو منتف عنه: نحو تجاهلت وتغافلت اهـ.u وما نحن فيه من هذا: أي لإظهار أن عنده الفصاحة. وعظم الكلام وهما منتفيان عنه. وقال العاقولي: قيل المتشدق المتوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز. وقيل هو المستهزىء بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم (والمتفيهق أصله) أي اشتقاقه (من الفهق) بفتح الفاء وسكون الهاء وبالقاف (وهو الامتلاء) زاد العاقولي: والاتساع، يقال أفهقت الإناء ففهق فهقاً (وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه) بالإتيان بالزائد على الحاجة على سبيل الإطناب والإسهاب (ويغرب به) أي يأتي بالألفاظ الوحشية الاستعمال، الغير المألوفة في الكلام(5/85)
(تكبراً) علة ملء الفم بالكلام (وارتفاعاً) علة التوسع فيه
(وإظهاراً للفضيلة على غيره) بالاطلاع على غريب الألفاظ والوصول إلى محاسن النفس والرضا عنها، وفي ذلك الإغماض عن محاسن السوى والإعراض عنها وهو الكبر.
(
وروى الترمذي) في «جامعة» (عن عبد الله بن المبارك) بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي الأئمة الأعلام، حمل عن أربعة آلاف شيخ، وروى عن ألف منهم، وقيل له: إلى متى تكتب العلم؟ فقال: لعل الكلمة التي أنتفع بها ما كتبتها بعد، قال ابن مهدي: كان ينسخ وحده وكان يفضله على الثوري، وقال: ما رأيت أنصح للأمة منه، وقال ابن عيينة: ما رأيت للصحابة عليه فضلاً إلا بصحبتهم للنبي وغزوهم معه، وقال: كان ففيهاً عالماً زاهداً سخياً شجاعاً شاعراً، وقال الفضيل: ما خلف بعده مثله، وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً إماماً حجة. ولد سنة ثماني عشرة ومائة ومات منصرفاً من الغزو بهيت سنة إحدى وثمانين ومائة، زاد غيره في رمضان، وقد بسطت ترجمته في كتابي «رجال الشمائل» (رحمه الله في تفسير حسن الخلق قال: هو طلاقة الوجه) أي فرح ظاهر البشرة ويقال هو طليق الوجه وطلقه، وقال أبو زيد: طلق الوجه متهلل بسام (وبذل المعروف) من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للكلمة الطيبة باللسان وبذل الندى والإحسان باليد وغير ذلك من صنائع المعروف (وكف الأذى) من قول وفعل عن الناس. وقد جمع جماعة محاسن الأخلاق في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199) وقيل حسن الخلق احتمال المكروه الذي ينزل به بحسن المداراة بترك حظه من الدنيا وتحمل الأذى من غير إفراط ولا تفريط، وقال الحافظ: حسن الخلق اختيار الفضائل وترك الرذائل، وقال السيوطي: قال الباجي: هو أن يظهر منه لمن يجالسه أو ورد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير، والله تعالى أعلم.(5/86)
74 - باب الحلم
بكسر المهملة وسكون اللام: وهو الصفح، وفي «المصباح» حلم بالضم حلماً بالكسر: صفح وستر فهو حليم وحلمته نسبته إلى الحلم (والأناة) بفتح أوليه والألف مقصورة بوزن حصاة اسم مصدر من تأتي في الأمر تمكث ولم يعجل (والرفق) وهو بكسر أوله ضد الخرق.
(قال الله تعالى) : ( {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} ) أي وذلك إنما صدر عنهم لما عندهم من الحلم ( {والله يحبّ المحسنين} ) . فيه تحريض على التخلق بالإحسان والصفح عن الإخوان، وقد تقدم ما يتعلق بها في الباب قبله (وقال تعالى) ( {خذ العفو} ) من أخلاق الناس من غير تحسيس مثل قبول أعذارهم والمساهلة معهم، وقد ورد «أنه لما نزلت قال رسول الله: ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله أمرك أن تعفو عن من ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك» ( {وأمر بالعرف} ) وهو كل ما يعرفه الشرع ( {وأعرض عن الجاهلين} ) لا تقابل السفيه بسفهه، وقد تقدم الكلام على الآية في مواضع من الكتاب كباب توقير العلماء والكبار وغيره (وقال) الله (تعالى) ( {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} ) لا الثانية لتأكيد النفي ( {ادفع بالتي هي أحسن} ) وهي الحسنة وهو استئناف كأنه قيل: كيف أفعل فقال ادفع، والمراد بالأحسن الزائد مطلقاً. قال ابن عباس: أمر بالصبر عند الغضب وبالعفو عند الإساءة، وقيل معناه: لا تستوي الحسنات بل تتفاوت إلى حسن وأحسن وكذا السيئات، فادفع السيئة التي ترد عليك بالحسنة التي هي أحسن من أختها مثلاً: وتحسن إلى من أساء إليك فلا تكتفي بمجرد العفو عنه ( {فإذا الذي بينك وبينه عداواة} ) وإذا فعلت هذا يصير العدو ( {كأنه وليّ حميم} )(5/87)
صديق شفيق ( {وما يلقاها إلا الذين صبروا} ) على مخالفة النفس ( {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} ) من كمال النفس ( {وقال تعالى ولمن صبر} ) على الأذى ( {وغفر} ) ولم ينتصر ( {إن ذلك} ) إشارة إلى صبره لا إلى مطلق الصبر فلا يحتاج إلى تقدير ضمير ( {لمن عزم الأمور} ) أي الأمور المشكورة المحمودة المعزوم عليها.
1632 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأشج) بالشين المعجمة (عبد القيس) واسمه المنذر بن عاذل بالذال المعجمة العصري بفتح المهملتين، قال المصنف: هذا الصحيح الذي قاله ابن عبد البرّ والأكثرون أو الكثيرون، وقال الكلبي: اسمه المنذر بن الحارث بن زياد بن عصر بن عوف، وقيل المنذر بن عامر، وقيل ابن عبيد، وقيل اسمه عائذ بن المنذر، وقيل عبد الله بن عوف (إن فيك خصلتين يحبهما الله) أي يرضاهما ويثني على فاعلهما ويثيبه (الحلم) قال المصنف: هو العقل. وفي النهاية: الحلم بالكسر الأناة والتثبت في الأمور وذلك من شأن العقلاء اهـ. ففيه إيماء إلى أن تفسيره بالعقل بمعنى كونه ينشأ عنه لا أنه مدلوله ولا يخالف ما تقدم عن «المصباح» (والأناة) التثبت وترك العجلة وهي مقصورة، وسبب قول النبيّ له ذلك ما جاء في حديث الوفد «أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبيّ، وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته وليس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبيّ، فقرّبه النبي فأجلسه إلى جانبه ثم قال لهم النبيّ: تبايعوني على أنفسكم وقومكم، فقال القوم: نعم، فقال الأشج: يا رسول الله إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا وترسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه، قال: صدقت إن فيك خصلتين يحبهما الله» الحديث، قال القاضي عياض: فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب، ولا يخالف هذا ما جاء في «مسند أبي يعلى» وغيره أنه لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأشج: «إن فيك خصلتين» الحديث، قال: «يا رسول الله أكان فيّ أم(5/88)
حدثاً؟ قال: بل قديم، قال: قلت الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله» (رواه مسلم) في أوائل كتاب الإيمان من «صحيحه» ، ورواه الترمذي في «جامعه» .
2633 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: إن الله رفيق) من الرفق بكسر الراء وسكون الفاء وبالقاف وهو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل وهو ضد العنف، وفي النهاية يقال: الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة فهو فعيل بمعنى فاعل اهـ. وقال العاقولي: معنى كونه تعالى رفيقاً أنه لطيف بعباده اهـ. ويحتمل أن الرفق في حقه تعالى بمعنى الحلم، فإنه لا يعجل بعقوبة العصاة بل يمهل ليتوب من سبقت له السعادة ويزداد غيره إثماً، قاله ابن رسلان، قال القرطبي: وهذا المعنى أليق بالحديث فإنه سبب الحديث، ثم لا يجوز إطلاق رفيق في أسمائه تعالى لأنه لم يجىء على وجه الإسمية وإنما أخبر به تمهيداً للحكم الذي بعده، وكأنه قال: إن الله يرفق بعباده فيعطيهم على الرفق مالا يعطيهم على سواه: قال العاقولي: وكأن مراده أنه ذكر على سبيل المقابلة والمشاكلة، وما كان كذلك لا يكتفي به في ورود الإطلاق (يحب) أي يرضي (الرفق في الأمر كله) لما فيه من لين الجانب المقتضي للتواصل وسداد الأمر (متفق عليه) .
3634 - (وعنها أن النبيّ قال: إن الله رفيق يحبّ الرفق) لأنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده (ويعطي على الرفق) في الدنيا من الثناء الحسن الجميل وفي الآخرة من الثواب الجزيل (مالا يعطي على العنف) بضم العين المهملة وسكون النون وبالفاء، قال في «النهاية» : هي الشدة والمشقة وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف ضده. وحكى ابن(5/89)
رسلان جواز ضم عين العنف وفتحها قال: وهو التشديد والتصعيب في الأشياء (وما لا يعطي على ما سواه) أي على الذي هو سوى الرفق وهو مع ما قبله إطناب أتى به ليدل على الحض على الرفق كما أشار إليه في «المفاتيح» (رواه مسلم.)
