بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين
لـ {ابن علان الصديقى}
نبذة عن الشارح
محمد علي بن محمد علان بن إبراهيم البكري الصديقي الشافعي: مفسر, عالم بالحديث, من أهل مكة. له مصنفات ورسائل كثيرة, منها " ضياء السبيل" في التفسير, و" الطيف الطائف بتاريخ وَجّ والطائف - خ" و" شرح قصيدة ابن المليق وقصيدة أبي مَديَن - ط" و" الفتح المستجاد لبغداد" " المنهل العذب المفرد في الفتح العثماني لمصر ومن ولي نيابة ذلك البلد" وثلاثة تواريخ في " بناء الكعبة" و" دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - ط" ثمانية أجزاء, في شرح " رياض الصالحين" للنووي, و" المواهب الفتحية على الطريقة المحمدية - خ" في التصوف, و" التلطف في الوصول إلى التعرف - خ" في الأصول, و"الفتوحات الربانية على الأذكار النووية - ط" و" رفع الخصائص - خ" و" مثير شوق الأنام إلى حج بيت الله الحرام - خ" و" إتحاف الفاضل بالفعل المبني لغير الفاعل - ط" لغة.(/)
مقدمة الشارح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل ذكره رياض الصالحين، ومناجاته غذاء أرواح الفالحين والخضوع بين يديه والتضرع إليه عزّ العارفين، والتخلق بالأخلاق المحمدية والأخلاق النبوية شأن العالمين العاملين. أحمده سبحانه على نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ القاصد من فضله سؤله وأمله، وتنيله من بحر جوده ما قصده وأمله، ويعطيه بها من أنوار العرفان ما أشرق قلبه ونوره وكمله. وأشهد أن سيدنا ونبينا ووسيلتنا إلى ربنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وحبيبه، وخليله، المؤيد بأنواع المعجزات الباهرة، المكرم بالمكرمات الباطنة والظاهرة، الذي لا تحصى نعوته الشريفة ومناقبه، ولا تعدّ ولا تحصر آياته المنيفة ومواهبه.
فإن فضل رسول الله ليس له ... حدّ فيعرب عنه ناطق بفم
صلَّى اللَّه عَليه وسلَّم، وزاده فضلاً وشرفاً لديه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ووارثيه العلماء العاملين وأحزابه، صلاة وسلاماً دائمين متلازمين دائبين بدوام ملك الله تعالى وأمداده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، كلما ذكره ذاكر، وغفل عن ذكره غافل، أداء لبعض حقوق سيد عباده. آمين.
وبعد: فهذا ما دعت إليه الحاجة من وضع تعليق لطيف، على نهج منيف، على كتاب «رياض الصالحين» تأليف شيخ الإسلام، علم الأئمة الأعلام، أوحد العلماء العاملين، والأولياء الصالحين، عين المحققين، وملاذ الفقهاء والمحدثين، وشيخ الحفاظ، وإمام أرباب الضبط المتقنين، شيخ الإسلام والمسلمين، الشيخ أبي زكريا يحيى محيي الدين بن شرف النووي الشافعي، تغمده الله برحمته، وأسكنه بحبوح جنته، وأعاد عليّ وعلى المسلمين من بركته، لما أنه قد جمع ما يحتاج إليه السالك في سائر الأحوال، واشتمل على ما ينبغي التخلق به من الأخلاق والتمسك به من الأقوال والأفعال. مغترفاً له من عباب الكتاب والسنة النبوية، ناقلاً لتلك الجواهر من تلك المعادن السنية. ولم أقف على كتابة عليه،(1/23)
تكون كالدليل للسالك إليه، فاستخرت الله تعالى بالروضة الشريفة النبوية، عند سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام الخلائق أجمعين وزاده فضلاً وشرفاً لديه، في وضع هذا التعليق عليه، ليكون كالرامز إليه. والمسؤول من الله سبحانه أن يعين على إتمامه. والسداد في تحرير أحكامه، وأن يجعله مصوناً من الخطأ والخطل، محفوظاً من الزيغ والزلل، خالصاً لوجهه الكريم، ذخيرة معدة عند سيدنا ونبينا وشفيعنا سيد المرسلين، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهو المعين، وبه أستعين، وسميته:
دليل الفالحين: لطرق رياض الصالحين
قال المصنف رحمه الله تعالى:(1/24)
(بسم الله الرحمن الرحيم) أي أؤلف، والاسم: مأخوذ من السمو، وهو العلو، وا علم على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، والرحمن الرحيم، صفتان بنيتا للمبالغة من رحم كعلم، بعد نقله إلى فعل كشرف، أو تنزيله منزلة اللازم، والمراد من الرحمة في حقه تعالى، لاستحالة قيام حقيقتها به من الميل النفساني غايتها، وهو إرادة الإحسان والتفضل، أو نفس الإحسان مجازاً مرسلاً، من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، فعلى الأول تكون صفة ذات، وعلى الثاني تكون صفة فعل.
(الحمد) الحمد اللفظي لغة: الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التعظيم. وعرفاً: فعل ينبىء عن تعظيم المنعم لكونه منعماً على الحامد أو غيره، فبينهما عموم وخصوص وجهي، وجملة الحمد خبرية لفظاً، إنشائية معنى. وقيل: خبرية لفظاً ومعنى. وقيل: يجوز أن تكون موضوعة شرعاً لإنشاء الحمد، وهي مفيدة لاختصاصه با تعالى، سواء أجعلت أل فيه للاستغراق كما عليه الجمهور، أم للجنس كما عليه الزمخشري، أم للعهد كما أجازه بعضهم، واللام في للاختصاص. وبدأ بالبسملة ثم بالحمدلة اقتداء بالكتاب العزيز، وعملاً بمقتضى خبر «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم» وفي رواية: «بالحمد، فهو أبتر» ، وإشارة إلى أنه لا تعارض بين الابتداءين، إذ الابتداء حقيقي وهو ما لم يسبق بشيء البتة، وإضافي وهو ما سبق بغير ما التصنيف بصدده. أو يقال: الابتداء أمر عرفي يعتبر ممتداً إلى الشروع في المقصود، فيسع أمرين فأكثر (الواحد) أي ذاتاً وصفة وفعلاً، فلا شريك له في شيء منها (القهار) أي: الذي قهر الخلائق وقسرهم بقدرته الأزلية، فلا يكون سوى مراده، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن بوجه من الوجوه (العزيز) أي الذي لا يغالب في حكمه، ولا يدافع في أمره، ولا يمانع في مراده (الغفار) أي الستار على ذنوب العصاة بعدم المؤاخذة بها، وفي التصدير بهذه الأسماء إيماء إلى أنه ينبغي أن(1/25)
يكون الرجاء والخوف للإنسان أي حال الصحة بمثابة جناحي الطائر، وذلك أنه أشار إلى مقام الخوف بذكر الأسماء الثلاثة، والرجاء بالاسم الأخير والحكمة في المبالغة في المقام الأول أن من شأن النفس - لا سيما عند عدم رياضتها - الميل إلى المخالفات والمنهيات، فصدّر بذكر ما يدل على مقام الخوف، والتحذير من بطشه سبحانه ليكون قائداً للعبد إلى أبواب مولاه وإحسانه وسبباً للانزجار عن المخالفات (مكور الليل على النهار) قال الواحدي في «الوسيط» : أي يدخل هذا على هذا، والتكوير:
طرح الشيء على الشيء، واكتفى بذكر تكوير الليل عن ذكر مقابله وإنما اقتصر عليه لشرفه، لأنه موسم الخيرات للسالكين ومحل الاشتغال بالذكر والصلاة والمناجاة مع رب العالمين (تذكرة) مفعول له علة للتكوير أو حال منه (لذوي القلوب) أي لأصحاب القلوب العظيمة (والأبصار) في مفردات الراغب: البصر يقال للجارية الناظرة وللقوة التي فيها ولقوة القلب المدركة، ويقال لها بالمعنى الأخير بصيرة أيضاً اهـ. وعلى كل فالعاطف هنا من عطف المغاير: أما على الأولين فواضح، وأما على الأخير فإن البصر والبصيرة اسمان لقوة القلب المدركة لا للقلب، وأتى به دون البصائر ليكون اللفظ شاملاً لكل ذلك بناء على مذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه، من جواز استعمال المشترك في معانيه ومراعاة للسجع المستلذ في السمع (وتبصرة) هو كالتبصير مصدر لبصر المضاعف كقدم تقدمة وتقديماً (لذوي الألباب) جمع لب: أي العقول ويجمع على ألب كبؤس على أبؤس، ونعم على أنعم. قال في «القاموس» : ويجمع على ألبب. (والاعتبار) والمراد منهم الذين يتفكرون في الآلاء ويعرفون أنها لم تخلق عبثاً وأن له سبحانه في كل مغنى معنى، وما أحسن قول من قال:
لا تقل دارها بشرقي نجد
كل دار للعامرية دار
ولها منزل على كل ماء
وعلى كل دمنة آثار
فيستدلون بالآثار على عظيم الاقتدار، ويعرفون بما يرد عليهم من الأحوال أنه لهم بذلك متعرف (الذي أيقظ) أي نبه من سنة الغفلة، ففيه استعارة مكنية يتبعها استعارة تخييلية شبه الغفلة بالنوم بجامع انتفاء الكمال في كل منهما، وقد ورد في الحديث: «مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله مثل الحي والميت» .
والتشبيه المضمر في النفس استعارة مكنية وإثبات الإيقاظ الذي هو من لوازم المشبه به استعارة تخييلية (من خلقه) أي:(1/26)
مخلوقاته، وهو بيان لمن في قوله: (من اصطفاه) من الصفوة بتثليث الصاد وهو الخلوص: أي اختاره (فزهدهم في هذه الدار) أي في الدنيا يعني: لما أيقظهم أدركوا حقيقة الدنيا وأنها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء فزهدوا فيها وأعرضوا عن زهراتها، وأخذوا منها قدر الضرورة، وجعلوا ما وصل إليهم من ذلك من غير تطلع إليه مقدماً بين أيديهم وعند مولاهم ذخيرة (وشغلهم) بتخفيف الغين المعجمة وتشديدها للمبالغة (بمراقبته) أي بدوام نظر أنه سبحانه وتعالى ناظر لأعمالهم محيط بأقوالهم وأفعالهم فأقبلوا على إحسان العمل، وحفظوا أنفسهم من الزيغ والزلل، إذ لا يقع العصيان إلا مع الغفلة المعترية للإنسان (ومداومة) وفي نسخة وإدامة (الافتكار) أي: التفكر في مصنوعاته والاستدلال بذلك على ألوهيته وعظيم قدرته، قال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض} (آل عمران: 190 - 191) - الآية. وفي الحديث: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله» وجاء بلفظ: «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره» وفي الحديث أيضاً مرفوعاً كما في «الكشاف» : «بينما رجل مستلق في فراشه إذ رفع رأسه إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أن لك رباً وخالقاً، اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له» . فقال: «لا عبادة كالتفكر» وقيل: الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع والنبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة» .
وقد روي: «أن يونس عليه السلام كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض» قالوا: وإنما كان ذلك للتفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب، لأن أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض. انتهى ما في «الكشاف» . قال ابن عباس وأبو الدرداء: فكرة ساعة خير من قيام ليلة. قال السريّ السقطي: ساعة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الجنة، كذا في شرح رسالة ابن أبي زيد لداود: (وملازمة الاتعاظ) أصله الإيتعاظ بياء تحتية ساكنة بعد الهمزة المكسورة وبعدها تاء الافتعال فقلبت الياء تاء فوقية وأدغمت في تاء الافتعال على القاعدة في ذلك: أي: أنهم كلما نزل بهم فقد شيء من مال أو إنسان اتعظوا بذلك ونظروا إلى أن مآل الجمع الفناء، وأن ما نزل بأخيك كأنه قد نزل بك. فالسعيد من اتعظ بغيره وأقبل على ما فيه في المعاد أنواع خيره (و) ملازمة (الادكار)(1/27)
بالمعجمة والمهملة وأصله اذتكار بمعجمة ثم فوقية، فأبدلت الفوقية لما في التلفظ بها بعد الذال المعجمة من الثقل ذالاً معجمة أو مهملة وأدغم فيها فاء الفعل، والاذكار هو الذكر بعد النسيان والتنبه بعد سنة الغفلة (ووفقهم) من التوفيق، وهو خلق القدرة على الطاعة في العبد، وهو عزيز ولذا لم يذكر في القرآن إلا في قوله تعالى: {وما توفيقي إلا با} (هود: 88) وأما قوله تعالى: {إن أردنا إلاّ إحساناً وتوفيقاً} (النساء: 62) وقوله تعالى: {يوفق الله بينهما} (النساء: 35) فمن مادة الوفاق (للدءوب) أي: المداومة والاجتهاد (في) مزاولة (طاعته والتأهب) أي: الاستعداد (لدار القرار) أي: الدار الآخرة (والحذر) بالجر عطفاً على الدءوب أو على التأهب قولان في مثله، الراجح منهما الأوّل، ما لم تقم قرينة على خلافه (مما يسخطه) أي يكون سبباً لسخطه سبحانه من المخالفات والعصيان. وفي «مفردات الراغب» : السخط من الله تعالى إنزال العقوبة اهـ. وهو بيان للمراد منه إذا وصف به الباري سبحانه:
(ويوجب دار البوار) كالمفسر للسخط، ثم الذي يوجب النار هو الموت على الكفر والعياذ با تعالى، وفي نسبة الإيجاب إليه تجوّز في الإسناد، إذ الموجب لذلك بذلك هو الله سبحانه وتعالى: أما في العصيان فالصغائر المتصلة بحقوق الله تعالى مكفرة بصالح العمل ومنه اجتناب الكبائر، والمتعلقة بحق العباد لا بد من إرضاء مستحقها، والكبائر لا يكفرها إلا التوبة أو فضل الله سبحانه (و) وفقهم لـ (لمحافظة على ذلك) أي: المذكور من الدءوب في الطاعة والحذر مما يوجب السخط (مع تغاير الأحوال) أي: اختلافها، ظرف وقع حالاً من المحافظة، يعني: أن تغاير الأحوال: أي اختلافها بالخصب والجدب والرخاء والشدة والفراغ والشغل بالتجارة ونحوها من مزاولة أعمال النفس والعيال لم يؤثر في سلوكهم وإقبالهم على عبودية مولاهم من امتثال أوامره واجتناب زواجره إجلالاً له سبحانه، قال الله تعالى: {رجال(1/28)
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر ا} (النور: 37) وقال: «ليذكرنّ الله قوم على الفرش الممهدة» . وقال الشاعر:
فلو قطعتني إرباً فإربا
لما حن الفؤاد إلى سواكا
والأحوال جمع حال يجوز تذكير لفظها وتأنيثه بأن يقال: حالة وتذكير معناها وتأنيثه، والأرجح تأنيث معناها فيقال: حال حسنة. قال الراغب في «مفرداته» : الحال ما يختص به الإنسان وغيره من أموره المتغيرة في نفسه وجسمه وشأنه والحول: ماله من القوة في أحد هذه الأصول الثلاثة (و) تغاير (الأطوار) أي: الاختلاف في الخلق والخلق كما يفهم من مفردات الراغب (أحمده) أي: أصفه بجميع صفاته إذ كل منها جميل، ورعاية جميعها أبلغ في التعظيم، قيل: وهو أبلغ من الأول لأنه حمد بجميع الصفات برعاية الأبلغية وذاك بواحد منها وهي المالكية وإن لم تراع الأبلغية بأن يراد الثناء ببعض الصفات فذلك البعض أعم من هذه الواحدة لصدقه بها وبغيرها على الكثير، فالثناء بهذا أبلغ في الجملة أيضاً، نعم الثناء بالأول من حيث تفصيله: أي تعيينه أوقع في النفس من هذا، وقيل: بل التحقيق أن الحمد بالأول أبلغ وأفضل ومن ثم قدم، بل أخذ البلقيني من إيثار القرآنـ الحمد ربّ العالمينـ بالابتداء به أنه أبلغ صيغ الحمد. وعلى الأول فآثر القرآن الجملة الإسمية لأن الحمد فيه لمقام التعليم، والتعيين فيه أولى، وجمع بين الحمد بالجملتين تأسياً بحديث: «إن الحمد نحمده» وليجمع بين ما يدل على دوام الحمد واستمراره وهو الأول وعلى تجدده وحدوثه وهو الثاني (أبلغ حمد) أي: أنهاه من حيث الإجمال لا التفصيل لعجز الخلق عنه حتى الرسل حتى أكملهم نبينا حيث قال: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (وأزكاه، وأشمله) أعمه (وأنماه) أكمله (وأشهد) أي: أعلم وأبين (أن لا إله) أي: لا معبود بحق (إلا ا) بالرفع وجوّز فيها النصب، وقد بسطت الكلام في ذلك في باب فضل الذكر من شرح الأذكار للمصنف رحمه الله تعالى، وأتى بها الحديث أبي داود والترمذي الصحيح «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» أي: القليلة البركة (البر) بفتح الموحدة.
قال في «النهاية» : هو العطوف(1/29)
على عباده ببرّه ولطفه، والبرّ والبار بمعنى واحد، وإنما جاء في اسم الله تعالى البرّ دون البارّ (الكريم) .
قال البيضاوي: هو من صفات الذات، وا تعالى لم يزل ولا يزال كريماً، ومعناه تقدسه عن النقائص والصفات المذمومة، والنفيس يقال له: كريم، ومنه كرائم الأموال. وقيل: الكريم الدائم البقاء، الجليل الذات الجميل الصفات. وقيل: هو من صفات الأفعال، وعليه فقيل: هو من ينعم قبل السؤال ولا يحوجك إلى وسيلة ولا يبالي من أعطى ولا ما أعطى، وقيل غير ذلك مما ذكرت بعضه ثمة (الرؤوف الرحيم) الرأفة شدة الرحمة فهو أبلغ من الرحيم وأخرـ والقياس يقتضي الترقي من الأدنى للأعلى - مراعاة للسجع، وقيل: الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة إحسان مبدؤه شفقة المحسن والرحمة إحسان مبدؤه فاقة المحسن إليه، ثم الرحمة لكونها عطفاً نفسانياً يستحيل قيامها به تعالى المراد بها غايتها كما تقدم قريباً.
قال ابن حجر الهيتمي: وهو مرادي إذا أطلقت لفظ ابن حجر في «شرح المشكاة» : الرأفة باطن الرحمة، والرحمة من أخص أوصاف الإرادة بناء على أنها صفة ذات: أي: إرادة الإنعام، ومنه كشف الضرّ ودفع السوء بنوع من اللطف، والرأفة بزيادة رفق ولطف، وفي الإتيان بهذه الأسماء في هذا المقام إيماء إلى أن التوفيق إلى سلوك مقام العبودية والخروج عن أوصاف البشرية من محض عطاء وكرم البرّ الكريم، ورأفة ورحمة الرؤوف الرحيم قال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء} (النور: 21) وقال من قال: لولا تعرّفهم ما كنت تعرفهم (وأشهد أن سيدنا محمداً) علم منقول من اسم المفعول المضعف، سمي به نبينا - مع أنه لم يؤلف قبل أوان ظهوره بإلهام من الله لجدّه عبد المطلب، إشارة إلى كثرة خصاله المحمودة، ورجاء أن يحمده أهل الأرض والسماء وقد حقق الله تعالى رجاءه. يميل وكما اشتملت ذاته على كمال سائر الأنبياء والمرسلين اشتمل اسمه الشريف بحساب الجمل على عدة الرسل بناء على أنهم ثلاثمائة وأربعة عشر (عبده) قدم لأنه أسنى أوصافه، ومن ثم ذكر في أفخم مقاماتهـ أسرى بعبده. نزل الفرقان على عبده. فأوحى إلى عبدهـ قال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي: لا أفتخر بالسيادة، إنما فخري بعبوديته سبحانه وتعالى، ذكره العارف أبو العباس المرسي (ورسوله) هو من البشر، ذكر(1/30)
أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه، فإن لم يؤمر فنبي فحسب، وهو أفضل من النبيّ إجماعاً لتمييزه بالرسالة التي هي على الأصح خلافاً لابن عبد السلامـ أفضل من النبوّة فيه.
وزعم تعلقها بالحق يرده إلى أن الرسالة فيها ذلك مع التعلق بالخلق فهو زيادة كمال فيها (وحبيبه) الأكبر كما يشهد به حديث: «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر» إذ محبة الله للعبد المستفادة من قوله تعالى: {يحبهم ويحبونه} على حسب معرفته به، وأعرف الناس با تعالى نبينا، فهو أحبهم له وأخصهم باسم الحبيب، وسيأتي الكلام على المحبة إن شاء الله تعالى في قوله في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: «ومن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} ، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه» الحديث. وحبيب فعيل بمعنى مفعول من أحبه فهو محب أو من حبه يحبه بكسر الحاء فهو محبوب (وخليله) الأعظم كما يؤذن به حديث: «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً» وهو فعيل بمعنى مفعول أيضاً، من الخلة بالفتح: وهي الحاجة، أو بالضم، وهي تخلل المودة في القلب لا تدع فيه خلاء إلا ملأته، وقد خالل قلبه من أسرار الهيبة ومكنون الغيوب والمعرفة والاصطفاء ما لم يدع أن يطرق قلبه نظر لغيره. هكذا قال ابن حجر. ثم اقتصاده على كون فعيل فيه بمعنى مفعول لعله لكونه أنسب بمقام الأدب وأشرف، لكونه المختار للخلة التي هي غاية الأرب، وإلا ففي «النهاية» : الخليل الصديق فعيل بمعنى فاعل، وقد يكون بمعنى مفعول من الخلة بضم أوله الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت في خلاله أي باطنه. وقيل: هي تخلل المودة في القلب بحيث لا تدع فيه خلاء إلا ملأته، أو من الخلة بالفتح: وهي الحاجة والفقر اهـ. ثم الذي رجحه جمع متأخرون كالبدر الزركشي وغيره أن الخلة أرفع لأنها نهاية المحبة وغايتها.
قال ابن القيم: وظن أن المحبة أرفع من الخلة وأن إبراهيم خليل ومحمداً حبيب غلط وجهل، وما احتج به لأن المحبة أرفع من الخلة من نحو حديث البيهقي أنه تعالى قال له ليلة الإسراء: «يا محمد سل تعط فقال: يا ربّ إنك اتخذت إبراهيم خليلاً، فقال: ألم أعطك خيراً من هذا؟» إلى قوله: «واتخذتك حبيباً» وإن الحبيب يصل بلا واسطة بخلاف الخليل، قال تعالى في نبينا: {فكان قاب قوسين أو أدنى} (النجم: 9) وفي إبراهيم: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض} (الأنعام: 75) والخليل(1/31)
قال: {لا تخزني} (الشعراء: 87) والحبيب قيل له: {يوم لا يخزي الله النبيّ} (التحريم: 8) وغير ذلك إنما يقتضي تفضيل ذات محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ذات إبراهيم عليه السلام مع قطع النظر عن وصفي المحبة والخلة، وهذا لا نزاع فيه، وإنما النزاع في الأفضلية المستندة إلى أحد الوصفين، والذي قامت عليه الأدلة أن استنادها إلى وصف الخلة الموجودة في كل من الخليلين أفضل، فخلة كل منهما أفضل من محبته، واختصا بها لتوفر معناها السابق فيهما أكثر من بقية الأنبياء ولكون هذا التوفر في نبينا أكثر منه في إبراهيم كانت خلته أرفع من خلة إبراهيم صلى الله عليهما وسلم اهـ.
(الهادي) أي: الدالّ (إلى صراط) قال الراغب: الصراط الطريق المستقيم اهـ، فيكون قوله: (مستقيم) إما إطناباً أو جرّد لفظ الصراط وأريد منه مطلق الطريق، وفيه اقتباس من قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشوى: 52) وليس شرط الاقتباس إيراد اللفظ القرآني من غير تغيير، بل يحصل وإن وجد التغيير. نقله الحافظ السيوطي في أوائل حاشيته على «تفسير البيضاوي» . وقوله: (والداعي إلى دين قويم) هي الشريعة الحنيفية السمحة التي جاء بها إلى أمته أشرف الأمم إطناب لأن ما قبله بمعناه، أو من عطف العام على الخاص، لأن الهداية الدلالة بلطف والدعوة تشمل ذلك وغيره (صلوات الله وسلامه عليه) الصلاة منه تعالى رحمة مقرونة بتعظيم ولفظها مختص بالمعصوم من نبي وملك تعظيماً لهم وتمييزاً لمراتبهم عن غيرهم، والسلام هو تسليمه إياه من كل آفة ونقص والجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى، وأتى بالصلاة بعد الحمد لحبر «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة عليّ فهو أقطع أبتر ممحوق من كل بركة» وسنده ضعيف لكنه في الفضائل وهي يعمل فيها بذلك، وخبر «من صلى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتاب صلت عليه الملائكة غدوة ورواحاً ما دام اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الكتاب» نازع ابن القيم في رفعه، قال: والأشبه أنه من كلام جعفر بن محمد لا مرفوع (وعلى سائر) أي: باقي من السؤر بالهمز بقية نحو الطعام (النبيين) من تعريف النبيّ وأنه أعم من الرسول (وآل كل) أي كل واحد من النبيين فحذف المضاف إليه لدلالة السياق عليه،(1/32)
وأصل آل أول بفتح الواو تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً. وقيل: أهل لتصغيره على أهيل. والصحيح جواز إضافته إلى الضمير. وآل نبينا عند الشافعي مؤمنو بني هاشم والمطلب، هذا بالنسبة لنحو الزكاة دون مقام الدعاء، ومن ثم اختار الأزهري وغيره من المحققين أنهم هنا كل مؤمن تقي لحديث فيه: «وآل إبراهيم» : إسماعيل وإسحاق
وغيرهما من المسلمين من ذريته (وسائر الصالحين) وهم القائمون بحققوق الله وحقوق في العباد، فدخل الصحابة كلهم لثبوت وصف الصلاح والعدالة لجميعهم، ودخل غيرهم ممن اصنف بذلك جعلنا الله منهم.
(أما بعد) كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، وأتى به تأسياً به فإنه كان يأتي بها في خطبه ونحوها كما يصح عنه بل رواها عنه اثنان وثلاثون صحابياً والمبتدىء بها قيل داود عليه السلام، فهي فصل الخطاب الذي أوتيه لأنها تفصيل بين المقدمات والمقاصد والخطب والمواعظ.
قال العلقمي في حاشيته «الجامع الصغير» : وبهذا قال كثير من المفسرين وقيل: قس بن ساعدة، وقيل كعب بن لؤي، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: سحبان بن وائل وعليها ففصل خطاب داود هو: «البينة على المدعى، واليمين على من أنكر» وقال المحققون فصل الخطاب: الفصل بين الحق والباطل. ويجوز في دالها الضم والفتح. منوّناً وغير منوّن ووجوه ذلك لا تخفى. لكنها منوّنا تكون على لغة من يقف على المنوّن المنصوب بالسكون وهم ربيعة، ولكون «أما» نابت عن اسم شرط هو مهما أجيبت بالفاء، إذ التقدير: مهما يكن من شيء بعد ما تقدم من الحمد والصلاة والسلام: (فقد قال الله تعالى) : عما لا يليق بشأنه، وهي جملة في محل الحال اللازمة إن أبقيت على خبريتها، وإلا فاستئنافية مسوقة لإنشاء الثناء عليه سبحانه {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون} .
قال الكواشي في «تفسيره الكبير» : أومأ تعالى إلى أنه لم يخلق ولم يرسل رسله عبثاً، وإنما خلقهم لأمر عظيم هو توحيده وطاعته مع غناه عن ذلك تفضيلاً لهم وتشريفاً، ثم هذا خاص بأهل الطاعة من الفريقين، ويؤيده أنه قرىء: {وما خلقت الجنّ والإنس من المؤمنين} وقيل: عام معناه ما خلقتهم إلا لآمرهم بالعبادة لقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (البينة: 5) وقيل المعنى: ما خلقت السعداء(1/33)
من الفريقين إلا لعبادتي والأشقياء منهما إلا لمعصيتي. وقيل إلا ليعبدون: ليعرفون، لأنه لو لم يخلقهم لم يعرفوا وجوده كقوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ ا} وأصل العبادة الخضوع والتذلل، والمعنى: إلا ليخضعوا ويتذللوا، وكل مخلوق خاضع ذليل لقضاء الله تعالى، وقيل: إلا ليعبدون: ليوحدون، فالمؤمن يوحده في كل حال والكافر يوحده في الضراء لقوله تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (العنكبوت: 65) وقال بعضهم: إلا ليعرفون ويعبدون على بساط المعرفة ليتبرّءوا من الرياء والسمعة.
وقال ابن عطاء: إلا ليعرفون، وما يعرفه حقيقة من وصفه بما لا يليق به اهـ. وللزمخشري في «كشافه» في هذه الآية رمز إلى دسيسة اعتزالية نبهت عليها في «شرح الأذكار» ولما كلفهم خدمته أخبرهم أنه قد كفاهم مؤنة ما يحتاجون إليه فقال تعالى: {ما أريد منهم من رزق} أي: ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أحداً من خلقي «وما أريد أن يطعمون» يعني: أنفسهم ولا أحداً من خلقي، ونسب الإطعام إلى الله لأن الخلق عياله سبحانه، ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه (وهذا) أي القول المدلول عليه بقوله: قال الله تعالى: (تصريح بأنهم خلقوا للعبادة) أي: فقط كما يفيده الاستثناء: أي خلقوا لذلك لا لجمع الدنيا والأرزاق ونحوها مما يحتاج إليه، فإن الله تعالى قد كفاهم مؤنة ذلك، ولذا عقب هذه الآية بقوله كما تقدم: {ما أريد منهم من رزق} {فحق} أي: وجب وفي نسخة بتنوينه أي فواجب فيكون خبراً لقوله الاعتناء {عليهم الاعتناء بما خلقوا له} والاعتناء توجيه العناية إلى ما خلقوا له من معرفة الله تعالى وأداء حق العبودية {والإعراض} أي التولي، يقال: أعرض عن كذا ولي مبدياً عرضه، قال(1/34)
تعالى: {وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199) كذا في «مفردات الراغب» (عن حظوظ الدنيا) أي: الترفهات المعتادة الزائدة على ما به القوام من دار تكنه وثوب يستر عورته وجريش الخبز والماء، قال: «لا حقّ لابن آدم إلا في ثلاثة: طعام يقيم به صلبه وثوب يواري به عورته، وبيت يكنه، فما زاد فهو حساب» أورده الغزالي في «الإحياء» .
وقال العراقي في تخريج أحاديثه: رواه الترمذي، وقال: وجلف الخبز والماء بدل قوله: طعام يقوم به صلبه، وقال: صحيح. أما حقوق الدنيا مما ذكر فالإعراض عنه ليس بمطلوب، لكن من غير أن يشغله ذلك عن القيام بفريضة الوقت (بالزهادة) مصدر كالزهد وسيأتي تعريفه (فإنها) أي: الدنيا (دار نفاد) أي: فناء، قال الله تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} (ص: 54) (لا محل إخلاد) عدل إليه عن خلود للسجع (ومركب عبور لا منزل حبور) أي: إنها مركب يتوصل بها إلى الدار الآخرة، وليست منزل الفرح والسرور. قال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وأخرج الترمذي وغيره حديثاً فيه أنه قال: «ما لي وللدنيا/ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها» (ومشرع انفصام) أي: انقطاع، (لا موطن دوام) ولا يخفى ما في عبارته من الاستعارات، وذلك أنه شبه الدنيا أولاً بالمركب الذي يتوصل به إلى المكان المراد بجامع أن كلاً منهما يتوصل لما بعده، فالدنيا لا يوصل بها إلى الآخرة إلا بالعبور فيها والمرور منها لسبقها عليها، والبلد المراد لا يوصل إليه إلا بركوب نحو الدابة. وثانياً بالمشرع: أي محل الماء بجامع الورود لكل، وأطلق عليها اسم المشبه به ففيه تشبيه بليغ (فلهذا) أي: ما ذكر (كان الأيقاظ) جمع يقظ بكسر القاف. في «النهاية» : رجل فطن ويقظ(1/35)
ويقظان: إذا كان فيه معرفة وفطنة اهـ. (من أهلها) أي: الدنيا (هم العباد) وأعلاهم فيها أرباب العرفان با (وأعقل الناس فيها هم الزهاد) قال الدميري في «منظومة رموز الكنوز» :
وأكيس الناس وأعقل الورى
هم الذين زهدوا فيما ترى
إذ نبذوا الدنيا لعلمهم بها
ورغبوا في أختها لقربها
(قال الله تعالى) : مبيناً حال الدنيا في زوالها وسرعة تحولها وانتقالها {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به} أي اختلط بسبب المطر {نبات الأرض} واشتبك بعضه في بعض. ومحل {مما يأكل الناس والأنعام} حال من نبات أو صفة له {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} زينتها وحسنها وظهر الزهري {وازينت} بالزهر والنبات. وقرىء {وأزينت} مخففة «وازيانت» كابياضت {وظن أهلها أنهم قادرون عليها} متمكنون من تحصيل ثمارها {أتاها أمرنا} قضاؤنا {ليلاً أو نهاراً} أي في أحدهما {فجعلناها} أي فجعلنا زرعها {حصيداً} أي محصوداً {كأن لم تغن} لم تقم {بالأمس} بالزمان الماضي لا اليوم الذي قبل يومك فقط، وقرىء «يغن» بالتحتية ذكره الكواشي في «التفسير الصغير» {كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} .
قال البيضاوي: الآية في الأصل العلامة الظاهرة، وتقال للمصنوعات من حيث إنها تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته، ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل، واشتقاقها من أي لأنها تبين أياً من أي، أو من أوى إليه وأصلها أية أو أوية كتمرة فأبدلت عينها على غير قياس، أو أيية أو أوية كرمكة(1/36)
فأعلت، أو آئية كقاتلة فحذفت الهمزة تخفيفاً اهـ. (والآيات في هذا المعنى كثيرة) منها قوله تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح} (الكهف: 45) (ولقد أحسن القائل) في بيان سرعة فناء الدنيا (إن عباداً) عظمين كما يؤذن به التنوين (فطنا) بضم الفاء وفتح الطاء المهملة جمع فطن: من له عقل ونظر في العواقب (طلقوا الدنيا) كناية عن الزهد فيها وترك الاشتغال بشأنها (وخافوا الفتنا) بكسر الفاء وفتح الفوقية جمع فتنة: وهي الامتحان والاختبار كما في «النهاية» . وفي «مفردات الراغب» : الفتنة تستعمل في إدخال الإنسان النار أو فيما يحصل عنه العذاب وفي الاختبار جعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يعتري الإنسان من شدة ورخاء، وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالاً اهـ.
والحاصل أن الفتن المترتبة على الاشتغال بالدنيا ومخالطتها كثيرة كالشره وجمع المال من غير اعتبار حله والضنة به ومنع الحق الواجب فيه والتكبر والعجب (نظروا فيها) أي: نظروا في الدنيا يعين البصيرة فعرفوا سرعة زوالها وتحولها وانتقالها «كأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل» (فلما علموا) بجلاء البصيرة أي شهدوا ذلك وصار لهم حالاً ومذاقاً، وإلا فكل عاقل يعلم أن الدنيا دار زوال وانتقال، لكن حجبت بصائرهم غشاوة الغفلة، فمالوا إلى لذاتها مع علمهم بحقيقة ذاتها (أنها ليست لحي وطناً) أي: داراً يتوطن فيها على الأبد، لأن الإنسان في هذه الدار كالمسافر المرتحل، وقد سبق حديث: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وقال الشاعر في المعنى:
ألا إنما الدنيا كمنزل راكب
أقام عشياً وهو بالصبح رائح
والوطن الحقيقي هو الدار الآخرة التي لا نهاية لآخرها بإرادة الله تعالى وقدرته كما جاء في الحديث «يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت» . قال بعضهم: هذا هو المراد من حديث «حبّ الوطن من الإيمان» أي: فينبغي لكامل الإيمان أن يعمر وطنه(1/37)
بالعمل الصالح والإحسان (جعلوها لجة) في «النهاية» : لجة البحر معظمه، والمراد أنهم جعلوها بمثابة البحر الذي يتوصل بالعبور فيه إلى المقصد، ففي العبارة تشبيه بحذف الأداة (واتخذوا صالح الأعمال) من إضافة الصفة لموصوفها (فيها) أي في اللجة (سفنا) فيه أن العمل الصالح بمثابة المركب الذي بعبر به لجة البحر، وقد جاء في الحديث أن صاحب العمل الصالح يركبه يوم القيامة قال تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} (مريم: 85) كما أن العمل السيء يركب صاحبه قال تعالى {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام: 31) (فإذا كان حالها ما وصفته) من الزوال وسرعة التحول والانتقال (وحالنا وما خلقنا له) عطف تفسير لما قبله. وفي نسخة بحذف العاطف قبل ما، فيكون حالنا مبتدأ أولاً. وما موصولاً اسمياً مبتدأ ثانياً، وقوله (ما قدمته) خبراً عنه وهو وما قبله خبر الأول، أو يكون «ما» تابعاً لحالنا وما بعده خبراً عما قبله، والمراد من قوله ما قدمته: أي من القيام بأعباء العبادة (فحق) أي: واجب بناء على تنوينه، وهو كذلك بالقلم بضبط محدث اليمن الشيخ «سليمان العلوي» أو فحق أي وجب وثبت (على المكلف) البالغ العاقل، سمي بذلك لأنه مأمور بما فيه كلفة (أن يذهب بنفسه مذهب الأخيار) وأن ومدخولها خبر أو فاعل حق، والأخيار: هم القائمون بما أمروا به والتاركون لما نهوا عنه جمع خير أو خير على الحذف للتخفيف كأموات جمع ميت أو ميت، كذا في إعراب «الهمداني» المسمى بـ «العقد الفريد» (ويسلك مسلك أولى) أي: أصحاب لا واحد له من لفظه بل من معناه وهو ذو، وكتبت الواو بعد همزته حال النصب والجرّ فرقاً بينه وبين إلى
الجارة وحملت حالة الرفع عليهما (النهى) بضم النون جمع نهية بالضم: أي العقول والألباب، سميت بذلك لأنها تنهي صاحبها عن القبيح (والأبصار) جمع بصر بمعنى البصيرة: أي القلب. في «مفردات الراغب» يقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر نحوـ
{فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} (ق: 22) - وجمع البصر أبصار وجمع البصيرة بصائر، ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة (ويتأهب) من الأهبة (لما أشرت إليه) من أداء العبودية، والإعراض عن أعراض الدنيا(1/38)
الدينية (ويهتم) أي يعتني بهمته (لما نبهت عليه) من الذهاب مذهب الأخيار، وسلوك مسلك أُولي النهى والأبصار، (وأصوب طريق له في ذلك) أي: في تحصيل ذلك، وفيه رمز إلى أن طرق المشايخ وإن كان فيها بعض محدثات كالخلوات وبعض الأعمال هي صواب أيضاً لما فيها من رياضة النفوس ومجاهدتها حتى تدخل زمام العبودية وللوسائل حكم المقاصد (وأرشد ما يسلكه من المسالك) جمع مسلك مكان السلوك (والتأدّب بما صح عن نبينا) لو قال بما جاء لكان أعم، لأن الحديث الحسن كالصحيح في «الأحكام» وغيرها، والضعيف يتأدب به في فضائل الأعمال ويأخذ به في «الترغيب والترهيب» .
ويمكن أن يقال ما ذكر من الضعيف وإن عمل به فيما ذكر أن العمل بما صح أصوب وأرشد. وتظهر ثمرة ذلك عند تعارض صحيح وضعيف، فالتعبد بالصحيح هو الأصوب والأرشد، والضعيف فيما يعمل به فيه من الصواب والرشاد. والحسن داخل فيما صح بأن يراد به ما يقابل الضعيف. والأدب. قال الحافظ السيوطي في «التوشيح» : هو استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً. وقيل الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل الوقوف مع المستحسنات، وقيل تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك يقال إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي به لأنه يدعى إليه اهـ. والحديث الصحيح بالمعنى الشامل للحسن: ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط له عن مثله وسلم من العلة والشذوذ، أو بنقل المغفل أو كثير الخطإ وجاء من طرق أخرى (سيد الأوّلين) حتى جميع الأنبياء والمرسلين (و) سيد (الآخرين وأكرم السابقين) من الخلق (واللاحقين) منهم: أي: أجمعهم لأنواع الخير والشرف والفضائل، فهو سيد الخلائق وأكرمهم كلهم بشهادة قوله: «أنا سيد الناس يوم القيامة» رواه البخاري، وقوله: «أنا سيد العالمين» رواه البيهقي. والعالمون وإن اختص بالعقلاء على الأصح فهم أفضل سائر الأنواع من المخلوقات، فإذا فضل هذا النوع فقد فضل سائر الأنواع بالضرورة، وقوله: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيّ آدم فمن دونه إلا تحت لوائي» رواه الترمذي. ومن آخر هذا وصدر الأولين علمت أفضليته على آدم فقوله: «أنا سيد ولد آدم» إما للتأدب مع آدم أو لأنه علم فضل بعض بنيه عليه كإبراهيم عليه السلام، فإذا(1/39)
فضل نبينا الأفضل من آدم فقد فضل آدم بالأولى، ولا ينافي التفضيل بين الأنبياء قوله تعالى: {لا تفرّق بين أحد من رسله} (البقرة: 285) ولا ما في الأحاديث الصحيحة من قوله: «لا تفضلوني» . وفي رواية «لا تخيروني على الأنبياء» . وفي أخرى «لا تخيروا بين الأنبياء» ولا تفضيل نبينا عليهم قوله في الحديث المتفق عليه: «من قال أنا
خير من يونس بن متى فقد كذب» وذلك لأن عدم التفرقة بينهم إنما هي في الإيمان بهم وبما جاءوا به.
وأما النهي فإما عن تفضيل في ذات النبوّة أو الرسالة لأنهم فيها سواء، أو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص بعضهم أو إلى خصومة أو على التواضع منه أو قبل علمه بتفضيله عليهم وإن استبعد بأن رواية أبو هريرة وما أسلم إلا سنة سبع فيبعد أنه لم يعلمه إلا بعد هذا. وأجاب جمع كمالك وإمام الحرمين عن خبر يونس بما حاصله: إن تفضيل نبينا بالأمور الحسية كالشفاعة الكبرى وكونه تحت لوائه سائر الأنبياء والإسراء به إلى فوق سبع سموات مع النزول بيونس إلى قعر البحر معلوم بالضرورة، فلم يبق إلا النهي بالنسبة إلى القرب من الله تعالى لتوهم التفاوت فيه بين من هو فوق السموات ومن في قعر البحر، فبين أنهما حينئذٍ بالنسبة إلى القرب من الله تعالى على حد سواء لتعاليه تعالى عن الجهة والمكان علوّاً كبيراً ففيه أبلغ ردّ على الجمهوية والمجسمة. واعلم أن في حديث «أنا سيد العالمين» أبلغ رد على المعتزلة وإن وافقهم الباقلاني والحليمي في تفضيلهم الملائكة على الأنبياء، واستدلوا بما هو مردود. ومعنى تفضيل البشر عليهم أن خواصهم وهو الأنبياء أفضل من خواص الملائكة وهم جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل وحملة العرش والمقربون والكروبيون والروحانيون، وخواصهم أفضل من عوام البشر إجماعاً بل ضرورة، وعوام البشر وهم الصلحاء دون الفسقة كما قال البيهقي وغيره أفضل من عوامهم، وقوله: (صلوات الله وسلامه عليه(1/40)
وعلى سائر النبيين) فيه الصلاة على سائر الأنبياء لقوله: «صلوا على أنبياء الله ورسله فإنهم بعثوا كما بعثت» رواه الطبراني وقد قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر} (المائدة: 2) اتباع الأمر {والتقوى} اجتناب النهي قاله الكواشي (وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال) أي: من جملة حديث رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً وأخرجه الترمذي
والنسائي وابن ماجه وابن حبان في «صحيحه» وغيرهم، وما اعترض به على الحديث بأن في سنده من هو مردود غير مقبول: (وا في عون العبد ما كان) العبد أي مدة كونه (في عون أخيه) بقلبه أو بدنه أو ماله أو غيرها.
قيل: وهذا إجمالاً لا تسع بيانه الطروس، فإنه مطلق في سائر الأحوال والأزمان، وفيه أن العبد إذا عزم على معاونة أخيه فينبغي ألا يجبن عن إنفاذ قوله وصدعه بالحق إيماناً بأن الله في عونه، وأن يأمل الإعانة بدوام هذه الإعانة، فإنه لم يقيدها بحالة خاصة، بل أخبر بأنها دائمة بدوام كون العبد في عون أخيه (و) صح أيضاً (أنه) (قال: من دل على خير فله مثل أجر فاعله) شك بعض رواته فقال: أو قال عامله.p رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي مسعود البدري وابن حبان في «صحيحه» من حديث ابن مسعود. ورواه البزار من حديث أنس مختصراً بلفظ: الدالّ على الخير كفاعله، وا يحب إغاثة اللهفان. ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (و) صح أيضاً (أنه) قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة كما في «الجامع الصغير» للسيوطي، وفي «مصباح الزجاجة» له أيضاً.
قال البيضاوي: أفعال العباد وإن كانت غير موجبة ولا مقتضية للثواب والعقاب بذواتها إلا أن الله تعالى أجرى عادته الإلهية بربط الثواب والعقاب بها ارتباط المسببات بالأسباب، وليس للعبد تأثير في صدور الفعل عنه بوجه. فكما يترتبان على ما يباشره ويزاوله بترتب كل منهما أيضاً على ما هو سبب في فعله كالإرشاد إليه والحث عليه. ولما كانت الجهة التي بها استوجب المتسبب الأجر والجزاء غير الجهة التي استوجب بها المباشر لم ينقص أجره من أجره شيئاً. وقال الطيبي: الهدى في الحديث ما يهتدى به من الأعمال، وهو بحسب التنكير مطلق شائع في جنس ما يقال له هدى يطلق على القليل والكثير، فأعظمه هدى من دعا إلى الله وأدناه هدى من دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المسلمين،(1/41)
ومن ثم عظم شأن الفقيه الداعي المنذر حتى فضل واحد منهم على ألف عابد، لأن نفعه يعم الأشخاص والأعصار إلى يوم القيامة اهـ. وسيأتي في هذا المعنى مزيد إن شاء الله تعالى (و) صح أيضاً (أنه) (قال لعليّ) بن أبي طالب (رضي الله عنه) يوم خيبر (فوا لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) رواه الشيخان. وحمر النعم بفتح النون والمهملة: أي الإبل الحمر: أنفس أموال العرب. وهذا الخطاب باعتبار ما استقرّ عندهم من نفاسة ذلك وكرمه، وإلا فلا مناسبة بينه وبين الثواب المترتب على الهداية.
وفي الحديث «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» (فرأيت) الفاء فصيحة أي إنه ورد الأمر بالتعاون على البرّ والتقوى في الكتاب والسنة. فرأيت (أن أجمع مختصراً) بوزن اسم مفعول أجمع، ويقال له الموجز، وهو ما قلّ لفظه وكثر معناه. ويجوز أن يقرأ بصيغة اسم الفاعل فيكون حالاً من فاعل أجمع ويكون قوله (من الأحاديث الصحيحة) ظرفاً لغواً متعلقاً بأجمع، وعلى الأوّل فهو ظرف مستقرّ صفة مختصراً: أي مختصراً كائناً من الأحاديث. والأحاديث قال في «المفاتيح» جمع أحدوثة، وهو ما يحدث به والحديث مثله، ويجوز أن يكون جمع حديث على غير قياس. وفي «الكشاف» : الأحاديث تكون اسم جمع للحديث، ومنه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. وتعقبه أبو حيان في النهر بأن أفاعيل ليست من صيغ اسم الجمع وإنما ذكرها أصحابنا فيما شذّ من الجمع كقطيع وأقاطيع، وإذا حكموا على عباديد بأنه جمع تكسير لا اسم جمع وهو لم يلفظ له بواحد فأحاديث أخرى، فالصواب أنه جمع تكسير لما ذكرنا: أي من أحدوثة، وهو ما يتحدث به الناس على جهة الغرابة والتعجيب اهـ. والحديث المراد هنا ما يسمى بعلم الحديث رواية، وحدّه كما في «شرح البخاري» للكرماني: علم يعرف به أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله. قلت: وكذا تقريره وما أضيف إليه من وصف ككونه(1/42)
ليس بالطويل ولا بالقصير، وأيامه كاستشهاد عمه حمزة رضي الله عنه بأحد، وكذا تعرف به أقوال وأفعال من دونه من صحابيّ وتابعيّ كما ذكره شيخ الإسلام زكريا وغيره، فكان عليه ذكره لأن الحديث يطلق على ذلك فهو غير جامع. وتعقب السيوطي هذا التعريف أيضاً بأنه غير مانع لشموله علم الاستنباط اهـ.
قال الكرماني: وموضوعه ذات النبيّ من حيث أنه نبيّ. قال الشيخ زكريا: هذا مبني على تعريفه المقتضي لحصر الحديث في المرفوع. أما على القول بأنه أعمّ منه ومن الموقوف، فينبغي أن يعمم الموضوع ليشمل ذلك. وغايته الفوز بسعادة الدارين، ومراده من الصحيحة المقبولة فتشمل الحسن ولو لغيره، والضعيف المقبول في مواطنه (مشتملاً على ما) أي الذي (يكون طريقاً) أي موصلاً (لصاحبه) أي المختصر (إلى) تحصيل نعيم (الآخرة) إن لاحظته العناية وذلك هو الهدى (ومحصلاً لآدابه) أي: الصاحب، والآداب جمع أدب وسبق تعريفه قريباً: أي محصلاً لما ينبغي له استعماله مما يحمد قولاً وفعلاً (الباطنة) من نحو الإخلاص والصدق وسائر الأخلاق الحميدة (والظاهرة) من نحو إقامة الشرائع وترك المحرّمات والإتيان بالمندوبات (جامعاً للترغيب) في الأعمال الصالحة بذكر ما جاء في فضلها وثوابها من كتاب أو سنة ويعبر عنها بالتبشير (والترهيب) من الأعمال المحرمة والأخلاق الرديئة بذكر ما جاء فيها من وعيد أو ذم أو نحوه ويعبر عنه بالنذارة (وسائر أنواع آداب السالكين) من قطع العلائق وترك العوائق والإقبال على الخالق (من أحاديث الزهد) أي: الواردة بطلبه، وبيان فضله (ورياضات النفوس) أي: ما ترتاض وتنخلع بمزاولته عن طبعها الذميم، ووصفها القبيح من المجاهدات وقطع المألوفات والمعتادات من الحظوظ والشهوات، فإن النفس قبل رياضتها بمثابة الدابة الحرون لا تزداد بالعلف إلا إباء وامتاعاً عن مراد سيدها، وبعد تأديبها وتهذيبها لا تزداد بذلك إلا انقياداً للمراد ووفاقاً على سلوك طريق السداد (وتهذيب الأخلاق) أي: تنقيتها واختيار جيدها من رديئها. والأخلاق، جمع خلق بضم الخاء المعجمة واللام وبإسكانها أيضاً اسم للمعاني المدركة بالبصيرة. وعرّف بأنه ملكة تصدر عنها الأفعال بسهولة. فإن كانت حسنة فخلق حسن وإلا فسيء (وطهارات القلوب) من أدناسها كالعجب والكبر ونحوهما من الأخلاق المذمومة
(وعلاجها) من أمراضها من نحو الغفلة وغلبة الاهتمام بشأن الدنيا (وصيانة الجوارح) أي: صونها عما لا يجوز لها(1/43)
مزاولته ومحاولته من الأعمال (وإزالة اعوجاجها) وذلك لأن القلب إذا صلح صلح سائر الجسد، وصلاح الظاهر عنوان صلاح الباطن فمن تحلى ظاهره بحلى الشريعة، وتطهر باطنه بمياه الطريقة، فقد فاز بالحقيقة (وغير ذلك من مقاصد العارفين) كالإقبال على الخالق وقطع العلائق وترك العوائق والاشتغال به في كل حال وطلب مرضاته في سائر الأحوال، فمن وجد مولاه لم يفقد شيئاً (وألتزم فيه) أي: في هذا المختصر (أن لا أذكر إلا حديثاً صحيحاً) أي: مقبولاً فشمل الحسن ولو لغيره كما تقدم (من) الأحاديث (الواضحات) المعنى أي في الجملة، ووضوحها، لأن المصنف قصد عموم النفع بكتابه حتى للعوامّ (مضافاً إلى الكتب الصحيحة المشهورات) وهي الصحيحان وأكثر ما هنا منهما، والسنن لأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وكذا «مستدرك الحاكم» (وأصدّر الأبواب) أي: أجعل صدرها وبدءها (من القرآن العزيز) هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه محمد بقصد الإعجاز بقدر أقصر سورة منه المتعبد بتلاوته، ومن عزّته العجز عن الإتيان بقدر أقصر سورة منه (بآيات كريمات) أي: يجيء بها مناسبة للباب لتكون كالدليل وتعود بركتها على باقي مسائل الباب، والآيات جمع آية بالمد؛ لغة بمعنى العلامة. واصطلاحاً؛ طائفة من كلمات القرآن المتميزة بفصل أي هو آخر الآية الذي يقال فيه الفاصلة، وفي أصل آية ستة أقوال قيل إنه بفتحات، وقيل بوزن كلمة تحركت الياء فيهما وانفتح ما قبلها فقبلت ألفاً، وقيل غير ذلك وقد بسط ذلك ابن الصائغ في «شرح البردة» . وكريمات، أي نفيسات ومنه كرائم الأموال (وأوشح ما يحتاج) من الكلمات (إلى ضبط) لحروفه نحو «بالفوقية» أو «بالتحتية» وبيان ما قد يشتبه من الحركات (أو شرح معنى) للفظ (خفي) لغموض دلالة اللفظ عليه، بأن يكون ذلك اللفظ مصروفاً عن ظاهره لمقتض، أو بأن يكون
فيه غموض بحيث يعسر فهم معناه من مبناه إلا للعارف أو نحو ذلك (بنفائس) جمع نفيسة، وهو ما يرغب فيه من علم أو مال أو نحو ذلك، والظرف متعلق بأوشح، وقوله: (من التنبيهات) جمع تنبيه، وهو لغة: الإيقاظ، واصطلاحاً؛ إعلام بما يؤخذ مما قبله(1/44)
إجمالاً، وهو في محل الصفة لنفائس.
وفي العبارة تشبيه ما يعقب به متن الحديث من ضبط مبني أو بيان معنى بالوشاح، وهو كما في «النهاية» : شيء ينسج عريضاً من أديم، وربما رصع بالجواهر والخرز تشد به المرأة بين عاتقها وكشحها اهـ ففي العبارة استعارة تبعية مصرحة، وذكر النفائس ترشيح. وقوله من التنبيهات تجريد (وإذا قلت في آخر حديث) أي عقبه (متفق عليه فمعناه رواه البخاري ومسلم) لا اتفاق الأئمة، قال ابن الصلاح؛ لكن يلزم من اتفاقهما اتفاق الأئمة عليه، لأن الأمة اتفقت على تلقيهم لما روياه بالقبول (وأرجو) من الرجاء ضد اليأس، فهو تجويز وقوع محبوب على قرب واستعماله في غيره كما في {مالكم لا ترجون وقارا} (نوح: 13) أي: لا تخافون عظمته مجاز يحتاج إلى قرينة (إن) عبر بها مع أن المناسب للرجاء «إذا» إشارة إلى أنه مع رجائه ملاحظ لمقام الخوف المقتضي للتردد في التمام اللازم للمرجو (تم هذا الكتاب) الحاضر ذهناً وإن تقدم على وضع الخطبة كما ذكره المحققون وتقدمها يدل عليه صنيعه في مواضع وقد تم والحمد (أن يكون سائقاً) اسم فاعل من السوق (للمعتني) أي: لصاحب العناية (به إلى الحيرات) وهي فعل العبادات والتقرب إليه سبحانه بأنواع الطاعة (حاجزاً له) أي مانعاً للمعتنى به (عن أنواع القبائح) والرذائل كالسرقة وإخلال المروءة (والمهلكات) أي: الموقعة لصاحبها في الهلاك والعذاب كالعجب والكبر والرياء ونحو ذلك، لما اشتمل عليه هذا الكتاب من «الترغيب والترهيب» ، ومن أحاديث طهارات القلوب وعلاجها (وأنا سائل أخاً انتفع بشيء منه أن يدعو لي ولوالديّ) سأل المصنف من الإخوان وهم المؤمنون
الدعاء له ولمن ذكر معه ليفوزوا بالقيام بسنة الدعاء للأخ بظهر الغيب وليحصل لهم من الفضل مثل ما دعوا به كما ورد في حديث أبي الدرداء المرفوع، وفي قوله: «سائل» ما لا يخفى من مزيد التواضع والتنزل، وفي حذف الموعود به تعميم. وأهم ما يدعي به غفران الذنوب ورضاء علاّم الغيوم (ومشايخي) جمع واحده شيخ، والمراد بالشيوخ هنا(1/45)
من أخذ عنهم المصنف وإن لم يبلغوا سن الشيخوخة ويجمع شيخ على شيوخ وشيخان وشيخه بكسر الشين المعجمة وفتح التحتية وسكونها ومشيخة بوزن مسبعة وقد نظم ابن مالك بعض هذه الجموع وزاد غيرها فقال:
شيخ شيوخ ومشيوخاء مشيخة
شيخان أشياخ أيضاً شيخة شيخه
وزاد في «القاموس» شيوخ ومشيخة بكسر الشين فيهما ومشيخاء وفي «النوادر» للحياني هؤلاء مشيخة بفتح الياء وضمها وبه يصير له اثنا عشر جمعاً. واختلف في أشاييخ فقيل جمع شيخ وقيل جمع أشياخ كأنابيب جمع أنباب. وقد بسطت الكلام في هذا المقام في حاشيتي على شرح الشيخ خالد الأزهري على «الآجرومية» (وسائر أحبابنا) أي: باقيهم. والأحباب بتكرير الموحدة جمع حبيب كشريف وأشراف، وضبطه نفيس الدين سليمان بن إبراهيم العلوي بالقلم بتشديد الموحدة بعدها مدة ثم همزة مكسورة؛ أي من أحبنا ومن أحببناه في الله تعالى بناء على جواز إطلاق المشترك على معنييه معاً (و) سائر (المسلمين) تعميم لأن الدعاء كلما كان أعم كان أتم. وقوله: (أجمعين) تأكيد للإحاطة والشمول (وعلى الله الكريم) أي: لا على غيره كما يؤذن به تقديم ما حقه التأخير (اعتمادي) هذا. وقد جعل الرضيّ الاستعلاء في نحو هذا من الاستعلاء المجازي، واللائق بالأدب عدم التعبير بالاستعلاء مطلقاً، وأن يقال معنى على في ذلك ونحوه لزوم التفويض إلى الله سبحانه فمعنى عليه اعتمادي لزمت تفويض أمري إلى الله تعالى، واللفظ قد يخرج بشهرته في الاستعمال في الشيء عن مراعاة أصل المعنى، ذكره بعض المحققين (وإليه) لا إلى غيره (تفويضي واستنادي) . في «النهاية» يقال: فوض إليه الأمر: إذا رده إليه وجعله الحاكم فيه اهـ (وحسبي ا) أي محسبي وكافي خبر قدم على مبتدئه وهو الاسم الكريم لإفادة ما ذكر وللاهتمام.
وقوله: (ونعم الوكيل) معطوف إما على حسبي الخبر من باب عطف الجملة على المفرد والمخصوص على هذا بالمدح هو الإسم الكريم. أو على جملة حسبي الله من غير تقدير شيء في الجملة المعطوفة، بناء على كون تلك إنشائية معنى إذ هي لإنشاء التوكل فيكون من عطف إنشائية على مثلها، أو مع تقدير مبتدإ هوـ هو، حذف اختصاراً ولا حاجة على هذا التقدير «مقول» في جانب الخبر لأن الأصح كما قال ابن مالك جواز وقوع الجملة الطلبية خبراً من غير إضمار قول. وتقدير المبتدإ في الجملة(1/46)
المعطوفة بناء على بقاء جملة حسبي الله على وضعها وهي الخبرية لفظاً ومعنى فيكون من عطف خبرية على مثلها، والمخصوص على هذا محذوف كما علم مما ذكر (ولا حول) بفتح اللام ويجوز الرفع على إهمال «لا» لتكررها (ولا قوة) بهما أو بالنصب عطفاً على محل حول إذا عملت لا فيه. والمعنى كما جاء في حديث ابن مسعود مرفوعاً «لا حول عن معصية الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون ا» أخرجه البزار (إلا با العزيز الحكيم) هذا هو الوارد في ختم هذه الكلمة في «الصحيح» دون ما اشتهر من ختمها بالعلي العظيم وإن جاء في رواية كما يؤذن به بعض نسخ الحصن الحصين، والعزيز: الذي لا يغالب في مراده، والحكيم من يضع الأشياء في مواضها على ما سبق في علمه.(1/47)
بسم الله الرحمن الرحيم
أي أشرع في مقصود الكتاب مستعيناً باسم الله الواجب الوجود المنعم الوهاب.
1 - باب الإخلاص
الباب لغة: الفرجة التي يتوصل بها من خارج إلى داخل وبالعكس، والوجه، قيل: هو أنسب لأن الباب لا يناسب بالمعنى الأوّل إلا إن كان اسماً للجزء الأول من الطائفة المخصوصة من الكلام وليس كذلك، بل هو اسم للجميع وكونه بمعنى الوجه أوجه للاختلاف بين معنى كل باب وغيره كاختلاف الوجوه، لكن يصد عنه جمعهم له على أبواب دون بابات الذي هو جمع باب بمعنى الوجه. وعرفاً: طائفة مخصوصة من الكتاب مشتملة على فصول ومسائل غالباً، وسيأتي أنه يجوز فيه الرفع والنصب بل والجرّ على وجه الأصح خلافه. (والإخلاص) بكسر الهمزة مصدر أخلص. قال الراغب في «مفرداته» : الإخلاص التعرّي عما دون الله تعالى، اهـ. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: الإخلاص إفراد الحقّ سبحانه وتعالى في الطاعات بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقربّ إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع لمخلوق واكتساب محمدة عند الناس أو محبة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرّب إلى الله تعالى. قال: ويصح أو يصلح أن يقال: الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين (وإحضار النية في جميع الأعمال والأقوال والأحوال البارزة) أي: الظاهرة (و) الأعمال والأقوال والأحوال (الخفية) . والنية واجبة أول كل فعل شرعي لتوقف صحته عليها، ودوام استحضارها إلى آخره سنة محبوبة، وأما التروك كترك نحو الزنى فلا يتوقف عليها، نعم لا بد في حصول الثواب من قصد الترك على وجه الامتثال، وإنما وجبت النية في الصوم مع أنه من باب التروك لأنه ملحق(1/49)
بالأفعال إذ القصد منه قمع النفس عن معتاداتها وقطعها عن عاداتها.
(قال الله تعالى) أي: عما لا يليق بشأنه سبحانه {وما أمروا} أي: اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل {إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} أي: موحدين لا يعبدون سواه. قال بعضهم: الإخلاص تصفية العمل عن شوائب الكدر {حنفاء} مائلين عن جميع الأديان إلى دين الإسلام، أو حنفاء حجاجاً {ويقيموا الصلاة} أي: المكتوبة في أوقاتها {ويؤتوا الزكوة} عند وجوبها، ومخلصين وحنفاء حالان من الضمير في يعبدوا، والمعنى: وما أمروا في كتابهم إلا ليعبدوا الله بهذا الوصف {وذلك دين القيمة} أي: الملة المستقيمة أو دين الجماعة القيمة أو الهاء للمبالغة. وعن الخليل أن القيمة جمع القيم، والقيم والقائم واحد، أو المراد بدين القيمة دين الملائكة أو ملة إبراهيم، وقرىء {وذلك الدين القيمة} على تأويل الدين بالملة كذا في «التفسير الكبير» للكواشي. وقال الحافظ السيوطي في «الإكليل» : قوله تعالى: «وما أمروا إلخ» استدل به على وجوب النية في العبادات لأن الإخلاص لا يكون بدونها اهـ.
(وقال تعالى) : {لن تنالوا البر} أي: لن تبلغوا حقيقة البرّ الذي هو كمال الخير، ولن تنالوا برّ الله الذي هو الرحمة والرضى والجنة، وقوله: {حتى تنفقوا مما تحبون} أي: من المال أو ما يعمه وغيره كبذل الحياة ومفاداته للناس والبذل في طاعة الله والمهجة في سبيله، روي «أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن أحبّ أموالي بيرحاء فضعها حيث أراك الله تعالى. فقال: بخ بخ، ذاك مال رابحـ أو رائحـ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» . «وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبها فقال: هذه في سبيلالله، فحمل عليها رسول الله أسامة، فقال زيد: إنما أردت أن أتصدق بها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى قد قبلها منك» وذلك يدل على أن إنفاق أحبّ الأموال على أقرب الأقارب أفضل وأن الآية تعمّ الإنفاق الواجب والمستحب. وقوله: {وما تنفقوا من شيء} محبوب أو غيره {فإن الله به عليم} فيجازيكم بحسبه.
وقال تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله(1/50)
التقوى منكم} قال القرطبي: قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يلطخون البيت بدماء البدن فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فنزلت هذه الآية، والنيل لا يتعلق بالبارىء تعالى لكنه عبر به تعبيراً مجازياً عن القبول، والمعنى لن يصل إليه. وقال ابن عباس: لن يصعد إليه. وابن عيسى: لن يصل إليه لحومها ولا دماؤها ولكن يصل إليه التقوى منكم، أي ما أريد به وجه الله فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه ومنه الحديث «إنما الأعمال بالنيات» اهـ.
(وقال تعالى) : {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه ا} فهو العالم بخفيات الصدور وما اشتملت عليه قال تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق} (الملك: 13، 14) (فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) ولا يغيب عنه شيء سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة. وفي الآيات تنبيه للموفق على الإخلاص وتحذير له من الرياء ولا يغترّ بخفائه ظاهراً فإن الله تعالى عالم بخفيات الأمور، لا تخفى عليه وساوس الصدور.
11 - (وعن أمير المؤمنين) أول من لقب به من الخلفاء، أما أول من لقب به مطلقاً فعبد الله بن جحش في سرية وقد بينت مستند ذلك في «أواخر شرح الأذكار» (أبي حفص) بالحاء المهملة وهو الأسد، كناه به كما في «الفتح المبين» ، وكني به لكمال شجاعته ومزيد صلابته (عمر بن الخطاب بن نفيل) بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتية (ابن عبد العزى) بضم المهملة وتشديد الزاي بعدها ألف مقصورة (ابن رياح) بكسر الراء بعدها تحتية وبعد الألف حاء مهملة (ابن عبد ا) كذا هو في «أسد الغابة» ، وفي نسخة من التهذيب للمصنف بدل عبد اهذا عدّي (ابن قرط) بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة (ابن رزاح) بفتح الراء قيل وقد تكسر، وبعدها زاي وبعد الألف حاء مهملة (ابن(1/51)
عدي) بفتح المهملة وكسر الثانية وتشديد التحتية (ابن كعب) بسكون المهملة بعدها موحدة (ابن لؤي) بضم اللام وفتح الهمزة تصغير اللأى.c قال في «المواهب اللدنية» : وهو الثور. وفي كعب يجتمع نسبه مع نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ابن غالب القرشي العدوي رضي الله عنه) أشار المصنف إلى طريق النسبة إلى القبائل، وذلك أنه يبدأ بالأعم قبل الأخص فيقال القرشيّ الهاشميّ، ليحصل بالثاني فائدة، إذ لو ذكر الأول بعد الثاني بأن قيل الهاشميّ القرشيّ لخلا عن الفائدة إذ يلزم من كونه هاشمياً كونه قرشياً بخلاف العكس، ذكره المصنف في «تهذيبه» وغيره، قال: فإن قيل كان ينبغي ألا يذكر الأعم بل يقتصر على الأخص.
فالجواب أنه قد يخفى على بعض الناس كون الهاشمي قرشياً، ويظهر هذا الخفاء في البطون الخفية كالأشهلي من الأنصار، إذ لو اقتصر على الأشهلي لم يعرف كثير من الناس أنه من الأنصار أم لا، فذكر العام ثم الخاص لدفع هذا. توهم، قال: وقد يقتصرون على الخاص وقد يقتصرون على العام، وهذا قليل اهـ روي لعمر رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثاً، وقال أبو نعيم: أسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المتون سوى الطرق مائتي حديث ونيفا كذا في «التلقيح» لابن الجوزي، اتفق الشيخان منها على ستة وعشرين، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين، ومسلم بأحد وعشرين، وقد أعرضنا عن بسط تراجم الرجال في هذا الكتاب طلباً للإيجاز، وحذراً من الإسهاب (لا) سيما وقد ترجمنا معظم من ذكر من الصحابة هنا في «شرح الأذكار» ، واقتصرنا هنا على ذكر عدة مروياته وزمن وفاته وبعض يسير من بيان حالاته لعموم حاجة المحدث لذلك وا الموفق (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) : الجملة المضارعية بدل اشتمال من مفعول سمعت أو حالية تبين المضاف المحذوف وقبله أي كلامه. وأتى به مضارعاً بعد سمع الماضي: إما حكاية لحالة وقت السماع، أو لإحضار ذلك في ذهن السامع. وما ذكر من أن ثمة مضافاً محذوفاً، والجملة بعده تبين المحذوف هو المشهور. وقيل إن سمع يتعدّى لمفعولين فلا محذوف، بل أولهما رسول وثانيهما الجملة. واعترض بأن محل تعديتها لهما إذا كانت فيما يظن، وأجيب بمنع الحصر.
ثم الحديث المذكور لم يرو من طريق صحيح عنه إلا من حديث عمر رضي الله عنه وإن رواه نحو عشرين صحابياً، فهو وإن أجمعوا على صحته غريب باعتبار أوله مشهور باعتبار آخره، وليس بمتواتر لفقد عدد التواتر في بعض طبقاته (إنما) هي لتقوية الحكم المذكور بعدها إتفاقاً،(1/52)
ولذا وجب كونه معلوماً للمخاطب أو في منزلته، ولإفادة الحصر وضعاً حقيقة على الأصحّ عند جمهور الأصوليين خلافاً لجمهور النحاة. والحصر وبمعناه القصر: إثبات الحكم لما بعدها ونفيه عما عداه لورودها لذلك في كلامهم غالباً، والأصل الحقيقة وجواز غلبة المجاز خلاف الأصل، والقصر في الخبر من قصر المسند إليه ويعبر عنه بالموصوف في «المسند» ويعبر عنه بصفته، وهو إضافي لخروج بعض الأعمال عن اعتبار النية فيها، وفي الخبر حصر آخر هو عموم المبتدإ، إذ هو جمع محلى بأن التي للاستغراق لا للماهية، إذ المفتقر للنية إفراد العمل لا ماهيته من حيث هي ماهية إذ لا وجود لها في الخارج، ورواية «إنما العمل» المبتدأ فيها مفرد محلى بأل المذكورة فيفيد العموم وخصوص الخبر على حد صديقي زيد لعموم المضاف لمعرفة، وعلى هذا فجمع بينهما في هذه تأكيداً وسقطت إنما في رواية صحيحة إكتفاء عنها بهذا الحاصر (الأعمال) هي حركات البدن فتدخل فيها الأقوال ويتجوّز بها عن حركات النفس وأوثرت على الأفعال لئلا تتناول فعل القلب غير المحتاج للنية، كالتوحيد والإجلال والخوف لصراحة القصد به، والنية لئلا يلزم التسلسل أو الدور المحال، وأل في الأعمال قيل للعهد الذهني: أي: غير الأعمال العادية لعدم توقف صحتها على النية؛ وقيل للاستغراق كما تقدم إلا أنه إضافي، والعموم مخصوص لخروج جزئيات من الأعمال عن الاحتياج إلى النية بأدلة مقرّرة كالواجب غير المتوقف على النية من نحو قضاء دين وكفّ عن محرم، والمتوقف على النية حصول الثواب في ذلك، وهو غير ما الكلام فيه، إذ هو هل تلزم النية في صحة الترك بحيث يعصى بتركها.
والتحقيق كما تقدم أنه لا تلزم النية فيه وأن المجرّد منها لاثواب فيه. وإنما يحصل بالكفّ الذي هو فعل النفس، وهو أن يقصد الترك بقصد امتثال أمر الشارع فيه. ولا تجب النية في عمل اللسان من نحو قراءة وذكر وأذان، إذ ليس شيء عادي من ذلك حتى يميز بالنية عنه، وصرّح الغزالي بحصول ثواب الذكر اللساني ولو مع الغفلة، نعم تجب في قراءة منذورة ومثلها كل ذكر نذره ليتميز الفرض من غيره (بالنيات) الباء فيه قيل للسببية والتقدير وجود الأعمال شرعاً مستقرّ أو ثابت بسببها، ويصح كونها للملابسة وكونها للمصاحبة. قال بعض المحققين: فعلى الأول هي جزء من العبادة وهو الأصح. وعلى الثاني شرط، وفيه نظر، بل كل منهما محتمل للشرطية والركنية إذ كل منهما يقارن المشروط والماهية ويكون سبباً في وجودهما، وإيضاحه أن ركن الماهية لكونه جزأها مغاير لها مغايرة الجزء للكل فتصدق عليه المصاحبة كما تصدق عليه السببية. وأما السببية(1/53)
فصادقة مع الشرطية وهو واضح لتوقف المشروط على الشرط ومع الركنية لأنه بترك جزء من الماهية تنتفي الماهية اهـ. إلا أنها إذا كانت للمصاحبة تشعر باعتبار وجوب استصحابها إلى الآخر لأنه الظاهر من المعية وهذا حال الشروط، بخلافها على الملابسة فإن هذا الإشعار منتف عندها، وقال الكازروني في «شرح الأربعين» : الباء فيه للاستعانة اهـ ثم قيل لا بد من تقدير مضاف للمحصور وهو المسند إليه فقدره الأكثرون بالصحة: أي: إنما صحة الأعمال بالنيات وقدره آخرون بالكمال وقالوا تقديره إنما كمال الأعمال وقد بينت دليل القولين ورد الثاني وتأييد القول الأول في «شرح الأذكار» والأقرب كما قال بعض المحققين وقال: إنه التحقيق أنه لا حاجة لتقدير في الخبر وليس في دلالة اقتضاء بل اللفظ باق على مدلوله من انتفاء الأعمال حقيقة بانتفاء النية لكن شرعاً إذ الكلام فيه، والتقدير إنما وجودها كائن بالنية فإذا انتفت انتفى العمل ونفي
الحقيقة إنما ينتفي بانتفاء شرطها أو ركنها فيفيد مذهبنا من وجوبها في كل عمل إلا ما قام الدليل على خروجه، والعام المخصوص حجة في غير ما خص منه اهـ. والنية بالتشديد مصدر أو اسم مصدر لغة: القصد. وشرعاً وهو المراد هنا خلافاً لبعض المحققين: قصد الشيء مقترناً بفعله إلا في الصوم والزكاة للعسر، فإن تراخى الفعل سمي عزماً، ثم هي بالجمع في هذه الرواية عند الشيخين.
قال الحافظ السيوطي في «التوشيح» : في معظم الروايات بالنية مفرداً قيل: ووجهه أن محلها القلب وهو متحد فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر فناسب جمعها اهـ. وهذه حكمة للإفراد. وإلا فهو الأصل لأنها مصدر وجمعت في هذه الرواية باعتبار أنواعها من الوجوب تارة وغيره أخرى. (وإنما لكل امرىء ما نوى) الجملة السابقة لبيان أن الأعمال لا يعتد بها شرعاً إلا بالنية الموحدة لها، وهذه الحملة لبيان أن جزاء العامل على عمله بحسب نيته من خير أو شر، وبيان أن العمل لا يجزي إلا إن عينت نيته. قلت فتختص حينئذٍ بما يعتبر في نيته التعيين من نحو صلاة الفرض والنفل المرتب، أو تعم مطلق العبادة المعتبر فيها النية ويراد أن الذي له من عمله الموجود شرعاً بالنية هو ما قصده به من وجه الله سبحانه فيثاب أو الرياء للعباد فيمنع الثواب. وقيل مفاد هذه الجملة امتناع النيابة في النية الشامل لها الجملة الأولى، وصحة نية الولي عن الصبي والأجير عن المحجوج عنه لمعنى يخصه هو عدم تأهل المنوي عنه لها فيهما، وقيل هذه الجملة مؤكدة للأولى تنبيها على سر الإخلاص وفيه أن تنبيهها على ذلك يمنع إطلاق كونها مؤكدة فعلم سر تأخير هذه الجملة، أنهما متغايرتان وأنه لولا تعقيب تلك بهذه(1/54)
لأوهمت تلك صحة النية بلا تعيين وأنه يلزمها الثواب. و «ما» في ما نوى إما موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي ما يحصل لكل امرىء أي إنسان إلا الذي نواه أو شيء نواه أو منويه، والقصر في هذه
الجملة عكسه في الأولى أي قصر المسند في المسند إليه. (لطيفة) قد لمح العلامة تاج الدين السبكي إلى معنى هذه الجملة بقوله في مدح المصنف نفع الله بهما:
لقيت خيراً يا نوى
ووقيت من ألم النوى
فلقد نشا بك عالم
أخلص ما نوى
وعلا سواه فضله
فضل الحبوب على النوى
(فمن كان هجرته) هو تفصيل لبعض الإجمال فيما قبله، والتقدير؛ إذا تقرر أن لكل امرىء منويه من طاعة وغيرها فلا بد من مثال يجمع الأعمال كلها أمرها ونهيها وذلك الهجرة إذ هي متضمنة لذلك؛ أما الكف عن المنهي فظاهر، ومن ثم قال: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» وأما الأمر فلأنه لا يتم بل لا يمكن الإتيان به إلا بهجرة دواعي النفس والهوى. ولتضمن الهجرة هذا الأمر العام آثر ذكرها مفرداً لها بالفاء الداخلة على الجزاء إن جعلت من شرطية أو الخبر إن جعلت موصولة لمشابهة الموصول للشرط في العموم أو تضمنه له. والهجرة لغة؛ الترك، وشرعاً؛ مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة، ووجوبها باق وخبر «لا هجرة بعد الفتح» المراد لا هجرة بعد فتح مكة منها لأنها صارت دار الإسلام. وحقيقتها مفارقة ما يكرهه الله إلى غيره للحديث المذكور، وكانت أول الإسلام إما من مكة إلى الحبشة أو منها ومن غيرها إلى المدينة، والمراد بها هنا مفارقة الوطن إلى غيره سواء مكة وغيرها، ولا يضر في التعميم كون الحديث له سبب خاص كما سيأتي بيانه لأن صورة السبب لا تخصص لكنها داخلة قطعاً (إلى الله ورسوله) أي: قصداً ونية، فهو كناية عن الإخلاص، والظرف هنا وفيما يأتي متعلق بهجرة إن جعلت كان تامة أو بمحذوف هو خبرها إن قدرت ناقصة (فهجرته إلى الله ورسوله) ثواباً وخيراً، فالجزاء كناية عن شرف الهجرة وكونها بمكانة عنده تعالى أو كونها مقبولة مرضية، فلا اتحاد بين الشرط والجزاء لأنهما وإن اتحدا لفظاً اختلفا معنى، وهو كاف في اشتراط تغاير الجزاء والشرط والمبتدإ والخبر وذكرت وجوهاً
أخر لهذا التكرار في «شرح الأذكار» ، والمراد بكان هنا وفيما يأتي أصل الكون لا بالنظر لزمن مخصوص أو وضعها الأصلي من المضي(1/55)
أو هنا من الاستقال لوقوعها في حيز الشرط، وهو يخلص الماضي للاستقبال ويقاس به الآخر للإجماع على استواء الأزمنة في الحكم التكليفي إلا لمانع (ومن كانت هجرته لدنيا) اللام للتعليل أو بمعنى إلى لقوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» واستظهر الأول وحكمة التغاير في التعبير هنا باللام وثمة بإلى إفادة أن من كانت هجرته لأجل تحصيل ذلك كان هو نهاية هجرته لا يحصل له غيره. والدنيا بضم أولها وحكى كسره جمعها دنى من الدنوّ أي القرب لسبقها على الآخرة أو لدنوها إلى الزوال.
قال المصنف: الأظهر أنها كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة وقد تطلق على كل جزء منها مجازاً، ثم المراد منها عرضها ومتاعها، فالتعبير بها مجاز مرسل من تسمية الشيء باسم محله كقوله تعالى: {فليدع ناديه} (العلق: 17) (يصيبها) حال مقدرة: أي: قاصداً إصابتها، وفي ذكر المصيبة عند ذكر الدنيا لطيفة ونصيحة (أو) كانت هجرته (لـ) أجل (امرأة ينكحها) أي: يتزوجها كما في رواية، من باب عطف الخاص على العام إشعاراً بأن النساء أعظم ضرراً، قال: «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء» وتنبيهاً على سبب الحديث وإن كان لا يخصص كما تقدم. وسببه كما في «التوشيح» للحافظ السيوطي ما رواه سعيدبن منصور في «سننه» بسند على شرطهما عن ابن مسعود قال: «من هاجر يبتغي شيئاً فإنما له مثل أجر رجل هاجر ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فقيل له مهاجر أم قيس» : وفي «فتح الإله» : السبب ما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود قال: «كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر فزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس» قيل: واسمها قتيلة بوزن قبيلة، ولم يعين اسمه ستراً عليه وإن كان ما فعله مباحاً لما يأتي. وعلى هذا فذكر الدنيا إما زيادة على السبب تحذيراً من قصدها، أو لأن أم قيس انضم لجمالها المال فقصدهما مهاجرها، أو لأن السبب قصده نكاحها، وقصد غيره دنيا (فهجرته إلى ما هاجر إليه) الظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدإ ويصح تعلقه بنفس المبتدإ فيكون خبره محذوفاً أي فهجرته قبيحة إذ ليست من الله في شيء وذلك حظه ولا نصيب له في الآخرة، وإيراد الموصول لإفادة التحقير وذم فاعل ما ذكر كما يشعر به السياق مع كونه مطلوبه مباحاً لأنه أظهر قصد الهجرة إلى الله وأبطن خلافه وهذا ذميم. والحكمة في(1/56)
اتحاد الشرط والجزاء لفظاً في الأولى التبرّك بذكر الله ورسوله والتعظيم لهما بتكراره وبكونه أبلغ في الهجرة إليهما، إذ
من سعى لخدمة ملك تعظيماً له أجزل عطاء ممن سعى لينال كسرة من مأدبة، وتركه في الثانية إظهار عدم الاحتفال بأمرهما والتنبيه على أن العدول عن ذكرهما أبلغ في مزجر عن قصدهما، فكأنه قال: إلى ما هاجر إليه، وهو حقير مهين لا يجدي. وأيضاً فأعراض الدنيا لا تنحصر فأتى بما يشملها وهو ما هاجر إليه، بخلاف الهجرة إلى الله ورسوله فإنه لا تعدد فيها، فأعيدا بلفظهما تنبيهاً على ذلك.
وقال أرباب الإشارات من العارفين «إنما الأعمال بالنيات» يتعلق بما وقع في القلوب من أنوار الغيوب. والنية جعل الهمّ في تنفيذ العمل للمعمول له، وألا يسنح في السرّ ذكر غيره * وللناس فيما يعشقون مذاهب * فنية العوام في طلب الأعراض مع نسيان الفضل، ونية الجهال التحصن عن سوء القضاء ونزول البلاء، ونية أهل النفاق التزين عند الله وعند الناس، ونية العلماء إقامة الطاعات لحرمة ناصبها لا لحرمتها، ونية أهل التصوّف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من الطاعات، ونية أهل الحقيقة ربوبية تولد عبودية «وإنما لكل امرىء ما نوى» من مطالب السعداء، وهي الخلاص عن الدركات السفلى والفوز بالدرجات العليا، وهي المعرفة والتوحيد والعلم والطاعة والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والفناء عن أنانيته والبقاء بهويته، أو من مقاصد الأشقياء، وهي ما يبعد عن الحق «فمن كانت هجرته» أي: خروجه من مقامه الذي هو فيه سواء كان استعداده الذي جبل عليه أو منزلاً من منازل النفس «إلى ا» لتحصيل مراضيه «ورسوله» باتباع أمره وأخلاقه «فهجرته إلى الله ورسوله» فتخرجهم العناية الإلهية من ظلمات الحدوث والفناء إلى نور الشهود والبقاء «ومن كانت هجرته إلى دنيا» أي: لتحصيل شهوة الحرص على المال والجاه والخيلاء وغيرها، فيبقى مهجوراً عن الحق في أوطان الغربة، له نار الفرقة، نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة لا نار الجحيم التي لا تحرق إلا الجلد ولا تخلص إلى القلب، انتهى
كلامهم.
نقله الكازروني في «شرح الأربعين» للمصنف (متفق على صحته) ثم فسره بقوله رواه إلى آخره، وكذا(1/57)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو عوانة وابن حبان في «صحيحه» وابن خزيمة وابن الجارود والطحاوي في «شرح معاني الآثار» والبيهقي في «السنن» . ووهم ابن دحية في زعمه أن مالكاً أخرجه في «الموطإ» ، كذا في «شرح عمدة الأحكام» للقلقشندي ومن خطه نقلت (رواه إماما المحدثين) بإثبات ألف التثنية خطاً وحذفها لفظاً لالتقاء الساكن أي المقتدي بهما ورعاً وزهداً واجتهاداً في «تخريج الصحيح» وإيداعه دون غيره كتابيهما، حتى ائتمّ بهما في ذلك الأئمة الذين حذوا حذوهما (أبو عبد الله محمدبن إسماعيلبن إبراهيمبن المغيرة) بضم الميم وكسرها (ابن بردزبه) بموحدة مفتوحة فراء ساكنة فمهملة مكسورة بعدها زاي ساكنة فموحدة فهاء تأنيث وهو بالعربية الزراع. قال في «فتح الباري» : كان بردزبه المذكور مجوسياً، وكان في بخارى والٍ يقال له اليمان الجعفي، فأسلم المغيرة بن بردزبه على يديه فمن ثم قيل للبخاري الجعفي، وأما إبراهيمبن المغيرة فلم نقف على شيء من أحواله، والظاهر أنه لم ينظر في العلم، وأما إسمعيل فذكر له ابنه ترجمة في «تاريخه» وقال: إنه سمع من مالك وحمادبن زيد وابن المبارك، وذكره كذلك ابن حبان في «الطبقة الرابعة» من ثقاته، وزاد: روى عنه العراقيون اهـ (الجعفي) أي: مولاهم لما ذكر من أن جده المغيرة أسلم على يد اليمان ابن أخنس الجعفي فنسب إليه ولاء فأشار المصنف إلى أنه يقدم النسب إلى القبيلة ولو ولاء على النسب إلى البلاد عند الجمع. وعبارة «التهذيب» للمصنف: إذا جمع بين النسب إلى القبيلة والبلد قدم النسب إلى القبيلة. انتهت (البخاري) ولد ثالث عشر شوال سنة (194) أربع وتسعين ومائة، وكتب عن ابن حنبل ويحيىبن معين وخلائق يزيدون على ألف.
وروى عنه مسلم خارج صحيحه وأبو زرعة والترمذي وابن خزيمة والنسائي. ومناقبه نعمة ذكرت جلة منهم في «شرح الأذكار» . توفي ليلة عيد الفطر سنة 256 ست وخمسين ومائتين، ودفن يخرتنك قرية على فرسخين من سمرقند. ومن مناقبه ما حكي عنه أنه عمي صبياً فرأى في نومه إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فتفل في عينيه أو دعا له فأبصر، فمن ثم لم يقرأ كتابه. في كرب إلا فرج. ثم الحديث المذكور في سبعة مواضع من(1/58)
«صحيح البخاري» (أبو الحسين مسلمبن الحجاجبن مسلم القشيري) نسبة إلى قشيربن كعببن ربيعةبن عامر ابن صعصعة قبيلة كبيرة، وقشير أيضاً بطن من أسلم، منهم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه (النيسابوري) نسبة إلى نيسابور أحسن مدن خراسان وأجمعها للخيرات.
قال الأصفهاني في «لبّ الألباب» : قيل لها ذلك لأن سابور لما رآها قال: يصلح أن يكون ها هنا مطينة. وكانت قصبا فأمر بقطع القصب وأن تبنى مدينة، فقيل نيسابور، والنيّ: القصب اهـ. ولد الإمام مسلم سنة (204) أربع ومائتين، ومات في رجب سنة (261) إحدى وستين ومائتين. وأخذ عن أحمد وحرملة وخلائق. روي عنه ساعة منهم من هو في درجته كأبي حاتم الرازي والترمذي فروى عنه حديثاً واحداً وابن خزيمة وخلائق (رضي الله عنهما في كتابيهما) المشهورين بالصحيحين المعروفين بذلك كنار على علم (اللذين) بلامين وفتح الذال المعجمة مثنى الذي وكتب بلامين فرقاً بينه وبين الذين الجمع (هما أصحّ الكتب) بلا شك ولا مرية كما أطبق عليه من بعدهما لا سيما المحدثوند حيث جعلوا الصحيح سبعة أقسام: أعلاها ما خرجاه، فما انفرد به البخاري فما انفرد به مسلم، فما كان على شرطهما، فما كان على شرط البخاري، فما كان على شرط مسلم، فما صححه معتبر وسلم من المعارض. وقول الشافعي: لا أعلم كتاباً بعد كتاب الله أصحّ من «موطإ» مالك إنما كان قبل ظهورهما. فلما ظهرا كانا بذلك أحق، والجمهور على أن ما أسنده البخاري في «صحيحه» دون التراجم والتعاليق وأقوال الصحابة والتابعين أصحّ مما في مسلم، لأنه كان أعلم منه بالفن اتفاقاً مع كون مسلم تلميذه وخريجه، ومن ثم قال الدارقطني: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء، هذا وإن لم يلزم منه أرجحية المصنف إلا أنها الأصل.
قال الحافظ ابن حجر في «نكته» على كتاب ابن الصلاح بعد ذكر نحو ما ذكرنا: هذا من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فيترجح كتاب البخاري على كتاب مسلم بأن الإسناد الصحيح مداره على اتصاله وعدالة الرواة، وكتاب البخاري أعدل رواة وأشد اتصالاً، وبيانه أن الذين انفرد لهم بالإخراج دون مسلم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلاً، المتكلم فيه بالضعف منهم نحو الثمانين، والذين انفرد مسلم بهم ستمائة وعشرون رجلاً، المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون رجلاً، ولا شك أن من سلم من التكلم فيه رأساً أقوى ممن تكلم فيه وإن لم يعول على ما تكلم به فيه، على أن المتكلم فيهم في(1/59)
البخاري لم يكثر من تخريج أحاديثهم، بخلاف مسلم، وأيضاً فأكثرهم شيوخه الذين هو أعرف بهم من غيره لكونه لقيهم وخبرهم وخبر حديثهم، وأما المتكلم فيهم في مسلم فأكثرهم من المتقدمين الذين لم يخبرهم، وأيضاً فالبخاري غالباً إنما يخرج للمتكلم فيه في المتابعات والشواهد بخلاف مسلم. وأما ما يتعلق بالاتصال فمسلم كان مذهبه بل نقل الإجماع في أول صحيحه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذ تعاصر المعنعن والمعنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما، والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة، ومن ثم قال النووي: وهذا المذهب مما يرجح به كتاب البخاري قال: وإن كنا لا نحكم على مسلم بعمله بهذا المذهب في «صحيحه» لكونه يجمع طرقاً كثيرة يبعد معها وجود هذا الحكم الذي جوّزه اهـ. وجمعه لتلك الطرق هو الغالب، وفيما لم يجمع فيه طرقاً جلالته قاضية بأنه إنما جرى على الأحوط من ثبوت الاتصال انتهى ملخصاً مع يسير زيادة. وقوله: (المصنفة) اقتفى به أثر الإمام الشافعي رضي الله عنه في قوله: بعد كتابالله، ليحترز بذلك عنه أيضاً.
22 - (وعن أم المؤمنين) أي: في الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح، دون نحو النظر والخلوة، وكذا سائر أمهات المؤمنين، وهو أب للمؤمنين في الرأفة والرحمة والمراد من نفي أبوته في الآية أبوة النسب والتبني (أم عبد ا) كناها بابن أختها أسماء «عبد ابن الزبير» وقيل بسقط لها منه، واستبعد (عائشة) الصديقة بنت أبي بكر الصديق عبد ابن أبي قحافة عثمان (رضي الله عنها) وعن أبيها وجدها، تزوّجها بمكة وهي بنت ست سنين، بعد تزوّجه بسودة بشهر، وقبل الهجرة بثلاث سنين ودخل بها في شوّال منصرفة من بدر سنة ثنتين من الهجرة، وهي بنت تسع سنين، وتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة، وعاشت بعده أربعين سنة، وتوفيت سنة سبع أو ثمان وخمسين لثلاث عشرة بقيت من رمضان بعد الوتر، وصلى عليها أبو هريرة لإمارته على المدينة حينئذٍ من قبل مروان، روي(1/60)
لها ألفا حديث ومائتان وعشرة وقيل ألف وعشرة. اتفقا على مائة وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وستين ومسلم بثمانية وستين (قالت: قال رسول الله: يغزو جيش الكعبة) في رواية مسلم: «عبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه، فقلنا له: صنعت شيئاً لم تكن تفعله؟ قال: العجب أن أناساً من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش» وزاد في رواية أخرى: أن أم سلمة قالت ذلك أيام ابن الزبير، وفي أخرى: أن عبد ابن صفوان أحد رواة الحديث عن أم سلمة قال: وا ما هو هذا الجيش.
قال القرطبي: وقد ظهر ما قال، فإن الجيش المرسل إلى ابن الزبير لم يخسف به اهـ. قال العاقولي: والأولى إجراء الحديث على إطلاقه وعدم تقييده بأحد، والكعبة مأخوذة من كعبته: ربعته، والكعبة: كل بيت مربع كذا في «القاموس» . وفي كلامهم أن إبراهيم بنى الكعبة مربعة، ولا ينافيه اختلاف بعد ما بين أركانها لأنه قليل لا ينافي التربيع، وهذا أعني كون سبب تسميتها كعبة تربيعها أوضح من جعل سببها ارتفاعها. كما سمي كعب الرجل بذلك لارتفاعه، وأصوب من جعله استدارتها إلا أن يريد قائله بالاستدارة التربيع مجازاً، أو يكون أخذ الاستدارة في الكعب سبباً لتسميته، لكنه مخالف لكلام أئمة اللغة (فإذا كانوا ببيداء) في رواية مسلم: بالبيداء. قال القرطبي: والبيداء: أرض ملساء لا شيء فيها. وفي «الصحاح» : البيداء المفازة والجمع بيد، وهل هي بيداء المدينة أو لا؟ فيه خلاف (من الأرض) في محل الصفة لبيداء (يخسف بأولهم وآخرهم) زاد الترمذي في حديث ضعيف «ولم ينج أوسطهم» . وزاد مسلم في حديث حفصة: «يخسف بأوسطهم ثم ينادي أولهم آخرهم ثم يخسف بهم فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم» واستغني بهذا عن تكلف الجواب عن حكم الأوسط بأن العرف يقضي بدخوله فيمن هلك، ولكونه آخراً بالنسبة للأول وأولاً بالنسبة للأخير فيدخل (قالت) عائشة متعجبة من وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة (قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم) أي: بجملتهم (وفيهم أسواقهم) كذا للبخاري بالمهملة والقاف جمع، والمعنى: أهل أسواقهم أو السوقة منهم (و) فيهم (من ليس منهم) أي: ممن خرج بقصد القتال وإنما وافقهم في صحبة الطريق (قال) مجيباً عما سألت عنه: بأن العذاب يقع عاماً لحضور آجالهم، ثم يبعثون على نياتهم.
وقد روى الشيخان عن ابن عمر مرفوعاً رضي الله عنهما «إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على(1/61)
نياتهم» (يخسف بأولهم وآخرهم) أي: بجملة القوم تابعهم ومتبوعهم لشؤم الأشرار (ثم يبعثون) ويعاملون عند الحساب (على نياتهم) فيعامل كل بقصده من الخير أو الشر. وفي الحديث: أن من كثر سواد قوم في المعصية مختاراً أن العقوبة تلزمه معهم. وفيه أن الأعمال تعتبر بنية العامل، وفيه التحذير من مصاحبة أهل الظلم ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطرّ إلى ذلك (متفق عليه) ورواه أيضاً غيرهما، و (هذا) المذكور (لفظ البخاري) ولمسلم ألفاظ وهي بنحو ما ذكر، فمن ألفاظه. فقلنا: إن الطريق تجمع الناس. قال: «نعم فيهم المستنصر لذلك» أي: للمقاتلة «والمجبور» بالجيم الموحدة: أي المكره «وابن السبيل» أي: سالك الطريق معهم وليس منهم. فقال «يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم» .
33 - (وعن عائشة رضي الله عنها قال قالت النبيّ: لا هجرة) أي: من مكة (بعد الفتح) أي: فتحها، وجاء في حديث للبخاري مرفوعاً «لا هجرة بعد فتح مكة» وكان في رمضان سنة ثمان من الهجرة. وذلك أن الهجرة: أي مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام كانت واجبة على من بمكة فيجب على من أسلم بها أن يهاجر منها إلى المدينة لكونها كانت دار كفر فلما فتحت صارت دار إسلام، أما الهجرة من المواضع التي لا يتأتى إقامة أمر الدين فيها فهي واجبة اتفاقاً، وعلى ذلك يحمل حديث «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار» قال الخطابي: كانت الهجرة على معنيين: أحدهما أنهم إذا أسلموا وأقاموا بين قومهم أو ذوا، فأمروا بالهجرة ليسلم لهم دينهم ويزول عنه الأذى. والآخر الهجرة من(1/62)
مكة إلى المدينة لأن أهل الدين بالمدينة كانوا قليلين ضعيفين، فكان الواجب على من أسلم أن يهاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن حدث حادث استعان بهم في ذلك، فلما فتحت مكة استغنى عن ذلك، إذ كان معظم الخوف من أهلها، فأمر المسلمون أن يقيموا في أوطانهم ويكونوا على نية الجهاد مستعدين لأن ينفروا إذا استنفروا.
قال المصنف: يتضمن الحديث على هذا القول معجزة لرسول الله، وهي أن مكة تبقى دار الإسلام لا يتصوّر منها الهجرة. قال: وقيل معنى الحديث: لا هجرة بعد الفتح، فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح. قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} (الحديد: 10) الآية اهـ (ولكن جهاد ونية) قال الطيبي: كلمة لكن تقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها: أي: المفارقة عن الأوطان المسماة بالهجرة المطلقة انقطعت لكن المفارقة بسبب الجهاد باقية مدى الدهر، وكذا المفارقة بسبب نية خالصة تعالى كطلب العلم والفرار بدينه ونحوه. وقال المصنف تحصيل الخبر بسبب الهجرة قد انقطع بالفتح، ولكن حصلوه بالجهاد والنية (وإذا استنفرتم) أي: طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد، ويحتمل العموم أي إذا استنفرتم إلى الجهاد ونحوه (فانفروا) بكسر الفاء على الأفصح ويجوز ضمها وبالأول جاء القرآن: أي أخرجوا (متفق عليه) ورواه أبو داود، وروى بعضه الإمام أحمد وابن حبان وأبو عوانة والدارمي وابن الجارود وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. نقله العزّبن فهد في «الأربعين» التي خرّجها في الجهاد (ومعناه لا هجرة من مكة) أي بعد الفتح واجبة: لأنها وجبت منها أو لا لكونها كانت داراً للكفر وقد زال بفتحها فلا يجب منها (لأنها صارت دار إسلام) أو معناه كما يؤخذ من كلام الخطابي: لا هجرة إلى المدينة واجبة على من آمن(1/63)
وأمن على دينه بعد الفتح، لأنها إنما وجبت أو لا لكون المسلمين بالمدينة يومئذٍ كانوا قليلين، فكان الواجب على من أسلم الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعانة له، واستغنى عن ذلك بعد فتح مكة لأن معظم الخوف كان من أهلها.
44 - (وعن أبي عبد الله جابربن عبد الله الأنصاري) الخزرجي السلمي بفتح اللام لنسبته إلى سلمةبن سعد. روي عنه أنه قال: «غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة ولم أشهد بدراً ولا أحداً، منعني أبي، فلما قتل أبي لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة قط» . وعنه قال: أنا وأبي وخالي من أصحاب العقبة وكان أبوه يومئذٍ أحد النقباء. وكان جابر من أصغر الصحابة سناً. وكان من ساداتهم وفضلائهم المتحفين بحبّ رسول الله. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف وخمسمائة وأربعون حديثاً اتفقا منها على ستين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم بمائة وستة وعشرين. توفي بالمدينة بعد أن كفّ بصره سنة ثلاث وسبعين وهو ابن أربع وتسعين سنة، وصلى عليه أبانبن عثمان، وكان والي المدينة، وجابر آخر الصحابة موتاً بالمدينة (رضي الله عنهما) أشار إلى أنه ينبغي لكل من ذكر صحابياً أبوه صحابي، أي وقد ذكره، أن يقول رضي الله عنهما (قال: كنا مع النبيّ في غزاة) هي غزوة تبوك كما صرحت به رواية البخاري الآتية. وفي «النهاية» غزا يغزو غزوا فهو غاز، والغزوة: المرّة من الغزو، والاسم الغزاة: أي: بفتح الغين، وجمع الغازي غزاة بضمها وغزى وغزىّ وغزاة كقضاة وفسق وحجيج وفساق اهـ (فقال: إنّ بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً) أي: سيراً أو في مكان سير، فهو مصدر ميمي أو اسم مكان (ولا قطعتم وادياً) فيه إشارة إلى قوله تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل ا} (التوبة: 120) إلى قوله: {ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} (التوبة: 121) (إلا كانوا معكم) أي: شركوكم في الأجر كما في الرواية الثانية «وكان لهم مثل أجركم مضاعفاً» لصحة نيتهم في مباشرة كل ما باشره إخوانهم المجاهدون (حبسهم)(1/64)
أي: منعهم (المرض) فلصحة النية أعطاهم الله مثل أجر المباشر.
كذا في «المفهم» (وفي رواية إلا شركوكم) بكسر الراء (في الأجر) بدل قوله: إلا كانوا معكم. قال العاقولي في «شرح المصابيح» : هذا دليل على أنهم شركاء في الأجر وعلى التساوي أيضاً، لأنه إذا قال الرجل لصاحبه هذا لي ولك حمل على المساواة، ولذلك تجعل الدار بينهما نصفين إلا أنه يستدل بقوله تعالى: {لا يستوي القاعدون} (النساء: 95) الآية على ترجيح جانب الغازي على جانب القاعد، فيحمل ذلك على القاعد من غير عذر، والتساوي المفهوم من الحديث على القاعد بعذر فلا معارضة بين الآية والحديث، وسيأتي زيادة تحقيق في هذا المقام (رواه مسلم) .
55 - (ورواه البخاري عن أنس) عدل المصنف عن قوله متفق عليه مع أنهما روياه لكن باختلاف يسير في لفظه، وذلك الاختلاف لا يضر في إطلاق الإتفاق، لاختلاف صحابي الحديث عندهما. وقد اختلف في مثل ذلك هل هو مما اتفقا عليه، وبه قال ابن الجوزي وقال جمهور المحدّثين: لا يطلق اتفاقهما إلا على ما اتفقا على إخراج إسناده ومتنه معاً. نقله الحافظبن حجر في «نكته» على كتاب ابن الصلاح (قال رجعنا من غزوة تبوك) بفتح الفوقية وهي في طرف الشام من جهة القبلة بينها وبين المدينة النبوية نحو أربع عشرة مرحلة. وكانت غزوته تبوك في سنة تسع من الهجرة وهي آخر غزواته. قال الأزهري: أقام بتبوك بضعة عشر يوماً. والمشهور ترك صرف تبوك للتأنيث والعلمية، وفي رواية «صحيح البخاري» في حديث كعببن مالك: أي الآتي في باب التوبة: «لم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوكاً» بالصرف في جميع النسخ باعتبار إرادة الموضع (مع النبيّ) أي: صحبته (فقال: إن أقواماً) أي: رجالاً بدليل الرواية السابقة، ولأن القوم مختص بالرجال، قال تعالى: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم * ولا نساء من نساء} (الحجرات: 11) الآية.
وقال الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء.
(خلفنا) بسكون اللام أي وراءنا، وفي نسخة بتشديدها، من التخليف أي خلفنا خلفاً (بالمدينة) علم بالغلبة على دار هجرته (ما سلكنا شعباً) بكسر الشين المعجمة أي الطريقة في الجبل كما قاله ابن(1/65)
السكيت، قيل: الفرجة النافذة بين الجبلين (ولا وادياً) هو الموضع الذي يسيل فيه الماء كذا في «مفردات الراغب» (إلا وهم معنا) بفتح العين والجملة حالية (حبسهم العذر) استئناف بياني جواباً عن السؤال المقدر من حصول مثل ثواب المجاهد لهم مع قعودهم، وقد جاء السؤال مصرّحاً به في رواية أبي داود عن أنس، ولفظها: أن النبيّ قال: «لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم، قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العُذر» والعذر بضم المهملة: وصف يعرض للمكلف يناسب التسهيل عليه.
66 - (وعن أبي يزيد معن) بفتح الميم وسكون المهملة آخره نون (ابن يزيدبن الأخنس) بمعجمة فنون فمهملة (رضي الله عنهم) أتى بضمير الجمع وعلل الإتيان به كذلك بقوله: (هو وأبو وجده صحابيون) أي: وما كان كذلك فينبغي أن يؤتى عند ذكرهم بالترضي عليهم بصيغة الجمع. والصحابي على الصحيح: من اجتمع بالنبيّ حال حياته مؤمناً به ولو لحظة ومات على الإيمان. قيل: وقد شهد الثلاثة بدراً. قال الكرماني: ولم يتفق ذلك لغيرهم. وقيل: لم يشهدها معن. نزل معن الكوفة ثم مصر ثم الشام وقتل بمرج راهط سنة أربع وستين في دولة مروان. ذكره ابن الجوزي في «التلقيح» فيمن له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة أحاديث، وقال: قال البرقي له حديثان اهـ. انفرد البخاري بالرواية عنه عن مسلم للحديث الآتي، وروي عنه أبو داود (قال) أي: معن من جملة حديث (كان أبي) الأولى «وكان أبي» بالواو تنبيهاً على أنه بعض حديث (يزيد) بالرفع عطف بيان لأبي أو بدل منه (خرج دنانير يتصدق بها) ظاهره صدقة تطوع (فوضعها عند رجل في المسجد) أي: وأذن له أن يتصدق بها على المحتاج إليها (فجئت) الرجل (فأخذتها) أي: باختيار منه (فأتيته) أي: أبي (بها) أي: مصاحباً لها (فقال: وا ما إياك أردت) بهذه الدنانير المتصدق(1/66)
بها (فخاصمته) منتهياً (إلى رسول الله. فقال) : (لك ما نويت) أي: ثوابه (يا يزيد) لأنك نويت التصدق بها على محتاج، وابنك محتاج وإن لم تنوه (ولك ما أخذت يا معن) لكونك قبضتها قبضاً صحيحاً (رواه البخاري) .
77 - (وعن أبي إسحاق سعدبن أبي وقاص) بتشديد القاف آخره مهملة (مالك) بالجر على العطف على أبي أو بدلاً منه ويجوز قطعه عنه مرفوعاً بتقدير هو، ومنصوباً بتقدير أعني (أبن أهيب) بضم الهمزة وفتح الهاء وسكون التحتية (ابن عبد مناف) بفتح الميم (ابن زهرة) بضم الزاي (ابن كلاب) بكسر الكاف يحتمل أن يكون منقولاً عن جمع كلب، وأن يكون منقولاً عن مصدر كالب. وفي «المواهب اللدنية» : سئل أعرابيّ لم تسمون أبناءكم بشرّ الأسماء نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسنها نحو مرزوق ورباح؟ فقال: إنا نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا. يريد أن الأبناء عدة للأعداء وسهام في نحورهم، فاختاروا لهم هذه الأسماء. وكلاب هذا يجتمع فيه نسب أبي النبيّ وأمه. واسم كلاب حكيم وقيل عروة (ابن مرّة) بضم الميم وتشديد الراء (ابن كعب) وهو أول من جمع يوم العروبة كانت تجتمع إليه قريش في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبيّ ويعلمهم أنه من ولده ويأمرهم باتباعه والإيمان به (ابن لؤيّ) بضم اللام وفتح الهمزة وتقدم ما يتعلق به أول الباب (ابن غالب القرشيّ الزهريّ رضي الله عنه) أسلم سعد قديماً. وسبب إسلامه مذكور في «شرح الأذكار» ، وكان من المهاجرين الأولين شهد بدراً وما بعدها، وكان يقال له فارس الإسلام، وهو (أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم) وقد جمع أسماءهم غير واحد كالحافظ زين الدين العراقي فقال:
وأفضل أصحاب النبي مكانة
ومنزلة من بشروا بجنان
سعيد زبير سعد عثمان عامر
علي ابن عوف طلحة العمران
وأحد الستة أصحاب الشورى، كان يحرس النبيّ في مغازيه، وجمع له النبي(1/67)
أبويه فقال: «فدالك أبي وأمي أيها الغلام الحزور، اللهم سدّد رميته وأجب دعوته» . ثم قال لهم هذا خالي فليأت كل رجل بخاله. وفي هذا المقام في «شرح الأذكار» بسط فراجعه. ودعا له النبيّ بالشفاء من جرح كان به فشفي وهو أول من أراق دماً في الإسلام، وأول من رمى بسهم في سبيلالله، وأخباره في الشجاعة والشدة في دين الله واتباع السنة والزهد والورع وإجابة الدعوة والصدق والتواضع شهيرة. روي له عن النبي مائتان وسبعون حديثاً. وفي «التلقيح» لابن الجوزي مائتان وإحدى وسبعون حديثاً. وقال أبو نعيم أسند مائة حديث ونيفاً سوى الطريق. وقال البرقي: الذي حفظ عنه نحو من سبعين حديثاً اهـ. اتفق على خمسة عشر حديثاً، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بثمانية عشر. توفي في قصره بالعقيق على سبعة أميال من المدينة، وحمل على أعناق الرجال إلى المدينة، وصلى عليه والي المدينة مروانبن الحكم وأزواج النبيّ قيل وكان آخر المهاجرين موتاً بالمدينة ولما حضرته الوفاة دعا بخلق جبة له فقال: كفنوني فيها، فإني كنت لقيت المشركين فيها يوم بدر وكنت أخبؤها لهذا اليوم. وكانت وفاته سنة ثمان أو خمس وخمسين وله بضع وستون أو سبعون أو ثمانون أو تسعون سنة (قال: جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني) فيه عيادة الكبير أتباعه، ففيه التواضع ولين الجانب (عام حجة الوداع) سميت بذلك لأنه ودعهم فيها وهو بكسر الواو ويجوز فتحها، وتسمى بحجة البلاغ، لأنه قال لهم فيها: «هل بغلت» وبحجة الإسلام، لأنها الحجة التي حجّ فيها المسلمون وليس فيها مشرك (من وجع اشتد بي) وفي رواية لهما «أشفيت منه على الموت» أي: قاربته وأشرفت عليه (فقلت، يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى) فيه جواز ذكر المريض ما يجده لغرض صحيح من نحو مداواة أو دعاء صالح أو وصية أو استفتاء عن حالة، وكراهة ذلك محمولة على ما كان
على وجه التسخط ونحوه لكونه قادحاً في أجر مرضه (وأنا ذو مال) فيه دليل إباحة جمع المال، لأن هذه الصيغة لا تستعمل في العرف إلا لمال كثير (ولا يرثني) من الولد أو خواصّ الورثة وإلا فقد كان له عصبة، وقيل معناه؛ لا يرثني من أصحاب الفروض (إلا ابنة لي) اسمها عائشة ولم يكن إذ ذاك سواها، ثم جاء له بعد ذلك أولاد. وتعقب الحافظ ذلك في «الفتح» ، ثم قال؛ والظاهر أن البنت المشار إليها هي أم الحكم الكبرى، وأمها بنت شهاببن عبد ابن الحارث.t قال(1/68)
الحافظ؛ ولم أر من حررّ ذلك (أفأتصدق بثلثي مالي) يحتمل أنه أراد بالصدقة الوصية، ويحتمل أنه أراد الصدقة المنجزة، وحكمهما سواء عندنا. وعند العلماء كافة لا ينفذ منهما ما زاد على ثلث التركة إلا برضى الوارث (قال لا، قلت فالشطر) أي: فالنصف بالرفع على الابتداء أي أتصدق به أو على أنه فاعل لفعل مقدر: أي أفيجوز الشطر؟ وقال في «فتح الباري» : هو بالنصب على تقدير فعل: أي أسمي أو أعين الشطر. ثم قال: ويجوز الرفع (قال لا، قلت فالثلث) بالرفع أو النصب (قال) : (الثلث) بالرفع على تقدير أنه فاعل فعل محذوف: أي يكفيك الثلث، أو خبر مبتدإ محذوف: أي المشروع الثلث، أو مبتدأ حذف خبره: أي الثلث كافيك، وبالنصب على الإغراء أو بفعل مضمر: أي أعط الثلث (والثلث كثير) بمثلثة وعليه اقتصر الشيخ زكريا في «تحفة القاري» على البخاري (أو كبير) أي: بموحدة، وقد حكاه مع ما قبله المصنف في «شرح مسلم» روايتين قال وكلاهما صحيح. قال في «فتح الباري» : المحفوظ في أكثر رواياته بالمثلثة، ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه قال: وهذا محتمل أن يكون مسوقاً لبيان جواز التصدق بالثلث، وأن الأولى النقص عنه وهو ما يتبادر إلى الفهم، ومحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث من الأكمل: أي كثير أجره أو كثير غير قليل.
قال الشافعي: وهذا أولى معانيه، يعني أن الكثرة أمر نسبي اهـ. (إنك) يجوز فتح الهمزة وهو أوضح لأنه علة لما تضمنه قوله: «والثلث كثير» من أنه لا ينبغي أن يوصي بالثلث بل ينقص عنه شيئاً قليلاً، ويجوز كسرها استئنافاً، وفيه الإشارة إلى تلك العلة أيضاً (أن تذر ورثتك أغنياء) بفتح همزة أن: أي لأن تذر فمحله جرّ أو نصب على الخلاف في ذلك، أو هو مبتدأ فمحله رفع وخبره (خير) وعلى الأول فهو خبر لأن، ويجوز كسر همزة أن إن صحت به الرواية، قال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر فإن فيه شرطية وجوابها جملة صدرها مع فاء الجواب محذوف: أي فو خير، وبصحة الرواية اندفع ما قبل حذف ذلك ضرورة (من أن تذرهم) أي: تتركهم (عالة) بتخفيف اللام فقراء (يتكففون الناس) أي: يسألونهم ما في أكفهم، ففي الحديث حثّ على صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب والشفقة على الورثة، وأنّ صلة القريب الأقرب أفضل من الأبعد (وإنك لن تنفق نفقة) معطوف على قوله: «إنك أن تذر» إلى آخره، وهما علة للنهي عن الوصية(1/69)
بأكثر من الثلث كأنه قال: لا تفعل لأنك إن متّ تركت ورثتك أغنياء وهو خير لك، وإن عشت تصدقت وأنفقت فالأجر حاصل لك في الحالين، وعبر بتنفق مع أن اشتراط الإخلاص لا يختص به بل يجري في كل تصرّف ما لي أو فعلى تفاؤلاً، فإن الإنفاق إنما يقال فيما صرف في الخير، وغيره يقال فيه حسنى وصنيع. وقال ابن أبي جمرة: نبه بالنفقة على ما سواها من عمل البرّ (تبتغي بها وجه ا) أي: ذاته وحده كما دل عليه السياق (إلا أجرت) بالبناء للمجهول: أي آجرك الله (عليها) وفي نسخة «بها» لأنه من العمل الصالح (حتى ما تجعل في في امرأتك) حتى عاطفة، وما اسم موصول في محل نصب عطفاً على نفقة، ويجوز الرفع على أنه مبتدأ: أي إلا أجرت بالنفقة التي تبتغي بها وجه الله حتى بالشيء الذي تجعله في فم امرأتك، ففي الحديث أن الأعمال بالنيات. وإنما يثاب على عمله بنيته، وأن الإنفاق على العيال
يثاب عليه إذا قصد وجه الله تعالى به. وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة ويثاب عليه؛ إذ وضع اللقمة في فم امرأته إنما يكون في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذّذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع ذلك فقد أخبر الشارع بأن ذلك يؤجر عليه بالقصد الجميل. فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا قصد به وجهالله. ويؤخذ منه أن الإنسان إذا فعل مباحاً من أكل أو شرب وقصد به وجه الله كالاستعانة بذلك على الطاعة وبالنوم على قيام الليل يثاب عليه. ووجه عطف جملة وإنك لن تنفق الخ» على «إنك» الأولى بيان سبب استكثار الثلث ببيان ما يتعلق به في الدنيا والآخرة: أي: لا تستقل الثلث، فإنك إذا أخرجته أثبت الثواب العظيم. وأبقيت لورثتك ما يصونون به وجوههم عن ذلّ السؤال، ومع ذلك تكون قد تداركت به ما فرطت. كما في حديث «إن الله أعطى عبده ثلث ماله في آخر عمره ليتدارك به ما فرط منه» (قال فقلت يا رسول الله أخلف) بضم الهمزة وفتح اللام المشددة، وفي نسخة من البخاري «أخلف» بهمزة الاستفهام: أي أخلف في مكة (بعد أصحابي) أي: بعد انصرافهم معك.
قال القاضي عياض: قاله إما إشفاقاً من موته بمكة لكونه هاجر منها وتركها فخشي أن يقدح ذلك في هجرته أو في ثوابه، أو خشي بقاءه بمكة بعد انصراف النبي وأصحابه إلى المدينة وتخلفه عنهم بسبب المرض، وكانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه. ولذا جاء في رواية أخرى «أخلف عن هجرته» . قال القاضي: قيل كان حكم الهجرة باقياً بعد الفتح لهذا الحديث، وقيل: إنما كان ذلك لمن هاجر قبل الفتح اهـ (قال إنك لن تخلف) أي:(1/70)
بأن يطول عمرك وبقاؤك في الحياة بعد جماعات من أصحابك (فتعمل عملاً يبتغي) تقصد (به وجه ا) وحده: أي: ذاته (إلا ازددت به درجة) في الجنة (ورفعة) بكسر الراء، ففي هذا فضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح، والحثّ على إرادة وجه الله تعالى بالأعمال (ولعلك أن تخلف) بأن يطول عمرك (حتى ينتفع بك أقوام) في دينهم ودنياهم (ويضربك آخرون) هذا من جملة إخباره بالمغيبات فإنه عاش حتى فتح العراق وغيره، وانتفع به قوم في دينهم ودنياهم، وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم، فإنهم قتلوا إلى جهنم وسبيت نساؤهم وأولادهم، وغنمت أموالهم وديارهم، وولى العراق فاهتدى على يديه خلائق بإقامة الحق فيهم من كفار ونحوهم (اللهمّ) أصله يا أ، فحذف حرف النداء وعوّض عنه الميم ولهذا امتنع الجمع بينهما في الاختيار، وبسطت الكلام في تحقيق هذه الكلمة في «شرح الأذكار» قيل: وهو الاسم الأعظم (أمض) بفتح الهمزة: أي أتمم (لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم) قال القاضي عياض: استدل به بعضهم على أن بقاء المهاجر بمكة كيف كان قادحاً في هجرته، ولا دليل فيه عندي لأنه يحتمل أنه دعا لهم دعاء عاماً أو تقدم معنى ذلك (لكن البائس) بموحدة وبالمد: أي الذي آثر البؤس، أي شدة الفقر والقلة (سعدبن خوله) بفتح الخاء المعجمة وهو زوج سبيعة الأسلمية (يرثى له) أي: يرق له ويترحم له (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن) بفتح الهمزة: أي: لأنه (مات بمكة) وهي الأرض التي هاجر منها.
قال العلماء: انتهى كلام النبي إلى قوله: «لكن البائس سعدبن خولة» ، وما بعده، مدرج من الراوي قيل من سعد وقد جاء مفسراً في بعض الروايات، وقيل أكثر ما جاء من كلام الزهري. واختلف في قصة سعدبن خولة: فقيل: لم يهاجر من مكة حتى مات بها. وقيل: إنه هاجر وشهد بدراً ثم انصرف إلى مكة ومات بها، وقيل: هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد بدراً وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع سنة عشر، وقيل: توفي بمكة سنة سبع في الهدنة، خرج مختاراً من المدينة إلى مكة. فعلى القول الأول سبب بؤسه عدم هجرته. وعلى الثاني والأخير سبب بؤسه سقوط هجرته لرجوعه مختاراً بها. وعلى القول الثالث سبب بؤسه موته بمكة على أي حال كان وإن لم يكن باختياره، لما فاته من الأجر الكامل بالموت في دار هجرته، والغربة عن وطنه الذي هجره تعالى،(1/71)
ذكره المصنف في «شرح مسلم» (متفق عليه) ورواه مالك في «الموطإ» وأبو داود والترمذي والنسائي كذا في «جامع الأصول» لابن الأثير.
78 - (وعن أبي هريرة) جره بالكسرة هو الأصل وصوّبه جماعة لأنه جزء علم، واختار آخرون منع صرفه كما هو شائع على ألسنة العلماء من المحدثين وغيرهم، لأن الكل صار كالكلمة الواحدة. واعترض بأنه يلزم عليه رعاية الأصل والحال معاً في كلمة واحدة بل في لفظ هريرة إذا وقعت فاعلاً مثلاً، فإنها تعرب إعراب المضاف إليه نظراً للأصل وتمنع من الصرف نظراً للحال، ونظيره خفي. وأجيب بأن الممتنع رعياتهما من جهة واحدة لا من جهتين كما هنا، وكأن الحامل عليه الخفة واشتهار هذه الكنية، حتى نسي الاسم الأصلي بحيث اختلفوا فيه وفي اسم أبيه على خمسة وثلاثين قولاً، أصحها (عبد الرحمنبن صخر رضي الله عنه) وسبب تكنيته بذلك ما رواه ابن عبد البر عنه أنه قال: «كنت أحمل يوماً هرة في كمي، فرآني النبي فقال: ما هذه؟ فقلت: هرة، فقال: يا أبا هريرة» وفي رواية إسحاق «وجدت هرة حملتها في كمي فقيل لي: ما هذه؟ فقلت: هرة، فقيل أنت أبو هريرة» روجح بعضهم الأول، وقيل غير ذلك. أسلم عام خيبر وشهدها مع رسول الله، ثم لازمه الملازمة التامة رغبة في علم راضياً بشبع بطنه، وكان يدور معه حيثما دار، ومن ثم كان أحفظ الصحابة، وقد شهد له أنه حريص على العلم والحديث. يروى عنه كما قال البخاري أكثر من ثمانمائة ما بين صحابي وتابعي، وله خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثاً اتفقا منها على ثلاثمائة، وانفرد البخاري بثلاثة وسبعين. وكان ملازماً لسكنى المدينة، وبها توفي في سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بالبقيع. وما اشتهر أن قبره بقرب عسقلان لا أصل له إنما ذاك صحابي اسمه حيدرة (قال: قال رسول الله: إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى(1/72)
صوركم) أي: لا يثيبكم عليها ولا يقربكم منه ذلك كما قال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً} (سبأ: 37) الآية، فمعنى نظر اهنا مجازاته وإثباته، وهذا
بعينه يأتي في قوله تعالى: {ولا ينظر إليهم} (آل عمران: 77) وإلا فنظره تعالى الذي هو رؤيته للموجودات وإطلاعه عليها لا يخص موجوداً دون موجود بل يعم جميع الأشياء، إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
والحاصل أن الإثابة والتقريب ليسا باعتبار الأعمال الظاهرة وإنما هي باعتبار ما في القلب كما قال: (ولكن ينظر إلى قلوبكم) وفي الحديث الاعتناء بحال القلب وصفاته بتحقيق علومه وتصحيح مقاصده وعزومه، وتطهيره عن كل وصف مذموم وتحليته بكل نعت محمود، فإنه لما كان القلب محل نظر الربّ حق على العالم بقدر اطلاع الله تعالى على قلبه أن يفتش عن صفات قلبه وأحواله لإمكان أن يكون فيه وصف مذموم يمقته الله بسببه. وفيه أن الاعتناء بإصلاح القلب وبصفاته مقدم على عمل الجوارح، لأن عمل القلب هو المصحح للأعمال الشرعية، إذا لا يصح عمل شرعي إلا من مؤمن عالم بمن كلفه، مخلص له فيما يعمله، ثم لا يكمل إلا بمراقبته تعالى فيه المعبر عنها بالإحسان، وحيث كان عمل القلب مصمماً للعمل الظاهر وعمل القلب غيب عنا فلا يقطع لذي عمل صالح بالخير، فلعل الله تعالى يعلم من قلبه وصفاً مذموماً لا يصح معه ذلك العمل، ولا لذي معصية بالشرّ فلعله سبحانه يعلم من قلبه وصفاً محموداً يغفر له بسببه، والأعمال أمارات ظنية، لا أدلة قطعية، ويترتب على ذلك عدم الغلوّ في تعظيم من رأينا عليه أفعالاً صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالاً سيئة، بل تحتقر تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة، فتدبر هذا فإنه نظر دقيق، لخص من المفهم للقرطبي (رواه مسلم) وابن ماجه أيضاً.
99 - (وعن أبي موسى عبد ا) بالجر عطف بيان أو بدل من أبي موسى (ابن قيس)(1/73)
بفتح القاف وسكون التحتية آخره مهملة (الأشعري) نسبة إلى الأشعر قبيلة مشهورة باليمن والأشعر هو مرةبن أددبن زيدبن يشجب، وإنما قيل له الأشعر لأن أمه ولدته والشعر على بدنه، كذا في لبّ اللباب. قدم أبو موسى (رضي الله عنه) مكة على النبي قبل الهجرة فأسلم ثم هاجر، وقدم المدينة مع جعفر وأصحاب السفينة بعد خيبر، وأسهم لهم منها كمن حضرها، وقال؛ لكم أهل السفينة هجرتان، وكان لأبي موسى ثلاث هجر: إلى مكة، ثم إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. ولاه على زبيد وعدن وساحل اليمن، وكان يكرمه ويبجله، وقال له «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود» وولاه الولايات، وقد ذكرت جملة من أحواله في باب فضل الذكر من «شرح الأذكار» ، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وستون حديثاً اتفقا منها على تسعة وأربعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة عشر. توفي بمكة وقيل بالكوفة سنة اثنتين أو أربع وأربعين عن ستين سنة (قال سئل) بالبناء للمجهول، والسائل هو لاحق ابن ضمرة الباهلي كما في «تحفة القاري» (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل) في محل الصفة أو الحال من الرجل، لأن أل فيه جنسية فهو نظير قوله تعالى: {وأية لهم الليل نسلخ منه النهار} (يس: 37) وقال الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
(شجاعة) هي الإقدام على العدو عن روية، قال الشاعر:(1/74)
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
(و) سئل عن الرجل (يقاتل حمية) بتشديد التحتية: أي: أنفة وغيره ومحاماة عن عشيرته.
(و) سئل عن الرجل (يقاتل رياء) أي: ليرى الناس قتاله ومثله القتال سمعة أي ليسمع الناس، وقوله: «شجاعة» بالنصب وكذا المذكورات في الجمل المعطوفة بعده، وقد جاء في رواية «سئل عن الرجل يقاتل للذكر» الحديث؛ أي: لأن يذكر بالشجاعة؛ أي: ملاحظة لنظر الخلق ليمدحوه ويقبلوا عليه، فشجاعة وكذا المنصوبات في الجمل المعطوفة بعده مفعول له (أيّ ذلك) بالرفع مبتدأ وهو اسم استفهام وخبره (في سبيل ا) أي: كائن في طاعته (فقال رسول الله: من قاتل لتكون كلمة ا) أي: دين الإسلام، فإن الإسلام ظهر بكلام الله الذي أظهره على لسان رسول الله، وقيل: المراد من كلمة الله دعوته إلى الإسلام (هي العليا فهو في سبيل ا) يدخل في الحديث من قاتل لطلب ثواب الآخرة أو رضي الله لأنه من إعلاء كلمةالله. وحاصل الجواب أن القتال في سبيل الله قتال منشؤة القوّة العقلية لا القوة الغضبية أو الشهوانية، قال المصنف؛ في الحديث بيان أن الأعمال إنما تحسب بالنيات الصالحة، وأن الفضل الوارد في المجاهدين يختص بمن قاتل لإعلاء كلمة الله (متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي والترمذي.
1010 - (وعن أبي بكرة) بسكون الكاف كني بذلك لأنه تدلى ببكرة من حصن الطائف إلى النبي لما حاصر الطائف، ثالث ثلاثة وعشرين من عبيد أهل الطائف (نفيع) بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتية آخره مهملة عطف بيان أو بدل من أبي بكرة، وقيل اسمه مسروح بمهملات، وقيل اسم أبيه ذلك (ابن الحارث) بن كلدة بفتحتين (الثقفي) نسبة لثقيف بوزن رغيف. كان أبو بكرة (رضي الله عنه) من ذوي المزايا من أصحاب رسول الله، نزل البصرة وشهد وقعة الجمل ولم يقاتل فيها واجتنب حروب الصحابة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة واثنتان وثلاثون حديثاً، اتفقا على ثمانية منها، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بواحد. توفي بالبصرة سنة إحدى أو اثنتين وخمسين (أن النبي قال: إذا التقى(1/75)
المسلمان بسيفيهما) قاصداً كل منهما إتلاف صاحبه (فالقاتل) بسببه مباشرته قتل صاحبه (والمقتول) لحرصه على ذلك كائنان (في النار) أي: إن لم يعف الله عنهما (قلت: يا رسول الله
هذا القاتل) : أي: حكمة دخوله النار إن لم يعف الله عنه ظاهرة لأنه ظلم أخاه (فما بال المقتول) المظلوم (قال إنه) أي: المقتول (كان) عاصياً لأنه كان (حريصاً على قتل صاحبه) ففي الحديث العقاب على من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها، ويحمل ما جاء في الأحاديث من العفو عن الخواطر على غير ذلك بأن مر ذلك بفكره من غير استقرار ويسمى هما المعصية التي عزم عليها كما ذكر تكتب سيئة ويؤاخذ بها إن لم يعملها فإن عملها كتبت معصية ثانية، وإن تركها خوفاً من الله تعالى كتبت حسنة. وتمسك أبو بكرة بهذا الحديث في ترك القتال في الفتنة حتى نقل عنه أنه قال: لو دخل عليّ أحد حتى يقتلني لم أمنعه (متفق عليه) قال في «الجامع الصغير» ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي بكرة، ورواه ابن ماجه عن أبي موسى.
1111 - (وعن أبي هريرة) سبقت ترجمته (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: صلاة الرجل جماعة) أي: في المسجد (تزيد على صلاته) أي: الرجل (في سوقه) سميت بذلك لأن الناس يسوقون إليها بضائعهم. أو لأنهم يقفون فيها على ساق (و) تزيد على صلاته في (بيته) جماعة كانت أو فرادي صرح به الحافظ في «الفتح» ، لكن قال المصنف: الصواب أن المراد منه صلاته في بيته وسوقه منفرداً، وقيل فيه غير هذا وهو قول باطل اهـ.
وقال الحافظ: مقتضى الحديث أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت جماعة وفرادى. قال ابن دقيق العيد: والذي يظهر لي أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفرداً، لكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة(1/76)
في المسجد صلى منفرداً، قال: وبهذا يرتفع إشكال من استشكل تسوية الصلاة في البيت والسوق اهـ. ولا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التسوية المذكورة، إذ لا يلزم من استوائهما في المفضولية عن المسجد ألا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن تكون الصلاة جماعة في البيت والسوق لا فضل فيها على الصلاة منفرداً، بل الظاهر أن التضعيف المذكور يختص بالجماعة في المسجد. والصلاة في البيت مطلقاً أولى منها في السوق كذلك. لما ورد من كون الأسواق محلاً للشياطين والصلاة جماعة في السوق والبيت أفضل من الإنفراد (بضعاً) بكسر الباء وفتحها وهو من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: من ثلاث إلى تسع، وقيل: غير ذلك، والصحيح الأول. والمراد منه خمس أو ست أو سبع كما جاء مبيناً في روايات في «الصحيح» (وعشرين درجة) أي: يزيد ثواب الصلاة في الجماعة في المسجد على الصلاة في البيت والسوق هذا القدر، فيحصل له بالصلاة في المسجد ثواب أزيد من ثواب ما لو صلى تلك الصلاة بعينها منفرداً فيها بضعاً وعشرين درجة، كما ذكره ابن دقيق العيد وغيره. قال ابن الأثير: إنما قال درجة لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع وأن تلك فوق
هذه بكذا درجة لأن الدرجات إلى جهة فوق (وذلك) إشارة إلى أن الأمور المذكورة بعد علة التضعيف والتقدير، وذلك لأنه، فكأنه يقول سبب التضعيف المذكور (أن أحدهم) أي: الواحد من الرجال المدلول عليه بلفظ الرجل فأل فيه استغراقية (إذا توضأ فأحسن الوضوء) بضم الواو: أي: أسبغه وأتى بسننه وآدابه (ثم أتى المسجد) حال كونه (لا يريد) من إتيانه إياه (إلا الصلاة) أي: ثواب الصلاة في جماعة فأن فيه عهدية، وأوقع الفعل على الصلاة لأنها سبب، وليس مفهوم «ثم» وهو المهلة والتراخي مراداً بل المبادرة أولى؛ لقوله تعالى: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون: 61) .p
وفي الحديث إشارة إلى اعتبار الإخلاص (لا ينهزه إلا الصلاة) هو بمعنى ما قبله (لم يخط) بفتح التحية وضم الطاء المهملة (خطوة) قال الحافظ في «الفتح» : ضبطناه بضم أوله،(1/77)
ويجوز الفتح. قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة. وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح، وقال القرطبي إنها في رواية مسلم بالضم (إلا رفع) بالبناء للمجهول، ونائب الفاعل ضمير يعود إلى الرجل (بها) أي: بسببها، و (درجة) منصوب على الظرفية والدرجة بفتح الدال المرتبة والمنزلة، ثم يحتمل أن تكون حسية في الجنة، وأن تكون معنوية بمعنى ارتفاع رتبته (وحط) أي: وضع (عنه) أي: عن الرجل المذكور بأن يمحي من صحيفته (بها) أي: بسببها (خطيئة) أي: ذنب (حتى) غاية لما قبله: أي إلى أن (يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد) منتظراً للصلاة بالنصب على الظرفية على سبيل التوسع، وإلا فحقه ألا ينصب عليها لأنها اسم مكان مختص (كان) الرجل (في الصلاة) أي: في ثوابتها. وهذا مجاز، فإن الصلاة أو ثوابها ليس ظرفاً (ما كانت الصلاة هي تحبسه) «ما» فيه مصدرية ظرفية ثم محله ما لم يصرف جلوسه في مصلاه لغرض آخر، وهل يحصل الثواب المذكور لمن نوى إيقاع الصلاة في المسجد جماعة وإن لم يوقعها فيه أم لا؟ قال القلقشندي: الظاهر الثاني. وقضية ما تقدم في حديث المخلفين عن تبوك من المعذورين من قول القرطبي إنهم يثابون كالمباشر لصدق نيتهم، أن يحصل له الثواب عند صدق النية (والملائكة) قيل: هم أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل، وقيل: غير ذلك، وهل هي متحيزة أو لا؟ وهل يستقل العقل بمعرفتها أو لا؟ فيه خلاف تحقيقه في علم الكلام (يصلون على أحدكم) أي: يدعون له. وقابل صلاة الجماعة بصلاة الملائكة ليتناسب العمل والثواب. وهؤلاء الملائكة يجوز أن يكونوا الحفظة ويجوز أن يكونوا غيرهم (ما) مصدرية ظرفية أيضاً (دام في مجلسه) أي: مدة دوام كونه في مجلسه (الذي صلى فيه) أي: صلاة تامة كما قال ابن
أبي جمرة.
قال القلقشندي: والمراد ما دام فيه ينتظر الصلاة وقد ورد كذلك صريحاً عند مسلم، ومقتضى هذا أنه إذا انصرف عن مصلاه إلى موضع آخر في المسجد أو غيره وهو ينتظر الصلاة أنه ينقطع ذلك، وليس مراداً كما نبه عليه الحافظ في «الفتح» ، فقال الباجي: المنتظر في غير مصلاه من المسجد يكون في صلاة كالمنتظر في مصلاه، غير أن المنتظر في مصلاه يختص بصلاة الملائكة عليه (يقولون) بيان ليصلون (اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه) فعلم أن المراد بصلاتهم الدعاء لا الاستغفار(1/78)
فقط. واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال كما ذكر من دعاء الملائكة للمصلى، وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم يكونوا في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم (ما لم يؤذ فيه) بسكون المهملة كما قاله الداودي. قال: وضبطها بعضهم بفتحها وأراد بغير ذلكالله. قيل: والمراد بالحدث في الحديث الذي ذكره البخاري الريح كما فسره أبو هريرة راوي الحديث. وقيل: المراد أعم من ذلك ويؤيده رواية مسلم هذه الجامعة بين الأذى والحدث إن لم يكن الثاني تفسيراً للأول، فإن كان تفسيراً له يؤخذ منه أن اجتناب حدث اللسان واليد من باب أولى فيهما ويؤخذ منه أن الحدث يقطع ذلك ولو استمر جالساً في مصلاه. وتأول أكثر العلماء الأذى بالغيبة والضرب فإن ذلك أعظم من أذى الحدث (متفق عليه، وهذا لفظ مسلم) ورواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي مقطعاً، وكذا ابن ماجه والإسماعيلي وأبو عوانة وابن الجارود مختصراً والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، كذا في «شرح عمدة الأحكام» للقلقشندي (قوله) كما في نسخة (ينهزه: هو بفتح الياء والهاء) وحكي ضم الياء وكسر الهاء (وبالزاي أي يخرجه وينهضه) وفي «النهاية» : النهز الدفع، يقال نهزت الرجل أنهزه: أي: إذا دفعته، ونهز رأسه إذا حركه.
1212 - (وعن أبي العباس عبد ابن عباس) عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ابن عبد المطلب رضي الله عنهما) ولد قبل الهجرة بثلاث سنين بالشعب، وبنو هاشم محصورون فيه قبل خروجهم منه(1/79)
بيسير وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقيل ابن خمس عشرة، وقيل ابن عشر، ويؤيد الأول ما صح عنه من قوله في حجة الوداع «وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام» وصح أنه دعا له بقوله: «اللهم فقهه في الدين وعلمه الحكمة والتأويل، اللهم علمه تأويل القرآن، اللهم بارك فيه وانشر منه واجعله من عبادك الصالحين، اللهم زده علماً وفقهاً» وثبت عنه أنه قال: «رأيت جبريل مرتين» وهذا سبب عماه في آخر عمره. وفضائله شهيرة ومناقبه كثيرة، أوردت جملة صالحة منها في كتاب فضل زمزم. روي له ألف حديث وستمائة وستون حديثاً، اتفقا منها على خمسة وتسعين، وانفرد البخاري بثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين. مات بالطائف ودفن بها سنة ثمان وخمسين في خلافة ابن الزبير، وقيل: سنة تسع، وصلى عليه محمدبن الحنفية وقال؛ مات رباني هذه الأمة (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي) أي: روي عن أبي العباس أنه روى عن النبي ما يأتي حال كونه مندرجاً في الأحاديث القدسية وهي التي يرويها (عن ربه تبارك) قال البيضاوي أو تكاثر خيره، من البركة وهي كثرة الخير، أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة، وقيل: دام من بروك الطير على الماء، ومنه البركة لدوام الماء فيها، وهو لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا تعالى اهـ.
وعلى الثاني مما قاله، فيكون قوله (تعالى) أي: تنزّه عما لا يليق به مما يقوله الجاحدون المبطلون إطناباً. ثم هذه عبارة السلف في رواية الأحاديث القدسية، فلذا آثرها المصنف، ولهم في ذلك عبارة أخرى وهي أن يقال: قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله، والمعنى واحد. وقد ذكرت ما افترق فيه القرآن والحديث القدسي في «شرح الأذكار» ، وسيأتي بعضه في باب الصبر. وقيل: ليس من الأحاديث القدسية، بل المراد فيما يرويه عن فضل ربه أو حكمه أو نحو ذلك. وتعقب ذلك الجزم بأن كلا الأمرين محتمل، والأقرب إلى السياق وإلى اصطلاح السلف المذكور في رواية الأحاديث القدسية أنه منها، وقد جاء في بعض طرق الصحيحين ما يصرح بأنه منها وهو «يقول الله عزّ وجل: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها، وإن تركها لأجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، وإذا عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها عليه بمثلها» (قال) أي: النبي، ويصحّ عوده إلىالله، وعليه فيكون من الإظهار في محل الإضمار قوله: (إن الله كتب(1/80)
الحسنات والسيئات) أي: أمر الحفظة بكتابتهما، أو كتبهما في علمه على وفق الواقع منهما أو قدر مبالغ تضعيفهما (ثم بين) أي: الله تعالى، وجعل الضمير له مبني على ما مر من أن المراد بعن ربه عن حكمته أو فضله وقد علمت ما فيه، و «ثم» للترتيب الذكرى (بين ذلك) للكتبة من الملائكة حتى عرفوه واستغنوا به عن الاستفسار كل وقت كيف يكتبونه (فمن هم بحسنة) أي: أرادها وترجح فعلها عنده، فعلم منه بالأولى العزم وهو الجزم بفعلها والتصميم عليه (فلم يعملها كتبها الله عنده) هي عندية شرف ومكانة لتنزهه تعالى عن عندية المكان (حسنة) لأن الهم بالحسنة سبب إلى عملها وسبب الخير خير، أما الخطرة التي تخطر ثم تنفسخ من
غير عزم ولا تصميم فليست كذلك.
واستفيد من ذكر الحسنة هنا والمضاعفة فيما يأتي اختصاص المضاعفة بمن عمل دون من نوى، فهما في الأصل سواء وإن اختص العامل بالتضعيف، وقوله: (كاملة) وصف حسنة وذكر لئلا يظن أنها لكونها مجرد همّ ينقص ثوابها (وإن همّ بها) أي: بالحسنة (فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات) لأنه أخرجها من الهمّ إلى ديوان العمل، فكتب له بالهمّ حسنة ثم ضوعفت فصارت عشراً، وهذا التضعيف لازم لكل حسنة تعمل. قال الله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام: 160) ثم قد تضاعف بعد لمن شاءالله. قال الله تعالى: {وا يضاعف لمن يشاء} (البقرة: 261) مضاعفة أخرى (إلى سبعمائة ضعف) علي حسب ما اقترن بها من إخلاص نيته وإيقاعها في محلها الذي هي به أولى وأحرى. وفي رواية في «الصحيحين» أيضاً «إلى تسعمائة ضعف إلاّ الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» وفيها دليل على أن الصوم لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله تعالى لأنه أفضل أنواع الصبر، وقد قال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (الزمرة: 10) (إلى أضعاف كثيرة) وكثيرة هذه وإن كانت نكرة إلا أنها أشمل من المعرفة فتقضي لهذا أن يحسب توجيه الكثرة على أكثر ما يمكن. كتصدق بحبة برّ مثلاً(1/81)
تحسب له في فضل الله تعالى أنه لو بذرها في أزكى أرض مع عناية الريّ والتعهد» ثم حصدت وبذر حاصلها في أزكى أرض كذلك وهكذا إلى يوم القيامة، جاءت تلك الحبة كأمثال الجبال الرواسي، وما ذكرته من أن التضعيف بعشرة لا بد منه لكل عامل حسنة وأن التضعيف بسبعمائة فأكثر إنما يحصل للبعض على حسب مشيئته تعالى، هو ما جزم به المصنف رحمه الله تعالى (وإن همّ بسيئة فلم يعملها) بأن ترك فعلها أو التلفظ بها لوجهه تعالى لا لنحو حياء أو خوف ذي شوكة أو عجز أو رياء، بل قيل يأثم حينئذٍ من حيث نحو الرياء، لأن تقديم خوف المخلوق على خوف الله محرم وكذا الرياء (كتبها الله عنده
حسنة) لأن رجوعه عن العزم عليها خير أيّ خير فجوزي في مقابلته بحسنة، وأكدت بقوله: (كاملة) إشارة إلى نظير ما مر في كاملة في الهم بالحسنة. لا يقال نظير ما مرّ ثم إن الهمّ بالحسنة تكتب فيه حسنة أن يكون بالسيئة تكتب فيه سيئة، فإن الهمّ بالسوء من أعمال القلب. لأنا نقول؛ قد تقرّر أن الكف عنها خير أيّ خير، وهو متأخر عن ذلك الهم فيكون ناسخاً له {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 14) وعند مسلم «يقول ا؛ إنما تركها من جرّاي» أي: من أجلي وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة زاد أحمد «ولم تضاعف عليه» ويدل له قوله تعالى: {فلا يجزى إلا مثلها} (الأنعام: 160) نعم قد تعظم بشرف زمان أو مكان كالأشهر الحرم ورمضان ومكة، أو بشرف الفاعل لها وقوة معرفته با تعالى وقربه منه، فإن من عصا السلطان على بساطه أعظم جرماً ممن عصاه على بعده. ثم قوله: «إن هم الخ» فيه دليل على أن العزم لا يكتب معها، لكن أفتى قاضي القضاة ابن رزين من أئمتنا بأن من عزم عليها ففعلها ولم يتب منها أوخذ بعزمه لأنه إصرار. وتناقض فيه كلام السبكي. ورجح ولده ما يوافق كلام ابن رزين.(1/82)
تنبيه: لم يقع من يوسف عليه السلام همّ بمعصية على ما قاله ابن أبي حاتم ومن وافقه ومعنى الآية عندهم: {وهمّ بها لو أن رأى برهان ربه} (يوسف: 24) ؛ أي: لولا رؤية البرهان لهمّ لكنه لم يهمّ لأنه رآه. وعلى المشهور في الآية فالهمّ الواقع منه بمعنى حديث النفس المعفوّ عنه. واعلم أن ما يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب: الأولى: الهاجس وهو ما يلقى فيها. ثم جريانه فيها وهو الخاطر. ثم حديث النفس وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا. ثم الهمّ وهو قصد ترجيح الفعل. ثم العزم وهو قوة ذلك القصد والجزم به. فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعاً لأنه ليس من فعله وإنما هو شيء طرقه قهراً عليه، وما بعده من الخاطر وحديث النفس وإن قدر على دفعهما مرفوعان بالحديث الصحيح: أي: وهو قوله: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به» أي: في المعاصي القولية «أو تعمل به» أي: في المعاصي الفعلية، لأن حديثها إذا ارتفع فما قبله أولى، وهذه المراتب لا أجر فيها في الحسنات أيضاً لعدم القصد. وأما الهمّ فقد بين الحديث الصحيح أنه بالحسنة يكتب حسنة وبالسيئة لا يكتب سيئة، ثم ينظر فإن تركه كتب حسنة؛ وإن فعله كتبت سيئة واحدة. والأصح في معناه أن يكتب عليه الفعل وحده وهو معنى قوله واحدة، وإن الهمّ مرفوع، ومنه يعلم أن قوله في حديث النفس «ما لم تتكلم أو تعمل به» ليس له مفهوم حتى يقال إنها إذا تكلمت أو علمت يكتب حديث النفس، لأنه إذا كان الهم لا يكتب كما استفيد من قوله واحدة فحديث النفس أولى بذلك، كذا قال السبكي في الحلبيات وخالف نفسه في «شرح المنهاج» وتبعه ولده، وعبارته في منع الموانع هنا دقيقة، وقد نبهنا عليها في «جمع الجوامع» هي: أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهمّ ليس مطلقاً، بل بشرط عدم التكلم والعمل حتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين همه وعمله، ولا يكون همه مغفوراً ولا حديث نفسه إلا إذا لم يعقبه كما هو ظاهر الحديث. ثم حكى
كلام أبيه ورجح المؤاخذة. وخالفه غيره فرجح عدمها. قال وإلا يلزم أن يعاقب على المعصية عقوبتين، ونظر بأنه لا يلزم عليه ذلك لأن الهمّ حينئذٍ صار معصية أخرى. ثم قال في «الحلبيات» : وأما العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به، وخالف بعضهم وقال: إنه من الهم المرفوع، واستدل له بما لا يجدي. قال ابن رزين: والعزم على الكبيرة وإن كان سيئة فهو دون الكبيرة المعزوم عليها، والله أعلم (متفق عليه) .(1/83)
1313 - (وعن أبي عبد الرحمن عبد ابن عمربن الخطاب رضي الله عنهما) ولد قبل البعثة بسنة، وأسلم مع أبيه بمكة وهو صغير وقيل قبله، وهاجر معه وقيل قبله، ولم يشهد بدراً، وكان عمره عام أحد أربع عشرة سنة فاستصغره، ثم بلغ في عام الخندق خمس عشرة سنة فأجازه، ثم لم يتخلف بعد عن سرية من سرايا رسول الله، وقال: لشقيقته حفصة «إن أخاك رجل صالح لو أنه يقوم الليل» فلم يترك قيامه بعده، وكان من فقهاء الصحابة ومفتيهم وزهادهم، واعتزل الفتنة فلم يقاتل مع عليّ ولا مع معاوية، وأولع بالحج أيام الفتنة وبعدها، وكان من أعلم الناس بالمناسك قيل وحجّ ستين حجة واعتمر ألف عمرة وأفتى في الإسلام ستين سنة، وحمل على ألف فرس في سبيلالله، روي له عن النبيّ ألف حديث وستمائة وثلاثون حديثاً اتفقا منها على مائة وسبعين، وانفرد البخاري بثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين، وقد ذكرت زيادة في ترجمته في «شرح الأذكار» . مات بمكة سنة ثلاثة وسبعين شهيداً عن ستّ وثمانين سنة وسبب موته أنه سفه عليه الحجاج فقال له عبد الله: إنك سفيه مسلط، فعزّ ذلك عليه فأمر رجلاً فسمّ زج رمحه فزحمه في الطواف ووضع الزج على قدمه، فمرض أياماً وتوفي ودفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين، وقيل بفخ (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: انطلق ثلاثة نفر) في «النهاية» هو اسم جمع يقع على عدد مخصوص من الرجال: أي: ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه (ممن كان) إفراد الضمير باعتبار لفظ من (قبلكم) في الزمان (حتى آواهم) حتى فيه عاطفة والمعطوف عليه انطلق، ويحتمل كونها جارة غاية لمقدر: أي: فساروا إلى أن آواهم المبيت، وآوى بالمدّ في الأفصح لكونه معتدياً وبه جاء القرآن، قال تعالى: {وآويناهما إلى ربوة} (المؤمنون: 50) ويجوز قصره، ومصدره إيواء بوزن إكرام ومصدر القاصر أووى على وزن فعول قبل قلب الواو الثانية ياء وإدغامها في الياء بعدها وكسر الواو الأولى لمناسبة
الياء والأفصح في الفعل اللازم القصر وجاء في القرآن بذلك، قال تعالى: {إذ أوى الفتية} (الكهف: 10) (المبيت) البيتوتة فاعل (إلى غار) أي: كهف وجمعه غير أن بقلب الواو الساكنة ياء لكسر ما قبلها كما في «النهاية» (فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت) بتشديد الدال (عليهم الغار) أي بابه: أي صارت على باب الغار كالسد (فقالوا: إنه الضمير للشأن(1/84)
لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى) متوسلين إليه (بصالح أعمالكم) أي: بأعمالكم الصالحة، الواو من تدعوا ساكنة لأنها للجمع، والأصل بعد الإعلال تدعون حذفت النون للناصب وهو أن. قال المصنف: واستدل أصحابنا بهذا أي بقوله: «لا ينجيكم» الخ على أنه يستحبّ للإنسان الدعاء في حال كربه وفي حال الاستسقاء وغيره بصالح عمله، ويتوسل إلى الله تعالى بذلك، لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم، وذكره في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم (قال رجل منهم) قدم على الرجلين بعده إشارة إلى شرف برّ الوالدين والاهتمام بشأنهما، فإن التقديم في الذكر يكون للاهتمام (اللهمّ) أي: يا أ (كان لي أبوان) فيه تغليب الأب لشرفه على الأم، فهو نظير {وكانت من القانتين} (التحريم: 12) وكان يحتمل كونها ناقصة والظرف خبراً مقدماً، وكونها تامة والظرف في محل الحال (شيخان) بفتح الشين (كبيران) في السن (وكنت) معطوف على كان قبله (لا أغبق) بفتح الهمزة وسكون الغين المعجمة وضم الموحدة وكسرها.
قال المصنف: هذا الذي ذكر من ضبطه متفق عليه في كتب اللغة وكتب غريب الحديث والشروح، وقد يصفه بعض من لا أنس له فيقول بضم الهمزة وكسر الموحدة وهذا غلط. وقال الحافظ في «الفتح» ضبطوه بفتح الهمزة من الثلاثي إلا الأصيلي فضبطه من الرباعي وخطئوه اهـ: أي: كنت لا أقدم في شرب الماء (قبلهما أهلاً) أي: من زوج وولد (ولا مالاً) أي: من رقيق وخادم، والغبوق: شرب العشيّ؛ والصبوح: شرب الصباح.
قال القرطبي: والحاس هو الذي يؤتى به عند انفلاق الفجر (فنأى) بتقديم الهمزة بوزن سعى وفي رواية: فناء بوزن جاء: أي بعد والنأي البعد (بي طلب الشجر يوماً) لترعى فيه المواشي (فلم أرح عليهما) بضم الهمزة وكسر الراء: أي: لم أرجع (حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما) وفي نسخة من البخاري «فحملت» (فوجدتهما(1/85)
نائمين) يحتمل أن يكون وجد فيه من أفعال القلوب فنائمين مفعوله الثاني، وأن يكون بمعنى لقي فنائمين حال من المفعول (فكرهت) قال في «تحفة القاري» وفي نسخة: أي: من البخاري؛ وكرهت (أن أوقظهما وأن أغبق) بفتح أوله كما تقدم (قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي) جملة حالية من الفاعل، وكذا قوله (أنتظر استيقاظها) ثم يحتمل أن يكون من فاعل لبث، وأن يكون من الياء في الجملة قبله وعليه فهي حال متداخلة (حتى برق الفجر) بفتح الراء وكسرها؛ أي تلألأ وظهر ضوءه (والصبية يتضاغون) جملة حالية من فاعل لبث أيضاً، ويتضاغون بالضاد والغين المعجمتين: يصيحون من الجوع، والضغاء ممدود مضموم الأول: صوت الذلة والفاقة (عند قدمي) يحتمل أن يكون بفتح الميم وتشديد الياء مثنى وحذفت النون للإضافة، وأن يكون بكسر الميم وسكون التحتية، وهو لكونه مفرداً مضافاً يؤدي مؤدى الأول، وهو عند البخاري «عند رجلي» وضبط في أصل صحيح منه بتشديد الياء وهو يؤيد الأوّل من الاحتمالين فإن قلت: نفقة الفرع مقدمة على نفقة الأصل فلم تركهم جائعين؟ قلت، قال الكرماني: لعل في شريعتهم تقديم الأصل على الفرع أولى، أو كانوا يطلبون الزائد على سدّ الرمق، والصياح لم يكن من الجوع اهـ (فاستيقظا فشربا غبوقهما) بفتح الغين (اللهم إن كنت فعلت ذلك) المذكور من السهر واللبث عليه وحمل القدح إلى قيامهما (ابتغاء وجهك) أي: ذاتك لا لغرض آخر دنيوي كما يدل عليه السياق (ففرّج عنا) بتشديد الراء دعاء من التفريج: أي: افتح، ثم هو هكذا في أصلين من الرياض، والذي في «الصحيحين» «فافرج» وقضية
كلام القرطبي في «المفهم» أنه بهمزة وصل وضم الراء من الثلاثي وعبارته أفرج: افتح: والفرجة بضم الفاء من السعة، فإذا كان بمعنى الراحة قلت فيه فرجة بفتحها، وفعل كل واحد منهما فرج بالفتح والتخفيف يفرج بالضم لا غير.
لكن قال الحافظ في «الفتح» : إنه بهمزة الوصل وضم الراء وبهمزة القطع وكسر الراء من الفرج والإفراج اهـ (ما نحن فيه من) كرب سد (هذه الصخرة(1/86)
فانفرجت شيئاً) أي: يسيراً من الإنفراج، وهو مفعول مطلق قائم مقام قوله فرجة الوارد في رواية (لا يستطيعون الخروج) أي: (منه قال الآخر) بمد الهمزة وفتح الخاء المعجمة (اللهم إنه كان) بالتذكير للفصل بقوله: (لي) بينه وبين مرفوعه المؤنث الحقيقي، وفي نسخة «كانت» وهو (ابنة عم، كانت أحبّ الناس إلي) بتشديد الياء والياء المدغمة هي المنقلبة عن ألف إلي، والمدغم فيها ياء المتكلم (وفي رواية) أي: في «الصحيحين» «كنت أحبها كأشد» أي حباً مثل أشد (ما يحب الرجال النساء) فالكاف في كأشد صفة المصدر، وقال الكرماني هي زائدة، قال: أو المراد تشبيه محبته بأشد المحبات (فأردتها) وفي نسخة فراودتها (على نفسها) هو كناية عن طلب الجماع (فامتنعت مني) أي: من موافقتي على ما طلبته منها (حتى ألمت) أي: إلى أن نزلت (بها سنة من السنين) المقحطة: أي المجدبة التي لا تنبت فيها الأرض شيئاً (فجاءتني) عند نزول الشدة بها (فأعطيتها عشرين ومائة دينار) لا ينافي ما رواه البخاري في رواية أخرى ومسلم من أن جميع ما دفعه لها مائة دينار لأن التخصيص بالعدد لا ينفي الزائد، أو أن المائة كانت تطلبها والعشرين تبرع لها بها كرامة (على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت) أي خلّت، أو المفعول محذوف: أي: أوجدت التخلية (حتى إذا قدرت عليها) أي: بالقعود الآتي بيانه في الرواية الثانية، ويحتمل أن يكون المراد بالقدرة عليها التمكن من الوقاع بها من غير معارض منها أو من غيرها (وفي رواية) للبخاري
(فلما قعدت) وعند مسلم «فلما وقعت» (بين رجليها) أي: وهي(1/87)
جلسة الجماع (قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه) الفضّ بالفاء والضاد المعجمة: الكسر والفتح.
ويجوز في آخر الفعل المذكور الحركات الثلاث. والخاتم كناية عن الفرج وعذرة البكارة، وحقه: التزويج المشروع: أي: لا تزل بكارتي إلا بالتزويج (فانصرفت عنها) إجلالاً سبحانه وتعالى وخوفاً منه كما يعلم مما يأتي. وقوله: (وهي أحب الناس إليّ) جملة في محل الحال مسوقة لبيان تقديم خوف الله على هوى نفسه (وتركت الذهب الذي أعطيتها) معطوف على قوله: «فانصرفت عنها» أو على الجملة الحالية فيكون فيه زيادة في مجاهدة النفس على ترك الهوى بتخلية المال (اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك) أي: طلب مرضاة ذاتك لا لغرض آخر (فافرج) يجوز في ضبطه الوجهان السابقان في كلام الحافظ (عنا ما نحن فيه) أي: من الكرب (فانفرجت الصخرة) أي: فرجة زائدة على الفرجة الأولى (غير أنهم) مع ذلك (لا يستطيعون الخروج منها) لضيقها عن ذلك (وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء) بضم الهمزة وفتح الجيم جمع أجير نحو شرفاء وشريف، وسقط لفظ «إني» في هذا المقام في بعض نسخ البخاري، وجاء في رواية في «الصحيحين» «استأجرت أجراء على فرق من الطعام» (وأعطيتهم أجرهم) أي: أجرتهم (غير رجل) بالنصب، وقوله: (واحد) وصف رجل للتأكيد ودفعاً لتوهم أن المراد منه الجنس نحو: «تمرة خير من جرادة» (ترك الذي له) أي: في ذمة المستأجر (وذهب فثمرت أجره) أي: كثرته (حتى كثرت) بضم المثلثة (منه) أي: من أجره بالتجارة فيه (الأموال) أي: أنواعها من إبل وبقر وغنم ورقيق (فجاءني) أي: ذلك الرجل الأجير (بعد حين) أي: زمن(1/88)
(فقال: يا عبد الله أدّ) بحذف الياء ووقع في بعض نسخ البخاري إثباتها.
قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : والوجه حذفها اهـ أي: ادفع (إليّ) بتشديد الياء (أجرى، فقلت له) مخلصاً (كل ما ترى) من أنواع المال (من أجرك) وفي نسخة من البخاري «من أجلك» وهو خبر المبتدإ وقوله (من الإبل) بكسرتين أو بكسر فسكون وما بعده بيان لما قبله (والبقر) ويقال فيه باقور، سمي بذلك لأنه يبقر الأرض: أي: يشقها للحرث (والغنم والرقيق، فقال) أي: الأجير (يا عبد الله لا تستهزىء بي) فإن أجري في أصله لا يقارب ذلك وهو بسكون الهمزة (فقلت: لا أستهزىء بك، فأخذه كله فاستاقه) أي: ذلك إلى رحله ومنزله (فلم يترك) أي: يدع لي (منه شيئاً. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك) أي: طلب مرضاتك وحدك لا غيرك (فافرج) بالوجهين السابقين (عنا ما نحن فيه) أي: من الكرب (فانفرجت الصخرة) عن باب الغار (فخرجوا يمشون متفق عليه) أي: على أصل الحديث، وإلا فبيتهما اختلاف في بعض ألفاظه.
قال المنذري في «الترغيب» بعد إيراده بنحو من حديث ابن عمر، رواه الشيخان والنسائي ورواه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي هريرة باختصار ولفظه بنحوه، وفيه أن كلاً من الثلاثة قال: «فإن كنت تعلم أنما فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا» وفيه عند دعاء كل من الأولين من الثلاثة «فزال ثلث الحجر» وفي الثالث «فزال الحجر، فخرجوا يتماشون» . ثم في الحديث استحباب الدعاء حال الكرب والتوسل بصالح العمل كما تقدم فيه. وفيه فضيلة برّ الوالدين وفضل خدمتهما وإيثارهما على من سواهما من الولد والزوجة، وفيه فضل العفاف أو الانكفاف عن المحرّمات. لا سيما بعد القدرة عليها والهمّ بفعلها وترك ذلك خالصاً، وفيه جواز الإجارة بالطعام وفضل حسن العهد وأداء الأمانة والسماحة في المعاملة وإثبات كرامات(1/89)
الأولياء وهو مذهب أهل الحق. ولا حجة فيه على جواز بيع الفضولية، لأن ما ذكر في شرع من قبلنا، وفي كونه حجة خلاف، وعلى تقدير الحجة فلعله استأجره بأجرة في الذمة كما أشرنا إليه ولم يسلمها له بل عرضها عليه فلم يقبلها لرداءتها، فبقيت على ملك المستأجر لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح، ثم إن المستأجر تصرف فيه لبقائه على ملكه فصح تصرفه فيه، ثم تبرع بما اجتمع منه على الأجير بتراضيهما، قال الخطابي: إنما تطوع به صاحبه تقرباً به إلى الله تعالى، ولذا توسل به للخلاص، ولم يكن يلزمه في الحكم أن يعطيه أكثر من القدر الذي استأجره عليه، فلذا حمد فعله، والله أعلم.
2 - باب التوبة
2 - باب التوبة
بالرفع خبر مبتدإ محذوف: أي هذا باب، أو مبتدأ خبره محذوف: أي: باب التوبة هذا، ويجوز نصبه على تقدير: خذ باب التوبة. وهي لغة الرجوع يقال تاب وأناب وآب بمعنى رجع فالتائب إلى الله تعالى هو الراجع من شيء إلى شيء، راجع من الأوصاف المذمومة إلى الأوصاف المحمودة، راجع عما نهى الله عنه إلى أمره، وعن معصيته إلى طاعته، وعما يكرهه إلى ما يرضاه، رجوع من الأضداد إلى أسباب الوداد، ورجوع إليه تعالى بعد المفارقة، وإلى طاعته بعد المخالفة فمن رجع عن المخالفات خوفاً من عذاب الله فهو تائب، ومن رجع حياء فهو منيب، ومن رجع تعظيماً لجلال الله سبحانه فهو أوّاب. والتوبة أحسن ما قيل في معناها شرعاً: هو الرجوع من البعد عن الله إلى القرب إليه سبحانه وتعالى اهـ. ذكره الإيجي قال القرطبي: أسدّ العبارات وأجمعها في تعريفها قول بعض المحققين: هي اجتناب ذنب سبق منك مثله حقيقة أو تقديراً.
(قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب) ووجوبها مجمع عليه، لا فرق بين الصغائر والكبائر الظاهرة والباطنة كالحقد والحسد (فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي) عطف بيان على قوله بين العبد وبين الله سبحانه وتعالى،(1/90)
وقوله: (فلها ثلاثة شروط) جواب إن الشرطية (أحدها أن يقلع) بضم أوله: أي: يكف وينقطع (عن المعصية) التي كان متلبساً بها، إذ تستحيل التوبة مع مباشرة الذنب. وهذا قد يترك اشتراطه ويحمل على من يستحيل منه وقوع مثل تلك المعصية كمن زنى فجبّ، فهذا استحال منه الإقلاع المكتسب، وكذا العزم على ألا يفعله في المستقبل لأن فعله غير ممكن منه.
قال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في «أماليه» : لا يجب على الإنسان ترك الشيء إلا إذا كان ممكنه فعله، إذ لا تكليف بترك المستحيل (والثاني) من الشروط (أن يندم على فعلها) من حيث إنها معصية، فلو ندم عليه لا من هذه الحيثية بل لأجل تلك الوجوه الآتية في الكلام على التوبة النصوح لم يعتد بندمه ونازع الغزالي في «منهاج العابدين» له في اشتراط الندم في مفهوم التوبة، ثم قال: وقيل المراد اشتراط ما يؤدي إليه من تذكر الذنب وشؤمه وعذاب الله وعقابه ونحو ذلك، لأن هذا في قدرته ومن كسبه، وهو يترتب عليه الندم الذي هو أمر طبيعي لا قدرة له على اكتسابه، والله أعلم (والثالث أن يعزم ألا يعود إليها) أي: إلى مثلها مطلقاً (أبداً) فلا يعود التائب من الرياء إلى مثله وهو الرياء، وإلا فالمعصية التي كان تلبس بها انقضت وزالت فلا يمكن العود إليها. هذا وزاد بعضهم اشتراط عدم صحبة من ارتكب معه المعصية بعد التوبة، وأن تكون التوبة تعالى خاصة.
قال ابن عبد السلام: استدرك السيف الآمدي على الناس قيداً آخر في التوبة التامة، وهو أن يكون الندم تعالى، احترازاً مما إذا قتل شخص ولده، فإنه يندم على الماضي لأجل كونه ولده. وأجيب بأن هذا ليس استدراكاً إذ الإخلاص شرط في كل عبادة، والناس يعنون بقولهم للتوبة ثلاثة أركان ما عدا الإخلاص اهـ. وأدرج ابن حجر الهيتمي هذا القيد في الشرط الأول وهو الإقلاع فقال: ترك الذنب تعالى، فلو تركه لخوف أو رياء أو غير ذلك من الأغراض التي لغير الله لم يعتد بتركه (فإن فقد أحد هذه الثلاثة) أي: واحد منها (لم تصح توبته) أي: التامة أما الناقصة فتصح مع فقد الإقلاع والعزم على عدم العود كما تقدم تمثيله، قيل: وعلى ذلك يحمل حديث «الندم توبة» وقيل: بل الحديث نظير حديث «الحج عرفة» أي: ركنها الأعظم، والله أعلم (وإن كانت المعصية) التي تريد التوبة منها (تتعلق بحق آدمي فشرطها أربعة) خبر عن قوله شرطها، وجاز الإخبار عنه بذلك لكونه مفرداً مضافاً إلى معرفة.(1/91)
وهو على الصحيح حيث لا عهد للعموم الصالح للجمعية من حيث مدلول لفظه، إذ هو حينئذٍ المعنى الذي استغرقه لفظه الصالح له من غير حصر، وإن كان مدلوله في التركيب كلياً على الأصح: أي: محكوماً فيه على كل فرد مطابقة، لأنه في قوة قضايا بعدد أفراده، والصحيح فيها بناه على ظاهر كلام النحاة، وليست العبرة في مطابقة المبتدإ للخبر إلا باصطلاحهم أن مدلوله كل: أي: محكوم فيه على مجموع الأفراد من حيث هو مجموع (هذه الثلاثة) المذكورة (و) الرابع (أن يبرأ من حق صاحبها) وزاد بعضهم شرطاً خامساً وهو القول، قال: فيقول القاذف مع إبراء المقذوف: ما قلته باطل وأنا نادم عليه ولا أعود إليه، وكذا شهادة الزرو (فإن كانت) أي: المعصية المتعلقة بالآدمي (مالاً أو نحوه) من اختصاص محترم (رده إليه) أي: إلى صاحبه بعينه إن كان موجوداً أو بدله عند تلفه من قيمة أو مثل (وإن كان) أي: حق الآدمي (حد قذف ونحوه) أي: نحو
القذف كالقتل والقطع قصاصاً (مكنه) أي: صاحب الحق (منه) أي: من الحد أي استيفائه منه (أو طلب عفوه) بإسقاط حقه. وظاهر كلامه توقف صحة التوبة على ما ذكر من الردّ والتمكين أي إن أمكنه ذلك، وإلا نوى ذلك إذا قدر أو طلب العفو، لكن ذهب الإمام وتبعه العز ابن عبد السلام وأقرّه المصنف إلى صحة توبته وإن لم يسلم نفسه بالنسبة لحق الله تعالى ويبقى عليه حق الآدمي وإثم الامتناع، بل قال في «الشامل» وتبعه جمع: إنه حيث ندم صحت توبته وإن لم يردّ المظلمة، وهو ظاهر فيبرأ بالنسبة لحق الله تعالى إن وجد الإقلاع، وإلاّ كردّ المغصوب ما دام باقياً وقدر عليه فلا (وإن كان) أي: حق الآدمي، وفي نسخة «كانت» أي: المعصية (غيبة) بكسر الغين المعجمة وسكون التحتية، وسيأتي ما يتعلق بها في باب من الكتاب. قيل: ومثل الغيبة القذف، وقد يقال هو داخل في مفهوم الغيبة.
واعتبر بعضهم في التوبة من القذف كما مر أن يقول القاذف: ما قلته باطل وأنا نادم عليه ولا أعود إليه. وكذا شاهد الزور (استحله منها) أي: بأن يخبره بما قاله حتى يصح تحليله، لكن محل تعيين الإخبار ما لم يترتب عليه ضرر أعظم، وإلا كأن يخشى قتله بذلك مثلاً فلا. ومحل تعيين الإخبار والاستحلال إن بلغه الاغتياب وإلا كفى الاستغفار (ويجب) جمعاً عندنا معاشر أهل السنة (أن يتوب من جميع الذنوب) أي: ولو صغائر قال تعالى: {توبوا إلى الله توبة نصوحا} (التحريم: 8)(1/92)
{توبوا إلى الله جميعاً} (فإن) لم يتب من الجميع بل أصرّ على بعضها (وتاب من بعضها صحبت توبته عند أهل الحق) هم أهل السنة (من ذلك الذنب) الأنسب من ذلك البعض: أي: الذي تاب منه (وبقي عليه الباقي) أي: تبعته ووجوب التوبة منه قالوا للإجماع على أن من أسلم تائباً عن كفره مع إصراره على بعض معاصيه صحّ إسلامه وتوبته لكون حقيقتها ليس إلا الرجوع والندم والعزم، وقد وجدت (وقد تظاهرت) بالظاء المعجمة، من التظاهر وهو التعاون (دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة) إضافة دلائل لما بعدها من المتعاطفات إضافة بيانية (على وجوب التوبة) متعلق بتظاهرت.
(قال الله تعالى) أي: حال كونه متعالياً علوّ مكانة لا علوّ مكان متقدماً عما لا يليق به، ويصح جعلها مستأنفة، والجملة إنشائية معنى سيقت لما ذكر كما تقدم بيانهما أول الكتاب {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون} مما وقع منكم من النظر الممنوع وغيره. وفي الآية تغليب الذكور على الإناث {لعلكم تفلحون} تنجون من ذلك بقبول التوبة منه. ولعل في الأصل للرجاء، وفي كلامه تعالى للتحقيق. قال السيوطي في «التوشيح» : كل وعد في الكتاب أو السنة فواجب الوقوع لوجوب سلامة خبر من ذكر عن الخلف.
(وقال تعالى) : {استغفروا ربكم} من الشرك، ومثله من غيره، والقصر عليه لأنه الذنب المأمور بالخروج عنه (إنه كان غفاراً) المبالغة باعتبار الكمّ، فلا تحصى عدة المغفور لهم، وباعتبار الكيف فيغفر الصغائر والكبائر والفواحش {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} (الزمر: 53) وقوله: «إنه الخ» علة للأمر قبله.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا} اختلفت عبارات السلف(1/93)
في التوبة النصوح ومرجعها إلى شيء واحد. قال عمربن الخطاب وأبيّبن كعب رضي الله عنهما: التوبة النصوح أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع. قال الحسن البصري: هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على ألا يعود إليه، وقال الكلبي: هي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن. وقال ابن المسيب: «توبة نصوحا» تنصحون بها أنفسكم. جعلها ناصحة للتائب كضروب بمعنى ضارب، والأولون جعلوها بمعنى المفعول: أي: قد نصح فيها التائب ولم يشبها بغشّ. فهي إما بمعنى منصوح فيها كركوبة وحلوبة: أي: مركوبة ومحلوبة، أو بمعنى ناصحة: أي خالصة وصادقة قاله بعض المحققين. وقال الزرعي في «شرح المنازل» : النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء: أحدها تعميم جميع الذنوب واستغراقها بحيث لا تدع ذنباً إلا تناولته. والثاني إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوّم ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادراً بها. والثالث تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله تعالى وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه أو حرفته أو منصبه أو لحفظ حاله أو ماله أو استدعاء حمد الناس أو الهرب من ذمهم، أو نحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها تعالى، فالأول يتعلق بما يتوب منه، والثالث بما يتوب إليه، والأوسط يتعلق بذات التائب نفسه. ولا ريب أن
التوبة الجامعة لما ذكر تستلزم الغفران وتتضمنه وتمحق جميع الذنوب، وهي أكمل ما يكون من التوبة. انتهى ملخصاً.
141 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: وا) فيه ندب(1/94)
الحلف لتأكيد الأمر وتقويته ليبادروا إلى الإتيان بذلك (إني لأستغفر ا) أي: أطلب منه مغفرة تليق بمقامي المبرإ عن كل وصمة ذنب أو مخالفة ولو سهوا وقبل النبوة (وأتوب إليه) أي: أرجع إليه متنقلاً من شهود فرق إلى شهود جمع. ثم الجملة جواب القسم (في اليوم) وهو شرعاً: ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. قال السفاقسي: لم يرد ما فاؤه ياء وعينه واو إلا هذا اللفظ قيل: «ويوح» وهو من أسماء الشمس. وقيل: إنه بالموحدة (أكثر من سبعين مرة) إنما لم يحده بعدد مخصوص، لما علمت أن موجب الاستغفار والتوبة اللائقين به لا ينحصر ولأنهما يتكرارن بحسب الشهود والترقي. ثم في هذا تحريض للأمة على التوبة والاستغفار فإنه مع كونه معصوماً وكونه خير الخلائق يستغفر ويتوب سبعين مرة؛ واستغفاره ليس من الذنب بل من اعتقاده أن نفسه قاصرة في العبودية عما يليق بحضرة ذي الجلال والإكرام (رواه البخاري) وفي كتاب الأطراف بعد إخراجه لكن بلفظ «إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة» وأخرجه البخاري وأبو عبد الرحمن يعني النسائي وأبو عيسى يعني الترمذي، وسيأتي فيه كلام في باب الاستغفار أواخر الكتاب.
152 - (وعن الأغر) بفتح الهمزة والغين المعجمة وتشديد الراء (ابن يسار) بفتح التحتية والمهملة (المزني) ويقال الجهني، وفي الصحابة أيضاً الأغر الغفاري وجعلهما بعض الحفاظ إنساناً واحداً. وقال الحافظ نور الدين الداودي: الحق أنهم ثلاثة، وانفرد مسلم بالإخراج للأغر المزني، وكذا أخرج عنه أبو داود والترمذي (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يا أيها الناس توبوا إلى ا) أي: ارجعوا إليه بامتثال ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه، ومما أمركم به التوبة، فهي واجبة من كل ذنب ولو صغيرة إجماعاً كما تقدم (فإني أتوب) أي: أرجع رجوعاً يليق بي (إليه) أي: إلى شهوده أو إلى سؤاله أو(1/95)
الحضور والصغار بين يديه (في اليوم مائة مرة. رواه مسلم) في «أواخر صحيحه» . قال في «السلاح» : ليس للأغر في الكتب الستة إلا هذا الحديث.
163 - (وعن أبي حمزة) بالحاء المهملة المفتوحة: كنى بذلك ببقلة فيها حموزة: أي: حموضة كان يحبها (أنس) بفتح أوليه (ابن مالك) بن النضر (الأنصاري) الخزرجي النجاري المدني ثم البصري (خادم رسول الله) حضراً وسفراً منذ قدم المدينة إلى أن توفي (رضي الله عنه) قال: قدم النبي إلى المدينة وأنا ابن عشر سنين ومات وأنا ابن عشرين سنة، غزا مع النبيّ ثماني غزوات، وروى الكثير، وعدة ما روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في «مسند» بقيّبن مخلد ألفا حديث ومائتا حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفق الشيخان منها على مائة وثمانية وستين حديثاً، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بسبعين. روى عن عدة من الصحابة، وروي عنه كثير، وخرّج عنه أصحاب المسانيد. ومن كراماته معه ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عنه قال: «دخل النبي عند أم سليم: يعني أمه، فأتته بتمر وسمن فقال: أعيدوا سمنكم في سقائه وتمركم في وعائه فإني صائم، ثم قام إلى ناحية البيت يصلي غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لي خويصة، قال: وما هي؟ قالت خادمك أنس، ادع الله له، فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به: اللهم ارزقه مالاً وولداً وبارك به، قال: فإني لمن أكثر الأنصار مالاً» . وعنه قال: رزقت لصلبي سوى ولد ولدي خمسة وعشرين ومائة، وإن أرضي لتثمر في السنة مرّتين» . وكان ريحان بستانه يشم منه رائحة المسك، وقد ذكرت(1/96)
زيادة في مناقبه ومآثره في «شرح الأذكار» . توفي على نحو فرسخ ونصف من البصرة في موضع يعرف بقصر أنس، وهو آخر من مات بها من الصحابة. والصحيح أنه توفي سنة ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة. ولما مات قال مورّق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم، وذلك أن أهل الأهواء كانوا إذا خالفونا في الحديث نقول لهم تعالوا إلى من سمعه من النبيّ (قال: قال رسول الله:) بفتح اللام جواباً للقسم المقدر: أي: وا (أفرح) أي: أشد فرحاً والمراد منه
هنا استحالة قيام حقيقته، إنما هي اعتزاز وطرب يجده الإنسان من نفسه عند ظفره بعرض يستكمل به نقصانه أو يسد به خلته: أي حاجته، أو يدفع به عن نفسه ضرراً أو نقصاً بالباري سبحانهـ غايته من الرضا لأن السرور يقارنه الرضا بالمسرور بهـ أو هو تشبيه مركب عقلي من غير نظر إلى مفردات التركيب، بل تؤخذ الزبدة من المجموع فتكون غايته ونهايته، وفائدة إبرازه في صورة التشبيه تقرير المعنى في ذهن السامع؛ أو تمثيلي بأن يتوهم للمشبه الحالات التي للمشبه به وينتزع له منها ما يناسبه.
فالحاصل أن المراد بقوله: «أفرح» أرضى (بتوبة عبده من) فرح (أحدكم) حال كونه قد (سقط على بعيره) قال في «النهاية» أي: يعثر على موضعه ويقع عليه كما يسقط الطائر على وكره اهـ. والمراد صادفه من غير قصد (وقد أضله) أي: ضيعه جملة حالية من الضمير في سقط فهي حال متداخلة (في أرض فلاة) من إضافة الموصوف إلى الصفة: أي: في أرض واسعة (متفق عليه. وفي رواية لمسلم) أي: انفرد بلفظها عن البخاري (أشد فرحاً بتوبة عبده) أي: رجوعه إلى طاعته وامتثال أمره (حين يتوب) أي: يرجع منتهياً (إليه) أي: يخلص في توبته بأن ينوي بها وجه الله لا غير، وبه يعلم أن قوله: (حين يتوب إليه) قيد لا بد منه لا يغني عنه قوله بتوبة عبده (من) فرح (أحدكم إذا كان) وفي نسخة «كان» (على راحلته) أي: التي يركبها من ناقة أو غيرها (بأرض فلاة) قضية كلام فتح الإله أنه بالإضافة وضبط بالقلم في أصل صحيح من الرياض بتنوين أرض (فانفلتت) أي: الراحلة (منه و) الحال أنه (عليها طعامه وشرابه) فله احتياج إليها لوجهين ركوبها، وكون زاده عليها (فأيس منها) لمبالغته في لحوقها أو في التفتيش عنها فلم يقدر عليها (فأتى شجرة فاضطجع في ظلها)(1/97)
ليستريح مما حصل له من شدة التعب في مزيد الطلب حال (وقد أيس من راحلته) أي: من حصولها وحينئذٍ استسلم للموت لحضور أسبابه (فبينما) أصله بين، وما مزيدة لكفها عن الإضافة إلى المفرد (هو كذلك) أي: أيس، أو المشار إليه مفهوم من سياق الكلام: أي مستسلم (إذ هو بها قائمة عنده) وفيه على كون المشار إليه الأول الإشارة إلى أن الفرج مع الكرب واليسر مع العسر، قال تعالى: {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا} (الشرح: 5 - 6) وقال: «لن يغلب عسر يسرين» وقال: «اشتدي أزمة تنفرجي» وعلى الثاني الإشارة إلى أن الاستسلام والخروج عن الحول والقوّة سبب لحصول المطالب وبلوغ المآرب، وليس المراد ترك مزاولة الأسباب بل ترك الركون إليها والاعتماد عليها، وا ولي
التوفيق (فأخذ بخطامها) فرحاً بها فرحاً لا نهاية له. قال في «النهاية» : وخطام البعير: أي: بكسر المعجمة: أن يؤخذ حبل من ليف أو شعر أو كتان فيجعل في أحد طرفيه حلقة، ثم يشد فيه الطرف الآخر حتى يصير كالحلقة. ثم يقلد البعير به ثم يثنى على خطمه قال المصنف في «شرح مسلم» نقلاً عن الغريبين للهروي نقلاً عن الأزهري: فإذا ضفر من الأدم فهو جرير اهـ. قال في «النهاية» : أما الذي يجعل في الأنف دقيقاً فهو الزمام. وقال المؤلف نقلاً عن صاحب «المطالع» : الزمام للإبل ما يشدّ به رءوسها من حبل وسير ونحوه لتنقاد به اهـ. (ثم قال من) أجل (شدة الفرح) لدهشه بل ربما قال (اللهمّ أنت عبدي وأنا ربك) وقوله: (أخطأ من شدة الفرح) استئناف بياني، كأن قائلاً يقول ما سبب خطئه؟ فقال أخطأ: أي تجاوز الصواب وهو قوله: أنت ربي وأنا عبدك إلى ما قاله من الخطأ، من أجل شدة الفرح، لما تقرر من أنه ربما اشتد حتى منع صاحبه هذا من إدراك البدهيات فضلاً عن غيرها. وجاء في المعنى أحاديث أخر منها: ما أخرجه ابن عساكر في «أماليه» عن(1/98)
أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً «أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضالّ الواجد، ومن الظمآن الوارد» ومنها ما أخرجه العباسبن تركان الهمداني في كتاب التائبين مرسلاً «أفرح بتوبة التائب من الظمآن الوارد، ومن العقيم الوالد، ومن الضالّ الواجد، فمن تاب توبة نصوحا أنسى الله حافظيه وجوارحه وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه» أوردهما السيوطي في «الجامع الصغير» .
174 - (وعن أبي موسى عبد ابن قيس الأشعري رضي الله عنه) سبقت ترجمته في باب الإخلاص (عن النبي: إن الله تعالى يبسط يده بالليل) في «المفاتيح» : بسط اليد عبارة عن الطلب، لأن عادة الناس إذا طلب أحدهم شيئاً من أحد بسط كفه، أو هو عبارة عن الجود والتنزه عن المنع، أو هو عبارة عن رحمة الله وكثرة تجاوزه عن الذنوب. وقال القرطبي في «المفهم» : هذا الحديث أجري مجرى المثل الذي يفهم منه قبول التوبة واستدامة اللطف والرحمة، وهو تنزل عن مقتضى الغني القويّ القاهر إلى مقتضى اللطيف الرءوف الغافر. وقال الطيبي: لعله تمثيل، وشبه حال إرادته تعالى التوبة من عبده وأنها مما يحبه ويرضاه بحالة من ضاع له شيء نفيس لا غنى له عنه ثم وجده مع غيره، فإنه يمد يده إليه طالباً متضرّعاً، ثم استعمله في جانب المستعار منه وهو بسط اليد مبالغة في تناهي التشبيه وادعاء أن المشبه نوع من المشبه به، وللمؤلف فيه كلام يأتي بما فيه (ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) أي: إنه يوسع جوده وفضله على العصاة بالليل ليلهموا التوبة بالنهار وبالنهار ليلهموا التوبة بالليل، فسق ذلك الكرم والجود علة للتوبة ما دام بابها مفتوحاً. قال في «فتح الإله» لابن حجر الهيتمي عن المشكاة: وقول النووي يبسط يده كناية عن قبول التوبة. قال المازري: لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله، وإذا كرهه فقبض يده عنه، لا يناسب قوله في الحديث «ليتوب مسيء النهار إلخ» لأن المعنى عليه ينحلّ إلى أنه ينقل التوبة بالليل ليتوب مسيء النهار إلخ.
وظاهر أنه ليس مراداً إذ قبوله التوبة بالليل ليس علة لتوبة مسيء النهار وعكسه، لأنه لا معنى لقبول التوبة قبل وجودها، وإنما المعنى أنه تعالى يقبلها بالليل ليتوب مسيئه، وبالنهار ليتوب مسيئه اهـ.(1/99)
وقبول التوبة مستمرّ ما دام بابها مفتوحاً وإليه الإشارة بقوله: (حتى تطلع الشمس من مغربها) فحينئذٍ يغلق بابها، قال تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها} (الأنعام: 158) الآية، وكذا لا عبرة بالتوبة حال الغر غرة والمعاينة كما سيأتي قال تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر: 85) الآية (رواه مسلم) ورواه أحمد أيضاً كما في «الجامع الصغير» .
185 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في باب الإخلاص (قال: قال رسول الله: من تاب) أي: توبة صحيحة جامعة للشروط (قبل أن تطلع) بضم اللام (الشمس من مغربها) وتستمر طالعة إلى كبد السماء وحدّ الاستواء، ثم تعود لعادتها ومن يومئذٍ يغلق باب التوبة. وتردد بعض المحققين في أن هذا عام لمن وجد قبل الطلوع كذلك وبعده أو خاص بالأول لتقصيره بالتأخير دون الثاني (تاب الله عليه) أي: قبل توبته. قال المصنف: لا يجب على الله تعالى قبول التوبة إذا وجدت بشروطها عقلاً عند أهل السنة لكنه سبحانه وتعالى يقبلها كرماً منه وفضلاً، وقد عرفنا قبولها بالشرع والإجماع؛ ثم توبة الكافر من كفره مقطوع بقبولها وما سواها من أنواع التوبة هل قبولها مقطوع به أو مظنون؟ فيه خلاف لأهل السنة، اختار إمام الحرمين أنه مظنون وهو الأصح اهـ (رواه مسلم) .
196 - (وعن أبي عبد الرحمن عبد ابن عمربن الخطاب رضي الله عنهما) تقدمت ترجمته في باب الإخلاص أيضاً (عن النبي) في محل الحال أي حال كونه ناقلاً عن النبي (قال) : أي: النبيّ، ويحتمل على بعد عوده لابن عمر بيان للمنقول المرفوع(1/100)
(إن الله عز) جده (وجلّ) شأنه (يقبل توبة العبد) أي: المذنب المكلف ذكراً أو أنثى كرماً منه وفضلاً كما سبق (ما لم يغرغر) أي: تصل روحه حلقومه من الغرغرة: وهي جعل الشراب في الفم، ثم يديره إلى أصل حلقومه فلا يبلعه، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} (النساء: 18) وفسر ابن عباس حضوره بمعاينة ملك الموت وقال غيره: مراده تيقن الموت لا خصوص رؤية ملكه، لأنّ كثيراً من الناس لا يراه. وردّ بأن قوله تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} (السجدة: 11) يدل على أن كل أحد يراه، فمدعي العدم يلزمه الدليل عليه. قلت: وفي الاستدلال بهذا ما لا يخفى، إذ لا يلزم من توفيه لكل رؤية كل منهم له قيل: السرّ في عدم قبولها حين اليأس أن من شروطها عزمه على ألا يعود، وذلك إنما يتحقق مع تمكن التائب من الذنب وبقاء أوان الاختيار، وقال في «فتح الإله» بعد كلام قدمه: والحاصل أنه متى فرض الوصول لحالة لا تمكن الحياة بعدها عادة لا تصح منه حينئذٍ توبة ولا غيرها وهذا مراد الحديث بيغرغر ومتى لم يصل لذلك صحت منه التوبة وغيرها اهـ (رواه) الإمام الحافظ أبو عيسى محمدبن عيسى ابن سورة (الترمذي) بضم المثناة وفتحها وكسرها: نسبة إلى مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له جيحون، كذا في «لبّ اللباب» للنيسابوري، وسكت عن بيان حركة ميمه وبينها السمعاني فقال بكسر الفوقية والميم وبضمهما وبفتح الفوقية وكسر الميم اهـ.
قال ابن سيد الناس: المتداول بين أهل تلك المدينة فتح الفوقية وكسر الميم، والذي نعرفه قديماً كسرهما معاً، والذي يقوله المتقنون من أهل المعرفة بضمهما اهـ. وهو الإمام الحافظ أحد الأئمة الستة، قيل كفّ في آخر عمره، وقيل إنه ولد أكمه. قال ابن حبان في «الثقات» : كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر. ولد سنة (209) مائتين وتسع. قال المستغفري: وتوفي في شهر رجب سنة 297 سبع وتسعين ومائتين، وهذا هو الصحيح. وقول الخليلي إنه مات بعد الثمانين رده العراقي وغيره، بل قال بعضهم(1/101)
إنه باطل. ومن كمال حفظه ما ذكره المروزي عنه قال: كنت في طريق مكة وكنت كتبت جزءين من أحاديث شيخ فمر بنا ذلك الشيخ فذهبت إليه وأنا أظن أن الجزءين معي وحملت معي جزءين كنت أظنهما إياهما فسألته القراءة فأجابني، فأخذت الجزءين فإذا هما بياض فتحيرت، فجعل الشيخ يقرأ عليّ من حفظه، ثم نظر فرأى البياض في يدي فقال: أما تستحي، فقصصت عليه القصة. وقلت له أحفظه كله، فقال اقرأ، فقرأت جميع ما قرأه على الولاء ولم أخطىء في حرف منه؛ فقال: ما مرّ بي مثلك قط. ثم الحديث رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي كما في «الجامع الصغير» (وقال) يعني الترمذي (حديث حسن) إن قلت: قد قال المصنف في «خطبة الكتاب» وألتزم فيه ألاّ أذكر إلا حديثاً صحيحاً. قلت: يحتمل أن يراد من الصحيح في كلامه السابق المقبول كما تقدم فيشمل الحسن. وفي فتاوي الحافظ ابن حجر العسقلاني التي جمعها تلميذه السخاوي: (مسألة) هل يطلق الصحيح على الحسن كما صنع النووي حيث قال في رياض الصالحين وألتزم ألا أذكر إلا حديثاً صحيحاً مع ذكره فيه الحسن. (الجواب) الحسن يصح إطلاق الصحيح عليه بشرط أن يكون حسنه لذاته، بخلاف الذي حسنه لغيره فإنه لا يكون حسناً حتى ينجبر بمجيئه من طريق أخرى فصاعداً، فإن كان فرداً لم ينجبر ولا يصير حسناً، بخلاف الحسن لذاته فإنه إذا جاء من وجه آخر صح إطلاق الصحة عليه بالنظر إلى
المجموع وهو حسن في حد ذاته، ومن أصحاب الحديث من أطلق الصحيح على كل ما يصلح للاحتجاج به سواء أكان من الصحيح أم من الحسن، وهذا ليس بشائع في المتأخرين، وقد نبه عليه ابن الصلاح في علوم الحديث، فلعل النووي سلك ذلك إن كان في كتابه المذكور ما هو حسن لغيره اهـ. قيل: والأولى حمل قوله السابق: وألتزم الخ على الغالب.
207 - (وعن زرّ) بكسر الزاي وتشديد الراء (ابن حبيش) بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية آخره معجمة، وزرّ تابعي. قال في «الكشاف» : أدرك الجاهلية، سمع عمر وعلياً قال زرّ: قال لي أُبيّبن كعب: يازر ما تريد أن تدع آية إلا سألتني عنها. عاش مائة وعشرين سنة وتوفي سنة اثنتين وثمانين اهـ. (قال: أتيت صفوانبن عسال) بفتح المهملة وسكون الفاء وعسال بفتح المهملة الأولى وتشديد الثانية (رضي الله عنه) قال المصنف في «تهذيب الأسماء واللغات» : صفوان مرادي كوفي، غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة غزوة. ومن مناقبه أن عبد ابن مسعود روي عنه وروى عنه جماعة من التابعين. قال ابن(1/102)
الجوزي في «المستخرج المليح من التلقيح» : روي له عن النبي أحد وعشرون حديثاً (أسأله عن المسح على الخفين) استئناف بياني لسبب المجيء إليه أو حال من فاعل أتيت (فقال ما جاء بك) أي: ما حملك على المجيء (يا زرّ، فقلت ابتغاء العلم) مفعول له (فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم) حقيقة وإن لم نشاهده للقاعدة المشهورة: أن كل ما ورد وأمكن حمله على ظاهره حمل عليه ما لم يرد ما يصرفه عنه: أي تكفّ أجنحتها عن الطيران وتنزل لسماع العلم. وقيل: هو مجاز إما عن التواضع نظيرـ {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} - أو عن المعونة وتيسير السعي في طلب العلم. والملائكة يحتمل كونهم ملائكة الرحمة ونحوهم من الساعين في مصالح بني آدم، ويحتمل أنهم كلهم. قيل: والأوّل أنسب بالمعنى الحقيقي والثاني بالمعنى المجازي
(رضا) منها (بما يطلب) أي: من العلوم، ورضا مفعول له: أي لأجل الرضا الحاصل منها أو لإرضائها بما يطلب، و «ما» يحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف، وأن تكون مصدرية (فقلت إنه قدحك) بفتح المهملة وتشديد الكاف: أي أثر مّا، وفي نسخة حيك (في صدري المسح على الخفين) فاعل حك، وقوله: (بعد الغائط) وهو في الأصل المكان المنخسف من الأرض، سمي به الخارج للمجاورة حال أو صفة (والبول، وكنت) بفتح التاء للمخاطب حال، و (امرأ) بفتح الراء تبعاً لحركة آخره عند الكوفيين، ومنع البصريون ذلك: أي شخصاً (من أصحاب النبي، فجئت أسألك هل سمعته يذكر في ذلك شيئاً؟) والمسؤول عنه قدر مدته بدليل قوله في الجواب (قال: نعم) أي: سمعته يذكر فيه ثم بين المسموع بقوله: (
كان يأمرنا إذا كنا سفراً) بفتح المهملة وسكون الفاء جمع سافر، وقيل: اسم جمع له إذ لم ينطقوا به (أو) شك من الراوي (مسافرين) جمع مسافر، شك هل قال سفراً أو قال مسافرين (ألا ننزع) بكسر الزاي مفعول يأمرنا (خفافنا) بكسر المعجمة جمع خف بضمها (ثلاثة أيام ولياليهن) أي: فإن نزع الخف، والمراد به ظهور شيء من محل(1/103)
الفرض من القدم، يبل المدة، فإن كان محدثاً توضأ وضوءاً كاملاً، وإن كان بطهر المسح لزمه غسل قدميه فقط على الصحيح، وكالنزع فيما ذكر انقضاء المدة وبطلانها بنحو شك في انقضائها وغيره مما ذكروه في «الفروع» (إلا من جنابة) وكذا في معناه مما يوجب الغسل من حيض أو نفاس؛ فيلزمه نزعه، ولو غسل القدم في باطن الخف نزع الخف ولبسه على طهارة كاملة ثم يمسح على قدميه؛ فوجوب النزع لصحة المسح لا لارتفاع الحدث وصحة الصلاة؛ وفارق الحدث الأكبر الأصغر بأنه لا يتكرر تكرره فلا يشق النزع فيه؛ وكذا يلزمه النزع فيما إذا تنجست رجله في الخف وتعذر تطهيرها فيه وبه تبطل المدة؛ و (لكن) مفادها مخالفة ما قبلها نفياً أو إثباتاً مخففاً أو مثقلاً؛ وحينئذٍ فالتقدير أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا سفراً أن ننزع خفافنا من الجنابة في المدة المذكورة ولكن لا ننزعها فيها (من غائط أو بول أو نوم) وزعم بعضهم رد هذه الرواية لأن ظاهرها ينافي العطف بلكن ليس في محله؛ غاية ما فيه أنها تحتاج إلى تأويل حتى توافق تلك القاعدة (فقلت: هل سمعته) أي: النبي (يذكر في الهوى) مقصوراً أي الحب؛ يقال هوى كعلم يهوى هوى (شيئاً؟ قال: نعم كنا مع النبي في سفر، فبينا) قيل: ألفه مزيدة لكفه عن الإضافة إلى المفرد كما تقدم في بينما بل لكفها عن الإضافة للجملة؛ إلا أن رفع ما بعد بينما واجب؛ وبعد بينا جائز؛ بل الأحسن جر المصدر بعدها نظراً إلى أن ألفها ملحقة لإشباع الفتحة. وشذ من قال ألفها للتأنيث وجملة (نحن عنده) في محل الجر على الإضافة على القول الأول
(إذ) وذكر إذ هنا مع بينا يردّ على الحريري زعمه أن بينا لا تتلقى بها ولا بإذا بخلاف بينما. ويرد عليه الحديث الصحيح «بينا أنا نائم إذ جيء بمفاتيح الأرض فوضعت في يدي» (ناداه أعرابي) بفتح الهمزة اسم جمع؛ وهم سكان البوادي؛ والعرب يعم ذلك وسكان القرى، ونسب إلى الجمع؛ قيل: لأنه أجرى مجرى القبيلة كأنمار ولأنه لو نسب إلى الواحد أعني لفظ عرب فقيل عربيّ اشتبه المعنى؛ إذ العربيّ كل من كان من ولد إسماعيل سواء كان حاضراً أو بادياً، والأعرابيّ يختص بالأخير، وفي هذا المقام بسط أودعته في باب المساجد من «شرح الأذكار» ، وسيأتي في باب الحلم إن شاء الله تعالى (بصوت) متعلق بنادى (له جهورى) بفتح الجيم وإسكان الهاء؛ والياء فيه للنسبة، منسوب إلى جهور بصوته كما(1/104)
في «النهاية» ، والجهورى الشديد العالي (يا محمد) لعله قبل تحريم ندائه باسمه، أو لم يكن يعلم ذلك لكونه ببادية بعيدة (فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحواً) مفعول مطلق: أي إجابة نحواً (من صوته) أي: في الرفع (هاؤم) قال أبو حيان في «النهر» : قال الكسائي وابن السكيت: يقال هاء للرجل وللاثنين رجلين أو امرأتين هاؤما وللرجال هاؤم وللمرأة هاء بهمزة مكسورة بغير ياء وللنساء هاؤنّ، ومعنى هاؤم: خذوا، وقد ذكرنا في «شرح التسهيل» فيها لغات. وهاؤم إن كان مدلولها تعالوا فهي متعدية للمفعول بواسطة إلى اهـ (فقلت له) أي: للأعرابيّ (ويحك) بفتح الواو والمهملة وإسكان المثناة بينهما: كلمة ترحم وتوجع تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقد تستعمل في «المدح» كما في «النهاية» (اغضض) أي: أنقص (من صوتك، فإنك عند النبيّ. وقد نهيت عن هذا) أي: عن رفع الصوت وعلوّه بين يديه (فقال) لما قام عنده من الحال المقتضي للجهر بالصوت (وا لا أغضض) أي: من صوتي، حذف لدلالة الكلام السابق عليه (فقال الأعرابيّ) سائلاً النبي (المرء) لغة في امرىء: أي الشخص، والمراد منه ما يعم المثنى والجمع لتساوي
الكل في الحكم الآتي أو ما يقابلهما، وعلم حكمهما من تساويهما في مثل هذه الأحكام (يحبّ القوم) أي: الأخيار أحياءً وأمواتاً (ولما يلحق بهم) أي: في الأعمال وطرق الكمال: أي لم يعمل بعملهم، إذ لو عمله لكان منهم ومثلهم ولما لنفي الماضي المستمر فتدل على نفيه في الماضي والحال، بخلاف لم فإنها تدل على الماضي فقط (قال النبي) جواباً عن ذلك (المرء مع من أحبّ) فيه فضل حبّ الله ورسوله والأخيار أحياء وأمواتاً، ومن أفضل محبة الله ورسوله امتثال أمرهما واجتناب نهيهما والتزام الآدب الشرعية، ثم لا يلزم من كونه مع من أحبّ أن تكون منزلته وجزاؤه مثلهم من كل وجه، وقد جاء في «صحيح مسلم» حديث لأنس فيه مثل هذه البشرى، وفيه قال أنس: ما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد مما فرحنا بقول النبيّ (المرء مع من أحبّ) .
قال القرطبي: وإنما كان فرحهم بهذا القول عنه(1/105)
أشد من فرحهم بسائر أعمال البرّ لأنهم لم يسمعوا أن في أعمال البرّ ما يحصل به ذلك المعنى من القرب من النبيّ والكون معه إلا حبّ الله ورسوله، فأعظم بأمر يلحق المقصر بالمشمر والمتأخر بالمتقدم. ولما فهم أنس أن هذا اللفظ محمول على عمومه علق به رجاءه وحقق فيه ظنه فقال: أنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بعملهم، والوجه الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين المحبين كل ذي نفس، فلذا تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين اهـ. (فما زال يحدثنا) إن كان من كلام صفوان كما هو الظاهر فالمحدّث لهم النبيّ، وإن كان من كلام زرّ فهو صفوان، ثم رأيت في «الترغيب» بعد أن روى قوله: «إن من قبل المغرب لباباً» مرفوعاً من طريق الترمذي، وفي رواية للترمذي وصححها أيضاً، قال: يعني زرّبن حبيش: فما برح: يعني: صفوان يحدثني حتى حدثني بأن الله عز وجلّ جعل بالمغرب باباً عرضه مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله. وكذلك قوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها} (الأنعام: 158) الآية. وليس في هذه الروايات ولا الأولى تصريح برفعه كما صرّح به البيهقي وإسناده صحيح أيضاً اهـ. (حتى ذكر) في حديثه (باباً من المغرب مسيرة عرضه) أي بين طرفيه (أو يسير الراكب في عرضه) شكّ من الراوي (أربعين أو سبعين عاماً) لكمال سعته (قال سفيان) بتثليث السين وسكون الفاء، وهو ابن عيينة كما صرح به المزّي في أطرافه (أحد الرواة) لهذا الحديث: أي أحد رجال إسناده (قبل الشأم) بالهمز والقصر ويجوز ترك الهمز، والمد مع فتح الشين ضعيف: أي وهي غربي المدينة، وحدّها طولاً ما بين العريش والفرات وعرضاً من جبل طي من نحو القبلة إلى نحو أرض الروم وما سامت ذلك من البلاد.
وقال ابن حبان: أوله نابلس وآخره العريش اهـ (خلقه الله تعالى) أي أوجده (يوم خلق) أي أوجد (السموات والأرض مفتوحاً) حال، ويحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً لخلق بتضمينه معنى جعل (للتوبة) أي لقبولها سواء كانت من الكفر أو من الذنب (لا يغلق) ذلك الباب المترتب عليه عدم قبولها (حتى تطلع الشمس منه) أي: من المغرب، ويحتمل من ذلك(1/106)
الباب.
قال في «المفاتيح» : وإنما لم تقبل بعد طلوع الشمس من مغربها لأنه من علامات القيامة، فحينئذٍ كأنها ظهرت الساعة وظهور الساعة: انقضاء التكليف اهـ. (رواه الترمذي) بكسر الفوقية والميم، وقيل: بضمهما وقيل بفتح ثم كسر ميمها مع إعجام الذال: نسبة لمدينة قديمة على طرف جيحون نهر بلخ كما تقدم قريباً في ترجمته. ثم إنه روى الحديث بجملته في الدعوات وفي الزهد من قوله: «جاء أعرابيّ» إلى قوله: «المرء مع من أحبّ» وفي الطهارة: قصة المسح (وغيره) فروى النسائي في التفسير الحديث وليس فيه قصة المسح، وفي الطهارة بقصة المسح، ورواه ابن ماجه في الطهارة بقصة المسح وفي الفتن.
وروى مسلم وغيره قوله: «المرء مع من أحبّ» لكن في قصة أخرى.
وروى البيهقي حديث باب التوبة لكن باللفظ الذي نقلته عن «الترغيب» .
قال المنذري: وإسناده صحيح (وقال) يعني: الترمذي (حديث حسن صحيح) قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبته: إذا جمع الصحيح والحسن في وصف حديث واحد فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل، هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها، وهذا حيث يحصل منه التفرد بتلك الرواية. قال: ومحصّل الجواب أن تردد أئمة الحديث في ناقليه اقتضى للمجتهد ألا يصفه بأحد الوصفين، بل يقول فيه حسن: أي باعتبار وصف ناقله عند قوم، صحيح باعتبار وصفه عند قوم آخرين. وغاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد لأن حقه أن يقول حسن أو صحيح، كما حذف منه حرف العطف في الذي بعده، وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح، دون ما قيل فيه صحيح، لأن الحزم أقوى من التردد، وهذا حيث حصل التفرد، وإلا، أي: وإن لم يحصل التفرد فإطلاق الوصفين معاً على الحديث يكون باعتبار إسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن. وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح فوق ما قيل فيه صحيح فقط إذا كان فرداً، لأن كثرة الطرق تقوى اهـ.
وقال الحافظ السيوطي: أو يكون المراد أنه حسن لذاته صحيح لغيره، أو أن المراد حسن باعتبار إسناده صحيح، أي أنه أصح شيء ورد في الباب، فإنه يقال أصح ما ورد كذا وإن كان حسناً أو ضعيفاً، والمراد أرجحه وأقله ضعفاً اهـ.(1/107)
8 - (وعن أبي سعيد) كنية (سعدبن مالكبن سنان) بكسر السين المهملة وبنونين بينهما ألف (الخدريّ) بضم المعجمة وسكون المهملة نسبة إلى خدرة بهذا الضبط وهو الأبجر بالموحدة فالجيم، بطن من الخزرج، وقيل خدرة أو الأبجر. ثم سعد وأبوه صحابيان، استشهد أبوه في وقعة أحد، وحينئذٍ فلا يظهر إفراد الضمير في قول الشيخ (رضي الله عنه) : وكان حقه رضي الله عنهما كما هو المطلوب عند ذكر صحابي ابن صحابي، روى لأبي سعيد عن النبيّ ألف ومائة وسبعون حديثاً اتفقا منها على ستة وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين عن حنظلةبن أبي سفيان الجمحي عن أشياخه قالوا: لم يكن أحد من أحداث الصحابة أفقه من أبي سعيد، وفي رواية: أعلم، ومناقبه كثيرة. توفي بالمدينة يوم الجمعة سنة أربع وستين، وقيل وسبعين، ودفن بالبقيع (أنّ) بفتح الهمزة ويجوز كسرها بتقدير القول (نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال:) مرغباً في التوبة والإنابة إلى الله تعالى ومومئاً إلى صغر الذنب وإن عظم في جنب عفوه سبحانه (كان فيمن كان قبلكم) أي: من الأمم (رجل) اسم كان والظرف قبله حال منه، وقيل: الظرف صلة لمن الموصولة، وقوله: (قتل) خبر كان (تسعة وتسعين نفساً) أي: على وجه العدوان فهبت عليه نفحات الوصول، وآن إبان ساعة الإنابة والقبول (فسأل عن أعلم أهل الأرض) أي: في ذلك الوقت (فدل) بالبناء للمجهول (على راهب) أي: عابد من عباد بني إسرائيل (فأتاه فقال: إنه) عدل إليه عن حكاية لفظه وهو «إني» بضمير المتكلم، تنبيهاً على الأدب في حكاية مثل ذلك مما يكره النطق به فيؤتى فيه بضمير الغيبة كما قال الحاكي للفظ أبي طالب عند موته «فكان آخر ما كلمهم به أنه على ملة عبد المطلب» نبه عليه المؤلف في ذلك المقام من «شرح مسلم» (قتل تسعة وتسعين نفساً) عدواناً (فهل له من توبة؟) من مزيدة للتأكيد (فقال لا فـ) لما أوقعه في ميدان القنوط (قتله فكمل به مائة) من القتلى.
قال القرطبي: وهذا من الراهب دليل على قلة علمه وعدم فطنته حيث لم يصب وجه الفتيا ولا سلك طريق التحرّز في نفسه مما صار له القتل عادة معتادة، فقد صار هذا مثل الأسد الذي لا يبالي بمن يفترسه، فكان حقه ألا يشافهه بمنع التوبة مداراة لدفع القتل عن نفسه كما يدارى الأسد الضاري(1/108)
لكنه أعان على نفسه، فإنه لما آيسه من التوبة قتله بحكم سبعيته ويأسه من رحمة الله وتوبته عليه (ثم) لما لم يزل لطف الله تعالى مصاحباً لذلك القاتل بقي في نفسه الرغبة في السؤال عن حاله فما زال يحثه على هذا الأمر حتى (سأل) ثانياً (عن أعلم أهل الأرض) أي: في ذلك الزمن (فدل على رجل) أتى به توطئة لقوله: (عالم فقال) عطف على مقدر أي فأتاه فقال وحذف لذكره في نطيره (إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟) أي: مقبولة (فقال) ناطقاً بالحق والصواب، مجيباً عن السؤال، منكراً على من ينفيها عنه (نعم، ومن) استفهام إنكار أي شيء (يحول) بالحاء المهملة، أي يكون حائلاً وفاصلاً (بينه) أي التائب من الذنب (وبين التوبة) وعبر بمن تغليباً أي لا مانع بينك وبينها من شخص ولا غيره، وأتى بضمير الغائب مراعاة لحسن الأدب في الخطاب، وهو ألا يضاف ما فيه لوم ولو على سبيل الرمز للمخاطب. وقبول توبة القاتل عمداً مذهب أهل العلم وإجماعهم، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس، وما نقل عن بعض السلف من خلاف ذلك فمراد قائله الزجر والتورية لا اعتقاد بطلان توبته، وهذا الحديث ظاهر فيما قاله أهل العلم، وهو إن كان شرعاً لمن قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف فليس هذا من موضع الخلاف، إنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره، فإن ورد كان شرعاً لنا بلا خلاف، وهذا ورد شرعنا به، قال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون} - إلى قولهـ {إلا من تاب} (68 - 70) الآية.
وجاءت أحاديث كثيرة بمعنى ذلك. وأما قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} (النساء: 93) فالصواب في معناه أن جزاءه جهنم وقد يجازى بها، وقد يجازى بغيرها، وقد لا يجازى بل يعفى عنه. كذا في «شرح مسلم» للمصنف. ثم إن العالم دلّ السائل على ما فيه نفعه بقوله: (انطلق إلى أرض كذا وكذا) اسمها بصرى، واسم القرية التي كان بها كفرة رواه الطبراني. ليفارق دار الفساد وأصحابه الذين كانوا يعينونه عليه ما داموا كذلك.
قال القرطبي: وبهذا يعرف فضل العلم على العبادة، لأن الأول(1/109)
غلبت عليه الرهبانية واغترّ بوصف الناس له بالعلم فأفتى بغير علم فهلك في نفسه وأهلك غيره.
والثاني كان مشتغلاً بالعلم فوفق للحق فأحياه الله وأحيا به اهـ. وقوله: «كذا وكذا» كأن الراوي شك في اللفظ فكنى عنه بذلك، وهي من ألفاظ الكنايات مثل كيت وكيت، ومعناه مثل ذا، قاله في «النهاية» . وقوله: (فإن بها أناساً) بضم الهمزة (يعبدون الله تعالى فاعبد الله تعالى معهم) أتى بالمظهر والمقام للضمير استلذاذاً فذكر المحبوب محبوب (ولا ترجع إلى أرضك) أي: التي كنت بها زمن العصيان (فإنها أرض سوء) بفتح المهملة، وفيه تنبيه على وجه استبدال تلك الأرض بأرضه، وفيه الانقطاع عن إخوان السوء ومقاطعتهم ما داموا على حالهم واستبدال صحبة أهل الخير والعلم والصلاح والعبادة والورع ومن يقتدى به وينتفع بصحبته لتتأكد بذلك توبته وتقوى أوبته، فإن كل قرين يقتدي بقرينه (فانطلق) تائباً من زلته مفارقاً لمحلته قاصداً لما أمر بالرحلة إليه واستمرّ كذلك (حتى إذا نصف الطريق) بتخفيف الصاد المهملة المفتوحة: أي بلغ نصفها (أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى) قال القرطبي: هذا نصّ صريح في أن الله تعالى أطلع ملائكة الرحمة على ما في قلبه من صحة قصده إلى التوبة وحرصه عليها. وأن ذلك خفي على ملائكة العذاب حتى أخبر عنها بقوله: (وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط) بضم الطاء ظرف لاستغراق الزمن الماضي، إذ لو اطلعت على ما فيه قلبه من التوبة لما صح لها أن تقول هذا ولا أن تنازع ملائكة الرحمة في قولها إنه جاء تائباً الخ، بل كانت تشهد بما في علمها كما شهد الأولون بما تحققوه، ولما كانت شهادة ملائكة الرحمة على إثبات وملائكة العذاب على عدم، وشهادة الإثبات مقدمة فلا جرم لما حصل التنازع بين الصنفين وخرج كلاهما عن الشهادة إلى الدعاوى بعث الله إليهما ملكاً حاكماً يفصل بينهما كما قال: (فأتاهم ملك في صورة آدمي) صوّر بصورته إخفاء عن الملائكة وتنويهاً ببني آدم،
وأن منهم من يصلح لأن يفصل بين الملائكة إذا تنازعوا (فجعلوه بينهم) حجة لمن قال بلزوم حكم المحكم للخصمين المتراضيين به (فقال: قيسوا ما بين الأرضين) أي: التي خرج منها والتي ذهب(1/110)
إليها (فإلى أيتهما كان أدنى فهو له) أي لذلك الأدنى إليه منهما أي الجنة والعذاب (فقاسوا) أي ملائكة الصنفين (فوجدوه) أي التائب (أدنى) أي: أقرب (إلى) جهة (الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة) لكونه أقرب إلى أرض الصلاح.
قال القرطبي: وفيه دليل على أن الحاكم إذا تعارضت الأقوال عنده وتعذرت الشهادة مكنة الاستدلال بالقرائن على ترجيح بعض الدعاوى نفد الحكم بذلك كما فعله سليمان عليه السلام حيث قال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، وقال المصنف: قياس الملائكة ما بين القريتين، وحكم الملك الذي جعلوه بينهم بذلك محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه الأمر عليهم، واختلافهم فيه أن يحكموا رجلاً ممن يمر بهم، فمرّ الملك في صورة رجل فحكم بذلك اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري في ذكر بني إسرائيل، ومسلم في التوبة، ورواه ابن ماجه في «سننه» .
قال المزي: قلت واللفظ المذكور لمسلم (وفي رواية في الصحيح) عند مسلم من حديث أبي سعيد أيضاً (فكان إلى القرية الصالحة) إسناد مجازي من إسناد الشيء إلى مكانه، كنهر جار، أي: الصالح من فيها، وفيه إيماء أن شرف المكان بشرف المكين، وما أحسن ما قيل:
بسكانها تغلو الديار وترخص
وقول الآخر:
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديار
{أقرب بشبر} أي: بعد الأمر للقرية الصالحة بأن تقرب فلا تخالف الرواية الآتية (فجعل من أهلها) أي: الجنة فأخذه أهلها ففيه مجاز إطلاق اللازم وإرادة الملزوم (وفي رواية) أخرى (في الصحيح) هي عندهما واللفظ للبخاري (فأوحى الله تعالى) أي: أشار (إلى هذه) إلى أرض الفساد (أن تباعدي) عن ذلك الإنسان بأن ينضام بعضها لبعض (و) أوحى أي أشار (إلى هذه) أي أرض الصلاح (أن تقربي) بانبساط أجزائها وامتدادها (وقال) أي الحكم (قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه) أي: أرض(1/111)
الصلاح (أقرب بشبر) بسبب امتدادها وانبساطها والزواء تلك وانقباضها (فغفر له) فأخذته ملائكة الرحمة، ففيه مجاز كما تقدم في نظيره.
قال القرطبي: يفهم منه أن الرجل كان أقرب إلى الأرض التي خرج منها، فلو تركت الأرض على حالها لقبضته ملائكة العذاب، لكن غمرته الألطاف الإلهية وسبقت له العناية الأزلية فقرّبت البعيد وألانت الحديد. ويستفاد منه أن الذنوب وإن عظمت فعفو الله أعظم منها، وأن من ألهمه الله صدق التوبة فقد سلك به طريق اللطف والقربة اهـ. (وفي رواية) أي في الصحيح أيضاً رواه مسلم (فناء) بتقديم الألف على الهمزة وفي نسخة من مسلم «نأى» بتقديم الهمزة عليها: أي: نهض مع ثقل ما أصابه من الموت (بصدره نحوها) وفيه دليل لصحبة توبته وصدق رغبته.
219 - (وعن عبد ابن كعببن مالك) بن كعب الأنصاري السلمي، أي: بفتحتين قال في «أسد الغابة» : ذكره أبو أحمد العسكري فيمن لحق بالنبي اهـ. (وكان قائد كعب رضي الله عنه من) بين (بنيه) وهم: عبد اهذا، وعبد الرحمن، وعبيد الله (حين) أي: زمن (عمي) أي: صار أعمى (قال) بيان للمرويّ عن عبد الله (سمعت كعببن مالك رضي الله عنه) شهد العقبة والمشاهد كلها إلا بدراً وتبوك، وجرح يوم أُحُد، أحد عشر جرحاً في سبيلالله، وهو أحد شعراء النبيّ المجاهدين بألسنتهم وأيديهم، وهم ثلاثة: حسان، وكعب، وابن رواحة. وكان حسان يقع في «الأنساب» ، وابن رواحة يعيرهم بالكفر، وكعب يخوفهم وقائع السيف. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانون حديثاً، اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث مسلم بحديثين، توفي بالمدينة سنة خمسين رضي الله عنه (يحدث حديثه) مفعول مطلق أو منصوب بنزع الحافض (حين تخلف عن) الخروج مع (النبيّ) وفي نسخة: «عن رسول الله» (في غزوة تبوك) بفتح الفوقية وضم الموحدة،(1/112)
يصرف إن أريد به المكان ولا يصرف أن أريد به البقعة، وكانت غزوة تبوك في التاسعة من الهجرة.
قال الفناوى في «شرح الموطأ» من رواية محمدبن الحسن: قيل سميت بتبوك لأنه رأى قوماً من أصحابه يبوكون عين تبوك. أي: يدخلون فيها القدح ويحركونه ليخرج الماء، فقال: ما زلتم تبوكونها تبوكاً اهـ. (قال كعب) : بيان لحديثه (لم أتخلف عن رسول الله) في غزوة غزاها قط وعدة الغزوات التي خرج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه سبع وعشرون، قاتل في تسعة منها بنفسه: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة على القول بأنها فتحت عنوة والصحيح عند أئمتنا خلافه، وحنين، والطائف. وقيل إنه قاتل بني النضير. وكانت سراياه التي بعث فيها سبعاً وأربعين سرية (إلا في غزوة تبوك) ثم استثنى من قوله: «لم أتخلف» الخ قوله: (غير أني قد تخلفت) أي: عنه (في غزوة بدر) قرية مشهورة تنسب إلى بدربن مخلدبن النضربن كنانة كان نزلها، وقيل: بدربن الحارث حافر بئرها، وقيل: بدر اسم البئر التي فيها سميت به لاستدراتها أو لصفائها ورؤية البدر فيها.
وحكى الواقدي عن غير واحد من شيوخ بني غفار إنكار هذا كله، قال: وإنما هي مالنا ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له: بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد. والسبب في ترك استثناء بدر مع تبوك بلفظ واحد كونه تخلف في تبوك مختاراً لذلك مع تقدم الطلب وقوع العتاب على من تخلف بخلاف بدر في ذلك كله فلذا غاير بين التخلفين، قاله الحافظ في «الفتح» (ولم يعاتب أحد) من المسلمين هو بفتح الفوقية مبني للمجهول، وفي رواية: «لم يعاتب أحداً» (تخلف عنه) فيها (إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش) علة لعدم العتاب.
والعير: الإبل التي عليها أحمالها. وذلك أن أبا سفيان كان بالشام في ثلاثين راكباً، منهم: عمروبن العاص، فأقبلوا في قافلة عظيمة فيها أموال قريش، حتى إذا كان قريباً من بدر بلغ النبي ذلك، فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة الغدوّ، فلما بلغ النبيّ الروحاء أتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عن عيرهم، فكان سبب الحرب المشار إليها بقوله: (حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم) أي: من كفار قريش (على غير ميعاد) أي: موعد (ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم(1/113)
ـ ليلة العقبة) أي: الليلة التي بايع النبيّ الأنصار فيها على الإسلام وأن يؤووه وينصروه، وهي العقبة التي في طرف منى التي تضاف إليها جمرة العقبة، وكانت بيعة العقبة مرتين في السنة الأولى كانوا اثني عشر، وفي السنة الثانية سبعين كلهم من الأنصار بمسجد يقرب العقبة المذكورة، وإذا أطلق ذكر العقبة فالمراد الأخيرة (حين تواثقنا) بالمثلثة بعد الألف بدل من ليلة وتواثقنا (على الإسلام) أي: تبايعنا عليه وتعاهدنا وأخذ بعضنا على بعض الميثاق، وفي بعض النسخ «توافقنا» بالفاء بدل المثلثة (وما أحبّ أن لي بها) أي بدل الليلة أو العقبة (مشهد بدر) بالنصب اسم أن، أي: ما أحبّ أني شهدت بدراً ولم أشهدها قال ذلك لما ظهر له بحسب نظره أن ليلة العقبة كانت أفضل لأنها وقعت قبل الهجرة، والمسلمون قليل والإسلام ضعيف (وإن كانت بدر أذكر) بالنصب: أي أشهر ذكراً (في الناس منها) بالفضيلة، وقد قدموا في عدّ طباق الصحابة من شهد العقبة الثانية على من شهد بدراً (فكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة) بإسكان الزاي، ويقال: غزاة بفتح المعجمة والزاي وإبدال الواو ألفاً فهما مفرداً غزوات وعن ثعلب الغزوة المرة، والغزاة عمل سنة كاملة. ذكره أو المغازي من الفتح (تبوك أني) بفتح الهمزة هي ومدخولها اسم كان (لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني) فيه تفضيل الشيء على نفسه باعتبار تعدد
الزمان، كما فضل الكحل حال كونه في عين زيد مثلاً على نفسه حال كونه في عين غيره باعتبار تعدد المكان في قولهم: ما رأيت أحداً أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد (حين) أي: زمن (تخلفت عنه في تلك) الغزوة (وا ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة) بيان لكونه أيسر وكذا لكونه أقوى إن أريد به القوة العارضية الحاصلة بالأسباب، وإن أريد به القوّة في البدن فسكت عن ذكر ما يبينه(1/114)
(ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورّى بغيرها) أي أوهم، زاد أبو داود: وكان يقول: «الحرب خدعة» (حتى) غاية للتورية (كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرّ شديد) يخاف منه الهلاك (واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً) ويقال مفازة: أي برية طويلة قليلة الماء وهو بفتح الميم، قيل: مأخوذ من فاز الرجل إذا هلك، وقيل على سبيل التفاؤل بفوزه ونجاته منها كما يقال للديغ: سليم (واستقبل عدداً كثيراً) وفي بعض نسخ الصحيح: عدواً، وكأن حكمة إعادة العامل أن هذا نوع غير معمول «استقبل» المذكور أولاً (فجلا للمسلمين أمرهم) بتخفيف اللام وتشديدها: أي كشفه وأوضحه وعرفهم ذلك من غير تورية (ليتأهبوا أهبة غزوهم) بضم الهمزة وإسكان الهاء، أي: ليستعدوا بما يحتاجون إليه في سفرهم، ثم هو كذا في نسخ الرياض بالمعجمة فالزاي، وهو كذلك في «صحيح مسلم» ، وفي «صحيح البخاري» «عدوهم» بالمهملتين وتشديد الواو (فأخبرهم بوجههم) أي: بقصده، وهو كذلك بالموحدة أوله، في بعض نسخ مسلم وفي غيره «توجههم» بالفوقية بدل الموحدة: أي مقصدهم (الذي يريد) وفي تلك «الذي يريدون» والعائد محذوف عليهما. وسبب تلك الغزوة أنه بلغه أن الروم تجمعت بالشام مع هرقل: أي لحربه، فندب الناس إلى الخروج لذلك (والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير) جملة حالية من فاعل غزا، وعدة من كان معه ثلاثون ألفاً، وعن أبي زرعة سبعون ألفاً، وفي رواية عنه أيضاً: أربعون
ألفاً، ووجه الجمع أن من قال كانوا سبعين عدّ التابع والمتبوع ومن قال ثلاثين أو أربعين عدّ المتبوعين أو أهل القتال (ولا يجمعهم كتاب حافظ) حال متداخلة، ثم روي في «صحيح البخاري» بتنوينهما، وفي «صحيح مسلم» بالإضافة.
قال ابن شهاب الزهري: (يريد) أي: كعب (بذلك) أي: بالكتاب الحافظ (الديوان) بكسر الدال على المشهور، وحكي فتحها فارسي معرب، وقيل: عربي (قال كعب: فقلّ رجل) وفي «البخاري» فما رجل (يريد أن يتغيب) أي: يغيب (إلا ظن أن ذلك سيخفى له) وقع في جميع نسخ مسلم بإسقاط «إلا» .
قال(1/115)
المصنف في «شرحه» : والصواب إثباتها. قال القرطبي: هي لإيجاب ما تضمنته قلّ من معنى النفي، لأن معنى قلّ رجل: ما رجل، فكأنه قال: ما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن اهـ (ما لم ينزل فيه وحي من الله عزّ وجلّ) منبه على تغيبه (وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار) أي: أينعت ونضجت وآن وقت أكلها (و) طابت (الظلال) بكسر الظاء المعجمة: جمع ظل (فأنا إليها أصعر) بالمهملتين: أي: أميل، والصعر: الميل (فتجهز رسول الله، و) تجهز (المسلمون معه وطفقت) من أفعال الشروع جعلت يقال: طفق بكسر الفاء وفتحها وبإبدال الفاء بموحدة (أغدو لكي أتجهز معه فأرجع ولم أقض) شيئاً من أمري (وأقول في نفسي أنا قادر على ذلك) أي: على التجهيز (إذا أردت) أي: لسعة الوقت (فلم يزل ذلك) أي التسويف في الأمر (يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد) بكسر الجيم: أي الاجتهاد في أمر السفر وشأنه (فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غادياً و) أصبح (المسلمون معه) أي: مصاحبين له في السفر (ولم أقض من جهازي) بفتح الجيم وكسرها: أي أهبه سفري (شيئاً ثم غدوت) أي: سرت أول النهار (فرجعت) من غدوي (ولم أقض شيئاً) أي: من جهازي (فلم يزل ذلك) أي: الغدو لقضاء الجهاز وعدم قضائه (يتمادى بي حتى أسرعوا) بالمهملات. وصحفه الكشميهني فرواه في «صحيح البخاري» «شرعوا» بحذف الهمزة وإعجام الشين (وتفارط) بفوقية ففاء وراء وطاء مهملتين (الغزو) بإعجام الغين: أي تقدم الغزاة، والفارط والفرط: المتقدم وجمعه أفراط (فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا) قوم (ليتني فعلت) وخلصت من ورطة التخلف، وفيه الندم على ما فات من عمل البرّ، والنهي عنه على ما فات محمول على ما فات من الأعراض الفانية (ثم لم يقدر ذلك) أي: الارتحال (لي) وما لم يقدر لا يكون (فكنت إذا خرجت في الناس) أي المتخلفين من مؤمن معذور أو منافق(1/116)
مغرور (بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحزنني) بفتح التحتية وضم
الزاي من حزن ويجوز ضم التحتية وكسر الزاي من أحزن (أن) وفي نسخة «أنى» (لا أرى لي أسوة) فاعل يحزن. والظرف في محل الحال من أسوة، وهي بضم الهمزة وقد تكسر: القدوة (إلا رجلاً مغموصاً) بإعجام الغين وإهمال الصاد أي مطعوناً (عليه) في دينه محتقراً متهماً (في النفاق) أي إظهار الإسلام وإخفاء الكفر. ولا يخفى ما اشتملت عليه هذه الجملة من الاستعارة المكنية وما يتبعها من الاستعارة التخييلية (أو رجلاً ممن عذر ا) أي: عذره الله (من الضعفاء) بيان لمن (ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك) هكذا في «نسخ الرياض» ممنوع الصرف على إرادة البقعة. قال المصنف: وهو في أكثر نسخ «الصحيحين» تبوكاً بالصرف، وكأنه صرفه لإرادة المكان دون البقعة (فقال وهو جالس في القول بتبوك: ما فعل كعببن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة) بكسر اللام: بطن من الأنصار، واسم ذلك الرجل عبد ابن أنيس كما قاله الواقدي في «المغازي» (يا رسول الله حبسه برداه) بضم الباء، يعني: الرداء والإزار أو الرداء والقميص، وسماهما بردين لأن الإزار والقميص قد يكونان من برد والبرود ثياب من اليمن فيها خطوط، ويحتمل أن أحدهما كان برداً وتسمينهما بردين على طريقة العمرين والقمرين (والنظر في عطفيه) بكسر المهملة الأولى: أي جانبيه، كناية عن العجب.
قال القرطبي: وكأن هذا القائل كان في نفسه حقد على كعب ولعله كان منافقاً فنسب كعباً إلى الزهوّ والكبر، وكانت نسبة باطلة بدليل ردّ العدل الفاضل معاذبن جبل عليه كما قال: (فقال له معاذبن جبل رضي الله عنه بئسما) أي بئس هو قولاً (قلت، وا يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً) ففيه جواز ذمّ المتكلم بالعيب والقبيح في حق المسلم ونصرة المسلم في غيبته والرد عن عرضه. وما زعمه من احتمال نفاق القائل فيه نظر لأن عبد ابن أنيس لم يتهم بذلك. والأولى حمله على أنه صدر منه ذلك من غير فكر وروية وقصد إلى معايبه القبيحة الردية، والله أعلم بحقيقة الحال(1/117)
(فسكت رسول الله) أي عن السؤال عن حال كعب، زاد مسلم على البخاري (فبينا هو على ذلك رأى رجلاً مبيضاً) بكسر التحتية اسم فاعل، من البياض: أي لابس البياض، يقال: هم المبيضة والمسودة بالكسر: أي لابسو البياض والسواد (يزول) أي يتحرك وينهض (به السراب) هو ما يظهر للإنسان في الهواجر في البراري كأنه ماء (فقال رسول الله: كن أبا خيثمة) لفظهُ لفظ الأمر ومعناه الدعاء، كما يقال أسلم: أي سلمكالله، قاله السهيلي.
وقال المصنف في «شرح مسلم» : قيل معناه أنت أبو خيثمة. قال ثعلب: العرب تقول كن زيداً: أي أنت زيد. قال القاضي عياض: والأشبه عندي أنّ كن هنا للتحقيق والوجود: أي لتوجد يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة، وهذا الذي قاله القاضي هو الصواب وهو معنى قول «صاحب التحرير» : تقديره اللهم اجعله أبا خيثمة اهـ. (فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري) إذا فجائية والجملة بعدها في محل جرّ بالإضافة (و) أبو خيثمة (هو الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون) واللمز: الطعن. انتهت زيادة مسلم. واسم أبي خيثمة عبد ابن خيثمة، وقيل: مالكبن قيس، ولهم: أبو خيثمة صحابي آخر اسمه: عبد الرحمنبن أبي سبرة الجعفي (قال كعب: فلما أن بلغني أن رسول الله) بفتح الهمزة هي ومعمولاها فاعل بلغ (قد توجه قافلاً) أي: راجعاً (من تبوك) بالصرف وعدمه على ما تقدم (حضرني بثي) جواب للما.
وعند البخاري: «حضرني همي» والبث أشد الحزن، وبه يعلم أن عطف الحزن عليه في قوله تعالى: {إنما أشكو بثي وحزني إلى ا} (يوسف: 86) من عطف العام على الخاص لا المرادف خلافاً لما في شرح «بانت سعاد» لابن هشام (فطفقت) أي: أخذت من باب أفعال المقاربة تقدمت لغاتها (أتذكر الكذب) أي ما يقبله السامع من الآتي به والجملة خبر طفق (وأقول) عطف على خبر طفق (بما) كذا هو إثبات الألف في الأصول المصححة، ومقتضى قاعدة وجوب حذف ألف ما الاستفهامية إذا جرت نحو {عم يتساءلون}(1/118)
أن يكون بحذفها ولعله جاء على الاستعمال القليل: أي أقول بأي شيء من الأعذار مطابقة للواقع أم لا كما يدل عليه السياق (أخرج من سخطه) بفتحتين أو بضم فسكون أي من كراهيته لتخلفي وعدم رضاه به (غداً وأستعين) عطف على أتذكر (على ذلك) أي المخرج لي من سخطه وعدم رضاه (بكل ذي) أي: صاحب (رأي من أهلي) ثم لا يشكل ما ذكره من تذكرة الكذب والاستعانة عليه بما تقرّر من عدالة الصحابة، لأنه رأى جواز فعل ذلك لما فيه من ارتكاب أخف الضررين دفعاً لأشدهما وهو سخطه. على أن الله سبحانه وتعالى قد حفظه من فعل ذلك وسلك به عنه بصدقه أحسن المسالك (فلما قيل) أي: تحدث وليس المراد منه تضعيف المخبر عنه (أن رسول الله) بكسر الهمزة محكي بالقول، وهو نائب الفاعل لأن الإسناد لفظي: أي قيل هذا اللفظ (قد أظل) بالمعجمة المشالة أي: أقبل ودنا كأنه ألقى عليه ظله (قادماً) حال من فاعل أظل (زاح عني الباطل) أي: زال وذهب، ويقال: أزاح أيضاً والمصدر زوحاً، قاله الأصمعي، وزيحا كما في «المصباح» ، وزيحانا قاله الكسائي، والمراد بالباطل ما كان عزم عليه من التنصل من سخطه بالإخبار بغير مطابق للواقع (حتى) استئنافية أو عاطفة (عرفت أني لم أنج) بفتح الهمزة وسكون النون وضم الجيم (منه) أي من سخطه نجاة نافعة (بشيء) أي: من الكذب، وفي نسخة «بشيء فيه كذب» (أبداً) أي لا أنجو به نجاة أبدية وإن نجوت به في الحال،
لكن يحصل خلافه عند كشف الله لنبيه عن حقيقة الأمر كما جرى للمنافقين، والأبد الزمن المستقبل (فأجمعت صدقه) أي: عزمت عليه، يقال أجمع أمره وعلى أمره وعزم عليه بمعنى (وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادماً وكان إذا قدم) بكسر الدال مضارعه يقدم بفتحها (من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين) تحية المسجد، إنما كان يفعل ذلك ليبدأ بتعظيم بيت الله قبل بيته وليقوم بشكر نعمة الله عليه في سلامته، وليس ذلك في شرعه لأمته. كذا في «المفهم» .
ثم جملة «وكان» تحتمل العطف على جملة أصبح، والحالية من فاعل أصبح، (ثم(1/119)
جلس للناس) أي ليسلموا عليه ويهنئوه بالسلامة (فلما فعل ذلك) أي: المذكور من صلاة التحية والجلوس للناس معتكفاً كما يومىء إليه علو مقامه فلذا دارت أفعاله بين الوجوب والندب. والاعتكاف يحصل بما زاد على الطمأنينة ولا يتوقف على الصوم (جاءه المخلفون) اسم مفعول: أي عن الخروج معه إلى تبوك.
قال أبو حيان في «النهر» : لفظ المخلفون يقتضي الذم والتحقير، وهي أمكن من لفظ المتخلفين إذ هم مفعول بهم ذلك اهـ. فطفقوا (ويعتذرون إليه) من تخلفهم عنه (ويحلفون له) على ما يعتذرون به (وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً) والبضع والبضعة بكسر الباء الموحدة وسكون المعجمة: ما بين الثلاث إلى التسع من العدد. وفي هذا الرد على منع استعماله فيما فوق العشرين، ثم منهم من اعتذر بالمرض ومنهم من اعتذر بغيره مما هو كاذب فيه (فقبل منهم علانيتهم) بتخفيف التحتية اسم مصدر من علن الأمر يعلن علوناً كدخل أو من علن يعلن علناً كطرب أي: ما أظهروه إجراء للأحكام على ظاهر (وبايعهم) بالموحدة (واستغفر لهم) أي: سأل الله غفر ذنب المتخلف عنه (ووكل) بتخفيف الكاف (سرائرهم) جمع سريرة: أي ما أخفوه من النفاق وقصد الإخبار بخلاف الواقع (إلى) علم (ا) وفي الحديث: «إنما أحكم بالظواهر وا يتولى السرائر» (حتى جئت) حتى حرف ابتداء لدخولها على الماضي، وليست حرف جر بعدها أن مضمرة خلافاً لابن مالك فقد رده عليه ابن هشام بأنه لا يعرف له فيه سلفاً، ولا عاطفة لأنها لا تعطف الجمل خلافاً لابن السيد في زعمه إجازة ذلك. قال في «المغني» : وذلك لأن شرط معطوفها أن يكون جزءاً مما قبلها أو كجزئه ولا يتأتى ذلك إلا في المفردات اهـ. وحينئذٍ فالجملة مستأنفة (فلما) الفاء فصيحة أي جئت فسلما فلما (سلمت عليه تبسم تبسم المغضب) بفتح المهملة من الأول فعل ماض جواب لما، وضمها من الثاني مصدر مفعول مطلق، والمغضب اسم مفعول: أي الغضبان، وفي التعبير به دونه إيماء إلى أن الغضب منه إنما يكون عارضاً بسبب أمر يقتضيه، وإلا فخلقه الكريم الرضى والعفو والصفح والتجاوز عما لا معصية فيه من الأمور.
قال أنس: «خدمت النبي عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء تركته لم تركته» (ثم قال: تعال) بفتح اللام (فجئت) أي عقب الأمر من غير تراخ ففيه ما كان عليه الصحابة من البدار(1/120)
لأداء أوامره (أمشي) جملة حالية (حتى) غاية لما قبله (جلست بين يديه فقال لي: ماذا) أي ما الذي (خلفك) أي ما كان سبب تخلفك عن الخروج معي لتبوك. وإسناد التخليف إليه مجاز عقلي (ألم تكن قد ابتعت) أي اشتريت (ظهرك) الظهر: هي الإبل التي تركب وجمعه ظهران بالضم (قلت: يا رسول الله إني وا لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج سخطه بـ) ـذكر (عذر) أبديه مورياً أو موجهاً (لقد أعطيت) بالبناء للمجهول (جدلاً) بفتح أوليه الجيم فالمهملة: أي فصاحة وقوة في الكلام وبراعة بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب إليّ إذا أردت، ثم أكد ما قبله بقوله: (ولكني وا لقد علمت أني لئن حدثتك اليوم حديث كذب) بفتح فكسر (ترضى به عني) لفصاحته وبراعته الموهمة أنه كذلك في الواقع (ليوشكن ا) أن (يسخطك عليّ) يوشك بضم التحتية وكسر المعجمة مضارع أو شك وهو أكثر استعمالاً منه حتى أنكر الأصمعي مجيئه ماضياً، وإن كان مردوداً بمجيئه كذلك في كلامهم، وهو من أفعال المقاربة، ثم اللام في لقد علمت لام جواب القسم، وفي لئن مؤذنة بقسم مقدر أتى به تأكيداً للمقام، وقوله ليوشكن جوابه، واستغنى به عن جواب الشرط، وجملة القسم وجوابه علق عنها فعل العلم والقسم الأول وجوابه ساد مسد خبر لكن علة له، والتقدير: ولكني مع الحال المذكورة لا أفعل لعلمي بأن الله يجلي لك الأحوال ويظهر لك الصادق والكاذب من المقال، ففيه التنبيه على اجتناب المعاصي، فإنها وإن كانت قد تحلو ساعة مباشرتها بتزيين الشيطان وإغوائه إلا أنها مرة المجنى منقصة في المعنى لمن استنارت بصيرته وجليت سريرته (وإن حدثتك حديث صدق تجد) بكسر الجيم وتخفيف المهملة أي: تغضب (عليّ فيه) أي لأني ملوم بسببه واقع في المخالفة به،
وهذه الجملة الشرطية معطوفة على الأولى الواقعة بعد اللام المؤذنة بالقسم.
فقوله: (إني لأرجو فيه) أي: الصدق (عقبى الله عز وجل) جواب القسم، والعقبى بضم العين المهملة وسكون القاف: أي: العاقبة الحسنة أي: أرجو من الله تعالى أن يعقبني خيراً بتوبته علي وإرضاء نبيه عني، وقد حقق الله له رجاءه (وا ما كان لي من) مزيدة لاستغراق النفي(1/121)
(عذر) أي: حقيقي في التخلف فأعتذر به (وا ما كنت قط) بفتح القاف وتشديد المهملة المضمومة على الأفصح (أقوى) أي في البدن (ولا أيسر) أي في المال (مني) هو المفضل عليه وتفضيل الشيء على نفسه باختلاف الزمان (حين) أي: وقت (تخلفت عنك فقال رسول الله: أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف فيه معنى الشرط والتفصيل (هذا فقد صدق فقم) الفاء فيه فصيحة: أي حيثما صدقت فقم (حتى يقضي ا) أي: يبدي في عالم الشهادة ما سبق به قضاؤه الأزلي (فيك) أي في شأنك: أي من المؤاخذة بجريرة ذنب التخلف المحرم من غير عذر أو العفو عنه أو التوبة عليه والرضى عنه لما تجرعته من مرارة الصدق الشاق عليك لما ترتب عليه فقمت (وثار) بالمثلثة: أي: وثب (رجال من بني سلمة) بفتح المهملة وكسر اللام: بطن من الأنصار (فاتبعوني فقالوا: وا ما علمناك أذنبت ذنباً) الجملة في محل المفعول الثاني لعلم (قبل هذا) التخلف (لقد عجزت) بفتح الجيم على الأفصح (في) تعليلية نحو: {لمسكم فيما أفضتم} (النور: 14) ألا تكون اعتذرت أي: بسبب عدم اعتذارك (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما) أي: بمثل الذي (اعتذر به إليه المخلفون) فإن كان ذنباً لكونه كذباً لم تورّ (فقد كان كافيك) بالنصب خبر كان، و {ذنبك} مفعوله الثاني أو منصوب على نزع الخافض (استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك) اسم كان، وأعربه الحافظ فاعل الوصف، وعليه تكون كان تامة الوصف فاعلها والاستغفار فاعله (قال) كعب: (فوا ما زالوا يؤنبونني) بضم التحتية وفتح الهمزة ثم
نون مشددة مكسورة ثم موحدة، أي يلومونني أشد اللوم (حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكذب نفسي) أي: أقول إنها كاذبة في قول السابق ما كان لي من عذر (ثم قلت لهم: هل لقي هذا) أي الصدق في المقال وذكر الواقع الذي لمتوني به (معي من) مزيدة (أحد) فيهون عليَّ(1/122)
الأمر وأجد لي مساوياً في ذلك (قالوا نعم، لقيه رجلان قالا مثل ما قلت) أي من الإخبار بانتفاء العذر المانع من الخروج (وقيل لهما مثل ما قيل لك) أي: من انتظار ظهور ما سبق به القضاء في شأنهما (قال) كعب (قلت من هما؟ قالوا) : هما (مرارة) بضم الميم وتكرار الراء (ابن الربيع العامري) هذا لفظ مسلم، قال المصنف في «شرحه» : هكذا هو في جميع نسخ «العامري» وأنكره العلماء وقالوا: هو غلط إنما صوابه «العمرى» بفتح المهملة وإسكان الميم من بني عمروبن عوف، وكذا ذكره البخاري، وكذا نسبه ابن إسحاق وابن عبد البرّ وغيرهما من الأئمة.
وقال القاضي عياض: هو الصواب، ووقع عند مسلم أيضاً في النسخ «ربيعة» ووقع في البخاري «ابن الربيع» قال ابن عبد البرّ: يقال بالوجهين (وهلال) بوزن بلال (بن أمية) بن عامربن قيسبن عبد الأعلمبن عامربن كعببن واقفبن امرىء القيسبن مالكبن الأوس (الواقفي) بقاف ففاء منسوباً إلى بني واقف المذكور في النسب واسمه مالك: بطن من الأنصار (قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً) أي: غزوة بدر الكبرى وأهلها لهم الشرف الأعلى، ثم ما ذكره من شهودهما بدراً كذا في الصحيحين.
قال ابن الجوزي في «جامع المسانيد» إنه من أوهام الزهري فلم يذكرهما أحد في البدريين، وقد سئل الشرف الدمياطي عن كلام ابن الجوزي هذا فأقرّه عليه وأيده، نقله عنه ابن السبكي في ترجمته من «الطبقات الكبرى» ، وتعقبه الحافظ في «الفتح» بأن الظاهر من صنيع البخاري أن «قد شهدا بدراً» من كلام كعب، وممن جزم بأنه شهداها الأثرم، وتعقبه ابن الجوزي ونسبه إلى الغلط فلم يصب. واستدل بعضهم لكونهما لم يشهداها بما لا دليل فيه من هجرانه لهما وترك مثل ذلك في حق حاطب وقد فعل ما فعل فقال في حقه «إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر» الحديث، فلو شهداها لصفح عنهما كحاطب وليس ما يومىء إليه كلامه من عدم مؤاخذة البدري بما يعمل كذلك، وإنما صفح عن حاطب لتبين عذره في مكاتبته بخلاف كعب وصاحبيه إذ لا عذر لهما في التخلف انتهى ملخصاً.
(فقلت لي فيهما أسوة) بضم الهمزة وكسرها: أي قدوة وفي العبارة تجريد إذ هما الأسوة (قال) كعب: (فمضيت) أي: مصمماً على ما وقع مني من الإخبار بالصدق (حين ذكروهما لي) بمثل ذلك (ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة) ففيه وجوب هوان من ظهرت منه المعصية فلم يسلم عليه إلى أن يقلع وتظهر توبته. كذا في «المفهم» وأي: بالضم(1/123)
والثلاثة مرفوع على الصفة لأي تبعاً للفظها ومحلها نصب على الاختصاص.
حكى سيبويه عن العرب: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، وهذا مثله (من بين) أي دون (من) أي سائر الذي (تخلف عنه) وذلك لرفع شأن هؤلاء الكرام وإعراضه عن باقي المتخلفين لأنهم اعتذروا، ومنهم المعذور حقيقة، ومنهم المنافقون اعتذروا ظاهراً فقبل منهم ذلك لأن الأحكام الشرعية مبناها عليه، وقد فضح الله سرائرهم وأظهر للمؤمنين ضمائرهم كما يأتي آخر الحديث (قال فاجتنبنا) بفتح الموحدة (الناس) أي: صاروا لنا مجانبين (أو) شك من الراوي (قال) فـ (تغيروا لنا) عما كنا نعهده من الأنس والوداد منهم (حتى تنكرت) غاية لما قبلها وتنكرت تغيرت (لي في نفسي الأرض) فاعل تنكر والظرفان متعلقان به: أي تغيرت لي لا لغيري في نفسي، أي عندهما لا في نفس الأمر.
وحاصله أن تكدر الأحوال يوهم النفس تغير الدار ويخيل إليها ما لم يقع بحال (فما هي) أي: الأرض الآن (بالأرض التي أعرف) والحاصل أنه لعظم ما اشتدّ عليه الأمر توهم أنه تغير عليه كل شيء حتى الأرض، فإنها توحشت وصارت كأنها غير الأرض التي كان يعرفها قبل ذلك (فلبثنا) أي: أقميها (على ذلك) المذكور من الانتظار لما يبدو في عالم الشهادة مما سبق به القضاء، وهجر الناس لنا (خمسين ليلة) أي: ونهاراً، وحذف اكتفاء بذكر قرينه للعلم به من السياق.
(فأما) بفتح الهمزة تفصيل لبعض حاله وحال صاحبيه (صاحباي) أي: المشاركان لي في هذا الحال (فاستكانا) أي: خضعا (وقعدا في بيوتهما يبكيان) أي: على خطيئتهما ففيه بكاء الإنسان على خطيئته، وفي الحديث: «وابك على خطيئتك وليسعك بيتك» (وأما أنا فكنت أشبّ القوم) بالمعجمة فالموحدة أي: أصغرهم سناً (وأجلدهم) أي: أقواهم (فكنت أخرج) إلى المسجد وغيره (فأشهد الصلاة) أي: المفروضة (مع النبيّ) أي أشهد الجماعة في الصلوات المكتوبات (وأطوف) بفتح الهمزة وبالمهملة أي: أمشي دائراً (في الأسواق) جمع سوق، وتقدم أنها سميت بذلك لسوق الناس بضائعهم إليها، وقيل: للوقوف فيها على الساق. وتعقب باختلاف المادة، ولعل من حكمة طوفانه في الأسواق أنها من محال كرم الله(1/124)
وجوده بتيسير تلك الأمور المباعة لطالبها وربح جالبها وصاحبها فتعرض في محل الرحمات والفيوض المعنوية وهي المساجد وشهوده الصلوات، وفي محل الفضل والعطايا الدنيوية وهي الأسواق لنفحات الرحمن لتعود عليه بالتوبة، ويظفر بالمرام في الأوبة، ويتنصل عما وقع فيه من الحوبة (ولا يكلمني أحد) معطوفة على وأطوف ويصح كونها في محل الحال (وآتى رسول الله) تشرفاً برؤيته، واستمطاراً للفيوض الربانية من حضرته، وإراحة القلب من ألم الكرب، ففيه أن حبه له الأكيد، لم يغيره عنه ما صدر من الأمر فيه بالتبعيد (فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة) فيه الجلوس عقب الصلاة في المصلى للذكر والدعاء ونحوهما، والجملة في محل الحال، وأتردد هل رد عليه الصلاة والسلام بلسانه على السلام (فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه) بفتح المعجمة أي: أقول هل حركهما ناطقاً (برد السلام) عليّ كما هو قضية صفحه وعفوه، والانزجار يحصل بعدوله عن الجهر بذلك إلى الإسرار (أم لا) لقضية ما صدر مني من العصيان المقتضي للهجران.
وأم هنا منقطعة بمعنى بل لعدم تقدم الهمزة عليها (ثم أصلي قريباً منه) للنافلة والرواتب (وأسارقه النظر) بالمهملة والقاف: أي: أنظر إليه في خفية. ففيه أن مسارقة النظر في الصلاة وكذا الالتفات لا يبطلها (فإذا أقبلت على صلاتي أقبل علي) لما ورد من إقبال المولى سبحانه على المقبل بقلبه وقالبه على مولاهـ والمصطفى متخلق بأخلاقالله. ففيه أن الإقبال على مرضاة الله سبب لقبول أولياء الله (وإذا التفت نحوه) في صلاتي (أعرض عني) إذ الالتفات في الصلاة اختلاس من الشيطان كما ورد في الحديث مع ما ينبىء عنه من الغفلة الشاهد بها خبر «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» (حتى إذا طال على ذلك) ابتدائية على الصحيح على ما في المغني أو غاية لمقدر: أي استمررت متصابراً حتى إذا طال عليّ ذلك (من) بيانية لذلك (جفوة) بفتح الجيم وسكون الفاء: أي إعراض (المسلمين) ويجوز أن يكون المشار إليه ما تقدم ومن ابتدائية أو تعليلية (مشيت) واستمررت في المشي (حتى تسورت) بتشديد الواو: أي علوت سور (جدار حائط) هو البستان إذا كان عليه دائر بناء.
وفي «الصحاح» : التسوّر النزول من الارتفاع ولا يكون إلا من فوق ويقال: هو الصعود إلى مكان مرتفع اهـ. وفيه جواز دخول الإنسان دار صديقه وقريبه(1/125)
الذي يدل عليه ويعرف أنه لا يكره ذلك بغير إذنه بشرط أن يعلم أنه ليس هناك نحو زوجة مكشوفة (أبي قتادة) بفتح القاف الحارثبن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة وبالمهملة الأنصاري (وهو ابن عمي) أي بحائل، كذا قاله الكرماني. ووجهه أنهما يجتمعان في كعببن سلمة، وهو الجد الخامس لكعب والسادس لأبي قتادة وقيل: بل هو ابن عمه حقيقة وأن ربعياً والد أبي قتادة أخو مالك والد كعب (وأحب الناس إليّ) أي أكثرهم محبوبية إليّ لقرابته في النسب، أو لغير ذلك من السبب (فسلمت عليه فوا ما رد عليّ السلام) لعموم النهي عن كلام كعب وصاحبيه، ففيه عدم رد السلام على نحو المبتدع، وأن السلام كلام فيحنث به من حلف لا يكلم فلاناً فسلم عليه أو رده عليه وإن كان واجباً عليه، وإيثار طاعة الله ورسوله على مودة الصديق والقريب ونحوهما (فقلت له يا أبا قتادة أنشدك) بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة أي أسألك (با) وأصله من النشيد وهو الصوت (هل تعلمني) أي بما تراه من الشواهد والآيات فلا ينافي ما جاء من إنكاره على سعدبن أبي وقاص في قوله: «مالك عن فلان فإني لأراه مؤمناً» فقال: «أو مسلماً» أي: إن الإيمان لكونه قلبياً لا سبيل إلى علمه والجزم به بخلاف الإسلام لتعلقه بالظاهر، ولذا أجابه أبو قتادة بقوله: الله ورسوله أعلم (أحب الله ورسوله) محبتهما طاعة أمرهما ومنها الإيمان وفعل الطاعات وترك مخالفتهما، وما أحسن ما قيل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
(فسكت) عن الجواب لما تقدم (فعدت) له (فناشدته) أي: نشدته والإتيان به من باب المفاعلة للمبالغة (فسكت فعدت) إليه (فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم) والإتيان به من باب المفاعلة للمبالغة (فسكت فعدت) إليه (فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم) .
قال القاضي عياض: لعل أبا قتادة لم يقصد بها تكليمه به لأنه منهي عن كلامه، وإنما قال ذلك لنفسه لما ناشده با، فقال أبو قتادة مظهراً لاعتقاده لا ليسمعه، إذ من حلف لا يكلم فلاناً فسأله عن شيء فقال: الله أعلم يريد إسماعه وجوابه حنث، فإن لم يرد ذلك فلا حنث اهـ.
قال القرطبي في «المفهم» : ويحتمل أن أبا قتادة فهم أن الكلام الذي نهى عنه إنما هو المقتضي(1/126)
للمباسطة وإفادة المعاني لا مثل هذا المقتضى للإبعاد والمنافرة، ألا ترى أنه لم يرد عليه السلام ولا التفت لحديثه اهـ. (ففاضت عيناي) مجاز عقلي من الإسناد للمكان نحو نهر جار، ومعنى فاضت عيناي أي: كثرت دموع عيني (وتوليت) راجعاً من حيث أتيت (حتى تسورت الجدار فبينا) بألف الإشباع، وقيل: هي كافة لبين عن الإضافة كما تقدم، وقيل أصلها بينما بما الكافة فحذفت الميم تخفيفاً (أنا أمشي في سوق المدينة) علم بالغلبة على دار هجرته، وسميت بذلك لأنها يطاع الله فيها، والدين الطاعة (إذا نبطي) بفتح النون والموحدة: الفلاح، سمي به لأنه يستنبط الماء أي: يستخرجه، وسيأتي فيه زيادة في باب النهي عن تعذيب العبد والدابة (من نبط) بفتح أوليه أي فلاحي (أهل الشأم) بالهمزة الساكنة ويجوز تخفيفها ويقال: شآم بالهمزة بوزن يمان، وهو مذكر على المشهور، وقال الجوهري: يجوز تذكيره وتأنيثه، سمي بذلك باسم سامبن نوح واسمه بالسريانية شام.
وعن ابن الكلبي: سمي شاماً بشامات له حمر وسود وبيض. وقيل: سمي به لأنه عن شمال الأرض وقيل: غير ذلك، وتقدم أن حده من العريش إلى الفرات طولاً وقيل إلى باياس، وعرضاً من جبل طي من نحو القبلة إلى نحو أرض الروم وما سامت ذلك من البلاد، نقله المصنف في «التهذيب» عن الحافظ ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (ممن قدم بالطعام) حال كونه (يبيعه بالمدينة) ويصح كونها استئنافاً بيانياً (يقول) يجوز فيه ما في الذي قبله والثاني أقرب (من يدل) بضم المهملة (على كعببن مالك فطفق) أي: أخذ (الناس يشيرون له إليّ، حتى إذا جاءني دفع إليّ كتاباً من ملك غسان) بفتح المعجمة وتشديد المهملة آخره نون واسمه جبلةبن الأيهم وقيل: الحارثبن أبي سمرة (وكنت كاتباً) أي قارئاً من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم (فقرأته فإذا فيه: أما بعد) بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه (فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك) أي أعرض عنك (ولم(1/127)
يجعلك الله بدار هوان) أي منقطعاً بدار تهان فيها (ولا) بدار أو حال (مضيعة) بسكون المعجمة ويجوز كسرها مع فتح الميم فيهما: أي في دار أو حال يضاع فيهما حقك: أي فإذا حصل لك ما عرض حلوله بك (فالحق) بفتح المهملة (بنا نواسك) بضم النون وكسر المهملة من المواساة، وحذفت التحتية لأنه في جواب الطلب، وفي بعض نسخ مسلم إثباتها، وهو كما قال المصنف صحيح: أي ونحن نواسيك قطعه عن جواب الأمر (فقلت حين قرأتها) أي: الكتابة المعبر عنها بالكتاب أو التأنيث باعتبار المعنى إذ هو في المعنى صحيفة (وهذه) الواقعة (أيضاً من البلاء) أي: الابتلاء ليترتب عليه ما يليق مما يصدر عنه من رسوخ قدم يحمد عليه أو أمر يوجب الندم (فتيممت) أي قصدت. ولمسلم: فتأممت وهي لغة (بها التنور) أنث الضمير في بها وفي قوله: (فسجرتها) بمهملة وجيم وراء: أي أوقدت الكتاب لما ذكر آنفاً، والتنور الذي يخبز فيه، قال في «النهاية» : يقال: إنه في جميع اللغات كذلك (حتى إذا مضت
أربعون) غاية لمقدر: أي استمررت على ذلك الأمر المذكور من غير زيادة عليه حتى مضت أربعون ليلة ويوماً (من الخمسين واستلبث) أي: أبطأ وجملة استلبث (الوحي) من زيادة مسلم على البخاري (إذا) فجائية (رسول رسول الله) في رواية الواقدي: أنه خزيمةبن ثابت قال: وهو الرسول إلى هلال ومرارة بذلك (يأتيني فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك) وفي نسخة من التوشيح للحافظ السيوطي: هي عمرة بنت جبيربن صخر اهـ.
وفي نسخة من «تحفة القاري على البخاري» لشيخ الإسلام زكريا: هي عميرة بنت جبيربن صخر اهـ. وفي الأصلين المذكورين تحريف من الناسخ فليحرر. ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أن اسمها: جبرة، ثم رأيته قال في «الفتح» : هي عمرة بنت جبيربن صخربن أمية الأنصارية أمّ أولاده الثلاثة عبد الله وعبيد الله ومعبد، ويقال: اسم امرأته التي كانت عنده يومئذٍ خيرة بالمعجمة ثم التحتانية اهـ. وراجعت «أسد الغابة» لابن الأثير فلم أجد فيه ذكراً لأحد من هؤلاء الثلاثة والله أعلم.
(فقلت) ما المراد من اعتزالها (أطلقها) بضم همزة الاستفهام مقدرة بدليل قوله (أم ماذا) أي ما الذي(1/128)
(أفعل؟ قال لا) تطلقها (بل اعتزلها) أمر بترك مخالطتها مخالطة الزوجات من الجماع ومقدماته كما فسره بقوله (فلا تقربنها، وأرسل) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إلى صاحبيّ) بتشديد ياء المتكلم المدغم فيها ياء المثنى يأمرهما (بمثل ذلك) أي: الاعتزال المفسر بعدم قرب الزوجة (فقلت لامرأتي: الحقي) بهمزة وصل وفتح المهملة بعدها القاف (بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر) وقوله: «الحقي بأهلك» من كنايات الطلاق ولكونه لم ينوّه به لم يقع عليه (فجاءت امرأة هلالبن أمية) هي: خولة بنت عاصم قاله الحافظ ابن حجر، وقيل: اسمها عمرة بنت حبةبن صخر الأنصارية قاله ابن عبد البرّ (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له) اللام للتبليغ (يا رسول الله إن هلالبن أمية شيخ) أي: ذو سنّ (ضائع) بالمعجمة وبعد الألف همزة ثم عين مهملة، وفسرته بقولها (ليس له خادم) أي: من يقوم بما يحتاجه من خدمة، يقع على الذكر والأنثى بلفظ واحد ويقال في المؤنث خادمة: ومنه حديث البخاري عن أبي سهل «أن امرأة أبي أسيد كانت خادمتهم في عرسهم» فإنه بالتاء في معظم الأصول (فهل تكره أن أخدمه) بضم المهملة (قال: لا) أي لا أكره أن تخدميه (ولكن) استدراك لما قد يتوهم من شمول الخدمة للتمتع بها (لا يقربنك) بضم الراء وفتح الموحدة بعدها نون توكيد، كناية عن الجماع (فقالت) لا حاجة إلى منعه من ذلك (إنه) أي الشأن. أو هلالاً (وا) جملة قسمية أتى بها لتأكيد المقال (ما به حركة) .
وفي نسخة: من حركة بزيادة من، والحركات بفتحات: أي داعية تحركه (إلى شيء) من الجماع ومقدماته لما هو فيه من الكرب، ثم الجملة قسمية وجوابها خبر إن، وفي نسخة بتقديم القسم على إن، وعليه فان، واسمها وخبرها جواب القسم (ووا) يحتمل العطف على جملة القسم السابقة ويحتمل الاستئناف (ما زال يبكي) على تخلفه المتسبب عليه ما آل إليه أمره (منذ كان من أمره) أي: شأنه (ما كان) من تخلفه عن الخروج وما ترتب عليه (إلى الآن) حال الإخبار.
وفي نسخة: إلى يومه هذا، وسكتت عما بعده لأنه يحتمل استمراره عليه وتركه له لما يرد عليه مما يقتضي حالاً من تلك الأحوال. قال كعب: (فقال) أي: أشار (لي بعض أهلي) لما(1/129)
أمرت امرأتي بالذهاب لأهلها قال الحافظ لم أقف على اسمه (لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتك) أي: في خدمتها (فقد أذن لامرأة هلالبن أمية أن تخدمه) وقد استشكل هذا بنهيه عن كلام الثلاثة.
وأجيب كلام الثلاثة، وأجيب بأنه يحتمل أنه عبر عن الإشارة بالقول كما أشرت إليه، أو أن النهي كان خاصاً بالرجال والقائل كان امرأة، أو كان هذا الكلام ممن يخدم المنهيّ عن كلامه فلم يدخل في النهي.
قال الحافظ في «الفتح» : لعله بعض ولده أو من النساء، ولم يقع النهي عن كلام الثلاثة للنساء اللاتي في بيوتهم، أو أن الذي كلمه كان منافقاً (فقلت لا أستأذن فيها رسول الله) وأشار إلى الفرق بين حاله وحال هلال بقوله: (وما يدريني) بضم التحتية (ماذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنته فيها) أي: من الإذن في ذلك أو المنع منه (وأنا رجل شاب) جملة حالية من فاعل يقول، وأشار به إلى وجه احتمال منعه دون هلال لكونه رجلاً شاباً، ويحتمل الإشارة به إلى خوف الوقوع معها لو أذن له في مقامها عنده من حدة الشباب فيقع في المحذور، أو إلى أنه ليس بضائع لقدرته على خدمة نفسه (فلبثت) أي أقمت (بذلك) أي: من ذلك المذكور من إرسال الزوجة (عشر ليال) أي: مع أيامها (فكمل) بتثليث الميم: أي تمّ بضمها إلى الأربعين السابقة على الأمر باعتزال الزوجة (خمسون ليلة) ويوماً واقتصر عليها في جميع ما ذكر لأنها الأصل والنهار تابع لها (من) ابتدائية (حين) بفتح النون لإضافته إلى جملة صدرها مبني (نهى) بالبناء للمفعول: أي وقع النهي للمسلمين غير من تقدم (عن كلامنا ثم صليت صلاة الفجر صباح) منصوب على الظرفية: أي في صباح تلك الليلة المكملة (خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا) الظرف الأول حال من فاعل صلى والثاني وصف لبيت (فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر) ها (اعنا) أي: عنا أيها الثلاثة وبينها بقوله: (قد ضاقت عليّ نفسي) أي: قلبي من فرط الوحشة والغمّ بحيث لا يسعها أنس ولا سرور (وضاقت عليّ) بتشديد التحتية.
وعند مسلم: وضاقت بي (الأرض بما رحبت) أي برحبها، فما مصدرية، والرحب بضم الراء وسكون(1/130)
الحاء المهملتين: السعة (إذ سمعت صوت صارخ) هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما في «التوشيح» .c وفي «الفتح» أنه كذلك عند الواقدي وأن أبا بكر صاح: قد تاب الله على كعب، وحكاه ابن عائذ بلفظ «زعموا» .
قلت: وما في «الصحيح» مقدم عليه وأنه أسلميّ (أوفى) بالفاء أي: صعد وارتفع (على سلع) بفتح السين وسكون اللام: جبل بالمدينة معروف (يقول) جاهراً (بأعلى صوته) من إضافة الصفة إلى الموصوف، وفيه المذهب للبصريين من التأويل والكوفيين من إبقائه على ظاهره (يا كعببن مالك) بنصب «ابن» وفي «كعب» الضم والفتح (أبشر) حذف المفعول لتذهب النفس في طرف السرور كل مسلك (فخررت ساجداً) سجدة الشكر على اندفاع ما كان فيه من الحال وبلوغه إلى نعمة البشرى والإقبال. وفيه أن سجدة الشكر كانت معلومة عندهم معمولاً بها فيما بينهم (وعرفت) من هذا التبشير (أنه قد جاء فرج فآذن) بالمد والقصر: أي أعلم (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بتوبة الله علينا) أي: بتوفيقه إيانا لها أو بتبرئته إيانا عن غفلة الذنب (حين صلى صلاة الفجر) ظرف لآذن (فذهب الناس يبشروننا) بالتوبة (فذهب قبل) بكسر ففتح: أي جهة (صاحبيّ) بتشديد الياء (مبشرون) .
قال الفربري في «الإقناع» : وخرج سعيدبن زيدبن عمروبن نفيل إلى هلال يبشره، فلما أخبره سجد ولقيه الناس يهنئونه فما استطاع المشي لما ناله من الضعف والحزن والبكاء حتى ركب حماراً، وبشر مرارةبن الربيع سلكانبن سلامة أو سلمةبن سلامةبن وقش فأقبل حتى توافوا، يعني: الثلاثة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. (وركض إليّ رجل) هو الزبيربن العوّام.
وقال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون أبا قتادة لأنه كان فارس النبيّ أي جرى جرياً شديداً (فرساً، وسعى ساع من أسلم) هو: حمزةبن عمر الأسلمي (قبلي، وأوفى) بالفاء مقصوراً. أي أشرف وطلع (على الجبل فكان الصوت) أي وصول الصوت المذكور أي صوت الأسلمي المذكور بقرينة مجيئه له وطلبه شيئاً لبشارته (أسرع من) وصول صاحب (الفرس، فلما جاءني) الأسلمي (الذي سمعت صوته(1/131)
يبشرني) جملة في محل الحال ويجوز كونها مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن قائلاً يقول فيم سمعت صوته فقال يبشرني (نزعت له ثوبيّ) بتشديد التحتية (فكسوته إياهما ببشارته) ففيه استحباب إجازة البشير بخلعة وإلا فيغيرها. والخلعة أحسن وهي المعتادة، وفيه كسوة البشير وإن لم يملك غيره، وفيه جواز إظهار الفرح بأمور الخير والدين وجواز البذل والهبات عندها (وا ما أملك غيرهما) أي: من الثياب كما في رواية ابن أبي شيبة: «فوا ما أملك ثوبين غيرهما» فلا ينافي قوله السابق «إن عندي راحلتين» وقوله الآتي: «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة» (يومئذٍ) أي وقت كسوتي له (واستعرت ثوبين) زاذ الواقدي، من أبي قتادة (فلبستهما وانطلقت أتأمم) أي أقصد (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلقاني الناس فوجاً) أي: جماعة (فوجاً) أي تلقوني زمرة بعد زمرة وجماعة بعد جماعة (يهنئونني بالتوبة) أي: بقبولها أو بالتوفيق لها (ويقولون لي لتهنك) بكسر النون.
قال الحافظ: وزعم ابن التين شارح البخاري أنه بفتحها قال لأنه من هنىء، وفيه نظر (توبة الله عليك) فيه دليل على جواز التهنئة بأمور الخير بل على ندبها إذا كانت دينية فإنها إظهار السرور بما يسر به أخوه المسلم وإظهار المحبة وتصفية القلب بالمودة (حتى دخلت المسجد) غاية لمقدر أي فسرت وحالي ما ذكر أي من تهنئة الناس لي إلى أن دخلت المسجد، والأصح أن نصب المسجد لكونه اسم مكان مختص على التوسع (فإذا) فجائية (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس) في المسجد (حوله الناس) الظرف لغو وحوله الناس خير بعد خبر (فقام إليّ طلحةبن عبيد ا) أحد العشرة المبشرة (رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنأني) فيه استحباب مصافحة القادم والقيام له إكراماً والهرولة إلى لقائه بشاشة وفرحاً.
قال كعب: (وا ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره) بالرفع صفة رجل، ويجوز نصبه على الحال لتخصيصه بالوصوف بالظرف (فكان كعب لا ينساها) أي تلك الأفعال الجميلة من القيام له والهرولة والمصافحة والتهنئة (لطلحة) .
قال القرطبي: أي إنها أكدت في قلبه محبته وألزمته حرمته(1/132)
حتى عدها من الأيدي الجسيمة (قال كعب: فلما سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) أي بعد رد السلام (وهو يبرق) بضم الراء: أي يلمع (وجهه) بالأنوار (من) تعليلية أي بسبب (السرور) بقبول الله تعالى توبتهم، ففيه ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من الحبور عند ظفر أحد من أمته بنوع من الخيور حال من فاعل قال، ومقول القول (أبشر) بقطع الهمزة (بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك) أي سوى يوم إسلامه، وإنما لم يستثنه لأنه معلوم لا بد منه، وقيل: لا استثناء لأن يوم توبته مكمل ليوم إسلامه فهو خير من جميع أيامه وإن كان يوم إسلامه خيرها فيوم توبته المضاف إلى يوم إسلامه خير من يوم إسلامه المجرد عنها (فقلت أ) هذا المبشر به (من عندك يا رسول الله) أي: قلته اجتهاداً لأنك رأيت حصول مقصود الزجر بما وقع في هذه المدة (أم) هو وحي (من عند ا؟ قال: لا) أي: ليس من عندي (بل من عند الله عز وجل) قال في «الإقناع» بدل قوله «قال لا» قال من عند الله وتلا عليهم الآيات (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سرّ) من أمر (استنار وجهه) أي: زاد نوراً إلى نوره.
وفي «النهاية» : «كان إذا سر فكأن وجهه المرآة وكان الجدر يرى شخصها في وجهه لشدة نوره وصفائه (حتى كأن وجهه قطعة قمر) غاية لما قبله، آثر ذكر القمر لأنه يتمكن من النظر إليه ويؤنس من شاهده من غير أذى يتولد عنه بخلاف الشمس لأنها تغشى البصر وتؤذي. ثم تشبيه بعض صفاته بنحو القمر والشمس جرى على عادة الشعراء والعرب في ذلك أو على سبيل التقريب والتمثيل وإلا فلا شيء يعادل شيئاً من أوصافه.
قيل: شبه وجهه في هذا الحديث بقطعة من القمر لا بكله مع أن المعهود في التشبيه الثاني لأن القصد الإشارة إلى موضع الاستنارة وهو الجبين، وفيه يظهر السرور فناسب أن يشبه ببعض القمر قالت عائشة: «مسروراً تبرق(1/133)
أسارير وجهه» ولكون مراد كعب رضي الله عنه تشبيه بعض وجهه وهو جبينه إذا سر لم يشبهه بجميع القمر، وجاء في حديث آخر عنه تشبيه وجهه كله بدارة القمر فلزمه تشبيه بعضه ببعضه، وهذا أحسن مما قيل سبب الاقتصار في التشبيه على بعض القمر الاحتزاز عما فيه من السواد، لأن كون وجه التشبيه بالقمر ما فيه من الإضاءة والملاحة لا يخفى على أحد ولا يتوهم من التشبيه خلافه فلا حاجة للاحتراز (وكنا) معشر الصحابة المراقبين لمحاسن ذاته الملاحظين لأحواله (نعرف ذلك) أي: الموضع الذي يتبين فيه السرور وهو جبينه كما سبق من قول عائشة: مسوراً تبرق أسارير وجهه.
وفي «البخاري» : «كان يعرف ذلك (منه) وفي نسخة «فيه» والضمير يعود إلى الوجه (فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من) شكر (توبتي) أي: من شكر الله على توبتي أي التوفيق لها وقبولها، أو إن من علامة صدق توبتي (أن أنخلع) أي أخرج (من مالي) أي: من جميعه (صدقة) مفعول له أو مطلق على تقدير أتصدق، أوفى معنى الحال: أي متصدقاً، أو على تضمين أنخلع معنى أتصدق: أي أتصدق متقرباً بها (إلى الله تعالى وإلى رسوله) أعاد الجار للاهتمام وتنبيهاً على أن التقرب إليه مطلوب على سبيل الاستقلال. قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع ا} (النساء: 80) ، وقال القرطبي: أي إن على ذلك، فهي صيغة نذر والتزام، خرجت مخرج الشكر وابتغاء الثواب وأقرّه عليه النبي فكان ذلك جائزاً ولم يدخل في عموم النذر المنهي عنه، وعلى مقتضى هذا اللفظ قد وجب عليه إخراج كل ماله، لكن لما كان ذلك يؤدي إلى أن يبقى فقيراً محتاجاً وربما أفضى به إلى سؤال الناس وإلى الدخول في مفاسد، أمره بإمساك البعض كما قال كعب: (فقال رسول الله: أمسك عليك بعض مالك) أي دفعاً لضرر التصدق بكله (فهو خير لك) .
قال القرطبي: البعض المأمور بإمساكه من ماله هو الأكثر والمتصدق به هو الأقل كما قال في حديث سعد: «الثلث والثلث كثير» وفيما ذكره نظر فإنه متوقف على نص يشهد به، ولا دليل في حديث سعد لما ذكره لأن ما فيه إنما هو لمن كان في حال المرض مراعاة لمصلحة الورثة، والقصد هنا دفع ضرر الحاجة والفقر، وهو قد يحصل بإبقاء الأقل من ماله أو الشطر كما وقع من عمر رضي الله تعالى عنه لما تصدق بشطر ماله وأبقى الشطر الآخر لنفسه وأهله، والحديث في مسلم وغيره.
ثم رأيت في «الفتح» للحافظ أن عند أبي داود عن كعب: «إن من توبتي أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة، قال: لا، قلت: نصفه؟ قال: لا، قلت: فثلثه؟ قال: نعم» ولابن مردويه من طريق ابن عيينة عن الزهري «فقال النبي: ويجزي عنك من ذلك الثلث» اهـ. وهو شاهد للقرطبي.
قال المصنف في «شرح مسلم» : ولا يخالف هذا: أي قوله أمسك عليك بعض مالك تصدق أبي بكر بجميع ماله أي وقبوله له فإنه كان صابراً راضياً اهـ. (فقلت: يا رسول الله إني(1/134)
أمسك سهمي الذي بخيبر) بفتح المعجمة وسكون التحتية وفتح الموحدة آخره راء مهملة غير مصروف في أكثر الأصول مراداً به البقعة (وقلت يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني) من وصمة إثم التخلف عن المأمور به (بالصدق) أي بإخباري بالخبر المطابق للواقع وإن ترتب ما ترتب (وإن من) شكر أو صدق (توبتي ألا أحدث) أي إنسان حديثاً ما في أي شأن كان (إلا صدقاً ما بقيت) أي مدة بقائي ما لم يمنع من الصدق مانع. وإلا كأن كان فيه إفساد مصلحة للمسلمين في حروبهم أو نحو ذلك فلا، وفي الحديث المحافظة على سبب التوبة (فوا ما علمت أحداً من المسلمين) عند مسلم «ما أعلم أحداً» (أبلاه ا) أي: أنعم عليه ومنه قوله تعالى: {وفي ذلكم} (البقرة: 49) - أي الإنجاء من فرعونـ {بلاء من ربكم عظيم} أي: نعمة عظمى، والبلاء يستعمل أيضاً في الشرّ كما قيل به في الآية بناء على أن المشار إليه ما فعله بهم آل فرعون من قتل الأبناء واستحياء النساء، ولكن إذا أطلق كان غالباً للشر فإذا أريد به الخير قيد كما قال في الحديث: «أحسن مما أبلاني ا» (في) ملازمة (صدق الحديث) مصدر مضاف إلى مفعوله (منذ ذكرت ذلك) الالتزام بملازمة الصدق (لرسول الله) إبلاء (أحسن مما أبلاني الله تعالى) به أي بتيسير الدوام على ذلك والوفاء بالالتزام.
قال الحافظ: فيه وفي قوله الآتي: «فوا ما أنعم» والحديث إلى قوله: «أعظم من صدقي رسول الله» شاهد على أن هذا السياق يورد ويراد به نفي الأفضلية لا المساواة لأن كعباً شاركه في ذلك رفيقاه، وقد نفى أن يكون أحد حصل له أحسن مما حصل له وهو كذلك لكنه لم ينف المساواة (وا ما تعمدت كذبة) قال المصنف: بفتح الكاف وكسرها كل ذلك مع إسكان الذال، وفي «المشارق» كذبة بكسر الفاء ويقال: بفتحها وأنكر بعضها الكسر إلا إذا أراد الحالة والهيئة، وليس هذا موضعها اهـ. وهو في البخاري «كذباً» بحذف الهاء (منذ) أي من حين (قلت ذلك) الالتزام (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا) فيه أن الخطأ(1/135)
والنسيان المحترز عنهما بالعمد غير مؤاخذ به الإنسان، وهما لا ينقصان الالتزام (وإني لأرجو) من فضله تعالى (أن يحفظني الله تعالى) من الكذب (فيما بقي) لأنه تعالى كريم يستحي أن ينزع السر من أهله، قال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11) (قال) أي كعب مبيناً للآية التي نزلت فيها التوبة عليه وعلى صاحبيه (فأنزل الله تعالى) على نبيه وهو في بيت أم سلمة حين بقي الثلث الأخير من الليل كما جاء في كتاب «التفسير من صحيح البخاري» {لقد تاب ا} أدام توبته، وهي بالنسبة إلى النبي تشريف مكانته في إعلاء رتبته، لا أنه عن ذنب صدر من حضرته لعصمته.
وقال بعضهم: تاب الله {على النبي} أي تجاوز عنه {والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} بالعين المضمومة والسين الساكنة بعدها راء مهملات أو وقتها وهي حالهم في غزوة تبوك وكان الرجلان يقتسمان التمرة والعشرة يعتقبون البعير الواحد، واشتد الحر حتى شربوا الفرث (حتى بلغ) أي: كعب في قراءته {وكونوا مع الصادقين} أي في الآيات الثلاث، وتمامها قوله تعالى {من بعد ما كاد تزيغ} (التوبة: 117) بالمثناة الفوقية والتحتية: أي تميل وتذهب {قلوب فريق منهم} عن اتباعه إلى التخلف لما هم فيه من الشدة {ثم تاب عليهم} بالثبات {إنهم بهم رؤوف رحيم} ، وتاب {على الثلاثة الذي خلفوا} (التوبة: 118) عن التوبة عليهم بقرينة {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} أي مع رحبها وسعتها فلا يجدون مكاناً يطمئنون إليه {وضاقت عليهم أنفسهم} قلوبهم للغمة والوحشة لتأخير توبتهم فلا يسعها سرور ولا أنس {وظنوا} أي: أيقنوا {أن لا ملجأ} يلجئون إليه {من(1/136)
الله إلا إليه} (التوبة: 118) .
قال في «الكشاف» : لا ملجأ من سخط الله إلا إلى استغفاره {ثم تاب عليهم} ألهمهم أسباب التوبة ووفقهم لها «ليتوبوا» / أي ليقبلها، وقيل: تاب عليهم قبل توبتهم و «ليتوبوا» أي: يداوموا عليها، وفي تفسير سورة البقرة من البيضاوي: أصل التوبة الرجوع فإذا وصف بها العبد كان رجوعاً عن المعصية إلى الطاعة وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة اهـ. {إن اهو التواب} على من تاب أي: يقبل توبته الصحيحة فضلاً منه وهو الرحيم. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا ا} بترك معاصيه {وكونوا مع الصادقين} في الأيمان والعهود بأن تلزموا الصدق.
(قال كعب) صرح بذكره للفصل بين سياق أحواله بذكر الآي القرآنية المنزلة في التوبة (وا ما أنعم الله عليّ من) زائدة للاستغراق (نعمة قط) أي في الزمن الماضي (بعد أن هداني للإسلام) أي دلني عليه وأوصلني له. وفي نسخة: هداني الله (أعظم) وصف لنعمة فتجوز قراءته منصوباً باعتبار محلها لزيادة من، ومجروراً باعتبار لفظها، ويجوز رفعه بتقدير هي أعظم (في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا أكون كذبته) كذا في «الصحيحين» عند جميع رواتهما إلا الأصيلي من رواة البخاري فقال: «أن أكون» وليس بشيء، والصواب الأول وتخريجه أن لا زائدة كما قال عياض وتبعه المصنف وغيره، ومعناه: أن أكون كقوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد} (الأعراف: 12) اهـ. وهذا بناء على أنه مستأنف عما قبله وأظهر منه ما ذكره الشيخ زكريا في حاشيته على البخاري المسماة «بتحفة القارىء» من أنه بدل من صدقي: أي أن لا نافية، قال: والمعنى ما أنعم الله عليّ نعمة هي أعظم من عدم كذبي فعدم هلاكي اهـ. وكذبته بفتح الذال المخففة: أي قلت له قولاً كذباً (فأهلك) بالنصب عطف على منصوب أن، وأهلك بكسر اللام على الفصيح المشهور، وحكي فتحها وهو شاذ وضعيف (كما هلك الذين كذبوا) أي: هلاكاً كهلاك الذين كذبوا الله القول في إدعاء الإيمان من المنافقين فالمفعول الثاني محذوف.
قال الراغب في «مفرداته» : يقال كذبته حديثاً، ومنهـ كذبوا الله ورسولهـ أي: القول الذي قاله فيتعدى إلى مفعولين نحو صدق في قوله تعالى:(1/137)
{لقد صدق الله رسوله الرؤيا} (التوبة: 95) اهـ (فإن الله تعالى قال للذين كذبوا) أي: عنهم (حين أنزل) على النبي (الوحي شرّ ما قال) أيّ: قول، قال: ويجوز أن يكون موصولاً اسمياً (لأحد) أي: عن أحد، ثم بين ذلك القول المجمل المنزل فيهم بقوله: (فقال ا) تبارك و {تعالى سيحلفون با لكم إذا انقلبتم} رجعتم {إليهم لتعرضوا عنهم} بترك المعاتبة {فأعرضوا عنهم} فأعطوهم طلبتهم {إنهم رجس} قذر لخبث باطنهم فلا يؤثر فيهم العقاب، بخلاف المؤمن إذا فرطت منه زلة فوبخ عليها طهره التوبيخ بالتوبة منها والاستغفار {ومأواهم جهنم} يعني تكفيهم النار عتاباً فلا تتكلفوا عتابهم ( {جزاء بما كانوا يكسبون بحلفون} ) أي: با ( {لكم لترضوا عنهم} ) أي: غرضهم بالحلف طلب رضاكم لينفعهم في دنياهم ( {فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضي عن القوم الفاسقين} ) أي: عنهم، وأتى بالظاهر موضعه نداء عليهم بسوء وصفهم المقتضي لعدم رضاه عنهم: أي ولا ينفعهم رضاكم عنهم مع سخطالله، بل يكونون عرضة لعاجل عقوبته وآجلها، في «الكشاف» قيل: إنما قيل لهم ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضاء الله عنهم (قال كعب: كنا خلفنا) بالبناء للمجهول، أخص (أيخا الثلاثة) بتأخير أمرنا وبيان شأننا فلم يقض فينا بشيء (عن أمر أولئك) المعتذرين (الذين) كذبوا الله ورسوله و (قبل منهم رسول الله) عذرهم في التخلف (حين حلفوا له) إنهم صادقون فيما اعتذروا به (فبايعهم) أي: عاقدهم على الإسلام وعاهدهم عنيه (واستغفر لهم) أي بنحو: غفر الله لكم (وأرجأ) أخر (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا) فلم يقض فيه بشيء (حتى قضى الله تعالى) أي: أبرز ما سبق قضاؤه (فيه) وأنزل فيه الآية فـ (بذلك) أي: فعن ذلك التخليف (قال الله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} ) هو معنى ما
تقدم في تفسير الآية من قولنا خلفوا عن التوبة: أي(1/138)
عن قبولها حالاً كما قبلت المعذرين وأرجأ أمر هؤلاء الثلاثة (وليس الذي ذكر) بالبناء للمجهول (مما خلفنا) أي: من تخليفنا المخبر عنه بقوله: «خلفوا» (تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا) عمن قبله من أولئك المعتذورين (وإرجاؤه) تأخيره (أمرنا) أي: بيانه وإيضاحه (عن) أي: عن أمر (من حلف له واعتذر إليه) من المعذين (فقبل منه) أفرد الضمير باعتبار لفظ من (متفق عليه) أي: رواه الشيخان وإن وقع بينهما اختلاف يسير في زيادة كلمة أو نقصها أو تقديم أو تأخير، وكذا أخرج الحديث أبو داود والترمذي والنسائي كما في «جامع الأصول» في كتاب الجهاد.
(وفي رواية: أن النبيّ خرج) من المدينة (في غزوة تبوك يوم الخميس، وكان يحبّ أن يخرج) لسفره (يوم الخميس) في «الصحيحين» من حديث كعب «قلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر إلا يوم الخميس» ورواه النسائي.
(وفي رواية) للبخاري من حديث كعب (كان لا يقدم من سفر إلا نهاراً) ونهى عن طروق المسافر أهله ليلاً ما لم يشع خبر قدومه كأن كان في قفل ووصلوا لقرب البلد نهاراً وعلم ذلك الخبر لأهل البلد فلا بأس بالقدوم ليلاً حينئذٍ (في الضحى) لأنه أطيب ما في النهار لما فيه من حسن الهواء، وزيادة الأضواء: وخروج الناس للاجتماع واللقاء، وللتبايع ونحوه، ولذا شرعت فيه صلاة لئلا يستغرق الوقت بأمر الدنيا ويلهو بإخوانه عن إصلاح شأنه (فإذا قدم) بكسر الدال (بدأ بالمسجد) قبل دخول منزله اهتماماً به، وتعظيماً لشعائر الله تعالى، وتقديماً لحق الله تعالى على حق نفسه وأهله، وشكراً لنعمته عليه بسلامته من وعثاء السفر (فصل فيه ركعتين) تحية (ثم جلس فيه) ليسلم عليه الناس.(1/139)
وفي الحديث فوائد أربعون بل أكثر: منها إباحة الغنيمة لهذه الأمة إذ قال يريدون عيراً لقريش، وفضيلة أهل بدر والعقبة، والمبايعة مع الإمام، وجواز الحلف من غير استحلاف، وتورية المقصد إذا دعت إليه ضرورة، والتأسف على ما فات من الخير، وتمني المتأسف عليه، وردّ الغيبة، وهجران أهل البدعة، وأن للإمام أن يؤدب بعض أصحابه بإمساك الكلام عنه، وترك من تاب الزوجة، واستحباب صلاة القادم، ودخوله المسجد أوّلاً، وتوجه الناس إليه عند قدومه، والحكم بالظاهر وقبول المعاذير، واستحباب البكاء على نفسه، وأن مسارقة النظر في الصلاة لا تبطلها، وفضيلة الصدق، وأن السلام ورده كلام/ وجواز دخول بستان صديقه بدون إذنه، وأن الكناية لا يقع بها الطلاق ما لم ينوه، وإيثار طاعة الله ورسوله على مودة القريب، وخدمة المرأة لزوجها، والاحتياط بمجانبة ما يخاف منه الوقوع في منهي عنه إذ كعب لم يستأذن في خدمته امرأته لذلك، وجواز إحراق ورقة فيها ذكر الله تعالى إذا كان لمصلحة، واستحباب التبشير عند تجدد النعمة واندفاع الكربة، واجتماع الناس عند الإمام في الأمور المهمة، وسروره بما يسر أصحابه، والتصدق بشيء عند ارتفاع الحزن والنهي عن التصدق بكل المال عند خوف عدم الصبر، وإجازة البشير بخلعة، وتخصيص اليمين بالنية: وجواز العارية، ومصافحة القادم، والقيام، والقيام له، واستحباب سجدة الشكر، والتزام مداومة الخير الذي انتفع به.
2210 - (وعن أبي نجيد) بضم النون وفتح الجيم وسكون التحتية آخره دال مهملة، كنى باسم ابنه نجيد (عمران) بكسر العين المهملة (ابن الحصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وإسكان التحتية بعدها نون ابن عبيدبن خلفبن عبدنهمبن حذيفةبن جهيمة بن عاضرةبن حبيشةبن كعببن عمرو، كذا قاله ابن منده وأبو نعيم. وقال أبو عمر: عبدنهمبن سالمبن عاضرة (الخزاعي) الكعبي (رضي الله عنهما) أسلم عام خيبر، وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوات، وبعثه عمربن الخطاب رضي الله عنه إلى البصرة ليفقه أهلها. قال محمدبن سيرين: لم نر في البصرة أحداً من أصحاب النبيّ يفضل على عمرانبن الحصين، وكان مجاب الدعوة ولم يشهد الفتنة. وروى له عن النبي مائة وثمانون حديثاً، اتفق الشيخان منها على ثمانية، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بتسعة: وكان تسلم عليه الملائكة في مرضه فاكتوى ففقد ذلك ثم عادت إليه، وكان به استسقاء طال به سنين وهو صابر عليه وشق بطنه وأخذ منه شحم وشق له سرير فبقي عليه ثلاثين سنة، ودخل(1/140)
عليه رجل فقال، يا أبا نجيد وا إنه ليمنعي من عبادتك ما أرى بك، فقال: يا أخي فلا تجلس فوا إن أحبّ ذلك إليّ أحبه إلى الله تعالى، توفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين (أن امرأة من جهينة) وفي رواية أخرى لمسلم «جاءت امرأة من غامد» بغين معجمة وميم ودال مهملة.
قال المصنف: وهي بطن من جهينة. وقال الحافظ وليّ الدين العراقي في «مبهماته» : اسمها خولة بنت خويلد وفيها نزلت آية الظهار. وفي كلام بعضهم أن آية الظهار نزلت في خولة بنت ثعلبه انتهى ملخصاً. وقال ابن النحوي في «البدر المنير» : اسم الغامدية سبيعة، وقيل أبية بنت فرج، حكاهما الخطيب في «مبهماته» . وعدها أبو موسى الأصفهاني في الصحابة (أتت رسول الله: وهي حبلى من الزنى) من تعليلية ويصح كونه ابتدائية (فقالت: يا رسول الله أصبت حدا) أي: ما يلزم به الحد فيكون مجازاً مرسلاً (فأقمه عليّ) أي: لأطهر من تبعته في الآخرة. وفي مسلم أيضاً في حديث الغامدية «قالت طهرني» قال المصنف: فيه دليل على أن الحدّ يكفر ذنب المعصية التي حد لها، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث عبادةبن الصامت، وهو قوله: «ومن فعل شيئاً من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارته» ولا نعلم فيه خلافاً، وإنما لم تقنع بالتوبة مع أنها محصلة لغرضها من سقوط الإثم، بل اختارت الرجم لأن حصول البراءة به وسقوط الإثم متيقن على حال، لاسيما وإقامته الحدّ بأمره. وأما التوبة فتخشى ألا تكون نصوحاً أو يختل بعض شروطها فأرادت حصول البراءة بطريق متيقن دون ما يطرقه الاحتمال انتهى ملخصاً (فدعا نبيّ الله) عبر عنها بنبيّ الله أولاً برسول الله تفننا في التعبير (وليها فقال: أحسن إليها) أمره بذلك خوفاً عليها من أن تحمل أقاربها الغيرة ولحوق العار بهم على أن يؤذوها، ورحمة لها إذ تابت ولحملها، فحرص عليها معها لما في نفوس الناس من النفرة من مثلها وإسماعها الكلام المؤذي ونحو ذلك، فنهى عن ذلك كله لذلك (فإذا وضعت) حملها (فائتنى بها) ففيه تأخير حدّ الزنى عن الحامل إلى أن تضع وتسقيه اللِّبَأ لئلا يموت الجنين وهو مجمع عليه. واختلف في اعتبار استغنائه عنها بلبن غيرها فالجمهور على اعتباره، فإن كان حدها الجلد لم تجلد حتى تضع بالإجماع (ففعل) أي: ما أمره به (فأمر بها نبيّ الله) أي: بأن
تهيأ للرجم لأنها كانت محصنة (فشدت عليها ثيابها) بالدال المهملة كذا في نسخ الرياض.
قال المصنف في «شرح مسلم» : فشكت عليها ثيابها، كذا هو في معظم النسخ «فشكت» وفي بعضها/ «فشدت» بالدال بدل الكاف وهو بمعنى الأول اهـ. ولم يذكر عياض في مشارقه(1/141)
غير الكاف قال: أي جمعت أطرافها لتستر وخللت عليها بعيدان اهـ. وقيل معناه: أرسلت عليها ثيابها، والشك الاتصال واللصوق، وإنما فعلت ذلك لئلا ينكشف ثوبها في تقلبها وتكرر اضطرابها (ثم) بعد أن شدت ثيابها (أمر بها فرجمت) في عدم تعرضه لحضوره دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه لا يلزم الإمام حضور الرجم، وكذا لا يلزم الشهود إذا ثبت بشهادتهم. وقال أبو حنيفة وأحمد، يحضر الإمام مطلقاً ويبدأ بالرجم إن ثبت بالإقرار وجاء عند النسائي: أنه رجم الغامدية ورماها بحجر. قالا: وتحضر للشهود إن ثبت بشهادتهم ويبدءون بالرجم (ثم) بعد غسلها وتكفينها (صلى) النبي (عليها) فيه دليل لمذهب الشافعي وآخرين من أن الإمام وأهل الفضل يصلون على المرجوم كما يصلي عليه غيرهم، وما قيل من أن ذكر صلاته ضعيف لكون أكثر الرواة لم يذكرها، أو من إن صلى فيه مؤول بأنه أمر بها، أو أنه أريد به المعنى الغوي: أي دعا ففاسد، لأن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح وزيادة الثقة مقبولة، والتأويل خلاف الأصل لا يصار إليه إليه إلا إذا اضطرت الأدلة لارتكابه وليس هنا شيء من ذلك، فوجب حمله على ظاهره (فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟) أي: أتصلي وهو استكشاف لحكمة صلاته عليها مع أنه وقع منها أمر يقتضي إهمال أمرها والإعراض عنها، وليس هو للإنكار (فقال) مبديا لما خفي على عمر رضي الله تعالى عنه فإنه نظر إلى ما صدر منها من الفعل القبيح وهو الزنى وغفل عما ختمت به أمرها وهو التوبة النصوح فنبهه بقوله: (لقد تابت توبة) صحيحة نصوحا (لو قسمت) بكمالها (بين سبعين) عاصياً (من أهل المدينة) أي: المنافقين
الذين بها: أي لو تاب المنافقون الذين بها يومئذٍ توبة صحيحة من نفاقهم كتوبتها (لوسعتهم) أي: لكفتهم في رفع آثامهم، فإذا رفعت ذنب الكفر فما دونه أولى، ولعل هذا حكمة قوله من أهل المدينة. قال في «البدر المنير» : وعند الطبراني «لقد تابت توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم» (وهل وجدت) شيئاً تبذله في مرضاة الله (أفضل) أي: أعظم (من أن جادت بنفسها) ببذلها () أي: لمرضاته (عزّ وجلّ. رواه مسلم) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وفي الحديث بيان عظم التوبة وأنها تحبّ(1/142)
الذثبّ وتلحقي التائب بمن لم يقترب شيئاً من الذنب، وتكون سبباً لحوزه أنواع الفضل.
2311 - (وعن ابن عباس وأنسبن مالك) تقدمت ترجمتهما في باب الإخلاص (رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو) ثبت (أن لابن آدم وادياً) مملوءاً (من ذهب أحبّ) وفي نسخة: لأحبّ: أي من حرصه الذي هو طبعه (أن يكون له واديان) أي: آخران كما هو الأنسب بحرصه، ويحتمل أن يراد واديان بما كان له أو لا فيكون المطلوب وادياً آخر. والأول أظهر (ولن يملأ جوفه إلا التراب) أي: إنه لا يزال حريصاً على الدنيا حتى يموت ويمتلىء جوفه من تراب قبره، وهذا حكم غالب النوع الإنساني الحرص على الدنيا، أما من لطف به وحفظ من ذلك ابتداء أو بالتوبة منه فمستثنى كما قال (ويتوب الله على من تاب) أي: إن الله تعالى يقبل التوبة من الحرص المذموم وغيره من المذمومات (متفق عليه) وفي «الجامع الصغير» للحافظ السيوطي بعد ذكر الحديث بنحوه أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس وأحمد، والشيخان عن ابن عباس، والبخاري عن الزبير، وابن ماجه عن أبي هريرة، وأحمد عن أبي واقد، والبزار عن بريدة. وأخرج أحمد وابن حيان عن جابر مرفوعاً «لو كان لابن آدم واد من نخل لتمنى مثله ثم لتمنى مثله حتى يتمنى أودية، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» اهـ. وفي «الديباج» للحافظ السيوطي: ورد في حديث أن الحديث المذكور كان في آخر سورة «لم يكن» فأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححاه عن أُبيّبن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} (البينة: 1) ، فال فرأ فيها: ولو أن ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيه لسأل ثانياً، ولو سأل ثانياً فأعطيه لسأل ثالثاً. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذات الدين عند الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية، ومن يفعل خيراً فلن يكفره» اهـ.(1/143)
2412 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في باب الإخلاص (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يضحك الله سبحانه إلى رجلين) قال القاضي عياض: الضحك في حقه تعالى: - لاستحالة قيام حقيقته بذاته سبحانه لكون من أوصاف الحادث - مجاز عن الرضى بفعلهما والثواب عليه، وحمد فعلهما ومحبته وتلقي رسله له بذلك، لأن الضحك من أحدنا إنما يكون عند موافقة ما يرضاه وسروره بمن يلقاه. قال: ويحتمل أن يكون المراد ضحك الملائكة الذين يوجهون لقبض روحهما وإدخالهما الجنة كما يقال قتل السلطان فلاناً: أي أمر به اهـ. (يقتل أحدهما) أي: الواحد منهما (الآخر) أي: صاحبه (ثم يدخلان الجنة) ثم بين ذلك الإجمال بقوله: (يقاتل هذا) يعني المسلم (في سبيل الله) لإعلاء كلمة الله (فيقتل) أي: يقتله كافر (ثم) للترتيب في الإخبار، أو يراد بها مجرد الترتيب من غير اعتبار انضمام التراخي إليه، فلا يعتبر تراخي إسلام الكافر عن قتله ذلك المسلم بل يحصل بإسلامه عقبه (يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد) عطف الفعلين بالفاء إشارة إلى حصول الهداية عقب تعلق العناية بالعبد من غير تراخ إذ لا مانع لما أراد سبحانه، وإلى أنه لا يمكث بعد إسلامه زمناً يقترف فيه شيئاً من موبقات الذنوب بل عقب إسلامه استشهد فعمل قليلاً وحاز خيراً جليلاً ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم لا يلزم من تساويهما في دخول الجنة تساويهما في المنزلة، فإن تفاوت مراتب الجنان على حسب تفاوت مراتب الأعمال (متفق عليه) . وفي ختم المصنف الباب بهذا الحديث إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له أن يتوب من الذنب الذي اقترفه وإن كان كبيرة، ولا يؤيسه ذاك من رحمة الله تعالى فإن اهو التواب الرحيم، والذنب وإن عظم قدره كالكبائر وكثرة عدده إذا قوبل(1/144)
بفضل الله وعفوه كان حقيراً يسيراً/ قال تعالى: {إن ربك واسع المغفرة} (النجم: 32) قال الأبوصيري:
يا نفس لا تقنطى من زلة عظمت
إن الكبائر في الغفران كاللمم
3 - باب الصبر
أي: هذا باب بيان فضائل الصبر من الآيات والأحاديث. قال الراغب في «مفرداته» : الصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع، أو على العبد عما يقتضيان حبسها عنه اهـ. وقال ذو النون: هو التباعد عن المخالفات والسكوت من تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى عند حلول الفقر بساحة المعيشة. قال الراغب: وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان حبس النفس بمصيبة سمي صبراً لا غير ويضاده الجزع، وإن كان في محاربة سمي شجاعة، ويضاده الجبن، وإن كان في نائبة مضجرة سمي رحب الصدر ويضاده الضجر، وإن كان في إمساك الكلام سمي كتماناً ويضاده الهذر، وقد سمى الله تعالى كل ذلك صبراً، قال تعالى: {اصبروا وصابروا} أي: احبسوا أنفسكم على العبادة وجاهدوا هواكم اهـ.
(قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا} ) على الطاعات والمصائب وعن المعاصي (وصابروا) الكفار، أي: غالبوهم بالصبر فلا يكونوا أشد منكم (ورابطوا) أي: أقيموا على الجهاد. وفي تفسير الكواشي: قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها» قال أبو سلمة: لم يكن في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة.
(وقال تعالى: {إنما يوفى الصابرون} ) على الطاعة وما يبتلون به، وترك ذكر الفاعل(1/145)
للعلم به سبحانه (أجرهم بغير حساب) أي: بغير مكيال ولا وزن. قال أبو عثمان المغربي: لا جزاء فوق جزاء الصبر. قال الكواشي في «التفسير الكبير» : المراد كل صابر على ترك أهل ووطن وعلى كل مكروه يعرض له لأجلالله. قال علي رضي الله عنه: كل مطيع يكال له كيلاً ويوزن له وزناً إلا الصابرون فإنه يحثى لهم حثياً.
(وقال تعالى: {ولمن صبر} ) فلم ينتصر لنفسه بعد ظلمها ( {وغفر} ) تجاوز عن ظالمه ( {إن ذلك} ) المذكور من الصبر والغفر ( {لمن عزم الأمور} ) أي: منه فحذف للعلم به كحذفه من قولهم: السمن منوان بدرهم، والمعنى: من الأمور التي أمر الله تعالى بها. وقال بعضهم: الصبر على المكاره من علامات الأنبياء، فمن صبر على مكروه أو مصيبة ولم يجزع أورثة الله حالة الرضى، وهي من أجلّ الأحوال، ومن جزع من المصائب وشكا وكله الله إلى نفسه ولم تنفعه شكواه.
(وقال تعالى: {واستعينوا} ) أي: اطلبوا المعونة على أموركم (بالصبر) أي: الحبس للنفس على ما تكره (والصلاة) أفردها بالذكر تعظيماً لشأنها، وفي الحديث «كان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة» وقيل الخطاب لليهود لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسه أمروا بالصبر وهو مصوم، لأنه يكسر الشهوة، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر.
(وقال تعالى: {ولنبلونكم} ) اللام فيه مؤذنة بقسم قلبه، أي وا لنختبرنكم بأن نأمركم(1/146)
بالجهاد ومشاق الدين فيظهر لنا منكم الطائع والعاصي (حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) المراد بالعلم هنا لازمه من الوجود، والمعنى حتى نتبين المجاهد والصابر على دينه من غيره/ أو حتى نعلم علم ظهور.
(والآيات) القرآنية (في الأمر بالصبر، و) في (بيان فضله كثيرة) اهتماماً بشأنه (معروفة) .
251 - (وعن أبي مالك الحارثبن عاصم) هذا أحد أقوال عشرة في اسمه، وقيل: كعب ابن عاصم وقيل كعببن كعب، وقيل عبيد، وقيل عبيد الله، وقيل عمرو. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في «أمالي الأذكار» : التحقيق أن أبا مالك الأشعري ثلاثة: الحارثبن الحارث وكعبابن عاصم وهما مشهوران باسمهما. والثالث هو المختلف في اسمه، وأكثر ما يرد في الروايات بكنيته وهو راوي الحديث اهـ (الأشعري) نسبة إلى الأشعر: قبيلة مشهورة من اليمن، والأشعر هو ثبتبن أددبن زيدبن يشجب، وقيل: له الأشعر لأن أمه ولدته والشعر على بدنه. قدم أبو مالك (رضي الله عنه) مع الأشعريين على النبي ويعد في «الشاميين» ، توفي في خلاقة عمر بالطاعون، وطعن هو ومعاذ وأبو عبيدة وشرحبيل ابن عتبة في يوم أحد، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وعشرون حديثاً روى عنه مسلم حديثين: هذا الحديث وبدأ به كتاب الطهارة من صحيحه، وحديث «أربع في أمتي من أمر الجاهلية» وروى له البخاري على الشك فقال: عن أبي مالك أو أبي عامر، وروى عنه أصحاب السنن الأربع (قال: قال رسول الله: الطهور) قال المصنف: بالضم على المختار وهو قول الأكثر اهـ. والمراد به بالضم الفعل: وبالفتح الاسم، كالسحور بالفتح اسم لما يتسحر به. وقال الخليل والأزهري: بالفتح فيهما، بل أنكر الخليل الضم، وحكى صاحب «المطالع» الضم فيهما. وقال القرطبي: إنما روي بالفتح إما على قول الخليل أو على تقدير مضاف: أي استعمال الطهور. واشتقاقه من الطهارة، وهي لغة النظافة حسية كانت أو معنوية. قال جماعة من أهل اللغة: هي حقيقة في الصورية مجاز في المعنوية، وقيل يمكن أن يقال: إنها حقيقة في القدر المشترك لرجحانه على المجاز والاشتراك. وشرعاً: فعل ما يترتب عليه إباحة أو ثواب مجرد (شطر) أي نصف(1/147)
(الإيمان) أن ينتهي تضعيف أجره إلى نصف أجر الإيمان فالمراد بالإيمان حقيقته. واعترض بأن الصلاة أفضل من الوضوء ولم يرد فيها ذلك. وأجيب
بالتزامه وإن لم يرد، ومفهوم الاسم ضعيف، وقيل: المراد من الإيمان الصلاة مثل (
{وما كان الله ليضيع إيمانكم} ) (البقرة: 143) وهي لا تصح إلا بطهر فكان كالشطر، ورجحه المصنف بأنه أقرب الأقوال، وأيده بعض محققي المتأخرين. وأجاب عما اعترض به عليه بكلام ذكرته في «شرح الأذكار» (والحمد) أي: هذه الجملة بخصوصها لأنها أفضل صيغ الحمد، ولذا بدىء بها الكتاب الغزيز أو هي وما يؤدي مؤداها من الثناء على الله سبحانه وتعالى بصفات كماله، ورجح بعضهم الأخير (تملأ) بالفوقية: أي هذه الكلمة بالمعنى اللغوي أو الجملة لو جسمت، أو بالتحتية: أي يملأ هذا المبنى وكذا ما أفاد مفاده لو كان جسماً (الميزان) باعتبار ثواب التلفظ بذلك مع استحضار معناه: أي الثناء على الله بالجميل الاختياري والإذعان له، والميزان المراد منه حقيقته أي ما توزن به الأعمال: إما بأن تجسم أو توزن صحائفها فتطيش بالسيئة وتثقل بالحسنة؛ وإنما ملأ ثواب هذه الجملة كفة الميزان مع سعتها المفرطة لأن معاني الباقيات الصالحات في ضمنها، ذكره العلائي في الجزء الذي ألفه في شرح هذا الحديث ولذلك قال رضي الله عنه: لو شئت أن أوقر بعيراً منها لفعلت، وذلك لأن الثناء تارة يكون بإثبات الكمال/ وتارة بنفي النقص، وتارة بالاعتراف بالعجز عن الإدراك، وتارة بالتفرد بأعلى المراتب، والألف واللام في الحمد لاستغراق جنس المدح والحمد مما علمناه وجهلناه، وإنما يستحق الإلهية من اتصف بذلك، فاندرج الجميع تحت الحمد، ذكره العلائي في أثناء كلام له (وسبحان ا) منصوب على المصدر، وقيل: اسم مصدر. وقال الزمخشري، هو علم على التسبيح وانتصب بفعل مضمر: أي أسبحه سبحان ثم نزل منزلة الفعل فسد مسده اهـ وظاهره أنه علم أضيف أو قطع عنها وأن إضافته للبيان لا للتعريف كزيد الخيل، وهذا ظاهر قول الأخفش إنه معرفة وضع لهذا المعنى، ولذا امتنع صرفه للعملية وزيادة الألف والنون،
والمحققون على أن تعريفه بالإضافة. والتسبيح تنزيه الله عن السوء والنقائص وتبعيده منها (والحمد) معطوف على ما قبله: أي هاتان الكلمتان (تملآن) بالفوقية «أو» شك من الراوي «يملأ» بالتحتية: أي المذكور منهما أو(1/148)
أجرهما قيل: ويحتمل أن يراد أحدهما فيكون المشكوك فيه أنهما معاً يملآن ما بين السموات والأرض أو أحدهما، أو بالفوقية، أي الكلمة الشاملة لهما. وقال العاقولي في «شرح المصابيح» : يروى بالمثناة الفوقية (ما بين) طبقات (السموات) السبع، وفي السلاح «السماء» بالإفراد وعزاه لمسلم، وكأنه باعتبار أصله، وإلا فالذي عندي بأصل مصحح «السموات» بالجمع وكذا هو في الكتب الحديثية (والأرض) أفرده، والمراد به الجمع: أي الأرضون ولعل ذلك لأن طباق الأرض متلاصقة لاخلاء بينها بخلاف طباق السموات» .
قال البيضاوي في «التفسير» إنما جمع السموات وأفرد الأرض لأنها طبقات متفاصلة بالذات مختلفة في الحقيقة، بخلاف الأرضين اهـ وإنما ملأ ثواب ما ذكر ما بين المذكورات التي لا يحيط بسعتها إلا خالقها سبحانه لأن العالم كله شاهد بأن اهو خالقه والقائم بتدبيره، وبأنه لا يجوز أن يكون له فيه شريك ولا معين، وبأنه واجب الإتصاف بصفات الكمال منزه عن مشابهة المحدثات إذ الأهلية إنما تتم بذلك. قيل: وإلى هذه الشهادة يشير قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (الإسراء: 44) فسبحان اللَّه والحمد يتضمنان إثبات الرب والواحد وجميع صفات الجلال والكمال له ونفي جميع النقائص عنه، فكأنه قائلها شاهد بذلك، وعلى جميع العالم بأنه مربوب مخلوق في قهره وتدبيره لا منعم عليه ولا قادر ولا مالك بالحقيقة سواه، فله من الأجر بقدر ما شهد به من الحق فملأ أجرهما ما بين السموات والأرض، نقله العلائي عن ابن برجان في الكلام على لا إله إلاالله.
قال العلائي: ويصح نقله إلى هنا (والصلاة) سيأتي معناها لغة وشرعاً إن شاء الله تعالى (نور) أي: محسوس: أي إن الصلاة نفسها تضيء لصاحبها في ظلمات الموقف بين يديه، ولم يجيء في فعل متعبد به أنه نور في نفسه سوى الصلاة، فالظاهر أن هذا النور خاص بها، وأصرح منه ما لأحمد بسند صالح عن ابن عمر، قال: «من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة يوم القيامة، وكان مع قارون وفرعون وهامان وأبيّبن خلف» وقيل: النور أجرها لا هي فتكون على تقدير مضاف، وقيل نور ظاهر على وجه المؤمن يوم القيامة، فالمراد بها: أي بسببها يعلو النور وجه المؤمن، فالإسناد مجازي من(1/149)
الإسناد للسبب. وقيل: النور معنوي لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتهدي إلى الصواب، فتصد عن المهالك وتوصل إلى طريق السلامة كما يستضاء بالنور. وقيل: نور القلب بسببها لاشتمالها على ما لم يجتمع في غيرها من أعمال القلوب والألسن والجوارح فرضاً ونفلاً، فالصلاة الكاملة يحصل بها من النور الإلهي في القلب ما لا يعبر عنه. قيل: ويمكن حمل النور على جميع ما تقدم من حقيقة اللفظ ومجازه على قاعدة الشافعي (والصدقة برهان) أي: حجة على إيمان مؤديها، وقيل: على أنه لبس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، وقيل: على حبه ورسوله فإنه آثر رضاهما على المال الذي جبل على حبه، وقيل: برهان له يوم القيامة إذا سئل عن ماله فيم أنفقه؟ يقول تصدقت به وقال صاحب «التحرير» : يجوز أن المتصدق يوسم يوم القيامة بسيمى يعرف بها فتكون برهاناً له على حال ولا يسأل عن مصرف ماله، وأيد بحديث أبي داود عن عقبةبن عامر مرفوعاً «كل امرىء في ظلّ صدقته يوم القيامة حتى يقضي بين الناس» فيكون هذا الظل برهاناً على صدق إيمانه أو على إخلاصه (والصبر ضياء) قيل: المراد هنا بالصبر الأعم من الصبر على طاعة الله وعن معصيته
وعلى المكاره ومنه الصوم، وقيل: المراد به صبر خاص وهو الصوم ورجحه صاحب «مطالع الأنوار» بأنه صرح به في رواية ورجحه غيره باقترانه بالصلاة والصدقة فكشفها وبين خصوصياتها وأن من استجمعها حصل له نور في (بياض) انتشر له ضياء وهو من الإضاءة انتشار النور، وهذا أكمل أحوال النور قال تعالى:
{هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً} (يونس: 5) وقال القرطبي، إن فسر الصبر بالصوم فالضياء النور وإن اختلف لفظهما. وإن فسر بالأعمّ فهو إضاءة عواقب الأحوال وحسنها في المآل اهـ.
قال الفاكهاني، ولم أر من فرق بين الضياء والنور، وقد فسر صاحب الصحاح النور بالضياء والضياء بالنور وردّ بأن كون الضياء هو النور، لأنه خصوصية في النور وزائد عليه وأبلغ منه. قال والحاصل أن النور الحادث قد يخلق كامل الضياء كالشمس ودون ذلك كالقمر، وإنما سوّى القرطبي بينهما لئلا يلزم تفضيل الصوم على الصلاة، وليس بلازم لأن مناط الفضل ليس منحصراً بل له أسباب كثيرة واعتبارات متنوعة، فيكون المفضول فاضلاً في وقت وبالعكس اهـ (وللقرآن) أي:(1/150)
كلام الله المنزل على حبيبه بقصد الإعجاز المتعبد بتلاوته (حجة لك) إن امتثلث أوامره واجتنبت نواهيه فتحتج به في المواقف التي تسأل فيها عنه كمسائل الملكين في القبر وكالمسألة عند الميزان وعند الصراط (أو) حجة (عليك) إن لم تمتثل أوامره ولم تجتنب نواهيه، وقيل: حجة لك في الدنيا وعلى المطالب الشرعية والأحكام، أو حجة عليك لخصمك المحق، فالمرجع إليه عند التنازع، وهو دال على اتباع السنة وهي على حجية القياس والكتاب والسنة دالان على حجية الإجماع فصار القرآن مرجع جميع الأحكام لكن بواسطة تارة، وبغيرها أخرى.
قال الفاكهاني: والأول أظهر. وقال العلائي: والآثار شاهدة به، ثم ساق أحاديث: منها للبيهقي بسند غريب عن جابر مرفوعاً «القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعلة خلفه ساقه إلى النار» ومنها عن أبي أمامة مرفوعاً «أقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعاً لصاحبه يوم القيامة. قال العلائي بعد إيراده حملة من الأحاديث: ورجح الزملكاني القول بذلك لهذه الآثار/ والحمل على مقتضى القولين أولى تكثيراً للفائدة. ثم لما بين فضل هذه القربات ورغب فيها وكان إعمال النفس لها يقتضي سعياً أتبع ذلك بأن أحداً لا يترك نفسه هملاً باطلة بل لا بد له من عمل يغدو له فقال: (كل الناس يغدو) أي: يبكر في مصالحه (فبائع نفسه) من الله (فمعتقها) من العذاب، وناهيك بها صفة اغتنام، إذ كان الثمن فيها دار السلام، والنظر إلى وجه الملك العلام. قال الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} (التوبة: 111) الآية.
وهؤلاء سعوا في خلاص نفوسهم وتوجهوا بقلبهم إلى ربهم وطلب ما عنده (أو) بائع نفسه لغير ربه من هواه أو الشيطان، فهو (موبقها) أي: مهلكها بالطرد عن ساحة الرضوان، وبالبعد والحرمان، نعوذ با من سخطه وأليم عقابه، ويحتمل أن يكون المراد ببائع مشتر: أي كلهم يسعى، فمنهم من يشتري نفسه بالأعمال الصالحة فيعتقها من العذاب، ومنهم من يعرضها للعذاب باكتساب المآثم فيوبقها. ورجح بأن نفسه ليست ملكه فيبيعها بل مملوكة مرتهنة بأعمالها حتى يخلصها. واختار القاضي عياض حمله على المعنيين: أي: من اشتراها بالأعمال الصالحة أعتقها، ومن باعها في الأعمال السيئة أوبقها، كما قيل في {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} (البقرة: 102) وهذا على قاعدة الشافعي في حمل(1/151)
المشترك على معنييه، ورد كل جملة إلى معنى، وهو نوع من الإيجاز بديع عند أرباب البيان لخصت معظم ما ذكرته في هذا الحديث من شرحه فقط للعلامة العلائي (رواه مسلم) ورواه أحمد والدارمي في «مسنده» وأبو عوانة في «صحيحه» والترمذي في «الدعوات» من جامعه، وقال إنه حسن صحيح، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وسها ابن عساكر وتبعه المزي فأغفلا في أطرافهما عن عزو هذا الحديث للترمذي، وأخرجه الطبراني في «معجمه الكبير» . ووقع في رواية أبي سلام عن أبي مالك الأشعري اختلاف. فمن ذكرناهم رووه عنه أبي مالك بلا واسطة، ورواه ابن ماجه وآخرون عنه عن عبد الرحمنبن غنم عن أبي مالك.
قال الحافظ السخاوي في «تخريج الأربعين» للمصنف بعد كلام طويل نقله في ذلك عن شيخه الحافظ: وبالجملة فالطريق الأولى: أعني كون أبي سلام سمعه من كل منهما، وكون الصحابي في الطريقين واحداً أولى.
262 - (وعن أبي سعيد سعدبن مالكبن سنان الخدري رضي الله عنه) الأولى عنهما لما سبق في ترجمته في باب التوبة من أنه وأباه كانا صحابيين (أن ناساً) في «تفسير البيضاوي» أصله أناس لقولهم إنسان وإنس وأناسي، فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوض عنها حرف التعريف ولذا لا يكاد يجمع بينهما، مأخوذ من أنس بوزن فرح لأنهم يستأنسون بأمثالهم، أو من آنس لأنهم ظاهرون مبصرون اهـ. وقيل: مقلوب نسي، وقيل مأخوذ من ناس ينوس إذا اضطرب وتحرك. قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : لم يتعين لي أسماؤهم إلا أن النسائي روي عن أبي سعيد ما يدل على أنه منهم، وذلك أنه قال: «سرحتني أمي إلى النبي، يعني لأسأله من حاجة شديدة، فأتيته وقعدت فاستقبلني وقال: من استغنى أغناه ا» الحديث. وزاد فيه «من سأل وله أوقية فقد ألحف، فقلت:(1/152)
ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله» اهـ (من الأنصار) بفتح الهمزة اسم إسلامي علم بالغلبة على أولاد الأوس والخزرج سموا به لنصرتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (سألوا رسول الله) حذف المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض به (فأعطاهم) أي: عقب سؤالهم ولم يتوان لما جبل عليه من مكارم الأخلاق والسماحة (ثم سألوه فأعطاهم) فتكرر منهم السؤال مرتين ومنه الإعطاء عقب كل مرة (حتى نفد) بكسر الفاء وبالدال المهملة، ففي الصحاح نفد الشيء ينفد نفاداً: فنى (ما عنده) أي: ذهب بالإنفاق جميع ما عنده (فقال) عقب نفاده تنفيراً لهم من الاستكثار مما زاد على الحاجة من الدنيا، وتحريضاً على القناعة، وحثاً على الاستعفاف. واللام في (لهم) هي لام المبالغة (حين أنفق) هو مختص بإخراج الشيء في الخير (كل شيء) معدّ للإنفاق كائن (بيده: ما يكن) كذا هو بالجزم فيما وقفت عليه من نسخ مصححة من الرياض وهو كذلك في أصل مصحح عندي من «صحيح مسلم» فتكون ما شرطية، وفي البخاري «ما يكون» بالرفع، قال الشيخ زكريا: فما موصول متضمن معنى الشرط، وجوابه على الوجهين قوله:
«فلن أدخره» (عندي من) بيانية (خير فلن أدخره) بتشديد الدال المهملة، وجاء إعجامها مدغماً وغير مدغم، وأصله ادتخر فقلبت التاء دالاً على اللغة الأولى وذالاً على اللغة الثانية، والمعنى: لا أجعله ذخيرة لغيركم معرضاً (عنكم) أو فلا أخبؤه وأمنعكم إياه (ومن يستعفف) بفك الإدغام فالفعل مجزوم بالسكون لفظاً: أي من طلب العفة عن سؤال الناس والاستشراف إلى ما في أيديهم (يعفه ا) أي: يرزقه العفة فيصير عفيفاً قنوعاً. وفي «النهاية» : وقيل: الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء، يقال عفّ يعف عفة فهو عفيف، وهو بفتح الفاء لأنها أخف الحركات، أو بكسرها لأنها اوصل في التخلص من التقاء الساكنين (ومن يستغن) أي: يظهر الغناء بالتعفف عما في أيدي الناس (يغنه ا) أي: يجعله غنيّ النفس ولا غناء لا غناؤها (ومن يتصبر) أي: يتكلف الصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا بأن يتجرّع مرارة ذلك ولا يشكو لغير مولاه (يصبره ا) أي: يعطه من حقائق الصبر الموصلة للرضى ما يهوّن عليه كل مشق ومكدّر؛ ولشرف مقام الصبر وعلوه، لأنه جامع لمكارم الأخلاق ومعالي الصفات فلا ينال شيئاً منها إلا من تحلى به، عقبه بقوله: (وما أعطي أحد عطاء) مفعول ثان لأعطى: أي ما أعطي أحد من(1/153)
خلق ولا مقام (خيراً) كذا هو بالنصب في النسخ، وفي البخاري: هو خير، وفي مسلم: خير، بحذف هو في رواية، وفي رواية بنصب خير (وأوسع من الصبر) .
قال الشيخ زكريا: خيراً هنا ليس بأفعل تفضيل بل هو كقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقرّاً} (الفرقان: 24) اهـ. ومعنى كونه أوسع: أن به تتسع المعارف والمشاهد والمقاصد. فإن قلت: مقام الرضى أفضل منه كما صرحوا به. قلت: هو غايته لأنه لا يعتد به إلا معه فليس أجنبياً عنه، إذ الصبر من غير رضى مقام ناقص جداً (متفق عليه) وكذا أخرجه أصحاب «السنن الأربع» ، وزاد رزين «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه» وهذه الزيادة أخرجها مسلم والترمذي من رواية عمروبن العاص كذا في «التيسير» للديبع.
273 - (وعن أبي يحيى صهيب) بضم المهملة وفتح الهاء بعدها تحتية ساكنة فموحدة (ابن سنان) بكسر المهملة ونونين بينهما ألف ابن مالكبن عمروبن عقيلبن عامربن جندلةبن جذيمةبن كعببن سعدبن أسلمبن أوس مناةبن النمربن قاسطبن هنساءبن أفصىبن دعمى ابن جديلةبن أسدبن ربيعةبن نزار الربعي النمري. كذا نسبه الكلبي وأبو نعيم، وصدّر به ابن الأثير في «أسد الغابة» ثم حكى في نسبه قولين آخرين. كناه بأبي يحيى، وإنما قيل له الرومي لأن الروم سبوه صغيراً فابتاعه منهم كلبي، ثم قدموا به مكة فشراه عبد الله ابن جدعان منهم فأعتقه وأقام معه إلى أن هلك عبد الله. وقيل: إنه هرب من الروم لما كبر وعقل فقدم مكة وحالف ابن جدعان، ولما بعث النبيّ أسلم، وكان من السابقين إلى الإسلام. قال الواقدي: أسلم هو وعمار في يوم واحد وكان إسلامهما بعد بضعة وثلاثين رجلاً وكان من المستضعفين بمكة الذين عذبوا، وقدم المدينة مع عليّبن أبي طالب في النصف من ربيع الأول، والنبيّ في قباء لم يرم: أي لم يبرح من مكانه بعد، وآخى النبيّ بينه وبين الحارثبن الصمة، شهد المشاهد كلها مع النبي. وعن أنس مرفوعاً «السباق أربعة أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق(1/154)
فارس، وبلال سابق الحبش «وكان عمر محباً لصهيب حسن الظن به، حتى إنه لما ضرب أوصى أن يصلي عليه صهيب وأن يصلي بالمسلمين حتى يتفق أهل الثوري على شخص، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون حديثاً، أخرج له مسلم ثلاثة أحاديث، ولم يخرّج له البخاري شيئاً. توفي بالمدينة سنة ثمان وثلاثين، وقيل: تسع وثلاثين وهو ابن ثلاث وسبعين ودفن بالمدينة (رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: عجباً) مفعول مطلق: أي أعجب عجباً وتعجب ابن آدم من الشيء إذا عظم موقعه عنده وخفي عليه سببه كما في «النهاية» (لأمر المؤمن) أي: الكامل، وهو العالم با الراضي بأحكامه العامل على تصديق موعوده (إن أمره) أي: شأنه (كله) بالنصب
تأكيد، وبالرفع مبتدأ خبره (له خير) والجملة خبر إن (وليس ذلك) الخبر في كل شأن (لأحد إلا المؤمن) الكامل، ووضع الظاهر موضع المضمر دفعاً للوهم وليشعر بالعلية: أي إن إيمانه الكامل سبب خيريته في كل حال (إن أصابته سرّاء) بفتح السين وتشديد الراء المهملتين: أي ما يسرّه (شكر) أي: عرف قدر نعمة مولاه فشكره (فكان) شكره (خيراً له) من السراء التي نالها لكونه ثواباً أخرويا (وإن أصابته ضرّاء) أي: ما يضرّه في بدنه أو ما يتعلق به من أهل أو ولد أو مال (صبر) واحتسب ذلك عند الله رجاء ثوابه ورضي به نظراً لكونه فعل مولاه الذي هو أرحم به (فكان) صبره في الضراء (خيراً له) لأنه حصل له بذلك خير الدارين، أما غير كامل الإيمان فإنه يتضجر ويتسخط من المصيبة فيجتمع عليه نصبها ووزر سخطه، ولا يعرف للنعمة قدرها فلا يقوم بحقها ولا يشكرها، فتنقلب النعمة في حقه نقمة وينعكس عليه الحال، نعوذ با من النقصان بعد الزيادة، ومن الحور بعد الكور (رواه مسلم) وكذا رواه الإمام أحمد من حديث صهيب أيضاً كما في «الجامع الصغير» .(1/155)
284 - (وعن أنس رضي الله عنه) تقدمت ترجمته (قال: لما ثقل النبيّ) بضم القاف من شدة المرض، ورواه الديبع في «التيسير» بلفظ «لما احتضر» بالبناء للمجهول من الاختصار، لكن في أصله «جامع الأصول» كما هنا، ولعل ما عند الديبع لفظ النسائي (جعل) من أفعال الشروع (يتغشاه) أي: يغشاه (الكرب) على وزن الضرب، أي: الشدة من سكرات الموت لعلو درجته وشرف رتبته. وفي الحديث «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» وقد أفرد بعض العارفين في هذا المعنى مؤلفاً سماه (القول الأجلّ، في حكمة كرب المصطقى عند حلول الأجل) وقد أوردته بجملته في «شرح الأذكار» (فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا) للندبة (كرب أبتاه) قالته لما رأته حل به فتألم قلبها وباح بما فيه لسانها مع كمال صبرها ورضاها يفعل ربها/ ومثل ذلك لا يقدح في الكمال.
ففي الحديث «العين تدمع، والقلب يجزع، ولا نقول إلا ما يرضي الرّب» وهذا محمول على أنها لم ترفع صوتها بذلك، وإلا لكان ينهاها، ثم عند النسائي عن ثابت بدل «واكرب أبتاه» واكرباه، والأوّل أصوب لقوله في نفس الخبر (فقال) أي: النبي (ليس على أبيك) أي: بالمظهر إيماء إلى أن سبب صدور ما تقدم من السيدة فاطمة هو البعضية، وكونه أصلاً لها (كرب بعد اليوم) أي: لا يصيبه نصب ولا وصب يجد له ألماً بعد اليوم لأنه ينتقل من دار الأكدار إلى دار الآخرة والسلامة الدائمة، إلى ما لا يعلم بأدناه من العطايا السنية والمراتب العلية فضلاً عن أعلاه، إلا من منحه وأولاه، وقد ورد «لا راحة للمؤمن دون لقاء ربه» فكيف بسيد السادات. فقد انتقل لمحل قرة عينه وراحة نفسه ودوام أنسه (فلما مات قالت) فاطمة (يا) حرف ندبة (أبتاه) بإسكان الهاء وأصله يا أبي فأبدلت الفوقية من التحتية لأنهما من الحروف الزوائد، والألف هي التي تلحق آخر الاسم عند الندبة وكذا الهاء وتسمى هاء السكت لحقت آخر المندوب للموقف عليها، ورأيته بضم الهاء في نسخ الرياض ولم يظهر لي وجهه لأن الهاء تلحق المندوب إلا في الوقف وهي فيه ساكنة وتحذف وصلاً، فالظاهر أن(1/156)
الضبط المذكور من بعض الكتاب (أجاب رباً دعاه إلى لقاه يا أبتاه من) أي: الذي، وحكى الطيبي عن نسخة من المصابيح كسر الميم على أنها حرف جر، والأول أولى، وفي نسخة من الرياض حذف من (جنة الفردوس) مبتدأ. والفردوس بستان يجمع كل ما في البساتين من شجر وزهر ونبات، قيل: وهي رومية معربة، كذا في «تحفة القارىء» . وفي «الجامع الصغير» حديث «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه سرّ الجنة» رواه الطبراني عن العرباض مرفوعاً.l والسرّ بالضم: الوسط، بمعنى الخيار لما في حديث آخر عند البخاري في كتاب الجهاد «إنه وسط الجنة، وإنه أعلى الجنة، وإن سقفه عرش الرحمن» وخبر المبتدإ قوله: (مأواه) أي: منزله، وعلى كسر الميم فهو مبتدأ خبره الظرف
قبله (يا أبتاه إلى جبريل) بكسر الجيم والراء وإسكان الموحدة والتحتية بعدها لام. وهو اسم عبراني، قيل: معناه عبد الرحمن، وقيل: عبد الله. وفي جبريل أحد عشر لغة ذكرتها في أوائل «شرح الأذكار» . والظرف متعلق بقوله: (ننعاه) أي: نرفع خبره إليه لأن الإنسان يذكر ما ينزل به من الأحوال لأصحابه على وجه الإخبار عما نزل. ولا يضر في الكمال إذا لم يكن فيه تسخط من القدر الإلهي ولا تجزع بحال.
قال العلقمي نقلاً عن الحافظ: زاد الطبراني في هذا الحديث «يا أبتاه من ربه ما أدناه» . ويأخذ من الحديث جواز التوجع للميت عند احتضاره مثل قول فاطمة «واكرب أبتاه» وأنه ليس من النياحة، لأنه أقرها على ذلك. وأما قولها بعد أن قبض «وا أبتاه» إلخ، فيؤخذ منه أن تلك الألفاظ إذا كان الميت متصفاً بها لا يمنع ذكره بها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهراً وهو في الباطن بخلاف ذلك، أو لا يتحقق اتصافه بها فيدخل المنع اهـ. (فلما دفن) بالبناء للمجهول (قالت فاطمة رضي الله عنها) جملة دعائية مستأنفة، وعبر عنه بالماضي تفاؤلاً بتحققه، وأعاد ذكرها لطول الكلام بينه وبين ذكرها أو لا،. ونظيره قوله تعالى: {أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} (المؤمنون: 35) (يا أنس أطابت أنفسكم) وعند الديبع: كيف طابت أنفسكم (أن تحثوا) أي: بأن تحثوا (على) قبر (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب) قال الحافظ: أشارت بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك لأنه يدل على خلاف ما عرفته فيهم من رقة قلوبهم وشدة محبتهم له، وسكت أنس عن جوابها(1/157)
رعاية لها، ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك إلا أنا قهرنا على فعله امتثالاً لأمره اهـ. وروي أنها أنشدت:
ماذا على من شم تربة أحمد
ألا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علىّ مصائب لو أنها
صبت على الأيام عدن لياليا
(رواه البخاري) في آخر «المغازي» من صحيحه، وكذا رواه النسائي وابن ماجه في «الجنائز» ، وأخرجه ابن ماجه أيضاً والترمذي في «الشمائل» بلفظ «لما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كرب الموت ما وجد قالت فاطمة: واكرب أبتاه» الحديث كذا في الأطراف. ومناسبة إيراده في باب الصبر صبره على ما هو فيه من سكرات الموت وشدائده، ورضاه بذلك وتسكين ما نزل بالسيدة فاطمة من مشاهدة ذلك بقوله: لا كرب على أبيك بعد اليوم: أي: أي فهذا التعب الشديد يحتمل لقصر زمانه، بل هو محبوب لكونه فعل الله سبحانه ولما يترتب عليه من الوصول إلى منازل الأحباب ونزل الكريم التي أعدها لنبيه، فلا يعلم أدناها فضلاً عن أعلاها غير من أولاه إياها.
295 - (وعن أبي زيد) وقيل: كنيته أبو محمد، وقيل: أبو يزيد، وقيل: أبو خارجة (أسامة) بضم الهمزة بعدها سين مهملة (ابن زيدبن حارثة) بمهملتين بينهما ألف وبعد الثانية مثلثة ابن شراحيلبن كعببن عبد العزيزبن زيدبن امرىء القيسبن عامربن النعمانبن عامربن عبدودّبن كنانةبن بكربن عوفبن عذرةبن زيد اللاتبن رفيدةبن ثوربن كلب، الكلبي نسباً، الهاشمي ولاء كما قال المصنف (مولى رسول الله) ولاء عتاقة منه على أبيه، وسرى منه لابنه (وحبه وابن حبه) بكسر الحاء فيهما: أي حبيبه. في «الصحاح» الحب: الحبيب مثل خدن وخدين اهـ. روى ابن عبد البرّ أن النبي قال: «إن أسامة لأحبّ الناس إليّ، أو من أحبّ الناس إليّ، وإني لأرجو أن يكون من صالحيكم فاستوصوا به خيراً» وفي «أسد الغابة» أن عمر رضي الله عنه لما فرض للعطاء جعل لابنه عبد الله ألفين ولأسامة خمسة آلاف، فقال له في ذلك عبد الله، فقال عمر: فضلته لأنه كان أحبّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، وكان أبوه أحب إليه من أبيك، زاد صاحب «الشفاء» : فقدمت حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنهما)(1/158)
الأولى رضي الله عنه لأن حارثة والد زيد صحابي أيضاً. وفي «أسد الغابة» : روى أسامةبن زيدبن حارثة «أن النبي دعا حارثة إلى الإسلام فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» أخرجه ابن منده وأبو نعيم اهـ. وأم أسامة هي بركة الحبشية أم أيمن مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاضنته، فأيمن أخو أسامة لأمه، وأمرّ أسامة على جيش فيهم عمربن الخطاب وأمره بالمسير إلى الشام فلما اشتد المرض بالنبي أوصى أن يسير جيش أسامة، فساروا بعد موته وقول ابن منده: إن النبي أمر أسامة في غزوة مؤتة غلط. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وثمانية وعشرون حديثاً، أخرج له منها في «الصحيحين» سبعة عشرة حديثاً اتفقا منها على خمسة عشر، وانفرد البخاري بحديثين. توفي بالجرف بعد قتل عثمان وحمل إلى
المدينة. قال أبو عمر: الأصح عندي أنه توفي في سنة أربع وخمسين/ وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع وخمسين (قال) أسامة (أرسلت بنت رسول الله) هي زينب، عن أبي العاص الربيع، كما قال في مصنف ابن أبي شيبة إليه (أن ابني) الذي استظهره الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» وقال إنه الصواب أن المراد منه أمامة بنت زينب، كما ثبت في مسند الإمام أحمد بسند الحديث المذكور عند البخاري ولفظه: أتى النبيّ بأمامة بنت زينب. ولا يشكل عليه أن أمامة عاشت بعده حتى تزوجها عليّبن أبي طالب وقتل معها، لأنه ليس في حديث الباب ما يدل على أنها قبضت حينئذٍ.
قال الحافظ ابن حجر: ولعل الله أكرم نبيه لامتثاله لأمر ربه وصبر ابنته، ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة بأن عافى ابنة ابنته في ذلك الوقت فعاشت تلك المدة، وهذا ينبغي أن يذكر في دلائل النبوّة اهـ. وعلى كونه صبياً ذكراً فيحتمل أنه ولد زينب، واسمه عليّ، أبو عبد اابن عثمانبن رقية، أو محسنابن عليبن فاطمة. قال الحافظ: وهذا أعني تقدير كونه ذكراً أقرب (قد احتضر) بالبناء للمجهول: أي حضرته مقدمات الموت (فأشهدنا) أي: أحضرنا (فأرسل يقرىء السلام) بضم أوله وهو مهموز والجملة المضارعية حال من فاعل أرسل (ويقول: إن ما أخذ) فلا ينبغي الجزع من أخذه لأن صاحب الحق إذا أخذ حقه لا يجزع منه، وقدم ذكر الأخذ على الإعطاء وإن كان متأخراً في الواقع اهتماماً بما يقتضيه المقام (وله ما أعطى) يعني أن الله تعالى إذا أعطى عباده شيئاً فلا يخرج بذلك الإعطاء عن ملكه بل هو باق عليه، بخلاف إعطاء المخلوق لمثله. قيل: ويحتمل أن يراد بقوله: «ما أعطى» ما أعطاه من الثواب على المصيبة أو الحياة لمن بقي بعد الموت، أو ما هو أعم(1/159)
من ذلك، و «ما» في الموضعين مصدرية: أي: الأخذ والإعطاء، ويحتمل أن تكون موصولاً اسمياً فيكون العائد محذوفاً: أي: ما أخذه وما أعطاه (وكل شيء) بالرفع جملة ابتدائية معطوفة على الجملة قبلها، ويجوز النصب عطفاً على اسم إن فيستحب التأكيد عليه، وقوله كل شيء: أي: من الأخذ والإعطاء أو الأنفس أو ما هو أعم من ذلك (عنده) والراد منه عندية العلم مجازاً للملازمة بينهما (بأجل مسمى) أي: معلوم مقدر فمحال أن يتقدم عليه أو يتأخر عنه. والأجل يطلق على الجزء الأخير، وعلى مجموع العمر (فلتصبر) على مقادير الله (ولتحتسب) أي: تنو بصبرها طلب الثواب من ربها ليحسب لها ذلك من عملها الصالح (فأرسلت إليه) أي: عقب مجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها كما يدل عليه العطف بالفاء التعقيبية (تقسم عليه ليأتينها) جاء في حديث عبد الرحمنبن
عوف: أنها راجعته مرتين وأنه قام في ثالث مرة وكأنها ألحت في ذلك لما ترجوه من دفع ما تجده من الألم عند حضوره بركة حضوره، وقد حقق الله رجاءها، وكان امتناعه أولاً للمبالغة في إظهار التسليم لأمرالله، ولبيان الجواز في أن من دعي لمثل ذلك لا تجب عليه الإجابة، بخلاف الوليمة (فقام ومعه سعدبن عبادة ومعاذبن جبل وأُبيّبن كعب وزيدبن ثابت ورجال رضي الله عنهم) الجملة حال من فاعل قام، وجملة رضي الله عنهم مستأنفة، وقد سمي منهم غير من ذكر في غير هذه الرواية: عبادةبن الصامت وأسامة راوي الحديث وعبد الرحمنبن عوف (فرفع) بالراء مبني للمجهول، وفي الكلام حذف دلّ عليه المقام، إذ تقدير الكلام: فمشوا إلى أن وصلوا إلى بيتها واستأذنوا فأذن لهم فدخلوا فرفع (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبيّ فأقعده) أي: وضعه (في حجره) بفتح الحاء وكسرها وسكون الجيم: الحضن (ونفسه تقعقع) بفتح التاء والقافين/ أي: تضطرب وتتحرّك زاد في رواية للبخاري «كأنها شنّ» وفي لفظ آخر «كأنها في شنة» (ففاضت عيناه) أي: النبيّ، وجاء التصريح في رواية شعبة (فقال سعد) أي: ابن عبادة مستبعداً ما رآه منه(1/160)
لما يعلمه من عادته من مقاومة المصيبة بالصبر عليها ووقع عند ابن ماجه «فقال عبادةبن الصامت» والصواب ما في «الصحيح» إن ما أخذ بالترجيح وإلا فلا منافاة، لإمكان صدوره من كل منهما (يا رسول الله ما هذا) أي: فيض الدمع، وجاء في رواية «قال سعدبن عبادة أتبكي؟» زاد أبو نعيم في «المستخرج» : «وتنهي عن البكاء» (فقال) (هذه) أي: الدمعة أثر (رحمة جعلها الله في قلوب عباده) أي: بعض عباده بدليل قوله: وفي رواية «قلوب من شاء من عباده» أي: ومثل هذا الفيضان الناشيء عن حزن القلب من غير تعمد من صاحبه ولا استدعاء لا مؤاخذة عليه فيه، إنما النهي عن الجزع وعدم الصبر، أو عما كان مع نوح أو ندب (وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) بالنصب على أن «ما» في إنما كافة وبالرفع على
أنها موصولة، والرحماء جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة، وقضيته أن رحمته تعالى تختص بمن اتصف بالرحمة الكاملة، بخلاف من فيه رحمة ما، لكن قضية خبر أبي داود وغيره «الراحمون يرحمهم الرحمن» أنها تشمل كل من فيه رحمة ما، إذا الراحمون جمع راحم، وهذا هو الأوجه، وإنما بولغ في الأول لأن القصد به الرد على من استبعد جواز فيض الدمع، ولأن لفظ الجلالة فيه دلّ على العظمة فناسب فيه التعظيم والمبالغة، ولما كان الرحمن يدل على المبالغة في العفو ذكر مع كل ذي رحمة وإن قلت، قاله ابن الجوفي (متفق عليه) في الديبع بعد إخراج الحديث إلى قوله: «ولتحتسب» ما لفظه أخرجه الخمسة إلا الترمذي (ومعنى تقعقع) بفتح الفوقية والقافين، مضارع حذفت إحدى تاءية تخفيفاً (تتحرك وتضطرب) والقعقعة: حكاية صوت الشيء اليابس إذا حرك.
306 - (وعن صهيب) بضم المهملة وفتح الهاء وسكون التحتية مصغر، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في الحديث الثاني من أحاديث الباب (أن) بفتح الهمزة، هي ومدخولها في(1/161)
تأويل مصدر مبتدأ خبره الظرف قبله: أي: عن صهيب قول رسولالله، ويجوز الكسر على إضمار القول: أي أروي عن صهيب حال كونه قائلاً إن (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان ملك) بكسر اللام، أي: ذو ملك بضم الميم (فيمن كان قبلكم) من الأمم السابقة (وكان له ساحر) وعند الترمذي «كان لبعض الملوك كاهن يتكهن له» أي: والروايات يفسر بعضها بعضا (فلما كبر) بكسر الموحدة: أي كبرت سنه، أما كبر بضم الموحدة ففي القدر قال تعالى: {كَبُرَت كلمة} (الكهف: 5) (قال للملك إني قد كبرت فابعث) أي: أرسل (إليّ غلاماً) زاد في رواية الترمذي «فهماً» أو قال: «فطناً» نعتان. والغلام لغة: الصبي من الفطام إلى البلوغ (أعلمه السحر) جملة مستأنفة جواباً للسؤال المقدر، وهو: ما تفعل به؟ وعند الترمذي «أعلمه علمي فإني أخاف أن أموت وينقطع عنكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، قال: فنظروا له على ما وصف» (فبعث إليه غلاماً يعلمه) ذكر القرطبي في «التفسير» أنّ الضحاك روى عن ابن عباس كان ملك بنجران وفي رعيته رجل له ابن/ واسم الغلام عبد ابن تامر، ثم ساق القصة بنحو ما عند مسلم (وكان في طريقه) أي: الغلام (إذا سلك) إلى الساحر (راهب) هو المتعبد من النصارى المتخلي من أشغال الدنيا التارك لملاذها بالزهد فيها الصابر على مشاقها المعتزل عن أهلها (فقعد) الغلام (إليه) أي: إلى الراهب (وسمع كلامه فأعجبه) زاد الضحاك في روايته «فدخل في دين الراهب» .
وعند الترمذي «فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب عن معبوده كلما مر به، فلم يزل حتى أخبره، فقال إني أعبد ا» (وكان) الغلام (إذا أتى) أي: أراد أن يصل (إلى الساحر مر بالراهب) لكونه في طريقه (وقعد إليه) لمحبته لنهجه (فإذا أتى الساحر) ووصل إليه (ضربه) وعند الترمذي «أن الكاهن أرسل إلى أهل(1/162)
الغلام إنه لا يكاد يحضرني» (فشكا ذلك إلى الراهب فقال) أي: الراهب (إذا خشيت الساحر) لتخلفك عندي في الذهاب إليه (فقل حبسني) أي: منعني (أهلي) أي: شغلهم، وجوّز ذلك إن قيل بإسلامه واستقامته، لأنه رأى أن مصلحة تخلفه عنده تزيد على مفسدة تلك الكذبة، فهو نظير الكذب لإصلاح الخصمين، أو أنه من باب الكذب لإنقاذ المحترم من التعدي عليه بالضرب (وإذا خشيت أهلك) لتخلفك عندي في العودة من عند الساحر (فقل حبسني الساحر، فبينما هو على ذلك) المذكور من التردد بين الرجلين (إذ أتى على دابة عظيمة) عند الترمذي قال بعضهم إن تلك الدابة كانت أسداً (قد حبست الناس) أي: منعتهم من المرور لخوفهم من صولتها (فقال) الغلام (اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟) أي: ينكشف لي ذلك (فأخذ) الغلام (حجراً فقال اللهم إن كان أمر الراهب) أي: ما هو فيه من الشئون والأمور (أحب إليك من أمر) أي: حال وشأن (الساحر فاقتل هذه الدابة) أي: عقب وصول الحجر إليها، ليكون ذلك آية على أحبية الراهب عندك، وقوله: (حتى يمضي الناس) يصح أن يكون غاية مترتبة على السؤال وأن يكون علة له (فرماها) الغلام (فقتلها) بتلك الرمية، وإسناد القتل إليه مجاز عقلي لكونه السبب الصوري في ذلك والفاعل حقيقة هو الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث إثبات كرامات الأولياء، وإهانة أعداء الله الأغبياء (ومضى الناس) أي: انطلقت ألسنتهم بالثناء عليه بالعلم. وعند الترمذي «ففزع الناس وقالوا قد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد» . ويحتمل أن يكون المراد فمضي الناس في تلك السبيل لزوال المانع من سلوكها (فأتى) الغلام (الراهب فأخبره) فيه وفيما بعده من جهة حكايته له وعدم إنكاره أنه لا بأس بذكر الإنسان مفاخره وحمد الناس له والثناء عليه بحضوره إذا لم يترتب عليه فتنة من نحو عجب (فقال له الراهب أي نبيّ أنت اليوم) المراد منه الحين كما في يومئذٍ (أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى) أي: من كمال اليقين وصدق الاعتقاد، وقوله: «قد بلغ إلخ» كالتعليل لما قبله (وإنك ستبتلى) بالبناء للمجهول، ثم يحتمل أن يكون هذا منه بطريق الكشف فيكون كرامة، أو بطريق الفراسة، أو بطريق العادة والتجربة، إذ من خالف الناس في منهجهم ابتلوه وآذوه (فإن(1/163)
ابتليت) بالبناء للمجهول، وأتى بحرف الشك ثانياً مع تحقيقه ذلك أوّلاً وتأكيده لأن ذلك بحسب ما قام عنده مما يقتضي وقوع ذلك حتى جزم به وأخبر عما عنده منه، وما هنا باعتبار الواقع وما يبرز في عالم الشهادة: فإن الفراسة قد تخطىء، والتجربة قد تتخلف، والكشف قد يعارض، أو قصد به التخفيف عن الغلام فلا يخاطبه بجملتين تدلان يقيناً على الابتلاء لئلا يصير في الكرب قبل حلول البلاء (فلا تدل) بضم المهملة (عليّ) بتشديد الياء (وكان) أي: صار (الغلام يبرىء الأكمه) أي: يحصل البرء عقب علاجه فالإسناد إليه مجاز عقلي، والأكمه بفتح الهمزة وسكون الكاف: هو الذي ولد أعمى (والأبرص) أي: من وقع به البرص داء معروف (ويداوي الناس من سائر) أي: جميع (الأدواء) أي: الأمراض والأسقام جمع داء والجملة معطوفة على «يبرىء» الخ، عطف عام على خاص، وخصا بالذكر لأنهما داءا إعياء (فسمع) أي: به وهي ثابتة في الحديث في نسخة مصححة من التيسير للدبيع غير أني لم أر ذلك في أصله
«جامع الأصول» فلعله من الكتاب (جليس للملك كان قد عمي فأتاه) أي: فأتى الجليس الغلام (بهدايا كثيرة، فقال) الجليس (ما) أي: الذي (هاهنا) أي: في هذا المكان من الهدايا كائن (لك أجمع) تأكيداً لما أو للضمير المنتقل للظرف المستقرّ، وما مبتدأ خبره لك، وهاهنا صلة الموصول، ورواه الديبع بلفظ «هي لك» ولعل نسخته من مسلم كانت كذلك (إن أنت شفيتني) أي: إن شفيتني أنت لا غيرك كما يؤذن به المقام، فإن شرطية وفعل الشرط محذوف ولما حذف انفصل الضمير المتصل به، وقوله: «شفيتني» تفسير لفعل الشرط المحذوف وجواب الشرط محذوف لدلالة سابق الكلام عليه، أي: إن شفيتني فلك جميع ما هاهنا (فقال) الغلام (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى) بفتح حرف المضارعة فيهما، والجملة الثانية مؤكدة لمضمون ما قبلها: أي إذا كان لا يشفي أحد إلا الله فلا أشفي أحداً، إذ لا شفاء إلا شفاؤه سبحانه وحذف المفعول من يشفي لعدم تعلق الغرض به نحو: زيد يعطي ويمنع، لبيان أنه يقع منه هذان الصنفان من غير تعرض لبيان المعطي والممنوع، أو للتعميم (فإن آمنت با دعوت الله فشفاك) من عماك الحسي كما شفاك بالإيمان من عماك المعنوي (فآمن) أي: الجليس (با تعالى) عقب قول(1/164)
الغلام لسبق العناية به، وليترتب عليه ما سبق ترتبه عليه في علم الله سبحانه (فشفاه ا) أي: حصل له الشفاء الموعود بترتبه على الإيمان ليزداد يقينه.
وزاد الترمذي «أنه أخذ عليه العهد إن رجع إليه بصره أن يؤمن بالذي رده عليه، فقال نعم، فدعا الله تعالى فردّ عليه بصره؛ فآمن الأعمى» وما في «الصحيح» مقدم على ما في غيره عند التعارض (فأتى) الجليس (الملك) بكسر اللام (فجلس) مفضياً (إليه) جلوساً (كما كان يجلس) أي: إن جلوسه بعد شفائه مماثل لجلوسه قبل حلول دائه (فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك) أي: إدراكك للمبصرات (قال ربي) أي: ردّه ربي، أو ربي ردّه، فالأول مراعاة للخبر، والثاني للمبتدإ (قال) يعني الملك (أو لك ربّ غيري؟) بتقدير همزة الاستفهام الإنكاري قبل العاطف: أي أو لك ربّ غيري (قال) يعني الجليس (ربي) أي: مالكي ومربيّ بألطافه (وربك) كذلك (ا) خبر عن قوله ربي، لأن المختلف فيه بينهما تعيينه ففيه قصر قلب (فأخذه فلم يزل) الملك (يعذبه) بتشديد الذال والتضعيف: إما باعتبار أنواع العذاب، أو باعتبار شدته وغلظه، ليدل على من علمه ما هو فيه (حتى) غائية (دل على الغلام فجيء بالغلام) أي: فأمر بالغلام فجيء به، وضع الظاهر موضع المضمر دفعاً لإيهامه أن المراد فأتي بالجليس (فقال له الملك أي بُنيّ) بضم الموحدة وفتح النون وكسر التحتية المشددة ويجوز فتحها أصله «بنيو» اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت في مثلها ثم أضيف للياء فاجتمعت ثلاثة ياءات فحذفت الثالثة تخفيفاً؛ وكسرت الثانية في لغة للدلالة على المحذوفة/ وفتحت وسكنت في أخرى تخفيفاً، قاله على سبيل التلطف به أو على ما جرت به العادة من مخاطبة الكبير للصغير (قد بلغ من سحرك ما) موصول اسمي أو نكرة موصوفة (تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل) كناية عن كثرة تصرفاته ومزيد أعماله، وفي نسخة: وتفعل ما تفعل (فقال: إني لا أشفي أحداً) رد لما يفهم من كلام الملك حيث نسب إليه إبراء المريض دون الله عز وجل، ثم أثبت الغلام ذلك وحده بقوله: (إنما يشفي الله تعالى) فهو قصر قلب وما كافة وإنما أداة
حصر على الصحيح كما تقرر في(1/165)
«الأصول» (فأخذه) أي: أخذ الملك الصبيّ (فلم يزل يعذبه) ليدل على من علمه ما هو فيه (حتى) غائبة أي كان غاية تعذيبه أن (دله على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك) حذف الفاعل لعدم تعلق الغرض، ودينه هو ما دل عليه كلامه وصرح به من عبادة الله عزّ وجلّ (فأبى) أي: امتنع أشد
الامتناع (فدعي بالمئشار) بالهمزة في رواية الأكثرين وهو الأفصح ويجوز تخفيف الهمزة وقلبها ياء، وروي «بالمنشار» بالنون لغتان صحيحتان، إذ يقال أشرت الخشبة ونشرتها (فوضع المنشار) بالبناء للمجهول (في مفرق رأسه) بكسر الراء: وسطه (فشقه حتى وقع شقه) على الأرض (ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى) أي: امتنع أشد امتناع (فوضع المئشار) بالهمزة وبالنون (في مفرق) بفتح الميم وكسر الراء: أي مكان فرق الشعر (رأسه فشقه) مستعيناً (به) أي: المنشار، واستمرّ يشقه (حتى وقع شقاه) بكسر الشين المعجمة: أي: جانباه على الأرض (ثم جيء بالغلام) ولعل تأخيره حتى يرى ما فعل بصاحبه فيرجع عما هو عليه (فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر) بفتح أوليه اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة: ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه (من أصحابه) أي: الملك: أي أتباعه وخدمه أو من أصحاب الغلام، ويؤيده قوله فيما يأتي: ما فعل أصحابك فقصد به زجرهم عن أن يقعوا فيما تسبب عنه عذابه (فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا) من ألفاظ الكنايات يكنى بها عن المجهول وعما لا يراد التصريح به قاله في «النهاية» (فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه) فاتركوه، بدليل (وإلا فاطرحوه) أي: وإلا يرجع فاطرحوه، فحذف فعل الشرط لدلالة سابق الكلام عليه (فذهبوا به فصعدوا) بكسر العين المهملة (به) أي: جعلوه صاعداً أو صعدوا بسببه أو معه (الجبل فقال) الغلام (اللهم اكفنيهم بما(1/166)
شئت) أي: بمشيئتك، فما مصدرية أو
موصولة، أي: بالذي شئت من أنواع الكفاية إما بإهلاكهم أو بغيره (فرجف) بفتح أوليه الراء فالجيم: أي تحرك واضطرب (بهم الجبل) فسقطوا أي: بسبب اضطرابه: وفيه نصر من توكل على الله سبحانه وانتصر به وخرج عن حول نفسه وقواها (وجاء) الغلام (يمشي إلى الملك) ليريه آية الله تعالى بنصر أهل دينه لينكشف عن قلبه حجب الغواية فيرجع إلى الإيمان (فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله تعالى) وحاق سوء فعلهم بهم (فدفعه إلى نفر) آخرين (من أصحابه، فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور) في النهاية هي السفينة العظيمة وجمعها قراقير (وتوسطوا به البحر) أي: ليبعد الغور فيتعذر الخلاص (فإن رجع عن دينه) فاتركوه (وإلا) أي: وإلا يرجع عنه (فاقذفوه) بكسر الذال المعجمة، أي: ارموه بقوّة (فذهبوا به) حتى بلغوا وسط البحر (فقال) الغلام (اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة) أي: انقلبت بهم (فغرقوا) يحتمل أنه كان معهم في القرقور فنجاته دونهم آية وهذا هو الأقرب/ ويحتمل أنه كان في قرقور آخر فغرق قرقورهم ونجا ما كان هو فيه (وجاء) الغلام (يمشي إلى الملك) ليريه الآيات الكبرى المرّة بعد الأخرى ليبصر ضياء الإيمان، ولكن لا تبصر أعين العميان (فقال له الملك ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى، فقال) الغلام (للملك: إنك لست بقاتلي) أي: في أي حال من الأحوال كما يقتضيه تأكيد النفي بزيادة الباء في الخبر (حتى تفعل) أي: إلا في حال أن تفعل (ما آمرك به، قال) الملك (ما هو) أي: أيّ شيء الأمر الذي تأمرني به (قال أن تجمع الناس في صعيد واحد) أي: أرض واحدة ومقام واحد (وتصلبني) بضم اللام من الصلب وهو تعليق الإنسان للقتل، وقيل: شد صلبه على خشبة، كذا في «مفردات الراغب» (على جذع) بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة: أي عود من أعواد النخل(1/167)
وجمعه جذوع (ثم خذ سهماً من كنانتي) بكسر الكاف وبنونين بينهما ألف: بيت السهام (ثم ضع السهم في كبد) بفتح
فكسر، أو بفتح، أو كسر مع سكون للثاني فيهما: أي وسط (القوس ثم قل) أتى بثم لتفاوت منزلة ما بعدها وما قبلها، وهي قد تستعار لذلك كما في «الكشاف» في قوله تعالى:
{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (البقرة: 199) وإلا فمقتضى المقام الإتيان بالفاء، لأن ذلك الذكر مطلوب منه عقب وضع السهم في كبد القوس بلا مهلة (باسم ا) .