4635 - (وعنها أن النبيّ قال) لها: عليك بالرفق وإياك والفحش والعنف (وإن الرفق لا يكون في شيء) يحتمل أن تكون «يكون» تامة وفي شيء متعلق بها، وأن تكون ناقصة وفي شيء خبرها، والاستثناء في قوله (إلا زانه) مفرغ من أعم عام وصف الشيء: أي لا يكون الرفق مستقراً في شيء موصوف بصفة من الأوصاف إلا الشين (رواه مسلم) .
5636 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أعرابيّ) منسوب إلى الأعراب بفتح فسكون وهم ساكنو البادية، وقيل ساكنوها من العرب وجمع الأعرابي أعراب، قال ابن دقيق العيد: وقعت النسبة إلى الجمع دون الواحد لأنه جرى مجرى القبيلة، وقيل لأنه لو نسب إلى الواحد فقيل عربي لاشتبه المعنى، فإن العربي كل من ولد إسماعيل كان بالبادية أو بغيرها، وهذا غير المعنى الأول اهـ. وهذا مشعر بأن الأعراب جمع عرب والمعروف خلافه، قال الجوهري: العرب جيل من الناس والنسبة إليه عربي، والأعراب سكان البادية خاصة والنسبة إليه أعرابي، ولا واحد له من لفظه وليس جمعاً للعرب وإنما العرب اسم جنس. قال العراقي في «شرح التقريب» : ولم أر من صنف في المبهمات ذكر اسم هذا الأعرابي اهـ. وفي غاية الأحكام: اختلف فيه، فقال عبد الله بن نافع المدني: إنه الأقرع بن حابس التميمي اهـ. وقال ابن الملقن: لم أر من سماه ممن تكلم على المبهمات، وقد(5/90)
ظفرت به في «معرفة الصحابة» لأبي موسى المديني لأنه روي من حديث سلمان بن يسار قال: طلع ذو الخويصرة اليماني وكان رجلاً جافياً على رسول الله في المسجد» وساق الحديث، وفي آخره: أنه بال فيه، وأنه أمر بسجل فصبّ على مباله. قلت: وقد سبقه الذهبي فقال في «التجريد» في ترجمة ذي الخويصرة اليماني: يروي في حديث مرسل أنه لذي بال في المسجد. قال الحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث الرافعي» : وهو غير ذي الخويصرة التميمي، واسمه حرقوص بن زهير رأس الخوارج اهـ. وبه يعلم أن ما وقع في «شرح المشكاة» و «المنهاج» لابن حجر الهيثمي أنه ذو
الخويصرة التميمي إن لم يكن من تحريف الكتاب فسبق قلم من الشيخ بلا ارتياب (في المسجد، فقام إليه الناس) الظرف متعلق بمحذوف: أي فقاموا قاصدين إليه (ليقعوا) بفتح أوله (فيه) أي بالسب ونحوه. قال في «المصباح» : وقع فلان في فلان وقيعة: سبه وثلبه، وجاء في رواية البخاري: فتناوله الناس ليقعوا به، وفي رواية: فتناوله الناس، وفي رواية لمسلم: فصاح به الناس، وفي أخرى له: فقال لأصحاب رسول الله: مه مه (فقال النبيّ: دعوه) أي اتركوه وذلك لعذره بقرب عهده إلى الإسلام.
ففيه الرفق في إنكار المنكر وتعليم الجاهل واستعمال التيسير وإنكار التعسير، وقد قال لأصحابه «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» وفي رواية ابن ماجه: وقال الأعرابي بعد أن فقه: بأبي وأمي فلم يؤنب ولم يسب، فقال: «إن هذا المسجد لا يبال فيه، وإنما بني لذكر الله والصلاة فيه» (وأريقوا على بوله) أي محل بوله من المسجد بعد جفافه منه (سجلا من ماء) يعلم مما يأتي في تفسير السجل أن قوله من ماء مستدرك يغني عنه السجل لأن ذلك داخل فيه، إلا أن يقال أريد بالسجل مطلق الدلو لا بقيد كونها ممتلئة ماء، أو يقال صرح بذلك لزيادة الإيضاح (أو ذنوباً) بفتح الذال المعجمة وبالنون المضمومة والموحدة بينهما واو ساكنة وهل مجموع المتعاطفين من كلامه وأنه خير المأمور بينهما، أو أن الذي في لفظ الحديث أحدهما غير أن الراوي شك في تعيينه؟ قال الحافظ الولي العراقي: الظاهر الثاني بدليل رواية أبي داود «وصبوا عليها سجلاً من ماء، أو قال ذنوباً من ماء» وإذا كان ذلك شكا من بعض الرواة فالراجح الذنوب لأنه متفق عليه من حديث أنس من غير شك، وكذا في بعض طرقه ذكر الدلو من غير شك، وفي رواية ابن ماجه لحديث أبي هريرة «بسجل من ماء» بغير شك. ففي الحديث نجاسة بول الآدمي ووجوب تنزيه المسجد عنه والتفريق بين الماء الوارد على النجاسة فيطهرها وبين الواردة عليه فتنجسه إذا كان قليلاً أو كثيراً وتغير بها.
وفيه: أنه لا يشترط في تطهير الأرض بعد صبّ الماء عليها(5/91)
نضوب الماء ولا جفاف الأرض، إذ لو اشترط ذلك لبينه لهم، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.
وفيه: أن غسالة النجاسة طاهرة إذا زالت عين النجاسة ولم تتغير الغسالة ولم يزد وزنها بعد اعتبار ما يتشربه المحل من الماء الطاهر ويلقيه فيها من الوسخ.
وفيه: غير ذلك (فإنما يعثّم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) هذا كالتعليل لما قبله: أي إن قضية كونكم كذلك ألا تؤدبوا الرجل ولا توبخوه لأنه معذور لحداثة عهده بالإسلام وعدم علمه بالأحكام، فالمناسب للتيسير ما أشار إليه البشير النذير (رواه البخاري) في الطهارة وأخرجه بن ماجه (السجل بفتح السين المهملة وإسكان الجيم وهي الدلو الممتلئة ماء) وفي الدلو لغتان التذكير والتأنيث (وكذلك) المشبه به كون معنى السجل الممتلئة ماء والمشبه قوله (الذنوب) أي إنه أيضاً الدلو كذلك وهذا أحد قولين حكاهما العراقي، قال: وقيل هو الدلو العظيم، وقيل لا يسمى دلواً حتى يكون فيها ماء اهـ.
6637 - (وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: يسروا ولا تعسروا) اليسر ضد العسر، وذكر في الثانية تأكيداً وإطناباً وإلا فالأمر بالشيء النهي عن ضده أو لأنه لو اقتصر على الأمر بالتيسير لصدق على من أتى به مرة، وبالعسر بعض أوقاته، فلما قال ولا تعسروا انتفى العسر سائر الأوقات وذلك لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78) ولما ورد في «الصحيح» عند مسلم من أنه لما قيل: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: قد فعلت، ولما في الحديث «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة» وفي «الصحيح» «صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (وبشروا) من البشارة الإخبار بالخير ضد النذارة (ولا تنفروا) قابل به البشارة مع أن ضدها النذارة لأن القصد من النذارة التنفير عن المنذر عنه فصرح بالمقصود منها (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي كما في «الجامع الصغير» .(5/92)
7638 - (وعن جرير بن عبد الله) وهو البجلي الأحمسي تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب ثوب من سن سنة حسنة (قال: سمعت رسول الله يقول: من يحرم الرفق) بأن لا يوفق له بل يكون فيه العنف والشدة وأل فيه لتعريف الحقيقة (يحرم الخير) أل فيه للعهد الذهني أي الخير الناشيء عن الرفق (كله) الفعل فيهما مبني للمفعول من الحرمان، مفعوله الأول: الضمير المستتر فيه القائم مقام الفاعل، والثاني: منهما المنصوب المذكور بعد كل منهما وحرمان من حرم الرفق جميع الخير المذكور لما سبق من قوله «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» وذلك أن الرفق به انتظام خير الدارين واتساق أمرهما، وفي العنف ضد ذلك قال الله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران: 159) (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح وابن ماجه.