قال المصنف في «شرح مسلم» نقلاً عن الكتاب إنها تكتب في هذا وأمثاله بإثبات الألف بعد الموحدة. قال: وإنما تحذف إذا كانت البسملة بجملتها لكثرته كذلك فخفف بحذفها (ربّ الغلام) تمم به الغلام لئلا يوهم الملك الحاضرين أن الغلام أراد بقوله باسم الله معبود ذلك الملك أو الملك وإن كان لفظ الجلالة لم يسم به غير الله تعالى، ونظيره ما حكي عن السحرة {قالوا آمنا بربّ العالمين ربّ موسى وهرون} (الأعراف: 121 - 122) وإلا فالجلالة أعرف الأسماء ومتعلق الأوصاف الحسنى (ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك) المذكور (قتلتني) إسناد القتل إليه مجاز عقلي: أتيت بما جعله الله سبباً لقتلي، وقصد الغلام من هذا الكلام إفشاء توحيد الله تعالى بين الناس وإظهار أن لا مؤثر في شيء سواه، ولم يفطن الملك لذلك لفرط غباوته (فجمع) الملك (الناس في صعيد) مقام (واحد وصلبه) الضمير المستكن يعود للملك والبارز للغلام (على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته) أي: كنانة الغلام (ثم وضع السهم في كبد) وتر (القوس، ثم قال: باسم الله ربّ الغلام) أي: أرميه لأقتله (ثم رماه فوقع السهم في صدغه) بضم الصاد وسكون الدال المهملتين: هو ما بين العين إلى شحمة الأذن (فوضع) الغلام (يده في) أي على (صدغه) لتألمه من السهم (فمات، فقال الناس) لما رأوا الآية العظمى الشاهدة تعالى بالوحدانية وأنه الفاعل المختار ولا فاعل سواه وأنه هو الإله (آمنا برب الغلام، فأتى) بصيغة المجهول (الملك) أي: حين وقع(1/168)
فيما حذر منه من توحيد الله تعالى والإيمان به (فقيل له
أرأيت) بفتح التاء: أي أخبرني (ما كنت تحذر) ما مبتدأ والجملة صلته والعائد محذوف أي تحذيره، والخبر (قد وا نزل بك حذرُك) أو ما كنت تحذر منه من إيمان الناس وقع بك، والفضل بين قد ومدخولها بالقسم للتأكيد والاهتمام الذي يقتضيه المقام (قد آمن الناس) تفسير للذي كان يحذر منه (فأمر) بالبناء للفاعل: أي الملك أو بالبناء للمفعول (بالأخدود) بضم الهمزة والدال المهملة الأولى وسكون المعجمة بينهما واو وبين الدالين (بأفواه السكك) الأفواه جمع فوه/ والسكك بكسر أوله المهمل وفتح ثانيه جمع سكة: وهي الطرق، والمراد من أفواهها أبوابها (فخدت) بضم الخاء المعجمة وتشديد المهملة أي شقت الأخاديد (وأضرم) بالبناء للمجهول (فيها) أي: في الأخدود (النيران) جمع نار (وقال) أي: الملك (من لم يرجع عن دينه) أي: الإيمان الذي صار إليه (فأقحموه) بهمزة القطع: أي ألقوه كرهاً (فيها أو) شك من الراوي (قيل له) أي: لمن لم يرجع عن دينه (اقتحم) أي: النار فالمفعول محذوف، والمراد أنه شك هل أمرهم بإلقاء من أبى، أو بأمره أن يلقى نفسه فيها (ففعلوا) أي: ما أمروا به من الأخدود وما بعده، واستمروا كذلك (حتى جاءت امرأة ومعها صبيّ لها) أي: في غير أوان الكلام كما أشار إليه المصنف، وزاد أنه كان سنه أكبر من سن صاحب المهد وإن كان صغيراً.
قلت: جاء في رواية عند أبي قتيبة: أنه كان ابن سبعة أشهر، ولم يذكره صاحب «الابتهاج» .
وفي «المعراج» : ذكر ابن المشاطة وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم. وقال غيره: وقد تكلم في الصغر جماعة وبلغ عدّه لهم عشرة. ولا ينافي خبر «الصحيحين» لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة وذكر عيسى وصاحب جريج وابن المرأة التي مر عليها بامرأة يقال لها: زنت، لاحتمال أنه قاله قبل أن يعلم الزيادة، أو أن المراد من بني إسرائيل، وقد نظم الحافظ جلال الدين السيوطي أسماءهم فقال:
تكلم في المهد النبيّ محمد
ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثم شاهد يوسف
وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم(1/169)
وطفل عليه مر بالأمة التي
يقال لها تزني ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون طفلها
وفي زمن الهادي المبارك يختم
قلت: وقد نظمت أسماءهم في أبيات ستأتي إن شاء الله تعالى في باب فضل ضعفة المسلمين (فتقاعست) أي توقفت ولزمت موضعها وكرهت (أن تقع فيها) أي: في النار (فقال لها الغلام) بلسانه (يا أماه) بسكون الهاء وهي الوقف لحقت آخر المندوب المتفجع عليه (اصبري) أي: على هذا العذاب فإنه يئول إلى جزيل الثواب (فإنك على) الدين (الحق) أي: الإيمان، وفي «الكشاف» : وقيل: قال لها قعي ولا تقاعسي، وقيل ما هي إلا غميضة. فصبرت (رواه مسلم) ، وكذا رواه الترمذي، وفيه بعض اختلاف وزيادة ونقص، وقوله في الحديث: (ذروته) أي: (أعلاه، وهي بكسر الذال المعجمة وضمها) وجمعها ذرى بضم ففتح (والقرقور بضم القافين) وإسكان الراء المهملة بينهما (نوع من السفن) تقدم عن «النهاية» أنه السفينة العظيمة (وانكفأت) السفينة (أي انقلبت، وتقاعست) بالقاف والعين والسين المهملتين (توقفت وجبنت) عن ولوج الأخدود، وقضية مراعاة سياق الحديث ذكر هذه المادة آخر ما يذكر من غريب الحديث، وقد وجد كذلك في أصل قديم (والصعيد هنا) أي: في قوله: «في صعيد واحد» (الأرض البارزة) ومن هذه المادة قوله في الحديث القدسي «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد» الحديث، وقيده بقوله هنا احترازاً عنه في نحو قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) فإن المراد منه التراب (والأخدود) بضم الهمزة (الشقوق) بضم أولِه جمع شق (في الأرض كالنهر الصغير، وأضرم) بالضاد(1/170)
المعجمة (أوقد) وفي الحديث بيان شرف الصبر، وأنه وإن عظم في الألم وتحمل الشائد فهو سهل في جنب ما أعد لصاحبه من الثواب. وفيه فضل الثبات على الدين وإن عذب بأنواع العذاب كما وقع من بلال في أول الإسلام، وإن كان يجوز في مثل هذه الحالة
الإتيان بألفاظ الكفر مع الإيمان القلبي لعذر الإكراه كما وقع من عماربن ياسر، إلا أن ما وقع من بلال أفضل لما في الحديث: «إن مسيلمة أخذ أسيرين من أصحاب النبي، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله فقال: ما تقول فيّ؟ فقال: وأنت: فأرسله، وقال للآخر ما تقول في محمد؟ فقال: رسولالله، فقال: وما تقول فيّ؟ فقال: لا أدري فلم يزل يسأله وهو يجيبه بذلك حتى قطعه إرباً إرباً، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أما أحدهما فقد أخذ برخصةالله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له» وأورد الحديث ابن كثير وغيره في تفاسيرهم.
317 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: مرّ النبيّ بامرأة تبكي عند قبر) قال في «فتح الباري» : لم أقف على اسم المرأة ولا على اسم صاحب القبر.
وفي رواية مسلم ما يشعر بأنه ولدها، وصرح به في مرسل يحيىبن أبي كثير عن عبد الرزاق فقال: قد أصيبت بولدها (فقال لها اتقي الله واصبري) .
وفي رواية أبي نعيم في «المستخرج» «فقال: يا أمة الله اتقي ا» .
قال القرطبي: الظاهر أنها كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى.
قال في «فتح الباري» : ويؤيده أن في مرسل يحيىبن أبي كثير المذكور «فسمع منها ما يكره، فوقف عليها» .
وقال الطيبي: قوله اتقي الله توطئة لقوله: واصبري، كأنه قال لها: خافي غضب الله إن لم تصبري واصبري ليحصل لك الثواب (فقالت إليك) اسم فعل بمعنى تنحّ وأبعد (عني فإنك لم تصب) بالبناء للمجهول (بمصيبتي) .
وفي رواية للبخاري: «فإنك خلو من مصيبتي» وهو بكسر الخاء وسكون اللام. ولمسلم «ما تبالي بمصيبتي» . ولأبي يعلى من حديث أبي هريرة «أنها قالت: يا عبد الله إني الحراء الثكلى، ولو كنت مصاباً لعذرتني» (ولم تعرفه) جملة حالية أي خاطبته بذلك غير عارفة أنه النبيّ (فقيل لها: إنه النبيّ) .
وفي رواية لأبي يعلى: «فمر بها رجل فقال لها: هل تعرفينه؟ قالت: لا» وللطبراني في(1/171)
«الأوسط» من طريق عطية عن أنس: أن الذي سألها هو الفضلبن العباس. زاد مسلم في رواية له «فأخذها مثل الموت» أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياء منه ومهابة (فأتت) للاعتذار (باب النبي فلم تجد عنده بوابين) .
قال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها: إنه النبي، استشعرت خوفاً وهيبة في نفسها وتصورت أنه مثل الملوك له حاجب أو بواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصوّرته (فقالت لم أعرفك) في حديث أبي هريرة: «وا ما عرفتك» (فقال) (إنما الصبر) أي الذي يحمد عليه صاحبه كل الحمد ما كان (عند الصدمة الأولى) أو عند مفاجأة المصيبة. بخلاف ما بعدها فإنه على عود الأيام يسلو، قاله الخطابي.
وقال الطيبي: صدر الجواب منه بهذا عن قولها لم أعرفك على أسلوب الحكيم، كأنه قال لها: دعي الاعتذار فإني لا أغضب لغيرالله، وانظري إلى نفسك في تفويتك الثواب الجزيل بعدم الصبر عند مفاجأة المصيبة.
وقال ابن المنير: فائدة جواب المرأة بذلك أنها لما جاءت طائعة لما أمرها به من التقوى والصبر معتذرة من قولها الصادر عن الحزن، بين لها أن حق هذا الصبر أن يكون في أول الحال فهو الذي يترتب عليه الثواب: أي كماله اهـ. (متفق عليه) وكذا أخرجه الترمذي والنسائي كما في «أمالي الأذكار» للحافظ ابن حجر، لكن في تيسير الوصول للديبع: أخرجه الخمسة إلا النسائي، يعني: الشيخين وأبا داود والترمذي فليحرر ذلك، (وفي رواية) أي أخرى (لمسلم تبكي على صبيّ لها) وهذه الرواية هي المشار إليها في كلام «فتح الباري» السابق المشعرة بأن صاحب القبر كان ابناً للباكية.
328 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى) هذا من الأحاديث القدسية وهي أكثر من مائة حديث جمعها بعضها في جزء كبير، والفرق بينه وبين القرآن أن القرآن اللفظ المنزل للإعجاز، والقدسي ما أخبر الله به نبيه بالإلهام أو رؤيا المنام أو غيره من كيفيات الوحي، فعبر عنه بعبارته، فلا يكون معجزاً ولا متواتراً(1/172)
كالقرآن، ولذا لم يثبت له شيء من أحكامه: من حرمة حمله ومسه على المحدث، وقراءته على الجنب، وبيعه في رواية عن أحمد، وكراهته عندنا، وحصول الثواب على كل حرف منه لقارئه بعشر حسنات وغير ذلك. ثم لروايته صيغتان تقدم ذكرهما في باب الإخلاص. وما عبر به في هذه الرواية فهو قريب من العبارة الأولى وهي عبارة السلف التي عبر بها المصنف ثمة، والله أعلم (ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت) بفتح الموحدة (صفية) أي: حبيبه لأنه يصافيه وده ويخلصه محبته، فعيل بمعنى فاعل أو مفعول (من أهل الدنيا) بيان للواقع (ثم احتسبه) بأن يرجو ثوابه ويدخره عند الله تعالى وذلك ينبىء عن الصبر والتسليم (إلا الجنة) أي دخولها مع الناجين، وذلك لا ينافي الورود تحلة القسم (رواه البخاري) في كتاب الرقاق من «صحيحه» .
339ــــ (وعن عائشة رضي الله عنها) جملة دعائية مستأنفة أو خبرية في محل الحال ونظيره فيهما جملة «» وينبغي أن يراد بهما الأول منهما لإحراز ثواب الدعاء به (أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن) شأن (الطاعون) وحقيقته كما يؤخذ من الأحاديث بثر مؤلم يخرج غالباً في الآباط مع لهب واسوداد حواليه وخفقان القلب والقيء، وهو كما قال الحافظ ابن حجر: أخصّ من الوباء لأنه وخز الجنّ، والوباء المرض العام (فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء) في نسخة من البخاري (على من شاء) أي من كافر أو عاص بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة (وجعله رحمة للمؤمنين) قال الشيخ زكريا في حاشيته على البخاري: أي غير مرتكبي الكبائر. والتخصيص يحتاج للتوقيف (فليس من عبد يقع في الطاعون) أي به أو في بلده، أو هو من قبيل التجريد نحو: {لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) .
وفي رواية بحذف في (فيمكث في بلده) التي وقع بها الطاعون (صابراً) على(1/173)
ما نزل به أو ببلده (محتسباً) أي راجياً للأجر والثواب من الله (يعلم أنه لا يصيبه) شيء (إلا ما كتب له) العائد على ما محذوف (إلا كان له مثل أجر الشهيد) وإن مات بغير الطاعون، فإنه حيث كان موصوفاً بما أشار إليه الحديث من قصده ثواب الله ورجائه موعوده، عارفاً أنه لو وقع به فبتقديرالله. وإن صرف عنه فكذلك، وهو غير متضجر لو وقع به معتمداً على ربه في حال صحته وسقمه كان له أجر الشهيد وإن مات بغير الطاعون كما هو ظاهر الحديث، ويؤيده رواية «من مات في الطاعون فهو شهيد» ولم يقل بالطاعون/ وكذا لو وجد من اتصف بهذه الصفات ثم مات بعد انقضاء زمن الطاعون، فإن ظاهر الحديث أنه شهيد، ونية المؤمن أبلغ من عمله، أما من لم يتصف بالصفات المذكورة فإن مفهوم الحديث أنه لا يكون شهيداً وإن مات بالطاعون. ومما يستفاد من هذا الحديث أن الصابر في الطاعون المتصف بالصفات المذكورة يأمن من فتان القبر لأنه نظير المرابطة في سبيلالله، وقد صح ذلك في المرابط كما في حديث مسلم وغيره اهـ ملخصاً من «فتح الباري» (رواه البخاري) وكذا أحمد والنسائي.
3410 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ يقول) جملة حالية عن مفعول سمعت، وأتى بها مضارعة بعد سمع: حكاية للحال الماضية (إن الله عز وجل) أي: عزّ شأنه وجل برهانه، وأتى بهما وإن كانا في المعنى متقاربين لأن مقام الثناء مقام إطناب، وهذا حديث قدسي لأنه روى عن ربه سبحانه أنه (قال) أي: بكلامه النفسي الذي هو صفة ذاته (إذا ابتليت عبدي) أي عاملته معاملة المبتلي: أي المختبر، فإن الابتلاء إنما يكون من الجاهل بعواقب الأحوال وا بكل شيء عليم، وهو يستعمل في الخير والشر (بحبيبتيه فصبر) على فقدهما محتسباً لأجرهما مدخراً له عند الله تعالى (عوّضته منهما) أي بدلهما فهو كقوله تعالى: {أرضيتم بالحيوة الدنيا من الآخرة} (التوبة: 38) (الجنة) أي: مع الفائزين أو منازل مخصوصة منهما (يريد) أي: النبي بحبيبتيه (عينيه) محضهما بذلك لأنهما أحبّ(1/174)
أعضاء الإنسان إليه (رواه البخاري) وأخرج الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله: «يقول الله عز وجل: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة» ووجه هذا الجزاء أن فاقدهما حبيس، فالدنيا سجنه حتى يدخل الجنة على ما ورد في الحديث: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» .
3511ــــ (وعن عطاء) بالمهملتين المفتوحتين والمد (ابن أبي رباح) بالراء المفتوحة وبالموحدة وبالمهملة. وفي «الكاشف» للذهبي: عطاءبن أبي رباح هو أبو محمد القرشي مولاهم المكي أحد الأعلام، روى عن عائشة وأبي هريرة، وعنه الأوزاعي وابن جريج وأبو حنيفة والليث، خرّج عنه الستة أي وغيرهم، عاش ثمانين سنة ومات سنة مائة وأربع عشرة، وقيل: خمس عشرة اهـ. وسأذكر زيادة على هذا في الكلام على ترجمته في «رجال الشمائل» أعانني الله على إتمامه (قال) عطاء (قال لي) اللام لام التبليغ (ابن عباس رضي الله عنهما: ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام أداة عرض بدىء بها ليتوجه السامع لما بعدها (أريك امرأة) من الإراءة البصرية ولذا تعدت لمفعول فقط (من أهل الجنة) في محل الصفة لامرأة (فقلت بلى، قال: هذه المرأة السوداء) اسمها: سعيرة بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية الأسدية، وكنيتها: أم زفر بضم الزاي وفتح الفاء والراء آخره (أتت النبي فقالت) مخبرة عما نزل بها من غير تبرم ولا تضجر، لأن البرّ يهدي إلى البرّ، طالبة منه الدعاء برفع دائها (إني أصرع) بضم الهمزة من الصرع: علة معروفة (وإني أتكشف) من التفعل.
وفي نسخة من الانفعال: أي ينكشف بعض بدني من الصرع (فادع الله لي) أي: بردع الصرع الناشىء عنه التكشف (قال إن شئت صبرت) بكسر تاء الخطاب فيهما وصبرت مفعول شاء: أي الصبر على هذا الدعاء محتسبة (ولك الجنة) .
وفي نسخة: «الأجر» ، جملة حالية أفادت فضل الصبر وجواب الشرط محذوف: أي فاصبري،(1/175)
ويجوز أن تكون صبرت جواب الشرط ومفعول شاء محذوف: أي إن شئت جزيل الأجر صبرت، ومثل هذا الإعراب يجري في قوله: (وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك، فقالت) مختارة للبلاء والصبر عليه لجزيل الثواب المرتب عليه (أصبر) أي على الصرع لأنه يرجع إلى النفس، ولما كان التكشف راجعاً لحق الله تعالى: إذ هي مأمورة بستر جميع البدن لكونه عورة (قالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها) فهي من أهل الجنة بوعد الصادق المصدوق (متفق عليه) .
قيل: أحاديث الباب تشعر أن نفس المصائب لا ثواب فيها إنما الثواب على الصبر عليها والاحتساب، وقد بسطت الكلام على ذلك في باب أذكار المريض من «شرح الأذكار» .
3612ــــ (وعن أبي عبد الرحمن) كنية (عبد ابن مسعود رضي الله عنه) ابن غافل بمعجمة وفاء ابن حبيب الهذلي. وكان ابن مسعود حالف في الجاهلية عبد الحارثبن زهرية. أسلم عبد الله قديماً بمكة سادس ستة لما مر به وهو يرعى غنماً لعقبةبن أبي معيط فأراه معجزة فأسلم، ثم هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد بدراً وبيعة الرضوان والمشاهد كلها؛ وصلى للقبلتين، وكان يكرمه ويدنيه ولا يحجبه، وكان مشهوراً بين الصحابة بأنه صاحب سرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسواكه ونعليه وطهوره في السفر، وبشره بالجنة وقال: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد» وكان يشبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هديه وسمته، ولي قضاء الكوفة ومالها في خلافة عمر وصدراً من خلافة عثمان، ثم رجع إلى المدينة، ومات بها، وقيل: بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة، وصلى عليه الزبير ليلاً ودفنه بالبقيع بإيصائه له بذلك لكونه كان قد آخى بينهما. روي له ثمانمائة حديث وثمانية وأربعون حديثاً، أخرجا منها أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين (قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ(1/176)
يحكي نبياً من الأنبياء) جملة حالية أتى بها بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، وبقوله: كأني أنظر إلخ. إشارة لكمال استحضاره لها.
قال مجاهد: وذلك النبيّ المحكيّ هو نوع عليه السلام، لكن تعقبه الحافظ في «الفتح» بأن ظاهر صنيع البخاري إذ أورد الحديث في أحاديث ترجمة ذكر بني إسرائيل أن النبيّ من أنبيائهم فيحمل عليه (صلوات الله وسلامه عليهم) وقوله: (ضربه قومه فأدموه) بيان للمحكيّ، ويحتمل على بعد كونه بياناً للحكاية فتكون الحكاية للفعل: أي أتى بفعل مثل فعل ذلك النبي المحكي فعله، والمحكي به ما وقع له بأحد من شج رأسه وكسر رباعيته (وهو) أي: ذلك النبيّ المحكيّ عنه، أو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وفي هذه الجملة أنواع من الصبر والحكم:
الأول: أنه مسح دمه لئلا يصيب الأرض فيحل بهم البلاء.
الثاني: أنه قابل جهلهم بفضله فدعا لهم بغفران ذنب تلك الجريمة منهم إن كان الدعاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مطلقاً وإلا لآمنوا عن آخرهم إذهو مجاب الدعوة.
الثالث: أنه اعتذر عن سوء فعلهم بعدم علمهم. ولا تنافي بين الدعاء بما ذكر إن كان من نوح، قوله: {لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} (نوح: 26) لإمكان حمل ما في حديث الباب على ما قبل إياسه من إيمانهم وما في الآية على ما بعده (متفق عليه) وينبغي للسالك التحلي بما فيه كما روي أن جندياً ضرب بعض العارفين وهو لا يعرفه/ فقيل إنه فلان، فعاد إليه معتذراً، فقال: إبي أبرأت ذمتك ودعوت لك لما ضربتني، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأنك كنت سبباً لدخولي الجنة فلا أكون سبباً لعذابك، فأكب على الشيخ وتاب.
3713 - (وعن أبي سعيد) الخدري سعدبن مالكبن سنان (وأبي هريرة) الدوسي عبد الرحمنبن صخر (رضي الله عنهما) حال كونهما راويين (عن النبي قال:) بيان(1/177)
للمرويّ (ما يصيب) بضم أوله (المسلم) حقيقة، وخص لأن الثواب الأخروي خاص به وهو مفعول الفعل (من نصب) بفتحتين: التعب، ومن صلة، ونصب فاعله (ولا وصب) بفتحتين: وجع دائم، خاص بعد عام، لما في الوجع كذلك من الشدة المؤدية إلى التضجر والسخر بالقضاء المحبط للثواب أو الإسلام والعياذ با، أو تأكيد بعطف مترادفات أو قريبة من الترادف اهتماماً بهذا المقام الخطير، ليكون العلم بعظم الثواب مانعاً من الوقوع في ورطة خطر الضجر (ولا همّ ولا حزن) فرق بينهما بأن الأول للمستقبل والثاني للماضي، وقيل غير ذلك مما بينته في باب «أذكار المساء والصباح من شرح الأذكار» .
قال وكيع: لم يسمع في الهمّ أنه كفارة إلا في هذا الحديث (ولا أذى) هو كل ما لا يلائم النفس فهو أعمّ الكل (ولا غمّ) هو أبلغ من الحزن لأنه حزن يشتد بمن قام به حتى يصير بحيث يغمى عليه (حتى) ابتدائية أو عاطفة أو بمعنى إلى الغائية بيان وتقريب لأدنى مراتب الأذى (الشوكة) بالرفع أو الجر (يشاكها) خبر أو حال، والضمير البارز هو المفعول الثاني على تقدير الجار، والنصب كذلك سماعي وهذا منه، أو على تضمين فعل متعد لاثنين: أي يذاقها، والأول مضمر نائب الفاعل يعود على المسلم من أشكته أدخلت في جسده شوكة (إلا كفر ا) استثناء من أعم الأحوال المقدرة: أي ما حصل لإنسان في حال المصيبة حال من الأحوال إلا الحالة التي يكفر الله (بها) أي: بسببها (من خطاياه) ابتدائية أو تبعيضية. قيل: وهو أولى لأن بعض الذنوب لا تكفر بذلك كحق الآدمي والكبائر (متفق عليه) وأخرجه الترمذي. وفيه أن الأمراض وغيرها من المؤذيات التي تصيب المؤمن مطهرة له من الذنوب، وأنه ينبغي للإنسان ألا يجمع على نفسه بين ضررين عظيمين: الأذى الحاصل وتفويت ثوابه، وقد ورد مرفوعاً «المصاب من حرم الثواب» (والوصب: المرض) أي: الدائم كما تقدم أو الشديد الكثير الأوجاع. قال في «الصحاح» : قد وصب الرجل يوصب فهو وصب وأوصبه الله فهو موصب. والوصب: المرض الشديد الكثير الأوجاع اهـ.(1/178)
3814 - (وعن) عبد الله (ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي) عائداً، وهو يوعك (بالبناء للمجهول) من الوعك، وسيأتي تفسيره في الأصل (فقلت: يا رسول الله إنك توعك) بالفوقية مبني للمفعول (وعكاً شديداً) يحتمل أنه عرف ذلك من لمس بعض أعضائه أو من ظهور الآثار عليه (قال أجل) بفتحتين وثانيه جيم وآخره لام ساكنة وتبدل الهمزة وموحدة فيقال بجل.
في «الصحاح» : أجل جواب مثل نعم. قال الأخفش إلا أنه أحسن من نعم في التصديق، ونعم أحسن منه الاستفهام اهـ. (إني) بيان للإجمال في قوله أجل (أوعك) بالبناء للمجهول (كما يوعك رجلان منكم) فالكاف مفعول مطلق، واحترز بقوله منكم عن نحو الأنبياء، فإنه يحتمل أنه وإن وعك أشد من وعكهم، زيادة في علوّ درجته المقتضية لمزيد الابتلاء الشاهد به «أشدكم بلاء الأنبياء» الحديث إلا أنه لا يكون وعكه كوعك اثنين منهم اهـ. والله أعلم (قلت: ذلك) أي زيادة الوعك (أن لك) بفتح الهمزة أي لأن لك (أجرين/ قال أجل ذلك) أي تضاعف الأجر (كذلك) أي كتضاعف المرض، ثم ذكر الدليل على ترتب الثواب على أنواع البلاء عند حصول الصبر فقال (ما من مسلم) من مزيدة للاستغراق فيدخل فيه الكامل وغيره (يصيبه) بضم أوله (أذى) أي: ما يتأذى به (شوكة) بدل من أذى وذكرها لأنها أخف أنواعه، ولما كان ما فوقها تعجز العبارة عن تفصيل جميعه أجمله بقوله: (فما فوقها إلا كفّر الله به سيئاته) أي الصغائر المتعلقة بحقوق الله تعالى (كما تحط الشجرة ورقها. متفق عليه) وكذا رواه أحمد كما قال الحافظ، وكذا رواه النسائي. وأخرج ابن سعد في «الطبقات» ، والبخاري في «الأدب المفرد» ، وابن ماجه والحاكم وصححه، والبيهقي في «الشعب» عن أبي سعيد قال: «دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محموم، فوضعت يدي فوق القطيفة، فوجدت حرارة الحمّى فوق القطيفة، فقلت: «ما أشد حمّاك يا رسول الله» قال: «إنا كذلك معشر الأنبياء يضاعف علينا الوجع فيضاعف الأجر» الحديث. ذكره صاحب «المرقاة في شرح المشكاة» (والوعك) بإسكان المهملة (مغث الحمى) أي حرارتها ووهنها للبدن وإضعافها إياه.
وفي «مختصر النهاية»(1/179)
للسيوطي: أنه ألم الحمى (وقيل الحمى) وهذا الحديث يشهد للقول المختار من حصول الأجر على الأمراض والأعراض: أي بشرط الصبر وعدم التبرم من القدر والسخط منه، وقد بسطت هذا المقام في «شرح الأذكار» .
3915 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من يرد الله به خيراً) حالاً ومآلاً (يصب منه) إما في بدنه أو ماله أو محبوبه. وفي الحديث: «المؤمن لا يخلو من علة أو قلة أو ذلة» وإنما كان خيراً حالاً لما فيه من اللجإ إلى المولى، ومآلاً لما فيه من تكفير السيئات أو كتب الحسنات أو هما جميعاً (رواه البخاري) في صحيحه ورواه الإمام أحمد (وضبطوا) أي شراح الحديث الصحيح (يصب) المذكور في الحديث (بفتح الصاد) أي المهملة على البناء للمفعول ولم يذكر الفاعل للعلم به وأنه الله سبحانه (وكسرها) على البناء للفاعل.
4016 - (وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتمنينّ) بتشديد النون (أحدكم) أي الواحد منكم (الموت) وفي التعبير بيتمنى دون يسأل إيماء إلى أنه قد يكون من المستحيل لعدم مجيء حينه، فحصوله حينئذٍ محال وإن كان بأنواع السؤال. فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار، والمنهي عنه على وجه التنزيه تمني الموت (لضرّ) بفتح الضاء المعجمة وتضم، وضبط هنا بذلك ضد النفع (أصابه) في نفسه أو ماله أو من يلوذ به أو نحوه، لما يدل عليه من الجزع في البلاء وعدم الرضا بالقضاء، أما تمنيه شوقاً(1/180)
للقاء ربّ العالمين أو شهادة في سبيل الله أو ليدفن ببلد شريف أو لخوف فتنة في الدين فلا كراهية فيه، وعليه يحمل ما جاء عن كثيرين (فإن كان) من أصابه الضرّ (لا بد) أي لا فرق ولا محالة كما في «القاموس» (فاعلاً) لتمني الموت لما قاساه من المحن الدنيوية التي لو كشف له عن حقائق اللطف فيها لرآها من «المنح الإلهية» ، ولو لم يكن فيها إلا رجوع العبد إلى مولاه، وخروجه عن حوله وقواه لكفاه، فكيف وهي سبب لتكفير الخطايا ورفع الدرجات (فليقل: اللهم) يا أ، فالميم عوض من حرف النداء؛ ولذا امتنع جمعهما إلا في ضرورة كقوله:
أقول يا اللهم يا اللهما
وقد بسطت الكلام فيما يتعلق بها في باب ما يقول إذا توجه إلى المسجد من «شرح الأذكار» (أحينى) بقطع الهمزة: أي أدم لي الحياة الحسية (ما كانت الحياة) المسؤولة بقوله أحيني، وما مصدرية ظرفية أي مدة كون الحياة (خيراً لي) بأن أوفق لمراضاة الله تعالى وأداء عبادته وأسلم من الخذلان والغفلة والنسيان (وتوفني) أي أمتني (إذا كانت الوفاة خيراً لي) بأن أنعكس الأمر (متفق عليه) وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حيان في «صحيحه» من طرق، وزاد في بعضها: «لضرّ نزل به في الدنيا» واختلف الصوفية في الأفضل: من طلب الحياة لما ورد من حديث: «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله» ولرجاء التوبة وحسن العمل وحصول الأمل أو يطلب الموت نظراً إلى الشوق إلى الله وحصول لقياه، وقد ورد «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه» وخوفاً من التغير ولقاء المحن والوقوع في الفتن. والمختار التفويض والتسليم كما دل عليه الحديث الشريف.
4117 - (وعن أبي عبد ا) كنية (خباب) بفتح المعجمة وتشديد الموحدة الأولى، وقيل: كنيته أبو محمد، وقيل أبو يحيى (ابن الأرتّ) بفتح الهمزة والراء وتشديد الفوقية آخره، ابن جندلةبن سعدبن خزيمةبن كعببن زيد مناةبن تميم، فهو (رضي الله عنه) تميميّ في قول الأكثر، وقيل: خزاعي، وقال بعضهم: إنه تميمي النسب خزاعي الولاء زهري الحلف(1/181)
لأن مولاته أم أنمار بنت سباع الخزاعية من حلفاء عوفبن عبد ابن عوفبن عبد الحارثبن زهرة. وهو من السابقين إلى الإسلام كان سادس ستة فيه، وعذّب في الله تعالى.
قال مجاهد: أول من أظهر إسلامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وأم عمار، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأما الآخرون: فألبسوهم أدرع الحديد ثم أصبروهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله من حرّ الحديد والشمس.
قال الشعبي: سأل عمربن الخطاب خباباً عما لقي من المشركين؟ فقال: يا أمير المؤمنين انظر إلى ظهري. فقال: ما رأيت كاليوم ظهر رجل.
قال خباب: لقد أوقدت نار وسجيت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري. شهد بدراً والمشاهد كلها، ولما هاجر آخى بينه وبين تميم مولى حراشبن الصمة، وقيل: آخى بينه وبين جبربن عتيك. مرض خباب مرضاً شديداً.
روى عن قيسبن أبي حازم قال: دخلنا على خباب وقد اكتوى سبع كيات فقال: لو ما أن رسول الله نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به. ونزل الكوفة ومات بها، وهو أول من دفن بظهر الكوفة من الصحابة، وكان موته سنة سبع وثلاثين.
وقال علي رضي الله عنه لما نعى له «رحم الله خباباً، أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وعاش مجاهداً وابتلي في جسمه، ولم يضيع الله أجر من أحسن عملاً» وكان سنه حين موته ثلاثاً وسبعين سنة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وثلاثون حديثاً اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد البخاري باثنين ومسلم بواحد، وخرّج عنه أصحاب السنن (قال: شكونا إلى رسول الله) أي ما بنا من أذى الكفار وعذابهم بدليل قوله في الرواية الثانية «وقد لقينا من المشركين شدة» (وهو متوسد بردة له) أي: جاعلها تحت رأسه. والبرد بضم الموحدة: الشملة المخططة، وقيل كساء أسود مربع فيه صور، والبردة واحد البرد وجمعه أبراد وأبرد وبرود كما في «القاموس» ، والجملة حالية من رسول الله / وكذا قوله: (في ظل الكعبة) ، ويصح أن تكون الثانية حالاً من الضمير في متوسد فتكون متداخلة (فقلنا) بيان لشكواهم إليه (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام أداة استفتاح أو عرض (تستنصر) أي تسأل الله النصر (لنا؟ ألا تدعو لنا) أي: بذلك أو نحوه من كفهم عنا ومنعهم من أذانا (فقال) محرّضاً لهم على الصبر (قد كان من) بفتح الميم: أي الذين (قبلكم) من الأمم (يؤخذ الرجل) أي المؤمن منهم فالجملة خبر والرابط محذوف: أي(1/182)
كان الذين قبلكم يؤخذ الرجل الذي آمن منهم ليعذب فيرجع عن إيمانه فما يرجع (فيحفر له في الأرض) بالبناء للمفعول والظرف نائب الفاعل وحذف الفاعل لعدم تعلق الغرض بعينه ويحتمل أنه مبني للفاعل: أي يحفر الآخذ، والظرف الثاني حال أو صلة يحفر (فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار) روى بالنون من نشرت الخشبة قال الحافظ في «الفتح» وهي أشهر في الاستعمال وبالهمزة من أشرت الخشبة بالمنشار، وبإبدالها ياء إما تخفيفاً أو من وشرت، ذكره ابن التين (فيوضع) أي المئشار (على رأسه) فيؤشر (فيجعل) أي يصير (نصفين ويمشط) أي يعذب (بأمشاط) جمع مشط، معروف (الحديد) أي يعذب بها (ما دون لحمه وعظمه) زيادة في تعذيبه
ليرجع عن إيمانه.
وفي نسخة من «البخاري» «ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب» و (ما يصده) أي: يمنعه أو يصرفه (ذلك) المذكور من أنواع العذاب. واستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع للبعيد مع قربه، لأن الملفوظ به لكونه عرضاً لا يلقى زمانين كالبعيد، فأشار إليه بما يشار به للبعيد (عن دينه) والثبات عليه، وفيه مدح الصبر على العذاب على الدين، وعدم إقرار عين الكافر باللفظ بكلمة الكفر وإن كانت جائزة حينئذٍ للإكراه كما تقدم (وا) فيه الحلف من غير استحلاف، وهو مندوب لتأكيد ما يحتاج لتأكيده (ليتمن) بفتح التحتية (هذا الأمر) بالرفع فاعل يتم، وفي نسخة بضم التحتية ونصب الأمر على أنه مفعول يتم: أي ليتمنّ اهذا الأمر: أي دين الإسلام (حتى يسير) بالنصب لأنه مستقبل بالنسبة لما قبل زمن التكلم به (الراكب) التقييد به جرى على الغالب من أن المسافر يكون راكباً فلا مفهوم له، والمراد الجنس فيشمل ما فوق الواحد، أو يفهم ما فوقه من باب أولى لأنه إذا أمن الواحد مع انفراده فالعدد الأولى (من صنعاء) بالمد: مدينة عظيمة باليمن، وقيل إنها مدينة بالشام (إلى حضرموت) مدينة بقرب اليمن؛ وهو مركب مزجيّ غير مصروف لذلك وللعلمية (لا يخاف) أحداً (إلا ا) جملة حالية من فاعل يسير، والمعنى أن الإسلام يعم النواحي فيسير المسافر لا يخشى أحداً يعذبه على إيمانه ولا يفتنه في دينه فلا يخاف إلا الله سبحانه (و) لا يخاف إلا من الأسباب العادية على أموره والدنيوية فيخاف (الذئب) بكسر المعجمة بعدها تحتية بهمزة على الأصل وقد لا تهمز: سبع معروف أن يعدو (على غنمه) والسارق أن يغير على ماله ونعمه (و) تمام هذا الأمر: أي الإسلام وظهوره على سائر الأديان كائن(1/183)
البتة (لكنكم تستعجلون) أي: تطلبون العجلة في الأمور ولكل شيء في علم الله أوان وإذا جاء الأوان يجيء.
وقد وقع ما أخبر به المصطفى كما أخبر، فعم الإسلام وظهر وصار الراكب لا يخشى من يفتنه ويصده عن دينه: إنما يخشى بوائق الحدثان وبا المستعان، فهو من جملة علامات نبوّته، ولا يخالف هذا الحديث ما نقله ابن الأثير في «أسد الغابة» عن أبي صالح قال: «كان خباب قيناً يصنع السيوف؛ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يألفه ويأتيه/ فأخبرت ملاوته بذلك فكانت تأخذ الحديدة الممحاة فتضعها على رأسه، فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اللهمّ انصر خباباً؛ فاشتكت مولاته أم أنمار رأسها، فكانت تعوي مثل الكلاب، فقيل لها اكتوي، فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها» اهـ. لتعدد الوقعات، واختلاف الأقوال لاختلاف الأحوال، والله أعلم. (رواه البخاري) في علامات النبوّة وفيما يأتي وفي كتاب الإكراه، ورواه أبو داود والنسائي.
(وفي رواية) أي: للبخاري في باب ما لقي النبيّ وأصحابه من المشركين بمكة (وهو متوسد بردة) وفي نسخة «ببرد» أتى بها مع أنها في الرواية السابقة ليبين بها محل قوله: (وقد لقينا) أي معشر ضعفاء المسلمين (من المشركين شدة) أي: عظيمة كما يؤذن به التنوين، فكانوا يلقون بلالاً على قفاه في وقت الظهيرة ويجعلون على صدره الصخرة العظيمة، وكانوا يلقون خباباً على ظهره على النار وجعلوا سمية أم عمار بين جملين وأدخلوا في قلبها رمحاً فماتت رضي الله عنهم أجمعين، ثم هذه الشدائد التي حلت بأولئك الأماجد لكمال استعدادهم زيادة في علو درجاتهم ورفع شأنهم، وفي الحديث الشريف: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» وعلى قدر المقام يكون الابتلاء. وقد كانت قلوبهم راضية وأنفسهم بذلك مطمئنة، حتى لقد رد بعضهم جوار أقاربه للكفار، ورضي أن يعذب في الله ويبتلى فيه مع الأخيار، وشكواهم ليست عن تطجر ولا تبرم، وإنما هي لأنهم رأوا أن في السلام من ذلك(1/184)
تفرغاً للعبادة، وتوجهاً إلى كمال السعادة، فأرشدهم المصطفى إلى أن غاية الأدب الصبر على مراد الله والرضا بقضاءالله.c
لا ينعم المرء بمحبوبه
حتى يرى الراحة فيما قضى
2418 - (وعن) عبد الله (بن مسعود) الهذلي وهو المراد إذا أطلق ابن مسعود (رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين) أي: زمن غزوتها: وهي واد بين مكة والطائف وراء عرفات، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً وهو معروف، وكانت وقعة حنين في شوال سنة ثمان من الهجرة عقب فتح مكة (آثر) بالمد أي: أعطى (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً) من المؤلفة ومن الطلقاء ومن رؤساء العرب يتألفهم (في القسمة) لغنائم هوازن (فأعطى الأقرع) بالقاف الساكنة بعدها مهملتان، لقب به لقرع كان في رأسه (ابن حابس) بالمهملة أوله وآخره وبعد الألف موحدة، وهو من سادات تميم، كان شريفاً في الجاهلية والإسلام (مائة من الإبل وأعطى عيينة) بضم المهملة وفتح التحتية الأولى (ابن حصن) بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية بعدها نون، ابن بدر الفزاري (مثل ذلك) مفعول ثان. ويحتمل أن يكون مفعولاً مطلقاً، أي: إعطاء مثل ذلك الإعطاء، والأول أقرب (وأعطى ناساً من أشراف العرب) والطلقاء وضعفاء الإيمان (وآثرهم) أي أعطاهم عطايا نفيسة (يومئذٍ) أي: يوم حنين (في القسمة) لغنائمها تألفاً لهم، وترك أقواماً اعتماداً على ما وقر في قلوبهم من نور الإيمان وشمس العرفان.
وفي الحديث الصحيح عن سعد مرفوعاً: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه» .
والناس قال الراغب في «مفرداته» : قيل أصله أناس فحذف فاؤه لما أدخل عليه أل. قلت وتقدم مثله عن البيضاوي، والناس قد يذكر ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوّزاً، وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانية وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به فإن كل شيء عدم وصفه المختص به لا يكاد يستحق اسمه اهـ. (فقال رجل) هذا لفظ مسلم.
وعند البخاري «فقال رجل من الأنصار: هذه قسمة ما أريد بها وجهالله، فقال: لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصير» .
قال ابن الملقن: وقوله في البخاري: «إنه من الأنصار» غريب. قلت: قال الشيخ زكريا في «تحفة القارىء» : اسمه: معتببن قشير اهـ. وهو بضم الميم وفتح المهملة وتشديد الفوقية آخره موحدة وهو من الأنصار: أي من قبيلتهم، وهو الذي روى(1/185)
عنه الزبير أنه قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا. أما الذي قال: اعدل يا رسول الله فاسمه ذو الخويصرة وهو أبو الخوارج، وظاهر كلام عياض في «شرح مسلم» أنه هو القائل عن النبي ما ذكر في هذا الخبر والله أعلم. فإن صح ذلك فيكون معنى قوله: إنه من الأنصار: أي حلفاً أو ولاء (وا إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه ا) الأوجه أنه إنما ترك قتل قاتل هذا الكلام مع أن سبه كفر يقتل به فاعله، لئلا يتحدث الناس بأنه يقتل أصحابه فينفروا عن الإسلام فعامله معاملة غيره من المنافقين.
قال القاضي عياض: وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم وعدوه من جملتهم، قال ابن مسعود (فقلت: وا لأخبرنّ رسول الله) ليحذر منه وليعلم ما أخفاه من حاله، وليس هذا من باب نقل المجالس وهي بالأمانة، لأن ذاك في غير نحو هذا، أما هذا فمن النصيحة ولرسوله وللمؤمنين (فأتيته فأخبرته بما قال) مما يدل على حجب بصيره قائله عن مشكاة أنواره وإلا فلو أشرق فيه بعض ذلك النور لامتلأ قلبه من الخيور وعلم أنه الطبيب الحاذق الذي يداوي كل سقيم ويذهب كل ضير وألم {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} .
قال ابن مسعود: (فتغير وجهه) كما هو قضية طبع البشر عند حصول مؤذ للنفس (حتى كان) أي: صار (كالصرف) هذا لفظ رواية مسلم.
وفي رواية البخاري في باب بدء الخلق «فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه» (ثم قال) راداً عليه ما نسبه إليه من عدم العدل (فمن يعدل) استفهام إنكار فهو في معنى ما يعدل أحد (إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال) مبيناً أن الصفح عن عثرات اللئام سنة قديمة في الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام (يرحم الله موسى) أتى به مع أن الأكثر من هديه في الدعاء: أي عند ذكر أحد من الأنبياء كما قيده به الدمير في الديباجة، أن يبدأ بنفسه فيقول مثلاً غفر الله لنا ولفلان، اهتماماً بشأنه لأنه ذكر في مقام المدحة له والتأسي به (قد أوذي بأكثر من هذا) أي: من أذى السفهاء والجهال له فقالوا إنه آدر: وذلك منهم غاية العتوّ ونهاية الاختلاق؛ قال العراقي في «شرح التقريب» : (فصبر) على أذاهم وقابل جهلهم بحلمه، وهو المقتبس من مشكاته كل خلق(1/186)
حسن (فقلت لأجرم) مذهب الخليل وسيبونه أنهما ركبا من لا وجرم وبنيا، والمعنى: حق، وما بعدها رفع به على الفاعلية.
وقال الكسائي: معناها لا صدّ ولا منع، فيكون جرام اسم لا وهو مبني على الفتح، وقيل غير ذلك، وعلى القول الأول فالتقدير: حق أن (لا أرفع إليه بعدها) أي هذه المرة (حديثاً) يقع من أولئك فيه نفثات ألسنتهم بما تخفيه صدورّهم: أي مما لا يعود بضرر على النبيّ ولا على الإسلام وإنما رأى ذلك لأنه رأى أن كلامه حصل منه بعض التعب للنبي حتى رأى أثر الغضب من تلك الحمرة في بشرته الشريفة، ومع ذلك صفح عن ذلك القائل كيلا يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه (متفق عليه) رواه البخاري في أبواب الخمس وفي الأنبياء وفي الدعوات وفي الأدب. ورواه مسلم في الزكاة (وقوله) في الحديث: (كالصرف هو بكسر الصاد المهملة) وسكون الراء أخوه فاء (وهو صبغ أحمر) زاد في «شرح مسلم» يصبغ به الجلود، قال ابن دريد: وقد يسمى الدم أيضاً صرفاً اهـ.
19 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا أراد الله يعبده) المراد عقابه (الخير عجل له) في جزاء سيئاته (العقوبة في الدنيا) ببلاء في نفسه أو بموت صديقه أو بفقد ماله ونحوه، فيكون ذلك إذا سلم من التبرّم من الأقدار كفازة لجناياته فيوافي القيامة وقد خلص من تبعة الذنب ودركه، فإن لم يكن من أرباب المخالفات ونزل به بلاء كان زيادة في درجاته، وعليه يحمل حديث: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمتل فالأمثل» (وإذا أراد الله بعبده) المذكور (الشر) من للعقاب والعذاب (أمسك عنه) الأذى (بذنبه) الباء بمعنى فيه، أو سببية 4 يعني أن تأخير ما ذكر عنه وبقاءه في تبعات ذنبه من أسباب ذنبه، ففيه استدراجه من حيث لا يشعر (حتى يوافي به) أي: يذنبه حاملاً له على كاهله (يوم القيامة) فيجازى به، وأين جميع أهوال الدنيا ومضايقها من ساعة من عذاب النار وما فيها(1/187)
من الأغلال والأنكال؟ وفي الحديث الحثّ على الصبر على ما تجري به الأقدار، وأنه خير للناس في الحال والمآل، فمن صبر فاز: ومن تبرّم بالأقدار فقدر الله لا يرد، وفات المتبرّم أعالي الدرجات وتكفير السيئات وا وليّ التوفيق.
(و) عن أنس (قال النبيّ) مؤكداً لما دل عليه ما قبله مبيناً له (إن عظم) بكسر المهملة وفتح المعجمة في المعاني (الجزاء) أي الثواب في الآخرة كائن (مع عظم البلاء) فمن حلّ به خلاف ما يهواه الإنسان بالطبع من الشدائد فليفرح بها، لما فيها من التخصيص وإجزال العطاء، فإن لم يكن من أهل مقام الرضا فلا أقل من أهل مقام الصبر (وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم) لأنه لو تركهم وزهرات الدنيا ربما استغرقت فيها قلوبهم: فاستغلوا بها عن مربوبهم كما وقع ذلك للكفار وأرباب الغفلات، فمن أراد الله إقباله عليه قطع عنه العلائق وأنزل به أنواع البلايا لتقوده إلى الرجوع إلى مولاه في كل ساعة، وأي نعيم يوازي نعيم الشهود، وأي جحيم يساوي الغفلة والتبعيد (فمن رضي) بما جرى به القدر ولم يتبرم ولم يتضجر (فله الرضا) بالاختصاص الإلهي والفيض الرباني والثواب الجزيل والأجر الجميل، قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) (ومن سخط) من ذلك وتبرم من تلك المقادير (جرى المقدور) إذ لا مانع لما أراد سبحانه (وله) أي الساخط (السخط) بفتحين أو بضم فسكون: الانتقام أو إرادته، لما فيه من معارضة الأقدار الإلهية والاعتراض على الأحكام الربانية، وليس ذلك من شأن العبيد، وا يفعل ما يريد (رواه الترمذي) في «جامعه» (وقال حديث حسن) هو ما رواه العدل الضابط غير تامهما، أو المستور وانجبر وقد سلم من الشذوذ والعلة، وفي معنى حديث الباب ما أخرجه الترمذي أيضاً عن جابر قال: قال رسول الله «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البلاء الثواب أن لو كانت جلودهم قرضت في الدنيا بالمقاريض» .(1/188)
4420 - (وعن أنس) الأخضر: وعنه (رضي الله عنه قال: كان ابن) هو الذي قال له: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟» وحديثه ذلك عند الترمذي في «شمائله» . قيل كناه بما ذكر إشارة إلى قصر عمره. وعند ابن ماجه حديث في قصة تزويج أم سليم بأبي طلحة بشرط أن يسلم/ وقال فيه: «فكلمت فولدت غلاماً صبيحاً، فكان أبو طلحة يحبه حباً شديداً، فعاش حتى تحرّك فمرض، فحزن أبو طلحة عليه حزناً شديداً حتى تضعضع، وأبو طلحة يغدو ويروح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فراح روحة فمات الصبيّ» (لأبي طلحة) اسمه زيدبن سهل الأنصاري، والابن أخ لأنس من أمه أم سليم (رضي الله عنه) الأولى رضي الله عنهما لأنه ذكر صحابيان الابن وأبوه (يشتكي) أي: مريض، وليس المراد أنه صدرت منه شكوى، لكن لما كان المريض يحصل منه ذلك استعمل في كل مريض (فخرج أبو طلحة) أي إلى النبي (فقبض) بالبناء للمجهول (الصبي) زاد الإسماعيلي في روايته: «فأمرت أمه أنساً أن يدعو أبا طلحة وألا يخبره بموت ابنه» (فلما رجع أبو طلحة) إلى بيته، جاء في رواية الإسماعيلي «وكان أبو طلحة صائماً» (قال ما فعل ابني) أي ما قام به من صحة أو زيادة مرض (فقالت أم سليم) بضم المهملة مصغراً. واختلف في اسمها، فقيل سهلة، وقيل رميثة ومليكة والغميصاء والرميصاء (وهي أم الصبي) جملة معترضة (هو أسكن ما كان) أي أسكن أكوانه فإنه كان في القلق والاضطراب للنزع فذهب ذلك حينئذٍ، وظن أبو طلحة أنها أرادت هو أسكن من الألم لحصول العافية وفي عبارتها التوجيه (فقربت له العشاء) بفتح المهملة ممدوداً، الطعام الذي يؤكل عند العشاء، وهو ما بين المغرب والعتمة (فتعشى ثم أصاب منها) أي جامعها.
وفي رواية تأتي: «أنها تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها» (فلما فرغ) من حاجته (قالت: واروا) أي: استروا (الصبي) بالدفن (فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره) أي بما عدا الجماع بدليل قوله: (فقال:(1/189)
أعرستم الليلة) المراد منه هنا الوطء وسماه: إعراساً لأنه من توابع الإعراس، ولا يقال فيه بالتشديد كذا في «النهاية» : وهمزة الاستفهام مقدرة (قال: نعم) بفتح أوليه وسكون ثالثه، وبكسر ثانيه في لغة كنانة، وقد تبدل عينه حاء، حكاه النضربن شميل، وهي من حروف الجواب لتصديق مخبر أو إعلام مستخبر أو وعد طالب (قال: اللهم) أي يا أ (بارك لهما) دعا لهما بالبركة وهي النماء والزيادة (فولدت) من ذلك الوطء المدعو بالبركة فيه (غلاماً) هو عبد الله.
قال أنس: (فقال لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبيّ) ليحلّ نظره الشريف عليه (وبعث معه بتمرات) بفتح الميم ليحنكه بها، والتحنيك بالتمر تفاؤل بالإيمان، لأنها ثمرة الشجرة التي شبهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمن ولحلاوتها أيضاً: (فقال) أي النبيّ، وفي الكلام حذف تقديره: فحملته حتى أتيت به النبيّ فقال (أمعه شيء؟) أي: يحنك به (قال) أنس: (نعم) بفتحتين فسكون (تمرات) مبتدأ خبره محذوف اكتفاء بذكره في السؤال: أي معه تمرات (فأخذها النبي فمضغها) لتختلط بريقه الشريف ويقدر الصبي على إساغتها، فيكون أول ما يدخل جوفه الممتضغ بريق المصطفى فيسعد ويبارك فيه (ثم أخذها) أي: التمرات الممضوغات (من فيه فجعلها في فيّ الصبيّ) أي في فمه، ولا يخفى ما فيه من الجناس التام (ثم حنكه) في «الصحاح» : حنكت الصبي وحنكته إذا مضغت تمراً أو غيره ثم دلكته بحنكه، والصبيّ محنوك ومحنك اهـ. (وسماه عبد ا) أي: وضع له هذا الاسم، ففيه فضل التسمية بذلك (متفق عليه) في «فتح الباري» : وأخرجه ابن حبان والطيالسي هذا ما اتفقا عليه.
(و) زاد (في رواية للبخاري قال) سفيان (ابن عيينة) بضم المهملة وبكسرها اتباعاً للياء بعدها وفتح التحتية الأولى وسكون الثانية/ الهلالي قرين الإمام مالك من تابعي التابعين (فقال رجل من الأنصار) هو: عبايةبن رفاعة كما أخرجه سعد بن(1/190)
منصور ومسددبن سعد وغيرهم، وسبق أن الأنصار لفظ إسلامي صار علماً على أولاد الأوس والخزرج الذين نصروا النبي والإسلام (فرأيت تسعة أولاد كلهم) بالرفع مبتدأ خبره جملة (قد قرءوا القرآن) ويجوز أن يكون كل تأكيد تسعة، وأتى بها لئلا يتوهم أنه رأى بعضاً دون بعض وحينئذٍ فجملة قرءوا القرآن حالية (يعني) هذا لفظ أحد الرواة عن سفيان لبيان أن الأولاد المرئيين (من أولاد عبد ا) بن أبي طلحة (المولود) من تلك الإصابة المدعو لها بالبركة. ووقع في رواية عن سفيان أنهم سبعة بتقديم السين.
قال في «فتح الباري» وقيل إن في إحدهما تصحيفاً، أن المراد بالسبعة من ختم القرآن كله وبالتسعة من قرأ معظمه، وله من الولد فيما ذكر ابن سعد وغيره من علماء الأنساب إسحاق وإسماعيل وعبد الله ويعقوب وعمر والقاسم وعمارة وإبراهيم وعمير وزيد ومحمد، وأربع من البنات، ويؤخذ من قول سفيان المذكور أن في قوله: «لكما» تجوّز لأن ظاهره أنها في ولدهما من غير واسطة وإنما المراد من أولاد ولدهما المدعو له بالبركة وهو عبد الله اهـ.
(وفي رواية) أخرى (لمسلم) في «صحيحه» (مات ابن لأبي طلحة من أم سليم) الظرف الأول صفة لابن والثاني محتمل لها والحالية (فقالت لأهلها) أي: لقرابتها الذين عندها وشعروا بوفاة ابنها (لا تحدثوا أبا طلحة) عند مجيئه المنزل (بـ) وفاة (ــــابنه) لئلا يتنغص عيشه وهو صائم فلا ينال حاجته من الطعام (حتى) تعليلية أو غائية (أكون أنا) تأكيد للضمير المستكن (أحدثه، فجاء فقربت إليه عشاء) عبر هنا بإلى لأنه منتهى التقريب، وفيما تقدم باللام إشارة إلى أنه مقصود بذلك العشاء مهيأ له كما أشار البيضاوي إلى نحوه في سورة يونس في تعدية يهدي بإلى تارة وباللام أخرى (فأكل وشرب ثم تصنعت له) بتحسين الهيئة بالحلي ونحوه (أحسن ما كانت تصنع) بنصب أحسن مفعول مطلق وأصل تصنع تتصنع فأدغمت إحدى التاءين في الصاد المهملة هذا إن قرىء بتشديدها، فإن كانت مخففة فإحدى التاءين محذوفة دفعاً للثقل (قبل ذلك) الوقت، وهذا يدل على كمال يقينها وقوة صبرها (فوقع بها) أي: جامعها (فلما أن) زائدة (رأت أنه قد شبع) من الطعام (وأصاب منها) بالجماع (قالت) منبهة له على أنه لا ينبغي له الحزن على موت ولده، عند اطلاعه(1/191)
عليه لأنه وديعة بصدد الاسترداد (يا أبا طلحة أرأيت) أخبرني (لو) ثبت (أن قوماً) هو في الأصل جماعة الرجال، والأكثر في استعمال الشرع أن يراد به ما يشملهم والنساء، قاله الراغب في «مفرداته» (أعاروا عاريتهم) مفعول ثان لأعار (أهل بيت) مفعوله الأول (فطلبوا عاريتهم ألهم) أي: لأهل البيت المستعيرين والظرف خبر مقدم مبتدؤه (أن يمنعوهم) أي: منعهم، ويصح أن تعرب أن ومدخولها فاعلاً للظرف لاعتماده على الاستفهام (قال: لا) أي: ليس لهم منعهم لأن الإعارة إباحة منافع المعار، والمعار باق على ملك المعير فله استرداده متى شاء (قالت: فاحتسب ابنك) أي: اطلب ثواب ابنك وأجر مصيبتك فيه من الله ولا تدنسها بما يحبط الثواب فإنه كان عندك عارية استرده مالكه (قال) أنس:
(فغضب) أبو طلحة (وقال) لأم سليم: (تركتني) بكسر التاء للمخاطبة (حتى إذا) وقتية (تلطخت) بفتح الفوقية واللام وتشديد الطاء المهملة وسكون المعجمة، أي تقذرت بالجماع، يقال رجل لطخ أي قذر (ثم أخبرتني) بكسر التاء (بابني) أي: بموته (فانطلق) يمشي (حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك) أي المذكور من فعل أم سليم الدال على كمال يقينها وحسن صبرها مما يعجز عنه كثير من الرجال (فقال النبيّ) داعياً لهما بما يعود نفعه عليهما الجميل فعلهما (بارك الله لكما في ليلتكما) أي فيما فعلتماه فيها من الإعراس بأن يجعله نتاجاً طيباً وثمرة حسنة (قال) أنس: (فحملت) أم سليم إجابة لدعائه بالبركة بما كان منه قوم صالحون كما تقدم عن ابن عيينة (قال) أنس: (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وهي معه، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى المدينة من سفر) بفتح أوليه، سمي بذلك لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وسفره من المدينة إنما كان لأداء النسك أو الجهاد (لا يطرقها) بضم الراء (طروقاً) بضم أوليه المهملين أي لا يأتيها ليلاً، وكل آت بالليل طارق، ونهي عن طروق المسافر أهله ليلاً لئلا يرى منهم ما قد يكرهه. وأيضاً فإذا وصلوا البلد نهاراً وسمع بهم أهلهم تصنعت المرأة لبعلها فيراها بمنظر حسن، بخلاف ما إذا فجأها وهي(1/192)
شعثة ربما كان رؤياها كذلك سبباً لفراقه لها، وهذا إذا لم يترقب أهله قدومه عليهم ليلاً، وإلا كأن بلغهم خبر قدومه من أول النهار فلا بأس بالطروق حينئذٍ (فدنوا) قربوا (من المدينة فضربها المخاض) بفتح الميم وقرىء بكسرها في «الشواذ» : وهو وجع الولادة (فاحتبس عليها أبو طلحة) أي: حبس نفسه عليها لاشتغاله بشأنها (وانطلق رسول الله) في مسيره إلى المدينة.
(
قال) أنس: (يقول أبو طلحة) أتى بلفظ المضارع لحكاية الحال الماضية إشارة لكمال استحضاره للقصة وإتقانه لها (إنك لتعلم يا رب) بكسر الباء دليلاً على التحتية، ويجوز فتحها على أن المحذوفة الألف المنقلبة عن الياء وضمها بناء على قطعه عن الإضافة، وجملة النداء معترضة بين الفعل، وما سد مسد مفعوليه وهو قوله: (إنه يعجبني) بضم التحتية (أن أخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج) من المدينة لسفر (وأدخل معه) المدينة، وهو بالنصف عطف على أخرج (إذا دخل) أي: دخلها، فالمفعول محذوف لدلالة السياق عليه (وقد احتبست) أي منعت من الدخول (بما ترى) مما نزل بأم سليم، فأجاب الله دعوته وكشف كربته (قال) (قال) أنس مخبراً عن ذلك (تقول أم سليم) أي قالت أم سليم، وعدل عنه إلى المضارع لما ذكر آنفاً (يا أبا طلحة، ما أجد الذي كنت أجد) العائد محذوف التقدير أجده: أي ما أجد ألم الوضع الذي كنت أجده قبل (انطلق) أمر له لأن سبب التخفيف زال.g
(قال) أنس: (فانطلقنا وضربها المخاض حين قدما) بكسر الدال: أي وقت قدوم أبي طلحة وأم سليم المدينة مع المصطفى (فولدت غلاماً) هو المسمى بعبد الله (فقالت لي أمي) أم سليم أم عبد الله المذكور فهو أخو أنس لأمه كما تقدم (يا أنس لا يرضعه) بضم التحتية وسكون المهملة على أنّ لا ناهية (أحد) أي: ليكون أول شيء يشق جوفه ويدخل أمعاءه الممزوج بريق المصطفى، فيعود عليه بخير الدارين كما ظهر أثره في هذا الغلام بتكثير بنيه الصالحين الأتقياء الفالحين قال الشاعر:
نعم الإله على العباد كثيرة
وأجلهن نجابة الأولاد(1/193)
(حتى تغدو به) وتعرضه (على رسول الله) والغدوّ: سير أول النهار، والرواح: السير بعد الزوال، هذا هو الأصل فيهما وقد يتجوز في ذلك، ومنه حديث: «من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى» على أحد الأقوال فيه، وعدي بعلى إشارة إلى أن القصد من الوصول به إليه عرضه ليحل عليه نظره السعيد فيفوز بالخير المديد وقد حقق الله ما أرادت (فلما أصبح) أي دخل وقت الصباح ومنه قوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} (الروم: 17) (احتملته فانطلقت) أمشي (به) منتهياً (إلى رسولالله. وذكر تمام الحديث) وفيه نحو مما في حديث السابق أنه حنكه بالتمر وسماه عبد الله.
قال في «فتح الباري» : وفي الحديث فوائد: جواز الأخذ بالشدة، وترك الرخصة مع القدرة عليها، والتسلية عن المصائب، وتزين المرأة لزوجها، وتعرضها لطلب الجماع منه، واجتهادها في عمل مصالحه، ومشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها ولم يترتب عليها إبطال حق مسلم. والحامل لأم سليم عليه المبالغة في الصبر والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء إخلافه عليها ما فات منها، إذ لو أعلمت أبا طلحة بالأمر في أول الحال تنكد عليه وقته ولم تبلغ الغرض الذي أرادته، فلما علم الله تعالى صدق نيتها بلغها مناها وأصلح لها ذريتها، وفيه إجابة دعوة النبيّ وأن من ترك شيئاً عوضه الله خيراً منه. وكان لأم سليم من قوّة القلب وثبات الجنان الغاية القصوى، فكانت تشهد الحرب وتداوي الجرحى اهـ.
4521 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس الشديد) المحمودة شديديته شرعاً (بالصرعة، إنما الشديد) الممدوحة شديديته شرعاً (الذي يملك نفسه) من الوقوع في المنهيات (عند) وجود (الغضب) وقيامه به وذلك إنما يكون لمن راض نفسه بسياسة الاتباع واقتدى بالمصطفى في سائر الأحوال، فلم يحمله الغضب على الوقوع في أسباب الهلاك في دينه. والغضب بالتحريك لغة: ضد الرضا. وسببه حصول مخالف لمراد الإنسان ممن هو دونه وتحت يده فيحصل منه تلك الحالة المقتضية لفعل ما لا يجوز من(1/194)
قتل أو ضرب أو سب. فمن حفظ نفسه عن ذلك وقادها بزمام الشريعة وكظم غيظه وعفا فاز بالدرجة العليا وكان محموداً شرعاً، وإن انتقم بقدر ما أذن فيه الشرع من التأديب فلا بأس (متفق عليه) ورواه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة أيضاً (الصرعة بضم الصاد وفتح الراء) المهملتين بعدهما مهملة مفتوحة (وأصله عند العرب من يصرع الناس كثيراً) فإن «فعلة» بضم ففتح لمن يكثر منه الفعل «وفعلة» بضم فسكون لمن يعتاد فعل ذلك الشيء به. فضحكة بوزن همزة بمعنى الفاعل: لمن يكثر الضحك من الناس، وضحكة بوزن ركبة بمعنى المفعول: لمن يكثر ضحك الناس عليه وسخريتهم به ذكره الكرماني. وقد بسطت ذلك في «شرح الأذكار» .
وفي الحديث: أن مجاهدة النفس أشدّ من مجاهدة العدو. وقد ورد أن الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه لما عادوا من بعض الغزوات: «رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» .
4622 - (وعن سليمانبن صرد) زاد في الأذكار فقال «الصحابي» (رضي الله عنه) وصرد بضم ففتح لأوليه وجميع حروفه مهملة، وهو خزاعي. كان اسم سليمان في الجاهلية «يسار» فسماه «سليمان» وكان خيراً ديناً فاضلاً ذا دين وعبادة وشرف في قومه.
نزل للكوفة أول ما كوّفها سعد: وقتل في حرب بينت سببه في «شرح الأذكار» ، وحمل رأسه إلى مروانبن الحكم بالشام. وكان عمره حين قتل ثلاثة وتسعين سنة. روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر حديثاً، اتفقا منها على هذا الحديث، وانفرد البخاري عنه بحديث واحد هو قوله: «اليوم نغزوهم ولا يغزونا» فليس له في «الصحيحين» سوى حديثين/ وخرّج عنه أصحاب السنن الأربع (قال: كنت جالساً مع النبي ورجلان يستبان) بفتح التحتية وسكون المهملة. وفتح الفوقية وتشديد الموحدة افتعال من السب: أي يسبّ كل منهما صاحبه (وأحدهما) .
قال ابن حجر الهيثمي: قيل إنه معاذ، فإن صح وأنه ابن جبل تعين تأويل ما وقع منه من قوله: «هل بي من جنون» على أنه قاله من سورة الغضب من غير تأمل، قيل وهو الذي قال للنبي: «أوصني» الحديث الآتي، ففيه أن معاذاً كان عنده سورة من الغضب (قد أحمرّ)(1/195)
بتشديد الراء (وجهه وانتفخت أوداجه) في «النهاية» : الأوداج ما أحاط بالعتق من العروق التي يقطعها الذابح واحدها ودج، وقيل الودجان: عرفان غليظان على جانبي ثغرة النحر، ومنه الحديث اهـ.
(فقال رسول الله: إني لأعلم كلمة) المراد منها معناها اللغوي وهي الجمل المفيدة (لو قالها) بصدق ويقين، ويحتمل أنه علم أن ذلك الرجل لو قالها مطلقاً (لذهب عنه ما يجد) من شدة الغضب ببركة الكلمات وتأثير همته الشريفة في ذلك عنه. ثم هذا الحديث الشريف مستمد من قوله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ با إنه سميع عليم} (الأعراف: 200) (لو قال أعوذ با من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد) من شدة الغضب وشره، والجملة بيان لما قبلها، وأعوذ: معناه ألجأ وأعتصم، والشيطان: العاتي المتمرّد، من شاط احترق، أو من شطن بعد، والرجيم فعيل بمعنى مفعول: أي المبعد من رحمةالله، واللام محذوفة من «لذهب» تفننا في التعبير (فقالوا له) أي قال الصحابة لذلك الرجل المغضب (إن النبي قال: تعوّذ با من الشيطان الرجيم) هذا منهم رواية للحديث بالمعنى، لا بخصوص اللفظ والمبنى، ففيه نص على جواز ذلك للعارف به.
وفي الحديث: تتمة سكت عنها المصنف هنا وهي أنه لما قيل له ذلك قال: «وهل بي من جنون؟» وفيه أن الغضب إنما يثير ناره، ويشعل لهبة الشيطان لما يترتب عليه من الضرائر في الدين والدنيا، فلذا كان دواؤه قطع سبب مادته وهو وسواس الشيطان الرجيم بالاستعاذة منه (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، وفي رواية لأبي داود والترمذي والنسائي من حديث معاذ «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم» كذا في (سلاح المؤمن) .
4723 - (وعن معاذ) بضم الميم بعدها مهملة (ابن أنس رضي الله عنه) هو الجهني؛ سكن(1/196)
مصر روى عنه ابنه سهل، له نسخة كبيرة عند ابنه سهل أورد منها أحمدبن حنبل في مسنده وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والأئمة بعدهم في كتبهم، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون حديثاً (أن النبي قال: من كظم غيظاً) تجرعه واحتمل سببه وصبر عليه.
والغيظ: تغير الإنسان عند احتداده، وظاهر عموم تنكير غيظاً حصول الثواب على كظم الغيظ مع القدرة على إنفاذة وإن قلّ (وهو قادر على أن ينفذه) بضم التحتية: أي يقضي ويعمل بما يدعوه إليه: من ضرب المغتاظ منه، أو قتله أو نحوه لسطوته على المغتاظ منه بملك أو نحوه وهو قيد في حصول ثواب كظم الغيظ المذكور (دعاه الله سبحانه) تنزيهاً له عما لا يليق بشأنه (وتعالى) عن ذلك فهو كالإطناب كما سبق (على رؤوس الخلائق) تنويهاً بشأنه وإعلاماً بعلوّ مكانه (يوم القيامة) ظرف لدعاه (حتى يخيره) بضم التحتية الأولى وتشديد الثانية (من الحور) بضم المهملة وسكون الواو آخره راء: أي شديدات سواد العيون وبياضها (العين) ضخام العيون كسرت عينه بدل ضمها لمجانسة الياء/ مفرده عيناء كحمراء (ما شاء) مفعول ثان ليخير (رواه أبو داود والترمذي) ورواه ابن ماجه (وقال) يعني: الترمذي (حديث حسن) وعند ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الغضب من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً» وعنده أيضاً من حديث ابن عمر «من كفّ غضبه ستر الله عورته» اهـ.
وقد روي أن الحسينبن علي رضي الله عنهما كان له عبد يقوم بخدمته ويقرب إليه طهره فقرب إليه طهره ذات يوم في كوز، فلما فرغ الحسين من طهوره رفع العبد الكوز من بين يديه فأصاب فم الكوز رباعية الحسين فكسرها فنظر إليه الحسين، فقال العبد: «والكاظمين الغيظ» قال: قد كظمت غيظي فقال: «والعافين عن الناس» قال: قد عفوت عنك، قال: «وا يحب المحسنين قال: اذهب فأنت حرّ لوجه الله تعالى، قال: وما جواز عتقي، قال: السيف والدرقة فإني لا أعلم في البيت غيرهما.(1/197)
4824 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً) قال الشيخ زكريا في «تحفة القارىء» هو جارية بالجيم ابن قدامة ومنه أخذ جمع أنه صحابي واعتمده الحافظ ابن حجر، وقيل: إنه تابعي. وأن ما جاء في رواية خرّجها أحمد عنه أنه سأل النبي وهم. وقيل: إنه سفيانبن عبد الله الثقفي، فقد ورد عنة أنه سأل النبي فأجابه بذلك، فرد عليه مراراً يسأله عن ذلك يقول له نبيّ الله: لا تغضب. رواه العراقي في «أماليه» وقال: إنه حسن من هذا الوجه، قال: والحديث صحيح من وجه آخر يعني به حديث البخاري هذا. قال: وإنما أوردته من حديث سفيان لفائدة كونه هو السائل، قال: وقد روينا في أحاديث عن ابن عمر وعبد ابن عمرو وأبي الدرداء وجاريةبن قدامة أن كلاً منهم سأل النبيّ عن ذلك فقال له: لا تغضب اهـ. وجاء عن جابر وجارية كذلك، وتقدم عن «شرح المشكاة» لابن حجر أنه معاذبن جبل فلعله صدر من كل منهم (قال للنبيّ: أوصني) توصية جامعة لخير الدارين كما يدل عليه التعميم بحذف المفعول.
وجاء في رواية عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: «أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ولا تكثر عليّ لعلي أعقله» (قال لا تغضب) لما كان الغضب من نزغات الشيطان ولذا يخرج الإنسان عن اعتداله فيتكلم بالباطل ويفعل المذموم قال له لما قال أوصني: لا تغضب (فردد) السائل قوله: أوصني (مراراً قال) له في جواب كل مرة (لا تغضب) ولم يزد عليه، ففيه دليل على عظم مفسدة الغضب وما ينشأ منه، وعند الخرائطي زيادة «قال الرجل السائل: ففكرت حين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإذا الغضب يجمع الشرّ كله» .
(رواه البخاري) في «صحيحه» عن حديث أبي هريرة وكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه: ورواه المحاملي عن أبي سعيد وأبي هريرة، ورواه ابن حبان في «روضة العقلاء» له عن أبي هريرة أو جابر، ورواية البخاري المذكور رافعة للشك. ورواه مسدد في «مسنده» عن أبي سعيد من غير تردد، وحديث أبي هريرة صحيح، وهو من أفراد البخاري: أي بالنسبة لمسلم، وأصح من حديث أبي سعيد، وروى من حديث جابر وابن عمر وابن عمرو وأبي الدرداء وجاريةبن قدامة، وطرق الحديث استوعب جملة منها السخاوي في تخريج الأربعين التي جمعها المؤلف نفع الله به يأتي نقلها عنه ملخصاً في باب الحلم.(1/198)
4925 - (وعن أبي هريرة) الأخصر وعنه (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما يزال البلاء) بالمصائب والمتاعب نازلاً (بالمؤمن والمؤمنة في نفسه) بالمرض والفقر، والغربة، التي هي في الظاهر كربة، وإن نظرت إليها وأنها واردة إليك من أرحم الراحمين انقلبت من كونها محنة إلى كونها منحة (وولده) بالموت والمرض أو عدم الاستقامة أو نحوه مما يؤلم الوالد بحسب الطبع البشري (وماله) بالتلف ببعض الأسباب من حرق أو سرقة أو نحو ذلك (حتى) غاية لنزول البلاء بأرباب الإيمان، أي إن البلاء لا يزال بالإنسان، أي: الصابر كما يدل عليه لفظ المؤمن والمؤمنة المحمول عن الفرد الكاملـ إلى أن يغفر الله له به الخطايا فـ (ـــيلقى) أي المبتلي ليشمل كلاً منهما (اتعالى) ولقاء الله كناية عن الموت (وما عليه خطيئة) أي ذنب جملة حالية، وقوله خطيئة ظاهر عمومه شمول الكبائر والتبعات، فإن ثبت ذلك وأنه مراد فذلك من محض فضل الكريم الجواد، إذ صالح العمل ومنه الصبر والاحتساب إنما يكفر الصغائر المتعلقة بحقوق الله تعالى (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) يحتمل أن يكون على تقدير واو العطف إن كان له إسنادان أحدهما صحيح والآخر حسن، وأن يكون على تقدير «أو» إن كان سنده فرداً. واختلف في حاله وقد تقدم بسط هذا المقام في باب التوبة، والحديث رواه أيضاً مالك.
5026 - (وعن) عبد الله (بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم) بكسر الدال (عيينة) بضم أوله المهمل وفتح التحتية الأولى ووسكون الثانية بعدها نون فهاء (ابن حصين) بكسر فسكون للأوليه المهملتين الفزاري. أسلم يوم الفتح وقيل قبله، وكان من المؤلفة قلوبهم ومن الأعراب الجفاة، ارتدّ وأتي به أسيراً إلى الصديق فأسلم فأطلقه، فقدم ابن حصين المدينة (فنزل على ابن أخيه الحرّ) بضم الحاء وتشديد الراء المهملتين (ابن قيس) بن حصن الفزاري(1/199)
صحابي، وهو الذي تمارى مع ابن عباس في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إليه، فقال ابن عباس: هو الخضر، فسأل عنه أبياً فذكر فيه خبراً مرفوعاً كما قال ابن عباس، وقد أخرجه كذلك البخاري في كتاب العلم من «صحيحه» (وكان) الحرّ (من النفر) بفتح أوليه: الناس كلهم أو ما دون العشرة من الرجال وجمعه أنفار كذا في «مختصر القاموس» (الذين يدنيهم) بضم أوله: أي يقربهم (عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه) لكونه من الفقهاء القراء (وكان القراء) جمع قارىء، والمراد منهم القارىء للقرآن المتفهم لمعانيه. فإن عبادتهم حينئذٍ كانت كذلك حتى لقد قرأ عمر رضي الله عنه البقرة في سبع سنين لذلك (أصحاب) أي ملازمي (مجلس عمر رضي الله عنه) لينبهوه إذا سها ويذكروه إذا نسي (ومشاوريه) يحتمل أن يكون بالفوقية بعد الراء المهملة فيكون معطوفاً على مجلس، ويحتمل أن يكون بالتحتية جمع مذكر سالم فيكون معطوفاً على أصحاب (كهولاً كانوا أو شباناً) الكهل: الذي جاوز الثلاثين ووخطه الشيب.
قال ابن فارس: قال المبرّد: هو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وفي «تحفة القارىء» : سن الشباب خمس وثلاثون سنة، وسن الكهولة خمسون سنة، وسن الشيخوخة ستون سنة اهـ، وبه يعلم أن الثلاث والثلاثين ابتداء الكهولة وتستمرّ إلى الخمسين وما قبل ذلك من بعد البلوغ فسن الشباب. والشبان بضم المعجمة وتشديد الموحدة آخره نون جمع شاب، وفي نسخة بفتح أوليه وآخره موحدة أيضاً (فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي لك وجه) أي: جاه (عند هذا الأمير) أي: عمربن الخطاب رضي الله عنه (فاستأذن لي) أمر: أي اسأل لي الإذن في الدخول (عليه، فاستأذن) أي الحر لعيينة (فأذن له عمر) أي: لعيينة في الوصول إليه (فلما دخل) معطوف على مقدر: أي فدخل فلما دخل (قال هي) بكسر الهاء وسكون التحتية كلمة تهديد، وقيل: هي ضمير وثم محذوف: أي: هي داهية.
وفي البخاري هيه بهاء السكت في آخره، وفي أخرى منه: إيه بالهمز بدل الهاء وهما بمعنى كما قال ابن الأثير، فمعناهما بلا تنوين زدني من الحديث المعهود وبالتنوين من أيّ حديث كان (يا ابن الخطاب فوا ما تعطينا الجزل) بالنصب مفعول به أو مطلق: أي ما تعطينا الشيء الكثير أو العطاء الكثير وأصل الجزل ما عظم من الخطب. وكأنه أراد أنه(1/200)
يستأثر به عن مستحقيه (ولا تحكم فينا بالعدل) وهو ما جاء به الكتاب والسنة نصاً أو استنباطاً (فغضب عمر رضي الله عنه) أي: لما رماه به من منع المال عن مستحقه من الأنام وعدم العدل في الأحكام (حتى هم) بتشديد الميم: أي أراد (أن يوقع به) بضم التحتية وكسر القاف والمفعول محذوف: أي شيئاً من العقوبة وذلك لجفائه وسوء أدبه معه (فقال له) : أي لعمر، وقدمه على الفاعل اهتماماً به (الحر: يا أمير المؤمنين) تقدم أوّل الكتاب أنه أوّل من لقب به من الخلفاء (إن الله تعالى قال لنبيه) محرّضاً له على الحلم والصفح: أي ولكم في رسول الله أسوة حسنة (خذ العفو) التيسير من أخلاق الناس ولا تبحث عنها.
وفي البخاري: عن عبد ابن الزبير «ما نزلت {خذ العفو وأمر بالعرف} (الأعراف: 199) إلا في أخلاق الناس» .
وفي رواية قال: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ العفو من أخلاق الناس» وكذا في «جامع الأصول» ( {وأمر بالعرف} ) أي المعروف ( {وأعرض عن الجاهلين} ) فلا تقابلهم بسفههم. روي أنه «لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل؛ ثم رجع فقال: إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك» ذكره البغوي في تفسيره بلا سند.
قال جعفر الصادق: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه (وإن هذا من الجاهلين) المأمور بالصفح عنهم والتجاوز عن سوء فعلهم، والخطاب له يدخل في حكمه أمته إلا ما قام الدليل على اختصاصه به (وا ما جاوزها) أي الآية (عمر) أي ما خرج عما تضمنته من الصفح والتجاوز (حين تلاها) الحر (عليه) (وكان وقافاً عند) حدود (كتاب ا) كناية عن امتثاله لها والاهتمام بأمرها وعدم تجاوز ذلك، والوقاف بالتشديد للثاني من الوقوف كذا في «النهاية» (رواه البخاري) في التفسير وفي الاعتصام.
5127 - (وعن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ستكون)(1/201)
تحصل (بعدي) أي: بعد وفاتي بمدة كما يومىء إليه السين (أثرة) بالمثلثة والراء اسم مصدر استأثر، أو اسم مصدر آثر يؤثر: أي يستأثر عليكم: أي يفضل غيركم في نصيبه من الفيء، والاستئثار الانفراد بالشيء (وأمور تنكرونها) كما وقع من تأخير الصلوات وبعض المنكرات (قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟) نفعله حينئذٍ (قال: تؤدون) بضم الفوقية وفتح الهمزة وتشديد المهملة: أي تعطون (الحق الذي) كتب (عليكم) من الانقياد لهم وعدم الخروج عليهم (وتسألون الله الذي لكم) من الحق في بيت مال المسملين: أي تطلبون منه ذلك وهو يسخر قلوبهم لأداء ذلك أو يعوّضكم عنه/ ولا يجوز لكم الخروج عليهم لمنع أداء الحق الواجب عليهم وما نقل عن بعض السلف من الخروج على ولاة زمنه فذاك اجتهاد له. وفي الحديث الصبر على المقدور، والرضا بالقضاء حلوه ومرّه، والتسليم لمراد الرب العليم الحكيم (متفق عليه) رواه البخاري في علامات النبوّة وفي الفتن، ورواه مسلم في المغازي، ورواه الترمذي في «جامعه» وقال: حسن صحيح (والأثرة) بفتح أوليه ويقال الأثرة بضم الهمزة وبالكسر وسكون المثلثة، وكالحسنى. كذا في «مختصر القاموس» (الانفراد بالشيء) أي: الاختصاص به أو ببعضه (عمن له فيه حق) فهو منع المستحق من نصيبه مثلاً أو من بعضه.
5228 - (وعن أبي يحيى) كني بابنه يحيى، وقيل: كنيته أبو عيسى كناه بها النبيّ، وقيل: أبو عتيك، وقيل: أبو حضير وقيل: أبو عمرو (أسيدبن حضير) وسيأتي ضبط هذين الاسمين. وأسيدبن حضير (رضي الله عنه) أنصاري أوسي أشهلي، أسلم قبل سعدبن معاذ على يد مصعببن عمير بالمدينة بعد العقبة الأولى وقيل الثانية، وكان الصديق يكرمه ولا يقدم عليه أحداً ويقول إنه لا خلاف عنده، وشهد العقبة الثانية وكان نقيباً لبني عبد الأشهل، واختلف في شهوده بدراً، وشهد أحداً وما بعدها. آخى بينه وبين زيد بن(1/202)
حارثة، وكان من أحسن الصحابة صوتاً بالقرآن، وكان أحد العقلاء الكمل أصحاب الرأي. وأخرج في «أسد الغابة» عن أبي هريرة أن النبي قال: «نعم الرجل أسيدبن حضير» روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر حديثاً؛ قاله ابن حزم في «سيرته» ، اتفقا منها على حديث واحد وهو هذا، وانفرد البخاري عنه بحديث آخر أخرجه تعليقاً. توفي أسيد في شعبان سنة عشرين، وحمل عمر رضي الله عنه السرير حتى وضعه بالبقيع وصلى عليه، وكان قد أوصى إلى عمر في وفاء دينه فوجد عليه أربعة آلاف دينار فسده من ثمر نخله، باعه بذلك أربع سنين (أن رجلاً من الأنصار) .
قال الشيخ زكريا: قيل هو أسيدبن حضير الراوي اهـ.
قال السيوطي: ولا بد أن الراوي يبهم نفسه كما سيأتي في حديث أبي سعيد في قصة الرقية بالفاتحة (قال: يا رسول الله ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام أداة عرض (تستعملني) أي تصيرني عاملاً في بلاد ونحوها (كما استعملت فلاناً) هو: عمروبن العاص (وفلاناً) أي: استعمالاً كاستعمال فلان وفلان.
قال ابن السراج: لفظ فلان يكنى به عن اسم سمي به المحدّث عنه خاص بالناس غالباً، يقال في النداء يافل بحذف الألف والنون وقد يحذفان في غير النداء ضرورة، ويقال في غير الناس الفلان والفلانة بأن هذا ما ذكره الجوهري.
قال المصنف في «التهذيب» : ورد عن أبي يعلى في «مسنده» بإسناد على شرط مسلم عن ابن عباس قال: «ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة، تعني: الشاة» الحديث. قال: كذا هو في النسخ المعتمدة فلانة من غير أل، وهذا تصريح بجوازه فهما لغتان اهـ. (فقال إنكم) أي: يا معشر الأنصار (ستلقون بعدي أثرة) تقدم ما فيه من اللغات والمعنى المراد منه (فاصبروا) على استئثارهم عليكم بما تستحقونه (حتى تلقوني على الحوض) أي: إلى الموت الكائن بعد البعث منه لقاؤهم له على الحوض. فإن قلت: ما وجه المناسبة بين قوله: «إنكم ستلقون الخ» وما سأله من العمل. قلت: لعله أن من شأن العامل الاستئثار إلا من عصمالله، فأشفق عليه من أن يقع فيما يقع فيه بعض من يأتي بعده من الملوك/ فيستأثر على ذوي الحقوق ويمنعهم منه، وهذا من جملة معجزاته فقد وقع كما أخبر.
وفي الحديث إيماء إلى أن الخلافة بعده لا تكون فيهم؛ وقد أوصى عليهم (متفق عليه وأسيد بضم الهمزة) وفتح السين المهملة وسكون التحتية آخره دال مهملة (وحضير بالحاء المهملة المضمومة فضاد معجمة مفتوحة) عرف(1/203)
الحاء ونكر الضاد تفننا في التعبير، وبعد الضاد تحتية ساكنة فراء مهملة.
5329 - (وعن أبي إبراهيم) وقيل: أبو معاوية، وقيل: أبو محمد (عبد ابن أبي أوفى) واسم أبي أوفى علقمةبن خالدبن الحارثبن أبي أسيدبن رفاعةبن ثعلبةبن هوازنبن أسلم الأسلمي، هو وأبوه صحابيان (رضي الله عنهما) بايع عبد الله بيعة الرضوان وشهد خيبر وما بعدها من المشاهد. ولم يزل بالمدينة حتى قبض رسول الله، ثم تحوّل إلى الكوفة وهو آخر من توفي بها من أصحاب النبيّ. أخرج ابن الأثير في «أسد الغابة» عنه «أنه سئل عن أكل الجراد فقال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست غزوات نأكل الجراد» روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وتسعون حديثاً، اتفقا منها على عشرة، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بواحد.
توفي عبد الله بالكوفة سنة ستّ وقيل: سبع وثمانين بعد ما كفّ بصره رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه) أي أيام غزواته وحروبه وهو متعلق بقوله الآتي «انتظر» (التي لقي فيها العدو) وتقدم في باب التوبة أن عدد المغازي التي خرج لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه سبع وعشرون، قاتل في تسع منها بنفسه تقدم بيانها ثمة. والعدوّ بفتح العين فضم الدال المهملتين وتشديد الواو: يطلق على الواحد والجمع، والمراد منه الكفار (انتظر) أي أخر قتالهم (حتى إذا مالت الشمس) عن كبد السماء إلى جهة المغرب هو وقت الزوال، أي كان يؤخر القتال إلى ميل الشمس ليبرد الوقت على المقاتلة، ويخفّ عليهم حمل السلاح التي يؤلم حملها في شدّة الهاجرة، وقيل بل كان يفعل ذلك لانتظار هبوب ريح النصر التي نصر بها، وفي حديث عند أبي داود «كان ينتظر حتى تزول الشمس وتهب رياح النصر» (قام فيهم) وحتى لبيان غاية الانتظار: أي ما زال منتظراً إلى ميل الشمس وقام جواب إذا والظرف حال من الضمير في قام أي قام فيهم منبهاً لهم(1/204)
على ما فيه صلاحهم (فقال: يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوّ) زاد في رواية «فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم» وحكمة النهي كما قاله ابن بطال أن المرء لا يعلم مآل أمره وهو نظير سؤال العافية في الفتن. وقال للصديق «لأن أعافى فأشكر أحبّ إليّ من أن أبتلى فأصبر» وقيل: إنما نهي عنه لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على القوّة والوثوق بها وقلة الاهتمام بأمر العدو، وكل ذلك مباين للاحتياط والأخذ بالحزم.
زاد المصنف: وهو نوع بغى وقد وعد الله من بغى عليه بالنصر. وقيل: إن ذلك للخوف من إدالة العدوّ على المسلمين وظفره بهم، وقد جاء في هذا الحديث: «فإنهم ينصرون كما تنصرون» وفي هذا المحل بسط تام في «شرح الأذكار» فراجعه (واسألوا الله العافية) قال المصنف: كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية وهي من الألفاظ المتناولة لدفع جميع الآفات في البدن في الظاهر والباطن في الدين والدنيا والآخرة (فإذا لقيتموهم) أي: العدو (فاصبروا) على قتالهم ولا تجبنو عن حربهم فإنه تعالى مع الصابرين بالمعونة وقد وعد جنده بالظفر فقال: {وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 173) ففيه الحثّ على الصبر وهو من أهم المطلوب في الجهاد (واعلموا أن الجنة تحت ظلال) بكسر الظاء المعجمة جمع ظل (السيوف) أي حاصلة بها.
قال التوربشتي: معناه ثواب الله والسبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيف ومشي المجاهد في سبيل الله فاحضروا بصدق نية واثبتوا.
وقال القرطبي: هذا من الكلام النفيس البديع الذي جمع ضروب البلاغة من جزالة اللفظ وعذوبته وحسن استعارته وشمول المعاني الكثيرة مع الألفاظ المقبولة الوجيزة بحيث تعجز الفصحاء اللسن البلغاء عن إيراد مثله وأن يأتوا بنظيره وشكله. فإنه استفيد منه مع وجازته الحضّ على الجهاد والإخبار بالثواب عليه، والحضّ على مقاربة العدو واستعمال السيوف والاعتماد عليها، واجتماع المقاتلين حين الزحف بعضهم ببعض حتى تكون سيوفهم بعضها يقع على العدو ويرتفع عليهم حتى كأن السيوف أظلت الضاربين بها، ويعني: أن الضارب بالسيف في سبيل الله يدخل الجنة بذلك، وهذا كما قال في الحديث الآخر: «الجنة تحت أقدام الأمهات» ويعني: أن من بر أمه وقام بحقها دخل الجنة (ثم قال) : داعياً بالنصر، وقدم الثناء عليه تعليماً للأدب فيه، وهو أن يقدم الداعي أمام دعائه ذكر بعض أسمائه تعالى وأوصافه مما يناسب حاجته ومطلوبه،(1/205)
لأنه () مطلوبه هنا النصرة وهي من آثار القدرة، والمذكور يناسبها: أي مناسبة (اللهم) يا (منزل الكتاب) أل فيه للجنس والكتب المنزلة إلى الدنيا بتخفيف الزاي ويجوز تشديدها مائة وأربعة: ستون صحف شيث، وثلاثون صحف إبراهيم، وعشر صحف موسى قبل التوراة، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان.
ويجوز أن تكون أل للعهد؛ والمراد به القرآن، وفي ذكره إيماء إلى وعده بنحو قوله: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} (الأنبياء: 105) ولذا جاء عنه «لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده» (ومجرى السحاب) بإثبات واو العطف، ووقع في بعض نسخ الحصن حذفها، والذي في الصحيح إثباتها (وهازم الأحزاب) الطوائف من الكفار الذين تحزّبوا على رسول الله، واحده حزب بالكسر.
وكانت وقعة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة، وقيل في الرابعة منها، وإنما خصت بالذكر لأن هزمهم فيها مع كثرة عددهم وعددهم إنما كان بحض القدرة الإلهية، لا دخل فيه لمباشرة الأسباب، بخلاف باقي الحروب فإنه كان عقب مقابلتهم، بل وأعجب من ذلك أن هزمهم كان بما يستراح به الشيء عادة، وهي ريح الصبا التي تستريح بها النفوس ويرتاح بها المأنوس، فكان ذلك لهم دافعاً ولكيدهم مانعاًـ {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً} (الأحزاب: 25) ، (اهزمهم) أي: القوم المحاربين حينئذٍ، أي اغلبهم (وانصرنا عليهم) أي: عجل به، وإلا فرسل اهم المنصورون، وجند اهم الغالبون، وخص الدعاء عليهم بما ذكر دون الإهلاك لأن فيه سلامة نفوسهم، وقد يكون فيها رجاء لإسلامهم بخلاف الإهلاك.
وفي الحديث استعمال السجع في الدعاء. وقال المصنف وغيره: والسجع المذموم في الدعاء هو المتكلف؛ لأنه يذهب الخشوع والخضوع والإخلاص، ويلهي عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب. أما ما حصل بلا كلفة ولا إعمال فكر لكمال فصاحة الداعي ونحو ذلك، أو لكونه محفوظاً فلا بأس به، بل هو حسن اهـ.
وفي الحديث الدعاء حال الشدائد والخروج من الحول والقوّة وذلك من أعظم الأسباب لبلوغ المآرب ونيل المطالب.
وفي الحديث: «لا حول ولا قوّة إلا با دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم» والله أعلم. وفي فعله جمع بين الحقيقة والشريعة، فالشريعة أخذه العدة من السلاح وغيره والخروج للقتال وتحريض الصحابة على ذلك، والحقيقة هي دعاؤه وإظهاره للافتقار وتعلقه بربه، وكذا كان عليه الصلاة والسلام يفعل(1/206)
في جميع أموره يبالغ في امتثال الحكمة ثم بعد ذلك يرجع إلى الحقيقة فيتعلق با تعالى ويردّ الأمر إليه (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود وقال العارف با ابن أبي جمرة: قيل في الحديث دليل للصوفية في المجاهدة التي يأخذون بها أنفسهم في كل ممكن يمكنهم بالمال وبالأيدي وبالألسنة، لأنه إذا فعل ذلك في الجهاد الأصغر فكيف به في الجهاد الأكبر؟ وكيفيته في الجهاد الأكبر ألا يتصرّف في شيء من ذلك إلا باتباع أمر الله تعالى واجتناب نهيه. وفيه أيضاً دليل لهم في كونهم يطلبون العافية لأنفسهم ولا يعرضون بأنفسهم إلى المجاهدة التي لا قدرة لهم عليها إلا أن يضطروا إلى ذلك فيفعلونه للاضطرار، لأنه نهى عن تمني لقاء العدوّ في الجهاد الأصغر، وأمر بطلب العافية، فكيف به في الجهاد الأكبر فعلى هذا فشأن المرء أن يطلب العافية في كل الأشياء ولا يعرض نفسه لشيء وهو لا يقدر عليه اللهم إلا إن أتاه أمر وفاجأه فوظيفته إذ ذاك الصبر والتثبت والأدب فيما أقيم فيه اهـ.
4 - باب في الصدق
قال العلامة ابن أبي شريف في «حواشي شرح العقائد» : الصدق استعمله الصوفية بمعنى استواء السرّ والعلانية والظاهر والباطن، بألا تكذب أحوال العبد أعماله، ولا أعماله أحواله، وجعلوا الإخلاص لازماً أعم، فقالوا: كل صادق مخلص، وليس كل مخلص صادقاً اهـ.
وفي «شرح رسالة القشيري» للشيخ زكريا: سئل الجنيد أهما واحد أم بينهما فرق؟ فقال: بينهما فرق: الصدق أصل والإخلاص فرع، والصدق أصل كل شيء، والإخلاص لا يكون إلا بعد الدخول في الأعمال، والأعمال لا تكون مقبولة إلا بهما اهـ.
(قال الله عزّ) أي غلب على مراده (وجلّ) عما لا يليق بشأنه، ويجوز فيهما من(1/207)
الحالية والاستئناف ما سبق في جملة تعالى ( {يا أيها الذين آمنوا اتقوا ا} ) بترك معاصيه ( {وكونوا مع الصادقين} ) (التوبة: 119) في الإيمان والعهود بأن تلزموا الصدق، وقال بعضهم: مع الصادقين المقيمين على منهاج الحق. وقال بعضهم: مع من ترتضي حاله سراً وإعلاناً ظاهراً وباطناً. وقال بعضهم: {وكونوا مع الصادقين} أي الذين لم يخالفوا الميثاق الأول فإنها أصدق كلمة.
قال أبو سليمان: الصحبة على الصدق والوفاء تنفي كل علة في المصطحبين إذا قاما وثبتا على منهاج الصدق، لأن الله تعالى يقول: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} .
(وقال تعالى) : في تعدد محاسن الأوصاف التي قيل بأنها التي ابتلى بها إبراهيم ( {والصادقين} ) في الإيمان ( {والصادقات} ) (الأحزاب: 35) فيه، وقيل في القول والعمل.
(وقال تعالى: {فلو صدقوا ا} ) في الإيمان والطاعة ( {لكان} ) الصدق ( {خيراً لهم} ) (محمد: 21) .
وأما الأحاديث النبوية:
541 - (فـ) الحديث (الأول عن) عن عبد الله (بن مسعود) بن غافل الهذلي (رضي الله عنه عن النبيّ) حال كونه قد (قال إن الصدق) أي تحريه في الأقوال (يهدي) بفتح أوله، أي يرشد ويوصل (إلى البر) أي العمل الصالح الخالص من كل مذموم.
والبر: اسم جامع للخير كله، وقيل البرّ الجنة، ويجوز أن يتناول العمل الصالح والجنة، كذا قال المصنف. وفيه أن التفسير البرّ هنا بالجنة يأباه قوله: (وإن البر يهدي إلى الجنة) فالتفسير(1/208)
الأول هنا متعين (وإن الرجل) أل فيه الجنس، وذكره لأنه الأشرف وإلا فذلك جار في المرأة أيضاً (ليصدق) أي يلازمه ويتحرّاه وفي رواية في الصحيح «ليتحرّى الصدق» (حتى يكتب عند الله صديقاً) من أبنية المبالغة. وهو من يتكرّر منه الصدق حتى يصير سجية له وخلقاً (وإن الكذب يهدي) يوصل (إلى الفجور) الأعمال السيئة (وإن الفجور يهدي) يوصل (إلى النار) لأن المعاصي يقود بعضها إلى بعض، وهي سبب الورود إلى النار (وإن الرجل ليكذب) وفي رواية في الصحيح «ليتحرّى الكذب» (حتى يكتب عند الله كذاباً) أي: يحكم له بتحقق مبالغة الكذب منه وأنها الصفة المميزة له مبالغاً في كذبه فهو ضد الصدّيق.
قال المصنف: ومعنى يكتب هنا: يحكم له بذلك ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو بصفة الكاذبين وعقابهم. والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إما بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظه من الصفتين في الملإ الأعلى، وإما بأن يلقى ذلك في قلوب الناس وألسنتهم كما يوضع له القبول أو البغضاء، وإلا فقد الله سبحانه وتعالى وكتابه السابق قد سبق بكل ذلك اهـ.
قال القرطبي: حق على كل من فهم عن الله أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضا الغفار، وقد أرشد تعالى إلى ذلك كله بقوله عند ذكر أحواله الثلاثة التائبين {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (الأحزاب: 35) والقول في الكذب المحذر عنه على الضد من ذلك اهـ. (متفق عليه) ورواه بنحوه من حديث ابن مسعود أحمد والبخاري في «الأدب» والترمذي، وفي أوله عندهم «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإياكم والكذب» الحديث.
552 - (الثاني: عن أبي محمد الحسن) كناه وسماه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ابن عليبن أبي طالب رضي الله عنهما) أمه فاطمة الزهراء، رضي الله عنها. قال أبو أحمد العسكري سماه(1/209)
النبيّ الحسن، وكناه أبو محمد. قال: ولم يكن هذا الاسم يعرف في الجاهلية. ثم روي عن ابن الأعرابي عن المفضل قال: إن الله حجب اسم الحسن والحسين حتى سمى بهما النبي ابنيه، قال: قلت فالذين باليمن؟ قال: ذاك حسن بإسكان السين وحسين بفتح الحاء وكسر السين.
ولد منتصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة على الأصح، ومات مسموماً من زوجته بإرشاد يزيدبن معاوية لها على ذلك على ما قيل سنة أربع أو خمس أو تسع وأربعين أو خمسين أو إحدى وخمسين أو ثمان وخمسين، ودفن بالبقيع وصلى عليه سعيدبن العاص، وقبره مشهور فيه، ويكفيك في فضله الحديث الصحيح: «أن النبيّ كان يخطب فرقي إليه الحسن، فأمسكه والتفت إلى الناس ثم قال: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فكان كذلك. فإنه لما استخلف بعد موت أبيه وخرج لقتال معاوية وعرف أنه لا يخلص الأمر لأحد حتى يقتل جمع كثير من الجانبين، امتثل إشارة جده، ورغب عن الخلافة ونزل عنها لمعاوية وسلمها له طوعاً وزهداً وحقناً لدماء المسلمين وأموالهم على شروط وفى له معاوية بمعظمها. ومناقبه كثيرة وفضائله جملة شهيرة، وهو من الحكماء الكرماء الأسخياء. روي له عن النبي ثلاثة عشر حديثاً، وروى له أصحاب السنن الأربعة (قال حفظت من رسول الله: دع) أمر ندب لأن توقي الشبهات مندوب على الأصح (ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة) وعند ابن حبان: «فإن الخير طمأنينة، وإن الشرّ ريبة» وهو كالتمهيد لما قبله، والتقدير: إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه، فإن نفس المؤمن جبلت على أنها تطمئن إلى الصدق وتنفر من الكذب وإن لم تعلم أن الذي اطمأنت إليه كذلك في نفس الأمر، وإذا جبلت على ذلك فعليك أن تأخذ برغبتها ورهبتها إذا جربت منها الإصابة كما هو شأن كثير من النفوس الصافية، لأن الله أطلعهم على حقائق الوجود وهم في أماكنهم بإلغاء ما يحبّ. قال بعضهم: لما علم الله أن قلب المؤمن الكامل ذي النفس الزكية المطهرة من رديء أخلاقها يميل ويطمئن إلى كل كمال، ومنه كون القول أو الفعل صدقاً أو حقاً، وينفر من كون أحدهما كذباً أو باطلاً، جعل ميله وطمأنينته علامة واضحة على الحل. وانزعاجه ونفرته علامة على الحرام وأمر في الأول
بمباشرة الفعل، وفي الثاني: بالإعراض عنه ما أمكن اهـ.
(رواه الترمذي) ورواه ابن حبان في «صحيحه» والحاكم (وقال) الترمذي: (حديث حسن صحيح) ولا يضرّ توقف أحمد في أبي الجوز رواية عن الحسن، فقد وثقه النسائي(1/210)
وابن حبان، وبه يندفع قول بعضهم: إنه مجهول لا يعرف، وقد أخرجه أحمد أيضاً عن أنس، والطبراني عن ابن عمر مرفوعاً، وبه يردّ قول الدارقطني: إنما يروى هذا من قول ابن عمر.
وروي عن الإمام مالك من قوله: وروي بإسناد ضعيف عن أبي هريرة عن النبيّ أنه قال لرجل: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فقال وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: إذا أردت أمراً فضع يدك على صدرك، فإن القلب يضطرب للحرام ويسكن للحلال، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة» زاد الطبراني «قيل له فمن الورع؟ قال: الذي يقف عند الشبهة» (قوله) (يريبك بفتح الياء) التحتية (وضمها) والفتح أفصح وأشهر، من راب وأراب: بمعنى شك. وقيل: راب لما تتيقن فيه الريبة، وأراب لما تتوهم منه (ومعناه) أي معنى قوله: دع ما يريبك الخ (اترك) ندباً (ما تشك في حله واعدل إلى ما لا تشك فيه) أي في حله، قيل: وهذا نظير ما في الحديث الآخر «ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» وحاصله التنزه عن الشبه وورد صافي الحلال البين.
563 - (الثالث عن أبي سفيان صخر) بفتح المهملة فسكون المعجمة بعدها راء مهملة (ابن حرب) ابن أميةبن عبد شمسبن عبد مناف القرشي الأموي المكي (رضي الله عنه) ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة الفتح وكان من المؤلفة، ثم حسن إسلامه. وشهد حنيناً وأعطاه من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقية، وأعطى لابنيه يزيد ومعاوية، فقال أبو سفيان: «وا إنك لكريم فداك أبي وأمي، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ولقد سالمتك فنعم المسالم أنت، فجزا الله خيراً» ثم شهد الطائف وفقئت عينه يومئذٍ وفقئت عينه الأخرى يوم اليرموك، استعمله النبي على نجران، فمات النبي وهو عليها. روي له حديث هرقل بطوله، أخرج الشيخان الحديث بطوله عنه المذكور بعضه هنا، فأخرجه البخاري كذلك في بدء الوحي وفي الجهاد، وأخرجه في الإيمان والجهاد ببعضه، وفي التفسير والاستئذان مختصراً، وأخرجه مسلم في المغازي بتمامه. ورواه أبو داود مختصراً، وكذا الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي بتمامه. انتهى ملخصاً من «الأطراف» للمزي، مات بالمدينة سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين وله ثمان وثمانون أو ثلاث وتسعون سنة. وصلى عليه عثمان رضي الله عنه (في حديثه الطويل في قصة هرقل) بكسر(1/211)
الهاء وفتح الراء وسكون القاف: وهو ملك الروم؛ ولقبه قيصر كما يلقب ملك الفرس بكسرى: أي في قصته لما كتب إليه يدعوه للإسلام فأرسل إلى من بالشام من قريش وكان أقربهم منه أبا سفيان، وكان ذلك في سنة ستّ من الهجرة (قال هرقل) متعرّفاً أحوال النبيّ (فماذا يأمركم؟) يدل على أن الرسول من شأنه أن يأمر قومه والأصل ماذا يأمركم به (يعني: النبيّ) هذا مدرج لبيان المستفهم عنه (قال أبو سفيان: قلت يقول: عبدوا الله وحده) فيه أن للأمر صيغة معروفة لأنه أتى بقول: اعبدوا الله في جواب ما يأمركم، وهو من أحسن الأدلة، لأن أبا سفيان من أهل اللسان وكذا الراوي عنه ابن عباس، بل هو من أفصحهم، وقد رواه عنه مقراً له (لا تشركوا
به شيئاً) كذا هو في «الرياض» بحذف الواو وهي في رواية المستملي فيكون تأكيداً لقوله وحده/ وفي رواية لهما بإثباتها فيكون كالعطف التفسيري.
قال البرماوي: قوله: اعبدوا الله الخ هو والجملتان بعده بمعنى.
وقال الشيخ زكريا: متلازمات، قالا: وبالغ أبو سفيان في ذلك لأنه أشدّ الأشياء عليه والإبعاد منها أهم، أو أنه فهم أن هرقل من الذين يقولون من النصارى بالإشراك، فأراد تنفيره من دين التوحيد (واتركوا ما يقول آباؤكم) أي: مقولهم أو ما يقوله آباؤكم، وهي كلمة جامعة لترك ما كانوا عليه في الجاهلية، وإنما ذكر الآباء تنبيهاً على عذرهم في مخالفتهم له لأن الآباء قدوة عند الفريقين: أي: عبدة الأوثان والنصارى (ويأمرنا بالصلاة) أي بإقامتها (والصدق) وهي في رواية للبخاري «الصدقة» بدل «الصدق» ورجحها السراج البلقيني.
قال الحافظ ابن حجر: ويقوّيها رواية المؤلف، يعني: البخاري في التفسير للزكاة. قلت: وكذا هو عند مسلم قال: واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع، ويرجحها أيضاً أنهم كانوا يستقبحون الكذب، فذكر ما لم يألفوه أولى. قلت: وفي الجملة ليس الأمر بذلك ممتنعاً كما في أمرهم بوفاء العهد وأداء الأمانة، وقد كان من مألوفاتهم، وقد ثبتا عند المؤلف في الجهاد من رواية أبي ذرّ عن شيخيه الكشميهني والسرخسي قال: «بالصلاة والصدق والصدقة» وفي قوله: «ويأمرنا» بعد قوله: «يقول اعبدوا ا» إشارة إلى المغايرة بين الأمرين فيما يترتب على مخالفتهما، إذ مخالف الأول كافر، والثاني عاص اهـ.
(والعفاف) الكف عن المحارم وخوارم المروءة. قال في المحكم: العفة الكف عما لا يحل ولا يجمل (والصلة) أي: صلة الأرحام وكل(1/212)
ما أمر الله أن يوصل وذلك بالبرّ والإكرام وحسن المراعاة (متفق عليه) .
574 - (الرابع عن أبي ثابت) بالمثلثة وبعد الألف موحدة فمثناة (وقيل) يكنى: بـ (ــــأبي سعيد) وقيل: بأبي سعد (وقيل) (بأبي الوليد) بفتح الواو وكسر اللام، وقيل: أبي عبد الله (سهل) بفتح أوله المهمل وسكون ثانيه (ابن حنيف) بضم المهملة ففتح النون فسكون التحتية آخره فاء (وهو بدري) مدني (رضي الله عنه) شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله، وثبت يوم أحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انهزم الناس، وكان بايعه في يومئذٍ على الموت، ثم صحب سهل علياً فاستخلفه على المدينة حين سار إلى البصرة، وشهد معه صفين، وولاه بلاد فارس فأخرجه أهلها، فاستعمل عليهم زيادبن أبيه فصالحوه وأدوا الخراج. مات سهل بالكوفة سنة ثمان وثلاثين وصلى عليه عليّ وكبر ستاً وقال: إنه بدريّ. يروى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثاً، اتفق الشيخان منها على أربعة، وانفرد مسلم باثنين، وخرّج له أصحاب السنن الأربع (قال: قال رسول الله: من سأل الله تعالى الشهادة) أي أنالته إياها (بصدق) أي حال كونه صادقاً في سؤالها (بلغه ا) بنيته الصادقة (منازل الشهداء) العليا (وإن مات على فراشه) ففي الحديث أن صدق القلب سبب لبلوغ الأرب، وأن من نوى شيئاً من عمل البرّ أثيب عليه وإن لم يتفق له عمله، كما تقدم في حديث: «إن بالمدينة لرجالاً، ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر» .
قال المصنف: ففي الحديث استحباب طلب الشهادة واستحباب نية الخير (رواه مسلم) قال الحافظ ابن حجر في «أمالي الأذكار» : وأخرجه أبو عوانة وأبو داود والنسائي وابن(1/213)
ماجه، وفي «الجامع الصغير» : أخرجه مسلم والأربعة/ ومثله في «التيسير» للديبع فقال: أخرجه الخمسة.
585 - (الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: غزا نبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) قال السيوطي في «التوشيح» : هو يوشعبن نون (فقال لقومه لا يتبعني) في الخروج للحرب (رجل ملك بضع امرأة) بضم الباء وسكون المعجمة يطلق على الفرج والنكاح والجماع (وهو يريد أن يبني بها ولما) بتشديد الميم (يبن) أي يدخل (بها) وكان عادة العرب إذا دخل الزوج على المرأة بنى عليها قبة من شعر ونحوه، فأطلق البناء وأريد به الدخول من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم (ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها) أي لم يتمّ عملها (ولا أحد اشترى غنماً) أي: حوامل بدليل ما بعده (أو خلفات وهو ينتظر أولادها) ويحتمل أن هذا خاص بالإبل، وأن شراء الغنم عذر في التخلف لاشتغال قلب صاحبها بها وإن لم تكن حوامل لضعفها وحاجتها إلى القائم بأمرها ولا كذلك الإبل.
قال القرطبي: نهى النبي قومه عن اتباعه على أحد هذه الأحوال، لأن أصحابها يكونون متعلقي النفوس بهذه الأسباب فتضعف عزائمهم وتفتر رغباتهم في الجهاد والشهادة وربما يفرط ذلك التعلق فيفضي إلى كراهة الجهاد وأعمال الخير؛ ومقصود هذا النبي تفرغهم من العوائق والاشتغال إلى تمني الشهادة بنية صادقة وعزم حازم ليحصلوا على الحظّ الأوفر والأجر الأكبر اهـ. (فغزا فدنا من القرية) وقع في جميع نسخ مسلم «أدنى رباعياً» .
قال المصنف: وهو إما أن يكون تعدية لدنا: أي قرب. فمعناه أدنى جيوشه وجموعه للقرية؛ وإما أن يكون أدنى بمعنى حان، أو قرب فتحها، من قولهم: أدنت الناقة: إذا حان نتاجها ولم يقولوه في غير الناقة اهـ.
قال القرطبي: والذي يظهر لي أن هذا من باب أنجد وأغار فيكون معنى أدنى دخل في الموضع الداني منها اهـ. ومنه يعلم أن اللفظ المذكور للبخاري، والقربة: هي أريحاء (صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: إنك) وعند مسلم «أنت» (مأمورة) أي مسخرة بأمر الله عزّ وجلّ (وأنا مأمور) أي(1/214)
مسخر كذلك وكذا جميع الكائنات غير أن أمر الجمادات أمر تسخير وتكوين وأمر العقلاء أمر تكليف (اللهم احبسها علينا، فحبست) معجزة له، وقد حبست لنبينا في قصة الإسراء وفي حفر الخندق.
قال القاضي عياض: وقد اختلف هل ردت على أدراجها أو وقفت أو بطئت حركاتها؟ وعلى كل فهو من معجزات النبوّة (حتى فتح الله عليه) البلاد، وفي نسخة «فتح عليه» بالبناء للمفعول (فجمع الغنائم، فجاءت: يعني النار لتأكلها فلم تطعمها) وعند مسلم «فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار لتأكله فلم تطعمه» وهذه كانت عادة الأنبياء في الغنائم أن يجمعوها فتجيء نار من السماء فتأكلها فيكون ذلك علامة قبولها وعدم الغلول فيها، فلما جاءت هذه النار فلم تأكلها علم أن فيها غلولاً.
قال الكرماني: وعبر بلم تطعمها دون لم تأكلها للمبالغة، إذ معناه لم تذق طعمها كما في قوله تعالى: (ومن لم يطعمه) (فقال: إن فيكم غلولاً) بضم أوليه المعجمة فاللام: الخيانة في المغنم (فليبايعني من كل قبيلة رجل) لعسر مبايعة كل واحد واحد لكمال كثرتهم فإنهم كانوا نحو سبعين ألفاً كما ذكره بعضهم (فلزقت يد رجل) منهم (بيده) إعلاماً بأنه ممن غلّ قومه، فلذا قال (فقال: إن فيكم) القبيلة التي منها ذلك الرجل (الغلول فلتبايعني قبيلتك) أي كل فرد منهم (فلزقت يد رجلين أو ثلاثة) وكان علامة الغلول عندهم التصاق يد الغالّ (بيده فقال) النبيّ (فيكم) أي: عندكم (الغلول فجاء) أي الغالّ المذكور (برأس مثل رأس بقرة من الذهب) بيان لرأس (فوضعها) في جملة الغنيمة (فجاءت النار) المؤذن أكلها بالقبول (فأكلتها فلم تحل الغنائم) بفتح الفوقية وكسر الحاء المهملة على البناء للمفعول (لأحد قبلنا) من سائر الأنبياء والأمم السابقين (ثم أحل الله لنا الغنائم) أي للنبيّ كما في الحديث الآخر: «وأحلت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي» ولأمته ولم(1/215)
تحلّ لأحد غيرهم أصلاً (رأى) علم (ضعفنا) في الأبدان (وعجزنا) عن قوى الأعمال (فأحلها) أي: الغنائم (لنا) أورده الديبع في «التيسير» بلفظ: «ثم أحلّ الله لنا الغنائم لما رأى عجزنا وضعفنا فأحلها لنا» وقال أخرجاه، وقوله فأحلها يحتمل أن يكون جواب لما دخلت فيه الفاء كما أجازه بعض النحاة، ويحتمل أن جوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه وما بعد الفاء معطوف (متفق عليه الخلفات بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام جمع خلفة) بفتح الخاء وكسر اللام أيضاً ويجمع على خلف كذلك بحذف الهاء كما في «مختصر القاموس» وعلى خلائف كما في «مختصر النهاية» (وهي الناقة الحامل) كذا في النهاية وغيرها، وقال القرطبي: هي الناقة التي دنا ولادها.
596 - (السادس عن أبي خالد حكيم) بفتح المهملة وكسر الكاف (ابن حزام) بكسر المهملة بعدها الزاي، وهذا الضبط في كل ما جاء على هذه الصورة من أسماء قريش، وما جاء منه في أسماء الأنصار فهو بالمهملتين المفتوحتين. وابن خويلدبن أسدبن عبد العزّىبن قصي، القرشي الأسدي (رضي الله عنه) ولد في الكعبة ولم يتفق ذلك لغيره (وهو من مسلمة الفتح) وكان من أشراف قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام، وكان من المؤلفة، أعطاه يوم حنين مائة بعير، ثم حسن إسلامه ولم يصنع شيئاً من المعروف في الجاهلية إلا صنع مثله في الإسلام، وكانت بيده دار الندوة فباعها من معاوية بمائة ألف درهم، فقال له ابن الزبير: بعث مكرمة قريش، فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى، وتصدق بثمنها، وحج في الإسلام ومعه مائة بدنة قد جللها بالجرة أهداها، ووقف فيها بمائة وصيف بعرفة في أعناقهم أطواق الفضة منقوش فيها عليها عتقاء الله عن حكيمبن حزام، وأهدى ألف شاة وكان جواراً، كفّ قبل موته، وعاش مائة وعشرين سنة نصفها في الجاهلية ونصفها في الإسلام، ونظر فيه ابن الأثير في «أسد الغابة» ، وتوفي سنة أربع وخمسين أيام(1/216)
معاوية وقيل سنة ثمان وخمسين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثاً، أخرج منها الشيخان أربعة أحاديث اتفقا عليها، وسأتي إن شاء الله في باب القناعة والاقتصاد مزيد في ترجمته (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيعان) بتشديد التحتية (بالخيار) بكسر الخاء المعجمة: اسم من الاختيار والتخيير، وهو طلب خير الأمرين من الفسخ والإجازة (ما لم يتفرّقا) .
قال الفضلبن سلمة: افترقا بالكلام وتفرقا بالأبدان (فإن صدقا) فيما يخبران به البائع في المبيع والمشتري في الثمن قدراً وصفة، وأن الثمن انتهت الرغبات فيه إلى كذا، ويخبر بما يترتب عليه تفاوت الرغبات من عيب ونحوه (وبينا) البائع ما في المبيع والمشتري ما في الثمن من غش وشبهة قوية قامت قرائن أحوال أحدهما أنه إذا اطلع على مثلها لا يأخذه (بورك لهما في بيعهما) وشرائهما بتسيهل الأسباب المقتضية لزيادة الربح، من كثرة الراغبين وحسن المعاملين ومنع الخيانة في المبتاع والحسد والعداوة المقتضية للخسران (وإن كتما) ما في السلعة من العيوب ونحوها (وكذبا) فيما يمدحانها (محقت) ذهبت وتلفت (بركة بيعهما) فلم يحصلا منه إلا على مجرّد التعب (متفق عليه) وكذا أخرجه أصحاب السنن الأربع غير ابن ماجه/ وفي رواية: «فإن صدقا البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحاً ما، ويمحقا بركة بيعهما، اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للربح» أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، كذا في التيسير مع تصرف يسير.
فائدة: كما أن التاجر إذا صدق في سلعته ولم يغش بورك له في معاملته، كذلك العبد إذا صدق في معاملته مع ربه ولم يغش في أداء حق عبوديته برياء أو سمعة أو نظر لعمله بورك له في تلك المعاملة وأعطى أمله {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة: 111) ولكون صدق المعاملة مبنياً على كمال المراقبة تارة ومحصلاً له أخرى كما تقدم «وإن البرّ يهدي إلى الجنة» عقب باب الصدق به فقال:(1/217)
5 - باب المراقبة
هو أحد مقامي الإحسان المشار إليه في حديث جبريل الآتي بقوله: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وفي الحديث: عن عبادةبن الصامت قال: قال رسول الله: «أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان» وما أحسن ما قيل:
كأنّ رقيباً منك يرعى خواطري
وآخر يرعى ناظري وجناني
وقال ابن عطاء في الحكم: إلهي عميت عين لا تراك عليها رقيباً.
(قال الله تعالى:) مخاطباً لنبيه ( {الذي يراك حين تقوم} ) إلى الصلاة ( {وتقلبك} ) في أركان الصلاة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ( {في الساجدين} ) أي المصلين.
وقال الواسطي: في أصلاب الأنبياء والمرسلين. وقيل: تقلب سرك في القربة، فإن السجود محل القربة والاقتراب. وقيل: في الآية إشارة إلى أن من لزم الإقبال عليه بنحو الصلاة سارعت إليه العناية به، ومن خصوصياته أنه كان يرى من خلفه، والآية محتملة لإفادة هذه الخصوصية.
(وقال تعالى: {وهو معكم} ) بعلمه ( {أينما كنتم} ) لا يحجبه مكان ولا يخفى عليه شأن، قال تعالى: ( {وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق} ) .
(وقال تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء} ) كائن ( {في الأرض ولا في السماء} ) لعلمه بما يقع في العالم من كليّ وجزئي، وخصهما بالذكر لأن الحس لا يتجاوزهما، وقيل: فيه لا يخفى عليه شيء فطالعوا همومكم أن تكون خالية عن الأهواء والشبه وطالعوا أسراركم(1/218)
لا يكون فيها شيء غير الحق والتعلق به فإنه لا يخفى عليه شيء. وقال جعفر في قوله تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء} لا يطلعنّ عليك فيرى في قلبك سواه فيمقتك.
(وقال تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} ) يرصد أعمال العباد لا يفوته منها شيء: (وقال تعالى: {يعلم} ) أي: الله ( {خائنة الأعين} ) بمسارقتها النظر إلى محرم ( {وما تخفي الصدور} ) أي: القلوب، قيل: فيه إشارة إلى التذكير بصغائر الذنوب فكيف بالكبائر، وأنه تعالى يعلم البواطن: أي ومن علم ذلك علم الظواهر بالقياس العادي.
(والآيات في الباب كثيرة معلومة) كقوله تعالى: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} (وأما الأحاديث) جمع أحدوثة بمعنى الحديث، ويجوز أن يكون جمع حديث على غير قياس كما تقدم أي: الأحاديث النبوية.
601 - (فالأول) منها (عن عمربن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم) بينما كبينا ظرفا زمان، فيهما معنى المفاجأة ومعنى الشرط، ولذا استدعيا جواباً، وأصلهما بين التي هي ظرف بمعنى وسط دخلت عليها ما الكافة عن الجرّ وأشبعت أخرى فتحة النون فصارت ألفاً، والعامل فيها هنا معنى المفاجأة في قوله:(1/219)
(إذا طلع علينا رجل) والمعنى: وقت حضورنا في أشرف مجلس فاجأنا عند طلوع ذلك الرجل.
قال ابن جني: عامل بينا محذوف، وطلع عامل في إذ بناء على عدم إضافتها إليه.
وقال الشلوبين: عامل بينا محذوف وإذ بدل منه، والجملة في محل جر بإضافة إذ إليها. وقيل: إذ مبتدأ خبره ذات يوم: أي طلوع ذلك الرجل وقع بين تلك الأحوال، وذات يوم ظرف. ويجوز أن يكون «ذات» صلة: أي نحن عنده يوماً. والإتيان بها للتوكيد ورفع توهم أنه تجوز باليوم عن مطلق الزمان. وقوله إذا طلع هو مستعار من طلعت الشمس لا يذكر إلا فيما له شأن كما حققه في «الكشاف» في قوله تعالى: {أطلع الغيب} (مريم: 78) (شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى) بضم التحتية بالبناء للمجهول وبفتح النون للمتكلم ومعه غيره مبني للفاعل (عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) معناه التعجب المتضمن لدعوى كونه ملكاً، إذ لو كان غريباً لكان عليه أثر السفر وشعثه ولو كان مدنياً لعرفوه واستدل به على ندب حسن الهيئة.I
قال بعض المحققين: طلوعه كذلك يقوي معنى قولهم: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن، ولذا استحب التزين في الجمعة والعيد، وشديد صفة لرجل، وأل في المضاف إليه أغنت عن الضمير العائد منه إليه، والأصل شديد بياض ثيابه شديد سواد شعره، اختار قوله: «ولا يعرفه منا أحد» على قوله: لا نعرفه لأنه آكد في تنكيره (حتى جلس إلى النبي) قيل: يتعلق بمحذوف تقديره استأذن وأتى حتى جلس.
قال العاقولي في «شرح المصابيح» : وفيه نظر، لأن الكلام مستقيم من دون هذا التقدير، لأن معنى طلع علينا أتانا، والاستئذان لا حاجة للملك إليه بل معنى المفاجأة يدل على عدمه اهـ. وفيه أن الاستئذان للدنوّ، وقد جاء التصريح به عند النسائي من حديث أبي هريرة وأبي ذرّ، فدكر القصة إلى أن قال: السلام عليكم يا محمد، فرد عليه السلام، فقال: أدنو يا محمد؟ قال: ادنه، فما زال يقول: أدنو، مراراً ويقول: ادنه حتى وضع يديه على ركبتي النبي واستئذانه ليعمي أمره على القوم (فأسند ركبتيه) أي: جبريل (إلى ركبتيه) أي: إلى ركبتي النبي زيادة في التقريب الباعث على التنبيه على أنه إنما جاء لأمر كلي (ووضع كفيه على فخذيه) أي فخذي نفسه كما هو الأدب وهي جلسة المتعلم بين يدي المعلم.
قال(1/220)
العاقولي: فلا معنى لقول من قال إنه وضع يديه على فخذي النبي، وإن كان شأن تقريبه يقتضي ذلك، وفيه أن ذلك القول جاء التصريح به عند النسائي فله وجه وجيه.
ومن ثم قال السيد معين الدين الصفوي: إنه أقوى دليلاً. قال: بل هو الوجه لأنه حينئذٍ يكون على نسق قوله ركبتيه إلى ركبتيه، لأن اتكاء الركبة والجلوس إليه ليسا من شأن الأدب المطلوب من المتعلم، فأشعرت تلك الهيئة بأنها ليست هيئة تلميذ بل هيئة معلم مهتم بشأن التعليم ووضع الكف على الفخذين طريق المتعلمين وبينهما بون وإن أمكن أن يقال هذا وجه آخر لتعجب الحاضرين كما في السؤال والتصديق. وقال جدي: رجوع الضمير في هذه الرواية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى لتتفق مع رواية النسائي اهـ.
(وقال: يا محمد) ناداه باسمه مع قوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} (النور: 63) زيادة في التغريب عند افتتاح الخطاب بالمسألة، على أن الملائكة ليسوا داخلين في مثل ذلك الخطاب (أخبرني عن الإسلام) هو والإيمان لاعتبار التلازم بين مفهوميهما شرعاً، فلا يعتبر في الخارج إيمان شرعاً بلا إسلام ولا عكسه، متحدان ما صدقا في الشرع مختلفان مفهوماً، فكل مؤمن شرعاً مسلم كذلك، وكل مسلم مؤمن، فما دلّ عليه حديث جبريل من اختلافهما هو باعتبار المفهوم، إذ مفهوم الإسلام الشرعي الانقياد بالأفعال الظاهرة الشرعية.
والإيمان في الشرع التصديق بالقواعد الشرعية، على أنه قد يتوسع الشرع فيهما فيستعمل كل واحد منهما في مكان الآخر، كإطلاق الإيمان على الأعمال الظاهرة في حديث: «الإيمان بضع وسبعون باباً، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله إلا ا» على أحد الوجوه في ذلك: وسيأتي ما فيه في باب الدلالة على كثرة طرق الخير، وإطلاق الإسلام على التصديق القلبي في قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19) .
قال القرطبي: وهذا الإطلاق من باب التجوّز والتوسع، وإذا حقق ذلك زاح كثير من الإشكال الناشىء من هذا الاستعمال (فقال رسول الله: أن تشهد أن لا إله إلا ا) خبر لمبتدأ محذوف: أي الإسلام أن تشهد حذف لقرينة وجوده في السؤال، والمراد أن يقول ذلك بلسانه المتمكن من النطق فهو معتبر في الإسلام، فمن صدق بمضمونها ولم يأت بها مع عدم مانع من النطق فليس بمسلم ولا مؤمن.
وحكى المصنّف الإجماع عليه في «شرح مسلم» ، لكن حكى غيره قولاً أنه مؤمن عاص بترك النطق بها ولا يعتبر النطق بها بالعربية على الصحيح مع التصديق القلبي(1/221)
بمضمونها، فقوله تشهد أي تقرّ وتبين، وأن مخففة من الثقيلة لتقدم ما يدل على العلم عليها وبدليل عطفها عليها في (وأن محمداً رسول الله) ولا في: «لا إله إلا ا» هي النافية للجنس نصاً ومحلها مع اسمها رفع بالابتداء واسم الله تعالى خبر لها، وعن الزمخشري الاسم الكريم مبتدأ والنكرة خبر على القاعدة ثم قدم الخبر ثم أدخل النفي عليه والإيجاب على المبتدأ وركب لا مع الخبر. وقد بسطت الكلام على إعراب هذه الكلمة في باب فضل الذكر من «شرح الأذكار» . وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين.
قال ابن الصلاح: وإنما أضيف إليهما الصلاة ونحوها لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيامه بها يتمّ استسلامه وانقياده، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده، فالمقصود من ذكر الأركان الخمسة في الحديث بيان كمال الإسلام وتمامه، فلذلك ذكر هذه الأمور مع الشهادتين، أما أصل الإسلام فالشهادتان كافيتان فيه.
(وتقيم) بالنصب عطف على تشهد خلافاً لمن زعم رفعه وما بعده استئنافاً إيماء إلى أن الإسلام يكفي في حصوله الشهادتان وحدهما، وتقدم أن المذكور في الحديث الإسلام الكامل (الصلاة) أي: تعدل أركانها أو تديم إقامتها. والصلاة لغة الدعاء بخير. وشرعاً أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة غالبة، وأصلها فعلة بفتحات ولامها واو، واختار بعض المحققين أنها مأخذوة من الصلا: عرق متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب ويمتد منه عرقان في كل ورك عرق يقال لهما: الصلوان، فإذا ركع المصلي انحنى صلاه وتحرك، ومنه سمي ثاني خيل السباق مصلياً لأنه يأتي مع صلوى السابق. وعلم مما مر أنها بمعنى الدعاء حقيقة لغوية مجاز عرفي علاقته تشبيه الداعي في تخشعه ورغبته بالمصلي (وتؤتي الزكاة) الواجبة في الأنواع الواجبة هي فيها المقررة في كتب الفقه.
والزكاة لغة النماء والتطهير. وشرعاً اسم للمخرج من ذلك (وتصوم) من الصوم. وهو لغة الإمساك. وشرعاً: إمساك مخصوص (رمضان) صريح في عدم كراهة ذلك مطلقاً وهو الأصح، وسمي شهر الصوم بذلك لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها كما جاء ذلك في خبر مرفوع (وتحج البيت) أي: تقصده بنسك حج أو عمرة إذ الأصح وجوبها على أنه جاء عند ابن حبان زيادة: «وتعتمر وتغتسل من الجنابة وأن تتم الوضوء» وقال: وتفرّد بهذه الزيادة سليمان التيمي.(1/222)
والحج لغة القصد. وشرعاً قصد الكعبة للنسك. والبيت علم بالغلبة على الكعبة كالنجم للثريا (إن استطعت إليه سبيلاً) صح عند الحاكم وغيره أنه فسر السبيل في الآية: «بالزاد والراحلة» لكن ضعفه آخرون. وسبيلاً منصوب على التمييز وإنما قيد الحج بالاستطاعة مع أن ما مرّ مقيد بها أيضاً اتباعاً للنظم القرآني فإنه لم يقيد بهذا اللفظ غيره، أو إشارة إلى أن فيه من المشاقّ ما ليس في غيره. وأيضاً فعدم الاستطاعة في الحج يسقط وجوبه من أصله بخلافه في نحو الصلاة فإنما يسقط وجوب الأداء فقط دون أصل الوجوب (قال) جبريل (صدقت) قال عمر: (فعجبنا له) أي: منه أو لأجله (يسأله ويصدقه) إذ السؤال يدلّ على عدم علم السائل والتصديق يدل على علمه، وجملة يسأله في محل الحال.
تنبيه: الإسلام له في الشرع إطلاقان: يطلق على الأعمال الظاهرة كما في هذا الحديث، وعلى الاستسلام والانقياد، والتلازم بينه وبين الإيمان اعتبار لما صدق شرعاً إنما هو باعتبار المعنى الثاني، وأما باعتبار المعنى الأول فالإيمان ينفك عنه، إذ قد يوجد التصديق والاستسلام الباطني بدون الأعمال المشروعة؛ وأما الإسلام بمعنى الأعمال المشروعة فلا يمكن أن ينفك عنه الإيمان لاشتراطه لصحتها وهي لا تشترط لصحته خلافاً للمعتزلة (قال) جبريل (فأخبرني عن الإيمان) هو لغة مطلق التصديق من آمن بوزن أفعل لا فاعل وإلا لجاء مصدره فعالاً، وهمزته للتعدية كأن المصدق جعل الغير آمنا من تكذيبه، أو للصيرورة كأنه صار ذا أمن من أن يكذبه غيره. ويضمن معنى أعترف وأقرّ فيعدي بالياء كما في الحديث. وأذعن فيعدي باللام نحو {فآمن له لوط} (العنكبوت: 26) . وشرعاً التصديق بالقلب فقط: أي: قبوله وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد، وتعريفه بما ذكر هو قول جمهور الأشاعرة وعليه الماتريدية. وقيل: يشترط أن ينضمّ لذلك إقرار اللسان وعمل سائر الجوارج فيكفر من أخلّ بواحدة من هذه الثلاثة وهو مذهب الخوارج فلا صغيرة عندهم. وقيل يعتبر ضمها إليه على وجه التكميل لا الركنية وهو مذهب المحدثين. وقيل: تصديق بالجنان وإقرار باللسان واشتهر عن أصحاب أبي حنيفة وبعض محققي الأشاعرة، لأن التصديق لما اعتبر بكل منهما كان كل منهما جزءاً من مفهوم الإيمان، لكن تصديق القلب ركن لا يحتمل السقوط، وتصديق اللسان يسقط بنحو خرس أو إكراه، واستدل لركنيته عند القدرة بخبر «حتى يقولوا أو يشهدوا، لا إله إلا ا» وردّ بأنه لا يدل لخصوصية(1/223)
وكنية القول التي النزاع فيها، بل كما يحتملها يحتمل أنه شرط لإجراء أحكام الإسلام، وما تقدم عن المصنف من نقله اتفاق أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، على أن من آمن بقلبه ولم ينطق بلسانه مع قدرته كان مخلداً في النار، فقد اعترض بأنه
لا إجماع على ذلك وبأن لكل من الأئمة الأربعة قولاً بأنه مؤمن عاص بترك التلفظ، بل الذي عليه جمهور الأشاعرة وبعض محققي الحنفية أن الإقرار باللسان إنما هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فحسب (قال) مفسراً للإيمان بذكر متعلقاته، ولم يفسر لفظه بل أعاده بقوله: (أن تؤمن) لأنه كان معروفاً عندهم أنه لغة مطلق التصديق وشرعاً التصديق بالأمور المعلومة من الدين بالضرورة، فمن تلك المتعلقات التي يجب الإيمان بها الإيمان (با) أي: بأنه تعالى واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لا شريك له في الألوهية وهي استحقاق العبادة، منفرد بخلق الذوات بصفاتها وأفعالها وبقدم ذاته وصفاته الذاتية وبأن ذاته له صفات واجبة لها قديمة وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وهذه الصفات ليست أعراضاً ولا عين ذاته ولا غيرها بناء على أن الغيرين ما ينفك أحدهما عن الآخر.
والحاصل أنه يجب الإيمان بأنه تعالى متصف بكل كمال منتزه عن كل وصف لا كمال فيه، واجب الوجود لذاته منفرد باستحقاق العبودية على العاملين (وملائكته) جمع ملك نظراً إلى أصله الذي هو ملاك مفعل من الألوكة: أي الرسالة والتاء زيدت فيه لتأكيد معنى الجمع أو لتأنيث الجمع، وقدم الملائكة على الكتب مراعاة للترتيب الواقع لأنه تعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسل، ولا حجة فيه لتفضيلهم عليهم وإلا للزم تفضيلهم على الكتب ولا قائل به: أي فيجب الإيمان بأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والملائكة باعتبار الأحوال والأعمال أقسام ذكرتهم في أوائل «شرح الأذكار» (وكتبه) أي: بأنها كلام الله تعالى الأزليّ القديم القائم بذاته المنزه عن الحرف والصوت؛ وبأنه تعالى أنزلها على بعض رسله بألفاظ حادثة في ألواح أو على لسان الملك، وبأن كل ما تضمنته حق وصدق، وبأن بعض أحكامها نسخ وبعضها لم ينسخ.
قال الزمخشري وغيره: وهي مائة كتاب وأربعة كتب: خمسون(1/224)
على شيث، وثلاثون على إدريس، وعشرة على آدم، وعشرة على إبراهيم، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وهو مخالف في التفصيل لما تقدم، وذلك هو الذي ذكره السمرقندي وغيره (ورسله) أي بأنه أرسلهم إلى الخلق لهدايتهم وتكميل معاشهم ومعادهم، وأيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، فبلغوا عنه رسالته وبينوا للمكلفين ما أمروا ببيانه، وأنه يجب احترام جميعهم ولا يفرّق بين أحد منهم في الإيمان به، وأنه تعالى نزههم عن كل وصمة ونقص، فهم معصومون من الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها على المختار بل هو الصواب. وأخرج الإمام أحمد في «مسنده» عن أبي ذرّ قال: «قلت: يا رسول الله كم وفاء عدد الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، أرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً» (واليوم الآخر) وهو يوم القيامة، وصف بذلك لأنه لا ليل بعده، ولأنه آخر أيام الدنيا.
وفي رواية: «والبعث الآخر» ووصفه بالآخر تأكيد كأمس الدابر: أي بوجوده وما اشتمل عليه من الحساب والميزان والصراط والجنة والنار وغير ذلك مما نطق به الكتاب والسنة الثابتة (وتؤمن بالقدر خيره وشره) أي: أن الجميع بتقدير الله ومشيئته، وأعاد العامل ومتعلقه تنبيهاً على الاهتمام بالتصديق به، لأنه موضع مزلة أقدام الضعفاء الراكنين إلى مشاهدة ظواهر أفعال البشر، وأكده بالإبدال منه فقال خيره وشرّه وفي رواية لمسلم «وبالقدر كله» لأن البدل توضيح مع توكيد لتكرار العامل. وحقيقة الإيمان بالقدر الاعتراف بأن جميع أفعال العباد مخلوقة تعالى وأنها مرادة له وأنها مكتسبة للعبد. والقضاء عند الأشعرية إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فما لا يزال. والقدر إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأفعالها، أو انقضاء علمه أزلاً بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال، والقدر إيجاده إياه على ما يطابق العلم. واعلم أن الإيمان بالقدر على قسمين:
أحدهما: الإيمان بأنه تعالى سبق في علمه ما يفعله العباد من خير وشرّ وما يجازون به وأنه كتب ذلك عنه وأمضاه وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.
ثانيهما: أنه تعالى خلق أفعال عباده كلها من خير وشرّ، وهذا القسم تنكره القدرية كلهم والأول لا ينكره إلا غلاتهم (قال: صدقت، قال، فأخبرني عن الإحسان) قال القرطبي: أل فيه للعهد الذهني وهو الذي قال فيه تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} (البقرة: 195) فلما تكرّر الإحسان في القرآن وترتب عليه هذا الثواب(1/225)
العظيم سأل عنه جبريل ليعلمهم بعظيم ثوابه وكمال رفعته اهـ. وهو مصدر أحسنت كذا إذا حسنته وكملته متعدياً بالهمزة وبحرف الجر، أو أحسن متعدياً بحرف الجر فقط كأحسنت إليه: إذا فعلت معه ما يحسن فعله والمراد هنا الأول إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادة بأدائها على وجهها المأمور به مع رعاية حقوق الله تعالى ومراقبته واستحضار عظمته وجلاله ابتداء واستمراراً. وهو على قسمين:
أحدهما: غالب عليه مشاهدة الحق كما (قال) الإحسان (أن تعبد ا) من «عبد» أطاع، والتعبد التنسك، والعبودية الخضوع والذل (كأنك تراه) قيل: أصلة كأنك تراه ويراك، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، وهذا من جوامع كلمه، لأنه جمع فيه مع وجازته بيان مراقبة العبد ربه في إتمام الخضوع والخشوع وغيرهما في جميع الأحوال والإخلاص له في جميع الأعمال والحثّ عليهما مع بيان سببهما الحامل عليهما.
والثاني: من لا ينتهي إلى تلك الحالة لكن يغلب عليه أن الحق مطلع عليه ومشاهد له، وقد بينه بقوله: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا من جوامع الكلم أيضاً: أي فإن لم تكن تراه فلا تغفل فإنه يراك، وما أحسن ما قيل:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
خلوت ولكن قل عليّ رقيب
وقوله: كأنك مفعول مطلق أو حال من الفاعل، ثم هذان الحالان هما ثمرتا معرفة الله تعالى وخشيته، ومن ثم عبر بها عن العمل في خبر «الإحسان أن تخشى الله كأنك تراه» فعبر عن المسبب باسم السبب توسعاً (قال: صدقت) وأخر الإحسان عما قبله، لأنه غاية كما لهما بل والمقوّم لهما، إذ بعدمه يتطرق إلى الإسلام بمعنى الأعمال الظاهرة الرياء والشرك، وإلى الإيمان النفاق فيظهره رياء أو خوفاً، ومن ثم قال تعالى: {بلى من أسلم وجهه وهو محسن} (البقرة: 112) {ثم اتقوا وآمنوا * ثم اتقوا وأحسنوا} (المائدة: 93) فشرطه فيهما (قال فأخبرني عن الساعة) أي: عن زمن وجود يوم القيامة، سمي بذلك مع طول زمنه اعتباراً بأوله فإنها تقوم بغتة، أو لسرعة حسابها أو على العكس لطولها، أو لأنها على طولها عند الله كساعة من الساعات عندنا (قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) بل كلانا سواء في عدم العلم بالزمن المعين لوجودها، وقيل: هذا كان أولاً، ثم أطلعه الله عليها وأمره(1/226)
بكتمها، نقله السيوطي في أنموذج اللبيب عن أهل الحق، وعبر بما ذكره في الجواب لتتأكد فائدة التعميم في استواء كل سائل ومسؤول في عدم العلم بوقت وقوعها المعين، وفيه أنه ينبغي للمفتي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم. قال بعض السلف إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله.
فائدة: وقع هذا السؤال والجواب بين عيسىبن مريم وجبريل، لكن عيسى كان سائلاً وجبريل كان مسؤولا. أخرج الحميدي في أفراده عن الشعبي قال: «سأل عيسىبن مريم جبريل عن الساعة فانتفض بأجنحته وقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ذكره السيوطي في «التوشيح» (قال: فأخبرني عن أماراتها) بفتح الهمزة: أي: أشراطها وعلاماتها الدالة على اقترابها، وربما روي أماراتها (قال: أن تلد الأمة) أي: القنة وأل فيها للماهية، وكذا ما يأتي بعد دون الاستغراق لعدم اطراد ذلك في كل أمة (ربتها) أي: سيدتها، وفي رواية «ربها» أي: سيدها، وفي أخرى «بعلها» بمعنى ربها، كناية إما عن كثرة التسري اللازمة لاستيلائنا على بلاد الكفرة حتى تلد السرية بنتاً أو ابناً لسيدها فيكون ولدها سيدها كأبيه؛ فالعلامة استيلاؤنا على بلادهم وكثرة الفتوح والتسري، أو عن كثرة بيع المستولدات لفساد الزمان حتى تشتري المرأة أمها وتسترقها جاهلة أنها أمها فتكون العلامة غلبة الجهل الناشىء عنها الممنوع منه (وأن ترى الحفاة) جمع حاف بالمهملة وهو من لا نعل برجليه (العراة) جمع عار وهو من لا شيء على جسده. وفي رواية والحفاة: أي الخدمة، أل هنا وإن احتملت الاستغراق إلا أن العادة القطعية دالة على تخصيصه، وأن كل واحد منهم لا يحصل له ذلك، فالأولى كون أل للماهية (العالة) بتخفيف اللام جمع عائل وهو الفقير؛ من عال افتقر، أعال كثرت عياله (رعاء) بكسر أوله وبالمد جمع راع، ويجمع أيضاً على رعاة بضم أوله وهاء آخره مع القصر، والرعي الحفظ (الشاء) الغم واحده شأن بالهاء كشجر وشجرة، وخص مطلق الرعاء لأنهم أضعف الناس ورعاء الشاء لأنهم أضعف الرعاء، ومن ثم قيل راية رعاء الشاء أنسب بالسياق من رعاء الإبل، فإنهم أصحاب فخر وخيلاء وليسوا عالة ولا فقراء غالباً. ويجاب بأن فخرهم إنما هو بالنسبة لرعاء الشاء لا لغير الرعاء، فالقصد حاصل بذكر مطلق الرعاء ولكنه برعاء الشاء أبلغ (يتطاولون في
البنيان) وهو كناية عن إسناد الأمر لغير أهله وصيروره الأسافل من ضعفاء أهل البادية الغالب عليهم الفقر ملوكاً أو كالملوك حتى يشرئبون لانقلاب الأحوال واتساع الدنيا عليهم بعد ضيقها إلى تشييد المباني وهدم(1/227)
أركان الدين بعدم العمل بآي المثاني. وفي الحديث «من أشراط الساعة أن توضع الأخيار وترفع الأشرار» وفي حديث آخر مرفوعاً وهما صحيحيان «لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكعبن لكع» أي: لئيم ابن لئيم وفي حديث آخر «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة» ولبعضهم:
c
إذ عز في الدنيا الأذلاء واكتست
أعزتها ذلاً وساد مسودها
هناك فلا جادت سماء بصوبها
ولا أمرعت أرض ولا أخضرّ عودها
واقتصر في الجواب على أمارتين مع شمول السؤال الأكثر، ومع أن لها أمارات أخر صغاراً وعظاماً كالدجال والمهدي وعيسى وغير ذلك مما ألف في استقصائه كتب مدونة تحذيراً للحاضرين وغيرهم عنهما لاقتضاء الحال ذلك، ولعل منهم من تعاطى شيئاً منهما فزجره عنه، وإن قلنا إن جعل الشيء أمارة للساعة لا يدل على ذمة لأن معناه كما هو ظاهر أنه لا يستلزم ذلك، وإلا فالغالب أنه ذم (ثم انطلق) أي: جبريل (فلبثت) زماناً (ملياً) بتشديد الياء: أي كثيراً، من الملوين الليل والنهار. أما المهموز فمن الملاءة أي اليسار. وهو هكذا بتاء المتكلم، وفي نسخة من مسلم «فلبث» بحذفها، يعني أقام النبي بعد انصرافه حيناً، وعلى الأول فهو إخبار من عمر عن نفسه.
وجاء في رواية أبي داود والترمذي وغيرهما «فلبثت ثلاثاً» وظاهره، أنه ثلاث ليال، وفي رواية أبي عوانة «فلبثنا ليالي فلقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث» ولابن حبان «بعد ثالثة» ولابن منده «بعد ثلاثة أيام» وقد ينافيه خبر البخاري «فأدبر الرجل، فقال النبي: ردّوه، فأخذوا يردونه فلم يجدوا شيئاً، فقال: هذا جبريل» . وأجيب بأنه يحتمل أن عمر لم يحضر قوله هذا بل كان قد قام، فأخبر به بعد ثلاث. (ثم قال: يا عمر أتدري من السائل) فيه ندب تنبيه العالم تلامذته والكبير من دونهم على فوائد العلم وغرائب الوقائع طلباً لنفعهم وتيقظهم (قلت: الله ورسوله أعلم) فيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من حسن الأدب معه يرد العلم إلى الله وإليه، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك كما تقدمت الإشارة إليه (قال: فإنه جبريل اسم أعجمي سرياني فيه لغات عديدة بينتها ونظمتها وأوردتها في أوائل «شرح الأذكار» . قيل: معناه عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، والفاء في قوله: «فإنه» جواب شرط مقدر: أي أما إنكم حيث لم تسألوا عن الرجل وفوضتم الأمر إلى الله ورسوله فإنه جبريل، على تأويل الإخبار: أي:(1/228)
تفويضكم هو سبب الإخبار لكم بأنه جبريل؛ وقرينة الشرط قوله: «اورسوله أعلم» وظاهر رواية البخاري أنه لم يعرفه إلا في آخر الأمر، وورد «ما جاءني في صورة لم أعرفه إلا في هذه المرة» وفي رواية ابن حبان «والذي نفسي بيده ما شبه عليّ منذ أتاني قبل مرّته هذه وما عرفته حتى ولى» ورواه كذلك ابن خزيمة، وأما رواية النسائي «وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي» فوهم من الراوي وشذوذ مخالف للمحفوظ في باقي الروايات، فإن دحية معروف عندهم، وقال عمر «ما يعرفه منا أحد» . وفيه دليل على أن الله مكن الملك أن يتمثل فيما شاء من الصور البشرية، وقد كان يتمثل جبريل للنبي في صورة دحية، ولم يره على صورته الأصلية غير مرتين كما صح الحديث بذلك (أتاكم يعلمكم) بسبب
سؤاله، وإسناد التعليم إليه مجاز، إذ المعلم بالحقيقة النبي (دينكم) أي: قواعده أو كليات دينكم. وفي رواية ابن حبان «يعلمكم أمر دينكم فخذوا عنه» ففيه أن الدين مجموع الإسلام والإيمان والإحسان، ولا ينافيه أن الإسلام وحده يسمى ديناً كما في آية «إن الدين عند الله الإسلام» لأنه كما يطلق على هذا المجموع يطلق على هذا الفرد بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز أن التواطؤ أو غير ذلك. وحكمة مجيء جبريل لتعليمهم أنهم كانوا أكثروا السؤال على النبيّ، فنهاهم كراهية لما قد يقع من سؤال تعنت أو تجهيل، فألحوا فزجرهم، فخافوا وأحجموا واستسلموا امتثالاً، فلما صدقوا في ذلك أرسل لهم من يكفيهم المهمات، ومن ثم قال لهم: «هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا» (رواه مسلم) فهو من أفراده عن البخاري، فلم يخرج البخاري عن عمر فيه شيئاً، ورواه الأربعة إلا الترمذي وأخرجاه عن أبي هريرة. وهو حديث متفق على عظم موقعه وكثرة أحكامه.
قال القاضي عياض: وقد اشتمل على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه. قال القرطبي: فيصلح هذا الحديث أن يقال فيه إنه أمّ السنة لما تضمنه من جمل علم السنة، كما سميت الفاتحة أمّ القرآن لما تضمنته من جمل معاني القرآن اهـ. ومن ثم: قيل لو لم يكن في السنة كلها غير هذا الحديث لكان وافياً بأحكام الشريعة لاشتماله على جملها مطابقة وعلى تفصيلها تضمناً، فهو جامع لها علماً ومعرفة وأدباً ولطفاً، ومرجعه من القرآن والسنة كل آية تتضمن ذكر الإسلام أو(1/229)
الإيمان أو الإحسان أو الإخلاص أو المراقبة أو نحو ذلك (ومعنى أن تلد الأمة ربتها) بالمثناة الفوقية (أي سيدتها، ومعناه) أعاده تأكيداً لطول الكلام بين معنى الذي هو مبتدأ وخبره أعني (أن تكثر السراري) وذلك ناشىء عن الاستيلاء على بلاد الكفار، فيكون الاستيلاء هو العلامة عليها كما تقدم (حتى تلد الأمة السرية) فعلية من السرّ وهو الخفية لخلفاء أمرها بالنسبة إلى الأزواج (بنتاً لسيدها وبنت السيد في معنى السيد، وقيل غير ذلك) من ذلك أنه كناية عن عقوق الأولاد لأمهاتهم، فيعاملونهم معاملة السيدة لأمتها من الإهانة والسبّ ويستأنس له برواية «وأن تلد المرأة» وبحديث «لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غليظاً» وقيل: إنه كناية عن كثرة بيع السراري حتى يتزوّج الإنسان أمه وهو لا يدري، وهذا بناء على رواية بعلها أي زوجها وقيل: غير ذلك (والعالة) بتخفيف اللام جمع عائل (الفقراء، وقوله: ملياً) بتشديد الياء (أي زمناً طويلاً، وكان ذلك) الزمن كما جاء عند أبي داود والترمذي وغيرهما (ثلاثاً) ظاهره من الليالي، ويحتمل أن يكون من الأيام وحذفت التاء لحذف المعدود فهو كحديث «وأتبعه ستاً من شوال» ويؤيده رواية ابن منده السابقة.
612 - (الثاني عن أبي ذرّ) بتشديد الراء (جندب) بضم الجيم وسكون النون وتثليث الدال المهملة وآخره موحدة (ابن جنادة) بكسر الجيم وبالنون وإهمال الدال، وقيل: برير ابن جندب، وقيل: جندببن عبد الله، وقيل: جندببن السكن، وعلى كل فهو غفاري يجتمع مع النبيّ في كنانة. روي عنه أنه قال: «أنا رابع الإسلام» ويقال «خامس الإسلام» أسلم بمكة قديماً. وخبر إسلامه في «صحيح مسلم» ثم رجع إلى قومه ثم هاجر إلى المدينة، ووصفه في عدة أحاديث بأنه أصدق الناس لهجة، وهو أوّل من حيا النبيّ بتحية(1/230)
الإسلام، وقال عليّ في حقه «وعاء مليء علماً، ثم أوكىء عليه فلم يخرج من شيء حتى قبض» روي له عن النبيّ مائتا حديث وأحد وثمانون حديثاً، اتفقا منها على اثني عشر حديثاً، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بسبعة عشر. مات بالربذة سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين (وأبي عبد الرحمن معاذبن جبل) الأنصاري أسلم وعمره ثمان عشرة سنة، وشهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وسبعة وخمسون حديثاً، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بواحد، وورد أنه قال: «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذبن جبل» وأنه قال: «يا معاذ إني أحبك، فقال: وأنا أحبك وا يا رسولالله، قال: فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» وأنه قال: «يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة» أي: رمية بسهم، وقيل: بحجر، وقيل: بميل، وقيل: حد البصر. وفضائله كثيرة وقد ذكرت جملة منها في ترجمته في «شرح الأذكار» . مات بناحية الأردن في طاعون عمواس: بفتح أولية قرية بين الرملة والقدس، نسب إليها لأنه أول ما ظهر منها سنة ثماني عشرة وهو ابن ثلاث وقيل: أربع وقيل ثمان وثلاثين سنة، وقبره بغور بيسان في شرقيه (رضي ا) تعالى (عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:) أي: لكل منهما: لأبي ذر
لما أسلم ولمعاذ لما انطلق إلى اليمن وقد جاء التصريح بذلك (اتق ا) أمر من التقوى وهي امتثال أوامره تعالى واجتناب نواهيه، وهذا على حد قوله تعالى: {اتقوا ا} أي: غضبه، وهو أعظم ما يتقي لما ينشأ عنه من العقاب الدنيوي والأخرويـ ويحذركم الله نفسهـ (حيثما كنت) أي: في أي مكان كنت حيث يراك الناس وحيث لا يرونك اكتفاء بنظره تعالى قال تعالى: {إن الله كان عليكم رقيبا} (
النساء: 1) ومن ثم قال لأبي ذر «أوصيك بتقوى الله في سرائرك وعلانيتك» وهذا من جوامع كلمة، فإن التقوى وإن قلّ لفظها جامعة لحقوقه تعالى، إذ هي اجتناب كل منهيّ عنه وفعل كل مأمور به، فمن فعل ذلك فهو من المتقين الذين شرفهم الله تعالى في كتابه بأنواع من الكمالات يأتي ذكرها أول باب التقوى إن شاء الله تعالى (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) وجه مناسبتها لما قبلها أن العبد مأمور بالتقوى في كل حال، ولما كان ربما يفرط إما بترك بعض المأمورات أو فعل بعض المنهيات(1/231)
وذلك لا ينافي وصف التقوى كما دل عليه نظم سياقـ أعدت للمتقينـ إلى أن قال في وصفهمـ {والذين إذا فعلوا فاحشة} (آل عمران: 135) إلخ. أمره بما يمحو به ما فرّط فيه، وهذا الحديث على حد {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114) وظاهر قوله «تمحها» وقوله تعالى: {يذهبن السيئات} أن الحسنة تمحو السيئة من الصحف. وقيل: عبر به عن ترك المؤاخذة بها فهي موجودة فيها بلا محو إلى يوم القيامة، وهذا تجوّز يحتاج لدليل وإن نقله القرطبي في «تذكرته» . وقال بعض المفسرين: إنه الصحيح عند المحققين. ثم هذا في الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، أما الكبائر فلا يكفرهاـ على الصحيحـ إلا التوبة بشروطها، وحينئذٍ يصح إدخالها في الحديث بأن يراد بالسيئة ما يعمّ الكبيرة، وبالحسنة ما يشمل التوبة منها، وأما التبعات فلا يكفرها إلا إرضاء أصحابها (وخالق الناس بخلق حسن) جماعة ينحصر كما ذكر عن الترمذي وغيره في طلاقة
الوجه لهم وكفّ الأذى عنهم وبذل المعروف إليهم. وقال بعضهم: هو أن تفعل معهم ما تحبّ أن يفعلوه معك، فتجتمع القلوب ويتفق السرّ والعلانية، وحينئذٍ يأمن كيد الكائد، وذلك جماع الخير وملاك الأمر.
وقد جاءت أحاديث كثيرة في مدح الخلق الحسن وسيأتي بعضها (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) زاد المصنف في الأربعين وفي بعض النسخ، يعني نسخ الجامع: حسن صحيح. وأشار بهذا إلى اختلاف نسخ الترمذي في «التحسين والتصحيح» ، فقد يوجد عقب حديث في بعضها حسن، وفي بعضها صحيح، وفي أخرى حسن صحيح، وفي أخرى حسن غريب، وسبب ذلك اختلاف الرواة عنه والضابطين لكتابه. ثم تحسينه لهذا الحديث مقدم على ترجيح الدارقطني إرساله للقاعدة المقررة أن المسند لزيادة علمه يقدم على المرسل. وأما تصحيحه في تلك النسخة فيوافقه قول الحاكم إنه على شرط الشيخين، لكن وهم بأن ميموناً أحد رواته لم يخرّج له البخاري شيئاً ولم يصح سماعه من أحد من الصحابة فلم يوجد فيه شرط البخاري فحكمه بأنه على شرط الشيخين من تساهله المعروف.
قال السخاوي: ودونه حكم العراقي عليه في «أماليه» بالصحة. ويؤيد تحسين الترمذي له أنه ورد لهذا الحديث طرق متعددة، فرواه أحمد والبزار والطبراني والحاكم والبيهقي وابن(1/232)
عبد البرّ وغيرهم من طرق يفيد مجموعها الحسن له، ففي «الجامع الصغير» للسيوطي أن الحديث رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر وأحمد والترمذي والبيهقي عن معاذبن جبل وابن عساكر عن أنس. وذكر السخاوي في «تخريج أحاديث الأربعين» أن الأصح كون الحديث مسند أبي ذّر، وإلى ذلك أشار البيهقي ثم بسط في بيان ذلك.
623 - (الثالث عن) عبد الله (بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبيّ) أي: على دابته كما جاء في رواية، ففيه جواز الإرداف على الدابة إن أطاقته. وقد تتبعت الذين أردفهم النبي معه على دابته فبلغت بهم فوق الأربعين وجمعتهم في جزء سميته (تحفة الأشراف بمعرفة الإرداف) . وقد نظمت اسم جماعة منهم وأوردته آخر ذلك الجزء وها هو:
لقد أردف المختار طه جماعة
فسنّ لنا الإرداف إن طاق مركب
أبو بكر عثمان عليّ أسامة
سهيل سويد جبرئيل المقرب
صفية والسبطان ثم ابن جعفر
معاذ وقيس والشريد المهذ
وآمنة مع خولة وابن أكوع
وزيد أبو ذر سما ذاك جندب
معاوية زيد وخوّات ثابت
كذاك أبو الدرداء في العدّ يكتب
وأبناء عباس وابن أسامة
صديّبن عجلان حذيفة صاحب
كذلك جافيهم أبو هرّ من روى
ألوفاً من الأخبار تروي وتكتب
وعد من الإرداف ياذا أسامة
هو ابن عمير ثم عقبة يحسب
وأردف غلماناً ثلاثاً كذا أبو
إياس وأنثى من غفار تقرب
وأردف شخصاً ثم أردف ثانياً
وما سميا فيما روى يا مهذب
أولئك أقوام بقرب نبيهم
لقد شرفوا طوبى لهم يا مقرب
(يوماً) أي: في ساعة منه كما يدل عليه تنكيره (فقال: يا غلام) بضم الميم لأنه نكرة مقصودة، وتقدم أنه هو الصبيّ من حين يفطم إلى البلوغ، وسنه إذ ذاك كان نحو عشر سنين (إني أعلمك كلمات) ينفعك الله بهن كما في رواية أخرى وذكره ذلك ليتنبه السامع فيشتد شوقه ويلقي سمعه فيقع في نفسه فيكمل نفعه. وجاء بها بصيغة القلة ليؤذنه بأنها قلية اللفظ فيسهل حفظها، ومنونة إيذانا بعظم خطرها ورفعة حملها، وتأهيله لهذه الوصايا الرفيعة(1/233)
المقدار الجامعة من العلوم والمعارف ما يفوق الحصر دليل على أنه علم ما يؤول إليه أمر ابن عباس من العلم والمعرفة وكمال الأخلاق وحسن الأحوال (احفظ ا) بملازمة تقواه، واجتناب نواهيه، وما لا يرضاه (يحفظك) يالجزم، في نفسك وأهلك، ودنياك ودينك لاسيما عند الموت، إذ الجزاء من جنس العمل، ومنه {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} (البقرة: 40) وهذا من جوامع كلمه فقد جمعت سائر أحكام الشريعة قليلها وكثيرها (احفظ ا) بما ذكر (تجده تجاهك) أي: تجده معك بالحفظ والإحاطة والتأييد والإعانة حيثما كنت فتأنس به وتغنى به عن خلقه، فهو كالتأكيد لما قبله، وهو من المجاز البليغ لاستحالة الجهة التي هي مدلول «تجاه» عليه تعالى، وتجاه بضم التاء وأصله وجاه بضم الواو وكسرها فأبدلت فوقية كما في تراث: ومعناه أمام كما جاء في ذلك الرواية الآتية: أي: تجده معك بالحفظ فهو نظير {إن الله مع المتقين} (التوبة: 36) ونحوه، إذ هي معية معنوية لا ظرفية، وخص الإمام من بين باقي الجهات الستّ بالذكر إشعاراً بشرف المقصد وبأن الإنسان مسافر إلى الآخرة والمسافر إنما يطلب أمامه لا غير، فكأنّ المعنى: تجده حيثما توجهت وتيممت من أمر الدنيا والآخرة (إذا سألت) أي: أردت السؤال (فاسأل ا) أن يعطيك مطلوبك قال تعالى: {واسئلوا الله من فضله} (النساء: 32) ولا تسأل غيره فإن خزائن الوجود بيده تعالى وأزمتها إليه * إذ لا قادر ولا معطي ولا متفضل غيره * فهو حق أن يقصد
ويسأل، ولا فائدة في سؤال الخلق إذ لا يملكون نفعاً ولا ضراً لأنفسهم فضلاً عن غيرهم، وما أحسن قول الأستاذ أبي الحسن الشاذلي: أيست من نفع نفسي لنفسي؟ فكيف لا أيأس من نفع غيري لنفسي، ورجوت الله لغيري، فكيف لا أرجوه لنفسي، وإنما يميل القلب إلى المخلوق ويركن إليه لضعف يقينه ووقوعه في الغفلة عن حقائق الأشياء، وبقدر بعده من مولاه يكون ركونه لمن سواه.
ولما نجا من تلك الهوة وتيقظ من تلك الغفلة أصحاب التوكل واليقين أعرضوا عن السوري، وأنزلوا جميع حوائجهم بباب كرم وجود المولى، لأنه المتكفل لكل متوكل بما يحب ويتمنى، قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق: 3) (وإذا استعنت) أي: طلبت الإعانة على أمر من أمور الدارين (فاستعن با) لأنه القادر على كل(1/234)
شيء وغيره عاجز عن كل شيء، فمن أعانه تعالى فهو المعان ومن خذله فهو المخذول، ومن ثم كانت «لا حول ولا قوّة إلا با» كنزاً من كنوز الجنة لتضمنها براءة النفس من حولها وقوتها، إلى حوله وقوّته. وكتب الحسن إلى عمربن عبد الغزيز: لا تستعن بغيره تعالى يكلك الله إليه. (واعلم أن الأمة) المراد بها هنا سائر المخلوقين كما صرحت به رواية أحمد «فلو أن الخلق جميعاً أرادوك الخ» . وأما مدلولها وضعاً فالجماعة وأتباع الأنبياء، والرجل الجامع للخير المقتدي به. والدين والملة نحو {إنا وجدنا آباءنا على أمة} (الزخرف: 23) والزمان نحو {وادكر بعد أمة} (يوسف: 45) والرجل المنفرد بدينه الذي لم يشركه فيه أحد كقوله: «يبعث زيدبن عمرو بن نفيل أمة وحده» فالأمة لفظ مشترك ومن جملة معانيه الأم كهذه أمة زيد أي أم زيد (لو اجتمعت) لو هنا بمعنى إن، إذ المعنى على الاستقبال، ونكتة العدول أن اجتماعهم على الإمداد من المستحيلات بخلاف اجتماعهم على الأذى فإنه ممكن (على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن) عبر بها بدل لو تفننا في التعيير (اجتمعوا على أن
يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) كما يشهد له قوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله} (يونس: 107) والمعنى: وحد الله في لحوق الضرّ والنفع، فهو الضار النافع ليس معه أحد في ذلك لما تقرّر أنه القادر لا سواه، فأزمة المخلوقات بيده يتصرف فيها بما يشاء، فهذا تقرير وتأكيد لما قبله من توحيد الله تعالى في لحوق النفع والضرّ على أبلغ برهان وأوضح بيان، وحثّ على التوكل والاعتماد على الله سبحانه وتعالى في جميع الأمور، وعلى شهود أنه الفاعل المختار النافع الضار. وغيره ليس له من ذلك شيء، وعلى الإعراض عما سواه. وفي بعض الكتب الإلهية «وعزّتي وجلالي لأقطعن أمل من يؤمل غيري، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس، ولأحجبنه عن قربي، ولأبعدنه عن وصلي، ولأجعلنه متفكراً حيران، يؤمل غيري في الشدائد، والشدائد بيدي وأنا الحيّ القيوم، ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني» (رفعت الأقلام) أي: تركت الكتابة بها لفراغ(1/235)
الأمر وانبرامه (وجفت) بالجيم بالبناء للمفعول (الصحف) التي فيها تقادير الكائنات كاللوح المحفوظ، أي فرغ من الأمر وجفت كتابته فلم يمكن أن يكتب فيها بعد ذلك تبديل أو نسخ لما كتب من ذلك واستقرّ، لأنها أمور ثابتة لا تبدّل ولا تغير عما هي عليه، فذلك كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها، وقد دل الكتاب والسنة على ذلك، فمن علم ذلك وشهده بعين بصيرته هان عليه التوكل على خالقه والإعراض عما سواه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
قال السخاوي في «تخريج أحاديث الأربعين» : حديث حسن وبين ذلك، ثم قال: وبالجملة فالحديث ثابت من حديث الليلة وغيره ممن قدمناه، ولذا أورده الضياء في المختارة من هذا الوجه بل صححه العراقي في «أمياله» تبعاً للترمذي، وقال ابن منده: إسناده مشهور ورواته ثقات اهـ.g وقد أورده جماعة من طرق عن ابن عباس، وجاء أنه وصاه بذلك، وعن علي وأبي سعيد رواه العسكري في كتاب الأمثال، وسهل ابن سعد رواه ابن مردويه، وعبد ابن جعفر رواه ابن عاصم في السنة. وقد خرّج طرقها كلها السخاوي؛ وقال: قال أبو جعفر العقيل، كل أسانيد هذا الحديث لينة وبعضها أصلح من بعض، وليس هذا بجيد. فحديث ابن عباس حسن جيد، وأصح طرقه رواية حنش كما صرح به ابن منده وغيره وهي التي أخرج الترمذي الحديث من طريقها (وفي رواية غير الترمذي) وهو عبدبن حميد في «مسنده» لكن بإسناد ضعيف، وقد رواه أحمد بإسنادين منقطعين ولفظه أتمّ من حديث عبدبن حميد وقد أوردته في «شرح الأذكار» (احفظ الله تجده أمامك، تعرف) بتشديد الراء: أي: تحب (إلى الله في الرخاء) بالدأب في الطاعات والإنفاق في وجوه القرب والمثوبات حتى تكون متصفاً عنده بذلك معروفاً به (يعرفك في الشدة) بتفريجها عنك وجعله لك من كل ضيق فرجاً ومن كل هم مخرجاً بواسطة ما سلف منك من ذلك التصرف. وقيل: إنه على حذف مضاف: أي تعرف إلى ملائكة الله في الرخاء بالتزام طاعته تعالى والتزام عبوديته يعرفك في الشدة بواسطة شفاعتهم عنده في تفريج كربك وغمك. وتعقب بأنه تكلف فالأول أولى. ومعرفة العبد ربه ضربان: عامة وهي الإقرار بوحدانيته وربوبيته والإيمان به. وخاصة وهي الانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه وشهوده في(1/236)
كل حال. ومعرفة الله تعالى كذلك عامة، وهي علمه بعباده واطلاعه على أعمالهم وخاصة وهي محبته لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه وإنجاؤه من الشدائد، فلا يظفر بهذه الخاصة إلا من تحلى بتلك الخاصة (واعلم أن ما
أخطأك) من المقادير فلم يصل إليك (لم يكن) مقدراً عليك (ليصيبك) أي: محال أن يصيبك لأنه بان بأنه أخطأك أنه مقدر على غيرك. وفيه مبالغة من وجوه من حيث دخول اللام المؤكدة للنفي على الخبر وتسليط النفي على الكينونة وسرايته في الخبر (وما أصابك) منها (لم يكن) مقدراً على غيرك (ليخطئك) وإنما هو مقدر عليك إذ لا يصيب الإنسان إلا ما قدر عليه، ومعنى ذلك أنه فرغ مما أصابك وأخطأك من خير أو شرّ، فما إصابته لك محتومة لا يمكن أن يخطئك، وما أخطأك فسلامتك منه محتومة فلا يمكن أن يصيبك لأنها سهام صائبة وجهت من الأزل فلا بد أن تقع مواقعها، وما أحسن ما قيل:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيان التحرك والسكون
فلم يبق سوى التوكل على الله سبحانه والسكون تحت جري المقادير، وما أحسن ما قيل:
ولما رأيت القضا جارياً
بلا شك فيه ولا مرية
توكلت حقاً على خالقي
وأسلمت نفسي مع الجرية
ففي الحديث تقرير وحضّ على تفويض الأمور كلها إلى الله تبارك وتعالى مع شهود أنه الفاعل لما يشاء، وأن ما قضاه وأبرمه لا يمكن أن يتعدّى حدّه المقدر له، وهذا راجع إلى قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبزأها} (الحديد: 22) ثم مدار هذه الوصية على هذا الأصل إذ ما قبله وما بعده مفرع عليه وراجع إليه، فإن من علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب له وأن اجتهاد الخلق كلهم بخلاف المقدور لا يفيد شيئاً البتة علم أن الله وحده هو الضارّ النافع فأفرده بالطاعة وحفظ حدوده وخافه ورجاه وأحبه، وأفرده بالاستعانة والسؤال له والتضرّع إليه والرضا بقضائه في حالة الشدة والرخاء (واعلم) تنبيه على أن شأن هذه الدار لاسيما مع الصالحين الأخيار كثرة الأعراض والأنصاب، فينبغي الصبر للظفر بجزيل الثواب والرضا بالقضاء والقدر (أن النصر) من الله(1/237)
للعبد على جميع أعداء دينه ودنياه كائن (مع الصبر) على طاعة الله وعن معصيته، وقيل: الصبر على نكياتهم وعدم انتصار مثهم لنفسه (وأن الفرج) وهو كما في «الصحاح» : الخروج من الغمّ اهـ حاصل سريعاً (مع الكرب) هو الغم الذي يأخذ بالنفس فلا دوام للكرب، وحينئذٍ فينبغي لمن نزل به ذلك أن يكون صابراً محتسباً راجياً سرعة الفرج مما نزل به حسن الظن بمولاه في جميع أموره، فإنه أرحم به من كل راحم إذ هو أرحم الراحمين (وأن مع العسر يسرا) كما نطق به قوله تعالى: {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا} (الشرح: 5، 6) ومن ثم ورد عنه «لن يغلب عسر يسرين» أي: لأن النكرة إذا كررت كانت الثانية غير الأولى، والمعرفة إذا أعيدت كانت الثانية عين الأولى غالباً فيهما، وليست الآية من غير الغالب خلافاً لمن فهم ذلك فقال: وفي الآية عسران: أيضاً عسر الدنيا ومعه يسر، وعسر الآخرة ومعه يسر، ولا ينافي وقوع العسر لنا، كما صرحت به هذه الآية عدم وجود وقوعه كما صرح به قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر
ولا يريد بكم العسر} (البقرة: 185) لاختلاف المراد بالعسرين، لأن المثبت هو العسر في العوارض الدنيوية التي تطرق العبد بما لا يلائم نفسه كضيق الأرزاق ونحوها، والمنفي هو العسر بالتكليف بالأحكام الشاقة كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78) ثم اليسر السهولة، ومنه اليسار لأنه تسهل به الأمور، والعسر نقيضه. وفي «الصحاح» : كل ثلاثي أوله مضموم ووسطه ساكن فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه. وما تقرر في «مع» في محالها الثلاث من أنها على بابها هو الظاهر إذ أواخر أوقات الصبر والكرب والعسر هي أول أوقات النصر والفرج واليسر، فقد تحققت المقارنة بينها. ومن لطائف اقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر أن الكرب إذا اشتد وتناهى أيس العبد من جميع المخلوقين وتعلق قلبه با وحده وهذا هو حقيقة التوكل، وقد قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق: 3) والحديث بطريقيه أصل عظيم في مراقبة الله ومراعاة حقوقه والتفويض لأمره والتوكل عليه وشهود توحيده وتفرده وعجز الخلائق كلهم وافتقارهم إليه.(1/238)
634 - (الرابع: عن أنس رضي الله عنه قال) : مخاطباً للمتساهلين في الأعمال (إنكم لتعملون أعمالاً) تستهونونها لعدم نظركم إلى عظم المعصي بها (هي) لذلك (أدقّ في أعينكم من الشعر) استخفافاً بها (كنا نعدها) لكمال الخشية الناشئة عن كمال المعرفة با الحاصلة بحلول نظر النبيّ (على عهد) زمن (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات) وهذا كما جاء في الخبر الآخر «لا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى عظم من عصيت» وفي الخبر الآخر «المؤمن يرى ذنبه كأنه صخرة يخاف أن تقع عليه، والكافر يرى ذنبه كأنه ذباب يمر على أنفه» . وفي الحديث كمال مراقبة القوم تعالى وكمال استحيائهم منه، حتى إنهم يرون تلك الأمور التي استهون غيرهم الوقوع فيها مهلكات لهم لعظم شهودهم جلال الله تعالى وعظمته. أحيا الله قلوبنا من موت الغفلة بمنته (رواه البخاري، وقال) أي: البخاري (الموبقات) بضم الميم (المهلكات) وفيه أن الإنسان ينبغي له أن يحذر من صغار الذنوب فلعلها تكون المهلكة له في دينه، كما يحترز من يسير السموم خشية أن يكون فيها حتفه.
645 - (الخامس: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: إن الله تعالى يغار، وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرّم الله عليه) أي: منعه أن يأتي ذلك (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي كلهم بزيادة «والمؤمن يغار» ورواه بإسقاطها البخاري (والغيرة بفتح الغين) المعجمة وسكون التحتية بعدها راء مهملة (وأصلها) في وضع اللغة (الأنفة) بفتح أولية، أي الامتناع من الضيم ونحوه، وفي «شرح مسلم» «أصلها المنع» والرجل غيور على أهله يمنعهم من التعلق بأجنبيّ بنظر أو غيرة، ومعنى غيره الله تعالى: منعه الناس من الفواحش:(1/239)
أي: وسائر المحرمات كما في حديث الباب، لكن الغيرة في حق الناس يقارنها تغير حال الإنسان وانزعاجه، وهذا مستحيل في حق الله تعالى اهـ.
656 - (السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع) كلام (النبيّ يقول) : تقدم أن جملة يقول بدل اشتمال من مفعول سمع، أو جملة حالية من المفعول المحذوف الذي قدرته وأتي به مضارعاً بعد سمع الماضي، إما حكاية لحال وقت السماع أو لإحضار ذلك في ذهن السامع (إن ثلاثة من بني إسرائيل) أي: أولاد يعقوببن إسحاقبن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم (أبرص) أي: به وضح، وهو بالنصب بدل من ثلاثة وخبر إن محذوف: أي: أقصّ عليكم شأنهم، ولو روي بالرفع لكان على القطع، والفاء في «فأراد ا» لتعقيب المفسر للمجمل، ويصح عند من جوّز دخول الفاء في خبر إن أن يكون الخبر الجملة بعدها وكذا على حذفها كما في نسخه (وأقرع) أي: من ذهب شعر رأسه من آفة (وأعمى) العمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيراً (فأراد الله أن يبتليهم) أي: يعاملهم معاملة المبتلي المختبر، وإلا فعلمه أزليّ شامل للموجود والمعدوم قبل وجوده (فبعث) أرسل (إليهم ملكاً) بفتح اللام في صورة إنسان (فأتى) الملك (الأبرص) بدأ به ثم بالأقرع اهتماماً بالتسجيل عليهما وتعجيلاً للانتقام، وقدم الأبرص لأن داءه أقبح وأشنع ولونه أعظم (فقال) له (أي شيء أحبّ إليك؟ قال: لون حسن) بالتنوين على الوصف (و) كذا (جلد حسن) لم يقتصر على طلب اللون الحسن، لأن جلد البرص يحصل له من التقلص والتشنج والخشونة ما يزيد به قبح صاحبه وعاره، فلم يكف طلب حسن اللون عن طلب حسن الجلد (ويذهب) عطف على ما قبله بتقدير أن (عني) الداء (الذي قد قذرني) بكسر الذال: أي تباعد عني وكرهني (الناس) أي: بسببه، والعائد محذوف: أي به.
قال الكرماني: وفي نسخة «قذروني» على لغة أكلوني البراغيث قال: (فمسحه) الملك أي أمرّ يده عليه (فذهب عنه قذره) أي: سبب قذره وهو البرص الذي كان به (وأعطى لوناً حسناً وجلداً حسناً، قال) الملك له (فأي المال) معروف وتصغيره مويل(1/240)
والعامة تقول مويل بتشديد الياء كذا في «الصحاح» (أحبّ إليك؟ قال: الإبل) بكسرتين وتسكن الموحدة تخفيفاً، أي الجمال: اسم يقع على الواحد والجمع وليس بجمع ولا اسم جمع، كذا قال ابن سيده. وقال الجوهري: ليس لها واحد من لفظها، وهي مؤنثة لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم، وإذا صغرتها أدخلتها التاء فقلت أبيلة وغنيمة ونحو ذلك (أو قال البقر. شك الراوي) اسمه إسحاقبن عبد الله، أي شك هل سمع الإبل أو البقر، والمرجح الإبل لكونه اقتصر عليها في قوله: «فأعطي ناقة عشراء» ويؤيده الاقتصار في الأقرع على البقر لا غير فتعين الإبل للأبرص. وكذا قيل. لكن في رواية للبخاري في أبواب بني إسرائيل: هو شك في ذلك أن الأبرص والأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر اهـ. وبها يعلم أن الاقتصار في الأقرع على البقر من الراوي وإلا فالشك فيه كما قبله، ويؤيد أنها الإبل أيضاً سؤال الملك له بعيراً وهذا كله بعد الشك (قال فأعطى) بالبناء للمفعول (ناقة عشراء فقال بارك ا) أي: أوقع (لك) البركة، وهو يحتمل أن يكون دعاء منه له بذلك، وأن يكون إخباراً به (فيها) أي في هذه الناقة (قال فأتى الأقرع) أي: عقب تمام ما يتعلق بالأبرص كما تشعر به الفاء (فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن) بالتنوين على الوصف (ويذهب عني هذا) الداء أي القرع (الذي قد قذرني الناس) أي: بسببه (قال: فمسحه) الملك، يحتمل أن يكون مسح محل الداء فقط وهو الأقرب، وأن يكون مسح جميع بدنه لتعمه بركته (فذهب عنه) القرع (وأعطى شعراً حسناً قال) الملك له (فأيّ المال أحب إليك؟) أي: من جميع الأموال، أي: أيها تحب
أن يكون لك منها؟ (قال: البقر) اسم جنس يقال على الذكر والأنثى، وإنما دخلته الهاء للفرق بين الواحدة والجمّع، والباقر جماعة البقر مع رعاتها، وأهل اليمن يسمون البقرة باقورا (فأعطي بقرة حاملاً) لم يقل حاملة لاختصاص هذا الوصف بالمؤنث كحائض وطالق وإنما يحتاج إليها للفرق في نحو قائم وقائمة (وقال: بارك الله لك فيها) أي: في هذه البقرة (قال: فأتى الأعمى فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: أن يرد الله إليّ(1/241)
بصري) أي: القوّة المودعة في العينين التي بها تدرك المبصرات (فأبصر) بضم الهمزة (به الناس) أي: أراهم ببصري، أي بعيني رأسي (قال: فمسحه) أي: أمرّ يده على عينيه، ويحتمل على جميع بدنه، والأول أقرب كما تقدم في «نظيره» (فردّ الله إليه بصره) أي: القوّة المدركة المذكورة (قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم) أي: أحبه إليّ، فهو مبتدأ محذوف الخبر، أو الأحبّ إليّ الغنم فيكون خبر مبتدأ محذوف. وفي «الصحاح» : الغنم اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور والإناث، وإذا صغرتها ألحقتها التاء فقلت غنيمة، لأن أسماء الجموعـ إلى آخر ما تقدم يقال خمس من الغنم ذكور فيؤنث العدد وإن عنيت الكباش، لأن العدد يجري في تذكيره وتأنيثه على اللفظ لا على المعنى، والإبل كالغنم في جميع ما ذكرناه، كذا نقله عنه الدميري في حياة الحيوان (فأعطي) بالبناء للمجهول (شاة) المفعول الثاني لأعطى ومفعوله الأول نائب الفعل المضمر في الفاعل (والداً) أي: ذات ولد، وقيل حاملاً. وفي «جامع الأصول» : هي التي قد عرف منها كثرة الولد والنتاج (فأنتج هذان) سيأتي أنه بالبناء للفاعل لكن في «الصحاح» : للعرب أحرف لا يتكلمون بها إلا على سبيل المفعول وإن كان بمعنى الفاعل مثل قولهم: زهى الرجل وعنى بالأمر ونتجت الناقة والشاة وأشباهها اهـ والمشار إليهما صاحبا الإبل والبقر (وولد) بتشديد اللام (هذا) أي: صاحب الغنم (فكان لهذا واد) أي: ملؤه (من الإبل، ولهذا واد من البقر) من
عطف معمولين على معمولي عامل واحد وهو جائز اتفاقاً، وقوله من الإبل في محل الصفة لواد، ويجوز أن يكون حالاً لتخصيصه بتقديم الخبر (ولهذا واد من الغنم قال: ثم إنه) أي: الملك (أتى الأبرص) متصوراً (في صورته) أي: التي كان عليها (وهيئته) من رذالة الملبس، وقيل: الضمير في صورته وهيئته يرجعان للملك: أي: جاءه بعد أن صار معافى غنياً في الصورة التي قد جاءه فيها وهو بضد ذلك فدعا له فذهب عنه (فقال رجل مسكين) بكسر الميم من المسكنة: الحاجة خبر مبتدإ محذوف أي أنا رجل محتاج (قد انقطعت بي) الباء للتعدية (الحبال) الرواية المشهورة بالمهملة والموحدة كما سيأتي في الأصل واحده(1/242)
حبل: وهو المستطيل من الرمل. وقيل الأسباب في طلب الرزق.
قال القرطبي: وهذا أوقع التفسيرين. وفي رواية لمسلم «الحيال» بالتحتية من الحيلة، ومن رواه بالجيم والموحدة كبعض رواة البخاري ففيه بعد، بل قال بعضهم: إنه قد صحف (في سفري) ظرف لغو متعلق بانقطعت، أو ظرف مستقرّ حال من الضمير المجرور (فلا بلاغ لي) البلاغ: ما يتبلغ ويتوصل به إلى الشيء المطلوب: أي لا وصول لي لما أريده (اليوم إلا با) أي: إيجاده وتيسيره (ثم بك) لكونك مظهراً للخير يجري على يديك، وثم هي هنا للترتيب في التنزل، ولم يقل وبك دفعاً لإيهام التشريك، ولذا كان الإتيان بثم هو الأدب المتأكد كما يأتي، وهذا من الملك من المعاريض التي يقصد بها التوصل إلى إفهام المقصود من غير أن يراد حقيقتها كما في قول إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم: هذا ربي، وهذه أختي (أسألك) أي: أقسم عليك مستعطفاً (بـ) ا (الذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن) بفتح المهملتين، أي بعد الابتلاء في اللون والجلد (والمال) أي: بعد الابتلاء بالفقر (بعيراً) هو اسم يقع على الذكر والأنثى، وهو من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس، والجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة والقعود بمنزلة الفتى، والقلوص بمنزلة الجارية، وإنما يقال له بعير إذا أجذع والجمع أبعرة وأباعر وبعران (أتبلغ) بتشديد اللام: أي من البلغة: وهي الكفاية (به) كذا رواية الكشميهني في البخاري وعند غيره في «عليه» أي بعيراً أكتفى به أو حال كوني عليه (في سفري فقال) الأبرص (الحقوق كثيرة) أي: علىّ فلا فاضل عن الحاجة لأعطيك إياه فانظر غيري (فقال) الملك (إنه) أي الشأن (كأني) بتشديد النون (أعرفك) الظاهر أن كأنّ فيه للتحقيق وهو معنى أثبته الكوفيون وذكره ابن هشام في «المغني» ، قال العلوي: وهو التحقيق، وأنشدوا عليه:
وأصبح بطن مكة مقشعراً
كأن الأرض ليس بها هشام
أي: لأن الأرض؛ وقال ابن السيد في «شر شواهد الجمل» : جرت عادة النحويين أن(1/243)
يجعلوا كأن للتشبيه حيث وقعت، وليس ذلك بصحيح إنما تكون تشبيهاً محضاً إذا وقع في الخبر اسم ممثل به اسمها ويكون الخبر أرفع من الاسم أو أحط منه نحو: كأن زيداً ملك، أو كأن عمراً حمار. أما إذا كان خبرها فعلاً أو ظرفاً أو مجروراً أو صفة من صفات اسمها فإنها يدخلها حينئذٍ معنى الظن والحسبان نحو: كأن زيداً قائم أو في الدار، فلست تشبه زيداً بشيء هاهنا، وإنما تظن أنه قائم أو في الدار انتهى بلفظه. لكن الذي صححه ابن مالك وأبو حيان والرضي وغيرهم ما ذهب إليه الجمهور من أن التشبيه لا يفارقها، وأن ما أوهم خلافه مؤول (ألم) استفهام تقريري (تكن أبرص تقذرك) بفتح الذال المعجمة: أي: تكرهك (الناس) أي: فعافاك الله (فقيراً) أي: محتاجاً (فأعطاك ا؟ فقال إنما ورثت) بتشديد الراء مبني للمفعول وبتخفيفها مبني للفاعل (هذا المال كابراً عن كابر) أي: كبيراً عن كبير في العزّ والشرف: أي: ورثته عن أبي وجدي.
وحاصله إنكار تلك الحال ودعوى أنه نشأ في تلك الأحوال فهي غير متجددة عليه، وهذا من إنكار النعم وكفر المنعم، حمله عليه البخل، وحق العبد ألا يزال لنعم مولاه شاكراً ولأحواله التي كان عليها وآل إليها ذاكراً. وفي الحوض المورود للشيخ عبد الوهاب الشعراني: أخذ علينا العهود إذا حصل لنا ضخامة وقيام ناموس بين الناس ألا ننسى صفتنا التي كنا عليها قبل من الثياب الخلقة وخدمة الناس وضيق المعيشة ونحو ذلك، وذلك لنعرف الله بالنعم، فإن من نسي حاله أيام صغره قلّ شكره، وربما قال: نحن بحمد الله نشأنا في الضخامة أباً عن جدّ ليوهم من لم يعرفه أن حاله لم يزل كذلك. وقد دخل شخص على معنبن زائدة فقال له:
أتذكر إذ قميصك جلد شاة
وإذ نعلاك من جلد البعير
فقال معن: أذكر والحمد رب العالمين. فقال:
Y
فقد جلّ الذي أعطاك ملكاً
وعلمك الجلوس على السرير
فقال: جل ربي وعز. فقال:
فجد لي يابن ناقصة بمال
فإني قد عزمت على المسير
فأمر له بمال جزيل وشكر له تذكيره الحالة التي لعله نسيها اهـ. وقال القرطبي: حمل هذا القائل بخله على نسيان منة الله تعالى وجحد نعمه وعلى الكذب، ثم أورثه ذلك سخطه(1/244)
الدائم وذلك بشؤم البخل، واعتبر بحال الأعمى لما اعترف بشكر النعم، وسخت نفسه بما ثبتها الله عليه وشكر فعله رضي الله عنه كما يأتي (فقال) الملك (إن كنت كاذباً في دعواك) وأتى بأن الموضوعة للشك في الشرط مع أنه جازم به مماشاة ومساجلة، أو أنّ «إن» فيه بمعنى إذ (فصيرك ا) بتشديد الياء التحتية (إلى ما كنت) قال (وأتى الأقرع في صورته) التي يقذرها الناس (وهيئته) التي يحقرونها لرثاثتها، وسقطت هذه المعطوفة عند صاحب المشكاة في روايته المعزوّة للصحيحين. قال شارحهما ابن حجر: لم يقل هنا وهيئته اختصاراً أو إشارة إلى شدة لؤم الأبرص وغباوته، فإنه مع كونه أتى له في صورته وهيئته التي أتاه عليها أولاً وحصل له منه ما حصل من الشفاء والغنى أنكر معرفته وتجاهل به وتفاخر عليه بأنه إنما جاءه المال من أبيه، فضم إلى كذبه قبائح تنبىء عن أنه انتهى في اللؤم والحمق إلى غاية لم يصلها غيره (فقال له) الملك (مثل ما قال لهذا) الأبرص (وردّ) الأقرع (عليه مثل ما ردّ هذا) الأبرص (فقال) الملك (إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت) عليه من القرع والفقر: قال (وأتى الأعمى) متشكلاً (في صورته) أي: في صورة آدمي أعمى (وهيئته فقال) الملك (رجل) أي: صورة، إذ الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة (مسكين وابن سبيل) أي: مسافر سمي به لملازمته السبيل كما سمي القاطع ابن الطريّق، ويحتمل أنه أراد أنه ضيف وسمي به لأن السبيل تظهر به (انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا با ثم بك، أسألك بالذي ردّ عليك بصرك) أي: القوة الباصرة المدرك بها المبصرات (شاة أتبلغ بها في سفري، فقال) ذلك الرجل متذكراً نعم الله تعالى
عليه وحسن حاله بعد بؤسه (قد كنت أعمى فردّ الله إليّ) بتشديد الياء وفي نسخة «عليّ» (بصري فخذ ما شئت) أي: من المال (ودع ما شئت) منه (فوا لا أجهدك) بفتح الهاء وهذه رواية مسلم (اليوم بشيء) أي: في ردّ شيء (أخذته) علة لعدم الإجهاد: أي: لا أشق عليك الله أو للأخذ، وشتان ما بين هذا وقول ذينك «الحقوقـ أي الموانع من(1/245)
الإعطاءـ كثيرة» فلا يمكن أن أعطيك شيئاً وإن قل (فقال) الملك (أمسك مالك فإنما ابتليتم) أي: امتحنتم: أي: عاملكم الله العالم بجميع الأمور معاملة المبتلى المختبر ليترتب على عملكم أثره إذ الجزاء إنما جعله الله مرتباً على ما يبدو في عالم الشهادة لا على ما سبق في علمه (فقد رضي عنك وسخط) بالبناء للمجهول (على صاحبيك) والرضا والسخط المراد بهما في حقه تعالى لازمهما مجازاً مرسلاً إما عن إرادة الإثابة والتعذيب فيكونان صفتي ذات، أو التعذيب والإثابة نفسهما فيكونان صفتي فعل (متفق عليه) وانفرد به الشيخان عن باقي أصحاب الكتب الستة (والناقة العشراء بضم العين) المهملة (وفتح الشين) المعجمة (وبالمد: هي الحامل) كذا أطلقه وهو قول، وقيل: الحامل التي أتي عليها من حملها عشرة أشهر من يوم طرقها الفحل وهي من أنفس الإبل. وفي «مختصر القاموس» : والعشراء من النوق التي مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية، وهي كالنفساء من النساء جمعه عشروات وعشار اهـ.
(
قول أنتج بالبناء للفاعل) هو شاذ قليل لأنه لم يسمع من هذه المادة إلا نتج مبني للمفعول، والنتاج: الأولاد، والنتج والإنتاج: تولى الولادة (وفي رواية فنتج) بالبناء للفاعل كذلك و (معناه تولى نتاجها) الأقرب أن معناه ولد الإبل والبقر، ومعنى ولد الغنم: أي: صيرها والدة أي منسوبة للولادة نحو فسقت الرجل نسبته للفسق، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة. وقوله: ولد هذا هو بتشديد اللام: أي: تولى ولادتها وهو بمعنى أنتج في الناقة (فالمولد والناتج والقابلة بمعنى) وهي المتولية للولادة (لكن) في عرف الاستعمال (خص هذا) أي: الناتج (للحيوان) هو الإبل والبقر (وذاك) أي: المولد (لغيره) أي: الغنم والقابلة لبني آدم (قوله انقطعت بي الحبال، هو بالحاء المهملة والباء الموحدة) أي: الأسباب (قوله لا أجهدك) بالجيم والهاء وهي رواية مسلم (معناه لا أشق عليك في ردّ شيء) فهو على حذف مضاف (تأخذه) بأن أنزعه منك (أو تطلبه من(1/246)
مالي) بأن أمنعه.
قال القرطبي: قال صاحب «الأفعال» : جهدته وأجهدته: بالغت في مشقته وقيل معنى أجهدك: لا أقلل لك فيما تأخذه. والجهد ما يعيش به المقل، ومنه: {والذين لا يجدون إلا جهدهم} (التوبة: 79) (وفي رواية البخاري) وهي عند ابن ماهان كما قال القرطبي (لا أحمدك بالحاء المهملة والميم) وبلا النافية (ومعناه لا أحمدك بترك شيء تحتاج إليه) فهو على تقدير المضاف وذلك لطيب نفسي بما تأخذه (كما قال) أي: الشاعر:
ليس على طول الحياة ندم
أي: على فوات طولها.
قال الشاعر:
أتوب إليك يا مولاي مما
عليّ به تواترت الذنوب
وأما عن هوى ليلى وتركي
زيادتها فإني لا أتوب
أي: وعدم تركي زيارتها. قال الكرماني في «شرح البخاري» : أو أنه من قولهم فلان بتحمد أي يمتن. يقال من أنفق ماله على نفسه فلا يتحمد به على الناس. قال: وروي «لأحمدك» بالام فقط قبل المضارع من الحمد.
667 - (السابع عن أبي يعلى) بفتح التحتية وسكون المهملة (شدادبن أوس) بفتح الشين المعجمة وتشديد الدال الأولى (رضي الله عنه) وأوس بفتح الهمزة وسكون الواو آخره سين مهملة ابن ثابتبن المنذربن حرامبن عمروبن زيدبن مناةبن عديبن عمروبن مالكبن النجار الأنصاري، وهو ابن أخي حسانبن ثابت الجامع بين العلم والعمل والحلم. مات بفلسطين سنة ثمان وخمسين، وهو ابن خمس وسبعين سنة. وقال المصنف في «التهذيب» : مات ببيت المقدس قبره بظاهر باب الرحمة باق إلى الآن اهـ. وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسون حديثاً أخرجا له حديثين انفرد بأحدهما البخاري وبالآخر مسلم (عن النبي قال: الكيس) العاقل (من دان نفسه) أي: حاسبها ومنعها مستلذاتها وشهواتها التي فيها(1/247)
هلاك دينها (وعمل لما بعد الموت) من القبر وما بعده صالح العمل المؤنس له في الوحدة والوحشة، وما أحسن ما قيل:
با يا نفس اسمعي واعقلي
مقالة قد قالها ناصح
لا ينفع الإنسان في قبره
إلا التقى والعمل الصالح
(والعاجز) التارك لما يجب فعله بالتسويف (من أتبع) بإسكان الفوقية (نفسه هواها) أي: جعلها تابعة لما تهواه مؤثرة لشهواتها معرضة عن صالح الأعمال لكونه على خلاف ما تدعو إليه النفس (وتمنى على ا) الفوز في الآخرة. فالحاصل أن الحزم الإتيان بواجب العبودية من أداء الخدمة، ومحاسبة النفس حذر مجاوزة الحدود وعدم الالتفات إلى ذلك بالقلب والركون إليه، بل يكون اعتماده مع ذلك على فضل مولاه سبحانه. وأما ترك أداء مقام العبودية فذلك من رعونات النفس الخفية لاسيما إن أوقعها في ميدان شهواتها الذي فيه هلكها ومحقها (رواه الترمذي) وكذا رواه أحمد وابن ماجه والحاكم (وقال) الترمذي (حديث حسن) ورواه البيهقي من حديث أنس في «الجامع الصغير» (قال الترمذي وغيره) من العلماء (معنى دان نفسه: حاسبها) حكاه في «النهاية» بقيل فسره هو بقوله: أي: أذلها واستعبدها، والحساب من جملة معاني الدين ذكره في «القاموس» . وفي «الكشاف» في قوله تعالى: {إنا لمدينون} (الصافات: 53) أو معناه لمسوسون أي مربوبون من الدين بمعنى السياسة ومنه حديث «الكيس من دان نفسه» اهـ.
678 - (الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من حسن إسلامٍ المرء) «من» فيه تبعيضية أو ابتدائية وتقديم الخبر لكون التركيب من قبيل: على التمرة مثلها(1/248)
زبدا. وحسن الإسلام عبارة عن كماله، وهو أن تستقيم نفسه في الإذعان لأمر الله تعالى والاستسلام لأحكامه، وهو علامة شرح الصدر بنور الرّب (تركه ما لا يعنيه) أي: ما لا يريده ولا يحتاج إليه ولا ضرورة إليه فيه ولا ينفعه بكون عيشه بدونه ممكناً، وذلك يشمل الأفعال الزائدة والأقوال الفاضلة، فينبغي ألا يشتغل إلا بما فيه صلاحه معاشاً ومعاداً بتحصيل ما لا بد منه في قوام البدن وبقاء النوع الإنساني، ثم بالسعي في الكمالات العلمية والفضائل العلية، التي هي وسيلة لنيل السعادة الأبدية، والفوز بالنعم السرمدية، وأن يعرض عما عدا ذلك: وذلك إنما يكون بالمراقبة ومعرفة أنه فيما يأتيه بمرأى ومسمع من الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يخفى عليه شيء من شأنه. قال معروف: علامة مقت الله للعبد أن تراه مشتغلاً بما لا يعنيه، فإنّ من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه. وقال الغزالي: حدّ ما لا يعنيك في الكلام أن تتكلم بما لو سكت عنه لم تأثم ولا تتضرّر حالاً ولا مآلاً، قال: فإن شغلت بما لا يعنيك فإنك مضيع زمانك ومحاسب على عمل لسانك، إذ تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولو صرفته في الذكر والدعاء ربما انفتح لك من نفحات الله ما يعظم جدواه، ومن قدر على أن يأخذ كنزاً من كنوز الجنة وأخذ بدله بدرة كان خاسراً، وما أحسن ما قيل:
اغتنم ركعتين في ظلمة الليـ
ــــل إذا كنت فارغاً مستريحاً
وإذا ما هممت بالحوض في البا
طل فاجعل مكانه تسبيحاً
وقول الحافظ أبي إسماعيل البخاري كما عزاه إليه الحاكم في تاريخه.
اغتنم في الفراع فضل ركوع
فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح تراه من غير سقم
ذهبت نفسه الصحيحة فلته
وقلت في المعنى:
واغتنم في الحياة حسب اقتدار
طاعة الله كي تفوز بقربه
لا تسوّف إلى غد كم صحيح
مات في الحال من تقلب قلبه
(حديث حسن رواه الترمذي وغيره) فرواه ابن ماجه وابن حبان في «صحيحه»(1/249)
والقضاعي في «مسند الشهاب» . وعن أبي داود قال: أقمت بطرسوس فاجتهدت في «المسند» فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدارها على أربعة وذكر هذا منها اهـ.
689 - (التاسع: عن عمر رضي الله عنه عن النبيّ قال: لا يسأل) بالبناء للمجهول (الرجل فيم) بحذف ألف ما الاستفهامية لجرها بفي، أي: بأيّ سبب (ضرب امرأته) لاحتمال أن يكون السبب مما يستحيا من ذكره كالامتناع من التمكين، بل يترك ذلك إليه وإلى مراقبته لولاه إلا إن احتاج الأمر إلى جريان الأحكام والرفع إلى الحكام فتبين الأمور (رواه أبو داود وغيره) فرواه الإمام أحمد، والحديث صحيح كما صرّح به ابن حجر الهيثمي في كتابه (تنبيه الأخيار) .
ولما كانت نتيجة مراقبة العبد لمولاه في سائر الأحوال وأنه بمرأى منه لا يخفى عليه شيء، من شأنه امتثال الأوامر واجتناب النواهي وذلك هو التقوى، عقبها بها فقال:
6 - باب في التقوى
أصلها «وقوى» بكسر أوله وقد يفتح من الوقاية أبدلت تاء كتراث وتخمة: وهي ما يستر الرأس، فهي اتخاذ وقاية تقيك مما تخافه وتحذره؛ فتقوى العبد أن يجعل بينه وبين ما يخشاه وقاية تقيه منه، وهي امتثال أوامره تعالى واجتناب نواهيه بفعل كل مأمور به وترك كل منهي عنه حسب الطاقة، من فعل ذلك فهو من المتقين الذين شرفهم الله تعالى في كتابه بالمدح والثناء {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} (آل عمران: 186) وبالحفظ من الأعداء {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} (آل عمران: 120) وبالتأكيد والنصرة {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (النحل: 128) وبالنجاة من الشدائد والرزق من الحلال ( {ومن(1/250)
يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} ) (الطلاق: 2، 3) قال أبو ذر «قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية ثم قال: يا أبا ذرّ لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم» وبإصلاح العمل وغفران الذنب {اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا * يصح لكم أعمالك ويغفر لكم ذنوبكم} (الأحزاب: 70، 71) وبكلفين من الرحمة والنور {اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به} (الحديد: 28) وبالقبول {إنما يتقبل الله من المتقين} (المائدة: 27) وبالإكرام والإعزاز عند الله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13) وبالنجاة من النار {ثم ننجي الذين اتقوا} (مريم: 72) وبالخلود في الجنة {أعدت للمتقين} (آل عمران: 133) وبغاية ذلك القصوى وهي محبة الله تعالى وموالاته، وانتفاء الخوف والحزن، وحصول البشارة في الدنيا والآخرة والفوز العظيم {إن الله يحب المتقين} (التوبة: 7) {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحيوة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} (يونس: 62 - 64) ولو لم يكن في التقوى سوى هذه الخصلة لكفت «وفي أوائل تفسير البيضاوي: للتقوى
ثلاث مراتب: (الأولى) التوقي عن العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى} (الفتح: 26) (والثانية) التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} (الأعراف: 96) (والثالثة) أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره: وهو التقى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} (آل عمران: 102) . ثم قال في قوله تعالى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 21) نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى اهـ فحمله على المقام الأكمل من مراتبها. وفي كتاب «التقوى» لابن أبي الدنيا والحليلة وغيرهما أنه قيل لأبي الدرداء: إنه ليس أحد له بيت في الأنصار إلا وقد قال شعراً فقال: وأنا قد قلت(1/251)
فاسمعوه:
يريد المرء أن يعطي مناه
ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي
وتقوى الله أولى ما استفادا
وقلت في شرف التقوى:
عليك بالتقوى لرب الورى
فخير أمر المرء تقواه
واله عن المال ففيه الأذى
ولست والرحمن تقواه
(قال الله تعالى) : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} سبق الكلام فيها في باب الصدق (قال تعالى) : {اتقوا الله حق تقاته} (آل عمران: 102) بأن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، أخرجه الحاكم مرفوعاً، وعن أنس: «لا يتقي الله العبد حق تقاته حتى يحزن من لسانه» .
(وقال تعالى) : {فاتقوا الله ما استطعتم} وهذه الآية المقيد فيها أمر التقوى بالاستطاعة (مبنية للمراد من) الآية (الأولى) الخالية من ذلك التقييد، وذلك بأن يقال المراد أن يطاع فلا يعصى بحسب الاستطاعة وكذا ما بعده. وقال ابن الجوزي: قال ابن عقيل: ليست منسوخة، لأن قوله ما استطعتم بيان لحق تقاته وأنه بحسب الطاقة: فمن سمى بيان المراد نسخاً فقد أخطأ، وهذا في تحقيق الفقهاء تفسير مجمل وبيان مشكل، وذلك أن القوم ظنوا أن ذلك تكليف ما لا يطاق، فأزال الله إشكالهم وبين أني لم أرد بحق تقاته ما ليس في الطاقة اهـ. وقيل: إنها منسوخة بهذه، قال السيوطي في «تفسيره» ، وفي الإكليل بعد أن ذكر تفسيرها بما سبق «فقالوا» يا رسول الله فمن يقوى على هذا؟ فنسخ بقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} اهـ. قال بعض المحققين وينبغي أن لا نسخ إذ لا يصار إليه إلا بشروط لم توجد كما يعلم من محله. وقال ابن الجوزي في «عمدة العالم الراسخ في المنسوخ والناسخ» : في الآية قولان:
أحدهما: أنها منسوخة ثم نقل في ذلك آثاراً، وقال بعده: وإلى هذا ذهب الربيع بن أنس(1/252)
وابن زيد ومقاتلبن سلمان؛ ومن نصر هذا القول قال: حق تقاته هو القيام له بجميع ما يستحقه من طاعته واجتناب معصيته، قال: وهذا أمر يعجز الخلائق فكيف بالواحد؟ فوجب أن تكون منسوخة وأن يعلق الأمر بالاستطاعة.
والقول الثاني: أنها محكمة؛ ومن نصر هذا القول قال: حق تقاته هو اجتناب ما نهى عنه وامتثال ما أمر به، ولم ينه عن شيء ولا أمر به إلا وهو داخل تحت الطاقة؟ فقد فهم الأولون من الآية تكليف ما لا يطاق فحكموا بالنسخ، وقد رد عليهم قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (البقرة: 286) وأما قوله: {حق تقاته} فالحق بمعنى الحقيقة اهـ. وفي «شرح الأربعين» لابن حجر الهيثمي: إنما يتم هذا: أي كون هذه الآية تفسيراً لتلك على تفسير حق تقاته بامتثال أمره واجتناب نهيه، أما على المشهور من تفسيره بأن يذكر فلا ينسى الخ فالأوجه النسخ، فإن هذه لما نزلت تحرجت الصحابة منها فقالوا أينا يطبق ذلك فنزلت تلك اهـ. وبقولي «وذلك بأن يقال الخ» اندفع ما قاله من أن الأوجه النسخ، ونزولها عقب تحرجهم من تلك لا يستلزم النسخ فتأمل، ولذا جرى هو في مكان على موافقة المصنف وترجيح ما قاله من غير تقييد بما ذكر، وكأن وجهه أن يقيد ما في تفسيرها المشهور بحسب الطاقة.
(وقال تعالى) : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا} صواباً ( {يصلح لكم أعمالكم} ) يتقبلها أو يوفقكم للأعمال الصالحة ( {ويغفر لكم ذنوبكم} ) (الأحزاب: 70) بجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل (والآيات في الأمر بالتقوى كثيرة معلومة. وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} ) من كرب الدنيا والآخرة ( {ويرزقه من حيث لا يحتسب} ) يخطر بباله. في «تفسير البيضاوي» : يروي «أن سالمبن عوفبن مالك الأشجعي أسره العدو، فشكا أبوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اتق الله وأكثر قول لا حول ولا(1/253)
قوّة إلا با» ففعل، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنه العدوّ فاستاقها. وفي رواية: إذ رجع ومعه غنيمات ومتاع. قلت: روى الثعلبي الثاني وفيه «أنه جاء بأربعة آلاف شاة» . والبيهقي في «الدلائل» الأول.
قال الحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث الكشاف» : وأخرج الحاكم عن جابر قال: «نزلت هذه الآية في رجل من أشجع كان فقيراً خفيف ذات اليد كثير العيال. فأتى رسول اا فسأله، فقال له: اتق الله واصبر، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له بغنم كان العدو أصابوه» فذكر نحو حديث عوف السابق مختصراً، وفي سنده من تكلم فيه اهـ.g
(وقال الله تعالى: {إن تتقوا ا} ) بالأمانة وغيرها ( {يجعل لكم فرقانا} ) بينكم وبين ما تخافون فتنجون ( {ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم} ) (الأنفال: 29) ذنوبكم (والآيات في الباب كثيرة معلومة) وقد سبق جملة منها أول الباب.
(وأما الأحاديث) النبوية:
691 - (فـ) الحديث (الأول: منها عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله من أكرم الناس) ؟ قال المصنف في «شرح مسلم» : أصل الكرم كثرة الخير، فلما سئل أيّ الناس أكرم؟ أخبر بأكرم الكرم وأعمه (فقال: أتقاهم) ، فإن من كان متقياً كان كثير الخير في الدنيا صاحب الدرجات العليا في الآخرة اهـ. وقال بعضهم: الكريم هو المتقي وهو المنقطع عن الأكوان (فقالوا ليس عن هذا) الكرم (نسأل، قال فـ) أكرم الناس (يوسف) بتثليث السين مع الهمزة وتركه، فإنه جمع خيري الدارين وشرفهما فإنه مع كونه (نبيّ الله ابن نبيّ ا) يعقوب (ابن نبيّ ا) إسحاق (ابن خليل ا) إبراهيم، انضم إليه شرف علم الرؤيا وتمكنه فيه ورياسة الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة وإحاطته(1/254)
للرعية وعموم نفعه إياهم وشفقته عليهم، وما ذكر من تكرير ابن نبي الله مرتين هو كذلك في بعض روايات البخاري وهو الأصل، ووقع في رواية مسلم وبعض روايات البخاري «نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن خليل ا» وهذه الرواية مختصرة من تلك الرواية/ إذ هو يوسفبن يعقوببن إسحاق ابن إبراهيم (قالوا: ليس عن هذا) أيضاً (نسألك) . ففهم حينئذٍ أن مرادهم قبائل العرب (قال: فعن معادن العرب تسألوني؟) قالوا نعم وسكت عنه لدلالة السياق عليه فقال خيارهم بكسر الخاء المعجمة (في الجاهلية) ما قبل الإسلام، سموا بذلك لكثرة جهالتهم (خيارهم في الإسلام) أي: إن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية هم أصحابها في الإسلام وهم الخيار (إذا فقهوا) أي: صاروا فقهاء عالمين بالأحكام الشرعية الفقهية.
قال القاضي عياض: قد تضمن الحديث في الأجوبة الثلاثة أن الكرم كله عمومه وخصوصه مجمله ومفصله إنما هو بالدين من التقوى والنبوّة والاعتراف بها الإسلام مع الفقه (متفق عليه. وفقهوا بضم القاف على المشهور، وحكي كسرها) يقال فقه بضم القاف: إذا صار ذا سجية، وبكسرها بمعنى فهم. وفي «شرح مسلم» : الفقه في اللغة بمعنى الفهم، يقال فقه يفقه كفرح يفرح. أما الفقه الشرعي فقال صاحب «العين» والهروي وغيرهما: يقال منه فقه بضم القاف. وقال ابن دريد بكسرها كالأول، وقد روي فقه في دين الله بالوجهين، والمشهور الضم اهـ. أي: علموا أحكام الشرع ظاهره أصولاً وفقها وسلوكاً، ولا شك أن ذلك أكمل الأنواع، والجامع بين الجميع هو الإنسان الكامل.
702 - (الحديث الثاني) من أحاديث الباب (عن أبي سعيد الخدري رضي الله عن النبي قال: إن الدنيا حلوة خضرة) بفتح المعجمة الأولى وكسر الثانية. قال في «النهاية» :(1/255)
الخضر نوع من البقول ليس من أحرارها وجيدها، فشبه الدنيا للرغبة فيها والميل إليها بالفاكهة الحلوة الخضرة، فإن الحلو مرغوب فيه من حيث الذوق، والأخضر مرغوب فيه من حيث النظر، فإذا اجتمعا زادت الرغبة. وفيه إشارة إلى عدم بقائها وهو من التشبيه المطوي فيه الأداة. قيل: والفرق بين هذا النوع والاستعارة أن هذا لا يتغير حسنه إذا ظهرت الأداة، فإن قولك: المال خضرة في الحسن كقولك المال كالخضرة، ولا كذلك الاستعارة فإن قولك: رأيت أسداً يرمي، ليس كقولك: رأيت رجلاً كأسد، ذكره العاقولي (وإن الله مستخلفكم فيها) بكسر اللام: أي: جعلكم خلفاء في الدنيا: أي: أنتم بمنزلة الوكلاء فيها. وقيل معناه: جعلكم خلفاء ممن كان قبلكم، فإنها لم تصل إلى قوم إلا بعد آخرين (فينظر) أي: فيعلم علم مشاهدة وعيان (كيف تعملون) من إنفاقها في مراضيه فتثابون، أو في مساخطه فتأثمون، فإن الجزاء إنما يترتب على ما يبدو في عالم الشهادة من الأعمال كما تقدم، أو فينظر كيف تعملون: أي: أتعتبرون بحالهم وتتدبرون في مآلهم (فاتقوا الدنيا) أي: اجتنبوا فتنتها واحذروا أن تميلكم محبتها والاغترار بها عن أوامر الله تعالى واجتناب مناهيه فيها (واتقوا النساء) أي: اجتنبوا الافتتان بهن: أي: أن يمنعكم التمتع بهن لاستيلاء محبتهن عن القيام بأداء حقوق العبودية والتقرّب إلى مراضي الله تعالى، فإن بمقدار محبة السوي والركون إليه البعد عن المولى، ويدخل فيهن كما قال المصنف الزوجات وهن أكثر فتنة لدوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن (فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) أي: بسببهن، فهو كحديث «عذبت امرأة في هرة» قال شارح «الأنوار السنية» يحتمل أن يكون إشارة إلى قصة هاروت وماروت، لأنهما فتنا بسبب امرأة من بني
إسرائيل. ويحتمل أن يكون إشارة إلى قصة بلعامبن باعوراء لأنه إنما هلك بمطاوعة زوجته. وبسببهن هلك كثير من الفضلاء (رواه مسلم) .
713 - الحديث (الثالث عن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه أن النبي كان يقول اللهم) أصله يا أفحذف حرف النداء وعوّض عنه الميم كما تقدم (إني أسألك(1/256)
الهدى) بضم الهاء: الرشاد (والتقوى) وفي نسخة «والتقى» : امتثال الأوامر واجتناب النواهي (والعفاف) أي: التنزه عما لا يباح والكف عنه (والغنى) أي: غنى النفس والاغتناء عن الناس وعما في أيديهم، والمسؤول له زيادة ذلك. وفيه شرف هذه الخصال، وفيه الخضوع واللجأ للكريم الوهاب في سائر الأحوال (رواه مسلم) ورواه الترمذي وابن ماجه.
724 - الحديث (الرابع عن أبي طريف) بفتح الطاء وكسر الراء المهملتين وسكون التحتية بعدها فاء (عدي) بفتح أوله فكسر ثانيه المهملتين فتشديد الياء (ابن حاتم) بالحاء المهملة والفوقية المكسورة، العلم المضروب به المثل في الجود (الطائي) نسبة إلى طيىء بوزن سيد، واسمه جلهمة، وسمي طيئاً لأنه أول من طوى أي بنى المناهل، وقيل: لغير ذلك، وهو ابن عدي ابن سعيدبن الحشرجبن امرىء القيسبن عديبن أخرمبن ربيعةبن جرولبن ثغلبن عمرو ابن الغوثبن طيىءبن أددبن زيدبن يشجببن عريببن زيدبن كهلانبن سبأ كذا في عجالة المبتدي للحازمي. وقد عدىّ (رضي الله عنه) على النبيّ سنة تسع في شعبان، وقيل: سنة عشر وكان نصرانياً، وقيل: بل أسر المسلمون أخته سفانة بنت حاتم فأسلمت وعادت إليه، فأخبرته ودعته إلى رسول الله، فأسلم وحسن إسلامه. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وستون حديثاً، اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد مسلم بحديثين. ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم على الصديق وقت الردّة بصدقة قومه، وثبت على الإسلام ولم يرتدّ وثبت قومه معه، وكان جواداً شريفاً في قومه معظماً عندهم وعند غيرهم. روي عنه أنه قال: ما دخل عليّ وقت صلاة إلا وأنا مشتاق إليها. وكان يكرمه إذا دخل عليه، وكان يفتّ للنمل الخبز ويقول: إنهن جارات ولهن حق، شهد صفين مع علىّ. توفي سنة سبع، وقيل: تسع وستين، وله مائة وعشرون سنة. قيل: مات بالكوفة أيام المختار، وقيل: مات بقرقيسا، والأول أصح (قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حلف على يمين) الحلف هو اليمين كما تقول حلف يحلف حلفا، وأصلها العقد بالعزم والنية فخالف بين اللفظين وقال: حلف على يمين تأكيداً.
وقال القرطبي: اليمين المحلوف عليه. (ثم رأى أتقى منها) أي: من(1/257)
يمينه التي التزمها في ترك أمر (فليأت التقوى) وحاصله أن من حلف على ترك فعل شيء أو فعله فرأى غيره خيراً من التمادي على اليمين وأتقى كأن حلف ليتركنّ الصلاة أو ليشربنّ المسكر وجب عليه الحنث والإتيان بما هو التقوى من فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه، فإن حلف على ترك مندوب أو فعل منهي عنه نهي كراهة ندب له الحنث، ومثله حديث مسلم أيضاً «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» (رواه مسلم) .
(الخامس عن أبي أمامة) بضم الهمزة (صدي) بضم الصاد ففتح الدال المهملتين وتشديد الياء، ويقال الصدي بأل ولم يذكره الحاكم في كتابه إلا بها (ابن عجلان) بفتح المهملة وسكون الجيم وابن والبة بالموحدة ابن رباح بكسر الراء ابن الحارثبن معنبن مالكبن أعصربن سعد ابن قيس عيلان بالمهملة ابن مضربن نزاربن معدبن عدنان.
قال المصنف في «التهذيب» : ويقال في نسبه غير هذا (الباهلي) كان (رضي الله عنه) من مشهوري الصحابة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائتا حديث وخمسون حديثاً، روى البخاري خمسة منها/ ومسلم ثلاثة، وخرّج عنه أصحاب السنن. سكن مصر ثم حمص وتوفي بها سنة إحدى، وقيل: سنة ست وثمانين. وهو آخر من مات من الصحابة في البلدان المتفرقة فقال:
آخر من مات من الصحابة
أبو الطفيل موته بمكة
سهلبن عبد الله بالمدينة
وأنسبن مالك بالبصرة
ومات بالشام أبو قرصافه
وابن أبي أوفى الحمام وافه
بكوفة واليمن اذكر أبيضاً
وبخراسان بريدة قضى
ولم تنم مائة إلا وقد
ماتوا ولم يبق على الأرض أحد
رأى بعينيه النبي المصطفى
فاحفظ لنظمي ذا تنال الشرفا(1/258)
قلت: ويزاد عليه:
وآخر الصحب بحمص ماتا
أبو أمامة وذا قد فاتا
وفي كتاب «اليواقيت الفاخرة» : أن آخر من مات بالمدينة السائببن يزيد، يعرف بابن أخت النمر، أدرك النبي صغيراً وروي عنه وتوفى سنة إحدى وتسعين وهو ابن ثمان وثمانين اهـ. وكذا في «التقريب» للحافظ أن السائب آخر من مات من الصحابة بالمدينة (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع) بكسر الحاء على الأفصح وفتح الواو اسم مصدر من التوديع، وبكسرها مصدر وادع، سميت بذلك لأنه ودع الناس فيها. وفيه جواز تسميتها بذلك من غير كراهة (فقال: اتقوا ا) بدأ به لأنه الأساس لتناوله فعل سائر المأمورات وترك سائر المناهي، وعطف عليه ما بعده من عطف الخاص على العام اهتماماً به واعتناء بشأنه، ويحتمل أن عطف قوله: «وأطيعوا أمراءكم» من عطف المغاير من حيث أن أظهر مقاصد التقوى انتظار الأمور الأخروية (وصلوا خمسكم) أي: الفروض الخمسة (وصوموا شهركم) أي: شهر رمضان، وأضيف للأمة لما يسبغ عليهم فيه من الفيوض الإلهية من عتق الرقاب وجزيل الثواب. وفي الحديث «رجب شهرالله، وشعبان شهري، ورمضان شهر الأمة» (وأدّوا زكاة أموالكم) في الخلافيات «وأدوا زكاتكم طيبة بها نفوسكم، وحجوا بيت ربكم» (وأطيعوا أمراءكم) وفي رواية «ذا أمركم» فيما ليس فيه معصية الله تعالى، وفي ذلك انتظام الأحوال المتوصل به إلى قوام المعاش والاستعداد للمعاد (تدخلوا) بالجزم في جواب الأمر (جنة ربكم. رواه الترمذي في آخر كتاب الصلاة، وقال: حديث حسن صحيح) ورواه ابن حبان والحاكم.
ولما كان من ثمرات التقوى العرفان الذي به تنجلي الأمور، والنور الذي تنشرح به(1/259)
الصدور، ومن انشرح صدره واستنار قلبه بشهود التوحيد وأنه لا شريك له في ملكه ولا في شيء من أفعاله، تيقن أن لا حول له ولا قوّة، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، فخرج عما في نفسه من التدابير، وألقى نفسه مع جري المقادير، ففاز كما جاء في الحديث الشريف «لا حول ولا قوة إلا با كنز من كنوز الجنة» وظهر بهذا أن التوكل واليقين من ثمرات التقوى فلذا عقبها بهما فقال:
7 - باب في اليقين(1/260)
قال السيد في كتاب «تعريفات العلوم» : اليقين في اللغة: العلم الذي لا شك معه. وفي الاصطلاح: اعتقاد الشيء أنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا، وهو مطابق للواقع غير ممكن الزوال. وعند أهل الحقيقة رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبيان، وقيل: مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار (والتوكل) عرفه الشيخ العارف با أبو مدين بقوله في حكمه: التوكل وثوقك بالمضمون استبدالك الحركة بالسكون. وعرّفه غيره بقوله: اعتمادك على مولاك ورجوعك إليه، وخروجك عن حولك وقوّتك وانطراحك بين يديه. وقيل: اكتفاؤك بعلم الله فيك عن تعلق القلب بسواه، ورجوعك في كل الأمور إلىالله.
عباراتنا شتى وحسنك واحد
وكل إلى ذاك الجمال يشير
كذا في «شرح الحكم» المذكورة لعمي الشيخ العارف با أحمدبن علان الصديقي. وفي «شرح مسلم» للمصنف، اختلفت عبارات السلف والخلف في حقيقة التوكل، فحكى الإمام أبو جعفر الطبري وغيره عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يستحق اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو عدوّ حتى لا يطلب الرزق ثقة بضمان الله رزقه. وقالت طائفة: هو الثقة با والإيقان بأن قضاءه نافذ، واتباع سنة نبيه والسعي فيما لا بد منه من مطعم ومشرب، والتحرّز من العدوّ كما فعله الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
قال القاضي عياض: وهذا المذهب هو اختيار الطبري وعامة الفقهاء، والأول مذهب بعض المتصوفة وأصحاب علم القلوب والإشارات. وذهب المحققون منهم إلى نحو(2/263)
مذهب الجمهور، ولكن لا يصح عندهم التوكل مع الالتفات والطمأنينة إلى الأسباب، بل فعل الأسباب سنة الله وحكمته والثقة بأنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضرّاً والكل منالله، هذا كلام القاضي. وقال القشيري: اعلم أن التوكل محله القلب وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي توكل القلب بعد ما تحقق العبد أن التقدير من فعل الله عزّ وجلّ، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسر شيء فبتيسيره. وقال سهلبن عبد الله التوكل في الاسترسال مع الله على ما يريد. وقال أبو عثمان الحيري: التوكل الاكتفاء با تعالى مع الاعتماد عليه اهـ.
(قال الله تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب} ) من الكفار ( {قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله} ) من الابتلاء والنصر ( {وصدق الله ورسوله} ) في الوعد ( {وما زادهم} ) ذلك ( {إلا إيماناً} ) تصديقاً بوعد الله ( {وتسليماً} ) لأمره.
(وقال تعالى: {الذين} ) بدل من الذين قبله أو نعت له ( {قال لهم الناس} ) أي: نعيمبن مسعود الأشجعي ( {إن الناس} ) أبا سفيان وأصحابه ( {قد جمعوا لكم} ) الجموع ليستأصلوكم ( {فاخشوهم} ) ولا تأتوهم ( {فزادهم} ) ذلك القول ( {إيماناً} ) تصديقاً با ويقيناً ( {وقالوا: حسبنا ا} ) كافنا أمرهم ( {ونعم الوكيل} ) المفوض إليه الأمر هو، وخرجوا مع النبيّ فوافوا سوق بدر الذي كان واعد النبيّ كفار قريش يوم أحد عليه، وألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وأصحابه فلم يأتوا، وكان مع الصحابة تجارات فباعوا وربحوا، قال تعالى: ( {فانقلبوا} ) رجعوا من بدر ( {بنعمة من الله وفضل} ) بسلامة وربح ( {لم يمسهم سوء} ) من قتل أو جرح ( {واتبعوا رضوان ا} ) بطاعته وطاعة رسوله في الخروج ( {وا ذو فضل عظيم} ) على أهل طاعته، وقد بسطت الكلام في هذه الآية في كتاب الجهاد من «شرح الأذكار» .(2/264)
(وقال تعالى: {وتوكل} ) فيه إشارة لشرف الموكل، وأوجبه بعضهم مطلقاً، والظاهر وجوبه باعتبار لا مطلقاً. أما التوكل بطرح الأسباب والاكتساب فهو من شأن أهل الكمال وهو المندوب، وفي «المفهم» للقرطبي: المتوكلون على حالين: الحال الأول حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من الأسباب بقلبه ولا يتعاطاها إلا بحكم الأمر. والحال الثاني حال غير المتمكن، وهو الذي يقع له الالتفات إلى الأسباب أحياناً غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والأزواق الحالية، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه تعالى بجوده إلى مقام المتمكنين ويلحقه بدرجات العارفين اهـ. ( {على الحيّ الذي لا يموت} ) فيه إشارة إلى أن من توكل على غير الله فقد ضاع لأن الغير يموت؛ والعاقل لا ينبغي له أن يتوكل على من يموت ويفنى. وقال بعضهم: الاعتماد على الغني غايته الفقر، والاعتماد على القوّة آخره الضعف، والاعتماد على الخلق هو طريق الخذلان، ومن اعتمد على سوى الله وتوكل على غيره فقد ضيع وقته وخاب سعيه، لأن الحيّ الذي لا تجري عليه فنون العوارض دعاك إليه بألطف دعواه فقال {وتوكل على الحي الذي لا يموت} . ( {وقال تعالى: وعلى ا} ) لا على غيره ( {فليتوكل المؤمنون} ) إذ هو الحي القيوم. (وقال تعالى) : {فإذا عزمت} ) على إمضاء ما تريد بعد المشاورة ( {فتوكل على ا} ) أي: ثق به لا بالمشاورة (والآيات في الأمر بالتوكل كثيرة معلوماً) .
(وقال تعالى:) في فضل التوكل وثمراته ( {ومن يتوكل على ا) فهو حسبه} أي: كافيه(2/265)
(وقال تعالى) : {إنما المؤمنون} ) أي: الكاملو الإيمان ( {الذين إذ ذكر ا} ) أي وعيده ( {وجلت} ) خافت ( {قلوبهم} ) وقيل: «إذ ذكر الله وجلت قلوبهم» فزعت لذكره استعظاماً له وتهيباً من جلاله ( {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} ) تصديقاً، وإسناد الزيادة للآيات من الإسناد للسبب ( {وعلى ربهم يتوكلون} ) يفوضون أمرهم إليه ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه (والآيات في فضل التوكل) وثمراته (كثيرة معروفة) .
(وأما الأحاديث) النبوية في فضل التوكل:
741 - (فـ) الحديث (الأول) منها (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: عرضت) بالبناء للمفعول (عليّ) بتشديد التحتية (الأمم) وفيه كمال شرفه وعرض جميع الأمم عليه صلوات الله وسلامه عليه، ولعل من حكمة ذلك ما قيل إنه مبعوث لجميع بني آدم من آدم فمن دونه، والأنبياء إنما هم نوّاب عنه في تبليغ الشرائع لأولئك الأمم، وهذا العرض يحتمل أن يكون مناماً ورؤيا الأنبياء وحي أو في اليقظة ليلة الإسراء أو غيرها، وا يكرم نبيه بما شاء (فرأيت) أبصرت إن كانت يقظة أو رؤىً حلمية إن كانت مناماً (النبي) أل فيه للماهية أي المتصف بالنبوة، ويظهر أن المراد به الرسول (ومعه الرهيط) بضم المهملة وفتح الهاء وسكون التحتية آخره طاء مهملة أيضاً. وفي «مختصر القاموس» الرهط ويحرك قوم الرجل وقبيلته، أو من ثلاثة أو سبعة إلى عشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، جمعه أرهط وأرهاط وأراهط. قلت: الرهط من الرجال ما دون العشرة، وقيل: إلى الأربعين اهـ والجملة في محل الحال لتصديرها بالواو بناء على أن رأى الحلمية لا تنصب مفعولين وأن المنصوب الثاني بعدها في محل الحال وهو الذي رجحه ابن هشام في بعض كتبه (والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي) حال كونه (ليس معه أحد) . فإن قلت: النبي هو المخبر عن الله للخلق فأين الذين أخبرهم؟(2/266)
قلت: ربما أخبر ولم يؤمن به أحد ولا يكون معه إلا المؤمن (إذ رفع) بالبناء المفعول (لي سواد) أي: أشخاص وهو كما في «مختصر القاموس» : الشخص، ومن البلدة قراها والعدد الكثير من أهلها، ومن الناس عامتهم اهـ. 5 ولذا قال القرطبي: أي: أشخاص كثيرة ويجمع على أسودة (عظيم) لكثرته (فظننت أنهم) أي: السواد الذي هو الأشخاص وباعتباره جمع الضمير العائد إليه (أمتي فقيل لي هذا) أي: السواد العظيم (موسى وقومه) أي: أمته المؤمنون (ولكن انظر إلى الأفق) بضم الهمزة والفاء وبسكونها كما في «الصحاح» ، وعبارته: الآفاق
النواحي الواحد أفق، وأفق مثل عسر وعسر انتهت، وبالقاف: الناحية.
وجوزّ الحافظ السيوطي أن يكون الأفق واحداً وجمعاً كالفلك ويجمع أيضاً على آفاق (فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم) أي: غير السواد الأول إذ النكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى غالباً (فقيل لي هذه) أي: مجموع السوادين العظيمين (أمتك) أي: المؤمنون كما تقدم نظيره (ومعهم سبعون ألفاً) يحتمل أن يكون معناه ومن أمتك غير هؤلاء سبعون ألفاً، ويحتمل أن يكون معناه وفي جملة هذه الأسودة سبعون ألفاً (يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) ويؤيد الاحتمال الثاني رواية البخاري في «صحيحه» (هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفاً) فالسبعون ألفاً من أمته بلا شك. وعذاب بفتح المهملة وبالذال المعجمة، وفي نسخة عقاب بكسر المهملة وبالقاف، وجملة يدخلون الجنة الخ صفة أو حال من سبعون لتخصيصه بالظرف قبله. فإن قلت: هل يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وإن كانوا أصحاب معاصي ومظالم؟ قلت: الذين كانوا بهذه الأوصاف الأربعة المذكورة في الحديث لا يكونون إلا عدولاً مطهرين من الذنوب أو ببركة هذه الصفات يغفر الله لهم ويعفو عنهم (ثم نهض) قبل بيان السبعين المذكورين (فدخل منزله فخاض) بالحاء والضاد المعجمتين: أي تكلم (الناس) والمراد منهم الصحابة وتناظروا (في) تعيين (أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) وفي البخاري «فأفاض الناس» وهو بمعناه يقال أفاض الناس في(2/267)
الحديث إذ تباحثوا فيه وناظروا عليه وتناظروا. وفي الحديث إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على جهة الاستفادة وإظهار الحق (فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله) أي: السابقون الذين صحبوه وقاموا بنصرة الدين وهجروا الأهل والأوطان لذلك (وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا) بالبناء للمفعول (في الإسلام) أي: وإن لم يرهم وفضلهم ما أشاروا
إليه بقولهم (فلم يشركوا با) فيه دليل على شرف المسلم أصالة على من كان كافراً ثم أسلم، ويدل له ما ذكره الفقهاء في تقديم من دخل آباؤه في الإسلام على من تأخر آباؤه في الدخول فيه في الإمامة (وذكروا أشياء) من الاحتمالات في التعيين (فخرج عليهم رسول الله) أو عقب خضوهم في ذلك كما تشعر به الفاء إراحة لهم من الخوض فيما لا سبيل لهم لمعرفته إلا من جهته (فقال ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون) أي: يطلبون الراقية لهم من الغير. وقد اختلف العلماء في هذا المقام مع ورود السنة فعلاً وإذناً بجواز الرقية والاسترقاء. والذي رجحه المصنف والقرطبي وغيرهما من ذلك ما قاله الخطابي وغيره أن المراد ترك ذلك توكلاً ورضاً بقضاء الله تعالى وبلائه، قال الخطابي: وهذه من أرفع درجات المتحققين بالإيمان. قال: وإلى هذا ذهب جماعة سماهم.
قال المصنف: وحاصله أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله تعالى فلم يسعو في دفع ما أوقعه بهم، ولا شك في رجحان هذه الحال وفضيلة صاحبها. وأما تطببه فلبيان الجواز اهـ. وقال القرطبي: الرقى والاسترقاء ما كان منه برقيا الجاهلية أو بما لا يعرف فواجب اجتنابه على سائر المسلمين واجتنابه حاصل من أكثرهم، فلا يكون اجتناب ذلك هو المراد هنا ولا اجتناب الرقى بأسماء الله تعالى، وبالمرويّ عن رسول الله، لأن ذلك التجاء إلى الله تعالى، قال: ويظهر لي - والله أعلم - أن المقصود اجتناب رقى خارج عن القسمين كالرقيا بأسماء الملائكة والأنبياء والصالحين كما يفعله كثير ممن يتعاطى الرقيا، فهذا ليس من قسم المحظور الذي يعم اجتنابه، ولا من قبيل الرقيا التي فيها اللجأ إلى الله تعالى، فهذا القسم المتوسط يلحق بما(2/268)
يجوز فعله، غير أن تركه أولى من حيث إن الرقى بذلك تعظيم وفيه تشبيه للرقي به بالرقى بأسمائه تعالى وكلماته، فينبغي اجتنابه كاجتناب الحلف بغير الله تعالى اهـ. (ولا يتطيرون) أي: يتشاءمون بالطيور ونحوها مما يتشاءم به: أي: لا يرجعون عما عزموا عليه عند وجود ما جرت به عادة الجاهلية من التطير به والوقوف عن الفعل منه من الجوائح والسوانح وسيأتي في هذا بسط (وعلى ربهم) لا على غيره في سائر أحوالهم (يتوكلون) وهؤلاء هما القائمون بأعلى مقام التوكل بترك الأسباب وعدم معاطاتها رضا بتصرف المولى فيهم، واكتفاء بتدبيره تعالى عن تصرّف كلّ وتدبيره (فقام عكاشةبن محصن) بكسر الميم وسكون المهملة الأولى وفتح الثانية، ابن حرثان بضم المهملة وسكون مهملة بعدها مثلثة وبعد الألف نون، ابن قيسبن مرةبن كثيربن غنمبن داودبن أسدبن خزيمة (الأسدي) بفتح أوّليه والمهملتين حليف بني عبد شمس، وكان عكاشة من أفاضل الصحابة وخيارهم وشجعانهم، له ببدر المقام المشهور، وذلك أنه ضرب بالسيف في الكفار حتى انقطع، فأعطاه جزل حطب، فأخذه فهزه في يده فعاد سيفاً صارماً، فقاتل
به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ولم يزل عنده يشهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتل عكاشة وهو معه، وقتل في قتال أهل الردة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قتله طليحةبن خويلد الأسدي، هذا قول أهل السير. وقال سليمان التيمي: أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني أسد سرية فقتله طليحة.
قال ابن الأثير: وهو وهم، وإنما قاله لقرب الحادثة من عهد رسول الله، وكان عكاشة يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أربع وأربعين سنة. وكان من أجمل الرجال اهـ. وقال «منا خير فارس في العرب، قالوا: ومن هو يا رسول الله؟ قال: عكاشةبن محصن» رضي الله عنه، ولقوّة يقينه وشدة حرصه على الخير ورغبته فيما عند الله تعالى سبق الصحابة كلهم (فقال: ادع الله لي أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم) يحتمل كونه منهم لدعائه له بذلك، ويحتمل لكونه كان موصوفاً بتلك الأوصاف الجميلة، ويحتمل أنه أوحى إليه بأنه منهم وفي جملة، والله أعلم بحقيقة الحال، ثم رأيت الكرماني نقل الأول قولاً عن بعضهم (ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال) له لما لم يكن عنده ما عند عكاشة من تلك الأحوال الشريفة (سبقك بها) أي: في الفضل بالدعوة إلى منزلة أصحاب هذه الأوصاف (عكاشة) وكره أن يقول له:(2/269)
لست من أهل هذه الطبقة لأنه لكمال فضله لا يواجه أحداً بما يكره، فجاء بكلام موف للغرض، وفيه التعريض بالمراد.
قال الكرماني: قيل: يحتمل أن يكون سبقك عكاشة بوحي أنه يجاب فيه ولم يحصل ذلك للآخر، وقال القرطبي: لئلا يطلب كل مثل ما طلب عكاشة، فسدّ الباب بحسن ذلك الجواب. وهذا أولى مما قيل كان ذلك الرجل منافقاً لوجهين:
أحدهما: أن الأصل في الصحابة الإيمان والعدالة فلا يظن بأحد منهم خلاف الأصل ولا يسمع منه ذلك إلا بالنقل الصحيح.
752 - والثاني: أنه قلّ أن يصدر مثل هذا السؤال من منافق، إذ لا يصدر غالباً عن تصديق صحيح ويقين بما عند الله تعالى اهـ. قلت: قد صرح الخطيب بأن ذلك الرجل سعدبن عبادة كما نقله عنه الكرماني وبه يبطل ذلك القول (متفق عليه) ورواه أحمد بنحوه وليس فيه ذكر عكاشة (والرهيط بضم الراء) المهملة أوله وسكون التحتية (تصغير رهط) بفتح فسكون (وهم دون عشرة أنفس) سبق بيان الأقوال فيه والخلاف في ذلك (والأفق: الناحية والجانب) عطف مرادفـ ففي «الصحاح» الجانب الناحية وكذا الجنبة (وعكاشة بضم العين) المهملة (وتشديد الكاف) قال في «القاموس» : بوزن رمانة (وبتخفيفها) قال القرطبي: قال ثعلب: وقد تخف. قلت: ولعله منقول من عكاشة بالتخفيف: اسم لبيت النمل، أو مأخوذ من عكش الشعر يعكش: إذا التوى اهـ. (والتشديد أفصح) .
الحديث الثاني: (عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً) منصوب على المصدرية، وقيل: على الحالية: كلمة تقال للاتفاق بين الشيئين معنى ويمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر، وقد ثبت نطقه بها كما في «صحيح البخاري ومسلم» وغيرهما، وقد بسطت الكلام فيها في باب فضل الذكر من «شرح الأذكار» . والمعنى هنا: أروي الحديث الثاني رجوعاً للرواية، أو حال كوني راجعاً للرواية عن ابن عباس (أن رسول الله) بفتح الهمزة في(2/270)
تأويل مصدر مبتدأ مخبر عنه بالظرف السابق (كان يقول: اللهم) أي: يا أ (لك) لا لغيرك كما يؤذن به تقديم الظرف (أسلمت) قال ابن عبد البرّ: استسلمت لحكمك وأمرك وسلمت ورضيت آمنت وصدقت وأيقنت اهـ (وبك) أي: بذاتك وما يجب لها من أوصاف الكمال (آمنت) أي: صدقت (وعليك توكلت) ركنت إليك في سائر الأمور وخرجت عن تدبيري لنفسي وحولي وقوّتي، اكتفاء بما سبقت به الإرادة وجرت به الأقدار (وإليك أنبت) من الإنابة: الرجوع، وتختص بالرجوع إلى الخير كما في «التمهيد» لابن عبد البرّ: أي: رجعت إلى عبادتك والإقبال على ما يقرّب منك. وقيل: رجعت بالتوبة واللجأ والذلة والمسكنة، وقيل: رجعت إليك في تدابير الأمور وتصاريفها فيكون بمعنى «وعليك توكلت» (وبك) أي: بما أعطيتني من البرهان والحجج القولية، أو بالنصرة ونحوها من الحجج الفعلية (خاصمت) أعداء الدين فقصمت ظهورهم بالبراهين القوية وقطعت دابرهم بالسيوف والرماح السمهرية (اللهم إني أعوذ) أعتصم وألتجيّ (بعزتك) أي: بقوتك وقدرتك وسلطانك وغلبتك (لا إله إلا أنت) جملة معترضة لتأكيد العزة والاعتصام بحبله تعالى: وقوله: (أن تضلني) أصله من أن تضلني متعلق بأعوذ، وحذف الجار من إن وأن: قياس مطرد، وتضلني بضم الفوقية من الإضلال (أنت الحي) على الدوام (القيوم) بفتح القاف وتشديد التحتية القائم بتدبير الخلق وحفظه (الذي لا يموت) بالتحتية نظراً لكونه صلة للذي، وبالفوقية نظراً لضمير الخطاب قبله وهو كالتأكيد لما
قبله، لأن من شأن القائم بالتدبير والحفظ ألا يموت، لأن من لا يحفظ حياة نفسه كيف يحفظ حياة غيره (والجن) أي: الشامل للملك (والإنس) وأتباعهم من الحيوانات والحشرات (يموتون) فيه تنبيه على سبب التوكل عليه ورد الأمر إليه دون غيره وهو أن غيره يموت: ويضمحلّ شأنه ويفوت، والتوكل إنما هو على الحيّ الذي لا يموت، فمن اعتزّ بغير الله ذلّ، ومن اهتدى بغير هدايته ضلّ، ومن اعتصم با تعالى وتوكل عليه: عزّ وجلّ (متفق عليه) ورواه النسائي أيضاً (وهذا) المذكور (لفظ مسلم) في روايته (واختصره البخاري) . فقال: عن ابن عباس أن النبي كان يقول: «أعوذ بعزتّك(2/271)
لا إله إلا أنت، أنت الذي لا تموت والجن والإنس يموتون» .
763 - الحديث (الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما) قال القارىء في «شرح الحصن الحصين» : إنه موقوف خلاف ما أورده الشيخ، يعني ابن الجزري. قلت: وكأنه لما رأى أن الحديث في حكم المرفوع سكت عليه اعتماداً على أنه مرفوع في بعض طرقه اهـ (قال: حسبنا الله ونعم الوكيل) تقدم الكلام في معناها أول الكتاب (قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار) في تفسير القرطبي: قال ابن إسحاق بعد ذكر المنجنيق وما هيئوه من الحطب: فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره فأذن لنا في نصرته، فقال تعالى: إذا استعان بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الماء وهو في الهواء فقال: يا إبراهيم إن أردت أخمدت النار بالماء، فقال: لا حاجة لي فيك، فأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار، فقال لا، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: «اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس أحد يعبدك غير حسبي الله ونعم الوكيل» ثم ذكر باقي القصة (وقالها محمد حين قالوا) أي: قال الناس له ( {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} ) قضية هذا أن يكون «الذين» الواقع أول الآية وضمائر الجمع بعده مما أريد به الواحد وهو النبيّ، فيكون نظير قوله تعالى: {أم يحسدون الناس} فإن المراد منه النبي، وكذلك الناس في قوله تعالى: {قال لهم الناس} فإن المراد منه كما تقدم أول الباب نعيمبن مسعود، لكن تقدم أول الباب أن المراد من الذين وما بعده الصحابة وذلك الذي ذكره السيوطي في تكملته لتفسير الجلال المحلي ولا مخالفة، فلعل ابن عباس اقتصر عليه لأنه الأصل المتبوع (رواه(2/272)
البخاري) والنسائي أيضاً (وفي رواية له) أي: البخاري (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آخر قول
إبراهيم صلى ا) على نبينا و (عليه) وعلى سائر النبيين (وسلم) هكذا ينبغي أن يقال عند ذكر باقي الأنبياء (حين ألقي في النار: حسبي ا) أي: بالإفراد، وقد جاء ذلك عن ابن إسحاق في السيرة كما تقدم: فحسبي أي: كافيّ الله (ونعم الوكيل) فهو من عطف الجملة الخبرية على مثلها، قال السيوطي في «التوشيح» لأبي نعيم في «المستخرج» إنها أول ما قاله، فلعلها أول شيء قاله وآخر شيء قاله. وقد بسطت الكلام في إعرابها وما فيه في أوائل «شرح الأذكار» وذكرت خلاصته أوائل هذا الشرح.
774 - الحديث (الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: يدخل الجنة) ظاهره مع الفائزين كما يدل عليه سياقه في مقام المدح لهم، وإلا فجميع أهل الإيمان يدخلون الجنة بوعد الله الذي لا يخلف (أقوام) جمع واحده قوم. وفي «مفردات الراغب» كما تقدم: القوم جماعة الرجال في الأصل دون النساء ولذا قال تعالى {لا يسخر قوم من قوم * ولا نساء من نساء} (الحجرات: 11) وفي عامة القرآن أريد به الرجال والنساء اهـ. وظاهر أن ما نحن فيه من قبيل الثاني (أفئدتهم) في «مختصر القاموس» : الفؤاد القلب مذكراً، أو هو ما يتعلق بالمرء من كبد ورئة وقلب وجمعه أفئدة اهـ. وفي كتاب الإيمان من «شرح مسلم» للمصنف: المشهور أن الفؤاد هو القلب، وقيل: الفؤاد داخل القلب: أي: الطبقة القابلة للمعاني من العلوم وغيرها (مثل أفئدة الطير) جمع طائر ويقع على الواحد وجمعه طيور وأطيار (رواه مسلم) ورواه أحمد (قيل: معناه) أقوام (متوكلون) ففي الحديث الآتي «لو اتكلتم على الله حق اتكاله لرزقكم كما يرزق الطير» . وفيه إشارة إلى أنها لما لم تتسبب للأرزاق بتدابيرها يسر الله وصول الرزق إليها مع ضعفها وقلة حيلتها (وقيل: قلوبهم رقيقة) أي: فهي أسرع فهماً وقبولاً للخير وامتثالاً له.(2/273)
785 - الحديث (الخامس: عن جابربن عبد الله رضي الله عنه) وتقدمت ترجمته في باب الإخلاص (أنه غزا مع النبي) تقدم في باب التوبة عدة غزواته وسراياه وما حارب فيه بنفسه وهذه رواية عنه بالمعنى، وإلا فإنما قال غزوت بتاء المتكلم (قبل نجد) هو لغة: ما ارتفع من الأرض، وهي هنا اسم خاص لما دون الحجاز، والمراد بها ذات الرقاع وكانت في السنة السادسة (فلما قفل) بفتح أوليه، القاف والفاء: أي: رجع من سفره (رسول الله، قفل) أي: جابر (معه) أي: مع النبي، وفي نسخة «معهم» أي: مع النبي وصحبه المجاهدين معه التابعين له (فأدركتهم القائلة) أي: الظهيرة، في «الصحاح» وقد تكون بمعنى القيلولة أيضاً: وهي النوم في الظهيرة (في واد كثير العضاه) بكسر العين المهملة وبالضاد المعجمة (فنزل رسول الله) أي: صار في المنزل وترك السير للحر (وتفرّق الناس عنه يستظلون بالشجر) يستترون بها كما في «الصحاح» علة لتفرقهم عنه في ذلك المكان حتى انفرد ووصل إليه ذلك العدوّ الذي لولا عصمة الله لنبيه لتفك به (ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سمرة فعلق) بالتشديد (بها سيفه ونمنا نومة) علة لما تقدم أيضاً والنوم من تعب السفر مع حرّ الشمس ولذا استحبت القيلولة (فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، وإذا عنده أعرابي) منسوب للأعراب وهم سكان البوادي، والعرب يعمهم ويعم سكان القرى كما تقدم، وهذا الأعرابي من بني محارب الذين خرج لحربهم في غزوة ذات الرقاع.
قال العلماء: اسمه غورث بغين معجمة وثاء مثلثة والغين مضمومة ومفتوحة. وحكى القاضي عياض الوجهين ثم قال: الصواب الفتح، قال: وضبطه بعض رواة البخاري بالعين المهملة والصواب المعجمة. والخطابي قال: هو غورث أو غويرث على التصغير والشك وهو غورثبن الحارث. قال القاضي: وجاء في حديث آخر مثل هذا الخبر وسمي فيه الرجل دعثور، كذا في «شرح مسلم» للمصنف. قال ابن سيد الناس في عنوان الأثر: وذلك في غزوة ذي قرد اهـ. لكن في البخاري كما يأتي أنها في ذات الرقاع، وكذا قال ابن النحوي في «شرح البخاري» وفي «شرح الشفاء» لابن أقبرس أن قصة غورث معه في ذات الرقاع في السنة الرابعة، وقد أسلم بعد هذا وصحب النبيّ(2/274)
اهـ.
فلعلها تعددت، فيجمع بين الأقوال بتعدد الغزوة وتعدد الأعرابي. وقضية كلام البخاري في «المغازي» من صحيحه أن ذات الرقاع يقال لها ذو قرد، والله أعلم (فقال: إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم) وفي سيرة ابن سيد الناس عن جابر «أن النبيّ كان جالساً وأن السيف كان في حجره فقال: يا محمد انظر إلى سيفك هذا؟ قال نعم، فأخذه واستله ثم جعل يهزّه ويهمّ بقتل النبيّ فيكبتهالله، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟ قال: ما أخاف منك، قال: وفي يدي السيف، قال لا، يمنعني الله منك» الحديث، وظاهر أن ما في «الصحيح» مقدم على ما في غيره (فاستيقظت) أي: عقب اختراطه قبل تمكنه من الفتك به، ويحتمل أن يكون بعد تمكنه من الفتك به وعصم الله تعالى نبيه وكبت عدوّه (وهو في يده صلتا) حال (وقال) أي: الأعرابي مخاطباً للنبي (من يمنعك مني) استفهام يتضمن النفي كأنه قال: لا مانع لك مني، ظن لقصور نظره أن السيف هو القاتل، ولم يدر أن اهو الفاعل وأنه يحول بين المرء وقلبه (فقلت: ا) أي: يمنعني منك فيكون مبتدأ محذوف الخبر بقرينة وجوده في السؤال، ويحتمل أن يكون التقدير: يمنعني الله فيكون فاعلاً حذف عامله لما ذكر فيما قبله (ثلاثاً) الظاهر أنه قيد في الجواب فقط، وكأنه أعاد هذا اللفظ ثلاثاً تلذذاً به، ولغلبة توحيده وكمال شهوده لم ينزعج قلبه الشريف، بل كان على حاله المنيف في أن قرّة عينه في مشاهدته لمولاه ومناجاته، ويحتمل أنه كرّر قوله: «من يمنعك» فكرر قوله: «ا» في جوابه. وقد وقع في نسخة من البخاري «من يمنعك مني من يمنعك مني» فكرّرها مرتين (و) من كرم أخلاقه (لم يعاقبه) ففيه العفو والحلم ومقابلة السيئة بالحسنة (وجلس) أي: النبيّ من اضطجاعه الذي كان عليه حال نومه، فيكون حالاً من مفعول يدعونا، وعليه اقتصر الشيخ زكريا، أو جلس الأعرابي من قيامه الذي كان عليه حال اختراط السيف لأمته (متفق عليه) في السيرة لابن سيد الناس عن جابر أن في ذلك نزل قوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} (المائدة: 2) الآية (في رواية) للبخاري (قال جابر: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع) أي: بغزوة ذات الرقاع، وسميت بذلك لأنهم رفعوا فيها راياتهم، ويقال ذات(2/275)
الرقاع شجرة بذلك الموضع، وقيل: لأن أقدامهم نقبت فكانوا يلفون عليها الخرق، وقيل: بل الجبل الذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات ألوان تشبه الرقاع، وسيأتي هذه مع زيادة في سبب التسمية وبيان تاريخ الغزوة في باب القناعة إن شاء الله تعالى (فإذا أتينا) معطوف على كنا (على شجرة ظليلة) أي: ذات ظل كثيف لتراكم أغصانها وكثرة أوراقها (تركناها لرسول الله) لأنه السيد المقدم (فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلق بالشجرة) جملة حالية (فاخترطه) أي: سله بسرعة (فقال: تخافني) أي: أتخافني (فقال) (لا) أي: لا أخافك لعلمه بأن الفاعل المختار هو الواحد القهار، فقام الحرف مقام جملة الجواب بقرينة وجود ما يدل عليه في السؤال (قال) الأعرابي (فمن يمنعك مني؟) أي: بالحيلولة بيني وبين ما أريد من الفتك (قال: ا) أي: الله يمنعني منك ويحول بينك وبين ما تريد (وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في «صحيحه» ) وكذا أخرجه أبو عوانة من حديث جابر المستخرج على صحيح البخاري (فقال) أي: الأعرابي (من يمنعك مني؟ قالالله، فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف فقال) للأعرابي (من يمنعك؟) أي: من البشر أي لا مانع لك الآن (مني، فقال: كن خير آخذ) أي: بأن تعفو وتصفح وتقابل السيئة بالحسنة (فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) فـ (قال لا، ولكن) استدراك مما قد يوهمه عدم إسلامه من شهوده مع محاربيه فنفى ذلك بقوله ولكن (أعاهدك أني لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك) فرأى المصلحة في العفو عنه رجاء إسلام قومه وإقبالهم على حضرته الشريفة لما
يسمعون بمحاسن هذه الأخلاق وكمال هذا الكرم فيسمعون منه ما يكون سبب إسلامهم وسعادتهم الأبدية (فخلى سبيله) أي: منّ عليه وأطلقه من غير فداء. وفي قصة دعثور الذي استظهر ابن سيد الناس وابن النحوي أنها وهذه قصة(2/276)
واحدة «أن جبريل دفع في صدره فوقع السيف من يده، ثم أسلم ثم جاء قومه يدعوهم إلى الإسلام» .
ولعله قال: هذا المذكور هنا من امتناعه من الإسلام أولاً، ثم شرح الله صدره في المجلس بحلول نظر المصطفى وملاحظته له فأسلم. وسكت عن ذلك رواة الصحيح، إما نسياناً أو لسبب آخر وذكره غيرهم، ويقربه قوله (فأتى أصحابه) أي: قومه الذين كان تعاقد معهم على الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال: جئتكم من عند خير الناس) خلقاً وخلقاً، ويكفيك في شرف خلقه وكماله قوله تعالى: {وإنك لعلي خلق عظيم} (القلم: 4) وسئلت السيدة عائشة عن خلقه فقالت: كان خلقه القرآن (قوله قفل) بالقاف والفاء (أي رجع) من السفر. (العضاة) بكسر العين المهملة والضاد المعجمة الواحدة عضه فالهاء أصلية وقيل عضهة وقيل عضاهة فحذفت الهاء الأصلية كما حذفت من الشفة ثم ردت في العضاه كما ردت في الشفاه؛ وقد يقال عضة مثل عزة ثم يجمع على عضوات، ويقرأ العضاه بالهاء وقفاً ووصلاً، لأن جمعه جمع تكسير وليس بجمع سلامة، فهو مثل شفاه وشياه، كذا في «التوضيح» على الجامع الصحيح لابن النحوي (الشجر الذي له شوك، والسمرة بفتح السين) المهملة (وضم الميم) وبعدها راء جمعه سمر (الشجرة من الطلع) بفتح المهملة أوله وسكون اللام بعد مهملة: وهو العوسج (وهي) أي: الطلح والتأنيث بالنظر إلى الخير: أي: قوله (العظام) أي: الكبار (من شجر العضاه، واخترط السيف: أي سله) قال ابن النحوي بسرعة (وهو في يده صلتاً: أي مسلولاً وهو بفتح الصاد) المهملة (وضمها) وسكون اللام فيهما. قال في «جامع الأصول كالنهاية والصحاح» : الصلت المشهور، يقال أصلت السيف: إذا شهرته اهـ: أي إن
فعله من الثلاثي المزيد. وفي كتاب الأفعال لابن القوطية صلت الشيء برز، وأصلت الشيء أبرزته.(2/277)
796 - الحديث (السادس عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لو) تحقق (أنكم تتوكلون) بفتح الهمزة: أي لو تحقق توكلكم (على الله حق توكله) بأن تعتمدوا عليه في سائر الأحوال وتروا أن الخير بيده ومن عنده (لرزقكم كما يرزق الطير) أل فيه للجنس (تغدو خماصاً) بكسر الخاء المعجمة وبعد الألف صاد مهملة جمع خميص: وهو الضامر البطن وخماصاً حال: أي: خالية الأجواف من القوت (وتروح بطانا) بكسر الموحدة جمع بطين: وهو العظيم البطن وهو حال أيضاً (رواه الترمذي) وأحمد وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» (وقال) الترمذي (حديث حسن) قال المصنف (معناه) أي: معنى الحديث المذكور (تذهب أول النهار خماصاً: أي: ضامرة البطن من الجوع) فمعنى الغدوّ: الذهاب أول النهار، والرواح ضده ولذا قال في معنى قوله: «وتروح بطانا» (وترجع آخر النهار بطاناً: أي ممتلئة البطون) قال السيوطي في قوت المغتدى: قال البيهقي في «شعب الإيمان» : ليس في هذا الحديث دلالة على القعود عن الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق، لأن الطير إذا غدت فإنها تغدو لطلب الرزق، وإنما أراد والله أعلم: لو توكلوا على الله تعالى في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم ورأوا أن الخير بيده ومن عنده لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً، لكنهم يعتمدون على قوتهم وجلدهم ويغشون ويكذبون ولا ينصحون، وهذا خلاف التوكل اهـ.
807 - الحديث (السابع عن أبي عمارة) بضم العين المهملة وتخفيف الراء ويقال أبو عمرو ويقال أبو الطفيل (البراء) بفتح الموحدة وتخفيف المهملة والمد هذا هو الصحيح المشهور عند طوائف من أهل الحديث والتاريخ والأسماء واللغة وغيرهم، قال المصنف في «التهذيب» ، وحكي فيه القصر أيضاً (ابن عازب) بالمهملة أوله وبعد الألف زاي فموحدة ابن(2/278)
الحارثبن عديبن مخدعةبن حارثةبن الحارثبن الخزرجبن عمروبن مالكبن الأوس الأنصاري الأوسي الحارثي المدني، أبو عازب صحابي ذكره ابن سعد في «الطبقات» ، فلهذا قال المصنف (رضي الله عنهما) استصغر البراء يوم بدر، وأول مشاهدة أحد، وشهد بيعة الرضوان. وفي البخاري عن البراء «جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجراً حتى قرأت {سبح اسم ربك الأعلى} (الأعلى: 1) في سور مثلها من المفصل» . روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة حديث وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعشرين حديثاً منها، وانفرد البخاري بخمسة عشر: ومسلم بستة. نزل الكوفة وبها توفي في زمن مصعببن الزبير رضي الله عنهما (قال: قال رسول الله: يا فلان) تقدم الكلام فيه أواخر باب الصبر هو أسيدبن حضير كما نقله المصنف في «مبهماته» عن الخطيب (إذا أويت) بالقصر على الأرجح لأنه قاصر: أي: انضممت (إلى فراشك) وقد بسطت الكلام فيه في باب ما يقول إذا استيقظ من منامه من «شرح الأذكار» (فقل: اللهم إني أسلمت نفسي) بسكون الياء وتفتح: أي: ذاتي (إليك) أي: أسلمت وجعلت نفسي منقادة لك طائعة لحكمك راضية بقضائك قانعة بقدرك (ووجهت وجهي إليك) أي: أقبلت بذاتي إليك مستسلماً راضياً قانعاً وهو مع ما قبله كالإطناب (وفوضت أمري إليك) أي: توكلت في جميع شئوني الدنيوية والأخروية عليك وجعلتها راجعة إليك (وألجأت) أي: أسندت (ظهري إليك) أي: إلى حفظك، لما علمت أنه لا سند يتقوى به سواك.
قال الطيبي: في الجملة إشارة إلى أنه بعد تفويض أمره الذي هو مفتقر إليه وبه معاشه وعليه مدار أمره ملتجىء إليه مما يضرّه ويؤذيه من الأسباب الداخلة والخارجة (رغبة) أي: طمعاً في ثوابك (ورهبة) أي: خوفاً من عقابك (إليك) متعلق برغبة كقوله: علفتها تبناً وماء بارداً. كما قاله الكرماني. وقيل: بل تنازع فيه ما قبله بمعنى: إني في حالة الرغبة والرهبة لا أرجع إلا إليك، وقوله: (لا ملجأ) بهمزة مفتوحة: أي: مستند ولا من يلتجىء إليه، وقيل: لا مخلص ولا مفرّ (ولا منجا) غير مهموز. وقال الحافظ ابن حجر: الأصل في ملجأ الهمز وفي منجا عدمه، لكن لما جمعا جاز أن يهمزا وأن يترك الهمز منهما للازدواج وأن يبقى كل على حاله ويجوز التنوين مع القصر فتصير خمسة أوجه. قلت:(2/279)
وكذا يجوز التنوين مع الهمز: أي: إن لم تعمل «لا» فإن أعملتها فلا تنوين مهموزاً كان أو لا (منك) قال الكرماني: تنازعه ما قبله إن كانا مصدرين وإن كانا اسمي مكان فلا، إذ اسم المكان لا يعمل (إلا إليك) أي: لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك، ولا منجا إلا إليك، فهو كقوله تعالى: {كلالاً وزر إلى ربك يومئذٍ المستقر} (القيامة: 11، 12) فالجملة استئناف لما قبله بطريق الاستثناف البياني. ونصب رغبة ورهبة على العلة لما تقدم أي إن إسلام نفسي الخ معلل بالرغبة والرهبة.
قال الطيبي: إنه بطريق اللفّ والنشر المرتب: أي فوضعت أمري طمعاً في ثوابك وألجأت ظهري من المكاره: إليك خوفاً من عقابك، وهو معنى صحيح بديع، ولا يظهر قول ابن حجر في «شرح المشكاة» إنه خلاف الصواب كما بينته مع الفرق بين الرهبة والخوف والخشية والوجل في «شرح الأذكار» . وقيل: منصوبان على الحال: أي: راغباً وراهباً، وقيل: على الظرفية: أي: في زمن تساوي الطمع والخوف الذي هو شأن أرباب الكمال، ففي الحديث «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» (آمنت بكتابك الذي أنزلت) قيل: الإضافة في كتابك للعهد: أي القرآن بقرينة المقام، والإيمان به إيمان بسائر الكتب، ويؤيده قوله: (ونبيك) من غير مراعاة الجار ووقع في «المصابيح» بإعادته (الذي أرسلت) أي: أرسلته لكافة الناس بشيراً ونذيراً، ويجوز أني راد من الكتاب والنبي الجنس (فإنك إن متّ) بكسر الميم وضمها كما قرىء بهما في السبع إلا أن تثبت رواية بأحدهما فيوقف عندها، ثم هو على كسرها على لغة من قال مات يمات كخاف يخاف، وعلى ضمها على لغة من قال مات يموت كقال يقول فهو بهما مبني للفاعل، ويجوز كونه على أحدهما مبنياً للفاعل وعلى الآخر مبنياً للمفعول (من ليلتك) مع اعتقاد مضمون هذا الكلام الذي أتيت به (مت على الفطرة) أي: على الإيمان الذي فطر الله عليه عباده قال تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (الروم: 30) وهذا كما قال في الحديث الآخر «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» وهما إن تساويا في فطرة الإسلام فبين الفطرتين ما بين الحالتين ففطرة الطائفة المذكورة في هذا الخبر فطرة المقربين وفطرة الثانية فطرة أصحاب اليقين ذكره القرطبي (وإن أصبحت) حيا (أصبت خيراً) أي: أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً (متفق(2/280)
عليه) ورواه أصحاب السنن الأربعة (وفي رواية في «الصحيحين» عن البراء قال: قال لي) ولا ينافي ما تقدم للجمع بوقوع الخطاب بذلك له تارة ولأسيد أخرى (رسول الله: إذا أتيت مضجعك)
بفتح أوله وثالثه: أي: مكان اضطجاعك (فتوضأ وضوءك) أي: مثله (للصلاة) في غسل الأعضاء بنية (ثم اضطجع على شقك) بكسر الشين المعجمة وتشديد القاف: أي: جانبك (الأيمن) وذلك لشرف الأيمن، ولأنه يصير القلب حينئذٍ متعلقاً فلا يغتبط بالنوم فيكون سبباً لقلة النوم والقيام بالليل (وقل: فذكر نحوه) أي: بمعناه، ويقال مثله فيما لو كان بمبناه. هذه عادة المحدّثين إذا أوردوا الحديث بإسناد ثم بإسناد آخر (ثم قال) (واجعلهن آخر ما تقول) أي: من الدعوات.
818 - الحديث (الثامن: عن أبي بكر الصديق) بكسر المهملة وتشديد الثانية، وهو أول من لقب بذلك في الإسلام وغلبت الكنية عليه وعلى أبيه. لقب بذلك لمبادرته لتصديق النبي، وقيل: لقب به صبيحة الإسراء لمبادرته لتصديق النبي فيه. ويلقب بعتيق أيضاً من العتاقة: وهي الحسن لعتاقة وجهه أو لعتاقة نسبه، وقيل: من العتق لأن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة فقالت: اللهمّ هذا عتيقك، أو لأن الله تعالى عتقه من النار كما جاء ذلك في حديث مرفوع لعائشة عند الترمذي (عبد الله بن عثمان) أبي قحافة (بن عامربن عمرو) بفتح المهملة، ويكتب بالواو حالتي الرفع والخفض لتلا يشتبه بعمر كزفر (ابن كعب) بفتح الكاف وسكون المهملة آخره موحدة (ابن سعد) بفتح المهملة الأولى وسكون المهملة الثانية (ابن تيم) بفتح الفوقية وسكون التحتية (ابن مرة) بضم الميم وتشديد الراء المهملة: محل اجتماعه مع النبي في نسبه الكريم (ابن(2/281)
كعببن لؤي) بضم اللام وفتح الهمزة مصغر اللأي (ابن غالب القرشي التيمي) بدأ بالأول لأنه الأصل وعقبه بما بعده لأنه شعبة منه، وتقدم في أول باب الإخلاص أن القاعدة في مثله ذكر الأعم ثم الأخص لتحصل بالثاني فائدة لم تحصل من الأول، ولو عكس لم تحصل (رضي الله عنه) الأولى عنهما لقوله: (هو وأبوه وأمه) أم الخير سلمى بنت صخر التيمية بنت عم أبيه (صحابة) ولم يتفق لأحد من الصحابة ما اتفق له من إسلام أبويه وبنيه وبعض بنيهم وصحبة الجميع (رضي الله عنهم) أسلم لما دعاه إلى الإسلام ولم يتلعثم ولم يتردد. وهو أول من أسلم من الرجال الأحرار البالغين بلا خلاف، وتأخر إسلام أبيه إلى يوم الفتح ويكفيك في فضله قوله: «إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته» رواه البخاري وفضائله كثيرة ومناقبه شهيرة وقد أفردت بالتأليف، وقال في فضله حسانبن ثابت:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأفضلها
بعد النبي وأولاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده
وأول الناس منهم صدقّ الرسلا
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث واثنان وأربعون حديثاً، اتفقا على ستة أحاديث منها، وانفرد البخاري بأحد عشر ومسلم بواحد. وتوفي رضي الله تعالى عنه بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء لثمان بقين من شهر جمادي الأولى سنة ثلاث عشرة عن ثلاث وستين سنة، وحمل على السرير الذي كان ينام عليه النبي، وصلى عليه عمربن الخطاب تجاه المنبر النبوي وكبر عليه أربعاً، ودفن بجانب قبر النبيّ (قال: نظرت إلى أقدام المشركين) الذين خرجوا يقصون أثر النبيّ لما هاجر ويلتمسون محله الذي هو فيه (ونحن في الغار) هو ثقب في الجبل عظيم كالكهف، وهو الغار المذكور في قوله تعالى {إذ هما في الغار} (التوبة: 40) قال قتادة: هو غار في جبل بمكة يقال له ثور. واختلف في التفاضل بينه وبين غار حراء، فقال الفيروزآبادي في كتاب الصلاة والبشر: إن غار ثور أفضل،(2/282)
لأن الله تعالى ذكره في القرآن وحمى فيه سيد ولد عدنان. وقال بعض المتأخرين: غار حراء أفضل لأنه اختاره للتعبد وفيه بدء الوحي (وهم) يعني المشركين (على رءوسنا) في طلبنا فأعماهم الله * وكيف تبصر الشمس مقلة عمياء * (فقلت: يا رسول الله لو) وقع (أن أحدهم نظر) موضع (تحت قدمه لأبصرنا) أي: من خلال أغصان الشجر وبيت العنكبوت التي كانت على باب الغار الذي دخلا منه وهو الباب الضيق، أما الباب المتسع فإنما شقّ له لما قال له الصديق: لو ولجوا علينا الغار ما كنا نصنع؟ فقال: كنا نخرج من هاهنا، وأشار بيده المباركة إلى الجانب الآخر ولم يكن فيه شقّ، فانفتح فيه للحين باب بقدرة الله تعالى. ذكره الحافظ تقي الدينبن فهد في كتاب «أقطاف النور مما ورد في ثور» (فقال) (ما ظنك) أي: ما تظن (يا أبا بكر باثنين
الله ثالثهما) بالنصر والمعونة والكلاءة والحفظ أيصيبهما ضيم؟ وهذا استفهام تقريري، وفيه تسكين لما حصل للصديق حينئذٍ من الاضطراب (متفق عليه) ورواه الترمذي. وفي الحديث تنبيه على أن من توكل على مولاه كفاه وحماه من سائر عداه.
فائدة: في كتاب «اقتطاف النور» بسنده إلى الواحدي أنه أخرج عن غالببن عبد الله القرفستاني عن أبيه عن جده قال: «شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لحسانبن ثابت: قلت في أبي بكر شيئاً؟ قل حتى أسمع، قال فقلت:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد
طاف العدا به إذ أصعد الجبلا
وكل حب رسول الله قد علموا
من الخلائق لم يعدل به رجلاً
قال: فتبسم رسول الله» اهـ.
829 - الحديث (التاسع: عن أم سلمة) بفتح المهملة واللام كنية لها بابنها(2/283)
سلمةبن أبي سلمة (واسمها هند) على الصحيح المشهور، بل قال الحافظ العسقلاني في أطراف مسند الإمام أحمد بلا خلاف: أي: معتبر، فلا يشكل بما قيل إن اسمها «رملة» لأنه ضعيف بالمرة، فقد قال ابن الأثير في «أسد الغابة» : إنه ليس بشيء (بنت أبي أمية) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية (حذيفة) وقيل: سهل، وقيل: زهير، وقيل: هشامبن المغيرةبن عمروبن مخزوم القرشية (المخزومية) أم المؤمنين (رضي الله عنها) تزوّجها بعد وفاة زوجها أبي سلمة سنة أربع، وخيرها بين أن يسبع لها ويسبع لنسائه وأن يثلث لها ويدور عليهن فاختارت التثليث، وهي أول من هاجرت إلى الحبشة وزوجها جميعاً فولدت ثمة زينب وسلمة وعمر ودرة. ويقال إنها أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة، وكانت من أجمل النساء، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة حديث وثمانية وسبعون حديثاً؛ اتفقا على ثلاثة عشر منها، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثلاثة عشر، وماتت سنة اثنتين وستين، وقيل: سنة ستين، وقيل: إحدى وستين، وصححه ابن عساكر وقيل: أربع وستين، وقيل: تسع وخمسين، ودفنت بالبقيع وعمرت فعاشت تسعين سنة، وهي آخر أمهات المؤمنين وفاة رضي الله عنها (أن النبيّ كان إذا خرج) أي: أراد الخروج، وقيل: بل هو على حقيقته: أي: عقب الخروج (من بيته قال) هو جواب إذا. ولفظ أبي داود «ما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيتي إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك الخ» وليس عنده قوله: (بسم ا) أي: أتحصن.
قال السمين الحلبي: إنما تحذف ألها حيث يضاف الاسم للجلالة، وإذا أضيف لغيرها لم تحذف، هذا هو المشهور وعليه اقتصر المؤلف في «شرح مسلم» ونقله عن الكتاب من أهل العربية.
قال الشيخ جلال الدين السيوطي: وحكي عن الكسائي والأخفش جواز حذفها إذا أضيفت إلى غير الجلالة. وقال الفراء: هذا باطل، ولا يجوز أن تحذف إلا مع اسم الله تعالى اهـ (توكلت على ا) وعلى في هذا المقام للتفويض مجازاً عن الاستعلاء، وقيل: المراد من توكلت على الله طلب الاستعلاء با تعالى على كل مرام لتصحبه إعانته ولطفه وتحفظه من غير قصور (اللهم) يا أ (إني أعوذ) أعتصم وألتجىء (بك) بقدرتك وعزتك من (أن أضل) يفتح أوله وكسر الضاد المعجمة: أي: أغيب عن معالي الأمور بارتكاب نقائصها فأبوء بالقصور عن أداء مقام العبودية، من ضلّ الماء في اللبن: غاب (أو أضلّ) بضم ففتح مبني للمجهول: أي: يضلني غيري (أو أزلّ) بفتح فكسر للزاي: أي: أنزل عن الطريق المستقيمة إلى هوة ضدها غلبة الهوى أو الإعراض عن(2/284)
أسباب التقوى والإنهماك في تحصيل الدنيا، من زلت قدمه: وقع من علو إلى هبوط. والمزلة المكان المزلق الذي لا تثبت عليه الرجل وبه يظهر أن في استعمال أزل هنا نوع تشبيه (أو أزلّ) بضم ففتح: أي يستولي عليّ من يزلني عن المقام العلي إلى السفساف الدني، أو بضم فكسر: أي: من أن أوقع غيري في مهواة الزلل: أي: المعاصي والخلل (أو أظلم) بفتح فسكون فكسر: أي: أظلم غيري: من الظلم وضع الشيء في غير محله أو التصرّف في حق الغير (أو أظلم) بضم فسكون ففتح أي: أظلم من أحد من العباد (أو أجهل) أي: أجهل الحق الواجب عليّ (أو يجهل عليّ) أي: بأن أحمل على شيء ليس من خلقي، وفي الحديث «من استجهل مؤمناً فعليه إثمه» أي: حمله على شيء ليس من خلق المؤمنين فأغضبه فإثمه على ذلك المحرج له لذلك (حديث صحيح) .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني وصححه الحاكم من طريق ابن مهدي وقال: إنه على شرط الشيخين. ونوزع بأن في سنده انقطاعاً، فإن الشعبي لم يسمع من أم سلمة. قال الحافظ: ولعل من صححه سهل الأمر لكون الحديث في «الفضائل» (رواه أبو داود والترمذي وغيرهما) فرواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» (بأسانيد صحيحة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهذا) أي: المذكور من قوله: «اللهم إني أعوذ بك أن أضلّ إلخ» وإلا ففيه زيادة إلا. «رفع طرفه إلى السماء» ونقص قوله: «بسم الله توكلت على ا» (لفظ) رواية (أبي داود) وقد أوضح ذلك في كتاب «الأذكار» له، وعبارته بعد أن أورده بمثل اللفظ المذكور هنا: هكذا في رواية أبي داود أن أضل وكذا الباقي بلفظ التوحيد. وفي رواية الترمذي «أعوذ بك من أن نزلّ» وكذا الباقي بلفظ الجمع. وفي رواية أبي داود «ما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيتي إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهمّ إني أعوذ بك الخ» وفي رواية غيره «كان إذا خرج من بيته قال» : كما ذكرناه والله أعلم اهـ. فيه يعلم أن لفظ أبي داود المشار إليه إنما هو إفراد الكلمات فقط وإلا فقوله «من بيته» وزيادة قوله: «بسم الله توكلت على ا» ليست فيه،(2/285)
وقد بسطت الكلام في هذا المحل وبينت اختلاف ألفاظه عند كل من رواية أصحاب السنن الأربعة في «باب ما يقول حال خروجه من بيته» من «شرح الأذكار» .
8310 - (العاشر: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من قال يعني إذا خرج من بيته) لفظ أبي داود: «إذا خرج الرجل من بيته فقال» (بسم ا) أي: أتحصن (توكلت على ا) أي: فوضت أمري إليه وعولت في سائر الأحوال عليه. (لا حول) وفي نسخة بإثبات الواو قبلها، ويجوز في حول الفتح على إعمال لا والرفع على إهمالها (ولا قوّة) بالنصب عطفاً على محل حول إن أعملت الأولى. وبالفتح على إعمال الثانية. وبالرفع على أهمالهما كما سبق بيانه آخر الخطبة (إلا با) ومعناها: لا حول عن المعاصي إلا بعصمةالله، ولا قوة على طاعة الله إلا با. قال عليه الصلاة والسلام: «كذا أخبرني جبريل عن الله تعالى» وفي «فتح المشكاة» للقارىء: أحسن ما ورد في معناه عن ابن مسعود قال: «كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتها، فقال: تدري ما تفسيرها؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: لا حول عن معصيةالله، ولا قوّة على طاعة الله إلا بعون ا» أخرجه البزار، ولعل تخصيصه بالطاعة والمعصية لأنهما أمران مهمان في الدين اهـ (يقال له) الجملة خبر الموصول الأسمي، والقائل يحتمل أن يكون الله أو ملك (هديث وكفيت ووقيت) وهي بالبناء للمجهول في محل نائب الفاعل لأنه أريد منها اللفظ: أي: باستعانتك باسمه تعالى وتحصنك به هديت للصراط المستقيم وكفيت كل مهم دنيوي وأخروي، ووقيت: أي: حفظت من شرّ كل عدوّ وبواسطة صدقك في تفويض جميع الأمر لبارئه، وسلبك الحول والقوّة عن كل أحد، وإثباتهما له تعالى (وتنحى) بفتح أوليه وتشديد المهملة (عنه) أي: مال عن جهته وطريقه (الشيطان) فلا سبيل له إليه لكونه هدي ووقي من سائر الأعادي، وكفي الهموم الخفايا والبوادي (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم) فرواه ابن حبان في «صحيحه» ولفظ الحديث للترمذي.
وقاعدة المحدثين في مثله تقديم ذكر من خرّجه باللفظ وتأخير من خرجه بنحو ما ذكروه، ولعل تقديم أبي داود لكونه مقدماً في الرتبة. (وقال الترمذي: حديث حسن) وفي نسخة صاحب «السلاح» : حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه اهـ. ونسخ الترمذي مختلفة في مثل هذا كثيراً، فلذا اعتبر في اعتماد الأصل منه تعداد الوصول المقابل هو بها.(2/286)
ويحتمل أن المصنف أسقط لفظة غريب لذلك أو لعدم تعلق غرضه بذكرها لأنها لا تقدح في العمل (زاد أبو داود فيقول يعني) تفسير من بعض الرواة لمرجع هو المستتر في «يقول» العائد للشيطان المذكور في قوله: وتنحى عنه الشيطان (الشيطان) بالنصب مفعول يعني وأل فيه عهدية (لشيطان آخر) يريد إغواء قائل هذا الذكر ولم يسمع ما قاله وما قيل له أو سمعه وأراد التمرّد (كيف) يتيسر (لك) أن تظفر (برجل قد هدي) وجملة قد هدي وكذا ما عطف عليه من قوله: (وكفي ووقي) في محل الصفة لرجل وجملة «كيف لك الخ» مقول القول. وحاصل المراد أنه يقول الشيطان لشيطان آخر: كيف يتيسر لك الظفر بإغواء رجل موصوف بأنه أعطي هذه الهبات. وفي «الترغيب» للمنذري والسلاح: فيقول شيطان بحذف اللام منه، فيكون فاعلاً وحذف المقول له ليعم. وعلم الشيطان حصول هذا المعنى لقائل هذا الذكر من الأمر العام، وهو أن من ذكره تعالى بهذه الكلمات المرغب فيها منه أعطي ذلك، أو بسماعه من الملك إن كان هو القائل لذلك كما تقدم في احتمال.
فائدة: في «الجامع الصغير» للسيوطي إيراد الحديث السابق عن أم سلمة من حديث بريدة باللفظ المذكور هنا، وزاد بعد قوله: «توكلت على الله لا حول ولا قوّة إلا با» وزاد في آخره «أو أبغي أو يبغى عليّ» وقال: رواه الطبراني من حديث بريدة، وبه يعلم أن حديث أنس هذا قطعة من الحديث قبله اقتصر كل من رواته على ما ذكره وترك الباقي إما نسياناً أو لسبب آخر، والله أعلم.
8411 - (الحادي عشر: عن أنس رضي الله عنه قال: كان أخوان) لم أقف على من سماهما (على عهد) أي: زمن حياة (رسول الله، فكان أحدهما يأتي مجلس النبي) ويلازمه ليتلقى من معارفه ويأخذ من أقواله وأفعاله (والآخر يحترف) افتعال من الحرفة: وهي الصناعة وجهة الكسب (فشكا المحترف أخاه) في ترك الاحتراف (إلى النبي فقال) مسلياً له(2/287)
وفي انفراده بالاحتراف ترك أخيه الأسباب (فلعلك ترزق به) أي: فلعل قيامك بأمره سبب لتيسير رزقك، لأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. وفي الحديث أيضاً «وهل ترزقون» أو قال: «تنصرون إلا بضعفائكم» وفيه تنبيه على أن من انقطع إلى الله واكتفى بتدبيره عن تدبير نفسه وسكن تحت جري مقاديره كفاه مهماته. وفي الحديث «تكفل الله لطالب العلم بالرزق» أي: بتيسير وصوله إليه لما خرج عن حاجة نفسه وأقبل على باب مولاه واكتفى به عن أفعال نفسه، وإلا فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها (رواه الترمذي بإسناد) هو رجال الطريق الموصلة إلى المتن (على شرط مسلم) أي: إنهم روى عنهم مسلم في «صحيحه» ، وهذا هو المراد بقولهم على شرط الشيخين مثلاً (يحترف) المذكور في الخبر معناه (يكتسب ويتسبب) أي: يتعاطى الأسباب التي أبرزتها الحكمة ستراً للتصرفات الإلهية.
8 - باب في الاستقامة
في «مفردات الراغب» : استقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم نحو {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} اهـ. وقال بعض العارفين: مرجع الاستقامة إلى أمرين صحة الإيمان با واتباع ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً. وقال عمر رضي الله عنه: الاستقامة أن تقوم على الأمر والنهي ولا تروغ عنه روغان الثعلب. (قال الله تعالى: {فاستقم كما أمرت} ) الخطاب فيه للنبي، يعني فاستقم يا محمد على دين ربك والعمل به والدعاء إليه كما أمرك ربك، والأمر فيه للتأكيد لأن النبيّ كان على الاستقامة لم يزل(2/288)
عنها، فهو كقولك للقائم: قم حتى آتيك: أي: دم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك. وفي «تفسير القرطبي» أن الذي شيبه من سورة هود قوله: «فاستقم كما أمرت» وقال: روي عن عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا علي الشنوي يقول: رأيت النبي في المنام فقلت: يا رسول الله روي عنك أنك قلت «شيبتني هود، فقال: نعم، فقلت له: ما الذي شيبك منها: قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال لا، ولكن قوله: {فاستقم كما أمرت} اهـ. (وقال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} ) على التوحيد وغيره مما وجب عليهم (تتنزّل عليهم الملائكة) عند الموت (أن) أي: أو بأن (لا تخافوا) من الموت وما بعده (ولا تحزنوا) على ما خلفتم من أهل وولد فنحن نخلفكم فيهم ( {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا) أي: حفظتكم (وفي الآخرة} ) أي: نكون معكم فيها حتى تدخلوا الجنة ( {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} ) قيل: في إضافتها إليهم إشارة إلى تنعم أنفسهم التي ذاقت المرارة في الدنيا وانظر إلى {تشتهي} وإلى قوله: {تدعون} في قوله: ( {ولكم فيها ما تدعون} ) أي: تطلبون، فإن فيه إشارة إلى تفاوت المرات، ولا يخفى أن ذلك مما تذهب فيه النفس كل مذهب ( {نزلاً} ) رزقاً مهيئاً منصوب بجعل مقدراً ( {من غفور رحيم} ) وهو الله تعالى، وإذا كان هذا النزل وهو الكرامة المعجلة
فكيف بالمؤجلة، رزقنا الله تعالى اتباع الكتاب والسنة وختم لنا بالحسنى بمنه آمين.
(وقال تعالى) : {إن الذين قالوا ربنا ا} ) أي: آمنوا به ووحدوه ( {ثم استقاموا} ) اعتدلوا على ذلك وداموا عليه إلى أن يتوفاهم الله عليه، والمراد الاستقامة على التوحيد الكامل واتباع الكتاب والسنة ( {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أولئك أصحاب الجنة} ) بفضل الله تعالى،(2/289)
قال: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» . الحديث (خالدين فيها) حال مقدرة (جزاء) منصوب على المصدرية بفعله المقدر: أي: يجزون جزاء (بما كانوا يعملون) .
581 - (وعن أبي عمرو) بفتح العين المهملة (وقيل أبي عمرة) بزيادة تاء في آخره (سفيان) بضم السين على الأفصح وهو بتثليث السين (ابن عبد الله الثقفي رضي الله عنه) معدود من أهل الطائف/ كان عاملاً عليه لعمر حين عزل عنه عثمانبن أبي العاص ونقله إلى البحرين. وروى له مسلم هذا الحديث والترمذي والنسائي وابن ماجه (قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام) أي: في دينه وشريعته (قولاً) جامعاً لمعاني الدين واضحاً في نفسه بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك أعمل عليه وأكتفي به، بحيث (لا أسأل) أي: لا يحوجني لما اشتمل عليه من بديع الإحاطة والشمول ونهاية الإيضاح والظهور إلى أن أسأل (عنه أحداً غيرك، قال: قل آمنت با) أي: جدد إيمانك متذكراً بقلبك ذاكراً بلسانك مستحضراً تفاصيل معاني الإيمان الشرعي التي مرت في حديث جبريل (ثم استقم) على عمل الطاعات والانتهاء عن جميع المخالفات إذ لا تتأتى الاستقامة مع شيء من الاعوجاج فإنها ضده، والحديث على وفاق الآية قبله (رواه مسلم) وأخرجه أحمد والدارمي وابن حبان في «صحيحه» والطبراني في «الكبير والضياء» في «المختارة» والحاكم في «مستدركه» للبيهقي في شعب الإيمان والخرائطي في مكارم الأخلاق وغيرهم، قال المصنف: هذا أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام.
862 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: قاربوا وسددوا، واعلموا أنه) أي: الشأن (لن ينجو أحد منكم من الله بعمله، قالوا: ولا أنت) أي: ولا تنجو بعملك(2/290)
فحذف الفعل فانفصل الضمير، ويحتمل أن يكون ولا أنت ناج بعملك فيكون مبتدأ محذوف الخبر (قال: ولا أنا) أي: ولا أنجو، أو ولا أنا ناج بالعمل (إلا أن يتغمدني) أي: يغمرني (ابرحمة منه وفضل) ويلبسنيها ويغمرني بها ومنه غمدت السيف وأغمدته: أي: جعلته في غمدة وسترته به.
قال المصنف في «شرح مسلم» : مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا حكم شرعي، ولا يثبت ذلك كله إلا بالشرع. ومذهبهم أن الله تعالى لا يجب عليه شيء، بل الدنيا والآخرة ملكه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو عذب المطيعين جميعهم وأدخلهم النار لكان عدلاً منه ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر وخبره صدق أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلاً منه. وفي هذا الحديث دليل ظاهر لما قلناه من أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته. وأما قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} (النحل: 32) ونحوها من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة، فهي لا تعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله وفضله، فصحّ أنه لم يدخل الجنة أحد بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث. ويصح أن يقال: إنه دخل بالأعمال المسببة عن الفضل: أي: بسببها وهي من الرحمة اهـ ملخصاً. وأشار العارف با تعالى ابن أبي جمرة إلى جواب آخر حاصله أن الأعمال أسباب عادية كسائر الأسباب التي هي من مقتضيات الحكمة ولا تأثير لها في دخول الجنة، فالنفي باعتبار التأثير بمعنى أن الذي يؤثر في دخول الجنة في الحقيقة إنما هو الله تعالى لا الأعمال، فإنما هي مجرد أسباب صورية اقتضتها الحكمة الإلهية والإسناد إليها تارة باعتبار أنها سبب صوري، وسيأتي في باب بيان طرق الخير أجوبة أخرى.
قال ابن أبي جمرة: وفي الحديث دلالة على أنه ليس أحد من الخلق يقدر على توفية حق الربوبية على ما يجب لها. يؤخذ ذلك من قوله: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» فإذا كان هو وهو خير البشر وصاحب المقامات العلا لا يقدر على ذلك فالغير أحرى وأولى. وإذا تأملت ذلك من جهة النظر تجده مدركاً حقيقة لأنه إذا طالبنا بشكر النعم التي أنعم علينا عجزنا عنه بالقطع ومنها ما لا نعرفه كما قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (ابراهيم: 34) فكيف غير ذلك من أنواع التكليفات فما بقي إلا ما أخبر به الصادق وهو التغمد بالفضل والرحمة (رواه مسلم.(2/291)
والمقاربة: القصد الذي لا غلوّ فيه) أي: مجاوزة المأمور به والزيادة فيه (ولا تقصير) أي إخلال بشيء منه (والسداد) بفتح الأولى (الاستقامة والإصابة) قال بعضهم: السداد هو الإصابة في الأقوال والأعمال والمقاصد، والإصابة في جميعها: هي الاستقامة (ويتغمدني: يلبسني ويسترني) هو مثل يتغمدني في التعدي بالباء وإن كان لا يلزم من ترادف معنى الفعلين توافقهما في الاستعمال والصلة كصلى فإنه بمعنى دعا، ومع هذا فالأول يعدى بعلى في الخير والثاني لا يعدى بها إلا في الشرّ.
(قال العلماء: معنى الاستقامة) المطلوبة الممدوحة بالكتاب والسنة (لزوم طاعة الله تعالى) ويلزم من ذلك ترك منهياته (قالوا) أي: العلماء (وهي من جوامع الكلم) هو أن يكون اللفظ قليلاً والمعنى جزيلاً وهو ما أعطيه (وهي) أي الاستقامة (نظام الأمور) .
قال بعض العلماء: الاستقامة هي الدرجة القصوى التي بها كمال المعارف والأحوال وصفاء القلوب في الأعمال وتنزيه العقائد عن سفاسف البدع والضلال.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: من لم يكن مستقيماً في حاله ضاع عمله وخاب جده، ونقل أنه لا يستطيعها إلا الأكابر لأنها الخروج عن المألوفات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق، ولعزتها أخبر أن الناس لن يطيقوها، فقد أخرج أحمد «استقيموا ولن تطيقوا» .(2/292)
9 - باب في التفكر
أي إجالة الفكر (في عظيم مخلوقات الله تعالى) كالعرش والكرسي والسماء والأرض، ففي الحديث: «ما السماء والأرض وما بينهما في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» وعظم المخلوق يدل على كمال الخالق وعظمته (و) التفكر في (فناء الدنيا) واضمحلالها وتلاشي أمرها، قال تعالى: {واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذره الرياح} (الكهف: 45) ليبعثه ذلك على الزهد فيها والإعراض عن غرورها والإقبال على الآخرة، ففي الحديث: «كونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا» فإن رفع الله قدره وخلصه عن السوى وخصصه بالتخلص للمولى فتلك الغاية القصوى (و) التفكر في (أهوال الآخرة) وشدائدها كما قال تعالى: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} (الحج: 2) وقال تعالى: {يوماً يجعل الولدان شيباً} (المزمل: 17) ليبعثه ذلك على التقوى وطاعة المولى فينجو من كرب الدارين ويجزى بالإحسان قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 6) (وسائر أمورهما) أي أمور الدنيا وأنها جميعها ثانية، وأهوال الآخرة وأنها شديدة (وتقصير) أمل (النفس) بذكر الموت (وتهذيبها) من الأخلاق السيئة بتذكر أهوال الآخرة وشدة عقابها (وحملها على الاستقامة) بتذكر النفس وما ورد من الوعد الصادق في الطاعة من الثواب بمحض الفضل، وعلى المعصية من العقاب بطريق العدل، وهذا إنما يبلغه العبد بتأييد الله سبحانه وتعالى وتوفيقه لاتباع الكتاب والسنة، فإن ظفر
بشيخ مرشد مربّ موصل للمريد إلى طريق الحق بتهذيب النفس من رعونتها وتحليتها بأنواع العبادات فذلك أعلى، وإلا فما لا يدرك كله لا يترك كله، (قال تعالى) : {قل إنما أعظكم بواحدة} ) هي ( {أن تقوموا} )(2/293)
بالانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة () أي لأجله (مثنى) أي اثنين اثنين ( {وفرادى} ) أي واحداً واحداً ( {ثم تتفكروا} ) أي: في السموات والأرض فتعلموا أن خالقهما واحد، فعلى هذا تم الكلام بقوله «تتفكروا» وقوله: {ما بصاحبكم من جنة} (سبأ: 46) ابتداء كلام، وهذا أحد قولين في الآية للمفسرين. 6
والثاني: أن المراد التفكر في شأن النبيّ بأن يتفكروا أي يتفكر كل منهم في ذلك ويعرض كل فكرته على صاحبه لينظر فيه نظر متصادقين متناصفين لا يميل به اتباع الهوى، وبأن يتفكر الواحد أيضاً بعدل ونصف هل رأينا في هذا الرجل جنوناً قط أو كذباً، وقد علمتم أن محمداً ما به من جنة، بل علمتموه أرجح قريش عقلاً وأوزنهم حلماً وأحدّهم ذهناً وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال، فإذا علمتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بآية، فإذا أجابها تبين أنه صادق فيما جاء به (وقال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات} ) (آل عمران: 190) لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته ( {لأولي الألباب} ) العقول المجلوة عن شوائب الحسّ والوهم، ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية لأن مناط الاستدلال هو التغير، وهذه متعرضة لجملة أنواعه، فإنه إما أن يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار، أو جزئه كتغير العناصر يتبدل صورها، أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ: «ويل لمن قرأها ولم يفكر فيها» رواه ابن حبان وغيره ( {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} ) أي: يذكرون دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين، وقيل: معناه، يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم ( {ويتفكرون في خلق السموات والأرض} ) استدلالاً واعتباراً، وهو أفضل العبادات. أخرج ابن حبان عن عليّ قال: قال «لا عبادة كالتفكر» أي: لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق.(2/294)
وأخرج الثعلبي بسند فيه من لا يعرف عن رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال: أشهد أن لك رباً وخالقاً اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له» وعن ابن عباس وأبي الدرداء «فكرة ساعة خير من قيام ليلة» .
وقال الحسن ابن أبي الحسن: الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وإلى سيئاته.
وقال سرّي السقطي الفكرة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحلّ أطناب خيمتك فتحطها في الجنة.
وفي «تفسير ابن عطية» : حدثني أبي عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتاً بمسجد في مصر فصليت العتمة، فرأيت رجلاً قد اضطجع مسجى بكسائه حتى أصبح وصلينا تلك الليلة وسهرنا، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه، فلما دنوت منه سمعته يقول:
مسنجز الجسم غائب حاضر
منتبه القلب صامت ذاكر
منقبض في العيون منبسط
كذاك من كان عارفاً فاكر
يبيت في ليله أخا فكر
فهو مدى الليل نائم ساهر
وانصرفت عنه، قال فقلت إنه ممن يعبد الله بالفكرة اهـ.
( {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} ) حال من فاعل يتفكرون على إرادة القول: أي يتفكرون قائلين ذلك و «هذا» إشارة إلى المتفكر فيه أو الخلق على أنه أريد به المخلوق من السموات والأرض أو إليهما لأنهما في معنى المخلوق. والمعنى: ما خلقته عبثاً ضائعاً من غير حكمة بل لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدءاً لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك ( {سبحانك} ) تنزيهاً لك من العبث وخلق الباطل وهو اعتراض (الآيات) يحتمل أن يكون إلى قوله: {إنك لا تخلف الميعاد} (آل عمران: 194) ويحتمل أن يكون إلى آخر السورة والأول أقرب، وكرّر في الدعاء «ربنا» خمس مرات مبالغة في الابتهال ودلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها.
وفي الآثار: «من حزبه أمر فقال خمس مرات «ربنا» أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراده، ثم قرأ هذه الآيات» (وقال تعالى: {أفلا ينظرون} ) نظر اعتبار ( {إلى الإبل كيف خلقت} ) خلقاً دالاً على كمال(2/295)
قدرته وحسن تدبيره حيث خلقها لحمل الأثقال إلى البلاد النائية، فجعلها عظيمة باركة للحمل ناهضة بالحمل منقادة لمن قادها طوال الأعناق لتبوء بالأوقار، ترعى كل نابت وتحتمل العطش إلى عشر فصاعداً، ليتأتى بها قطع البراري والمفاوز مع ما لها من منافع أخرى، ولذا خصت بالذكر لبيان الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكبرها صنعاً، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع، وقيل لامراد بها السحاب على الاستعارة ( {وإلى السماء كيف رفعت} ) بلا عمد ( {وإلى الجبال كيف نصبت} ) فهي راسخة لا تميل ( {وإلى الأرض كيف سطحت} ) بسطت حتى صارت مهاداً. والمعنى: أفلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركبات ليتحققوا كمال قدرة الخالق فلا ينكروا اقتداره على البعث؛ ولذلك عقب به أمر المعاد ورتب عليه الأمر بالتذكير فقال ( {فذكر} ) (الغاشية: 17 - 20) .
وفي «تفسير ابن عادل» : إن قيل ما المناسبة بين هذه الأشياء؟ فالجواب قال الزمخشري: من فسر الإبل بالسحاب فالمناسبة ظاهرة وذلك تشبيه ومجاز، ومن حملها على الإبل فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين:
أحدهما: أن القرآن نزل بلغة العرب وهم أهل أسفار، والمسافر قد يخلو بنفسه لفقد من يصحبه، وشأن الإنسان إذا انفرد الإقبال على التفكر في الأشياء فإذا فكر فأول ما يقع نظره على الجمل الذي هو راكبه، فإذا هو منظر جميل جمع أموراً تدل على كمال قدرته سبحانه وإن نظر إلى ما فوق فإلى السماء، أو إلى تحت فالأرض، أو إلى الجانب فالجبال، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر.
الثاني: أن جميع المخلوقات دالة على الصانع، إلا أن منها ما هو مشتهى للنفس كحسن الصور واللباس والنزهة فهذه استحسانها قد يمنع من كمال النظر فيها، ومنها ما لا حظّ فيه للشهوة فأمر بالنظر فيها إذ لا مانع من إكمال النظر فيها اهـ.
(وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا} ) أي: إلى تقلب الأحوال بأبناء الدنيا واضمحلالهم بعد وجودهم(2/296)
فيها، وتلاشي أمرهم بعد كمال قوّتهم صورة فيعرفون أن الحيّ القيوم هو الله وأن غيره فان، فلا يركنوا إلى الدنيا ولا يغتروا بزهواتها ولا يقبلوا على مستلذاتها وشهواتها ويغفلوا عما خلقوا له من عبادة مولاهم وطاعته اللذين بهما كمال المرء وسعادته (الآية) بالنصب: أي إقرإ الآية، أو بالرفع: أي الآية إلى آخرها معلومة، أو المستدل به الآية فهو مبتدأ أو خبر (والآيات في الباب كثيرة.
ومن الأحاديث الحديث السابق) عن شدادبن أوس في باب المراقبة « (الكيس من دان نفسه) وعمل لما بعد الموت» فإن محاسبته لها وعدم تركها هملا إنما ينشأ عن تفكره في الدنيا وزوالها وفي نفسه وانتقالها كأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل، فيحاسب نفسه فيمنعها عما لا ينبغي ويحليها بما يرضىالله، وبا التوفيق.
10 - باب في المبادرة
أي المسارعة (إلى) فعل (الخيرات وحثّ) أي: حض (من توجه لخير على الإقبال عليه) أي: على التوجه (بالجدّ) بالعزم على الأمر والإتيان به (من غير تردد) في ذلك (قال تعالى: {فاستبقوا الخيرات} ) سارعوا إليها (وقال تعالى) : {وسارعوا} ) بادروا ( {إلى مغفرة من ربكم} ) أي: الأعمال الموجبة للمغفرة بالوعد الصادق، أو إلى التوبة، أو إلى أداء الفرائض، أو إلى الهجرة (و) إلى ( {جنة عرضها السموات والأرض} ) أي: كعرضها أي: سعتها كذلك،(2/297)
وخص العرض بالذكر لأن طول كل شيء غالباً أكثر من عرضه هذا عرضها، وأما طولها فلا يعلمه إلاالله، وهذا على التمثيل لا أنها كالسموات والأرض لا غير بل كعرض السموات والأرض عند ظنكم (الآية) أي أتم الآية، يعني: {أعدت للمتقين} وهو وقف تامّ وما بعده من الآيات وصف للمتقين المعدّ لهم الجنة في علم الله من فضله.
871 - (وأما الأحاديث: فالأول عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بادروا بالأعمال فتناً) أي: ائتوا بالعمل الصالح وابتدروا إليه قبل ظهور المانع منه من الفتن، فهو قريب من حديث «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» ثم وصف الفتن المانعة من كمال العمل أو من أصله بأنها (كقطع) بسكر ففتح جمع قطعة: أي: طائفة من (الليل المظلم) أي: كلما ذهب ساعة منه مظلمة عقبتها ساعة مثل ذلك. قال في «النهاية» : أراد فتنة سوداء تعظيماً لشأنها اهـ. وفي الحديث إشارة إلى تتابع الفتن المضلة أواخر الزمان وكلما انقضى منها فتنة أعقبتها أخرى. وقانا الله من الفتن بمنه وكرمه (يصبح الرجل مؤمناً) أي: باقياً على إيمانه الذي كان عليه (ويمسي) بضم التحتية فيه وفي يصبح (كافراً) يحتمل الكفران بالنعم لما يداخله من المعاصي المبعدة من ساحة الشكر. ويحتمل الكفر الحقيقي، قال القرطبي: ولا يمتنع حمله على ذلك لأن الفتن إذا تراكمت أفسدت القلب وأورثته القسوة والغفلة التي هي سبب الشقاء. (ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً. يبيع دينه بعرض) بفتح الراء: أي: متاع وحطام (من الدنيا) استئناف بياني: أي: أن سبب كفره بيعه: أي أخذه العرض في مقابلة دينه، بأن يأخذ أو يستحل مال أخيه المسلم أو يستحلّ الربا والغشّ أو نحوه مما أجمع على تحريمه وعلم من الدين بالضرورة.
قال القرطبي: ففي الحديث التمسك بالدين (رواه مسلم) ورواه أحمد(2/298)
والترمذي كما في «الجامع الصغير» ، وزاد في آخر الحديث «يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل» .
882 - (الثاني: عن أبي سروعة بكسر السين المهملة وفتحها) وإهمال الراء والعين (عقبة ابن الحارث) بن عامربن نوفلبن عبد منافبن قصي القرشي النوفلي (رضي الله عنه) وما ذكره المصنف من أنه أبو سروعة قول أهل الحديث ومصعب الزبيري. وأهل النسب يقولون: إن عقبة أخو أبي سروعة وإنهما أسلما معاً يوم الفتح. قال ابن الأثير: وهو الأصح روى له البخاري ثلاث أحاديث (قال: صليت وراء النبيّ بالمدينة) علم بالغلبة على مهاجره والنسبة إليها مدني (العصر) هذا بناء على أنها اسم للصلاة، وعلى كونها اسماً للوقت فهو على تقدير المضاف: أي: صلاة العصر (فسلم ثم قام مسرعاً) لعل تراخي القيام عن السلام مع مبادرته في الأثر وإسراعه أنه إنما تذكر، وحينئذٍ وفي رواية «فقام» (فتخطى رقاب الناس) أي: قطع الصفوف حال جلوس الناس، أما وهم قيام فيقال له خرق الصفوف (إلى بعض حجر نسائه) متعلق بتخطي، وحجر بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجرة: اسم للمنزل (ففزع) بوزن علم، من الفزع الخوف: أي: خاف (الناس من سرعته) في السير إلى تلك الحجرة، وعادته أن يمشي هوناً، وعادتهم الفزع إذا رأوا منه غير ما يعهدون خشية أن ينزل فيهم شيء يسوءهم (فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته) في خروجه من الحجرة (فقال: ذكرت شيئاً من تبر) بكسر الفوقية وسكون الموحدة، وفي رواية «وأنا في الصلاة» . وعليه فثم في قوله ثم قام مستعارة من الفاء (عندنا فكرهت أن يحبسني) أي: يشغلني التفكر فيه عن التوجه والإقبال على الله تعالى. وفهم بعضهم معنى آخر فقال: إن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة (فأمرت بقسمته) وفي رواية فقسمته، وفيه جواز الاستنابة مع القدرة على المباشرة (رواه البخاري) وترجم له باب: من صلى بالناس فذكر(2/299)
حاجة فتخطاهم (وفي رواية له: كنت خلفت في البيت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبيته) من التبييت: أي: أتركه عندي ولا أدفعه لمستحقه ففيه المبادرة لأداء القربات وفعل الخيرات (والتبر
قطع) بكسر القاف ففتح المهملة (ذهب أو فضة) هذا قول لبعضهم، والذي قال الجوهري: إنه الذهب فقط، فلذا قال في «فتح الباري» : التبر الذهب إذا لم يصفّ ولم يضرب. وأطلقه بعضهم على جميع جواهر الأرض قبل أن يصاغ أو يضرب حكاه ابن الأنباري عن الكسائي، وكذا أشار إليه ابن دريد. وقيل: هو المكسور حكاه ابن سيده.
893 - (الثالث: عن جابر) أي: ابن عبد الله (رضي الله عنه قال: قال رجل للنبيّ يوم أحد) قال الخطيب: هو عمروبن الحمامبن الجموحبن حرام الأنصاري، وقيل: غيره لأنه كانت قصته هذه يوم بدر لا يوم أحد نقله المصنف في «مهماته» (أرأيت) بفتح الفوقية: أي أخبرني (إن قتلت) أي في سبيل الله (فأين أنا) أي: فأين أصير حذف الفعل فانفصل مرفوعه (قال: في الجنة، فألقى تمرات) أي: قليلات (كن في يده) كان يأكل منهن ولم يطمئن للأكل مسارعة للجهاد، ثم لم يرض بالصبر مدة أكل تلك الحباب مسارعة للخيرات واستباقاً لمرضاة الله عليه (ثم قاتل حتى قتل. متفق عليه) وفي أخرى عنه: «لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل» رواه مسلم من حديث أنس.
وذكر ابن عقبة في «مغازيه» أنه أول من قتل يومئذٍ من المسلمين.
وفي كتاب «مفتاح البلاد في فضائل الغزو والجهاد» تأليف جدي الشيخ محمد علان الصديقي البكري سبط آل الحسن، روى الحاكم عن أنس: «أن رجلاً أسود أتى النبي فقال: يا رسول الله إني رجل أسود اللون منتن الريح لا مال لي، فإن أنا قاتلت هؤلاء حتى أقتل فأين أنا؟(2/300)
قال في الجنة، فقاتل حتى قتل، فأتاه النبيّ فقال: بيض الله وجهك وطيب ريحك وأكثر مالك» الحديث اهـ.
904 - (الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال في «فتح الباري» : لم أقف على اسمه، ويحتمل أنه أبو ذرّ، ففي «مسند أحمد» «أنه سأل أي الصدقة أفضل» لكن في الجواب «جهد من مقلّ أو سرّ إلى الفقير» وكذا في «مسند عبدبن حميد» : أن أبا ذرّ سأل فأجيب (إلى النبي فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً) .
في رواية: «أي الصدقة أفضل؟» (قال: أن تصدق) بتشديد الصاد والدال المهملتين وأصله تتصدق بتاءين فأدغمت إحداهما في الصاد (وأنت صحيح شحيح) .
قال الخطابي: الشحّ أعم من البخل، وكأنّ الشحّ جنس والبخل نوع، وأكثر ما يقال البخل في أفراد الأمور والشحّ عام. وقيل: هو الذي كالوصف اللازم ومن قبيل الطبع، قال: فمعنى الحديث: أنّ الشحّ غالب في حالة الصحة، فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره، بخلاف من أيس من الصحة ورأى مصير المال لغيره، فإن صدقته حينئذٍ ناقصة بالنسبة إلى حال الصحة والشح ورجاء البقاء وخوف الفقر اهـ.
وفي «فتح الباري» قال صاحب «المنتهى» الشحّ بخل مع حرص. وقال صاحب «المحكم» : الشحّ بثليث الشين والضم أعلم.
وقال صاحب «الجامع» : كان الفتح في المصدر والضم في الاسم تخشى أي: تخاف ولهذا الفعل ستة مصادر نظمها ابن مالك فقال:
خشيت خشياً ومخشاة ومخشية
وخشية وخشاء ثم خشيانا
(الفقر) أي: إن أنفقت لوسوسة الشيطان بذلك قال تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر} (البقرة: 268) (وتأمل) بضم الميم (الغنى) أي: تطمع به (ولا تمهل) بالإسكان على أنه نهي والرفع على أنه نفي ويجوز النصب قاله في «فتح الباري» : أي لا تؤخر الصدقة (حتى إذا بلغت) أي: الروح (الحلقوم) أي: قاربت بلوغه، إذ لو بلغته حقيقة لم تصح وصية ولا(2/301)
صدقة ولا شيء من تصرفاته بالاتفاق، ولم يجر للروح ذكر اكتفاء بدلالة السياق كالآية (قلت) ليأسك من الحياة أوصيت (لفلان) بما هو (كذا و) أوصيت (لفلان) بما هو (كذا وقد كان لفلان كذا) الظاهر أن هذا من باب الإقرار لا الوصية.
وقال الخطابي: فلان الأول والثاني الموصى له، وفلان الأخير الوارث قال يريد: يعني النبي أنه إذا صار للوارث إن شاء أبطله وإن شاء أجازه.
وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد من الجميع الموصى له، وإنما دخل كان في الثالث إشارة إلى تقدير المقدر له في الأزل بذلك.
وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الثالث المورث أو الموصى له.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون بعضها وصية وبعضها إقراراً، وقد وقع في رواية ابن المبارك «قلت: اصنعوا لفلان كذا وتصدقوا لفلان بكذا» اهـ ملخصاً. قيل: وهذا من باب التسجيل عليه: أي إذا كان طمعك في الحياة أوجب لك كتمان الحق اللازم لك إلى أن أيست منها، فما أقررت به إلا الآن ولم تقر به قبل، فأولى أن يوجب لك الطمع تأخير الصدقة إلى الآن، فاحذر ذلك فإنك يؤخذ من مالك حيث لا ينفعك التحسر ولا يفيدك الندم (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة عند موته» رواه أبو داود.
وقال الحافظ في «فتح الباري» : أخرجه الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان: (الحلقوم) بضم الحاء المهملة وسكون اللام وبالقاف قال في «النهاية» : والميم أصلية، وقيل: إنه مأخوذ من الحلق، فالواو والميم زائدتان (مجرى) بضم الميم وسكون الجيم محل جريان (النفس) بفتح النون والفاء (والمريء) بفتح الميم وكسر الراء المهملة مهموز ممدود، (مجرى الطعام والشراب) من الحلق وجمعه مرؤ كسرير وسرر.(2/302)
915 - (الخامس عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ سيفاً يوم أحد) بضم أوليه: جبل معروف بالمدينة كانت عنده الغزوة المعروفة (فقال: من يأخذ مني هذا) أي: السيف مطلقاً عن التقييد (فبسطوا) بموحدة فمهملتين (أيديهم) أي: مدوها لأخذه (كل إنسان منهم يقول أنا) آخذه (أنا) آخذه والتكرار باعتبار التعدد في معنى كل (قال) (فمن يأخذه بحقه) .
قال القرطبي: يعني بهذا الحق أن يقاتل بذلك السيف إلى أن يفتح الله على المسلمين أو يموت (فأحجم القوم) لما فهموا ذلك (فقال أبو دجانة) بضم الدال المهملة وبالجيم وبعد الألف نون واسمه: سماكبن خرشةبن لودان الأنصاري مشهور بكنيته (رضي الله عنه) شهد بدراً وأحداً ودافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ هو ومصعببن عمير وكثرت فيه الجراحات وقتل مصعب واستشهد أبو دجانة يوم اليمامة.
قال أبو عمرو: إسناد حديث الحرر المنسوب إليه فيه ضعف، وقيل: إنه موضوع والأول أشهر (أنا آخذه بحقه) أي: بعد أن قال: «يا رسول الله وما حقه؟ فقال: أن تضرب به في وجه العدوّ حتى ينحني، فقال أنا آخذه (فأخذه) فقام بشرطه ووفى بحقه (فقلق) أي: شق (به هام) بتخفيف الميم، أي رؤوس (المشركين) وفي «سيرة ابن سيد الناس» عن الزبير أنه قال: «وجدت في نفسي حين سألت النبي السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، فقلت، وا لأنظرنّ ما يصنع فاتبعته فأخذ عصابة حمراء فعصب بها رأسه؛ فقالت الأنصار، أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كان يقول إذا عصب بها. فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي
ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول
أضرب بسيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحد إلا قتله رواه مسلم، وقوله أحجم القوم قال في «شرح مسلم» ، هو بحاء ثم جيم كذا في معظم الأصول، وفي بعضها بتقديم الجيم على الحاء، وادعى القاضي عياض أنه الرواية ولم يذكر غيره، قال: لكنهما لغتان، ومعناهما تأخروا وكفوا،(2/303)
وهو بمعنى قول المصنف هنا (توقفوا وفلق به: أي شق) به (هام المشركين أي: رؤوسهم) قال الشاعر:
ويضرب بالسيوف رؤوس قوم
أزيلت هامهن عن المقيل
المقيل: أصول الأعناق.
926 - (السادس: عن الزبير) بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون التحتية (ابن عدي) بفتح فكسر للمهملتين وتشديد الياء.
قال الذهبي في «الكاشف» : الزبيربن عدي الهمداني اليامي نسبة إلى بني يامة قاضي الري يروي عن أنس، ثقة ففيه مات سنة إحدى وثلاثين ومائة روى عنه الستة اهـ (قال: أتينا أنسبن مالك رضي الله عنه) أي: بالبصرة (فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج) بفتح المهملة وتشديد الجيم الأولى ابن يوسف الثقفي عامل عبد الملكبن مروان على الحجاز ثم على العراق (فقال اصبروا) أي على ما تلقون منه (فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرّ منه) أي فينبغي للإنسان أن يبادر لصالح الأعمال وإن لحقته المتاعب والمشاق والأتعاب ولا يترقب الخلوّ عن ذلك، فما يأتي بعد أشد في ذلك مما في الزمان الذي كان فيه، لأن الزمان لا يزال في البعد عن مكشاة النبوّة والقرب من البدع والفتن، فلا يمضي زمن فيه نقص لشيء من السنن أو ابتلاء بشيء من المحن إلا والذي بعده أشد منه في ذلك، بأن يعتقد أن تلك السنة التي تركت أولاً للتمادي على تركها والجهل بها بدعة، أو يصيبه من الكروب ما يتهوّن معه ما سلف له من الخطوب/ وفي الحديث الشريف «في كل عام ترذلون» وقال الشاعر:
يا زماناً بكيت منه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في «المواثيق والعهود» : جرت عادة الله تعالى بالابتلاء(2/304)
بالمصيبة ثم بأشد منها، وذلك ليتدرج العبد من الأخفّ إلى الأشد، إذ لو فاجأه الأشد ابتداء ربما عجز عن حمله بخلافه بعد التدرّج من الأخف إليه. ولا يشكل على ما ذكره وجود زمان عمربن عبد العزيز بعد زمان الحجاج، لما روي أن الحسن البصري سئل عن ذلك؟ فقال: لا بد للناس من زمان يتنفسون فيه.
وفي «التوشيح» : حمل الأكثر حديث الباب على الأكثر الأغلب. وأجاب آخرون بأن المراد تفضيل مجموع كل عصر على مجموع العصر الذي بعده، فإن زمن الحجاج كان فيه كثير من الصحابة وقد انقرضوا في زمن عمربن عبد العزيز، والزمن الذي فيه الصحابة خير من الزمن الذي بعده اهـ.
وحاصل الأمر أن الوقت سيف إن لم تقطعه بصالح العمل: وانتظرت الفراغ من سائر الأتعاب، قطعك وذهب عليك أنفس الأشياء بلا فائدة، وا المستعان، ويستمر توارد الأهوال وتعاقب الأحوال عليكم (حتى تلقوا ربكم) فلا راحة للمؤمن دون لقاء ربه. ولا يشكل على هذا الحديث حديث النسائي «أمتى كالمطر لا يدرى أولها خير أم آخرها» لأن ما في حديث الباب باعتبار الزمان كما تقدم وذلك باعتبار أهله، وعطايا الله تعالى غير مختصة بزمن دون زمن، فكم وجد في الأزمنة الأخيرة من هو خير من كثير ممن تقدم في الأزمنة: كالأئمة العلماء العاملين الذين لا يزالون على الحق ظاهرين، وكالأولياء والصالحين الذين بهم يرفع البلاء عن العالمين وتدرّبهم البركات وينتظم بهم شمل الأوقات (سمعته) أي: ما حدثتكم به (من نبيكم) أضافه إليهم ليخف عنهم ألم ما يكابدونه من المشاق (. رواه البخاري) وفي الأربعين للماليني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «لا يزداد الأمر إلا شدة، والدنيا إلا إدباراً، والناس إلا شحاً، ولا مهديّ إلا عيسى ابن مريم، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» .
937 - (السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بادروا) سابقوا: أي اسبقوا بالاشتغال (بالأعمال) الصالحة (سبعاً) من الأحوال الطارئة المشغلة واهتموا بالأعمال الصالحة قبل حصولها وحذف التاء لكون المعدود مؤنثاً أو لحذفه (هل تنتظرون إلا فقراً(2/305)
منسياً) أي: أنه لما ينال النفس منه من الغم ينشأ عنه النسيان (أو غنى مطغياً) لصاحبه وملهياً له عن القيام بأنواع حتى العبودية (أو مرضاً مفسداً) للعقل أو البدن مانعاً من أداء العبادة أو من كمالها، ومن ثم ورد «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ» (أو هرماً مفنداً) قال في «النهاية» : الفند في الأصل: الكذب، وأفند تكلم بالفند، ثم قالوا للشيخ إذا هرم قد أفند لأنه يتكلم بالمنحرف من الكلام عن سنن الصحة، وأفنده الكبر إذا أوقعه في الفند.
قال العاقولي: ولا يقال امرأة مفندة لأنها لم تكن في شبيبتها صاحبة رأي فتفند في كبرها (أو موتاً مجهزاً) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الهاء آخره زاي: أي سريعاً يقال أجهز على الجريح يجهز: إذا بأسرع قتله، كأنه يريد به الموت الفجأة أو الاخترام في الشباب (أو الدجال) فهو (شرّ غائب ينتظر) لما فيه من شدة الفتنة التي لا ينجو منها إلا من عصمه الله (أو الساعة فالساعة) أي: عذابها/ وأعادها بلفظها تفخيماً لشأنها (أدهى) أعظم بلية (وأمرّ) أشد مرارة من عذاب الدنيا وأهوالها (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن) ورواه الحاكم في «المستدرك» .
948 - (الثامن: عنه) أي: عن أبي هريرة (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر:) بوزن جعفر، وكانت في السنة السابعة (لأعطينّ هذه الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله) بالنصب. ومحبة العبد ورسوله: هو الإيمان بهما واتباع ما جاء به (يفتح الله على يديه) أي: بعض حصون خيبر، وكان كذلك بعد إرسالها مع رجلين من كبار الصحابة وما كان الفتح على أيديهما ففيه معجزة للنبيّ حيث أخبر عن مغيب فكان كما أخبر به كما سيأتي (قال عمر رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة) بفتح الهمزة وكسرها (إلا يومئذٍ) ليس حبه لها لذاتها إنما(2/306)
هو لكونها علامة لحب ذلك الأمير تعالى اللازمة لحبّ الله تعالى (له) قال تعالى: {يحبهم ويحبونه} (المائدة: 54) ولحصول الفتح على يديه (فتساورت) أي: تطاولت له كما جاء في رواية لمسلم أيضاً (رجاء أن أدعى لها) بالبناء للمفعول (فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّبن أبي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها وقال: امش ولا تلتفت) لئلا يشغلك ذلك الالتفات عن كمال التوجه (حتى يفتح الله عليك) أي: واصبر على الجهاد واترك الالتفات إلى أن يفتح الله عليك، ويحتمل أن تكون حتى تعليلية ويكون علم كونه علة لذلك بالوحي (فسار عليّ) أي: عقب الأمر مبادراً للجهاد (شيئاً) أي: من السير فهو مفعول مطلق (ثم وقف ولم يلتفت) لئلا يخالف نهيه عنه، وفهم منه عليّ رضي الله عنه ظاهره من الالتفات يمنة ويسرة، فلذا لم يلتفت بعينه مع أنه يحتاج إليه للخطاب وإن كان يحتمل أن يكون المراد من ترك الالتفات كما قال المصنف الحث على الإقدام والمبادرة إلى ما أمر به، وأن يكون المراد لا تتصرف بعد لقاء عدوك حتى يحصل الفتح، ففيما فعله عليّ رضي الله عنه الأخذ بظاهر الأمر وترك الوجوه المحتملات إذا خالفت الظاهر (فصرخ) أي: رفع صوته (يا رسول الله على ماذا) مركب بمعنى على أيّ شيء (أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله) سكت فيه عن ذكر أداء الجزية. وفي الحديث الدعاء إلى الإسلام قبل القتال. ومذهبنا ومذهب آخرين إن كان القوم ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام وجب إنذارهم قبل القتال أو من غيرهم فلا، ولذا قال (فإذا فعلوا ذلك) فيه إطلاق الفعل على القول: أي إذا تلفظوا بهذه الكلمة (فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها) أي: فيؤخذ بذلك كالنفس بالنفس والزكوات (وحسابهم على ا) أي يكفّ عن قتالهم بنطقهم بذلك، وأما ما بينهم وبين الله تعالى فإن صدقوا وآمنوا بالقلب نفعهم ذلك في الآخرة ونجوا من العذاب كما نفعهم في الدنيا، وإلا فلا ينفعهم بل يكونون منافقين من أهل النار(2/307)
(رواه مسلم. قوله فتساورت هو بالسين المهملة) وبالراء المهملة أيضاً (أي وثبت متطلعاً) لها أي حصرت عليها حتى أظهرت وجهي وتصديت له ليرى مكاني فلعله يوليني.
11 - باب في المجاهدة
مفاعلة من الجهد: أي الطاقة فإن الإنسان يجاهد نفسه باستعمالها فيما ينفعها حالاً ومآلاً، وهي تجاهده بما تركن إليه بحسب طبعها وجبلتها من ضد ذلك، ولكون المجاهدة مع النفس التي بين جنبي الإنسان وهي لا تخرج ولا تنفك عنه كان هذا الجهاد الأكبر وجهاد العدو الخارج الجهاد الأصغر.
(قال تعالى) : {والذين جاهدوا فينا} ) قال بعض العارفين: هذه الآية صفوة هذه السورة. ومن جملة المجاهدات مجاهدة النفس بالصبر عند الابتلاء ليعقب ذلك أنس الصفاء وينزع عنه لباس الجفاء. وفي الحديث: «إن ابتلاء المؤمن يذهب عنه درنه» ( {لنهدينهم سبلنا} ) أتى بلام الابتداء أو لام جواب القسم المقدر المسند إلى الحق سبحانه إشارة إلى أنه تعالى يتولى الهداية بنفسه للمجاهدين فيه، وأنه ينعم عليهم بكمال النعمة والجزاء، ولم يقل سبيلي إشارة إلى الإمناح بكثرة المعارف، ولطائف الشهود ودوامه، وانهلال سحب الأفضال ( {وإن الله لمع المحسنين} ) المحسن من يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه سبحانه يراه، فإن كان هكذا كان له من شريف المعية ما أشار إليه بقوله: {وإن الله لمع المحسنين} وقد ورد من حديث أبي هريرة عن النبي: «أنا جليس من ذكرني، وأما مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه» قال الزركشي في «الدرر» : رواه البيهقي.(2/308)
(وقال تعالى) : {واذكر اسم ربك} ) بالتوحيد والتعظيم: أي دم على ذلك ( {وتبتل إليه} ) في العبادة ( {تبتيلاً} ) مصدر بتل، جيء به رعاية للفواصل وهو ملزوم التبتل، وأيضاً فهو أبلغ منه في المعنى لزيادة المبنى، وقيل إن تبتل في الآية بمعنى بتل (أي انقطع إليه) عما سواه انقطاعاً، وقيل أخلص إخلاصاً، وقيل توكل توكلاً. قال بعضهم التبتل: رفض الدنيا بما فيها والتماس ما عندالله.
(وقال تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} ) أي الموت. (وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} ) أي ير ثوابه، ففيه تشويق لتقديم العمل الصالح بين يديه ليجد جزاءه عند قدومه عليه (وقال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير} ) بيان لما ( {تجدوه عند اهو خيراً} ) مما خلفتم ( {وأعظم أجراً} ) وهو فصل وما بعده وإن لم يكن معرفة يشبهها لامتناعه من التعريف لاقترانه بمن، ولا يجوز الجمع بينه وبين أل. والمعنى ما أخرجتم خير لكم وأعظم أجراً عند الله مما ادخرتم، قال: «أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله، قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسولالله، قال: ما منكم من أحد إلا مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟ قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: إنما مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخر» .
(وقال تعالى: {وما تفعلوا من خير} ) إنفاق أو غيره ( {فإن الله به عليم} ) فمجاز عليه، (والآيات) القرآنية (في الباب) أي باب المجاهدة (كثيرة معلومة. وأما الأحاديث:) النبوية.(2/309)
951 - (فـ) الحديث (الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى قال: من عادى) من المعاداة: ضد الموالاة (لي) حال من قوله (ولياً) قدر من تأخير وكان قبل صفة أو ظرف لغو متعلق بالوصف قدم اهتماماً به، وهو من تولى الله بالطاعة والتقوى فتولاه الله بالحفظ والنصرة، من الولي: وهو القرب والدنوّ، فالوليّ هو القريب من الله تعالى لتقرّبه إليه باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والإكثار من نوافل العبادات مع كونه لا يفتر عن ذكره، ولا يرى غيره بقلبه لاستغراقه في نور معرفته، فلا يرى إلا دلائل قدرته ولا يسمع إلا آياته ولا ينطق إلا بالثناء عليه ولا يتحرّك إلا في طاعته، وهذا هو المتقي قال تعالى: {إن أولياؤه إلا المتقون} (الأنفال: 34) (فقد آذنته) بالمد (بالحرب) أي: أعلمته بأني محارب له، أي: أعامله معاملة المحارب من التجلي عليه بمظاهر الجلال والعدل والانتقام. ومن عامله الحق بذلك فإنه لا يفلح، فهو من التهديد في الغاية القصوى، إذ غاية تلك المحاربة الإهلال، فهي من المجاز البليغ، وكأن المعنى فيه ما اشتملت عليه تلك المعاداة من المعاندة تعالى بكراهة محبوبه، والوعيد لمن عادى ولياً من أجل ولايته وقربه من الله تعالى، وذلك كإيذاء من ظهرت أمارات ولايته باتباع الكتاب والسنة، إما بإنكارها عناداً أو حسداً، أو بعدم الجري على ما ينبغي له من التأدب معه، أو بنحو سبه وشتمه من سائر أنواع الإيذاء التي لا مسوغّ لها شرعاً مع علم متعاطيها بذلك.
أما منازعة الوليّ في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق أو كشف غامض فلا يدخل في هذا الوعيد، فقد جرى نوع ما من الخصومة بين أبي بكر وعمر وبين عليّ والعباس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مع أن الكل أولياء الله تعالى. وإذا علم ما في معاداة الوليّ من الوعيد والتهديد علم ما في موالاته من جسيم الثواب وباهر التوفيق والهداية والقرب والتأييد (وما تقرّب إليّ عبدي) إضافته للتشريف المؤذن بمزيد الرفعة والتأهل لعليّ المقامات (بشيء أحبّ إليّ من) أداء (ما افترضت) به (عليه) عيناً كان أو كفاية كالصلاة وأداء الحقوق إلى أربابها وبرّ الوالدين ونحو ذلك من(2/310)
الأمور الواجبات، لأن الأمر بها جازم فيتضمن أمرين: الثواب على فعلها، والعقاب على تركها، بخلاف النفل، فلذا كان الفرض أكمل وأحب إلى الله وأشدّ تقرّباً.
وروي أن ثواب الفرض يفضل ثواب النفل بسبعين درجة؛ وبالجملة فالفرض كالأس والنفل كالبناء على ذلك الأس، (وما يزال عبدي) إضافته لما تقدم (يتقرّب) وفي رواية: «يتحبب» (إليّ بالنوافل) أي: بالتطوعات من جميع أصناف العبادات ظاهرها كقراءة القرآن إذ هو من أعظم ما يتقرب به، وكالذكر وكفى في شرفه قوله تعالى: ( {فاذكروني أذكركم} ) (البقرة: 152) وباطنها كالزهد والورع والتوكل والرضا وغير ذلك من سائر أحوال العارفين سيما محبة أولياء الله تعالى وأحبائه فيه ومعاداة أعدائه فيه (حتى أحبه) بضم أوله والفعل منصوب. ومحبة الله تعالى للعبد كما تقدم توفيقه لما يرضيه عنه، وإثابته ومعاملته بالإحسان، فعلم أن إدامة النوافل بعد أداء الفرائض، إذ من غير أدائها لا يعتد بالنوافل كما يشير إليه تأخير هذه وتقديم تلك، تفضي إلى محبة الله تعالى للعبد وصيرورته من جملة أوليائه الذين يحبهم ويحبونه. ويؤخذ من سياق الحديث أن الوليّ إما أن يتقرّب بالفرائض بأن لا يترك واجباً ولا يفعل محرماً أو بها مع النوافل وهذا أكمل وأفضل. ولذا خص بالمحبة السابقة والصيرورة الآتية، وأنه لا سبيل إلى ولاية الله تعالى ومحبته سوى طاعته التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما سواها باطل (فإذا أحببته كنت) أي صرت حينئذٍ (سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر) بضم أوله وكسر ثالثه (به، ويده التي يبطش) بفتح أوله وكسر ثالثه أو ضمه (بها ورجله التي يمشي بها) .
قال بعض المحققين: التحقيق أن هذه الصيرورة مجاز أو كناية عن نصرة الله تعالى لعبده المتقرّب إليه بما ذكر، وتأييده وإعانته له وتوليه في جميع أموره، حتى كأنه تعالى نزّل نفسه من عبده منزلة الآلات والجوارح التي بها يدرك ويستعين، ولذا جاء في رواية أخرى «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي» أي أنا الذي أقدرته على هذه الأفعال وخلقتها فيه فأنا الفاعل لذلك لا أنه يخلق أفعال نفسه: أي سواء الجزئيات والكليات، وهذا يردّ على المعتزلة في زعمهم أن العبد يخلق أفعاله الجزئيات.
وزعم الحلولية والاتحادية بقاء هذا الكلام على حقيقته وأنه تعالى عين عبده أو حالّ فيه ضلال وكفر إجماعاً، وما وقع في عبارات بعض العارفين مما يوهم ذلك فليس مراداً لهم،(2/311)
وفهم ذلك منه من قصور فهم الناظر، وإلا فهم مطهرون من ذلك الاعتقاد الفاسد كما طهرهم الله تعالى بكمال محبته من سائر المفاسد (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) مما يخاف، وهذه عادة الحبيب مع محبوبه، ولا يحصى عدد من حصل له ذلك فوقع له مطلوبه وذهبت عنه كروبه من صالحي الأمة، فلا نطيل بذكره خصوصاً وسيأتي في أثناء الكتاب بعضه.
وفي هذا الوعد المحقق المؤكد بالقسم إيذان بأن من تقرب إليه بما مرّ لا يردّ دعاؤه، وقد لا يجاب الوليّ إلى سؤاله لعلمه تعالى أن الخير له في غيره مع تعويضه له خيراً منه إما في الدنيا أو في الآخرة (رواه البخاري) وزاد بعد قوله «لأعيذنه» «وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» والتكلم في بعض رواته غير مقبول، وانفرد به البخاري عن باقي الكتب الستة، ورواه ابن حبان في «صحيحه» وأبو داود خارج السنن فيما رواه عنه ابن الأعرابي، ورواه أبو نعيم في «الحلية» والبيهقي في «الزهد» وابن عدي في «الكامل» وآخرون. وقد روي الحديث من طريق عائشة وميمونة وعليّ وأنس وحذيفة ومعاذبن جبل وابن عباس وغيرهم، وطريق كل لا تخلو عن مقال، إلا الطريق إلى حذيفة فإن إسناده حسن لكن حديثه غريب جداً (آذنته) بالمد (أعلنته) هذا معنى آذنته، وقوله: (بأني محارب له) هذا معني بالحرب، وقوله: (استعاذني روي بالنون) أي: طلبني أعيذه فيكون متعدياً (وبالباء) الموحدة: أي اعتصم وتحصن بي.
96 - (الثاني: عن أنس رضي الله عنه عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل) أي: فهو من الأحاديث القدسية وقد تقدم في باب الإخلاص فيها بعض البيان، والفرق بينها وبين القرآن أنه معجز ويتعلق الثواب بتلاوته ولا تجوز روايته بالمعنى ولا مسّ ما كتب فيه، ولا حمله مع الحدث ولا كذلك هذه الأحاديث (قال) أي: الربّ سبحانه أو النبيّ راوياً له عن ربه (إذا تقرّب العبد إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت إليه) وفي(2/312)
نسخة منه (باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) كذا في النسخ بحذف الواو من إذا الأولى. والظاهر إثباتها ليدل على أن المذكور بعض حديث أوله: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ ذكرته في ملإ خير منه، وإذا تقرّب إليّ الخ» ثم هذا من باب التمثيل في الجانبين.w
قال الكرماني: قامت البراهين القطعية على استحالة هذه الإطلاقات على الله تعالى، فهي إذن على سبيل التجوّز. والمعنى من أتى شيئاً من الطاعات ولو قليلاً قابلته عليه بأضعاف من الإثابة والإكرام، وكلما زاد في الطاعة زدته في الثواب، وإن كان إتيانه بالطاعة على التأني تكون كيفية إتياني بالثواب على السرعة، فالغرض أن الثواب راجع على العمل مضاعف عليه وإطلاق النفس والتقرّب والهرولة وهي من الإسراع ونوع من العدو عليه تعالى، إنما هو مجاز على سبيل المشاكلة أو على طريق الاستعارة أو على قصد إرادة لوازمها، وهو من الأحاديث الدالة على كرم أكرم الأكرمين. اللهم ارزقنا حظاً وافراً منه آمين (رواه البخاري) .
قال ابن الجزري في «الحصن» بعد أن أورد صدر الحديث إلى قوله: «خير منه» تم الحديث، ورمز إليه أنه رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه، وفي «مختصر جامع الأصول» للديبع أخرجه الشيخان والترمذي وسكت عن الباقي، ولعلهما روياه بالمعنى والبخاري بخصوص هذا المبنى.
97 - (الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله) وفي نسخة النبي (: نعمتان) أي: عظيمتان.
قال ابن الخازن: أي ما يتنعم به الإنسان.
وقال الطيبي: الحالة الحسنة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة، وقيل: النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على وجه الإحسان إلى الغير. ونعمتان مبتدأ وخبره (مغبون فيهما) من الغبن وهو الشراء بأضعاف الثمن، أو البيع بدون ثمن المثل وهو وصف، و (كثير من الناس) نائب فاعله أو مبتدأ وخبره مغبون وفيهما ظرف لغو، والجملة الخبر، والرابط ضمير الوصف وأفرد باعتبار لفظ كثير (الصحة والفراغ) بدلان من نعمتان بدل مفصل من مجمل شبه المكلف بالتاجر(2/313)
والصحة: أي في البدن، والفراغ: أي من العوائق عن الطاعة برأس المال لأنهما من أسباب الأرباح ومقدمات نيل النجاح، فمن عامل الله تعالى بامتثال أوامره وابتدر الصحة والفراغ يربح، ومن لا ضاع رأس ماله ولا ينفعه الندم (رواه البخاري) ورواه الترمذي وابن ماجه.
98 - (الرابع: عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ كان يقوم) أي: بالتهجد (من الليل) أي: بعضه وهو السدس الرابع والخامس غالباً (حتى تفطر) بفتح المثناة والفاء وتشديد المهملة وأصله تتفطر، وهو كذلك في رواية الأصيلي كما في «فتح الباري» : أي تتشقق (قدماه) وعند النسائي: «حتى تزلع قدماه» بزاي وعين مهملة. وللبخاري في رواية: «حتى تورّمت قدماه» . ولا مخالفة بين هذه الروايات، فإنه إذا حصل النفخ والورم حصل الزلع والتشقق (فقلت له: لم تصنع هذا) الأمر الشاق (يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟) .
قال العارف با ابن أبي جمرة في أثناء كلام له على حديث: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» ما لفظه: لا يخطر بخاطر أحد أن الذنوب التي خبر الله تعالى أنه بفضله غفرها للنبي من قبيل ما نقع نحن فيها، معاذالله، لأن الأنبياء معصومون من الكبائر بالإجماع، ومن الصغائر التي فيها رذائل. أما الصغائر التي ليس فيها رذائل ففيها خلاف بين العلماء الأكثر على أنهم معصومون منها كما عصموا من الكبائر، وهو الحق لأن رتبتهم جليلة، إنما ذلك من قبيل توفية ما يجب للربوبية من الإعظام والإكبار والشكر، ووضع البشرية وإن رفع قدرها حيث رفع فإنها تعجز عن ذلك بوضعها لأنها من جملة المحدثات، وكثرة النعم على الذي رفع قدره أكثر من غيره فتضاعفت الحقوق عليه فحصل العجز، فالغفران لذلك اهـ وهو من النفاسة بمكان، وسيأتي في باب أداء الأمانة إن شاء الله تعالى كلام نفيس للقاضي عياض في عصمة الأنبياء وتفصيل الخلاف في ذلك (قال أفلا) الفاء للسببية عن محذوف التقدير: أترك التهجد فلا (أحبّ أن أكون عبداً شكوراً) والمعنى: أن المغفرة سبب لكون(2/314)
التهجد شكراً فكيف أتركه.
قال القرطبي: ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة أنه إنما يعبد الله خوفاً من الذنب وطلباً للمغفرة والرحمة، فمن تحقق غفران الله تعالى له لا يحتاج لذلك، فأفادهم أن لذلك سبباً آخر هو الشكر على المغفرة وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه منها شيئاً.
والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر منه سمي شكوراً، ومن ثم قال سبحانه: {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ: 13) اهـ. ثم الأخذ بهذا الحال من مشاقّ الأعمال إنما يطلب ممن لا يفضي به ذلك إلى الملال كما هو شأنه، فإنه كان لا يملّ من عبادة ربه وإن أضرّ بدنه، وقد جاء عنه «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» . أما من يفضي به لذلك فلا، ففي الحديث: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» (متفق عليه) أي على أصل المعنى لا على خصوص الراوي والمبنى بدليل قوله: (هذا) أي: المذكور عن عائشة بهذا اللفظ (لفظ البخاري ونحوه) أي: بمعناه (في الصحيحين) الذي يعبر عنه بالمتفق عليه (من رواية المغيرةبن شعبة) وكذا رواه من رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .
99 - (الخامس: عن عائشة) الأخصر عنها (رضي الله عنها) وكأنه عدل إليه لئلا يتوهم أن المغيرة اسم امرأة والضمير لأقرب مذكور (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر) أي: الأخير من رمضان كما يأتي في كلامه، وأوله الحادي والعشرون وآخره آخر رمضان (أحيا الليل) بأنواع الطاعات ومحل النهي عن قيام الليل كله الوارد في حديث عبد ابن عمر فيمن داوم على ذلك جميع ليالي السنة لأنه مضرّ بالبدن والعقل (وأيقظ أهله) للصلاة تنبيهاً لهم على فضل تلك الأوقات واغتنام صالح العمل فيها.
وروى الترمذي من حديث زينب بنت أم سلمة: «لم يكن النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهل بيته يطيق القيام إلا أقامه» (وجدّ) أي اجتهد في العبادة زيادة على العادة، وذلك لأن فيه ليلة القدر التي هي خير من(2/315)
ألف شهر (وشدّ المئزر. متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» أيضاً. (والمراد العشر الأواخر من شهر رمضان) وقد صرح بهذا في حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق عاصمبن ضمرة عنه، وتقدم مبتداه ومنتهاه (والمئزر) بكسر الميم وفتح الزاي وسكون التحتية (الإزار: وهو) أي: شد المئزر لا الإزار كما قد يتبادر (كناية عن اعتزال النساء) هذا ما جزم به عبد الرزاق عن الثوري. واستشهد عليه بقول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
عن النساء ولو باتت بأطهار
وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكربن عياش نحوه: (وقيل) هو قول الخطابي كما في «فتح الباري» (المراد) منه (تشميره للعبادة) على سبيل المجاز المرسل لعلاقة الإطلاق والتقييد (يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت وتفرّغت له) قال في «فتح الباري» : يحتمل أن يريد به الجد في العبادة كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت له، ويحتمل أن يراد التشمير للعبادة والاعتزال معاً. ويحتمل أن يراد حقيقته والمجاز كمن يقول طويل النجاد لطويل القامة وهو طويل النجاد حقيقة، فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة. قال: وقد وقع في رواية عن عاصمبن ضمرة المذكور «شدّ مئزره واعتزل النساء» فعطفه بالواو فيتقوّى الاحتمال الأول اهـ.
100 - (السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: المؤمن القويّ) هو من لا يلتفت إلى الأسباب لقوّة باطنه بل يثق بمسبب الأسباب.
وقال المصنف: هو من له صدق رغبة في أمور الآخرة فيكون أكثر إقداماً على العبادات. وقيل: المؤمن(2/316)
القويّ من صبر على مجالسة الناس وتحمل أذاهم وعلمهم الخير والإرشاد.
وقال القرطبي: القويّ البدن والنفس الماضي العزيمة الذي يصلح للقيام بوظائف العبادات من الحجّ والصوم والأمر بالمعروف وغير ذلك مما يقوم به الدين (خير) أفعل تفضيل، حذفت ألفه تخفيفاً (وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف) يعلم المراد به من المراد بضده (وفي كل) بالتنوين: أي من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف (خير) لاشتراكهما في أصل الإيمان وخير هنا مصدر: وهو خلاف الشر (احرص) أي: استعمل الحرص والاحتياط (على) تحصيل (ما ينفعك) من أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك وعيالك ومكارم الأخلاق ولا تفرط في ذلك (واستعن با) أي: اطلب المعونة منه وتوكل عليه ولا تعتمد على حركاتك ولا على أسبابك بل الجأ في كل الأمور إليه وتوكل عليه، فمن أعانه أعين، وما أحسن قول بعض العارفين:
إذا لم يعنك الله فيما تريده
فليس لمخلوق إليه سبيل
وإن هو لم يرشدك في كل مسلك
ضللت ولو أن السماك دليل
(ولا تعجز) بكسر الجيم على الأفصح: أي لا تفرط في طلب ذلك وتتعاجز عنه تاركاً للحكمة الإلهية متكلاً على القدرة فتنسب للتقصير وتلام على التفريط شرعاً وعادة (وإن أصابك شيء) من المقدورات (فلا تقل لو أني فعلت) كذا (كان كذا وكذا) كناية عن مبهم، والجملة جواب لو، فيكون فيه ركون إلى العادات وربط للمسببات بأسبابها العادية وغفلة عن حقائق الأمور هو أن كل شيء بقدر مقدور فلذا قال (ولكن) بسكون النون (قل قدر ا) .
قال البرهان العلوي: ومن خطه نقلت هو بفتح أوليه المخفقين ورفع الراء، هكذا رأيت في نسخة الرزندي وسماعي «قدر» يعني بصيغة الماضي المعلوم (وما شاء) أي: ما شاءه الله (فعل) لا رادّ لمراده وهو على كل شيء قدير. ففيه التنبيه على الدواء عند وقوع المقدور وذلك بالتسليم لأمر الله والرضا بقدرالله، والإعراض عن الالتفات لما مضى وفات بألا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، لأن ذلك يئول به إلى الخسران، من توهم أن التدبير يعارض سوابق المقادير، وهذا عمل الشيطان كما قال (فإن لو) بسكون الواو على الحكاية: أي إذا ذكرت على سبيل معارضة القدر، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لو(2/317)
ارتفع لوقع خلاف المقدور (تفتح عمل الشيطان) أي وساوسه المفضية بصاحبها للخسران، أما إذا أتى بلو على وجه التأسف على ما فات من الخير وعلم أنه لن يصيبه إلا ما قدر الله تعالى فليس بمكروه، وفيه حديث «لو استقبلت من أمري ما استدبرت» الحديث: (رواه مسلم) ورواه أحمد وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .
101 - (السابع: عنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حجبت) بالمهملة فالجيم مبني للمفعول والتاء في آخره للتأنيث (النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره) .
قال القرطبي: هو من الكلام البليغ الذي انتهى في البلاغة نهايته، وذلك أنه مثل المكاره بالحفاف: أي في رواية مسلم الآتية، وبمعناها الحجاب وهو الدائر بالشيء المحيط به الذي لا يتوصل إلى ذلك الشيء إلا بعد أن يتخطى، وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها، وأن النار لا ينجي منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها.
وقال المصنف: معناه لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره من الجهد في الطاعات والصبر عن الشهوات، كما لا يصل المحجوب عن الشيء إلا بهتك حجابه والتجاوز عنه، ويوصل إلى النار باتباع الشهوات. والمراد ما كان محرماً منها لا المباح منها، فلا يدخل في ذلك لكن الإكثار منه مكروه مخافة أن يقسي القلب ويكسل عن الطاعة (متفق عليه) في المعنى ومعظم المبنى بدليل قوله (وفي رواية مسلم: حفت) بضم المهملة وتشديد الفاء (بدل حجبت) وبه يندفع اعتراض الصاغاني في «المشارق» على القضاعي حيث قال: بعد أن رواه بلفظ حجبت وقال: متفق عليه. رواية القضاعي حفت.(2/318)
قال ابن مالك في شرحها: قال النووي: المذكور في «الصحيحين» حجبت لاحفت اهـ. وهو نقل عجيب عن المصنف ولعله سهو من قلم الناسخ، وإلا فهذا اللفظ رواية مسلم (وهو) أي: حفت و (بمعناه) أي: حجبت: أي معناهما واحد (أي بينه وبينها) أي النار في الأول والجنة في الثاني (هذا الحجاب فإذا فعله) وخرق الحجاب (دخلها) .
102 - (الثامن: عن أبي عبد الله حذيفة) بضم المهملة وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية بعدها فاء (ابن) حسيل بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية، ويقال له: حسيلي بالتصغير، ولقبه (اليمان) لقب به لحلفه الأنصار وهم من اليمن، وإلا فهو عبسي بفتح المهملة فسكون الموحدة نسبة إلى عبسبن يعيصبن بنت غطفان ثم ابن قيس عيلان بالمهملة ابن مضر (رضي الله عنهما) أسلم حذيفة وأبوه وشهدا أحداً وقتل اليمان يومئذٍ بأيدي المسلمين غلطاً، ونادى حذيفة حينئذٍ أبي عباد الله أبي أبي، فما احتجزوا عنه حتى قتلوه.
فقال حذيفة: يغفر الله لكم؛ ووهب دمه للمسلمين. وكان حذيفة أحد الرقباء النجباء وأحد الفقهاء أهل الفتوى وصاحب سرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين، والمختص بأخبار الفتن المستقبلة ما ظهر منها وما بطن، وله مقامات محمودة في الجهاد من أعظمها ليلة الأحزاب وخبره فيها مشهور، وأبلى في الفتوح، وحمدت مشاهده، وكان فتح همدان والدينور على يديه، وشهد فتح الجزائر، ولاه عمر المدائن، وقال عمر لأصحابه يوماً تمنوا فتمنوا، فقال عمر: لكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة ومعاذبن جبل وحذيفةبن اليمان أستعملهم في طاعة الله تعالى.
روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث ونيفاً، اتفقا منها على اثني عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بسبعة عشر. توفي بالمدينة سنة ستّ وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة (قال: صليت مع النبي) أي في صلاة التهجد، ففيه وفي حديث ابن مسعود الآتي الاقتداء في النافلة وتطويل صلاة الليل (ذات ليلة، فافتتح سورة البقرة) فيه إطلاق ذلك بلا كراهة، وقيل: إنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة (فقلت يركع عند المائة) منها، وكان القياس في رسم مائة أن تكتب الهمزة بصورة التحتية لانكسار ما قبلها لكنها رسمت بهذه الصورة لئلا تلتبس بصورة منه إذا لم تنقط، وأصلها حتى حذفت لامها وعوض عنها هاء التأنيث (ثم مضى) في قراءتها بعد تمام المائة (فقلت: يصلي بها في ركعة(2/319)
فمضى فقلت: يركع بها) فأكملها (ثم افتتح النساء فقرأها) إلى آخرها (ثم افتتح آل عمران فقرأها) .
قال القاضي عياض: فيه دليل لمن يقول إن ترتيب السور اجتهادي وليس بتوقيفي: بل وكله إلى أمته وهو قول مالك وجمهور العلماء، واختاره ابن الباقلاني وقال: إنه أصح القولين مع احتمالها. قال: والذي يقول إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التلقين، وإنه لم يكن من النبيّ في ذلك نص ولا حد تحرم مخالفته، ولذا اختلف في ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان. قال: وأما على قول من يقول: إنه بتوقيف من النبي حدده لهم كما استقرّ في مصحف عثمان، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف والعرض الأخير فتؤول النساء ثم آل عمران هنا على أنه كان قبل التوقيف في الترتيب وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أبيّ. قلت قال بعض المتأخرين: أو إنه فعله لبيان الجواز.
قال الباقلاني: ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية بسورة قبل التي قرأها في الأولى، إنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو في غير صلاة، وقد أباحه بعضهم وتأوّل نهي السلف عن قراءة القرآن منكوساً على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها، قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله سبحانه وتعالى على ما هي الآن في المصحف، وهكذا نقلته الأمة عن نبيها اهـ باختصار يسير (يقرأ مترسلاً) أي: مرتلاً بتبيين الحروف وأداء حقها (إذا مرّ بآية فيها تسبيح) نحو: {سبح اسم ربك} (الأعلى: 1) (سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ) فيه دليل لاستحباب هذه للقارىء وهي سنة له مطلقاً (ثم ركع فجعل) من أفعال الشروع (يقول) في ركوعه (سبحان ربي العظيم) وكرّر ذلك التسبيح فيه وبه قال بعض الأئمة، ولم يأخذ أئمتنا بقضية التكرير فيه وفيما يأتي بل قالوا: أقل التسبيح مرّة وأقل الكمال ثلاث وأكثره إحدى عشرة، واقتضى صريح كلامهم عدم سن الزيادة على ذلك، فإن الذي ذكروه وهو ما واظب عليه، وما في هذا الحديث وقع نادراً فلم يغيروا به ما علم واستقرّ من أحواله (فكان ركوعه) في الطول (نحواً) أي: قريباً (من قيامه) في القراءة قبله (ثم) رفع(2/320)
رأسه و (قال) عند رفعه (سمع الله لمن حمده) أي تقبله منه (ربنا لك الحمد ثم قام) أي: دام في القيام بعد الرفع من الركوع (قياماً طويلاً مما ركع) أي: من ركوعه، أخذ منه ما اختاره المصنف أن الاعتدال والجلوس بين السجدتين ركنان طويلان، لكن المذهب أنهما قصيران لأنهما مقصودان لغيرهما لا لذاتهما. وقد يجاب بأن القرب من الركوع أمر نسبيّ؛ فليس فيه نص على أنه طوّل أكثر من التطويل المشروع عندنا وهو ما يسع أذكاره الواردة فيه وقدر قراءة الفاتحة (ثم سجد فقال) في سجوده (سبحان ربي الأعلى) وكرره، والحكمة في جعل العظيم في الركوع والأعلى في السجود أن الأعلى لكونه أفعل تفضيل أبلغ من العظيم، والسجود أبلغ في
التواضع من الركوع، فجعل الأبلغ للأبلغ (فكان سجوده قريباً من قيامه. رواه مسلم) .
103 - (التاسع: عن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي ليلة) أي: التهجد في ليلة فهي منصوبة على الظرفية (فأطال) أي: القيام طولاً كثيراً زائداً على العادة كما سيأتي مستنده (حتى هممت) بفتح الميم الأولى (بأمر سوء) بإضافة أمر إلى سوء كذا في «فتح الباري» .
وقال بعض شراح «الشمائل» بالإضافة وعدمها وفتح السين وضمها، ولعل اقتصار الحافظ على ما هو الرواية. وفي «الصحاح» : المفتوح مصدر نقيض المسرة والمضموم اسم، وساغت الإضافة إلى المفتوح كرجل سوء، ولا يقال سوء بالضم اهـ. وقوله ولا يقال الخ ردّ بالقراءة المتواترةـ دائرة السوءـ بالضم، ويردّ بأن ما فيه في إضافة الاسم الجامد وما فيها بإضافة المصدر وبينهما فرق ظاهر (قيل: وما هممت به؟ قال: أن أجلس وأدعه) .
قال المصنف: فيه أنه ينبغي الأدب مع الأئمة والكبار بألا يخالفوا بقول ولا فعل ما لم يكن(2/321)
حراماً. واتفق العلماء على أنه إذا شق على المقتدي في فريضة أو نافلة القيام وعجز عنه جاز له القعود، وإنما لم يقعد ابن مسعود تأدباً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. 5
وفي «فتح الباري» : في الحديث دليل على اختيار النبيّ تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود قوياً محافظاً على الاقتداء بالنبي، وما همّ بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده. قال: وفي الحديث أن مخالفة الإمام في أفعاله معدودة في العمل السيء، وفيه تنبيه على جواز استفادة معرفة ما أبهم من الأقوال وغيرها، لأن أصحاب ابن مسعود ما عرفوا مراده من قوله هممت بأمر سوء حتى استفهموه عنه فلم ينكر عليهم استفهامهم عنه اهـ (متفق عليه) ورواه الترمذي في «الشمائل» .