8639 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً) قال ابن بشكوال: قيل إنه جارية بن قدامة بالجيم والتحتية، وكذا في مسند ابن أبي شيبة والمؤتلف والمختلف للدارقطني، ويحتمل أن يكون أبا الدرداء لما في فوائد أبي الفضل بن خيرون، ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمر لما في فوائد ابن صخر بسنده عن ابن عمر «قلت: يا رسول الله قل لي قولاً وأقلله، قال: لا تغضب» قال ابن صخر: وهذا روي عن غير واحد من الصحابة مسنداً، وهو من حديث ابن عمر صحيح وإسناده صالح، وفي الفوائد أيضاً عن سفيان الثقفي «قلت للنبيّ مثل حديث ابن عمر فعاودته مراراً أسأله كل ذلك يقول لا تغضب» كذا في «مصابيح الدماميني» ، وفي «تخريج الأربعين حديثاً» التي جمعها المصنف للسخاوي، والسائل المذكور يحتمل أن يفسر بجارية بن قدامة، فعند البيهقي في «الشعب» وابن أبي الدنيا عن الأحنف بن قيس «قال أخبرني ابن عم لي وهو جارية بن قدامة قال: قلت يا رسول الله قل لي قولاً وأقلل لعلي أعقله فقال لا تغضب فقلت له مراراً فكل ذلك يقول لا تغضب» ثم رواه أيضاً من طريق ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة، فجعله عن ابن عمر كما في «مسند أبي(5/93)
يعلى» وغيره، قال البيهقي: إنه وهم والمحفوظ الأول ثم ساقه كذلك من طريق هشام بن عروة عن أبيه، وكذا أخرجه أحمد والطبراني وابن منده في «المعرفة» ، وابن حبان والحاكم في «صحيحيهما» ، ثم ذكر اختلاف الرواية عليه في أنه قال عن عمه أو عم أبيه أو عن الأحنف عن عمه عن جارية، كما رواه بهذا ابن أبي شيبة عند الداقطني في «علله» فيه خلاف غير هذا والأول أكثر وأولى لمتابعة ابن أبي الزناد في كونه من مسند جارية بل له طريق عند الطبراني من حديث محمد ابن كريب عن أبيه قال: شهدت الأحنف بن قيس يحدث عن جارية، ونشأ عن هذا الاختلاف تردد نظر الأئمة في إثبات صحبة جارية فأثبتها ابن أبي حاتم عن أبيه، وكذا ابن سعد وآخرون وهو الذي اعتمده شيخنا، ونفاها العجلى وغيره فقالوا:
إنه تابعي وليس بصحابي، وذكر الإمام أحمد عن يحيى القطان أنه قال: هكذا قال هشام بن عروة، يعني أن هشاماً ذكر في الحديث أن جارية سأل، قال يحيى: وهم يقولون إنه لم يدرك النبي ثم أخرج السخاوي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت للنبي الحديث. وقال: وعلى هذه الرواية اقتصر العراقي في أماليه وقال: إنه حديث حسن. قال العراقي: والحديث صحيح من وجه آخر يشير إلى طريق البخاري، وإنما أوردته من حديث سفيان لفائدة كونه هو السائل، قال: وقد روينا في أحاديث عن بن عمر وابن عمرو وأبي الدرداء وجارية بن قدامة أن كلا منهم سأل النبيّ. قال السحاوي: وبمقتضى ما بينه صار في الباب عن جابر وجارية وسفيان الثقفي وابن عمرو وابن عمرو وأبي الدرداء وأبي سعيد وأبى هريرة وعم جارية اهـ. والحديث سبق مشروحاً ببعض ما هنا في باب الصبر (قال للنبي: أوصني) قال الأزهري: الإيصاء من الوصية وهي مصدر وصيت الشيء بكذا وصلته إليه، فالمعنى: صلني إلى ما ينفعني ديناً ودنيا، ولما علم من هذا الرجل كثرة الغضب وهو طبيب في الدين يعالج كلا بمرضه المخصوص خصه بهذه الوصية (قال لا تغضب) الغضب فوران دم القلب أو عرض يبعثه ذلك على إرادة الانتفام، وهو من وساوس الشيطان يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله فيتكلم بالباطل ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح، بل قد يكفر (فردد) أي فكرر الرجل قوله: أوصني (مراراً) تعريضاً بأنه لم يقنع بذلك وأنه يطلب وصية أبلغ وأنفع فلم يزده لعلمه أن لا أنفع من ذلك له (قال لا تغضب) وعلاجه أن يرى الكل من الله سبحانه ويذكر نفسه أن غضب الله أعظم وفضله(5/94)
أكبر (رواه البخاري) في الأدب من «صحيحه» ، والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
9640 - (وعن أبي يعلى) بفتح التحتية واللام وسكون المهملة (شداد) بفتح المعجمة وتشديد الدال المهملة الأولى (ابن أوس) ابن أخي حسان بن ثابت تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المراقبة (عن رسول الله قال: إن الله كتب) أي أوجب وقدر (الإحسان) إتقان الفعل، أو بمعنى التفضل والإنعام (على كل شىء) للشىء إطلاقان: أحدهما ما أمكن وجوده بالإمكان العام فيكون أخص من المعلوم، إذ المستحيل معلوم ولا يطلق عليه بهذا الإطلاق شيء. ثانيهما ما صح أن يعلم ويخبر عنه فهو من أعم العام يطلق على الجوهر والعرض والقديم والحادث والممتنع، ويصح إطلاقه على الله تعالى بالإطلاقين، وهو في الحديث مخصوص بالممكن بدليل العقل. وما من شعبة من شعب الإيمان ولا ركن من أركان الإسلام إلا وقد قرن به إحسان لائق به بدليل عموم كل شيء في الحديث (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) بكسر القاف: هيئة القتل وحالته فأحسنوا القتل في كل قتيل حد أو قصاص (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) بكسر الذال المعجمة وهي هيئة الذبح (وليحد) بضم التحتية (أحدكم شفرته) بفتح المعجمة وسكون الفاء: السكين العريض (وليرح ذبيحته) أي ليوصل إليها الراحة بأن يعجل إمرار الشفرة ولا يسلخ قبل البرودة، ويقطع من الحلقوم لا من القفا ولا يصرع بعنف ولا يجرها من موضع إلى موضع وأن يوجهها للقبلة ويسمي (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو عوانة في «مستخرجه» ، والطبراني في «معجمه الكبير» ، والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح اهـ ملخصاً من «تخريج السخاوي» المذكور فيما قبله.
10 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت ما خير) بالبناء للمفعول وحذف الفاعل ليعم(5/95)
أي ما خير أحد (رسول الله بين أمرين) ديني أو دنيوي (قط إلا أخذ) أي تناول وفي بعض النسخ إلا اختار (أيسرهما) إرشاداً للأمة ولابتناء دينه على اليسر يريد الله بكم اليسر «إن هذا الدين يسر» وذلك كأن يخبره الله تعالى بين ما فيه عقوبتان على أمته فيختار أخفهما، أو في قتال الكفار وأخذ الجزية، أو في العبادة في المجاهدة في حق الأمة فيختار الأخف، وعلى كون المخير غير الله بأن يخيره الكفار أو المنافقون بين الحرب والموادعة فيختار الموادعة. وكقول جبريل وملك الجبال: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فاستعفى عنهم واختار الأخفّ وهو بقاؤهم رجاء أن يخرج منهم من يوحد الله سبحانه، وهذا التخيير في الحقيقة إنما هو من الله سبحانه والملك واسطة (ما لم يكن) أي الأيسر (إنما) أي معصية لأنها سببه، من إطلاق المسبب وإراده السبب مجازاً مرسلاً لعلاقة السببية: أي فإن كان الأيسر معصية فلا معصية فلا يخيره الله بينه وبين مقابله، وإن كان المخبر غيره فهو لا يختاره بل يبعد منه كما قال (فإن كان) أي الأيسر الذي خيره بعض الناس بينه وبين مقابله (إنما كان أبعد الناس منه) أما المكروه فقال المصنف: إنه كالمعصية لا يختاره، وإن كان يجب عليه فعل ذلك تشريعاً وبيان أن النهي ليس للتحريم بل للتنزيه (وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء) يتعلق بحقه من نفس أو مال أو عرض (قط) وذلك لأن من عرف الله حق معرفته سد عليه باب الانتصار لنفسه لاقتضاء معرفته ألا يشهد فعلاً لغير معروفه فكيف ينتصر من الخلق من يرى الله تعالى فعالاً فيهم، وكيف يترك تعالى الانتصار لهم وقد ألقوا نفوسهم بين يديه وسلموا واستسلموا لما يرد منه إليهم؟ فهم في معاقل عزّه وتحت سرادقات مجده، يصونهم من كل إلا من ذكره، ويقطعهم عن كل إلا عن حبه، فالأنبياء حمَّال أسراره ومعادن أنواره
فهو يتولى انتصارهم، قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون} (الصافات: 171) . وإنما لم ينتقم لنفسه مع كون منتهكها قد باء بإثم عظيم لأنه حق آدمي فيسقط بإسقاطه بخلاف حقه سبحانه، كما قالت (إلا أن تنتهك) بالبناء للمجهول (حرمة الله) وانتهاكها بارتكاب المحرمات وحينئذ فهو ليس مما قبله فيكون الاستثناء(5/96)
منقطعاً، ويحتمل كما قال القاضي عياض: أن انتهاكها بإيذائه بما فيه غضاضة في الدين فذاك انتهاك حرمات الله تعالى، وعفوه عمن قال في قسمة خيبر: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، مع أن ذلك المقال غضاضة في الدين، إما لكون القائل لم يقصد الطعن عليه في الميل عن الحق بل اعتقد أنه من مصالح الدنيا التي يجوز الخطأ فيها، أو أنه كان استئلافاً كما استألف ببذل الأموال ترغيباً في الإسلام. وقيل هذا الصواب، وقيل هذا القول طبعاً في قائله وسجية فهو نوع عذر كمن جفا في رفع صوته عليه ومن جذبه بردائه حتى أثر في عنقه وقال: إنك لا تعطيني من مالك ولا من مال أبيك، فضحك وأمر له بالعطاء وقوله (فينتقم لله) جواب لشرط مقدر: أي فإن انتهكت حرمة الله فهو ينتقم لله من مرتكب ذلك كما هو شأن أكابر المسلمين، إلا أن موسى أخذ برأس أخيه يجرّه إليه لما أحدث قومه بعده ما أحدثوا، وكان إذا غضب لله خرج شعره من مدرعته كسل النخل، والأخبار والآثار الدالة على وقوع غضب المصطفى وانتقامه له كثيرة مع الإجماع على أنه كان أحلم الناس وأكثرهم عفواً وصفحاً واحتمالاً وتجاوزاً، وفي الحديث الأخذ باليسر والرفق في الأمور وترك التكلف والمشاق، وفيه الميل إلى الأخذ برخص الله تعالى ورخص نبيه ورخص العلماء ما لم يكن ذلك القول خطأً بيناً وما لم يتبع الرخص بحيث تنحل ربقة التكليف منه، وفيه ما كان عليه من الحلم والصبر والقيام بالحق والصلابة في الدين، وهذا هو الخلق الحسن، فإنه لو ترك كل حق كل ضعفاً وخوراً ومهانة ولو انتقم لنفسه
لم يكن ثم صبر ولا حلم ولا احتمال بل بطشاً وانتقاماً فانتفى عنه الطرفان المذمومان وخير الأمور أوساطها (متفق عليه) رواه البخاري في باب صفة النبي، وفي الأدب من «صحيحه» ، ورواه مسلم في الفضائل ورواه أبو داود في الأدب مختصراً، قاله المزي في «الأطراف» . قلت: ورواه الترمذي في «الشمائل» .