104 - (العاشر: عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتبع الميت) أي: يصحبه إلى قبره (ثلاثة أهله وماله وعمله) بالرفع بدل من الفاعل (فيرجع اثنان ويبقى واحد) أجمله ثم فصله بقوله على سبيل الاستئناف البياني (يرجع أهله وماله ويبقى عمله) ليكون أقرّ في النفس وأمكن لأنها يجيئها التفصيل وقد تطلبته واشتاقت إليه. وفي الحديث: الحثّ على تحسين العمل ليكون أنيسه في قبره (متفق عليه) والسياق للبخاري.
105 - (الحادي عشر: عن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) الشراك بكسر الشين المعجمة وبالراء وآخره كاف: أحد سيور(2/322)
النعل التي تكون في وجهه ويختلّ المشي بفقده كفقد الشسع بمعجمة ثم مهملتين: السير الذي يدخل فيه أصبع الرجل.
قال ابن مالك: ووجه الأقربية أن يسيراً من الطاعة قد يكون سبباً لدخول الجنة ومثله من المعصية في النار كما قال: (والنار مثل ذلك) .
قال في «فتح الباري» : قال ابن بطال: في الحديث أن الطاعة موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقرّبة إلى النار، وأنهما قد يكونان في أيسر الأشياء، وفي هذا المعنى «إن الرجل ليتكلم بالكلمة» الحديث، فينبغي للمرء ألا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشرّ أن يجتنبه: فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها.
وقال ابن الجوزي: معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية اهـ.
وقال السعد الكازروني في «شرح المشارق» : أراد قرب الجنة لمن كان كافراً فأسلم، وقرب النار لمن عكس، وكذا لمن أتى بالكبائر (رواه البخاري) ورواه أحمد.
106 - (الثاني عشر: عن أبي فراس) بكسر الفاء وبالمهملتين بينهما ألف (ربيعة) بوزن قبيلة (ابن كعب) ابن مالك (الأسلمي) الحجازي (خادم رسول الله) حضراً وسفراً (ومن أهل الصفة) بضم المهملة وتشديد الفاء: محل سقف آخر المسجد يأوي إليه الفقراء الذين ليس لهم عريف (رضي الله عنه) .
قال أبو نعيم: كان من أحلاس المسجد ومن الملازمين لخدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله بأهل الصفة اتصال، ثم روي عنه قال: كنت أبيت على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطيه الوضوء فأسمعه من الهويّ بالليل يقول: «سمع الله لمن حمده» وللهويّ من الليل يقول: «الحمد رب العالمين» ذكره ابن الجوزي في «المستخرج» المليح من التنقيح في باب من روى عن النبي اثني عشر حديثاً. وقال: قال البرقي: له أربعة أحاديث. قلت: وقد انفرد مسلم عن البخاري فأخرج له هذا الحديث، وروى عنه أصحاب السنن الأربعة: توفي بعد الحرّة سنة ثلاثة وستين (قال: كنت أبيت مع رسول الله) على باب بيته لأداء خدمته كما قال (فآتيه) بالمد (بوضوئه) بفتح الواو: الماء المعدّ للوضوء(2/323)
بضمها (وحاجته) أي: ما يحتاج إليه من لباس وغيره (فقال: سلني) حاجة أتحفك بها في مقابلة خدمتك لأن هذا شأن الكرام ولا أكرم منه. ويؤخذ من إطلاقه السؤال أن الله تعالى مكنه من إعطاء كل ما أراد من خزائن الحق، ومن ثم أعدّ أئمتنا من خصائصه أن يخص من شاء بما شاء: كجعله شهادة خزيمة بشاهدين رواه البخاري، وإباحة النياحة لأم عطية في آل فلان خاصة رواه مسلم. (فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة) أي: أن أكون معك فيها قريباً منك متمتعاً بنظرك وقربك حتى لا أفارقك، فلا يشكل حينئذٍ بأن منزله: الوسيلة وهي خاصة به عن سائر الأنبياء فلا يساويه في مكانه منها نبيّ مرسل فضلاً عن غيرهم لأن المراد أن تحصل له مرتبة من مراتب القرب التام إليه فكنى عن ذلك بالمرافقة (فقال أو) تسأل (غير ذلك) لأنه أهون فأو عاطفة ويصح فتح الواو فالهمزة
للاستفهام داخلة على فعل دل عليه السياق: أي أترجع عن سؤالك هذا لأنه مشتق لا تطيقه ولا تسأل غيره مما هو أهون منه (قلت: هو) أي مسئولي (ذاك) الذي ذكرته لا غيره فلا أرجع عنه وإن كان مشقاً، وعبر عنه بذلك الموضوع للبعيد ليدله على بعد هذه المرتبة وعزتها وأنها لا تحصل بالهويني، فعدل عنها السائل إلى «ذاك» الدالة على القرب بالنسبة لذلك ليعلم بأنه مصمم على أن مسئوله غير مستبعد له على امتثال كل ما يؤمر به لأجله، فلما علم صدقه وقوة عزمه (قال) له (أعني) حينئذٍ (على نفسك) المتخلفة بطبعها عن السعي في نيل المعالي لميلها إلى الدعة والرفاهية والشهوات والبطالات، وفي قوله: «أعني» إشارة إلى أنه كان مجتهداً أي اجتهاده في اصلاحه كغيره وأنه الطبيب الساعي في شفائه، والطبيب يحتاج لمساعدة المريض بتعاطيه ما يصفه له (بكثرة السجود) المحصل لنيل مرتبة القرب المطهر للنفس عن خبائثها المخرج لها عن شهواتها وعاداتها، وببعدك عن هذه النقائص المؤدي إلى دوام المراقبة يحصل الرقي إلى المرافقة والمجاورة. وفي «شرح المشكاة» لابن حجر: فمن كثرة سجوده حصلت له تلك الدرجة العلية التي لا مطمع في الوصول إليها بمزيد الزلفى عند الله في الدنيا بكثرة السجود المومأ إليه(2/324)
بقوله تعالى:
{واسجد واقترب} (العلق: 19) فكل سجدة فيها قرب مخصوص لتكفلها بالرقى إلى درجة من درجات القرب وهكذا حتى ينتهي إلى درجة المرافقة لحبيبه، فنتج من هذا الذي هو على منوال قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم ا} (آل عمران: 31) أن القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحصل إلا بالقرب من الله تعالى، وأن القرب من الله تعالى لا ينال إلا بالقرب من رسوله. فالقربان متلازمان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر البتة: ومن ثم أوقع تعالى متابعة رسوله بي تلك المحبتين ليعلمنا أن محبة العبد ومحبته للعبد متوقفتان على متابعة رسوله اهـ (رواه مسلم) وأحمد ابن حنبل.
107 - (الثالث عشر: عن أبي عبد الله، ويقال) في كنيته (أبو عبد الرحمن ثوبان) بفتح المثلثة وسكون الواو بعدها موحدة وبعد الألف نون ابن بحدد، وقيل: ابن جحدد (مولى رسول الله) .
قال الكازروني في «شرح المشارق» : كان (رضي الله عنه) من اليمن، قيل: إنه حكمي من حكمبن سعد العشيرة، وقيل: من النمر، وقيل: من السرة: موضع بين مكة واليمن أصيب سبياً فمرّ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، وقيل: اشتراه فأعتقه، فلم يزل مع النبي حتى قبض وتحول إلى حمص، له بها دار ضيافة: مات بها سنة أربع وخمسين في زمن معاوية، وجميع مروياته ثمانية وعشرون حديثاً اهـ. انفرد مسلم بالإخراج عنه عن البخاري فأخرج له عشرة أحاديث ذكره ابن الجوزي وغيره (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: عليك) اسم فعل بمعنى خذ، والباء في (بكثرة السجود) زائدة لازمة (فإنك لن تسجد) مخلصاً (سجدة) أي: في ضمن ركعة أو لنحو تلاوة أو شكر، وإلا فالتعبد بالسجدة المنفردة غير مشروع (إلا رفعك الله بها درجة) أيّ درجة (وحط عنك بها خطيئة) أيّ: خطيئة. وسبب رواية ثوبان لهذا الحديث أن معدانبن طلحة قال: «أتيت ثوبان فقلت: أخبرني بعمل أعمل به يدخلني الله به الجنة، أو قال: بأحبّ الأعمال إلىالله، فسكت، ثم سأله فسكت، ثم سأله الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عليك فذكره، وفي آخره: فلقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال ثوبان» (رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» : ورواه(2/325)
أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ثوبان وأبي الدرداء. وهذان الحديثان ظاهران في أن تكثير السجود أفضل من طول القيام، وهو أحد مذاهب ثلاثة في ذلك، أصحها أن تطويل القيام أفضل، وقد بسطت الكلام في ذلك في كتاب الصلاة من شرح الأذكار.
108 - (الرابع عشر: عن أبي صفوان) بفتح المهملة وسكون الفاء، وقيل: أبو بسر (عبد ابن بسر الأسلمي) قال الكازروني في «شرح المشارق» «المازني» وجرى عليه العامري في «الرياض» لكن في «أسد الغابة» بعد أن نقل ذلك عن ابن منده قال: وهذا لا يستقيم: فإن سليمان أخو مازن وليس لعبد الله حلف في سليم حتى ينسب إليهم بالحلف. كان (رضي الله عنه) ممن صلى للقبلتين، ووضع يده على رأسه ودعا له وقال: يعيش هذا الغلام قرناً فعاش مائة سنة، وقال: لا يموت حتى يذهب هذا الثؤلول من وجهه فلم يمت حتى ذهب الثؤلول من وجهه» قال ابن الأثير: صحب النبي هو وأبوه وأمه وأخوه عطية وأخته الشماء، وحينئذٍ فكان حق المصنف أن يقول رضي الله عنهما.
وفي «التقريب» للحافظ ابن حجر: صحابي صغير له ولأبيه صحبة، توفي سنة ثمان وثمانين عن أربع وتسعين سنة، وقيل: مات بحمص، وهو آخر من مات بها بل بالشام من الصحابة سنة ست وتسعين عن مائة سنة، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسين حديثاً، أخرج له البخاري حديثاً، ومسلم آخر (قال: قال رسول الله: خير الناس) أي: أفضلهم (من طال عمره وحسن عمله) فاكتسب في طول الأيام ما يقرّبه إلى مولاه ويوصله إلى رضاه، وحسن العمل الإتيان به مستوفياً للشروط والأركان والمكملات (رواه الترمذي وقال حديث حسن) وكذا رواه أحمد.
وفي بعض النسخ: رواه مسلم والترمذي، وهو من غلط النساخ (بسر بضم الباء) أي: الموحدة، وكان الإتيان بذلك أولى لبعده عن الاحتمال في الصورة الخطية أهي الموحدة أم المثناة الفوقية أم التحتية (وبالسين المهملة) وراء.(2/326)
109 - (الخامس عشر: عن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي) أي: أخو والدي؛ إذ هو أنسبن مالكبن النضر وعمه (أنسبن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر) الإضافة لأدنى ملابسة: أي الكائن فيها، وبدل المحل المعروف، قيل سمي باسم بئر ثم، وقيل: لغير ذلك (فقال) متحسراً (يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتل المشركين) صفة قتال والعائد محذوف أي فيه (لئن) اللام موطئة للقسم المحذوف أي وا لئن، و (ا) فاعل لفعل محذوف هو فعل الشرط وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه (أشهدني) أحضرني (قتال المشركين) يحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، وأن يكون مضافاً لمفعوله، وحذف الضمير الدال عليه تنزيهاً له أن يذكر في مقابلتهم (ليرين الله ما أصنع) جواب القسم والنون للتوكيد.
قال القرطبي في «المفهم» : هذا الكلام يتضمن أنه ألزم نفسه إلزاماً مؤكداً هو الإبلاغ في الجهاد والانتهاض فيه والإبلاغ في بذل ما يقدر عليه، ولم يصرح بذلك مخافة ما يتوقع من التقصير في ذلك وتبرياً من حوله وقوته، ولذا قال في رواية: «فهاب أن يقول غيرها» ومع ذلك نوى بقلبه وصمم على ذلك بصحيح قصده ولذا سماه الله عهداً فقال: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} (الأحزاب: 23) اهـ (فلما كان يوم أحد) برفع يوم على أن «كان» تامة وبنصبه على الظرفية والمعنى: يوم قتال أحد، أو أراد باليوم الوقعة (انكشف المسلمون) بما وقع لهم من ترك منازلهم التي أنزلهم النبي فيها حال النصافّ للحرب ونهاهم عن التحول عنها فلما انكسر المشركون وانهزموا نزل بعض أولئك الأقوام عن تلك المنازل فكان في المخالفة سبب انهزامهم.
(فقال) أنس: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء: يعني أصحابه) المسلمين من الفرار (وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء: يعني المشركين) من قتال النبي ومن معه من المؤمنين (ثم تقدم) إلى القتال (فاستقبله سعدبن معاذ) منهزماً (فقال يا سعد) يجوز ضمه وفتحه، لأنه وصف بقوله: (ابن معاذ) ويتعين(2/327)
نصب ابن لأنه مضاف (الجنة) بالنصب: أي أريد، والرفع: أي مطلوبي (ورب النضر) بفتح النون وإسكان المعجمة: يعني أباه، وكل ما كان على هذه الصورة معرفاً فبالضاد المعجمة، ومنكراً فبالمهملة (إني أجد ريحها) أي: الجنة (من دون أحد) أي من مكان أقرب منه، يحتمل أن يكون على الحقيقة وأنه وجد ريحها، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد فتصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه، فيكون المعنى: إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فاشتاق لها (قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع) أي: أن أصنع ما صنع، ورواية مسلم: «فقاتلهم حتى قتل» وهي ظاهرة كما قال القرطبي في أنه قاتلهم وحده، فيكون فيه دليل على جواز ذلك بل على ندبه اهـ.
(قال أنس: فوجدنا به بضعاً) بكسر الباء وسكون الضاد المعجمة ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: ما بين الواحد إلى العشر. وسيأتي بسط الكلام فيه في باب بيان كثرة طرق الخير (وثمانين ضربة بالسيف، أو) هي: للتنويع (طعنة برمح، أو رمية) بفتح الراء المهملة: واحدة الرمي (بسهم، ووجدناه قد قتل) بالبناء للمجهول لعدم العلم بعين قاتليه (ومثل) بتشديد المثلثة (به المشركون) حتى خفي على أهله (فما عرفه أحد) منهم (إلا أخته) أي: أخت أنسبن النضر، وهي الربيع بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد التحتية (ببنانه) أي بأصابعه ومنه قوله تعالى: {أن نسوّي بنانه} (القيامة: 4) وفي رواية بشامته: (قال أنس: كنا نرى) بضم النون بمعنى نظن (أو نظن) شك من الراوي في لفظ أنس وإن كان معناهما واحداً، ففيه مزيد الاحتياط في الرواية.
وعند مسلم: فكانوا يرون الخ: يعني به أن الصحابة كانوا يظنون (أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه) وقيل: أنزلت في السبعين. وهم أهل العقبة الثانية الذين بايعوه أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم فوفوا بذلك، قاله الكلبي، وقيل غير ذلك، والآية: ( {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} ) أو إلى قوله: {وما بدلوا تبديلا} (الأحزاب: 23) أي استمروا على ما التزموا ولم يقع منهم نقض فيما أبرموا(2/328)
(متفق عليه) ورواه الترمذي (ليرين الله روي بضم الياء) التحتية (وكسر الراء) المهملة (أي ليظهرن الله ذلك) الذي أصنعه من الجهاد في سبيله (للناس، وروي بفتحهما ومعناه ظاهر) وفي نسخة من البخاري «ليراني ا» إبقاء ألف الفعل على أصلها وحذف نون التوكيد وإبقاء نون الوقاية عكس الرواية الأولى ومعناه كمعنى الرواية الثانية والله أعلم.
110 - (السادس عشر: عن أبي مسعود عقبةبن عمرو الأنصاري البدري) سكن بدراً ولم يشهد وقعتها على الصحيح عند جماعة من أصحاب «المغازي» والمحدثين، لكن الذي جرى. عليه البخاري في «صحيحه» أنه شهدها، ورجحه الحافظ في «فتحه» ، وشهد العقبة الثانية. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وحديثين، اتفقا على سبعة منها، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بتسعة، توفي بعد عليّ (رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة) قال في «فتح الباري» كأنه يشير إلى قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (التوبة: 103) الآية (كنا نحامل على ظهورنا) سيأتي معناه. وقال الخطابي: يريد نكلف الحمل بالأجرة لنكتسب ما نتصدق به، وفي رواية أخرى للبخاري «انطلق أحدنا إلى السوق يتحامل» (فجاء رجل) هو عبد الرحمنبن عوف (فتصدق بشيء كثير) كان ثمانية آلاف درهم أو أربعة آلاف درهم، وقيل: أربعون أوقية من الذهب (فقالوا مراء) اسم فاعل، من المراءاة: وهي العمل ليراه الناس فيكتسب منهم غرضاً دنيوياً (وجاء رجل) هو أبو عقيل، وقيل: غيره (فتصدق بصاع) هو أربعة أمداد نبوية فيكون خمسة أرطال وثلثا بغدادية، وكان تحصيله له بأن أجر نفسه على النزع من البئر بالحبل بصاعين من تمر، فذهب بصاع لأهله وتصدق بالآخر (فقالوا: إن الله لغنيّ عن صاع هذا) . سمي من اللامزين في «مغازي الواقدي» : معتببن قشير وعبد الرحمنبن نبتل بنون(2/329)
ومثناة فوقية مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة ثم لام كذا في «فتح الباري» . فنزل: الذين مبتدأ وخبره سخر الله منهم ( {يلمزون} ) أي: يعيبون ( {المطوّعين} ) بتشديد الطاء المهملة وأصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء: أي: المتنفلين ( {من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم} ) (التوبة: 79) طاقتهم فيأتون به (الآية) إلى قوله: {ولهم عذاب أليم} (البقرة: 10) (متفق عليه) ورواه النسائي وابن مردويه وغيرهم (ونحامل بضم النون وبالحاء المهملة) وكسر الميم (أي: يحمل أحدنا على
ظهره بالأجرة) طلباً لتحصيل ما يتوصل به إلى الصدقة (ويتصدق بها) طلباً لمرضاة الله تعالى. فالصيغة للمبالغة، ففيه أن العبد يطيع مولاه جهده وطاقته وحسب قدرته واستطاعته.
111 - (السابع عشر: عن سعيدبن عبد العزيز) التنوخي، مفتي دمشق وعالمها، قرأ على ابن عامر وسمع مكحولاً وسأل عطاء لما حج. قال أحمد هو والأوزاعي عندي سواء. كان بكاءً خوافاً، سئل فقال: ما قمت إلى صلاة إلا مثلت لي جهنم. وقال أبو مسهر: سمعته يقول: مالي كتاب. وقال سفيان: ثقة ثبت، مات سنة سبع وستين ومائة من أبناء الثمانين، روى له مسلم وأصحاب السنن الأربعة (عن ربيعة) بوزن قبيلة (ابن يزيد) القصير، يكنى ربيعة بأبي شعيب. وهو فقيه أهل دمشق مع مكحول. قال فرجبن فضالة: كان يفضل على مكحول. استشهد بأفريقية سنة اثنتي عشرة ومائة، روى له الستة (عن أبي إدريس الخولاني) بفتح(2/330)
الخاء المعجمة وسكون الواو نسبة لخولان قبيلة نزلت بالشام واسمه عائذ الله قال سعيدبن عبد العزيز: كان عالم أهل الشام بعد أبي الدرداء، ولد يوم حنين. ومات سنة ثمانين، روى له الستة ذكر هذا الذهبي في «الكاشف» (عن أبي ذرّ جندب) بضم الجيم وفتح الدال (ابن جنادة) وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) أبو باب المراقبة (عن النبيّ فيما يروى) عن جبريل كما في الأذكار وغيرها وهو كذلك في بعض طرقه كما نبه عليه الحافظ العلائي (عن الله تبارك) قال في «الصحاح» : أي بارك مثل قاتل وتقاتل، إلا أن فاعل يتعدى وتفاعل لا يتعدى (وتعالى) وهذا من الأحاديث القدسية وسبق الفرق بينها وبين القرآن في باب الصبر (أنه قال: يا عبادي) بكسر أوله وتخفيف ثانيه وهو أحد جموع لفظ: عبد، وله عشرون جمعاً ذكرتها نظماً في أول «شرح الأذكار» . وهو هنا وفيما يأتي وفي نظائره يتناول الأحرار والأرقاء من الذكور، وكذا من النساء إجماعاً لكن لا وضعاً بل بقرينة التكليف ( {إنّي حرّمت الظلم على نفسي} ) .
قال ابن القيم: تحريم الله الفعل على نفسه يستلزم عدم وقوعه، ثم قال: وإذا كان معقولاً من الإنسان أن يأمر نفسه وينهاها كما قال تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف: 53) وكما قال: {ونهى النفس عن الهوى} (النازعات: 40) مع كونه تحت أمر غيره، فالآمر الناهي الذي ليس فوقه آمر ولا ناه كيف يستحيل في حقه أن يحرم على نفسه أو يكتب عليها فيحرم على نفسه بنفسه ويكتب على نفسه ولا يلتفت إلى ما قيل في ذلك من التأويلات الباطلة، اهـ ملخصاً. وقد نقلت كلامه برمته في أواخر «شرح الأذكار» ، وهو يقتضي أن الظلم متصورّ منه تعالى إلا أنه منع منه نفسه، فلا يفعله عدلاً منه وتنزّهاً عنه. قال جمع: واعترض بأنه إن أراد جوازه بناء على تفسيره بما هو ظلم عند العقل لو خلي نفسه من حيث عدم مطابقته لقضيته فله نوع احتمال، والجمهور على استحالة تصوّر الظلم في حقه تعالى، إذ هو لغة: وضع الشيء في غير محله. وعرفاً: التصرف في حق الغير بغير حق، أو مجاوزه الحد، وهو بمعنييه محال في حقه تعالى، إذ ليس فوقه من يطيعه تعالى حتى يحدّ له حداً فيقال إنه جاوزه، ولا حق لأحد معه سبحانه، بل هو الذي خلق المالكين وأملاكهم وتفضل عليهم بها وحدّ لهمّ حدوداً وحرم وأحل، فلا حاكم يتعقبه ولا حق بترتب عليه، تعالى عن ذلك، ولاستحالته في حقه تعالى. قال بعضهم: سمى تقدسه عن(2/331)
الظلم تحريماً لمشابهته. الممنوع في تحقق العدم. قيل: قضية هذا الحديث جواز إطلاق لفظ النفس عليه تعالى. قال بعضهم: وهو ظاهر حيث كان من باب المقابلة كما هنا، إذ المعنى: حرمته على نفسي فنفوسكم بالأولى كما أفاده قوله: (وجعلته بينكم محرماً) أما إطلاقه في محل لا مقابلة فيه فلا يظهر جوازه لإبهامه حقيقة النفس وهي محال عليه تعالى. وقيل: يجوز إطلاقه عليه بناء على أنه مأخوذ من النفاسة، ولا يشكل على الأول إطلاق الذات عليه تعالى في قول حبيب رضي الله عنه عند إرادة قتله: وذلك
في ذات الإله، لأن ذات الشيء حقيقته فلا إشعار فيها بحدوث، بخلاف لفظ النفس فإن يشعر بالتنفس والحدوث، فامتنع إطلاقه عليه إلا في مقام المقابلة، إذ هو قرينة ظاهرة على أن المراد به في حقه تعالى غير حقيقته وما يتبادر منه. وأيضاً ففي إطلاقه عليه تعالى من غير مقابلة إبهام شمول قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} (
آل عمران: 185) له، تعالى الله عن ذلك (وجعلته بينكم محرّماً) أي: حكمت بتحريمه عليكم وهذا مجمع عليه في كل ملة لاتفاق سائر الملل على مراعاة حفظ الأنفس فالأنساب فالأعراض فالعقول فالأموال. والظلم قد يقع في هذه أو بعضها، وأعلاه الشرك. قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: 13) وهو المراد بالظلم في أكثر الآيات، ثم يليه المعاصي على اختلاف أنواعها (فلا تظالموا) بفتح التاء وتخفيف الظاء على الأشهر، وروي بتشديدها ففيه حذف إحدى التاءين وإدغامها في الظاء: أي: لا يظلم بعضكم بعضاً، وهذا توكيد لقوله: ( {وجعلته بينكم محرّماً} ) وزيادة في تغليظ تحريمه (يا عبادي) كرّر النداء زيادة في تشريفهم ولذا أضافهم إليه وتنبيهاً على فخامة ما بعده، وجمعه لإفادة الاستغراق (كلكم ضالّ) أي: غافل عن الشرائع قبل إرسال الرسل، أو ضال عن الحق لو ترك ونفسه (إلا من هديته) من الضلال بالتوفيق للإيمان بما جاءت به الرسل على المعنى الأول أو للوصول إلى الحق بالنظر الموصل إلى معرفة الله تعالى وامتثال ما جاء من عنده على المعنى الثاني وعلى كل من المعنيين فلا ينافي حديث «كل مولود يولد على الفطرة» لأن ذلك ضلال ضارىء على الفطرة الأولى كما يرشد إليه حديث «خلق الله الخلق على معرفته فاغتالهم الشيطان» والأصح أن المراد من معنى خبر «كل مولود الخ» : أن كل مولود يخلق متهيئاً للإسلام، فمن كان أبواه أو أحدهما مسلماً استمرّ عليه في أحكام الدارين. وإن كانا كافرين جرى عليه حكمهما فيتبعهما في أحكام الدنيا وهذا معنى
«فيهوّدانه(2/332)
ونصرانه» أي: يحكم له بحكمهما في الدنيا فإذا بلغ مستمراً على الكفر حكم له به فيهما. واختلف أيضاً فيمن مات صغيراً، والأصح أنه في الجنة.
والحاصل أن الإنسان مفطور على قبول الإسلام والتهيؤ له بالقوّة، لكن لا بد أن يتعلمه بالفعل فإنه قبل التعليم جاهل، قال تعالى: {وا أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} (النحل: 78) فمن هداه سبب له من يعلمه الهدى فصار مهدياً بالفعل بعد أن كان مهدياً بالقوة، ومن خذله والعياذ با قيض له من يعلمه ما يغير فطرته بأمر بتهوّد أو تنصر أو تمجس.
قال المصنف: وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا. وسائر أهل السنة أن المهتدي هو من هداه الله وبهدي الله اهتدى وبإرادة الله تعالى ذلك، وأنه سبحانه أراد هداية بعض عباده وهم المهتدون، ولم يرد هداية الآخر ولو أرادها لاهتدى، قال تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} (يونس: 99) (فاستهدوني) اطلبوا مني الهداية بمعنى الدلالة على طريق الحق والإيصال إليها معتقدين أنها لا تكون إلا من فضلي (أهدكم) أنصب لكم أدلة ذلك الواضحة وأوصل من شئت إيصاله في سابق العلم القديم الأزلي. وحكمة طلبه تعالى منا السؤال للهداية إظهار الافتقار منا والإذعان والإعلام بأنه لو هداه قبل أن يسأله لربما قال: إني أوتيته على علم عندي فيضلّ بذلك، فإذا سأل ربه فقد اعترف على نفسه بالعبودية ولمولاه بالربوبية، وهذا مقام شريف لا يتفطن له إلا الموفقون. وهذا البيان طريق حصول النفع الديني ودفع الضرر من ذلك، وقدمه اهتماماً واحتفالاً بشأنه (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته) لأن الناس كلهم عبيد لا ملك لهم في الحقيقة، وخزائن الرزق بيده، فمن لم يطعمه بفضله بقي جائعاً بعدله، إذ ليس عليه إطعام أحد، فقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود: 6) التزام منه تفضلاً، لا أنه عليه واجب بالأصالة، ولا يمنع نسبة الإطعام إليه ما يشاهد من ترتب الأرزاق على أسبابها الظاهرة من أنواع الكسب لأنه تعالى المقدر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة، فالجاهل محجوب بالظاهر عن الباطن، والعارف الكامل لا يحجبه ظاهر عن باطن ولا عكسه بل يعطي كل مقام حقه (فاستطعموني) أي: سلوني واطلبوا مني الطعام (أطعمكم) أي: أيسر لكم أسباب تحصيله إذ العالم جماده وحيوانه مطيع تعالى(2/333)
طاعة العبد لسيده، فتصرّفاته تعالى في العالم عجيبة لمن تدبرها، فيسخر السحاب لبعض الأماكن، ويحرّك قلب فلان لإعطاء فلان، ويحوج فلان لفلان، وفيه تأديب للفقراء كأنه قال: لا تطلبوا
النعمة من غيري فإن من تستطعمونهم أنا الذي أطعمهم فاستطعموني أطعكم (يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم) وفي هذا جميعه أوفي تنبيه وأظهر على افتقار سائر خلقه تعالى إليه وعجزهم عن جلب منافعهم ودفع مضارّهم إلا أن ييسر لهم ما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرّهم، فلا حول ولا قوة إلا با ولا تمسك إلا بسببه، وهذان مثالان لدفع الضرر الدنيوي وجلب النفع في ذلك، واقتصر عليهما لكمال حاجة الإنسان إليهما. (يا عبادي إنكم تخطئون) .
قال المصنف بضم التاء، وروي بفتحها وفتح الطاء، يقال خطىء يخطأ: إذا فعل ما يأثم به فهو خاطىء، ومنه قوله تعالى: {واستغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} (يوسف: 97) ويقال في الإثم أيضاً أخطأ فهما صحيحان اهـ. والمخاطب بهذا هنا غير معصوم (بالليل والنهار) هو من باب المقابلة لاستحالة وقوع الخطأ من كل منهم ليلاً ونهاراً (وأنا أغفر الذنوب جميعاً) ما عدا الشرك والذي لا يشاء مغفرته، قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) وفي اعتراض هذه الجملة مع التأكيد فيها بشيئين: أل الاستغراقية، وجميعاً المفيد كل منهما العموم غاية الرجاء للمذنبين حتى لا يقنط منهم أحد من رحمة الله تعالى لعظم ذنبه (فاستغفروني أغفر لكم) أصل الغفر: الستر فغفر الذنب: ستره ومحو أثره وأمن عاقبته، وحكمة التوطئة لما بعد الفاء بما قبلها بيان أن غير المعصوم والمحفوظ لا ينفك غالباً عن المعصية، فحينئذٍ يلزمه أن يجدد لكل ذنب ولو صغيرة توبة وهي المرادة هنا من الاستغفار، إذ ليس فيه مع عدمها كبير فائدة، وشتان بين ما يمحوه بالكلية وهو التوبة النصوح وبين ما يخفف عقوبته أو يؤخرها إلى أجل، وهو مجرد الاستغفار (يا عبادي إنكم(2/334)
لن تبلغوا ضري فتضرونيّ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) لما قام من الإجماع والبرهان على أنه تعالى منزّه مقدس غنيّ بذاته لا يمكن أن يلحقه ضرّ ولا نفع، فهو تعالى إن أحسن إلى عباده بغاية وجوه الإحسان غير محتاج إلى مكافأتهم بجلب نفع أو دفع ضرّ، ومن ثم قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56) ونفع عباداتهم إنما يعود عليهم كما قال تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه) ومحبته تعالى لها وفرحة بها لكمال رحمته بهم ورأفته عليهم. وما اقتضاه ظاهر الحديث من أن لضره ونفعه غاية لكن لا يبلغها العباد متروك بما دل عليه الإجماع والبرهان من غناه المطلق، أو أنه من باب على لا حب لا يهتدي بمناره أي: لا
منار له فيتهدي به. والمعنى: لا يتعلق بي ضرّ ولا نفع فتضروني أو تنفعوني، لأنه تعالى غنيّ مطلق والعبد فقير مطلق (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم) سموا بذلك لظهورهم أو أنهم يؤنسون (وجنكم) سموا به لاجتنانهم أي اختفائهم (كانوا على) تقوى (قلب اتقى رجل واحد منكم) وفي نسخة «على أتقى قلب رجل» وكذا قرينة الآتي، قيل: أراد به هنا محمداً (ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) أي: لا يعود نفع ذلك إلى الله بأن يزيد في ملكه، بل نفعه قاصر على فاعله (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على) فجور (أفجر قلب رجل واحد) أي: على صورته، لما قيل إن المراد إبليس لعنهالله، وفي ترك الخطاب هنا تنبيه على أن الأدب فيه أن لا يضاف المكروه للمخاطب (ما نقص ذلك) العصيان (من) كمال (ملكي شيئاً) ففي ذلك إشارة إلى أن ملكه تعالى على غاية الكمال، لا يزيد بطاعة جميع الخلق وكونهم على أكمل صفات البر والتقوى، ولا ينقص بمعصيتهم، لأنه تعالى الغنيّ المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، الكامل فلا نقص يلحقه بوجه (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) أي: أرض واحدة ومقام واحد (فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك)(2/335)
أي: إعطاء كل سائل مسئوله (مما عندي) من الخزائن الإلهية (إلا كما ينقص المخيط) هو بكسر فسكون ففتح: الإبرة (إذا أدخل البحر) وهو في رأي العين لا ينقص شيئاً من البحر، فكذا الإعطاء من الخزائن الإلهية لا ينقصها شيئاً البتة، لأنها من رحمته وكرمه وهما صفتان قديمتان ولا نهاية لهما، والنقص مما لا يتناهى محال بخلافه مما يتناهى، كالبحر وإن جلّ وعظم وكان أكبر المرئيات في الأرض، بل قد يؤخذ العطاء الكثير من المتناهي ولا ينقص، كالنار والعلم تقتبس منهما ما شاء الله ولا ينقص منهما شيء، بل قد يزيد العلم على الإعطاء، فعلم أن قوله: «إلا كما ينقص المخيط» الخ، ليس المراد منه حقيقته وإنما هو تمثيل يقرب إلى الفهم
ليعلم منه أنه لا ينقص في تلك الخزائن البتة، لا لعدم نقص ماء البحر من غرز المخيط، فالجامع بين المشبه والمشبه به عدم النقص من حيث المشاهدة الصورية، فهما وإن افترقا في أنا إذا نظرنا إليهما بعين الحقيقة وجدنا البحر ينقص بهذا الشيء الحقير المأخوذ منه الذي لا يدرك لنا، وتلك الخزائن لا ينقصها شيء مما أفاضه الله تعالى منها من حين خلق السموات والأرضين إلى انقضاء هذا العالم، ثم من حين بعثه إلا ما لا نهاية له، لما تقرّر من استحالة نقص ما لا يتناهى، وفي هذا تنبيه وأيّ للخلق على إدامتهم لسؤاله تعالى مع إعظام الرغبة وتوسيع المسألة فلا يختصر سائل بل يسأل ما أحب، لما تقرّر أن خزائن النعم سحاء الليل والنهار لا ينقصها الإعطاء وإن جلّ وعظم.
وقيل: إن ذلك إشارة إلى النعمة المخلوقة وهي يتصوّر فيها النقص كالبحر. ونقص استعمل لازماً كنقص المال ومتعدياً كما هنا، إذ مفعول الماضي والمضارع محذوف بدليل السياق. (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها) أي: أضبطها (لكم) بعلمي وملائكتي الحفظة واحتيج إليهم معه لا لنقصه عن الإحصاء بل ليكونوا شهداء بينه وبين خلقه، وقد يضم إليهم شهادة الأعضاء زيادة في العدل، والحصر المستفاد من إنما هو بالنسبة لجزاء العمل، أي: لا جزاء ينقسم إلى خير وغيره إلا عن عمل يكون سبباً له فلا ينافي المزيد عليه الثابت بالنص في قوله تعالى: {ولدينا مزيد} (ق: 35) وبالإجماع لأنه ليس في حديث الباب تعرض لذلك بنفي ولا إثبات، وقد صحت فيه نصوص أخرى لا تعارض لها فوجب الأخذ بها (ثم أوفيكم إياها) أي: جزاءها في الآخرة على حد {وإنما توفون أجوركم يوم(2/336)
القيامة} (آل عمران: 185) فلما حذف المضاف انقلب المجرور منفصلاً منصوباً، أو في الدنيا أيضاً لما روي أن النبيّ فسر ذلك بأن المؤمنين يجازون بسيئاتهم في الدنيا ويدخلون الجنة بحسناتهم (فمن وجد خيراً) أي: ثواباً ونعيماً بأن وفق لأسبابهما أو حياة طيبة هنيئة مريئة (فليحمد ا) على توفيقه للطاعات التي ترتب عليها ذلك الخير والثواب فضلاً منه ورحمة، وعلى إسدائه ما وصل إليه من عظيم المبرّات، فإن أريد بذلك الآخرة فقط كان الأمر والنهي في ذلك بمعنى الإخبار: أي: من وجد خيراً حمد الله عليه، ومن وجد غيره لام نفسه حيث لا ينفع الملام. وجاء في آيات الإخبار عن أهل الجنة بأنهم يحمدون الله وعن أهل النار بأنهم يلومون أنفسهم (ومن وجد غير ذلك) أي: شراً ولم يذكره بلفظه تعليماً لنا كيفية الأدب في النطق بالكتابة عما يؤذي، ومثله ما يستقبح ويستحي من ذكره، وإشارة إلى أنه إذا اجتنب لفظه فكيف الوقوع فيه، وإلى أنه تعالى حيّ كريم يحبّ الستر ويغفر الذنب فلا يعاجل بالعقوبة ولا يهتك الستر (فلا يلومن إلا نفسه) فإنها آثرت
شهواتها ومستلذاتها على رضا مولاها: فاستحقت أن يعاملها بمظهر عدله، وأن يحرمها مزايا جوده وفضله، نسأل الله العافية من ذلك، وأن يمن علينا بالسلامة من خوض غمرة هذه المهالك، إلى أن نلقاه آمنين، مبشرين بقربه ورضاه آمين. ووجه ختم الحديث بهذه الجملة التنبيه على أن عدم الاستقلال بالإطعام والستر لا يناقض التكليف بالفعل تارة وبالترك أخرى، لأنا وإن علمنا أن لا نستقل لكننا نحس بالوجدان للفرق بين الحركة الاضطرارية كحركة المرتعش والاختيارية كحركة التسليم، فهذه التفرقة راجعة إلى ممكن محسوس مشاهد وأمر معتاد يوجد مع الاختيار دون الاضطرار، وهذا هو مورد التكليف المعبر عنه بالكسب فلا تناقض ولا تعسف.
والحاصل أن المعاصي التي ترتب عليها العقاب وإن كانت بقدر الله وخذلانه فهي بكسب العبد فليلم نفسه لتفريطه بالكسب القبيح (قال سعيد) بن عبد العزيز (كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا) بالمثلثة بعد الجيم، أي: جلس (على ركبتيه) تعظيماً له وإجلالاً (رواه مسلم) وهو حديث عظيم رباني مشتمل على قواعد عظيمة في أصول الدين وفروعه وآدابه ولطيف الغيوب وغيرها، وقد ختم به المصنف أذكاره وبينت في «شرحه» حكمة ذلك، وقد أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي، وقد بسطت الكلام ثمة على بيان(2/337)
مخرّجيه واختلافهم في رواياتهم بما فيه بسط وطول (وروينا عن الإمام أحمد ابن حنبل قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث) .
قال السخاوي في «تخريج الأربعين» الحديث التي جمعها المصنف، وكذا قال أبو مسهر نفسه فيما حدث أبو الحسن على ابن إسحاق البحري المادراني عن أبي بكر محمدبن إسحاق الصغاني: شيخ مسلم فيه عنه.
12 - باب الحث بالمثلثة: أي: الحض (على الازدياد) افتعال من الزيادة وأبدلت المثناة الفوقية دالاً لوقوعها بعد الزاي (من الخير) أي: الطاعات والبر الموصلة إلى مرضاة الله عزّ وجل (في أواخر العمر) لأنه أوان الختام وبحسنه تحصل ثمرات الطاعات وبركات الحسنات.
(قال الله تعالى: {أو لم نعمركم} ) هو استفهام توبيخ وتقرير ( {ما يتذكر فيه من تذكر} ) ما موصولة: أي: المدة التي يتذكر فيها المتذكر، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة: أي: تعميراً أو زمناً يتذكر فيه من تذكر ( {وجاءكم النذير} ) .
قال البيضاوي: عطف على معنى «أو لم نعمركم» فإنه للتقرير كأنه قيل: عمرناكم وجاءكم النذير. (قال ابن عباس والمحققون) من المفسرين (معناه أو لم نعمركم ستين سنة، ويؤيده الحديث الذي سنذكره) أول أحاديث الباب (إن شاء الله تعالى) وعند ابن أبي حاتم عن عطاء مرفوعاً «إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين، وهو العمر الذي قال الله تعالى فيه: أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر» وكذا(2/338)
رواه ابن جرير والطبراني من طرق بعضها ضعيف كذا في أخبار الأعمال لابن فهد (وقيل: معناه) أو لم نعمركم (ثماني عشرة سنة) قال ابن الجوزي في «زاد المسير» ، قاله عطاء ووهب ابن منبه وأبو العالية وقتادة اهـ. قال قتادة: طول العمر حجة، فنعوذ با أن نغترّ بطول العمر قد نزلت هذه الآية: وإن فيم لابن ثماني عشرة سنة (وقيل: أربعين سنة قاله الحسن) أي: البصري ومحمدبن السائي (والكلبي ومسروق) بن سعيد، سمي بذلك لأنه سرق في صغره (ونقل) ذلك (عن ابن عباس أيضاً) أخرجه ابن جرير عن مجاهد عنه قال: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم أربعون سنة، واختاره ابن جرير ونقله غيره، وكأنه أخذه من قوله تعالى: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة} (الأحقاف: 15) (ونقلوا أن أهل المدينة كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة) تخلى عن العلائق والعوائق، و (تفرّغ للعبادة) وإلى هذا المعنى رمز بعضهم بقوله:
إذا العشرون من شعبان ولت
فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار
فقد ضاق الزمان عن الصغار
قال القرطبي في «التفسير» : قال ابن مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس حتى إذا بلغوا أربعين سنة تركوا المخالطة واشتغلوا بالعبادة حتى يأتيهم الموت (وقيل: هو البلوغ) أي: سنه. وهذا القول نقله البغوي والخازن في «التفسير» ولم يعينا قائله، وسنه عند إمامنا الشافعي خمس عشرة سنة وعند الإمام أبي حنيفة ثماني عشرة سنة. أما الاحتلام وإمكانه فهو بعد استكمال التسع، ويمكن حمل كلام المصنف عليه لو قيل به.
(وقوله تعالى) : {وجاءكم النذير} . (قال ابن عباس والجمهور) أي: جمهور العلماء ومنهم زيدبن علي وابن زيد، حكاه عنهما القرطبي ومنهم السريّ وهو الصحيح عن قتادة فيما رواه شيبان عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل وهو اختيار ابن جرير وهو(2/339)
الأظهر فقال هؤلاء: النذير «هو النبيّ» قال القرطبي: لأن الله تعالى بعثه بشيراً ونذيراً إلى عباده قطعاً لحجتهم، قال: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (وقيل) : هو (الشيب قاله) ابن عباس و (عكرمة و) سفيان (بن عيينة وغيرهما) كوكيع والحسينبن الفضل والفراء والطبري ذكره القرطبي. قلت: واقتصر عليه البخاري في كتاب الرقاق من «صحيحه» ، قال: والشيب نذير لأنه يأتي في سنّ الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب، قال:
رأيت الشيب من نذر المنايا
لصاحبه، وحسبك من نذير
112 - (والله أعلم) (وأما الأحاديث) النبوية.
(فـ) الحديث (الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: أعذر الله إلى امرىء) أي: شخص (أخر) بتشديد المعجمة (أجله حتى بلغ ستين سنة. رواه البخاري. قال العلماء: معناه) أزال عذره فـ (لم يترك له عذراً) يعتذر به في ترك صالح الأعمال (إذ أمهله هذه المدة) فالهمزة للسلب (يقال) في كلام العرب (أعذر الرجل) بالرفع (إذا بلغ الغاية في العذر) .
قال الحافظ العسقلاني: الأعذار إزالة العذر، والمعنى: أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول: لو مدّ لي في الأجل لفعلت ما أمرت به، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذٍ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية ونسبة الإعذار إلى الله تعالى مجازية، والمعنى: أن الله لم يترك للعبد سبباً للاعتذار يتمسك به. والحاصل أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد حجة. وقال التوربشتي: ومنه قولهم: أعذر من أنذر: أي: أتى بالعذر وأظهره وهذا مجاز من القول، فإن العذر لا يتوجه(2/340)
على الله وإنما يتوجه له على عبيده، وحقيقة المعنى فيه أن الله تعالى لم يترك للعبد شيئاً في الاعتذار يتمسك به اهـ.
113 - (الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر رضي الله عنه يدخلني مع أشياخ بدر) أحد جموع شيخ، وقد ذكرتها في أول هذا الشرح، والمراد منه ذوو الأسنان من الصحابة البدريين وهم من أفاضل الصحابة وأكارمهم: أي: يدخله معهم في المشورة والمهمات وإدخاله معهم مع كبر سنهم لكبر قدره بما عنده من العلوم والمعارف، وقد كان يسمى البحر لسعة علمه (فكأن) بتشديد النون (بعضهم) قال ابن النحوي: هو عبد الرحمنبن عوف كما صرح به البخاري في موضع آخر (وجد) غضب (في نفسه) من ذلك (فقال) له (لم) بتحريك الميم وهي ما الاستفهامية حذفت ألفها لأنها جرت وحقها أن ترسم بهاء السكت بعد الميم لأنها يوقف عليها كذلك (تدخل) بضم الفوقية وكسر الخاء المعجمة، وفي نسخة «يدخل» بفتح التحتية وضم المعجمة (هذا معنا، ولنا أبناء مثله) في السن، ويحتمل أن يكون في لقيّ النبي أيضاً بالنسبة لبعضهم (فقال عمر: إنه من حيث علمتم) أي: من بيت النبوّة ومنبح العلوم ومصدر الآراء السديدة، ثم أراد زيادة بيان لشرفه بكثرة علمه المقتضي لتقدمه (فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت) علمت بقرائن الأحوال، وفي أصل متعمد من «صحيح البخاري» «فما أريته» بصيغة المجهول واتصل الضمير به أي ظننته (أنه دعاني يومئذٍ إلا ليريهم) بضم التحتية الأولى: أي: يعلمهم (مني) ما أستحق به الإدخال مع الشيوخ البدريين، زاد في رواية ابن سعد «فقال: أما إني سأريكم اليوم منه ما تعرفون به فضله» (فقال: ما تقولون في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} (النصر: 1) ، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد ا) بفتح النون والميم (ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا) جعل هذا القائل(2/341)
الخطاب بالسورة شاملاً لجميع الأمة (وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي) عمر (أكذلك) أي: كما يقول هؤلاء مما ذكر (تقول يابن عباس؟ فقلت لا) أي: لا أقول ذلك (قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله له) أي:
للنبيّ: أي: إن المراد من السورة تنبيهه على ما يعرف به قرب أجله وعلى ما يأتي به حينئذٍ (قال تعالى: {إذا جاء نصر ا} ) نبيه على أعدائه ( {والفتح} ) فتح مكة، وقيل: المراد جنس نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم ( {ورأيت} ) أي: أبصرت ( {الناس يدخلون في دين ا} ) أي: الإسلام ( {أفواجا} ) جماعات بعد ما كان يدخل فيه واحد بعد واحد وذلك بعد فتح مكة (وذلك) أي: النصر وما بعده (علامة) قرب انتهاء (أجلك) .
قال البيضاوي في «التفسير» : لعل ذلك لدلالتها على تمام الدعوة وكمال أمر الدين، فهي كقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: 3) أو لأن الأمر بالاستغفار ينبه على دنوّ الأجل: أي: لأنه يكون في خواتم الأمور، ولذا كان يستغفر بعد صلاته، وإذا خرج من الخلاء وإذا أفاض ولذا سميت سورة التوديع. والأكثر على أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة وأنه نعي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. قال أبو حيان في «النهر» : قيل: نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع فعاش بعدها ثمانين يوماً. وفي «شرح البخاري» لابن النحوي بعد نقله عنبن التين أنها لعلها نزلت جميعاً، أي: كاملة منصرفه من حنين، قاله الواحدي، قال: وعاش بعد نزولها سنتين، قال: وهو غريب كأنه تصحيف، والذي رواه غيره ستين يوماً. قال في «فتح الباري» : وسئلت عن قول «الكشاف» : إن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق فكيف صدرت بإذا الدالة على الاستقبال؟ فأجبت بتضعيف ما نقله، وعلى تقديم صحته فالشرط لم يكمل بالفتح، لأن مجيء الناس أفواجاً لم يكن كمل فبقية الشرط مستقبل. قال: وقد أجاب الطيبي عن هذا السؤال بجوابين: أن إذا بمعنى إذ، وبأن كلام الله تعالى قديم.
قال الحافظ: وفي كل(2/342)
من الجوابين نظر اهـ. قال الإيجي: وقيل: إن فتح مكة أم الفتوح والدستور لما يكرون بعده من الفتوحات فهو وإن كان متحققاً في نفسه لكنه مترقب باعتبار ما يدل عليه (فسبح بحمد ربك) أي: متلبساً (واستغفره إنه كان توّاباً) على العباد، وكان بعد نزول هذه السورة يكثر من قوله: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي» وفي رواية «أستغفرك وأتوب إليك» كما يأتي في الحديث عقبه (فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. رواه البخاري) والترمذي، أي: فأشار إلى أن سبب تقديمه له على إخوانه وأقرانه هو سعة علمه وكمال فهمه، وأن التقدم بالمعنى المقتضي له وإن صغر السن: ما أحسن ما قيل:
فكم من صغير لاحظته عناية
من الله فاحتاجت إليه الأكابر
114 - (الثالث، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة بعد أن نزلت) بالبناء للفاعل، وفي نسخة أنزلت بزيادة الهمزة أوله مبنياً للمفعول (عليه سورة إذا جاء نصر الله والفتح) وتسمى سورة النصر (إلا يقول فيها) أي: في ركوعها وسجودها كما يأتي في الحديث بعده (سبحانك) أي: تنزيهاً لك عما لا يليق بك من كل نقص، وسبحان منصوب على أنه واقع موقع المصدر بفعل محذوف تقديره: سبحت سبحانك، ولا يستعمل إلا مضافاً وهو مضاف إلى المفعول: أي: سبحتك، ويجوز أن يكون مضافاً للفاعل: أي: نزهت نفسك كما تقدم (اللهم) يا أ (وبحمدك) الواو للحال ومتعلق الظرف محذوف: أي: متلبساً بحمدك من أجل توفيقك لي، وقيل: عاطفة لجملة على جملة: أي: أنزهك وأتلبس بحمدك، وقيل: زائدة: أي: أسبحك مع ملابسة حمدك: وقدم التسبيح على التحميد لأنه تنزيه عن النقائص، والحمد ثناء بصفات الكمال، والتخلية مقدمة على التحلية (اللهم اغفر لي) أي: ما هو نقص بالنظر إلى عليّ مقامي وإن لم يكن ذنباً في نفس الأمر، إذ الأنبياء(2/343)
معصومون من الذنب مطلقاً كما تقدم، وتقدم وجه آخر في بيان المطلوب غفرانه (متفق عليه. وفي رواية في «الصحيحين» عنها) أيضاً (كان رسول الله) الأصح كما نقله المصنف في «شرح مسلم» عن المحققين والأكثرين من الأصوليين أنّ «كان» في مثل هذا المقام لا تفيد التكرار. وقال ابن الحاجب: تفيده وكذا ابن دقيق العيد لكن قال عرفاً وهو واضح (يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا) أي: يا ربنا، أو بدل من قوله اللهم، لا وصف له، لأن الميم تمنع منه عند سيبويه (وبحمدك اللهم اغفر لي) وتقدم وجه عدم أخذ الفقهاء بقضية هذا الحديث حيث قالوا: إنه يقول في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى، دون ما ذكر في هذا الحديث من أن ما ذكروه هو ما واظب عليه طول عمره وغيره مما ضمه إليه تارة واقتصر عليه أخرى، كان في بعض الأوقات
(يتأول) بفتح التحتية والفوقية والهمزة وتشديد الواو (القرآن، معنى) قولها (يتأول القرآن أي) أي: هذه تفسيرية وما بعدها عطف بيان لما قبلها أو بدل منه فلا يظهر موقعها فإن قوله: (يعمل ما أمر به في القرآن في قوله: فسبح بحمد ربك واستغفره) خبر عن «معنى» لا بدل من قولها يتأول القرآن، إلا أن يخص كون ما بعدها عطف بيان أو بدلاً بما إذا كان مفرداً كما أشرت إليه في شرح نظمي قواعد الإعراب، وقوله: «في قوله الخ» بدل بعض من كل.
وقال الحافظ العسقلاني: معنى يتأول القرآن يخص عمومه ببعض الأحوال. (وفي رواية لمسلم عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول قبل أن يموت) أي: بعد نزول هذه السورة (سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك) هذا من مزيد خضوعه لربه وانطراحه بين يديه ورؤية التقصير في أداء مقام العبودية وحق الربوبية مما هو ذنب بالنظر إلى عليّ مقامه ورفعة مرتبته. وهذا الحديث والذي بعده فيه إبقاء الأمر في الآية على التعميم وعدم التأول بالتخصيص السابق، وهو لا يخالفه للإكثار منه في الصلاة وخارجها. وفي جمعه بين الاستغفار والتوبة احتياط، لأن الاستغفار محتمل لكل من لمعنيين، ويقرب حمله على(2/344)
التوبة قوله: {إنه كان توّاباً} (النصر: 3) وفيه دليل لمن قال بجواز حمل اللفظ على معنييه دفعة واحدة (قالت عائشة: قلت يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك حد تقولها؟) في محل الحال من مفعول أحدثتها (قال جعلت) بالبناء للمفعول (لي علامة في أمتي فإذا رأيتها) بصرتها أو عرفتها (قلتها) والعلامة المذكورة هي (إذا جاء نصر الله والفتح لي آخر السورة) ويحتمل أن قوله: «إذا جاء نصر الله الخ» في محل رفع تابع لعلامة على أنه عطف بيان أو بدل، ويجري هذان الوجهان في نظيره الآتي (وفي رواية له) أي: لمسلم (عنها) وروا أبو نعيم في «مستخرجه» إلا أنه قال: سبحان ربي، وليس فيه وأتوب إليه (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، قالت: قلت يا رسول الله أراك) أي: أبصرك حال كونك (تكثر من قولك سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، فقال: أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت) بضم التاء فيهما (من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه) أي: وإكثار ذلك عند رؤيا العلامة إما باعتبار عظم النعمة المرتب عليها ذلك المقتضى للتكثير زيادة في العظم، أو باعتبار صيغة التفعيل في سبح وهي للكثرة
واستحبّ ذلك فيما عطف عليه لاقترانه به ولقوله: {إنه كان توابا} المعلل به طلب الاستغفار (فقد رأيتها) ثم بين العلامة بقوله: ( {إذا جاء نصر الله والفتح} فتح مكة {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره(2/345)
إنه كان توّابا} ) .
115 - (الرابع: عن أنس رضي الله عنه قال: إن الله عزّ) غلب فلا يغالب على مراده (وجل) عما لا يليق بشأنه (تابع الوحي على رسول الله) فيه الإظهار في مقام الإضمار إشارة إلى كمال التشريف له وتبركاً بذكر اسمه تعالى وتلذذاً به (قبيل) بالتصغير (وفاته) وذلك لتكمل الشريعة ولا يبقى مما يوحي إليه به شيء (حتى) غاية للمبالغة (توفي) بالبناء للمجهول (أكثر ما كان الوحي) أي: وقت أكثريته ولما تكامل ما أريد إنزاله للعالم مما به انتظام معاشهم ومعادهم قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: 3) فتوفي بعده بأشهر (متفق عليه) .
116 - (الخامس: عن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يبعث) بالبناء للمفعول (كل عبد) والمراد منه المكلف ولو حراً وامرأة كما تقدم (على ما مات عليه) حتى يبعث صاحب المزمار ومزماره في يده، ففيه تحريض للإنسان على حسن العمل وملازمة السنن المحمدي في سائر الأحوال والإخلاص تعالى في الأقوال والأعمال، ليموت على تلك الحالة الحميدة فيبعث كذلك. وفي ختم المصنف هذا الباب بهذا الحديث كمال الحسن، فإنه محرّض على تحسين العمل والازدياد من الطاعات في سائر الأوقات لاحتمالها(2/346)
للموت، وفي أواخر العمر وسنّ الكبر وحال المرض أولى، فالحديث المذكور واسطة العقد وختامه مسك (رواه مسلم) ورواه ابن ماجه.
13 - باب في بيان كثرة طرق الخير
وتنويعها ليدوم نشاط السالك وجده في المعاملات، فإذا ملَّ من عمل اشتغل بغيره فأنفق أوقاته في مرضاة مولاه.
(قال الله تعالى: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} (البقرة: 215) وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} ) (الزلزلة: 7) تقدم الكلام فيهما في باب المجاهدة.
(وقال تعالى: {من عمل صالحاً} ) وجه دلالة الآيات على كثرة أعمال البرّ أن في كل منها نكرة في سياق الشرط وهي كذلك للعموم. والأصح أن العموم في قوة قضايا كلية تعددت بتعدد أفرادها ( {فلنفسه} ) أي: فنفع عمله لها (والآيات) القرآنية (في الباب) أي: باب تعدد طرق الخير (كثيرة) .
(وأما الأحاديث) النبوية في هذا المعنى (فكثيرة جداً) بالكسر: أي: بلغت النهاية في الكثرة، وأكد ذلك بقوله: (وهي غير منحصرة) مبالغة في الكثرة، وهذا فيه تجوّز كما لا يخفي (فنذكر طرفاً منها) أي: جانباً.
117 - الحديث الأول: (عن أبي ذر جندببن جنادة رضي الله عنه قال: قلت يا(2/347)
رسول الله أي الأعمال أفضل؟) أي: أكثر ثواباً عند الله تعالى (قال: الإيمان با) إذ جزاؤه الخلود في الجنان ورضا الرحمن ولا شيء فوق ذلك (والجهاد في سبيله) لإعلاء كلمته. قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة: 111) (فقلت: أيّ الرقاب أفضل؟) أي: أكثر ثواباً لمن أعتقها (قال: أنفسها) بفتح الفاء: من النفاسة (عند أهلها) أي: أرفعها وأجودها، يقال مال نفيس: أي: مرغوب فيه (وأكثرها ثمناً) عندهم لأن ذلك أحبّ إليهم وقد قال تعالى: {لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: 92) قال المصنف: وهذا إذا أراد أن يعتق رقبة، أما لو كان معه ألف درهم وأمكنه أن يشتري بها رقبتين مفضولتين ورقبة نفيسة مثمنة قال: فتنتان أفضل، وهذا بخلاف الأضحية فإن التضحية بسمينة أفضل منها بشاتين دونها في السمن، لأن القصد من الأضحية اللحم ولحم السمين أوفر، ومن العتق تكميل حال الشخص وتخليصه من الرق، فتخليص جماعة أفضل من تخليص واحد اهـ ملخصاً. وقال الحافظ في «الفتح» : الذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، قرب شخص واحد إذا عتق انتفع بالعتق وانتفع به أضعاف ما يحصل من النفع بعتق أكثر عدداً منه، وربّ محتاج إلى كثرة اللحم لتفرقته على المحاويج الذين ينتفعون به أكثر مما ينتفع هو بطيب اللحم. والضابط أنه مهما كان أكثر نفعاً كان أفضل سواء قلّ أو كثر اهـ. (قلت: فإن لم أفعل) أي: ما ذكر من الجهاد والعتق لا الإيمان لأنه شرط لنيل الثواب في الآخرة على صالح الأعمال: أي: فإن لم أقدر على ذلك فأطلق الفعل وأراد القدرة. وللدارقطني في «الغرائب» بلفظ «فإن لم أستطع» (قال: تعين صانعاً) بتنزيل المضارع منزلة المصدر أو بتقدير أن قبل الفعل: أي: فالأفضل إعانة صانع، فهو كقوله: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه (أو تصنع) أي: صنعك (لأخرق) بالمعجمة
فالراء فالقاف.
قال المصنف في «شرح مسلم» : هو الذي ليس بصانع يقال رجل أخرق وامرأة خرقاء، فإن كان صانعاً حاذقاً قيل: رجل صنع بفتح الصاد والنون، وامرأة صناع بفتح الصاد (قلت: يا رسول الله(2/348)
أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟) المذكور من الإعانة والصنع أو مطلق العمل المأمور بالتعبد به: أي: أخبر إن عجزت عن فعل ذلك فما الطريق الموصل إلى تزايد الثواب على شيء مما أقدر عليه؟ (قال: تكفّ شرك عن الناس) قاصداً سلامة الناس من ذلك لامتثال أمر الله تعالى بذلك، وهذا شرط في حصول الأجر هنا (فإنها) أي: الخصلة أو الكفّ، وأنث الضمير نظراً لتأنيث الخبر (صدقة منك على نفسك. متفق عليه) وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري «قال: فقلت فأيّ الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها» الحديث، وأعلاها بالمهملة عند الأكثر وبالمعجمة عند آخرين، ولفظ البخاري بدل قوله: «أرأيت إن ضعفت عن العمل إلخ» فإن لم أفعل، قال: تدع الناس من الشرّ فإنها صدقة تتصدق بها على نفسك» (الصانع) في قوله: تعين صانعاً (بالصاد المهملة) وبالنون بعد الألف (هذا) الضبط (هو) الصحيح عند العلماء كما في «شرح مسلم» (المشهور) أي: بينهم في الضبط لصحته وإلا فالأكثر على أنه بالمعجمة كما ذكره في «شرح مسلم» أيضاً؛ وأشار إليه هنا بقوله: (وورد ضائعاً بالمعجمة) والهمزة بعد الألف (أي ذا) أي: صاحب (ضياع) بكسر الضاد من الضيعة: الفقر والحاجة (من) تعليلية (فقر أو عيال أو نحو ذلك) وهذا تفسير له على الرواية الثانية.
قال القاضي عياض: روايتنا في هذا من طريق هشام أولاً بالمعجمة تعين ضائعاً من جميع طرقنا عن مسلم في حديث هشام والزهري إلا من رواية أبي الفتح السمرقندي عن عبد الغافر الفارسي فإن شيخنا أبا بحر حدثنا عنه بالمهملة وهو صواب الكلام لمقابلته بالأخرق وإن كان المعنى من جهة معونة الضائع أيضاً صحيحاً لكن صحت الرواية هنا عن هشام بالصاد المهملة، وكذا رويناه في «صحيح البخاري» .j قال ابن المديني: الزهري يقول الصانع بالمهملة، ويرى أن هشاماً صحف في قوله ضائعاً بالمعجمة. وقال الدارقطني عن معمر: كان الزهري يقول صحف هشام، قال الدارقطني وكذلك رواه أصحاب هشام عنه بالمعجمة وهو تصحيف، والصواب ما قاله الزهري، هذا كلام القاضي عياض. وقال الشيخ أبو عمروبن الصلاح: قوله: في رواية هشام تعين صانعاً هو بالمهملة والنون في أصل الحافظين: أبي عامر العبدري، وأبي القاسمبن عساكر، قال: وهذا هو الصحيح في نفس الأمر، ولكنه ليس رواية هشامبن عروة، وإنما روايته بالمعجمة، وكذا(2/349)
جاء مقيداً من غير هذا الوجه في كتاب مسلم ونسب الزهري هشاماً إلى التصحيف كما تقدم اهـ ما ذكره المصنف في «شرح مسلم» ملخصاً. وقال الحافظبن حجر في «الفتح» : هو عند جميع رواة البخاري بالضاد المعجمة وبعد الألف تحتية كما جزم به عياض وغيره، وكذا هو في رواية مسلم إلا في رواية السمرقندي كما قاله عياض أيضاً، وجزم الدارقطني وغيره بأن هشاماً رواه هكذا دون من رواه عن أبيه. فإذا تقرّر هذا فقد خبط من قال من شراح البخاري إنه بالصاد المهملة والنون، فإن هذه الرواية لم تقع في شيء من طرقه. وروى الدارقطني من طريق معمر عن هشام هذا الحديث بالضاد المعجمة. قال معمر: كان الزهري يقول: صحف هشام وإنما هو بالصاد المهملة والنون.
قال الدارقطني: وهو الصواب لمقابلته بالأخرق وهو الذي ليس بعامل ولا يحسن العمل. وقال عليبن المديني: يقولون إن هشاماً صحف فيه ورواية معمر عن الزهري عند مسلم كما تقدم، وهي بالمهملة والنون، وعكس السمرقندي فيها أيضاً كما نقله عياض، وقد وجهت رواية هشام بأن المراد بالضائع ذو الضياع من فقر أو عيال فترجع إلى معنى الأول اهـ. (والأخرض الذي لا يتقن ما يحاول فعله) هو بمعنى ما تقدم عن «شرح مسلم» لأن من لا يتقن الصنعة ليس بصانع.
118 - (الثاني: عن أبي ذرّ أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يصبح على كل سلامى) أي: كل عظم ومفصل (من أحدكم) إذا أصبح سليماً من الآفات باقياً على الهيئة التي تتم بها منافعه وأفعاله (صدقة) عظيمة شكراً تعالى على عظيم منته، على أن الصدقة تدفع البلاء، فبوجودها عن أعضائه يرجى دوام اندفاع البلاء عنها، و «على» في الخبر لتأكيد الندب وهو مراد من عبر بالوجوب في قوله: التقدير تصبح الصدقة واجبة على كل سلامى، إذ كل من الصدقات وما ناب عنها من صلاة الضحى ليس واجباً حقيقة: أي: يأثم بتركه (فكل تسبيحة(2/350)
صدقة) الفاء فيه تفصيلية لإجمال الصدقة قبله، وبه استغنى عن تعداد المفاصل بناء على أنها المراد من السلامى كما يأتي. وأيد بأنه روى أحمد وأبو داود عن بريدة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه صدقة، قال: ومن يطيق ذلك يا نبي ا؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها صدقة، والشيء تنحيه عن الطريق صدقة، فإن لم تجد فركعتا الضحى تجزيك» وروى مسلم نحوه عن عائشة رضي الله عنها الحديث الآتي بعد هذا (كل تحميدة) أي: ثناء على الله تعالى بأوصافه العلية نحو الحمد (صدقة، وكل تهليلة) أي: قول: لا إله إلا الله (صدقة، وكل تكبيرة) أي: قول الله أكبر (صدقة، وأمر) بالجر عطف على مدخول كل (بالمعروف) ما أمر به الشرع (صدقة، ونهي عن منكر) وهو ما أنكره الشرع (صدقة) وحكمة إسقاط كل قبل أمر ونهي مع أنهما نوعان غير ما قبلهما: الإشارة إلى ندرة وقوعهما بالنسبة إلى ما قبلهما لاسيما المعتزل عن الناس، ويصح رفع أمر ونهي عطفاً على كل وخبرهما معطوف على خبرها وحينئذٍ فيكون من عطف معمولين على معمول عاملين مختلفين، أو كل منهما مبتدأ خبره ما بعده والواو لعطف الجمل أو استئنافية، لأن هذا نوع غير ما قبله، إذ هو فيما تعدى نفعه وما قبله نفعه قاصر وسوّغ الابتداء به مع نكارته
تخصيصه بالعمل في الظرف بعده، ونكر إيذاناً بأن كل فرد من أفرادهما صدقة، ولو عرفا لاحتمل أن المراد الجنس أو فرد معهود فلا يفيد النص على ذلك، ثم سكت في الحديث عن التعرّض للصدقة الحقيقية أي إخراج المال تقرّبا إلى الله تعالى لوضوحها، بخلاف ما ذكر في الخبر فإن في تسميته صدقة وإجزائه عن الصدقة الحقيقية المتبادر إرادتها من ظاهر الخبر خفاء، وسيأتي أن هذا الإطلاق مجازي، وبيان علاقة المجاز في حديث أبي ذرّ المذكور بعد في الباب، وليس المراد حضر أنواع الصدقة بالمعنى الأعم فيما ذكر في الخبر بل التنبيه على ما بقي منها، ويجمعها كل ما فيه نوع نفع للنفس أو غيرها (ويجزىء) قال العراقي في «شرح التقريب» : يجوز فتح أوله بغير همز آخره وضمه مع همزه، فالفتح من جزى يجزي أي كفى، والضم من الإجزاء وبهما ضبط في هذا الحديث اهـ. (من ذلك) أي: عما ذكر أو بدله (ركعتان يركعهما من) صلاة(2/351)
(الضحى) وظاهر الخبر إجزاؤهما عما ذكر قبله وإن تمكن منه، لكن في خبر عند أبي داود تقييد الإجزاء عن ذلك بعدم الوجدان. وجمع بأن ما في خبر أبي داود محمول على الحال الأكمل والعمل الأفضل، إذ لا يبعد أن يكون الإتيان بثلثمائة وستين صدقة أفضل من ركعتي الضحى وإن كانت الصلاة أفضل الأعمال وما في خبر الباب بالنسبة لأصل الاكتفاء؛ وظاهر أن الذي تقوم ركعتا الضحى مقامه من الأمر بالمعروف وقرينه إنما هو المندوب كأن قام بالفرض منه غير وكان في كلامه تأكيد لذلك الأمر وتقوية له، وأما الواجب فلا تقوم الركعتان مقامه ولا ترفعان عنه إثم الترك.
وفي الحديث عظم فضل صلاة الضحى لتحصيلها هذا الثواب الجزيل وقيامها مقام هذه الأفعال، فينبغي المداومة عليها، وكان سبب قيامها مقام ذلك لاشتمال الركعتين على جميع ما تقدم حتى الأخيرين إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا منع من تخصيص ذلك بصلاة الضحى دون نحو ركعتي الفجر على ما قاله الوليّ العراقي، وإن كان المعنى المذكور موجوداً فيهما لأن للشارع نظراً خاصاً في الأعمال باعتبار أوقاتها وأمكنتها، ولعل من جملة وجوه اختصاصها بذلك بمحضها للشكر بخلاف نحو الرواتب فإنها لجبر نقص الفرائض فلم يتمحض فيها القيام بالشكر على تلك النعم الباهرة (رواه مسلم) وأخرجه أبو داود والنسائي وأبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان (السلامى بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم) في «النهاية» أنها جمع سلامية: وهي الأنملة من أنامل المفصل، وقيل: جمعه ومفرده واحد ويجمع على سلاميات اهـ (المفصل) بكسر أوله وفتح ثالثه المهمل، وتفسيرها بالمفصل لوروده في محل السلامى، والمراد بها العضو وعليه اقتصر في «الأذكار» . وفي «النهاية» : قيل: هي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل: كل عضو مجوّف من عظام الإنسان، وقيل: إن آخر ما يبقى فيه المخ من البعير إذا عجف السلامى والعين، وقيل: غير ذلك. وظاهر أن ما ذكر في بيان معناه لغة، وإلا فالمراد منه هنا كما قال المصنف في «شرح مسلم» سائر عظام البدن ومفاصله، وكذا قال العراقي وأيده بخبر مسلم «خلق الإنسان على ستين وثلاثمائة مفصل، ففي كل مفصل صدقة» وسيأتي فيه زيادة في باب الإصلاح بين الناس.
119 - (الثالث: عنه رضي الله عنه قال: قال النبيّ: عرضت) بالبناء للمفعول (عليّ) بتشديد الياء(2/352)
(أعمال أمتي حسنها وسيئها) بدل مما قبله بدل مفصل من مجمل (فوجدت) أي: رأيت (في محاسن أعمالها الأذى) كالحجر والشوك (يماط) بالبناء للمفعول: أي: ينحى (عن الطريق) لئلا يؤذي المارة، ففيه التنبيه على فضل كل ما نفع الناس أو أزال عنهم ضرراً (ووجدت في مساويء) بفتح الميم: أي: سيئات (أعمالها) السيئة، فهو من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف (النخاعة) قال في «مختصر النهاية» : وهي البزقة التي تخرج من أصل الفم مما يلي النخاع؛ والنخامة: البزقة التي تخرج من أقصى الحلق من مخرج الخاء المعجمة اهـ. (تكون في المسجد) في محل الصفة أو الحال لأن أل في النخاعة للماهية (فلا تزال) بدفن أو كشط، قال المصنف: ظاهره أن الذمّ لا يختص بصاحب النخاعة وإن كان إثمه أكثر بل يدخل فيه هو وكل من رآها ولا يزيلها.
فائدة: قال ابن رسلان: سمعت من بعض المشايخ أنه ينبغي لمن أزال قذاة أو أذى عن طريق المسلمين أن يقول عند أخذه لإزالتها: لا إله إلاالله، ليجمع بين أدنى شعب الإيمان وأعلاها وهي كلمة التوحيد، وبين الأفعال والأقوال، وإذا اجتمع القلب مع اللسان كان ذلك أكمل (رواه مسلم) في «الجامع الصغير» بعد إيراده كذلك إلا أنه قال: «ورأيت في سيء أعمالها النخاعة في المسجد فلم تدفن» رواه أحمد ومسلم وابن ماجه.
120 - (الرابع عنه: أن أناساً) هذا أصل ناس وتحذف همزته ويعوض عنها أل ولذا لا يجمع بينهما وهو اسم جمع كرجال، إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع، مأخوذ من أنس كعلم لأنهم يأنسون بأمثالهم، أو أنس كضرب لأنهم ظاهرون مبصرون. واختار صاحب «القاموس» أن لفظ الناس قد يقع على الجن أيضاً ونوزع فيه، وذكر المصنف في «الأربعين» وصف الناس بأنهم من أصحاب النبيّ وسكت عن ذلك هنا لعلمه من السياق، فإن سؤالهم له المتفرّع على اجتماعهم مسلمين به وهو المراد من الصحابي، يدل عليه (قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور) لكثرة أعمالهم (فإنهم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم(2/353)
ويتصدقون بفضول أموالهم) أي: بأموالهم الفاضلة عن كفايتهم وقيدوا بذلك بياناً لفضل الصدقة؛ فإنها بغير الفاضل عن الكفاية لمن لا قدرة له على الصبر إما مكروهة أو محرمة على التفصيل المقرر في محله، وقولهم المذكور غبطة ومنافسة فيما يتنافس فيه المتنافسون من طلب مزيد الخير ومنتهاه لشدة حرصهم على العمل الصالح ورغبتهم فيه، ولما فهم منه ذلك (قال) : لهم جواباً وجبراً لخاطرهم وتقريراً لأنهم ربما ساووا الأغنياء (أو ليس) أي: أتقولون ذلك؟ فالهمزة للإنكار وليس بمعنى لا: أي: لا تقولوه فإنه (قد جعل الله لكم ما تصدقون) بتشديد الصاد والدال كما هو الرواية: أي: ما تتصدقون فأدغمت إحدى التاءين في الصاد وقد تحذف إحداهما فتخفف الصاد (به، إنّ) لكم (بكل تسبيحة) أي: قول «سبحان ا» أي: بسببها كقوله تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} (الزخرف: 72) (صدقة) ولا تنافي الحديث السابق في باب الاستقامة «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» الحديث لما تقدم فيه، أو لأن الآية في نيل الدرجات فهي بسبب الأعمال وتفاوتها، وذلك الحديث في أصل دخول الجنة فهو لمحض الفضل إذ لا يكافئه عمل، أو أن الإسلام هو المتكفل بدخول الجنة وهو محمل الآية، وبقية الأعمال سبب في نيل درجاتها لا في دخولها
وهو محمل الحديث (وكل) بجره وكذا ما بعده عطفاً على ما قبله أو رفعه استئنافاً (تكبيرة) أي: قول «اأكبر» (صدقة) بنصبه كالذي بعده عطفاً على ما قبله ورفعه استئنافاً (وكل تحميدة) أي: قول «الحمد» (صدقة مسوّغ الابتداء مع نكارته وإيثارها على تعريفه (بالمعروف) عرفه إشارة إلى تقرره وثبوته وأنه مألوف (صدقة، ونهي عن منكر) نكره إشارة إلى أنه في حيز العدم والمجهول الذي لا إلف للنفس به: أي: عن المنهي عنه شرعاً بشرطه ككونه مجمعاً على تحريمه أو يعتقده الفاعل (صدقة) وتسمية ما ذكر وما يأتي صدقة مجاز لمشابهتها لها: أي: أن لهذه الأشياء أجراً كأجر الصدقة في الجنس، لأن الجميع صادر عن رضا الله تعالى مكافأة على طاعته إما في القدر أو الصفة، فيتفاوت بتفاوت مقادير(2/354)
الأعمال وصفاتها وغاياتها وثمراتها. وقيل: معناه: أنها صدقة على نفسه، وتأخير الأمر والنهي عما قبلهما من باب الترقي لوجوبهما عيناً أو كفاية بخلافه. ولا شك أن الواجب بقسميه أفضل من النفل لحديث البخاري السابق «وما تقرّب إليّ عبدي بأفضل من أداء ما افترضته عليه» قيل: في الحديث إيماء إلى أن الصدقة للقادر عليها لتعدي نفعها أفضل من هذه الأذكار، ويؤيده أن العمل المتعدي نفعه أفضل من القاصر غالباً وإلى أن تلك الأذكار إذا حسنت النية فيها ربما يساوي أجرها أجر الصدقة بالمال سيما في حق العاجز عنها (وفي) سببية بمعنى الباء الموحدة كهي في حديث «عذبت امرأة بالنار في هرّة» أي: بسبب هرّة ويحتمل بقاؤها على الظرفية لكن يتجوزّ، كأن البضع لما ترتب عليه الثواب الآتي صار له كالظرف (بضع) بضم الموحدة وسكون الضاد المعجمة آخره عين مهملة: أي: فرج أو جماع (أحدكم) لحليلته (صدقة) إذا قارنته نية صحيحة كإعطاف نفسه أو زوجته عن نحو نظر أو فكر أو همّ محرم، أو قضاء حقها من معاشرتها بالمعروف المأمور به، أو طلب ولد يوحد الله تعالى أو يتكثر به المسلمون، أو يكون له فرطاً إذا مات بصبره
على مصيبته، فعلم أن في النية الصالحة ما يصير المباضعة صدقة على المسملين باعتبار ما ينشأ عنها من وجود ولد صالح يحمي بيضة الإسلام أو يقوم ببيان العلوم الشرعية والأحكام.
ويستفاد من الحديث أن جميع أنواع فعل الخير والمعروف والإحسان صدقة، ويوافقه خبر مسلم «كل معروف صدقة» وخبر ابن ماجه والبزار «ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا فيها صدقة يمنّ بها على من يشاء من عباده، وما منّ الله على عبد مثل أن يلهمه ذكره» (قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟) استبعدواـ نظراً إلى أن الأجر إنما يحصل غالباً في عبادة شاقة على النفس مخالفة لهواهاـ حصوله بفعل هذا المستلذ (قال: أرأيتم) أي: أخبروني (لو وضعها في حرام أكان عليه وزر) أي: إثم، وتقدير الكلام «قالوا نعم» وسكت عنه لظهوره، وجاء في رواية أحمدبن حنبل وأحمدبن منيع وغيرهما لهذا الحديث عن أبي ذرّ التصريح بذلك. قال «قلت: نصيب شهوتنا وتؤجر؟ قال: أرأيت إن وضعته في غير حقه ما كان عليك وزر؟ قال: قلت بلى، قال: فتحتسبون بالشرّ ولا تحتسبون بالخير» قال: (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) بالرفع وروي بنصبه وهما ظاهران وظاهر الخبر(2/355)
حصول الأجر بوطء حليلته مطلقاً لكن في خبر عند الإمام أحمد تقييد ذلك بما تقدم من النية الصالحة.
وفي الحديث دليل لجواز القياس سيما قياس العكس المذكور فيه وهو إثبات ضد الحكم لضد الأصل كإثبات الوزر المضاد للصدقة للزنى المضاد للوطء المباح: أي: كما يأثم في ارتكاب الحرام ويؤجر في فعل الحلال ومخالفة بعض الأصوليين في قياس العكس ضعيفة وأهل الظاهر في القياس من أصله أو في غير الجلي منه مخالف لما أطبق عليه العلماء كافة من جوازه مطلقاً بشرطه المقرر في الأصول (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وأبو عوانة والطبراني والبيهقي وطرقهم مختلفة بينها السخاوي في «تخريج الأربعين» التي جمعها المؤلف، وهو حديث عظيم لاشتماله على قواعد نفيسة من قواعد الدين (الدثور) بضم الدال المهملة (بالثاء المثلثة الأموال) الكثيرة (واحدها دثر) بفتح فسكون يوصف به الواحد وما فوقه، يقال مال دثر وأموال دثر.
121 - (الخامس: عنه) رضي الله عنه (قال: قال لي النبيّ: لا تحقرنّ) بكسر القاف أي: تستقل (من المعروف شيئاً) فتتركه لقلته فقد يكون سبب الوصول إلى مرضاة الله تعالى كما في الحديث «وإن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات» رواه أحمد والبخاري من حديث لأبي هريرة مرفوعاً (ولو) كان ذلك المعروف (أن تلقي أخاك بوجه طلق) بفتح المهملة وكسر اللام (رواه مسلم) وفي رواية لمسلم أيضاً «طليق» بزيادة ياء وهما بمعنى: أءَ: بوجه ضاحاك مستبشر، وذلك لما فيه من إيناس الأخ المؤمن ودفع الإيحاش عنه وجبر خاطره، وبذلك يحصل التأليف المطلوب بين المؤمين.
122 - (السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كل سلامى) أي:(2/356)
مفصل وجزء (من الناس عليه) أي: على صاحبه: أي: الإنسان المكلف حق مؤكد في أداء شكر سلامة ذلك (صدقة) بعدد المفاصل، وذكر الضمير مع أنه عائد على سلامى المؤنثة باعتبار العضو أو المفصل، أو على أنه عائد على صاحب مقدر قبل سلامى لا لرجوعه لكل كما قيل به لأنها بحسب ما تضاف إليه وهي هنا أضيفت لمؤنث فلو رجع إليها لأنث (كل يوم تطلع) بضم اللام (فيه الشمس) أتى به دفعاً لتوهم الاكتفاء في أداء شكر نعم هذه الأعضاء بالإتيان بما في حديث مرة، فنبه على أن ذلك مطلوب من الإنسان كل يوم شكراً لسلامتها فيه (تعدل) بالفوقية في محل المبتدأ، وكذا الفعلان الآتيان بعده بالوجهين السابقين في قوله تعين صانعاً: أي: عدلك (بين الاثنين) المتهاجرين أو المتخاصمين أو المتحاكمين بأن تحملهما لكونك حاكماً أو محكماً أو مصلحاً بالعدل والإنصاف والإحسان بالقول والفعل على الصلح الجائز، وهو كما في الحديث الذي لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً (صدقة) عليهما لوقايتهما مما يترتب على الخصام من قبيح الأقوال والأفعال، ومن ثم عظم فضل الصلح وجاز الكذب فيه مبالغة في وقوع الألفة بين المسلمين (وتعين الرجل) أي: إعانتك إياه (في دابته فتحمله عليها أو) للتنويع (ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة) وهي كل ذكر ودعاء للنفس والغير وسلام عليه وثناء عليه بحق ونحو ذلك مما فيه سرور السامع واجتماع القلوب وتألفها، وكذا سائر ما فيه معاملة الناس بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ومنه ما في حديث أبي ذرّ المذكور آنفاً «لا تحقرن من المعروف شيئاً» الخ (صدقة) لصاحبها. (وبكل خطوة) بفتح المعجمة المرة الواحدة وبضمها ما بين القدمين (تمشيها إلى الصلاة صدقة) فيه مزيد الحثّ على حضور الجماعات والمشي إليها وعمارة المساجد بها إذ لو صلى في بيته فاته ذلك. (وتميط) بضم أوله (الأذى) أي: إماطته
(عن الطريق) يذكر ويؤنث ويقال لها السبيل والصراط (صدقة) على المسلمين، وأخرت هذه لأنها أدون مما قبلها كما يشير إليه الخبر الآتي: «وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» وحمل الأذى على المظالم ونحوها والطريق على طريقه تعالى وهو شرعه وأحكامه تكلف بعيد، بل قوله فيما يأتي «وأدناها إماطة الأذى» الخ صريح في رده،(2/357)
لأن الإماطة بهذا المعنى من أفضل الشعب لا أدناها. ثم شرط الثواب على هذه الأعمال خلوص النية فيها وفعلها وحده، قال تعالى:
{إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} (النساء: 114) وقال بعد أن ذكر جملاً من أعمال البرّ «والذي نفسي بيده ما من عبد يعمل بخصلة منها يريد بها ما عند الله إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى يدخل الجنة» رواه ابن حبان في «صحيحه» وبهذا يردّ ما ورد عن الحسن وابن سيرين أن أفعل المعروف يؤجر عليه وإن لم تكن فيه نية (متفق عليه. ورواه أحمد وأبو عوانة وأبو نعيم في «مستخرجيهما» والطبراني في «مكارم الأخلاق» وابن حبان في «صحيحه» وغيرهم) . (ورواه) أي: الحديث (مسلم أيضاً) أي: انفرد به عن البخاري (من رواية عائشة رضي الله عنها) بنحوه وحديثها (قالت: قال رسول الله: إنه) أي: الشأن (خلق) بالبناء للمجهول للعمل بالفاعل وروايته كذلك في أصل مصحح، ويحتمل أن يكون الضمير المنصوب عائداً تعالى لدلالة المقام عليه ويضبط الفعل حينئذٍ بالبناء للفاعل إلا أن تثبت رواية بأحدهما فيرجع إليها (كل إنسان من) بيانية (بني آدم) غير منصرف للعلمية ووزن الفعل بناء على أنه عربي، وهو الذي نقله المصنف عن أبي منصور الجواليّقي، أو لها وللعجمة بناء على أنه أعجمي (على ستين وثلاثمائة مفصل) أي: عظم كما جاء في رواية البزار قال: «للإنسان ثلاثمائة وستون عظماً» الحديث. (فمن كبر ا) بنحو الله أكبر (وحمد ا) بكسر الميم بنحو الحمد (وهلل ا) أي: قال لا إله إلا الله أو إلا هو (وسبح ا) بنحو سبحان الله (واستغفر ا) أي: سأله غفر الذنب بنحو قوله أستغفر الله أو اللهم اغفر لي (وعزل حجراً عن) كذا في النسخ المصححة وهو الذي في «الصحيح» ، وفي نسخة من الرياض «على» ومكتوب عليها «صح» فإن صحت به رواية فحروف الجرّ تنوب مناب بعض عند الكوفيين، وعلى المنع من ذلك كما هو مذهب البصريين فالتضمين شريعة مورودة (طريق الناس، أو عز شوكة أو عظماً عن طريق الناس) أعاد قوله أو عزل(2/358)
وقوله عن طريق الناس اهتماماً بشأن
التنحية لما فيها من إبعاد الضرر عن الناس وعموم النفع للمارة فيها، وذكر الأكثر ضرراً وهو الحجر والأقل وهو الشوكة تنبيهاً على أن فضل تنحية المؤذي عن الطريق يحصل بتنحية ما عظم ضرره فيها وما كان دون ذلك (وأمر) بصيغة الماضي معطول على مدخول من ثم هو في بعض النسخ هكذا بالواو وفي بعض بأو وهو الأنسب بما قلبه (بمعروف أو نهي عن منكر عدد الستين والثلثمائة) أي: من أتى بهذا العدد ولو من مجموع أنواع الطاعات بأن أتى من كل نوع بطاعة حتى وصل لهذا القدر (فإنه يمسي) بضم الياء التحتية (يومئذٍ وقد زحزح) أي: باعد (نفسه عن النار) بالتقرّب لمولاه بأنواع الطاعات، وشكر ما أنعم به عليه من إيجاد تلك الأعضاء سالمة، وقد سبق أنه يجزي عن ذلك كله ركعتا الضحى، وفي حديث آخر «تكف شرّك الخ» ، وهو يفيد أنه يكفيه ألا يفعل شيئاً من الشرّ ويلزم من ذلك القيام بالواجبات وترك جميع المحرمات، وهذا هو الشكر الواجب وهو كاف في شكر هذه النعم وغيرها. أما الشكر المستحبّ فبالزيادة على ذلك بنوافل العبادات القاصرة كالأذكار، والمتعدية كالبذل والإعانة، وليس المراد من الحديث حصر أنواع الصدقة بالمعنى الأعم فيما ذكر فيه بل التنبيه به على ما بقي منها، ويجمعها كل ما فيه نفع للنفس أو للغير.
123 - (السابع: عنه) أي: عن أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبيّ قال: من غدا) هو في الأصل السير أول النهار (إلى المسجد) طلباً لأداء صلاة فيه أو اعتكاف أو قراءة أو درس علم طلباً لمرضاة الله (أو راح) هو في الأصل السير آخر النهار (أعد) بتشديد الدال: أي: هيأ (اله) ثواب عمله من محض فضله (في الجنة نزلاً) بضمتين (كلما) منصوب عن الظرفية وما متصلة بكل في الرسم حينئذٍ (غدا أو راح. متفق عليه) ورواه أحمد (والنزل)(2/359)
بضمتين (القوت) أي: ما يقتات به (والرزق) وهو ما ينتفع به ولو محرماً (وما) أي الذي (يهيأ) بضم التحتية الأولى: يعدّ (للضيف) من الكرامة والمراد هنا المعنى الأخير فإنه أبلغ في التكريم.
124 - (الثامن: عنه) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله: يا نساء المسلمات) بنصب نساء وجرّ المسلمات من إضافة الصفة إلى الموصوف. قال البلجي: وبهذا: أي نصب الأوّل وجرّ الثاني رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة أو الأعم إلى الأخص، وهو عند الكوفيين لا حذف فيه اكتفاء بتغاير اللفظين وهو جائز على ظاهره. وعند البصريين يقدر فيه محذوف وتقديره هنا: يا نساء الأنفس المسلمات أو الجماعات؛ وقيل تقديره، يا فاضلات المسلمات كما يقال: هؤلاء رجال القوم: أي ساداتهم، ويجوز فيه رفع نساء، قال الحافظ في «الفتح» : قال السهيلي وغيره: جاء برفع الهمزة على أنه منادى مفرد، ويجوز في المسلمات الرفع على أنه صفة على اللفظ على معنى يا أيها النساء المسلمات. قلت: قال الباجي وكذا يرويه أهل بلدنا والنصب على أنه صفة على الموضع وكسر التاء علامة النصب. وأنكر عبد البرّ رواية الإضافة، ورده ابن السيد بأنها قد صحت نقلاً وساعدتها اللغة فلا معنى للإنكار. وقال ابن بطال: يمكن تخريج يا نساء المسلمات بالإضافة على تقدير بعيد كأنه قال: يا نساء الأنفس المسلمات، والمراد بالأنفس الرجال، ووجه بعده أن يصير مدحاً للرجال وهو إنما خاطب النساء، قال: إلا أن يراد بالأنفس الرجال والنساء معاً وأطال في ذلك وتعقبه ابن التين (لا تحقرنّ جارة) أسدت (لجارتها) شيئاً من المعروف فتمتنع منه لقلته (ولو) كان (فرسن شاة) كناية عن القلة، ويحتمل أن يكون نهياً للمعطاة: أي لا تحتقر المعطاة الشيء القليل بل تشكر ذلك، ففي الحديث «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» (متفق عليه، قال) أبو نصر إسماعيل بن(2/360)
حماد (الجوهري) الإمام في النحو واللغة والصرف صاحب «الصحاح» ، توفي لاختلاط أصابه ووسواس بسبب غريب، وذلك أنه أخذ مصراعي باب وضمهما إلى جنبيه وشدهما بخيط ونهض للطيران من سطح داره فرمى بنفسه فمات سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وله شعر منه قوله:
لو كان لي بد من الناس
قطعت حبل الناس بالياس
العز في العزلة لكنه
لا بد للناس من الناس
(الفرسن) قال القاضي عياض في «المشارق» : بكسر الفاء والسن. قال في «فتح الباري» : ونونه أصلية وقيل زائدة: قال السيوطي في «مختصر النهاية» : هو عظم قليل اللحم (من البعير كالحافر من الدابة) أي: ذوات الأربع كالحمار والبغل (قال: وربما استعير) أي: الفرسن فاستعمل (في الشاة) كما في الحديث، والذي لها إنما هو الظلف.
قال المصنف في «شرح مسلم» : قالوا أي أهل اللغة: ولا يقال: أي الفرسن إلا في الإبل ومرداهم أن أصله مختص بالإبل ويطلق عليه في الغنم استعارة، وهذا النهي عن الاحتقار نهي للمعطية المتصدقة والمهدية، ومعناه: لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها، بل تجود بما تيسر وإن كان قليلاً كفرسن شاة فهو خير من العدم، قال تعالى: {فمن يعمل مثال ذرّة خيراً يره} وقال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» وقال القاضي: وهذا التأويل هو الظاهر وهو تأويل مالك لإدخاله هذا الحديث في «باب الترغيب» في الصدقة. قال: ويحتمل أن يكون نهياً للمعطاة عن الاحتقار. قال الحافظ في «فتح الباري» : وحمله على الأعمّ من ذينك أولى اهـ. و «لو» في الحديث مثلها في الحديث الآخر «اتقوا النار ولو بشق تمرة» قال ابن هشام في «المغني» في ذكر معاني «لو» وذكر ابن هشام اللخمي وغيره أنها تجيء للتقليل، قال: ومثل له بقوله تعالى {ولو على(2/361)
أنفسكم} (النساء: 135) قال: وفيه نظر قال ابن أقبرس: لعل النظر في خصوص مثاله لا في إفادتها معنى التقليل في نحو «ولو بشق تمرة، ولو خاتماً من حديد» اهـ.
125 - (التاسع: عنه) أي: أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبيّ قال: الإيمان بضع) بكسر الباء وقد تفتح سيأتي معناها (وسبعون) أي: شعبة، ولذا صح الإخبار عنه بستة وسبعون وهي غيره ضرورة مغايرة الجزء للكل، وبه يعلم ما في قول المصنف: الحديث نصّ في إطلاق اسم الإيمان على الأعمال اهـ. وحاصله أن التقدير شعب الإيمان (أو) شك من الراوي، والشك المذكور عند مسلم وكذا عند البخاري من طريق أبي ذرّ الهروي كما نقله العيني، وعليه فقول المصنف متفق عليه في محله (بضع وستون) ورجح بعضهم رواية «وستون» بأنها المتيقنة وما عداها مشكوك فيه، وصوّب القاضي الأولى بأنها التي في سائر الأحاديث ولسائر الرواة، ورجحها جماعة منهم المصنف بأن فيها زيادة ثقة فتقبل، واعترضه الكرماني بأن زيادة الثقة أن يزاد لفظ في الرواية، وإنما هذا اختلاف روايتين مع عدم التنافي بينهما فى المعنى إذ ذكر الأقلّ لا ينافي الأكثر، أو أنه أخبر أولاً بالستين ثم أعلم بزيادة فأخبر بها.
ويجاب بأن هذا متضمن للزيادة كما اعترف به الكرماني فصحّ ما قاله المصنف، نعم اعترض عليه بأن من زادها لم يستمر على الجزم بها لاسيما مع اتحاد المخرج، ثم هذا العدد. قيل: المراد به التكثير والمبالغة، وعليه فهي ترجع إلى أصل واحد وهو تكميل النفس بصلاح المعاش المؤدي إلى تحسين المعاد. وذلك بأن يعتقد الحق ويستقيم في العمل ولذا قال لسفيان الثقفي حين قال له «قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال قل آمنت با ثم استقم» وأيد بعضهم أن المراد التكثير بأنه لو أراد التحديد لم يبهم، قال: فذكر البضع للترقي لأن الشعب لا نهاية لها لكثرتها. وقال آخرون: بل المراد حقيقة العدد ويكون النص وقع أولاً على البضع والستين لكونه الواقع ثم تجددت العشرة الزائدة فنص عليها، وبهذا يجاب عن اختلاف الروايات. فيقال بتقدير صحة الجمع لعله نطق بأقلها ثم أعلم بأزيد منها وهكذا، والإبهام فيه لا دليل فيه لاحتمال أنه اتكل على أفهام السامعين مع ذكر المراتب الآتية في الحديث التي(2/362)
إذا حقق النظر في المقايسة بها أدرك ذلك، إلا أن هذا صعب الاتقاء رفيع الذرا. ولاختلاف النظر في تلك المقايسة اختلف تعداد قوم من العلماء لبقية تلك الشعب ولم ينالوا بخوض غمر تفاصيلها بيان تلك التفاصيل على الحقيقة مع خطر التعيين واحتمال أنه لم يصادف مراده كابن حبان وغيره ممن يأتي النقل عنه (شعبة) بضم أوله المعجم وسكون ثانيه المهمل وبالموحدة.
قال الحافظ ابن حجر: لم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان فإنه قال: عددت كل طاعة عدها الله تعالى في كتابه والنبيّ في سنته، فإذا هي تسع وسبعون لا تزيد ولا تنقص، فعلمت أنه المراد، وقد نقلها كذلك الكازروني في «شرح المشارق» ، وبين كل ما جاء من الكتاب والسنة ولم يعز ذلك إليه، وهو محتمل لتواردهما على عد ذلك وإن كان فيه بعد، وأن يكون ناقلاً عنه وترك العزو إليه مع كونه الأولى للاتفاق على مقتضاه، وضبطها كل من البيضاوي والكرماني بطريقة. قال الحافظ: وقد رأيتها تتفرّع عن أعمال القلب وأعمال اللسان وأعمال البدن. فأعمال القلب: المعتقدات والنيات وتشتمل على أربع وعشرين خصلة: الإيمان با ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده وبأنه ليس كمثله شيء واعتقاد حدوث ما دونه، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشرّه، والإيمان باليوم الآخر ويدخل فيه المسألة في القبر والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط والجنة والنار، ومحبة الله والحبّ والبغض فيه، ومحبة النبيّ واعتقاد تعظيمه ويدخل فيه الصلاة عليه واتباع سنته، والإخلاص ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق، والتوبة والخوف والرجاء والشكر والصبر والرضا بالقضاء والتوكل والرحمة، والتواضع ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير وترك التكبر والعجب وترك الحسد وترك الحقد وترك الغضب. وأعمال اللسان تشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن، وتعلم العلم وتعليمه؛ والدعاء والذكر ويدخل فيه الاستغفار واجتناب اللغو. وأعمال البدن: تشتمل على ثمان وثلاثين خصلة: منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة. التطهر حساً وحكماً ويدخل فيه اجتناب النجاسة وستر العورة والصلاة فرضاً ونفلاً والزكاة كذلك وفك الرقاب والجود ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف والصيام فرضاً ونفلاً والحج والعمرة كذلك والطواف والاعتكاف والتماس ليلة القدر. والفرار بالدين ويدخل
فيه الهجرة من دار الكفر والوفاء بالنذر والتحري في الأيمان وأداء الكفارات، ومنها ما يتعلق بالاتباع وهي ست خصال: التعفف بالنكاح والقيام بحقوق العيال وبر الوالدين، ومنه اجتناب العقوق وتربية الأولاد وصلة الرحم وطاعة(2/363)
السادة والرفق بالعبيد. ومنها ما يتعلق بالعاملة وهي سبع عشرة: القيام بالإمرة مع العدل ومتابعة الجماعة وطاعة أولى الأمر، والإصلاح بين الناس ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة، والمعاونة على البر ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والجهاد ومنه المرابطة وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس والقرض مع وفائه وإكرام الجار وحسن المعاملة، ومنه جمع المال من حله وإنفاق المال في حقه، وفيه ترك التبذير والإسراف ورد السلام وتشميت العاطس وكف الضرر عن الناس واجتناب اللهو وإماطة الأذى عن الطريق. فهذه تسع وستون خصلة ويمكن عدها تسعاً وسبعين باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض.
وقال الحافظ السيوطي في «حاشية سنن أبي داود» بعد أن رجح رواية بضع وسبعون وأنه لا يلتفت إلى الشك فإن غيره من الثقات قد جزم بأنه بضع وسبعون ورواية من جزم أولى. قال: ومقصود الحديث أن الأعمال الشرعية تسمى إيماناً وأنها منحصرة في ذلك العدد غير أن الشرع لم يعين ذلك العدد لنا ولا فضله. وقد تكلف بعض المتأخرين ذلك فتصفح خصال الشريعة وعددها حتى انتهى بها في زعمه إلى ذلك العدد، ولا يصح له ذلك لأنه يمكن الزيادة على ما ذكره والنقصان منه ببيان التداخل. والصحيح ما صار إليه أبو سليمان الخطابي وغيره أنها منحصرة في علم الله وعلم رسوله وموجودة في الشريعة مفصلة فيها، غير أن الشرع لم يوقفنا على أشخاص تلك الأبواب ولا عين لنا عددها ولا كيفية انقسامها، وذلك لا يضرنا في علمنا بتفاصيل ما لكفنا به من شريعتنا ولا في عملنا كل مفصل مبين في جملة الشريعة، فما أمرنا بالعمل به عملنا وما نهينا عنه انتهينا وإن لم نحط بحصر أعداد ذلك اهـ (فأفضلها) هي خبر لشرط محذوف: أي: إذا كان الإيمان ذا شعب متفاوتةٍ فأفضلها (قول لا إله إلا ا) لإنبائها عن التوحيد المتعين على كل مكلف والذي لا يصح غيره من الشعب إلا بعد صحته فهو الأصل المبني عليه سائرها (وأدناها) أدونها مقداراً، من الدنوّ بمعنى القرب ولذا استعمل في مقابلة الأعلى (إماطة) بالمهملة: أي إزالة (الأذى) أي: المؤذي وإن خف كشوكة أو حجر، وفي رواية «إماطة العظم» (عن الطريق) ووجه كونها أدناها إنها لدفع أدنى ضرر يتوقع حصوله لأحد من الناس (والحياء) بالمد، وهو لغة تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم عليه، أو انحصار النفس خوف ارتكاب القبائح وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح شرعاً ويمنع من التقصير في حق ذي الحق (شعبة) عظيمة كما يومىء إليه التنكير (من الإيمان) لتكلفه بحصول سائر الشعب(2/364)
لأنه يحجز صاحبه عن المعاصي، إذا الحييّ يخاف فضيحة الدارين فينزجر عن كل معصية
ويمتثل كل طاعة، وأرفع الحياء الحياء من الله وهو ألا يراك حيث نهاك، وإنما ينشأ هذا من مراقبة ثابتة للحق والمعرفة به وهي مقام الإحسان. والإيمان لا يخرج عن فعل المأمور واجتناب المنهي، فلذا أفرد الحياء بالذكر لأن رتبته متوسطة بين الأعلى والأدنى.
ولما أشار إلى أعلى الشعب وأوسطها وأدناها ترك بيان الباقي للعلم به بالمقايسة إلى أحد تلك الثلاثة، فمن عرف تلك المقايسة فواضح، ومن لا فيلزمه الإيمان بعموم العدد وإن لم يعرف جميع أفراده، كما يجب الإيمان بالملائكة وإن جهلت أعيانهم وأسماؤهم، كذا في «شرح المشكاة» لابن حجر. وقال الدميري: إنما جعله بعض الإيمان. وسيأتي في الحياء وفضله بسط (متفق عليه) فيه نظر فإن قوله: «فأفضلها قول لا إله إلاالله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» لمسلم فقط، فيؤول كلامه على أن أصل الحديث بدون هذه الزيادة فيهما، وقد تنبه لذلك الحافظ السيوطي في «الجامع الصغير» فقال بعد إيراده باللفظ المذكور: أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه، ووقع لصاحب «المشكاة» كما وقع للمصنف واعترضه شارحها الشيخ ابن حجر المكي بما ذكر. ثم الإخبار عن الإيمان بأنه كذا وكذا شعبة من باب إطلاق الأصل وهو الإيمان على الفرع وهو الأعمال، والحقيقة أنها تنشأ عنه لا أنها هو (والبضع من ثلاثة إلى تسعة) تقديم التاء: أي: ما بينها هذا هو الأشهر وفيه حديث مرفوع «البضع ما بين الثلاث إلى التسع» رواه الطبراني وابن مردويه عن نياربن مكرم، وقيل: ما بين الثلاثة، وقيل: اثنين والعشرة، وقيل: من واحد إلى تسعة. وفي «القاموس» : هو ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى الخمس، أو ما بين الواحد إلى الأربعة، أو من أربع إلى تسع، أو هو سبع، وإذا جاوزت لفظ العشر ذهب البضع، لا يقال بضع وعشرون أو يقال ذلك اهـ (والشعبة) في اللغة (القطعة) والغصن من الشجر وفرع كل أصل، وأريد بها في هذا الحديث الخصلة أو الجزء: أي: الإيمان ذو
خصال أو أجزاء متعددة.
126 - (العاشر: عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما رجل يمشي بطريق) أي: فيها (اشتدّ عليه(2/365)
العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب) منها (ثم خرج فإذا) للمفاجأة (كلب يلهث) يدلع لسانه من العطش؛ وليس غيره من الحيوان كذلك (يأكل الثرى) أي: التراب الندى، قال الحافظ في «فتح الباري» يجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً وأن تكون حالاً، وفي «شرح مسلم» للمصنف يقال: لهث بفتح الهاء وكسرها يلهث بفتحها واللهاث بضم اللام ورجل لهثان وامرأة لهثى، هو الذي أخرج لسانه من شدة العطش اهـ. (من) تعليلة (العطش) وأكله للثرى لقربه من الماء في التبريد (فقال الرجل) أخذ منه قرينة أكله الثرى الذي لا يكون منه إلا من العطش (لقد بلغ هذا الكلب) بالنصب في النسخ المصححة وكذا ضبطه الزركشي وشيخ الإسلام زكريا في «تحفته» (من) ابتدائية (العطش مثل) فاعل بلغ (الذي كان بلغ بي) منه (فنزل البئر فملأ خفه) ساقط من رواية البخاري، وكذا قوله حتى رقى (ثم أمسك بفيه حتى رقى) بكسر القاف على اللغة الفصيحة المشهورة، ويقال رقى وهي لغة طيىء (فسقي الكلب فشكر الله له) قال العارف با ابن أبي جمرة: هل الشكر من الكلب أو من الله لعبده؟ وإذا قلنا: إن الشكر يكون بالقول أو بالحال، احتمل والقدرة صالحة، فإذا قلنا إن الشكر من الله تعالى لعبده فيكون الشكر بمعنى القبول، فكأنه يقول: قبل الله عمله وأثابه بالجنة عليه اهـ. وعلى الوجه الأخير اقتصر المصنف في «شرح مسلم» (فغفر له) وفي الحديث «إن أفضل القرب الخير المتعدي» فإنه إذا جوزي بهذا الجزاء الحسن على هذا الفعل اليسير مع هذا الحيوان المندوب إلى قتله بشرطه فكيف به مع من هو صالح؟ وفيه دليل على التحضيض على فعل البرّ وإن قل، إذ لا يدري فيم تكون السعادة، وفيه دليل على أن الإخلاص هو الموجب لكثرة الأجر، إذ حال الرجل كان كذلك إذ هو في البرية ولم يره أحد حال سقيه
وكان مخلصاً في ذلك العمل، وفيه دليل على أن إكمال الأجر يكون بإكمال العمل يؤخذ من قوله في رواية «فسقى الكلب حتى أرواه» فبإكمال ريه أكمل الله نعمته عليه، ويؤخذ من الخبر إفساد بعض الأمتعة إذا ترتب عليه الثواب الأخروي، ألا ترى إلى غرفه الماء بالخف المفسد له عادة، لكن لما كان في ذلك صلاح آخرته فهو في صلاح.l ويؤخذ منه تعب الفاضل للمفضول إذا احتاج المفضول إليه إذ تعب الرجل للكلب. ونوع(2/366)
الإنسان أفضل من باقي الحيوان؛ كذا يؤخذ ملخصاً من «بهجة النفوس» للعارف ابن أبي جمرة (قالوا: يا رسول الله) لما ذكر لهم هذه القصة وحرّضهم على صنيع المعروف وإن قلّ، فإن المقصود من ذكره لقصص من مضي التحريض على الفعل للمدوح والنهي عن ضده وغير ذلك من الفوائد، إذ العبث لا يقع منه (وإن لنا في) سببية (البهائم) أي: بسببها (أجراً فقال في كل) أي: في إرواء كل (كبد رطبة أجر) والرطوبة كناية عن الحياة فإن الميت يجفّ جسمه وكبده، وقيل: الكبد إذا ظمئت ترطبت، ففي الحديث الإحسان إلى الحيوان المحترم وهو ما لا يؤمر بقتله، فيحصل بسقيه والإحسان إليه الأجر سواء كان حرّاً أو مملوكاً له أو لغيره، أما المأمور بقتله فيمتثل أمر الشرع في قتله (متفق عليه، وفي رواية للبخاري: فأدخله الله الجنة) أي: إبتداء مع الناجين وهي لازمة للرواية السابقة إذ من غفر له دخلها كذلك (وفي رواية لهما: بينما كلب يطيف) بضم التحتية (بركية) لظمئه (قد) للتقريب (كاد يقتله العطش) لاشتداده به (إذ رأته بغيّ) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد التحتية: أي: زانية، والبغاء الزنا، ولا تنافي بين كون الفاعل هنا امرأة، وفي الحديث قبله رجلاً لاحتمال تعدد القصة (من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها) بضم الميم وفتح القاف، قيل: خفها فارسي معرب، وقيل: الذي يلبس فوق الخف ويقال له الجرموق (فاستقت له فسقته) أي: حتى روى (فغفر) بالبناء للمفعول (لها به، الموق: الخف، ويطيف: يدور) قال في
«شرح مسلم» بضم الباء، يقال طاف وأطاف: إذا دار حوله (والركية) بفتح الراء المهملة وكسر الكاف وشد التحتية (وهي البئر) مطلقاً، وقيل: قبل أن تطوي.
127 - (الحادي عشر: عنه عن النبي قال: لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة) أي: يتنعم فيها(2/367)
بملاذها (في شجرة قطعها من ظهر الطريق) أي: بسبب قطعه لها (كانت تؤذي المسلمين) ففيه فضل إزالة الأذى عن الطريق وقد تقدم أنه من شعب الإيمان، وفيه فضيلة كل ما نفع المسلمين وأزال عنهم ضرراً (رواه مسلم) .
(وفي رواية له) أي: لمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً (مرّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق: فقال: وا لأنحينّ) من التنحية: الإزالة: أي: لأزيلنّ هذا (أي) : المضر (عن) طريق (المسلمين لا يؤذيهم) أي: إرادة أن لا يؤذيهم (فأدخل الجنة) بالبناء للمفعول، وظاهر هذا الخبر دخوله الجنة بمجرد نيته للفعل الجميل؛ ويحتمل أنه فعل ذلك وترك ذكره الراوي إما سهواً وإما لأمر آخر (وفي رواية لهما) عن أبي هريرة مرفوعاً (بينما رجل) بالرفع لكف بين عن الإضافة للمفرد لها (يمشي بطريق) أي: فيه (وجد غصن شوك على الطريق فأخره) بتشديد الخاء المعجمة: أي: نجاه عن الطريق، وفي نسخة فأخذه بتخفيف المعجمة وبالذال المعجمة: أي: أخذه من الطريق إذهاباً لضرره (فشكر الله له) ذلك الفعل اليسير: أي: قبله منه (فغفر) بالبناء للفاعل (له) .
128 - (الثاني عشر: وعنه قال: قال رسول الله: من توضأ فأحسن الوضوء) بإسباغه والإتيان بآدابه وسننه (ثم أتى الجمعة) أي: إلى المسجد لصلاتها وهي بضم الجيم والميم وسكونها وقد تفتح، سميت بذلك لاجتماع الناس لها (فاستمع) الخطبة (وأنصت) عن الكلام المباح (غفر له) صغائر (ما بينه وبين الجمعة الماضية) قال بعض أصحابنا: والمراد بما بينهما من صلاة الجمعة(2/368)
وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية فيكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقص (و) يضم إليها (زيادة) عليها ذنوب (ثلاثة أيام) فتكفر ذنوب عشرة أيام. قال العلماء: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشر أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها (ومن مسّ الحصى) وفي معناه سائر العبث في حال الخطبة (فقد لغا) ففي الحديث، إشارة إلى الحثّ على إقبال القلب والجوارح على الخطبة، والمراد من اللغو الباطل المذموم المردود (رواه مسلم) .
129 - (الثالث عشر: عنه أن رسول قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن) شك من الراوي في أيهما لفظه وإن كان يلزم من تحقق أحدهما شرعاً تحقق الآخر (فغسل وجهه) الفاء تفصيلية (خرج من وجهه كل خطيئة) صغيرة متعلقة بحق الله تعالى (نظر إليها) أي: إلى سببها إطلاقاً لاسم المسبب على السبب مبالغة وكذا البواقي (بعينه) قال القرطبي: هذه عبارة مستعارة المقصود بها الإعلام بتكفير الخطايا ومحوها، وإلا فليست الخطايا أجساماً حتى يصح منها الخروج. وفي «قوت المغتذي» للسيوطي بعد نقل مثله عن ابن العربي: وأقول بل الظاهر حمله على الحقيقة وذلك أن الخطايا تؤثر في الباطن والظاهر سواداً يطلع عليه أرباب الأحوال والمكاشفات والطهارة تزيله، ثم استشهد لتأثير الخطايا بأحاديث ثم قال بعد نقل حديث تأثير خطايا المشركين في الحجر الأسود حتى صار أسود ما لفظه: فإذا أثرت الخطايا في الحجر ففي فاعلها أولى؛ فإما أن يقدر خرج من وجهه سواد كل خطيئة: أي: السواد الذي أحدثته، وإما أن نقول إن الخطيئة نفسها تتعلق بالبدن على أنها جسم لا عرض بناء على إثبات عالم المثال، وأن ما هو في هذا العالم عرض له صورة في عالم المثال، وقد حققت ذلك في تأليف مستقل (مع الماء أو مع آخر قطر الماء) أو للشك من الراوي في أي اللفظين قاله، ويدلك على أنها للشك زيادة مالك «أو نحو ذلك» قيل: وخصت العين بالذكر مع أن في الوجه الفم والأنف لأنها طليعة القلب ورائده فأغنت عن(2/369)
غيرها.
واعترض بأن كونها طليعة لا ينتج الجواب عن تخصيص خطيئتها بالمغفرة، فالذي يتجه في الجواب أن سبب التخصيص أن كلاً من الفم والأنف له طهارة مخصوصة خارجة عن طهارة الوجه فكانت متكلفة بإخراج خطاياه، بخلاف العين فإنها ليس لها طهارة إلا في غسل الوجه، فحطت خطيئتها عند غسله دون غيرها (فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كانت) اسمها ضمير الشأن (بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها) أي: مشت إليها أو مشت المشية (رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب) الصغائر المذكورة (رواه مسلم) ومالك في «الموطأ» .
130 - (الرابع عشر: عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهنّ) من الصغائر المتعلقة بحقوق الله تعالى (إذا اجتنبت الكبائر) قال الحافظ وليّ الدين العراقي: استند العلماء في تقييد الذنوب المكفرة بالعمل الصالح بالصغائر لهذا الحديث فجعلوا التقييد فيه مقيداً للإطلاق في غيره اهـ ملخصاً. ونظر فيه ابن دقيق العيد. وحكى ابن التين فيه خلافاً فقال: اختلف هل يغفر الله له بهذه المذكورات الكبائر إذا لم يصرّ عليها أم لا يغفر له سوى الصغائر؟ قال: وهذا كله لا يدخل فيه مظالم العباد، وقال القرطبي: لا بعد في أن يكون بعض الأشخاص تغفر له الكبائر والصغائر بحسب ما يحضره من الإخلاص ويراعيه من الإحسان والآداب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء اهـ. قلت: وقد سبق إلى ذلك ابن العربي وجزم به فقال: لو وقعت الطهارة باطناً بتطهير القلب عن أوصاب المعصية، وظاهراً باستعمال الماء على الجوارح بشرط الشرع،(2/370)
واقترنت به صلاة جرّد فيها القلب عن علائق الدنيا وطر الخواطر، واجتمع الفكر على آخر العبادة كما انعقد عليه إحرامها واستمرّ الحال حتى خرج بالتسليم عنها، فإن الكبائر تغفر، وكذلك كان وضوء السلف اهـ. والذي عليه جمهور العلماء أن صالح العمل لا يكفر الكبائر إنما يكفرها التوبة أو فضل الله تعالى.
قال المصنف: وقد يقال إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلوات؟ وإذا كفرت الصلوات فماذا تكفر الجمعات؟ ورمضان وغيرها مما ورد فيه ذلك؟ فالجواب ما أجاب به العلماء أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف كبيرة ولا صغيرة كتبت له به حسنات ورفعت له به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف عنه منها. واعترضه ابن سيد الناس في قوله: «رجونا» إلخ بأن هذا موقوف على التوقيف لا مجال فيه لغيره. قال السيوطي: استشكل بأن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر، وحينئذٍ فما الذي تكفره الصلوات؟ والتحقيق في الجواب ما أشار إليه البلقيني أن الناس أقسام: من لا ذنب له مطلقاً وهذا له رفع الدرجات؛ ومن له صغائر بلا إصرار فهي المكفرة باجتناب الكبائر إلى موافاة الموت على الإيمان، ومن له صغائر مع الإصرار فهي التي تكفر بصالح الأعمال؛ ومن له كبائر وصغائر فالمكفر بصالح العمل الصغائر فقط؛ ومن له كبائر فقط فيكفر منها على قدر ما كان يكفر من الصغائر اهـ. قال شيخ الإسلام زكريا: فإن قلت: يلزم من جعل الصغائر مكفرة بالمذكورات عند اجتناب الكبائر اجتماع سببين على سبب واحد وهو ممتنع. قلت: لا مانع من ذلك في الأسباب المعروفه لأنها علامات لا مؤثرات كما في اجتماع أسباب الحدث اهـ. وقوله: «إذا اجتنبت الكبائر إلخ» قال العلقمي في «حاشيته» على «الجامع الصغير» : قال شيخنا يعني السيوطي: قال النووي: معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فإنها لا تغفر، وليس معناه أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة، فإن كانت فلا يغفر شيء، فإن هذا وإن كان محتملاً فسياق الأحاديث يأباه (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي.
131 - (الخامس عشر: عنه قال: قال رسول الله: ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح ليتنبه السامع لما(2/371)
بعدها (أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا) أي: من ديوان الحفظة أو يمحو بمعنى يغفر (ويرفع به الدرجات) أي: المنازل في الجنة (قالوا لي) هي لإيجاب النفي المذكور في السؤال: أي: دلنا على ذلك يا رسول الله (قال: إسباغ الوضوء) أي: استيعاب أعضائه بالغسل والمسح مع استيفاء آدابه ومكملاتها (على) بمعنى مع (المكاره) جمع مكره بفتح الميم من الكره: المشقة والألم (وكثرة الخطا إلى المساجد) فيه فضل الدار البعيدة عن المسجد على القريبة، ويؤيده الخبر الآتي «دياركم تكتب آثاركم» ولا ينافيه عده من شؤم الدار بعدها من المسجد، لأن بعدها وإن كان فيه شؤم من حيث إنه قد يؤدي إلى تفويت، لكن فيه فضل عظيم إذا توجه منها إلى الصلاة بالمسجد، فشؤمها وفضلها باعتبارين فلا تنافي (وانتظار الصلاة) أي: وقتها أو جماعتها (بعد الصلاة) منفرداً أو في جماعة وذلك بأن يجلس في المسجد أو في بيته أو سوقه أو شغلته لانتظارها وذلك لتعلق فكره وقلبه بها، فهو دائم الحضور والمراقبة غير ملته عن أفضل العبادات البدنية بشيء (فذلكم) عدل إليه عن هذا الذي هو القياس للدلالة على بعد منزلته وعظمها (الرباط) لا غيره كما أفاده تعريف الجزءين الدال على الحصر لكنه إضافي: أي: ما ذكرت من تلك الثلاث هو المستحق لاسم الرباط، والرباط الحقيقي وهو ملازمة الثغر لحفظ عورة المسلمين لا يستحق ذلك الاسم بالنسبة إليها لما فيها من أعظم القهر لأعدى عدوّ الإنسان وهي نفسه الأمارة بالسوء، وقمع شهواتها وقلع مكائد الشيطان من جميع أجزائها، فإن هذه الأعمال تسد طرق الشيطان والهوى عن النفس وتقهرها وتمنعها من قبول الوسواس والشهوات، فكانت هي الرباط الحقيقي وهو الجهاد، وفي هذا أعظم تأييد لخبر «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» أي: من جهاد العدوّ إلى جهاد النفس، إذ جهاد الكفار
إنما شرع بالخروج عن النفس والأولاد والأموال لإعلاء كلمة الله تعالى مع تكميل النفس بخروجها عن مألوفاتها ومستلذاتها، لكنه لا يدوم زمنه بل يكون برهة وتنقضي، وهذه الأعمال دائمة وذلك التكميل موجود فيها بزيادة (رواه مسلم) وعند مالك «فذلكم الرباط فذلكم الرباط» وردّد مرتين، وفي رواية الترمذي ثلاثاً. وحكمته مزيد تقرير ذلك والاهتمام بشأنه المرة بعد المرة.(2/372)
132 - (السادس عشر: عن أبي موسى الأشعري) تقدمت ترجمته أول باب الإخلاص (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من صلى البردين) بفتح الموحدة وسكون الراء تثنية برد، والمراد صلاة الفجر والعصر كما سيأتي، زاد مسلم في روايته «يعني العصر والفجر» قال الحطابي: سميا بردين لأنهما يصليان في بردي النهار وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب شدة الحرّ (دخل الجنة) قال العلقمي: قال القزاز في وجه تخصيص هذين الوقتين ما حاصله: من موصولة لا شرطية، والمراد من صلاهما أول فرض الصلاة ثم مات قبل فرض الخمس، فإنها فرضت أولاً ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي ثم فرضت الخمس، قال: فهو خبر عن ناس مخصوصين لا عموم فيه. قلت: ولا يخفى ما فيه من التكلف. والأوجه أن من شرطية، وقوله: دخل الجنة جواب الشرط، وعدل إليه عن المضارع إرادة التأكيد في وقوعه بجعل ما سيقع كالواقع اهـ. وعلى الأوجه فوجه تخصيصها بالذكر أن وقت الصبح يكون عند النوم ولذته، ووقت العصر يكون عند الاشتغال بتتمات أعمال النهار وتجارته وتهيئة العشاء، ففي صلاته لهما مع ذلك دليل على خلوص النفس من الكسل ومحبتها للعبادة، ويلزم من ذلك إتيانه بجميع الصلوات الأخر، وأنه إذا حافظ عليهما كان أشد محافظة على غيرهما، فالاقتصار عليهما لما ذكر لا لإفادة أن من اقتصر عليهما بأن أتى بهما دون باقي الخمس يحصل له ذلك لأنه خلاف النصوص، وقيل: المراد بالبردين الصبح والعشاء. ووجه تخصيص العشاء أن في وقتها يكثر النعاس فيثقل
البدن بواسطته مع الامتلاء بالعشاء فتتعطل الحركة فتشق الصلاة، وأسبابها حينئذٍ مشقة ظاهرة، فمن صلاها مع ذلك استحق دخول الجنة من غير سابقة عذاب (متفق عليه. البردان، الصبح والعصر) .
133 - (السابع عشر، عنه قال، قال رسول الله: إذا مرض العبد) قال في «الصحاح» : المرض(2/373)
السقم اهـ. وفي «المصباح» مرض الحيوان مرضاً من باب تعب، والمرض حال خارجة عن الطبع ضارّ بالطبع، ويعلم من هذا أن الآلام والأورام أعراض عن المرض (أو سافر) أي: في غير معصية. قال الجوهري: السفر قطع المسافة وفي «المصباح» سفر الرجل سفراً من باب ضرب فهو سافر والجمع سفر مثل راكب وركب والاسم السفر بفتحتين: وهو قطع المسافة، يقال إذا خرج للارتحال أو لقصد موضع فوق مسافة العدوى سفر. وقال بعض المصنفين، أقل السفر يوم انتهى. والحديث شامل لطويل السفر وقصيره بأن يخرج لضيعة أو إلى مكان لا تلزمه فيه الجمعة لعدم سماعه النداء، ولا يخالف قول المصباح إن أهل العرف لا يسمونه سفراً فإن المراد سفراً طويلاً (كتب له) من البر (مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) وعند أبي داود «كأصلح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم» قال ابن بطال: هذا في أمر النوافل، أما صلاة الفرض فلا تسقط بسفر أو مرض (رواه البخاري) ورواه أحمد وغيره. ويؤخذ من الحديث تأييد من ذهب إلى أن الأعذار في ترك الجماعة مسقطة للحرج محصلة للفضيلة خلافاً للمصنف في الأخير، وحمل كلام المصنف على من لم يعتد ملازمتها مع عدم العذر أو لم ينوها لولا العذر وكلام غيره على ما إذا نواها وكان معاداً لها.
134 - (الثامن عشر، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كل معروف) أي: كل ما يفعل من أعمال البر والخير (صدقة) أي: ثوابه كثوابها فإطلاقها على ذلك بطريق الاستعارة كما تقدم (رواه البخاري) وأحمد (ورواه مسلم) وأحمد وأبو داود (من حديث حذيفة رضي الله عنه) فلا يقال فيه متفق عليه، لأن الشيخين لم يتفقا على سنده وإن اتفقا على معناه ومبناه.
135 - (التاسع عشر: وعنه قال: قال رسول الله: ما من مسلم يغرس غرسا) بالفتح مصدر (إلا كان(2/374)
ما أكل منه) أي: مما غرسه (له صدقة) يعني يحصل للغارس ثواب التصدق بالمأكول إن لم يضمنه الآكل (وما سرق منه له صدقة) يعني يحصل له مثل ثواب صدقة المسروق، وليس المعنى أن المأخوذ صار ملكاً للآخذ كما لو تصدق به عليه (ولا يرزؤه) بفتح التحتية وراء مهملة ثم زاي ثم همزة، وسيأتي أن معناه ينقصه (أحد إلا كان له صدقة. رواه مسلم. وفي رواية له) أي: لمسلم عن جابر (لا يغرس المؤمن غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان) أي: على وجه التصدق عليه والإكرام، أو بطريق الغصب ما لم يؤدّ بدله (ولا) تأكل منه أو تتلفه (دابه) لعل المراد منها كل ما يدب على الأرض لكونه أعم (ولا طير) قيل: إنه اسم جمع لطائر، وقيل: جمع له كصحب وصاحب (إلا كان) أي: المأكول (له) في محل الحال و (صدقة) خبر كان، ويستمر ما استمرت هي أو ما تولد منها (إلى يوم القيامة) قال الأبي: ولا يبعد أن يدوم له الثواب وإن انتقل الملك إلى غيره إلى يوم القيامة وهذا ممكن في الغراس. قلت: قال ابن العربي: من سعة كرم الله تعالى أن يثيب على ما بعد الحياة كما يثيب على ذلك في الحياة وذلك في ستة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو غرس، أو زرع، أو الرباط. فللمرابط ثواب عمله إلى يوم القيامة. قلت: ولا يختص حصول هذه الصدقات بمن باشر الغرس أو الزراعة، بل يتناول من استأجر لعمل ذلك والصدقة حاصلة حتى فيما عجز عن جمعه كالسنبل
المعجوز عنه بالحصد فيأكل منه حيوان فإنه مندرج تحت مدلول الحديث. (وفي رواية له) عن جابر أيضاً (لا يغرس) بالرفع (المسلم غرساً ولا يزرع) أي: المسلم (زرعاً) والغرس في الأشجار (فيأكل) بالنصب في جواب النفي (منه) أي: من ثمرة ما ذكر (إنسان ولا دابة ولا شيء) أي: من طائر وجنىّ فهو أعم من الروايات قبله (إلا كانت) أي: الزروع والمغروسات فالتأنيث لذلك أو نظراً إلى تأنيث الخبر (له صدقة. وروياه) أي: الشيخان (من رواية أنسبن مالك) .
قال المصنف: وقد اختلف العلماء في أطيب المكاسب وأفضلها، فقيل التجارة، وقيل: الصنعة باليد، وقيل: الزراعة وهو الصحيح. وفي الحديث أن الثواب في الآخرة مختص بالمسلمين وأن الإنسان يثاب على ما سرق(2/375)
من ماله أو أتلفته دابة أو طائر أو نحوهما (قوله) في الحديث (يرزؤه: أي ينقصه) .c
136 - (العشرون: عنه قال: أراد بنو سلمة) بكسر اللام: قبيلة معروفة من الأنصار، قال ابن عبد البرّ في كتاب «الأنسابّ» : إنه سلمةبن سعدبن الخزرج: وقال الكازروني في «شرح المشارق» : قبيلة منسوبة إلى سلمةبن سعدبن عليبن أسدبن سادرةبن زيدبن جثمبن الخزرج ابن حارثة، وهم بطن من الأنصار (أن ينتقلوا) من منزلهم الذي كانوا به وكان بعيداً من المسجد النبوي (قرب المسجد) لخلوه كما صرح به في رواية في مسلم (فبلغ ذلك) أي: إرادتهم التحوّل (النبي فقال لهم: إنه) الضمير للشأن (بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، فقالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: بني سلمة) بحذف حرف النداء (دياركم) منصوب على الإغراء: أي: الزموا دياركم ولا تنتقلوا إلى قرب المسجد (تكتب) بالجزم جواب الشرط المقدر (آثاركم) أي: آثار أقدامكم وخطاكم من الجمعة والجماعة (رواه مسلم) .
(وفي رواية) لمسلم عن جابر «فنهانا رسول الله» (فقال: إن لكم بكل خطوة) تقدم أنه بضم الخاء ما بين القدمين وبفتحها: المرة من الخطوات (درجة) أي: في الجنة (ورواه البخاري أيضاً بمعناه من رواية أنس) ولفظ روايته قال: قال النبي: «يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم» .
(وبنو سلمة بكسر اللام) والنسبة إليها السلمي بفتح أوّليه من تغيير النسب(2/376)
(قبيلة معروفة من الأنصار) وآثارهم بالمد (خطاهم) بضم الخاء جمع خطوة: أي: خطواتهم في ذهابهم إلى المسجد للجمعة والجماعة.
137 - (الحادي والعشرون: عن أبي المنذر) بضم الميم وسكون النون بعدها ذال معجمة فراء مهملة، وهذه الكنية كناه بها رسول الله، ويكنى بأبي الطفيل ولده، كناه بها عمربن الخطاب (أبيّ) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية (ابن كعب) بن قيس ابن عبيدبن عبد يزيدبن معاويةبن عمروبن مالكبن النجار. واسم النجار تيم اللات، وقيل: تيمالله، وسمي بالنجار قيل لأنه اختّن بالقدوم، وقيل: لأنه ضرب وجه زوجته بالقدوم فنجره، ابن ثعلبةبن عمروبن الخزرج الأكبر الأنصاري الخزجي النجاري القارئي المدني (رضي الله عنه) شهد أبيّ العقبة الثانية في السبعين من الأنصار، وشهد بدراً وغيرها من المشاهد مع رسول الله. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وأربعة وستين حديثاً، اتفقا منها على ثلاثة، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بسبعة، وله فضائل كثيرة. ومن أسناها حديث الصحيحين عن أنس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ على أبيّبن كعب سورة {لم يكن الذين كفروا} (البينة: 1) وقال: أمرني الله عزّ وجل أن أقرأ عليك» وهي منقبة عظيمة لم يشاركه فيها غيره. توفي بالمدينة ودفن بها، قيل: سنة ثلاثين في خلافة عثمان، قال أبو عثمان الأصفهاني: وهو الصحيح. وقال ابن عبد البرّ: الأكثر على أنه مات في خلافة عمر، كذا نقل ملخصاً من «التهذيب للمصنف» (قال: كان رجل) لم أر من سماه (لا أعلم رجلاً أبعد) الناس منزلاً (من المسجد منه، وكان لا تخطئه) بضم الفوقية: أي: تفوته (صلاة، فقيل له. أو فقلت له) شك من الراوي عن أبيّ، ويحتمل أن يكون منه بأن نسي أيهما كان لطول الزمان (لو) للتمني فلا تحتاج لجواب، ويحتمل أن تكون شرطية وحذف جوابها: أي: لكان أحسن لفهمه من السياق (اشتريت حماراً تركبه في) الليلة (الظلماء وفي الرمضاء فقال ما يسرني) أي: يعجبني (أن منزلي إلى جنب المسجد) لما يفوت بالقرب من أجر تعدد الخطا المرتب على بعد الدار منه (إني أريد أن يكتب) بالبناء
للمفعول، ويحتمل أن يكون مبنياً للفاعل (لي) أجر (ممشاي)(2/377)
أي: مشيي فهو مصدر ميمي (إلى المسجد، و) أجر (رجوعي إلى أهلي) منه (إذا رجعت) فيه إثبات الثواب في الرجوع من الصلاة كما في الذهاب إليها (فقال رسول الله: قد جمع الله لك) لصحة نيتك وحسن قصدك (ذلك) أي: الذي رجوت (كله) تأكيد معنوي (رواه مسلم) .
(وفي رواية) لمسلم (إن لك) أي: عند الله أجر (ما احتسبت) أي: عملته من تكثير الخطا في الذهاب إلى المساجد احتساباً (الرمضاء) بالمد (الأرض التي أصابها الحر الشديد) حتى حميت من ذلك.
138 - (الثاني والعشرون: عن أبي محمد) وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو نصير بضم النون (عبد ابن عمروبن العاص) بن وائلبن هاشمبن سعيد مصغراً ابن سهمبن عمروبن هصيصبن كعببن لؤّيبن غالب القرشي السهمي الزاهد العابد الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) بينه وبين أبيه في السن ثنتا عشرة سنة، أسلم قبل أبيه وكان كثير العلم مجتهداً في العبادة تلاّء للقرآن. وكان أكثر الناس أخذاً للحديث والعلم عن رسول الله. ثبت في «الصحيح» عن أبي هريرة قال: ما كان أحد أكثر حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني إلا عبد ابن عمرو، كان يكتب ولا أكتب. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعمائة حديث، اتفقا على سبعة عشر منها، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين. وإنما قلت الرواية عنه مع كثرة ما حمل لأنه سكن مصر وكان الواردون إليها لأخذ العلم قليلين، بخلاف أبي هريرة فإنه استوطن المدينة وهي مقصد المسلمين من كل جهة روي عنه قال: حفظت عن النبيّ ألف مثل، وأنه قال: لخير أعمله اليوم أحبّ إليّ من مثليه مع رسول الله، لأنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تهمنا الآخرة ولا تهمنا الدنيا، وإنا اليوم مالت بنا الدنيا. توفي بمصر سنة ثلاث، وقيل: خمس وستين، وقيل: بمكة سنة ستّ وستين، وقيل:(2/378)
بالطائف سنة خمس وخمسين. وقيل: ثمان وستين، وقيل: ثلاث وسبعين وهو ضعيف. كان عمره اثنتين وسبعين سنة رضي الله عنه وسيأتي ما يتعلق بياء «للعاصي» إثباتاً وحذفاً في باب تحريم الظلم (قال: قال رسول الله: أربعون خصلة) بفتح المعجمة وسكون المهملة: أي: نوعاً من البرّ (أعلاها) في المرتبة (منحة) بكسر الميم وسكون النون وفتح المهملة: وهي العطية وأصلها عطية الناقة أو الشاة، ويقال: لا يقال منيحة إلا للناقة وتستعار للشاة. قال إبراهيم الحربي: يقولون منحتك الناقة، أغرستك النخلة أعمرتك الدار أخدمتك العبد، كل ذلك هبة منافع كذا في «فتح الباري» . وقال في
أواخر باب الهبة من الفتح: أربعون مبتدأ أعلاهن مبتدأ ثان ومنيحة خبر الثاني والجملة خبر الأول اهـ. وفي نسخة «منيحة» بوزن عظيمة (العنز) بفتح المهملة وسكون النون بعدها زاي معروفة وهي واحدة المعز والجمع أعنز وعنوز وعناز (ما من) زائدة لتأكيد العموم واستغراقه (عامل) أي: وهو مسلم (يعمل خصلة) وفي نسخة بخصلة بزيادة باء (منها رجاء) ممدود مفعول لأجله (ثوابها) من الله تعالى (وتصديق) منصوب أيضاً (موعودها) أي: ما وعد به فيها. فالإضافة لأدنى ملابسة (إلا أدخله الله بها) أي: بسبب قبوله عمله بفضله ومنه (الجنة) فدخولها بفضله لا بعمله مع الفائزين. وتمام الحديث كما في البخاري «قال حسان: فعددنا ما دون منيحة المعز من رد السلام وتشميث العاطس وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة» اهـ.
قال الحافظ العسقلاني: قال ابن بطال ما ملخصه: ليس في قول حسان ما يمنع من وجدان ذلك، وقد حض على أبواب من أبواب الخير والبرّ لا تحصى كثرة، ومعلوم أنه كان عالماً بالأربعين المذكورة وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها وذلك خشية أن يكون التعيين لها مزهداً في غيرها من أنواع البرّ. قال: وقد بلغني أن بعضهم تطلبها فوجدها تزيد على الأربعين، فمما زاده: إعانة الصانع والصنعة لأخرق وإعطاء شسع النعل والستر على المسلم والذبّ عن عرضه وإدخال السرور عليه والتفسح له في المجلس والدلالة على الخير والكلام الطيب والغرس والزرع والشفاعة وعيادة المريض والمصافحة والمحبة في الله والبغض لأجله والمجالسة والتزاور والنصح والرحمة وكلها في الأحاديث الصحيحة، وفيها ما قد ينازع في كونه دون منيحة العنز، وحذفت مما ذكر أشياء(2/379)
تعقب ابن المنير بعضها وقال: إن الأولى ألا يعتني بعدّها لما تقدم. وقال الكرماني: جميع ما ذكره رجم بالغيب ثم من أين عرف أنها أدنى من المنحة. قلت: وإنما أردت بما ذكرته منها تقريب الخمس عشرة التي عدها حسانبن عطية وهي إن شاء الله لا تخرج عما ذكرته ومع ذلك فأنا موافق لابن بطال في إمكان تتبع أربعين خصلة من خصال الخير أعلاها منيحة العنز، وموافق لابن المنبر في ردّ كثير مما ذكره ابن بطال مما هو ظاهر أنه فوق المنحة اهـ كلام الحافظ (رواه البخاري) ورواه أبو داود أيضاً (المنيحة) بوزن عظيمة (أن يعطيه إياها ليأكل لبنها ثم يردها إليه) هذا أحد معنييها كما سيأتي في باب الكرم والجود عن أبي عبيد.
139 - (الثالث والعشرون: عن عدّيبن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اتقوا النار) بأن تتخذوا ما يقيكم من عذابها من صالح العمل والصدقة ولو كان التصديق (بشق) بكسر الشين المعجمة: أي: نصف (تمرة) قال السيوطي في «مختصر النهاية» . شق كل شيء: نصفه. وقال ابن مالك هنا ببعض تمرة وتجوّز بالشق عنه (متفق عليه) ورواه النسائي من حديث عدّي أيضاً، ورواه أحمد عن عائشة والبزار والطبراني في «الأوسط» والضياء والبزار عن النعمانبن بشير وعن أبي هريرة والطبراني في «الكبير» عن ابن عباس وعن أبي أمامة، كذا في «الجامع الصغير» للسيوطي (وفي رواية لهما) أي: للشيخين (عنه) أي: عن عدي (قال: قال رسول الله: ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) بالكلام النفسي القائم بذاته عزّ وجلّ ويسمعه كما يريد الله كما سمعه الكليم (ليس بينه) أي: الله (وبينه) أي: المكلم (ترجمان) بضم الفوقية وتفتح: الذي يترجم الكلام من لغة إلى أخرى والألف والنون زائدتان. قال ابن ملك: والمراد هنا الرسول لأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء فيكون كلامه في الآخرة بالوحي لا بالرسول (فينتظر العبد أيمن منه) أي: في الجانب الأيمن (فلا(2/380)
يرى إلا ما قدم) من صالح عمله (وينظر أشأم) بالهمزة (منه) أي: في الجانب الأيسر (فلا يرى إلا ما قدم) من سيء عمله (وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء) بكسر الفوقية: أي حذاء (وجهه، فاتقوا النار) باتخاذ صالح العمل وقاية منها (ولو) كان الاتقاء (بشق تمرة، فإن لم يجد) شيئاً يتقي به النار (فـ) ليتق منها (بكلمة طيبة) أي: بقول حسن يطيب به قلب المسلم.
140 - (الرابع والعشرون: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله ليرضى عن العبد أن) بفتح الهمزة: أي في أن (يأكل الأكلة) بفتح الهمزة كما سيأتي وأتى ببناء المرة فيه وفيما بعده إشعاراً بأنه يستحق الحمد على النعمة وإن قلت (فيحمده عليها) يحصل أصل السنة بقوله الحمد، وسيأتي في باب آداب الطعام بيان أكمله. قال ابن ملك: من السنة ألا يرفع صوته بالحمد عند الفراغ من الأكل إذا لم يفرغ جلساؤه كيلا يكون منعاً لهم (أو يشرب) بالنصب (الشربة فيحمده عليها. رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي والنسائي كما في «الجامع الصغير» (الأكلة بفتح الهمزة) المرة من الأكل حتى يشبع كذا قاله الجوهري (وهي الغدوة) بفتح المعجمة وسكون المهملة: اسم للمأكول أو النهار (أو العشوة) المأكلول آخره.
141 - (الخامس والعشرون: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله: على كل مسلم) حق(2/381)
متأكد كل يوم (صدقة) شكراً لنعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحد، فالمراد منها هنا العموم البدلي وإن كانت في سياق الإثبات، ويدل له ورود التصريح به في الرواية السابقة «كل سلامى من الناس عليه صدقة» وقد تقدم في خبر «الصحيحين» أنها ثلاثمائة وستون. وعند أحمد وأبي داود مرفوعاً «في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه، قالوا: ومن يطيق ذلك يا نبي ا؟ قال: النخاعة في المسجد فيدفنها، والشيء ينحيه عن الطريق، فإن لم يجد فركعتا الضحى تجزيه صدقة» كما تقدم (قال أرأيت) بفتح التاء: أي: أخبرني (إن لم يجده) أي: ما يتصدق به من المال (قال: يعمل بيديه فينفع نفسه) بعمله: أي: بثمنه أو بأجره أو بثمره (ويتصدق) منه، ففيه الحثّ على اكتساب ما تدعو إليه حاجة الإنسان من طعام وشراب وملبس ليصون وجهه عن الغير وما يتصدق به ليكتسب الثواب الجزيل بالقصد الجميل (قال: أرأيت إن لم يستطع) العمل المذكور ليتصدق منه (قال: يعين ذا الحاجة الملهوف) قال المصنف: الملهوف عند أهل اللغة يطلق على المتحسر وعلى المضطر، وإعانته أن يحمله على دابته أو يعينه على حمل متاعه عليها أو يوصل حاجة لمن لا يقدر على إيصالها من ذي سلطان ونحوه «وا في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير) شك من الراوي (قال: أرأيت إن لم يفعل) أي: وهو معذور في ترك ذلك أو كان الأمر بذلك المعروف ليس مفروضاً على الكفاية (قال: يمسك) بضم الياء: أي: يمسك نفسه ويحبسها (عن الشر) بألا يفعل شيئاً منه فيلزم من ذلك القيام بجميع الواجبات وترك المحرمات، ومنه: أي: من الشرّ ترك الفرائض (فإنها) أي: هذه الخصلة (صدقة) منه على نفسه لسلامتها من الهلاك، وعلى غيره لكف الشرّ عنه، بل هذا هو الشكر الواجب الكافي في شكر هذه النعم
وغيرها، أما الشكر المستحب فبأن يزيد على ذلك بنوافل الطاعات القاصرة كالأذكار والمتعدية كالصدقة والإعانة (متفق عليه) .(2/382)
14 - باب في الاقتصاد
أي: التوسط (في) أداء (العبادة) إبقاء على النفس ودفعاً للملل عنها. ونفس الإنسان في الطريق المعنوي كدابة في الطريق الحسي؛ فكما أنه إذا جد على دابته الحسية وكدها بالأحمال الثقيلة وقطع المسافات الطويلة انقطعت به في أثناء الطريق ولم يصل إلى مقصده، وإذا رفق بها وماشاها وصل إلى المراد وهان عليه ببلوغه لمقصده ما لقيه من مشقة السفر كذلك هنا، قال ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» : قال الحسن: نفوسكم مطاياكم فأصلحوا مطاياكم توصلكم إلى ربكم، فمن وفى النفس حقها من المباح بنية صالحة كالتقوى به على صالح العمل ومنعها من شهواتها وحظها كان مأجوراً في ذلك كما قال معاذ: إني احتسبت نومتي كما احتسبت قومتي، ومتى قصر في حقها حتى ضعفت وتضررت كان ظالماً لها، وإلى هذا أشار النبيّ بقوله لعبد ابن عمرو «إنك إذا فعلت ذلك نفهت له النفس وهجمت له العين» ومعنى نفهت بكسر الفاء: أعيت وكلت، هجمت العين: غارت. وقال لأعرابي جاءه وأسلم ثم أتاه من عام قابل وقد تغير فلم يعرفه فلما عرفه سأله عن حاله فقال: «ما أكلت بعدك طعاماً بنهاري، فقال: ومن أمرك أن تعذب نفسك؟» فمن عذب نفسه بأن حملها على ما لا تطيق من الصيام ونحوه فربما أثر ذلك في ضعف بدنه وعقله فيفوته من الطاعات أكثر مما حصله بتعذيب نفسه بالصيام ونحوه اهـ. والعبادة غاية الذلل فهي أبلغ من العبودية إذ هي إظهار التذلل.
(قال الله تعالى: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} (طه: 1، 2) . وقال الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} ) (البقرة: 185) بسكون المهملة، وقرىء بضمها لغتان وكذلك العسر كما تقدم ذلك ( {ولا يريد بكم العسر} ) هو بمعنى «يريد الله بكم اليسر» كررت تأكيداً، قال القرطبي في «التفسير» : قال مجاهد والضحاك: اليسر الفطر في السفر، والعسر الصوم فيه؛ والوجه عموم اللفظ في جميع أمور(2/383)
الدين كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78) روي عنه «دين الله يسر» وقال «يسروا ولا تعسروا» واليسر من السهولة، ومنه اليسار للغني، وسميت اليسر تفاؤلاً، أو لأنه يسهل له الأمل بمعاونتها لليمنى اهـ.
1421 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ دخل عليها وعندها امرأة قال من هذه؟ قالت: هذه فلانة) قال المصنف في «المبهمات» : قال الخطيب: هي الحولاء بنت ثويببن حبيببن أسدبن عبد العزى (تذكر) بفتح الفوقية والفاعل عائشة. وفي «مسند الحسن» بن سفيان: هذه فلانة وهي أعبد أهل المدينة. وفي «مسند أحمد» : لا تنام تصلي، وروي يذكر بالبناء للمفعول وبالتحتية: أي: يذكرون (من صلاتها) أي: أنها كثيرة، وروي فذكر بفاء فضم المعجمة فكسر الكاف (قال) إشارة إلى كراهة ذلك خشية الملل والفتور على فاعله فينقطع عن العبادة التي التزمها فيكون رجوعاً عما بذل لربه من نفسه (مه) كلمة زجر: بمعنى اكفف، ما ذكر من كونه زجراً عن ذلك هو ما اقتصر عليه في «فتح الباري» . قال السيوطي في «التوشيح» : ويحتمل أن يكون زجراً لعائشة عن مدحها المرأة بذلك (عليكم من العمل بما تطيقون) الدوام عليه (فوا) أتى به لتأكيد الأمر، ويسن الحلف لمثل ذلك (لا يمل الله حتى تملوا) بفتح الميم في الموضعين، والملال: استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو محال على الله تعالى، فإطلاقه عليه من باب المشاكلة نحو {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) قال السيوطي: هذا أحسن محامله. وفي بعض طرقه عن عائشة «كلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل» أخرجه ابن جرير في «تفسيره» : أي: لا يقطع ثوابه ويتركه اهـ.
قال الحافظ العسقلاني في «فتح الباري» : في بعض طرق حديث ابن جرير ما يدل على أنه مدرج من قول بعض الرواة اهـ. قال القرطبي وجه المجاز فيما ذكر أن الله تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن قطع العمل ملالاً عبر عن ذلك بالملل تسمية للشيء باسم سببه هذا بناء على إبقاء «حتى» على مدلولها من انتهاء الغاية، وقيل بتأويلها. فالمعنى: لا يمل الله إذا مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب يقولون: لا أفعل(2/384)
كذا حتى يشيب الغراب، ومنه قولهم: البليغ لا ينقطع حتى ينقطع خصومه، لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يبق له عليهم مزية. وهذا المثال أشبه مما قبله، لأن شيب الغراب ليس ممكناً عادة بخلاف الملل من العابد. وقال المازري: حتى بمعنى الواو؛ والمعنى: أن الله لا يملّ وتملون، فنفاه تعالى عنه وأثبته لهم. وقيل: حتى بمعنى حين، والأولى أليق وأجري على القواعد وهو أنه من باب المقابلة اللفظية (وكان أحب الدين إليه) عند المستملي «إلى ا» وهو يدل على أن الضمير في إليه تعالى.g والأكثر على أنه لرسوله، ولا منافاة بينهما فإن ما كان أحبّ إلى الله كان أحبّ إلى رسوله (ما داوم صاحبه عليه) قال ابن العربي: معنى المحبة من الله تعالى تعلق الإرادة بالثواب: أي: أكبر الأعمال ثواباً أدومها.
قال المصنف: بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة اهـ. قال ابن الجوزي: إنما أحبّ العمل الدائم، لأن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم وقتاً في كل يوم كمن لازم يوماً وانقطع شهراً، ولأنه بتركه العمل بعد دخوله فيه كان كالمعرض بعد الوصل فهو متعرّض للذم والعضل اهـ ملخصاً (متفق عليه) . و (مه) بسكون الهاء إذا كان النهي عن أمر معين وبكسرها منونة إذا كان عن غير معين (كلمة نهي وزجر. ومعنى لا يمل ا) أي: المعنى لا مدلول اللفظ لما قد عرفت، وكأنه أشار إلى ذلك بالإتيان بأي في قوله: (أي: لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم ويعاملكم معاملة المالّ حتى تملو فتتركوا، فينبغي لكم) إذا عرفتم ما يترتب على العمل الشاق من الانقطاع (أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه) من العمل الصالح وإن قلّ (ليدوم ثوابه) عليه (لكم و) يستمر (فضله عليكم) لدوام تفضله بجعله سبباً له.
1432 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط) قال شيخ الإسلام زكريا في «تحفة(2/385)
القاري» على «صحيح البخاري» : يعني ثلاثة رجال: عليّبن أبي طالب وعبد ابن عمرو ابن العاص، وعثمانبن مظعون. وإلا فالرهط لغة: من ثلاثة إلى عشرة اهـ (إلى بيوت أزواج النبي يسألون) يجوز أن يكون صفة للثلاثة وأن يكون حالاً لها (عن عبادة النبيّ) أي: عن قدرها ليتمسكوا بها ويقتدوا به في أفعاله فأخبروا بها (فلما أخبروها) فالفاء عاطفة على مقدر (تقالوها) بتشديد اللام المضمومة تفاعل من القلة: أي: عدوها قليلة، قال الأبي في «شرح مسلم» : إنما تقالوها بالنسبة إلى فهمهم، وربّ قليل عند شخص كثير في نفسه. وكان الشيخ يعني ابن عرفة يقول: الضمير إنما هو عائد على أعمالهم لاستكثارهم عمله، وهذا يرده أنه في البخاري حين تقالوه (قالوا: وأين نحن من النبيّ؟) أي: بيننا وبينه بون بعيد ومسافة طويلة، فإنا على صدد التفريط وسوء العاقبة وهو معصوم (وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) قال تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (الفتح: 2) وهذا كناية عن تشريفه وتكميله، وإلا فلا ذنب يصدر منه لعصمته من الذنوب مطلقاً على سائر أحواله، وتقدم وجه آخر (فقال أحدهم) وعند مسلم بعضهم (أما) حرف شرط فيه معنى التوكيد (أنا فأصلي الليل أبداً) أي: أحييه بالقيام ولا أنام شيئاً منه (وقال الآخر) بفتح الخاء المعجمة (وأنا أصوم الدهر) أي: ما عدا يومي العيد وأيام التشريق لحرمة صومها (ولا أفطر) في شيء من أيامه (وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً) يحتمل أنه زهد فيه لكونه من المستلذات ولما يرى من أن النكاح شاغل عن كمال الجد في العبادة. قال الجنيد: ما رأينا من تزوّج فبقي على حاله (فجاء رسول الله) أي: أعلم بما قالوه فجاء (فقال: أنتم) بحذف ألف الاستفهام التقريري: أي: أأنتم (الذين قلتم كذا وكذا) ويحتمل أنه أوحي له بما قالوه ولم يعلمه به أحد من
البشر فأخبر به معجزة، وتقدير الكلام: فقالوا نعم إذ الاستفهام يقتضيه، ويحتمل ألا يكون على الاستفهام ويكون لينبئهم على علمه بكلامهم فيكون من(2/386)
قبيل ما يسمى عند علماء المعاني بلازم فائدة الخبر والأول أقرب (أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح (وا إني لأخشاكم وأتقاكم له) لما جمع الله له من علم اليقين مع المعرفة القلبية واستحضار العظمة الإلهية ما لم يجتمع لأحد سواه وأراد ردّ ما بنى عليه القوم أمرهم حيث أعلمهم أنه مع كونه بالغاً في الخشية أعلاها وفي العبادة منتهاها لم يفعل ما أرادوا فعله. ولو كان أحب إلى الله مما هو عليه من الاقتصاد لفعله. والخشية: خوف مقرون بمعرفة فهي أخص من الخوف إذ هو توقع العقوبة على مجاري الأنفاس واضطراب القلب من ذلك المخوف. وقيل: الخوف حركة والخشية سكون، ألا ترى أن من رأى عدوّاً له حالة استقراره في محل يصل إليه فيه تحرّك للهرب منه وهي حالة الخوف، ومن رآه حالة استقراره في محل لا يصل إليه سكن وهي الخشية. قال السيوطي في «مرقاة الصعود» : قال الشيخ عز الدينبن عبد السلام: في الحديث إشكال لأن الخوف والخشية حالة تنشأ عن ملاحظة شدة النقمة الممكن وقوعها بالخائف، وقد دل القاطع على أنه عليه الصلاة والسلام غير معذب فكيف يتصوّر منه الخوف، فكيف أشد الخوف؟ قال: والجواب أن الذهول جائز عليه، عليه الصلاة والسلام، فإذا حصل الذهول عن موجبات نفي العقاب حدث الخوف. وقد يقال: إن إخباره بشدة الخوف وعظم الخشية عظم بالنوع لا بكثرة العدد: أي: إذا صدر منه الخوف ولو في زمن فرد كان أشد من خوف غيره اهـ (لكني أصوم) تارة (وأفطر) تارة أخرى (وأصلي) أي: أتهجد في بعض الليل. أداء لحق العبودية (وأرقد) أداء لحق النفس (وأتزوّج النساء، فمن رغب) أي: أعرض (عن سنتي) طريقتي (فليس مني) من هذه، تسمى اتصالية: أي: ليس متصلاً بي ليسمى قريباً مني، والسنة مفرد مضاف إلى معرفة فتعم على الراجح وتشمل الشهادتين وأركان
الإسلام، فيكون الراغب عن ذلك مرتداً. وقال المطرزي في «شرح المصابيح» : يعني من ترك ما أمرت به من أحكام الدين فرضاً أو سنة على سبيل الاستخفاف بي وعدم الالتفات إليّ فليس مني لأنه كافر، أما من تركه لا عن استخفاف بل عن الكسل لم يكن كافراً، وحينئذٍ فقوله: «ليس مني» أي: من المقتدين بي والعاملين بسنتي اهـ (متفق عليه) واللفظ للبخاري وعند مسلم نحوه. قال الأُبِّي: وما دلت عليه(2/387)
الأحاديث من راجحية النكاح هو أحد قولين، وهذا حين كان في النساء المعونة على الدين والدنيا وقلة التكلف والشفقة على الأولاد، أما في هذه الأزمنة فنعوذ با من الشيطان، ومن النسوان، فوا الذي لا إله إلا هو لقد حلت العزلة والعزبة بل ويتعين الفرار منهن، فلا حول ولا قوة إلا با اهـ.
1443 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيّ قال: هلك المتنطعون قالها) أي: هذه الجملة وكررها (ثلاثاً) تأكيداً في النهي عنه، وكان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثة لتفهم عنه رواه البخاري و (رواه مسلم) وأحمد وأبو داود.
(المتنطعون) جمع متنطع اسم فاعل من التنطع بتقديم الفوقية على النون (المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد) وقال الحطابي: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم. وقال في «النهاية» : المغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولاً وفعلاً. قال العاقولي: يدخل في هذا الذم ما يكون القصد فيه مقصوراً على اللفظ ويجيء المعنى تابعاً للفظ، أما بالعكس فهو الممدوح، وهو أن يدع الرجل نفسه تجري على سجيتها فيما يروم التعبير عنه من المعاني كما قال:
أرسلت نفسي على سجيتها
وقلت ما قلت غير محتشم
1454 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: إن الدين) أل فيه للعهد: أي: دين الإسلام (يسر) قال الكرماني: معناه إما ذو يسر أو أنه يسر على سبيل المبالغة نحو زيد عدل: أي: لشدّة اليسر وكثرته فيه كأنه نفسه. وقال الطيبي: يسر خبر إن وضع موضع المفعول مبالغة (ولن يشادّ الدين إلا غلبه) قال الطيبي: بناء المفاعلة في يشادّ ليس للمغالبة بل للمبالغة نحو طارقت النعل وهو من جانب المكلف. قلت: والمعنى لا يتعمق أحد(2/388)
في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه. ويحتمل أن يكون للمبالغة على سبيل الاستعارة والمستثنى منه أعم الأوصاف: أي: لم يحصل ويستقرّ ذلك المشاد على وصف من الأوصاف إلا على أنه مغلوب (فسددوا) الفاء جواب شرط مقدر: أي: إذا بينت لكم ما في المشادة من الوهن فسدوا: أي: الزموا السداد، وهو التوسط من غير إفراط ولا تفريط. قال أهل اللغة: السداد التوسط (وقاربوا) أي: إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل فاعملوا ما يقرب منه، وقد تقدم في آخر باب الاستقامة في الأصل معنى السداد والمقاربة (وأبشروا) بالثواب على العمل الدائم وإن قل (واستعينوا) على تحصيل العبادات (بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) قال في «التوشيح» بالضم، قال في «مختصر القاموس» و «الفتح» : فاقتصار «التوشيح» على الضم لأنه الرواية الصحيحة كما في «المشارق» للقاضي عياض. قال: ويقال بفتح الدال: أي: مع سكون اللام وفتحها (رواه البخاري. وفي رواية له) من حديث أبي هريرة (سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة) أي: مضموم إلى الغدوة والروحة (القصد) بالنصب على الإغراء: أي: الزموا التوسط في الأمر من غير إفراط ولا تفريط أو مفعول (تبلغوا) جواب الشرط المقدر: أي: إن تفعلوا ذلك على وجه القصد والمقاربة تبلغوا القصد من مرضاة ربكم ودوام القيام بعبوديته، وإن تعاطيتم المشاقّ ربما مللتم فانقطعتم (قوله الدين) قال صاحب «المطالع» هو في أكثر
الروايات (مرفوع على) أنه مفعول (ما) أي: فعل (لم يسم فاعله) «ويشاد» عليه مبني للمفعول (وروي منصوباً) بإضمار الفاعل للعلم به. ونقل العلقمي عن المصنف أنه قال: إن هذه أكثر الروايات قال:
قال الحافظ ابن حجر: وجمع بينه وبين كلام صاحب «المطالع» بأنه بالنسبة إلى رواية المغاربة والمشارقة (وروي: لن يشادّ الدين أحد) أي: بالتصريح بالفاعل، قال الحافظ: رواه هكذا ابن السكن، وكذا هو في طرق الحديث عند الإسماعيلي وأبي نعيم وغيرهم، قال الزركشي: وليس في الدين على هذه الرواية إلا النصب (وقوله إلا غلبه: أي: غلبه الدين) بالرفع فالضمير المرفوع المستكن يرجع إليه (وعجز ذلك المشاد عن مقاومة الدين لكثرة طرقه)(2/389)
أي: ولا يمكن القيام بكلها في كل وقت لأن الوقت لا يقبل عملين، وليس للإنسان في جوفه من قلبين (والغدوة) بفتح الغين المعجمة المرة من (سير أول النهار) الذي هو الغدو (و) كذا (الروحة) فهي المرة من سير (آخر النهار) المسمى بالرواح ففي العبارة تجوّز وتسامح.
قال السيوطي: الغدو سير أول النهار، والغدوة أي بالفتح المرة منه، وبالضم ما بين صلاة الغدوة وطلوع الشمس اهـ (والدلجة) السير (آخر الليل) هذا قول بعض أهل اللغة، واقتصر في «مختصر القاموس» على أنه سير الليل كله، وقد بسط ذلك القاضي عياض فقال في «المشارق» : اختلف أرباب اللغة في هذا: أي: في أدلج بالتشديد والتخفيف وفي الإدلاج بسكون الدال وتشديدها مكسورة هل يستعمل ذلك كله في الليل كله أو بينها اختلاف؛ فقيل إن ذلك كله يستعمل في سير الليل كله والدلجة بفتح الدال وضمها سواء فيهما، وأنهما لغتان، وأكثرهم يقول ادّلج بتشديد الدال: سار آخر الليل، وأدلج بتخفيفها: الليل كله، يقال ساروا دلجة: أي: ساعة من الليل، والدلج بفتح اللام، والإدلاج بسكون الدال، والدلجة بفتح الدال: سير الليل كله، والإدلاج بتشديد الدال، والدلجة بضم الدال: سير آخره. وفي الهجرة: فيدلج من عندهما سحراً اهـ. (وهذا) أي: قوله استعينوا الخ (استعارة) بأن شبه استعانة السالك في استعماله في سلوكه أوقات النشاط المقرّبة لوصوله لغاية سلوكه باستعانة المسافر السفر الحسي بسيره في هذه الأوقات التي تنشط فيها الدواب وتقطع فيها المسافات التي يقرب بقطعها من المقصد، ثم سرت الاستعارة منه إلى الفعل فهي استعارة مصرحة تبعية (وتمثيل) بأن شبه ما يقع من السالك من الاستراحة وقتها والتعبد أوقات النشاط والفراغ بحلول المسافر تارة وارتحاله في أوقات النشاط أخرى في الوصول إلى المقصد، فالواو في كلامه بمعنى أو الاستعارة في الوجه الأخير للمجموع، ويحتمل أن يكون مراد المصنف أن ذلك استعارة تمثيلية، والله أعلم (ومعناه: استعينوا على طاعة الله تعالى بالأعمال في وقت نشاطكم) هذا يرجع إلى الغدوة والروحة (وفراغ قلوبكم) يرجع للدلجة (بحيث تستلذون الطاعة) وإن كانت شاقة في ذاتها لمزيد النشاط وصفاء القلب مما يشغله عن استجلاء محاسن الطاعة (ولا تسأمون) لنشاطكم وفراغ قلوبكم (وتبلغون
مقصودكم) من أداء العبودية حسب الطاقة (كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات) لنشاط الدواب ببرد الهواء فيقطع فيها من المسافرة ما لا يقطعه في أطول منها من باقي(2/390)
الأوقات (ويستريح هو ودابته في غيرها فيصل المقصود بلا تعب، والله أعلم) .
1465 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل النبي) زاد مسلم (المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين) من سواريّ المسجد وكأنهما كانا معهودين بين المخاطبين، وعند مسلم «ساريتين» بالتنكير (فقال: ما هذا الحبل) أي: ما سبب مده بهذا المكان (قالوا) أي: الحاضرون (هذا حبل لزينب) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: جزم كثير من الشارحين تبعاً للخطيب في «مبهماته» أنها بنت جحش ولم أر ذلك في شيء من الطرق صريحاً، ثم نقل ما قد يؤخذ منه ذلك فقال من جملته: وأخرجه أبو داود عن شيخين له، فقال عن أحدهما زينب بنت جحش، وعن الآخر حمنة بنت جحش، فهذه قرينة في كون زينب هي بنت جحش. وروي أحمد عن أنس أنها حمنة بنت جحش، ولعل نسبه الحبل إليهما باعتبار أنه ملك لإحداهما والأخرى المتعلقة به. قال: وقد تقدم أن كلاً من بنات جحش تدعي زينب فيما قيل، فالحبل لحمنة وأطلق عليها زينب باعتبار اسمها الآخر. وعند ابن خزيمة في «صحيحه» «فقالوا الميمونة بنت الحارث» وهي رواية شاذة، وقيل: يحتمل تعدد القصة. وزاد مسلم لزينب تصلي» (فإذا فترت) بفتح الفوقية: أي: كسلت عن القيام في الصلاة، ووقع في مسلم: كسلت أو فترت بالشك (تعلقت به، فقال النبي: «حلوه ليصلّ أحدكم نشاطه) بفتح النون (فإذا فتر فليرقد. متفق عليه) قال الحافظ ابن حجر: فيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة(2/391)
والنهي عن التعمق فيها والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وفيه إزالة المنكر باللسان واليد، وفيه جواز تنفل النساء في المسجد.
1476 - (وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نعس أحدكم) بفتح العين في الماضي وضمها وفتحها في المضارع وغلطوا من ضم عين الماضي، والنعاس: مقدمة النوم، وعلامته سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهم معناه (وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم) في رواية النسائي فلينصرف، والمراد به التسليم من الصلاة بعد تمامها فرضاً كانت أو نفلاً، فالنعاس سبب للنوم وللأمر به ولا يقطع الصلاة بمجرد النعاس، وحمله المهلب على ظاهره فقال: إنما أمره بقطع الصلاة لغلبة النوم عليه، فدل على أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك فلا قطع (فإن أحد) أي: الواحد منكم إذا صلى وهو ناعس غاير بين لفظي النعاس فعبر أولاً بلفظ الماضي، وهنا بلفظ الوصف تنبيهاً على أنه لا يكفي وجود أدنى نعاس وتقضيه في الحال بل لا بد من ثبوته بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول وعدم علمه بما يقرأ. فإن قلت: هل بين قوله: «نعس أحدكم وهو يصلي» وقوله: «صلى وهو ناعس» فرق؟ قلت: أجيب بأن الحال قيد في الكلام والقصد في الكلام ماله القيد، فالقصد في الأول غلبة النعاس لا الصلاة لأنه العلة في الأمر بالرقاد فهو المقصود الأصلي في التركيب، وفي الثاني صلاة لا النعاس لأنها العلة في الاستغفار فهي المقصود في التركيب، إذ تقدير الكلام: إذا صلى أحدكم وهو ناعس يستغفر (لا يدري لعله يذهب يستغفر) أي: يقصد الاستغفار (فيسبّ نفسه) أي: يدعو عليها، وهو بالرفع عطفاً على يستغفر، والنصب جواباً لـ «لعل» وجعل العارف با ابن أبي جمرة علة النهي خشية أن يوافق ساعة إجابة، والترجي في لعل عائد على المصلى لا إلى المتكلم به: أي لا يدري أمستغفر أم ساب مترجياً للاستغفار وهو في الواقع بضد ذلك. قال الطيبي: والنصب أولى لأن المغني لعله يطلب من الله الغفران لذنبه ليصير مزكى/ فيتكلم بما يجلب الذنب فيزيد العصيان على العصيان فكأنه سبّ نفسه. قال: ومفعول لا يدري محذوف: أي: لا يدري
ما يفعل وما بعده مستأنف بياني، والفاء في فيسبّ للسببية كالكلام فيـ فالتقطه آل(2/392)
فرعون ليكون لهم عدوّاً - (متفق عليه) . ورواه مالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .
1487 - (وعن أبي عبد ا) ويقال أبو خالد (جابربن سمرة) بضم الميم ابن جنادة ابن جندببن حجيربن رباببن حبيببن سواءة، بضم السين والمد، بن عامر ابن صعصعة ابن بكربن هوازنبن منصوربن عكرمةبن خصفةبن قيس عيلان بالمهملة ابن مضربن نزاربن معدّابن عدنان (السوائي) هو وأبوه صحابيان (رضي الله عنهما) روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وستة وأربعون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين، توفي سنة ستّ وستين (قال: كنت أصلي مع النبيّ الصلوات) . وفي رواية لمسلم «وا لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ألفي صلاة» (فكانت صلاته قصداً) أي: يأتي بمكملاتها ومسنونها من غير طول ولا قصر (وخطبته) أي: للجمعة وغيرها (قصدا) إذ هو لما أوتي من جوامع الكلم كان يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة ولم يبالغ في الإيجاز لأنه بصدد البيان والمبالغة فيه تؤدي إلى خلاف ما هو بصدده غالباً (رواه مسلم. قوله قصداً: أي: بين الطول والقصر) بكسر ففتح.
1498 - (وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح المهملة وسكون التحية بعدها فاء ثم هاء(2/393)
(وهببن عبد ا) وقيل: ابن وهب السوائي بضم المهملة وتخفيف الواو والمد: نسبة إلى سواءة ابن عامربن صعصعة المذكور في نسب جابربن سمرة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وأربعون حديثاً اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة توفي النبي وأبو جحيفة صبيّ لم يبلغ الحلم، وكان عليبن أبي طالب يكرمه ويحبه ويثق به وجعله على بيت المال بالكوفة، نزل الكوفة ابتنى بها داراً، وتوفي بها سنة اثنتين وسبعين (رضي الله عنه قال: آخى) بالمد والخاء المعجمة من المؤاخاة والمعاهدة على التناصر والقيام بحقوق الدين (النبي بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء) عويمر الأنصاري لما آخى بين المهاجرين والأنصار، وذلك بعد قدومه المدينة بخمسة أشهر والمسجد يبنى كذا قيل.g وتعقب بأن سلمان إنما أسلم بعد وقعة أحد، وأول مشاهدة الخندق وأجيب بأن التاريخ المذكور هو ابتداء تاريخ الأخوة بين من ذكر، ثم كان يؤاخي بين من يأتي بعد ذلك وهلم جرا، وليس باللازم أن تقع المؤاخاة دفعة واحدة حتى يرد ما ذكر (فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء) الكبرى واسمها خيرة بفتح المعجمة وسكون التحتية بنت حدرد صحابية بنت صحابي، ماتت قبل أبي الدرداء (متبذلة) بفتح المثناة والموحدة وتشديد المعجمة: أي: لابسة ثياب البذلة بكسر الموحدة وسكون المعجمة: وهي المهنة وزناً ومعنىً، والمعنى: أنها تاركة للبس ثياب الزينة، وعند الكشميهني بتقديم الموحدة والتخفيف والمعنى واحد (فقال لها: ما شأنك) زاد الترمذي في روايته: أم الدرداء متبذلة (قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا) وفي رواية الدارقطني «في نساء الدنيا» وزاد فيه ابن خزيمة «يصوم النهار ويقوم الليل» (فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً) على وجه القرى والكرامة فقال بعد أن قرب الطعام (له) أي: لسلمان (كل فإني صائم،
قال) سلمان (ما أنا بآكل) زاد الباء لتأكيد النفي (حتى تأكل) وغرضه أن يصرف أبا الدرداء عن رأيه فيما يصنعه من جهد نفسه في العبادة وغير ذلك مما شكته إليه امرأته (فأكل) إكراماً له فإفطاره لعذر فيثاب عليه (فلما كان الليل) في رواية ابن خزيمة وغيره «ثم بات عنده/ فلما(2/394)
كان الليل» أي: أوله ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال له سلمان (ثم فنام، ثم ذهب يقوم فقال نم، فلما كان من آخر الليل) أي: عند السحر وكذا هو في رواية ابن خزيمة. وعند الترمذي «فلما كان عند الصبح» والدارقطني «فلما كان في وجه الصبح» (قال سلمان: قم الآن، فصليا) في رواية الطبراني «فقاما فتوضأ ثم ركعا ثم خرجا إلى الصلاة» (فقال له سلمان) مرشداً إلى حكمة الاقتصاد وترك الغلوّ في العبادة (إن لربك عليك حقاً) من العبادة (وإن لنفسك عليك حقاً) من الطعام الذي تقوم به بنيتها والمنام الذي يحصل به صحتها (ولأهلك) أي: زوجك (عليك حقاً) هو إتيانها وقضاء وطرها، زاد الترمذي وابن خزيمة «ولضيفك عليك حقاً» زاد الدارقطني فصم وأفضل وصل ونم وأت أهلك» وذلك كالتفسير لقوله هنا (فأعط كل ذي حق حقه لي) أي: أبو الدرداء (النبي، فذكر ذلك له) في رواية الترمذي «فأتيا بالتثنية» وعند الدارقطني «ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر النبي بالذي قال له سلمان، فقال له: يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقاً» مثل ما قال سلمان، ففي هذه الرواية أن النبي أشار إليهما بأنه علم بطريق الوحي ما جرى بينهما، فيحتمل الجمع بأنه كاشفهما بذلك أولاً ثم أطلعه أبو الدرداء على صورة الحال (فقال النبي: صدق سلمان) وعند الطبراني مرسلاً قال: «كان أبو الدرداء يحيي ليلة الجمعة ويصوم يومها، فأتاه سلمان» فذكر القصة مختصرة وزاد في آخرها فقال النبي: «عويمر. سلمان أفقه منك» اهـ. وعويمر هو اسم أبي الدرداء. وفي رواية لأبي نعيم «فقال النبيّ: «لقد أوتي سلمان علماً» .
قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر ما شرحنا به الحديث ملخصاً: وفي الحديث من الفوائد مشروعية المؤاخاة فيالله، وزيارة الإخوان فيه والمبيت عندهم، وجواز مخاطبة الأجنبية للحاجة، والنصح للمسلم وتنبيه من غفل، وفيه فضل قيام آخر الليل، وفيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور. والوعيد الوارد فيمن نهى مصلياً عن الصلاة مخصوص بمن نهاه ظلماً وعدواناً، وفيه كراهية الحمل على النفس في العبادة، وفيه جواز الفطر من صوم التطوع. ثم أطال الحافظ في بيان الخلاف في(2/395)
ذلك وفي لزوم القضاء (رواه البخاري) وغيره ممن تقدمت الإشارة إليه.
1509 - (وعن أبي محمد عبد ابن عمروبن العاص) قال المصنف: أكثر ما يأتي في كتب الحديث والفقه بحذف الياء وهو لغة، والصحيح الفصيح إثباتها، ولا اغترار بوجوده في كتب الحديث أو أكثرها بحذفها اهـ. وفي «شرح المشكاة للقاري» : الأصح عدم ثبوت الياء إما تخفيفاً أو بناء على أنه أجوف ويدل عليه ما في «القاموس» : الأعياص من قريش أولاد أمية بن عبد شمس: العاص وأبو العاص وأبو العيص اهـ. فعليه لا يجوز كتابة العاص ولا قراءته بالياء لا وصلاً ولا وقفاً، إذ هو معتل العين خلاف ما يتوهمه بعض الناس من أنه اسم فاعل من عصى فيجوز إثباتها وحذفها وصلاً ووقفاء بناء على أنه معتل اللام اهـ (رضي الله تعالى عنهما قال: أخبر) بالبناء للمفعول (النبي إني أقول: وا لأصومنّ النهار) أي: كل نهار قابل للصوم ليخرج يوم العيد وأيام التشريق (ولأقومنّ الليل) أي: جميعه (ما) مصدرية ظرفية (عشت) أي: مدة عيشتي: أي حياتي (فقال رسول الله) أي: لي (أنت الذي تقول ذلك؟) أي: أأنت بتقدير همزة الاستفهام التقريري والمشار إليه قوله لأصومن الخ (فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي) أي: مفدي بهما (يا رسول الله: قال: فإنك لا تستطيع ذلك) .
قال الحافظ العسقلاني: يحتمل أن يريد لا تطيقه في الحالة الراهنة لما علمه من أنه يتكلف ذلك ويدخل به على نفسه المشقة ويقوته به ما هو أهم منه، ويحتمل أنه يريد لا تطيقه في المستقبل لما سيأتي أنه بعد أن كبر وعجز قال: يا ليتني قبلت رخصة النبي، فكره أن يوظف على نفسه شيئاً من العبادة ثم يعجز عنه فيتركه لما تقرّر من ذم ذلك (فصم وأفطر ونم وقم) لتقوى بالفطر والنوم على الصوم والقيام ولذا كان الأفضل صيام داود وقيامه(2/396)
الآتيان (وصم من الشهر ثلاثة أيام) هذا تفصيل لما أجمله في قوله فصم وأفطر: أي: فصيام الثلاث من الشهر كصيامه (فإن الحسنة بعشر أمثالها) هذا أقل درجات المضاعفة، وتضعيف الحسنات من خصائص هذه الأمة نبه عليه القرافي، وظاهر الحديث أن ذلك يحصل بصيام: أي: ثلاثة كانت من الشهر، وقد اختلفت الأخبار في أفضلها (وذلك) أي: صيام الثلاث من كل شهر لكون الحسنة بعشر أمثالها (مثل صيام الدهر) في أصل الثواب لا فيه مع المضاعفة المرتبة على صيامه بالفعل لئلا يلزم مساواة ثواب الأقل من الأعمال للأكثر منها مع التساوي في سائر الأوصاف، وقواعد الشرع تأباه. قال في «فتح الباري» : ومع ذلك فيصدق على فاعل ذلك أنه صام الدهر مجازاً (قلت: إني أطيق) عملاً (أفضل من ذلك) أي: أكثر ثواباً من صوم ثلاث أيام وهو الزيادة في الصوم المرتب عليها الزيادة في الثواب لما عندي من القوى وفي مسلم عنه «إني لأقوى من ذلك» وعند مسلم «إن بي قوة» وعنده أيضاً «إني أجدني أقوى من ذلك» (قال: فصم يوماً وأفطر يومين) قال القلقشندي: وقع في بعض طرق الحديث زيادة قبل هذا وهي «فصم من كل شهر ثلاثة أيام» وهي على شرط مسلم وفي بعض طرقه عند الشيخين «أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ قلت يا رسولالله، قال خمساً، قلت يا رسول الله قال سبعاً، قلت يا رسولالله، قال تسعاً، قلت يا رسولالله، قال أحد عشر، قلت يا رسولالله، فقال النبي: لا صوم فوق
صوم داود شطر الدهر صيام يوم إفطار يوم» فهذا يدل على أن الزيادة وقعت بالتدريج فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر (قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام وهو أعدل الصيام) لأن النفس تكتسب في يوم الفطر من القوي ما يجبر به ما لحقها من وهن الصوم فتدوم على العمل، ولفظ أعدل لمسلم (وفي رواية) للبخاري (وهو أفضل الصيام) أي: صيام التطوّع فهو أفضل من صوم الدهر كما قاله المتولي وغيره خلافاً لما أفتى به ابن عبد السلام، والسرّ في ذلك أن صوم الدهر قد يفوت به حق مفروض فيكون حراماً، أو مندوب آكد من الصيام فيكون مكروهاً، وقد لا يفوت به شيء من ذلك فيباح لأنه(2/397)
قد لا يشق الاعتياد بخلاف صوم يوم وفطر يوم.
قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : إن قلت إذا صادف فطره يوم الإثنين أو الخميس وكانت عادته صومهما هل يحصل له فضيلة صومهما؟ قلت: الظاهر حصولها لأن عدوله إلى صوم داود إنما كان لعذر وهو طلب الأفضلية فهي تجبر ما فات بالإفطار. (قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله: لا أفضل من ذلك) هو لعبد الله وغيره على قول المتولي لما تقدم. وعلى قول آخرين إنّ سرد الصوم أفضل منه، فهو محمول على أن المراد لا أفضل منه في حق عبد ابن عمرو لما علمه من حاله ضعفه في مآله، واستدل له بأن النبيّ لم ينه حمزةبن عمرو عن سرد الصوم ويرشده إلى صوم يوم وفطر يوم، ولو كان أفضل في حق كل الناس لأرشده إليه وبينه له، إذ التأخير للبيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وقال الحافظ ابن حجر: قوله: «لا أفضل من ذلك» ليس فيه نفي المساواة صريحاً، لكن قوله في حديث عبد ابن عمرو عند البخاري «أحبّ الصيام إلى الله صيام داود» يقتضي ثبوت الأفضلية المطلقة. ورواه الترمذي عن ابن عمرو بلفظ «أفضل الصيام صيام داود» وكذا رواه مسلم ومقتضاه أن تكون الزيادة على ذلك من الصوم مفضولة (قال عبد ا) بعد كبره ومشقة ما سأل الإزدياد فيه من النبي حتى زادة حين كاد أن يعجز عنه ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه فتمنى الأخذ بالرخصة والأخف فقال (و) الله (لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام) بالنصب عطف بيان على الثلاثة أو بدل والجر فيه ضعيف نحو الثلاثة الأثواب (التي قال رسول الله) أي: أشار أولاً بها وبالاقتصار عليها إبقاء على النفس (أحب إلي من أهلي ومالي) قال في «فتح الباري» : ومع عجزه وتمنية الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف كما في رواية ابن خزيمة من طريق حصين، فكان عبد الله حين ضعف وكبر يصوم تلك الأيام كذلك يصل بعضها إلى بعض ثم يفطر بعدد تلك الأيام ليقوى بذلك، وكان يقول: لأن أكون قبلت الرخصة أحبّ إليّ مما عدل به، لكني فارقته على أمر أكره أن
أخالفه إلى غيره. وقوله: «ولأن أكون» الخ رواه مسلم (وفي رواية) للبخاري (ألم أخبر أنك تصوم النهار) أي: كل يوم قابل للصوم فأل فيه للاستغراق (وتقوم الليل) أي: كل الليل على الدوام(2/398)
(قلت: بلى يا رسول الله) سيأتي في مسلم: ولم أرد بذلك إلى الخير (قال) تنبيهاً على طريق الرفق والسداد (لا تفعل لما في ذلك من كمال المشقة المفضي بثقل الطاعة على النفس ونفرتها منه وربما ملتها فانقطعت عنها بخلاف الرفق فإنه يدوم به الأمر، ويحسن به الشأن (صم وأفطر ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقا) قال المهلب: حق الجسد أن يترك فيه من القوة ما يستديم به العمل إذ إجهاد النفس في العبادة قاطع لها عن الدوام كما تقدم «ولن يشادّ الدين إلا غلبه» (وإن لعينك) هذه رواية الكشميهني بالإفراد وعند غيره لعينيك بالتثنية (عليك حقاً) وهو النوم قدر ما ينكسر به سورة السهر (وإن لزوجك عليك حقاً) حق الأهل أن يبقى في نفسه قوّة يمكن معها الجماع، فإنه حق للمرأة تطالب به عند بعض العلماء، وإذا عجز عن ذلك بالعنة وضربت المدة ولم يأتها جاز لها الفسخ (وإن لزورك) أي: ضيفك (عليك حقاً) وحقه خدمته وتأنيسه بالأكل معه، والزور الضيف والرجل يأتيه زائراً والواحد والإنثان والثلاثة، المذكر والمؤنث فيه بلفظ واحد لأنه مصدر وضع موضع الأسماء مثل قوم صوم، ويحتمل أن يكون جمع زائر كركب وراكب (وإن بحسبك) الباء زائدة والسين ساكنة أي كافيك (أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام) وللكشميهني في كل شهر (فإذا) بتنوين الذال وهي التي يجاب بها وإن وكذا لو صريحاً أو تقديراً وإن هنا مقدرة كأنه قيل إن صمتها فإذاً (ذلك صوم الدهر) مثل أصل ثواب صومه كما تقدم وروي بغير تنوين وهي للمفاجأة.
قال الحافظ في «فتح الباري» : وفي توجيهها هنا تكلف. قال الشيخ زكريا: والتقدير إن صمت ثلاثة أيام من كل شهر فاجأك عشر أمثالها (فشددت) على نفسي في عدم قبول هذه الرخصة (فشدد) بالبناء للمفعول (عليّ) في زيادة العمل، ثم بين ذلك بقوله: (قلت يا رسول الله إني أجد قوّة) تحتمل الزيادة على صوم الثلاثة في كل شهر (قال: صم صيام داود) عليه السلام (ولا تزد عليه) لعظم فضله (قلت: وما كان صيام داود) ما خبر كان مقدم عليها لأنه لكونه اسم استفهام له الصدارة (قال: نصف الدهر) أي: على سبيل التقريب وإلا فيوما العيد وأيام التشريق زائدة في عدد أيام الفطر على عدد أيام الصوم (فكان عبد الله يقول بعد(2/399)
ما كبر) بكسر الموحدة: أي: في السنّ وشقّ عليه ثقل العمل ولم يتمكن من تركه لما تقدم (يا) قوم وقيل: إن «يا» للتنبيه (قبلت رخصة النبي) بالتخفيف يصوم الثلاث.
(وفي رواية) لمسلم (ألم أخبر) بالبناء للمفعول (أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن) أي: تختم المجتمع منذ حينئذٍ (في كل ليلة، فقلت: بلى يا رسول الله) أي: أنا أفعل ذلك الذي أخبرت به، وليس المراد إثبات أنه أخبر بذلك (ولم أرد بذلك) أي: بصيامي المتتابع وقيامي (إلا الخير) أي: إما ثواب الله تعالى وإما أداء عبوديته والقيام بما يجب لربوبيته (قال) وفي نسخة قيل: «فصم صوم داود زيادة» بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، قلت: يا رسول الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً ولجسدك عليك حقاً، قال: (فصم صوم داود فإنه كان أعبد الناس) أي: غير النبي؛ إذ المتكلم لا يدخل في عموم كلامه ولا يلزم من ذلك أن يكون أفضلهم بعد النبي، لأن التفضيل بأعلى المراتب وأعلى المنازل موهبة من الله تعالى: {يختص برحمته من يشاء} (آل عمران: 74) وحذف لمصنف ما أوردناه من الحديث وهو عند مسلم اكتفاء بما قدمه (واقرأ القرآن) أي: اختم متهجداً به (في) ليالي (كل شهر، قلت: با نبيّ الله إني أطيق أفضل من ذلك) أي: المذكور من الصوم للثلاثة الأيام والقراءة في الشهر (قال: فاقرأه في عشرين) ليلة قال: (قلت يا نبيّ الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في عشر) أي: من الليالي (قال قلت: يا نبيّ الله إني أطيق أفضل من ذلك) وفي نسخة: أكثر من ذلك (قال: فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك) سيأتي في كتاب الفضائل الخلاف في بيان مدة الختم للقرآن واختلاف ذلك بحسب الأحوال، وأن هذا محمول على حال من كان له بعض الاشتغال بحيث يمنعه عن الإكثار من التلاوة أو من التأمل في معانيها عند الإكثار منها (فشددت) بطلب الزيادة(2/400)
(فشدد عليّ) بها (وقال لي النبي) من باب الإخبار بالمغيبات مما يئول إليه حاله من العجز والضعف (إنك لا تدري لعلك يطول بك عمرك) فتعجز عن القيام بمشاق العبادات ولعل معلقة لتدري عن مفعوليه (قال) ابن عمرو (فصرت إلى الذي قال لي النبيّ)
أي: من قوله: «لعلك يطول عمرك» وذلك من معجزاته (فلما كبرت) بكسر الموحدة (وددت) بكسر الدال المهملة (أني كنت قبلت رخصة) تخفيف (النبي) في كل من الصيام والقيام.
(وفي رواية) أي: لمسلم (وإن لولدك) بفتحتين مفرداً وبضم فسكون جمعاً (عليك حقاً) أن تكتسب لهم وتنفق عليهم.
(وفي رواية) لهما أنه قال له (لا صام من صام الأبد) يحتمل أن يكون على وجه الدعاء، وقيل: إنه محمول على حقيقته أي بأن صام جميع أيام السنة ولم يفطر أيام العيد والتشريق/ وبهذا أجابت عائشة رضي الله عنها واختاره ابن المنذر وآخرون، لكن تعقب بأنه يدل على أنه ما أجر ولا أثم، وصائم تلك الأيام لا يقال فيه ذلك، والأظهر كما قال بعض شراح مسلم أنه محمول على من تضرّر به، ويؤيده أن النهي لعبد ابن عمرو وقد عجز في آخر عمره كما تقدم، فنهى ابن عمرو لعلمه بحاله في مآله، ولذا أقرّ حمزةبن عمرو الأسلمي على صيام الدهر لعلمه بقدرته بلا ضرر. وقيل: إنه إخبار بأنه ما صام: أي ما وجد من مشقته ما يجدها غيره، وتعقبه الطيبي بأنه مخالف لسياق الحديث، ألا تراه كيف نهاه أولاً عن صيام الدهر ثم حثه على صيام ثلاثة أيام من كل شهر ثم حثه على صيام داود؟ والأولى أن يكون خبراً عمن لم يتمثل أمر الشرع (قاله) أي: هذا اللفظ وكرره (ثلاثاً) تنفيراً لابن عمرو من صوم الدهر لعلمه بمآله.
(وفي رواية) لهما أيضاً، ورواه أحمد أيضاً (أحبّ الصيام إلى الله تعالى) أي: أكثر ما يكون محبوباً، واستعمال أحبّ بمعنى محبوب قليل، لأن الأكثر في أفعل التفضيل أن يكون من فعل الفاعل، ونسبة المحبة في الصيام والصلاة إلى الله تعالى على معنى إرادة الخير لفاعلهما أو كثرة الثواب فيهما (صيام داود وأحبّ الصلاة إلى الله صلاة داود) أي: أحبّ أوقات القيام للصلاة وقت صلاة داود لما جاء في الحديث الآخر «وأحبّ القيام قيام داود» (كان ينام نصف الليل) ليستريح(2/401)
البدن من تعب أعمال النهار (ويقوم ثلثه) بضمتين: وهو الوقت الذي يتجلى فيه الربّ سبحانه ويقول: «هل من سائل هل من مستغفر» (وينام سدسه) بضمتين، ونومه ليستريح من نصب القيام وبما ذكر يعلم أن مراد البيضاوي من قوله في سورة (ص) وكان يعني داود يقوم نصف الليل اهـ بيان وقت ابتداء يقظته لامدتها (وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً) ليجبر بالغذاء فيه الضعف الحاصل من الصوم قبله، وإنما كان هذا أحبّ لأنه أخذ بالرفق على النفوس التي تخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة وا يحبّ أن يوالي فضله ويديم إحسانه، ولأن فيه إبقاء لقوى النفس التي تستعين بها على أداء العبادات ومجاهدة الكفار، ولذا قال (وكان لا يفرّ إذا لاقى) العدوّ في الحرب لقوة نفسه بما أبقى فيها. وزاد النسائي «وإذا وعد لم يخلف» ولم يرها الحافظ العسقلاني لغيره ومناسبتها بالمقام الإشارة إلى أن سبب النهي خشية أن يعجز عن الذي التزمه فيكون كمن وعد وأخلف.
(وفي رواية) هي للبخاري في «التفسير» «أنكحني أبي امرأة ذات حسب» بفتح المهملتين بعدهما موحدة وهو الشرف بالآباء وما يعده الإنسان من مفاخرهم. وقيل الحسب: الفعل الحسن للرجل ولآبائه (وكان يتعاهد كنته) قال القاضي عياض في «المشارق» : بفتح الكاف (أي امرأة ولده) هذا بيان للمراد بالكنة في هذا الحديث، وأما هي لغة فامرأة ابن الرجل وامرأة أخيه (فيسألها عن بعلها) بفتح الموحدة وسكون المهملة زوجها (فتقول له) شاكية في معرض الثناء والشكر (نعم الرجل) أي: هو فالمخصوص بالمدح محذوف لدلالة ما قبله عليه (من) بيانية (رجل لم يطأ لنا فراشاً) كناية عن المضاجعة والنوم معها على الفراش (ولم يفتش لنا كنفاً) أي: لم يكشف لنا ستراً عبرت لذلك عن امتناعه عن الجماع.d
قال ابن النحوي: وبخط الدمياطي لم يدخل يده معها كما يدخل الرجل يده مع زوجته داخل إزارها؛ قال وأكثر ما يروى بفتح أوليه، من الكنف وهو الجانب تعني أنه لم يقربها (منذ أتيناه/ فلما طال ذلك عليه) أي: على أبيه (ذكر ذلك للنبي) يحتمل أن يكون سكوته عن ذلك أول ما ذكرته له لأنه رآها راضية بذلك، فلما كرر عليها السؤال تخوّف أن يتعلق بولده فيكون عليها حتى تذكره (فقال القني) بفتح(2/402)
القاف أمر من لقي (به فلقيته بعد ذلك) الأمر.
قال في «فتح الباري» : زاد النسائي وابن خزيمة وغيرهما من طريق أخرى عن مجاهد: أي: عن عبد ابن عمرو «فوقع على أبي فقال: زوجتك امرأة فعضلتها وفعلت وفعلت؛ قال: فلم ألتفت إلى ذلك لما كانت لي من القوة، فذكر للنبي فقال القني معه» .
وفي رواية لأحمد من الوجه «ثم انطلق إلى النبيّ فشكاني» وعند البخاري من طريق أبي المليح عن ابن عمرو قال: «ذكر للنبي صومي، فدخل عليّ فألقيت له وسادة» وعند البخاري أيضاً عن ابن عمرو «بلغ النبي أني أسرد الصوم وأصلي الليل فإما أرسل إليّ وإما لقيته.
قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن تكون توجه بأبيه إلى النبي فكلمه من غير أن يستوعب ما يريد في ذلك ثم أتاه إلى بيته زيادة في التأكيد (فقال) النبي (لي كيف تصوم؟ قلت: كل يوم، قال: وكيف تختم؟ قلت: كل ليلة، وذكر نحو ما سبق، وكان) عبد الله بعد كبره (يقرأ على بعض أهله السبع) بضم أوليه (الذي يقرؤه بالليل) أي: يريد قراءته به (يعرضه) بكسر الراء (من النهار ليكون) لقرب عهده به (أخف) قراءة (عليه بـ) ـصلاة (الليل) كان (إذا أراد أن التقوّي أفطر أياماً وأحصى) أي عدّ ما أفطر وهو خمسة عشر يوماً متوالية (وصام) أياماً (مثلهن) في العدد (كذلك) أي: متوالية (كراهة أن يترك شيئاً فارق عليه) أي: على الالتزام بالقيام به (النبي كل هذه الروايات) في حديث ابن عمروبن العاص (صحيحة معظمها في الصحيحين وقليل منها في أحدهما) وتقدمت الإشارة إلى البيان في ذلك.
15110ــــ (وعن أبي ربعى) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر المهملة وشد التحتية(2/403)
(حنظلةبن الربيع) وقيل: ربيعة والأول أكثر ابن ضبعيبن رباحبن الحارثبن مخاشنبن معاويةبن شريفبن جروةبن أسيدبن عمروبن تميم التميمي (الأسيدي) بضم الهمزة (الكاتب) قيل له ذلك لأنه (أحد كتاب رسول الله) وذكرهم ابن سيد الناس اليعمري في سيرته فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعامربن فهيرة وخالد وأبان ابنا سعيدبن العاصبن أبي أجيحة، وذكر شيخنا أبو محمد الدمياطي أخاهما سعيداً وعبد ابن الأرقم الزهري وحنظلةبن الربيع الأسيدي وأبيبن كعب: وهو من كتب له من الأنصار وثابتبن قيسبن شماس وزيدبن ثابت وشرحبيلبن حسنة ومعاويةبن أبي سفيان والمغيرةبن شعبة وعبد ابن زيد وجريمبن الصلت والزبيربن العوام وخالدبن الوليد والعلاءبن الخضرمي وعمروبن العاص وعبد ابن رواحة ومحمدبن سلمة وعبد ابن عبد ابن أبي ومعيقيببن أبي فاطمة وعبد ابن سعدبن سرح العامري، وهو أول من كتب له من قريش ثم ارتد فنزلت فيه {ومن أظلم فمن افترى على الله كذباً} (الأنعام: 21) قلت: ثم أسلم يوم الفتح ولم ينقم عليه شيء بعد إسلامه، ومات ساجداً، وذكر في كتابه أيضاً طلحة ويزيدبن أبي سفيان والأرقمبن أبي الأرقم والزهري والعلاءبن عقبة وأبا أيوب الأنصاري وخالدبن زيد وبريدةبن الحصيب والحصينبن نمير وأبا سلمة المخزومي وعبد ابن عبد الأسد وحويطببن عبد العزى وأبا سفيانبن حرب وحاطببن عمرو.
وروينا من طريق أبي داود عن ابن عباس قال: السجيل كانت لرسول الله. وذكر ابن دحية فيهم رجلاً من بني النجار غير مسمى قال: كان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تنصر، فلما مات لم تقبله الأرض انتهى كلام ابن سيد الناس ملخصاً.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحنظلة إلى أهل الطائف أتريدون الصلح أم لا؟ فلما توجه إليهم قال: ائتموا بهذا وأشباهه، ثم انتقل إلى قرقسا فمات بها. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أحاديث، تفرد به مسلم عن البخاري وأخرج له هذا الحديث (قال لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة) أي: خاف على نفسه النفاق لما(2/404)
كان يحصل له من الخوف في مجلس النبي ويظهر عليه فتح كمال المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج واشتغل بما سيأتي ذهب عنه ذلك، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشرّ (قال) على وجه التعجب مما قلت: (سبحان ا) أي: تنزيهاً (ما تقول) أي: تأمله وانظر فيه وما استفهامية مفعول مقدم لتقول (قلت) أي في بيان سبب قولي نافق حنظلة (نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالجنة والنار كأنا) نراهما (رأى عين) كذا قال القرطبي إنه قيده بالنصب، وقال القاضي: ضبطناه بالرفع: أي كانا ذوو رأي عين: أي بحال من يراهما، قال: ويصح النصب على المصدر (فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا) سيأتي ضبطه ومعناه مارسنا (الأزواج والأولاد والضيعات) جمع ضيعة بالضاد المعجمة: وهو معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة (فنسينا كثيراً) أي: إذا خرجنا واشتغلنا بهذه الأمور ذهب منا ذلك الحال الذي كان ونحن عند النبي وسماع موعظته ومشاهدته (قال أبو بكر رضي الله عنه: فوا إنا لنلقي مثل هذا) .
قال القرطبي: في هذا رد على من زعم دوام مثل ذلك الحال ولا يعرجون بسببها على أهل ولا مال. ووجه الردّ أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، ومع ذلك فلم يدع خروجه عن جبلة البشر، ولا ما هو من خاصة الملك من تعاطى دوام الذكر وعدم الفترة. قال: وعلى الجملة فسنة الله في هذا العالم الإنسان جعل تمكينهم في قلوبهم ومشاهدتهم في مكابدتهم. وسرّ ذلك أن هذا العالم متوسط بين عالمي الملائكة والشياطين، فمكن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون و «يسبحون الليل والنهار لا يفترون» ، ومكن الشياطين في الشر والإغواء بحيث لا يفعلون ما يؤمرون، وجعل هذا العالم الإنساني متلوّناً فيمكنه ويلونه ويغنيه ويبقيه ويشهده ويفقده وإليه أشار صاحب الشفاعة بقوله: «ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» وقال في حديث أبي ذرّ «وعلى العاقل أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من مطعم ومشرب» هكذا الكمال وما عداه ترّهات وخيال. والله أعلم (فانطلقت أنا وأبو بكر) سائرين (حتى دخلنا على رسول الله؛ فقلت: نافق حنظلة يا رسولالله، فقال: وما ذاك؟) أي: الذي نافق به. (قلت: يا رسول الله إنا نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة فكأنا(2/405)
رأي عين) أي فيحصل لنا من ذلك كمال الخوف والمراقبة والتفكر في المآل والإقبال على الآخرة (فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً) أي فيذهب عنا غالب تلك الأحوال السنية، فخشي حنظلة أن يكون اختلاف هذا الحال من النفاق؛ فأعلمه النبي أنه ليس مكلفاً بالدوام على الحال الذي يكون عليه عنده، وأن ذلك الاختلاف ليس نفاقاً (فقال رسول الله: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عليه عندي) من المراقبة والتفكير في المآل والإقبال على الله تعالى (وفي الذكر) .
قال القرطبي: هكذا صحت الرواية بالواو العاطفة للظرف الثاني على الظرف الأول، فيفيد أن مصاحفة الملائكة المذكورة في قوله: (لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم) موقوفة على حصول حالتين لنا على حال مشاهدة الجنة والنار مع ذكر الله تعالى ودوام ذلك، فيعنيـ والله أعلم - أن التمكن إنما هو أن يشاهد الأمور كلها با، فإذا شاهد الجنة مثلاً لم يحجبه ما شاهد من نعيمها وحسنها عن رؤية الله تعالى؛ بل لا يلتفت إليها من حيث هي جنة، بل من حيث إنها هي محل القرب من الله تعالى ومحل رؤيته ومشاهدته، فيكون فرقه في جمعه وعطاؤه في منعه، ومن كان هكذا ناسب الملائكة في معرفتها فبادرت إلى إكرامه ومشافهته وإعظامه ومصافحته. والمسئول من الكريم المتعال أن يمنحنا من صفاء هذه الأحوال (ولكن يا حنظلة ساعة) أي لأداء العبودية (وساعة) للقيام بما يحتاجه الإنسان قاله (ثلاث مرات) وكرره للتأكيد ودفع ما وقع في نفسه أن ذلك من النفاق (رواه مسلم) .
قال البخاري في كتاب «الإخبار بفوائد الأخبار» : حال العبد هو مقامه في سرّه وشهوده بقلبه وصفته ومعناه، وما كان ذلك فإنها تكون لازمة له لا ينتقل عنها في حال ولا يزول عنها بمعنى، وأما كونهم عند النبي على ما كانوا عليه فإن تلك مواجيد، والمواجيد تجيء وتذهب، لأنها عوارض تثبت في الأسرار من خارج.
قال بعض العارفين الكبار: الوجد مقرون بالزوال والمعرفة ثابتة لا تزول، قال: فالحال الذي يجدونه في أسرارهم، عند كونهم عنده خلاف المعهود، ثم يزول عنهم إذا رجعوا من عنده فكأن الذي يجدونه(2/406)
عنده هو سلطان الحق وقوة سرّ النبي ألا ترى إلى قول أنس رضي الله عنه: ما نفضنا أيدينا من دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنكرنا قلوبنا، وذلك لأن سلطان النبوّة زال عنهم، وهو كان يقهر الأعداء ويجذب الأولياء، فمن قهره للأعداء قصته مع أبي جهل في أمره بالوفاء بثمن الجمال لصاحبها فوفاه بها في حضرته، والذي يجده أصحاب النبيّ عنده جذب الحق وقوة سرّ النبي وسلطانه كان يصرفهم عن الأشياء ويأخذهم عنها ويجذبهم منها من غير أن يكون ذلك حالة لهم، فإذا خرجوا من عنده رجعوا إلى أحوالهم من النظر إلى الأولاد والشغل بالأموال، فأخبرهم أن الذي يجدونه عنده لو كان حالهم ومقامهم لصافحتهم الملائكة، ولم تصافحهم وهم عنده لأنها لم تكن حالهم، ولكنها كانت حالة سلطان الحق، ولو كان الذي يجدونه حالهم لكانت ثابتة لهم، لأنها لو كانت حالهم لكانت موهبة لهم من الله تعالى عزّ وجل والكريم لا يعود في هبته ولا يسلب كرامته اهـ (قوله) في الكنية أبي (ربعي هو بكسر الراء) أي المهملة وتقدم ضبط باقي حروفه (والأسيدي) المذكور في نسب حنظلة ضبطوه بوجهين.
قال المصنف: في «شرح مسلم» أصحهما وأشهرهما (بضم الهمزة وفتح السين) المهملة (وبعدها ياء) تحتية (مشددة مكسورة) والثاني كذلك إلا أنه بإسكان التحتية، ولم يذكر القاضي عياض إلا هذا وهو منسوب إلى بني أسيد بطن من تميم.
وفي كتاب «تقييد المهمل» لأبي علي الحياني: الأسيدي بضم الهمزة وفتح السين وتخفيف الياء الأولى وقد شددها قوم، يقال ذلك لكل من ينسب إلى أسيدبن عمروبن تميم، ومنهم حنظلةبن الربيع الأسيدي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعرف بالكاتب اهـ (قوله عافسنا هو بالعين والسين المهملتين) وقيل السين فاء.
قال الهروي: وغيره معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به، كذلك في «شرح مسلم» ، وقريب منه قوله هنا (عالجنا) أي الضيعات (ولاعبنا) أي: الأولاد والزوجات ففيه لفّ ونشر مشوّش، وهذا أنسب برواية الخطابي. فإنه روى هذا الحرف «عانسنا» بالنون بدل الفاء وفسره بلاعبنا وكأن المصنف إنما فسره بذلك لأنه جاء عن حنظلة في رواية في مسلم فقال بدل عافسنا الخ ضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، فأراد تفسير الروايات بالروايات ورواه القتيبي عانشنا بالنون والشين المعجمة وفسره بعانقنا، والأول المذكور في الأصل. قال المصنف: هو(2/407)
المعروف وهو أعمّ (والضيعات) بالضاد المعجمة وسكون التحتية أسباب (المعاش) من حرفة ونحوها كما تقدم، سميت بذلك لأنها تحفظ صاحبها من الضياع.
15211 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا رسول الله) وفي نسخة النبي (يخطب إذ) وفي نسخة: إذا (هو برجل قائم فسأل عنه) أي: عن اسمه وعن سبب قيامه (فقالوا: هذا أبو إسرائيل) وهو كنية، واسمه: يسير مصغر يسر ضد العسر، وهو أنصاري (نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد) ضد القيام (ولا يستظلّ) ضد كونه في الشمس أي بارزاً لها وصرح بهما تأكيداً (ولا يتكلم) أي: بغير الذكر (ويصوم، فقال النبي: مروه فليتكلم) أي: فليس النذر بالسكوت قربة من شريعتنا (وليقعد) أي: في غير الصلاة، وإلا فمن نذر القيام في صلاة النفل لزمه (وليستظلّ وليتمّ صومه) إذ الصوم قربة «ومن نذر أن يطيع الله فليطعه» بخلاف أخواته. (رواه البخاري) .
قال ابن رجب في شرحه للحديث الخامس من الأربعين للمصنف: من تقرّب إلى الله تعالى بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود عليه، ثم قال: وليس كل ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقاً، فقد رأى النبي رجلاً قائماً في الشمس، الحديث. وقد روى أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي وهو على المنبر، فنذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ما دام يخطب إعظاماً لسماع خطبته، ولم يجعل النبيّ ذلك قربة يوفي بنذره، مع أن القيام عبادة في مواضع أخر كالصلاة، والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرم، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها: أي كما توهمه الناذر بل إنما يتبع في ذلك الوارد به الشريعة في مواضعها اهـ.(2/408)
15 - باب في المحافظة على الأعمال الصالحة وترك التهاون بها والتساهل فيها
وقد أحسن المصنف في تعقيب هذا الباب لما قبله لأن الحاصل من هذا الباب الترغيب في ملازمة العبادة والطريق الموصل إلى ذلك الاقتصاد فيها، لأن التشديد قد يؤدي إلى ترك العبادة المذموم كما تقدم، وقد سبق المصنف لهذا الترتيب الحافظ البخاري، فعقب باب ما يكره من التشديد في العبادة الذي عبر عنه المصنف هنا بالاقتصاد فيها بباب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه الذي عبر عنه المصنف هنا بباب المحافظة على الأعمال، فاستحسنه الحافظ ابن حجر لما ذكرناه آنفاً.
(قال الله تعالى) : {ألم يأن} ) يحن ( {للذين آمنوا} ) أنزلت في شأن الصحابة لما أكثروا المزاح ( {أن تخشع قلوبهم لذلك الله وما نزل} ) بالتشديد والتخفيف ( {من الحق} ) القرآن ( {ولا يكونوا} ) معطوف على تخشع ( {كالذين أوتوا الكتاب من قبل} ) هم اليهود والنصارى ( {فطال عليهم الأمد} ) الزمن بينهم وبين أنبيائهم ( {فقست قلوبهم} ) (الحديد: 16) لم تلن لذكر الله تعالى.
(وقال تعالى) : ( {وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفه ورحمة ورهبانية} ) (الحديد: 27) هي رفض النساء واتخاذ الصوامع.
قال الكواشي: ورهبانية ليست معطوفة إنما هي منصوبة بفعل مضمر يفسره المظهر تقديره: وابتدعوا رهبانية. قال: وجوّز بعضهم عطفاً على ما قبلها وجعل ابتدعوها صفة تقديره، وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة تلخيصه وفقناهم للتراحم اهـ ( {ابتدعوها} ) من قبل أنفسهم ( {ما كتبناها عليهم} ) ما أمرناهم(2/409)
بها ( {إلا} ) لكن فعلوها ( {ابتغاء رضوان ا} ) وابتغاء رضوانه امتثال أمره واجتناب نهيه ( {فما رعوها حق رعايتها} ) إذ تركها كثير منهم وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى قليل منهم. قال: «من آمنى بي وصدقني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن فأولئك هم الهالكون» أورده الكواشي وقال قبل حكاية هذا القول: والمعنى: لم يرع مبتدعو الرهبانية حق رعايتها كما يراعى الناذر نذره بأن قصروا فيما ألزموا به أنفسهم من الطاعات.
قال الكواشي: في الآية تنبيه المؤمنين على أن من أوجب على نفسه شيئاً لم يكن واجباً عليه لزمه إتمامه ولا يتركه فيستحق اسم الفسق اهـ.
(وقال تعالى) : ( {ولا تكونوا كالتي نقضت} ) أفسدت ( {غزلها} ) ما غزلته ( {من بعد قوّة} ) إحكام له وربط ( {أنكاثاً} ) (النحل: 92) حال أو ثاني مفعول نقض لتضمينه معنى الجعل أو مفعول مطلق لنقضت جمع نكث. وهو ما ينكث: أي يحلّ إحكامه وهي امرأة حمقاء من مكة واسمها ريطة بنت سعدبن زيد مناةبن تميم، ويقال هي من قريش، وتوفيت بالجعرانة قاله السهيلي، كانت تغزل في طول يومها ثم تنقضه.
قال الخازن: والمعنى أن هذه المرأة لم تكفّ عن العمل ولا حين عملت كفت عن النقض فكذلك من نقض عهده، لا تركه ولا حين عاهد وفى به.
(وقال تعالى) : ( {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} ) تقدم الكلام فيها في باب المجاهدة.
(وأما الأحاديث) النبوية:
1531ــــ (منها حديث عائشة: وكان أحبّ الدين إليه ما داوم صاحبه عليه، وقد سبق) مع(2/410)
شرحه (في الباب قبله) أي باب الاقتصاد في العبادة.
1542 - (وعن عمربن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من نام عن حزبه) بكسر المهملة وسكون الزاي، قال القاضي عياض: أصله النوبة من ورد الماء ثم نقل إلى ما يجعله الإنسان على نفسه من صلاة وقراءة وغيرها، ورواه ابن ماجه «جزئه» بضم الجيم وبهمزة بدل الموحدة.
وعند النسائي حزبه أو جزئه بالشك (من الليل أو عن شيء منه، فقرأه) .
قال البيضاوي: يحتمل أن الاقتصار عليها في الذكر لكونها أفضل الأذكار فباقي الأذكار مثلها، ويحتمل أن يكون لاختصاصها بالثواب المذكور لقوله كتب له الخ، ويحتمل أن يكون على سبيل المثال، فمثله كما ورد من قول أو فعل اهـ. وإلى الوجه الأخير يومىء كلام القاضي عياض السابق وعليه جرى العاقولي في «شرح المصابيح» فقال: أي لوفائه ورده فأتى به (ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر) أي: في هذا الوقت الذي من شأن الناس الغفلة فيه عن العبادة (كتب له كأنما قرأه من الليل) أي أثبت أجره إثباتاً مثل إثباته عند قراءته له من الليل.
قال المصنف: في الخبر دلالة على المحافظة على الأوراد، قال القرطبي: وهذه الفضيلة إنما تحصل لمن غلبه نوم أو عذر منعه من القيام به مع أن نيته القيام به، وظاهره أن له أجره مكملاً مضاعفاً وذلك لحسن نيته وصدق تلهفه وتأسفه وهو قول بعض شيوخنا. وقال بعضهم ويحتمل أن يكون غير مضاعف إذ التي يصليها ليلاً أكمل وأفضل، والظاهر الأول اهـ (رواه مسلم) قال المنذري في «الترغيب» : ورواه أصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة في «صحيحه» .(2/411)
1553 - (وعن عبد ابن عمروبن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله: يا عبد الله لا تكن مثل فلان) .
قال الحافظ العسقلاني: لم أقف على تسميته في شيء من الطرق، وكأنّ إبهام مثل هذا لقصد الستر عليه، وقال: لا ينبغي أن يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يذمّ به. ويحتمل أنه يقصد شخصاً معيناً وإنما أراد تنفير عبد الله مع الصنع المذكور (كان يقوم الليل) وهذه رواية الأكثر بإسقاط «من» وهي مرادة وهي مذكورة عند بعض رواة البخاري وعليها شرح الحافظ (ثم ترك قيام الليل) .
قال في «الفتح» نقلاً عن ابن العربي: في الحديث استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من خير من غير تفريط. ويستنبط منه كراهة قطع العبادة وإن لم تكن واجبة (متفق عليه) .
1554 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فاتته الصلاة من الليل) أي: التهجد (من) سببيه (وجع أو غيره) كغلبة نوم أو عذر أهم منه (صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة) قال ابن حجر في «شرح المشكاة» : جبراً لفضيلة قيام الليل لا قضاء له، إذ ليست صلاة الليل منه في العدد كذلك، والقضاء لا يزيد على عدد الأداء، والدليل على مشروعية قضاء النافلة حديث أبي داود، قال: وسنده حسن خلافاً لتضعيف الترمذي له: «من نام عن وتره أو سننه فليصلّ إذا ذكره» اهـ (رواه مسلم) من جملة حديث كما في «المشكاة» ، وروى هذه الجملة الترمذي في «الشمائل» .(2/412)
16 - باب في الأمر بالمحافظة على السنة
أي ما جاء به من أقوال وأفعال وأحوال (وآدابها) تقدم معنى الآداب أول الكتاب، والأدب كالسنة في أصل الطلب إلا أنه دونها في التأكد، ذكره المصنف في «الروضة» .
(قال الله تعالى) : ( {وما آتاكم} ) أعطاكم ( {الرسول} ) من الفيء وغيره ( {فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ) قال السيوطي في «الإكليل» : في الآية وجوب امتثال أوامره ونواهيه، قال العلماء: وكل ما ثبت عنه يصح أن يقال فيه إنه في القرآن أخذاً من هذه الآية: (وقال تعالى: {وما ينطق} ) بما يأتيكم به ( {عن الهوى} ) هوى نفسه ( {إن} ) ما ( {هو إلا وحي يوحى} ) إليه.
(وقال تعالى) : ( {قل} ) أي: للكافرين القائلين ما نعبد الأصنام إلا حباً ليقرّبونا إليه ( {إن كنتم تحبون افاتبعوني يحببكم ا} ) بمعنى أن يثيبكم ( {ويغفر لكم ذنوبكم} ) تقدم في باب المجاهد في حديث: «أعني على نفسك بكثرة السجود» أن محبة الله ملازمة لحبّ رسوله وبالعكس، وأنهما متوقفتان على اتباع الرسول.
(وقال تعالى) : ( {لقد كان لكم في رسول الله أسوة} ) بضم الهمزة وكسرها ( {حسنة} ) أي اقتداء به ( {لمن} ) بدل من لكم ( {كان يرجو ا} ) يخافه ( {واليوم الآخر} ) يوم القيامة، وتقدم وجه لتسميته بالآخر في حديث جبريل في الإسلام والإيمان(2/413)
والإحسان.
(وقال تعالى) : ( {فلا وربك} ) لا زائدة ( {لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر} ) اختلط ( {بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً} ) ضيقاً أو شكاً ( {مما قضيت} ) به ( {ويسلموا} ) ينقادوا لحكمك ( {تسليماً} ) من غير معارض، وسيأتي فيها مزيد في باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى.
(وقال تعالى) : {فإن تنازعتم} ) اختلفتم ( {في شيء فردوه إلى الله والرسول} .
(قال العلماء: معناه إلى الكتاب والسنة) لفّ ونشر مرتب، وكون المراد من قوله والرسوله سنته وهو بعد وفاته، أما في حياته فعلى ظاهر الآية كما في الجلالين وغيره.
(وقال تعالى) : {من يطع الرسول} ) فيما أمر به ( {فقد أطاع ا} ) لأن الله أمر بطاعته واتباعه.
(وقال تعالى) : {وإنك لتهدي} ) لتدعو بالوحي إليك ( {إلى صراط} ) طريق ( {مستقيم} ) دين الإسلام.
(وقال تعالى) : {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} ) أي: الله فإن الأمر له في الحقيقة أو لارسول فإنه المقصود بالذكر، وعلى الوجه الثاني فيه مناسبة الآية للباب ( {أن تصيبهم فتنة} ) محنة في الدنيا ( {أو يصيبهم عذاب أليم} ) في الآخرة.
(وقال تعالى:) مخاطباً لأمهات المؤمنين ( {واذكرن ما يتلى في بيوتكم من آيات ا} ) القرآن ( {والحكمة} ) السنةـ (والآيات في الباب) أي: في باب المحافظة على السنة والاقتداء به واتباعه كثيرة.(2/414)
(وأما الأحاديث) النبوية في ذلك:
156 - (فالأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال) لما خطب وقال: {يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا} ، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها مراراً، فقال رسول الله: «لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم» ثم قال: (دعوني) أي: من كثرة السؤال ولفظ مسلم «ذروني» (ما تركتكم) «ما» فيه ظرفية مصدرية وآثر تركتكم على وذرتكم ماضي يذر، لأن العرب لا تستعمله إلا في الشعر.
قال سيبويه: اغتناء عنه بترك، وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة وكان في هذا الكلام بمعناه فعل لا واو فيه أنفوه، حكاهما القرطبي في تفسير سورة هود من تفسير الكبير وكذا ودع. وقيل: بل استعمل ودع قليلاً، ومنه قوله تعالى: {ما ودعك ربك} (الضحى: 3) على قراءة التخفيف شاذاً، وحديث: «دعوا الحبشة ما ودعوكم» ومعنى قوله: ذروني الخ: لا تكثروا الاستفصال عن المواضع التي تفيد بوجه ظاهر وإن صلحت لغيره كما في «فحجوا» فإنه وإن أمكن أن يراد به التكرار ينبغي أن يكتفي منه بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة الواحدة فإنها مفهومة من اللفظ قطعاً وما زاد مشكوك فيه فيعرض عنه، ولا يكثر السؤال لئلا يقع الجواب بما فيه التعب والمشقة كما وقع لبني إسرائيل فخاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته من مثل ذلك ومن ثم قال: (إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم) وعند مسلم: «فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم» بالرفع لأنه أبلغ في ذم الاختلاف إذ لا يتقيد حينئذٍ بالأكثرية بخلاف لو جرّ (على أنبيائهم) استفيد منه تحريم الاختلاف وكثرة المسائل من غير ضرورة، لأنه توعد عليه بالهلاك، والوعيد عن الشيء دليل تحريمه بل كونه كبيرة، ووجهه في الاختلاف أنه سبب تفرق القلوب ووهن الدين، وذلك حرام فسببه المؤدي إليه حرام، وفي كثرة السؤال إنه من غير ضرورة مشعر بالتعنت أو مفض إليه وهو حرام أيضاً (فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) دائماً على كل تقدير ما دام منهياً عنه حتماً في الحرام وندباً في المكروه إذ لا يمتثل النهي إلا بترك جميع جزئياته، وإلا صدق عليه أنه عاص أو مخالف، وأيضاً فترك المنهي عنه هو استصحاب حال عدمه والاستمرار على حال عدمه وليس في ذلك ما لا يستطاع حتى(2/415)
يسقط التكليف به، وكون الداعي للمعصية قد يقوى حتى لا يستطاع الكفّ عنها نادر لا يعوّل عليه، وخرج بقوله ما دام الخ نحو أكل الميتة للمضطر وشرب المسكر لإساغة اللقمة لعدم النهي عنه
حينئذٍ (وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) أي: أطقتم لأن فعله هو إخراجه من العدم إلى الوجود، وذلك متوقف على شروط وأسباب كالقدرة على الفعل ونحوها وبعضها يستطاع وبعضها لا يستطاع فكان التكليف بما يستطاع منه لأن الله تعالى أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
قال المصنف: وهذا الحديث موافق لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن: 116) ولتوقف المأمور به على فعل بخلاف المنهي عنه فإنه كف محض، قال في ذاك (فأتوا منه ما استطعتم) وفي هذا (فاجتنبوه) وهذا من قواعد الإسلام المهمة، ومما أوتيه من جوامع الكلم، لأنه يدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام وبه أو بالآية الموافقة له يخص عموم قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر: 7) وحديث أحمد في «مسنده» عن عبد ابن عمرو مرفوعاً من جملة حديث قال فيه: «انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا عنه» فمن عجز عن ركن أو شرط لنحو وضوء أو صلاة أو قدر على غسل أو مسح بعض أعضاء الوضوء أو التيمم أو على بعض الفاتحة أو إزالة بعض المنكر أتى بالممكن وصحت عبادته (متفق عليه) ورواه أحمد وقال: «فأتمروا ما استطعتم» وله طرق عن أبي هريرة ورواه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان، وقد بسط طرقه وتخاريجه الحافظ السخاوي في تخاريج الأربعين للمصنف.
157 - (الثاني: عن أبي نجيح) بفتح النون وكسر الجيم وسكون التحتية بعدها مهملة (العرباض) بكسر المهملة وسكون الراء وبعدها موحدة وآخره ضاد معجمة وأصله الطويل (ابن سارية) بمهملتين بينهما ألف وبعد الراء تحتية خفيفة السلمي من أهل الصفة وهو أحد البكائين، وكان يقول إنه رابع الإسلام (رضي الله عنه) في «التهذيب» للمصنف.
قال محمدبن عوف الحمصي: كل واحد من العرباضبن سارية وعمروبن عنبسة كان يقول: أنا رابع الإسلام. أي رابع من أسلم، ولا يدرى أيهما أسلم قبل صاحبه اهـ. نزل الشام وسكن حمص ومات في فتنة ابن الزبير رضي الله عنهما ويقال سنة خمس وسبعين.
قال ابن(2/416)
حزم في آخر «سيرته» روي له عن النبي أحد وثلاثون حديثاً، روى له أصحاب السنن الأربع (وقال: وعظنا رسول الله) أي: بعد صلاة الصبح كما جاء في رواية أخرى (موعظة) من الوعظ، وهو النصح والتذكير بالعواقب وتنوينها للتعظيم: أي موعظة جليلة، وجاء في رواية موعظة (بليغة وجلت) بكسر الجيم أي: خافت (منها) أي: من أجلها ويصح أن تكون لابتداء الغاية (القلوب) وكان المقام للتخويف فأتى بذلك لمناسبته (وذرقت) بفتح المعجمة والراء من باب ضرب: سالت (منها العيون) أي دموعها، وأخر هذا عما قبله لأنه إنما ينشأ عنه غالباً (فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع) كأنّ وجه فهمهم لذلك مزيد مبالغته في تخويفهم وتحذيرهم على ما كانوا يألفون منه قبل، فظنوا أن ذلك لقرب موته ومفارقته لهم إذ المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل، ففيه جواز تحكيم القرائن والاعتماد عليها في بعض الأحيان لأنهم فهموا توديعه بقرينة إبلاغه في الموعظة أكثر من العادة (فأوصنا) أي: وصية جامعة كافية (قال: أوصيكم بتقوى ا) جمع في هذا كل ما يحتاج إليه من أمور الآخرة، لما مر أن التقوى امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتكاليف الشرع لا تخرج عن ذلك (والسمع والطاعة) جمع بينهما تأكيداً للاعتناء بهذا المقام، ومن ثم خصة بالذكر عاطفاً له على ما يشمله وغيره وهو التقوى فهو من عطف الخاص على العام لمزيد الاهتمام، ويحتمل أنه من عطف المغاير من حيث إنّ أظهر مقاصد التقوى انتظام الأمور الأخروية، والإمامة أظهر مقاصدها انتظام الأمور الدنيوية، ومن ثم قال عليّبن أبي طالب رضي الله عنه: إن الناس لا يصلحهم إلا إمام
عادل أو فاجر (وإن تأمر عليكم عبد) هو من باب ضرب المثل بغير الواقع على سبيل الفرض والتقدير وإلا فهو لا تصح ولايته، أو من باب الإخبار بالمغيبات: أي إن نظام الشريعة يختلّ حتى توضع الولاية في غير أهلها، الأمر بالطاعة إيثار لأخف الضررين (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) فيه من معجزاته الإخبار بما يقع بعده من كثرة الاختلاف وغلبة المنكر، وقد كان عالماً به جملة وتفصيلاً، لما صح أنه كشف له عما يكون إلى أن يدخل أهل الجنة والنار منازلهم، ولم يكن يبينه لكل أحد وإنما كان يحذر منه على العموم، وكان يلقي بعض التفاصيل إلى الخصوص كحذيفة وأبي هريرة (فعليكم) الزموا حينئذٍ التمسك(2/417)
(بسنتي) أي طريقتي وسيرتي القويمة التي أنا عليها مما فصلته لكم من الأحكام الاعتقادية والعملية الواجبة والمندوبة وغيرها، وتخصيص الأصوليين لها بالمطلوب طلباً غير جازم اصطلاح طارىء قصدوا به التمييز بينها وبين الفرض (وسنة) أي: طريقة (الخلفاء الراشدين المهديين) وهم أبو بكر فعمر فعثمان فعليّ فالحسن رضي الله عنهم وعن بقية الصحابة أجمعين، فإن ما عرف عن هؤلاء أو عن بعضهم أولى بالاتباع من بقية الصحابة إذا وقع بينهم الخلاف فيه ومحل تقليد الصحابة بالنسبة للمقلد الصرف في تلك الأزمنة القريبة من زمنهم.
أما في زمننا فقال بعض أئمتنا: لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة. الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد لأن هؤلاء عرفت مذاهبهم واستقرّت أحكامها وخدمها تابعوهم وحرروها فرعاً فرعاً وحكماً حكماً فقلّ أن يوجد فرع إلا وهو منصوص لهم إجمالاً أو تفصيلاً، بخلاف غيرهم فإن مذاهبهم لم تحرر وتدوّن كذلك فلا يعرف لها قواعد يتخرج عليها أحكامها، فلم يجز تقليدهم فيما حفظ عنهم منها لأنه قد يكون مشترطاً بشروط أخرى وكلوها إلى فهمها من قواعدهم، فقلت الثقة بخلوّ ما حفظ عنهم من قيد أو شرط فلم يجز التقليد حينئذٍ (عضوا عليها بالنواجذ) سيأتي معناها، والمعنى: عضوا عليها بجميع الفم احترازاً من النهش وهو الأخذ بأطراف الأسنان، فهو إما مجاز بليغ فيه تشبيه المعقول بالمحسوس، أو كناية عن شدة التمسك بالسنة والجد في لزومها كفعل من أمسك بنواجذه شيئاً وعض عليه لئلا ينزع منه، لأن النواجذ محدودة فإذا عضت على شيء نشبت فيه فلا يتخلص. وقيل معناه الأمر بالصبر على ما يصيبه من العض في ذات الله كما يفعله المتألم مما أصابه من الألم (وإياكم ومحدثات الأمور) كلاهما منصوب بفعل مضمر أي: باعدوا أنفسكم واحذروا الأخذ بالأمور المحدثة في الدين واتباع غير سنن الخلفاء الراشدين (فإن) ذلك بدعة وإن (كل بدعة) وهي لغة المخترع على غير مثال سابق. وشرعاً ما أحدث على خلاف أمر الشارع، ودليله الخاص أو العام (ضلالة) لأن الحق فيما جاء به الشرع فما لا يرجع إليه يكون ضلالة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، والمراد بالضلالة هنا ما ليس له أصل في الشرع وإنما حمل عليه مجرد الشهوة أو الإرادة، بخلاف محدث له أصل في الشرع إما بحمل النظر على النظير أو بغير ذلك فإنه حسن، إذ هو سنة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين فمنشأ الذم في البدعة ليس مجرد لفظ محدث أو بدعة بل ما اقترن به(2/418)
من مخالفته للسنة ورعايته للضلالة، ولذا انقسمت البدعة إلى الأحكام الخمسة، لأنها إذا عرضت على
القواعد الشرعية لم تخل عن واحد منها، فمن البدع الواجبة على الكفاية تعلم العلوم المتوقف عليها فهم الكتاب والسنة والتي فيها حفظ الشريعة، لأن حفظها واجب على الكفاية فيما زاد على التعين ولا يتأتى حفظها إلا بذلك فوجب.
ومن البدع المحرّمة مذاهب سائر أهل البدع المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة. ومن المندوبة كل إحسان لم يعهد في الصدر الأول كإحداث نحو الربط والمدارس والكلام في دقائق التصوف. ومن المكروهة زخرفة المساجد وتزويق المصاحف، ومن المباحة التوسع في لذيذ المآكل والمشارب؛ فعلم أن قوله: «وكل بدعة ضلالة» عام أريد به خاص إذ سنة الخلفاء الراشدين منها مع أنا أمرنا باتباعها لرجوعها إلى أصل شرعي وكذا سنتهم عام أريد به خاص، إذ لو فرض خليفة راشد سنّ سنة لا يعضدها دليل شرعي امتنع اتباعها، ولا ينافي ذلك رشده لأنه قد يخطىء المصيب ويزيغ المستقيم يوماً ما (رواه) أحمد والدارمي في «مسنديهما» .
ورواه عن أحمد (أبو داود) في «سننه» (و) كذا (الترمذي وقال: حديث صحيح) وفي الأربعين للمصنف: وقال حديث حسن، وفي نسخة من كل من الرياض والأربعين: وقال صحيح حسن. وبالنسخة الثانية يعلم أن المصنف اقتصر على أحد الوصفين في كل من الكتابين، ويحتمل أن النسخ عنده مختلفة في ذلك فنقل عن كل من النسخ في كتاب، والله أعلم بالصواب. ورواه ابن ماجه وأبو نعيم وقال: حديث جيد من صحيح الشاميين. وأخرجه الحاكم بنحوه في «مستدركه» وكذا أخرجه الطبراني في «الكبير» والبغوي في «معجم الصحابة» ، وله طرق كثيرة واختلاف في ألفاظه ورواياته، وقد بسطها السخاوي في «تخريج الأربعين» التي جمعها المصنف ثم قال: وبالجملة فقد قال الترمذي: إنه حسن صحيح، وقال الحاكم: إنه صحيح على شرط الشيخين وصححه ابن حبان، بل وعزى شيخنا: يعني الحافظ ابن حجر تصحيحه لابن خزيمة اهـ (النواجذ بالذال المعجمة: الأنياب) كذا اقتصر عليه القاضي عياض في «المشارق» (وقيل: الأضراس) ومن هذا قوله في الحديث «حتى بدت نواجذه» .
قال القاضي عياض في «المشارق» : وهي الأضراس، وقيل: الضواحك، والنواجذ(2/419)
أيضاً: أواخر الأسنان وهي أضراس العقل اهـ: أي: الذي يدل نباتها على الحلم وهي من فوق وأسفل من كل من الجانبين، فللإنسان أربع. وأشار في «النهاية» إلى أنه المشهور، واقتصر عليه السيوطي فقال في «مختصر النهاية» : النواجذ أواخر الأضراس واحده ناجذ اهـ وبهذا المعنى فسر جمع النواجذ هنا.
158 - (الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل أمتي) أي: أمة الدعوة (يدخلون الجنة إلا من أبى) بفتح الموحدة، أي: امتنع، قال العلقمي: قال الحافظ: ظاهره أن العموم مستمرّ لأن كلاً منهم لا يمتنع من دخول الجنة فلذلك (قيل: ومن يأبى) أي: يمتنع من دخولها (فقال) (من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) قال: فبين به أن إسناد الامتناع إليهم عن الدخول مجاز عن الامتناع عن سببه وهو عصيان الرسول والموصوف بالإباء وهو الامتناع إن كان عن أصل الدخول في الإسلام فكافر لا يدخل الجنة البتة، وإن كان بعد الدخول فيه فالمراد منعه عن الدخول فيها من الفائزين اهـ. وقال العاقولي: لما كان المرتكب للمعصية كالرادّ لما دل على تحريمها من الكتاب والسنة أطلق عليه لفظ الإباء وأريد به استحقاقه النار وضعاً للسبب موضع المسبب قال الجوهري: الإباء بالكسر أي: والهمزة الممدوة، ويقال إباءة (رواه البخاري) .
158 - (الرابع: عن أبي مسلم) بصيغة اسم الفاعل من الإسلام (وقيل) : يكنى بـ (أبي إياس) ففيه حذف الجار وإبقاء عمله ومثله سماعي وهو بكسر الهمزة بعدها تحتية ويقال أبو عامر (سلمة) بفتح أوّليه (ابن عمروبن الأكوع) واسمه سنانبن عبد ابن قشيربن خزيمةبن مالك بن سلامانبن أسلم الأسلمي (رضي الله عنه) شهد بيعة الرضوان بالحديبية، وبايع(2/420)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ ثلاث مرات في أول الناس وأوسطهم وآخرهم، وكان شجاعاً رامياً محسناً خيراً فاضلاً، غزا مع النبي سبع غزوات. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وسبعون حديثاً، اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة، وكان يسكن المدينة، ثم بعد قتل عثمان خرج إلى الربذة فسكن بها، ثم عاد قبل وفاته إلى المدينة وتوفي بها سنة أربع وسبعين وهو ابن ثمانين سنة (أن رجلاً) .
قال المصنف في «المبهمات» : قال الخطيب: هو بسر ابن راعي العير بفتح المهملة وسكون التحتية الأشجعي ونقله كذلك في «شرح مسلم» وقال ذكره أبو نعيم وابن منده وابن ماكولا وآخرون، وهو صحابي مشهور عده هؤلاء وغيرهم في الصحابة (أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله) تكبراً (فقال: كل بيمينك) أمر ندب على المعتمد والدعاء الآتي عليه لقصده مخالفة السنة النبوية (قال: لا أستطيع، قال) : (لا استطعت) دعاء عليه لمخالفته الحكم الشرعي بلا عذر كما قال الراوي مبيناً لذلك مدرجاً له بآخر الحديث (ما منعه) من متابعة السنة (إلا الكبر) ولا يدل مجرد الكبر والمخالفة على نفاقه كما قال المصنف، بل هو معصية إن كان الأمر في قوله: «كل بيمينك» أمر إيجاب.c وأخذ القاضي عياض من ذلك نفاقه رده المصنف بما ذكر. ومحل النهي عن الأكل بالشمال حيث لا عذر يمنع من الأكل باليمين من مرض أو قطع وإلا فلا كراهة حينئذٍ (فما رفعها إلى فيه) إجابة لدعوته لاستحقاقه لها بقصده السابق (رواه مسلم) وأخرجه أحمد وابن حبان ورواه الحافظ ابن حجر في «أمالي الأذكار» من طريق الدارمي وقال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً وفي آخره» : «فما وصلت يمينه إلى فيه بعد» .
160 - (الخامس: عن أبي عبد الله النعمان) بضم النون وسكون العين (ابن بشير) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وسكون التحتية ابن سعدبن ثعلبةبن جلاس بضم الجيم وتخفيف اللام كذا قيده عبد الغني المقدسي وغيره. وقال ابن ماكولا: هو خلاس بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام ابن بدربن مالكبن ثعلبةبن كعببن الخزرج الأنصاري هو وأبوه صحابيان(2/421)
رضي الله عنهما شهد أبوه العقبة الثانية وبدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله. وهو أول أنصاري بايع أبا بكر رضي الله عنه، واستشهد مع خالدبن الوليد بعين التمر سنة اثنتي عشرة من الهجرة بعد انصرافه من اليمامة. وأما النعمان فولد على رأس أربعة أشهر من الهجرة، وهو أول مولود من الأنصار بعد الهجرة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وأربعة عشر حديثاً، اتفقا على خمسة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بأربعة قتل النعمان بالشام بقرية من قرى حمص في ذي الحجة سنة أربع وستين. وقال ابن أبي خيثمة سنة ستين، كذا نقل من «التهذيب» للمصنف ملخصاً، سكن النعمان الشام ثم ولي أمره الكوفة (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لتسوُّن صفوفكم) بضم الفوقية وفتح المهملة وضم الواو وتشديد النون، قال البيضاوي: هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم هنا مقدر ولذا أكده بالنون المشددة وتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد (أو) عاطفة بفتح فسكون: أي: ليكونن منكم التسوية أو (ليخالفنّ الله بين وجوهكم) أي: إن لم تسووا. واختلف في هذا الوعيد، فقيل هو على حقيقته، والمراد تشويه الوجه بتحويل خلقه عن موضعه بجعله موضع القفا، أو تغيير صورة الإنسان وتحويلها إلى صورة أخرى أو نحو ذلك، ويؤيد حمله عليها حديث أبي أمامة «لتسونّ الصفوف أو لتطمسنّ الوجوه» رواه أحمد وفي إسناده ضعف، ولذا قال ابن الجوزي: إنه مثل الوعيد في قوله: {من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها} (النساء: 47) وقيل: إنه
محمول على المجاز، قال المصنف: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول: تغير وجه فلان: أي: ظهر لي من وجهه كراهية، لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في الظواهر، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن، ويؤيده رواية أبي داود في حديث النعمان هذا «أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم» والحاصل أن الوجه إن حمل على العضو المخصوص فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية أو جعل القدام وراء، وإن حمل على ذات الشخص: فالمخالفة بحسب المقاصد، أشار إلى ذلك الكرماني. قال الحافظ: ويحتمل أن يراد بالمخالفة في الجزاء فيجازي المسويّ بخير ومن لا يسوي بشرّ (متفق عليه) .
(وفي رواية لمسلم) عن النعمان (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا(2/422)
حتى كأنما يسوي بها القداح) قال المصنف: بكسر القاف هو خشب السهام واحدها قدح بكسر القاف معناه: يبالغ في تسويتها حتى تصير كأنما يقوّم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها (حتى رأى أنا قد عقلنا) بفتح المهملة والقاف أي فهمنا (عنه، ثم خرج يوماً) للصلاة بالقوم (فقام حتى كاد يكبر) تكبير التحرم (فرأى) عطف على خرج أي أبصر (رجلاً) حال كونه (بادياً صدره) أي: ظاهراً خارجاً عن سمته (فقال: عباد الله لتسوُّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) قال المصنف: فيه الحثّ على تسويتها، وفيه جواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة، وهذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء ومنعه بعض العلماء والصواب الجواز، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو لغيرها أو لا لمصلحة.
161 - (السادس: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل) أي فيه: في «مغني اللبيب» في معاني «من» أنها تكون مرادفة في نحو قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} (الجمعة: 9) اهـ قال المراد في الجني الداني، وهو منقول عن الكوفيين، ومن حججهم قول الشاعر:
عسى سائل ذو حاجة إن منعته
من اليوم مسئولاً إن أيسر في غد
قال: ويحتمل أن تكون من «فيه» تبعيضية على حذف مضاف أي بعض مسئولات اليوم اهـ (فلما حدث) بالبناء للمفعول: أي: أخبر (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشأنهم قال: إن هذه النار عدوّ لكم، فإذا نمتم) قال في «المصباح» : نام ينام من باب تعب. نوماً ومناماً فهو نائم والجمع نوّم على الأصل ونيم على لفظ الواحد ونيام أيضاً ويتعدى بالهمز والتضعيف اهـ. والنوم: زوال الشعور من القلب لاسترخاء أعصاب الدماخ بسبب رطوبات الأبخرة الصاعدة إليه من المعدة،(2/423)
والنعاس مقدمته (فأطفئوها) بقطع الهمزة (عنكم) قال القرطبي: الأمر في الحديث للإرشاد، قال: وقد يكون للندب، وجزم المصنف بأنه للإرشاد لكونه لمصلحة دنيوية. وتعقب بأنه قد يفضي إلى مصلحة دينية وهي حفظ النفس المحرم قتلها والمال المحرم تبذيره. وقال الطبري: إذا بات الواحد في بيت ليس فيه غيره وفيه نار فعليه أن يطفئها قبل نومه أو يفعل بها ما يأمن معه الاحتراق، وإن كان في البيت جماعة فإنه يتعين على بعضهم وأخصهم بذلك آخرهم نوماً، فمتى فرّط في ذلك كان مخالفاً للسنة.
قال المصنف: والحديث عام يدخل فيه نار السراج وغيره، أما القناديل المسرجة وغيرها إذا أمن الضرر كما هو الغالب فالظاهر أن لابأس به اهـ ملخصاً من «فتح الباري» (متفق عليه) ورواه ابن ماجه.
162 - (السابع: عنه قال: قال رسول الله: إن مثل) بكسر فسكون ويقال مثل بفتحتين، وهو في اللغة النظير ثم استعمل في كل صفة أو حال فيها غرابة وهي المراد هنا أي إن صفة (ما بعثني الله به من الهدى والعلم) قال ابن ملك: ذكر في العوارف الهدى وجدان القلب موهبة العلم من الله ويجوز أن يكون المراد منهما شيئاً واحداً (كمثل غيث أصاب أرضاً) قيل: فيه تشبيه متعدد، فشبه العلم بالغيث لأنه يحيى القلب الميت إحياء المطر البلد اليابس، وفي التعبير بالغيث دون المطر لطيفة، إذ الغيث مطر محتاج إليه يغيث الناس عند قلة المياه، وقد كان الناس متحيرين قبل بعثته حتى أغاثهم الله بوابل علومه؛ وشبه من ينتفع به بالأرض الطيبة، وشبه من يحمله ولم ينتفع به بالأرض الصلبة الماسكة للماء فينتفع به الناس وشبه من يحمله ولا ينتفع به بالقيعان. وقال ابن ملك: الأولى أنه تشبيه مركب لتوقف أوله على آخره، ألا ترى أنه وصف الغيث بقوله: «أصاب أرضاً» فعلم أنه تشبيه واحد وهو تشبيه الوحي النازل من السماء إلى من ظهر نفعه، وإلى من لم يظهر بالغيث النازل من السماء إلى الأرض ظهر نفعه فيها أو لم يظهر (فكانت منها) حال (طائفة) أي: قطعة (طيبة قبلت الماء وأنبتت(2/424)
الكلأ) مهموز مقصور: وهو المرعى (والعشب الكثير) قال المصنف: العشب والخلى والكلأ والحشيش كلها اسم للنبات، لكن الحشيش مختص باليابس، والعشب والخلى بالقصر مختصان بالرطب، والكلأ بالهمز يقع على اليابس والرطب. قال ابن ملك: فيكون عطف العشب عليه عطف الخاص على العام للاهتمام بشأنه، وقيل: الكلأ مختص أيضاً بالرطب إلا أنه ما يتأخر نباته ويقل، والعشب ما يتقدم نباته ويكثر ولهذا وصف العشب بالكثير اهـ. وقال الخطابي وابن فارس: الخلى يقع على اليابس وهذا شاذ ضعيف. وفي «شرح المشارق» للكازروني بعد أنّ ذكر أنهما بمعنى. وقيل: الكلأ اليابس. والعشب الذي ابتدأ فيه اليبوسة: وقيل: العشب الرطب، وقيل: الكلأ النبات
والعشب الرطب، وعطف الأخص على الأعم جائز إذ كان بحيث يهتم بأفراده (وكانت) وفي نسخة وكان (منها أجادب) بالجيم والدال المهملة جمع أجدب وهي الأرض التي لا تنبت كذا قال ابن ملك، وكأنه باعتبار القياس، وإلا فقد نقل المصنف عن ابن بطال وصاحب «المطالع» وآخرين أنه جمع جدب بفتح الدال المهملة على غير قياس كما قالوا في حسن جمعه محاسن، والقياس أن محاسن جمع محسن.
قال المصنف. قال القاضي عياض: لم يرد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره إلا بالدال المهملة، من الجدب ضد الخصب وعليه شرح الشارحون، وكأنه قصد الرد على الخطابي حيث ذكر في اللفظ وجوهاً وجعلها روايات مقبولة وهي أخاذات بالخاء والذال المعجمتين جمع أخاذة وهي الغدران وأحادب بالحاء والدال المهملتين، قال: وليس بشيء. وروي أجارد بالجيم والراء والدال، قال: وهو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية، ومعناه: متجردة من النبات جمع أجرد (أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان) جمع قاع: وهي الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: التي لا نبات فيها قال المصنف وهذا هو المراد في الحديث (لا تمسك ماء) ولما كان بعض القيعان قد ينبت كلأ نفاه بقوله: (ولا تنبت كلأ، فذلك) إشارة إلى ما ذكر من الأنواع الثلاثة وشروع في بيان موارد المثل الثلاثة، فمثل الطائفة الأولى القابلة للماء المنبتة للكلأ (مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم) بكسر اللام (وعلَّم) بتشديد اللام (ومثل من لم يرفع بذلك رأساً) هذا مثل الطائفة الثانية التي أمسكت الماء ولم تنبت به شيئاً، فنفع الله الناس بها ولم تنتفع هي به، وهذا كعالم لم يعمل بعلمه وعلم غيره(2/425)
وعدم رفع رأسه بالعلم كناية عن عدم الانتفاع به لعدم العمل به (و) مثل من (لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) هذا مثل الطائفة الثالثة التي لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ،
ومثل هذه الطائفة رجل فات عنه التعلم والتعليم، ولا يخفى أن عدم قبول الهدى مستلزم لعدم النفع بالعلم لا في نفسه ولا في غيره (متفق عليه) لكن السياق لمسلم (فقه بضم القاف على المشهور) في الرواية قاله صاحب «العين» والهروي وغيرهما (وقيل: بكسرها) قاله ابن دريد (أي: صار فقيهاً) عالماً بالأحكام الشرعية. أم الفقه بالمعنى اللغوي فهو فقه بكسر القاف لا غير، والضم والكسر روايتان والمشهور الضم، قاله المصنف. وقد تقدم في باب التقوى ذكر هذين الوجهين كما في الفقه بمعنى علم أحكام الشعر، وكان الأخصر الاكتفاء بذلك.
163 - (الثمن: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب) قال المصنف: وفي رواية الدوابّ (والفراش يقعن فيها) لعدم إدراكهن بما يضرهن (وهو) أي: الرجل (يذبهن) بالمعجمة وتشديد الموحدة، أي: يمنعهن رحمة بهن (عنها) لما يعلمه من أن حتفهم بها (وأنا آخذ) روي بوجهين أحدهما اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال والثاني فعل مضارع ذكرهما المصنف وقال: هما صحيحان والأول أشهر (بحجزكم) جمع حجزة بضم المهملة وبعدها جيم ثم زاي، وهي معقد الإزار والسراويل (عن النار وأنتم تفلتون) روي بوجهين فتح أوله وتشديد اللام وبضم الفوقية وسكون الفاء وكسر اللام المخففة وكلاهما صحيح، يقال أفلت مني وتفلت: إذا نازعك الغلبة والهرب ثم غلب وهرب، ومقصود الحديث أنه شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم وقبضه(2/426)
على موضع المنع منهم بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه، وكلاهما حريص على هلاك نفسه ساغ في ذلك لجهله (رواه مسلم) ورواه أحمد كما في «الجامع الصغير» .
(الجنادب) جمع جندب بضم الدال وفتحها والجيم مضمومة فيهما، والثالثة حكاها عياض بكسر الجيم وفتح الدال (نحو الجراد) وهو الصرصار. قال أبو حاتم: الجندب على خلقه الجراد له أربعة أجنحة كالجراد وأصغر منها يطير ويصرّ بالليل صرّاً شديداً، وقيل: غيره (والفراش هو المعروف) قال في «شرح مسلم» : قال الخليل: هو الذي يطير كالبعوض، وقال غيره: ما تراه كصغائر البق يتهافت في النار، ولذا قال المصنف (الذي يقع في النار، والحجز جمع حجزة: وهي معقد الإزار والسراويل) .
164 - (التاسع: عنه) أي: عن جابر (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر) بالبناء للفاعل (بلعق الأصابع) إما يلعقها بنفسه أو يلعقها غيره ممن لا يتقذر بذلك من زوجة وجارية وولد ومن في معناه كتلميذ يعتقد بركته ويود التبرك به (و) لعق (الصحفة) وذلك لكسر النفس بالتواضع (قال) منبهاً على علة الأمر بذلك (فإنكم لا تدرون في أية) أي: أيّ طعامكم كما في الرواية بعده (البركة) قال المصنف: الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة ولا يدري أن تلك البركة فيما أكل أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصيل البركة، والمراد بالبركة هنا ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوى على طاعة الله تعالى أو غير ذلك (رواه مسلم) .
(وفي رواية له) عن جابر (إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها) ولا يدعها كما يفعله بعض المترفين استكباراً (فليمط) بضم التحتية. قال الجوهري حكى أبو عبيد ماطه وأماطه: نجاه وقال الأصمعي: أماطه لا غير أي لينح ويزل (ما كان) أي: حصل (بها) أي: فيها أو الباء للإلصاق أو الملابسة (من أذى) أي: مستقذر من غبار وتراب، فإن وقعت على موضع نجس تنجست ولا بد من(2/427)
غسلها إن أمكن، فإن تعذر أطعمها حيواناً ولا يتركها للشيطان (وليأكلها ولا يدعها) يتركها (للشيطان) قيل: إنه مأخوذ من شطن بمعنى بعد، وقيل: من شاط بمعنى احترق، وأل يحتمل كونها للجنس أو للعهد الذهني أي إبليس. وفي الحديث إثبات الشياطين وأنهم يأكلون (ولا يمسح يده بالمنديل) قال المصنف: هو معروف وهو بكسر الميم. قال ابن فارس في «المجمل» لعله مأخوذ من المندل وهو النعل، وقال غيره: مأخوذ من الندل وهو الوسخ لأنه يندل به، قاله أهل اللغة: تندلت بالمنديل. قال الجوهري: ويقال أيضاً تمندلت، وأنكر الكسائي تمندلت (حتى يلعق) بفتح التحتية (أصابعه) محافظة على البركة (فإنه لا يدري في أي طعامه البركة) .
فائدة: قال العلقمي في «حاشية الجامع الصغير» : قال شيخ شيوخنا: يعني الحافظ العسقلاني: وقع من حديث كعببن عجرة عند الطبراني في «الأوسط» صفة لعق الأصابع ولفظه «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بأصابعه الثلاث بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق الثلاث قبل أن يمسحها الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام» قال شيخنا في «شرح الترمذي» : كأن السرّ فيه أن الوسطى أكثر تلويثاً لأنها أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها ولأنها لطولها أول ما ينزل في الطعام، أو أن الذي يلعق يكون بطن كفه إلى جهة وجهه، فإذا ابتدأ الوسطى انتقل إلى السبابة على جهة يمينه وكذلك الإبهام اهـ.
(وفي رواية له) عن جابر أيضاً (إن الشيطان يحضر أحدكم عند شأنه كله) وفي نسخة «عند كل شيء من شأنه» فيه التحذير منه والتنبيه على ملازمته للإنسان في جميع أحواله وتصرفاته، فينبغي أن يتأهب ويحترز منه ولا يغترّ بما يزينه له (حتى) غاية لملازمته (يحضره عند، طعامه فإذا سقطت من أحدكم لقمة فليمط ما كان بها من أذى فليأكلها ولا يدعها للشيطان) وسيأتي زيادة في معاني هذه الأحاديث في كتاب آداب الطعام إن شاء الله تعالى.
165 - (العاشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموعظة) تقدم في(2/428)
حديث النوّاس معنى الموعظة وأن تنوينها للتعظيم ( {فقال: يا أيها الناس إنكم محشورون} ) بعد البعث (إلى الله عزّ وجلّ حفاة) جمع حاف من لا نعل برجله (عراة) عن الثياب (غرلاً) بضم المعجمة وسكون الراء: أي قلفاً. والغرلة: القلفة ( {كما بدأنا أول خلق نعيده} ) بعد إعدامه والكاف متعلقة بنعيد وضميره عائد لأول وما مصدرية ( {وعداً علينا} ) منصوب بوعدنا مقدر قبله وهو مؤكد لمضمون ما قبله ( {إنا كنا فاعلين} ) ما وعدنا، وذكره استدلالاً على إعادة كل مخلوق بجميع أجزائه (ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح وما بعدها مقدر وعطف عليه قوله: (وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم) إن قلت: هذا يدل على أن إبراهيم أفضل. قلت: لا يلزم من اختصاص النبي بفضيلة كونه أفضل مطلقاً، أو المراد غير المتكلم بذلك قاله الكرماني.
قال السيوطي في «التوشيح» : قيل: الحكمة في ذلك أنه ألقي في النار عرياناً، وقيل: لأنه أول من لبس السراويل وقد جبر عن هذا السبق بكونه يكسي حلتين كما في حديث ذكره البيهقي. قال القرطبي (ألا وإنه) أي: الشأن (سيجاء) بالبناء للمفعول (برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال) بكسر الشين والمراد جهة النار. قال ابن النحوي: لعلهم منافقون، وقيل هم مسلمون قصروا في بعض الحقوق، وسيأتي معنى قوله مرتدين على الوجهين (فأقول: يا ربّ هم أصحابي) رواية البخاري في «التفسير» «فأقول يا رب ارحم أصحابي» قال السيوطي في «التوشيح» : هو للأكثر مصغر، وللكشميهني غير مصغر. قال الخطابي: فيه إشارة إلى قلة عدد من وقع لهم ذلك، وإنما وقع ذلك لبعض جفاة الأعراب ولم يقع لأحد من الصحابة المشهورين اهـ. قلت: ويحتمل أن المراد بقوله أصحابي: أي من أمتي التابعين لملتي. فالصحبة مجازية ومعرفته لهم حينئذٍ برؤية نحو الغرّة والتحجيل مما تختص به هذه الأمة، وهذا أنسب بقوله في أول الحديث «برجال من أمتي دون أصحابي» (فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أبهم ولم يعين تفخيماً لشأنه وبيانه بعد ليكون أدلّ على قيام العدل وقوام الحجة عليهم (فأقول) مسلماً الأمر الله (كما قال(2/429)
العبد الصالح) يعني عيسىبن مريم (وكنت عليهم شهيداً) أي: رقيباً أمنعهم مما يقولون ( {ما دمت فيهم} {فلما توفيتني كنت أنت الرقيب} ) الحفيظ ( {عليهم} ) على أعمالهم ( {وأنت على كل شيء} ) من قولي لهم وقولهم بعدي وغير ذلك ( {شهيد} ) مطلع عالم به ( {إن تعذبهم} ) أي: من دام على الكفر منهم ( {فإنهم عبادك} ) وأنت مالكهم متصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك ( {وإن تغفر لهم} ) أي: لمن آمن منهم ( {فإنك أنت العزيز} ) الغالب على أمره ( {الحكيم} ) في صنعه كذا في «تفسير الجلالين» . وظاهر التشبيه في قوله كما قال العبد الصالح الخ أن هذا القول كان من عيسى على جهة التسليم وأنه قد علم من آمن منهم، فقوله: {إن تعذبهم} أي:
على كفرهم وفريتهم السابقة فهم مستحقون لذلك، ولا اعتراض عليك لأنك تصرّفت في عبادك {وإن تغفر لهم} أي: لمن تاب منهم، أشار إليه ابن النحوي. قال: وقيل علم عيسى أنهم يعصون بعده، فقال: {وإن تغفر لهم} أي: ما أحدثوه من المعاصي (فيقال لي) بيان لما أحدثوا (إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) قال القاضي عياض: هذا لصحة من تأول أنهم أهل الردة، ولذا قال فيهم سحقاً سحقاً، ولا يقول ذلك في مذنبي أمته بل يشفع لهم ويهتم بأمرهم. وقيل هؤلاء صنفان: أحدهما عصاة مرتدون عن الاستقامة لا عن الإسلام وهؤلاء مبدلون الأعمال الصالحة بالسيئة، والثاني مرتدون إلى الكفر حقيقة ناكصون على أعقابهم اهـ «ومنذ» هنا ظرف (متفق عليه. غرلاً) بضم فسكون جمع أغرل (أي: غير مختونين) .
166 - (الحادي عشر: عن أبي سعيد) وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو زياد (عبد ابن مغفل) بضم(2/430)
الميم وفتح المعجمة وتشديد الفاء ابن عبد غنم، وقيل: ابن عبدنهمبن عفيفبن أسحمبن ربيعةبن عذار، وقيل: ابن عديبن ثعلبةبن ذؤيب، وقيل: زويدبن سعدبن عدابن عثمانبن عمروبن أدّبن طابخةبن إلياسبن مضربن نزال المزني البصري «ومزينة» امرأة عثمان بن عمرو ونسبوا إليها، وعبد الله (رضي الله عنه) من أهل بيعة الرضوان، قال عبد الله: إني لممن رفع أغصان الشجرة عن رسول الله. سكن المدينة ثم تحول إلى البصرة وكان أحد البكائين الذين نزل فيهم قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} (التوبة: 92) الآية، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر. توفي بالبصرة سنة ستين، وقيل: سنة تسع وخمسين، وصلى عليه أبو برزة الأسلمي لوصيته بذلك (قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخذف) بفتح المعجمة الأولى وسكون الثانية وبالفاء: رمى الحصى بالسبابة والإبهام بأن يضعها على أحدهما ويرميها بالآخر وقال على سبيل الاستئناف لبيان سبب النهي (إنه لا يقتل الصيد ولا ينكأ) بالهمزة: أي لا يقتل (العدو) ولا يجرحه (وإنه يفقأ) بالفاء والقاف والهمزة: أي يقلع (العين) قال المصنف: قال القاضي: كذا رويناه. قال: وفي بعض الروايات «ينكى» بفتح التحتية وكسر الكاف غير مهموز. قال القاضي: وهو أوجه هنا لأن المهموز إنما هو من نكأت القرحة وليس هذا موضعه إلا على تجوّز وإنما هذه النكاية، يقال نكيت العدو وأنكيته نكاية ونكأت بالهمز لغة فيه، قال: فعلى هذه اللغة تتوجه رواية شيوخنا (ويكسر السن) أي: إنه ضرر لا نفع فيه (متفق عليه. وفي رواية لمسلم: أن قريباً لابن مغفل خذف فنهاه) عنه (وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف وقال: إنها لا تصيد صيداً) أي: الخذفة لا يحصل في الصيد كما لا يحصل
منها مصلحة في الحرب (ثم أعاد) القريب الخذف بعد سماع ذلك (فقال: أحدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ثم عدت تخذف)(2/431)
وتخالف السنة (لا أكلمك أبداً) قال المصنف، فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم وأنه يجوز هجرانه دائماً، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا. أما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائم، وهذا الحديث مما يؤيده مع نظائر له كحديث كعببن مالك السابق.
167 - (الثاني عشر: عن عابس) بموحدة مكسورة ثم مهملة (ابن ربيعة) النخعي الكوفي ثقة مخضرم من كبار التابعين كذا في «التقريب» للحافظ (قال: رأيت عمربن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر الأسود ويقول: إني أعلم) في رواية أخرى للبخاري «أما وا إني لأعلم» (أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع) أي: إلا بإذنالله. قال في «فتح الباري» : وقد روى الحاكم من حديث أبي سعيد «أن عمر لما قال هذا قال له عليّبن أبي طالب: إنه يضر وينفع، وذكر أن الله تعالى لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رقّ وألقمه الحجر» وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يؤتي يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد» وفي إسناده راو ضعيف جداً. وقد روي أن عمر رفع قوله ذلك إلى النبي أخرجه ابن عباس قال: «رأيت عمر قبَّل الحجر ثلاثاً ثم قال: إنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك، ثم قال عمر: رأيت النبي فعل مثل ذلك» قال الطبراني: إنما فعل ذلك لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان (ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك) في قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيه، وهي قاعدة عظيمة في اتباع النبي فيما يفعله(2/432)
ولو لم نعلم الحكمة فيه، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر خاصية ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السنن بالقول والفعل وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى بيان الأمر (متفق عليه) زاد مسلم في رواية له «ولكن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بك حفياً» ولم يذكر «يقبلك» . كذا في «تجريد الأصول» للبارزي.
باب في وجوب الانقياد
أي: الاستسلام ظاهراً والرضا باطناً (لحكم الله وما يقوله من دعى) بالبناء للمفعول (إلى ذلك) أتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد موضع الضمير تفخيماً لشأنه (وأمر بمعروف أو نهى) بالبناء لذلك أيضاً (عن منكر) .
(قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} ) تقدم الكلام على ما يتعلق بمعناها في أول الباب قبله، وقد حكى السيوطي في «أسباب النزول» له خلافاً في سبب نزولها، فقيل في تخاصم الزبير والأنصاري في سراح الحرة: فأمر الزبير أن يسقي ثم يرسل الماء إلى جاره، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ الحديث. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلاّ نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} . أخرجه(2/433)
الأئمة الستة وقيل: في تخاصم الزبير وحاطببن أبي بلتعة في ماء، فقضى أن سقى الأعلى ثم الأسفل. أخرجه ابن أبي حاتم. وقيل: سببه اختصام رجلين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردّنا إلى عمر، فأتيا إليه فقال الرجل: قضى لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا فقال ردنا إلى عمر، فقال أكذلك؟ قال: نعم، قال نعم: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضى بينكما، فخرج إليهما مشتملاً على سيفه، فضرب الذي قال ردّنا إلى عمر فقتله، فأنزل الله الآية. قال السيوطي: أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الأسود مرسلاً، وهو غريب في إسناده ابن لهيعة، وله شاهد أخرجه رحيم في «تفسيره» عن ضمرة اهـ ملخصاً.
(وقال تعالى: {إنما كان قول المؤمنين} ) أي: القول اللائق لهم ( {إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} ) بالإجابة ( {وأولئك} ) حينئذٍ ( {هم المفلحون} ) الناجون (وفيه من الأحاديث) النبوية (حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في أول الباب قبله) هو قوله: «دعوني ما تركتكم» الخ (وغيره من الأحاديث فيه) أي: في معنى الحديث المذكور من طاعة الله ورسوله ظاهراً وباطناً.
1681 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت) بالبناء للفاعل (على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية: {ما في السموات وما في الأرض} ) خلقاً وملكاً ( {وإن تبدوا} ) تظهروا ( {ما في أنفسكم} ) من السوء والعزم عليه ( {أو تخفوه} ) تسرّوه ( {يحاسبكم} ) يجزكم ( {به ا} ) يوم القيامة (الآية) أي إلى قوله: {وا على كل شيء قدير} (البقرة: 284) ومنه محاسبتكم وجزاؤكم (اشتد ذلك على(2/434)
أصحاب رسول الله، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بركوا جثياً على الركب) بضم ففتح كما هي عادة الخائف الوجل (فقالوا أي) : بفتح الهمزة وسكون التحتية حرف لنداء القريب (رسول الله كلفنا) بالبناء للمفعول (من الأعمال ما نطيق) الإتيان به (الصلاة والصيام والجهاد والصدقة) بالنصب بدل مفصل من مجمل ويجوز فيه الرفع على القطع (وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها) قال المصنف: قال المازري: يحتمل أن يكون إشفاقهم وقولهم لا نطيقها لكونهم اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي لا تكتسب، فلهذا رأوه من قبيل ما لا يطاق. وعندنا أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً.
واختلف هل وقع التعبد به في الشريعة أم لا؟ (قال) مخوّفاً لهم من قطيعة العصيان وقطيعة امتناع قبول الأوامر (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين) من اليهود والنصارى (من قبلكم) في محل الحال أو الصفة ( {سمعنا} ) قولك ( {وعصينا} ) أمرك ( {بل قولوا} {سمعنا} ) ما أمرتنا به سماع قبول ( {وأطعنا} ) أمرك اغفر ( {غفرانك} ) أو نسألك غفرانك يا ( {ربنا} ) وحذف أداة النداء لعله إيماء إلى أنه ينبغي للداعي أن يكون في كمال الحضور حتى كأنه في حضرة الحق سبحانه، ومن كان كذلك لا ينادي ( {وإليك} ) لا إلى غيرك ( {المصير} ) الرجوع (فلما اقترأها) أي: قرأها (القوم) أي: آية {ما في السموات} (وذلت) أي: انقادت بالاستسلام (بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها) بكسر فسكون وبفتحتين أي عقب نزولها من غير فاصل (آمن) صدّق (الرسول بما أنزل إليه من ربه) وهو القرآن (والمؤمنون) معطوف عليه، وقيل مبتدأ خبره (كل آمن) وتنوين كل للعوض أي كل واحد منهم آمن (با وملائكته وكتبه ورسله)(2/435)
رتبهم كذلك لترتبهم في الوجود على ذلك الترتيب ( {لا نفرّق} ) أي: يقولون لا نفرّق في الإيمان بالرسل (بين أحد من رسله) بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كفعل اليهود والنصارى ( {وقالوا سمعنا} ) ما أمرنا به سماع قبول ( {وأطعنا} ) أمرك ( {غفرانك ربنا وإليك المصير} ) الرجع بالبعث.
قال القرطبي المفسر وهو تلميذ القرطبي شارح «مختصر مسلم» كما نقل عنه في آخر سورة النمل: لما تقرّر الأمر على أن {قالوا سمعنا وأطعنا} مدحهم الله تعالى وأثنى عليهم في هذه الآية ورفع المشقة في الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحملهم المشاق من الذلة والمسكنة والجلاء كما قالوا سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله والعياذ با (فلما فعلوا ذلك) أي: قالوا ما أمروا بقوله من قوله سمعنا وأطعنا (نسخها الله تعالى فأنزل الله {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ) قال المصنف بعد نقل عن القاضي عياض بيان وجه النسخ الذي توقف فيه المازري: وقد اختلف الناس في هذه الآية، فأكثر المفسرين من الصحابة ومن بعدهم على ما تقدم فيها من النسخ، وأنكره بعض المتأخرين قال لأنه خبر ولا يدخل النسخ الأخبار، وليس كما قال هذا المتأخر فإنه وإن كان خبراً فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكن النفوس والتعبد بما أمرهم النبي بذلك وأن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذه أقوال وأعمال اللسان والقلب، ثم نسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة. وروي عن بعض المفسرين أن معنى النسخ هنا إزالة ما وقع في قلوبهم من الشدة والفرق من هذا الأمر، فأزيل عنه بالآية الأخرى واطمأنت نفوسهم، وهذا القائل يرى أنهم لم يلزموا ما لا يطيقون لكن ما يشق عليهم من التحفظ من خواطر النفس وإخلاص الباطن فأشفقوا أن يكلفوا من ذلك ما لا يطيقون فأزيل عنهم هذا الإشفاق وبين أنهم لم يكلفوا إلا وسعهم، وعلى هذا لا حجة فيه لجواز تكليف ما لا يطاق إذ ليس فيه نص على تكليفه. وذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة في إخفاء اليقين والشك للمؤمنين والكافرين فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، هذا آخر كلام القاضي. وذكر الإمام الواحدي الخلاف في معنى الآية ثم(2/436)
قال: والمحققون يختارون أن تكون الآية محكمة غير منسوخة اهـ. وقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً
إلا وسعها} أي: ما تسعه قدرتها. قال القرطبي في «المفهم» : الوسع الطاقة والجهد، وهذا خبر من الله تعالى أنه لا يأمرنا أي من وقت نزول الآية إلا بما نطيقه ويمكننا إيقاعه عادة وهو الذي لم يقع في الشريعة غيره ويدل على ذلك تصفحها. وقد حكى الإجماع عليه. قال تلميذه في «التفسير» : وبذلك انكشفت الكربة على المسلمين في تأولهم أمر الخواطر إنما الخلاف في جواز ذلك عقلاً، فمنهم من جوّزه ومنهم من منعه ( {لها ما كسبت} ) من الخير أي ثوابه ( {وعليها ما اكتسبت} ) من الشرّ: أي وزره، ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكسبه مما وسوسته به نفسه. وعبر في الحسنة باللام من حيث هي مما يفرح بكسبه ويسرّ المرء بها فيضاف إلى ملكه، وفي السيئة بعلى من حيث هي أوزار متحملات صعبة. وقال ابن عطية في «تفسيره» : وعبر بالكسب في الحسنة لأنها تكتسب بلا تكلف لكون مكتسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، وبالاكتساب في السيئة لأن كاسبها يحتاج إلى خرق حجاب نهي الله ويتخطاه اهـ ملخصاً. قولوا: ( {ربنا لا تؤاخذنا} ) بالعقاب ( {إن نسينا أو أخطأنا} ) أي: تركنا الصواب لا عن عمد كما آخذت به من قبلنا (قال نعم) أي: قد فعلت، وقد رواه ابن عباس بهذا اللفظ بدل قوله نعم.
رواه مسلم. قال القرطبي: فيه دليل على أنهم ينقلون الحديث بالمعنى. والأصح جوازه من العالم بمواقع الألفاظ وأن ذلك لا يجوز لمن بعد الصدر الأول لتغير اللغات وتباين الكلمات. قولوا ( {ربنا} ) استجب ذلك ( {ولا تحمل علينا إصراً} ) مرا يثقل علينا حمله ( {كما حملته على الذين من قبلنا} ) أي: من(2/437)
بني إسرائيل في قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة وقرض موضع النجاسة (قال نعم) أي: قد فعلت ( {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة} ) قوة ( {لنا به} ) من التكاليف والبلاء ( {قال نعم} . {واعف عنا} ) امح عنا ذنوبنا ( {واغفر لنا وارحمنا} ) في الرحمة زيادة على المغفرة (أنت مولانا) سيدنا ومتولي أمرنا ( {فانصرنا على القوم الكافرين} ) بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم. فإن شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء، قال القرطبي في «التفسير» : خرج هذا مخرج التعليم للخلق كيف يدعون روي عن معاذبن جبل «أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين» قال ابن عطية: هذا يظن به أنه رواه عن النبي، فإن كان كذلك فكمال، وإن قال بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن اهـ (رواه مسلم) .
18 - باب في النهي عن البدع ومحدثات الامور
بكسر ففتح (ومحدثات الأمور) أي: التي ليست على قواعد الشرع ولا فيها يؤيدها.
(قال الله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} ) إذ هما ضدان وبترك أحدهما يقع الآخر، والحق ما جاء به الكتاب والسنة نصاً أو استنباطاً. وفي أحكام القرآن للسيوطي: سئل مالك عن شهادة اللاعب بالشطرنج والنرد أيجوز؟ قال: أما من أدمنها فلا لقول الله {فماذا بعد الحق إلا الضلال} فهذا كله من الضلال اهـ.
(وقال تعالى: {ما فرطنا في(2/438)
الكتاب من شيء} ) قال الخازن في «تفسيره» : يعني اللوح المحفوظ لأنه يشتمل على أحوال المخلوقات، وقيل: المراد بالكتاب القرآن أي إنه مشتمل على جميع الأحوال اهـ.
(وقال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} - أي الكتاب والسنة) لف ونشر مرتب، وتقدم الكلام في معناها في باب الأمر بالمحافظة على السنة.
(وقال تعالى: {وأن هذا} ) الذي وصيتكم به ( {صراطي مستقيماً} ) حال ( {فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} ) الطرق المخالفة له ( {فتفرق} ) فيه حذف إحدى التاءين ( {بكم عن سبيله} ) أي: دينه. وفي الآية التفات من المتكلم إلى الغيبة.
(وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر ذنوبكم} ) سبق الكلام عليها في الباب المذكور (والآيات في الباب) أي: النهي عن البدع (كثيرة معلومة وأما الأحاديث) النبوية في ذلك فكثيرة جداً بكسر الجيم صفة مصدر محذوف أي كثرة جداً: أي تامة مبالغة فيها (وهي مشهورة) عن علماء السنة المشتغلين بها (فنقتصر على) إيراد (طرف) بفتح أوليه المهملين أي جانب (منها) .
1691 - (عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: من أحدث) أي: ابتدع(2/439)
(في أمرنا) أي: ديننا (هذا) أي: دين الإسلام (ما) أي: الذي أو شيئاً (ليس منه بأن لم يشهد له أصل من أصوله) ، فلا ينافي ما تقدم من أن من البدع ما هو واجب ومنها ما هو مندوب (فهو رد) أي: مردود لا يلتفت إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول كالخلق على المخلوق. قال المصنف: هذا الحديث مما ينبغي حفظه وإشهاره في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به لذلك. وقال الحافظ العسقلاني: هذا الحديث معدود من أصول الدين وقاعدة من قواعد. وقال الطوفي: هذا الحديث يصح أن يسمى نصف أدلة الشرع (متفق عليه) ورواه أبو داود وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .
(وفي رواية لمسلم) ورواها أحمد أيضاً عن عائشة قال الشيخ نفيس الدين سليمان العلوي ومن خطه نقلت على نسخة له من هذا الكتاب: هذه الرواية في مسلم قد ذكرها البخاري في «صحيحه» تعليقاً بصيغة الجزم ذكرها في كتاب البيوع في باب النجس وفي باب «إذا اجتهد العالم أو الحاكم» وقد ذكره المصنف في «الأربعين» له فقال رواه البخاري ومسلم اهـ وما ذكره عن كتاب الأربعين للمصنف لم أجده فيه كما قال، بل الذي فيه الاقتصار على العزو إلى مسلم كما هنا (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا) أي: أمر الدين (فهو ردّ) وهذا أعم من اللفظ الأول فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المترتبة عليها وفي ردّ المحدثات ورد جميع المنهيات إذ ليست من أمر الدين، ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر لقوله: «أمرنا» أي أمر الدين، وفيه أن الصلح الفاسد ينتقض والمأخوذ عليه مستحق.
1702 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب) خطبة لأمر يقتضيها من تحذير عن منهي أو تخويف من عقوبة (احمرت) بتشديد الراء (عيناه وعلا صوته واشتد غضبه) لما يتجلى عليه من بوارق الجلال ولوامع أضواء الأنظار وشهود أحوال أمته وتقصير(2/440)
أكثرهم في امتثال ما يصدر عنه، ومن ثم مثل جابر حاله في إنذاره بمجيء القيامة وقرب وقوعها وتهالك الناس فيما يؤذيهم بحال من ينذر قومه عند غقلتهم بجيش قريب منه يقصد الإحاطة بهم بغتة من كل جانب بحيث لا يقرب منهم أحد فقال: (حتى كأنه منذر جيش) أي: مخبر بجيش العدو الذي يخاف (يقول) في إنذاره لهم فهو صفة منذر (صبحكم) العدو مغيراً عليكم (ومساكم) كذلك فاحتفظوا منهـ فكما أن هذا لشدة اعتنائه بحال قومه يرفع صوته وتحمرّ عيناه ويشتدّ غضبه من تغافلهم عما يستأصلهم ويهلكهم كذلك حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشدة حرصه على أمته وعظم رأفته ورحمته بهم وخوفه عليهم من الساعة وأهوالها، ومن ثم عقب ذلك جابر بقوله عطفاً على كأنه (ويقول بعثت أنا) أكد به ليصح العطف (والساعة كهاتين) بالرفع والنصب قال المصنف: والمشهور النصب على المفعول معه.
قال القاضي عياض: يحتمل أنه تمثيل لمقاربتهما وأنه ليس بينهما أصبع أخرى، كما أنه لا نبيّ بينه وبين الساعة، ويحتمل أنه لتقريب ما بينهما من المدة كنسبة التقارب بين الأصبعين تقريباً لا تحذيراً (ويقرن) بضم الراء على المشهور الفصيح وحكي كسرها (بين أصبعيه) تثنية أصبع وفيه عشر لغات تثليث الهمزة والموحدة والعاشرة أصبوع (السبابة) سميت بذلك لأنهم كانوا يشيرون بها عند السب (والوسطى، ويقول: أما بعد) فيه استحباب قولها في خطب الوعظ والجمع والعيد وغيرها وكذا في خطب الكتب المصنفة واختلف في أول من تكلم بها وتقدم بسطه في خطبة الكتاب (فإن خير الحديث كتابالله، وخير الهدي محمد) قال العلقمي: هو بضم الهاء وفتح الدال فيهما وبفتح الهاء وسكون الدال أيضاً كذا جاءت الرواية بالوجهين.
وقال القاضي عياض: روينا في مسلم بالضم وفي غيره بالفتح، وفسره النووي على رواية الفتح بالطريق: أي أحسن الطرق طريقه، وعلى رواية الضم بالدلالة والإرشاد وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن والعباد، قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى: 52) وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوام} (الإسراء: 9) أما الهداية بمعنى اللطف والتأييد فتفرد بها سبحانه ومنه قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص: 56) اهـ ملخصاً (وشرّ الأمور محدثاتها) أي: ما(2/441)
لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا أصل له فيها. وروي شرّ كما قال الطيبي بالنصب عطف على اسم وإن وبالرفع على محل إن مع اسمها (وكل بدعة ضلالة) هذا عام مخصوص كما تقدم في حديث العرباضبن سارية في باب المحافظة على السنة (ثم يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه) هو موافق لقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 2) أي أحق. قال أصحابنا: كان النبيّ إذا احتاج إلى طعام أو غيره وجب على صاحبه بذله له، وجاز له أخذه من مالكة المضطرّ له، وهذا وإن جاء له إلا أنه لم يقع (من ترك مالاً فلأهله) الوارثين له وإن استغرقوا فما بقي من فرضهم إليه (ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ) .
قال الحافظ: هذا تفسير لقوله «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه» قال أهل اللغة: الضياع بفتح الضاد المعجمة العيال. قال ابن قتيبة: أصله مصدر ضاع يضيع ضياعاً، المراد من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضياع، فأوقع المصدر موقع الاسم كما تقول: من مات وترك فقراء اهـ. قال بعضهم: وإن كسرت الضاد كان جمع ضائع كجائع وجياع. قال السيوطي: قال أبو البقاء: هو بفتح الضاد وهو في الأصل مصدر وليس للكسر هنا معنى اهـ. وقوله: «وعليّ» بتشديد الياء: أي: قضاء ذلك الدين، فقيل كان يقتضيه تكرماً، قال المصنف: والأصح أنه كان واجباً عليه، وهل هو من خصائصه أو واجب على الإمام بعده كذلك من بيت المال إن لم يكن ثمة أهم منه؟ وقوله: «وإليّ» أي: الضياع، ففي الحديث لف ونشر غير مرتب (رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه، كلهم من حديث جابر.
ــــ (وعن العرباضبن سارية رضي الله عنه حديثه السابق) بالرفع مبتدأ خبره الظرف قبله (في باب المحافظة على السنة) .(2/442)
19 - باب في ثواب من سن سنة حسنة
بأن كانت قواعد الشرع تمدح ذلك. (و) عقاب (من سن سنة) أي طريقة: (سيئة) بأن كانت على خلاف ما تقدم (قال الله تعالى) في مدح المؤمنين بذكر بعض أوصاف محامدهم ( {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجاً وذرياتنا قرّة أعين} ) لنا بأن نراهم مطيعين لك. قال بعضهم: في هذا القول منهم إشارة إلى أنه لما كمل نفعهم أحبوا أن يعود ذلك على أتباعهم، وبدءوا بالزوجات للإشارة إلى أن في مدحهم صلاحاً للأبناء لأن من شأنهم أن يأتوا على نعت أبويهم. قيل: أفضل سعادة المرء أن يؤتى ولداً نجيباً. والدعاء من الآباء للأبناء وإن كان لغيرهم أي الأبناء فهو في الحقيقة صلاح للآباء، لأن العبد يؤتى يوم القيامة في صحيفته حسنة فيقول من أين لي هذه؟ فتقول الملائكة: من استغفار ولدك «وقالت طائفة: إن الولد إذا عمل طاعة كتب ضعفها لأبويه ( {واجعلنا للمتقين إماماً} ) في الخير.
(وقال تعالى: {وجعلناهم أئمة} ) يقتدي بهم في الخير ( {يهدون} ) الناس ( {بأمرنا} ) .
1711 - (وعن أبي عمرو وجرير) بفتح الجيم وكسر أولى الراءين بينهما تحتية ساكنة (ابن عبد ا) بن جابربن مالكبن نضربن ثعلبة البجلي الأحمسي بالمهملتين الكوفي (رضي الله عنه) وبجيلة، وهي بنت صعيربن سعد العشيرة أم أنمار بنت أوس نسبوا إليها: قال ابن قتيبة قدم جرير على النبي سنة عشر من الهجرة في رمضان فبايعه وأسلم. وكان عمر يقول: جرير يوسف هذه الأمة، وكان طويلاً يصل إلى سنام البعير، وكان نعله ذراعاً نزل الكوفة ثم تحول إلى أفريقيا ومات بها سنة إحدى وخمسين. وقيل: أقام بالجزيرة وتوفي بها(2/443)
سنة أربع وخمسين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث: اتفقا على ثمانية منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة: ومناقبه كثيرة، ومن مستظرفاتها أنه رضي الله عنه اشترى له وكيله فرساً بثلاثمائة درهم، فرآها جرير فتخيل أنها تساوي أربعمائة درهم، فقال لصاحبها: أتبيعها بأربعمائة درهم؟ قال نعم، ثم تخيل أنها تساوي خمسمائة، ثم ستمائة ثم سبعمائة ثم ثمانمائة، فاشتراها بثمانمائة. وذكرها المصنف في «التهذيب» وغيره (قال: كنا في صدر) أول (النهار عند رسول الله) نتشرف برؤياه ونستمطر الفيوض الإلهية من سحب محياه (فجاءه قوم عراة) جمع عار (مجتابي النمار) حال وسيأتي ضبطهما ومعناهما، قال المصنف: أي: خرقوها وقوروا وسطها (أو) شك من الراوي: أي قال مجتابي النمار أو قال مجتابي (العباء) وهو بفتح العين المهملة وبالموحدة والمد جمع عباءة وعباية لغتان (متقلدي السيوف عامتهم) بتشديد الميم: أي معظمهم (من) قبيلة (مضر بل كلهم من مضر) أي: مقصورون عليها لا يتجاوزونها إلى غيرهم (فتمعر) بتشديد العين المهملة: أي تغير (وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة) أي: شدة الاحتياج من عدم مواساة الأغنياء لهم بما يدفع ضررهم كما هو الواجب عليهم، إذ يجب على الكفاية على مياسير المسلمين دفع ضرر المحتاجين بإطعام الجائع وإكساء العاري
وهؤلاء كذلك ولم يبادر الأغنياء إلى سد فاقتهم، فهذا سبب التمعر لا مجرد رؤية الفاقة بهم لأنها شأن الصالحين من الأمة (فدخل) أي: منزله (ثم خرج) منه (فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى) أي: الظهر لأن الإقامة مختصة بالفريضة وأول فريضة بعد صدر النهار الظهر (ثم خطب فقال: يا أيها الناس) الآية مكية والخطاب لأهل مكة إلا أن لفظ الناس عام والحكم بعده غير مقصور عليهم (اتقوا ربكم) أي: عقابه، بأن تطيعوه (الذي خلقكم من نفس واحدة) آدم (إلى آخر الآية) وهو (إن الله كان عليكم رقيبا) حافظاً لأعمالكم فيجازيكم عليها: أي: لم يزل متصفاً بذلك، ووجه مناسبتها لما هو(2/444)
فيه أن فيها اتحاد الناس في خلقهم من نفس واحدة ثم الأمر باتقاء الأرحام على قراءة النصب وقرنه باتقاء الله الدال على أن صلتها من الله تعالى بمكان. وختمها بقوله:
{رقيبا} ما تحمل كل غني على سد خلة المحتاج لاسيما الرحم، لأن من رأى شقيقه ورحمه في غاية الحاجة ولم يصله كان قاطعاً لرحمه وقرابته غير متق ولا مستحضر لكونه رقيبا عليه (و) قال (الآية التي في آخر الحشر) وهي قوله تعالى: ( {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} ) وفيها غاية الحث على ما في التي قبلها (تصدق) خبر بمعنى الأمر وهو أبلغ لدلالته على الوقوع: أي: ليتصدق (رجل) نكرة وضع موضع الجمع المعرف كما اقتضاه السياق فأفاد العموم، ومن ثم كرر من هنا من غير عاطف فقال: (من ديناره: من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره) أي: ورجل من درهمه وهكذا (حتى قال: ولو بشق تمرة) أي: ليتصدق ولو كان بشق تمرة ومن للجنس: أي: ببعض ما عنده من هذا الجنس تبعيضية ومجرورها والظرف في محل الحال أو إبتدائية متعلقة بتصدق: أي: من دينار له وإن احتاجه لأن الإيثار في ذلك شأن الكمل، قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر: 9) (فجاء رجل من الأنصار بصرة) رواه مسلم كذا مبهماً في كتاب الزكاة، وعين أنها في ورق في روايته في كتاب العلم آخر صحيحه (كادت كفه تعجز) بكسر الجيم (عنها بل) إضراب مفيد للتأكيد والتحقيق (قد عجزت ثم تتابع) بمثناتين فوقيتين وبعد الألف (الناس) أي: في إتيان كل بما قدر عليه (حتى رأيت كومين من طعام وثياب) هو بفتح الكاف وضمها.
قال القاضي: ضبطه بعضهم بالفتح وبعضهم بالضم، قال ابن سراج: هو بالضم اسم لما كوم وبالفتح المرة الواحدة، قال: والكومة بالضم: الصبرة والكوم العظيم من كل شيء؛ والكوم: المكان المرتفع كالرابية. قال القاضي: والفتح هنا أولى لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية (حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل) أي: يستنير ويضيء لما حصل عنده(2/445)
من الفرح باغتناء أولئك المحتاجين ومبادرة أصحابه إلى الامتثال (كأنه مذهبة) سيأتي ضبطه وأن المراد منه على القولين الصفاء والاستنارة (فقال رسول الله: من سن في الإسلام سنة حسنة) أي: طريقة مرضية، وإن لم يكن حسنها بالنص بل بالاستنباط بأن دعا لفعلها بقول أو فعل أو أعان عليها أو فعلها فاقتدى به في فعلها (فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده) أي: ومثل أجره فتم مضاف وإنه لما تسبب في إيجاده جعل كأنه العامل لها المأجور بها ففي الكلام تجوّز (من غير أن ينقص من أجورهم شيء) فاعل ينقص: أي: إن حصول أجر مثل الفاعل لها لدلالته عليها لا يدخل به شيء من النقص في أجورهم (ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة) معصية وإن قلَّت بأن فعلها فاقتدى به فيها أو دعا إليها أو أعان عليها (كان عليه وزرها) أي: وزر عملها (ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) وذلك لأن فعل المكلفين وإن كان غير موجب ولا متقض لثواب ولا عقاب بذاته إلا أن الله تعالى أجرى عادته الإلهية بربطهما به ارتباط المسبب بالسبب وليس للعبد تأثير في صدور الفعل عنه بوجه/ فكما يترتب كل منهما على ما يباشره بترتب على ما هو السبب فيه بنحو إرشاد أو أمر، فلما انفكت جهة المباشرة عن جهة جزاء الدلالة لم ينقص أجر الدالّ من أجر المباشر شيئاً. وعلم من الحديث أن له من مضاعفة الثواب بحسب مضاعفة أعمال أمته ما لا يحيط به عقل ولا يحده حد؛ وذلك أن له مثل ثواب أصحابه بالنسبة لما عملوه وما دلوا عليه من بعدهم المضاعف لهم ثوابه إلى يوم
القيامة، وهكذا في كل مرتبة من مراتب المبلغين عنه عند انقضاء الأمة ومنه يعلم عظيم فضل كل أهل مرتبة المتضاعف المتعدد بتعدد من بعدهم، فتأمله لتعلم فضل السلف على الخلف والمتقدمين على المتأخرين، كذا في «فتح الإله» . قال المصنف: وفي هذا: أي: من سن سنة حسنة الخ تخصيص قوله: «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وقد تقدم انقسام البدعة إلى خمسة أقسام. (رواه مسلم) في كتاب الزكاة والعلم من صحيحه.
(قوله مجتابي النمار هو) بضم الميم و (بالجيم وبعد الألف موحدة والنمار) بكسر النون (جمع نمرة بفتح فسكر(2/446)
وهي كساء من صوف مخطط) ومعناها قاطعيها كما قال (ومعنى مجابيها: لابسيها) حال كونهم (قد خرقوها) أي: محل جيوبها (في رءوسهم) ونصب لابسيها الخبر عن «معنى» لمشاكلة المفسر المفسر (والجوب) المأخوذ منه مجتاب المذكور (القطع) ، ومنه قوله تعالى: {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} : أي: (نحتوه وقطعوه) واتخذوه بيوتاً بالوادي وادي القرى (وقوله تمعر هو بالعين المهملة) المشددة (أي تغير) من قولهم مكان أمر: أي: أجدب (وقوله: رأيت كومين) ضبط كما تقدم عن القاضي (بفتح الكاف وضمها) وتقدم عنه أن الأول هو الراجح (أي صبرتين) بضم صاد المهملة اسم للمجموع من الطعام (قوله: كأنه مذهبة) بضم الميم و (بالذال المعجمة) الساكنة (وفتح الهاء وبالباء الموحدة، قال القاضي عياض) في «المشارق» (وغيره) من الأئمة (وصحفه بعضهم فقال: مدهنة بدال مهملة) ساكنة (وبضم الهاء وبالنون) المفتوحة (وكذا ضبطه الحميدي) بل لم يذكر «في» بين الصحيحين غير هذه الرواية إن صحت، المدهن: الإناء الذي يدهن فيه. وهو أيضاً اسم للنقرة في الجبل التي يستنقع فيها ماء المطر فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء وصفاء هذا الدهن (والصحيح المشهور) قال المصنف في «شرح مسلم» : قال القاضي: والصواب (هو الأول) وهو المعروف في الروايات، وذكر في «تفسيره» على هذا وجهين: أحدهما معناه فضة مذهبة فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه، والثاني شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود وجمعها مذاهب: وهو شيء كانت العرب تصنعه من جلود وتجعل فيه خطوطاً مذهبة يرى بعضها إثر بعض (والمراد به على الوجهين) أي: ضبطه بالنون والباء وبالمهملة والنون(2/447)
(الصفاء والاستنارة) .
1722 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ليس من) زائدة لتأكيد استغراق النفي (نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول) وهو قابيل القاتل لأخيه هابيل حين تزوج كل منهما بأخته التي مع الآخر في بطن واحدة، وكان شريعة آدم عليه السلام أن بطون حواء كانت بمنزلة الأقارب الأباعد. وحكمته تعذر التزوج فاقتضت مصلحة بقاء النسل تجويز ذلك فحينئذٍ قتل قابيل هابيل لأن زوجته كانت أجمل فأدى به حسده إلى قتله، وهذا لا يمنع السبب المذكور في الآية لإمكان أن سبب القتل به هذا الحسد/ وأفهم قوله الأول أنه أول أولاد آدم، فإنهما أول قاتل ومقتول من ولد آدم (كفل) بكسر الكاف وسكون الفاء: أي: نصيب (من) إثم (دمها لأنه كان أول من سن القتل) ففعله بأخيه فكل من فعله بعده مقتد به ولو بواسطة أو وسائط (متفق عليه) قال زين العرب في «شرح المصابيح» إن قلت هذا مناف لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) قلت: كل واحدة من النفسين المباشرة والمتسببة وازرة إثمها اهـ. وقد تقدم بسطه في الكلام على الحديث قبله.
20 - باب في الدلالة على الخير
بتثليث الدال المهملة والأفصح الفتح (على خير) ديني أو دنيوي ليس فيه كراهة دينية(2/448)
(والدعاء إلى هدى أو ضلالة) أي: في ثواب الأولين وعقاب الأخير.
(قال الله تعالى: {وادع إلى ربك} ) أي: ادع الناس إلى ربك بتوحيده وعبادته. وفيها الأمر بالدعاء سواء أسمع أم لا. وفي ذلك إشارة إلى أنه ينبغي الذكر وإن لم ينفع.
(وقال تعالى: {ادع} ) الناس يا محمد ( {إلى سبيل ربك} ) دينه ( {بالحكمة} ) بالقرآن ( {والموعظة الحسنة} ) مواعظه أو القول الرفيق.
(وقال تعالى: {وتعاونوا على البرّ} ) فعل ما أمرتم به ( {والتقوى} ) ترك ما نهيتم عنه، وهذا الأمر عام في سائر الطاعات، فرض في الفروض، مندوب في المندوب.
(وقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} ) فيه إشارة إلى أن الدعاة إلى الحق والخير أفضل للأمة ولذا ميزهم بالذكر، وفي قوله: و «منكم» إشارة إلى أنه لا يكون سائر الناس في رتبة بل يتفاوتون، إذ يكون العالم والأعلم والفاضل والأفضل.
1731 - (وعن أبي مسعود عقبةبن عمرو الأنصاري البدري) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: قال رسول الله: من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله) بسببه كما في مسلم عن أبي مسعود قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أبدع بي فاحملني، قال: ما عندي، قال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله، فقال رسول الله: من دلّ على خير» الخ، وقوله: «أبدع بي» بضم الهمزة وسكون الموحدة آخره مهملتان أي هلكت راحلتي وانقطع بي، وروي بدع بضم الموحدة وتشديد الدال. قال عياض وغيره: وليس بمعروف في اللغة؛ وقوله: «من دل» الخ قال المصنف: المراد أن له ثواباً مثل ما أن لفاعله ثواباً، ولا يلزم أن يكون قدرهما سواء اهـ. وذهب بعضهم إلى أن المثلية في أصل(2/449)
الثواب دون التضعيف المزيد للعامل. واختار القرطبي أنه مثله حتى في التبعيض قال: لأن الثواب على الأعمال إنما هو بفضل من الله فيعطيه لمن يشاء على أيّ شيء صدر منه، خصوصاً إذا صحت النية التي هي أصل الأعمال في طاعة عجز عن فعلها لمانع منع منها، فلا بعد في مساواة أجر ذلك العامل لأجر ذلك القادر الفاعل أو يزيد عليه. قال: وهذا جارٍ في كل ما ورد مما يشبه ذلك كحديث «من فطر صائماً فله مثل أجره» اهـ. قلت: وحديث الترمذي الذي فيه «ورجل ليس عنده شيء من الدنيا وتمنى أنه لو كان ذلك لأنفقه فيما أنفقها فيه من الخيرات صاحبه فهما في الأجر سواء أو كما قال» . والحديث الآتي فيه يشهد ظاهرهما لما قاله القرطبي (رواه مسلم) تقدم في شرح خطبة الكتاب بيان من خرّجه والحديث عقبه زيادة على مسلم.
1742 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من دعا إلى هدى) أي: من أرشد غيره إلى فعل خير عظيم كثير أو ترك ضده كإماطة الأذى عن الطرق أو أمره به أو أعانه عليه (كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) فعمل بدلالته أو امتثل (لا ينقص ذلك) الأجر العظيم المعطي للدالّ على دلالته (من أجورهم) المعطاة على أعمالهم (شيئاً) لاختلاف جهة الجزاء كما تقدم بسطه في الباب قبله وهو لازم تارة ومتعد أخرى، وقد استعمل بهما في الحديث واستعمل قاصراً في الحديث السابق عن جرير في الباب قبله كما تقدم باقي هذا الحديث (ومن دعا إلى ضلالة) أي: من أرشد غيره إلى فعل إثم وإن قلّ أو أمره به أو أعانه عليه (كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه) عليها وامتثل أمره فيها (لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً. رواه مسلم) وغيره ممن تقدم ثمة.(2/450)
1753 - (وعن أبي العباس) وقيل: أبو يحيى (سهلبن سعد) بن مالكبن خالدبن ثعلبة ابن حارثةبن عمروبن الخزرجبن ساعدةبن كعببن الخزرج الأنصاري (الساعديّ رضي الله عنه) كان اسمه حزناً فسماه النبيّ سهلاً. قال الزهري سمع سهل من النبيّ، وكان له في وفاة النبيّ خمس عشرة سنة، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وثمانين وقيل سنة إحدى وتسعين. قال ابن سعد: وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي ليس فيه خلاف، وقال غيره: بل فيه الخلاف كذا في «التهذيب» للمصنف. قلت: ويؤيد الخلاف الذي نقله المصنف ما تقدم في باب التقوى من «اليواقيت الفاخرة» أن آخر من مات بالمدينة السائببن يزيد المعروف بابن أخت النمر. توفي سنة إحدى وتسعين، وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وثمانية وثمانون حديثاً، اتفقا على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر) جرت عادة العرب الكناية بيوم كذا عن غزوته سواء كانت في يوم أقل أو أكثر، هذا المقال صدر منه في بعض أيام تلك الغزوة فإنها كانت أياماً (لأعطينّ الراية غدا رجلاً يفتح الله على يديه) والتنوين في رجل للتعظيم، وأبدل منه ما يزيد في تعظيمه قوله: (يحب الله ورسوله) بالنصب (ويحبه الله ورسوله) أي: جامع للوصفين حائز للشرفين المتلازمين {يحبهم ويحبونه} {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وتقدم أن المراد من محبة الله للعبد توفيقه لمرضاته وإنابته، والمراد من محبة العبد ورسوله امتثال أوامرهما واجتناب مناهيهما (فبات الناس يدوكون) يخوضون (ليلتهم) أي: فيها (أيهم يعطاها) بالبناء للمفعول (فلما أصبح الناس غدواً) هو السير أول النهار، والرواح: السير آخره هذا أصلهما، وقد يستعمل كل في موضع الآخر (على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو) الإفراد باعتبار لفظ كل قال في «مغني اللبيب» إذا أضيفت كل إلى معرفة فقالوا: يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناه وقد اجتمعا في قوله
تعالى:
{إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً لقد أحصاهم} (مريم: 93 - 94) والصواب أن الضمير لا يعود إليها من خبرها إلا مفرداً مذكراً على لفظها نحو {وكلهم آتيه} وقوله: «كلكم راع» وأماـ لقد أحصاهمـ فجملة(2/451)
أجيب بها القسم المقدر وليست خبراً عن كل وضميرها راجع لمن ومن معناه الجمع اهـ (أن يعطاها) ورجاؤها ذلك لا لذات الراية إنما هو لشرف صاحبها من كونه محباً تعالى ورسوله محبوباً لهما (فقال: أين عليبن أبي طالب؟ فقيل: يا رسول الله هو يشتكي عينيه) أي: بالرمد كما جاء في رواية أخرى (قال: فأرسلوا إليه) إن كان فاعل قال ضمير يعود إلى النبي كما يقتضيه السياق فيكون قوله: «فأرسلوا إليه» بصيغة الأمر مرفوعاً، وإن كان فاعله يعود إلى الراوي ففي الكلام اختصار، فقال أرسلوا إليه فأرسلوا إليه، ولم أقف فيه على ضبط (فأتى) بالبناء للمفعول (به فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له) أي: بالعافية (فبرىء) عقب ذلك حالاً معجزة له وكرامة بإجابة دعوته فزال الوجع وآثاره (حتى كأن) بتخفيف النون: أي: كأنه (لم يكن به وجع) فيهما (فأعطاه الراية فقال: يا رسول الله أقاتلهم) أي: أؤقاتلهم بتقدير همزة الاستفهام قبل الفعل وحذفها دفعاً لثقل توالي همزتين (حتى يكونوا مثلنا) في الإسلام ويدخلوا في الدين (قال: انفذ) بضم الفاء وبالذال المعجمة: أي: امض (على رسلك) أي: على هينتك ولا تعجل وأصله السكون والثبات (حتى تنزل بساحتهم) هي الناحية والفضاء بين دور الحي (ثم) أي: بعد وصولك لها (ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق ا) الواجب (فيه) من الأعمال البدنية كالصلاة والصيام، والمالية كالزكاة والجامعة لهما كالحج والعمرة. وتمسك بهذا الحديث قوم فقالوا: يجب الدعاء قبل القتال.
والصحيح أنه مخصوص بمن لم تبلغه الدعوة لأن النبي أغار على بني المصطلق وهو غادون (فوا لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً) أي: ينقذه من الكفر والضلال بدلالتك له على الإسلام والهدى (خير لك من حمر النعم) أي: من أن تكون لك، وحمر النعم: هي الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب،(2/452)
ويضربون بها المثل في نفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منه، وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرّة من الآخرة الباقية خير من الدنيا بأسرها وأمثالها معها لو تصورت كما سبق في الكلام على شرح هذه الجملة مع بيان من رواها في آخر شرح خطبة الكتاب. وفي الحديث بيان فضل العلم والدعاء إلى الهدى وسن الدعاء إلى الهدى وسن السنن الحسنة (متفق عليه) وحديث عليّ تقدم في باب المبادرة «إلى الخيرات» من حديث مسلم فلا زيادات فيه هنا (قوله: يدوكون) بالدال المهملة (أي: يخوضون ويتحدثون) قال المصنف: وفي بعض نسخ مسلم «يذكرون» بالذال المعجمة وبالراء، و (قوله رسلك) بالجر على الحكاية (بكسر الراء وفتحها) وسكون السين فيهما (لغتان والكسر أفصح) وعليه اقتصر ابن الأثير في «النهاية» فقال الرسل بالكسر: الهينة والتأني، قال الجوهري: يقال افعل كذا وكذا على رسلك: أي: اتئد فيه كما يقال على هينتك.
1764 - (وعن أنس رضي الله عنه أنّ فتى من أسلم) أبي القبيلة وهو كما قال الحازمي في كتاب الأنساب: أسلمبن أفصىبن حارثةبن عمروبن عامربن عويمربن عمر، كذا ساقه البرقي.
وقال خليفةبن خياط: أسلمبن أفصىبن حارثةبن امرىء القيسبن ثعلبةبن المازنبن الأزدبن الغوث، وهم خلق كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء ورواة الحديث اهـ.
قلت وعلى القول الثاني جرى الأصفهاني في كتاب «لبّ الألباب مختصر كتاب الأنساب» للسمعاني (قال: يا رسول الله إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به) الجهاز: ما يحتاج إليه المسافر (قال: ائت فلاناً فإنه كان قد تجهز) للغزو (فمرض) فتأخر له. ففيه الدلالة على الخير، وفيه أن من نوى صرف شيء في خير وتعذر عليه استحب له بذله في خير آخر ولا يلزمه ذلك إلا بالنذر (فأتاه فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ(2/453)
يقرئك) بضم التحتية (السلام ويقول لك: أعطني الذي تجهزت به) أي: إعانة لي على الخير (فقال) مسارعاً لامتثال أمر المصطفى (يا فلانة) كناية عن اسم المرأة، وقد تقدم بسط فيه عن «التهذيب» للمصنف (أعطيه الذي تجهزت به) أي: من الراحلة والزاد وغيره مما هيأه مما يحتاجه المسافر (ولا تحبسي) تؤخري (منه شيئاً، فوا لا تحبسين) في نسخة بحذف النون، فإن ثبتت رواية خرجت على أنها لمناسبة ما قبلها كما خرّج على ذلك قوله: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا» الحديث على أن حذف النون لغير الجازم والناصب لغة حكاها المصنف وغيره (منه شيئاً فيبارك) بالنصب (الك فيه) لأنه تصرف فيه على خلاف رضا مالكه وهواه، لأنه أمر بدفعه أجمع لمن أرسله النبي، فإذا خالفت وحبست منه بعض الشيء تستكثره له لا يبارك لها فيه (رواه مسلم) . وفي الحديث دلالته لذلك المنقطع على ذلك الذي تجهز ثم ترك للمرض، ففيه مناسبة الترجمة.
21 - باب في التعاون على البر والتقوى
(قال الله تعالى: {وتعاونوا} ) أي: ليعن بعضكم بعضاً ( {على} ) اكتساب ( {البر} ) قال ابن عباس: متابعة السنة ( {والتقوى} ) وتقدم في الباب قبله فوائد في الآية.
(وقال تعالى: {والعصر} ) الدهر؛ أو ما بعد الزوال، أو صلاة العصر، أو زمان رسول الله، أقسم به كما أقسم(2/454)
بمكانه تنبيهاً بذلك على أن زمانه أفضل الأزمان وأشرفها، وجواب القسم ( {إن الإنسان} ) أل فيه للاستغراق ( {لفي خسر} ) أي: خسران ونقصان في تجارة لأن تجارة الإنسان عمره، فإذا ضاعت الساعة منه في معصية فهو الخسران المبين الظاهر، أو في طاعة فلعل غيرها أفضل وهو قادر على الإتيان به، فكان في فعل غير الأفضل تضييع وخسران، فبان بذلك أنه لا ينفك إنسان عن خسران ( {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ) فليسوا في خسر، وكل ما مر من عمر الإنسان في طاعة الله فهو في صلاح وخير. وما كان بضده فهو فساد وهلاك ( {وتواصوا} ) أي أوصى بعضهم بعضاً ( {بالحق} ) أي: الإيمان والتوحيد، وقيل: القرآن والعمل بما فيه ( {وتواصوا بالصبر} ) على الطاعة وعن المعصية.
قال الخازن: وقيل أراد أن الإنسان إذا عمر في الدنيا وهرم ففي نقص وتراجع، إلا الذين آمنوا فإن الله يكتب أجورهم ومحاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم وصحبتهم وهي مثل قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} (التين: 5 - 6) اهـ (قال الإمام) : هو لغة: من يقتدى به.
وفي عرف الشرع من يقتدى به في الخير (الشافعي) عالم قريش المحمول عليه «لا تسبوا قريشاً، فإن عالمها يملأ الأرض علماً» محمدبن إدريسبن العباسبن عثمانبن شافعبن السائببن عبيدبن عبد يزيدبن هاشمبن المطلببن عبد مناف جد النبي، لقي النبي وهو مترعرع، وأسلم أبوه يوم بدر بعد أن أسر بها وفدى نفسه. ولد الشافعي بغزة على الأصح سنة خمسين ومائة ثم حمل إلى مكة ونشأ بها، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين والموطأ وهو ابن عشر، وتفقه على مسلمبن خالد المعروف بالزنجي لشدة شقرته من أسماء الأضداد، وأذن له في الإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة، ثم رحل إلى مالك ولازمه مدة، ثم قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام بها سنتين، فاجتمع عليه علماؤها ورجع كثير منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه وصنف بها كتابه القديم، ثم عاد إلى مكة فأقام بها شهراً، ثم خرج إلى مصر ولم يزل بها ناشراً للعلم ملازماً للاشتغال بجامعها العتيق إلى أن ماتـ وهو قطب الوجود يوم الجمعةـ سلخ رجب سنة أربع ومائتين ودفن بعد العصر من يومه. ومناقبه كثيرة أفردت بالتآليف في مجلدات. ومن شعر الشافعي (رحمه ا) :
أمتّ مطامعي فأرحت نفسي
فإن النفس ما طمعت تهون(2/455)
وأحييت القنوع وكان ميتاً
ففي إحيائه عرضي مصون
إذا طمع يحل بقلب عبد
علته مهانة وعلاه هون
(كلاماً) مفعول، قال: وجاز عمله فيه مع أنه مفرد، وينصب القول الجمل لأنه يؤدي مؤداها ولم أقف على لفظه المذكور، ولم يذكر المصنف من خرّجه عنه حتى يرجع إليه (معناه أن الناس أو) للتردد (أكثرهم في غفلة عن تدبر) مقاصد (هذه السورة) وما هي مؤدية ومنبهة بشرفه من التواصي بالحق والصبر ومن عمل البر، وخسران من لم يكن كذلك.
1771 - (وعن أبي عبد الرحمن) وقيل: أبو طلحة، وقيل: أبو زرعة (زيدبن خالد الجهني) بضم الجيم نسبة إلى جهينة.
قال الحازمي: جهينةبن زيدبن ليثبن سودبن أسلمبن لحافبن قضاعة قبيلة عظيمة منها بشر كثير من الصحابة اهـ. سكن زيد (رضي الله عنه) المدينة وشهد الحديبية وكان معه لواء جهينة يوم الفتح. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد وثمانون حديثاً، اتفقا على خمسة منها، وانفرد مسلم بثلاثة. توفي بالمدينة وقيل بالكوفة وقيل بمصر سنة ثمان وخمسين وهو ابن خمس وثمانين سنة، وقيل غير ذلك ذكره المصنف في «التهذيب» (قال: قال نبي الله: من جهز غازياً في سبيل ا) أي: هيأ أسباب السفر له إعانة على الخير (فقد غزا) .
قال ابن حبان: معناه أنه مثله في الأجر وإن لم يغز حقيقة (ومن خلف) بالخاء المعجمة المفتوحة وبتخفيف اللام المفتوحة أيضاً (غازياً) في سبيل الله (في أهله بخير) بأن قام بما يحتاجون إليه (فقد غزا) وفي رواية لابن حبان: «من جهز عازياً في سبيل الله أو خلفه في أهله كتب الله له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شي» (متفق عليه) ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ: «من جهز غازياً حتى يستقلّ كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع» .
قال العلقمي: أفادت هذه الرواية فائدتين: أن الوعد المذكور(2/456)
مرتب على إتمام التجهيز وهو المراد بقوله حتى يستقل، وأنه يستوي معه في الأجر إلى أن تنقضي تلك الغزوة اهـ. ثم قال في أثناء كلام: لكن من يجهز الغازي بماله مثلاً وكذا من يخلفه فيمن يتركه بعده يباشر شيئاً من المشقة أيضاً، فإن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يكفي ذلك العمل فصار كأنه يباشر معه الغزو، بخلاف من اقتصر على النية مثلاً أي: حصل له أجر سبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاز سواء قليله وكثيره، ولكل خالف في أهله بخير من قضاء حاجة لهم أو إنفاق عليهم أو ذبّ عنهم أو مساعدتهم في أمرهم، ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته.
قلت: وبه يعلم أن ما أفاده حديث ابن ماجه من ترتبت الأجر على تمام التجهيز المراد به كمال الأجر ودوامه المشار إليه بقوله حتى يرجع إليه لا أصله، فهو حاصل بما فعل من التجهيز وإن قل.
1782 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث) أي: أراد أن يبعث (بعثاً إلى بني لحيان) بكسر اللام وفتحها والكسر أشهر، بطن (من هذيل) إذ هو لحيانبن هذيلبن مدركةبن إلياسبن مضر.
قال المصنف في «شرح مسلم» واتفق العلماء على أن بني لحيان كانوا في ذلك الوقت كفاراً، فبعث إليهم بعثاً يغزوهم (فقال) لذلك البعث (لينبعث من كل رجلين أحدهما) مراده كما قال المصنف من كل قبيلة نصب عددها (والأجر) أي مجموع الحاصل للغازي والخالف له بخير (بينهما) فهو بمعنى قوله في الحديث قبله: «ومن خلف غازياً فقد غزا» وأما حديث مسلم: «أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج» .
فقال القرطبي: لفظة نصف تشبه أن تكون مقحمة: أي مزيدة من بعض الرواة.
وقال العلقمي: لا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح. والذي يظهر في توجيهها أنها إنما أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير، فإن الثواب إذا قسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر فلا تعارض بين الحديثين.
قلت: إلا أنه على هذا التوجيه يكون فيه حذف، وعلى توجيه القرطبي تكون فيه زيادة والله أعلم. ثم قوله والأجر بينهما محمول على ما إذا خلف المقيم الغازي في أهله بخير كما تقدم في الحديث قبله وصرح به باقي الأحاديث (رواه مسلم) .(2/457)
1793 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي) في حجة الوداع (ركباً) بفتح الراء وسكون الكاف جمع راكب كصحب وصاحب (بالروحاء) بالمهملتين: محل بقرب المدينة (فقال) بعد أن سلم عليهم كما في حديث أبي داود (من القوم) .
قال ابن رسلان: فيه السلام على الركب المسافرين إذا لقيهم وإن لم يعرفهم، وأن الذي يسلم يكون كبير القوم، وأن من لقي غيره لا يكلمه قبل أن يسلم عليه، وكذا لا يجيب من كلمه قبل أن يسلم لحديث: «السلام قبل الكلام» (قالوا المسلمون) فيه دليل على إطلاق ذلك ولا يحتاج إلى فصله بقوله إن شاء الله خوفاً من سوء الخاتمة أي لأن الأصل بقاء الفصل وإن كان الإتيان بها نظراً لذلك أفضل (فقالوا من أنت) وعند أبي داود «من أنتم» .
قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون هذا اللقاء كان ليلاً فلم يعرفوه، ويحتمل كونه نهاراً لكنهم لم يروه قبل ذلك لعدم هجرتهم فأسلموا في بلدانهم ولم يهاجرو قبل ذلك (فقال أنا) وفي رواية أبي داود فقالوا (رسول الله فرفعت إليه امرأة صبياً) زاد أبو داود «فأخذت بعضده فأخرجته من محفتها» (فقالت يا رسول الله) كما في أبي داود (ألهذا) وعند أبي داود «هل لهذا» (حج) أي: يصح له (قال: نعم) فيه حجة للشافعي، والجمهور على انعقاد حج الصبي وإن كان غير مميز، إذ من يخرج من المحفة بعضده لا تمييز له، فيحرم عنه الوليّ إن كان غير مميز ويخير بين ذلكـ والإذن للصبي إن كان مميزاً فيثاب الصبي عليه في الحالين وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعاً (ولك أجر) أي ويثبت لك الأجر، وبسبب الحمل وتجنيبه المحرم وفعل ما يفعله المحرم.
أما الإحرام عنه، فإن كانت وصية أو قيمة صح وإلا فلا، ولا أجر لها في الإحرام عنه حيئذٍ، أما أجر حجة فيكتب له مع سائر ما يعمله من الطاعات من طواف وسعي وطهارة وصلاة وغيرها من الطاعات ولا يكتب له معصية بالإجماع (رواه مسلم) وأبو داود.
1804 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي أنه قال: الخازن) لمال غيره(2/458)
بإذنه (المسلم الأمين) أي: في ذلك المال الذي أمر بإعطائه وإن خان في غيره قبل أو بعد فيما يظهر من القواعد، لأن سبق المعصية أو تأخرها فيما لا تعلق له بما أطاع فيه لا يقتضي نقص ثواب ما أطاع فيه (الذي ينفذ) بفاء مكسورة مثقلة ومخففة (ما أمر به) أي: بإعطائه (فيعطيه كاملاً موفراً) تأكيد بعد تأكيد لما غلب على الخزان من الطمع فيما أمروا بإعطائه والنقص عنه (طيبة به نفسه) بأن لا يحسد المعطي ولا يظهر له من العبوس وتقطيب الوجه ما يكدر خاطره، ونبه على ذلك لأن أكثر الخزان غلب عليهم البخل بمال غيرهم فهم أبخل البخلاء (فيدفعه إلى الذي أمر) بالبناء للمفعول (له) راجع للذي (به) راجع للمال (أحد المتصدقين) فيكتب له بتلك الشروط الأربعة ثواب من ثواب الصدقة، لكنه يقل ويكثر بحسب تعبه وبشاشته ورفقه في الإعطاء (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي موسى كذا في «الجامع الصغير» .
(وفي رواية) لهما (الذي يعطي ما أمر به) وعليها اقتصر صاحب «المشكاة» وقال: متفق عليه (وضبطوه) أي: المحدثون (المتصدقين بفتح القاف مع كسر النون على التثنية) أي: على أنه مثنى وعلى هذا اقتصر في «شرح مسلم» وعليه فهما هو وبازل الصدقة (وعكسه) أي: كسر القاف وفتح النون (على الجمع) الصحيح المذكر السالم وهو جنس الخازن وجنس المتصدق أو أطلق الجمع وأريد به الإثنان مجازاً (وكلاهما) أي: الضبطين (صحيح) باعتبار المعنى كما عرفت.
22 - باب في النصيحة
قال الفاكهاني في شرح الأربعين الحديث التي جمعها المصنف: النصيحة كلمة(2/459)
جامعة معناها حيازة الخير للمنصوح له، يقال: إنها من وجيز الأسماء ومختصر الكلام وأنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تستوفي العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدارين منها، وهي مأخوذة من نصح الرجل ثوبه: إذا خاطه شبه فعل لاناصح فيما يتحراه للمنصوح له بسد الخياط خلل الثوب وإصلاحه. وقيل: إنها مأخوذة من نصحت العسل: إذا صفيته من الشمع، شبه تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط اهـ.
(قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} ) ففي التعبير بالأخوة المقتضية للنظر في مصالحة وما ينفعه إيماء إلى نصحه.
(وقال تعالى: إخباراً) أي: مخبراً (عن نوح) على نبينا و (عليه وسلم) أي: عما قاله لقومه ( {وأنصح لكم} ) .
قال السملي في «الحقائق» : قال بعضهم: أنصح لكم أدلكم على طريق رشدكم.
وقال شاه الكرماني: علامة النصيحة ثلاثة: اغتمام القلب بمصائب المسلمين، وبذل النصح لهم، وإرشادهم إلى مصالحهم وإن جهلوا وكرهوه.
(و) قال تعالى مخبراً (عن) قول (هود) لقومه ( {وأنا لكم ناصح} ) أي فيما آمركم به من عبادة الله وترك ما سواه ( {أمين} ) على تبليغ الرسالة وأداء النصح.
والأمين: الثقة على ما أؤتمن عليه. حكى الله عن نوح بصيغة الفعل وعن هود بصيغة اسم الفاعل.
قال الخازن في «لباب التأويل» : والفرق أن صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة، فكان نوح يدعو قومه ليلاً ونهاراً كما أخبر الله تعالى عنه بذلك، فلما كان ذلك من عادته ذكره بصيغة الفعل. وأما هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت فلذا ذكر بصيغة الوصف، وفي الآية جواز مدح النفس والثناء عليها في مواضع الضرورة إلى مدحها.
181 - (وأما الأحاديث) النبوية النصيحة (فـ) ـــكثيرة: (فالأول: عن أبي رقية) كني بابنة له لم يولد له(2/460)
غيرها (تميمبن أوس) بن خارجةبن سودبن جذيمةبن دراعبن عديبن الحارثبن مرةبن أددبن زيدبن يشجببن عريببن زيدبن كهلانبن سبأبن يشجببن يعرببن قحطان (الداري) نسبة إلى جده الدار ويقال فيه الديري نسبة إلى دير كان يتعبد فيه، أسلم تميم (رضي الله عنه) سنة تسع وسكن المدينة ثم انتقل إلى الشام ونزل بيت المقدس بعد قتل عثمان. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر حديثاً، روى له مسلم حديثاً واحداً، وروى عنه باقي الستة إلا البخاري: وهذا الحديث من أفراد مسلم وليس لتميم فيه سوى هذا الحديث، وقد قيل هذا الحديث عليه مدار الإسلام، وقيل: أحد أرباع الإسلام وصحح بعضهم الأول. وقد روي عنه، وهذه منقبة شريفة تدخل في رواية الأكابر عن الأصاغر كذا في «شرح الأربعين» للفاكهاني (أن النبي قال: الدين النصيحة) أي: هي عماد الدين وقوامه كقوله «الحج عرفة» فهو من الحصر المجازي دون الحقيقي: أي إنه أريد المبالغة في مدح النصيحة حتى جعلت كل الدين وإن كان الدين مشتملاً على خصال كثيرة غيرها (قلنا لمن؟) يؤخذ منه مراجعة المتعلم للعالم عند الإبهام والإلتباس (قال) .
قال الخطابي: النصيحة تنصرف إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته وأسمائه، ووصفه بصفات الكمال، وتنزيهه عن جميع النقائص، والقيام بطاعته واجتناب معصيته. والحبّ فيه والبغض فيه، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمه وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها، والتلطف بالناس ومن أمكن منهم علمها.
قال الخطابي: حقيقة هذه الأوصاف راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، فا غنيّ عن نصح الناصحين (ولكتابه) .
قال العلماء: النصيحة له الإيمان بأنه كتاب الله وتنزيله، لا يشبه شيئاً من كلام الخلق ولا يقدر عليه أحد منهم، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة، والذبّ عنه لتأول المحرفين، والتصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتناء بمواعظه والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، وللبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته (ولرسوله) ونصيحته: تصديقه على الرسالة والإيمان به، وطاعته في أوامره ونواهيه، ونصرته حياً وميتاً، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبثّ دعوته ونشر سنته، واستفادة علومها والتفقه في معانيها، والدعاء إليها والتلطف في تعليمها وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم،(2/461)
وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، ومحبة آله وأصحابه، وبغض أهل البدع في السنة والمتعرضين لأحد من الصحابة (ولأئمة المسلمين) وهي بمعاونتهم على الحق وطاعتهم وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبالغوا من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب المسلمين لطاعتهم، وألا يغرّوا بالثناء الكاذب عليهم ويدعى لهم بالصلاح، هذا كله بناء على أن المراد بهم الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمر المسلمين، وهذا هو المشهور، وحكاه الخطابي.
ثم قال: وقد يتأول ذلك على الأئمة الذين هم علماء الدين، ومن نصيحتهم قبول ما رووه وتقليدهم في الأحكام وإحسان الظن بهم (وعامتهم) أي: من عدا ولاة الأمر ونصيحتهم بإرشادهم لمصالحهم في دنياهم وأخراهم، وإعانتهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم وسد خلاتهم، ودفع المضارّ عنهم وجلب المنافع إليهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق، وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويذبّ عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم بالقول والفعل، ويحثهم على التخلق بجميع ما ذكرنا من أنواع النصيحة، وقد كان في السلف من تبلغ به النصيحة إلى الإضرار بدنياه.
قال ابن بطال: وهذا الحديث يدل على أن النصيحة تسمى ديناً وإسلاماً، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول، والنصيحة فرض يجزى فيه من قام به ويسقط عن الباقين، وهي لامةٌ على قدر الحاجة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإذا خشي أذًى فهو في سعة اهـ (رواه مسلم) .
قال السخاوي في تخريج الأربعين الحديث: ورواه الإمامان الشافعي وأحمدبن حنبل وأخرجه النسائي وابن خزيمة في «صحيحه» وله طرق كثيرة.
182 - و (الثاني: عن جريربن عبد الله رضي الله عنه) البجلي تقدمت ترجمته في باب المحافظة على السنة (قال: بايعت النبي على إقام الصلاة) أصله إقامة فحذفت التاء عند الإضافة تخفيفاً، والمراد الإتيان بالمكتوبات مستكملة الفرائض والسنن والآداب (وإيتاء الزكاة) المفروضة (والنصح) بضم النون مصدر نصح، يقال: نصحته ونصحت له وباللام أفصح(2/462)
نصحاً ونصاحة، والنصح بفتح النون مصدر نصحت الثوب خطته (لكل مسلم) وتقدم في ترجمته من وفائه بما التزم من النصح زيادته لصاحب الفرس حتى بلغ به ثمانمائة درهم وكان أولاً رضى بما قل من ذلك بكثير بذلاً للنصيحة (متفق عليه) .
183 - و (الثالث: عن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: لا يؤمن أحدكم) إيماناً كاملاً (حتى يحب لأخيه) من الخيرات والطاعات.
وفي رواية النسائي: «حتى يحب لأخيه من الخير» .
قال السخاوي: وهي زيادة صحيحة لأنها خارجة من مخرج «الصحيحين» بل هي على شرطهما، وأخرجها ابن منده في كتاب الإيمان له اهـ (ما يحب لنفسه) .
قال ابن الصلاح: وهذا قد يعدّ من الصعب الممتنع وليس كذلك، إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحبّ لأخيه في الإسلام ما يحبّ لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا ينقص النعمة على أخيه شيئاً من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله من ذلك آمين.
قال أبو الزناد: ظاهر الحديث التساوي وحقيقته التفضيل، لأن الإنسان يحبّ أن يكون أفضل الناس، وإذا أحبّ لأخيه مثله فقد دخل في جملة المفضولين. وفي الحديث من الفقه أن المؤمن مع المؤمن ينبغي أن يكون كالنفس الواحدة، فيحبّ لأخيه ما يحب لنفسه من حيث إنها نفس واحدة. وفي الحديث الصحيح: «المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحمى» (متفق عليه) .
قال السخاوي: وأخرجه أبو داود الطيالسي في «مسنده» والدارمي وعبد في «مسنديهما» وابن ماجه في «سننه» وأبو عوانة في «مستخرجه» وابن حبان في «صحيحه» وهو عند الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: إنه صحيح اهـ.(2/463)
23 - باب في الأمر بالمعروف
من الفرائض والسنن والآداب ومحاسن الأخلاق المحمودة شرعاً، فالأمر بالمعروف أمر بكل فعل يعرف بالشرع والعقل حسنه، وهذا الشطر من الترجمة تقدمت الترجمة في معناه بباب الدلالة على الخير (والنهي عن المنكر) ضد المعروف كترك واجبٍ أو فعل حرامٍ صغيرةً كان أو كبيرةً.
(قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} ) كل ما يرغب فيه من الأفعال الحسنة وقيل: كناية عن الإسلام وتقدم الكلام على ما يتعلق بها في باب الدلالة على الخير والدعاء إليه ويزاد على ذلك. قال الخازن «من» في قوله: {منكم} للبيان لا للتبعيض، لأن الله أوجب ذلك على كل الأمة في قوله له: {كنتم خير أمة} وعلى هذا فمعنى الآية: كونوا أمة دعاةً إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، ومن قال بهذا القول يقول: إن الأمر والنهي المذكورين فرض كفاية إذا قام بها واحد سقط عن الباقين. وقيل من للتبعيض لأن في الأمة من لا يقدر على ذلك لعجز أو ضعف فحسن إدخال لفظة من، وقيل: إنهما يختصان بأهل العلم وولاة الأمر فعليه فالمعنى: ليكن بعضكم آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ( {وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} ) أي: الناجون الفائزون نجوا من النار وفازوا بالجنة، والمفلح: الظافر بالمطلوب الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه.
(وقال تعالى: {كنتم} ) يا أمة محمد في علم الله ( {خير أمة أخرجت للناس} ) وبين وجه شرفها على الأمم الماضين بقوله: (تأمرون بالمعروف وتنون عن المنكر) فمن تحقق فيه هذا الوصف فهو من أفضل الأمة.
(وقال تعالى: {خذ العفو وأمر(2/464)
بالعرف وأعرض عن الجاهلين} ) تقدم الكلام فيها في قصة عينيةبن حصن مع عمر رضي الله عنه في أواخر باب الصبر، وسيأتي فيها مزيد إن شاء الله تعالى في باب توقير العلماء في قصة الحر نفسها ذكرها المصنف ثانياً ثمة.
(وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} ) قال السلمي في «الحقائق» : أي: أنصار يتعاونون على العبادة ويتبادرون إليها، وكل واحد منهم يشد ظهر صاحبه ويعينه على سبيل نجاته: ألا ترى النبيّ يقول: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» وقال: «المؤمنون كالجسد الواحد» وقال أبو بكر الوراق: المؤمن يوالي المؤمن طبعاً وسخية اهـ. وقال الخازن: لما كان نفاق الأتباع وكفرهم حصل بتقليد المتبوعين به وبمقتضى الطبيعة قال فيهم «بعضم من بعض» ولما كانت الموافقة الحاصلة بين المؤمنين بتسديد الله وتوفيقه لا بمقتضى الطبيعة وهوى النفس وصفهم بأن بعضهم أولياء بعض ( {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ) ضد وصف المنافقين، والجملة محتملة للحالية والوصفية لأن أل في الموضعين للجنس ومحتملة لكونها خبراً بعد خبر.
(وقال تعالى) : ( {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود} ) قال في الخازن: قال أكثر المفسرين: هم أصحاب السبت لما اعتدوا واصطادوا في السبت فقال داود: اللهم العنهم واجعلهم قردة فمسخوا كذلك، وقصتهم في سورة الأعراف ( {وعيسى ابن مريم} ) قال: وهم كفار أصحاب المائدة لما أكلوا وادخروا ولم يؤمنوا قال: اللهم العنهم واجعلهم خنازير فمسخوا كذلك. وقيل: إن داود وعيسى بشراً بمحمد ولعنا من يكفر به ( {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} ) أي: اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم، ثم فسر الاعتداء بقوله: ( {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ) أي: لا ينهي بعضهم بعضاً عن المنكر، وقيل: عن معاودة منكر فعلوه ولا عن الإصرار فيه (لبئس ما كانوا يفعلون) اللام فيه لام(2/465)
القسم: أي: أقسم لبئس ما كانوا يفعلون، يعني من ارتكاب المعاصي والعدوان.
(وقال تعالى) : ( {وقل الحق من ربكم} ) الحق ما يكون من جهة الله تعالى إلا ما يقتضيه الهوى، ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف ومن ربكم حال أو صفة ( {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ) أي: لا أبالي بإيمان من آمن وكفر من كفر. وفي «الحقائق» للسلمي قال ابن عطاء الله: أظهر الحق للخلق سبيل الحق وطريق الحقيقة، فمن سألك فيه بالتوفيق ومعرض عنه بالخذلان. فمن شاء الحق له الهداية هداه لطريق الإيمان، ومن شاء له الإضلال سلك به مسلك الكفر والضلال البعيد.
(وقال تعالى) : ( {فاصدع} ) أي: اجهر ( {بما تؤمر} ) .
(وقال تعالى) ( {أنجينا} ) كذا في نسخة مصححة منه بزيادة الفاء في أوله والتلاوة بحذفها، ورأيتها مكشوطة من أصل فلا أدري ذلك من المصنف أو من التعرض للأصول بتغييرها، وقد وقع مثل ذلك في «صحيح البخاري» وحق مثله أن يقال فيه كذا وصوابه أو والتلاوة كذا و {أنجينا الذين} جواب لما من قوله: {لما نسوا ما ذكروا به أنجينا} ( {الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا} ) بالاعتداء ( {بعذاب بئيس} ) شديد فعيل من بؤس يبؤس: إذا اشتد وفيه قراءة أخرى ( {بما كانوا يفسقون} ) بسبب فسقهم (والآيات في الباب) أي: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كثيرة معلومة) .
184 - (وأما الأحاديث: فالأوّل: عن أبي سعيد) سعدبن مالكبن سنان (الخدري) وسبقت ترجمته (رضي الله عنه) في باب التوبة (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما رأى) أي: علم إذ لا(2/466)
يشترط في وجوب الإنكار رؤية البصر بل المدار على العلم أبصر أم لا (منكم) معشر المكلفين القادرين المسلمين فهو خطاب لجميع الأمة حاضرها بالمشافهة وغائبها بطريق التبع (منكراً فليغيره) وجوباً بالشرع على الكفاية إن علم بذلك أكثر من واحد وإلا فهو فرض عين. ووجوبه بالكتاب والسنة (بيده) إن توقف تغييره عليها كتكسير أواني الخمر وآلات اللهو بشرطه الآتي (فإن لم يستطع) الإنكار بيده، بأن خشي لحاق ضرر ببدنه أو أخذ مال، وليس من عدم الاستطاعة مجرد الهيبة، وعلى ذلك حمل خبر الترمذي وغيره «ألا لا يمنعنّ رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه» (فبلسانه) أي: يقوله للمرتجي نفعه من نحو صياح واستغاثة وأمر من يفعل ذلك وتوبيخ وتذكير با وأليم عقابه مع لين وإغلاظ حيثما يكون أنفع، ولا فرق في وجوب الإنكار بين أن يكون الآمر ممتثلاً ما أمر به مجتنباً ما نهي عنه أو لا، ولا بين كون كلامه مؤثراً أو لا، وظاهر كلام المصنف الإجماع على ذلك فقول بعض بسقوط الوجوب عند العلم بعدم التأثير أخذاً من أحاديث تصرح بذلك ليس فيه محله، ولا بين كون الآمر ولياً أو غيره إجماعاً أخذاً بعموم «من» الشامل لذلك جميعه، نعم إن خشي من ترك استئذان الإمام مفسدة راجحة أو مساوية من انحرافه عليه بأن افتيات عليه لم يبعد وجوب استئذانه حينئذٍ. ويشترط لجواز الإنكار ألا يؤدي إلى شهر سلاح، فإن أدى إلى ذلك فلا يكون للعامة بل يربط بالسلطان، وشرطه وجوبه تارة وجوازه أخرى ألا يخاف على نفس ونحو عضو ومال له أو لغيره وإن قل، مفسدة فوق مفسدة المنكر الواقع، وإيجاب بعض العلماء الإنكار بكل حال وإن فعل المنكر وقبل منه غلوّ مخالف لظاهر هذا الحديث وغيره ولا حجة له فيما احتج به.
وإذا جاز التلفظ بكلمة الكفر عند الخوف أو الإكراه كما في الآية فليجز ترك الإنكار لذلك بالأولى، لأن الترك دون الفعل في القبح، ألا يغلب على ظنه أن المنهي يزيد فيها هو فيه عناداً، وأن يكون المنكر مجمعاً عليه أو يعتقد فاعله حرمته أو حله، أو ضعفت شبهته كنكاح المتعة، ولا ينافي ما تقرر من الوجوب قوله تعالى: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة: 105) لأنه سئل عنها، فقال: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك» الحديث.
ففيه تصريح بأن الآية محمولة على ما إذا عجز المنكر، ولا شك في سقوط الوجوب حينئذٍ، على أن معناها عند المحققين أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به(2/467)
لا يضركم تقصير غيركم، ومما كلفنا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يمتثلهما المخالف فلا عتب حينئذٍ لأن الواجب الأمر والنهي لا القبول (فإن لم يستطع) ذلك بلسانه (فبقلبه) ينكره بأن يكره ذلك ويعزم أن لو قدر عليه بقول أو فعل أزاله لأنه يجب كراهة المعصية فالراضي بها شريك لفاعلها وهذا واجب على كل أحد بخلاف اللذين قبله، فعلم من الحديث وما تقرر فيه وجوب تغيير المنكر بأيّ طريق أمكن، وفي أواخر الباب الأوّل من كتاب «الأنوار القدسية في قواعد الصوفية» للشعراني كان يقال: إن كان ولا بد للمريد من إزالة المنكر فليتوجه إلى الله تعالى بقلبه ويزيل ذلك المنكر الذي رآه، إما يمنع الزاني من الزنى أو الشارب من الخمر ونحو ذلك، ولا ينسب إلى ساكت قول، هكذا كان سورة تغيير المرسلين الصادقين المنكر في قديم الزمان، وقد خالف قوم فغيروا بيدهم أو لسانهم فسحبوا لبيت الوالي وضربوا وحبسوا وازدادوا للمنكر منكراً. وقد كان سيدي إبراهيم المتبولي يقول: تغيير المنكر باليد للولاة ومن قاربهم، وبالقول للعلماء العاملين، وتغييره بالقلب لأرباب القلوب (وذلك) أي: الإنكار بالقلب للعجز عنه بغيره (أضعف الإيمان) أي: أقله ثمرة. وفي رواية «وهو أضعف الإيمان» وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، ومنه يستفاد أن عدم إنكار القلب للمنكر دليل على ذهاب الإيمان منه، ومن ثم قال ابن مسعود: هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر: أي: لأن ذلك فرض كفاية لا يسقط عن أحد بحال. والرضا به من أقبح المحرمات وإن كان ذلك أقل ثمرة (رواه مسلم) وأبو داود وابن ماجه في «سننهما» وأحمد وعبد في «مسنديهما» وأبو يعلى وابن أبي الدنيا وغيره ذكره السخاوي في «تخريج الأربعين» حديثاً التي جمعها المؤلف وبسط في بيان طرق الحديث. قيل:
وهذا الحديث يصلح أن يكون ثلث الإسلام لأن الأحكام ستة: الواجب والمندوب، والمباح، وخلاف الأولى، والمكروه، والحرام. والمستفاد منه حكم الأول وهو أنه يجب الأمر منه، والأخير وهو أنه يجب النهي عنه. وعبر بعضهم بأنه نصفه وبينه بأن أعمال الشريعة إما معروف يجب الأمر به، أو منكر يجب النهي عنه: أي وهو إنما بين الثاني وهو غير سديد، لأن ما عدا الأول والثاني لا يجب الأمر به ولا النهي عنه، على أنه كما بين الثاني: أعني وجوب النهي عن المنكر بين الأول، لأن المنكر يشمل ترك الواجب وفعل الحرام، فتغيير الأول بالأمر بالواجب والثاني بالنهي عن الحرام، فعليه كان المناسب أن يقال إنه كل الإسلام لا نصفه.(2/468)
185 - و (الثاني: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من) مزيدة لاستغراق النفي (نبي) أي: رسول، إذ هو المحتاج للإعانة على تبليغ ما أمر به. قال القرطبي: ونعني بذلك غالب الرسل لا كلهم بدليل قوله في الحديث الآخر «ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس مه أحد» فهذا العموم وإن كان مؤكداً بمن مخصوص بما ذكرناه اهـ (بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون) بالحاء المهملة وتخفيف الواو قال الأزهري وغيره، هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم. والخلصان: الذين نقوا من كل عيب وقال غيره: هم أنصارهم، وقيل: المجاهدون، وقيل: الذين يصلحون للخلافة بعدهم، وقيل: هم المختصون المفضلون (وأصحاب) قال القرطبي في «المفهم» : جمع صحب كفرح وأفراح قاله الجوهري، وقال غيره: هو عند سيبويه جمع صاحب كشاهد وأشهاد لا جمع صحب، لأن فعلاً لا يجمع على أفعال إلا في ألفاظ معدودة وليس هذا منها. والصحبة: الخلطة والملابسة على جهة المحبة، يقال صحبه يصحبه صحبة بالضم وصحابة بالفتح، وجمع الصاحب صحب كراكب وركب، وصحبة كفاره وفرهة، وصحاب كجائع وجياع، وصحبان كشاب وشبان (يأخذون بسنته) أي: بطريقه وشريعته (ويقتدون) يتأسون (بأمره ثم) أتى بها لتراخي رتبة المعطوف بها عما قبله (إنها) أي: القصة كذا اقتصر عليه المصنف في «شرح مسلم» ، وقال القرطبي: هكذا الرواية بهاء التأنيث فقط وهي عائدة على الأمة أو على الطائقة التي هي في معنى الحواريين (تخلف) بضم اللام أي تحدث (من بعدهم خلوف) بضم الخاء جمع خلف بإسكان اللام وهو الخالف بشرّ، أما بفتح اللام فهو الخالف بخير، هذا هو الأشهر. قال وجماعة أو جماعات من أهل اللغة منهم أبو زيد: يقال كل واحد منهما بالفتح والإسكان، ومنهم من جوّز الفتح في الشرّ ولم يجوّز الإسكان في الخير، وفي «الصحاح» : الخلف ما جاء من بعد؛ يقال هو خلف سوء وخلف صدّق من الله بالتحريك إذا قام مقامه.
قال الأخفش: هما سواء منهم من يحرك ومنهم من يسكن فيهما جميعاً إذا أضاف، ومنهم من يقول خلف صدق بالتحريك ويسكن الآخر ويريد بذلك الفرق بينهما اهـ (يقولون ما لا يفعلون) أي: يتشبعون بما لم يعطوا من طاعة أو حال أو مقام (ويفعلون ما لا يؤمرون) أي: يفعلو خلاف المأمور به من المنكرات التي لم يأت بها(2/469)
الشرع (فمن جاهدهم بيده) إذا توقف إزالة المنكر عليه ولم يترتب عليه مفسدة أقوى منه كانشقاق العصى المترتب على الخروج على ولي الأمر الذي هو أعظم مفسدة من المنكر (فهو مؤمن) كامل الإيمان (ومن جاهدهم بلسانه) بأن أنكر به واستعان بمن يدفعه (فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه) والاستعانة على إزالته با سبحانه (فهو مؤمن) وتتفاوت مراتب كمال الإيمان بتفاوت ثمراته (وليس وراء ذلك) أي: كراهة المنكر بالقلب (من الإيمان حبة خردل) كنى بها عن نهاية القلة، وذلك لأن الرضا بالكفر الذي هو من جملة المعاصي كفر، وبالعصيان الناشيء عن غلبة الشهوة نقصان من الإيمان أيّ نقصان. وقال القرطبي: الإيمان هنا بمعنى الإسلام، والمراد أن آخر خصال الإيمان المتعينة على العبد وأضعفها الإنكار بالقلب ولم يبق بعدها رتبة أخرى (رواه مسلم) .
186 - و (الثالث: عن أبي الوليد) بفتح الواو وكسر اللام وسكون التحتية (عبادة) بضم المهملة وتخفيف الموحدة والدال المهملة بينهما ألف (ابن الصامت) بن قيسبن أصرمبن فهربن ثعلبةبن غنمبن سالمبن عوفبن عمروبن الخزرج الأنصاري الخزرجي، شهد عبادة (رضي الله عنه) العقبة الأولى والثانية مع رسول الله، وشهد بدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد، وكان أحد النقباء ليلة العقبة، وكان نقيباً على قوافل بني عوفبن الخزرج، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مرثد الغنوي، واستعمله النبي على الصدقات: وكان يعلم أهل الصفة القرآن، ولما فتح الشام أرسله عمر ومعاذاً وأبا الدرداء ليعلموا الناس القرآن بالشام ويفهموهم، فأقام عبادة بحمص ومعاذ بفلسطين وأبو الدرداء بدمشق ثم صار عبادة إلى فلسطين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وأحد وثمانون حديثاً، اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بآخرين. قال الأوزاعي: أول من ولى قضاء فلسطين عبادة، وكان فاضلاً خيراً جميلاً طويلاً جسيماً، توفي ببيت المقدس، وقيل: بالرملة سنة أربع وثلاثين وهو ابن ثنتين وسبعين سنة، وقيل: توفي سنة خمس وأربعين، والأوّل أصح وأشهر كذا في «التهذيب» (قال: بايعنا) بسكون المهملة وبفتحها: أي عاهدنا(2/470)
(رسول الله) بالنصب والرفع؛ وأطلق على المعاهدة المبايعة لأن كلاً من المتعاهدين يمد يده للآخر لأخذ العهد كما أن كلاً من المتبايعين يمدّ يده لصاحبه. وقيل: سميت مبايعة لما فيها من المعاوضة لما وعدهم الله من عظيم الجزاء قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة: 111) (على السمع والطاعة) لولاة الأمر (في العسر واليسر) بضم أوليهما وضم الأول وسكون الثاني لغتان فيما كان على هذا الوزن كما في «الصحاح» وتقدمت الإشارة إليه (والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا) معطوف على السمع: أي: بايعنا على استئثار
الأمراء بحظوظهم وتخصيصهم إياها بأنفسهم. قال المصنف: أي بايعناه على الطاعة فيما يشقّ وتكرهه النفوس وغيرها مما ليس بمعصية، فإن كانت معصية فلا سمع ولا طاعة كما جاء في أحاديث أخر فيحمل المطلق عليها، وثمرة الطاعة في جميع ما ذكر اجتماع كلمة المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أمر الدين، والأثرة بفتح الهمزة والثاء المثلثة، ويقال بضم الهمزة وكسرها وسكون الثاء فيهما ثلاث لغات حكاهن في «المشارق» وغيره وهي كما سيأتي في الأصل: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا. قال القرطبي: وكأن هذا القول خاص بالأنصار، وقد ظهر أثر ذلك يوم حنين حيث آثر النبي قريشاً بالفىء ولم يعط الأنصار منه شيئاً، وفيه تنبيه على أن الخلافة في غيرهم وقد صرح به في قوله: (وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا) من ذي الأمر (كفراً بواحاً) هكذا هو لمعظم الرواة وفي معظم النسخ، وهو من باح الرجل بالشيء يبوح به بوحاً وبواحاً: إذا أظهره، وفي بعضها براحا بالراء.
قال القرطبي: وهي رواية أبي جعفر، من قولهم برح الخفاء: أي ظهر. قال ثابت: ورواه النسائي بواحاً وبووحاً وهي بمعناه ما زادت من المبالغة. قال المصنف: والراد بالكفر هنا المعاصي (عندكم فيه من الله تعالى برهان) أي: حجة بينة وأمر لا شك فيه: أي: بل تعلمونه من دينالله. ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في أمورهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقوموا بالحق حيثما كنتم. وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام(2/471)
بالإجماع وإن كانوا فسقة، وعلى هذا تظاهرت النصوص. وحمل القرطبي الكفر على ظاهره فقال: معناه إلا أن تروا كفراً عندكم من الله فيه برهان: أي: حجة بينة وأمر لا شك فيه يحصل به اليقين أنه كفر، فحينئذٍ يجب أن يخلع من عقدت له البيعة اهـ (وعلى أن نقول الحق) بأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر (أينما كنا) أي: في كل مكان وزمان (لا نخاف في الله لومة لائم) أي: لا نداهن في ذلك أحداً ولا نخافه ولا نلتفت إلى الأئمة، ففيه القيام بالمعروف والنهي عن المنكر (متفق عليه) ورواه مالك والنسائي، وليس عندهما «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان (المنشط والمكره بفتح ميميهما) وثالثهما مصدران ميميان (أي: في السهل والصعب) كأنه تفسير مراد، وإلا ففي «النهاية» المنشط مفعل من النشاط وهو الأمر الذي تنشط له النفس وتحنّ إليه وتؤثر فعله وهو مصدر بمعنى النشاط؛ وقال في محل آخر منها حديث عبادة «بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنشط والمكره» يعني المحبوب والمكروه وهما مصدران (والأثرة: الاختصاص بالمشترك) على التشريك فيه وقد سبق بيانها في باب الصبر (بواحاً بفتح الموحدة بعدها واو) خفيفة (ثم ألف ثم حاء مهملة) هذه رواية المعظم كما تقدم (أي: ظاهراً لا يحتمل تأويلاً) .
187 - و (الرابع: عن النعمانبن بشير) صحابي ابن صحابي كما تقدم في ترجمته فلذا قال (رضي الله عنهما عن النبي قال: مثل) بفتحتين وبكسر فسكون، وهي هنا تشبيه حال مركبة بمركبة: أي: صفة (القائم في حدود ا) بإقامتها والذبّ عن المحارم، ووقع هكذا على الصواب في كتاب الشركة من البخاري، ووقع في كتاب الشهادات «مثل المداهن» بضم فسكون: أي: المحابي في حدودالله، والمراد به كالمداهن من يراءي ويضيع الحقوق ولا(2/472)
يغير المنكر، وهو وهم كما قاله الحافظ في «الفتح» ، لأن المداهن في الحدود الواقع فيها (والواقع فيها) أي: مرتكبها واحد والقائم مقابله. ووقع عند الإسماعيلي أيضاً «مثل الواقع في حدود الله والناهي عنها» وهو المثل المضروب فإنه لم يقع فيه إلا ذكر فرقتين فقط، لكن إن كان المداهن مشتركاً في الذم مع الواقع صار بمنزلة فرقة واحدة. وبيان وجود الفرق الثلاث في المثل المضروب أن الذين أرادوا غرق السفينة بمنزلة الواقع في حدودالله، ثم من عداهم إما منكر وهو القائم، وإما ساكت وهو المداهن (كمثل قوم استهموا على سفينة) فأخذ كل واحد منهما سهماً منها بالقرعة وذلك لاشتراكهم فيها بملك أو إجارة، والقرعة إنما تقع بعد التعديل، ثم يقع التشاحّ في الأقضية فتقع القرعة لقطع النزاع (فصار بعضهم أعلاها) لخروج سهمه بالقرعة (و) صار (بعضهم أسفلها) لذلك والجملة معطوفة على الجملة قبلها ويجوز جعلها مستأنفة، وكل من أعلى وأسفل منصوب على الظرف المكاني والمتعلق هو الخبر (فكان الذين) صاروا (في أسفلها) بالاستفهام (إذا استقوا من الماء مرّوا) سالكين (على من) صار (فوقهم) أعلى السفينة بحكم الاستفهام (فقالوا) لما رأوا تأذي أهل فوق من مرورهم/ ففي الشهادات من البخاري: فتأذوا به: أي بالمارّ عليهم حالة السقي (لو) وقع (أنا خرقنا في نصيبنا) من السفينة (خرقاً) نصل به إلى الماء (ولم نؤذ) بمرورنا (من فوقنا، فإن تركوهم) أي: ترك أهل العلوّ أهل السفل (وما
أرادوا) الواو للمصاحبة أي تركوهم مصاحبين ما أرادوا فعله من غير منع منه (هلكوا جميعاً) لأن شؤم ذلك الفعل والغلبة من الماء على السفينة المغرق لها ولهم أمر عام لهم أجمعين (وإن أخذوا على أيديهم) أي: منعوهم مما أرادوه من الخرق (نجوا) أي: الآخذون في أنفسهم (ونجوا) بالتشديد: أي: ونجوا المأخوذين (جميعاً) حال من فاعل الفعلين معاً من الغرق، وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها. ففي الحديث استحقاق العقوبة على العموم بترك الأمر بالمعروف (رواه البخاري) هذا اللفظ في كتاب الشركة، ورواه في كتاب الشهادات بلفظ آخر في معناه، ورواه الترمذي في كتاب الشهادات بلفظ آخر في معناه، ورواه الترمذي في كتاب الفتن من جامعه وقال حسن صحيح (القائم في حدود الله: معناه المنكر لها) على من تعداها (القائم في دفعها وإزالتها)(2/473)
على من وقع فيها (والمراد بالحدود) على هذا (ما نهى الله عنه) من المحرمات ولو صغائر، أو القائم بالحدود على من فعل ما يقتضيه، والمراد من الحدود على هذا الجلد للزاني وللقاذف ونحو ذلك. والثاني خاص بوليّ الأمر، والأول عام لسائر أرباب الإيمان بشرطه (واستهموا) معناه (اقترعوا) وكانت القرعة في الجاهلية بسهام معروفة، وأطلق الاستهام وأريد به الاقتراع وهو استعمال شائع في السنة.
188 - و (الخامس: عن أم المؤمنين) احتراماً وإجلالاً (أم سلمة) بفتح أوليه (هند) هذا هو الصحيح كما تقدم مع ترجمتها في باب التوكل (بنت أبي أمية) بضم ففتح فتشديد التحتية مصغراً كنية (حذيفة) بضم المهملة وفتح المعجمة فسكون التحتية بعدها فاء مفتوحة فهاء (رضي الله عنها) حال كونها رواية (عن النبي أنه قال) : من باب الإخبار عن المغيب فكان كما أخبر به فهو من معجزاته (إنه) أي: الشأن (يستعمل عليكم أمراء) أي: تجعل الملوك عليكم أمراء عمالاً (فتعرفون) أي: بعض أعمالهم لموافقتها ما عرف من الشرع (وتنكرون) بعضها لمخالفته ذلك. وفي «المشكاة والمصابيح» يستعمل عليكم أمراء تعرفون وتنكرون» بحذف الفاء، قال العاقولي: هما صفتان لأمراء والعائد محذوف: أي: تعرفون بعض أفعالهم وتنكرون بعضهم (فمن كره) بقلبه المنكر ولم يقدر على الإنكار لخوف سطوتهم (فقد برىء) من الإثم بإنكاره الباطني لأنه قائم بما يجب عليه من تغييره بقلبه (ومن) قدر على الإنكار باليد أو باللسان فـ (أنكر) عليهم ذلك (فقد سلم) بإنكاره من العقاب الأخروي. وفي «المصابيح» «فمن أنكر فقد برىء، ومن كره فقد سلم» قال العاقولي: قوله فقد برىء: أي: قام بما وجب عليه فبرىء من الواجب؛ وقوله: فقد سلم أي بإنكاره الباطني وكراهة المنكر وسلم من الإثم لأنه قائم بما يجب عليه تغييره بقلبه اهـ. (ولكن من رضي) فعلهم بقلبه (وتابع) في العمل به فهو الذي لم تبرأ ذمته ولم يسلم من إثم لمشاركته لهم فيه ورضاه به، وحذف الخبر من هذه الجملة لدلالة الحال وسياق الكلام على أن هذا القسم ضد ما أثبته لقسيميه (قالوا: يا(2/474)
رسول الله ألا نقاتلهم) أي: حينئذٍ (قال لا) أي: لا تقاتلوهم (ما أقاموا فيكم الصلاة) وإنما منع من مقاتلتهم مدة إقامتهم الصلاة التي هي عنوان الإسلام، والفارق بين الكفر والإسلام حذراً من تهيج الفتن واختلاف الكلمة وغير ذلك مما يكون أشد نكارة من احتمال نكرهم والمضارة على ما ينكر
منهم (رواه مسلم) في «المغازي» من طرق مدارها على الحسن عن ضبةبن محصن العتري البصري عن أم سلمة، ورواه أبو داود في السنة، ورواه الترمذي في «الفتن» وقال: حسن صحيح، كذا في «الأطراف» للمزي ملخصاً.
(معناه) أي: قوله في الحديث «من كره فقد برىء» (من كره بقلبه) المنكر (ولم يستطع) لخوفه على نفسه أو ماله منهم (إنكاراً بيد ولا لسان) فأنكر بقلبه (فقد برىء من الإثم) لسقوطهما عند حنيئذٍ (وأدى وظيفته) المخاطب بها (ومن أنكر) لقدرته على ذلك باليد أو اللسان (بحسب) قدر (طاقته) وقوّة شوكته (فقد سلم من) تبعة (هذه المعصية) أي: ترك إنكار المنكر لعدم العقاب على ذلك والسؤال عنه (ومن رضي بفعلهم المنكر وتابعهم) عليه بفعل ذلك (فهو العاصي) أي الآثم.
189 - (السادس: عن أم المؤمنين) جلالة واحتراماً (أم الحكم) كنية (زينب بنت جحش) بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وبعدها شين معجمة، وهو بن رباببن معمربن صبر ابن مرةبن كثيربن غنمبن دودانبن أسيدبن خزيمة الأسدية أخت عبد ابن حجش (رضي الله عنها) أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبيّ، أسلمت زينب قديماً وهاجرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها في سنة خمس، قاله قتادة والواقدي وآخرون. روى ابن سعد أنه تزوجها لهلال ذي القعدة سنة خمس من الهجرة وهي بنت خمس وثلاثين سنة، وقيل: سنة ثلاث، وكانت قبله تحت زيدبن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم طلقها فاعتدت، ثم زوجها الله(2/475)
من رسوله وأنزل فيها {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} (الأحزاب: 37) وكانت تفتخر على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: زوّجني الله من السماء، ومناقبها كثيرة ذكر المصنف جملة منها في «التهذيب» ، وفيه أنها توفيت سنة عشرين، وقيل: توفيت سنة إحدى وعشرين. وأجمع أهل السير أنها أول نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موتاً بعده ودفنت بالبقيع وصلى عليها عمربن الخطاب، وهي أول امرأة جعل عليها النعش أشارت به أسماء. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد عشر حديثاً، خرّج منها في «الصحيحين» حديثان اتفقا عليهما (أن النبي) بكسر همزة إن على إضمار القول وبفتحها على إضمار أخبرت مثلاً (دخل عليها فزعاً) بفتح فكسر. والفزع الذعر والفرق (يقول) جملة حالية (لا إله إلا ا) أتى بها للتعجب من الأمر الواقع بعدها وتعظيم شأنه كالإتيان بسبحان في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} (الإسراء: 1) (ويل) بفتح أوله وسكون التحتية. في «الصحاح» : ويل كلمة مثل ويح إلا أنها كلمة عذاب اهـ.
وفي «تحفة القارىء» وهي كلمة تقال عند الحزن (للعرب) هم خلاف العجم الأعراب سكان البوادي خلاف الحاضرة وخصص بهم لأن معظم مفسدتهم راجع إليهم (من شرّ) الظاهر أن التنوين فيه للتعظيم (قد اقترب) زمنه (فتح) بالبناء للمفعول (اليوم من ردم) بفتح فسكون (يأجوج ومأجوج) أي: سدهما، يقال ردمت الثلمة: أي: سددتها وهما بالهمز وتركه وبهما قرىء في السبع والجمهور على تركه (مثل هذه) أي: الحلقة المبينة في قوله: (وحلق) بتشديد اللام (بأصبعيه) فيه عشر لغات بتثليت الهمزة والباء والعاشرة أصبوع (الإبهام والتي تليها) بدل من قوله أصبعيه بدل مفصل من مجمل، فيجوز فيه الإتباع والقطع لأنه استوفى العدة. قال في «تحفة القارىء» : أي: جعل السبابة في أصل الإبهام وضمهما حتى لم يبق بينهما إلا خلل يسير، ومعناه عند الحساب تسعون كما في الرواية الأخرى للبخاري من حديث أبي هريرة مرفوعاً «فتح الله من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد بيده تسعين» قلت: وقع عند مسلم: وعقد سفيان بيده عشرة، وهي مخالفة للرواية المذكورة هنا والأخرى التي عند أبي هريرة، لأن عقد التسعين أضيق من العشرة.
قال المصنف: قال القاضي: لعل حديث أبي هريرة متقدم وأراد قدر الفتح بعده. قال: أو يكون المراد التقريب بالتمثيل لا حقيقة التحديد(2/476)
(فقلت: يا رسول الله أنهلك) بكسر اللام وحكي فتحها، قال المصنف: وهو ضعيف أو فاسد (وفينا الصالحون) أي: وبهم يدفع البلاء ويزال العناء (قال نعم) أي: تهلكون والحال ما ذكر (إذا كثر) بفتح فضم المثلثة (الخبث) هو بفتح المعجمة والموحدة وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: بالزنى خاصة، وقيل: أولاد الزنى.d
قال المصنف: والظاهر أنه المعاصي مطلقاً. ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام وإن كثر الصالحون، ففيه بيان شؤم المعصية والتحريض على إنكارها (متفق عليه) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء وفي باب الفتن، ورواه مسلم في الفتن، ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي في «التفسير» ، وابن ماجه في «الفتن» . واتفق في سند الحديث لطيفة توالي ثلاثة من الصحابة زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش وهذا عند جميع من ذكر، إلا أن في رواية البخاري وأخرى لمسلم بإسقاط أم حبيبة، كذا لخص من «الأطراف» للمزي.