11641 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ألا) أداة استفتاح أتى بها لتنبيه السامع على ما بعدها كقوله (أخبركم) ليستيقظ المخاطب من غمرات الأفكار ويتوجه(5/97)
لتلقي ما يلقى عليه (بمن يحرّم على النار) أي يحرمه الله عليها فيسلب منها قوة إحراقه وإيذائه كنار الخليل عليه السلام (أو) شك من الراوي: أي أو قال: ألا أخبركم (بمن تحرم عليه النار) أي لا يستحقها، والأول أبلغ لأنه لو فرض أنه دخلها لم تضرّه، بخلاف الثاني فإن المحرم عليه دخولها فقط، قاله العاقولي أقول: هما في المؤدي واحد لأنه إذا انتفى إدخاله لها انتفا مسها له والله أعلم، وما ذكرته من أن العاطف «أو» هو ما في نسخ الرياض والذي جرى عليه العاقولي في «المصابيح» أنه «الواو» وأنه أخبر عن فرقتين وأن الأربعة الأوصاف الآتية اثنان للفريق الأول والأخيران لللأخير، ويؤيد كونها «أو» أنه جاء بلفظ «ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غداً على كل هين لين قريب سهل» أورده السيوطي في «الجامع الصغير» وهو قولهم «بلى» اقتصاراً ولدلالة الحال على طلبهم ذلك وإتيانهم به لما لهم من التشوق والتشّوف لما ندبهم إلى معرفته (تحرم على كل قريب) أي من الناس بحسن ملاطفته لهم (هين لين) قال في «النهاية» : «المسلمون هينون لينون» وهما بالتخفيف قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بالهين اللين مخففين وتذم بهما مثقلين وهين: أي بالتشديد فيعل من الهون وهو السكينة والوقار والسهولة فعينه واو، وشيء هين لين أي أسهل اهـ (سهل) أي يقضي حوائجهم ويسهل أمورهم وبما ذكر عن «النهاية» علم
ترادف هين وسهل، وحينئذ فأتى بهما إطناباً (رواه الترمذي وقال: حديث حسن وتقدم في كلام السيوطي من خرجه أيضاً.
75 - باب العفو
أي عن الجاني (والإعراض) بترك المؤاخذة (عن الجاهلين) فلا يؤاخذهم بما يصدر منهم من قول وعمل.
(قال الله تعالى) : ( {خذ العفو} ) وهو وإن كان معناه ما سبق في الباب قبله إلا(5/98)
أن عموم لفظه متناول للعفو عن الظالم ( {وأمر بالعرف} ) أي بالمعروف شرعاً ( {وأعرض عن الجاهلين} ) وذلك لأن في الإعراض عنه إخماداً لشرّه وإذهاباً للهيب جهله قال الشافعي:
قالوا سكتّ وقد خوصمت قلت لهم
إن الجواب لباب الشر مفتاح
(وقال تعالى) : ( {فاصفح الصفح الجميل} ) أي عاملهم معاملة الحليم الصفوح.
(وقال تعالى) في شأن الصدّيق رضي الله عنه لما آلى ألاّ ينفق على مسطح لقوله في الإفك ما قال ( {وليعفوا} ) أي عما فرط منهم ( {وليصفحوا} ) بالإغماض عنه ( {ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟} ) بعفوكم عن الناس وصفحكم.
(وقال تعالى) : ( {والعافين عن الناس} ) التاركين عقوبة من استحقها طلباً لمرضاة الله تعالى ( {والله يحب المحسنين} ) فيه إيماء إلى أن المذكور في الآية صفات المحسنين وأن القائم بها في مقام الإحسان.
(وقال تعالى) : ( {ولمن صبر} ) على الأذى ( {وغفر} ) ولم ينتصر ( {إن ذلك} ) أي صبره المذكور ( {لمن عزم الأمور} ) والآيات قد تقدم الكلام عليها، بعضها في الباب قبله وبعضها قبل ذلك (والآيات في الباب) أي العفو عن المذنب والإعراض عن الجاهل (كثيرة معلومة) .
1643 - (وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت) بفتح الهمزة بدل اشتمال من الضمير(5/99)
المجرور: أي وعنها قولها (للنبي: هل أتى) أي مرّ (عليك يوم) أي زمان (كان أشد من يوم أحد) بضمتين: الجبل المعروف عند المدينة: أي غزوته، وكانت في السنة الرابعة من الهجرة، فإنه شجّ فيها وجهه وكسرت رباعيته وسقط في الحفرة التي حفرها الفاسق الذي كان يلقبه الكفار بالراهب وحصل ما حصل في المؤمنين من قتل نيف وسبعين منهم (قال: لقد لقيت من قومك) أي كفار قريش (وكان) أي ذلك (أشد ما لقيته منهم) والجملة معترضة بين الفعل ومفعوله (يوم العقبة) لم أر من تعرض لبيان محلها والمراد منها في هذا الحديث، لا المصنف في «شرح مسلم» ولا الحافظ في «الفتح» ، ولعلها عقبة عند الطائف بدليل قوله (إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل) طالباً منه النصر والإعانة على إقامة الدين، ويا ليل بتحتية وبعد الألف لام مكسورة ثم تحتية ساكنة ثم لام (ابن عبد كلال) بضم الكاف وتخفيف اللامين بينهما ألف واسمه كنانة، قال في «الفتح» : والذي في المغازي أن الذي كلمه هو عبد يا ليل نفسه، وعند أهل النسب أن عبد كلال أخوه لا أبوه، وأنه عبد يا ليل بن عمر بن عمير بن عوف، ويقال اسم عبد يا ليل مسعود وكان ابن عبد يا ليل من أكبر أهل الطائف من ثقيف، وقد ذكر موسى بن عقبة في مغازيه وابن إسحاق أن عبد يا ليل اسمه كنانة وفد مع وفد الطائف سنة عشر فأسلموا، وذكر ابن عبد البر في الصحابة كذلك، لكن ذكر القاضي أن الوفد أسلموا إلا كنانة، وأنه خرج إلى الروم بعد ومات بها والله أعلم. وقد جاء عند أبي موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري أنه لما مات أبو طالب توجه إلى الطائف أن يؤووه، فعمدوا إلى ثلاثة نفر من ثقيف وهم ساداتهم وهم إخوة، عبد يا ليل وحبيب ومسعود، بنو عمرو فعرض نفسه عليهم وشكا إليهم ما انتهك مه قومه فردوا عليه أقبح رد، وكذا ذكره ابن إسحاق وذكر ابن سعد أن ذلك كان في شوال سنة عشر من المبعث
بعد موت خديجة وأبي طالب اهـ ملخصاً (فلم يجبني إلى ما أردت) أي من الإيواء والإعانة على تبليغ الرسالة إلى العباد (فانطلقت وأنا مهموم) فيه جواز طروء الهم من الأعراض البشرية على الأنبياء وهذا هم في أخروي والمذموم الهم على ما فات من أمور الدنيا (على وجهي) أي الجهة المواجهة لي (فلم أستفق) أي من الغمرة التي لحقته من عدم تسديد أولئك وتأييدهم له. وقال المصنف: أي لم أفطن لنفسي وأنتبه لحالي وللموضع الذي أنا ذاهب إليه وفيه (إلا وأنا بقرن الثعالب) هو بسكون الراء على الصحيح ميقات أهل نجد،(5/100)
ويقال له قرن المنازل على يوم وليلة من مكة، والقرن: كل جبل صغير منقطع منه جبل كبير. وحكى عياض أن بعض الرواة يفتح الراء قال القاضي عياص: وهو غلط. وحكى الفاسي أن من سكن الراء أراد الجبل ومن حركتها أراد الطريق التي تتفرق منه، وأفاد ابن سعد أن مدة إقامته بالطائف كانت عشرة أيام (فرفعت رأسي) يحتمل أن يكون ذلك لكونه أحس بشيء من جانب العلوي أو يكون اتفاقاً فصادف ما قاله (وإذا أنا بسحابة قد أظلتني) أي كستني الظلّ عن الشمس (فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام) إذا فيه وفيما قبله: فجائية وجبريل حينئذ لم يكن في صورته الأصلية لما جاء أنه لم يره فيها إلا في بدء الرسالة وعند سدرة المنتهى (فسلم عليّ) فيه بدء القادم بالسلام (ثم قال) لعل الإتيان بثم إيماء إلى تراخي إخبار جبريل عن أمر الملك باشتغاله بأمر آخر إما مع النبي أو مع غيره من الأملاك (إن الله قد سمع قول قومك) أي الذين دعوتهم إلى الإيمان (وما ردوا عليك) في جواب الدعوة (وقد بعث إليك ملك الجبال) أي الموكل بها المتصرف بما يرد عليه فيها من حضرة الحق (لتأمره بما شئت فيهم) ما فيه موصول اسمي: أي بالذي أردته منهم والعائد محذوف، ويحتمل كونها مصدرية: أي بمشيئتك فيهم، ويؤيد الأخير قول ملك الجبال: لتأمرني بأمرك، وأتى به كذلك ليعم ما يراد منها من التعذيب (فناداني ملك الجبال) أي
عقب كلام جبريل كما يومىء إليه الفاء (فسلم عليّ ثم قال: يا محمد قد سمع الله قول قومك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك) أي من رجم وإطباق، وقله (فما شئت) الفاء تفريعية وما استفهامية منصوبة المحل مفعولاً به مقدماً، ومقتضى كلام الحافظ في فتح الباري أنه عند البخاري فيما شئت بكسر الفاء وزيادة تحتية. قال: وقد رواه الطبراني عن مقدام بن داود عن عبد الله بن يوسف شيخ البخاري قال: «يا محمد إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت» اهـ. ثم رأيته في صحيح البخاري كما قال الحافظ وحينئذ فلعل هذا لفظ رواية مسلم (إن شئت) حذف مفعوله: أي إطباق الأخشبين عليهم إيجازاً لدلالة وجوده في قوله (أطبقت عليهم الأخشبين) بالمعجمتين بعدهما موحدة يأتي المراد به (فقال النبيّ) ممتناً عليه بعفوه(5/101)
عما يتعلق بجنابه الشريف من إيذائهم له وإساءتهم في جوابهم له المقتضى لحلول ذلك بهم إيجازاً (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) المعطوف عليه ببل مقدر يدل عليه الكلام: أي لا آمرك بما فيه هلاكهم بل أرجو الخ، قال العلماء: وما جاء من ألفاظ الترجي في كلام الله سبحانه أو كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو واقع البتة، لكنه عبر بذلك على عادة الملوك، قال البيضاوي في التفسير: عسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها وإنما يطلقونه إظهار لوقارهم وإشعاراً بأن الرمز كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيده اهـ. قال الحافظ: وفي الحديث بيان شفقة النبيّ على قومه ومزيد صبره وحلمه وهو موافق لقوله تعالى:
{فيما رحمة من الله لنت لهم} (آل عمران: 159) ولقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107) (متفق عليه) رواه البخاري في بدء الخلق ومسلم في المغازي ورواه النسائي في البعوث (الأخشبان الجبلان المحيطان بمكة) في النهاية: هما المطبقان بمكة أبو قبيس والأحمر وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان (والأخشب هو الجبل الغليظ العظيم) عبر بدله في النهاية بقوله الخشن.