190 - و (السابع: عن أبي سعيد) سعدبن مالكبن سنان (الخدري رضي الله عنه) ناقلاً (عن النبي قال) : أي: النبي فتكون الجملة مستأنفة لبيان المقول، ويحتمل أن يكون الضمير فيه يعود لأبي سعيد وهناك قال مقدر بعده حذف خطأ اختصاراً يعود إلى النبي (إياكم) هي للتحذير حذف العامل وجوباً والأصل أحذركم (والجلوس) بالنصب (في الطرقات) وعند ابن حبان على الصعدات بضمتين جمع صعد كذلك جمع صعيد كطريق وطرق وزناً ومعنىً. وزعم ثعلب أن المراد بالصعدات وجه الأرض اهـ والطريق تذكر تؤنث، ويلحق بالطريق ما في معناها من الجلوس في الحوانيت، وفي الشبابيك المشرفة على المارة حيث يكون في غير العلوّ، والنهي للتنزيه لئلا يضعف الجالس عن أداء الحق الذي عليه (فقالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا) أي: بالطرقات (بد) بضم الموحدة وتشديد المهملة: أي فرقة، وقوله: (نتحدث فيها) استئناف بياني لعدم قدرتهم على تركها(2/477)
أي: بالخيور الدنيوية والأخروية، فإن مجالسهم كانت مصونة عما لا يعنيهم من المباحات (فقال رسول الله: فإذا أبيتم إلا المجلس) مصدر ميمي بمعنى الجلوس، وعند البخاري إلا المجالس بالجمع، وأل فيه للعهد، والاستثناء فيه مفرغ: أي: إذا أبيتم سائر الأفعال إلا الجلوس في الطرقات، وفي رواية للبخاري: قال الحافظ: إنها لأكثر الرواة «فإذا أتيتم إلى المجالس» بالفوقية بدل الموحدة وبإلى التي للغاية بدل إلا، وفيه رواية «أبيتم إلا» بالموحدة وأداة الاستثناء للكشميهني، قال: وكذا وقع في الاستئذان وهو الصواب (فأعطوا الطريق حقه) أي: ما يطلب فيه من الآداب، وفي التعبير به إشارة إلى تأكد تلك الأمور والاهتمام بها والإضافة للملابسة (قالوا) قال الحافظ في «الفتح» : القائل هو أبو طلحة، وهو مبين في رواية مسلم، وحينئذٍ ففي إطلاق الجمع على الواحد مجاز وأنه من القائلين (وما حق الطريق) المطلوب ممن جلس فيه (قال: غض البصر) أي: كفه عن النظر (وكف الأذى) أي: الامتناع
عن أذى المارة، وقال الحافظ في «فتح الباري» : أشار بالأول إلى السلامة من التعرّض للفتنة بمن يمرّ عليه من امرأة ونحوها، وبالثاني إلى السلامة من الاحتقار والغيبة وبقوله: ورد السلام إلى إكرام المار (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إلى استعمال جميع ما يشرع (متفق عليه) رواه البخاري في «المظالم» وفي الاستئذان، ورواه مسلم في الاستئذان واللبس، ورواه أبو داود في الأدب، كذا في «الأطراف» للمزي ملخصاً. قال العلقمي: زاد أبو داود في الخصال المطلوبة لمن جلس على الطريق إرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد. زاد سعيدبن منصور: وإغاثة الملهوف. زاد البزار: وأعينوا على الحمولة. زاد الطبراني: وأعينوا المظلوم واذكروا الله كثيراً. وفي حديث أبي طلحة: وحسن الكلام. وعند الترمذي: وأفشوا السلام، وعند الطبراني: وأهدوا الأغبياء والغبي بالمعجمة والموحدة. قال في «النهاية» : القليل الفطنة، ومجموع ما في هذه الأحاديث أربعة عشر وقد نظمها شيخنا في(2/478)
أربعة أبيات فقال:
جمعت آداب من رام الجلوس على الـ
ــــطريق من قول خير الخلق إنساناً
أفش السلام وأحسن في الكلام وشم
ت عاطساً وسلاماً رد إحساناً
في الحمل عاون ومظلوماً أعن وأغث
لهفان هد سبيلاً واهد حيراناً
بالعرف مروانه عن منكره وكف أذى
وغض طرفاً وأكثر ذكر مولانا
قلت: والأبيات للحافظ ابن حجر كما صرح به السيوطي في مرقاة الصعود، وليست للسيوطي كما قد يتوهم من قوله شيخنا، ولعله شيخ شيخنا، فحذف شيخ من القلم أو من الكاتب. وفي حديث مالكبن التيهان زيادة: وأرشدوا الأعمى. رواه إسحاقبن راهويه وابن أبي شيبة، ومدار سنديهما على موسىبن عبيد الربذي وهو ضعيف، كذا في «مختصر إتحاف المهرة» للأبوصيري تلميذ الحافظ زين الدين العراقي.
191 - و (الثامن: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى) أي: أبصر (خاتماً) فيه لغات جمعها الحافظ ابن حجر في قوله:
خذ نظم عدّ لغات الخاتم انتظمت
ثمانياً ما حواها قط نظام
خاتام خاتم ختم خاتم وختا
م خاتيام وخيتوم وخيتام
والهمز مع فتح خاء تاسع وإذا
شاع القياس أتم العشر خاتام
واقتصر المصنف في «شرح مسلم» على أربع منها فتح التاء وكسرها وخيتام وخاتام، وجعل الحافظ الأخيرة في النظم بطريق القياس وكلام المصنف المذكور يخالفه (من ذهب في يد رجل) لم أقف على اسمه وراجعت «المبهمات» للمصنف فما تعرض له ولا في «شرح مسلم» (فنزعه فطرحه) فيه إزالة المنكر باليد للقادر عليها (وقال) محذراً من ذلك معيناً لعظم إثمه (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار) الأولى حمل مثله مما ورد في الكتاب أو السنة ولا يحيله العقل على ظاهره أي: أن هذا الخاتم قطعة نار في الآخرة، وإنه محمول على المجاز: أي: يئول بلابسه لعظيم إثمه على أن يجعل النار في محله، لأن الجزاء يكون على قدر الذنب وحسبه (فيجعلها في يده) أي: في أصبعه مجاز مرسل من إطلاق الكل وإرادة الجزء(2/479)
كقوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} (البقرة: 19) والمجعول الأنملة لا الأصبع كله. ولما كانت زينتها زينة لليد عبر به. قال وفي هذا التصريح بأن النهي عن خاتم الذهب للتحريم اهـ. قلت: قد يؤخذ منه أنه من الكبائر لشدة الوعيد فيه وكذلك معيارها على الصحيح (فقيل: للرجل بعد ما ذهب رسول الله) أي: انصرف من المجلس (خذ خاتمك) وقوله: (انتفع به) استئناف لبيان علة الأخذ: أي: ببيع أو هبة أو جعله لمن يحل له استعماله من امرأة (فقال لا وا لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله) .
قال المصنف: هذا منه فيه المبالغة في امتثال أمر النبي واجتناب نهيه وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة، وهذا الرجل ترك خاتمه على سبيل الإباحة لمن أراد أخذه من الفقراء أو غيرهم وحينئذٍ يجوز أخذه لمن شاء، فإذا أخذه جاز تصرفه ولو كان صاحبه أخذه لم يحرم عليه الأخذ والتصرف فيه بالبيع وغيره، ولكن تورّع عن أخذه وأراد الصدقة به على من يحتاج إليه لأن النبي لم ينهه عن التصرف فيه بكل وضع وإنما نهاه عن لبسه، وبقي ما سواه من تصرفه على الإباحة اهـ. (رواه مسلم) في اللباس. وفي مختصر إتحاف المهرة عن سالم عن رجل من قومه من أشجع قال: «دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليّ خاتم من ذهب، فأخذ جريدة فضرب بها في كفي فقال: اطرح هذا، فطرحته ثم دخلت عليه بعد ما ألقيته فقال لي: ما فعل الخاتم؟ قلت طرحته، قال: لم آمرك أن تطرحه إنما أمرتك أن تنتفع به ولا تطرحه» رواه أبو بكربن أبي شيبة وابن حنبل اهـ. قلت: وهو قريب من الحديث المذكور في مسلم.
192 - (التاسع: عن أبي سعيد الحسن) بن بشار (البصري) بتثليث الموحدة منسوب إلى البصرة الأنصاري مولاهم زيدبن ثابت، وقيل: مولى جميلبن قطبة، وأمه اسمها خيرة مولاة لأم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها. ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمربن الخطاب قالوا: فربما خرجت أمه في شغل فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها فيدرّ عليه فيرون تلك الفصاحة من ذلك. رأى طلحةبن عبيد الله وعائشة ولم يصح له سماع منهما. وقيل: إنه(2/480)
لقي عليبن أبي طالب، وأيده الشيخ ابن حجر الهيتمي في «معجمه» ، وقيل: يصح وعليه جرى جمهور المتأخرين. قال المصنف في «التهذيب» : روينا عن الفضيلبن عياض قال: سألت هشام ابن حسان: كم أدرك الحسن من أصحاب رسول الله؟ قال: مائة وثلاثين، قلت: وابن سيرين؟ قال: ثلاثين. وروينا عن الحسن قال: غزونا غزوة إلى خراسان معنا فيها ثلاثمائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. ولم يصح للحسن سماع من أبي هريرة، ومن حكم الحسن ما ذكره الشافعي في «المختصر» في قول الله عزّ وجل: {وشاورهم في الأمر} (آل عمران: 159) قال الحسن: كان غنياً عن مشاورتهم، ولكن أراد أن يستنّ به الحكام بعده، وقال في قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} (الأنبياء: 79) لولا هذه الآية لرأيت الحكام هلكوا، أثنى على هذا بصوابه وعلى هذا باجتهاده اهـ. ومن كلامه كما في «أحاسن المحاسن» : يابن آدم إنك لا تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك حتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك، فإذا فعلت ذلك لم تصلح عيباً إلا وجدت عيباً آخر، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحبّ العباد إلى الله من كان كذلك (أن عائذ) بالعين المهملة وبعد الألف همزة بعدها معجمة (ابن عمرو) بن هلال المزني، أبا هبيرة البصري، صحابي شهد الحديبية وبايع تحت الشجرة (رضي الله عنه) وهو أخو رافعبن عمرو، وتوفي في ولاية عبيد ابن زياد سنة إحدى وستين.
قال ابن الأثير: كان عائذ من صالحي الصحابة، سكن البصرة وابتنى بها داراً، وتوفي بها في إمارة عبيد ابن زياد أيام يزيدبن معاوية، وأوصى أن يصلي عليه ابن زياد، وروى عنه الحسن ومعاويةبن قسرة وعامر الأحول وغيرهم اهـ: قال الذهبي في «التهذيب» : روى حشرجبن عبد ابن حشرجبن عائذ المزني عن أبيه عن جده أن عائذبن عمرو كان يركب السروج المنمرة ويلبس الخزّ لا يرى بذلك بأساً، وقد زوّج في غزاة واحدة أربعين رجلاً من مزينة كل امرأة على ألف وصيف. قال ثابت البناني: أوصى عائذ أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي وذلك في إمرة عبيد ابن زياد اهـ. وكذا قال ابن الجوزي في «المستخرج» المليح وزاد: قال ابن حزم في آخر سيرته: روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث أخرج له الشيخان ثلاثة أحاديث: أحدها للبخاري موقوف عليه، وآخران لمسلم وشاركهما عنه النسائي (دخل علي عبيد ا) بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية (ابن زياد) ابن أبيه (فقال) يعظه (أي) بفتح فسكون: حرف لنداء القريب (بنيّ) بضم الموحدة(2/481)
وفتح النون وتشديد التحتية مفتوحة ومكسورة، وقد بينت وجههما في باب ما يقول إذا دخل بيته من «شرح الأذكار» ، وأتي به من باب الرفق في الوعظ ليسمع ويمتثل (إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) : جملة في محل الحال على حكاية الحال الماضية (إن شر الرعاء) بكسر الراء والمد، ويقال بضمها وبالهاء بعد الألف بدل الهمز جمع راع (الحطمة) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية.
قال المصنف: قالوا هو العنيف في رعيته لا يرفق بها في سوقها ومرعاها بل يحطمها في ذلك وفي سقيها، وغيره: ويزحم بعضها ببعض بحيث يؤذيها ويحطمها (فإياك) منصوب على التحذير (أن نكون منهم) فتهوى بتلك المذمة (فقال) ابن زياد (له) أي: لعائذ (اجلس فإنما أنت من نخالة) بضم النون وبعدها معجمة (أصحاب رسول الله) النخالة هنا استعارة من نخالة لدقيق وهي قشوره وهي والحتافة والحسافة بمعنى واحد (فقال) عائذ مستبعداً أن يكون في الصحابة من يستعار لهم النخالة التي لا يعبأ بها (وهل كانت فيهم) أي: الصحابة (نخالة) وهم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وشرّفهم باقتباس أنواره.
وإذا سخر الإله أناساً
لسعيد فكلهم سعداء
(إنما كانت النخالة) أي: السقط (بعدهم) أي: بعد قرنهم (وفي غيرهم) أما هم فكلهم سادة قادة يكفيك في فضلهم حديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ولا يضرّ ضعفه لأنه يعمل به في هذا المقام (رواه مسلم) في «المغازي» .
193 - (العاشر: عن حذيفة) بن اليمان (رضي الله عنه عن النبي قال: والذي نفسي بيده) أتي به لتأكيد الأمر بعده، والقسم يسن لمثل ذلك (تأمرنّ) بضم الراء والفاعل ضمير لجماعة(2/482)
محذوف بعدها لالتقاء الساكنين والضم دليل عليه، والخطاب لأمة الموجودين حقيقة ومن سيأتي بطريق التبع (بالمعروف) شرعاً (ولتنهون) بضم واو الجماعة ولام الفعل محذوف قبلها لالتقاء الساكنين والفتح دليل عليه ولم تقلب واو الضمير ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها لعروض حركتها (عن المنكر أو) عاطفة: أي: ليكون أحد الأمرين: إما امتثال ما أمرتم به من الأمر والنهي، أو وقوع ما أنذرتم به في قوله: (ليوشكنّ ا) بضم التحتية مضارع أوشك من أفعال المقاربة (أن يبعث عليكم عقاباً منه) بجور الولاة أو تسليط العداة أو غيره من البلاء (ثم تدعونه) برفع ذلك (فلا يستجاب لكم) لكون الحكمة الإلهية جعلته جزاء لما فرطتم فيه من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيه أن المنكر إذا لم ينكر عمّ شؤمه وبلاؤه فاعله وغيره، وتقدم حديث «أنهلك وفينا الصالحون» وأن إنكاره على قدر ما يتمكن منه دافع لذلك (رواه الترمذي) في «الفتن» (وقال حديث حسن) .
194 - (الحادي عشر: عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي قال: أفضل الجهاد) من الفضل زيادة الثواب (كلمة عدل) أي: حق (عند سلطان) أي: ذي أمر (جائر) سيأتي شرحه في الحديث بعده (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة وأحمد والترمذي والبيهقي في الشعب أيضاً عن طارقبن شهاب.
195 - (الثاني عشر: عن أبي عبد الله طارق) بمهملة أوله وبعد الألف راء مهملة بعدها قاف (ابن شهاب) بكسر المعجمة أوله وآخره موحدة، ابن عبد شمس أو عبد الله (البجلي) بفتحتين(2/483)
نسبة إلى بجيلة، وتقدم بيانها في ترجمة جرير البجلي في باب النهي عن البدع (الأحمسي) بالمهملتين نسبة لأحمسبن الغوثبن أنماربن أرءاسبن عمروبن الغوثبن كهلان. قال الحازمي: وإلى أحمس هذا ينسب جماعة من الصحابة والتابعين (رضي الله عنه) أدرك الجاهلية وصحب النبي، وغزا في زمن أبي بكر وعمر ثلاثاً وثلاثين أو ثلاثاً وأربعين غزوة. روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة، سكن الكوفة. وتوفي سنة اثنتين وقيل: سنة ثلاث وثمانين. روي له في أبي داود والنسائي أحاديث عن النبي عد منها الحافظ المزي في «الأطراف» خمسة، وسادساً رواه ابن مسعود عن النبي (أن رجلاً سأل النبي وقد وضع رجله في الغرز) جملة حالية من مفعول سأل كما هو المتبادر (أيّ الجهاد أفضل؟) أي: أكثر ثواباً (قال كملة حق) وفي نسخة «كلمة عدل» أي: من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ردّ عن محترم من نفس أو مال أو نحو ذلك (عند سلطان جائر) وإنما كان أفضل الجهاد لأنه يدل على كمال يقين فاعله وقوة إيمانه وشدة إيقانه حيث تكلم بتلك الكلمة عند ذلك الأمير الجائر المهلك عادة بجوره وظلمه ولم يخف منه ولا من جوره وبطشه، بل باع نفسه من الله وقدم أمر الله وحقه على حق نفسه، وهذا بخلاف المجاهد للقرن فإنه ليس في المخاطرة كمخاطرة من تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر (رواه النسائي) في البيعة والمنشط (بإسناد صحيح) رواه عن إسحاقبن منصور عن ابن مهدي عن سفيان عن علقمةبن مرثد عنه به قاله المزي في «الأطراف» (الغرز) المذكور في الحديث (بغين معجمة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم زاي وهو) لغة (ركاب كور الجمل) أي: محل الركوب من الكور. في «الصحاح» : الكور بالضم الرحل بأداته جمعه أكوار وكيران (إذا كان من جلد أو خشب، وقيل: لا يختص
بجلد وخشب) بل هو الكور مطلقاً مثل الركاب للسرج.(2/484)
196 - (الثالث عشر: عن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن أول ما دخل النقص) ما مصدرية: أي: أول دخوله (على بني إسرائيل) في دينهم (أنه) أي: الشأن (كان الرجل يلقى الرجل) الفاعل معصية (فيقول) معطوف على يلقى (يا هذا اتق ا) أي: اجعل امتثال أمره واجتناب نهيه وقاية لك من عذابه (ودع) اترك (ما تصنع) من المعاصي (فإنه) أي: ما تصنعه (لا يحل لك) لكونه من المحرمات (ثم يلقاه من الغد وهو على حاله) في المعصية (فلا يمنعه ذلك) أي: وجدان صاحبه ملازماً على المحرمات التي نهى عنها من (أن يكون أكيله) أي: مواكله (وشريبه) أي: مشاربه (وقعيده) أي: مقاعده: أي لا يمنعه ملازمة صاحب لما نهاه الله عنه وحرمه عليه من مصاحبته ومداخلته ومباسطته وهو مأمور بمهاجرته حينئذٍ وترك ولائه إلا أن خاف محذوراً فيداريه ولا يباسطه ويداخله (فلما فعلوا ذلك) المذكور، وأتى فيه باسم الإشارة الموضوع للبعيد تفخيماً لما أتوا به وتشيعاً له، أو لأن اللفظ لما لم يبق زمانين صار كالبعيد فأشير إليه بما يشار به إلى البعيد (ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال) مستدلاً على عموم اللعنة لجميعهم بقوله تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسىبن مريم} قال أبو حيان في «النهر» : قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإنجيل ولعن مبنى للمفعول حذف فاعله فيجوز أن يكون الفاعل غيره تعالى كالأنبياء، والمراد باللسان الجارحة لا اللغة أي الناطق بلعنتهم هو لسان داود وعيسى (ذلك) أي: اللعن كائن (بما عصوا) أي: بسبب عصيانهم، وذكر هذا على سبيل التوكيد، وإلا فقد فهم سبب اللعنة بإسنادها إلى من تعلق بهذا الوصف الدالّ على العلية وهو {الذين كفروا} تقول كما رجم الزاني، فتعلم أن سبب رجمه الزنى، كذلك
اللعن سببه الكفر، ولكن أكد بذكره ثانياً في قوله: {بما عصوا} أو ما مصدرية أي بعصيانهم(2/485)
( {وكانوا يعتدون} ) يجوز أن يكون معطوفاً على عصوا فيكون داخلاً في صلة «ما» أي: بعصيانهم وكونهم معتدين ويجوز أن يكون إخباراً من الله تعالى أن شأنهم الاعتداء ( {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ) ظاهره التفاعل بمعنى الاشتراك: أي: لا ينهي بعضهم بعضاً، وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به وعدم النهي عنه والمعصية إذا فعلت وقدّرت على العبد ينبغي أن يسترها، فإذا فعلت جهرة وتواطئوا على عدم إنكارها أو ما في معناها مما ذكر عن بني إسرائيل في الخير كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإفشائها ( {لبئس ما كانوا يفعلون} ) تعجب من سوء فعالهم مؤكد باللام.
قال في «الكشاف» : يا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المنكر وقلة عنايتهم به، كأنه ليس من خلة الإسلام مع ما يتلون من كتاب الله تعالى وما فيه من المبالغات في هذا الباب (ترى) بصرية ويحتمل أن تكون قلبية ( {كثيراً منهم} ) أي: بني إسرائيل ( {يتولون الذين كفروا} ) قيل: المراد به كعببن الأشرف وأصحابه الذين استجاشوا المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم} ) أي: لبئس سبباً قدموه ليردوا عليه يوم القيامة ( {أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} ) هو المخصوص بالذم، والمعنى موجب سخط الله والخلود في العذاب أو علة الذم، والمخصوص محذوف: أي: لبئس شيئاً ذلك لأن كسبهم السخط والخلود كذا في البيضاوي تبعاً «للكشاف» . وتعقبه في الإعراب الأول في «النهر» بأنه لا يأتي على مذهب سيبويه من أن «ما» معرفة تامة بمعنى الشيء فعليه فالجملة بعد صفة للمخصوص المحذوف والتقدير: ولبئس الشيء شيئاً قدمت لهم أنفسهم فيكون على هذا «أن سخط» في موضع رفع على البدل من المخصوص المحذوف أو على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي: هو أن سخط ( {ولو كانوا يؤمنون با والنبي} ) يعني نبيهم. وإن كانت الآية في المنافقين فالمراد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ( {وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} ) إذ الإيمان الصحيح يمنع ذلك ( {ولكن كثيراً منهم} ) من ذلك الكثير ( {فاسقون} ) خارجون عن دينهم أو تمردوا في النفاق: أي: وقليل منهم قد آمن (ثم قال) : (كلا) حقا (وا لتأمرنّ) بضم الراء (بالمعروف) شرعاً (ولتنهونّ) بفتح الهاء وضم واو الجمع الفاعل (عن المنكر) شرعاً (ولتأخذنّ) بضم الذال(2/486)
دليلاً على الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين (على يد الظالم) بمنعه باليد من الظلم، وإن عجزتم فباللسان (ولتأطرنه) بكسر الطاء وضم الراء: أي: لتردنه (على الحق) أداء وأخذاً (أطرا) بفتح الهمزة وأصل الأطر العطف. قال في «النهاية» : ومن غريب ما يحكى فيه عن نفطويه
أنه قال بالظاء المعجمة من باب ظأر، ومنه الظئر المرضعة، وجعل الكلمة مقلوبة فقدم الهمزة على الظاء (ولتقصرنه على الحق) أداء وأخذاً (قصراً) أي: لتحبسنه عليه حبساً وتمنعنه من مجاوزته: أي: ليكونن منكم ما ذكر (أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم) فأو لأحد الأمرين: أي: ليكونن منكم ما أمرتم به، أو ليكونن منكم ما حذرتم منه عند عدم فعل ذلك (رواه أبو داود) في «الملاحم» (والترمذي) في «التفسير» وابن ماجه في «الفتن» (وقال) أي: الترمذي (حديث حسن هذا) اللفظ المذكور (لفظ) رواية (أبي داود) فالإضافة إليه للملابسة (ولفظ) رواية (الترمذي) من حديث ابن مسعود (فقال) أي: ابن مسعود (قال رسول الله: لما) وجودية (وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم) عنها (فلم ينتهوا) عنها فكان على العلماء هجرهم وبغضهم فيه فلم يفعلوا ذلك بل حالفوهم كما قال (فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم بالمد وشاربوهم) أي: جلسوا معهم وأكلوا وشربوا (فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم) أبعدهم (على لسان داود) بن إيشا (وعيسىبن مريم ذلك) المذكور من اللعنة وضرب القلوب بعضها ببعض (بما عصوا وكانوا يعتدون) تقدم نظيره وظاهر جريانه هنا وظاهر أنه على تقدير كون «وكانوا» خارجاً عن صلة «ما» فيكون من كلام النبي لبيان أن الاعتداء وصفهم وشأنهم (فجلس رسول الله) تعظيماً للأمر الصادر منهم وتنبيهاً على فخامة شأنه ليتوجه إليه السامع (وكان متكئاً) يحتمل أن يكون على تكاة وأن يكون على مرفقه والجملة حالية بتقدير قد (فقال لا) أي: لا يكفي مجرد النهي باللسان مع القدرة على المنع باليد والقصر على الحق (والذي(2/487)
نفسي بيده) أي: بقدرته (حتى تأطروهم) أي: العصاة (على الحق أطراً. قوله تأطروهم) بالهمز وكسر الطاء المهملة (أي: تعطفوهم) وأصل: الأطر العطف (ولتقصرنه) بضم الصاد المهملة (أي لتحبسنه) والقصر: الحبس ومنه قوله تعالى:
{حور مقصورات في الخيام} (الرحمن: 72) .
197 - (الرابع عشر: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس) بضم السين إتباعاً للفظ: أي بتشديد الياء وهي وصلة لنداء ما فيه أل والناس اسم جنس وهو من ألفاظ العموم إذا حلى بأل كما هنا (إنكم تقرءون هذه الآية) ثم بينها بقوله: ( {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم} ) أي: وتتوهمون منها أن الإنسان إذا فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه في نفسه ورأى غيره بضد ذلك فلم يأمره ولم ينهه لا حرج عليه وليس كذلك، وفي رواية زيادة «وتضعونها على غير موضعها» (وإني سمعت رسول الله) كذا في النسخ بالواو وفي «المصابيح» : «فإني» بالفاء، قال العاقولي: الفاء فيه فصيحة تدل على محذوف كأنه قال: إنكم تقرءون هذه الآية وتجزون على عمومها وليس كذلك، فإني سمعت رسول الله (يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم) يفعل الظلم ومنه المعصية (فلم يأخذوا على يديه) بأن يمنعوه من ذلك باليد إن قدروا وإلا فباللسان، فإن عجزوا بأن خافوا على نفس محرمة أو مال أو أن يقع المنكر عليه في منكر أشد مما أراد فعله فلا حرج عليهم؛ فقوله: (أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) يقع على الظالم لظلمه وعلى غيره لإقراره عليه وقد قدر على منعه، أما المعذور فلا يتناوله بفضل اهذا المحذور {لا يكلف الله نفساً إلا(2/488)
وسعها} (البقرة: 44) والجملة خبر إن، والآية على هذا البيان عامة شاملة جميع الناس فيجب العمل بذلك.
قال العاقولي: والقول الصحيح أن الآية ليست مخالفة لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ المعنى: لا يضركم تقصير غيركم بعد سماع ذلك منكم فقد أديتم الواجب عليكم اهـ (رواه أبو داود) في «الملاحم» (والترمذي) في «الفتن» (والنسائي) في «التفسير» وابن ماجه في «الفتن» (بأسانيد صحيحة) قال المزي: رواه أبو داود عن وهببن منبه عن خالد الطحان وعن عمروبن عوف عن هشيم كلاهما عن إسماعيلبن أبي خالد الطحان عن قيسبن أبي حازم عن الصديق، ورواه الترمذي في «الفتن» عن أحمدبن منيع ومحمدبن بشار فرفعهما كلاهما عن يزيدبن هارون عن إسماعيل نحوه وقال: هكذا روى غير واحد نحو حديث يزيد، ورفعه بعضهم ووقفه بعضهم، وأعاد حديث ابن منيع في «التفسير» عن عقبةبن عبد الله عن ابن المبارك وابن ماجه في «الفتن» عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن عبد ابن نمير وأبي أسامة ثلاثتهم عن إسماعيل نحوه اهـ. فمدار سند الحديث عند الثلاثة الذين ذكرهم المصنف على إسماعيل فإسناد الحديث واحد، ولعل قول المصنف الأسانيد بالنسبة لأصحاب الكتب الثلاثة إلى إسماعيل، والله أعلم.
24 - باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أو نهي عن منكر وخالف قوله
بالرفع (فعله) بالنصب أي كان أمره مخالفاً لفعله، ويجوز العكس.
(قال الله تعالى) عما لا يليق بشأنه علوّاً كبيراً معيراً لليهود قال في «النهر» : وبنو(2/489)
إسرائيل وإن كانوا المخاطبين بالآية إلا أنها عامة في المعنى ( {أتأمرون الناس} ) استفهام توبيخ وتقريع (بالبرّ) فعل الخير من صلة رحم وإحسان وطاعة الله تعالى ( {وتنسون أنفسكم} ) تتركونها من ذلك البرّ ( {وأنتم تتلون الكتاب} ) تقرءونه عالمين بما انطوى عليه فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم وخالفتموه وأنتم تتلونه، وهي حالية أبلغ من المفرد، والكتاب: التوراة والإنجيل وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم ( {أفلا تعقلون} ) تنبيه على أن ما صدر منهم خارج عن أفعال العقلاء، إذ مركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل مصلحة نفسه كيف يحصل لغيره ولاسيما مصلحة يكون فيها نجاته، والفاء للعطف وكان الأصل تقديمها لكن الهمزة لها صدر الكلام فقدمت على الفاء، هذا مذهب سيبويه والنحاة. وذهب الزمخشري إلى أن الفاء واقعة موضعها ويقدر بين الهمزة والفاء فعلاً يصح العطف بالفاء عليه، وحكم الواو وثم حكم الفاء فيما ذكر. وقد رجع الزمخشري في بعض تصانيفه إلى موافقة الجماعة اهـ من النهر ملخصاً.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} ) قال البيضاوي: روي أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فأنزل الله تعالى {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله} فولوا يوم أحد فنزلت. ولم مركبة من لام الجر وما الاستفهامية، والأكثر على حذف ألفها مع حرف الجر لكثرة استعمالهما معاً واعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه ( {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} ) المقت: أشد البغض وهو نصب على التمييز للدلالة على أن قولهم لهذا مقت خالص كبير عند من يحقر دونه كل عظيم مبالغة في المنع عنه.
(وقال تعالى إخباراً) مخبراً (عن شعيب) بن منكيلبن يشجببن مدينبن إبراهيم الخليل (صلى ا) على نبينا و (عليه) وعلى سائر النبيين (وسلم) وفيه الصلاة على كل نبي، وقد ورد مرفوعاً «صلوا على(2/490)
أنبياء الله فإنهم أرسلوا كما أرسلت» رواه الطبراني وما ذكرته من نسب شعيب هو ما نقله المصنف في «التهذيب» عن الثعلبي عن عطاء وغيره. وقال ابن الجوزي في «شذوذه» : هو شعيببن عنقاءبن بويببن مدينبن إبراهيم ( {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} ) أي: وما أريد أن آتي بما أنهاكم عنه لأستبد به، فلو كان صواباً لأثرته ولم أعرض عنه فضلاً عن أني أنهي عنه، يقال خالفت زيداً إلى كذا: إذا قصدته وهو مولّ عنه، وخالفته عنه: إذا كان الأمر بالعكس.
1981 - (وعن أبي زيد أسامةبن زيدبن حارثة) الصحابي ابن الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) الأولى عنهم لما ذكر من أن جدّه صحابي أيضاً وقد تقدم التنبيه على ذلك في باب الصبر (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يؤتى بالرجل) أل فيه للجنس (يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه) أي: تخرج أمعاؤه من جوفه، والاندلاق بالقاف: خروج الشيء من مكانه (فيدور) ذلك الرجل (بها) أي: فيها (كما يدور الحمار في الرحى) كأنه أراد أن الرجل يدور فتلتف عليه أمعاؤه فيبقى هكذا يدور وهي تدور عليه عبرة ونكالاً، والأظهر أن المراد أنه يدور بسبب ألم خروجها منه حوله دوران الحمار حول الرحى بسببها، اللهم ربنا قنا عذاب النار (فيجتمع إليه أهل النار) أي: الذين بها ونسبتهم إليها باعتبار هذه الملابسة متعجبين من دخوله النار وقد كان يأمرهم بما يبعدهم منها (فيقولون: يا فلان) كناية عن اسمه (مالك؟) مبتدأ وخبر (ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟) ومن شأن الآمر أن يفعل ما يأمر به والناهي أن يترك ما نهى عنه، وفعل المعروف وترك المنكر مانع بالوعد الذي لا يخلف عن دخول النار (فيقول بلى) جواب عن قولهم ألم تك الخ، وبين المقتضى لحلوله بالنار بقوله: (كنت آمر بالمعروف ولا آتية، وأنهى عن المنكر وآتيه) فشدد عليه الأمر لعصيانه مع العلم المقتضي للخشية والمباعدة عن المخالفة، وا غالب على(2/491)
أمره، ولا حول ولا قوّة إلا با (متفق عليه) رواه البخاري في صفة النار وفي «الفتن» ، ورواه مسلم في آخر الكتاب.
(قوله تندلق هو بالدال المهملة: ومعناه تخرج، والأقتاب) بالقاف والفوقية وبعد الألف موحدة (الأمعاء) جمع معي (واحدها) أي: مفردها (قتب) قال العاقولي: بكسر القاف وسكون الفوقية هذا قول الكسائي فيما نقله عنه الجوهري قال: قال أبو عبيدة: القتب ما انحوى من البطن وهي الحوايا، وأما الأمعاء فهي الأقصاب اهـ.
25 - باب الأمر بأداء الأمانة إلى صاحبها
(قال الله تعالى) : {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} ) قال في «النهر» بعد أن نقل أن سبب نزول الآية قصة مفتاح الكعبة. وعن ابن عباس وغيره: نزلت في الأمراء وأن يؤدوا الأمانة فيما أئتمنهم الله من أمر رعيته. ومناسبتها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين وذكر عمل الصالحات نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة: فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة. والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى، وهر من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين. ولما كانت الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المصالح ودفع المضار ثم يشتغل بحال غيره، أمر بأداء الأمانة ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق.
(وقال تعالى) : {إنا عرضنا الأمانة} ) قال في «النهر» : الظاهر أنها كل ما يؤمن عليه من أمر ونهي وشأن(2/492)
من دين ودنيا، فالشرع كله أمانة والظاهر عرض الأمانة أي الأوامر والنواهي ( {على السموات والأرض والجبال} ) فتثاب إن أحسنت وتعاقب إن أساءت ( {فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} ) وذلك بإدراك خلقه الله تعالى فيها وهو غير مستحيل، إذ قد سبح الحصى في كفه، وحنّ إليه الجذع، وكلمته الذراع، فيكون العرض والإباء والإشفاق على هذا حقيقة. قال ابن عباس: أعطيت الجمادات فهما وتمييزاً فخيرت في الحمل وذكر الجبال مع أنها من الأرض لزيادة قوتها وصلابتها تعظيماً للأمر، وقيل: المراد الإشارة إلى كمال عظمها وأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها وأشفقن منها (وحملها الإنسان) مع ضعف بنيته ورخاوة قوته، لا جرم فإن لاراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين (إنه كان ظلوما) وصفه به لكونه تاركاً أداء الأمانة (جهولاً) بكنه عاقبتها. وفي الآية وجوه أخر ذكر بعضها القاضي البيضاوي.
1991 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: آية) بالمد. واختلف في وزنها على ستة أقوال تقدم في شرح خطبة الكتاب أنه ذكرها ابن الصائغ في «شرح البردة» : أي: علامة (المنافق) أي: علامة نفاقه الدالّ على قبح نيته وفساد طويته (ثلاث) أي: خصال، وأفرد الآية على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، ويؤيد الأول أنه جاء في «صحيح أبو عوانة» «علامات المنافق ثلاث» . فإن قيل: ظاهر الحديث الحصر في الثلاث، وقد جاء في الحديث الآخر «أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً» .
فالجواب ما قاله القرطبي: لعله تجدد له من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. وقال الحافظ العسقلاني: لا منافاة بين الخبرين لأنه لا يلزم من عدّ الخصلة كونها علامة، على أن في رواية لمسلم في حديث أبي هريرة ما يدل على عدم الحصر، فإن لفظه: من علامة المنافق ثلاث، فيكون أخبر ببعضها في وقت وببعضها في وقت آخر (إذا حدث كذب) الجملة خبر بعد خبر أو بدل مما قبله بدل مفصل من مجمل بتقدير سبق العطف على الإبدال وهذه الخصلة أقبح الثلاث(2/493)
(وإذا وعد) يخير (أخلف) أي: لم يف وبوعده. ووجه المغايرة بين هذه وما قبلها أن الإخلاف قد يكون بالفعل وهو غير الكذب الذي هو وصف القول، ثم محله فيمن عزم على الخلف حال الوعد، أما لو عزم على الوفاء حال الوعد ثم شنعته الأقدار من ذلك فلا يكون فيه آية النفاق نقله السيوطي وغيره، ولا يلزم مما ذكر وجوب الوفاء بالوعد، لأن ذم الإخلاف إنما هو من حيث تضمنه الكذب المذموم لأنه عزم على الإخلاف في حال الوعد على أن علامة النفاق لا يلزم تحريمها، إذ المكروه لكونه يجر إلى الحرام يصح أن يكون علامة على الحرام، ونظيره أشراط الساعة فإن منها ما ليس بمحرم (وإذا أؤتمن خان) وخص هذه الخصال بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي عليها مبني النفاق من مخالفة السرّ العلن. والكذب الإخبار على خلاف الواقع، وحق الأمانة أن تؤدي إلى أهلها والخيانة مخالفة لها، والإخلاف في الوعد ظاهر ولذا صرح بأخلف (متفق عليه) روياه في كتاب الإيمان ورواه الترمذي والنسائي.
(وفي رواية) هي لمسلم فقط (وإن صام وصلى) أي: وإن عمل عمل المؤمنين من الصوم والصلاة وغيرهما من العبادات، وهذا الشرط اعتراض بين الآيات المجملة ومفسرها المفصل وارد للمبالغة لا يستدعي الجواب، وتسمى إن فيه وصلية والواو الداخلة عليها قيل حالية، وعليه جرى السعد التفتازاني في المطول، وقيل: عاطفة. وفي رواية «وإن صلى وصام وحج واعتمر وقال إني مسلم» (وزعم أنه مسلم) أي: كامل الإسلام. قال القرطبي: ظاهر الحديث أن من كانت فيه عدة الخصال الثلاث صار في النفاق الذي هو الكفر الذي قال فيه مالك: النفاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الزندقة عندنا اليوم، وليس الأمر على مقتضى هذا الظاهر لما قررناه أول كتاب الإيمان: أي: من أن المعاصي لا تخرج الإنسان عن الإيمان. ولما استحال حمل هذا الحديث على ظاهره على مذهب أهل السنة اختلف العلماء فيه على أقوال: فقيل المراد من النفاق نفاق العمل: أي صفاتهم الفعلية. ووجه ذلك أن من فيه هذه الصفات كان ساتراً لها ومظهراً لنقائضها صدق عليه اسم منافق. أو قيل الحديث محمول على من غلبت عليه هذه الخصال واتخذها عادة ولم يبال بها تهاوناً واستخفافاً بأمرها، فإن من كان هكذا كان فاسد الاعتقاد غالباً فيكون منافقاً.(2/494)
وقيل: إن هذه الخصال كانت علامة المنافق في زمنه، فإن أصحاب النبيّ كانوا مجتنبين لهذه الخصال بحيث لا تقع منهم ولا تعرف فيما بينهم، وبهذا قال ابن عباس وابن عمرو، روي عنهما ذلك في حديث «أنهما أتيا يسألانه عن هذا الحديث فضحك النبي وقال: مالكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين أنتم من ذلك برآء» ذكر الحديث بطوله القاضي عياض، قال: وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة اهـ.
2002 - (وعن حذيفةبن اليمان) بضم المهملة وفتح المعجمة وسكون التحتية بعدها فاء كما تقدم مع ترجمته (رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين) يعني في الأمانة وإلا فروايات حذيفة كثيرة، وعنى بالحديثين قوله: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال والثاني قوله: ثم حدثنا عن رفع الأمانة (قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر) وقوع (الآخر) الأول من الحديثين (حدثنا أن الأمانة) قال المصنف: الظاهر أن المراد بها التكليف الذي كلف الله به عباده والعهد الذي أخذه عليهم وهي التي في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} وقال صاحب «التحرير» : هي عين الإيمان، فإذا استمكنت من قلب العبد قام حينئذٍ بأداء التكاليف واغتنم ما يرد عليه منها وجد في إقامتها (قد نزلت) بالفطرة (في جذر) سيأتي ضبطه ومعناه في الأصل (قلوب الرجال) أي: في أصلها (ثم نزل القرآن) شفاء من أدواء الجهل مزيحاً لظلم الشبه (فعلموا) أي: علموها (من القرآن) بآية {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض} (وعلموا) أي: علموها (من السنة) بالحديث المذكور.u
والحاصل أن الأمانة كانت لهم بحسب الفطرة وحصلت لهم أيضاً بطريق الكسب من الكتاب والسنة (ثم حدثنا) هو الحديث الثاني كما تقدم (عن رفع الأمانة) من العالم (فقال: ينام الرجل النومة) المرة من النوم (فتقبض الأمانة من قلبه) لسوء فعل منه تسبب عنه ذلك قال الله تعالى: {إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11) ويحتمل أن ذلك لانتهاء(2/495)
مدتها فيالعالم (فيظل أثرها مثل الوكت) قال الهروي: هو الأثر اليسير، وعليه اقتصر المصنف فيما سيأتي. وقال غيره: هو سواد يسير، وقيل: هو لون يحدث مخالفاً للون الذي كان قبله (ثم ينام النومة فتقبض لأمانة) أي: أثرها التام المشبه بالوكت (من قلبه فيظل أثرها) الباقي (مثل أثر المجل) والمجل (كـ) أثر (جمر دحرجته على رجلك فنفط) بكسر الفاء، وذكر مع أن الرجل مؤنثة لإرادة العضو (فتراه) أي: النفط (منتبراً) أي: مرتفعاً افتعال من النبر الارتفاع، ومنه المنبر: ويجوز كون الظرف بدلاً من قوله: «مثل أثر المجل» وخالف بين لفظي أداة التشبيه تحاشياً عن نقل التكرار وجملة (وليس فيه شيء) حالية (ثم) قصد بيان كيفية دحرجة الجمر على الرجل وتنفطها منه فـ (أخذ حصاة فدحرجه على رجله) .
قال المصنف: هكذا وقع في أكثر الأصول فدحرجه وهو صحيح: أي: دحرج المأخوذ. وفي رواية «فأخذ حصى فدحرجه» قال المصنف: هكذا ضبطناه وهو ظاهر، وما سلكته من أن الوكت ثم المجل هنا الأثران الباقيان من أثر الأمانة هو ظاهر اللفظ، لكن قال صاحب «التحرير شرح مسلم» : معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئاً فشيئا، فإذا زال أول جزء منها زال نوره وخلفه ظلمة كالوكت وهو أعراض لون مخالف اللون الذي قبله، فإذا زال شيء آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر ويبقى النفط وأخذه الحصاة ودحرجته إياها أراد به زيادة البيان والإيضاح والله أعلم، وما فسرناه به أظهر والعلم عند الله تعالى (فيصبح الناس) بعد تلك النومة التي رفع فيها الأمانة (يتبايعون فلا يكاد) أي: يقارب (أحد) منهم (يؤدي الأمانة) فضلاً عن أدائها بالفعل (حتى) غائية (يقال) لعزة هذا الوصف وشهرة ما تيصف به (إن في بني فلان رجلاً أميناً) ذا أمانة (حتى يقال للرجل ما أجلده) على العمل (ما أظرفه) من الظرف (ما أعقله) أي: ما أشد يقظته وفطانته (وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) فضلاً عن الأمانة التي هي من شعبه (ولقد أتى عليّ)(2/496)
بتشديد التحتية (زمان وما أبالي أيكم بايعت) المراد المبايعة المعروفة ونقل عياض وصاحب «التحرير» أن المراد عقد بيعة الخلافة وغيرها من التحالف في أمور الدين قال المصنف: هذا خطأ من قائله.
وفي الحديث مواضع تبطله، منها قوله: ولئن كان يهودياً أو نصرانياً، ومعلوم أن اليهودي والنصراني لا يعاقد على شيء من أمور الدين اهـ والجملة حالية، وعائد أي محذوف، أي: لا أبالي بالذي بايعته لعملي بأن الأمانة لم ترتفع وأن في الناس وفاء بالعهد، فكنت أقدم على مبايعة من لقيت غير باحث عن حاله وثوقاً بالناس وأمانتهم فإنه وا (لئن كان مسلماً ليردنه) بفتح الدال (عليَّ دينه) لما يحمله على أداء الأمانة لأهلها وترك الخيانة (وإن كان نصرانياً أو يهودياً) ليس عنده من الإيمان ما يحمله على أداء الأمانة لأهلها (ليردنه عليَّ ساعيه) أي: الوالي عليه: أي يقوم بالأمانة فيستخرج حقي منه (وأما اليوم) فقد ذهبت الأمانة إلا القليل فلذا قال: (فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً) يعني أفراداً أعرفهم وأثق بهم. قال الكرماني: إن قلت رفع الأمانة ظهر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما وجه قول حذيفة: وأنا أنتظر الثانية. قلت: المنتظر هو الرفع بحيث يبقى أثرها مثل المجل ولا يصح الاستثناء بمثل فلاناً وفلاناً، وهذا الحديث من أعلام النبوة (متفق عليه) رواه البخاري في «الرقاق» و «الفتن» والاعتصام، ورواه مسلم في «الإيمان» ، ورواه الترمذي وابن ماجه في «الفتن» كذا في «الأطراف» للمزي (قوله: جدر بفتح الجيم) قال المصنف: وكسرها لغتان. قال القاضي عياض: مذهب الأصمعي في الحديث فتح الجيم وأبو عمرو بكسرها وإسكان الذال المعجمة مع الوجهين في الجيم (وهو أصل الشيء، والوكت) بوزن الفلس (بالناء المثناة الأثر اليسير، والمجل: بفتح الميم وإسكان الجيم وفتحها لغتان حكاهما صاحب «التحرير» والمشهور الإسكان فلذا اقتصر عليه المصنف هنا، يقال مجلت يده بكسر الجيم تمجل بفتحها مجلاً بفتحها أيضاً ومجلت بفتح الجيم تمجل بضمها مجلاً بإسكانها لغتان مشهورتان وأمجلها غيره. قال أهل اللغة والغريب: المجل (تنفط في اليد ونحوها من أثر عمل) بفأس أو نحوها وتصير
كالقبه فيه ماء قليل.
(قوله(2/497)
منتبراً) اسم فاعل: أي: مرتفعاً (قوله ساعيه: الوالي عليه) .
2013 - (وعن حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله: يجمع) بالبناء للفاعل ومرجع الضمير هو الله تعالى وقد صرح به في نسخة، وقوله: (تبارك) أي: بارك (وتعالى) علواً معنوياً عما لا يليق بشأنه جملة في محل الحال و (الناس) مفعول: بجمع أي: يجمعهم بعد البعث بأرض المحشر (فيقوم المؤمنون) أي: دون الكفار، ويحتمل أن يكون معهم المنافقون ثم يميزوا عند المرور على الصراط (حتى تزلف) بضم الفوقية وسكون الزاي وفتح اللام: أي: تقرب (لهم الجنة) قال تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين} (فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة) أي: اسأل لنا من الله فتحها لندخلها (فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم) .
قال المصنف في باب إثبات الشفاعة من «شرح مسلم» : اعلم أن العلماء من أهل الفقه والأصول وغيرهم اختلفوا في جواز المعاصي على الأنبياء. وقد لخص القاضي عياض مقاصد المسألة فقال: لا خلاف أن الكفر عليهم بعد النبوة ليس بجائز بل هم معصومون منه. واختلف فيه قبل النبوة والصحيح أنه لا يجوز؛ وأما المعاصي فلا خلاف أنهم معصومون من كل كبيرة. واختلف هل ذلك بطريق العقل أو الشرع؟ فقال الأستاذ أبو إسحاق ومن معه: ذلك ممتنع من متقضى دليل المعجزة. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني ومن وافقه: ذلك من طريق الإجماع. وذهب المعتزلة إلى أن ذلك من طريق العقل، وكذلك اتفقوا على أن كل ما كان طريقه الإبلاغ في القول فهم معصومون فيه على كل حال. أما ما كان من طريق الإبلاغ في الفعل فذهب(2/498)
بعضهم إلى العصمة فيه رأساً وأن السهو والنسيان لا يجوز عليهم فيه، وتأولوا أحاديث السهو في الصلاة، وهذا مذهب الأستاذ أبي المظفر الإسفراييني من أئمتنا الحراسانيين المتكلمين وغيره من مشايخ المتصوفة. وذهب بعض المحققين وجماهير العلماء إلى جواز ذلك ووقوعه منهم وهذا هو الحق، ثم لا بد من تنبيههم عليه وذكرهم إياه إما في الحين على قول جمهور المتكلمين، وإما قبل وفاتهم على قول بعضهم ليبينوا حكمه قبل انخرام مدتهم وليصح تبليغهم ما أنزل إليهم، وكذا لا خلاف أنهم معصومون من الصغائر التي تزري بفاعلها أو تحط منزلته أو تسقط مروءته. واختلفوا في وقوع غيرها من الصغائر؛ فذهب جماعة من أهل التحقيق والنظر من الفقهاء والمتكلمين من أئمتنا إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر، فإن منصب النبوة يجلّ عن مواقعتها وعن مخالفة الله عمداً، وتكلموا على الآيات والأحاديث الواردة في ذلك وتأولوها، وأن ما ذكر عنهم في ذلك إنما هو فيما كان منهم عن تأويل أو سهو أو من غير إذن من الله تعالى في أشياء أشفقوا من المؤاخذة بها وهذا المذهب هو الحق، وأنه لو صح منهم ذلك لم يلزمنا الاقتداء
بأفعالهم وإقرارهم وكثير من أقوالهم، ولا خلاف في الاقتداء بذلك، وإنما اختلاف العلماء في أنه واجب أو مندوب أو مباح أو يفرق بين القرب وغيرها.
قال القاضي: وقد بسطنا القول في هذا الباب في كتاب «الشفاء» وبلغنا فيه المبلغ الذي لا يوجد في غيره، وتكلمنا على الظواهر في ذلك بما فيه كفاية اهـ. قلت: وقد ألف في عصمة الأنبياء وتأويل الآيات الظاهرة في خلاف ذلك الصابوني البخاري كتاباً حافلاً (لست بصاحب ذلك) أي: لست صاحب التشريف بهذا المقام المنيف. قال القاضي عياض: هذا المنقول عن آدم وغيره من الأنبياء يقولونه تواضعاً وإكباراً بما يسألونه. وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس له بل لغيره، وكل واحد منهم يدل على الآخر حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه، ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد معيناً وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في ذلك إلى نبينا. قال: وفيه تقديم ذوي الأسنان والآباء على الأبناء، والحكمة في إلهامهم سؤال آدم والبدء به ثم من بعده واعتذار كل بأنه ليس أهل ذلك ليظهر كمال شرفه على سائر الرسل، إذ لو جاءوا إليه وأجابهم وأجيب لهم لم يظهر كمال التمييز إذ كان احتمال أن هذا الأمر له ولغيره من الرسل، فلما تأخر كل عن ذلك وتقدم هو له علم أنه السيد المقدم (اذهبوا إلى نبي الله إبراهيم خليل الرحمن) أصل الحلة الاختصاص والاستصفاء، وقيل: أصلها الانقطاع إلى من خاللت، مأخوذة من الخلة: الحاجة؛ تسمى إبراهيم بذلك لأنه قصر حاجته على الله(2/499)
تعالى. وقيل: الحلة صفاء المودة التي توجب تخلل الأسرار؛ وقيل: معناه المحبة والإلطاف، هذا كلام القاضي عياض. قال المصنف: وقال ابن الأنباري: معناه المحبّ الكامل المحبة والمحبّ الموفي بحقيقة المحبة اللذان ليس في حبهما نقص ولا خلل. قال الواحدي: هذا القول هو الاختيار لأن الله عزّ وجلّ خليل إبراهيم وإبراهيم خليلالله، ولا يجوز أن يقال الله
تعالى خليل إبراهيم من الخلة التي هي الحاجة، والله أعلم (فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك) المقام (وإنما كنت خليلاً من وراء وراء) قال المصنف: قال صاحب «التحرير» : هذه كلمة تذكر على سبيل التواضع: أي: لست بتلك الدرجة الرفيعة. وقد وقع لي فيه معنى مليح: هو أن معناه أن المكارم التي أعطيتها كانت بسفارة جبريل (اعمدوا) اقصدوا (إلى موسى فإنه كلمه الله تكليماً) فحصل له السماع بلا واسطة، وكرّر وراء لكون نبينا حصل له السماع بغير واسطة وحصل له الرؤية فقال إبراهيم: أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد، هذا كلام صاحب «التحرير» .
قال المصنف: وأما ضبط وراء وراء فالمشهور فيه الفتح بلا تنوين، ويجوز عند أهل العربية بناؤهما على الضم، وقد جرى في كلام بين الحافظ أبي الخطاببن دحية والإمام أبي اليمن الكندي، فرواه ابن دحية بالفتح وادعى أنه الصواب. وأنكره الكندي وادعى أن الضم هو الصواب ولذا قال أبو البقاء: الصواب الضم لأن التقدير من وراء ذلك أو من وراء شيء آخر. قلت: قال القرطبي: الأولى بنيت على الضم لقطعها عن الإضافة لفظاً، وأما الثانية فيحتمل أن تكون كالأولى على تقدير حذف «من» لدلالة الأولى عليها: ويحتمل أن يكون الثانية تأكيداً لفظياً للأولى، ويجوز أن تكون بدلاً منها أو عطف بيان اهـ. قال: فإن صح الفتح قبل، وتكون الكلمة مؤكدة كشذر مذر وسقطوا بين بين فركبهما وبناهما على الفتح فإن ورد منصوباً منوّناً جاز جوازاً جيداً. قال المصنف: ونقل الجوهري عن الأخفش أنه يقال: لقيته من وراء، مرفوع على الغاية كقولك من قبل ومن بعد، قال الشاعر:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن
لقاؤك إلا من وراء وراء
بضمها، والله أعلم. وقال القرطبي في «المفهم» : صحيح الرواية فيه بالمد والفتح في الهمزتين، ونقل عن أصل شيخه أبي الصبر أيوب أنه من وراء وراء، بتكرير وراء وفتح الهمزة فيهما. قال: قد اعتنى بهذا الكتاب يعني صحيح مسلم أتم الاعتناء قال:(2/500)
وحينئذٍ فيحتمل أن وراء قطعت عن الإضافة ولم يقصد قصد مضاف بعينه فصارت كأنها اسم علم وهي مؤنثة، قال الجوهري: إنها مؤنثة لأنهم قالوا في تصغيرها ورية، وعلى هذا فهمزتها ليست للتأنيث ولأن ألف التأنيث لا تقع ساكنة اهـ (فيأتون موسى فيقول: لست بصاحب ذلك) المقام (اذهبوا إلى عيسى) قال البيضاوي في «التفسير» : عيسى معرّب أيسوع، وجعله مشتقاً من العيس وهو بياض تعلوه حمرة تكلف لا طائل تحته (كلمة ا) بفتح فكسر على الأفصح، وأطلق ذلك على عيسى لأنه وجد بأمره تعالى وهو قوله: «كن» دون أب، فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر ذكره البيضاوي. وقال الحافظ ابن حجر: قيل: له ذلك إشارة إلى أنه حجة الله على عباده إذ أوجده من غير أب وأنطقه في غير أوان وأحيا الموتى على يده وقيل: سمي كلمة الله لأنه أوجده بقوله: «كن» فلما كان بكلامه سمي به كما يقال سيف الله وأسدالله، وقيل: لما قال في صغره {إني عبد ا} (مريم: 30) اهـ. (وروحه) قيل: سمي بذلك لأنه يحيي الأموات أو القلوب، وقيل: إنه على تقدير مضاف، والمعنى: أنه ذو روح من الله عزّ وجلّ لا بتوسط ماء يجري مجرى الأصل والمادة له (فيقول عيسى) أي: بعد أن يأتوا إليه ويسألوه ذلك. ففي الكلام مطوي يدل عليه السياق (لست بصاحب ذلك) المقام والباء مزيدة للتأكيد (فيأتون محمداً) أي: لدلالة عيسى عليه الصلاة والسلام لهم على ذلك كما جاء في الروايات الأخرى، ففيه مطوي دلّ عليه ما تقدم، وثم مطويّ أيضاً تقديره: فيقولون يا رسول الله استفتح لنا الجنة مثلاً أو اشفع لنا في الإراحة من طول المواقف كما جاء في الروايات الأخرى (فيقوم) أي: إلى تحت العرش ويسجد تحته ويفتح عليه بمحامد
يحمد الله بها حينئذٍ لم يفتح عليه بها قبل (فيؤذن له) في الشفاعة (وترسل) بضم الفوقية أوله مبيناً للمجهول (الأمانة والرحم) بفتح الراء وكسر المهملة: أي: القرابة التي تطلب صلتها شرعاً (فيقومان) بالمثناة الفوقية (جنبتي الصراط) بفتح الجيم وسكون النون وفتح الموحدة والفوقية: أي: جانبيه.
قال المصنف وإرسالهما لعظم أمرهما وكبر موقعهما فيصوران شخصين على الصفة التي يريدها الله تعالى. قال: وقال صاحب «التحرير» : في الكلام اختصار والسامع فهم أنهما يقومان ليطالبا من يريد الجواز بحقهما (فيمر(2/501)
أولكم) أيها المخاطبون، والمراد الأمة وهم أولها وأولاها بالفضل (كالبرق) أي: كمرّ البرق (قال) أي: أحد الروايين عن النبي (بأبي وأمي) أي: أنت مفدى بهما (أي شيء كمرّ البرق) أي: ما معناه وكيف سرعته (قال ألم تروا) بفتح التاء تبصروا (كيف يمرّ) أي: آتيا (ويرجع) آتيا (في طرفة عين) أي: وقوع الجفن على الجفن المسمى برمش البصر وهو زمن يسير جداً. وفي «الصحاح» : وطرف بصره بطرف طرفاً: إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر الواحدة من ذلك طرفة، يقال أسرع من طرفه عين اهـ. وفي «الكشاف» في قوله تعالى: {أنا آتيك به قبل يرتدّ إليك طرفك} (النمل: 40) ويجوز أن يكون هذا مثالاً لاستقصار مدة المجيء به كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وفي ردة طرف وما أشبه ذلك تريد السرعة، وفي «تفسير البيضاوي» وهذا غاية في الإسراع وملل فيه اهـ (ثم) للتراخي في الرتبة أي ثم الفرقة التي تلي الفرقة الأولى (كمر الريح ثم) الفرقة التالية لها (كمرّ الطير وأشد الرجال) بالجيم جمع راجل قال: هو الصحيح المعروف المشهور. ونقل القاضي أنه في رواية ابن ماهان بالحاء.
قال القاضي: وهما متقاربان في المعنى، وشدها: عدوها البالغ وجريها (تجري بهم أعمالهم) قال المصنف: هو كالتفسير لقوله: «فيمر أولكم كالبرق» والمعنى: أنكم في سرعة السير على حسب المراتب والأعمال (ونبيكم) لكمال شفقته ومزيد عنايته بنا معشر أمته (قائم على الصراط) لتنجو به أمته من المخاوف وتصرف به عنها أنواع المكاره والمتالف (يقول) لما في المرور على الصراط من الأحوال وزلّ بعض الأقدام، وهو حال بناء على مجيئه من المبتدأ وهو ما عليه سيبويه، أو خبر بالجملة بعد الخبر بالمفرد، ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال تقديره ما يكون منه حال قيامه يومئذٍ فأجيب بقوله يقول (ربّ) حذف حرف النداء لأن المقام لعظم هو له مقام الإيجاز. وفي رواية لمسلم في حديث آخر في المعنى «ودعوى الرسل يومئذٍ اللهم» (سلم سلم) ولعله تارة يقول ربّ وتارة يقول اللهم سلم سلم. وفي نسخة: ربّ سلم بإعادة لفظ ربّ قال المصنف: فيه أن الدعاء يكون بحسب المواطن فيدعو في كل موطن بما يليق به. وسلم بفتح أوله المهمل وتشديد(2/502)
اللام المسكورة (حتى تعجز) بكسر الجيم (أعمال العباد) بالمتخلفين عن الإسراع في الصراط: أي: تضعف أعمالهم الصالحة عن سرعة المرور بهم عليه فيبطئون في السير وحيت في الخبر غائبة: أي يتفاوت الإسراع بحسب تفاوت الأعمال إلى أن تصل لمرتبة عجز الأعمال عن الإسراع بصاحبها، لكن فيها قوة حمله على السير وإلى أن تضعف فوق ذلك كما قال: (وحتى يجيء الرجل لا يستطيع السير) أي: على الصراط (إلا زحفاً) لفقد قوة العمل الحاملة على السير، والمراد من الزحف السير على الإست.
قال السيوطي في «الدرر» : زحف الرجل انسحب على إسته اهـ. قلت: وفي رواية لمسلم «حتى يمرّ آخرهم يسحب سحباً» (وفي حافتي الصراط) بتخفيف الفاء أي جانبيه (كلاليب) جمع كلوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة وهو حديدة معقوفة الرأس يعلق عليها اللحم ويرسل في التنور. وقال صاحب «المطالع» : هي خشبة في رأسها عقافة حديد، وقد تكون حديداً كلها ويقال لها أيضاً كلاب اهـ (معلقة) أي: بالصراط (مأمورة بأخذ من أمرت) بالبناء للمفعول ونائب الفاعل يعود إلى الكلاليب و (به) متعلق بأمرت يحتمل أن يكون على حقيقته بأن خلق لها إدراك وأمرت بأخذ من أمرت به. ويحتمل أن يكون على تصغيرها لأخذ من يؤخذ بها، ثم الواو في «وفي حافتي» يحتمل أن تكون واو الحال، ويحتمل العطف/ «ومعلقة مأمورة» الظاهر أنهما مرفوعان صفة لكلاليب، وكذا هو مضبوط في الأصل ولو نصبا على الحال المترادفة أو المتداخلة لجاز لتخصيص الكلاليب بتقديم خبرها الظرف إلا أن صحت الرواية بالرفع (فمخدوش) أي: بشيء مما يعلق به في الصراط (ناج) أي: من النار، وهو بمعنى قوله في الروايات الأخرى: «ومخدوش مرسل» فالمراد نجاته من العذاب الذي حل فيه قسيمه المذكور في قوله (ومكردس في النار) . الله
وقال المصنف: كذا وقع في هذا الحديث «مكردس» بالراء ثم الدال المهملتين، والذي في باقي الروايات مكدوس بضم الدال المهملة بعدها واو قال: وهو قريب من معنى المكردس «ومكردس» بالسين المهملة في الأصول ومعناه كون الأشياء بعضها على بعض، ومنه تكردست الدابة في سيرها: إذا ركب بعضها بعضاً. ونقل القاضي عياض هذه الرواية عن أكثر الرواة ثم قال: ورواه العذري بالشين المعجمة ومعناه السوق (والذي نفس أبي هريرة بيده) أي: بقدرته وإرادته، وهذا مدرج من كلام أبي هريرة متصل(2/503)
بآخر الحديث، وجواب القسم (إن قعر جهنم لسبعون خريفاً) .
قال المصنف في «شرح مسلم» : هو في الأصول بالواو، وهذا ظاهر وفيه حذف وتقديره: إن مسافة قعر جهنم سير سبعين خريفاً. ووقع في معظم الأصول والروايات لسبعين بالياء وهو صحيح أيضاً؛ أما على مذهب من يحذف المضاف ويبقي المضاف إليه على جره فيكون التقدير: سير سبعين خريفاً، وأما على أن قعر مصدر يقال قعرت الشيء: إذا بلغت قعره، ويكون «سبعين» ظرف زمان وفيه خبر إن: التقدير: إن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفاً. والخريف سنة اهـ. قلت: وهو فيما وقفت عليه من نسخ الرياض بالياء التحتية وقد علمت وجهه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام نكتة تسمية السنة بالخريف (رواه مسلم) في آخر كتاب الإيمان من «صحيحه» وانفرد به البخاري وأصحاب السنن (قوله) في الحديث (وراء وراء هو بالفتح فيهما) على أنهما ظرفان ركبا فبنيا على الفتح تخفيفاً، ومثله قول العرب: هو يأتينا صباح مساء، وأما وجه النصب والتنوين اللذين قال فيهما المصنف إن وردت بهما الرواية جاز جوازاً جيداً فهو أن كلاً منهما ظرف (وقيل بالضم بلا تنوين) بناء على أنه من أسماء الغايات لحذف المضاف إليه ونية معناه (ومعناه لست بـ) صاحب (تلك الدرجة الرفيعة) وتقدم بسط الكلام في ذلك.
قال صاحب «التحرير» : (وهي كلمة تذكر على سبيل التواضع) : أي: لست بتلك الدرجة (وقد بسطت معناها في شرح صحيح مسلم) وقد قدمته عنه وذيلته بفوائد عن القرطبي (والله أعلم) .
2024 - (وعن أبي خبيب: «بضم الخاء المعجمة» ) أي: وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها موحدة كنية عبد ابن الزبير، كني: بأكبر أولاده.
قال العلقمي في «حاشية الجامع الصغير» : وله ثلاث كنى ذكرها البخاري في التاريخ وآخرون: أبو خبيب، وأبو بكر، وأبو بكير بالتصغير(2/504)
اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر، كان يكنيه بأبي خبيب من لا يريد تعظيمه، لأنه كني في الأول بكنية جده لأمه الصديق اهـ (عبد ابن الزبير) بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها راء (ابن العوام) بن خويلدبن أسدبن عبد العزىبن قصي (القرشي الأسدي) المكي المدني الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) أمه ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأبوه الزبير أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وحواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدته صفية عمة النبيّ ورضي الله عنها، وعمة أبيه حذيجة بنت خويلد أم المؤمنين، وخالته عائشة أم المؤمنين، وهو أول مولود ولد للمهاجرين إلى المدينة بعد الهجرة، وفرح المسلمون بولادته فرحاً شديداً لأن اليهود كانوا يقولون قد سحرناهم فلا يولد لهم فأكذبهم الله تعالى، وحنكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمرة لاكها، فكان ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول شيء دخل جوفه، وكناه أبا بكر بكنية جده الصديق وسماه عبد الله باسمه، ولد بعد عشرين شهراً من الهجرة وقيل في السنة الأولى. وكان صوّاماً قوّاماً طول الليل، وصولاً للرحم، عظيم الشجاعة. بويع له بالخلافة لما مات يزيدبن معاوية وأطاعه أهل اليمن والحجاز والعراق وخراسان، وجدد عمارة الكعبة، وبقي في الخلافة إلى أن حصره الحجاجبن يوسف الثقفي بمكة أول ليلة من ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين، وحجّ الحجاج بالناس ولم يزل محاصره إلى أن قتله شهيداً يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وقيل في نصف جمادى الآخر، وقيل سنة اثنتين وسبعين، والمشهور الأول، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وثلاثون حديثاً، اتفقا على ستة، وانفرد مسلم بحديثين.
فائدة: قال المصنف في «التهذيب» : عبد ابن الزبير هو أحد العبادلة الأربعة، وهم ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمروبن العاص، قاله أحمدبن حنبل وسائر المحدثين وغيرهم. قيل لأحمدبن حنبل: وابن مسعود؟ ليس هو منهم.
قال البيهقي: لأنه تقدمت وفاته وهؤلاء عاشوا طويلاً حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اتفقوا على شيء قيل هذا قول العبادلة، ويلحق بابن مسعود فيما ذكر سائر المسلمين بعبد الله من الصحابة وهو نحو مائتين وعشرين. وقول الجوهري في «صحاحه» ابن مسعود أحد العبادلة وأخرج ابن العاص غلط نبهت عليه لئلا يغترّ به اهـ.
زاد في «المبهمات» له: وكيف يعارض بقوله قول الإمام أحمد وغيره اهـ. وفي العبادلة أقوال أخر ذكرها السخاوي في «شرح ألفية الحديث» ، قال: وممن جرى على عدّ ابن مسعود من العبادلة ابن هشام النحوي في «التوضيح» . قلت: لكن أول اللقاني عبارة «التوضيح» بما تنبو عنه عبارته.
وحاصله أن مراده بالعبادلة المفهومون من تلك الأسماء لا(2/505)
العبادلة المشهورون، قال: فلا يرد أن ابن مسعود ليس من العبادلة، تأمل (قال لما وقف الزبير يوم الجمل) أي: الوقعة المشهورة التي كانت بين عليبن أبي طالب ومن معه وبين عائشة ومن معها ومن جملتها الزبير، ونسبت الوقعة إلى الجمل لأن يعلىبن أمية الصحابي المشهور كان معهم، فأركب عائشة على جمل عظيم اشتراه بمائة دينار وقيل: بثمانين وقيل: بأكثر فوقف به في الصف، فلم يزل الذين معها يقاتلون حول الجمل حتى عقر الجمل فوقعت عليهم الهزيمة، وكان ذلك في جمادى الأولى أو الآخرة سنة ستّ وثلاثين. واسم ذلك الجمل عسكر (دعاني فقمت إلى جنبه) الفاء فيه عاطفة على محذوف: أي: فأجبته فأتيت فقمت إلى جانبه (فقال: يا بني) بكسر الياء المشددة وفتحها، ذكره المرادي في «شرح الخلاصة» ، وذكر المصنف في أواخر كتاب الأدب من «شرح مسلم» جواز إسكان الياء قال: وبالحركتين قرىء في السبع، وقرأ بعضهم بإسكانها وبني بضم الموحدة وفتح النون مصغر، وقد بسطت الكلام فيه في باب «ما يقول إذا دخل بيته» من «شرح الأذكار» (إنه لا يقتل) بالبناء للمفعول (اليوم إلا ظالم أو مظلوم) .
قال ابن التين: لأنهم إما صحابي متأول فهو مظلوم، وإما غير صحابي قاتل لأجل الدنيا فهو ظالم.
قال الكرماني: إن قيل جميع الحروب كذلك. فالجواب أنها أول حرب وقعت بين المسلمين.
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن تكون «أو» للشك من الراوي، وأن الزبير إنما قال أحد اللفظين أو للتنويع: أي لا يقتل اليوم إلا ظالم بمعنى أنه ظن أن الله يعجل للظالم منهم العقوبة أو لا يقتل اليوم إلا مظلوم، إما لاعتقاده أنه كان مصيباً وإما لأنه سمع ما سمع عليّ من الحديث المرفوع «بشر قاتل ابن صفية بالنار» رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح، ووقع عند الحاكم من طريق أخرى في هذا الحديث مختصراً عن هشامبن عروة عن الزبير قال: «وا لئن قتلت لأقتلنّ مظلوماً، وا ما فعلت وما فعلت» يعني: أشياء من المعاصي، ثم كان خروج الزبير وطلحة وغيرهما من كبار الصحابة مع عائشة لطلب قتلة عثمان وإقامة الحدّ عليهم لا لقتال عليّ، لأنه لا خلاف أنه كان أحقّ بالإمامة من جميع أهل زمانة وكانت قتلة عثمان لجئوا إلى عليّ فرأى أنه لا يسلمهم للقتل حتى تسكن الفتنة وتجري الأمور على ما أحبّ، فكان ما جرى به القلم من الأمور التي قدرت فوقعت؛ ولذا قال الزبير لما رأى شدة الأمر وأنهم لا ينفصلون إلا عن قتال (وإني لا أراني) بضم الهمزة: أي لا أظنني (إلا سأقتل اليوم مظلوماً) .
قال الحافظ ابن حجر: ويجوز فتحها بمعنى الاعتقاد، وذلك الأمر قد تحقق لأنه قتل غدراً بعد أن ذكّره(2/506)
عليّ فانصرف عن القتال، فنام بمكان ففتك به رجل من بني تميم يقال له: ابن جرموز بضم الجيم والميم بينهما راء مهملة ساكنة وآخرى زاي، وكان ذلك بوادي السباع.
وروى الحاكم من طريق متعددة أن علياً ذكرّ الزبير بأن النبيّ قال له: «لتقاتلنّ علياً وأنت له ظالم» فرجع لذلك منصرفاً (وإن من أكبر همي لديني) وفي رواية غثام: «انظر يا بني ديني فإنه لا أدع شيئاً أهمّ منه عليّ» (أفترى) أي: تظن (أن ديننا يبقى من مالنا شيئاً) قاله استكثاراً لما عليه وإشفاقاً من دينه. وفيه الوصية عند الحرب لأنها من أسباب الموت كركوب البحر (ثم قال: يا بنيّ بع ما لنا واقض) بهمزة وصل (ديني وأوصى بالثلث) أي ثلث ماله: أي الفاضل عن قضاء الدين (وثلثه) أي ثلث الثلث (لبنيه يعني لبني عبد ا) .
قال الكرماني وتبعه الشيخ زكريا: أوصى بالثلث الفاضل مطلقاً وبثلث الثلث لحفدته أولاد عبد الله اهـ.
وقال الحافظ: فسر وصيته: أي بالثلث وثلثه بقوله (قال) أي الزبير (فإن فضل) بفتح الضاد المعجمة أي بقي (من مالنا بعد قضاء الدين شيء فثلثه لبنيك) والثلث بضمتين.
قال الحافظ: وضبطه بعضهم بتشديد اللام بصيغة الأمر من التثليث وهو أقرب.
ووقع في المصابيح للدماميني: وأوصى بالثلث من ثلثه لبنيه، قال الدماميني: إنما أوصى بثلث الثلث لبني ولده عبد الله، فالضمير في بنيه عائد إليه، ثم بنى عليه استشكال قوله فإن فضل فثلثه لبنيك بأن مقتضاه صرف الثلث الفاضل لولده عبد الله، وسبق منه التصريح بأن الموصى به لهم ثلث الثلث. وأجاب بأن المراد فإن فضل بعد الدين شيء يصرف لجهة الوصية فثلثه لولدك اهـ. والذي شرح عليه الحافظ وأوصى بالثلث وثلثه بالواو (قال عبد ا) بن الزبير (فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بنيّ إن عجزت) بفتح الجيم أفصح من كسرها (عن قضاء شيء منه فاستعن عليه بمولاي) أي: با عزّ وجلّ وعنه كمال الوثوق بالمولى والاستعانة به في كل حال (فوا ما دريت) أي عرفت (ما أراد) أي: بقوله استعن عليه بمولاي، إذ هو يحتمل ما ذكر أولاً، ويحتمل ولاء الحلف وولاء العتاقة: أي بالذين أعتقهم ونحو ذلك، إذ لفظ المولى مشترك(2/507)
بين عدة معان كالناصر وابن العم والمعتق والعتيق والحليف وقد ذكرها في «النهاية» (حتى قلت) مستفسراً (يا أبت) بكسر التاء الفوقية وفتحها (من مولاك؟ قال: ا) أي: الله مولاي فالخبر محذوف، ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفاً ولفظ الجلالة خبر (قال) عبد الله (فوا ما وقعت في كربة) بضم الكاف وسكون الراء: الحزن الذي يأخذ بالنفس ويجمع على كرب (من) تعليلية، ويحتمل كونها للابتداء (دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه) أي: يسهل ما يحصل به القضاء. وفيه أن من استعان بمولاه في الأمور فهو المعان (قال: فقتل) بالبناء للمجهول (الزبير ولم يدع) يترك (ديناراً ولا درهماً إلا أرضين) استثناء منقطع، وأرضين بفتح الراء قاله الدماميني فهو جمع أرض بسكونها جمع تكسير (منها الغابة) بغين معجمة وباء موحدة: أرض عظيمة شهيرة من عوالي المدينة.
وقال الحافظ ابن حجر: كذا وقع فيه «منها» بالإفراد وصوابه «منهما» وهذا منه يقتضي أن أرضين مثنى أرض فيكون بسكون الراء وفتح الضاد، وبه يتعقب ضبط الدماميني بفتح الراء:
فإن القول ما قالت حذام
خصوصاً وقد ذكر الدماميني أنه في «المصابيح» لم يجد ما يستضيء به فيها مما يضبط به الروايات للغربة وفقد الكتب وأرباب الفن (وإحدى عشرة داراً بالمدينة ودارين بالبصرة) بتثليث الموحدة وإسكان الصاد وتحرك بفتحة وبكسرة كما في «القاموس» : وهو اسم لبلدة مشهورة مصّرها عمربن الخطاب (وداراً بالكوفة) بلدة معروفة مصّرها عمر أيضاً.
قال المصنف في «التهذيب» : قيل سميت بذلك لاستدارتها، تقول العرب: رأيت كوفاناً وكوفة: للرمل المستدير، وقيل: لاجتماع الناس من قول العرب تكوّف الرمل: إذا ركب بعضه بعضاً، وقيل: لأن طينها خالطه حصى وكل ما كان كذلك فهو كوفة.
قال الحازمي وغيره: ويقال للكوفة كوفان بضم الكاف وإسكان الواو آخره نون، وذكر ابن قتيبة في غريبه في كوفان ضم الكاف وفتحها (وداراً بمصر) ممنوع الصرف على الأفصح الذي جاء فيه القرآن للعلمية والتأنيث، وهي البلد المعروف، وحدها طولاً من برقة التي في جنوب البحر الرومي إلى أيلة، وعرضاً من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الرومي، سميت بذلك باسم من سكنها أولاً مصربن(2/508)
ينصربن سامبن نوح. ثم بعد بيان مخلفات أبيه المستبعد بل الحال لولا إعانة الله برفع أسعارها قضاء ذلك الدين الكثير الذي عليه من ذلك استأنف مبيناً لوجه دين الزبير ولجمع ذلك القدر الذي عليه بقوله (وإنما كان دينه الذي كان عليه أنّ) بفتح الهمزة (الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا) أي: لا أستودعه وذلك لما يعلم من نفسه من مزيد الكرم فيخشى أن ينفق لما تعوّده من الكرم من المال المودع عنده، وإن كان مثل ذلك لا يصدر منه لكنه سد الذريعة وقفل الباب من أصله، وأن ومعمولاها خبر كان الأولى واسم كان الثالثة ضمير يعود للرجل وخبره جملة يأتيه (ولكن هو سلف) بفتح أوليه: أي قرض، وقوله: (إني أخشى عليه الضيعة) أي: الضياع جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لعدوله عن قبول استيداعه إلى استسلافه، والضياع المتخوف يحتمل أن يكون خشية إنفاقه على مستحق لما اعتاده من الكرم كما تقدم وأن يكون باختلاس مختلس أو سرقة سارق، فيضيع على صاحبه لعدم ضمان الزبير حينئذٍ وقد وضعه في حرز مثله فأراد حفظ مال المستودع واستقراره في ذمته.
وقال الحافظ: وكأن غرضه بذلك أنه كان يخشى على المال أن يضيع فيظن به التقصير في حفظه؛ فرأى أن يجعله مضموناً ليكون أوثق لصاحب المال وأبقى لمروءته.
زاد ابن بطال: وليطيب ربح ذلك المال. وروى الزبيربن بكار أن كلاً من عثمان وعبد الرحمنبن عوف ومطيعبن الأسود وأبي العامربن الربيع وعبد ابن مسعود والمقدادبن عمرو أوصى إلى الزبيربن العوام (وما ولي إمارة) أي ولاية وهو بكسر الهمزة كذا ضبطه الشيخ زكريا في «تحفة القارىء» لكن في «مختصر القاموس» مصدر أمر علينا إمارة: إذا ولي مثلث الهمزة اهـ (قط) بفتح القاف وضم الطاء المهملة ظرف لاستغراق النفي فيما مضى (ولا جباية) بكسر الجيم: استخراج الأموال من مظانها كما في «النهاية» (ولا خراجاً) أي: خراج أرض، فلا ينافي ما رواه الزبيربن بكار، قال: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وروى مثله يعقوببن سفيان من وجه آخر (ولا شيئاً إلا أن يكون في غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم) .
قال الحافظ ابن حجر: مراده أن كثرة ماله ما حصلت من هذه الجهات المقتضية لظن السوء بأصحابها، بل كان كسبه الغنيمة ونحوها.
قال الحافظ:(2/509)
هو متصل بإسناد الحديث المذكور (قال عبد الله: فحسبت) بفتح السين المهملة وبباء موحدة وكان ذلك بعد موته شهيداً (ما كان عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، فلقي حكيم) بالرفع فاعل وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف (ابن حزام) بكسر المهملة وبالزاي، وكل ما كان في قريش فهو بهذا الضبط، وما كان رسمه في نسب الأنصار بهذه الصورة فبفتح أوليه المهملين.
قال المصنف في أول «شرح مسلم» : وحزامبن خويلدبن أسدبن عبد العزي فهو ابن عمر الزبير (عبد ابن الزبير فقال: يا ابن أخي) خاطبه بذلك لصغر سنه بالنسبة إليه، إذ كان لحكيم من العمر حينئذٍ نحو مائة عام وعبد الله نحو الأربعين (كم) استفهامية وتمييزها محذوف أي: كم ألفاً أو نحو ذلك (على أخي من الدين؟ فكتمته وقلت: مائة ألف) .
قال ابن بطال: إنما كتمه لئلا يستعظم حكيم ما استدانه فيظن به عدم الحزم وبعبد الله عدم الوفاء بذلك فينظر إليه بعين الاحتياج إليه، فلما استعظم حكيم أمر مائة ألف كما قال عنه (فقال حكيم: وا ما أرى) بضم الهمزة: أي أظن (أموالكم تسع هذه) أي: الديون، احتاج عبد الله أن يذكر له الجميع ويعرفه أنه قادر على وفائه (فقال عبد الله: أرأيتك) بفتح التاء المثناة الفوقية: أي: أخبرني والكاف حرف خطاب أكد به الضمير (إن كانت) أي: الديون (ألفي ألف ومائتي ألف) .
قال ابن بطال: ليس في قول مائة ألف وكتمانه ما فوقها كذب لأنه إخبار ببعض الواقع وسكوت عن الباقي وهو صادق.
قال الحافظ: لكن من يعتبر بمفهوم العدد يراه إخباراً بغير الواقع، ولذا قال ابن التين في كتمان عبد الله ما كان على أبيه بعض تجوز اهـ. (قال: ما أراكم) بضم الهمزة: أي أظنكم ويجوز فتحها أي: ما أعتقدكم (تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي) .
قال الحافظ ابن حجر: روى يعقوببن سفيان من طريق عبد ابن المبارك أن حكيمبن حزام بذل لعبد ابن الزبير مائة ألف إعانة له على وفاء دين أبيه فامتنع، فبذل له مائتي ألف فامتنع إلى أربعمائة ألف، ثم قال له: لم أرد منك هذا، ولكن تنطلق معي إلى عبد ابن جعفر، فانطلق به وبعبد ابن عمر يستشفع بهم، فلما دخلوا عليه قال: أجئت بهؤلاء تستشفع بهم(2/510)
عليّ؟ هي لك: لا أريد ذلك، قال: فأعطني بها نعليك هاتين أو نحوهما، قال: لا أريد، قال: فهي عليك إلى يوم القيامة، قال لا قال: فحكمك، قال: أعطيك بها أرضاً، فقال نعم، فأعطاه فرغب فيها معاوية فاشتراها بأكثر من ذلك (قال: وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف) كأنه قسمها ستة عشر سهماً بدليل أنه قال بعد ذلك لمعاوية: إنها وقّمت كل سهم بمائة ألف (ثم قال فقال من كان له على الزبير شيء) أي: من الدين (فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد ابن جعفر) أي: ابن أبي طالب (وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد ا) أي ابن الزبير (إن شئتم تركتها لكم) أي آل الزبير: أي ورثته (فقال عبد ا) أي: ابن الزبير (لا) أي: لا نريد ذلك (قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون) من الديون (إن أخرتم) أي شيئاً منها (فقال عبد الله لا، قال: فاقطعوا) بفتح الطاء المهملة ووصل الهمزة وبقطع الهمزة وكسر الطاء أي: اجعلوا (لي قطعة) من الغابة فـ (ــــقال عبد ا) بن الزبير (لك من هاهنا إلى هاهنا) .
قال العلقمي في حاشية «الجامع الصغير» : روي أن ابن الزبير قال لابن جعفر: أحبّ لا يحضرني وإياك أحد، فانطلق فمضي معه فأعطاه أرضاً خراباً وشيئاً لا عمارة فيه وقوّمه عليه، حتى إذا فرغ قال ابن جعفر لغلامه، ألق لي مصلى في هذا المكان، فألقاه في أغلظ موضع فصلى فيه ركعتين وسجد طويلاً يدعو، فلما قضى ما أراد من الدعاء قال لغلامه: احفر في موضع سجودي، فحفر فإذا عين فوّارة قد أنبطها، فقال له ابن الزبير: أقلني، فقال له: أما دعائي فقد أجابه الله ولا أقيلك، فصار ما أخذه أعمر مما في أيدي آل الزبير (فباع عبد الله منها) أي: الغابة والدور لا من الغابة وحدها لما تقدم أن الدين ألفا ألف ومائتا ألف فإنه باع الغابة بألفي ألف وستمائة ألف (فقضى عنه دينه) الذي كان التزم ابن الزبير بعد موت أبيه (وأوفاه) أصحابه (وبقي منها) أي: الغابة (أربعة أسهم ونصف فقدم على معاوية) أي: في خلافته كما جزم به الحافظ ابن حجر، وأن ذلك كان بعد مدة انتظار أرباب الديون وما اتصل به من تأخير(2/511)
القسمة لاستبراء بقية من له دين (وعنده عمروبن عثمان) بن عفان (والمنذربن الزبير) بن العوام (وعبد ابن زمعة) بفتح الزاي وسكون الميم وبعدها مهملة (فقال له معاوية: كم قوّمت الغابة؟) برفع الغابة، فقومت مبني للمجهول ونصبها مع بنائه للمعلوم (فقال: كل سهم) بالرفع والنصب: أي: قوم أو قومت كل سهم (مائة) بالنصب على نزع الخافض: أي بمائة ألف (قال: كم بقي منها؟ قال: أربعة أسهم ونصف؟ فقال المنذر: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال عمروبن عثمان: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال عبد ابن زمعة: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي) بكسر القاف (منها) كما في نسخة: أي: الغابة أو السهام الباقية وهو أقرب (فقال) أي: عبد ابن الزبير، ويحتمل أن يكون غيره (سهم ونصف) أي: الباقي ذلك فالمبتدأ محذوف أو بقي منها ذلك فيكون فاعل فعل مقدر (فقال: قد أخذته بخمسين ومائة
ألف، قال) ابن الزبير (وباع عبد ابن جعفر نصيبه) من السهام في الغابة (من معاوية بستمائة ألف) فربح مائتي ألف (فما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه) الذي عرفه وضبطه (قال بنو الزبير) وهم: عبد الله وعروة والمنذر وأمهم أسماء بنت أبي بكر، وعمر وخالد وأمهما بنت خالدبن سعيدبن العاص، ومصعب وحمزة وأمهما الرباب بنت أنيف، وعبيدة وجعفر وأمهما زينب بنت بشر وزينب وأمها أم كلثوم بنت عقبة وباقي أولاد الزبير ماتوا قبله (اقسم بيننا ميراثنا، قال: وا لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم) بفتح الميم وكسر المهملة وسكون الواو بينهما (أربع سنين: ألا) بتخفيف اللام (من كان له دين على الزبير فليأتنا فلنقضه، فجعل كل سنة ينادي في الموسم) أي بقوله: «من كان له دين(2/512)
على الزبير فليأتنا نقضه» .Y
قال الحافظ ابن حجر: ومثل هذا يتوقف على إجازة جميع الورثة، وإلا فمن طلب القسمة بعد وفاء الدين الذي وقع العلم به وصمم على ذلك أجيب إليها ولم يتربص به انتظار شيء يتوهم، فإذا ثبت دين بعد ذلك استعيد منه بقدره. والذي يظهر أن ابن الزبير إنما اختار التأخير أربع سنين لأن المدن الواسعة التي يؤتى الحجاز من جهتها إذ ذاك كانت أربعاً: اليمن والعراق والشام ومصر، فبنىٍ على أن كل قطر لا يتأخر أهله في الغالب عن أكثر من ثلاثة أعوام فيحصل استيعابهم في مدة الأربع، ومنهم في طول المدة من يبلغ الخبر من وراءهم من الأقطار، واختار الموسم لأنه يجمع الناس من الآفاق (فلما مضى أربع سنين) فيه تجوّز لأنه إن عد موسم سنة ست وثلاثين فلم تؤخر ذلك إلا ثلاث سنين ونصفاً وإن لم يعده فقد أخر ذلك أربع سنين ونصفاً ففيه إلغاء الكسر أو جبره (قسم) بعد الدين الوصية (بينهم ودفع الثلث) أي الموصى به (وكان للزبير أربع نسوة) أي: مات عنهن وهن أم خالد والرباب وزينب قيل: وعاتكة بنت زيد أخت سعيدبن زيد أحد العشرة، وأما أسماء وأم كلثوم فكان طلقهما، وقيل: أعاد أسماء وطلق عاتكة فقتل وهي في عدته فصولحت عن ربع الثمن بثمانين ألفاً (فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف) هذا باعتبار أصل نصيب كل منهن ورد عليهم الباقي من سهم المصالحة أربعمائة ألف اقتسمنها بينهن.
قال الحافظ أبو عبد الله البخاري صاحب الصحيح (فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف) .
قال ابن بطال وعياض وغيرهما: هذا غلط في الحساب.
قال الكرماني: لأنه إذا كان الثمن أربعة وثمانمائة ألف فالجميع ثمانية وثلاثون ألف ألف وسبعة آلاف ألف وستمائة ألف، وإن اعتبرته مع الدين فهو خمسون ألف ألف وتسعة آلاف ألف وثمانمائة ألف، فعلى التقادير كلها الحساب غير صحيح.
ثم قال الكرماني: قلت لعل الجميع عند وفاته هذا المقدار الذي قاله البخاري ثم زاد من غلة أمواله في هذه الأربع سنين إلى ستين ألف ألف إلا مائتي ألف اهـ.
وحاصله أن ما ذكره من نصيب كل من الزوجات باعتبار ما يجمع من غلال الأموال في السنين الأربع، وما ذكره من الجملة باعتبار حالة الموت والله أعلم.
قال الحافظ ابن حجر بعد نقله عن الحافظ شرف الدين الدمياطي: وهذا توجيه في غاية الحسن لعدم تكلفه ولتبقية الرواية الصحيحة على وجهها، وقد تلقاه الكرماني فذكره ملخصاً ولم ينسبه لقائله ولعله من توارد الخواصر والله أعلم اهـ. قلت: رأيت بخط(2/513)
الحافظ نجم الدينبن فهد في تذكرته نقلاً عن خط الدمياطي ما يخالف ما نقله عنه في «الفتح» ولفظه: روى ابن سعد في «الطبقات» حديث الزبير هذا بنحو حديث البخاري وطوّله، غير أنه خالفه في موضع واحد وهو قوله: أصاب كل امرأة من نسائه ألف ألف ومائتا ألف على دينه ووصيته وورثته، وإنما يصح قسمتها أن لو كان لكل امرأة ألف ألف فيكون الثمن أربعة آلاف ألف، فتصح قسمة الورثة من اثنين وثلاثين ألف ألف ثم يضاف إليها الثلث ستة عشر ألف ألف فتصير الجملتان ثمانية وأربعين ألف ألف، ثم يضاف إليها الدين ألفا ألف ومائتا ألف فصارت الجملة كلها خمسين ألف ألف ومائتا ألف ومنها تصح. ورواية ابن سعد تصح من خمسة وخمسين ألف ألف، ورواية البخاري تصح من تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف، فيجوز أن يكون المراد بقوله فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف قيمة تركته عند موته، لا ما زاد عليها بعد موته من غلة الأرضين والدور في مدة أربع سنين قبل قسمة التركات. ويدل عليه ما رواه الواقدي عن أبي بكربن سبرة عن هشام عن أبيه قال: كان قسمة ما ترك الزبير على أربعين ألف ألف. وروى ابن سعد عن القعنبي عن ابن عيينة قال: قسم ميراث الزبير على أربعين ألف ألف. وذكر الزبيربن بكار في بني عدي عاتكة بنت زيد زوج الزبير، وأن
عبد ابن الزبير بعث إليها بثمانين ألف درهم فقبضتها وصالحت عليها، وبين قول الزبير هذا وقول غيره بون بعيد، والعجب منه مع سعة علمه وتنفيره عنه كيف خفي عليه توريث آبائه وأحوال تركاتهم اهـ.
قلت: لا عجب فإنها صولحت عن ربع الثمن بما دفع إليها لا أن ذلك ربع ثمن مال الزبير حتى يخالف كلام غيره، والله أعلم (رواه البخاري) في أبواب فرض الخمس.
26 - باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم
هو لغة: وضع الشيء في غير محله. وشرعاً: التصرف في حق الغير بغير حق، أو مجاوزة الحد (والأمر برد المظالم) بأعيانها إن بقيت فإن تلفت فيبدلها من مثل في المثلى والقيمة في المقوم (إلى أصحابها) إن بقوا وإلا فللوارث، فإن فقد المستحق ولو بانقطاع(2/514)
خبره بحيث أيس من حياته أرسلها لقاض أمين ولو غير قاضي بلده فيما يظهر، فإن تعذر تصدق بها على الفقراء بنية الغرم إذا وجده كما في الوديعة أو تركها عنده، وبحث الإسنوي أنه يتخير بين وجوه المصالح كلها وهو ظاهر، وإلى ترجيحه يومىء كلام العزّبن جماعة وغيره وزاد: إن له التصرف لنفسه من نفسه إن وجد فيه شرطه، وعليه يدل كلام الغزالي في «نطيره» ، قال: ويجب عليه فيه الاقتصار على الأمر الوسيط، وقيد ابن جماعة ذلك بعلمه بالأحكام الشرعية.
قال ابن حجر الهيتمي: وظاهر أنه غير شرط، وإنما شرط تصرفه فيه علمه بجواز صرفه إليه. وكنفسه عياله الذين تلزمه مؤنتهم.
(قال الله تعالى) شأنه عما لا يليق ( {ما للظالمين من حميم} ) قريب مشفق ( {ولا شفيع يطاع} ) ولا شفيع يشفع ووضع الظالمين موضع «هم» للدلالة على اختصاص هذا الأمر بهم وأنه لظلمهم.
(وقال تعالى) : {وما للظالمين من ولي ولا نصير} ) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض والتلاوة {والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير} أي يدعهم الله بغير وليّ ولا نصير في عذابه، وفي سورة الحج {وما للظالمين من نصير} فلعل زيادة «من وليّ» من قلم الناسخ وتحريف النقلة.
(وأما الأحاديث) النبوية (فمنها حديث أبي ذرّ) جندببن جنادة الغفاري (المتقدم في آخر باب المجاهدة) وبه ختم ذلك الباب.
2031 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا الظلم) أي: اجتنبوا ظلم(2/515)
العباد ومنهم النفس، وظلمها بمنعها حقها أو إعانتها على معصية الله وإطاعتها فيها (فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) .
قال القاضي عياض: هو على ظاهره، فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا، كما أن المؤمن يسعى بنور هو مسبب عن إيمانه في الدنيا، قال تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} (الحديد: 12) اهـ. قيل ويحتمل أن الظلمات هنا الشدائد وبه فسر قوله تعالى: {قل من ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر} (الأنعام: 63) ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات.
قال الطيبي: قوله على ظاهره يوهم أن قوله ظلمات هنا ليس مجازاً بل حقيقة، لكنه مجاز لأنه حمل المسبب على السبب، فالمراد ظلمات حقيقة مسببة عن الظلم، والفرق بين الشدائد والأنكال أن الشدائد كائنة في العرصات قبل دخول النار والأنكال بعد دخولها اهـ.
وقال ابن الجوزي: الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ حق الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة والمعصية فيه أشد من غيرها، لأنه لا يقع غالباً إلا بالتضعيف الذي لا يقدر على الانتصار وإنما ينشأ من ظلمة القلب لأنه لو استنار القلب بنور الهدى لاعتبر (واتقوا الشح) هو بالشين المعجمة وهي مثلثة والضم أعلى، والشحّ أشد البخل، وقيل: البخل مع الحرص، وقيل: البخل في أفراد الأمور، والشحّ عام.
وقيل: البخل بالمال والشحّ به وبالمعروف (فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم) أي: من الأمم والهلاك فيه محتمل للهلاك المعنوي والهلاك الحسي ويؤيده قوله: (حملهم على أن سفكوا دماءهم) أي: قتل بعضهم بعضاً كما قتل ذلك الإسرائيلي ابن عمه الذي يرثه استعجالاً للإرث حتى كشف الله أمره بقصة البقرة واستحلوا محارمهم.
قال المظهري في «المفاتيح» : يعني لحرصهم على جمع المال الحرام يقتل بعضهم بعضاً لأخذ أموالهم (واستحلوا محارمهم) أي: اتخذوا ما حرم الله من نسائهم حلالاً: أي فعلوا بهن الفاحشة، وأقرب منه أنهم احتالوا إلى بيع ما حرم الله تعالى عليهم أكله كالشحوم جملوها فباعوها، وكالصيد يوم السبت فحفروا للصيد حفائر لينحبس فيها السمك يومئذٍ فيأخذوه بعد، ففيه تقبيح التحليل للحرام بما لم يرد الإذن للتخلص به من الحرام كبيع العينة، أخذاً من أمره لبلال أن يبيع التمر الرديء بالدراهم ويشتري بالدراهم الجيد من التمر ونهاه عن شراء مدّ جيد بمدين من الرديء (رواه مسلم) .
قال السيوطي في «الجامع الصغير» ورواه(2/516)
أحمد والبخاري في الأدب، وروى قوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» البخاري ومسلم والترمذي من حديث ابن عمر مرفوعاً.
2042 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لتؤدن الحقوق) بضم الفوقية وفتح الهمزة وتشديد الدال المفتوحة لاتصال نون التوكيد المباشرة بها فعل مبني للمجهول واللام في أوله مؤذنة بقسم مقدر لتأكيد المقام وحذف الفاعل به: أي وا ليؤدنّ الله الحقوق (إلى أهلها) مستحقها (يوم القيامة حتى) غاية في إيفاء الحق: أي إلى أن (يقاد للشاة الجلحاء) بفتح الجيم وسكون اللام بعدها مهملة وبعدها ألف ممدودة: هي الجمّاء التي لا قرن لها (من الشاة القرناء) .
قال المصنف: هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة وإعادتها كما يعاد أهل التكليف من الآدميين وكما يعاد الأطفال والمجانين، وعلى هذا تظاهرت دلائل الكتاب والسنة، قال تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} (التكوير: 5) وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع وجب حمله على ظاهره.
قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة المجازاة والعقاب والثواب. وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس من قصاص التكليف إذ لا تكلف عليها بل هو قصاص مقابلة اهـ (رواه مسلم) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد والبخاري في «الأدب المفرد» والترمذي.
2053 - (وعن) عبد الله (بن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما قال: كنا نتحدث بحجة) بفتح الحاء وكسرها (الوداع) بكسر الواو وفتحها، وسميت بذلك لأن النبيّ ودّعهم فيها، وتسمى حجة البلاغ لقوله: «هل بلغت» وتسمى حجة الإسلام إذ لا مشرك فيها، قاله ابن النحوي في «التوضيح على الجامع الصغير» (والنبيّ بين أظهرنا) جملة في محل الحال أي جالس بيننا مستظهراً لا مستخفياً يقال بين أظهرنا وظهرانينا بمعنى بيننا (ولا ندري(2/517)
أي: نعرف (ما حجة الوداع) أي: ما وجه تسميتها به.
قال في «التوشيح» : كأنه شيء ذكره النبي فتحدثوا به، وما فهموا أن المراد بالوداع وداع النبي حتى وقعت وفاته بعد ذلك بقليل فعرفوا بذلك، وأشار إلى ذلك بما تضمنه قوله: (حتى حمد ا) بالنصب على المفعولية وتقديمه للاختصاص (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليه) يحتمل أن يكون من عطف الرديف وأن يكون من عطف المغاير أي: حمد الله بأوصاف الكمال وأثنى عليه بتنزيهه عما لا يجوز عليه (ثم ذكر المسيح) بفتح الميم وكسر السين المهملة مخففة وبالحاء المهملة (الدجال) أي: المبالغ في الكذب بادعائه الإحياء والإماتة وغيرهما مما يقطع كل عاقل فضلاً عن مؤمن بكذبه فيه، والمسيح إذا أطلق ينصرف لسيدنا عيسى عليه السلام ويطلق على الدجال لكن مقيداً به كما هنا.
وقال أبو داود: إنه في الدجال بتشديد السين وفي عيسى بتخفيفها والأول هو المشهور. وقيل يقال في كل منهما بالتشديد والتخفيف، ولقب به الدجال قيل لأنه ممسوح العين فإن إحدى عينيه ممسوحة، وقيل لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحاً لا عين ولا حاجب فيه، وقيل لأنه ممسوح من كل خير: في مبعود ومطرود، وعلى كل حال فهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل: بل هو بمعنى فاعل، ولقب به لأنه يمسخ معظم الأرضين: أي يقطعها في أيام معدودة. وقيل: إنه بالخاء المعجمة ونسب قائله إلى التصحيف.
وقال ابن دحية في «مجمع البحرين» : إنه خطأ، وقيل: إنه مسيح بوزن مسكن بكسر ثالثة.
وقال أبو عبيدة: أظنه بالشين المعجمة كما تنطق به اليهود ثم عرّب (فأطنب في) بيان (ذكره) محذراً من فتنته لعظمها (وقال: ما بعث ا) أي: أرسل (من نبيّ) أي رسول إذ هو الذي ينذر قومه ومن مزيدة لاستغراق العموم (إلا أنذر أمته) منه وأعلمهم ببعض أوصافه (أنذره نوح) أي: أنذر منه نوح قومه (والنبيون من بعده) أممهم ففيه حذف المفعول وجملة أنذر نوح لتفصيل ما قبلها (وإنه إن يخرج فيكم) إذ لا أمة بعدكم ولا بد من خروجه، فإذا لم يخرج في الأمم السابقة فلم يبق إلا خروجه في هذه الأمة بعدكم ولا بد من خروجه، فإذا لم يخرج في الأمم السابقة فلم يبق إلا خروجه في هذه الأمة (فما) شرطية: أي فأي شيء (خفي عليكم من) للتبعيض أي بعض (شأنه فليس يخفى عليكم، أن ربكم ليس بأعور) أن ومعمولاها فاعل يخفى لكن رأيته مضبوطاً بالقلم في أصل مصحح بكسر الهمزة ولعل الإسناد للجملة: أي لا يخفى(2/518)
عليكم مضمون هذا الكلام من انتفاء النقائص عن الباري جل وعز (إنه) يعني: الدجال وهي ومعمولاها بدل من إن الأولى أو استئناف قال الكرماني (أعور عين اليمنى) بالجر من إضافة الموصوف إلى صفته وتأويله عند البصريين أعور عين صفحة وجهه اليمنى (كأن عينه عنبة) بكسر العين وفتح النون والموحدة، لا يخفى ما فيه من المحسن البديعي، وهو الجناس الخطي المسمى بالجناس المصحف ومنه حديث «ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى» (طافية) بلا همز أي: بارزة من طفا الشيء يطفو: إذا علا على غيره، وشبهها بالعنبة التي تقع في العنقود بارزة عن نظائرها (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح يتنبه لما بعده ( {إن الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم} ) يقدر في الأول سفك وفي الثاني أخذ لأن الذوات لا تحرم (كحرمة يومكم هذا) أي: يوم النحر (في بلدكم هذا) أي حرم مكة، قيل: المشبه به أخفض رتبة من المشبه وهو خلاف القاعدة. والجواب: أن تحريم اليوم والبلد كان ثابتاً في نفوسهم مقرراً عندهم بخلاف الأنفس
والأموال، فكانت الجاهلية تستبيحها، فورد التشبيه بما هو مقرّر عندهم ومناط التشبيه ظهوره عند السامع (ألا) بتخفيف اللام (هل بلغت) والمستفهم منه الأمة الحاضرون وحذف المفعول ليعم: أي هل بلغتكم ما أمرت بإبلاغه إليكم (قالوا نعم: قال اللهم) أي يا أفحذف حرف النداء وعوض عنه الميم المشددة هذا هو الصحيح كما تقدم (اشهد) على شهادتهم بالتبليغ إليهم كيلا ينكر منكر ذلك يوم القيامة (ثلاثاً) أي قاله ثلاث مرات، وكان يكرر ما يحتاج للتكرير ثلاثاً كما جاء في الصحيح/ «وكان إذا تكلم بكلام أعاده ثلاثاً ليفهم منه» (ويلكم) بفتح الواو وسكون التحتية وفتح اللام.
قال في «الصحاح» : ويل كلمة مثل ويح إلا أنها كلمة عذاب، يقال ويله وويلك، وتقول ويل لزيد، فالنصب على إضمار الفعل. قال في مادة ويح: كأنك قلت ألزمه الله ويلاً أو ويحاً أو نحو ذلك والرفع على الابتداء هذا إذا لم تضف، فإن أضفت فليس إلا النصب لأنك لو رفعته لم يكن له خبر اهـ (أو) شك من الراوي: أي قال (ويحكم) وفي الصحاح أيضاً ويح كلمة رحمة «وويل» كلمة عذاب، قال اليزيدي: هما بمعنى واحد (انظروا لا ترجعوا) أي: لا تصيروا.
قال ابن مالك في «توضيحه» : مما خفي على أكثر النحاة استمال رجع كصار معنى وعملاً ومنه هذا الحديث: أي: لا تصيروا (بعدي كفاراً) أي كالكفار فهو تشبيه أو من باب التغليظ فهو مجاز، والمراد معناه(2/519)
اللغوي وهو التستر بالأسلحة، وفيه عشرة أقوال حكاها السيوطي وحكاها عنه تلميذه العلقمي في آخر حاشيته على «الجامع الصغير» ، والأولى أنه على ظاهره، وأنه نهى عن الارتداد وأوله الخوارج بالكفر الذي هو الخروج عن الملة إذ كل معصية عندهم كفر (يضرب بعضكم رقاب بعض) .
قال القاضي عياض: الرواية بالرفع، كذا رواه المتقدمون والمتأخرون وهو الصواب، وبه يصح المقصود هنا، وضبطه بعض العلماء، وهو إحالة للمعنى والصواب الضم اهـ.
وفي «شرح المشارق» لابن ملك: يضرب بالرفع فيه وجوه: أحدها أن تكون الجملة صفة للكفار: أي لا ترجعوا بعدي كفاراً متصفين بهذه الصفة، يعني: يضرب بعضكم رقاب بعض. الثاني أن يكون حالاً من ضمير لا ترجعوا: أي لا ترجعوا كفاراً حال ضرب بعضكم رقاب بعض.
فعلى الأول يجوز أن يكون المعنى: لا ترجعوا بعدي عن الدين فتصيروا مرتدين مقاتلين يضرب بعضكم بعضاً بغير حق على وجه التحقيق، وأن يكون المعنى: لا ترجعوا كالكفار المقاتل بعضهم بعضاً على وجه التشبيه بحذف أداته.
وعلى الثاني يجوز أن يكون معناه: لا تكفروا حال ضرب بعضكم رقاب بعض لأمر يعرض نبيكم باستحلال القتل بغير حق، وأن يكون المعنى: لا ترجعوا حال المقاتلة كالكفار في تهييج الشرّ وإثارة الفتن بغير إشفاق منكم بعضكم على بعض في ضرب الرقاب، وروي بجزم الباء على أنه بدل من ترجعوا، ومعناه: لا يضرب بعضكم رقاب بعض كفعل الكفار، ويجوز أن يكون جزاء لشرط مقدر على مذهب الكسائي: أي فإن رجعتم يضرب بعضكم رقاب بعض اهـ. وقريب منه قول مغلطاي: من جزم أوّله على الكفر، ومن رفع لا يجعله متعلقاً بما قبله بل حالاً أو مستأنفاً.
(رواه البخاري) بجملته في كتاب المغازي من حديث ابن وهب عن عمربن محمدبن زيدبن عبد ابن عمر عن أبيه محمدبن زيد عن جده عبد ابن عمر ورواه مختصراً في مواضع أخر منه من طريق أخرى (وروى مسلم بعضه) في كتاب الإيمان وهو عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي أنه قال في حجة الوداع «ويحكم «أو قال ويلكم» لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» قال الحافظ المزي في «الأطراف» : ورواه أبو داود في «السنة» والنسائي في «المحاربة» وابن ماجه في «الفتن» مختصراً اهـ.(2/520)
2064 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ظلم قيد) بكسر القاف وسكون التحتية وبالدال المهملة: أي قدر (شبر من الأرض) وذكر الشبر إشارة إلى استواء القليل والكثير في الوعيد المدلول عليه بقوله (طوّقه) بالبناء للمجهول أي طوقه الله (من سبع أرضين) بفتح الراء ويجوز إسكانها، قال الخطابي: قوله طوقه له وجهان:
أحدهما: أن معناه كلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة.
والثاني: أن معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين فيكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه اهـ.v
قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد الثاني رواية ابن عمر في البخاري بلفظ: «خسف به إلى سبع أرضين» ، وقيل: معناه كالأول، لكن بعد أن ينقل جميعه يجعل كله في عنقه طوقاً ويعظم قدر عنقه اهـ. حتى يسمع ذلك كما ورد في غلظ جلد الكافر ونحو ذلك ويحتمل وهو الوجه الرابع أن المراد بقوله: طوقه أن يكلف أن يجعل له طوقاً ولا يستطيع ذلك فيعذب بذلك كما جاء في حق «من كذب في منامه كلف أن يعقد بين شعيرتين» ويحتمل وهو الوجه الخامس أن يكون التطويق الإثم، والمراد أن الظلم المذكور لازم له في عنقه ومنه قوله تعالى: {ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء: 13) وبالوجه الأول جزم أبو الفتح القشيري وصححه البغوي ويحتمل أن تتنوع هذه الصفات لصاحب هذه الجناية، أو تنقسم أصحاب هذه الجناية فيعذب بعضهم بهذا وبعضهم بهذا بحسب قوة المسندة وضعفها اهـ (متفق عليه) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : أخرجه الشيخان وابن ماجه عن عائشة وعن سعيدبن زيد اهـ. وذكره المزي في «الأطراف» من حديث سعيدبن زيد وقال: أخرجه البخاري في «المظالم» ، ولم يذكر مسلماً وابن ماجه فيمن خرّجه والله أعلم.
2075 - (وعن أبي موسى) الأشعري (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله يملي)(2/521)
بضم التحتية: أي يمهل (للظالم) ولا يعاجله بالعقوبة (فإذا أخذه) أي: عاقبه بذنبه لم يكد بفلته أي لم يكد يخلصه: أي إذا أهلكه لا يرفع عنه الهلاك أبداً: أي: إن كان كافراً فإن حمل الظلم على أعم من الشرك حمل كل على ما يليق به. قال في «الفتح» : وهذا أولى من قول بعضهم: معنى «لم يفلته» لم يؤخره لأنه يتبادر منه أن الظالم إذا صرف عن منصبه وأهين لا يعود إلى غيره، والمشاهد في بعضهم بخلاف ذلك، والأولى حمله على ما ذكرناه اهـ. وقريب منه قول الكرماني: «لم يفلته» لم يخلصه لكثرة مظالمه، والنفي على التأبيد إن كان منها الكفر، وإن كان مؤمناً لم يخلصه مدة طويلة. وفي رواية «لم يفلته» بحذف يكد (ثم قرأ) مستدلاً لذلك قوله تعالى: ( {وكذلك} ) أي: مثل المذكور في الآي قبلها ( {أخذ ربك} ) قال البيضاوي: وقرىء أخذ بالفعل فيكون محل الكاف: أي: التي في قوله وكذلك النصب على المصدر ( {إذا أخذ القرى} ) أي: أهلها ( {وهي ظالمة} ) حال من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لم أقيمت مقامه أجريت عليها، وفائدتها الإشعار بأنهم أخذوا لظلمهم وإنذار كل ظالم لنفسه أو غيره من وخامة الظلم ( {إن أخذه أليم شديد} ) موجع غير مرجوّ الخلاص عنه، وهو مبالغة ومحمول على التهديد والتحذير، وأجراها المعتزلة على ظاهرها في سائر العصاة (متفق عليه) ورواه الترمذي وابن ماجه.
2086 - (وعن معاذ) بضم الميم بعدها عين مهملة ثم ألف بعدها ذال معجمة ابن جبل الأنصاري (رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله) أي: أميراً على اليمن، وذلك أواخر سنة تسع عند منصرفه من تبوك، رواه الواقدي، ولم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد عمر فتوجه إلى الشام فمات بها في طاعون عمواس (فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) يعني(2/522)
به اليهود والنصارى لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب وأغلب، وإنما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم ويعد الأدلة لإفحامهم لأنهم أهل علم سابق بخلاف المشركين وعبدة الأوثان (فادعهم) أي: أولاً (إلى شهادة أن لا إله إلاالله، و) إلى شهادة (أني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك) أي: بالنطق بكلمتي التوحيد، قال القرطبي: وهذا الذي أمر النبي به معاذاً هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي أمراءه وقد اختلف في حكمها، وعلى هذا ففي الحديث حجة لمن يقول أول الواجبات التلفظ بكلمتي الشهادة مصدقاً بها.
وقد اختلف في أول الواجبات على أقوال كثيرة، والذي عليه أئمة الفتوى ومن بهم المقتدي كمالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من السلف أن أول الواجبات على كل مكلف الإيمان التصديقي الحزمي الذي لاريب معه الله ورسله وكتبه وما جاءت به الرسل كيفما حصل ذلك الإيمان وبأي طريق إليه يوصل. وأما النطق باللسان فمظهر لما استقر في القلب من الإيمان وسبب ظاهر ترتب عليه أحكام الإسلام، ولا حجة في الخبر لمن قال بعدم مخاطبة الكفار بالفروع أخذاً من أمرهم بها بعد إطاعتهم إلى النطق بالشهادتين، لأن ذلك يحتمل أنه إنما قدم لكون الإيمان شرطاً مصححاً للأعمال الفرعية لا للخطاب بالفروع، إذ لا يصح فعلها إلا بتقدم وجوده، ويصح الخطاب بالإيمان وبالفروع معاً في وقت واحد وإن كانت في الوجود متعاقبة، قال القرطبي: وهذا الاحتمال أظهر مما تمسكوا به، ولو لم يكن أظهر فهو مساوٍ له، فيكون ذلك الخطاب مجملاً بالنسبة إلى هذا الحكم، أو أن النبي إنما رتب هذه القواعد ليبين الأهم فالأهم، والله أعلم اهـ ملخصاً (فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في) مجموع (كل يوم وليلة) «وإن» هنا وفيما بعد شرطية «وهم» فاعل فعل محذوف وجوباً دل عليه ما بعده فهو نظير: {وإن أحد من المشركين استجارك} (التوبة: 6) فالجواب جملة «فأعلمهم» (فإن هم أطاعوا لذلك) بالإقرار بالوجوب والعزم على فعلها (فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة) أي: زكاة كما في رواية مسلم، وسميت صدقة لأنها تدل على صدق إيمان باذلها (تؤخذ من أغنيائهم) أي: من أموالهم. وعند مسلم «تؤخذ من أموالكم» قال المصنف: ويستدل بلفظ «من أموالهم» على أنه إذا امتنع من دفع(2/523)
الزكاة أخذت من ماله بغير اختياره، وهذا الحكم لا خلاف فيه، ولكن هل تبرأ ذمته ويجزئه في الباطن؟ وجهان لأصحابنا (فترد) وعند مسلم: وترد (على فقرائهم) واستدل به مالك على أن الزكاة لا تجب قسمتها على الأصناف المذكورين في الآية، وأنه يجوز للإمام صرفها
إلى صنف واحد من الأصناف المذكورين في الآية إذا رآه نظراً ومصلحة دينية، قاله القرطبي. قال ابن دقيق العيد: وفيه يحث لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء (فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم) منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره. قال ابن قتيبة: لا يجوز حذف الواو، والكرائم جمع كريمة: أي: نفيسة، ففيه ترك أخذ خيار المال. والنكتة فيه أن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء إلا أن رضوا بذلك (واتق دعوة المظلوم) .
قال الحافظ ابن حجر: أي: تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم، وفيه التنبيه على المنع من جميع الظلم. والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الأشارة إلى أن أخذها ظلم. وقال بعضهم: «واتق» عطف على عامل «إياك» المحذوف وجوباً فالتقدير: اتق نفسك أن تتعرض للكرائم، أو أشار بالعطف إلى أن أخذ الكرائم ظلم، ولكنه فيه إشارة إلى التحذير عن الظلم مطلقاً (فإنه) قال القرطبي: الرواية الصحيحة بضمير المذكر على أن يكون ضمير الأمر والشأن، ويحتمل أنه يعود على مذكر الدعوة فإن الدعوة دعاء. ووقع في بعض النسخ: أي: من مسلم «فإنها» بهاء التأنيث، وهو عائد على لفظ الدعوة (ليس بينها وبين الله حجاب) أي: ليس لها صارف يصرفها ولا مانع، والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصياً كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد «دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه» وإسناده حسن، وليس المراد أن حجاباً يحجبه عن الناس. قال الطيبي: فقوله اتق دعوة المظلوم تذييل لاشتماله على الظلم الخاص سن أخذ الكرائم وعلى غيره، وقوله: فإنه تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء كمن يقصد دار السلطان مظلوماً فلا يحجب. قال ابن العربي: إلا أنه وإن كان مطلقاً فهو مقيد بالحديث الآخر «إن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه وإما أن يدفع عنه من السوء مثله» وهذا كما قيد مطلق قوله تعالى: {أمن يجيب المضطرّ إذا دعاه} (النمل: 62) بقوله: {فيكشف ما تدعون إليه إن(2/524)
شاء} (الأنعام: 41) .
فائدة: لم يقع في الحديث ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كان أواخر الأمر كما تقدم. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني نقلاً عن شيخه شيخ الإسلام: يعني سراج الدين البلقيني: إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منها بشيء كحديث ابن عمر «بني الإسلام على خمس» أما إذا كان في الدعاء إلا الإسلام اكتفى بالأركان الثلاثة الشهادة والصلاة والزكاة، ولو كان بعد وجوب فرض الصوم والحج كقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتو الزكوة} (التوبة: 5) في الموضعين من «براءة» مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج قطعاً وكحديث ابن عمر «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاالله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» وغير ذلك من الأحاديث، قال والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة اعتقادي وهو الشهادة وبدنيّ وهو الصلاة وماليّ وهو الزكاة، فاقتصر في الدعاء إلى الإسلام عليها ليفرع الركنين الآخرين عليها، فإن الصوم بدنيّ مخص والحج بدني مالي، وأيضاً فكلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقة على الكفار، والصلوات شاقة لتكررها، والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حبّ المال، فإذا أذعن لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها اهـ (متفق عليه) فأخرجه البخاري في كتاب الزكاة وفي التوحيد وفي مواضع أخر من صحيحه بأسانيد، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، وأخرجه أبو داود في الزكاة وأخرجه الترمذي في الزكاة بتمامه وفي البرّ «دعوة المظلوم» حسب، وقال حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه في الزكاة كذا لخص من كتاب «الأطراف» للمزي.
2097 - (وعن أبي حميد) بضم الحاء المهملة وفتح الميم وسكون التحتية بعدها مهملة (عبد الرحمنبن سعد الساعدي رضي الله عنه) قال الذهبي في «تجريد الصحابة» : أبو حميد الساعدي(2/525)
هو: عبد الرحمنبن عمروبن سعد، وقيل: المنذربن سعد. زاد ابن الأثير: ابن مالك بن خالدبن ثعلبةبن حارثةبن عمروبن الخزرج، زاد المصنف في «التهذيب» : ابن ساعدة بن كعببن الخزرج، ويقال ابن عمروبن سعدبن المنذربن مالك يعدّ في أهل المدينة، توفي آخر خلافة معاوية. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وعشرون حديثاً اتفق الشيخان على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بآخر (قال: استعمل النبي رجلاً من الأزد) .
قال الحازمي في «عجلة المبتدي» : والأزد اسمه داود، ويقال دراءبن الغوثبن مالك بن رددبن كهلانبن سبأبن يشجببن يعرببن قحطان، وإليه جماع الأنصار، وكان أنسبن مالك يقول: إن لم نكن من الأزد فلسنا من الناس، وجاء في الحديث «الأزد جرثومة العرب» وجاء ذكرهم في غير حديث والثناء عليهم عن أنس عن النبي «الأزد أسد الله في الأرض، يريد الناس أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم، وليأتينّ على الناس زمان يقول الرجل: يا ليتني كان أبي أزديا، يا ليتني كانت أمي أزدية» هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ويقال فيه الأسد بالسين المهملة بدل الزاي اهـ ملخصاً (يقال له ابن اللتبية) بضم اللام وإسكان المثناة الفوقية بعدها موحدة فتحتية مشددة نسبة لبني لتب بطن من الأسد. قال المصنف في «التهذيب» : ويقال فيه ابن اللتبية بفتح الفوقية وابن الأتبية بالهمزة وإسكان التاء وليسا بصحيحين، والصواب الأول، واسم هذا الرجل عبد الله كذا في «التهذيب» . وقال الذهبي في «التجريد» : يقال اسمه عبد الله (على الصدقة) أي: الزكاة (فلما قدم) بكسر الدال (قال هذا لكم) معشر المسلمين (وهذا أهدي) بالبناء للمجهول (إليّ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر) بكسر الميم وسكون النون وفتح الموحدة من النبر وهو الارتفاع (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد) بالبناء على الضم: أي: بعد ما ذكر من الحمد والثناء (فإني أستعمل الرجل منكم) أي: أجعله (على العمل مما) من العمل الذي (ولاني ا) العائد ضمير المفعول محذوف أي ولانية الله: أي جعل لي التصرف فيه من الزكوات والغنائم (فيأتي) أي: من عمله (فيقول لكم وهذا هدية أهديت لي) هذا الكلام المنكر على العامل لم يصرح باسم القائل، لأن مراده التحذير من مثل ذلك سواء فيه القائل أوّلا(2/526)
وغيره وهذا من مزيد فضله وحسن خلقه (أفلا جلس في بيت أبيه أو) قال ابن حجر الهيثمي: للشك أو للتنويع (بيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان
صادقاً) في قوله: «هذا أهدي إليّ» إذ ظاهره أنه أهدي له لذاته، وإنما أهدي إليه لولايته عليهم ففيه كما قال العاقولي تعيير له وتحقير لشأنه وتعريض بأنه لولا هذه الولاية لكان فقيراً محتاجاً لا يلتفت إليه، فالهدية إليه ليست لذاته بل لتوليته عليهم، وفي الحديث دليل على حرمة هدايا العمال مطلقاً (وا) أتى به تأكيداً للأمر (لا يأخذ أحد منكم) معاشر العمال على الأعمال (شيئاً) مما يعطاه وهو عامل (بغير حق إلا لقي الله يحمله يوم القيامة) زاد في رواية في «الصحيحين» على رقبته: فإن قلت: الذي في الآية
{وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام: 13) قلت: الظهور تشمل ما هو قريب منها أو الآية في أوزار الكافرين، وهذا في أوزار المؤمنين، أو ذاك في مطلق الأوزار وهذا في عامل الزكاة فقط تمييزاً لها لمزيد قبحها باعتبار أن فيها حقين: حقاً تعالى، وحقاً للآدمي فلا أعرفنّ أحداً منكم لقي الله حال كونه (يحمل بعيراً له رغاء) بضم الراء وبعدها غين معجمة وبعدها ألف ممدودة: صوت الإبل يقال رغا يرغو (أو بقرة لها خوار) بضم الخاء المعجمة وتخفيف الواو وآخره راء: صوت البقرة (أو شاة تيعر) بمثناة فوقية فمثناة تحتية فعين مهملة مكسورة ومفتوحة، ومعناه تصحيح، ومصدره اليعار، وهو صوت الشاة. وحكمة تلك الأصوات من تلك المحمولات الزيادة في تحقيره وفضيحته (ثم رفع يديه حتى) غاية لمحذوف: أي: وبالغ في الرفع إلى أن (رأينا عفرة إبطية) بضم العين المهملة وفتحها والفاء ساكنة فيهما: أي: بياضهما الذي ليس بالناصح بل فيه شيء كلون الأرض مأخوذ من عفرة الأرض وهو وجهها وذلك في إبطية إما باعتبار ما يرى من البعد أو لوجود شعر بفرض أن ثم شعراً، وفي روايات غير هذا الحديث التعبير ببياض إبطيه، ولعله باعتبار النظر إليهما من قرب مع عدم الشعر بهما فلا تنافي بين الروايتين.
قال الحافظ زين الدين العراقي: والقول بأن من خصائصه عدم نبات الشعر بإبطيه لم يثبت ما يدل له، ورواية «بياض إبيطيه» معارضة براوية «عفرة إبطيه» نعم من خصائصه أن لا ريح لإبطيه (ثم(2/527)
قال) بعد تمام الرفع إلى ما ذكر (اللهم هل بلغت. متفق عليه) ورواه أبو داود في «الخراج» ، قاله المزي في «الأطراف» .
2108 - (وعن أبي هريرة رضي الى عنه عن النبي قال: من كانت عنده مظلمة) بفتح الميم وضم اللام (لأخيه من عرضه) في محل الحال بيان لمظلمة (أو من شيء) من عطف العام على الخاص فتدخل فيه اللطمة ونحوها، وفي رواية الترمذي «من عرض أو مال» ؛ والعرض كما في «الصحاح» : النفس يقال أكرمت عنه عرضي: أي: صنت عنه نفسي، وفلان نقي العرض: أي: برىء من أن يشتم أو يعاب. وقد قيل عرض الرجل حسبه اهـ. وقال في «التوشيح» : العرض بالكسر موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان نفسه أو سلفه (فليتحلله منه اليوم) أي: في الدنيا (من قبل ألا يكون) يوجه (دينار ولا درهم) أي: يوم القيامة. قال العسقلاني: وثبت ذلك في رواية على ابن الجعد عن ابن أبي ذئب عن الإسماعيلي (إن كان له) أي: لمن عنده المظلمة (عمل صالح أخذ) يحتمل أن يكون بالبناء للفاعل: أي صاحب المظلمة وأن يكون بالبناء للمفعول: أي أمر الله أن يؤخذ (منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات) مفهوم الجمع غير مراد: أي وإن لم تكن له حسنة، إذ من له حسنة داخل في العمل الصالح، فلا يكون من أفراد هذا القسم القسيم لذلك (أخذ) بالبناء للمفعول (من سيئات صاحبه) أي: وهو صاحب المظلمة (فحمل عليه) أي: على الظالم. (رواه البخاري) قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحديث قد أخرج مسلم معناه من وجه آخر وهو أوضح سياقاً من هذا ولفظه «المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام(2/528)
وزكاة» يعني الحديث الآتي أواخر الباب. ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه: ولم
يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله في عباده اهـ.
2119 - (وعن عبد ابن عمروبن العاص رضي الله عنهما) قال المصنف: العاص أكثر ما يأتي في كتب الحديث والفقه بحذف الياء وهي لغة، والصحيح الفصيح العاصي بإثبات الياء، ولا اعتبار بوجودها في كتب الحديث أو أكثرها بحذفها اهـ. وقال الهروي في «المرقاة» : الأصح عدم ثبوت الياء إما تخفيفاً أو بتاء على أنه أجوف، ويدل عليه ما في «القاموس» : الأعياص من قريش أولاد أميةبن عبد شمسبن العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص، فعليه لا يجوز كتابة العاص بالياء ولا قراءته بها لا وفقاً ولا وصلاً فإنه معتل العين، بخلاف ما يتوهمه بعض الناس أنه اسم فاعل معتل اللام من عصى، فحينئذٍ يجوز إثبات الياء وحذفها وقفاً ووصلاً بناء على أنه معتل اللام اهـ (عن النبي قال: المسلم) أي: الكامل الإسلام، قال المصنف: وليس المراد نفي أصل الإسلام عمن لم يكن بالصفة المذكورة في قوله: (من سلم المسلمون من لسانه ويده) بل هذا كما يقال العلم ما نفع أو العالم زيد: الكامل أو المحبوب فكله على التفضيل لا الحصر، ثم ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه أشد، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكفّ عنه والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك: وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس واليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد لأنه يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم يمكن أن يشارك اللسان في ذلك بالكتابة وإن أثرها في ذلك لعظيم، ويستثنى من ذلك شرعاً تعاطى الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك. وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون
غيرها من الجوارح نكتة فيدخل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق.
فائدة: كمال الإسلام والمسلم متعلق بخصال أخر كثيرة، وإنما خص ما ذكر لما(2/529)
دعا إليه من الحاجة الخاصة (والمهاجر) من الهجر: وهو الترك وهو بمعنى المهاجر، وإن كان لفظ المفاعلة يقتضي وقوع فعل من اثنين لكنه هنا للواحد كالمسافر. ويحتمل أن يكون هنا على بابه لأن من لازم كونه هاجراً وطنه مثلاً أنه مهجور منه. والهجرة ضربان: ظاهرة وهي الفرار بالدين من الفتن، وباطنة وهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وهو ما أشار إليه بقوله: (من هجر ما حرم ا) وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد النحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون هذا القول وقع بعد انقطاع الهجرة، قاله لما فتحت مكة تطييباً لقلب من لم يدرك ذلك: أي: إن حقيقة الهجرة يحصل لمن هجر ما نهي الله عنه فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع معاني الكلم والحكم (متفق عليه) قال في «الجامع الصغير» : ورواه أبو داود والنسائي.
21210 - (وعنه) أي: عن عبد ابن عمرو (كان على ثقل رسول الله) الثقل بفتح المثلثة والقاف: العيال وما يثقل حمله من الأمتعة (رجل يقال له كركرة) قال الحافظ ابن حجر الواقدي: إنه كان أسود يمسك دابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القتال. وروي أبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى أنه كان نوبيا أهداه له هوذةبن علي الحنفي صاحب اليمامة فأعتقه. وذكر البلاذري أنه مات في الرق. واختلف في ضبطه فذكر عياض أنه بفتح الكافين. وبكسرهما قال النووي، إنما اختلف في كافه الأولى، أما الثانية فمكسورة اتفاقاً. وقد أشار البخاري إلى الخلاف في ذلك (فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو في النار) أي: يعذب على معصيته، أو المراد هو في النار إن لم يعف الله عنه (فذهبوا ينظرون إليه) أي: إلى السبب الذي قد يحال عليه العذاب (فوجدوا عباءة) قال القاضي عياض في «المشارق» : العباء ممدود، قال ابن دريد: العباء كساء معروف والجمع أعبية، وقال الخليل: العباءة ضرب من الأكسية فيه خطوط سود، وأدخله الزبيدي في حرف الباء وغير المهموز. وقال غيره: العباءة لغة فيه،(2/530)
ويقال كل كساء فيه خطوط فهو عباءة (قد غلها) الغلول هنا: الخيانة في المغنم، قال ابن قتيبة: سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه: أي يخفيه فيه، ونقل المصنف الإجماع على أنه من الكبائر. قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث تحريم قليل الغول وكثيره (رواه البخاري) في كتاب الجهاد وأخرجه ابن ماجه فيه أيضاً.
21311 - (وعن أبي بكرة) بفتح الموحدة وسكون الكاف كنى بذلك لأنه دلى نفسه ببكرة من حصن الطائف لما حاصرهم النبيّ كما تقدم (نفيع) بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتية بعدها مهملة (ابن الحارث رضي الله عنه عن النبيّ قال) : في خطبة يوم النحر في حجة الوداع (إن الزمان) هو عند المتكلمين من أهل السنة مقارنة متجدد موهوم لمتجدد معلوم إزالة للإبهام من الأول لمقارنة الثاني، والمراد بالزمان هنا السنة كما يدل عليه قوله على وجه الاستئناف لبيان ذلك: السنة اثنا عشر شهراً، وإن الزمان (قد استدار) هو كدار الطواف حول الشيء والعود إلى الموضع الذي ابتدأ منه وهو المراد من قوله (كهيئته) أي: استدارة مثل هيئته وهي صورة شكله وحالته التي كان عليها (يوم خلق الله السموات والأرض) أي: النيرين فيهما لأن حقيقة الزمان المشتمل على الأعوام والشهور والأيام إنما وجدت من حين خلق النيرين، وأما قبل ذلك فالأمر فيه كهو في الجنة، إذ ما فيها لا يسمى زماناً: أي: إن الزمان عاد في انقسامه إلى الأعوام والعام في انقسامه إلى الأشهر المعودة إلى الموضع الذي اختار الله وضعه عليه (السنة اثنا عشر شهراً) جملة مستأنفة كما تقدم لبيان الاستدارة المذكورة (منها أربعة حرم ثلاث) حذف التاء هنا دون أربع تغليباً لليالي هنا وللأيام ثمة، أو إيماء إلى جواز تأنيث العدد وتذكيره عند حذف المعدود (متواليات) هي (ذو القعدة) بفتح القاف وقد تكسر وقد يحذف «ذو» منه ومما بعده (وذو الحجة) بالكسر وقد تفتح (والمحرم) بصيغة المفعول (ورجب مضر) عطف على ثلاث وأضيف إلى مضر بوزن عمر(2/531)
وضاده معجمة لأنها كانت تحافظ على تحريمه أشد من سائر العرب (الذي بين جمادي وشعبان) زيادة تأكيد في بيانه لعظم شأنه وإزاحة للريب الحادث فيه من النسىء وأنه عاد كما كان بين جمادي وشعبان، فأشار بهذا الحديث إلا بطلان النسىء الذي كانت تفعله العرب في الجاهلية، وذلك أنهم إذا احتاجوا إلى الحرب في شهر
محرم استحلوه وأخروا حرمته للشهر بعده ونادوا بذلك في قبائل العرب وجعلوا حساب الحج تابعاً لذلك، مثلاً إذا احتاجوا للحرب في رجب جعلوه حلالاً وجعلوا شعبان رجباً وبنوا عليه حساب حجهم، فاتفق في ذلك العام الذي وقع فيه حجة الوداع استدارة الزمن على الوضع الأصلي، فكان آخر ذلك العام ذا الحجة في نفس الأمر وأوّل ما بعده المحرم، فأشهر هذا الكلام في هذا المقام في ذلك الجمع العام إبط لا للنسىء كي يذيع إبطاله ولا يرجع إليه بوجه، والراجح أن الاستدارة من سنة فتح مكة ولذا أمر عتاباً أن يحج بالناس في تلك السنة والصديق أن يحج بهم في السنة التاسعة ولولا ذلك لكان الحج باطلاً لوقوعه في غيره زمنه، والشارع لا يأذن فضلاً عن أن يأمر في تعاطي نسك باطل، والله أعلم (أيّ شهر هذا) الاستفهام فيه لتقرير حرمة الشهر في نفوسهم فيصح بناء ما سيذكره عليها (قلنا: الله ورسوله أعلم) فيه مراعاة الأدب وتوقف عما لا يعلم الغرض من السؤال عنه (فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه) أي: توهموا أن طول سكوته لتردده في وضع اسم مناسب له غير اسمه المشهور يضعه عليه بدله وما ذكر في الاستفهام وجوابهم فسكت الخ يجري في نظيره الآتي (قال: أليس) أي: اسمه (ذا الحجة) وما قدرناه هو ما يدل عليه السياق (قلنا بلى) أي: هو ذو الحجة (قال: أي: بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فكست حتى ظنتا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس) أي: هذا المكان (البلدة) وفي نسخة البلد (الحرام) وجه تخصيص مكة بها مع شمولها لسائر البلدان فصار علماً عليها بالغلبة، الإشارة إلى أنها البلدة الجامعة لسائر الفضائل المتفرقة في غيرها مع زيادات لا توجد في غيرها (قلنا بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟(2/532)
قلنا بلى، قال: فإن دماءكم) الفاء فيه فصيحة: أي: فإذا علمتم ما ذكر فتيقظوا إلى حرم أخرى هي أعظم منها وهي الدماء وما
بعدها، وتقدم أن وجه التشبيه مع أنها في الحرمة أفضل من المشبه به كون المشبه به أشهر، وتشبيه ما لم يشتهر وإن كان أفضل بما اشتهر وإن كان مفضولاً واقع جعل منه قوله صلّ على محمد كما صليت على إبراهيم، ولاحتياج المقام إلى التأكيد زاد فيه فأتى بإن المفيدة له وبدأ بالدماء، مع أن الأعراض أخطر لأن الابتلاء بها أكثر وخطرها أكبر، ومن ثم كان أكبر الكبائر بعد الشرك القتل على الأصح (وأموالكم) قدمها على الأعراض لأن ابتلاء الناس بالجناية فيها أكثر (وأعراضكم) قال في «فتح الإله» المراد منه تحريم التعرض للإنسان بما يعير أو ينقص به في نفسه أو أحد من أقاربه، بل يحلق به كل من له به علقة بحيث يئول تنقيصه أو تعييره إليه، وهذا أعم من قول النهاية: العرض موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه اهـ ملخصاً (عليكم حرام كحرمة يومكُمْ هذا) أي: المعصية فيه حال كون اليوم على جهة التجوز (في بلدكم هذا) وحرمة المعصية بها عظيمة إجماعاً إنما اختلف في تضاعفها كالحسنات وعدمه والراجح عدمه كما لاكيفا كما يدل عليه عموم قوله تعالى:
{ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} (الأنعام: 160) ولا مخصص له (في شهركم هذا) وهو لعظم شرفه تعظم المعصية فيه (وستلقون ربكم) في الدار الآخرة ناظرين إليه على وجه منزه من الحلول والاتحاد والجهة والتحيز والإحاطة بالذات الأعلى (فيسألكم عن أموالكم) وفي نسخة «أعمالكم، والنار عن شمائلكم والجنة عن أيمانكم، والموازين قد نصبت، والصراط قد نصب على متن جهنم، والرسل شعارهم يومئذٍ سلم سلم/ والشهود الجوارح والحاكم الأعظم قد تجلى وغضب غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله» (ألا) أداة استفتاح فلما حذرتم وبين لكم (لا ترجعوا) أي: لا تصيروا (بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) تقدم الكلام عليه في الثالث من أحاديث الباب (ألا ليبلغ) بتشديد اللام وتخفيفها والتبليغ واجب عيناً على من انحصر فيه وإلا فكفاية (الشاهد منكم) لما قلته العالم به سماعاً أو رواية (الغائب) عنه بأن لم يحصل علمه (فلعل بعض من يبلغه) بالبناء للمجهول ونائب فاعله الضمير المستتر والبارز مفعول له(2/533)
ثان: أي: فلعل المبلغ لجودة فهمه وقوّة استعداده وتوجهه لذلك الأمر (أن يكون أوعى له) أي: أفهم لمعناه (من بعض من سمعه) فيستفيد من الخبر الذي يبلغه ويفيد الناس ما لا يحصل لمن سمعه مني، لا لقصور فهمه عنه بل لاشتغاله عنه بما هو أهم منه من الجهاد الأعظم الذي وقع لأكثر الصحابة بعده، فلا يقال: كيف يكون في التابعين أو من بعدهم من هو أعلم من الصحابي؟ وهو كان إذا وقع نظره الكريم للبدوي والخلف صار ينطق بالحكمة لوقته وعدوا ذلك من خصائصه العلية، ولا يعترض بالمنافقين لأن الكلام فيمن لا مانع فيه للتلقي من الحضرة النبوية وأولئك فيهم موانع صيرتهم كالجماد. ويمكن أن يقال: قد يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل، فنحن وإن قلنا بالأصح إن جميع الصحابة أفضل ممن بعدهم يجوز أن يكون عند غير الصحابي من الفهم والاستنباط ما ليس عنده وإن كان الصحابي أفضل وأجلّ بمراتب، وهذا أوفق
بظاهر قوله: «فلعل من يبلغه» الخ، ثم ذكر بعض ثمرات التبليغ ومنها انتشار العلم وعموم النفع به وحفظه على توالي الأزمة إلى قبيل القيامة كما أخبر به (ثم قال: ألا هل بلغت) أي: ما أمرت به (ألا هل بلغت) والتكرير للتأكيد (قلنا: نعم) أي: بلغت الرسالة والأمانة، فقد بلغ الرسالة والأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه وأفضل على كل ما هو له أهل (ثم قال: اللهم اشهد. متفق عليه) قال المزي: ورواه النسائي، زاد الحافظ في «النكت الظراف» : ورواه أبو داود في كتاب الحج وابن ماجه في «السنة من سننه» اهـ.
21412 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وميمين بينهما ألف (إياس) بكسر الهمزة بعدها تحتية وآخره سين مهملة (ابن ثعلبة) بفتح المثلثة وسكون المهملة وبعد اللام موحدة هذا هو المشهور في اسمه. وقال أبو حاتم الرازي: اسمه عبد ابن ثعلبة، ويقال ثعلبةبن عبد الله، ذكره المصنف في «شرح مسلم» ، الأنصاري (الحارثي) أحد بني الحارثبن الخزرج، وقيل: إنه بلوى، وهو حليف بني حارثة، وهو ابن أخت بردةبن دينار (رضي الله عنه) قال(2/534)
الذهبي في «التجريد» : روي له ثلاثة أحاديث. قلت: ذكر ابن حزم في سيرته وابن الجوزي في «المستخرج» المليح أبا أمامة الحارثي فيمن له حديثان، وانفرد مسلم عن البخاري بالرواية عنه فروي له حديث الباب، توفي منصرف النبيّ من أحد فصلى عليه. قال ابن الأثير في «أسد الغابة» : على أن الصحيح أنه لم تكن وفاته مرجع النبي من أحد، وإنما كانت وفاة أمه عند منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فأراد الخروج معه فمنعه مرضها من شهود بدر. ومما يقوي أنه لم يقتل بأحد أن مسلماً يروي في «صحيحه» بإسناده عن عبد ابن كعب عن أبي أمامةبن ثعلبة «من اقتطع حق مسلم» الحديث، فلو كان مات بأحد لكان منقطعاً: أي: لأن عبد ابن كعب لم يدرك النبيّ ولم يخرّجه مسلم في «الصحيح» اهـ.
قال المصنف في «شرح مسلم» : ولقد أحسن أبو البركات الجزري المعروف بابن الأثير في كتاب معرفة الصحابة حيث أنكر هذا القول في وفاته (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اقتطع) أي: أخذ (حق امرىء مسلم بيمينه) دخل فيه من حلف على غير مال كجلد ميتة وسرجين وغير ذلك من النجاسات التي ينتفع بها، وكذا سائر الحقوق التي ليست بمال كحد القذف ونصيب الزوجة في القسم، والتقييد بالمسلم لا يدل على عدم تحريم مال الذمي، بل إنما يدل على هذا الوعيد المذكور في قوله: (فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة) فاقتطاع مال الذمي حرام؛ لكن لا يلزم أن تكون فيه هذه العقوبة العظيمة، هذا على مذهب من يقول بالمفهوم، أما من لا يقول بالمفهوم فلا يحتاج إلى تأويل، ثم قوله: «فقد أوجب ا» الخ محمول على المستحل لذلك وقد مات كذلك فإنه يكفر ويخلد في النار، ومعناه: أنه استحق هذا ويجوز العفو عنه وحرّم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين، قاله المصنف، قال: وهذا الوعيد لمن مات قبل التوبة: أما من تاب توبة صحيحة فندم على فعله وردّ الحق إلى صاحبه فقد سقط عنه الإثم (فقال) أي: أبو أمامة، ويحتمل أن يكون فقال بعض من حضر (وإن كان) أي: المقتطع (شيئاً يسيراً يا رسولالله، فقال) (وإن كان قضيباً من أراك) قال المصنف: هكذا هو في بعض الأصول أو أكثرها، يعني وإن قضيت بالرفع، وفي كثير منها «وإن قضيبا» على أنه خبر كان المحذوفة أو أنه مفعول الفعل محذوف تقديره: وإن اقتطع اهـ والأراك: شجر معروف يستاك بأعواده بل هو أفضل ما يستاك به كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب فضل السواك، وما أحسن قول من قال:(2/535)
با إن جزت بوادي الأراك
وقبلت أغصانه الخضر فاك
فابعث إلى المملوك من بعضها
فإنني وا مالي سواك
(رواه مسلم) قال المزي: ورواه النسائي وابن ماجه.
21513 - (وعن عديّ) بفتح أول مهملية وكسر ثانيهما (ابن عميرة) بفتح العين المهملة وكسر الميم، قال المصنف: لم يأت هذا الاسم في الرجال إلا بفتح العين، وجاء في النساء بالفتح والضم، وعميرة هو ابن زرارة، أبو زرارة الكندي، ذكر له الحافظ المزي في الأطراف ثلاثة أحاديث، انفرد مسلم بالرواية عنه دون البخاري فروي هذا الحديث عنه (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من استعملناه منكم على عمل) من جمع مال الزكاة أو الغنائم أو نحو ذلك (فكتمنا) بميم مفتوحة والفاعل مستتر يعود إلى من وأفرده باعتبار لفظها، وقوله: (مخيطاً) بكسر الميم وسكون المعجمة: هو الإبرة (فما فوقه) في الصغر، وهذا في الكلام كقولك أتراه قصيراً؟ فيقول القائل أو فوق ذلك: أي: هو أقصر مما ترى (كان) أي: المكتوم المدلول عليه بقوله كتمنا نظير {أعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة: 8) (غلولاً) بضم الغين المعجمة (يأتي به يوم القيامة) يحمله كما تقدم في أحاديث الباب وفي رواية أبي داود «فهو غلّ يأتي به يوم القيامة» قال ابن رسلان: الغلّ الحديدة التي يجمع بها يد الأسير إلى عنقه يأتي به يوم القيامة إلى المحشر وهو حامل له كما ذكر مثله في الغالّ، ويحتمل أن يكون الغلّ في يده يوم القيامة في جهنم. وفيه وعيد شديد وزجر أكيد في الخيانة من العامل في القليل والكثير وأنه من الكبائر العظام اهـ. وعلى رواية مسلم ففيه أن ما أخفاه العامل غلول والغلوم حرام وإن قل، وهو من الكبائر ويجب عليه رده بالإجماع؛ فإن كان قد غله من الغنيمة وتفرق الجيش وتعذر إيصال حق كل واحد إليه ففيه خلاف للعلماء، وقال الشافعي وطائفة: يجب تسليمه للإمام كسائر الأموال الضائعة وقال ابن مسعود وابن عباس ومعاوية(2/536)
والحسن والزهري ومالك والثوري والليث وأحمد والجمهور: يدفع خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي (فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه) لم أر من ذكر اسمه لا المصنف في
«شرح مسلم» ولا ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» (فقال: يا رسول الله اقبل عني عملي) .
قال ابن رسلان: النزول عن العمل الذي هو ولاية لا يحتاج إلى قبول، بل لو قال عزلت نفسي انعزل، فيحمل هذا على الاستئذان فإن فيه نوع استشارة (قال: ومالك) كذا هو في الرياض وكذا رأيته في أصل من «صحيح مسلم» بالظرف خبر عن ما الاستفهامية، لكن قال ابن رسلان في «سنن أبي داود» بعد أن ذكر لفظه: «وما ذلك» اسم إشارة مقرون بكاف الخطاب وقبلها اللام، ولفظ مسلم «وما ذاك» أي: بحذف اللام: أي وأيّ شيء لك داع (قال: سمعتك تقول كذا وكذا) من ألفاظ الكنايات مثل كيت وكيت، ومعناه مثل ذا، ويكنى بها عن المجهول وعما لا يراد التصريح به كما في «النهاية» وقد تقدم (قال: وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عمل) يدخل فيه القضاء والحسبة وسائر الأعمال (فليجىء بقليله وكثيره) اللام في فليجىء لام الأمر، وهذا كما قال القرطبي يدل على أن العامل لا يقتطع منه شيئاً لنفسه أجرة ولا غيرها ولا لغيره إلا أن يأذن له الإمام الذي تلزمه طاعته. قال ابن رسلان: ويدخل في عموم ما أهدي له الحديث ابن اللتبية، إذ لو كان في بيت أمه لم يهد له، وما تحت يده من صدقة فرض ونفل، فمتى اقتطع منه شيئاً خانه في أمانته وولايته (فما أوتي) بالبناء للمفعول (عنه انتهى) أعطى (منه أخذ) بالبناء للفاعل: أي: امتنع العامل عن أخذه. قال ابن رسلان: فيذكر العامل الجهات التي قبض منها المال وصفتها، فيأخذ ما جاز أخذه ويترك ما لم يجز أخذه بل يرده على دافعه ويفعل ما تقتضيه الشريعة، وهذا ما ظهر لي ولم يتكلم عليه النووي ولا القرطبي (رواه مسلم) في كتاب الجهاد وأبو داود في كتاب الأقضية.
21614 - (وعن عمربن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر) يجوز فيها الصرف(2/537)
باعتبار المكان ومنعه باعتبار البقعة، وعدم الصرف أكثر في ألسنة المحدّثين، وكانت وقعة خيبر سنة ست من الهجرة عقب مرجعهم من الحديبية، ثم ما ذكر من أنها خيبر بالمعجمة أولها والراء آخرها هو الصواب. وذكر القاضي عياض أن أكثر رواة «الموطأ» رووه هكذا، وأن بعضهم رواه حنين بالحاء المهملة والنون، والله أعلم (أقبل نفر) اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه، كذا في «النهاية» (من أصحاب النبيّ فقالوا: فلان) قال ابن السراج: كناية عن اسم يسمى به المحدث عنه خاص غالباً كما تقدم (شهيد وفلان شهيد حتى مرّوا على رجل) يحتمل أن يكون المراد انتهوا في الذكر، ويحتمل أن يكون المراد المرور عليه ميتاً والأول أقرب (فقالوا) عنه (فلان شهيد. فقال النبيّ: كلا) أي: انته وانزجر عن هذا القول والحكم له بالشهادة المتضمنة الحكم له بالسعادة الأبدية والمنازل العلية الشاهد بذلك قوله تعالى: {بل أحياء عند ربهم} (آل عمران: 169) الآية. (إني رأيته في النار في بردة) بضم الموحدة: ثوب مخطط (غلها) أي: أخذها من الغنيمة قبل أن تقسم (أو) شك الراوي (عباءة) تقدم في الباب ضبطها (رواه مسلم) في كتاب الإيمان، ورواه الترمذي في السير من جامعه بنحوه «قيل: يا رسول الله إن فلاناً استشهد قال: كلا» الحديث، وقال: حسن صحيح.
21715 - (وعن أبي قتادة) بالقاف فالمثناة الفوقية (الحارثبن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة ابن بلرمةبن حناسبن عبيدبن غنمبن كعببن سلمة ابن سعد الأنصاري الخزرجي السلمي، فارس رسول الله، وقيل: اسمه النعمان (رضي الله عنه) اختلف في شهوده بدراً وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد كلها، أصابه سهم بوجهه يوم ذي قرد فبصق على محله النبي، فما ضرب عليه بعد قط ولا قاح، ودعا له في(2/538)
ذلك اليوم فقال: «اللهم بارك في شعره وبشره» وفي سفر آخر قال له: «حفظك الله كما حفظت نبيه» أخرجه أبو داود. توفي سنة أربع وخمسين، قيل: بالمدينة وقيل بالكوفة في خلافة عليّ فصلى عليه عليّ فكبر سبعاً. وعن الشعبي أن علياً كبر عليه ستاً، قال: وكان بدرياً، روي هل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وسبعون حديثاً، اتفقا منها على أحد عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثمانية (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه) بفتح الهمزة وكسرها كما سبق (قام فهم) أي: خطيباً (فذكر لهم) أي: بعد حمد الله والثناء عليه (أن الجهاد في سبيل الله) أي: لإعلاء كلمة الله كما يدل عليه قوله في سبيل الله (والإيمان با) والواو لمطلق الجمع، فلا يرد ما قد يتوهم من أن محل الاعتبار بصالح العمل تقدم الإيمان عليه (أفضل الأعمال) أما بالنظر إلى المجموع فهو على إطلاقه، وكذا بالنظر إلى الأفراد بالنظر إلى الإيمان؛ وأما بالنسبة إلى الجهاد فبالنسبة إلى ذلك الوقت أو هو على تقدير من، وهذا يجري فيما ورد في الحديث أنه أفضل الأعمال، وهو من أفضلها كالصلاة أوّل الوقت ونحو ذلك.
قال القرطبي: وإنما قرن الجهاد بالإيمان هنا في الأفضلية ولم يجعله من مباني الإسلام في حديث ابن عمر لأنه لا يتمكن من إقامة تلك المباني على تمامها وكمالها ولم يظهر دين الإسلام على الأديان كلها إلا بالجهاد، فكأنه أصل في إقامته والإيمان أصل في تصحيح المباني فجمع بين الأصلين في الأفضلية (فقام رجل فقال: أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني (إن قتلت) بالبناء للمجهول (في سبيل ا) أي: لإعلاء كلمة الله واستغنى عنه لظهور «إنما الأعمال بالنيات» ولما تقدم (تكفر) مبني للمجهول والهمزة قبله مقدرة: أي أتكفر (عني خطاياي) يشمل ما يتعلق بحق الله وما يتعلق بحق العباد (فقال له رسول الله: نعم) بفتح أوليه حرف جواب (إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر) أي: على ملاقاة القرن وجراحات السيوف وطعن الرماح وغير ذلك من أتعاب الحرب (محتسب) أي: مخلص تعالى، فإذا قاتل لمعصية أو لغنيمة أو لصيت فلا يحصل له ما ذكر في الخبر من الثواب ولا غيره (مقبل غير مدبر) أي: على وجه الفرار، أما لو أدبر ليكرّ على العدو بعد أو ليأتي بالفئة فالظاهر حصول الثواب المذكور، ويحتمل على بعد أن ذلك مسقط للإثم لا محصل للأجر والله أعلم. وجواب إن(2/539)
الشرطية محذوف اكتفاء بوجوده في السؤال (ثم قال رسول الله) مستدركاً للدين ومثله سائر حقوق العباد من عموم كلامه السابق (كيف قلت؟) أي: أيها السائل (قال) أي: السائل (قلت: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله: نعم وأنت صابر) جملة حالية حذف صاحبها وعاملها لدلالة وجودهما في الكلام السابق: أي: إن قتلت وأنت صابر (محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين) .
قال المصنف: فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة لا تكفر حقوق الآدميين إنما تكفر حققوق الله: أي: الصغائر منها اهـ. قال القرطبي: لكن هذا كله إذا امتنع من أداء الحقوق مع تمكنه منه، وأما إذا لم يجد للخروج من ذلك سبيلاً فالمرجو من كرم الله تعالى إذا صدق في قصده وصحت توبته أن يرضي عنه خصومه كما قد جاء نصاً في حديث أبي سعيد الخدري المشهور في هذا (قال لي ذلك جبريل) قال المصنف: يحمل على أنه أوحى إليه به في الحال (رواه مسلم) في كتاب الجهاد، وكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب الجهاد، وقال الترمذي: حسن صحيح، ثم هذا الحديث مقدم على الحديث بعده في نسخة مصححة، وفي نسخة أخرى بالعكس.
21816 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أتدرون) أي: أتعلمون من الدراية، قال البيضاوي هي علم فيه احتيال وخداع (من المفلس؟ قالوا) بحسب ما يعرفونه فيه عرفاً (المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع) قال في «النهاية» : هو كل ما ينتفع به من عروض الدنيا قليلها وكثيرها (فقال) مشيراً إلى أن هذا لانقطاع أمور الدنيا ونصبها لا ينبغي أن يعدّ حقيقة المفلس وقدلا يزول عنه لعارض من يسار ونحوه (إن المفلس) مفلس(2/540)
الدرجات العلى في الدار الأخرى (من أمتي) أي: أمة الإجابة: أي من المؤمنين (من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام) بهذا ردّ قول سفيانبن عيينة إن وجه إضافة الصوم في حديث «الصوم لي» أن أصحاب التبعات إنما يأخذون من حسنات الظالم حتى يبقى الصيام فعند ذلك يقول الله: «الصوم لي وأنا أجزي به» ، ويرضي عنه الخصوم (وزكاة) أي: وغيرها من عمل البرّ (ويأتي) عطف على يأتي الأوّل (وقد شتم هذا) أي: سبه كما في «الصحاح» (وقذف هذا) أي: رماه بالزنى مثلاً (وأكل مال هذا) أي: بغير رضاه ومثله سائر الإتلافات بأيّ وجه كان، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه إتلاف المال (وسفك) أي: أهرق (دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا) أي: أحد المجنيّ عليه (من حسنته) أي: من ثوابها، ويحتمل أن يعطاها بنفسها ويجازى عليها حينئذٍ وهو مثل ما تقدم في الحديث السابق في الباب «إن كان له عمل صالح أخذ منه» (ويعطي هذا) أي: الآخر بفتح الخاء (من حسناته، فإن فنيت حسناته) بأخذ الغرماء لها. (قبل أن يقضي ما عليه) من التبعات (أخذ) بالبناء للمفعول كالمضارع قبله والماضيين بعد (من خطاياهم) أي: ذنوبهم، وظاهر عمومه يشتمل ما كان متعلقاً بالخلق، ويحتمل أن يخص ما يتعلق بالحق (فطرحت عليه ثم طرح في النار) قدر عمله السيء وما طرح عليه (رواه مسلم) قال ابن الرصاع في كتاب (تذكرة المحبين في «شرح أسماء» سيد المرسلين) قال بعض العارفين عند هذا الحديث: إنه فيه تشديد
وفيه للعقلاء غاية الوعيد فإن الإنسان قلّ أن تسلم أفعاله وأقواله من الرياء ومكايد الشيطان، وإن سلمت له خصلة فقلّ أن يسلم من أذية الخلق، فإذا كان يوم القيامة وقد سلمت له حصلة مع قلة سلامتها طلب خصمك تلك الحسنة وأخذها منكم بحكم مولاك عليك، فإنه لا مال يوم القيامة تؤدي منه ما عليك، بل من حسناتك يا مغبون إن كنت صائماً بالنهار قائماً بالليل جاداً في طاعة الرحمن، وقلّ أن تسلم من غيبة المسلمين وأذيتهم وأخذ مالهم، هذا حال من كان جاداً في الطاعات فكيف من كان مثلنا جاداً في جمع السيئات من أكل الحرام والشبهات(2/541)
والتقصير في الطاعات والإسراع إلى المخالفات اهـ.
21917 - (وعن) أم المؤمنين (أم سلمة) هند بنت أبي أمية المخزومي (رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما أنا بشر) من الحصر الخاص الذي دلت عليه قرينة الحال، قال التوربشتي: وإنما ابتدأ الحديث بهذه الجملة تنبيهاً على أن السهو والنسيان غير مستبعد من الإنسان، وأن الوضع البشري يقتضي ألا يدرك من الأمور إلا ظواهرها. فإن قلت أو لم يكن النبيّ معصوماً في سائر أحواله؟ قلت: العصمة تتحقق فيما يعد عليه ذنباً ويقصده قصداً، أما ما نحن فيه مما يسمعه من الخصم فيتوهم صدقة فليس بداخل فيه، فإن الله تعالى لم يكلفه فيما لم ينزل عليه إلا ما كلف غيره وهو الاجتهاد في الإصابة قال: ويدل عليه ما روي في حديث أم سلمة أي من غير هذا «إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل عليّ» (وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن) قال الطيبي زائدة تشبيهاً للعمل بعسى: أي لعله (يكون ألحن) أفعل تفضيل من لحن بالحاء المهملة كفرح إذا فطن بما لا يفطن به غيره: أي: أفصح أو أفطن (بحجته من بعض) فيزين كلامه بحيث أظنه صادقاً في دعواه (فأقضي له على نحو ما أسمع) .
قال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة الإعراب والتصحيف وهو مذموم وذلك أكثر استعمالاً، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى وهو محمود، وإياه قصد الشاعر بقوله: وخير الحديث ما كان لحناً ومنه قوله تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} (محمد: 30) ومنه قيل للفطن لما لا تقتضي فحوى الكلام لحن، ومنه الحديث ألحن بحجته: أي ألسن وأفصح وأبين كلاماً وأقدر على الحجة. قال العاقولي: وفي الحديث أنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز على غيره: وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر، وهذا لطف من الله تعالى ليستنّ الناس به ويبقوا في ستر من الفضيحة العظمى، إذ لو أطلع أحد على الغيب لم يحتج أحد إلى شاهد في دعواه ولظهر من كل مبطل ما قصده ونواه، وهذا إنما هو في الحكم المستند إلى الشهادة، أما الأحكام الشرعية فلا يقر على ما أمله أن يقع فيه الخطأ منها بخلاف الأوّل، لأنه لا يسمى خطأ إنما يسمى حكماً بالظواهر لم يوافق الباطن، وهو صحيح لكونه مبنياً على القاعدة(2/542)
الشرعية لكونه مرتباً على شهادة الشاهدين (فمن قضيت له بحق أخيه) لظاهر بيانه وحجته وهو يعلم أنه مبطل في نفس الأمر فلا يأخذه (فإنما أقطع له) أي: أعين له بناء على ظاهر الأمر (قطعة من النار) أي: فهو حرام يؤول به إليها كقوله تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم ناراً} (النساء: 10) أي: جزاؤهم ذلك إن لم يعف الله عنهم (متفق عليه) في «الجامع الصغير» بلفظ «من قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها» رواه مالك وأحمد والستة عن أم سلمة، وفي رواية «فإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر» (ألحن) المذكور في الحديث (أي أعلم) .
22018 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: لن يزال المؤمن في فسحة) بضم الفاء وسكون السين وبالحاء المهملتين: أي: سعة (من دينه) ورجاء رحمة من ربه وإن ارتكب الكبائر (ما لم يصب) بضم أوله وكسر ثانيه أي يباشر (دماً حراماً) فإذا قتل نفساً بغير حق ضاقت عليه المسالك ودخل في زمرة الآيسين من رحمةالله، كما ورد في حديث أبي هريرة مرفوعاً «من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة ا» قيل: المراد بشطر الكلمة قول «أق» وهو من باب التغليظ (رواه البخاري) وروى أبو داود عن أبي الدرداء عن رسول الله «لا يزال المؤمن معنقاً» بكسر النون بعد العين المهملة: أي: مسرعاً «في صالح عمله ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً تلج» وفي «الجامع الصغير» وروى الطبراني عن قتادةبن عياش مرفوعاً «لن يزال العبد في فسخة من دينه ما لم يشرب الخمر، فإذا شربها خرق الله عنه ستره، وكان الشيطان وليه وسمعه(2/543)
وبصره ورجله، يسوقه إلى كل شرّ ويصرفه عن كل مرقاة» قال الهروي في «المرقاة» : وهذا يدل على أن المراد الانتهاء عن الكبائر مطلقاً وخص في كل موضع ما ذكر فيه لأمر يقتضيه اهـ.
22119 - (وعن خولة) بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو ويقال لها خويلة (بنت ثامر) بالمثلثة وكسر الميم (الأنصارية وهي) أم محمد (امرأة حمزة) بن عبد المطلب (رضي الله عنه وعنها) وفي نسخة «عنهما بضمير التثنية وهي أخصر. قال المزي في كتاب الأطراف: خولة بنت قيسبن قهد بالقاف ابن قيسبن ميسربن ثعلبة الأنصارية، وقيل: امرأة حمزة خولة بنت ثامر الخولانية. وقيل: إن ثامراً لقب قيس بت قهد. قال عليبن المديني: خولة بنت قيس هي خولة بنت ثامر. قلت: وبذلك قال أبو عمر. قال ابن الأثير: وقد ذكر ترجمة خولة بنت ثامر وأورد فيها حديث الباب، وترجمة خولة بنت قيسبن قهدبن قيسبن ثعلبةبن غنمبن مالكبن النجار الأنصارية النجارية زوج حمزة تكنى أم محمد، وقيل: إن امرأة حمزة خولة بنت ثامر وقيل: إن ثامراً لقب لقيسبن قهد، والأول أصح قاله أبو عمر. تكنى أم محمد، وقيل: أم حبيبة وصحفه ابن منده بأم صبية، قتل عنها حمزة يوم أحد فخلف عليها النعمانبن عجلان الأنصاري الذرقي، ثم قال ابن الأثير: قلت ما أقرب أن يكون ثامر لقب قيسبن قهد فإن الحديث في الترجمتين واحد وهو «إن هذا المال حلوة خضرة» والله أعلم اهـ. ونقل الحافظ في «فتح الباري» قول من فرق بينهما وقول ابن المديني السابق. قال ابن الجوزي: فيمن له ثمانية أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خولة بنت قيس. وقال في «رواة الصحيحين» من الصحابة: انفرد البخاري بخولة (بنت) ثامر، روي عنها حديثاً واحداً (قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن رجالاً يتخوّضون) بالخاء والضاد المعجمتين: أي: يتصرفون (في مال الله بغير حق) أي: يتصرفون في أموال المسلمين بالباطل. ففيه أن التصرف فيها لا يجوز بمجرد التشهي (فلهم النار يوم القيامة) .
قال الحافظ في «الفتح» : هذا حكم مرتب على الوصف المناسب وهو الخوض في مالالله، ففيه إشعار بالعلية (رواه البخاري) ورواه الترمذي من(2/544)
حديث خولة بنت قيس وزاد أوله «إن هذا المال حلوة خضرة من أصابه بحقه بورك له فيه، وربّ متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار» قال الترمذي: حسن صحيح.
27 - «باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم» .(2/545)
(باب تعظيم حرمات) بضمتين جمع حرمة بضم فسكون، وهي ما لا يحلّ انتهاكه من أهل ومال (المسلمين وبيان حقوقهم) على إخوانهم المسلمين (والشفقة) معطوف على تعظيم ويصح عطفه على حرمات أو حقوق (عليهم والرحمة) عطف تفسير (بهم) .
(قال الله تعالى: {ومن يعظم حرمات ا} ) أحكامه وسائر ما لا يحل هتكه أو المراد به الحرم أو ما يتعلق به الحج من التكاليف (فهو) أي فالتعظيم (خير) أي قربة وزيادة في الطاعة (له عند ربه) ثم قيل الظاهر أن خيراً هنا ليس أفعل تفضيل.
(وقال تعالى: {ومن يعظم شعائر ا} ) دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده، وعليه فتعظيمها أن يختارها سمانا غالية الأثمان. «روي أنه أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برّة من ذهب. وأن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار» ( {فإنها من تقوى القلوب} ) أي فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي القلوب فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من، وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور والإمرة بهما.
(وقال تعالى) مخاطباً لنبيه: ( {واخفض جناحك للمؤمنين} ) وتواضع لهم(3/5)
وارفق بهم.
(وقال تعالى {من قتل نفساً بغير نفس} ) أي بغير نفس توجب القصاص (أو) بغير (فساد في الأرض) كالشرك وقطع الطريق. وثبت بالسنة رجم الزاني المحصن وقتل تارك الصلاة (فكأنما قتل الناس جميعاً) من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل وجرأ الناس عليه أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله والعذاب العظيم (ومن أحياها) أي تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنفاذ من بعض أسباب الهلكة (فكأنما أحيا الناس جميعاً) أي كأنه فعل ذلك بهم جميعاً والمطلوب منه تعظيم قتل النفس وإحياؤها في القلوب ترهيباً من التعرض لها وترغيباً في المجافاة لها.
2221 - (وعن أبي موسى) الأشعري (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: المؤمن للمؤمن كالبنيان) فالمؤمن مبتدأ، وقوله كالبنيان خبره، وقوله للمؤمن يصح كونه حالاً من المبتدأ وصفة له، لأن أل فيه جنسية، وقوله: (يشد بعضه بعضاً) جملة استئنافية لبيان وجه الشبه؛ قال القرطبي: هذا تمثيل يفيد الحض على معاونة المؤمن للمؤمن ونصرته، وأن ذلك أمر متأكد لا بد منه، فإن البناء لا يتم ولا تحصل فائدته إلا بأن يكون بعضه يمسك بعضاً ويقويه. وإن لم يكن ذلك انحلت أجزاؤه وخرب بناؤه، وكذا المؤمن لا يشتغل بأمر دنياه ودينه إلا بمعاونة أخيه ومعاضدته ومناصرته، فإن لم يكن ذلك عجز عن القيام بكل مصالحه وعن مقاومة مضادّه فحينئذٍ لا يتم له نظام دنيا ولا دين ويلحق بالهالكين (وشبك) يحتمل أن يكون النبي وأن يكون الراوي (بين أصابعه) وذلك تقريب لوجه التشبيه وبيان للتداخل (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والأدب، ومسلم في الأدب من «صحيحهما» ورواه(3/6)
الترمذي في الزهد وقال: صحيح غريب من حديث أبي موسى، والنسائي في الإيمان.
2232 - (وعنه) أي أبي موسى (قال: قال رسول الله: من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا) قال الحافظ ابن حجر هو تنويع من الشارع وليس شكاً من الراوي (ومعه نبل) جملة في محل الحال من فاعل مرّ، والنبل بفتح النون وسكون الموحدة: السهام العربية وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها (فليمسك أو) شك من الراوي (ليقيض) بكسر اللام للأمر أيضاً (على نصالها) قيل: «على» فيه بمعنى الباء، وقيل ضمن العامل معنى الاستعلاء للمبالغة. والنصال: بكسر النون وبالمهملة الحديدة التي في رأس السهم (بكفه) متعلق بيمسك أو يقبض، مخافة (أن يصيب أحداً من المسلمين منها) أي بسبب النصال فمن تعليلية (شيء) فيتأذى به (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، ومسلم في الأدب ورواه أبو داود في الجهاد، وابن ماجه في الأدب، كذا في «الأطراف» للمزي.
2243 - (وعن النعمان) بضم النون وسكون العين المهملة (ابن بشير) بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة وسكون التحتية (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: مثل) بفتح أوليه، ويقال فيه مثل ومثيل ومثلها شبه وشبه وشبيه: أي فصة (المؤمنين) وفي نسخة «المسلمين» والذي في الصحيحين «المؤمنين» : أي الكاملين الإيمان كما قال ابن أبي حمزة (في توادهم) بتشديد الدال والأصل تواددهم فأدغم، والتوادد تفاعل من المودة: وهي: تقرب شخص من آخر بما يحب. قال القرطبي: ووقع في رواية توادهم بغير «في» ويصح ذلك ويكون مخفوضاً على أنه بدل اشتمال من المؤمنين (وتراحمهم وتعاطفهم) قال ابن أبي جمرة: الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في(3/7)
المعنى لكن بينها فرق لطيف فالتراحم المراد به أن يرحم بعضهم بعضاً بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر، والتوادد المراد به: التواصل الجالب للمحبة فالتزاور والتهادي، والتعاطف المراد به إعانة بعضهم بعضاً كما يعطف طرف الثوب عليه ليقويه اهـ ملخصاً (مثل الجسد) أي بالنسبة إلى جميع أعضائه، وجه الشبه فيه التوافق في التعب والراحة كما بينه بقوله (إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد) أي دعا باقيه بعضه إلى بعض إلى المشاركة في الألم، يقال تداعت الحيطان: أي تساقطت أو كادت (بالسهر والحمى) الظرف متعلق بتداعي، وتداعيه بالسهر لأن الألم يمنع النوم، وأما الحمى فلأن فقد النوم يثيرها. والحمى بضم المهملة وتشديد الميم عرّفها حذاق الأطباء بأنها حرارة غريبة تشتعل في القلب فتنبثّ منه في جميع البدن فيشتعل اشتعالاً يضرّ بالأفعال الطبيعية. قال ابن أبي جمرة، شبه الإيمان بالجسد وأهله بالأعضاء، لأن الإيمان أصل وفروعه التكاليف، فإذا أخل المرء بشيء من التكاليف شان ذلك الإخلال الأصل، وذلك الجسد أصل كالشجر وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من جسد اشتكت الأعضاء كلها بالاهتزاز والاضطراب اهـ. قال القاضي عياض: وفي
الحديث تعظيم حقوق المسلمين والحضّ على تعاونهم وملاطفة بعضهم بعضاً (متفق عليه) . وفي رواية لمسلم عن النعمان مرفوعاً «المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله» .
2254 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل النبي) سبطه وريحانته (الحسن بن علي رضي الله عنهما) وجملة (وعنده الأقرع بن حابس) في محل الحال من فاعل قبل، واسم الأقرع فراس ولقب بذلك لقرع كان في رأسه وهو تميمي كان شريفاً في الجاهلية والإسلام، شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة وحنيناً وحصار الطائف. قال في «فتح الباري» : وهو من المؤلفة وممن حسن إسلامه (فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد)(3/8)
بفتحتين أو بضم فسكون (ما قبلت أحداً منهم) وذلك لما في أهل البادية من الغلظ والجفاء كما في الحديث «من بدا فقد جفا» (فنظر إليه رسول الله) متعجباً من تلك الغلظة الناشىء عنها عدم الشفقة على الأولاد الناشىء عنها عدم تقبيلهم وحملهم وشمهم (فقال) عقب نظره إليه (من لا يرحم) بالبناء للفاعل وحذف المفعول للتعميم/ أو كنى به عن الفعل مع مفعوله: أي من لا يرحم الناس، ويقرب من هذا المعنى رواية جابر: «من لا يرحم الناس لا يرحمه ا» قاله الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» ، لكن الحديث سيأتي عن جرير، ولعل قوله عن جابر من الكاتب أو من باب تنزيل المتعدى منزلة اللازم، ونحو: فلان يعطي ويمنع، أي موصوف بتينك الصفتين: أي من لا رحمة عنده (لا يرحم) بالبناء للمفعول: أي لا يرحمهالله. قال في «فتح الباري» : هو بالرفع فيهما على الخبر. قال عياض: هو الأكثر وقال أبو البقاء «من» موصولة ويجوز أن تكون شرطية فيقرأ مجزوماً. قال السهيلي: جعله على الخبر أشبه بسياق الكلام: أي الذي فعل هذا الفعل لا يرحم، ولو كانت شرطية لكان في الكلام بعض انقطاع لأن الشرط وجوابه كلام مستأنف. قلت: وهو أولى من وجه آخر لأنه يصير كضرب المثل، ورجح
بعضهم كونها موصولة لكون الشرط إذا أعقبه نفي ينفى بلم لا بلا، كقوله: «ومن لم يؤمن» وإن كان الآخر جائزاً كقول زهير: «ومن لا يظلم الناس يظلم» وهذا لا يقتضي ترجيحاً إذا كان المقام لائقاً بكونها شرطية، وأجاز بعض شراح المشارق رفع الجزءين وجزمهما ورفع الأول وجزم الثاني أو عكسه، ويحصل منه أربعة أوجه استبعد ثالثها، ووجه أن يكون في الثاني بمعنى النهي: أي من لا يرحم الناس لا ترحموه، وتقدير الرابع: من لا يكون من أهل الرحمة فإنه لا يرحم اهـ. ملخصاً من «الفتح» . وشارح المشارق المشار إليه هو الشيخ أكمل الدين، وعبارته: روي بالسكون والرفع، أما السكون فيهما فعلى الشرط والجزاء، وأما الرفع في الأول فيجعل من موصولة وكذا في الثاني، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي فهو لا يرحم اهـ. وفاته ذكر الوجه الثالث، ومعنى هاتين الجملتين قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون من لا يرحم غيره بأيّ نوع من أنواع الإحسان لا يحصل له هذا الثواب كما قال تعالى:
{هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) ويحتمل أن يكون المراد من لا تكون فيه رحمة الإيمان في الدنيا لا يرحم في الآخرة، أو من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه لا يرحمه الله لأنه ليس عنده عهد، فتكون الرحمة الأولى بمعنى الأعمال، والثانية(3/9)
بمعنى الجزاء، أي لا يثاب إلا من عمل صالحاً، ويحتمل أن تكون الأولى الصدقة الثانية البلاء: أي لا يسلم من البلاء إلا من تصدق، ومن لا يرحم الرحمة التي ليس فيها شائبة أذى لا يرحم مطلقاً، أو لا ينظر الله بعين الرحمة إلا إلى من جعل في قلبه الرحمة ولو كان عمله صالحاً اهـ. ملخصاً. قال: وينبغي للمرء أن يتفقد نفسه في هذه الأوجه كلها، فما قصر فيه لجأ إلى الله تعالى في الإعانة عليه اهـ. وفي جواب النبي للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل والمحارم والأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة، لا للشهوة واللذة، وكذا الضم والمعانقة والشم (متفق عليه) . قال في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة، ورواه الشيخان عن جرير. وروى أحمد والشيخان والترمذي عن جرير «من لا يرحم الناس لا يرحمه ا» ورواه بهذا اللفظ أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد، ورواه الطبراني بلفظ «من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء» عن جرير، ورواه أحمد بلفظ: «من لا يَرحم لا يُرحم/ ومن لا يَغفر لا يُغفر له» عن جرير، ورواه بهذا اللفظ الطبراني عن جرير وزاد «من لا يتب لا يتب عليه» اهـ.
2265 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم) بكسر الدال المهملة (ناس) اسم جنس قيل أصله أناس بضم الهمزة فحذفت حذفها في لوقه وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يجمع بينهما، وهو اسم جمع كرجال إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع. وتقدم عن البيضاوي في التفسير أنه مأخوذ من أنس كفرح لأنهم يأنسون بأمثالهم، أو أنس كضرب لأنهم ظاهرون مبصرون ولذا سموا بشراَ كما سمي الجن جناً لاجتنانهم اهـ. وقيل قلب من نسي، وقيل بل أصله ناس ينوس إذا اضطرب. وكأن تعويض أل عن الهمزة ليس على وجه اللزوم فلذا قالته الفصيحة بالتنكير وأل فيه إذا عرف للجنس. وهؤلاء الناس يحتمل أن يكونوا من بني تميم الذين رئيسهم الأقرع فيكون الحديث وما قبله في قصة واحدة، ويحتمل أنهما قصتان (من الأعراب) هم سكان البوادي، وفي نسخة من العرب وهم ولد إسماعيل (على رسول الله) وفي رواية البخاري «جاء أعرابي إلى رسول الله» وهذا الرجل قال شيخ الإسلام زكريا نقلاً عن الحافظ: يحتمل كونه الأقرع. قلت: وحكى المصنف في مبهماته عن الخطيب قولاً: إنه عيينة بن حصن، قال: وقد جاء(3/10)
في «الصحيحين» التصريح بأنه الأقرع فإن صح عن عيينة أيضاً فهما قصتان اهـ (فقالوا) وقد رأوا المسلمين يقبلون صغارهم (أتقبلون صبيانكم) بكسر الصاد وضمها جمع صبي ويجمع على صبية كما في (الصحاح) ، وفي رواية البخاري السابقة «تقبلون» بتقدير ألف الاستفهام (فقالوا) أي المسلمون وفي نسخة «فقال أي النبي (نعم قالوا) أي الأعراب أو العرب (لكنا) استدراك من قولهم نعم من حيث أن الجنس واحد وأنهم بشر فربما يتوهم أنهم كذلك، فقالوا (لكنا وا ما تقبل) من حذف المفعول للتعميم، أي صغارنا أو من تنزيل التعدي منزلة اللازم نحو {هل يستوي الذين يعملون} (الزمر: 9) (فقال رسول الله: أو أملك) بالهمزة للاستفهام الإنكاري، وهو بفتح الواو العاطفة على مقدر بعد الهمزة على رأي الزمخشري. وقيل: إن الهمزة من جملة المعطوف وإن الواو مؤخرة
من تقديم لصدارة الهمزة، والتقدير على الأول: تنزع الرحمة من قلبك وأملك؟: أي أقدر أن أجعلها في قلبك، فمفعول أملك محذوف، وقوله: (أن نزع الله من قلوبكم الرحمة) بفتح الهمزة تقليل لذلك: أي لا أملك وضعها في قلوبكم لأن الله نزعها منكم. وأشار صاحب المفاتيح إلى كون أن بفتح الهمزة ومدخولها مفعول أملك على تقدير مضاف: أو أملك عدم نزع الله منكم الرحمة: أي لأن ما نزعه الله تعالى لا يقدر أحد على وضعه. قال العاقولي: ويجوز كسر الهمزة على أنّ إن أداة شرط جزاؤها محذوف لدلالة الكلام السابق عليه: أي إن نزع الله الرحمة من قلبكم فلا أملك لم دفعه ومنعه (متفق عليه) وهذا لفظ مسلم. وهذا الحديث اقتصر المزي على عزوه للبخاري فقط، مع أنه بهذا اللفظ لمسلم في كتاب فضائل الأنبياء وأما البخاري فرواه في كتاب الأدب بنحوه.
2276 - (وعن جرير بن عبد الله) البجلي (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: من لا يرحم الناس) خصوا بالذكر اهتماماً بهم، وإلا فالرحمة مطلوبة لسائر المخلوقات حتى الدوابّ والبهائم. ففي كل كبد حرّاً رطبة أجر (لا يرحمه ا) قال العاقولي: الرحمة بمعنى(3/11)
التعطف والرقة، فهي من الخلق بالمعنى ومن الله بالمعنى الغائي وهو الرضى عنه وإيصال النعم إليه. قال الدماميني في مصابيح الجامع الصحيح: اعلم أنه يجوز عند المتكلمين في تأويل ما لا يسوغ نسبته إلى الله تعالى على حقيقته اللغوية وجهان: أحدهما الحمل على الإرادة فيكون من صفات الذات. والآخر الحمل الحمل على فعل الإكرام فيكون من صفات الأفعال كالرحمة فإنها في اللغة مشتقة من الرحم وحاصلها رقة طبيعية وميل جبلي وهذا مستحيل في حق الباري فمنهم من يحملها على إرادة الخير ومنهم من يحملها على فعله ثم بعد ذلك يتعين أحد التأويلين في بعض السياقات لمانع يمنع الآخر كحديث «خلق الله الرحمة يوم خلقها» فيتعين تأويل الرحمة بفعل الخير لتكون صفة فعل فتكون حادثة عند الأشعري فيتسلط عليها الخلق، ولا يصح تأويلها فيه بالإرادة لأنها إذ ذاك من صفات الذات فتكون قديمة فيمتنع تعلق الخلق بها، ويتعين تأويلها بالإرادة في قوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (هود: 43) لأنك لو حملتها على الفعل لكان العصمة بعينها فيكون استثناء الشيء من نفسه، وكأنك قلت: لا عاصم إلا العاصم فتكون الرحمة الإرادة، والعصمة على بابها لفعل المنع من المكروهات، كأنه قال: لا يمنع المحذور إلا من أراد له السلامة، فتأمل اهـ. (متفق عليه) اقتصر المزي في «الأطراف» على عزوه بهذا اللفظ عن جرير إلى مسلم والترمذي قال: قال الترمذي: حسن صحيح، وتقدم تخريجه من الصحيحين وغيرهما في الكلام على حديث أبي هريرة نقلاً عن «الجامع الصغير» .
2287 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صلى أحدكم) إماماً (للناس) وفي رواية مسلم «إذا أمّ أحدكم» (فليحفف) بأن يقتصر على أواسط المفصل وصغاره، وفي التسبيح في الركوع والسجود على ثلاث مرات، ويأتي بكمال التشهد والصلاة(3/12)
على النبي، وهذا في إمام العامة، أما إمام قوم محصورين لم يتعلق بعينهم حق، راضين بالتطويل في مسجد لا يطرقهم غيرهم فلا بأس به ومحل ذلك أيضاً في غير ما لم يرد فيه قراءة سورة معينة وإلا كـ {آلم تنزيل} (البقرة: 1) {وهل أتى} (الإنسان: 1) في صبح الجمعة، {وق} {واقتربت} في العيد، ونحو ذلك فيأتي به وإن لم يرض القوم اكتفاء بوروده من فعله. قال ابن دقيق العيد: التخفيف والتطويل من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيفاً بالنسبة إلى عادة قوم، ذويلاً بالنسبة إلى عادة قوم آخرين. وقول الفقهاء: لا يزيد الإمام على ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود لا يخالف ما ورد عن النبي أنه كان يزيد على ذلك، لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلاً. قال الحافظ ابن حجر: وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص: «أن النبي قال له: أنت إمام قومك، وأقدر القوم بأضعفهم» إسناده حسن وأصله في مسلم (فإن فيهم الضعيف) أي في خلقته كالنحيف (والسقيم) من به مرض (والكبير) أي في السن والجملة تعليل للأمر المذكور، وقضيته أنه متى لم يكن فيهم متصف بصفة من المذكورات لم يضرّ التطويل، لكن قال ابن سيد الناس اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقاً، قال: وهذا كما شرع القصر في صلاة السفر، وعلل بالمشقة وهي مع ذلك تشرع «وإن لم يشق عملاً بالغالب لأنه لا يدري ما يطرأ عليه وكذلك هنا (وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) ومسلم «فليصل كيف شاء» أي مخففاً أو مطولاً (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي إلى
قوله: «والكبير» وفي «الجامع الصغير» من حديث أبي واقد «كان أخفّ الناس صلاة على الناس، وأطول الناس صلاة لنفسه» رواه أحمد (وفي رواية) أي في «الصحيحين» وهي عند أبي داود أيضاً (وذا الحاجة) أي صاحب حاجة يريد قضاءها عقب الصلاة.(3/13)
2298 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن) مخففة من الثقيلة أي إنه (كان رسول الله) من كمال شفقته على أمته (ليدع) أي يترك (العمل) واللام هي الفارقة بين المخففة وإن النافية، وجملة (وهو يحب أن يعمل به) في محل الحال ومحبته للعمل لما فيه من التقرّب إلى الله عزّ وجلّ والتوسل إلى زيادة مراضيه، وقوله: (خشية) مفعول: أي خوف (أن يعمل به الناس) اتباعاً له إذا فعله وهم مقتدون به في سائر الأحوال (فيفرض عليهم) ومن ذلك ترك الخروج إلى قوم لصلاة الليل جماعة في الليلة الثالثة أو الرابعة من رمضان حتى طلع الفجر، فخرج عليهم وقال: «ما منعني إلا خشية أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» (متفق عليه) .
2309 - (وعنها) أي عائشة (قالت: نهاهم) أي الصحابة (النبي عن الوصال) وهو أن لا يتناول مفطراً بين الصومين، وقيل استدامة أحوال الصائم، فعلى الثاني يخرج من الوصال بالجماع والتقيؤ دون الأول، والنهي فيه عندنا للتحريم (رحمة لهم) علة للنهي ولا يمنع من كونه على وجه التحريم ويكون سبب التحريم الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم (فقالوا: إنك تواصل) أي وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، تفعل ذلك تقرّباً إلىالله، فنحن لكوننا لسنا معصومين أولى بفعل ما يكتسب به غفر الذنوب والتوصل إلى مرضاة الله تعالى (قال) مبيناً لاختصاص قربة الوصال به (إني لست كهيئتكم) أي على صفتكم ومنزلتكم من الله: أي إن له من القرب من الله تعالى وعلوّ المنزلة عنده ما ليس لهم وفي رواية للبخاري «وأيكم مثلي» وهذا الاستفهام يفيد التوبيخ المشعر بالاستبعاد (إنى يطعمني) بضم أوله (ربي ويسقيني) يجوز فتح أوله وضمه من سقى وأسقى إلا أن تصح رواية بأحدهما فيرجع إليها (متفق عليه)(3/14)
أخرجه مسلم في كتاب الصوم وكذا البخاري فيه «وفي غيره ورواه مالك والنسائي (معناه) أي المعنى المراد من قوله يطعمني إلخ (يجعل فيّ) بتشديد الياء (قوة من أكل وشرب) كذا قاله الجمهور فهو مجاز من ذكر الملزوم وإرادة اللازم: أي يجعل فيّ القوة المذكورة ويفيض على ما يسد مسد الطعام والشراب، والقوّة على أنواع الطاعات من غير ضعف في القوة ولا كلال في الإحساس. 0 وقيل المعنى على المجاز أيضاً أنه يجعل فيه من الشبع والري ما يغني عن الطعام والشراب فلا يحس بجوع ولا عطش. والفرق بين القولين أنه على الأول يعطي القوة من غير شبع ولا ري، وعلى الثاني يعطي القوة مع ذلك، ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوّت المقصود من الصيام والوصال لأن الجوع روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبي: ويبعده أيضاً النظر إلى حاله فإنه كان يجوع أكثر مما كان يشبع ويربط على بطنه الحجارة من الجوع. وجنح
ابن القيم إلى أن المراد أنه يشغله بالتفكر في عظمته والتحلي بمشاهدته والتغذي بمعارفه وقرّة العين بمحبته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب/ قال: وقد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني اهـ. وقيل إن المراد منه حقيقته فإنه كان يؤتى بطعام وشراب من الجنة كرامة له، وذلك لا يفطره لأن المفطر طعام الدنيا، أما طعام الجنة: أي المأتي على وجه المعجزة فلا، وبه يردّ ردّ المصنف بقوله: لو كان حقيقة لم يكن مواصلاً. قال ابن المنيرّ: هو محمول على أن أكله في تلك الحالة كحال النائم الذي يحصل الشبع والريّ ويستمرّ له حتى يستيقظ فلا يبطل به صومه ولا ينقطع وصاله ولا ينقص أجره. قال الحافظ: وحاصله أن يحمل ذلك على حالة استغراقه في أحواله الشريفة حتى لا يؤثر فيه حينئذٍ شيء من الأحوال البشرية اهـ. وقيل إنه كان يؤتى به في النوم فيستيقظ وهو يجد الشبع والري.
23110 - (وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي) الأنصاري (رضي الله عنه قال: قال(3/15)
رسول الله: إني لأقوم إلى الصلاة وأريد أن أطول فيها) جملة حالية من فاعل أقوم أو معطوفة على جملة لأقوم، وإرادته التطويل فيها لما يناله من قرة عينه بمناجاته ربه ولذيد أنسه به كما قال: «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» هذا هو الأصح، وإن احتمل أن المراد ما قاله ابن فورك: من أن تلك الصلاة هي قوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبيّ} (الأحزاب: 56) ذكره الشنواني في حاشية شرح خطبة «مختصر خليل» للقاني (فأسمع بكاء الطفل) قال في «الصحاح» : الطفل هو المولود، قال البدر الدماميني في «تحفة الغريب على مغني اللبيب» وقد كنت وقفت على فصل لبعض اللغويين ذكر فيه صفات الإنسان التي يختص بإطلاقها عليه بحسب الأزمنة المختلفة فقلت ناظماً لها:
أصخ لصفات الآدمي وضبطها
لتلتقط دراً تقتنيه بديعا
جنين إذا ما كان في بطن أمه
ومن بعد يدعى بالصبي رضيعا
وإن فطموه فالغلام لسبعة
كذا يافع للعشر قله مطيعا
إلى خمس عشر بالجزوّر سمه
لتحسن فيما تنتحيه صنيعا
فمد إلى خمس وعشرين حجة
بذاك دعاه الفاضلون جميعا
ومن بعد يدعي بالعطيطل لأنها
ثلاثين فاحفظ لا تعد مضيعا
صل لحد الأربعين وبعده
بكهل إلى الخمسين فادع سميعا
وشيخاً إلى حد الثمانين فادعه
بها ثم هما للممات سريعا
قال الحافظ ابن حجر في أواخر كتاب الهبة من «الفتح» : يطلق على الشخص قبل البلوغ أنه طفل وغلام، وتخصيص بعض اللغويين بما ذكر أغلبي (فأتجوز) أي أخفف (في صلاتي) بين مسلم في رواية له عن أنس محل التخفيف منها ولفظه «فيقرأ بالسورة القصيرة» وبين ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن سابط مقدارها ولفظه «أنه قرأ في الركعة الأولى سورة طويلة، فسمع بكاء صبيّ فقرأ في الثانية بثلاث آيات» وهذا مرسل (كراهية) بتخفيف الياء مصدر كره وهو مفعول له أي لكراهة (أن أشق على أمه) بدوامها(3/16)
في الصلاة لتطويلها مع بكاء ابنها، وذكر الأم خرج مخرج الغالب، وإلا فمن في معناها ملحق بها، والتخفيف السابق في حديث أبي هريرة لحقّ المأمومين، وفي هذا لمصلحة غير المأمومين لكن بحيث يتعلق بمن يرجع إليه، وفي الحديث شفقته على الصحابة ومراعاة أحوال الكبير منهم والصغير (رواه البخاري) في كتاب الصلاة، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
23211 - (وعن) أبي عبد الله (جندب) بضم الجيم والمهملة وبفتحها (ابن عبد ا) ابن صفيان البجلي العلقي (رضي الله عنه) وعلقة: بفتح المهملة واللام بطن من بجيلة، له صحبة ليست بالقديمة. وقال في «المشكاة» ، جندب القسري، بفتح أوليه، قال: وفي بعض نسخ المصابيح القشيري قال شارحها وهو غلط، قال ابن الأثير: والذي ذكره الكلبي أن جندب الخير هو جندب بن عبد الله بن الأحزم الأزدي الغامدي اهـ. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثاً، أخرج له منها في «الصحيحين» اثني عشر حديثاً اتفقا على سبعة منها، والباقي لمسلم (قال: قال رسول الله: من صلى صلاة الصبح) أي جماعة كما في رواية أخرى لمسلم فتقيد بها هذه الرواية المعلقة (فهو في ذمة ا) أي أمانه وعهده وكأنها خصت بذلك لأنها أول النهار الذي هو وقت ابتداء انتشار الناس في حوائجهم المحتاجين فيه وفي دوامه إلى أمن بعضهم من بعض لا لأفضليتها. قيل وهذا أوضح مما قاله الطيبي من أنها خصت بالذكر لما فيها من الكلفة والمشقة، فكان أداؤها مظنة خلوص الرجل ومئنة إيمانه، ومن كان مؤمناً فهو في ذمة الله وعهده، وذلك لأن ما قاله الطيبي يجري في العصر، فكان ذكر ذلك فيها أولى لوجود هذا المعنى فيها مع كونها أفضل وفي العشاء بل المشقة فيها أكثر، فلم يبق ما يميز الصبح عن غيرها من الخمس إلا ما ذكرناه (فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته) أيالله. قال الطيبي: ويجوز أن يعود إلى من، وقيل يحتمل أن المراد بالذمة الصلاة المقتضية للأمان فيكون المعنى لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض به العهد الذي بينكم وبين ربكم فيطلبكم به (فإنه) أي الشأن (من يطلبه) أي الله (من ذمته) أي من عهده، بأن خفره فيه وتعرض لمن هو فيه ولو (بشيء) يسير (يدركه) إذ لا مهرب منه (ثم) بعد إدراكه (يكبه) بفتح حرف المضارعة وهو أحد(3/17)
الأفعال التي ثلاثيها متعدّ وإذا زيدت فيه الهمزة صار قاصراً: أي يلقيه (على وجهه في نار جهنم)
قال الطيبي: قوله فلا يطلبنكم من باب لا أرينك هاهنا، وقع النهي عن مطالبة الله إياهم عن نقض العهد، والمراد نهيهم عن التعرض لما يوجب مطالبة الله إياهم، وفيه مبالغات لأن الأصل لا تخفروا ذمته فجيء بالنهي كما ترى وصرح بلفظ «ا» ووضع المنهي، الذي هو مسبب موضع التعرض الذي هو سبب فيه، ثم أعاد الطلب وكرر الذمة ورتب عليه الوعيد. والمعنى: من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا تتعرضوا له بشيء يسير، فإنكم إن تعرضتم له يدرككم الله ولن تفوتوه فيحيط بكم من جوانبكم كما يحيط المحيط بالمحاط فيكبكم في نار جهنم. قال ابن حجر الهيتمي في «شرح المشكاة» : وفيه غاية التحذير من التعرّض بسوء لمن صلى الصبح المستلزمة لصلاة بقية الخمس وأن في التعرض له بسوء غاية الإهانة والعذاب. اهـ. ونقل الشعراني في كتاب الحوض المورود أن الحجاج كان مع شدة فجوره إذا أتى له بأحد يسأله هل صليت الصبح؟ فإن قال نعم ترك التعرّض له بسوء خوفاً من هذالوجه (رواه مسلم) في كتاب الصلاة، ورواه الترمذي من حديث أبي هريرة ولفظه: «من صلى الصبح فهو في ذمةالله، فلا يتبعنكم الله بشيء من ذمته» وسيأتي فيه بسط في باب التحذير من إيذاء الصالحين.
23312 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المسلم أخو المسلم) قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10) قال البيضاوي: أي من حيث إنهم منسوبون إلى أصل وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية اهـ. ورتب على هذه الأخوة المقتضية لمزيد الشفقة والتناصر والتعاون قوله (لا يظلمه) بأن ينقصه من ماله أو من حقه بغصب أو نحوه، ولا يسلمه إلى عدوّ متعد عليه عدواناً، بل ينصره ويدفع الظلم عنه ويدفعه عن الظلم كما سيأتي في حديث «انصر أخاك ظالماً» (ولا يسلمه) إلى عدوه ومنه نفسه التي هي أمارة بالسوء والشيطان كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوّاً} (فاطر: 6) فيحول بينه(3/18)
وبين دواعي النفس من الشهوات والدعة المقتضية للنزول عن مقام الأخيار والحلول في جملة الأشرار، وبينه وبين الشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء، وبينه وبين العدو الباغي عليهم عليه بالظلم والاعتداء (من كان في حاجة أخيه) أي ما يحتاج إليه حالاً أو مآلاً (كان الله في حاجته) جزاء وفاقاً - {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) روى الطبراني مرفوعاً «أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له حاجته» وورد مرفوعاً أيضاً «من سعى في حاجة أخيه المسلم قضيت له أو لم تقض غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق» وأوردهما في «الفتح المبين شرح الأربعين» (ومن فرج) بتشديد الراء (عن مسلم كربة) بضم الكاف: الهم الذي يأخذ النفس (فرج الله عنه بها) أي بتلك المرة من التفريج (كربة من كرب) بضم ففتح جمع كربة كقربة وقرب (يوم القيامة) ثم آثر التفريج على رديفه من وسع الوارد في رواية أخرى، لأنه أعظم من التنفيس لأنه إزالتها بالكلية، والتنفيس إنما فيه إرخاء وتهوين (ومن ستر مسلماً) من ذوي الهيئات ونحوهم ممن لم يعرف بأذى أو فساد بأن علم منه معصية فيما مضى
فلم يخبر بها حاكماً وهذا للندب، إذ لو لم يستره. ورفعه لحاكم لم يأثم إجماعاً، بل ارتكب خلاف الأولى أو مكروهاً، أما كشفها لغير الحاكم كالتحدث بها فذلك غيبة شديدة الإثم والوزر، ويندب لمن جاءه تائب وأقرّ بجد ولم يفسره أن لا يستفسره بل يأمره بستر نفسه كما أمر ما عزا، وكذا تندب الشفاعة فيمن ظهرت منه جريمة من ذوي الهيئات حتى لا يوصل إليه، ففي الحديث «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» رواه أبو داود والنسائي، ومنه أخذ أصحابنا أن لا تعزيز لذوي الهيئة على هفوة أو زلة صدرت منه أو المراد بستر المسلم ستر المسلم ستر عورته الحسية والمعنوية بإعانته على ستر دينه، كأن يكون محتاجاً لنكاح فيتوصل له في التزوّج أو الكسب فيتوصل له إلى بضاعة يتجر فيها أو نحو ذلك (ستره الله يوم القيامة) بالمعنيين بأن لا يعاقبه على ما فرط منه لأنه تعالى حييّ كريم، وستر العورة من الحياء والكرم، ففيه تخلق بخلقالله، وا يحبّ المتخلق بأخلاقه، وخرج بنحو ذوي الهيئات من عرف بالأذى والفساد فيندب، بل قد يجب أن لا يستر عليه بل أن يظهر حاله للناس حتى يتوقوه أو يرفعه لوليّ الأمر حتى قيم عليه(3/19)
واجبه من حدّ أو تعزير ما لم يخش مفسدة، لأن الستر عليه يطعمه في مزيد الأذى والفساد، وبقولنا فيما مضى ما لو رآه متلبساً بالمعصية فيلزمه المبادرة بمنعه منها بنفسه إن قدر وإلا فيرفعه للحاكم كما مرّ ما لم يترتب عليه مفسدة، والكلام في غير نحو الرواة والشهود والأمناء على نحو صدقة أو وقف أو يتيم فيجب بالإجماع جرحهم على من يعلم قادحاً فيهم/ وليس هذا من الغيبة المحرّمة بل من النصيحة الواجبة (متفق عليه) .
وسبب فضل ما ذكر في الخبر أن الخلق عيالالله، وتنفيس الكرب وستر العورة إحسان إليهم، والعادة أن السيد المالك يحبّ الإحسان لعياله وحاشيته، وفي الأثر «الخلق عيالالله، وأحبهم إلى الله أرفقهم لعياله» .
23413 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: المسلم أخو المسلم) كالتعليل للحكم المذكور بعده، لأن الأخوة مقتضية للشفقة داعية للمعروف والمنفعة (لا يخونه) من الخيانة ضد الأمانة، أو يخونه ينقصه حقه الذي له عليه من التعاون والتعاضد (ولا يكذبه) يجوز أن يكون بفتح الياء: أي يخبره خبراً كاذباً ومنه قوله تعالى: {كذبوا الله ورسوله} (التوبة: 90) ويجوز أن يقرأ ويجوز أن يقرأ بضم أوله وسكون ثانيه وتخفيف ثالثه: أي لا يلقيه للمخبر بفتح الباء كاذباً أو بتشديد الثالث: أي لا ينسبه إلى الكذب، ثم رأيت عن المصنف ضبطه بضم أوله وإسكان ثانيه، وفسره بأن لا يخبره بأمر على خلاف الواقع لغير مصلحة (ولا يخذله) بضم الذال المعجمة أي: لا يترك نصرته المشروعة سيما مع الاحتياج والاضطرار، قال الله تعالى: {وتعانوا على البرِّ والتقوى} (المائدة: 2) وقال تعالى: {واستنصروكم في الدين فعليكم النصر} (الأنفال: 72) فالخذلان محرم شديد التحريم، ودنيوياً كان كأن يقدر على نصرة مظلوم ودفع ظالمه عنه فلا يدفعه، أو دينياً كأن يقدر على نصحه عن نحو غيبة فيترك. وقد روى أبو داود «ما من مسلم يخذل امرأً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله(3/20)
الله في الدنيا والآخرة» (كل) مبتدأ (المسلم) فيه ردّ على من زعم منع إضافة كل للمعرفة (على المسلم حرام) خبر ويبدل من كل (عرضه) أي حسبه ومفاخرة ومفاخر آبائه بأن تنتهك بالسبّ والغيبة والبهت، ويمنع من حمل العرض هنا على النفس وإن كان يطلق عليها لغة أنه لو حمل عليها لكان تكراراً مع قوله: «ودمه» إذ هو عبارة عن النفس (وماله) بأن يغصب أو يخان فيه (ودمه) أي نفسه بأن يتعرض لها بقتل أو أطرافها وأدلة تحريم هذه الثلاثة مشهورة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وجعلها كل المسلم وحقيقته لشدة اضطراره إليها، أما الدم فلأن به حياته ومادته المال فهومادة الحياة، والعرض به قيام صورته المعنوية،
واقتصر عليها لأن ما سواها فرع عليها وراجع إليها، لأنها إذا قامت الصورة الحسية والمعنوية فلا حاجة إلى غير ذلك وقيامها بتلك الثلاثة لا غير، ولكن حرمتها هي الأصل لم يحتج إلى تقييدها بما إذا لم يعرض ما يبيحها شرعاً كالقتل قوداً وأخذ مال المرتد فيئاً وتوبيخ المسلم تعزيراً ونحو ذلك (التقوى ههنا) أي في القلب (بحسب) بإسكان السين والباء فيه مزيدة وهو مبتدأ: أي كافي (امرىء) أي شخص (من الشر) في أخلاقه ومعاشه ومعاده (أن يحقر أخاه المسلم) لأن الله إذا لم يحتقره إذ أحسن تقويم خلقه وسخر له ما في السموات والأرض كله لأجله ومشاركة غيره له فيه بطريق التبع وسماه مسلماً أو مؤمناً وعبداً، وجعل الأنبياء الذين هم أفضل المخلوقين من جنسه كان احتقاره احتقاراً لما عظمه الله وشرّفه، وهو من أعظم الذنوب والجرائم، قال: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر» وقد فسره في الحديث بقوله: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» أي احتقارهم ومنه أن لا يبدأه بالسلام احتقاراً له ولا يرده عليه (رواه الترمذي) ومعناه عند مسلم في الحديث الآتي عقبه. قال السخاوي فيتخريج الأربعين للمصنف: رواه الترمذي بجملته وذكر فيه بعد وعرضه «التقوى ههنا، ويشير بيده إلى صدره ثم قال: بحسب» ورواه أبو داود مقتصراً على «كل المسلم» إلخ دون قوله: «وأشار بيده إلى صدره» (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) وزاد السخاوي عنه: حسن صحيح. وقال المصنف في «الأذكار» : وما أعظم نفعه وأكثر فوائده اهـ.(3/21)
23514 - (وعنه) أي عن أبي هريرة (قال: قال رسول الله: لا تحاسدوا) أي: لا يحسد بعضكم بعضاً، وأصله تتحاسدوا بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً، وهل هي تاء المضارعة أو فاء الكلمة؟ فيه خلاف. وقد أجمع الناس من المتشرعين وغيرهم على حرمة الحسد وقبحه، ونصوص الشرع الواردة بذلك كثيرة في الكتاب والسنة. وهو لغة وشرعاً: تمني زوال نعمة المحسود، ويخالف الغبطة، فإنما هي تمني مثل تلك النعمة مع بقائها لصاحبها. ووجه ذم الحسد وقبحه أنه اعتراض على الله تعالى له حيث أنعم على غيره مع محاولته نقض فعله وإزالة فضله. ومما يوضح ظلمه أنه يلزمه أن يحبّ لمحسوده ما يحب لنفسه وهو لا يحبّ لها زوال نعمتها، فقد أسقط حق محسوده مع ما فيه من تعب النفس وحزنها من غير فائدة بطريق محرم فهو تصرف رديء. والحسد أقسام: فمنهم من يسعى بلسانه ويده في نقل نعمة المحسود لنفسه أو لغيره وهو أخبث أنواعه، ومنهم من لا يسعى في ذلك، فهذا غير آثم كما قال الحسن البصري بل ورد مرفوعاً من وجوه ضعيفة، وظاهر أن محله إن عجز عن إزالة الحسد من نفسه بأن جاهدها في تركه ما استطاع، بخلاف من يحدث نفسه به اختياراً مع تمني إزالة نعمة المحسود فهذا لا شك في تأثيمه بل تفسيقه. ومنهم من يسعى في حصول مثل المحسود عليه فهذا حسن إن كان في الأمور الدينية، فقد تمنى الشهادة في سبيل الله، ولا حسن فيه في الامور الدينية كذا لخص من الفتح المبين (ولا تناجشوا) أي لا ينجش بعضكم على بعض بأن يزيد في السلعة لا لرغبة فيها بل ليخدع غيره وهو حرام إجماعاً على العالم بالنهي سواء كان بمواطأة البائع أم لا، لأنه غش وخداع وهما محرّمان، لأنه ترك للنصح الواجب، ويصح تفسير النجش هنا بما هو أعم من ذلك، لأن النجش لغة، إثارة الشيء بالمكر والحيلة والخداع فالمعنى: لا تتخادعوا ولا يعامل بعضكم بعضاً بالمكر والاحتيال وإيصال الأذى إليه، قال تعالى: {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} (فاطر: 43) فيدخل
فيه على هذا جميع أنواع المعاملات بالغش ونحوه كتدليس عيب وكتمه وخلط جيد برديء، ويجوز المكر بمن يحل أذاه وهو الحربي ومن ثم قال: «الحرب خدعة» (ولا تباغضوا) أي لا يبغض بعضكم بعضاً: أي لا تتعاطوا أسباب البغض لأنه قهري كالحبّ لا قدرة للإنسان على اكتسابه ولا يملك التصرف فيه، وهو النفرة عن الشيء لمعنى فيه مستقبح وترادفه الكراهة،(3/22)
ثم هو بين اثنين، إما من جانبيهما أو من جانب أحدهما، وعلى كل فهو لغير الله تعالى حرام وهو محمل الحديث، وله واجب ومندوب، قال: «من أحبّ وأبغض وأعطى فقد استكمل الإيمان» وبغض إنسان تعالى لمن خالفه المتجه أن مخالفة الغير له إن علم أنها نشأت عن اجتهاد لكونه من أهله لا يجوز له بغضه حينئذٍ لأنه ليس / إذ الذي له ما يكون لأجل المعصية، ولا معصية هنا لأن المجتهد مأجور وإن أخطأ، وإن علم أنها نشأت عن تعصب وهوى نفس أو تقصير في البحث جاز. ولشرف الألفة أمتنّ بها تعالى على عباده فقال:
{واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} (آل عمران: 103) ولذا كانت حرمة النميمة أشد لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء وجاز الكذب للإصلاح (ولا تدابروا) أي لا يدبر بعضكم عن بعض: أي يعرض عما يجب له من حقوق الإسلام كالإعانة والنصر وعدم الهجران في الكلام أكثر من ثلاثة أيام إلا لعذر شرعي كرجاء صلاح أحدهما، ووجه مغايرته لما قبله أن الشخص قديبغض ويوفي الحق، وقد يعرض لنحو تهمة أو تأديب وهو محبّ (ولا يبع) نهى تحريم عندنا (بعضكم) معشر المكلفين من المسلمين والذميين، والتقييد بالمسلم في الأخبار لا مفهوم له (على بيع بعض) فلا يجوز لأحد بغير إذن البائع أن يقول لمشتري سلعة في زمن الخيار: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه أو أجود منه بثمنه، وذلك لما فيه من الإيذاء الموجب للتنافر والبغض، ومن ثم ورد «ذلك بأنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» ومثله الشراء بغير إذن المشتري، بأن يقول آخر لبائع زمن الخيار: افسخ البيع لأشتريه منك بأغلى أما بعد انقضاء الخيار فلا تحريم، إذ لا مقتضى له، وكونه يؤدي إلى الإلحاح عليه حتى يقبله فيؤدي إلى ضرر مردود بأنه متمكن من عدم الرد، فإن اختاره كان هو المضرّ بنفسه، والإلحاح إنما يقتضي تحريم ذاته لأنه إضرار بالملحوح عليه (وكونوا عباد ا) أي يا عباد الله (إخواناً) أاكتسبوا ما تصيرون به إخواناً مما سبق ذكره وغيره مما يدعو إلى الألفة ويمنع من النفرة: أي تعاونوا وتعاشروا معاملة الإخوة ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير مع صفاء القلب والنصيحة بكل حال، وهذا كالتعليل لما قبله كأنه قيل إذا تركتم التحاسد وما بعده كنتم إخواناً كالإخوان فيما مرّ،(3/23)
ووجه طاعة الله في كونهم إخواناً التعاضد على إقامة وإظهار شعاره إذ بدون ائتلاف القلوب لا يتم ذلك كما قال تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم}
(الأنفال: 62، 63) الآية. (المسلم أخو المسلم) أي لأنهما لجمع دين واحد لهما أشبها الأخوين المجتمعين في ولادة من صلب أو رحم أو منهما، بل الأخوة الدينية أعظم من الأخوة الحقيقية لأن ثمرة هذه دنيوية وثمرة تلك أخروية (لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره) بفتح أوله وبالمهملة والقاف المكسورة: أي لا يستصغر شأنه ويضع من قدره، لأن الله تعالى لما خلقه لم يحقره بل رفعه وخاطبه وكلفه، فاحتقاره تجاوز لحد الربوبية في الكبرياء وهو ذنب عظيم، ومن ثم ورد كما تقدم «بحسب امرىء من الشرّ» إلخ فالاحتقار ناشىء عن الكبر فهو بذلك يحتقر الغير ويراه بعين النقص ولا يراه أهلاً لأن يقوم بحقه. وروي بضم أوله وبالخاء المعجمة والفاء: أي لا يغدر عهده ولا ينقض أمانه. قال القاضي عياض: والمعروف الصواب هو الأول الموجود في كتاب مسلم، ويؤيده رواية «ولا يحتقره» ومعنى هذه الجملة أن من حق الإسلام وأخوته أن لا يظلم المسلم أخاه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، وللإسلام حقوق ذكرت في غير هذا الحديث وجمعت في حديث «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» وتخصيص ذلك بالمسلم لمزيد حرمته لا لاختصاص به من كل وجه/ لأن الذمي يشاركه في حرمة ظلمه وخذلانه بنحو ترك دفع عدوّه والكذب عليه واحتقاره: أي من غير حيثية الكفر القائم به أما من تلك الحيثية فجائز، قال تعالى:
{ومن يهن الله فما له من مكرم} (الحج: 18) (التقوى) وهي اجتناب عذاب الله بفعل المأمور وترك المحظور (وههنا ويشير) بيده (إلى صدره ثلاث مرات) أي محل مادتها من الخوف الحاصل عليها القلب الذي هو عند الصدر. قال: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» أي إن الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى، إنما تحصل بما يقع في القلب من عظيم خشية الله ومراقبته، فمن ثم كان نظر الله بمعنى مجازاته ومحاسبته على ما في القلب من خير وشرّ دون الصور الظاهرة، إذ الاعتبار في ذلك كله بالقلب.
وفي الحديث دليل على أن العقل في القلب دون الرأس، وفيه خلاف،(3/24)
الراجح منه هذا، ووجه مناسبة هذا لما قبله الإعلام بأن كرم الخلق إنما هو التقوى، فربّ حقير عند الناس أعظم قدراً عند الله من كثير من عظماء الدنيا (بحسب امرىء من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) تقدم الكلام عليه في الحديث قبله. وقدم هنا الدم أي النفس لأنها الأصل والمال لتعلق النفس به أتمّ لكونه قوامها فلم يظهر وجه تأخير العرض حينئذٍ، وحكمة تقديمه عليهما ثمة أن الابتلاء بالوقوع فيه أكثر منه فيهما، فابتدىء به اهتماماً به زيادة في التحذير منه والبعد عنه (رواه مسلم) .
قال الحافظ السخاوي في تخريج الأربعين التي جمعها المؤلف: هذا حديث صحيح رواه أحمد ومسلم في «صحيحه» ، وعنده في بعض طرقه من الزيادة «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأشار بأصابعه إلى صدره» وأخرج ابن ماجه بعضه وأبو عوانة أيضاً وأبو نعيم بتمامه في «المستخرج» اهـ.
(النجش) بسكون الجيم لغة، إثارة الشيء بالمكر والخديعة، وشرعاً (أن يزيد في ثمن سلعة ينادى عليها في السوق ونحوه) من مواطن البيع (ولا رغبة له في شرائها بل يقصد أن يغرّ غيره) أما إذا كان المال لنحو يتيم ورآه يباع بأقل من ثمن المثل وقصد وصوله لثمن مثله الواجب فيه لا إضرار الغير، فلا (وهذا حرام) مع العلم. (والتدابر أن يعرض) أي الإنسان (عن الإنسان) احتقاراً له (ويهجره) فوق ثلاثة أيام (ويجعله كالشيء الذي وراء الظهر والدبر) في الاحتقار به وعدم الاهتمام بشأنه.
23615 - (وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: لا يؤمن أحدكم) أي إيماناً كاملاً (حتى يحبّ لأخيه) أي المسلم فيجب على كل مسلم من حيث إنه مسلم أن لا يخص(3/25)
أحداً منهم دون الآخر لأن إضافة المفرد تفيد العموم (ما يحبّ لنفسه) من الطاعات والمباحات أي ويبغض له مثل ما يبغضه لنفسه وسكت عنه مع كونه من كمال الإيمان اكتفاء بذكر ضده. قال العلماء في هذا الحديث من الفقه: أن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فينبغي أن يحبّ لها ما يحبّ لنفسه من حيث إنها نفس واحدة كما في الحديث «المسلمون كالجسد الواحد» الحديث.
وقال ابن العماد: الأولى أن يحمل على عموم الأخوة حتى يشمل الكافر فيحبّ لأخيه الكافر ما يحبُّ لنفسه من دخوله في الإسلام كما يحبّ للمسلم دوامه، ومن ثم كان الدعاء بالهداية مستحباً، وحتى هنا جارة لأن ما قبلها غير ما بعدها فإنه غاية لنفي الكمال. ثم ظاهر الخبر أن هذه المحبة كافية في كماله وإن لم يأت ببقية أركانه/ وليس مراداً بل إنما ورد تحريضاً على التواضع ومحاسن الأخلاق وترغيباً في محبة المسلمين بعضهم بعضاً وائتلافهم، ولا يخفى أن ذلك يؤدي إلى التعاضد والتناصر، وبه ينتظم شمل الإيمان وتتأيد شرائعه، كما علم مما مر في الحديث قبله، أو ورد مبالغة حتى كأن تلك المحبة ركنه الأعظم «كالحج عرفة» إذ هي مستلزمة لبقية أركانه ثم المكلف به مقدمات المحبة مما تقدم لا المحبة نفسها، لأنها ميل طبيعي لا يطاق تحت نطاق الاختيار والتكليف به تكليف بمحال، فالمراد إيثار ما يؤدي للمحبة مما يقتضي العقل اختياره وإن كان خلاف هوى الإنسان كالدواء فإنه يكرهه المريض طبعاً ويميل إليه اختياراً بحكم عقله لعلمه بأن صلاحه فيه، والمراد محبة الرحمة والإشفاق (متفق عليه) .
قال السخاوي في التخريج المذكور بعد تخريجه باللفظ المذكور: وشك غندر فقال لأخيه أو لجاره. قلت وكذلك هو عند مسلم بالشك فيهما، قال السخاوي ولفظ المعلم وهمام: «لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير» زاد المعلم أوله «والذي نفسي بيده» ما لفظه: هذا حديث صحيح. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده والدارمي وعبد في مسنديهما وابن ماجه في «سننه» وأبو عوانة في «مستخرجه» ، وابن حبان في «صحيحه» وعند الترمذي حديث صحيح، وكذا اتفق عليه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد القطان عن حسين المعلم لكن بدون قوله: «من الخير» وهي صحيحة لأنها خارجة من مخرج(3/26)
الصحيحين بل هي على شرطهما وأخرجها ابن منده في كتاب الإيمان من حديث روح بن عبادة عن العلم ووافق المعلم عليها همام اهـ. وقد سبق الحديث مشروحاً آخر باب النصيحة.
23716 - (وعنه) أي: أنس (قال: قال رسول الله: انصر أخاك) ولا تخذله (ظالماً) كان لأنه مظلوم حقيقة كما سيأتي (أو مظلوماً) بأن تعدى عليه إنسان في نفسه أو ماله أو عرضه (فقال رجل أنصره إذا كان مظلوماً) أي بدفع الظلم أو منعه منه (أرأيت) أخبرني (إن كان) أي أخي (ظالماً) بالتعدي على الغير فيما ذكر (كيف أنصره؟ قال: تحجزه) بضم الجيم أي تجعل نفسك حاجزاً له (أو) شك من الراوي (تمنعه من الظلم فإن ذلك) أي المنع من الظلم (نصره) قال الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: النصر عند العرب الإعانة وتفسيره نصر الظالم بمنعه من الظلم من تسمية الشيء بما يؤول إليه وهو من وجيز البلاغة. قال البيهقي: معناه أن الظالم مظلوم في نفسه فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حساً ومعنى، فلو رأى إنساناً يريد أن يجب نفس لظنه أن ذلك يزيل مفسدة طلبه للزنا مثلاً منعه من ذلك وكان ذلك نصراً له واتحد في هذه الصورة الظالم والمظلوم.
(لطيفة) ذكر المفضل الضبي في كتابه «المفاخر» أن أول من قال: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتاده من حمية الجاهلية لا ما فسر في الحديث وأنشدوا:
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم
على القوم لم أنصر أخي حين يُظلم
(رواه البخاري) قال في «الجامع الصغير» وأحمد والترمذي كلهم عن أبي هريرة، ورواه الدارميّ وابن عساكر عن جابر مرفوعاً بلفظ: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، إن يك ظالماً فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلوماً فاردد عنه ظلمه» اهـ.(3/27)
23817 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حق المسلم) قال الحافظ ابن حجر معنى الحق هنا الوجوب خلافاً لقول ابن بطال: المراد حق الحرمة والصحبة والظاهر أن المراد به هنا الأمر المطلوب على وجه التأكيد، ويؤيده قول الشيخ زكريا يعم وجوب العين والكفاية والندب أي فيفسر بالأمر المطلوب للمسلم (على المسلم خمس) لا ينافي ما في رواية بعده أنه ست إما لأن العدد لا مفهوم له وإما لأن محل العمل بمفهومه ما لم يعلم خلافه فإن الحقوق المتأكدة كثيرة واقتصر على ما ذكر إما لأنها المشروعة إذ ذاك وما عداها شرع بعد وإما لأنها الأنسب بحال السامعين بتساهلهم فيها أو شدة احتياجهم إليها (رد السلام) وهوواجب عيناً إذا كان المسلم عليه واحداً وكفاية إذا كانوا جمعاً قال الحليمي: وإنما وجب رد السلام لأن معناه الأمان فإذا ابتدأ به المسلم أخاه فلم يجبه يتوهم منه الشر فيجب عليه دفع ذلك الوهم. قلت: ولذا لم يسقط الفرض برد مميز عن المكلفين بخلاف فرض صلاة الجنازة فيسقط به عنهم لأن القصد منه الدعاء والمميز من أهله، والقصد هنا التأمين وليس من أهله (وعيادة المريض) واختلف فيها هل هي فرض كفاية أو سنة: فقال الجمهور هي في الأصل مندوبة وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض.
وعن الطبري تتأكد فيمن ترجى بركته، وتسن فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك وفي المشرك خلاف. قال الماوردي هي مباحة وقد يقترن بها ما يصيرها قربة كرجاء إسلامه، وقد نقل المصنف الإجماع على عدم وجوب العيادة أي عيناً وعموم المريض يقتضي عيادة كل مرض ولو أُريد، وحديث: «ثلاثة ليس لهم عيادة: العين والدمل والضرس» صحح البيهقي وقفه على يحيى ابن كثير. وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: «عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجع كان بعيني» أخرجه أبو داود والحاكم وصححه وهو عند البخاري في «الأدب المفرد» . ويؤخذ من إطلاق الحديث أنها لا تتقيد بزمن يمضي من ابتداء المرض وهو قول الجمهور وجزم الغزالي في الإحياء بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، ولا بيوم معين وما اعتاده بعض الناس في باب عيادة المريض (واتباع الجنائز) أي تشييعها من محلها أو محل الصلاة فهو سنة متأكدة (وإجابة الدعوة) وهي واجبة في وليمة العرس بشروطها المقررة في الفقه وفي سائر الولائم وهي سنة متأكدة (وتشميت) بالمهملة وبالمعجمة (العاطس) أي الدعاء(3/28)
له بالخير والبركة من السمت أو الشوامت وهي القوائم، كأنه دعاء للعاطس بحسن السمت والهدى أو بالثبات على الطاعة. وقيل معناه: أبعدك الله عن الشماتة، وهو بعد حمد العاطس سنة متأكدة عيناً إن لم يكن غيره وإلا فكفاية بأن يقول له: رحمك الله (متفق عليه) .
(وفي رواية لمسلم) عن أبي هريرة أيضاً (حق المسلم على المسلم ست) أي ستّ خصال، وفي «المشكاة» : قيل: ما هنّ يا رسول الله؟ قال: (إذا لقيته فسلم عليه) فهي وما بعدها من الجمل المتعاطفة على هذا التقدير مقول القول، وعلى عدمه فيحتمل أن يكون كذلك من باب حذف القول وإبقاء المقول وهو كثير في كلام العرب، حتى قال أبو علي الفارسي: هو من حديث: «عن البحر حدث ولا حرج» ويحتمل أن يكون بدلاً من ستّ أو خبراً لمبتدأ محذوف: أي هي (إذا لقيته فسلم عليه) : أي ابدأه به ندباً عينياً إن كنت وحدك وإلا فعلى الكفاية (وإذا دعاك فأجبه) وجوباً عينياً إذا دعاك إلى وليمة عرس وإلا فعلى الكفاية ولا بد من إطاقة التخليص في الحالين وندباً إذا دعاك إلى غير وليمة عرس ونحوها (وإذا استنصحك) أي طلب منك النصح وهو تحري ما به الصلاح من قول أو فعل (فانصح له) وجوباً عليك بأن تذكر له ما به صلاحه وطلبه ليس شرطاً لوجوب بذله أو ندبه لأنه يجب تارة ويندب أخرى لمن طلب ومن لم يطلب فذكره/ إنما هو لإفادة أن تأكده بعد الطلب أكثر (وإذا عطس) بفتح الطاء (فحمد الله فشمته) بخلاف ما إذا لم يحمد فإنه لا يستحق التشميت لتقصيره بترك الحمد على نعمة العطاس التي وصلت إليه «إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب» ولأن العطاس حيث لا عارض من زكام ونحوه إنما ينشأ عن خفة البدن وخلوه عن الأخلاط المثقلة له عن الطاعة بخلاف التثاوب فإنه ينشأ عن ضد ذلك (وإذا مرض فعده) ندباً متأكداً في أي يوم كان (وإذا مات فاتبعه) ندباً كذلك من بيته إلى أن يفرغ من دفنه (رواه مسلم) ورواه البخاري في «الأدب المفرد» .
23918 - (وعن أبي عمارة) بضم العين المهملة وبعد الألف راء ويقال أبو عمرو، ويقال أبو(3/29)
الطفيل (البراء) بتخفيف الموحدة والراء وبالمد، هذا هو الصحيح المشهور عند طوائف العلماء من أهل الحديث والتاريخ والأسماء واللغة والمؤتلف والمختلف وغيره وحكى فيه القصر (ابن عازب) الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) تقدمت ترجمته في باب التوكل (قال أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المرضى) ندباً في سائر الأوقات فلا تكره إلا إن شقت على المريض (واتباع الجنائز) أي تشييعها والمكث إلى الفراغ من دفنها (وتشميت العاطس) إذا حمد الله تعالى والأمر في هذه الثلاث للندب (وإبرار المقسم) بنحو أقسمت عليك با أو نحو وا لتفعلن كذا فيسن له حيث لا مانع تخليصاً له عن ورطة الاستهتار بحقه في الأول وحنثه في الثاني (ونصر المظلوم) ولو ذمياً يمنع الظالم عن ظلمه وجوباً على من قدر على ذلك بفعله أو قوله وهذا يرجع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا واجب عيناً تارة وكفاية أخرى كما سبق في بابه (وإجابة الداعي) وجوباً تارة وندباً أخرى وقد تقدم تفصيله (وإفشاء السلام) أي إشاعته وإذاعته بأن تقرىء السلام على من عرفت ومن لم تعرف وهذا أمر ندب عيناً إن كنت مفرداً أو كفاية إن كنت مع الغير. وفي رواية «ورد السلام» وعليها اقتصر في «المشكاة» وهو كما علم مما تقدم واجب عيناً تارة وكفاية أخرى (ونهانا) أي معشر الرجال وكذا الخناثا دون النساء (عن خواتيم) جمع خاتام أحد لغات خاتم (أو) شك من الراوي (تختم بالذهب) فيحرم على غيرهن تحريماً غليظاً لبسه كاستعمال سائر أنواع حلي الذهب إلا نحو أنف وسن وأنملة، ويحرم عليهن استعمال غير الحلى منه كالأواني وكذا الحلي إن خرج عن غير الاعتدال إلى السرف كخلخال وزنه مائتا مثقال (وعن شرب بآنية الفضة) والذهب أولى مع أنه صرح به في حديث آخر ومثل الشرب سائر الاستعمال وذكره كالأكل في
حديث آخر مثال فيحرم استعمال واتخاذ إناء النقدين إلا لحاجة كأن لم يجب غير إنائهما فيجوز استعماله وكذا لووصف له التكحل بمرود من الذهب لداء بعينه (وعن) استعمال (المياثر الحمر) بضمتين ويسكن الثاني تخفيفاً والتقييد بذلك باعتبار أنه الأغلب في مراكب الأعاجم رعونة وتزييناً فهي من حرير أي نوع كان وبأي(3/30)
لون أو مما أكثره حرير وزناً حرام ولو غير حمراء والحمراء غير الحرير مكروه (وعن) استعمال (القسي وعن لبس الحرير والإستبرق) وما غلظ من الديباج وهوعجمي معرب وعطفهما على الحرير من عطف الخاص على العام لأنهما من الحرير (متفق عليه) .
(وفي رواية) لمسلم (وإنشاد الضالة زادها) أي: الراوي (في السبع الأول) بضم ففتح يعني المأمور بها قال المصنف في «شرح مسلم» بدل إبرار المقسم أو للقسم: وإنشاد الضالة تعريفها وهو مأمور به المياثر (بياء مثناة من تحت قبل الألف وثاء مثلثة) مكسورة (بعدها) أي بعد الألف (وهي جمع ميثرة) وأصلها مؤثرة وقلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة نحو ميزان وميعاد (وهي شيء يتخذ من حريرويحشى قطناً أو غيره) تعميم للمحشو به ويلحق به في الحكم ما كان متخذاً من حرير وغيره والحرير أكثر وزناً (ويجعل في السرج) ما يجعله على الفرس (وكور البعير) بضم الكاف أي رحله وجمعه أكوار ويجعل ذلك (ليجلس عليه الراكب) فتحصل له الراحة (والقسيّ بفتح القاف) على الصحيح المشهور قال المصنف وبعض أهل الحديث يكسرها قال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرونها وأهل مصر يفتحونها (وكسر السين المهملة المشددة) بعدها ياء النسبة (وهي ثياب تنسج من حرير وكتان مختلطين) هذا حكاه المصنف بلفظ قيل وقال قبله: قال أهل اللغة و «غريب الحديث» : هي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس بفتح القاف: وهو موضع من بلاد مصر. وهي قرية على ساحر البحر قريبة من تنيس، وقيل هي ثياب من القز وأصله القزي منسوب إلى القز وهو رديء الحرير فأبدل من الزاي سين قال المصنف وهذا القسي إن كان حريره أكثر من الكتان فالنهي عنه للتحريم وإلا فللكراهة التنزيهية (وإنشاد الضالة) في تلك الرواية (تعريفها) .(3/31)
28 - باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة من خوف أن يتسلط على إيذاء الغير والتعرض لإضرارهم
(قال الله تعالى) : {إن الذين يحبون أن تشيع} ) أي تفشو، يقال شاع الشيء شيوعاً وشيعاً وشيعاناً وشيوعة: أي تفرق وظهر (الفاحشة) الفعل القبيح المفرط القبح. وقيل الفاحشة في هذه الآية القول السيء ( {في الذين آمنوا} ) قال القرطبي في المحصنين والمحصنات والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان ( {لهم عذاب أليم} ) والآية في العصبة الذين جاءوا بالإفك، والمصنف أوردها لما يقتضيه عموم لفظها من حصول العذاب لمن أحب إشاعة الفاحشة في المؤمنين ( {في الدنيا} ) بالحد بالقذف (و) (الآخرة) بالنار لحقالله.
2401 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: لا يستر عبد) أي إنسان ولو كان مكلفاً (عبداً) أي من ذوي الهيئات غيرمعروف بالشر والأذى على ذنب مضى منه كما سبق بسط ما يستر فيه ومالاً في الباب قبله (في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) إما بأن يمحو ذنبه ولا يسأله عنه ابتداء أو يسأله عنه من غير أن يطلع عليه أحداً من الخلق كما في حديث ابن عمر في ذلك في الصحيح ثم يعفو عنه، وكان الجزاء بالستر ليوافق الجزاء العمل الصالح والنعم الصادرة منه عز وجل أعلى وأتم، ولا شك أن الستر في ذلك اليوم أكثر عدداً وأعظم جرماً (رواه مسلم) .(3/32)
2412 - (وعنه) أي أبي هريرة (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل أمتي معافىً) اسم مفعول من المعافاة وهو من العفو مرفوع تقديراً خبر كل، يعني كلهم سالمون عن ألسن الناس وأيديهم (إلا المجاهرين) قال العلقمي قال شيخنا وللنسفي «إلا المجاهرون» بالرفع على البدل وهو رأي الكوفيين اهـ.» وقال ابن مالك في التوضيح لشواهد «الجامع الصحيح» حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب أن ينصب مفرداً كان أو مكملاً وروده مرفوعاً بالابتداء ثابت الخير ومحذوفه، فمن الثابت الخبر قول ابن أبي قتادة: أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم، وإلا بمعنى لكن وأبو قتادة مبتدأ ولم يحرم خبره، ومن المبتدأ بعد إلا المحذوف الخبر قول النبي: «كل أمتي معافىً إلا المجاهرون» أي لكن المجاهرون لا يعافون، وللكوفيين في هذا الذي يغتفر مذهب آخر، وهو أن يجعلوا إلا حرف عطف وما بعدها معطوف على ما قبلها اهـ. قلت: وقد سبقه إلى استدراكها ابن هشام في «المغني» ، وزاد الجملة المسند إليها نحو: {وإذا قيل إن وعد الله حق} (الجاثية: 32) وأول الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» الرفع بأن معافىً في معنى النفي فيكون استثناء من كلام تام غير موجب. قال في «فتح الباري» : المجاهر الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فتحدث بها، والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بمعنى جهر والنكتة التعبير بفاعل المبالغة، ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة، والمراد الذين يجاهر بعضهم بعضاً بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث يؤيد الاحتمال الأول (وإن من المجاهرة) قال السيوطي: كذا للنسفي والكشميهني: أي في رواية البخاري وللأكثر من المجانة، وهو تصحيف، قاله عياض، ولمسلم من الإجهار ولأبي نعيم من الجهار، والثلاثة بمعنى الظهور والإظهار، وفي رواية لمسلم الهجار، وللإسماعيلي الإهجار وهمابمعنى الفحش والخنا وكثرة الكلام. قال عياض: هما أيضاً تصحيف (أن يعمل العبد) وفي
نسخة الرجل (بالليل عملاً ثم يصبح) بالنصب (وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان) بالبناء على الضم لأنه كناية عن معين وهو الذي يحدثه العاصي عن(3/33)
معصيته (عملت البارحة) قال في «الفتح» : هو أقرب ليلة مضت من وقت القول وأصلها من برح: إذا زال (كذا وكذا) قال في «النهاية» : هي من ألفاظ الكنايات مثل كيت وكيت ومعناه: مثل ذا، ويكنى بها أيضاً عن المجهول وما لا يراد التصريح به اهـ. وهذا قد تقدم نقله عن «النهاية» (وقد بات يستره ربه) جملة حالية من فاعل يقول: (ويصبح) معطوفاً على يصبح (يكشف ستر ا) الكائن (عليه) قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم وفي التستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذلّ فاعلها من إقامة الحد عليه إن كان فيها حد، ومن التعزير إن لم توجب حداً، وإذا تمحض حق الله وهو أكرم الأكرمين، فكذا إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة والذي يجاهر بها يفوته جميع ذلك، والحديث مصرّح بذمّ من جاهر بالمعصية، فيستلزم مدح من تستر، وستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه. فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها فقد أغضب ربه فلم يستره. ومن قصد التستر بها من الله عليه بستره إياها اهـ. ملخصاً من «فتح الباري» (متفق عليه) وأخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» عن أبي قتادة بلفظ «كل أمتي معافى إلا المجاهر، الذي يعمل العمل بالليل فيستره ربه ثم يصبح فيقرأ: يا فلان إني عملت البارحة كذاوكذا فيكشف ستر ا» كذا في «الجامع الصغير» .
2423 - (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبي: إذا زنت الأمة) أي الرقيقة (فتبين زناها) برؤيته لذلك أو إقرارها أو إقامة بينة الزنا (فليجلدها) بكسر لام الفعل (الحد) هو خمسون سوطاً والحد مفعول مطلق (ولا يثرب عليها) أي يوبخها ويقرعها بالذنب نحو يا زانية يا فاجرة لما فيه من الفحش (ثم) بعد الحد (إن زنت) مرة ثانية (فليجلدها الحد) وفي رواية بحذف الحد هنا (ولا يثرّب عليها) أي وإن تكرّر منها الذنب لاستيفاء مقتضاه بالحد (ثم) بعد الحد في الثانية (إن زنت) المرة الثالثة (فليبعها) ندباً عند الجمهور، وقال داود وجوباً (ولو بحبل من شعر) مسارعة لمفارقة أرباب المعاصي وترك(3/34)
مخالطتهم، وهذا البيع المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري لأنه عيب والإخبار بالعيب واجب. فإن قيل: كيف يكره شيئاً ويرتضيه لأخيه المسلم؟ فالجواب: لعلها تتعفف عند المشتري بأن يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها والتوسعة عليها أو يزوّجها أو غير ذلك، ذكره المصنف في «شرح مسلم» (متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة أيضاً كما في «الأطراف» للمزي، وطرقه إلى سعيد المقري كثيرة جداً (التثريب) مصدر ثرب بالمثلثة (التوبيخ) أي والتقريع بالذنب كما تقدم.
2434 - (وعنه) أي عن أبي هريرة (رضي الله عنه قال: أتى) بالبناء للمجهول (النبي برجل قد شرب) أي مسكراً (قال: اضربوه) أي حداً (قال أبو هريرة: لنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه) ومنه كأحاديث أخر في معناه يؤخذ حصول حد الخمر بالجلد باليد وأطراف الثوب وقد نقل الصنف إجماع العلماء على ذلك وما في معناه في مفرداته خزي الرجل: أي بوزن علم، لحقه انكسار؟ إما من نفسه وإما من غيره. فالذي يلحقه من نفسه هو الحياء المفرط ومصدره الخزاية، والذي من غيره يقال هو ضرب من الاستخفاف ومصدره الخزي وأخزى يقال منهما جميعاً. وقوله تعالى: {لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} (التحريم: 8) الأقرب كونه من الخزي وإن جاز كونه منهما جميعاً. قلت: ومثله ما في الحديث (قال: لا تقولوا هكذا) أي مثل هذا الدعاء (لا تعينوا عليه الشيطان) جملة استئنافية لبيان حكمة النهي عن ذلك القول: أي ادعوا له بالتوفيق والنجاة من الخذلان ولا تكونوا بدعائكم عليه أعواناً عليه للشيطان (رواه البخاري) .(3/35)
29 - باب فضل قضاء حوائج المسلمين
(قال الله تعالى: {وما تفعلوا من} ) بياننبة (خير) والكلام في معنى الشرط ( {فإن الله به عليم} ) جوابه: أي إن تفعلوا خير فإن الله يعلم كنهه ويوفي ثوابه والآية تقدمت في باب المجاهدة وغيره.
2441 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) محرضاً على أسباب التآلف المطلوب من المؤمنين (المسلم أخو المسلم) لاجتماعهما في حياطة الإسلام كالأخوين المجتمعين في الأبوين أو في أحدهما (لا يظلمه) بنقص حقه (ولا يسلمه) بضم التحتية: أي: إلى من يظلمه ويهينه (ومن كان) أي وجد (في حاجة أخيه) أي في قضائها بالفعل أو التسبب، ويحتمل أن كان ناقصة: أي ومن كان كائناً في حاجة أخيه (كان الله في) قضاء (حاجته) والمفرد المضاف للعموم فيعم الأخروية والدنيوية. وذلك لأن من قضى حاجة أخيه طالباً لمرضاة الله إنما قام بذلك لحق الله فجازاه الله بقضاء حاجته سيما عند ضرورته (ومن فرج عن مسلم كربة) بانتظار عليه أو تشفع عند ذي الدين أو نحو ذلك (فرج الله عنه بها) أي عوضها (كربة) والتنوين فيه للتعظيم لأنها كرب الساعة التي تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت والتنكير في سياق الشرط للتعمم فيفيد أن من فرج الله عنه الكرب (من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً) لم يشتهر بالأذى والضرر على معصية رآها منه فيما مضى (ستره الله يوم القيامة. متفق عليه) والحديث تقدم بسط الكلام فيه وفي معظم ما في الحديث بعده في باب تعظيم حرمات المسلمين.(3/36)
2452 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: من نفّس) أي أزال وفرج من تنفيس الخناق أي إرخاؤه حتى يأخذ له نفساً (عن مؤمن) أوثر لمزيد شرفه وحرمته فالثواب فيما يفعل معه من الإحسان آكد. وإلا فالذميّ كذلك هنا وفيما يأتي في أصل الثواب لخبر «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» وخبر «في كل كبد رطبة أجر» وسيأتي ويلي الذميّ المستأمن الحربي. فالثواب في كل، أضعف مما قبله لأنه تابع لمزيد الشرف والاحترام (كربة) هي ما أهمّ النفس وغم القلب لأن الكربة تقارب أن تزهق النفس كأنها لشدة غمها عطلت مجال التنفس منه وبه يعلم حكمة إيثار نفس على رديف أزال وفرج (من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) أي شدائدها. وفي رواية للطبراني «نفس الله كربه يوم القيامة» ففيه عظيم فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو جاه أو نصح أو دلالة على خير أو إعانة بنفسه أو سفارته أو وساطته أو شفاعته أو دعائه له يظهر الغيب وسبق في الباب المشار إليه حكمة هذا الثواب (ومن يسر على معسر) بإبراء أو هبة أو صدقة أو نظرة إلى ميسرة بنفسه أو وساطته. قال في «الفتح المبين» : ويصح شموله لإفتاء عامي في ضائقة وقع فيها بما يخلصه منها لأنه معسر بالنسبة للعالم (يسر الله عليه) أموره (في الدنيا والآخرة) فيه عظيم فضل التيسير على المعسر والأحاديث فيه كثيرة منها خبر مسلم «من سرّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه» وخبره أيضاً «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله» وخبر أحمد «من أراد أن تستجاب دعوته وتنكشف كربته فليفرج عن معسر» (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) تقدم بسط الكلام فيه في الباب المذكور (وا في عون العبد) أي إعانته وتسديده (ما كان العبد) أي مدة دوام كون العبد (في عون أخيه) أي إعانة أخيه بقلبه أو بدنه أو ماله أو غيرها قيل وهذا إجمال لا يسع بيانه
الطروس فإنه مطلق في سائر الأحوال والأزمان، ومنه: إن العبد(3/37)
إذا عزم على معاونة أخيه فينبغي له أن لا يجبن عن إنفاذ قوله وصدعه بالحق وتأمل دوام هذه الإعانة فإنه لم يقيدها بحالة خاصة بل أخبر أنها دائمة بدوام كون العبد في عون أخيه. وعن الحسن رضي الله عنه «أنه أمر ثابتاً البنانيّ بالمشي في حاجة فقال: أنا معتكف، فقال له: يا أعمش أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة» .
وروى الإمام أحمد: «أن خباب بن الأرتّ خرج في سرية فكان يحلب عنزاً لعياله فتمتلىء الجفنة حتى يفيض زيادة على حلابها فلما قدم وحلب عاد إلى ما كان» وكان أبو بكر يحلب للحيّ أغنامهم فلما استخلف قيل: الآن لا تحلبها قال: بلى وإن لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله. وكان عمر يتعاهد الأرامل فيستقي لهم الماء في الليل، ورآه ظلحة داخلاً ليلاً بيت امرأة فدخل لها نهاراً، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة، فقال: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: منذ كذا وكذا يتعاهدني بما يقوم بي من البرّ وما يصلح لي شأني ويخرج عني الأذى ويقمّ لي بيتي، فقال طلحة لنفسه: ثكلتك أمك يا طلحة أعثرات عمر تتبع؟ (ومن سلك طريقاً) فعيلاً من الطرق لأن الأرجل ونحوها تطرقه وتطلبه وتسعى فيه، ويصح أن يراد بها ما يشمل المعنوية كحفظه ومذاكرته ومطالعته وتفهمه وكل ما يتوصل به إليه (يلتمس) يطلب (فيه) أي في غايته أو سببه واحتمال كونه فيه حقيقة نادر جداً لا يحمل عليه الحديث (علماً) شرعياً أو آلة قاصداً بذلك وجهالله. قيل وهذا وإن اشترط في كل عبادة لكن عادة العلماء تقييد هذه المسألة به لأن بعض الناس قد يتساهل فيه أو يغفل عنه اهـ. قال في «الفتح المبين» : وكأنه يريد أن تطرق الرياء للعلم أكثر من تطرقه لسائر العبادات، فاحتيج للتنبيه فيه على الإخلاص اعتناء بشأنه، والعلم الشرعي ما صدر عن الشرع أو توقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجود كعلم الكلام أو توقف كمال كعلم العربية (سهل الله له به) أي بسلوكه الطريق المذكورة (طريقاً إلى الجنة) أي يرشده إلى طلب الهداية والطاعة الموصلة إلى الجنة، وليس ذلك إلا بتسهيله تعالى، وإلا فبدون لطفه لا ينفع علم ولا غيره: أو بأنه يجازيه على طلبه وتحصيله بتسهيل دخول الجنة بأن لا يرى من مشاقّ الموقف ما يراه غيره، وهذا أقرب لظاهر الحديث واستفيد منه مع ما قبله ومن قوله تعالى: {جزاء وفاقاً} أن الجزاء يكون من جنس
العمل(3/38)
ثواباً وعذاباً التنفيس بالتنفيس والستر بالستر والعون بالعون، ونظير ذلك كثير في أحكام الدنيا والآخرة، وهذا يؤذن بعظيم فضل السعي في طلب العلم ويلزم منه عظم فضل الاشتغال به، وأدلته أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر (وما اجتمع قوم) هو اسم جنس جمع يصدق بثلاثة فأكثر يستوي فيه الذكور والإناث، كذا في «فتح الإله» ، وظاهره أنه مشترك بين الفريقين، لكن تقدم عن «مفردات الراغب» : القوم جماعة الرجال في الأصل دون النساء، قال تعالى:
{لا يسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء} (الحجرات: 11) وفي عامة القرآن أريدوا به والنساء جميعاً وحقيقته للرجال اهـ. ومنه يتبين أن قوله يستوي فيه الذكور والإناث باعتبار أنه المراد لاستواء المكلف من كلا النوعين في غالب الأحكام، فيكون مجازاً من باب التغليب أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه (في بيت من بيوت الله تعالى) هوالمسجد (يتلون) أي يقرؤون (كتاب الله تعالى) أي القرآن لتبادره إلى الأذهان وإضافته إلى الله تعالى لأنه منزل من عنده معجزة لنبيه (ويتدارسونه بينهم) أي يقرأ هذا شيئاً ويقرأ الآخر عين ما قرأه صاحبه هذه المدارسة الفضلى التي وردت من فعله مع جبريل في حديث «كان جبريل يدارسه القرآن» ويحتمل أن المراد من المدارسة في هذا الحديث ما يشمل ما اعتيد من قراءة ما بعد ما يقرؤه القارىء وهكذا. والتخصيص بما ذكر لكمال الفضل وإلا فجاء في رواية أخرى غير مقيدة بذلك وإنما فيه ترتب ما ذكر في الخير على الاجتماع على الذكر مطلقاً ولا تقيد تلك المطلقة بهذه الرواية، لأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص وفضل الله عام (إلا نزلت عليم السكينة) أي المذكورة في قوله تعالى: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} (الفتح: 4) وهي فعيلة من السكون للمبالغة والمراد بها هنا الحالة التي يطمئن بها القلب، فلا يزعج لطارق دنيوي لعلمه بإحاطة قدرة الله لسائر الكائنات فيسكن القلب ويطمئن بموعود الأجر لقوّة رجائه بحصوله لما وفقه للاشتغال به عما سواه. وقيل السكينة: اسم ملك ينزل في قلب المؤمن يأمر بالخير. وقيل السكينة: الرحمة والوقار والسكون والخشية وغير ذلك، والمراد السكون تحت جري المقادير لا ضد الحركة ولا يمنع من تفسيرها بالرحمة عطفها عليها في الجملة بعدها لأن المقام للإطناب واختار المصنف كون السكينة هنا بمعنى الطمأنينة وفي(3/39)
الحرز للقاري: ويجوز أن يقرأ عليهم السكينة بكسر الهاء والميم وكسرهما وكسر الأول وضم الثاني وهو الأشهر. قلت:
والأشهرية يحتمل من حيث القراءة ومن حيث الرواية، والأول أقرب (وغشيتهم) عمتهم وأحاطت بهم من كل جهة (الرحمة) والمراد من الرحمة كما هو ظاهر غايتها من الإحسان والفضل والامتنان (وحفتهم) بتشديد الفاء (الملائكة) أي غشيتهم الملائكة وأل فيه للعهد: أي الملائكة الملتمسون للذكر كما في الحرز أو ملائكة الرحمة والبركة إلى السماء الدنيا كما في رواية الصحيحين.
وفي رواية لأحمد: «بعضهم على بعض حتى يبلغوا العرش حتى يسمعوا الذكر» تعظيماً للمذكور وإعظاماً للذاكر على غاية من القرب والمواصلة بحيث لا يدعون للشيطان فرجة يتوصل منها للذاكر. وحف بتشديد الفاء من باب طلب فتعدى إلى الثاني بحرف الجر. قال تعالى: {وحففناهما بنخل} (الكهف: 32) وقد يضمن معنى أحاط فيصل إلى مفعوله الأول بالباء نحو ما جاء في حديث: «إن ملائكة سيارات» من قولهم: «حفوا بهم» وهذا أحسن مما أطلت به في أول «شرح الأذكار» (وذكرهم الله فيمن عنده) عندية مكانة وعلو رتبة لا علوّ مكان تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً وهم الملائكة والأنبياء وذكره للذاكر ثم مباهاة به ورضى بفعله (ومن بطأ) بتشديد الطاء المهملة: نقيض السرعة: أي من قصر (به عمله) أي فقصر عن رتبة الكمال لفقد بعض شروط الصحة أو الكمال فيه (لم يسرع به نسبه) أي يلحقه برتب أصحاب الأعمال الكاملة لأن المسارعة إلى السعادة إنما هي بالأعمال لا بالأحساب قال الشاعر:
وما الفخر بالعظم الرميم وإنما
فخار الذي يبغى الفخار بنفسه
وفي «الفتح المبين» في الحديث السادس والثلاثين: قال ابن مسعود «يأمر الله تعالى بالصراط فيضرب على جهنم فيمرّ الناس على قدر أعمالهم زمراً زمراً أوائلهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كمرّ الطير ثم يمر الرجل سعياً وحتى يمر الرجل مشياً وحتى يمر آخرهم على بطنه فيقول: يا ربّ لم بطَّأت بي؟ فيقول: إني لم أبطأ بك إنما بطأ بك عملك» وأورد أحاديث مرفوعة في ذلك (رواه مسلم) . قال المصنف في الأربعين: الحديث بهذا اللفظ قال(3/40)
السخاوي في تخريجها: هذا حديث صحيح أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في «مصنفه» ومسلم في الدعوات من صحيحه وأبو داود وابن ماجه في سننيهما وأبو عوانة في «مستخرجه» ومداره عندهم على أبي معاوية، وهو محمد ابن خازم بمعجمتين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وهي طرق كثيرة عن الأعمش في بعضها عنه قال: حدثت عن أبي صالح فأثبت بينهما واسطة، والأعمش مدلس، قال الترمذي: كأنه يعني بإثبات الواسطة أصح، وجعل ذلك عذراً له عن عدم تصحيحه بل اقتصر على تحسينه لشواهده. ويحتمل أن يكون توقف البخاري عن تخريجه لذلك، ولكن إنما صححه مسلم وكذا ابن حبان والحاكم من حديث الأعمش بلا واسطة لوقوعه في رواية مسلم وغيره بالتصريح الذي يؤمن معه من تدليسه كما بينت ذلك واضحاً فيما علقته من تكملة شرح الترمذي اهـ. كلام السخاوي، والحديث عظيم جليل جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب والفضائل والفوائد والأحكام، وفيه إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل، والنصوص في ذلك كثيرة منها حديث «إنما يرحم الله من عباده الرحماء» .
30 - باب الشفاعة
قال الرازي: هي أن يستوهب أحد لأحد شيئاً ويطلب له حاجة، وأصلها من الشفع ضد الوتر كأن صاحب الحاجة كان فرداً فصار صاحب الشفع له شفعاً: أي صار زوجاً اهـ. وفي النهاية: هي السؤال في التجاوز عن الذنب والجرائم اهـ. وقيل: هي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه، وللغزالي في معنى الشفاعة وسببها كلام نفيس أودعته باب الأذان من شرح الأذكار فراجعه.
(قال الله تعالى) علوّ مكانة وعظمة لا علوّ مكان ( {من يشفع شفاعة حسنة} ) بأن يجلب بها لمسلم نفعاً أو دفع عنه سوءاً ابتغاء لوجه الله تعالى، ومن ذلك الدعاء للمؤمن بظهر الغيب، ومن ثم ورد عنه: «من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له. وقال الملك آمين ولك مثل ذلك» (يكن له نصيب منها) هو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير.(3/41)
1461 - (وعن أبي موسى) عبد الله بن قيس (الأشعريّ رضي الله عنه قال: كان النبي) من مزيد عنايته بصحابته ودلالته على الخير لأمته (إذا أتاه طالب حاجة) دينية أو دنيوية (أقبل على جلسائه) جمع جليس كشريف وشرفاء (فقال: اشفعوا تؤجروا) أي إن تشفعوا تؤجروا: أي يحصل لكم الأجر بشفاعتكم سواء أقضيت الحاجة أم لا، فتؤجروا جواب الشرط المقدر، ففيه الحض على الخير بالفعل والتسبب إليه بكل وجه والشفاعة إلى الكبير في كشف كربة ومعونة الضعيف، إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول للرئيس والتمكن منه ليوضح له مراده ليعرف حاله على وجهه، ويستثنى ما لا تجوز الشفاعة فيه وذلك الحدود التي (ويقضي الله على لسان نبيه ما أحبّ) أي ما أراد مما سبق في علمه الأزلي من وقوع الأمر وحصوله أو عدمه، فالمطلوب الشفاعة والثواب مرتب عليها سواء حصل المشفوع به بأن كان مقدراً في العلم الأزلي حصوله بها أم لا، بأن كان له فيه سبب آخر لم يحصل أو قام مانع من حصوله (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الزكاة وفي باب الأدب وباب التوحيد ومسلم في باب الأدب وفي باب السنة، ورواه أبو داود في الأدب أيضاً، ورواه الترمذي في العلم وقال: حسن صحيح، والنسائي في الزكاة، قال المزيّ: وكونه عند أبي داود في رواية أبي بكر بن داسة عن أبي داود، ولم يذكره أبو القاسم، ومدار الحديث عند من ذكر على أبي الأسود الدؤلي عن أبي موسى اهـ. ملخصاً.
(وفي رواية) للبخاري رواها هكذا في كتاب الأدب من «صحيحه» (ما شاء) أي وهو اعتبار خصوص كونه جارياً على لسان نبيه ما أحبّ، فالاختلاف بين الروايتين مبنى لا معنى، وإن كان بالنسبة إلى غيره المراد والمشيء أعمّ من المحبوب والمرضي، فجميع ما في الكون من الكفر والعصيان بمشيئة مولاه وإرادته وليس ذلك بمحبته ورضاه، قال تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر: 7) .(3/42)
2472 - (وعن) عبد الله (ابن عباس رضي الله عنهما) من جملة حديثه (في قصة بريرة) بفتح الموحدة وكسر الراء وإسكان التحتية مولاة عائشة أم المؤمنين وحديثها مشتمل على فوائد عديدة أفردت بالتأليف (وزوجها) مغيث وهو كما في «التوشيح» للسيوطي بضم الميم وكسر الغين المعجمة وسكون التحتية وبعدها مثلثة، ووقع عند العسكري بفتح المهملة وتشديد المثناة ثم الباء الموحدة اهـ. ومغيث عبد أسود، وما روي عن عائشة من أنه حرّ فمعارض أو محمول على ما بعد كما سيجيء في «الاستيعاب» . قال ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» : كان مولى لبعض بني مطيع. قلت: في البخاري عبداً لبني فلان، قال السيوطي: في الترمذي: عبداً لبني المغيرة: وفي المعرفة لابن منده مولى أبي أحمد ابن جحش اهـ. أعتقت تحته بريرة فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختارت نفسها وكان مغيث حين عتقها واختيارها عبداً فيما يقول الحجازيون وقال الكوفيون كان يومئذٍ حراً والأول أصح اهـ (قال) أي ابن عباس (قال لها النبي لو راجعتيه) الرواية بإثبات الياء لإشباع الكسر قاله الهروي في «المرقاة» ويخالفه قول السيوطي في «التوضيح» بعد أن أورد لفظ رواية البخاري «لو راجعته» من غير ياء ثم قال: ولابن ماجه «لو راجعتيه» بزيادة الياء وهي لغة ضعيفة وزاد: «فإنه أبو ولدك» اهـ. ولو للتمني أو للشرط والجواب محذوف أي لكان أحسن أو لك فيه ثواب. وفيه معنى الأمر فلذا (قالت يا رسول الله تأمرني؟) بتقدير الهمزة قبله أي أتأمرني بمراجعته أي على سبيل الوجوب فيجب على (قال: إنما أشفع) أي آمرك استحباباً (قلت: لا حاجة) أي لا غرض ولا صلاح (لي فيه) أي في ارتجاعه وفيه إيماء إلى عذرها في عدم قبول شفاعته حيث قال: «وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً» وإنها فهمت من شفاعته في ذلك تخييرها وإطلاق الشفاعة على التخيير مجاز بجامع عدم إيجاب كليهما، وقد بسطت الكلام في ذلك في «شرح الأذكار» (رواه البخاري) وروى
الترمذي في النكاح نحوه وقال الترمذي حسن صحيح.(3/43)
31 - باب الإصلاح بين الناس
إذا حصل بينهم خصام وشنآن لأن المؤمنين إخوان. والناس اسم جنس جمعي: قيل مأخوذ من الأنس ضد الوحشة ففيه قلب وقيل من نوس إذا تحرك، وعلى هذا فيدخل فيه الجن وتقدم بسطه مراراً (قال الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} ) أي الناس أي ما يتناجون به ويتحدثون به ( {إلا} ) نجوى ( {من أمر بصدقة أو معروف} ) عمل برّ ( {أو إصلاح بين الناس} ) فالاستثناء متصل ويجوز أن يكون منقطعاً لكن نجوى من كان كذلك خير. قال الواحدي في تفسيره «الوسيط» : هذا مما حث عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأبي أيوب الأنصاري: «ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم؟ قال: نعم يا رسولالله، قال: تصلح بين الناس إذا فسدوا وتقرّب بينهم إذا تباعدوا» وروت أم حبيبة أن النبي قال: «كلام ابن آدم عليه الإله، إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر تعالى» وروي أن رجلاً قال لسفيان: ما أشد هذا الحديث قال سفيان: ألم تسمع الله يقول: {لا خير في كثير من نجواهم} فهو هذا بعينه اهـ.
(وقال تعالى: {والصلح خير} ) من الفرقة والنشوز والإعراض: أي لما فيه من الالتئام المطلوب من الزوجين.
(وقال تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} ) أي حقيقة ما بينكم بالمودة وترك النزاع.
(وقال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} ) أي في الدين ( {فأصلحوا بين أخويكم} ) إذا تنازعا وقرىء إخوانكم بالفوقية.(3/44)
2481 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كل) بالرفع مبتدأ خبره «عليه صدقة» (سلامى) بضم السين وتخفيف اليم: هو العضو وجمعه سلاميات بفتح الميم وتخفيف الياء اهـ. وفي النهاية: السلامى جمع سلامية وهي الأنملة من أنامل الأصابع، وقيل جمعه ومفرده واحد ويجمع على سلاميات اهـ. وقول الأذكار يميل إلى غير آخر بقيل وفي المشارق للقاضي عياض: أصل السلامى عظام الأصابع والأكارع. وفي النهاية: هي التي بين مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل كل عظم مجوّف من صغار العظام. المعنى: على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة، وقيل إن آخر ما يبقى فيه المخ من البعير إذا عجف السلامي والعين اهـ. وظاهر أن المراد من السلامى هنا ما هو أعم من العضو، وهو كما في «القاموس» : كل لحم وافر بعظم وغيره، فقولي في «الأذكار» أو هو العضو إما باعتبار معناه لغة على بعض الأقوال، وإما أنه تجوز به عن مطلق الجزء. قال في «شرح مسلم» : أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في سائر عظام البدن ومفاصله اهـ. قال العراقي في «شرح التقريب» : وهو المراد في الحديث. قلت: وأيده المصنف بخبر مسلم: «خلق الإنسان على ستين وثلثمائة مفصل» وقوله: (من الناس) في محل الصفة لسلامى (عليه) أي على ذلك الجنس ونظيره حديث: «خير نساء ركبن الإبل وأحناه على زوج نساء قريش» قال السهيلي في «الروض» : الضمير فيه عائد على الجنس أو الضمير عائد على السلامى، وذكره باعتبار أنه عضو أو مفصل عليه (صدقة كل يوم) بالنصب على الظرفية الزمانية، وأجاز الحافظ في «الفتح» رفعه مبتدأ أولاً، وتعدل مبتدأ ثانياً وصدقة خبر الثاني والجملة خبر مبتدأ الأول والرابط مقدر: أي كل يوم تطلع فيه الشمس العدل فيه صدقة (تطلع) بضم اللام كما مر (فيه الشمس) جملة صفة يوم وهو صفة توضيحية فيها بيان تجديد هذه الصدقات على الإنسان صبيحة كل يوم في مقابلة ما أنعم الله تعالى به عليه في خلق تلك السلاميات من باهر
النعم ودوامها التي هي نعمة أخرى؛ ومما يزيد العبد تيقظاً لنعمة الدوام عليه أنه تعالى قادر على سلب نعمة الأعضاء عن عبده كل آن، وهو في ذلك عادل في حكمه، فعفوه عن ذلك إدامة نعمة العافية عليه صدقة توجب الشكر بدوامها فيتعين على العبد الشكر لهذه النعم بالصدقة بما يأتي في الحديث وغيره مقابلة لتلك النعم بقدر الطاقة مع ما ورد من أن الصدقة تدفع البلاء فبوجودها عن أعضائه يرجى اندفاع البلاء عنها، وظاهر قوله: «عليه صدقة كل يوم» وجوب الشكر بهذه الصدقة كل يوم،(3/45)
لكن في حديث «الصحيحين» : «فإن لم يفعل فليمسك عن الشر فإنه له صدقة» وهو يدل على أنه يكفيه أن لا يفعل شيئاً من الشرّ ويلزم من ذلك القيام بجميع الواجبات وترك جميع المحرمات، وهذا هو الشكر الواجب، وهو كاف في شكر هذه النعم وغيرها. أما الشكر المستحبّ فهو أن يزيد على ذلك بنوافل الطاعات القاصرة كالأذكار والمتعدية كالإعانة والعدل، وهذا هو المراد من هذا الحديث وأمثاله مع أن فيه ذكر بعض الطاعات (يعدل) أي يصلح وهو بتقدير «أن» قبله في تأويل مصدر مبتدأ خبره صدقة أو أوقع الفعل فيه موقع المصدر: أي مع قطع النظر عن «أن» ، وهذا الإعراب جار في قوله وتعين وما بعده كما سبق في باب بيان كثرة طرق الخير أي عدله (بين الاثنين) المتهاجرين أو المتخاصمين أو المتحاكمين بأن يحملهما لكونه حاكماً أو محكماً أو مصلحاً بالعدل والإنصاف والإحسان بالقول أو الفعل على الصلح الجائز، وأشار إلى أنه الذي لا يحلّ حراماً ولا يحرم حلالاً (صدقة) عليها لوقايتهما مما يترتب على الخصام من قبيح الأقوال والأفعال، ومن ثم عظم فضل الصلح كما أشير إليه بقوله تعالى:
{أو إصلاح بين الناس} وقوله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط} (النساء: 135) أي العدل {شهداء ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فا أولى بهما} (النساء: 135) وجاز الكذب فيه مبالغة في وقوع الألفة بين المؤمنين (ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها) نفسه أو غيره بإمساكها لذلك (أو يضع) وأورده المصنف في «الأربعين» «أو يرفع» (له عليها متاعه) وهو كل ما ينتفع به من عرض الدنيا قليلاً كان أو كثيراً (والكلمة الطيبة) وهي كل ذكر أو دعاء للنفس أو للغير، وسلام عليه وردّ وثناء بحق ونحو ذلك مما فيه سرور واجتماع القلوب وتآلفها. وكذا سائر ما فيه معاملة الناس بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ومنه قوله: «ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» وقد سبق مع حديث أبي هريرة هذا في باب بيان طرق الخير (صدقة وبكل خطوة) وهو بفتح الخاء المعجمة للمرة الواحدة وضمها لما بين القدمين (يمشيها إلى الصلاة) وكذا إلى سائر الطاعات كطلب العلم وصلة الأرحام وزيارة الإخوان (صدقة وتميط) بضم أوله: أي تزيل (الأذى) هو ما يؤذي المارّة من حجر أو شوك أو نحوهما (عن الطريق) مذكر ومؤنث (صدقة) وأخرت هذه لأنها دون ما قبلها كما يشير إليه خير(3/46)
«الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلاالله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (متفق عليه) وتقدم زيادة عليها من مخرجيه في الباب المشار إليه. (ومعنى يعدل بينهما) كنى عن الاثنين المذكورين في الخبر بضميره (يصلح بينهما بالعدل) .
2492 - (وعن أم كلثوم) بضم الكاف وسكون اللام وبالمثلثة آخره ميم (بنت عقبة) بضم المهملة وسكون القاف بعدها موحدة فهاء (ابن أبي معيط) بضم الميم وفتح المهملة الأولى بعدها تحتية ساكنة واسمه، أبان بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أسلمت (رضي الله عنها) بمكة قبل أن يأخذ النساء في الهجرة إلى المدينة ثم هاجرت وبايعت فهي من المهاجرات المبايعات. قيل وهي أول من هاجر من النساء كانت هجرتها في سنة سبع في الهدنة التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين من قريش، وكانوا صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يردّ إليهم من جاء مؤمناً وفيها نزلت: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} (الممتحنة: 10) الآية. وذلك أنها لما هاجرت لحقها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي كان بينه وبين قريش في الحديبية فلم يفعل، وقال: نأبى ذلك. قال عمر بن عبد العزيز: يقولون إنها مشت على قدمها من مكة إلى المدينة، فلما قدمت المدينة تزوّجها زيد بن حارثة، فقتل عنها يوم مؤتة فتزوّجها الزبير بن العوام، فولدت له زينب، ثم طلقها فتزوّجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميداً ومحمداً وإسماعيل، ومات عنها فتزوّجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهراً وماتت، وهي أخت عثمان بن عفان لأمه. وروى عنها ابنها حميد بن عبد الرحمن وغيره، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أحاديث فيما ذكر ابن حزم آخر سيرته وابن الجوزي في «مختصر التلقيح» إلا أنهما قالا في ترجمة من روي له عشرة أحاديث: أم كلثوم ولم ينسبوها، ثم رأيت ابن مالك قال في «شرح المشارق» : إنها روى لها كذلك، ولها في «الصحيحين» هذا الحديث الواحد اهـ. (قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ(3/47)
يقول: ليس الكذاب) أي إثم الكذب من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللام أو معناه: ليس بكثير
الكذب (الذي يصلح بين الناس) أي يكذب للإصلاح بين المتباغضين لأن هذا الكذب يؤدي إلى الخير وهو قليل أيضاً (فينمي خيراً) بفتح التحتية أي يبلغ خبراً فيه خير يقال نمى الحديث: إذا بلغه على وجه الإصلاح، ونماه بالتشديد: إذا بلغه على وجه الإفساد (أو) شك من الراوي أي شك هل قال: «فينمي خيراً» أو قال (يقول خيراً متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الصلح ومسلم في الأدب، وكذا رواه فيه أبو داود والترمذي في البرّ وقال: حسن صحيح، والنسائي في السير.
(وفي رواية مسلم) لهذا الحديث أي في بعض طرقه زيادة على الرواية المتفق عليها، فالرواية المذكورة آنفاً فيه أيضاً من طريق معمر قال فيه إلى قوله: «وينمي خيراً» ولم يذكر ما بعده، أي من الزيادة وتلك الزيادة هي قوله: (قالت) أي أم كلثوم كذا في طريق عند مسلم وفي طريق أخرى عنده قال ابن شهاب الزهري: «ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث» الحديث فجعل مسلم في تلك الطريق هذه الزيادة من قول الزهري. وفي الطريق التي أشار إليها المصنف قول أم كلثوم فقال: قالت (ولم أسمعه) أي النبيّ (يرخص) بتشديد الخاء المعجمة وبعدها مهملة، من الترخيص، ضد الحظر (في شيء مما يقول الناس) أي إنه كذب كما هو كذلك في قول الزهري، وحذف قولها كذب هو كذا عند مسلم (إلا في ثلاث) أي من الخصال (تعني) أي أم كلثوم بتلك الثلاث (الحرب) كأن يقول لأعداء الدين: مات كبيركم أولنا جيش كبير يأتينا، أو نحو ذلك مما فيه مصلحة عامة للمسلمين، فيجوز ارتكاب الكذب لعظم النفع (والإصلاح بين الناس) بأن يقول لزيد مثلاً: رأيت عمرو: يعني عدوه، يحبك ويثني عليك خيراً مما لم يكن ليصلح بينهما ويذهب الشنآن (وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها) كأن يقول أحدهما للآخر لا أحد(3/48)
أحبّ إليّ منك، فهذا الكذب جائز لعظم المصلحة المترتب عليه على محظور الإخبار بخلاف الواقع. وكذا يجوز الكذب لتخليص محترم، بل يجب على من سئل عن محترم قصد سائله عن إهلاكه أن يخفيه ولو باليمين، وليس في الحديث ما يدل على الحصر. وقال قوم: لا يجوز ذلك إلا بطريق التورية، وهي أن يريد المتكلم بكلامه خلاف ظاهره كأن يقول فعل فلان كذا وينوي إن قدر، ويقول في الحرب: مات كبيركم ويريد بعض المتقدمين منهم. قال الدماميني في «حاشية البخاري» : وليس في الحديث ما يقتضي جواز الكذب، فإنه قال: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس» وسلب الكذب عن المصلح لا يستلزم كون ما يقوله كذباً لجواز أن يكون صدقاً بطريق
التصريح أو التعريض اهـ.
2503 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوت خصوم بالباب) أفرد صوت المضاف مع تعدده في نفس الأمر لتعدد المضاف إليه لكونه لمح فيه كونه مصدراً في الأصل. قال في «الصحاح» : قد صات الشيء يصوت صوتاً اهـ. فيكون هذا نظير إفراد السمع في قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم} (البقرة: 7) على أحد الوجوه في الآية أو لاختلاط أصواتهم وعدم تمايزهم فصارت كالصوت الواحد لإدراك حاسة السمع لها رفعة (عالية) بالجرّ على أنه صفة خصوم، وبالنصب على أنه حال من أصواتها كذا في نسخة مكتوب على ضمير التثنية رمز صحّ. وفي رواية البخاري «أصواتهم بصيغة الجمع» . قال في «فتح الباري» : كأنه جمع باعتبار من حضر وثنى باعتبار الخصمين، أو كان التخاصم من الجانبين بين جماعتين فجمع باعتبار ذلك وثنى باعتبار جنس الخصم، وليس فيه حجة لمن جوّز إرادة صيغة الجمع بالاثنين، كما زعم الشراح. قلت: يعني به الكرماني (وإذا أحدهما يستوضع الآخر) أي يطلب منه الوضيعة: أي الحطيطة من الدين (ويسترفقه) أي يطلب منه الرفق (في شيء) قال الحافظ في «فتح الباري» : وقع في رواية ابن حبان بيان ذلك الشيء قال فيأول الحديث «دخلت امرأة على النبي فقالت: إني ابتعت أنا وابني من فلان تمراً فأحصيناه لا والذي أكرمك بالحق ما أحصيناه منه إلا ما نأكله في بطوننا أو نستطعمه مسكيناً وجئنا نستوضعه ما نقصنا» الحديث. قال الحافظ: ولم أقف على اسم أحد من المتبايعين وهي غير قصة كعب بن(3/49)
مالك وعبد الله بن حدرد التي في البخاري عقب هذا الحديث كما بينه في «فتح الباري» (وهو) أي الثاني (يقول وا لا أفعل) أي لا أضع شيئاً وفي رواية ابن حبان «فقال: آلى أن لا يضع خيراً ثلاث مرات» (فخرج رسول الله) ليصلح بينهما (فقال: أين المتألي) بضم الميم وفتح الفوقية والهمزة وتشديد اللام أي الحالف المبالغ في
اليمين (على الله أن لا يفعل المعروف) من الوضع والرفق بأخيه (فقال: أنا يا رسول الله فله) أي ذلك المذكور من الوضع والرفق (أي ذلك أحبّ) وفي رواية لابن حبان: «إن شئت وضعت ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال فوضع ما نقصوا» قال في «فتح الباري» : وهذا يشعر بأن المراد بالوضع الحط، وبالرفع الاقتصار عليه وترك الزيادة، لا كما زعم بعض الشراح أنه يريد بالرفق الإمهال. وفي أواخر الصلح من الفتح بعد أن ساق عن ابن حبان بيان ما سألوا فيه الرفق من أنهم أخذوا بخلاص صاحبه ثم سألوا منه ذلك بها قال الحافظ: فالمراد أنهم يستوضعونه بترك الزيادة على رأس المال والاسترقاق بترك طلب الربح (متفق عليه) فأخرجه البخاري في كتاب الصلح عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه وهو أبو بكر عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن أبي الرجال عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عن عمرة عن عائشة، ورواه مسلم في الشركة من البيوع: ثنا غيرواحد من أصحابنا قالوا: ثنا إسماعيل بن أبي أويس اهـ. ذكره الحافظ المزيّ في «الأطراف» . قال الحافظ ابن حجر في «نكته» عليها: قال أبو نعيم في «المستخرج» : يقال إن مسلماً حمل هذا الحديث عن البخاري اهـ. وكلام أبي نعيم يقتضي أنه حدث به أيضاً غيره، وقد رويناه في الأول من أعالي المحاملي رواية الإصبهانيين عنه قال ثنا إسماعيل فذكره اهـ. وفي «فتح الباري» في باب أواخر الصلح بعد أن ذكر أنه أخرجه عن إسماعيل بن أبي أويس: محمد بن يحيى الذهلي وذكر ما في المحامليات قال: فيحتمل أن يفسر من أبهمه مسلم بهؤلاء وبعضهم اهـ. ثم في الحديث الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه بالوضع والزجر على الحلف على ترك الخير، وفيه الصفح عما يجري بين المتخاصمين من اللفظ ورفع الصوت عند الحاكم (معنى يستوضعه: يسأله أن يضع عنه بعض دينه، ويسترفقه: يسأله الرفق) بكسر الراء ضد العنف وذلك بأن لا يزيد عليه ما نقص(3/50)
عليه (والمتألي: الحالف) تقدم في كلام الحافظ أنه
الحالف المبالغ في اليمين وهو الذي تقتضيه الصيغة.
2514 - (وعن أبي العباس) بتشديد الموحدة آخره مهملة (سهل بن سعد) الأنصاري (الساعدي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الدلالة على الخير (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن بني عمرو بن عوف) أي ابن مالك بن الأوس، والأوس أحد قبيلتي الأنصار، وهما الأوس والخزرج، وبنو عمرو بن عوف بطن كبير من الأوس فيه عدة أحياء كانت منازلهم بقباء (كان بينهم شرّ) السبب فيه كما في «الفتح» ما في رواية «وقع بين حيين من الأنصار كلام» وعند البخاري في كتاب الصلح من طريق محمد بن جعفر عن أبي حازم «أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقالوا: اذهب بنا نصلح بينهم» (فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلح بينهم في أناس) هذا هو الأصل كما تقدم وتعوض الهمزة أل (من أصحابه) وفي نسخة «معه» بدلاً من أصحابه سمي الطبراني منهم من طريق موسى بن محمد عن أبي حازم، أُبيّ بن كعب وسهيل بن بيضاء. وللبخاري في الأحكام أن توجهه كان بعد أن صلى الظهر (فحبس) بضم المهملة الأولى وكسر الموحدة، أي قام (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلح بينهم وحانت الصلاة) أي دخل حين الصلاة: وهي صلاة العصر كما صرح به البخاري في روايته في الأحكام، ولفظه «فلما حضرت صلاة العصر أذن وأقام وأمر أبا بكر فتقدم» (فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حبس وحانت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت) عند أحمد وأبي داود وابن حبان أن ذلك كان بأمر النبي ولفظه: «فقال لبلال: إن حضرت(3/51)
الصلاة ولم آتك فمر أبا بكر فلصلّ بالناس، فلما حضرت» الحديث، ونحوه للطبراني، ولا يخالف هذا قوله لأبي بكر «هل لك أن تؤم الناس» لأنه يحمل على أنه استفهمه هل تبادر أول الوقت أو تنتظر مجيء النبي، ورجح عند أبي بكر
المبادرة لأنها فضيلة محققة فلا تترك لفضيلة متوهمة (فأقام بلال وتقدم أبو بكر فكبر) وفي رواية للبخاري «فاستفتح أبو بكر الصلاة» . قال في «فتح الباري» : وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين حيث امتنع أبو بكر هنا أن يستمرّ إماماً، وحيث استمرّ في مرض موته حين صلى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرح به موسى بن عقبة في «المغازي» ، وكأنه لما مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار، ولما لم يمض منها إلا اليسير لم يستمر، وكذا وقع لعبد الرحمن بن عوف حيث صلى النبي خلفه الركعة الثانية من الصبح فإنه استمر
إماماً لهذا المعنى، وقصة عبد الرحمن عند مسلم (وكبر الناس وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي في الصفوف) زاد البخاري في رواية: يشقها شقاً (حتى قام في الصف) أي الأول كما في رواية له أيضاً، ولمسلم «فخرق الصفوف حتى قام عند الصفّ المقدم» (فأخذ الناس في التصفيق) قيل إنه مرادف للتصفيح، وقيل لا وهو الراجح (وكان أبو بكر رضي الله عنه) لعلمه بالنهي عن الالتفات في الصلاة وأنه خلسة من الشيطان يختلسها من صلاة العبد كما جاء ذلك في الخبر المرفوع (لا يلتفت في صلاته فلما أكثر الناس) أي من التصفيق كما في رواية للبخاري وفي رواية أخرى «فلما رأى التصفيق لا يمسك عنه» (التفت فإذا رسول الله) أي حاضر فالخبر محذوف (فأشار إليه رسول الله) أي بالمكث في مقامه، وفي رواية للبخاري في كتاب الإمامة «فأشار إليه أن امكث مكانك» . قال الحافظ في «الفتح» : وفي رواية عمر بن علي: فدفع في صدره ليتقدم فأبى (فرفع أبو بكر يده) في البخاري من باب الإمامة يديه بالتثنية (فحمد الله) ظاهره أنه تلفظ بالحمد لكن في رواية الحميدي عن سفيان «فرفع أبو بكر رأسه إلى السماء شكراً ورجع القهقرى» وأدعى ابن الجوزي أنه أشار بالحمد والشكر بيده ولم يتكلم، وليس في رواية الحميدي ما يمنع أن يكون تلفظ، ويقوّي ذلك ما عند الإمام أحمد عن أبي حازم «يا أبا بكر لم رفعت يديك وما منعك أن تثبت حين أشرت إليك؟ قال: رفعت يديّ لأني حمدت الله على ما رأيت منك»(3/52)
(ورجع القهقرى) أي يمشي إلى خلفه، فقوله: (وراءه) بالنصب على الحال تأكيد، وفعل ذلك لئلا يستدير القبلة فتبطل صلاته، وهو محمول على أنه لم تتوال منه حركات مبطلة (حتى قام) أي تأخر إلى موقف المأموم فقام (في الصفّ) ولم يقف منفرداً عنه لكراهته المفوتة لفضل الجماعة (فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى) إماماً (للناس، فلما فرغ اقبل بوجهه على الناس فقال: يا أيها الناس ما لكم؟) جملة مركبة من مبتدأ وخبر أي أيّ شيء
لكم؟ (حين نابكم) أي أصابكم (شيء في الصلاة) هو في تلك القصة تنبيه الصديق على مجيء النبي (ذتم) أي شرعتم (في التصفيق) جملة حالية بتقدير قد وحين ظرف. والمعنى: أي شيء بكم وقد صفقتم حين أصابكم شيء في الصلاة (إنما التصفيق للنساء) وفي رواية البخاري إنما التصفيح للنساء» زاد الحميدي «والتسبيح للرجال» وقد روى البخاري هذه الجملة الأخيرة مقتصراً عليها
في حديث آخر، وفي البخاري «قال سهل أي ابن سعد الساعدي هل تدرون ما التصفيح؟ هوالتصفيق» قال في «الفتح» : وهذا حجة من قال إنهما بمعنى، وبه صرح الخطابي وأبو علي القالي والجوهري وغيرهم، وادعى ابن حزم نفي الخلاف في ذلك، وتعقب بما حكاه القاضي عياض في «الإكمال» أنه بالحاء الضرب بظاهر إحدى اليدين على الأخرى، وبالقاف بباطنها على باطن الأخرى. وقيل بالحاء الضرب بأصبعين للإنذار والتنبيه وبالقاف بجميعها للهو أو اللعب اهـ. (من نابه) أي أصابه (شيء في صلاته فليقل: سبحان ا) لينبه على أنه في الصلاة ويقصد به الذكر وحده أو مع إعلام (فإنه) أي المصلي (لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت) بالبناء للفاعل (يا أبا بكر ما منعك) من (أن تصلي) إماماً (للناس حين أشرت إليك) أي بملازمة ما شرعت فيه من إمامتك بالقوم، وكانت الإشارة منه قبل أن يحرم بالصلاة كما في باب الإشارة في الصلاة من «فتح الباري» (فقال أبو بكر: ما كان) زائدة (ينبغي) أي لا يصح (لابن أبي قحافة) كنية أبيه واسمه عثمان رضي الله عنهما (أن يصلي) إماماً (بين يدي(3/53)
رسول الله) أي ليس هذا من باب الأدب المأمور به العباد معه فما فعله من سلوك الأدب وتقديمه على الأمر الذي على سبيل الإيجاب والتحتم، وسيأتي في ترجمة ابن عوف في باب فضل البكاء بيان أنه صلى في مرض موته وراء أبي بكر أيضاً، واستمر أبو بكر إلى أن أتم الصلاة إماماً بالقوم كما تقدم قريباً. قال في «فتح الباري» : وفي الحديث من الفوائد:
الإصلاح بين الناس، وجمع كلمة القبيلة، وحسم مادة القطيعة، وتوجه الإمام بنفسه إلى بعض رغبته لذلك، وفيه جواز الصلاة الواحدة بإمامين أحدهما بعد الآخر، وفيه فضل أبي بكر على جميع الصحابة. واستدل به جمع من الشراح ومن الفقهاء كالروياني على أن أبا بكر عند الصحابة كان أفضلهم لكونه اختاره دون غيره، وفيه جواز التسبيح والحمد في الصلاة لأنه من ذكرالله، ولو كان مراد المسبح إعلام الغير بما صدر منه: أي من قصد الذكر بذلك وإلا أبطل الصلاة عند الشافعية. وفيه جواز الالتفات للحاجة. وأن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من مخاطبته بالعبارة، وأنها تقوم مقام النطق لمعاتبة النبي على مخالفته إشارته، وفيه الحمد والشكر على الوجاهة في الدين، وأن من أكرم بكرامة تخير بين القبول والترك إذا فهم أن ذلك الأمر على غير جهة اللزوم، وكأن القرينة التي بينت لأبي بكر ذلك كونه شق الصفوف إلى أن انتهى إليه، فكأنه فهم من ذلك أن قصده أن يؤمّ الناس وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام له والتنويه بقدره، فسلك هو طريق الأدب والتواضع ورجح ذلك عنده احتمال نزول الوحي في حالة الصلاة لتغير حكم من أحكامها، وكأنه لأجل هذا لم يتعقب اعتذاره برد عليه. وفيه سؤال الرئيس عن سبب مخالفة أمره قبل الزجر عن ذلك، وفيه إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية واعتماد ذكر الرجل لنفسه بما يشعر بالتواضع من جهة استعمال أبي بكر لفظ الغيبة مكان الحضور، وإلا فكان الكلام أن يقول أبو بكر ما كان لي فعدل عنه إلى قوله: ما كان لابن أبي قحافة لأنه أول على التواضع من الأول. وفيه غير ذلك اهـ. ملخصاً (متفق عليه) أخرجاه في كتاب الصلاة وأخرجه البخاري في كتاب الأحكام وأبو داود والنسائي في الصلاة اهـ. ملخصاً من «الأطراف» للمزي (معنى حبس) في «وحبس رسول الله» وهو مبني للمفعول (أمسكوه ليضيفوه) بضم التحتية وكسر الضاد بعدها تحتية ساكنة، ففيه إضافة الرئيس إذا أوفد على
القوم، وفيه مزيد تواضعه وجلوسه جبراً لخواطرهم لحضور ضيافتهم.(3/54)
32 - باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين
بفتحات جمع ضعيف، قال ابن هشام في «التوضيح» : فعلة بفتحتين وهو شائع في وصف المذكر العاقل، الصحيح اللام كامل وكملة وساحر وسحرة اهـ. ففيه إيماء إلى ندور ما نحن فيه من جمع ضعيف على ضعفة، وقد بين وجه جماعة عليه في «المصباح» فقال: هو ضعيف والجمع ضعفاء وضعاف أيضاً، وجاء أيضاً ضعفة وضعفي. قال: ولوحظ في ضعيف معنى فاعل فجمع على ضعاف وضعفة مثل كافر وكفرة اهـ. وفي شرح أبيات الجمل لابن السيد: وجاز أن يكسر فعيل على فعلة من حيث إن فعيل وفاعل يشتركان في المعنى الواحد فيقال عليم وعالم وقدير وقادر، فاشتركا في جمعهما كما اشتركا في مفردهما: وكما قالوا عالم وعلماء وشاعر وشعراء، وباب فعلاء في الجمع إنما لفعيل نحو حكيم وحكماء وبصير وبصراء اهـ: أي فضل ضعفاء (المسلمين و) فضل (الفقراء) من الدنيا (والخاملين) الذكر فيها وإن لم يكونوا فقراء.
(قال الله تعالى: {واصبر نفسك} ) احبسها وثبتها (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ) أي في مجامع أوقاتهم أو في طرفي النهار وقرىء «بالغدوة» وفيه أن غدوة علم في الأكثر فاللام فيه على تأويل التنكير، وأصل غداة بالفتح غدوة بوزن ضربة فنقلت حركة الواو إلى الدال واعتلت كإعلال أقام (يريدون وجهه) أي رضا الله وطاعته وسيأتي بسط ذلك في معنى الآية في أثناء الكلام على حديث سعد في الباب بعده عن القرطبي ( {ولا تعد عيناك عنهم} ) ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم، وتعديته بعن لتضمينه معنى نبا، وقرىء: «ولا تعد عينيك» ولا تعد من أعداه وعداه، والمراد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزدرى بفقراء المؤمنين ويغلق عينيه عن رثاثة زيهم طموحاً إلى طراوة زي الأغنياء. قال الكواشي: قال قوم من رؤساء الكفار لرسول الله: نحّ هؤلاء الموالي الذين كأنّ ريحهم ريح الصنان وهم صهيب وعمار وغيرهما من فقراء المسلمين حتى نجالسك. فنزلت هذه الآية اهـ.(3/55)
2521 - (وعن حارثة) بالحاء المهملة وكسر الراء وبالمثلثة (ابن وهب) الخزاعي أخو عبد الله بن عمر بن الخطاب لأمه. قال ابن النحوي في شرح البخاري: أمهما أم كلثوم بنت جرول بن مالك بن المسيب الخزاعية. روى عنه أبو إسحاق السبيعي ومعبد بن خالد الجهني (رضي الله عنه) قال ابن الجوزي في المستخرج المليح: له ستة أحاديث أخرج له منها في «الصحيحين» أربعة أحاديث اتفقا عليها. وقال البرقي: له حديثان، وهو غلط لأنه قد أخرج له في «الصحيحين» أربعة أحاديث اهـ. (قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألا) حرف استفتاح لتنبيه السامع للكلام الآتي بعده (أخبركم بأهل الجنة) قال ابن النحوي: أي بمعظمهم وكذا في القسم الأخير وليس المراد الاستيعاب، وسكت الراوي عن ذكر جوانبهم للعلم بوقوعه: أي قالوا: بلى فقال: هم (كل ضعيف) فهو خبر لمبتدأ محذوف والجملة بيان، ومعنى ضعيف: أي نفسه ضعيفة لتواضعه وضعف حاله في الدنيا (متضعف) قال ابن النحوي هو بفتح العين المشددة وكذا ضبطه الدمياطي. قال ابن الجوزي: وغلط من كسرها إنما هو بالفتح، يعني أن الناس يستضعفونه ويقهرونه. وقال النووي: روى بالفتح عند الأكثرين وبالكسر اهـ: قال الطيبي: فمعناه على «الفتح» يستضعفه الناس ويحتقرونه ويفخرون عليه لضعف حاله في الدنيا ومعناه بالكسر متواضع متذلل خامل واضع من نفسه اهـ. وقيل المراد أنه يستضعف: أي يخضع سبحانه ويذل له نفسه، حكاه المصنف مقتصراً عليه. قلت: وعلى هذا جرى العلقمي وزاد في رواية «مستضعف» .
وفي رواية لأحمد «الضعيف المستضعف» (لو يقسم على الله لأبرّه) أي لأبرّ قسمه: أي لو حلف يميناً طمعاً في كرم الله بإبراره لأبره بحصول ذلك، وسيأتي فيه بسط. ومن ذلك ما روي عن أنس بن النضر في أخته الربيع لما كسرت سنّ المرأة وأمر بالقصاص، فقال أنس: وا لا تكسر سنّ الربيَّع، فرضى أهل المرأة المجنى عليها بالأرش، فقال: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّ قسمه» وأتى بالمضارع في حديث الباب إيماء إلى استمرار عناية الله بهم كل زمن ووقت وقضاء حوائجهم وتيسير مطالبهم ويكفيك قوله في الحديث القدسي «لا يزال عبدي يتقرّب إليّ حتى أحبه» الحديث: أي كنت متولياً لسائر أموره كافياً له في مطالبه (ألا أخبركم بأهل النار) أي بسماتهم وأفعالهم لتجتنبوها، هم (كل عتل) بضم المهملة والفوقية وتشديد اللام (جواظ(3/56)
مستكبر) أي متخلق به وهو كما في الحديث المرفوع «بطر الحق» أي دفعه وعدم الانقياد إليه «وغمط الناس» أي احتقارهم زاد في رواية بعد جواظ «جعظري» وهو بفتح الجيم والظاهر المعجمة وسكون المهملة بينهما. قيل الفظ الغليظ. وقيل الذي لا عرض له، وقيل الذي يتمدح بما ليس عنده (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير والأدب والنذور من «صحيحه» ، ومسلم في صفة الجنة. وأخرجه الترمذي في صفة الجنة ومداره عندهم على شعبة عن معبد بن خالد عن حارثة كذا لخص من الأطراف للمزي (العتل الغليظ) العنيف، وهذا قول الخطابي (الجافي) من الجفاء: أي الجافي عن المواعظ، هذا قول الفراء، والمصنف جمع القولين وجعلهما قولاً واحداً، وقيل هو الشديد من كل شيء، وقيل الكافر. وقال الداودي: السمين العظيم العنق والبطن. وقال الهروي: الجموع المنوع. قال: ويقال هو القصير البطين، وقيل الأكول الشروب الظلوم (والجواظ بفتح الجيم وتشديد الواو، وبالظاء المعجمة: وهو الجموع المنوع) هذا بعض تفسير له جاء مرفوعاً قال ابن النحوي: روي عن ابن عباس مرفوعاً «ثلاثة لا يدخلون الجنة:
الجواظ والعتل والجعظري - وقيل يا رسول الله وما الجواظ؟ قال: الجموع المنوع البخيل في يديه» والجعظري: الفظّ على ما ملكت يمينه والغليظ لقرابته وجيرانه وأهل بيته. والعتل الشرس الخلق الرحب الجوف الأكول الشروب الغشوم الظلوم اهـ. (وقيل) كما حكاه الخطابي واقتصر عليه الجوهري في «صحاحه» (الضخم) في البدن أي كثير لحمه (المختال) افتعال من الخيلاء: وهو التكبر (في مشيته) بكسر الميم (وقيل) كما حكاه في «النهاية» (القصير البطين) بفتح أولهما وكسر ثانيهما: أي القصير العظيم البطن لشرهه ونهمه فليس غرضه سوى ملء بطنه. وفي الحديث عن ابن عمر عن النبي «المؤمن يأكل في معاً واحداً، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» رواه البخاري.
2532 - (وعن أبي العباس) كنية (سهل) وقيل: كنيته أبو يحيى، وهو (ابن سعد) بن مالك بن(3/57)
خالد بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري (الساعدي) نسبة (رضي الله عنه) لجده ساعدة (قال: مرّ رجل) لم أقف على من سماه (على النبي فقال لرجل) وفي البخاري «فقال ما تقولون» قال الشيخ زكريا: الخطاب لما حضره، وهو أبو ذرّ ومن تبعه (وما رأيك في هذا؟) من حيث التعظيم له باعتبار الأمور الدنيوية (فقال رجل من أشراف الناس) الذين ينظرون إلى الظواهر (هذا) أي المسؤول عنه (وا حريّ إن خطب) مولية (أن ينكح) بالبناء للمفعول وكذا المضارعة الآتية بعد أي يزوج (وإن شفع) في أمر (أن يشفع) أي لحسبه أو لشرف نسبه وظهور فخره دنيا (فسكت رسول الله، ثم مر رجل) أي آخر، زاد في رواية للبخاري «من فقراء المسلمين» وهو في نسخة من هذا الكتاب أيضاً. واسمه جعيل بن سراقة الغفاري كما ذكره شيخنا شيخ الإسلام زكريا في «تحفة القاري» ، ولعل الرجل: الأول كان عيينة بن حصين أو الأقرع بن حابس. ففي «أسد الغابة» «قيل لرسول الله: أعطيت الأقرع بن حابس وعيينه بن حصن مائة من الإبل وتركت جعيلاً؟ فقال: والذي نفسي بيده لجعيل خير من طلاع الأرض مثل عيينة والأقرع» الحديث قال: أخرجه ابن عبد البرّ وابن منده وأبو نعيم اهـ. (فقال له) أي لذلك أي الذي عنده (رسول الله: ما رأيك في هذا، فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حريّ إن خطب) مولية (أن لا ينكح) لفقره (وإن شفع) في أمر (أن لا يشفع، وإن قال) : أي تكلم (لا يسمع لقوله) ويجوز في الأفعال الواقعة جواباً الجزم وهو الأفصح والرفع لكون فعل الشرط ماضياً (فقال رسول الله: هذا) أي الذي احتقرتموه لفقره (خير) عند الله (من ملء الأرض) أي مما يملأ بها (مثل هذا) الذي فضلتموه عليه. قال الكرماني: إن قلت كيف هذا؟ قلت: إن كان الأول كافراً فالوجه ظاهر، وإلا فيكون ذلك معلوماً لرسول الله صلى الله
عليه وسلم اهـ. (متفق عليه) كما فعل(3/58)
الحميدي وأبو مسعود وابن الجوزي فأورده في المتفق عليه من حديث سهل، وتبعهم المصنف وأبي مالك الطرقي وخلف فعزياه إلى البخاري فقط، ذكره ابن النحوي. قلت: وجرى على الأخير الحافظ المزي فاقتصر على عزوه إلى البخاري في كتاب النكاح والرقاق، قال: وأخرجه ابن ماجه في الزهد وقال الحافظ ابن حجر في «النكت الظراف على الأطراف» : قال الحميدي: ذكره ابن مسعود في المتفق عليه ولم أجده في مسلم. قال الحافظ: وذكره خلف والطرقي وغيرهما في أفراد البخاري وهو الصواب اهـ. (قوله حريّ هو بفتح الحاء) المهملة (وكسر الراء) لا حاجة إلى وصفها بالإهمال دفعاً لاشتباهها بالزاي للفرق بين اسميهما بتنوين الياء الأخيرة في اللغة المشهورة فيه دون الراء (وتشديد الياء: أي حقيق) وبمعناه جدير وقمير، وعسى (وقوله شفع بفتح الفاء) مضارعة يشفع فتحها أيضاً.
2543 - (وعن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الأنصاري (الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: احتجت) بتشديد الجيم: أي تخاصمت (الجنة والنار) قال الطيبي: والمقصود حكاية ما يقع بيهما مما اختص به كل منهما، وفيه شائبة من معنى الشكاية ألا ترى كيف قال للجنة «أنت دار رحمتي» إلخ فأقحم كلاً بما تقتضيه مشيئته. قال المصنف: هذا الحديث على ظاهره وإن الله تعالى جعل فيهما إدراكاً فتحاجا، ولا يلزم من هذا أن يكون التمييز فيهما دائماً وكذا قال الطيبي، قال ويجوز أن يكون على وجه التمثيل (فقالت النار فيّ) بتشديد الياء أولاهما المدغمة آخر الحروف وثانيهما ياء المتكلم (الجبارون) أي الذين يقهرون الغير على مراداتهم على حسب أهويتهم (والمتكبرون، وقالت الجنة فيّ) بتشديد الياء أيضاً (ضعفاء الناس) أي المتواضعون منهم أو المستضعفون فيهم لفقرهم وعدم ثروتهم، وإنما عزّ الدنيا عند أهلها السكارى بحبها. قال سيدنا عمر بن الخطاب: عزّ الدنيا بالمال، وعزّ الآخرة بالأعمال (ومساكينهم) أي(3/59)
والمحتاجون منهم الصابرون على الضرار من غير تضجر ولا تبرم من القضاء اكتفاء بتدبير المولى فيهم ورضاء بما قسم لهم (فقضى الله بينهما) أي أخبر عما أراده لهما مما سبقت به إرادته قائلاً (إنك الجنة) في الغة: عبارة عن البستان من النخيل والأعناب والمراد منها هنا مقابل النار (رحمتي) قال الطيبي: سماها رحمة لأن بها تظهر رحمة الله كما قال (أرحم بك من أشاء) وإلا فرحمة الله من صفاته التي لم يزل بها موصوفاً ليس صفة حادثة ولا اسم حادث فهو قديم بجميع أسمائه وصفاته جل وعلا اهـ.Y وهذا بناء على أن الرحمة الموصوف بها تعالى يراد منها إرادة الفضل والإحسان فتكون من صفات المعاني الأزلية القائمة بالذات، أما إذا أولت بالإحسان نفسه فتكون من صفات الأفعال، وهي حادثة غير قائمة بذات الباري عند الأشعري وأتباعه، وظاهر أن المراد هنا المعنى الثاني (وإنك النار عذابي أعذب بك من
أشاء) ممن تعلقت الإرادة الإلهية بتعذيبه (ولكليكما عليّ ملؤها) فمن يدخل الجنة لا يخرج منها البتة وكذا من يدخل النار من الكفرة: أما ذوو المعاصي من المؤمنين إذا دخلوها فلا بد من خروجهم منها ودخولهم الجنة بالوعد الذي لا يخلف قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} (الزلزلة: 7) وقال: «من مات وفي قلبه ذرّة من إيمان دخل الجنة» (رواه مسلم) وسيأتي بيان الباب الذي ذكره فيه من «صحيحه» وما فيه.
2554 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال) وفي نسخة قال إنه: (ليأتي) بفتح اللام وهي المؤذنة بالقسم المقدر قبلها المأتي به لتأكيد الأمروتقويته (الرجل العظيم) قدراً في الدنيا (السمين) جسماً (يوم القيامة) ظرف ليأتي (لا يزن عند الله جناح بعوضة) جملة حالية من فاعل يأتي: أي لا يعدله عند الله: أي لا قدر له عنده، وتتمة(3/60)
الحديث في مسلم «اقرءوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً» قال المصنف: في الحديث ذم السمن، ففيه تنبيه على أنه ليس الدار في الرفعة عند الله والقرب من فضله وساحة جرده بالصور، وإنما ذلك بما يقرّ في القلوب من الأنوار الإلهية والتجليات الربانية أهلَّنا الله لذلك بفضله (متفق عليه) فأخرجه البخاري في «التفسير» من «صحيحه» ومسلم في التوبة كلاهما من طريق يحيى بن بكير عن المغيرة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ورواه البخاري في التفسير أيضاً أولاً عن محمد بن عبد ا؛ عن سعيد بن أبي مريم عن المغيرة قال الحافظ في «النكت الظراف» وأخرجه الطبراني في «الأوسط» عن عمرو بن أبي الطاهر عن سعيد بن أبي مريم عن المغيرة عن أبي الزناد وقال: تفرّد بها سعيد. قال الحافظ تقي الدين بن فهد في «الإشراف» ورواية يحيى بن بكير ترد عليه اهـ.
2565 - (وعنه) عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد أو شاباً) أي أسود. وفي البخاري في باب كنس المسجد «أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء» والشك فيه من ثابت، لأنه رواه عنه جماعة هكذا ومن أبي رافع. قال الحافظ: وسيأتي بعد باب من وجه آخر عن عمار بهذا الإسناد فقال: ولا أراه إلا امرأة. وروى ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فقال امرأة سوداء، ولم يشك. ورواه البيهقي بإسناد حسن من حديث ابن بريدة عن أبيه فسماها «أم محجن» وأفاد أن الذي أجاب النبي عن سؤاله عنها أبو بكر الصديق، وذكر ابن منده في الصحابة جزماً امرأة سوداء كانت تقم المسجد، وقع ذكرها في حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس، وذكرها ابن حبان في الصحابة بدون ذكر السند فإن كان محفوظاً فهذا اسمها، وكنيتها أم محجن كذا في «فتح الباري» (ففقدها) أي المرأة أو النسمة ليعم كلاً منهما (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها، أو) شك من الراوي مرتب على الشك قبله: أي وقال (عنه) أي عن حال ذلك الإنسان ومفعول سأل محذوف: أي سأل الناس (فقالوا مات) أي(3/61)
ذلك الشخص (قال: أفلا كنتم آذنتموني) أي أمسكتم عن الإعلام فما آذنتموني (به) أي أعلمتموني بموته والمعطوف عليه مقدر بعد الهمزة (فكأنهم صغروا) بتشديد الغين (أمرها، أو) شك: أي أو قال صغروا (أمره) أي أنه من الفقراء الخاملين الذي لا يؤبه بوفاة مثله فيدعى للصلاة عليها مثلك، وهذا يحتمل أن يكون من الصحابة وقالوا ذلك اعتذاراً: أي إننا آثرنا راحتك وبقاءك في منزلك أن مثل ذلك الميت ليس من مشاهير الصحابة أولى السبق والأيادي في الإسلام كما جاء كذلك عند ابن خزيمة من طريق العلاء «قالوا: مات في الليل فكرهنا أن نوقظك» وكذا في حديث بريدة (فقال: دلوني على قبره) هكذا هو في النسخ بضمير المذكر بلا شك وهو محتمل لأن يكون الواقع وحده فقط مع الشك في كون المحدث عنه امرأة أو عبداً أو تذكيره
باعتبار الميت (فدلوه فصلى عليها) أي النسمة المتوفاة، هذا ما اتفقا عليه. زاد مسلم عن أبي كامل الجحدري عن حماد عن أبي رافع عن أبي هريرة: أي وهو إسناد الحديث عندهما (ثم قال) أي النبي (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها) لعدم المنافذ التي يدخل منها الضوء إليها فلا ينيرها إلا الأعمال الصالحة أو الشفاعات المقبولة الراجحة (وإن الله ينورها لهم) أي يدخل النور لهم فيها (بصلاتي) بسبب صلاتي عليهم. قال الحافظ في «فتح الباري» في كنس المسجد. وإنما لم يخرج البخاري هذه الزيادة لأنها مدرجة في هذا الإسناد وهي من مراسيل ثابت، بين ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد، وأوضحت ذلك بدلائله في كتاب بيان المدرج. قال البيهقي: يغلب على الظن أن هذه الزيادة من مراسيل ثابت كما قال أحمد بن عبده أو من رواية ثابت عن أنس يعني كما رواه ابن منده. ووقع في مسند أبي داود الطيالسي عن حماد بن زيد الجزار كلاهما عن ثابت بهذه الزيادة اهـ. وبه يعلم ما في قول المصنف (متفق عليه) .
وفي الحديث فضل تنظيف المساجد والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب، وفيه المكافأة بالدعاء والترغيب في شهود جنائز أهل الخير، وندب الصلاة على الميت الحاضر عند قبره لمن لم يصل عليه (قوله تقم بفتح التاء) أي الفوقية إن كان المحدث عنه الجارية وإلا فبالتحتية (وضم القاف أي تكنس) قال الحافظ(3/62)
على الفتح جاء في رواية «أنها كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد» وفي حديث بريرة «كانت مولعة بلقط القذا من المسجد» وهو بالقاف وبالذال المعجمة مقصوراً جمع قذاة وجمع الجمع أقذية. قال أهل اللغة: القذا في العين والشراب ما تساقط فيه، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيراً (والقمامة الكناسة) بضم أوليهما وهذه الصيغة لما لا يحتفل كالزبالة والنخالة (وآذنتموني بمد الهمزة) أي (أعلمتموني) من الإيذان: الإعلام.
2576 - (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (قال: قال النبي: رب) قال ابن هشام في «المغني» : ليس معناها التقليل دائماً خلافاً لابن درستويه وجماعة، بل ترد للتكثير كثيراً، أو للتقليل قليلاً ومن الأول قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} (الحجر: 2) وفي الحديث «يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» اهـ. (أشعث) قال العلقمي في «المصباح» شعث الشعر شعثاً فهو شعث من باب تعب: تغير وتلبد لقلة تعهده بالدهن أي والترجيل (أغبر) قال في «المصباح» : الغبار معروف وأغبر الرجل بالألف: أثار الغبار (مدفوع بالأبواب) أي يدفع بها لحقارة قدره عندهم لفقره ورثاثة ملبسه (لو أقسم على ا) أي حلف يميناً بحصول أمر طمعاً في كرم الله (لأبره) لأوجد ذلك إكراماً له بإجابة سؤاله وصيانته من الحنث في يمينه، وهذا لعظم منزلته عند الله تعالى وإن كان حقيراً عند الناس. وقيل معنى أقسم دعا ومعنى أبرّد أجاب دعوته، قاله المصنف في «شرح مسلم» (رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» بعد إخراجه بهذا اللفظ: إلا أنه يذكر أغبر أخرجه مسلم وأحمد.(3/63)
2587 - (وعن أسامة) هو بن زيد حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن أخيه كما صرح به كذلك المزي في «الأطراف» (رضي الله عنه) حال كونه راوياً (عن النبي قال: قمت على باب الجنة فكان عامة) أي معظم (من دخلها) من الناس (المساكين) أي الضعفاء المستضعفين في الدنيا الصابرين على الضراء والشاكرين على السراء (وأصحاب الجد) أي الغنى (محبوسون) قال ابن النحوي: كذا في الأصول بالحاء المهملة ثم باء من الحبس، وكذا عند أبي ذرّ وهو ظاهر. قال ابن التين: كذا هو عند الشيخ أبي الحسن ولعله بفتح التاء والراء اسم مفعول من احترس. قال أهل اللغة: يقال أحس بالمكان: إذا قام به حرساً فهم موقوفون لا يستطيعون الفرار. وقال الداوودي: أرجو أن يكون المحبوسون أهل التفاخر لا أفاضل هذه الأمة الذين كان لهم أموال ووصفهم الله بأنهم سابقون. ولما نقل ابن بطال عن المهلب أن في الحديث «إن أقرب ما يدخل به الجنة التواضع عز وجل، وإن أبعد الأسباب من الجنة التكبر بالمال وغيره» قال: وإنما صار أصحاب الجد محبوسون لمنعهم حقوق الله الواجبة للفقراء في أموالهم فحبسوا للحساب لما منعوه، فأما من أدى حقوق الله في ماله فإنه لا يحبس عن الجنة إلا أنهم قليل إذا أكثر شأن أهل المال تضييع حقوق الله تعالى فيه لأنه محنة وفتنة ألا ترى إلى قوله: «وكان عامة من دخلها المساكين وهذا يدل على أن الذين يؤدون حقوق الله في المال ويسلمون من فتنة هم الأقلون اهـ. وقيل إنهم محبوسون لتسبقهم الفقراء بخمسمائة عام كما ورد ذلك في الحديث، ثم هو في بعض النسخ مضبوط بنصب أصحاب فيقدر له فعل عام فيه: أي ورأيهم وبالواو في محبوسون فيكون ذلك على تقدير مبتدأ فيكون استئنافاً بيانياً، كأن سائلاً يسأله عن شأن أصحاب الجد فأجاب بأنهم محبوسون (غير) بالنصب وفي رواية إلا (أن أصحاب النار) أي المستحقون لها بكفر أو معاصي من أصحاب الجد (قد أمر بهم إلى النار) والجملة مضاف إليها إذا الفجائية
(وقعت على باب النار) فكشف لي عن أهلها (فإذا عامة من دخلها) مبتدأ خبره النساء هذا باعتبار أول الأمر فلا ينافي خبر «يمشي الرجل من أهل الجنة: أي يأوي على ثنتين وسبعين زوجة، ثنتان من بني آدم، وسبعون من الحور العين» لأن هذا باعتبار الآخرة، فالنساء أكثر أهل النار ابتداء وأكثر أهل الجنة انتهاء (متفق عليه) فأخرجه البخاري في «صحيحه» في بابي النكاح والرقاق ومسلم في آخر كتاب الدعوات،(3/64)
وأخرجه أحمد والنسائي في عشرة النساء، واستدل بحديث الباب على فضل الفقر على الغنى. وتعقب بأنه ليس فيه أكثر من بيان أن الفقراء في الجنة أكثر من الأغنياء، وليس فيه أن الفقر أدخلهم الجنة إنما دخلوها بصلاحهم مع الفقر، فالفقير إذا لم يكن صالحاً لا فضل فيه. قال العلقمي: ظاهر الحديث التحريض على ترك التوسع من الدنيا، كما أن فيه تحريضاً على الأغنياء بأمر الدين لئلا يدخلوا النار اهـ. (والجد بفتح الجيم) وتشديد الدال المهملة (الحظ والغنى) ويطلق على أبي الأب وعلى أبي الأم وعلى العظمة ومنه «تعالى جد ربنا» وعلى القطع وفي «القاموس» أنه يطلق أيضاً على الرجل العظيم الحظ وعلى الرزق وعلى شاطىء النهر اهـ. أما الجد بالكسر فالاجتهاد (قوله محبوسون: أي لم يؤذن لهم بعد في دخول الجنة) إما لوقوفهم للحساب وإما ليسبقهم إليها صالحو الفقراء كما تقدم.
2588 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة) قال الزركشي: أي من بني إسرائيل، وإلا فقد تكلم في المهد جماعة غيرهم ففي مسلم في قصة أصحاب الأخدود «أن امرأة جيء بها لتلقى في النار لتكفر ومعها صبيّ مرضع فتقاعست، فقال: يا أماه اصبري فإنك على الحق» قلت: وقد تقدم الحديث والكلام عليه في باب الصبر قال: ولأحمد والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعاً: «تكلم في المهد أربعة، فذكر منهم شاهد يوسف وابن ماشطة فرعون لما أراد فرعون إلقاء أمه في النار فقال اصبري» . وأخرج الثعلبي عن الضحاك أن يحيى تكلم في المهد، وفي تفسير البغوي أن إبراهيم الخليل تكلم في المهد، وفي سير الواقدي أن نبينا تكلم في أوائل ما ولد. وقد تكلم في زمنه مبارك اليمامة وهو طفل وقصته في الدلائل للبيهقي. قال(3/65)
الحافظ في «فتح الباري» : على أنه اختلف فيشاهد يوسف، فقيل كان صغيراً، وهذا أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وسنده ضعيف، وبه قال الحسن وابن جبير، وأخرج عن ابن عباس أيضاً ومجاهد أنه كان ذا لحية، وعن قتادة والحسن أيضاً أنه كان حكيماً من أهلها اهـ. قال السيوطي في «التوضيح» بعد ذكر ما ذكر: فكملوا عشرة، وقد نظمها في أبيات وقد تقدمت عنه في باب الصبر، وقد نظمت أسماءهم بقولي:
تكلم في المهد طه كذا
خليل ويحيى وعيسى ومريم
وشاهد يوسف مبري جريج
وطفل لدى النار لما تضرم
وطفل ابن ماشطة قد عدت
لفرعون فيما مضى من أمم
وطفل عليه أتوا بالأمه
يقولون تزني ولما تكلم
كذلك في عهد خير الورى
مباركهم وبه يختتم
(عيسى) اسم عبراني، وزعم أنه مأخوذ من العيس أحد ألوان الإبل لحمرة فيه رده البيضاوي في تفسير سورة آل عمران بأنه تكلف لا دليل عليه (ابن مريم) إذ قال وهو في المهد كما أخبر الله عنه «إني عبد ا» الآية (وصاحب جريج) بجيمين مصغر (وكان جريج رجلاً عابداً) وكان في أول أمره تاجراً، وكان يزيد مرة وينقص أخرى فقال: ما في هذه التجارة خير لألتمس تجارة في خيرمن هذه/ فبنى صومعة وترهب فيها كذا في رواية أحمد، فدل ذلك على أنه كان بعد عيسى ومن أتباعه، لأنهم الذين ابتدعوا الترهيب وحبس النفس في الصوامع (فاتخذ صومعة) بفتح المهملة والميم وسكون الواو بينهما: وهي البناء المرتفع المحدد أعلاه ووزنها فوعلة من صمعت: إذا دققت لأنها دقيقة الرأس (فكان فيها) بعبد الله مؤثراً للخلوة والعزلة (فأتته أمه) قال الحافظ في «فتح الباري» : لم أقف في شيء من الطرق على اسمها (وهو يصلي) حالية من ضمير المفعول مقرونة بالواو والضمير معاً (فقالت: يا جريج) زاد في رواية أحمد «أشرف عليّ أكلمك أنا أمك» وفي حديث عمران بن حصين «وكانت أمه تأتيه فتناديه فيشرف عليها فتكلمه، فأتته يوماً وهو في صلاته» (فقال: أي)(3/66)
بفتح الهمزة وسكون اليا لنداء القريب وهو تعالى أقرب من كل قريب بعلمه وكرمه وفي نسخة بدل: أي يا (ربّ أمي وصلاتي) أي اجتمع على إجابة أمي وإتمام صلاتي فوفقني لأفضلهما، زاد في رواية الأعرج عند الإسماعيلي «أوثر صلاتي على أمتي، ذكره ثلاثاً» (فأقبل على) إتمام (صلاته، فانصرفت) ذلك اليوم (فلما كان) أي جريج في زمان (من العد) اليوم الذي بعد ذلك اليوم الأول (أتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: أي ربّ أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته) في اليوم الثاني أيضاً (فلما كان من الغد) أي لليوم الثاني وهو الثالث (أتته فقالت: يا جريج، فقال: يا) وفي نسخة مصححة أي (ربّ أمي وصلاتي فأقبل على صلاته) قال الحافظ في «فتح الباري» : وكل ذلك أي الكلام الوارد عنه في
الصلاة محمول على أنه قاله في نفسه: أي أو ما في معناه من تحريك اللسان من غير أن يسمع نفسه ولم يتحرك لسانه ثلاث حركات متوالية لا أنه نطق به: أي وأسمع نفسه وهو صحيح السمع سالم من اللغط ونحوه. قال: ويحتمل أن يكون نطق به على ظاهره لأن الكلام كان مباحاً عندهم وكذا في صدر الإسلام.
قال: وقد سبق حديث يزيد بن حوشب عن أبيه رفعه «لو كان جريج عالماً لعلم أن إجابته أمه أولى من صلاته» اهـ. (فقالت: اللهم لاتمته) بضم الفوقية الأولى (حتى ينظر إلى وجوه المومسات) وفي رواية للأعرج وأبي سلمة عن أبي هريرة حتى ينظر في وجوه المياميس» وفي حديث عمران بن حصين «فغضبت وقالت: اللهم لا يموتنّ جريج حتى ينظر في وجوه المومسات» (فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وكانت امرأة بغيّ) أي زانية، قال العكبري: في وزنه وجهان: فقيل فعول فأعل إعلال صبيّ ولذا لم يلحق الثناء كما لا يلحق في امرأة صبور وشكور، وقيل فعيل بمعنى فاعل، ولم تلحقه التاء أيضاً لأنها للمبالغة أو لأنه على النسب مثل طالق وحائض ملخصاً، وتقدم فيه مزيد في باب طرق الخير (يتمثل بحسنها) بضم التحتية وفتح الفوقية وتشديد المثلثة بعد الميم: أي يضرب بحسنها لكماله المثل (فقالت: إن شئتم لأفتننه) في رواية وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عند أحمد زيادة «فقالوا قد شئنا» قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذه المرأة لكن في حديث عمران بن حصين أنها كانت بنت ملك القرية، وفي رواية الأعرج «وكان يأوي إلى صومعته راعية(3/67)
ترعى الغنم» ونحوه في رواية أبي رافع عند أحمد، وفي رواية أبي سلمة «وكان عند صومعته راعي ضأن وراعية معز» ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها خرجت من دار أبيها بغير علم أهلها متنكرة وكانت تعمل الفساد إلى أن ادعت أنها تستطيع أن تفتن جريجاً فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية ليمكنها أن تأوي إلى ظلّ صومعة جريج (فتعرضت له فلم يلتفت إليها) لعلمه بما يترتب
على النظر إلى حسان الصور من الضرر (فـ) ـلما لم يفتتن ووعدتهم بذلك منه ولم تقدر عليه (أتت راعياً كان يأوي إلى صومعته) أي صومعة جريج (فأمكنته من نفسها) لتحمل فتنسبه إلى جريج فتصدق نفسها فيما وعدت به من فتنته وا كافي عبده المتوجه إليه (فوقع عليها) أي جامعها (فحملت فلما ولدت) أي بعد انقضاء مدة حملها على العادة (قالت: هو من جريج) فيه حذف تقديره: فسئلت ممن هو؟ فقالت من جريج. زاد في رواية أحمد «فأخذت وكان من زنى منهم قتل، فقيل لها: ممن هذا؟ فقالت: من من صاحب الصومعة وفي رواية الأعرج «فقيل لها من صاحبك؟ قالت: جريج الراهب نزل إليّ فأصابني» زاد أبو سلمة في رواية «فذهبوا إلى الملك فأخبروه فقال: أدركوه فأتوني
به (فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته) وفي رواية أبي رافع «فأقبلوا بفؤوسهم ومساحيهم إلى الدير فنادوه فلم يكلمهم فأقبلوا يهدمون ديره» وفي رواية حديث عمران «فما شعر حتى سمع الفؤوس في أصل صومعته، فجعل يسألهم: ويلكم ما لكم؟ فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل فتدلى» (وجعلوا يضربونه) وفي رواية أبي رافع: «فقالوا: أي جريج انزل فأتى يقبل على صلاته فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل فجعلوا في عنقه وعنقها حبلاً فجعلوا يطوفون بهما في الناس» وفي رواية أبي سلمة: «فقال له الملك: ويحك يا جريج كنا نراك خير الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه وفي حديث عمران «فجعلوا يضربونه ويقولون: مرائي تخادع الناس بعملك» وفي رواية الأعرج «فلما مرّ نحو بيت الزواني ضحك، فقالوا: لِمَ تضحك؟ حتى من الزواني؟» (فقال: ما شأنكم فقالوا: زنيت بهذه البغيّ فولدت) بفتح اللام (منك قال: أين الصبيّ، فجاءوا به) أي أحضروه (فقال: دعوني) أي من السب والضرب (حتى أصلي) ففيه اللجأ إلى الصلاة عند الكرب.B وفي الحديث «كان إذا حزنه أمر بادر إلى الصلاة» أورده السيوطي في سورة البقرة من(3/68)
الجلالين ولم يعزه لمخرج ولا عين صحابيه. قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث «الكشاف» : رواه الطبراني في «تفسيره» من تفسير حذيفة بهذا اللفظ أخرجه أحمد وأبو داود عن حذيفة بلفظ «كان إذا حزبه أمر صلى» وأخرجه البيهقي في قصة الخندق مطولاً اهـ. (فصلى) ركعتين كما في حديث عمران وعند وهب بن جرير فقام وصلى ودعا (فلما انصرف) أي من صلاته (أتى الصبي فطعن في بطنه) قال الحافظ في مرسل الحسن عن ابن المبارك في البرّ والصلة أنه سألهم أن ينظروه فأنظروه فرأى في المنام من أمره أن يضرب في بطن امرأة فيقول أيتها السخلة من أبوك؟ ففعل (فقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي) في رواية أبي رافع «ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك؟ قال: راعي الضأن» وفي روايته عند أحمد «فوضع أصبعه على
بطنها» وفي رواية أبي سلمة «فأتى بالمرأة والصبيّ وفمه في ثديها فقال له جريج: يا غلام من أبوك؟ «فنزع الغلام فاه من الثدي وقال: راعي الضأن» قال الحافظ: ولم أقف على اسم الراعي، ويقال إن اسمه صهيب، وأما الابن ففي رواية البخاري بلفظ فقال «يا بابوس» وتقدم شرحه وأنه ليس اسمه وإنما المراد به الصغير، وفي حديث عمران «
ثم انتهى إلى شجرة فأخذ منها غصناً ثم أتى الغلام وهو في مهده فضربه بذلك الغصن فقال: من أبوك؟» وفي «تنبيه الغافلين» للسمرقندي بغير إسناد «أنه قال للمرأة: أين أصبتك؟ قالت: تحت الشجرة، فأتى تلك الشجرة فقال لها: يا شجرة أسألك بالذي خلقك: من زنا بهذه المرأة؟ فقال كل غصن منها راعي الغنم» ويجمع بين هذا الاختلاف بوقوع جميع ما ذكر من مسح رأس الصبي ووضع الأصبع على بطن أمه ومن طعنه بأصبعه ومن ضربه بطرف العصى التي كانت معه وأبعد من جمع بينهما بتعدد القصة وأنه استنطقه وهو في بطنها مرة قبل أن تلد ثم استنطقه بعد أن ولد اهـ. (فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به) عند وهب بن جرير «فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه» وزاد «الأعرج» فأبرأ الله جريجاً وأعظم الناس أمر جريج (وقالوا نبني لك صومعتك) أي ما هدمناه منها كما في رواية أبي رافع (من ذهب؟ قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا) زاد في رواية أبي سلمة «فرجع إلى صومعته فقالوا: با مم ضحكت؟ فقال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليّ أمي» وفي الحديث إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع لأن الاستمرار فيها نافلة، وإجابة الأم وبرّها واجب. قال المصنف وغيره: إنما دعت عليه لأنه(3/69)
ان يمكنه تخفيف صلاته وإجابتها، لكن لعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدنيا تشتاق إليه فتزوره وتقنع برؤيته وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف ويجيبها لأنه خشي أن ينقطع خشوعه. وتقدم حديث يزيد بن حوشب عن أبيه مرفوعاً «لو كان جريج فقيهاً لعلم أن إجابة أمه
أولى من عبادة ربه» أخرجه الحسن بن سفيان. وهذا إذا احتمل إطلاقه استفيد منه إجابة أمه أولى من عبادة ربه» أخرجه الحسن بن سفيان. وهذا إذا احتمل إطلاقه استفيد منه جواز قطع الصلاة مطلقاً لإجابة نداء الأم فرضاً كانت أو نفلاً، وهو وجه في مذهب الشافعي حكاه الروياني. والأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلاً وعلم تأذى الوالد بالترك وجبت الإجابة وإن كانت فرضاً وضاق الوقت لم تجب الإجابة وإن لم يضق وجب عند إمام الحرمين وخالفه غيره لأنها تلزم بالشروع. وعند المالكية أن إجابة الوالد أفضل من التمادي. وحكى القاضي أبو الوليد أن ذلك يختص بالأم دون الأب. وعند ابن أبي شيبة مرسل عن محمد بن المنكدر ما يشهد له، وقال به مكحول. وقيل إنه لم يقل به من السلف غيره. وفي الحديث أيضاً عظم برّ الوالدين وإجابة دعائهما ولو كان الولد معذوراً لكن يختلف الحال في ذلك بحسب المقاصد. وفيه الرفق بالتابع لأن أم جريج مع غضبها منه لم تدع عليه إلا بما دعت به خاصة، ولولا طلبها الرفق بالتابع لأن أم جريج مع غضبها منه لم تدع عليه إلا بما دعت به مع الله لا تضرّه الفتن. وفيه قوّة يقين جريج وصحة رجائه بنطق ما استنطقه، وفيه أن الله يجعل لأوليائه مخارج عند ابتلائهم وإنما يتأخر ذلك عن بعضهم في بعض الأوقات تهذيباً وزيادة في الثواب، وفيه إثبات كرامات الأولياء ووقوع الكرامة لهم باختيارهم وطلبهم، وفيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة خلافاً لمن زعم ذلك وإنما الذي يختص بها الغرّة والتحيل في الآخرة اهـ. ملخصاً من «الفتح» (وبينما) أصله بين فأشبعت الفتحة فتولدت الألف وكفت عن اضافته للمفرد وأضيف للجمل (صبي يرضع من أمه) قال الحافظ: لم أقف على اسم الصبيّ ولا على اسم أمه ولا على اسم أحد ممن ذكر في القصة المذكورة (فمر رجل) في رواية خلاس عن أبي هريرة عند أحمد «فارس متكبر» (راكب على دابة فارهة وشارة) بفتح الراء وسيأتي ضبطها وضبط الفارهة ومعناهما
في الأصل (حسنة) أي منظر أبهى وملبس سنيّ (فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي) بفتح المثلثة وسكون الدال المهملة(3/70)
وتخفيف الياء قال في «الصحاح» يذكر ويؤنث وهي للمرأة والرجل أيضاً/ والجمع أثد وثدىً على فعول وثدي أيضاً بكسر المثلثة اتباعاً لما بعدها من الكسر اهـ. وفي «التهذيب» للمصنف مثله. ثم نقل عن ابن فارس اختصاص الثدي بالمرأة ويقال لذلك من الرجل ثندوة بفتح الثاء بلا همز وثندؤة بالضم والهمز فأشار إلى تخصيصه وقد ثبت في الحديث الصحيح «أن رجلاً وضع ذاب سيفه بين ثدييه» (وأقبل إليه ونظر إليه) أي معتبراً لحاله بالسرّ الذي ألهمه الله إياه (فقال: اللهم لا تجعلني مثله) أي في الجبروت والتكبر وإن كان حسناً في المنظر فلا مدار على حسن الصورة بل على نور الباطن وأنوار السريرة (ثم أقبل على ثديه) يرضعه (فجعل يرتضع) ومرّوا وفي باب بدء الخلق من البخاري ومرّ بالمبني للمجهول (بجارية وهم يضربونها) وعند البخاري بأمة وعند أحد تضرب. قال الحافظ: وقع في رواية خلاس أنها كانت حبشية أو زنجية. وفي رواية الأعرج عن أبي هريرة عند البخاري «يجرراها» بجيم مفتوحة وتشديد الراء الأولى ويلعب بها وهو معنى قوله في رواية البخاري «فجروّها حتى ألقوها» (ويقولون: زنيت وسرقت) بكسر التاء فيهما للواحدة المخاطبة (وهي تقول حسبي ا) أي بحسبي أي كافيّ (و) هو (نعم الوكيل) وتقدم بسط فيها أوائل الكتاب، اكتفت بهذا الذكر عن تبرئتها لنفسها ونفي ما رموها به من الزنا والسرقة علماً بأن من اعتمد على مولاه كفاه ما أهمه من أمر دنياه وأخراه قال تعالى:
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق: 3) وتقدم في باب اليقين والتوكل عن ابن عباس حديث كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله نعم والوكيل (فقالت أمه) لقصر نظرها على الظاهر (اللهم لا تجعل ابني مثلها) أي في كونه حقيراً يضرب لفعل السوء (فترك) الابن (الرضاع ونظر إليها) فألهمه الله أنها بريئة مما رميت به ومظلومة فيما يفعل بها (فقال: اللهم اجعلني مثلها) أي في البراءة من مزاولة المعاصي والوقوع فيها لا مثلها في الاتهام بما لم أفعل لأنه من باب تمني البلاء وهو منهيّ عنه كما في خبر «لا تمنوا لقاء العدوّ» الحديث (فهنالك) أي في ذلك الحال (تراجعا الحديث) أي سألته عن(3/71)
سبب مخالفته لها (فقالت) مخاطبة له لما صدر منه من المعارضة والمخالفة لها (مرّ رجل حسن الهيئة) هو بمعنى قوله في رواية السابقة راكب دابة فارهة وشارة حسنة (فقلت) اللهم اجعل ابني مثله) حسن المنظر جميل الهيئة (فقلت) بفتح التاء ضمير المخاطب (اللهم لا تجعلني مثله ومروا بهذه الأمة) لعلها كانت بالقرب لم تبعد حال كلامها معه وإن كانت قد ذهبت. فالإتيان باسم الإشارة الموضوع للقريب لقرب القصة بالنسبة لما قبلها (وهم يضرونها ويقولون زنيت وسرقت. فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها. فقلت: اللهم اجعلني مثلها) فأجابها ببيان سبب ذلك (قال) وهو استئناف بياني كأنه قيل: ماذا قال الصبي عند قول أمه له ما ذكر؟ فقال قال: (إن ذلك الرجل كان جباراً) .
وفي رواية أحمد «يا أماه أما الراكب ذو الشارة فجبار من الجبابرة» وفي رواية الأعرج «فكأنه كافر» في «مختصر القاموس» «الجبار الله تعالى» وكل عات وقلب لا تدخله الرحمة والقتال في غير حق والعظيم القوي الطويل جبار اهـ. وظاهر أنه محتمل هنا لكل المعاني الأخيرة لاحتمال أنه موصوف بكل منها (فقلت: اللهم لا تجعلني مثله) في الجبروت فإنه سبب للقصم والهلاك في الدين (وإن هذه) أي الأمة الحاضرة أو التي في معنى الحاضرة لقرب قصتها (يقولون) أي لها (زنيت و) هي (لم تزن) فهي في محل الحال على تقدير المبتدأ أو معترضة بين المتعاطفين لتبرئتها مما رميت به (و) يقولون (سرقت) بكسر الفوقية فيه وفيما قبله (ولم تسرق) ويجوز كونها معترضة أيضاً إن وقوع الجملة المعترضة في آخر الكلام كما أشار إليه القاضي البيضاوي في «التفسير» في نظيره (فقلت: اللهم اجعلني مثلها) أي في السلامة من الذنب والبراءة من وصمته: قال الحافظ في «الفتح» : في الحديث أن نفوس أهل الدنيا تقف مع الخيال الظاهر فتعاف سوء الحال، بخلاف أهل التحقيق فوقوفهم مع الحقيقة في الباطن فلا يبالون بذلك مع حسن السريرة كما قال تعالى حكاية عن أصحاب قارون حيث خرج عليهم {قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارن ... وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير} (القصص: 79، 80) وفيه أن البشر طبعوا على إيثار الأولاد على النفس بالخير لطلب(3/72)
المرأة الخير لابنها ودفع الشرّ عنه ولم تذكر نفسها (متفق عليه) قال الحافظ في باب بدء الخلق من «فتح الباري» : حديث أبي هريرة عن جرير، ورواه عنه محمد بن سيرين كما هنا وفي باب المظالم. ورواه عنه الأعرج كما في أواخر الصلاة أو أبو رافع عند مسلم وأحمد وأبو سلمة وهو عند أحمد، ورواه عن النبي مع أبي هريرة عمران بن حصين اهـ. قال الحافظ المزي في «الأطراف» : أخرجه مسلم في الاستئذان عن شيبان بن فروخ عن سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن ثابت البناني عن أبي رافع عن
أبي هريرة، وتعقبه الحافظ في «النكت الظراف» بأنه لم يخرجه في الاستئذان إنما هو في البرّ والصلة وقد اعترض مغلطاي على المزي فقال: عزا هذا ظناً للاستئذان. وعزى حديث مسلم من رواية جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة للأدب والواقع إنما في مسلم في موضع واحد يعني إن كان الاستئذان من جملة الأدب فينبغي أن يقول فيهما إما الاستئذان وإما الأدب، وكتاب الأدب قبيل كتاب البرّ والصلة وبينهما الرؤيا ثم المناقب، فإن كان الذي يعبر عن الصلة والبر بالأدب فكان ينبغي أن يقول الأدب اهـ. (المومسات بضم الميم الأولى وإسكان الواو وكسر الميم الثانية وبالسين المهملة وهن الزواني) ويجمع في التكسير على مواميس (والمومسة الزانية) وفي «الصحاح» : المومسة الفاجرة وهم أعم من قوله هنا الزانية إلا أن يكون مراداً منه ذلك (وقوله دابة) بالجرّ على الحكاية وإن كانت لكونها في غير الاستفهام شاذة ويجوز الرفع ومن أولى (فارهة بالفاء) والراء والهاء وبعدها تاء التأنيث (أي حاذقة نفيسة) وفي «الصحاح» الفاره الحاذق بالشيء اهـ. وكأنه أخذ النفاسة من مقام المدح وأنه لازم الحذف عادة (والشارة بالشين المعجمة وتخفيف الراء: وهي الجمال الظاهر في الهيئة والملبس) زاد في «فتح الباري» حتى يتعجب منه وعليه فيقدر في الحديث مضاف: أي وذو شارة حسنة. وقد جاء في رواية البخاري إذ مرّ بها راكب ذو شارة، قال في «الفتح» : أي صاحب جيش اهـ. وعليه فيكون من حذف الجار وإبقاء عمله: أي وفي شارة حسنة ووصفها عليه بالمؤنث باعتبار لفظ شارة (ومعنى) تراجعا الحديث: أي (تراجع الصبي وأمه) حديث الصبي وحديثها الأنسب تقديم حديثها على حديثه وكان تأخيره لشرف الذكر (والله أعلم) .(3/73)
33 - باب ملاطفة اليتيم
هو صغير لا أب له. قال ابن السكيت: اليتيم في الناس من قبل الأب وفي البهائم من قبل الأم. قال ابن خالويه: وفي الطير بفقدهما لأنهما يحضنانه ويرزقانه. قال شيخ الإسلام زكريا في «شرح التنقيح» بعد نقله وتعليله: لا يأتي في جميع الطيور اهـ. (والبنات) أي بنات الإنسان نفسه ومثلهن فيما ذكر بنات غيره والتنصيص عليهن لأن بعض الناس يضجر منهن ويقسو عليهن والبنات جمع مؤنث سالم واحده بنت والتاء التي في المفرد حذفت كالتاء التي في مسلمة فهي غير التي في مسلمات فلذا نصب بالكسرة قال تعالى: {أصطفى البنات} (الصافات: 153) (وسائر الضعفة) من العبيد والإماء (والمساكين) أي المحتاجين فالمراد منه ما يشمل الفقراء قال الشافعي رضي الله عنه: الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. ثم المسكين مفعيل من الكسون. قال القرطبي: وكأنه من قلة سكنت حركاته، قال تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} (البلد: 16) أي لاصقاً بالتراب (والمنكسرين) أي لطارق حل بهم (والإحسان إليهم) ببذل الندى أو دفع الأذى أو كلمة طيبة: كأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو دعاء لهم قال تعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} (البقرة: 195) (والشفقة) أي الحنوّ (عليهم) والرحمة لهم، قال تعالى في وصف نبيه: {وكان بالمؤمنين رحيماً} (الأحزاب: 43) وعلامة ذلك النصح لهم وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه من وجوه الخير (والتواضع) قال الجنيد: هو خفض الجناح ولين الجانب (معهم وخفض الجناح لهم) هو عطف تفسيري إن عطف على التواضع وإن عطف على الملاطفة فمن عطف الخاص على العام، وخفض الجناح كناية عن التواضع قاله أبو(3/74)
حيان في «النهر» .
(قال الله تعالى) مخاطباً لنبيه ومحرضاً له على مكارم الأخلاق ومحاسنها ( {واخفض جناحك للمؤمنين} ) أي لين جانبك لم، مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحطّ.
(وقال الله تعالى: {واصبر نفسك} ) أي احبسها ( {مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} ) أي يعبدونه في سائر الأوقات فهما كناية عن الزمان الدائم ولا يراد بهما خصوص زمانهما، أو خص الزمان بالذكر لغلبة الشغل فيهما. فإذا لم يغفلوا فيهما مع ذلك فأن لا يغفلوا في غيرهما أولى ( {يريدون وجهه} ) أي ذاته جملة في محل الحال من فاعل يدعون ( {ولا تعد عيناك عنهم} ) أي لا تجاوزهم ناظراً إلى غيرهم من ذوي الهيئات من رؤساء قريش ( {تريد زينة الحياة الدنيا} ) جملة في محل الحال من الضمير المجرور وجاز مجيئها منه لأن المضاف بعضه، وتقدم بيان سبب نزول الآية وبعض ما يتعلق بها في الباب السابق وسيأتي فيها فوائد في حديث سعد.
(وقال تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} ) قال أبو حيان: أي لا تحقره وكأنه تفسير باللازم إذ يلزم منها قهره على ماله وغيره. قال البيضاوي: أي لا تغلبه على ماله لضعفه. وقرىء: «فلا تكهر» أي لا تعبس في وجهه ( {وأما السائل} ) ظاهره المستعطي ( {فلا تنهر} ) أي لا تزجره لكن أعطه أورده رداً جميلاً.
(وقال تعالى: {أرأيت} ) استفهام معناه التعجب كذا قال البيضاوي، وقال أبو حيان: الظاهر أن أرأيت هنا بمعنى أخبرني فيتعدى لمفعولين أحدهما الذي والآخر محذوف: أي أليس مستحقاً للعذاب اهـ. ( {الذي يكذب بالدين} ) بالجزاء أو الإسلام والذي يحتمل الجنس والعهد، ويؤيد الثاني قوله: ( {فذلك الذي يدع اليتيم} ) أي يدفعه دفعاً عنيفاً وهو أبو جهل كان وصياً ليتيم فجاءه عرياناً يسأله من مال نفسه فدفعه. أو أبو سفيان نحر جزوراً فسأله يتيم لحماً فقرعه بعصاه أو الوليد بن المغيرة أو منافق بخيل(3/75)
وقرىء يدع أو يتركه ( {ولا يحض} ) أهله وغيرهم ( {على طعام المسكين} ) أي لا يفعل ذلك بنفسه ولا يحرض عليه غيره لعدم اعتقاده بالجزاء وفي إضافة الإطعام إلى المسكين دليل على أنه مستحقه. ولما ذكر أولاً عموم الكفر وهو التكذيب ذكر ما يترتب عليه من الإيذاء والمنع من النفع وذلك بالنسبة إلى الخلق، ثم ذكر ما يترتب عليه من الخالق بقوله: {فويل للمصلين} إلى آخر السورة.
2601 - (وعن سعد بن أبي وقاص) مالك القرشي الزهري تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الإخلاص (قال: كنا مع النبي ستة نفر) إما أن يكون خيراً ومع حال منه: أي مصاحبين له أو بالعكس، والنفر بالتحريك: عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة قاله في الصحاح وفيه أيضاً: والرهط ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة اهـ. (فقال المشركون) أي أشرافهم، فقيل هو أمية بن خلف الجمحي ومن تابعه، ففي أسباب النزول للواحدي عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} (الكهف: 28) قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي وذلك أنه دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمر كرهه من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فأنزل الله {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} (الكهف: 28) وفيه أيضاً عن سلمان الفارسي قال: «جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا: يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم، يعنون سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها، جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى: {واتل ما أوحي إليك} (الكهف: 27) إلى قوله: {إنا أعتدنا للظالمين} (الكهف: 29) الحديث أورد ذلك عم والدي الشيخ العلامة الجليل الشيخ أحمد بن محمد علان الصديقي البكري في كتابه الذي جعله في علوم القرآن وغيرها وسماه مجموعة العلوم وأودعها مائة وسبعين علماً ومن خطه نقلت. وأما العم فهو العارف با تعالى الشيخ العلامة أحمد بن إبراهيم بن محمد بن علان الصديقي النقشبندي رحم الله الجميع ونفع بهم وأمدني بمددهم آمين فتحصل(3/76)
منه أن بعض المشركين قال (للنبي: اطرد هؤلاء) أي الستة المذكورين وكان ذلك أنفة منهم من مجالستهم لاستصغارهم واستقذارهم لاحتقارهم لهم لفقرهم وخمولهم في الدنيا ونسب القول في الحديث للكل لرضاهم به (لا يجترءون) أي لئلا يحصل
منهم الجرأة (علينا) فنعير بذلك ثم بين النفر الستة بقوله: (وكنت أنا وابن مسعود) الهذلي (ورجل من هذيل) لم أرَ من سماه من شرح صحيح مسلم (وبلال) مولى أبي بكر (ورجلان لست أسميهما) كأنه يعني أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما ولعل وجه إبهامه لهما استبعاد القوم طلب أشراف الكفار لطردهما فإنهما كانا من أعيان قريش ومشاهيرهم، ولعل طلب طردهما إن كان فلمخالفتهما لهم في الإسلام فأرادوا بذلك التعريض إلى حقارتهم ولا يطفىء أنوار الله أفراد أعدائه (فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع) أي من طرد أولئك عنه لما علم من كمال أنفسهم ومخالطة الإيمان لبشاشة قلوبهم فلا يفارقه أحدهم لما نزل وتقريب المشركين طمعاً في إسلامهم وإسلام قومهم نظير إعطائه الفىء لجمع من المؤلفة تألفاً له ومنع ذلك عن بعض محتاجي المؤمنين اكتفاء بما وقر في قلبه من نور الإيمان المغني عن التألف ورأى النبي أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئاً ولا ينقص لهم قدراً (فحدّث نفسه) أي بذلك قال القرطبي في «المفهم» : وفي بعض كتب التفسير أنهم لما عرضوا ذلك على النبي أبى. فقالوا له: اجعل لنا يوماً ولهم يوماً وطلبوا أن يكتب لهم بذلك فهمّ النبي بذلك ودعا علياً ليكتب فقام الفقراء وجلسوا ناحية (فأنزل ا) : (
{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه} ) فنهاه عما هم به من الطرد لا أنه وقع الطرد ووصف أولئك بأحسن أوصافهم، وأمره بأن يصبر نفسه معهم بقبوله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ} فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رآهم بعد ذلك يقول: مرحباً بالذين عاتبني الله فيهم وإذا جالسهم لم يقم عنهم حتى يكونوا هم الذين يبدأون بالقيام وقوله: {يدعون ربهم بالغداة} بطلب التوفيق والتيسير، وبالعشي يطلب العفو عن التقصير وقيل معناه: يذكرون الله من بعد صلاة الفجر وصلاة العصر، وقيل يصلون الصبح والعصر. وقال ابن عباس: يصلون صلاة الخمس. وقال يحيى بن أبي(3/77)
كثير: هي مجالسهم الفقهاء بالغداة والعشي. وقيل يعني به دوام أعمالهم وعبادتهم. رخص طرفي النهار لما تقدم من أنهما وقتا عمل وشغل فإذا لم يلهوا فيهما ففي غيرهما أولى. وقوله: {يريدون وجهه} أي يخلصون في عبادتهم وعملهم تعالى ويتوجهون إليه بذلك لا لغيره ويصح أن يقال يقصدون بذلك رؤية وجهه الكريم: أي ذاته المقدسة عن صفات المخلوقين (رواه مسلم) في الفضائل من «صحيحه» ورواه النسائي في «المناقب» ورواه ابن ماجه في الزهد بنحوه، ومداره عندهم على سريج بن هانىء بن يزيد بن نهيك الكوفي عن سعد كما في «الأطراف» للحافظ المزي.
2612 - (وعن أبي هبيرة) بضم الهاء وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها راء ثم هاء (عائذ) بالعين المهملة وبعد الألف همزة فذال معجمة (ابن عمرو) بن هلال بن عبيد بن يزيد بن رواحة بن رايبية بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن ثوره بن هدمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن مضر (المزني) بضم الميم وفتح الزاي وبعدها نون: نسبة إلى مزينة أم عثمان وأخيه أوس ابني عمرو: قاله في «أسد الغابة» (وهو من أهل بيعة الرضوان) أي من الذين بايعوا النبي بالحديبية تحت الشجرة على أن لا يفرّوا. وفي رواية على الموت وكانوا ألفاً وأربعمائة» وفي رواية «وخمسمائة» . وجمع بينهما بأن المائة المزيدة لعلهم أتباع أولئك/ فأنزل الله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح: 18) فسميت بيعة الرضوان لأنها سبب ذلك تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الأمر بالمعروف (أن أبا سفيان) صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف (أتى على سلمان) بسكون اللام وهو الفارسي في السنة الأولى من الهجرة (وصهيب) بن سنان الرومي (وبلال) مولى الصديق (في نفر) من نفر الصحابة وكان إتيانه وهو كافر في الهدنة بعد صلح الحديبية (فقالوا ما أخذت سيوف الله من عدو ا) يعنون أبا سفيان (مأخذها) أي أنه لم تعمل فيه سيوف(3/78)
المسلمين (فقال أبو بكر) الصديق (رضي الله عنه) تألفاً لأبي سفيان وتعظيماً ليسكن الإيمان في قلبه ويميل إلى المؤمنين وتوادهم (أتقولون هذا) أي القول، فهو مفعول مطلق (لشيخ قريش وسيدهم) فإنه كان عقيدهم في الحروب وإليه مرجعهم فيها لكونه كان أكبر بني عبد مناف حينئذٍ (فأتى) الصديق (النبي فأخبره) بما وقع من أولئك ومنه في جوابهم (فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم) أي زجرتهم، أو أسأت إليهم فتسبب عن ذلك غضبهم؛ ثم بين ما يترتب على غضبهم مؤكداً بالقسم المقدر المؤذن به اللام في قوله: (لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك) لأنهم أولياؤه، وفي الحديث
القدسي «ومن عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب» وفي التعبير بربك المؤذن إلى أنه رباه بنعمه ونقله من حالة إلى حالة أكمل منها بفضله وكرمه، وذلك مستلزم للمحبة فقد جبل الإنسان على حب الإحسان، ومن أحبّ شيئاً أحبّ ما يتعلق به ويرجع إليه وهؤلاء لكونهم جنده وحزبه محبوبون له، فمن أغضبهم فقد غفل عن ذلك وتعرض لغضب الباري سبحانه وتعالى، الإيماء إلى طلب محبة أوليائه المؤمنين والتلطف بهم. وهذا الحديث فيه دلالة على عظم رتبة المذكورين فيه عند الله تعالى، وفيه احترام الصالحين واتقاء ما يؤذيهم أو يغضبهم (فأتاهم فقال: يا إخوتاه) يا فيه للنداء للاستغاثة بهم، وإذا استغيث بالاسم المنادى ولم تدخل عليه لام الجر كيا لزيد فالأكثر أن يتصل بآخره ألف كقوله:
يا يزيدا الآمل نيل عز
وغنى بعد فاقة وهوان
ولك إذا وقفت حينئذٍ أن تأتي بهاء السكت كذا في التوضيح وغيره، وحينئذٍ فلعل الصديق وقف على هذا المنادي فلذا أتى فيه بالهاء أو أنه أتى بها على لغة من يلحقها لغير المندوب وهي لغة قليلة حكاها ابن السيد في «شرح الجمل» وغيره (أغضبتكم) أي بما قلته من جهة أبي سفيان (قالوا: لا) أي لم يحصل لنا من ذلك غضب وذلك لعلمهم بأن الصديق لم يحتقرهم ولا قصد إيذاءهم، إنما أراد تألفه ليكثر سواد المسلمين بإيمانه وإيمان تابعيه، وقولهم (يغفر الله لك) جملة دعائية مزيدة على الجواب. وفي «اللطف واللطائف» للثعالبي «أن الصديق رضي الله عنه رأى في يد دلال متاعاً فقال: أتبيعه؟ فقال: لا،(3/79)
يرحمكالله، فقال له الصديق: قل: لا، ويرحمكالله، لئلا يشتبه الدعاء لي بالدعاء عليّ» وقد نقل مثله المصنف في «شرح مسلم» فقال: قال القاضي: وقد روي عن الصديق أنه نهى عن مثل هذه الصيغة وقال: قل وعافاك الله ولا تزد: أي ولا تقل قبل الدعاء لا، فتصير صورته صورة نفي الدعاء. وقال بعضهم: قل ويغفر الله لك اهـ. قال بعض الأدباء: وهي أحسن من واو الأصداغ (يا أخي) وفي تعبيرهم بهذا اللفظ إيماء إلى سبب عدم تأثرهم من كلامه وحملهم له على أحسن المحامل، لأن هذا شأن الإخوان وإن قل ذلك في الكثير من أبناء الوقت والزمان وبا المستعان (رواه مسلم) في الفضائل من «صحيحه» والنسائي في «المناقب» بنحوه.
فائدة: من فضائل سلمان قوله: «لو كان العلم بالثريا لنا له سلمان» وفي رواية «لناله رجال من فارس» وقوله: «إن الله أمرني أن أحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: عليّ وأبو ذر والمقداد وسلمان» وقول علي رضي الله عنه: «سلمان علم العلم الأول والآخر بحر لا يترف هو منا أهل بيت» وقوله أيضاً: سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم ومن فضائل صهيب قوله: «من كان يؤمن با واليوم الآخر فليحب صهيباً حب الوالدة ولدها» وقوله: «صهيب سابق الروم وسلمان سابق فارس وبلال سابق الحبشة» اهـ. ملخصاً من «المفهم» للقرطبي (قوله مأخذها) قال المصنف ضبطوه بوجهين أحدهما مأخذها بالقصر وفتح الخاء المعجمة والثاني بالمد وكسر الخاء وكلاهما صحيح (أي لم تستوف حقها منه) تفسير لمجموع قولهم إن سيوف الله إلخ (وقوله) أي القائل من النفر، واكتفى به لأن الظاهر من إخباره عن نفسه وباقي النفر (يا أخي روي بفتح الهمزة وكسر الخاء) المعجمة (وتخفيف الياء، وروي بضم الهمزة وفتح الخاء وتشديد الياء) على صيغة التصغير وهو تصغير تحبب وترفق وملاطفة، وما أحسن قول الشاعر:
ما قلت حبيبي من التحقير
بل يعذب اسم الشخص في التصغير
ثم هذا الذي حكاه المصنف هنا من أنه روي بالوجهين قد يخالفه قوله في شرح مسلم وأما قوله يا أخي فضبطوه بضم الهمزة على صيغة التصغير.(3/80)
2623 - (وعن سهل بن سعد) الساعدي (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا) خبر، وقوله في الجنة في محل الحال ويصح العكس، ولعل الأول أقرب (وأشار) لزيادة التبيين وإدخال المعاني في ذهن السامع لكونها بصورة المحسوس المدركة عادة (بالسبابة) . وفي رواية بالسباحة بحاء مهملة بدل الموحدة الثانية وهي التي تلي الإبهام، سميت بذلك لأنها يسبح بها في الصلاة ويشار بها في التشهد لذلك وهي السبابة أيضاً لأنها يسب بها الشيطان (والوسطى) قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به فيكون رفيق النبي في الجنة ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك (وفرج) بتشديد الراء أي فرق (بينهما) أي بين السبابة والوسطى إشارة إلى أن بيت درجة النبي وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى. قال القرطبي معنى قوله: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» أنه معه فيها وبحضرته غير أن كل واحد منهما على درجته فيها إذ لا يبلغ درجة الأنبياء غيرهم ولا يبلغ درجة نبينا أحد من الأنبياء وإلى هذا المعنى الإشارة بقرانه بين أصبعيه فيفهم من الجمع المعية والحضور ومن تفاوت ما بينهما اختصاص كل منهما بدرجة ومنزلة اهـ.
وفي رواية «كهاتين إذا اتقى» أي إذا اتقى الله فيما يتعلق بحق اليتيم، ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حال دخوله الجنة لما أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة رفعه «أنا أوّل من يفتح باب الجنة فإذا امرأة تبادرني فأقول من أنت؟ فتقول: أنا امرأة قائمة على أيتام لي» ورواته لا بأس بهم، وقوله تبادرني، أي لتدخل معي أو في أثري، ويحتمل أن يكون المراد مجموع الأمرين سرعة الدخول وعلوّ المنزلة. قال الحافظ العراقي لعل الحكمة في تشبيه كافل اليتيم بالنبي في دخول الجنة أو في علوّ المنزلة أو في القرب منه كونه من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلاً لهم ومعلماً ومرشداً/ وكذا كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه فيرشده ويعلمه ويحسن أدبه فظهرت مناسبة ذلك اهـ. (رواه البخاري) أي في الأدب من «صحيحه» وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي كلهم عن سهل كما في «الجامع الصغير» ، قال المزي وأخرجه أبو داود في الأدب والترمذي في البر (وكافل اليتيم القائم بأموره) ديناً ودنياً وذلك بالنفقة والكسوة(3/81)
والتربية والتأديب وغير ذلك، قال في «شرح مسلم» وهذه الفضيلة تحصل لمن كفل اليتيم من مال نفسه أو مال اليتيم بولاية شرعية.
2634 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كافل اليتيم له) الظرف يصح أن يكون حالاً من المضاف إليه وجاز لكون المضاف عاملاً في المضاف إليه قبل الإضافة فهو نظير {إليه مرجعكم جميعاً} (يونس: 4) وأن يكون صفة لليتيم وجاز لأن المحلى بأل الجنسية كالنكرة من جهة المعنى وكونه له قال في «الكوكب المنير» بأن يكون جداً أو عماً أو أخاً أو نحو ذلك من الأقارب أو يكون مات أبو المولود فقامت أمه مقامه بكفالته أو ماتت أمه فقام أبوه مقامها في التربية اهـ. ومثله في «شرح مسلم» للمصنف وفي شمول الخبر للأخيرة ما لا يخفى إلا إن كان بطريق القياس على ما تضمنه الخبر إذ ما فيه ليس بيتيم والله أعلم (أو لغيره) بأن يكون أجنبياً منه وكافل مبتدأ، وقوله (أنا) مبتدأ ثان (وهو) معطوف عليه، وقوله (كهاتين في الجنة) خبر أو حال كما عرفته فيما قبله والمبتدأ وخبره الأول والرابط اسم الإشارة والمشار إليه هو السبابة والوسطى كما قال (وأشار الراوي وهو) الإمام الجليل (مالك بن أنس) ابن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله الفقيه المدني إمام دار الهجرة رأس المتقين وكبير المثبتين حتى قال البخاري أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر، ومن أتباع التابعين مات سنة مائة وتسعة وسبعين، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي بلغ تسعين سنة كذا في «تقريب التهذيب» للحافظ (بالسبابة والوسطى، رواه مسلم) في أواخر الكتاب (وقوله له أو لغيره معناه قريبه أو الأجنبي منه) فيه لف ونشر مرتب، فالمراد بقوله له القريب وبقوله لغيره الأجنبي (فالقريب مثل أن تكفله أمه أو جده أو أخوه أو غيرهم من قرابته) أي غير الأب ليكون يتيماً (والله أعلم) .(3/82)
2645 - (وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (قال: قال النبي: ليس المسكين) أي الكامل الممدوح من هذا النوع الأحق بالصدقة والأحوج إليها (الذي) يسأل و (ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان) عند سؤاله لأن المتردد يكون قادراً على تحصيل قوته (إنما المسكين) أي أما المسكين الكامل (الذي يتعفف) أي يترك السؤال من الناس مع فقره وليس المراد نفي المسكنة عن الطواف بل نفي كمالها (متفق عليه) فأخرجه البخاري في كتابي الزكاة والأطعمة وأخرجه مسلم في الزكاة.
(وفي رواية في الصحيحين) ورواه كذلك أحمد وأبو داود والنسائي كما في «الجامع الصغير» كلهم عن أبي هريرة مرفوعاً (ليس المسكين الذي يطوف) أي يدور (على الناس) سائلاً وجملة (وترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان) في محل نصب على الحال أي ليس هو منحصراً في ذلك كما أفاده الموصول والحال المفيدة للصلة أو الجملة مستأنفة لبيان حاله (ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه) صفة زائدة على اليسار المنفي إذ لا يلزم من حصول اليسار للمرء أن يغنى به بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر/ وكأنّ المعنى نفي اليسار المفيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار (ولا يفطن) بالبناء للمفعول أي لا يعلم (له) أي لاحتياجه لتعففه وعدم تعرضه وفي نسخة به بدل اللام (فيسأل الناس) قال الخطابي وغيره: إنما نفى المسكنة عن السائل الطوّاف لأنه تأتيه الكفاية، وقد تأتيه الزكاة زيادة عليها فتزول خصائصه ويسقط اسم المسكنة عنه، وإنما تدوس الحاجة والمسكنة فيمن لا يسأل ولا يعطف عليه فيعطي.(3/83)
2656 - (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبي قال: الساعي على الأرملة) هي كما قال الجوهري: التي لا زوج لها وقد أرملت المرأة إذا مات عنها زوجها، قال ابن السكيت: الأرامل المساكين من نساء ورجال ويقال لهم وإن لم يكن فيهم نساء ويقال قد جاءت أرملة من نساء ورجال محتاجين، قال المصنف: وقيل الأرملة التي فارقها زوجها، قال ابن قتيبة: سميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر وذهاب الزاد بفقد الزوج، يقال أرمل الرجل: إذا فنى زاده اهـ. (والمسكين) أي المكتسب لهما ما يمونهما به (كالمجاهد في سبيل ا) وشبه به لأن القيام على المرأة بما يصلحها ويحفظها ويصونها لا يتصور الدوام عليه إلا مع الصبر العظيم ومجاهدة النفس والشيطان فإنهما يكسلان عن ذلك ويثقلانه ويفسدان النية فيه وربما يدعوان بسبب ذلك إلى السوء ويسؤان له ولذا قل من يدوم على ذلك العمل وقلّ من يسلم منه فإذا حصل ذلك العمل حصلت منه الفوائد: كشف كرب الضعفاء وإبقاء رمقهم وسدّ خلتهم وصون حرمتهم كذا في «المفهم» للقرطبي قال في مسلم (وأحسبه قال) وفي البخاري في النفقات بدل قوله وأحسبه، أو التي هي للشك، أي أو قال بدل ذلك (وكالقائم) أي بالتهجد (الذي) كما في نسخة (لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر) أي هو كالملازم للعبادة ليلاً ونهاراً في دوام الثواب واستمراره بدوام العمل الصالح (متفق عليه) رواه البخاري في النفقات وفي الأدب من «صحيحه» ، ومسلم في الأدب، ورواه الترمذي في البر، وقال حسن صحيح غريب، والنسائي في الزكاة وابن ماجه في التجارات، ومداره عندهم على أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبي هريرة اهـ. ملخصاً من «الأطراف» للمزي.
2667 - (وعنه) أي أبي هريرة (عن النبي قال: شر الطعام) أفعل تفضيل حذفت(3/84)
همزته تخفيفاً وجاءت ثابتة في حديث عن أنس سئل عن الأكل قائماً فقال: ذلك أشر (طعام الوليمة) قال في «الصحاح» : هي طعام العرس وسيأتي فيه مزيد (يمنعها) بالبناء للمفعول (من يأتيها) للحاجة والفاقة وهم الفقراء وهم الفقراء والمساكين (ويدعى إليها من يأباها) قال المصنف: معناه الإخبار بما يقع من الناس بعده من مراعاة الأغنياء في الولائم وتخصيصهم بالدعوة وإيثارهم بطيب الطعام ورفع مجالسهم وغير ذلك مما هو الغالب في الولائم (ومن لم يجب الدعوة) بفتح الدال المهملة، قال ابن السيد في كتاب المثلث الدعوة بالفتح: الدعاء إلى الله تعالى وكذا كل شيء دعوته وكذا الدعوة إلى الطعام، وبالكسر أن ينتسب الرجل إلى غير أبيه وغير أهله: وبالضم زعم قطرب: أنها الدعوة إلى الطعام، ولا أحفظ ذلك من غيره، والذي حكاه اللغويون دعوة بالفتح اهـ. ملخصاً (فقد عصى الله ورسوله) والمراد منه الدعوة لوليمة النكاح فإن الإجابة إليها واجبة بالشروط المعروفة في كتب الفقه (رواه مسلم) .
(وفي رواية في الصحيحين عن أبي هريرة بئس) وهي كلمة لإنشاء الذم وفاعلها إما اسم ظاهر محلى بأل، ومنه قوله: (الطعام) واختلف فيها هل هي للجنس أو للعهد أو مضاف لما فيه أل نحو بئس منزل الأشرار النار، أو ضمير مبهم مفسر باسم نكرة منصوب على التمييز والمخصوص بالدم هو قوله: (طعام الوليمة) والوليمة طعام العرس، والذي عند الإملاك نقيعة كذا في «المصباح» . وفي النجم: الوليمة الطعام المتخذ للعرس، وقال الماوردي إصلاح الطعام واستدعاء الناس لأجله، ولفظها من الولم وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان، وهي تقع على كل دعوة تتخذ لسرور حادث من إملاك وختان وغيرهما لكن استعمالها على الإطلاق في العرس أشهر، وفي غيره بقيد، فيقال وليمة الختان وغيره اهـ. فظاهر أن ما في الحديث مما أريد بما فيه مطلق الطعام المتخذ لأيّ سرور كان وبين سبب الذم على سبيل الاستئناف البياني بقوله (يدعى) بالبناء للمفعول (إليها الأغنياء) نائب الفاعل والظرف قبله لغو متعلق بالفعل (ويترك الفقراء)(3/85)