2644 - (وعنها قالت: ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً) من الحيوانات ولا من غيرها (قط) أي في شيء من الأزمنة التي كان فيها وهي ماضية حال الأخبار عنه وقوله (ولا امرأة ولا خادماً) من عطف الخاص علة العام، وصرح بهما لأنه يعتاد ضربهما وإذا لم يضربهما مع جريان العادة فغيرهما ممن لم يعتد ضربه أولى (إلا أن يجاهد في سبيل الله) استثناء من أعم الأحوال: أي في حال من الأحوال إلا في حال الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى (وما نيل)(5/102)
بالبناء للمجهول (منه شيء) أي ما نال أحد منه شيئاً كما وقع من شج الكفار لرأسه في أحد وإسقاط رباعيته وغير ذلك مما وقع من جهالاتهم وإضراراتهم به في بدنه الشريف وغير ذلك (قط فينتقم) بالنصب في جواب النفي (من صاحبه) أي صاحب الذنب لنفسه، كان يعفو ويصفح ويزيد بالإحسان، كما ورد أنه قيل له يوم أحد: ادع الله عليهم فقال «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» فعفا عن حقه وصفح وزاد إحساناً بالدعاء لهم بغفر ذلك الذنب المتعلق بحقه، إذ لو سأل لهم مطلق لغفران لأجيبت دعوته وآمنوا حالاً واعتذر عنهم (إلا أن ينتهك شيء من محارم الله) يحتمل كون الاستثناء متصلاً: أي إلا ما نيل منه بأن كان فيه انتهاك المحارم كالطعن بارتكاب المحارم (فينتقم) حينئذ من ذلك الطاعن (لـ) حق (الله تعالى) لا لحق نفسه، وعدم انتقامه ممن قال في قسمته: هذه ما أريد بها وجه الله تعالى تأليفاً للقوم على الإسلام كما قال «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» ويحتمل أن
يكون الاستثناء منقطعاً وهو الأقرب، أي لكن إذا انتهكت حرمات الله تعالى انتقم من منتهكها كائناً ما كان (رواه مسلم) .
3645 - (وعن أنس رضي الله عنه قال كنت أمشي) أتى به بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية إشعاراً باستحضاره لذلك (مع رسول الله وعليه برد) تقدم ضبطه (نجراني) منسوب إلى نجران بلدة من بلاد همدان من اليمن، قال البكري: سميت باسم بانيها نجران بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان كذا في المصباح (غليظ الحاشية) أتى به ليرتب عليه مزيد الأثر الآتي (فأدركه أعرابيّ) لم أر من سماه (فجبذه) قيل إنه لغة في جذب وقيل إنه مقلوبه (جبذة شديدة) زاد في رواية «حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه» (فنظرت إلى صفحة) بفتح المهملتين وسكون الفاء بينهما: أي جانب من (عاتق النبيّ) وهو بالمهملة والفوقية والقاف ما بين العنق والكتف (وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته) وذلك من سوء أدبه وجفائه على عادة الأعراب، فمن بدا جفا (ثم قال) على(5/103)
عادتهم في ذلك (يا محمد) ويحتمل أن يكون قبل تحريم ندائه باسمه (مر لي من مال الله الذي عندك) زاد البيهقي في روايته «فإنك لا تحمل من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي ثم قال: المال مال الله وأنا عبده» (فالتفت إليه فضحك) أي من قوله المنبىء بشأنه فشأن الإنسان دليل عقله (ثم أمر له بعطاء) العطاء عبارة عما يجتمع من الأموال من فىء أو غنيمة وخراج وتركة من لا وارث له، والمراد هنا أمر له بشيء من ذلك، وقد جاء أنه حمل له على بعير شعيراً وعلى الآخر تمراً ذكره في الشفاء، وهذا فيه مزيد حسن خلقه، فإنه عفا عن جنايته عليه بجبذه وإيلامه بحاشية ذلك البرد حتى أثر في عاتقه، وزاد على العفو بالبشر الذي هو كما قال من قال:
بشاشة وجه المرء خير من القرى
فكيف بمن يعطي القرى وهو يضحك
ويبذل الإحسان (متفق عليه) .
4646 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر) أي الآن (إلى رسول الله) وعبر بما ذكره إيماء إلى استحضاره فكأنه يخبر عن معاين، وقوله (يحكى نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) جملة حالية من رسول الله، وقوله (ضربه قومه فأدموه) أي أجروا دمه بالجراحات (وهو يمسح الدم) عن وجهه جملة حالية، إما من الضمير البارز في فأدموه لكونه أقرب فيكون حالاً متداخلة إن أعربت الجملة المعطوف عليها حالاً أو من نبياً (ويقول) في تلك الحالة المثيرة للغضب المقتضية للانتقام بعد عفوه عنهم زيادة في الفضل (اللهم اغفر لقومي) أي ما صنعوه معي من الضرب والإدماء، وقوله (فإنهم لا يعلمون) كالتعليل لسؤال المغفرة لهم: أي ما أوقعهم في ذلك إلا جهلهم بقدر النبي وعدم(5/104)
معرفتهم بعلوّ مرتبته إذ لو عرفوه لقدروه حق قدره ففيه بعد الصفح زيادة الفضل بالدعاء لهم بالغفران والاعتذار عنهم بعدم العلم (متفق عليه) .
5647 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ليس الشديد) أي المحمود شدته شرعاً (بالصرعة) بضم ففتح وهو الذي يكثر صرع الناس ويغلبهم. أما الصرعة بضم فسكون: فهو الذي يصرعه الناس كثيراً (إنما الشديد) أي المحمود شرعاً (الذي يملك نفسه عند الغضب) أي الذي هو فوران دم القلب من حدوث أمر غير مرضي ممن هو دونك: أي فيملك نفسه حينئذ عن أن يقع منها إضراراً بالمغضوب منه، بل يعفو عنه ويكظم غيظه (متفق عليه) ورواه الإمام أحمد أيضاً كما في الجامع الصغير.
76 - باب احتمال الأذى
أي في فضل من احتمله لوجه الله سبحانه طلباً لمرضاته.
(قال الله تعالى) : ( {والكاظمين الغيظ} ) بحبس النفس عن مرادها من الانتقام ( {والعافين عن الناس} ) أي التاركين مؤاخذتهم في ذلك ( {والله يحبّ} ) أي يثيب ( {المحسنين} ) وفيه إيماء إلى أن من كان(5/105)
متصفاً بهذه الصفات فهو من المحسنين.
(وقال تعالى) : ( {ولمن صبر} ) على الإيذاء ( {وغفر} ) وصفح عمن آذاه ( {إن ذلك} ) أي ما ذكر ( {لمن عزم الأمور} ) أي معزومها شرعاً (وفي الباب) أي باب احتمال الأذى (الأحاديث السابقة في الباب قبله) وزيادة عليه.
1648 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة) أي ذوي قرابة (أصلهم ويقطعوني) كذا في النسخ بنون واحدة مخففة، وهو محمول على أن المحذوف نون الوقاية اكتفاء عنها بنون الرفع القائمة مقامها فيما قصد بها من وقاية آخر الفعل الكسر بكسرها. ويجوز أن تكون الموجودة نون الوقاية، وحذف نون الأفعال الخمسة لغير جازم ولا ناصب لغة حكاها ابن مالك. ولا يخفي حسن المقابلة في كلامه بين الوصل والقطع، وكذا المقابلة في قوله (وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم) بضم اللام (عنهم ويجهلون عليّ) وحذف متعلقات كل من أصل وأحسن لتذهب النفس في تعيين ذلك كل مذهب وليعم كل ما يطلق عليه اسم شيء من تلك الأنواع (فقال: لئن) اللام فيه مؤذنة بقسم مقدر أتى به تأكيداً للمقام للترهيب من مقابلة الحسن بالسيء. قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) أي والله لئن (كنت كما قلت) من إسدائك الجميل لهم ومقابلتهم حسن صنيعك بقبيح فعلهم (فكأنما تسفهم الملّ) بضم الفوقية أي تجعلهم يسفون الرماد الحار وهذا من خلاف الغالب فإن الغالب من اجتماع القسم، والشرط أن يذكر جواب المقدم منهما ويحذف جواب الثاني لدلالة ذلك عليه، وهذا بعكس ذلك فأجازه ابن مالك تبعاً للفراء ومنعه الجمهور وحملوا قول الشاعر:
لئن كنت ما حدثته اليوم صادقاً
أصم في نهار القيظ للشمس بادياً على أنه ضرورة أو على أن اللام زائدة. ويمكن أن يخرج الحديث على وجه اتفقوا فيه(5/106)
على جواز جعل الجزاء للشرط وإن تأخر عن القسم، وذلك بأن يقدر قبله مبتدأ: أي وأنت والله لئن كنت الخ، وفي مثله يجوز ذلك. وقال ابن مالك يجب، ومنه زيد والله إن يقيم أقم (ولا يزال معك من الله تعالى ظهير) أي معين (عليهم) من تجريدية لكمال إعانة المولى سبحانه لمن كان كذلك (ما دمت على ذلك) ففيه تحريض على الصبر على الإيذاء وأن الانتصار في ذلك يكون من حضرة الحق سبحانه وتعالى لمن كان كذلك (رواه مسلم، وقد سبق شرحه في باب صلة الأرحام) .
77 - باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع
بضمتين: أي ما حرمه، وهو مقتبس من قوله «حرم أشياء فلا تنتهكوها» وقوله «ألا وإن حمى الله محارمه» (والانتصار لدين الله تعالى) أي فعل ذلك كائناً من كان على أيّ شأن، وفي تعقيبه به الباب قبله تقييد لبيان أن محل فضل احتمال الأذى إذا كان مما لا انتهاك فيه للمحارم، وإلا فمن أو ذي بطلب محرم منها لا يصبر على ذلك الإيذاء، بل يدفعه بحسب طاقته.
(قال الله تعالى) : ( {ومن يعظم حرمات الله} ) ومن تعظيمها عدم خرق حجابها وترك انتهاكها والبعد عن حريمها حذر الوقوع في جميعها ( {فهو خير له عند ربه} ) لأن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً. قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} (الزلزلة: 7) .
(وقال تعالى) : ( {إن تنصروا الله} ) في دينه ( {ينصركم} ) على عدوكم، قال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره} (الحج: 40) وقال تعالى: {وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 172) و {إنهم لهم المنصورون} (ويثبت أقدامكم) في(5/107)
الجهاد والطاعة (وفي الباب حديث عائشة السابق في باب العفو) عبر به دون الباب قبله تفنناً في التعبير، والمراد منه قولها «وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله تعالى» .
1649 - (وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو) بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي (البدري) نسبة إلى بدر لنزوله وسكناه إياها وإلا فلم يشهد وقعتها مع النبي، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: جاء رجل) قيل هو حزم بن أبيّ بن كعب، ووقع كذلك في سنن أبي داود وتاريخ البخاري الكبير. وقال الحافظ في «فتح الباري» : إنه وهم ولم أقف على تسميته، وقيل هو حرام بن ملحان، وعليه اقتصر الخطيب، ومشى عليه ابن الأثير، وقيل حازم، وقيل سلمان بن الحارث، قاله البخاري أيضاً في تاريخه، ووقع في أصل قرىء على القرطبي من «شرحه» عن رواية البزار أنه سلم بن علي، وعلى لام سلم علامة الاسكان، وقيل مليكة، وقال القاري: هو كعب بن أبي حزة بفتح المهملة وتشديد الزاي ابن أبي العين وهو وهم كذا في غاية الأحكام، و «جاء» يكون متعدياً كقوله تعالى: {فإن جاءوك} (المائدة: 42) وتارة متعدياً بحرف ومنه ما نحن فيه إذ عدّاه بإلى في قوله (وإلى رسول الله فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح) وعند البخاري صلاة الغداة وعنده أيضاً زيادة القسم والله إني لأتأخر، ومراده أنه ترك حضور الجماعة لتطويل الإمام (من أجل فلان) قال الحافظ هو أبيّ بن كعب كما أخرجه أبو يعلى بإسناده حسن من حديث جابر وليس معاذ ابن جبل خلافاً لابن الملقن وغيره، قال الحافظ: وهو وهم. وفلان كناية عن ذي العلم العاقل المذكر، والظاهر أن الراوي هو الذي كنى عنه والرجل الذي شكاه للنيّ سماه وذلك من حسن الأدب في التعبير (مما يطيل بنا) بدل مما قبله بإعادة العامل: أي من إطالته الصلاة بنا (فما رأيت) أي علمت (النبي غضب في موعظة قط) يفتح القاف وضم الطاء المهملة في أفصح اللغات (أشد) بالنصب نعت مصدر محذوف: أي غضباً أشد، وسببه إما(5/108)
مخالفة الموعوظ لما أعلمه: أي إن ثبت ذلك، أو التقصير في تعليم ما ينبغي تعلمه، ويحتمل أنه لإرادة الاهتمام بما يلقيه لأصحابه، قال في «فتح الباري» :
وهذا أحسن في الباعث على أصل الغضب، أما كونه أشد فالثاني من الاحتمالين الأولين أوجه (مما غضب) ما مصدرية أي من غضبه (يومئذ) ولا يعارض هذا ما جاء من نهيه القاضي أن يقضي حال غضبه لمكانه من العصمة المانعة من حمل الغضب إياه على ما لا ينبغي من قول أو فعل بخلاف غير المعصوم، قاله البرماوي (فقال) عطف على مقدر دلّ عليه سابق الكلام: أي فوعظ فقال (يا أيها الناس إن منكم منفرين) فيه من الإخفاء وتعميم الحكم ما في حديث «ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله» إما للستر عليه وإما للإعراض وذلك من أشد الوعيد (فأيكم أمّ الناس) عند البخاري في بعض طرقه/ «فأيكم ما صلى» وما مزيدة ويكثر زيادتها مع أي الشرطية وفائدتها التوكيد وزيادة التعميم (فليوجز) هو لفظ مسلم، ولفظ البخاري «فليتجوز» أي ليقتصر مع إتمام الأركان والسنن. قال أهل اللغة: أوجزت الكلام قصرته فهو موجز بفتح الجيم وكسرها ووجز ووجيز (فإن من) بكسر الميم (ورائه) أي ممن اقتدى به (الكبير) فيعجز عن الطول لكبره إذ هو مظنة الضعف غالباً (والصغير) الذي لاثبات عنده على الصبر على الإطالة. وفي عمدة الأحكام «الضعيف» بالمعجمة بدل المهملة وبالفاء بدل الراء (وذا الحاجة) فتمنعه من درك حاجته الإطالة ويشتغل خاطره فيسلبه خشوعه الذي هو لب العبادة (متفق عليه) وإخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن الجارود وابن حبان والطبراني والإسماعيلي وأبو عوانة والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، كذا في شرح عمدة الأحكام للقلقشندي.
2650 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله وآله وسلم من سفر) قال في «فتح الباري» في رواية البيهقي: إنها غزوة تبوك وفي أخرة لأبي داود والنسائي غزوة تبوك أو خيبر.(5/109)
على الشك (وقد سترت سهوة لي بقرام) جملة حالية من رسول الله والسهوة بفتح السين المهملة وسكون الهاء سيأتي معناه ومعنى القرام «فيه تماثيل» جملة صفة القرام أو الظرف صفة وتماثيل فاعله، والتماثيل بمثناة ثم مثلثة جمع تمثال وهي الشيء المصرّر أعم من أن يكون شاخصاً، أو يكون نقشاً أو دهاناً أو نسجاً في ثوب (فلما رآه رسول الله) هتكه: أي نزعه، وفي رواية البخاري عن عائشة «فأمرني أن أنزعه فنزعته» (وتلوّن وجهه) أي تغير من غضبه لله سبحانه (وقال: يا عائشة أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة) ظرف لأشد، وقوله (الذين يضاهون بخلق الله) خبر أشد: أي الذين يشبهون ما يصنعونه بما يصنعه الله. وقد استشكل كون المصور أشد عذاباً من قوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} فإنه يقتضي كون المصوِّر أشد عذاباً من آل فرعون. وأجاب الطبري بأنه محمول على من يصوّر ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك قاصد له فإنه يكفر بذلك. وأجاب غيره بأن الرواية بإثبات «من ثابتة ويحذفها محمولة عليها: أي إن المصورين من أشد الناس عذاباً. وقال أبو الوليد بن رشد: إن كان الحديث في حق كافر فلا إشكال فيه لأنه يكون مشتركاً في ذلك مع آل فرعون ويكون فيه دلالة على عظم كفر المذكورين، وإن كان ورد في حق عاص فيكون المراد أشد عذاباً من غيره من العصاة ويكون دالاً على عظم المعصية المذكورة. وأجاب القرطبي في المفهم بأن الناس إذا أضيف إليه أشد لا يراد به كلهم بل البعض، وهو من يشارك في المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد الناس الذين ادعوا الألوهية عذاباً ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشد عذاباً ممن يقتدي به في ضلالة فسقه. ومن صوّر صورة ذات روح للعبادة أشد ممن يصورها لا
للعبادة. واستشكل ظاهر الحديث أيضاً إبليس وابن آدم الذي سنّ القتل. ويجاب بأن المراد من الحديث من ينسب إلى آدم فخرج إبليس، وأما ابن آدم فالثابت في حقه أن عليه أوزار من يقتل ظلماً، ولا منع أن يشاركه في مثل تعذيبه من ابتدأ الزنى مثلاً فإن عليه مثل أوزار الزناة بعده، لأنه أوّل من سن ذلك، ولعل عدد الزناة أكثر من القاتلين (متفق عليه) أخرجه البخاري ومسلم في اللباس من صحيحيهما وأخرجه النسائي في الزينة (السهوة) بضبطها السابق (كالصفة تكون بين يدي البيت) وقيل الكوة وقيل الرف، وقيل أن يبني من البيت حائط صغير ويجعل السقف على الجميع، فما كان وسط(5/110)
البيت فهو السهوة وما كان داخله فهو المخدع، وقيل داخله في ناحية البيت وقيل بيت صغير شبيه المخدع، وقيل بيت صغير منحدر في الأرض وسمكه مرتفع من الأرض كالخزانة الصغيرة ويكون فيها المتاع، ورجح هذا الأخير أبو عبيد ولا مخالفة بينه وبين الذي قبله. ووقع في رواية البخاري عن عائشة أنها علقته على بابها وكذا عنها عند مسلم، فتعين أن السهوة بيت صغير علقت الستر على بابه، قاله في الفتح (والقرام بكسر القاف) وتخفيف الراء (هو ستر رقيق) في الفتح هو ستر فيه رقم ونقش. وقيل ثوب من صوف ملون يفرش في الهودج أو يغطى به اهـ. (وهتكه أفسد الصور التي فيه) وهذا أحد معاني هتك. قال في «المصباح» : هتك زيد الستر من باب ضرب خرقه فانتهك، قاله الأزهري وتبعه الزمخشري جذبه حتى نزعه من مكانه أو شقه حتى أظهر ما وراءه.
3651 - (وعنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية) قال العراقي في مبهماته: هي فاطمة بنت أبي الأسد بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد ذكره عبد الغني. وقيل هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد ذكره عبد الرزاق (التي سرقت) وكان ذلك يوم الفتح (فقالوا: من يكلم فيها رسول الله؟) أي شفيعاً عنده فيها، والشفاعة في الحدود بعد بلوغها الإمام ممتنعة لحديث الباب وما في معناه وقيل بلوغها له مستحبة إلا إذا كان ذلك صاحب شرّ وأذى فلا يشفع فيه (فقالوا من يجترىء) من الجرأة الإقدام أي يتجاسر عليه بطريق الإدلال (عليه إلا أسامة بن زيد حبّ رسول الله) بكسر الحاء: أي محبوبه ففيه منقبة ظاهرة لأسامة (فكلمه) معطوف على محذوف دلّ عليه السياق: أي فكلموه فكلمه (أسامة فقال رسول الله: أتشفع في حدّ من حدود الله تعالى؟) أي بعد رفعه إليّ (ثم قام فاختطب) أي خطب كما في نسخة، وأتى به من باب الافتعال الدال على الاعتمال إيماء إلى أنه(5/111)
بالغ في الموعظة (ثم قال) أي بعد أن وعظ وخوّف وحذر وأنذر كما تومىء إليه ثم (إنماأهلك الذين من قبلكم) أي الأمم (أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف) قدراً ووجاهة (تركوه) لوجاهته وشرفه. ثم الجملة الشرطية خبر كان (وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) لخموله وسقوط وجاهته (وايم الله) بضم الميم والهمزة فيه للوصل وهو من لغات أيمن بفتح الهمزة في الأفصح وتكسر. قال ابن هشام: هوا سم مفرد مشتق من اليمن والبركة لا جمع يمين خلافاً للفراء وفيه اثنتا عشرة لغة جمعها ابن مالك في قوله:
همز ايم وايمن فافتح واكسرن أم قل
أو قل م أو من بالتثليث قد شكلا
وأيمن اختم به والله كلا أضف
إليه في قسم تستوف ما نقلا
وذكر السيوطي في «شرح جمع الجوامع» له في النحو في ذلك عشرين لغة (لو أن فاطمة بنت محمد) (سرقت) أتى به مبالغة وهو على سبيل الفرض الذي يستعمل فيما لا يكون أصلا لا الوقوع، وكان التقى السبكي يزيد بعد هذا قوله. حاشاها من ذلك، وهو أدب حسن (لقطعت يدها) مع أنها أشرف نساء هذه الأمة. ففيه أن شرف الجاني لا يسقط الحد عنه، وأن أحكام المولى سبحانه يستوي فيها الشريف والوضيع (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام، ومسلم في الحدود، ورواه أصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
4652 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله رأى نخامة) بضم النون. قال ابن سيده في «المحكم» : نخم الرجل: دفع بشيء من صدره وأنفه. وقال في «الصحاح» والمجمل: النخامة: النخاعة. وفي «المغرب» و «المطرب» للمطرزي: هو ما يخرج من الخيشوم. وفي التهذيب للمصنف: النخامة ما يلفظه الإنسان كالنخاعة (في القبلة) أي في الجدار الذي يستقبلونه حال استقبالهم القبلة (فشقّ ذلك عليه حتى رؤى) أثر ذلك (في وجهه) من الغضب(5/112)
الذي كان يعتريه لله إذا انتهكت حرمات الله (فقام) أي عقب الإطلاع عليه (فحكه) إزالة للمنكر باليد. ويحتمل أنه كان باقياً على طراوته فأزاله بيده مها. ويحتمل أن يكون قد جف فمعنى أزله (بيده) أي بما فيها من نحو عود (فقال: إن أحدكم) أي الواحد منكم (إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه) جواب إذا، ومناجاته لربه من جهة إتيانه بالقرآن والأذكار ومناجاة ربه له من جهة لازم ذلك وهو إرادة الخير مجازاً، لأن الحقيقة وهو الكلام المحسوس مستحيلة في حقه تعالى. والمناجاة: المسارة يقال ناجيته ونجوته إذا ساررته (وإن) بكسر الهمزة وفتحها والواو للعطف وهذا ما في بعض نسخ البخاري، وفي بعضها «أو» وهي إيماء إلى أن بعض رواته شك في ذلك (ربه بينه وبين القبلة) قال الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه، فصار التقدير أن مقصوده بينه وبين قبلته. وقيل هو على تقدير مضاف: أي عظمة الله أو ثوابه، وقيل هو كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة (فلا يبزقن) بضم الزاي وقد تبدل صادا لوقوعها قبل القاف (أحدكم قبل) بكسر ففتح: أي مقابل (القبلة) أي لأنها الجهة التي أمر الله بتعظيمها فلا تقابل بالبزاق. قال الشيخ زكريا في «تحفة القارى» : والنهي للتحريم (ولكن عن يساره أو تحت قدمه) متعلق الظرف محذوف دلّ عليه ما قبله: أي ليبزق فيهما (ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه) الصاد فيه بدل من الزاي (ثم ردّ بعضه على بعض) ليذهب جرم البزاق ويستهلك بذلك
(فقال أو يفعل هكذا) وأو فيه وفيما قبله للتنويع: أي هذه أحب (متفق عليه) رواه البخاري في أبواب المساجد من «صحيحه» ، ومسلم في كتاب الصلاة (والأمر بالبصاق عن يساره، أو تحت قدمه هو فيما إذا كان في غير المسجد) فيفعل ما أراد من الأمور الثلاثة (فأما في المسجد) جامعاً كان أو غيره (فلا يبصق إلا في ثوبه) لحرمة البصاق فيه، قال «البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها(5/113)
دفنها» قال المصنف: أي كفارة دوام إثم ذلك، أما الابتداء فلا يكفره إلا التوبة أو فضل الله سبحانه وتعالى.)
78 - باب أمر ولاة الأمور
بضم الواو جمع وال كقاض وقضاة وغاز وغزاة (بالرفق برعاياهم) جمع رعية كخطية وخطايا: وهم الذين على ولاة الأمور مراعاة شؤونهم وإصلاح أمورهم (ونصيحتهم) عطف على الرفق وكذا قوله (والشفقة عليهم والنهي) معطوف على أمر (عن غشهم) كتم ضرائرهم عنهم (والتشديد عليهم) في الأحكام وفي الأحوال (وإهمال مصالحهم) بأن يتركها حتى تفوتهم (والغفلة) معطوف على غش: أي والنهي عن الغفلة (عنهم وعن حوائجهم) لأن ذلك يضرّهم معاشاً ومعاداً.
(قال الله تعالى) : ( {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} ) الظرف في محل الحال بيان للموصول، والآية تقدم الكلام عليها وساقها المصنف هنا استدلالاً على ما قدمه من الرفق بالرعايا.
(وقال تعالى) : ( {إن الله يأمر بالعدل} ) بالتوسط في الأمور اعتقاداً وعملاً ( {والإحسان} ) إلى الناس، وعن ابن عباس: العدل التوحيد، والإحسان: الإخلاص فيه (وإيتاء ذي القربى) صلة الرحم ( {وينهي عن الفحشاء} ) ما غلظ من المعاصي كالزنى ( {والمنكر} ) ما ينكره الشرع ( {والبغى} ) العدوان على الناس (يعظكم لعلكم تذكرون) أي تتعظون، وللَّه درّ من قال: لو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة» ولعل إيرادها عقب قوله: {وأنزلنا عليك الكتاب} () للتنبيه عليه، وجملة يعظكم مستأنفة أو في محل الحال من ضمير يعظكم، والآية مشتملة على(5/114)
جميع المطالب التي ترجم لها.
1653 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله يقول: كلكم راع) تشبيه بليغ: أي مثل الراعي، قاله العاقولي وأفرد الخبر اعتباراً بلفظ كل، ويجوز فيها إذا كانت مضافة إلى المعرفة اعتبار لفظها واعتبار معناها (وكلكم مسئول عن رعيته) أي أقام بالحق الذي لها أم لا (الإمام) أي ذو الخلافة العظمى ومثله سائر ولاة الأمور (راع ومسؤول عن رعيته) يحتمل كونه من عطف خبر على مثله نحو زيد كاتب وشاعر، ويحتمل كونه من عطف الجمل: أي وهو مسئول فيكون معطوفاً على الجملة قبله (والرجل راع) أي على أهله وأولاده وخدمه (ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) من بيته هل حفظته أو أضاعته؟ وعن أهله المقامة عليهم، هل قامت بما عليهم لها أم لا؟ (والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته) أحفظها عليه أم أضاعها؟ (متفق عليه) تقدم معنى الحديث وتخريجه في باب حق الزوج على امرأته.
2654 - (وعن أبي يعلى) ويقال أبو عبد الله ويقال أبو يسار (معقل بن يسار) بفتح التحتية وبالسين المهملة ابن معبر بضم الميم وفتح العين وتشديد الموحدة، وقيل بإسكان العين وفتح المثناة تحت ابن حراف بضم المهملة، وقيل حسان بدل حراف ابن لأي بن كعب بن نور بن عدنان المزني البصري (رضي الله عنه) شهد بيعة الرضوان، ونزل البصرة وتوفي بها آخر خلافة معاوية، وقيل توفي أيام يزيد، روى له عن رسول الله أربعة وثلاثون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين. قال أحمد ابن عبد الله العجلي، ليس في الصحابة من يكنى أبا علي غير معقل. وردّ بأنها كنية طلق بن علي. وذكر أبو يحيى أحمد الحاكم أن قيس بن عاصم كنيته أبو علي ومعقل هذا(5/115)
هو الذي ينسب إليه نهر معقل البصري وإليه ينسب التمر المعقلي الذي بالبصرة (قال: سمعت رسول الله يقول: ما من عبد يسترعيه الله رعية) أي يفوض إليه رعايتها والرعية بمعنى المرعية (يموت) خبر ما، كذا أعربه ابن مالك في شرح المشارق، والظاهر أنه كما قبله صفة عبد والخبر محذوف (يوم يموت) ظرف مقدم على عامله، والمراد من اليوم فيه إزهاق روحه، وما قبله من حين المعاينة التي لا يقبل عندها التوبة لا قبل ذلك، فإن التوبة قبل المعاينة صحيحة مقبولة والتائب عن جنايته وتقصيره لا يستحق هذا الوعيد (وهو غاشّ لرعيته) جملة حالية من ضمير يموت الأول وهو قيد في الفعل ومقصود بالذكر لأن المعتبر من الفعل هو الحال، بمعنى أن الله ولاه لينصحهم لا ليغشهم فيموت كذلك، والخبر عامل في الظرف قبله وقوله غاش أي خائن (إلا حرم الله عليه الجنة) أي دخولها مع الفائزين الناجين أو مطلقاً إن اعتقد حل غش المسلمين وخيانتهم (متفق عليه) .
(وفي رواية) ذكرها البخاري في كتاب الأحكام قبل الحديث قبله في باب من استرعى رعية فلم ينصح لهم. وظاهر قول المصنف الآتي وفي رواية لمسلم أن هذه لهما كالتي قبلها ولم أره فيه (فلم يحطها) بفتح التحتية وضم الحاء وسكون الطاء المهملتين: أي يكلؤها، أو يصنها وزنه ومعناه والاسم الحياطة يقال حاطه إذا استولى عليه وأحاط به مثلها أي يشملها (بنصحه) فيسعى فيما ينفعهم ودفع ما يضرهم (لم يجد) قيل الصواب إثبات إلا قبل لم لتقدم ما النافية أول الحديث، وقد جاء كذلك في نسخة الصغاني، ولذا قال الكرماني: مفهوم الحديث أنه يجدها وهو عكس المقصود. والجواب أن إلا مقدرة والخبر محذوف. والتقدير: ما من عبد فعل كذا جوزي بحال من الأحوال إلا حرّم الله عليه الجنة ولم يجد عرف الجنة استئناف كالمفسر للخبر المحذوف أو ليست ما نافية، وجازت زيادة من للتأكيد في الإثبات عند بعض النحاة. قال الحافظ ابن حجر: لم يقع الجمع بين اللفظين المتوعد بهما في طريق واحدة بل كل في طريق غير الأخرى، وكأنه أراد أن الأصل(5/116)
في الحديث جمعهما فحفظ بعض ما لم يحفظه بعض وهومحتمل، لكن الظاهر أنه لفظ واحد تصرفت فيه الرواة، ومفعول يجد قوله (رائحة الجنة) أي ابتداء أو مطلقاً على ما تقدم، وقوله فلم يحطها بنصحه بدل قوله في الحديث قبله «يموت يوم يموت» إلى آخر الحديث. زاد الطبراني «وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاماً» قال في التوشيح: وللطبراني «من مسيرة خمسمائة» وفي الفردوس «ألف عام» وجمع بأن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأعمال وتفاوت الدرجات، فيدركه من شاء من مسيرة ألف عام ومن شاء من مسيرة أربعين أو مائتين، قاله ابن العربي وغيره (وفي رواية لمسلم) أي وما قبلها للبخاري فقط كما أشرنا إليه وإن كان ظاهر الاستصحاب لما قبله أن يكون لهما أيضاً (ما من أمير يلي أمور المسلمين) ما تفيده عموم إضافة الجمع غير مرادة بل الحديث شامل لذى الإمامة العظمى ولغيره من
باقي الولاة، وظاهر أن مثل المسلمين أولى بالعصمة من ذمي ومعاهد لحمرة التعرض لهم حينئذ فيجب على الإمام أن يسعى فيما لهم ويكف عنهم أذى من يؤذيهم بغير طريق مأذون فيه شرعاً، ولعل الاقتصاد عليهم لكونهم أشرف، وقد تقدم بلفظ «يسترعيه الله رعية» فيشمل الجميع (ثم لا يجهد لهم) بفتح الهاء قال في «المصباح» جهد في الأمر من باب نفع: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب (وينصح لهم) بتقدير «لا» قبله لأن الوعيد مرتب على ترك أحدهما لا على ترك المجموع بدليل رواية البخاري السابقة (إلا لم يدخل معهم الجنة) .
3655 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول في بيتي هذا) الظرف في محل الحال من الضمير المستكن في الفعل وإضافة البيت إليها لكونه سكناها وإلا فهو بالحقيقة له، والإشارة إليه زيادة في الإيضاح ودفعاً لتوهم كون الإخبار في غير بيتها الذي به دفن ومعه صاحباه رضي الله عنهما (اللهمّ من ولي من أمر أمتي شيئاً) التنكير فيه للتعميم فيشمل جليل الولاية ودنيئها، و «من» في قوله «من أمر أمتي» ابتدائية،(5/117)
ويصح كونها بيانية لشيئاً في محل الحال وكان صفة فلما قدمت أعربت حالاً (فشق عليهم) قولاً وفعلاً (فاشقق عليه) فيكون الجزاء من جنس العمل: أي وقعه في المشاق دنيا كتسليط الأعادي عليه، وأخرى بأنواع التعذيب (ومن ولى من أمر أمتي شيئاً) أتى به ظاهراً مع أن المقام للإضمار بأن يقال «منه» زيادة في الإيضاح لكون غالب شأن ولاة الأمور قلة العلم وبعد الفهم لاشتغالهم بأمور الإمامة وسياستها عن دقائق العلوم ورياستها، فأوضح لتقوم الحجة عليهم فلا يعتذورا بخفاء المراد من عبارة الشارع عليهم وتنبيهاً على السبب الداعي لجزاء الأمير بما فعله فيهم من رفق ومشقة: أي كونهم أمته مضافين لحضرته مستأهلين لذلك السعي في مصالحهم والجهد في دفع ضرائرهم والله أعلم (فرفق بهم) قولاً وفعلاً (فارفق به) دنيا وأخرى، وقد جاء «كما تدين تدان» (رواه مسلم) في المغازي من «صحيحه» ، ورواه النسائي في السير.
4656 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كانت بنو إسرائيل) هو اسم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بالعبرانية، وإسر معناه عبد، وإيل معناه الله: أي عبد الله (تسوسهم الأنبياء كلما هلك تبنى خلفه نبيّ آخر) أي إنهم كانوا إذا ظهر فيهم فساد بعث الله نبياً يقيم لهم أمرهم ويزيل ما غيروه من أحكام التوراة. وفيه إيماء إلى أنه لا بد لرعية ممن يقوم بأمرها ويحملها على الطريق وينصف المظلوم من ظالمه، وجملة كلما الخ في محل الحال من فاعل يسوس: أي الأنبياء تترى بعضهم إثر بعض، وجملة (وإنه لا نبي بعدي) معطوفة على كانت بنو إسرائيل واسم إنّ ضمير الشأن وخولف بين المعطوف والمعطوف عليه لإرادة الثبات والتوكيد في الثاني، والمراد لا نبيّ بعدي: أي فيفعل ما كان يفعل أولئك (وسكون بعدي خلفاء) الظرف في هذه لم أجده في النسخ المصححة من «الصحيحين» بل في «فتح الباري» «وستكون خلفاء» أي بعدي فهو صريح في عدم وجودها في البخاري، ولعله في بعض النسخ عندهما أو عند أحدهما (فيكثرون) بالمثلثة، وحكى عياض أن منهم(5/118)